حمل القران

 حمل القران وورد وPDF.

القرآن الكريم وورد word doc icon تحميل سورة العاديات مكتوبة pdf

الأحد، 2 أكتوبر 2022

ج9. الحضارة الإسلامية بين أصالة الماضي وآمال المستقبل

 

ج9. الحضارة الإسلامية بين أصالة الماضي وآمال المستقبل

 

ج9. الحضارة الإسلامية بين أصالة الماضي وآمال المستقبل 

 (9)

الباب الثامن

دراسات أصيلة عن الحضارة الإسلامية

 

جمع وإعداد الباحث في القرآن والسنة علي بن نايف الشحود

  الباب الثامن

دراسات أصيلة عن الحضارة الإسلامية 

# المذهبية الإسلامية والتغيير الحضاري

تقديم : بقلم : عمر عبيد حسنة

الحمد لله نحمده، ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً صلى الله عليه وسلم عبده ورسوله، وبعد:

فهذا الكتاب السادس في سلسلة "كتاب الأمة " التي اعتزمت رئاسة المحاكم الشرعية والشؤون الدينية إصدارها مساهمة في تحقيق الوعي الثقافي، والحصانة الفكرية، وإعادة بناء الشخصية المسلمة الفاعلة بعد أن انطفأت فاعليتها أو كادت بسبب من السقوط الحضاري، والانكسار العسكري، والوهن الخلقي، الأمر الذي أفقدها الرؤية الشمولية والتوازن الاجتماعي، واستشعار التحدي الذي يوقظ الحس ويلهب المشاعر ويذكي الروح ويجمِّع الطاقات النفسية والمادية لتبدأ عملية النهوض من جديد، ونقل المسلمين إلى الموقع الذي يجعلهم في مستوى إسلامهم تكليفاً وإرادة، وفي مستوى عصرهم قدرة وعطاء وقيادة.

ولا بد لنا بين يدي التقديم للكتاب، وقد اختار مؤلفه مصطلحاً، يمكن أن يكون جديداً على الساحة الفكرية الإسلامية "المذهبية الإسلامية " من القول: إنه إلى جانب المعارك الكثيرة والمتعددة التي تدور رحاها على الأرض الإسلامية في إطار الاستعمار ومحاولات الاحتواء الثقافي هناك معركة يمكن أن تكون الأخطر في مجال الصراع الحضاري، هي معركة المصطلحات، حيث تُقذف مجتمعاتنا يومياً عن طريق وسائل الإعلام المكتوبة والمسموعة والمرئية بكثير من المصطلحات السياسية والفكرية والجغرافية [الديمقراطية، الوجودية، العلمانية، الماركسية، اليمين واليسار، الشرق الأوسط، الشرق الأدنى، حوض المتوسط. . . الخ ] البديلة لما ألفنا وعرفنا إلى درجة الإغراق لتخرجنا عن مواقعنا الفكرية، وتستلب شخصيتنا الحضارية، وتطارد مصطلحاتنا وتحدد لها المعاني التي تريدها، حتى أصبح الكثير منا يخاف من طرحها أو من مجرد الانتساب إليها، كمصطلح "السلفية" ومصطلح "التراث " الخ. . . مع العلم أن "السلفية " أول ما تعني الانتساب لجيل القدوة، خير القرون، ((خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاس ِ)) بناة الحضارة الإنسانية، ولا تعني بحال من الأحوال التحجر والجمود والانقطاع عن التواصل الحضاري، وعدم استيعاب منجزات العصر من خلال الرؤية الإسلامية السليمة، ذلك أن السلفية الصحيحة دافع للإفادة وليست مانعاً منها.

وكذلك مصطلح "التراث " حيث تفرض علينا مدلولات معينة أرادها أصحاب المذاهب المادية والعلمانية، الأمر الذي أخرجنا عن مدلول القضية وأصلها في المصطلح الإسلامي، يقول تعالى : ((ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ وَمِنْهُم مُّقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِير ُ)) [فاطر:32].

ويقول أبو هريرة رضي الله عنه :

". . . أنتم هنا، وميراث محمد صلى الله عليه وسلم يوزع في المسجد ".

فإذا كان مدلول التراث يعني النبوة وعطاءها "الكتاب والسنة " الذي ورثته الأمة، فنحن تراثيون؛ وإذا كان المدلول: فهوم المسلمين غير المعصومة للكتاب والسنة، مما يقع في دائرة الاجتهاد، فهذا أمر قابل للفحص والاختبار، ومن ثم للصواب والخطأ. . . وقد تكون المشكلة أو الكارثة - إن صح التعبير - أن معظم المثقفين في عالمنا الإسلامي اليوم أصبحوا أسرى المصطلحات والأفكار الأوروبية بشكل عام، ينطلقون منها، ويفكرون من خلالها، ومن الصعوبة البالغة التحرر منها لأنها صورة من صور الاحتواء الثقافي نتيجة الإصابة بمركب النقص أمام التحدي الحضاري الغربي، وقد ينتصر بعض البسطاء عاطفياً للإسلام، فيحاول إسقاط المفاهيم والمصطلحات الغربية على المفهومات الإسلامية فتعييهم عملية التوفيق، ولكن كثيراً من الخبثاء يحاولون الالتفاف حول القضية، ويتسللون إلى الشخصية الإسلامية من خلال إسقاط هذه المصطلحات على المفهومات الإسلامية، أو يمارسون الخداع لجماهير المسلمين بادعاء أن هذه المصطلحات ليست غريبة عن طبيعة الإسلام ووجهته ليخفوا بذلك حقيقة أمرهم ودعوتهم في المجتمع الإسلامي، ذلك أنهم أدركوا أن بوابة العالم الإسلامي ستبقى موصدة أمام كل دعوات التغريب ومصطلحاتها بعد التجارب والمحاولات الكثيرة، فكان لا بد لهم من تغيير استراتيجيتهم في ذلك ومحاولة التسلل إلى عالم المسلمين من خلال المعاني الإسلامية نفسها حيث يسقطون عليها مصطلحاتهم، ويوهمون السذج والبسطاء أنهم ليسوا غرباء عن فكر الأمة في ادعاءاتهم، فالديمقراطية هي الشورى، والرأسمالية هي مبدأ إقرار الملكية في الإسلام، والاشتراكية هي العدالة الاجتماعية، والصراع من أجل السيطرة الاقتصادية هو الفتح الإسلامي، والصدام الحتمي بين اليمين الرجعي واليسار التقدمي هو التفسير لبعض المشكلات الداخلية في المجتمع والتاريخ الإسلامي. . .

قد تكون المشكلة عند معظم مثقفينا، جيل ما بعد الاستعمار العسكري، ادعاء العصمة لحضارة الغربية الأوروبية (1) بسبب من التفوق الغربي والتخلف في عالم المسلمين، وجعلها مقياساً لكل حضارة وتقدم، وتطبيق المعايير المادية الأوروبية على الإسلام ومحاكمة تاريخه على ضوء التاريخ الأوروبي، وعدم قياس الحضارة الإسلامية بمقاييسها وردها إلى أصولها، وإنما ردها إلى أصول حضارة غريبة عنها، مادية في أصولها، وهذا بلا شك أوقع الكثيرين في عملية التخليط في النظر إلى أحكام العقل واجتهاده القابل للخطأ والصواب، وأحكام الوحي ونصوصه الثابتة المعصومة. . . وأن مقاييس الفصح والاختبار التي يخضع لها حكم العقل لا يمكن بحال من الأحوال أن تطبق على حكم الوحي، وإنما يقتصر دور العقل في ذلك على التأكد من ثبوت النصوص من حيث السند وسلامة مدلولاتها فقط، لأن الأمر قائم على قاعدة التسليم بالنبوة ابتداءً.

لقد ظهرت على الساحة الفكرية كتابات كثيرة كانت صدىً لمشكلات فكرية إنسانية، وكان أن تناول الحديث في هذه القضايا كتَّاب ومفكرون من اتجاهات مختلفة، ونحن لا بد أن نعترف أننا مسبوقون إلى طرح كثير من القضايا بعد أن توقف المجتمع الإسلامي عن النمو، والعقل الإسلامي عن العطاء، لذلك جاءت أكثر كتاباتنا في إطار ما يسمى "الفكر الدفاعي" بسبب من طرح غيرنا، وهنا انبرى للمواجهة الثقافية من يحسنها ومن لا يحسنها من الذين يفتقدون الثقافة الإسلامية الأصيلة، فوقعوا بمغالطات فكرية واصطلاحية ساهمت بتكريس التخلف والضياع، وأثقلت الذهن الإسلامي وزادت من عجزه. . .

من هنا كان لا بد من التنبيه إلى ضرورة المحافظة على المصطلحات في الأمة، والاحتفاظ بمدلولاتها، والعمل على وضوح هذه المدلولات في ذهن الجيل لأن هذه المصطلحات هي نقاط الارتكاز الحضارية والمعالم الفكرية التي تحدد هوية الأمة بما لها من رصيد نفسي ودلالات فكرية، وتطبيقات تاريخية مأمونة، إنها أوعية النقل الثقافي وأقنية التواصل الحضاري، وعدم تحديدها ووضوحها يؤديان إلى لون من التسطيح الخطير في الشخصية المسلمة والتقطيع لصورة تواصلها الحضاري. .

وقد نبه القرآن الكريم لهذه القضية الخطيرة عندما أرشد المسلمين إلى ضرورة استخدام مصطلح (انظرنا ) ونهى عن مصطلح (راعنا ) الذي كان يستعمله يهود ليحققوا فيه أغراضاً في نفوسهم، قال تعالى: ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَقُولُواْ رَاعِنَا وَقُولُواْ انظُرْنَا وَاسْمَعُوا ْوَلِلكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ )) [البقرة:104].

إن أهمية المصطلح، وقضية الوضوح في دلالته، أمر ذو أهمية بالغة إلى درجة أصبح معها كثير من المؤلفين يفردون صفحات في مؤلفاتهم لمعجم المصطلحات المستعملة والدلالات التي أرادوها من استعمال هذه المصطلحات، وهي طريقة محمودة فكرياً وثقافياً حتى يتحقق الوضوح ولا يحمَّل الكلام أكثر مما يحتمل. . .

ومن الأمور التي تسترعي الانتباه أن قضية المصطلحات أخذت من الأخ المؤلف عناية مشكورة، ومساحة لا بأس بها، وقد كانت مناقشة المصطلح مدخله إلى الكتابة حينما اقترح أن تكون التسمية "المذهبية الإسلامية " بدل "الفكر الإسلامي " أو "التصور الإسلامي " وخطَّأ من ذهب إلى اصطلاح "الفكر الإسلامي " و "التصور الإسلامي " لأنه تخوف أن يخلط بسبب ذلك بين إفرازات العقل واجتهاداته وبين الكتاب والسنة كوحي معصوم، ونحن نعتقد أن التنبيه إلى هذا لدفع احتماله ذو أهمية في المجال الفكري الإسلامي، وإن كنا لا نعتقد حصول مثل هذا الالتباس عند أصحاب المصطلحين، وعند الكثير من قرائهم، على كل تبقى وجهة نظر تغني العقل الإسلامي وتسهم بإيضاح الصورة ودفع الالتباس. . . ولا شك أن مصطلح "المذهبية الإسلامية" الذي ارتضاه المؤلف سوف يذهب ببعض الناس سريعاً إلى الساحة الفقهية ويصنع لهم حاجزاً نفسياً، وقد يسرع باتخاذ موقف تجاهه، ولا يستسيغه بتلك السرعة حتى يتحقق من التحديدات والمقارنات التي أوردها المؤلف، ووجهة نظره في الاختيار. . .

نعود إلى القول: إن هذا الكتاب جاء مساهمة طيبة في مجال إنهاء حالة العطالة التي وقع فيها كثير من المسلمين في مواجهة التغيير الاجتماعي بسبب من التصور المحزن، من أن مشيئة الله تعني السلبية وتعطيل الأسباب دون أن يعلموا أن الله هو الذي شرع الأسباب وأمر الناس بالتعامل معها للوصول إلى النتائج، وأن هذه الأسباب هي إرادة الله ومشيئته، وأن عملية الاستخلاف لا تؤدي ولا تتحقق إلا بالتماسها، وقد جعل الله لكل شيء سبباً، وأن التزام هذا والتعرف عليه هو غاية التكليف، ودور النبوة في ذلك هو الهداية والتدريب ومسئوليتنا حسن التأسي وسلامة الاقتداء.

كما أن الكتاب ساهم وإلى حد بعيد بتحقيق قسمات الذات الحضارية المسلمة ،ذلك أنه على الرغم من الكلام الكثير عن التميز الحضاري الإسلامي وضرورته لنهوض الأمة، لا يزال الأمر في حدود الشعار، بعيداً عن الممارسة، لأن كثيرين من دعاة التميز يعيشون ضمن الأطر الغربية في حياتهم ومعاشهم ووسائلهم. . . ذلك أن ترميم بعض المفاهيم والأفكار من خلال القراءة الجانبية والانتصار العاطفي للإسلام لا يكفي لنقل المثقف المسلم إلى الخط الإسلامي الصحيح والمنظومة الحضارية الإسلامية ومصطلحاتها. . .

والله نسأل أن يسدد الخطا ويجزل مثوبته للأخ الدكتور محسن عبد الحميد أحمد وينفع به، إنه حسبنا ونعم الوكيل.

==============

# تحديد المصطلح

إن تحديد المصطلحات التي يستعملها الباحث أمر في غاية الأهمية، إذ بدونه سندور مع المؤالفين والمخالفين في حلقة مفرغة، ولا نستطيع أن ننطلق من مفاهيم واضحة نتفق عليها، للوصول إلى حل أي مشكل.

ولقد درج المفكرون والباحثون على استعمال كلمة "الأيديولوجية" بمعنى العقيدة. وهم يقصدون العقائد الإنسانية، أي ما يصل إليه الإنسان بفكره لتأسيس مفاهيمه الأساسية التي تشكل إطاراً فكرياً لنظرته الكلية إلى الوجود.

حاول كثير ن الكتاب الإسلاميين أن يستعملوا "الفكر الإسلامي " (1) أو "الفكرة الإسلامية " بمعنى الإسلام. غير أن هؤلاء مع فضلهم قد وقعوا في خطأ كبير، دون أن يتقصدوا ذلك. إذ كيف يمكن أن يكون الوحي الإلهي مظهراً للفكر الإنساني؟.. فالفكر إفراز عقلي لإدراك ما حوله من وجود. وإذا كان هذا المعنى: "الفكر الإسلامي " يصح على ما أنتجه الفكر المسلم الذي ينطلق من الإسلام في مضامير الحياة كلها، فإنه أبداً لا يجوز أن يُستعمل للدلالة على الوحي الإلهي (للإسلام ) حتى لا يؤدي إلى الخلط بين الوحي والفكر. فالإسلام معصوم كله، بينما الفكر الإسلامي، ليس معصوماً ولا مقدساً، يحتمل الخطأ والصواب والمراجعة في عصره وفي العصور التالية.

وحاول بعض مفكري الإسلام أن يضع بدل "الفكر الإسلامي " مصطلح "التصور الإسلامي " (2) وهذا خطأ مثله. لأن التصور عملية فكرية محضة، تحتمل الصدق والكب كما هو ثابت في علم المنطق، فلا يمكن أن يستعمل التصور بمعنى كليات الوحي الإلهي، بل قد يستعمل بمعناه الثاني الذي يدل على أنه إفراز للعقل، وليس معصوماً ولا مقدساً.

وذهب عدد من الكتاب الإسلاميين في السنوات الأخيرة إلى استعمال "المذهبية "(3) للدلالة على ما ذهب إليه الإسلام في أمور الكون وخالقه والحياة والإنسان، أي القضايا التي تتعلق بالكليات وليست الجزئيات.

والحق أن هذه اللفظة زيادة على أنها دالة على معناها لغة، يمكن أن تتحول إلى اصطلاح يحقق هدف الإسلاميين من إطلاقهم لفظ "الفكر الإسلامي " الذي رفضناه بالمعنى الذي استعمل فيه (الوحي ) كتاباً وسنة. ثم إنه يخصنا بلفظة تميزنا وتحول بيننا وبين استعمال كلمة "الأيديولوجية " الأجنبية بمعنى الأصول والكليات الإسلامية.

وقد يقول قائل: لماذا لا نستعمل "العقيدة الإسلامية" للدلالة على المعنى الذي نريد، حتى نتخلص من المصطلحات الأخرى.

نقول: إن "العقيدة الإسلامية " مصطلح مستعمل منذ القديم، يشمل الإلهيات والنبوات والمعاد والقضاء والقدر فقط، بينما نحن نريد مصطلحاً أشمل من هذا. فـ "المذهبية الإسلامية " تشمل العقيدة الإسلامية وتشمل غيرها من الكليات التي ارتضاها الإسلام في العالم المادي لضبط حركته، سواء في الحياة عموماً أو في المجتمع، أو داخل عالم الإنسان من حيث هو فرد.

إن علماء الكلام عندما حصروا كليات الإسلام في دائرة الموضوعات الأربعة، وسموها "العقيدة الإسلامية" أو "علم الكلام " أو "التوحيد " انطلقوا من واقع الصراع الفكري في عصرهم، وحددوا مواقف الإسلام ن خلال الكتاب والسنة واجتهاداتهم في فهمها، في القضايا المذكورة، التي كانت مثار النقاش يومئذ مع الفلاسفة ولا هوتيِّي أهل الملل والنحل الأخرى.

أما اليوم فقد تبدلت ظروف الصراع الفكري، فالمذاهب الأخرى تقدم كلياتها في القضايا التي تتعلق بأصول عقائدها وفكرها في إطار الكون وخالقه والحياة والمجتمع والإنسان.

وبما أن الإسلام قد حدد مواقفه التفصيلية من أصول القضايا الكبرى في الحياة والمجتمع والإنسان، فلا بد أن نضيف تلك التفصيلات على الأصول العقائدية الأخرى، حتى تتأصل عندنا "المذهبية الإسلامية " بشمولها، كي تستطيع أن تواجه المذهبيات الأخرى، في كل ما تتعرض له من أصول أفكارها. لأن تلك المذهبيات قد غزتنا في عقر دارنا، فنحن لا نستطيع تجاهلها، ونبقي على الموضوعات المثبتة في علم اللام شكلاً ومضموناً. لأن علم الكلام بشكله القديم لم يعد يفيدنا في صراعنا العصري. زد على ذلك أن علم الكلام القديم قد خلط في تقديم العقيدة الإسلامية بين الوحي الإلهي والاجتهاد العقلي في تصور تلك العقيدة. ونحن لا نريد أن نرتكب اليوم هذا الخطأ الكبير، إذ من الضروري جداً في صراعنا الفكري اليوم وفي محاولتنا تغيير وجهة حياتنا الحضارية، أن نفصل بين الوحي الإلهي والاجتهاد العقلي، كي لا تتحول الاجتهادات العقلية إلى أصول ثابتة، تحسب على الوحي المعصوم نفسه، فتعيق حركتنا العقلية الحاضرة، وتسلب حرية مراجعتنا لاجتهادات أسلافنا. ثم تحول بيننا وبين الحركة باتجاه تأصيل حياتنا الفكرية في ضوء التغييرات التي تحدث في عالمنا المعاصر.

وقد يقال: إن "المذهبية الإسلامية " قد تلتبس بالمذهبية الفقهية، نقول: لا يحصل هذا الالتباس إن شاء الله، لأن المذهبية الفقهية تستعمل في إطار محدود جداً، ثم لم يصفها أحد إلى الآن بالمذهبية الإسلامية. فإطلاق هذا المصطلح الجديد واضح يشهد عليه سياقه، وتدل عليه الموضوعات التي تعالج ضمن حدوده.

وفي رأيي أن كثرة استعمال مصطلح "المذهبية الإسلامية " ستركزه في الأذهان، وسترفع عنه كل التباس أو غرابة، وستنقذنا من استعمال المصطلح الأجنبي "الأيديولوجية ". وسنضع باستعماله حداً فاصلاً بينه وبين مصطلح "الفكر الإسلامي " أو "التصور الإسلامي " اللذين لهما معنى آخر، هو المعنى الاستنباطي أو الاجتهادي الذي تحدثنا عنه.

إذن فالإسلام دين الله الخالد الثابت وحياً في القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة، و "المذهبية الإسلامية" هي كليات الإسلام في الوجود كله، و "الفكر الإسلامي " هو ما أنتجه المسلمون في ظل الإسلام من فكر بشري في الفلسفة والكلام والفقه وأصوله والتصوف والعلوم الإنسانية منذ عصر الصحابة رضي الله عنهم إلى اليوم.

وأما التصور الإسلامي، فيمكن أن يستعمل بمعنى الفكر الإسلامي لأنه مثله عملية عقلية بحتة

=============

# المذهبية الإسلامية بين الوحي والفكر

إن منهج التغيير الإسلامي المنبثق أساساً من المذهبية الإسلامية في الوجود، لا بد أن يضع خطاً فاصلاً واضحاً بين ما هو وحي إلهي وبين ما هو جهد بشري، أو فكر بشري أو تصور بشري لمسائل حول الوحي الإلهي وتفسيره وشرحه في إطار قواعده وأصوله وفي ضوء المراحل التاريخية المتتابعة.

إن تسمية الوحي وما حوله من فكر، بالفكر الإسلامي أو الفكرة الإسلامية لدى كثير من الإسلاميين أنفسهم خطأ كبير شجع أرباب المذاهب المادية والعلمانيين على الجرأة في تسميتهما معاً بـ "التراث ". فهؤلاء عندما يريدون أن يراجعوا هذا التراث، يراجعونه من حيث هو كل في نظرهم لا يتجزأ. والنتيجة الطبيعية عند هؤلاء أن الوحي الإلهي يخضع للمرحلة الزمنية، فهو من التراث الذي يتعلق بالماضي. والحال أن الوحي من حيث هو علم الله الكامل لا يمثل ذلك الماضي ولا الحاضر ولا المستقبل، بل هو يمثل الحقيقة الأزلية التي لا ترتبط بالزمن ولا تخضع له. فهو ليس تاريخاً للبشرية أو حركة حضارية تختص بمرحلة من مراحل تطور تاريخ أمة من الأمم.

وإذا كان من الممكن أن يقول قائل: إن الشرائع التي جاءت قبل الإسلام، كانت مراحل تتصل بالفترات بين الأنبياء والمرسلين. فإن هذا - في عقيدة المسلم - لا يصح أساساً بالنسبة للإسلام، لأن الله تعالى قد ارتضى للبشرية شريعة متكاملة متوازنة لم تختص بمرحلة تاريخية معينة، وإنما هي شريعة خالدة إلى يوم الدين، إذ لا نبي بعد رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم .

((مَا كَانَ مُحَمَدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلكِنْ رَسُولَ اللهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّيين َ)) [الأحزاب:40].

وهذه الشريعة العامل لها جانبان؛ جانب دستوري عبارة عن نصوص قاطعة سواء أكانت في بيان أصول العقائد أو ما يتصل بأسس تنظيم الحياة البشرية في كلياتها وبعض جزئياتها المهمة. وجانب آخر يتعلق بتفاصيل ذلك التنظيم وبجزئياتها المتصلة بتغير الحياة الإنسانية في مظاهرها المتنوعة. وهذا الجانب هو الفقه الإسلامي الذي يمثل اجتهادات العلماء أو أحكام العلماء، وليس بالضرورة أحكام الله سبحانه وتعالى. ولذلك فإن الصحابة الكرام رضوان الله عليهم والمجتهدين الذين جاءوا من بعدهم كانوا لا يقبلون قول القائل في المسائل الاجتهادية، هذا حكم الله، بل كانوا يقولون على سبيل المثال: هذا ما حكم به "أبو بكر "، وهذا ما قضى به "عمر "، وذلك ما رآه علي رضي الله عنهم أجمعين.

ويتحصل عندنا من هذه المقدمة أمر مهم هو أن الفترة التي أعقبت الوحي المحمدي عليه الصلاة والسلام إلى اليوم وإلى قيام الساعة، ليست فترة معصومة مقدسة، وإنما هي فترة خاصة باجتهاد العقل الإنساني في مناحي الحياة كلها. فتح الإسلام فيها أمام البشرية أبواب الحركة والتغيير والاجتهاد في إطار القوانين الضابطة لحركة الفكر والحضارة التي سماها علماء الإسلام بعلم "أصول الفقه " الذي يُعد بحق المنهج الحقيقي لأصول البحث العلمي والعقلي، والذي يشكل صمام الأمان للاطمئنان على توازن تلك الحركة وعدم خروجها على سنن الخالق التي أودعها في الوجود كله.

وإذن فما يتقوله الذين يريدون أن يعتمدوا على الفلسفات المادية والعلمانية (4) في إحداث التغيير في العالم الإسلامي، لا سيما العربي منه، من أن الإسلاميين تراثيون أو أنهم ينظرون نظرة تراثية يجهلون أو يتجاهلون حقيقتين مهمتين. .

• (أولاهما ) : استقلال الإسلام من حيث هو وحي إلهي عن الزمان والمكان، ومن حيث خلوده لأنه لا دين بعده ولا نسخ لعقائده وأحكامه.

• (وثانيهما ) : جهلهم المركب بحقيقة أن علماء الإسلام ومفكريه وفقهاءه العظام أدركوا تمام الإدراك، أن ما في التاريخ الإسلامي من الاتجاهات والمذاهب الفكرية، لا يدخل في المفهوم الأول، بل هو تاريخ الاجتهاد المناسب للمراحل الزمنية يمكن تجاوز أية جزئية أو قضية فيه وإخضاعها من جديد إلى المناقشة وعرضها على مدى تحقيقها للمصالح الحاضرة المضبوطة.

ولقد نبه إلى ذلك مفكرو الحركة الإسلامية الحديثة في كل ما كتبوا، ولكن مصيبة التيارات غير الإسلامية، أنها لا تريد أن تقرأ الإسلام وحقائقه، متعمدة ومتجاهلة لجمودها العقائدي، ولعدم طلبها الحق لذاته، فهم إما ملاحدة ما ديون ينكرون أصل الإسلام وجميع الأديان، ويرفضون معه عقيدة الألوهية، ومن هؤلاء من ليست لهم الجرأة لإظهار ذلك الإنكار صراحة، فيلجئون إلى طريقة حشره ضمن مصطلح "التراث " لإعادة النظر فيه ومحاربته جميعاً باعتبار قدمه ومحاربة دوره في الوقت الحاضر. ومن هؤلاء من يتراجعون أمام زحف التيار الإسلامي بمنطقة العقلي العصري، خشية الاصطدام ثم الموت، لأن المجتمع الإسلامي اليوم يرفض الإلحاد رفضاً قاطعاً من خلال منطق العلم ومعرفة حقيقة الإسلام. فداعي الإلحاد لا مكان له اليوم في العالم الإسلامي.

ومن هنا فهو يقول: ماذا سأخسر إن قلت: إن الإسلام ديننا وتراثنا، لأن هذا واقع من جهة، ولا يترك أثراً في الحياة الحاضرة من جهة أخرى. فالمذاهب المادية إذا تقدمت في ضوء تلفيقها مع التراث، ستسيطر على المجتمع كله، والتراث عندئذ لا يكون مكانه إلا في كتب التاريخ ومعالجة التراث سهلة عند ذلك، لأنه سيسقط ماديته على التراث كله، بدعوى البحث عن الجوانب المشرقة في التراث، فالنتيجة أن التراث في ظل هذه المعانقة سـ "يتمركس " على سبيل المثال من دون إثارة مشكلة الإلحاد أصلاً في العالم الإسلامي.

وأما العلمانيون فإنهم يحتفظون باسم الإسلام، ولكنهم توجهوا إلى دراسة تلك الفلسفات قبل دراستهم للإسلام فآمنوا بها ودعوا إليها على أساس أنها أنظمة دنيوية لا تصطدم مع إسلامهم، لأن الإسلام يدعو إلى العدل ويرحب بتحقيق كرامة الإنسان وهذه المبادئ تحقق ذلك.

وهؤلاء كلما درسوا الإسلام أكثر اقتربوا منه أكثر، فهم يبدءون من عملية التلفيق والدمج، ثم ينتهون إلى عملية الاستفادة.

أما عملية التلفيق فيقصدون أننا يمكن أن نأخذ الجانب الروحي من الإسلام مع الماركسية من حيث هي منهج علمي للنضال على حد تعبيرهم، ويقولون: إن مشكلة الإلحاد في الماركسية لا تخصنا إنما تخص الصراع الأوروبي بين العلماء والمناضلين وبين الكنيسة، ولكننا نختلف عنهم لكون ذلك الصراع ليست له علاقة بتاريخنا (5).

ولجأ هؤلاء إلى المصادر الإسلامية ليستخرجوا منها الآيات والأحاديث والوقائع التاريخية التي تدعو إلى عدم التمايز والمساواة وإيثار المصلحة العامة وتحقيق العدل الاجتماعي، لكي ينتهوا إلى أن الماركسية لا تقول بأكثر من ذلك فلماذا لا نستفيد منها؟.

وهذا التلفيق والامتزاج بين الإسلام والمبادئ الماركسية مرفوض للأسباب التالية:

- الأول:

لأن الإسلام دين الله الحق الكامل الشامل، له "مذهبية" تفصيلية في الوجود كله، تقوم على الحق والعدل والميزان، تنبثق منه أسس وقواعد أنظمة عدة، مترابطة، يربط بينها منطق داخلي دقيق، بحيث يشكل نظاماً واحداً متشابكاً لا يمكن فصل جزء منه عن جزء، فدعوى أخذ جانب منه مع جانب آخر من الرأسمالية أو الماركسية أو الاشتراكية إخلال بتوازنه وتفكيك لمنطقة الداخلي الموحِّد، وطعن صريح في كماله، وهذا يعني أن الإسلام بقواعده وأصوله من خلال العقل المسلم لا يستطيع رفد الزمان والمتتابع بما يحتاج إليه من ضوابط التغيير وحلوله وأنظمته التفصيلية. في الوقت الذي يتضح لكل دارس منصف أن الإسلام بمنطقه الداخلي وعن طريق أصوله وقواعده ومن خلال حركة العقل المسلم المدرك لسنن الله في الوجود والعمران، يستطيع إحداث حركة التغيير الجذري الشامل في كل عصر، وتحقيق كل ما يعود إلى الإنسان من خير وصلاح واستقامة وعدل.

ومن المؤسف أن أقول: إن جهل كثير من أبناء الإسلام بهذه الحقائق الإسلامية وعدم طلبهم الحق لذاته من خلال العقد الشعورية واللاشعورية التي أصيبوا بها ضد الإسلام ظاهراً أو ضمناً، ومن أرضية الخضوع لرواسب الثقافات الأجنبية التي صنعت شخصياتهم، يحول بينهم وبين إدراك تلك الحقائق.

وياليتهم فعلوا مثل ما فعل الفيلسوف الفرنسي المسلم (رجاء غارودي ) فلقد كان غارودي من أكابر مثقفي الماركسية في هذا العصر ثم وجد من خلال تجربة فكرية معقدة، وممارسة واقعية قاسية، أن الماركسية لا تمثل أوجه الحقيقة كلها، وإنما تمثل وجهاً واحداً منها، فدعا إلى المبدأ البديل في كتابه (البديل ) واقترح للإنسانية نظاماً على أساس روحية الدين ممزوجاً بتحقيق حرية الإنسان في المذهب الديمقراطي الغربي ملفقاً مع الاقتصاد الماركسي. ثم تقدمت بغارودي الدراسة، فاكتشف أنه من المستحيل أن يتم هذا التلفيق لأننا نأخذ عندئذ جزءاً مترابطاً مع كل في كل قضية، ونريد أن نمزجه مع جزأين آخرين من كلّين مختلفين، فغدت عندنا ثلاث قضايا ملفقة في الظاهر، ولكن تفتقد إلى منطق ذاتي داخلي يربط بينها.

وتقدم غارودي لسنوات طويلة خطوة فخطوة يريد اكتشاف المنطق الموحِّد. من خلال دراسة عميقة للإسلام التي بدأها منذ أيام ماركسيته، وانتهى إلى الاكتشاف العظيم في كتابه "ما يعد به الإسلام ".

فلقد وصل غارودي هذه المرة إلى المذهبية الإسلامية الشاملة، ومنطقها الكوني الذي جمع بين ظواهره بقانون داخلي رابط، يشكل دين الإسلام، فذابت عنده في هذه السبيل، عملية تلفيق المبادئ ودمج المنظومات المختلفة، وأعلن إسلامه بكل وضوح ورآه الطريق الوحيد لإخراج الإنسان من أزمته الحضارية الخانقة في هذا العصر.

لم يتراجع غارودي عن إيمانه بالحرية، ولا بتحقيق كرامة الإنسان، ولم يتخل عن عشقه للعدل الاجتماعي وانحيازه الكامل للمسحوقين والمستضعفين في المجتمعات البشرية، ولكن تراجع وتخلى فقط عن التفسير الإلحادي الماركسي للتاريخ ثم عن المنهج الخاطئ، منهج التلفيق والدمج.

لقد رأى غارودي كل آماله في هذا الدين الخاتم ومذهبيته الكونية الشاملة المترابطة، وأدرك أن طريق النضال الوحيد أمام البشرية هو الإيمان بالإسلام ومبادئه الفطرية المنسقة في الكون والمجتمع والإنسان.

وكذلك يا ليتهم فعلوا مثل ما فعل الكاتب العربي الأستاذ "منير شفيق " فلقد قضى في الماركسية سنوات طويلة، مؤمناً بها مدافعاً عنها، مناضلاً في سبيل تمكينها في المجتمع العربي المسلم، ثم تهيأت له سبل دراسة الإسلام فدرسه دراسة واعية مُنصفة عميقة، فظهرت أمامه الحقيقة واضحة جليَّة. ولم يحاول أن يلفق بين الإسلام والماركسية، لأنه أدرك أن من يحاول أن يأخذ من الإسلام جانباً منه ويترك منظومته المتكاملة سينتهي إلى شيء آخر غير الإسلام. ولذلك فإنه ترك الماركسية إلى غير رجعة وألَّف كتابه النفيس "الإسلام في معركة الحضارة " عرض فيه قضية الإسلام، بعقيدة راسخة ويقين كامل ومنطق سليم في إطار من الفهم الدقيق لمذهبية الإسلام الشاملة ووحدتها الداخلية الرصينة.

- الثاني:

لو جئنا إلى الواقع من خلال استقراء شامل للحياة في العالم الإسلامي لوجدنا أن محاولة التلفيق بين الإسلام وبين الرأسمالية أو الماركسية أو الاشتراكية، انتهت إلى التضحية بالإسلام، وإخراجه من معظم مجالات الحياة، ويدل على ذلك ما يلي:

(أ) التوجيه العام في تربية الأجيال غدا توجيهاً مقطوعاً عن الإسلام خاضعاً لمناهج الدوائر العلمانية والمادية الغربية في التربية والتعليم بحيث أدى إلى فصل التعليم الديني عن التعليم العلمي والإنساني، مع التقصد المخطط في إهمال التعليم الديني ومؤسساته، تمهيداً لحصر دوره أو القضاء عليه.

(ب) قادت التربية العلمانية والمادية أجهزة الإعلام المتنوعة في طريق التنكر للإسلام عقيدة وشريعة وسلوكاً وحضارة والاكتفاء بعرضه عرضاً لاهوتياً أو "فولكلورياً " تراثياً متحفياً في مناسبات معينة.

(ج) عبرت في ظلها المبادئ الغربية المادية والعلمانية والجنسية الإباحية، فتمكنت من حفر أخاديد واسعة وتيارات كبيرة في المجتمعات الإسلامية، انتهت إلى الفرقة والقلق والحيرة والسلبية في الحياة. وبالمقابل فقد حوصر الإسلام حصاراً يكاد يكون كاملاً، وغدت الدعوة إلى حقائقه ومحاولة تمكينها ولو بالطرق السليمة، ومن خلال جهود جماعية، جريمة كبيرة، يتعرض أصحابها من خلالها إلى الاضطهاد المتنوع، وصل في بعض الأحوال إلى التصفيات الجسدية.

(د) ارتبطت تلك الأنظمة العلمانية بمراكز القوى الكبيرة في توجيه السياسة العالمية؛ العلنية منها والسرية، بدعوى الانسجام في المبدأ والتخطيط في السياسة المشتركة والاعتماد على قوة ضد قوة أخرى، وانتهت إلى التمزق بين أجزاء الأمة الإسلامية، لا سيما الأمة العربية الواحدة، وأدت هذه الكارثة التاريخية الكبيرة إلى ضياع وحدة الأمة، عقيدة وحضارة وهدفاً ومصيراً. وتمكّنِ اليهود في فلسطين وضمهِم لأجزائها وما حولها، وتجسدت كارثة الفرقة إلى درجة أن المتخندقين من الفدائيين الفلسطينيين وجه بعضهم إلى بعضهم الآخر فوهات مدافع الدبابات والرشاشات والبنادق. كما أن جيوش الأعداء استدعيت لغزو بلاد إسلامية عدة من قبل حكامها العلمانيين أو الماديين مباشرة أو غير مباشرة.

(هـ) في ظل التلفيق بين الإسلام تراثاً وبين المذاهب المادية والعلمانية عقيدة وحضارة ومنهجاً فرضت على الأمة أنظمة القهر والاستبداد واستعملت خبرة الأمم كلها في تعذيب المعارضين وسحق مقاومتهم العنيفة أو السلمية، فانتهكت الكرامات واستبدل استعمار باستعمار وطبقة بطبقة وظلم بظلم أشد. وبقي المظلومون والمستضعفون على حالهم يفتك بهم الجهل والجوع والمرض.

لم ينته الاستلاب الإنساني كما وعدوا.

لم تسقط الكيانات الاجتماعية المتهرئة كما ادّعوا.

لم تتحقق وحدة الأمة كما طبلوا لها وزمروا، بل زادوها أوصالاً وتقطيعاً.

لم تتكون العقلية العلمية في الأمة كما أملوا، بل زادت الخرافة والجمود، واستعانوا بها هذه المرة للقضاء على حقائق الإسلام. . فأي تلفيق هذا الذي يريدون، وعن أي مزج هم يتحدثون.

لقد كانت الضحية الوحيدة لهذا التقريب المزعوم هو الإسلام بحقائقه وحضارته وأمجاده وأمته وترابه.

(و) كان من ثمار هذه التربية المادية والعلمانية، انتشار مظاهر الانحراف في حياة المسلمين؛ فمن إدمان للخمر، إلى نوادي القمار، إلى دور البغاء العلني والسري، إلى الخلاعة الجنسية على شواطئ البحار والأنهار وأحواض السباحة والاستعراضات الرياضية المختلطة، إلى تسهيل الإغراءات في الملابس وتشجيع دورها ومحلاتها وصحفها وحفلات عرضها، تلك الفضائح الاجتماعية والأخلاقية التي قتلت الرجولة والشهامة والمروءة والاستقامة وروح الجهاد والكفاح في الحياة لدى الأجيال المسلمة.

إن المنهج الذي يدعو إلى التوفيق بين مبادئ الإسلام وبين الجوانب الإنسانية والاقتصادية والاجتماعية في الحضارة الحديثة، منهج فيه ثغرة كبرى، لأنه ينطلق من أمرين متضادين، إذ لكل من الإسلام والحضارة الغربية أرضيته الخاصة، ونمطه الحضاري المتميز، فلا يجوز قطع جزء من الإسلام، ودمجه مع جزء معين من مذهب آخر أنتجته حضارة مختلفة، ليخرجا كُلاًّ فيه جزءان متباينان، لأن الكل الجديد عند ذلك يفقد تسلسله المنطقي ووحدته الداخلية واتزانه الحضاري.

وكذلك المنهج الذي يقول: إنني أؤمن بالإسلام ولكنني أستفيد من المبادئ الأخرى في الحضارة الغربية الحديثة وأدخلها في الإسلام إدخالاً لا تفقده ملامحه الخاصة.

وعلى الرغم من أن هذا المنهج هو تعبير آخر عن المنهج التلفيقي، غير أن صحابه - إذا كانوا مسلمين حقاً - لا بد أن يعدلوه، وتعديله يكون بأن أدرس الإسلام دراسة واعية، ولا أنسى أنني أعيش في القرن الخامس عشر الهجري، ولا بد أن أعلم أني محاط بحضارات أخرى هي حصيلة التجارب البشرية غير المعصومة، مع ما بقي فيها من مبادئ الأديان السماوية السابقة على الإسلام. فأدرسها دراسة ناقدة وأهضم ما أريد أن أهضمه منها في داخل ضوابط ومنطلقات وخصائص حضارتي الإسلامية، ثم أبدأ بحل المعضلات التي أواجهها من خلال عقيدتي الواضحة وتجارب الإنسانية الشاملة في عالم الشهادة (المادة )، لأصل في النهاية إلى اقتراح حل ما للمشكلة الاقتصادية، قد يقترب كثيراً أو قليلاً من حلول الأنظمة الأخرى. ولا يمكن أن يعترض عند ذلك عليّ فيقال: أنت نقلت القضية الفلانية من المبدأ الفلاني، لأنني في الواقع لم أنقلها، وإنما توصلت من خلال مذهبيتي المفتوحة إلى حل مشكلة منفردة، هي ظاهرة من ظواهر المجتمعات البشرية كلها، كل منا يدرسها بطريقته الخاصة، ويوجد الحلول المناسبة مسترشداً بإطاره الثقافي، ونمطه العقيدي.

إن القضايا عند ما تفرد؛ كل قضية وحدها وتعالج، عند ذلك تتصل بوجود الإنسان من حيث هو إنسان. إذ أن القضايا الجوهرية التي تتصل به، مشتركة، ولكن كل نمط حضاري ينظر إليها ويتقدم إلى دراستها وحلها من زاويته الخاصة، وقد تتقارب النتائج في النهاية، ولكن كل نتيجة ضمن منظومته الحضارية.

فعلى سبيل المثال: عندما ألقي نظرة على المجتمع الإسلامي وأجد أن التوازن الاقتصادي مفقود فيه، أبدأ بالتفكير من المنطلق الإسلامي لإيجاد حل لهذه المشكلة التي قد تسبب مأساة إنسانية لا يرضى عنها الإسلام، فأقترح حلولاً ضمن مخطط عام للقضاء على تلك المأساة، وقد يقترب بعض ما في حلولي الإسلامية من بعض ما تقرره الماركسية أو النظريات الاشتراكية الأخرى. فلا يمكن أن يدعي امرؤ أنني أطبق هنا مع الإسلام أحد تلك النظم الاقتصادية، لأن منطلقي يختلف تماماً، فأنا أتحرك داخل الإسلام وضوابطه ونظمه الحضارية، والإنسان قد تتشابه مشاكله في ظل الأنظمة المتضادة، ومع ذلك التضاد، فقد تأتي الحلول متقاربة في نتائجها، والسبب جوهر المشاكل الإنسانية، لا تَلَقِّي كل مذهبية تلقياً مباشراً من الأخرى.

ويمكن أن أنتقل من هذا العموم إلى ضرب مثل خاص من الجزئيات الكثيرة المندرجة تحته فأقول:

لو نظر اقتصادي إسلامي وماركسي واشتراكي إلى قرض المصرف العقاري، فانتهى الثلاثة إلى أن كل أسرة لها حق في امتلاك حد أدني من السكنى، حتى لا تعيش في العراء فتتعرض كرامتها الإنسانية إلى المهانة.

ورأى الثلاثة أن الواجب على الدولة التي تمثل الشخصية المعنوية لمجموع أفراد المجتمع أن تؤمن لهم ذلك، ورأوا أن أخذ الفائدة على المبلغ المقترض لتأمين السكنى الضروري ظلم اجتماعي، يحيل عقلية الدولة إلى عقلية تاجر يريد تأمين الربح أولاً، ثم اقترح الثلاثة أن الحل هو في إلغاء الربا في هذا القرض. ولكن مع هذا الاتفاق الظاهري نجد أن المذهبية التي ينطلق منها الثلاثة تختلف مع الأخرى في المقدمة والنتيجة، وسنجد أن نظرة الاقتصادي المسلم تختلف عن نظرة صاحبيه. لأن إلغاء القرض عنده ليس استجابة لرفع ظلم اجتماعي فحسب، وإنما تتقدمه الاستجابة لأمر ربه في تحريم الظلم كقانون كوني ثابت، فقد حرم الظلم على نفسه وحرّمه على عباده، وهذا الحرام لا يتبدل بتبدل الظروف قط كما في الأنظمة الأخرى، لأن الربا قد يعود عند الأزمات الاقتصادية مثلاً في ظل تدابيرها الاقتصادية.

فالقضية هنا تخضع لحسابات مادية، بينما الربا على ذلك القرض لا يمكن أن يعود في ظل النظام الاقتصادي الإسلامي، لحرمته الشرعية، استجابة لأمر الخالق. ولذلك فإن الدولة الإسلامية لا يمكن أن تعيد هذه الفائدة حتى في الأزمات الاقتصادية التي تمر بها، بسبب الحرمة أولاً، ولأنها ضمن الإطار الشامل المرن للاقتصاد الإسلامي تستطيع أن تتحرك في اتجاهات كثيرة لسد ذلك النقص في داخل ضوابط الشريعة وقواعدها العامة المرنة.

إن الحلول المتسقة مع المذهبية الإسلامية وخصائصها والتي تظهر إلى عالم الواقع ضمن نظامها العام، تسمى حلولاً إسلامية، وليست حلولاً ماركسية ولا اشتراكية ولا رأسمالية إن كانت القضية تتصل بحرية الإنسان.

إن المفكر المسلم هنا كالأديب العربي الذي يقرأ أدبه ويقرأ الآداب الأخرى ويطلع على حياة أصحابها وآرائهم في الوجود من خلالها، ثم يكتب أدباً جديداً، ولكنه أدب عربي أصيل بشكله ومضمونه. فاشتراكه مع أديب إنجليزي أو فرنسي في الأنماط البلاغية والمعالجات الحياتية والنتائج المشابهة لا يسلب عنه الشخصية العربية المستقلة وأسلوب التفكير الخاص.

==============

# المذهبية الإسلامية ونمطها الخاص

من البديهيات الثابتة في علم الاجتماع أن المجتمعات البشرية متنوعة في أنماطها الحضارية التي تشكل خلفيتها التاريخية وتؤثر في حياتها حاضراً ومستقبلاً.

إن تلك الأنماط الحضارية، يرسم تفاصيلها التطور التاريخي للأمم في عقائدها وثقافتها ولآدابها وفنونها وأعرافها وتقاليدها، فهي تُكَوِّن منطومتها الحيوية ووحدتها الداخلية. فإذا أردنا أن تحفظ حضارة ما بملامحها ووحدتها، وشخصيتها المستقلة، فلا بد أن يجرى التغيير في إطارها، حتى تكون استمراريتها متوازنة ومتواصلة، كي لا تفقد خصائصها، فتنقطع تماماً عن ماضيها وخصائصها وتذوب في حضارات أمم أخرى، تختلف عنها في ركائزها وتصورها والنتائج التي تترتب عليها.

والمجتمع الإسلامي الذي صاغه الإسلام منذ أربعة عشر قرناً، صياغة حضارية انطلقت من مذهبيته في الكون والحياة والمجتمع والإنسان له خصائص معروفة(6)، شكلت تاريخه وتطوره وحركته وحافظت على وحدته الداخلية بانسجام ووضوح.

ولما كنا نعتقد من حيث كوننا مسلمين، أن الإسلام هو الحق الذي لا ريب فيه، وأن مذهبيته الكونية هي المذهبية الصحيحة المنسجمة مع فطرة الإنسان، والمحققة لمصالحه، والمحافظة على توازن شخصيته واستقلاليتها، فإن أي تخطيط للتغيير الاجتماعي لا بد أن يجرى في إطار مذهبيته عقيدة وشريعة وسلوكاً، حتى تحافظ الحضارة الإسلامية على أسسها وخصائصها، وحتى لا تنحرف وتسقط أمام حضارات أخرى، مادية في أسسها، مصلحية في غاياتها، تؤله الإنسان وتسحقه في ذات الوقت، ولا تعترف بالعبودية الكاملة لرب العالمين، من حيث هو تعالى الإله المعبود الحق ولا معبود سواه.

والذين ينطلقون من منطلقات حضارية أخرى تتبع مذهبيات تتنافى في أسسها وخصائصها مع مذهبية الإسلام في الله تعالى والعالم والإنسان، يريدون أن يغيروا مجرى التاريخ، ويقطعوا الأمة عن خصائصها الحضارية واستمراريتها التاريخية، حتى تظهر أمة أخرى، غريبة عن ماضيها، تبدأ من الصفر، ولا تمت إلى الإسلام وحضارته الربانية الإنسانية السامية بصلة ما.

ولقد أثبت لنا تاريخ صراع الأفكار والمذاهب في القرن الأخير في المجتمعات الإسلامية أن الأمة الإسلامية رفضت محاولات إسقاطها النهائي أمام الأمم الأخرى وحضاراتها، لأن نمطها يختلف عن النمط الحضاري الإسلامي في جذوره وخصائصه وتطوره. وهي لا تزال تحتفظ بجوانب من القوة في مقوماتها الإسلامية وخصائصها الذاتية المستقلة، على الرغم من غزو الحضارة الغربية لقيمها وحياتها وسلوك أفرادها، كنتيجة طبيعية لعوامل الإعاقة والتأخر في القرن الأخيرة من حياتها، تلك التي أسلمتها إلى الأعداء المستعمرين الذين خططوا للقضاء على وجودها وخصائصها وتحريفها عن طريقها الحضاري المستقل، زد على ذلك الاحتكاك الطبيعي بين الحضارات الذي هو سُنَّة من السُنن الاجتماعية في المجتمع الإنساني.

ماذا كانت النتيجة؟

لقد كانت النتيجة فادحة، لأن المجتمع الإسلامي، يحاول من جهة المحافظة على وحدته الحضارية الداخلية استجابة لمتطلبات مذهبيته الإسلامية، ومن جهة ثانية، فإن الحضارة الغربية بكل مقوماتها ومغرياتها فتحت مسارات كثيرة نفذت منها لتفجير المجتمع الإسلامي من الداخل وإحداث التغيير الشامل فيه على مقومات مذهبياتها المادية وخصائصها الحضارية، الرومانية، النصرانية، العلمانية.

إن رفض المجتمع الإسلامي للسقوط الحضاري من جهة وضغط الغزو الحضاري الغربي من جهة أخرى، قادنا إلى حالة خطيرة من الضياع والحيرة والانفصام، بحيث لو استمرت، فإن خروجنا السريع من هذه الفوضى الحضارية يكون في حكم المستحيل. وعدم الخروج السريع وعدم الوضوح في التخطيط والتغيير سيلحق بمجتمعاتنا الإسلامية أفدح الأضرار، بل سيدمرها تدميراً شاملاً، وسيتمكن منها الأعداء من كل جانب.

وقد طُرح إلى الآن حلاَّن أساسان، في الساحة الإسلامية للوصول إلى توجيه ناجح لضبط حركة التغيير الحضاري الشامل التي غدت لا مناص منها للخروج من الزمن الماضي الساكن إلى الزمن الحاضر والمستقبل.

أما الحل الأول فيقول:

لا بد أن يحدث التغيير في ضوء المذهبيات المادية والعلمانية التي تسيطر على الحضارة الحاضرة، التي هي في زعم القائلين به قدر البشرية اليوم.

وأما الحل الثاني فيؤمن:

أنه لا بد أن يحدث التغيير في إطار مذهبيتنا الإسلامية الشاملة وبنمطنا الحضاري الخاص الذي ميز أمتنا عن سائر الأمم، مع مراعاة سنن الله في الوجود، وتسخير القوانين المادية لصالح قيام الحضارة من جديد(7).

أما الحل الأول ففيه عزل كامل للإسلام عن مجتمعه من حيث هو دين ومذهبية متكاملة تتفرع منها عقائدنا وشرائعنا وأخلاقياتنا وقيمنا الحضارية وأمجادنا التاريخية. ثم هو قطع للأمة عن ماضيها وتحويل لها عن مجاريها، وإيجاد لأمة أخرى بعقائد جديدة وقيم جديدة وحياة جديدة.

وقد رفضت أمتنا هذا الحل الذي جاء كنتيجة لهيمنة المستعمرين من خلال حكمهم الطويل لبلاد الإسلام عن طريق المناهج التي فرضوها والمؤسسات الثقافية التي أنشئوها والمراكز الإعلامية التي ملئوا بها ساحتنا بأساليبها المتنوعة ووسائلها المغرية.

وهذا الحل في ذاته فاسد، إذ أن تلك الفلسفات المادية والمناهج العلمانية تعبر عن صراعات الأجيال والمؤسسات في تواريخ الأمم الغربية، فيما بينها، فهي من نتاج عقول بشرية في حضارة مادية في أصولها، رومانية في عبادتها للقوة، نصرانية في حقدها التاريخي على الأمة الإسلامية، فبأي حق، تسبغُ على تلك الفلسفات والمناهج العصمة والحتمية والموضوعية، كي تفرض على أمتنا الإسلامية، وهي تمتلك عقيدة ربانية حكيمة تتماشى مع فطرة الكون ومنطق الأشياء، وشريعة حكيمة مفتوحة تنظر إلى الإنسان نظرة شمولية متوازنة مع تكوينه ودوافعه، وحضارة علمية إنسانية ذات أخلاقيات رفيعة، وتاريخاً مجيداً يزخر بالبطولات والأمجاد وروح الفروسية الحقة في كل ناحية من نواحي الحياة.

إذن، لا مناص من الأخذ القاطع بالحل الثاني، الذي هو طريق الإسلام الحق ومذهبيته الشاملة المترابطة التي نبقى في ظلها مسلمين حقاً، ونحافظ على شخصيتنا الحضارية المستقلة، وتكون رؤيتنا واضحة لحاضرنا ومستقبلنا، فنخرج من الفوضى والحيرة والذوبان في منظومات حضارية أخرى.

إن هذا لا يعني الوقوف عند الماضي، لأن الإسلام من حيث هو وحي إلهي مستقل عن الزمان والمكان، فهو ماض وحاضر ومستقبل من دون تحديده، وهو حركة دائمة تدعو إلى التغيير المستمر والتجديد الدائم، لتحقيق الأمانة الكبرى في تحقيق خلافة الله على الأرض، وهي لا يمكن أن تتحقق على الوجه الكامل إلا بتسخير قوانين المادة. وتسخيرها لا يحقق صلاحها إلا في داخل المذهبية الإسلامية، لأنها ترتبط بها وتعبر عنها، فتخرج للناس حضارة متوازنة إنسانية لا حضارة مادية تنكر الإله، وتعبد القوة وترتكب الجرائم الوحشية بحق البشرية من منطلقات المصالح والعنصرية والأحقاد التاريخية.

كتب المفكر الفرنسي الكير "رجاء غارودي " قبل أن يدخل في الإسلام، نقده العلمي التاريخي للحضارة الغربية، نلخص هنا ما يتعلق بموضوعنا على الوجه الآتي(8):

• استندت على الإرادة الفردية الغازية المريدة للربح والسيطرة، والتي لا تتردد لحظة واحدة في تدمير القارات والحضارات، من خلال توجيه العلوم والتقنيات.

• اعتمدت النظرة العلمانية الصرفة التي تؤكد أن العقل يحل كل المشاكل وأن كل المشاكل الأخرى هي مشاكل لاهوتية زائفة.

• إن هذه الحضارة، لم تستطع إلى الآن أن تحدد غايات الإنسان الحقيقية، ولا أن تسيطر على الوسائل التي توصله إلى تلك الغايات.

• إذن فهذه الحضارة تحيل الإنسان إلى العمل والاستهلاك، وتحيل الفكر إلى ذكاء آلي، فيتجرد من الإيمان والحب والشعور الفني، وتحيل اللانهائي إلى الكم، ولذلك فإن هذه الحضارة في رأي غارودي، مؤهلة للانتحار.

• إن تقدم الغرب، لم يكن نتيجة عظمة مبادئه، وإنما كان بالضرورة وليد نهب قارات ثلاث، ونقلها إلى أوروبة وأمريكا الشمالية، وبالمقابل فإن الغرب هو الذي جعل ما نسميه العالم الثالث متخلفاً. . ويثبت غارودي ذلك من خلال عرض تاريخي قائم على أساس إحصاءات دقيقة.

• إن هذه الحضارة أدخلت الرق طرازاً إنتاجياً لأول مرة في تاريخ أفريقيا.

• وهي أبادت الهنود الحمر في أمريكا، وأدخلت الأمراض الجنسية كالزهري لأول مرة بين الباقين.

• ولما قضوا على الهنود الحمر احتاجوا إلى الأيدي العاملة، فبدأ خطف السكان الأصليين في أفريقيا طوال ثلاثة قرون، واسترقاقهم ودفنهم في العمل بالمناجم الأمريكية في مأساة إنسانية تاريخية كبرى قضى فيها تسعون مليوناً من المختطفين الأفريقيين نحبهم ووصل عشرة ملايين تحت ظروف قاسية إلى مواقع العمل في أمريكا.

• يقول "غارودي ": (بل إننا لا نستطيع أن نقارنها بالمذابح التي أتاحت لـ (جنكيزخان ) بناء أهرام من بضعة آلاف من الجماجم البشرية، إن عمله عمل صانع يدوي إذا قسناه بالجريمة التاريخية الأعظم التي اقترفها الغرب ) ويقول: (إنني أذكر كيف شعرت فجأة بعار الإنسان الأبيض وكأنه حمل ثقيل مذل على كتفي، عندما زرت في جزيرة (كورة) بمقابل "دكار" الحجيرات التي كان الأسرى يكدسون فيها قبل الإقلاع. ولا تزال آثار الدهان الأسود، مرسومة على الجدار وهي تشير حتى الآن إلى المكان الذي كان النخاسون يحددونه لكل إنسان في ذاك الجحيم (9). ويقول: جلي إذن بالرغم من ضروب تقريظ الغرب المنافق أن مسؤولية الرق لا تقع على عاتق الأفريقيين أولاً، لأن الرقم لم يكن البتة طراز إنتاج في أفريقية قبل وصول الأوروبيين، وثانياً لأن مؤسسة تجارة العبيد اصطدمت بمقاومة الأفريقيين. وأخيراً لأن طلب اليد العاملة الخاضعة للأوروبيين لم يحدث هذه التجارة بعد إبادة هنود أمريكا إبادة جماعية وحسب، بل عمل على توسيعها وتنشيطها ) (10).

• يثبت "غارودي " أن الحضارة الغربية لم تلغ الرق قط لأسباب إنسانية وإنما لأسباب اقتصادية، يثبت ذلك من خلال استقراء كامل لطبيعة تطور المشروع الرأسمالي.

• ظهرت النظرة العرقية بأبشع ما تكون في ظل الحضارة، بحيث تعالى الإنسان الأبيض ونظر إلى الشعوب المستعمرة نظرة فوقية استغلالية من خلال مقولات عنصرية بحتة.

• وبالنسبة للعالم الإسلامي ينتهي "غارودي" إلى أن الاستعمار الإنجليزي والإسباني والفرنسي نتيجة للدور الذي قاموا به في أرض الإسلام خلال أكثر من قرن، زيفوا الحقائق، وافتروا منهجاً من أجل إساءة سمعة إسهام الحضارة العربية في الحضارة الإنسانية.

• وبجانب هذا لقد ارتكب الغرب مجازر تاريخية رهيبة في البلاد الإسلامية، ويعرض غارودي وثائق وإحصاءات تاريخية تثبت فظاعة ووحشية وبربرية الغرب في العالم الإسلامي، لا سيما في شمالي أفريقيا (11).

• يستنتج غارودي من دراسته بأن الغرب حادث عرض، ولكنه أخطر عرض طرأ في تاريخ الكرة الأرضية، والذي قد يقود اليوم إلى فنائها(12).

• وينتهي إلى أن نمط التطور الذي تمارسه المجتمعات الصناعية يقود البشرية إلى درب مسدود. (انتهى كلام "غارودي" مختصراً ).

فإذا كان اتباع التنمية الحضارية الغربية في ظل المذهبيات المادية العلمانية يقود إلى الطريق المسدود في رأي غارودي وكثير من فلاسفة الغرب ومفكريه وعلمائه، فلا بد إذن بعد تجربة قرن كامل من الزمان في العالم الإسلامي، أن يكون اتباع المذهبية الإسلامية الشاملة، المرنة الحية، الحركة التي تنشد التغيير والبناء والتقدم دائماً، هو الطريق السليم للخروج في العالم الإسلامي، من الطريق المسدود الذي يجد نفسه في اليوم(13).

والمذهبية الإسلامية هذه ليست مذهبية سلفية بالمعنى الذي يريد أعداء الإسلام من أرباب المادية والمذاهب العلمانية أن يصموها بها، حتى يظهروها أمام الجيل الجديد بأنها دعوة إلى الجمود والالتصاق بالماضي والتمسك التراثي بالتراث.

ولقد دلس هؤلاء على كثير من أبناء جيلنا الحاضر في هذه القضية، لأنهم عرضوا "السلفية " وكأنها إيقاف للزمن وتمسك مطلق بالماضي. بينما "السلفية " اصطلاح في مبحث العقيدة الإسلامية. والمقصود منها الوقوف في فهم تلك العقائد، لا سيما مسألة صفات الله، في إطار فهم السلف من الصحابة والتابعين وتابعيهم، لأن تفصيلاتها تدخل في المجال الذي نهانا الله تعالى في الحديث عنها،وليس للعقل فيها مدرك، ولا يبنى عليها عمل في الواقع الفكري والاجتماعي. ومن هنا فإنهم دعوا إلى الفهم الظاهري للآيات القرآنية الكريمة التي تتحدث عنها وتفويض كيفيات معانيها إلى الله سبحانه وتعالى.

ولقد كانت هذه الدعوة ردّ فعل على الصراع الكلامي العنيف بين الفرق الإسلامية التي توسعت وتعسفت في التأويل في مجالات عالم الغيب.

ولئن اضطر علماء الكلام في العصور الأولى الولوج إلى ذلك الصراع مع فلاسفة ولاهوتيِّي أهل الملل والنحل، عندما أرادوا اختراق سور العقيدة الإسلامية بمطاعنهم وشبهاتهم، ووجدوا في مرونة قواعد اللغة العربية ودلالات ألفاظها معيناً لهم في ردّ تلك المطاعن وتفنيدها، إلا أنه سرعان ما تحول الجدل إلى المراء غير المجدي بين المسلمين أنفسهم، الأمر الذي كان من أعظم أسباب ضعف المجتمع الإسلامي وتفكيك وحدته الفكرية، وإدخال التعقيد في عقيدته القرآنية الفطرية الواضحة.

ولقد انتهى اليوم ذلك الصراع الكلامي الرهيب إلى غير رجعة إن شاء الله، ولم تعد تثار مشاكله وأفكاره على مستوى الصراع الفكري في عالمنا المعاصر. ولم يعد الإسلاميون يتحدثون فيه أو يشغلون أنفسهم بالخوض في مباحثه إلا في مجالات التخصص الدقيق. فإطلاق لفظ "السلفية " بالمعنى الذي قصد إليه أعداء الإسلام، إنما هو خدعة مكشوفة منهم للجماهير المسلمة ووضع للمصطلح في غير موضعه الحقيق به.

إن المذهبية الإسلامية ليست دعوة أو حركة محدودة تتصل بزمن معين. أو جزئية معينة من جزئيات الإسلام. إنها دستور الوجود كله، علماً وعقلاً ووحياً(14)، تتفرع منها شريعة مضبوطة مرنة الأصول والقواعد، تؤمن بالحركة والتغيير، واختلاف الزمان والمكان، وفيها من النظريات التشريعية العظيمة، والمبادئ الكلية الإنسانية العامة، والمقاصد الحسنة، وفتح المجال الواسع أمام العقل الإنساني للنظر والاجتهاد ما يرفد الحياة في كل عصر بقوانين حركتها الاجتماعية المتطورة.

إن كل من يقرأ بدقة ما تكتبه مجموعة الكتاب الماديين والعلمانيين، في هذا المجال، يوقن أنهم إنما يريدون محاربة الإسلام نفسه تحت مظلة "السلفية"، التي يسقطون ما يجول حقيقة في عقولهم ونفوسهم عليها،ويحرفون معناها، ويستعملونها مرادفة للجمود وإيقاف حركة الزمن.

إنهم لا يؤمنون أساساً بالإسلام، لأن المادية والتيارات غير الدينية التي يتحركون في إطار منظوماتها الفكرية ترفض الإسلام من حيث هو وحي إلهي، وتدعو إلى رفضه أو إعادة النظر في مبادئه، دون أن يفرق بينه وبين فكر المسلمين الاجتهادي.

إن هؤلاء - لنفاقهم الاجتماعي - من حيث إنهم يعيشون في مجتمع إسلامي، لا يوضحون مقاصدهم الحقيقية صراحة في معظم الأحوال، - ولا يقولون على سبيل المثال: إن المذهبية الإسلامية المنبثقة من الوحي الإلهي مرفوضة في هذا العصر - ولكنهم جميعاً يلتفون حول القضية بمكر، مستغلين جهل الأجيال المسلمة الجديدة بدينها، فيلصقون بالإسلام أنه دعوة "سلفية "، بالمعنى الذي يحددون، ثم يحكمون أن الدعوة السلفية مرفوضة لأننا لا نستطيع أن نعيش في زمن غير زمننا. ومن تتبع كتاباتهم اكتشف ذلك بسهولة (15).

=============

# مذهبية شاملة

لا شك أن مذهبية الإسلام في الكون والمجتمع والإنسان، مذهبية هداية وتوجيه تنظر إلى الوجود كله نظرة برهانية شاملة معقولة.

فمذهبيته في الكون قائمة على أساس دقته وتناسقه وتوازنه وغائيته، خلقه الله سبحانه وتعالى من العدم. كل شيء فيه موجه بعنايته، يخضع لقانون واحد لا تفاوت فيه، يقوم على أساس التكامل والتعاضد لا على أساس التضاد والتناقض. يتحكم فيه قانون التطور العام الذي يصيره من حال إلى حال بأمر الله وفي إطار سننه المسيرة، التي هي بمثابة العلل والأسباب التي لا تصطدم مع مبدأ المشيئة الإلهية، لأنها هي نفسها جزء من تلك المشيئة النافذة.

ومذهبيته في المجتمع قائمة على أساس الوحدة البشرية، فكل الناس عيال الله وأفضلهم هو أتقاهم، وهو سبحانه وتعالى لو يتركهم عبثاً يتخبطون في الأخطاء والتجارب المستمرة، حسب هواهم ومصالحهم المتضاربة، بل ارتضى لهم أصول أنظمة حيوية فطرية، تفاصيلها دقيقة وحكيمة وردت في نصوص مجملة، حتى يستنبط منها المجتهدون في كل عصر ما يتفق مع مصالح الناس ويساير زمانهم في إطار القواعد والأصول العامة للفقه الإسلامي.

ومذهبيته في الإنسان قائمة على أنه خليفة الله المكرم في أرضه، يتحرك ويعمل في إطار القوانين المادية، لإنشاء الحضارة ورفد الحياة بكل جديد في داخل التزام حقيقي بعبادة الله سبحانه وتعالى وحرية شاملة تعتمد العقل وتطلق طاقاته الكبيرة للقيام بذلك الدور الحاسم في هذه الحياة الدنيا.

إن مذهبية الإسلام الكونية هذه التي توجه منهجها التغييري التفصيلي لا تقوم مقام العلم والتقنية في هذا العصر، وإنما تقوم مقام المذهبيات الثقافية في الحضارة الحديثة، التي لا يجوز أبداً للمسلمين أن يلجؤوا إليها لأنها كفرت بالله وانطلقت من النظرة المادية الصرفة إلى الكون، وبنت مجتمعاتها على أساس العبودية لغير الله من المال والعنصر والطبقة والأشخاص، ووضعت الإنسان إلهاً مكانه سبحانه وتعالى، فسببت بذلك شقاء كبيراً في المجتمع، بتوجيه مناهج التغيير وجهة هادمة منحرفة، تعتمد الجانب المادي في الإنسان ، متجاهلة كلياً جانبه المعنوي الإنساني الشعوري، بحيث تحولت المجتمعات الإنسانية في ظلها إلى مجتمع الغابة، لأنها فقدت إنسانيتها بمعناها الشمولي، وقيمها الموحدة فحولته إلى آلات تعمل وتستهلك، وفي سبيل مصلحته يفتك بالآخرين، يمزق حياتهم ويمتص دماءهم ويسلب خيراتهم، بلا أخلاق ولا رحمة ولا إنسانية.

وهنا نسأل سؤالاً ملحاً يفرض نفسه بعد هذه المقدمة فيقول:

قلنا بأن المذهبية الإسلامية تقوم مقام المذهبيات المادية التي سيطرت على الحضارة الغربية، وذكرنا أنها لا تقوم مقام العلم والتقنية. إذن هل نعني ذلك أننا لا بد أن تأخذ العلم والتقنية مطلقاً دون تردد أو مناقشة؟ وماذا عن العلوم الإنسانية الحديثة؟ كالفلسفات العقلية، وعلو الاجتماع وعلم الاقتصاد، وعلم السياسة، وعلم النفس وعلم التربية، وما إلى ذلك؟ فهل هذه العلوم يمكن أن تدخل مؤسساتنا الثقافية والتربوية والإعلامية من منظار منهج التغيير الإسلامي؟.

وفي جوانب ذلك نقول:

أما بالنسبة للسؤال الأول: فلا أشك أن العلم والتقنية الحديثة، كشفا عن القوانين المادية المتنوعة في اعلمي الأنفس والآفاق، فتسخيرها بأوسع مجال ممكن في بناء حياتنا الجديدة، يتماشى تماماً مع ما يريده الإسلام من الحركة في الحياة واستعمار الأرض وبناء الحضارة وتحقيق الخلاقة.

غير أن منهج التغيير الإسلامي لا بد أن ينتبه إلى قضية في غاية الأهمية، وهي: أن العلم والتقنية يوجهان اليوم في حالات معينة لخدمة أغراض المذهبيات المادية المصلحية غير الإنسانية، الأمر الذي لا يمكن أن ينتقل إلى المجتمع الإسلامي من منظار هذه الفلسفة النفعية المصلحية، بل لا بد أن يتحرك العلم والتقنية في اتجاهات الحضارة كلها في ظل المذهبية الإسلامية التي تبني القواعد الأخلاقية والإنسانية الرفيعة لانطلاقتهما في المجالات التي تخدم الإنسان وتوفر له السعادة.

والدلائل الواقعية تشير الآن، أن العلم الإسلامي عندما يأخذ اليوم العلوم والتقنيات م الغرب، لا يأخذهما منطلقا من داخل نمطه الإسلامي الأصيل إلى يؤمن بالوحدة الكاملة بين الفرد والمجتمع والروح والعقل والجسد والطبيعة.. إن العلم والتقنية يسيران في الغرب على أساس الفصام الكامل بين أجزاء تلك الوحدة الوجودية المتناسقة، والنتيجة الرهيبة التي ترتبت على ذلك أن العلم والتقنية سارا في الحضارة الغربية عكس اليم والأخلاق التي بذر بذورها في تاريخ البشرية الأنبياء والمرسلون والمصلحون والعقلاء.

الطريق الذي سار عليه التطور العلمي والتقني في الحضارة المعاصرة اتجه نحو التضاد مع الطبيعة والبيئة والحاجات الفطرية إلى الإنسان. فهو لم بتكامل مع الطبيعة والبيئة والإنسان، مما هدد موارد طبيعية وحيوانية عديدة بالنفاد وأضر بالبيئة فلوثها وأنهكها وأخل بتوازنها، ووضع الكائن البشري في ظروف مكنية ومعاشية وصحية تتناقض مع روحه وصحته ونفسيته وفطرته ونموه العام. كل ذلك بسبب الاتجاه في تطوير العلمي والتقني الذي تحكمه أهداف العنف والربح والاستهلاك المادي (16).

وبعد تحليل دقيق لطبيعة تطول العلم في ظل الحضارة الإسلامية وفي حضارة العصر الحديث نقول:

لهذا يمكن القول: إن نمط التطور العلمي والتقني المعاصر يحمل كل خصائص الحضارة الأوروبية ويلبي أهدافها وحاجاتها ودوافعها، الأمر الذي كان سيجعل مسا هذا التطور مختلقاً لو قادته حضارات أخرى ذات أهداف ودوافع وحاجات وظروف مختلفة عن تلك التي تتسم بها الحضارة الأوروبية.

إذا كان هذا صحيحاً فإن التعاطي مع العلوم والتقنيات التي تطورت في الغرب لن يأخذ شكل النقل كما يتصور بعضهم، ولن يأخذ كل شيء كما يتصور بعضهم الأخر كما لن تستطيع حضارتنا أن تواصل النسق الفرنجي نفسه أو المسار نفسه، وإنما لا مفر لها من أن ضع العلوم والتقنيات ضمن خصوصية نسقها الحضاري لتلبي دوافعه ومصالحه وحاجاته والأولويات والاتجاه العام ومن ثم تتحدد عملية التفاعل مع ما أنجزته الحضارة الأوروبية في مختلف قوانين العلوم والتكنولوجيا (17).

هذا بالنسبة للعلم والتقنية، أما العلوم الإنسانية، فموضوعها أكثر خطورة في تفاصيله، لأنها قد تحركت في الاتجاهات التي رسمتها لها الفلسفة المادية، لتحقق أهدافها ولتركز على مبادئها في مظاهر الحياة المتنوعة.

ولكن من السذاجة أن ينكر إنسان المناهج العلمية لتلك العلوم الإنسانية وأن يدعو إلى مقاطعة نتائجها الهائلة في المجتمعات البشرية.

ومن هنا فإنه ليس من مهمة المنهج التغييري الإسلامي أن يضع جداراً أمام عبور تلك العلوم إلى حياتنا، وإنما مهمته أن يقودها في ظل مذهبية الإسلام الشاملة ليعيد إليها توازنها، ولينتشلها من الجانب المادي في العلمية والثقافية والاجتماعية والسياسية والاقتصادية والتربوية في البلاد الإسلامية.

أي إن مهمتنا التغييرية في البناء الجديد أن نحوِّل مناهج الفلسفات والعلوم الإنسانية الغربية إلى مناهج فلسفية إسلامية، وعلوم إنسانية الإسلامي وعلم الاقتصاد الإسلامي، وعلم الساسة الإسلامي، وعلم النفس الإسلامي، وعلم التربية الإسلامي وهكذا.

ويوم أن تتم هذه العملية الحضارية الكبرى في العالم سيبدأ تاريخ الإنسان بالتحول الحقيقي، وستنتشل الحضارة من واقعها المادي المأساوي.

وسنخدم البشرية يومئذ خدمة عظيمة، أهم من أن نقدم إليها اختراعات جديدة أو تقنيات مفيدة. إذ نحن في هذه الحالة - مهما أسرعنا في السير - لن نستطيع أن نقدم إليها أكثر مما تقدمه الحضارة المادية، بل لا نستطيع على الأرجح أن نقدم إليها الآن وفي القرن القابل شيئاً ذا وزن تاريخي كبير في ضوء السقوط الحضاري الذي يمر به العالم الإسلامي. والإنسانية بقوة مذهبيتنا الربانية الإسلامية الإنسانية الشاملة في الترابط الكوني.

ولن يستطيع أن يتحول تاريخنا إلى مواقع الأستاذية في هذا المجال، للحضارة الغربية المادية الحاضرة، ما لم نبدأ بعملية تغيير حضاري إسلامي شامل في عالمنا الإسلامي الكبير

==============

# المذهبية الإسلامية ودور الإنسان في التغيير

إن إبراز دور الإنسان في منهج التغيير، بدرجة كافية، غدا من الضرورات الملحة جداً، ذلك لأن الذهبية الإسلامية جعلت الإنسان مدار الحركة الحضارية، وأوكلت إليه مهمة التغيير والبناء، وكلفته بتحقيق الخلافة الإلهية على هذه الأرض، وإدارة الصراعات المختلفة التي تجري فوقها، واستغلال ما على ظاهرها واستخراج ما باطنها، مستفيداً من الزمن الإنتاج الحضارة.

أما أنه خليفة الله في أرضه فبصريح قوله تعالى:

((وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً… )) (البقرة: 30).

وقوله تعالى:

((وهو الّذي جَعَلَكُمْ خَلاَئِفَ الأَرضِ ورَفَع بَعْضكُم فوْقَ بعَضٍ دَرَجاتٍ لِيَبْلُوَكُمْ فِيماَ آتاكُم… )) (الأنعام :165)).

وقوله تعالى:

((يا داودُ إِنّا جَعَلْناك خلِيفَةً فيِ الأرْضِ فاحكُمْ بَيْنَ النّاسِ بالْحَقِّ ولا تتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّك عَن سَبِيلِ اللهِ… )) (ص: 26).

وأما إنه مكلف بإدارة الحركة والعمران فبدليل قوله تعالى:

((إناّ عَرضْنا الأْمانَةَ على السّماواتِ والأرْضِ والْجِبالِ فأبَيْنَ أنْ يَحْمِلْنها وأشْفَقْنَ مِنْها وحَمَلَهاَ الإِنسانُ إنّهُ كان ظلُوماً جهُولاً )) (الأحزاب: 72).

ويقوم الإنسان بهذا الدور التاريخي من خلال عقله المدرك في عالم الشهادة، وشعوره وتأمله وطاقاته الكثيرة التي زوده الله تعالى بها، لكي يصنع تاريخه على هذه الأرض بمعونة الله تعالى. فبحركته من خلال حريته الملتزمة يتحرك التاريخ، ويتطور الزمن، وتتغير مظاهر الحياة.

إن الجبرية التي فرضت على الإنسان المسلم من خلال الفلسفات الغريبة، ليست من الإسلام في شيء.

فآيات القرآن الكريم صريحة في إعطاء هذا الدور المبدع للإنسان وهو صنع تاريخه وحياته على هذه الأرض، من خلال رؤيته الربانية المنبثقة من مذهبيته الإسلامية الشاملة.

((ذلِكَ بِأنَّ اللهَ لمْ يَكُ مُغَيِّراً نِعْمةً أنْعَمَهاَ على قوْمٍ حَتّى يُغَيِّرُوا ما بِأنْفُسِهِمْ وأَنَّ الله سميعٌ عليم )) (الأنفال: 53).

((إِنَّ اللهَ لا يُغَيِّرُ ما بِقَوْمٍ حتّى يُغَيِّروا ما بِأنْفُسِهِم… )) (الرعد : 11).

((وما كَان ربُّك لِيُهْلِكَ الْقُرى بِظٌلْمٍ وَأهْلُها مُصْلِحُونَ )) (هود : 117).

((وَتِلْكَ الْقُرَى أَهْلِكْناهُمْ لَمّاَ ظَلمُوا وَجَعَلْنا لِمَهْلِكِهِمْ مَوْعِداً )) (الكهف: 59).

((ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللّهَ لَيْسَ بِظَلاَّمٍ لِّلْعَبِيد ِ)) (آل عمران: 182).

((… كُلُ امْرِئٍ بِماَ كَسَبَ رَهِينُ )) (الطور: 21).

((تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُم مَّا كَسَبْتُمْ وَلاَ تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُون )) (البقرة:134).

((وأَنْ لَيْسَ للإنسانِ إلاّ ما سعى، وَ أَنّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى )) (النجم: 39 - 40).

ومع الدليل القرآني القاطع نرى حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم وصحابته الكرام والأجيال الأولى من المسلمين تمثل هذه القضية تمثيلاً واضحاً، بحيث يقوم دليلاً قاطعاً على إن فهمهم للقرآن لم يتجاوز ذلك.

فقيام رسول الله بدعوته واستعماله الطاقات الإنسانية التي زود بها واتباعه كل الوسائل والقواعد في عالم العمران المادي والبشري لنشر دعوته وتحقيق المجتمع الذي أرسل من أجل بنائه، وتحمله أنواع العذاب والجراحات، للانتصار على الأعداء في كل مظهر من مظاهر جهاده ضدهم لدليل واضح على ما نقول.

إن المعجزات الخارقة - على كثرتها في حياته - لم تكن طريقاً لدعوة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، بل كان طريق دعوته تحريك العقل ودفع الإنسان إلى فهم نفسه وفهم ما حوله، وإدراك ما في الوجود من القوانين والأسرار ومحاولة اكتشافها وتسخيرها لصالحه وإقامة مجتمعه العادل عليها.

إن دراسة واعية لحياة رسول الله صلى الله عليه وسلم تعطينا البرهان القاطع على أنه ما من قانون من قوانين الحياة خلقه الله لأداء حق الأمانة والاستخلاف، إلا اتبعه لبناء المجتمع الإسلامي، سواء أكان ذلك في سلمه أم في حربه(18) .

وانطلاقاً من هذه الحقيقة الإسلامية القاطعة نقول: يخطئ من يقول (19) إن الحضارة الإسلامية كانت حضارة إلهية بمعناها اليوناني أو لاهوتية بمعناها النصراني. بل كانت حضارة إنسانية، تعتمد على حركة الإنسان ، مهتدية بتوجيهات وهداية الخالق العظيم. ولذلك فإن الإنسان كان حاضراً في حضارتنا ولم يكن غائباً، ولقد دخل التاريخ وحركه من أوسع أبوابه على الرغم من عدم وجود مباحث نظرية مستقلة في تراثنا الفكري تنصل بهذه القضية، لأنها كانت من المسلمات البديهية في عقل الإنسان المسلم وواقع مجتمعه...

فالإنسان في تاريخنا كان واقعاً ولم يكن تجريداً نظرياً، ولم يا ترى، تكتب مناقشات بيزنطية حول الإنسان بعقلية الحضارات الوثنية والقرآن الكريم وضع الحقائق الكاملة عن الإنسان أمام المجتمع البشري(20).

وإذا كان الإنسان على هذا الزعم غائباً عن حضارتنا ومجتمعاتنا الإسلامية.

فمن الذي دخل إذن في الصراع مع الشرك حتى قضى عليه؟ من الذي نشر الإسلام وما جاء به من الهداية والحق والعدل والخير والجمال؟

دماء من جرت في سبيل نقل الإنسان المسحوق من عبادة العباد إلى عبادة الله وحده؟

من الذي دخل في صراع فكري واقعي مع الحضارات الوثنية، حتى ألحق بها الهزيمة بين المحيطين ومن أواسط آسيا إلى أواسط أفريقيا؟

من الذي أقام الدول وأنشأ المؤسسات الثقافية والصحية ونظم الأسواق والمعاملات تنظيماً دقيقاً وأنقذ مجتمعه من التراكمات الرأسمالية ونظام الإقطاع القديم الذي كان الإقطاعي فيه يملك المقاطعة بما عليها ومن عليها؟

من الذي شق الأنهار وأنشأ شبكات الري وزرع الأرض وقاد قوافل التجارة، وأنشأ المعامل والصناعات المتنوعة من سمرقند إلى فاس وقرطبة؟

من الذي ترجم نتاج الحضارات الأخرى، واستخرج منها حضارة مستقلة مصبوغة بصبغة إسلامية؟

من الذي كتب ملايين المخطوطات في العلوم والمعارف الكونية والحيوية والإنسانية التي تملأ بقاياها اليوم القاعات الضخمة في مكتبات الشرق والغرب؟

ألم يفعل كل ذلك وغير ذلك، الإنسان المسلم الذي كرِّمه الإسلام وأعاد إليه حقيقته الإنسانية في الواقع والحياة بعد أن كان مستلباً، عبداً للشركاء والأنداد.

نعم قد يقال: إنه قد حصل في فترات معينة انفصام بين المذهبية وجوانب من تطبيقها، في جزئية أو جزئيات معينة، أحدث زعزعة في الحياة الإسلامية، ظهرت في استبداد سياسي هنا أو ظلم اجتماعي هناك.

ولكن هل يمكن أن نعمم القاعدة من خلال سلبيات معينة فنقول: بأن الإنسان كان غائباً في تاريخنا.

إنه من الحقائق الواضحة أن الإنسان كان حاضراً دائماً في حضارتنا بجلاء ووضوح أكثر من أية حضارة سبقته.

وإذا كنا في تقويمنا لحضارتنا الإسلامية، نجد ثغرات تاريخية عدة توضح التخلخل الذي حدث في مدى تطابق المذهبية مع الحياة، لا سيما في قضايا الحكم والسياسة، وإبراز دور الإنسان فيها، فلا مناص لنا اليوم، إذا كنا نريد بناء حضارة إنسانية قوية، أن نبرز مكانة الإنسان في كل ناحية من نواحي الحياة، حتى يضع تاريخه بنفسه، ولا يمكن إبراز هذه المكانة إلاّ إذا أخذ التغيير تكريم الإنسان بنظر الاعتبار واحترم آدميته بوضوح بحيث يشعر الإنسان في ظله بالأمن النفسي والاجتماعي حتى يستطيع أن يستغل طاقاته من خلال حريته في خدمة المجتمع ورقي الإنسان.

فالإنسان الذي تهدر إنسانيته وتطمس معالم شخصيته، إنسان معطل القوى مزعزع الشخصية لن يستطيع أن يشترك بقوة وأمان في بناء مجتمع الإنسان وتحقيق معنى آدميته.

ولا يمكن أن تتحقق كرامة الإنسان إلا من خلال مبدأين:

- الأول:

إقرار حريته الإنسانية في داخل الضوابط الإسلامية.

- الثاني:

عدم استغلاله من حيث هو إنسان، لأن ذلك يؤدي إلى قتل شخصيته ومحو آدميته التي يصيبها العطل والسلبية تجاه الحياة(21).

فنحن في منهجنا التغييري، لا بد أن نصوغ الإنسان المسلم من جديد قبل بناء العمارات وإنشاء المصانع وتعبيد الطرق وتنظم الحياة المادية، أو معها في الأقل.

ولا بد لنا أن نعيد إليه شخصيته المسلوبة وإنسانيته الضائعة، وننقذه من عوامل الخوف والقلق والسحق، كي نضعه على طريق التغيير والبناء الجديد.

وإلاّ فما فائدة البناء الفوقي دون أن نقوي الأساس، كما هي الحال في مظاهر التقدم المادي المزعوم في معظم البلاد الإسلامية.

===============

# المذهبية الإسلامية والنظرة الشمولية للإنسان

الإنسان كائن حضاري معقد جداً له دوافع متنوعة، تؤثر فيها عوامل متشابكة مختلفة، عبر مراحله الاجتماعية المتتابعة. وهذه العوامل منها ما هي فطرية جبلية، ومنها ما هي عوامل اجتماعية بيئية مكتسبة. ولا بد أن تخضع الدوافع الإنسانية إلى تربية شاملة متوازنة تراعي كيانه من حيث هو كلُّ. وأية تجزئة للإنسان وفهمه في ضوء جزء منها ستقود إلى خطأ علمي كبير، يضيِّع كثيراً من الحقائق الطبيعية في حياته النفسية والاجتماعية والاقتصادية السياسية(22)

ولذلك فلقد حدث في العصور الأخيرة، طمس واضح لشمولية الإنسان ، ومعالمها الكلية، بناء على دراسته دراسة مجزأة، والنظر إليه من زاوية معينة، وسحب نتائجه على الكل الشمولي.

فالنظرة الكنسية عندما نظرت للإنسان من حيث هو كائن روحي كرد فعل عنيف على حيوانية ومادية النظرة الرومانية، أفقدت الإنسان توازنه وحملته ما لا يحتمل وحاولت قتل غرائزه وتجاهلت واقعه الأرضي تجاهلاً كبيراً.

إن التربية الكنسية الروحية هذه وزرعها اللاشعوري المستمر بأن مملكة الإنسان هي في عالم المثل والروح والسماء قد فجرت الإنسان تفجيراً رهيباً بعد كبت القرون المتطاولة، فالتصق بالأرض وأنشأ مملكته الحضارية الحديثة فوقها، على أسس من المادية البحتة والقيادة الإنسانية "المؤلهة " بمعزل عن مملكة الروح وقيمها وأخلاقياتها فأنتجت للإنسان الفلسفات التغييرية التي جزأته بدورها وأفقدته شموليته الإنسانية.

والوضعية التي نادى بها "أوجست كونت " الفرنسي، عدّت الإنسان كائناً يستطيع أن يُشكِّل قيمه بنفسه، ويحولها إلى دين وضعي، يضبط حركته الاجتماعية، ولا حاجة بعد إلى الأديان والقيم القديمة في زعمه. ثم زهر بعد قرن كامل من الصراع والتجربة أن الإنسان لا يستطيع أن يوجد القيم المجردة عن المصالح، لأن حب الإنسان لمصلحته، موجهاً من جانبه الحيواني حال بينه وبين فهم الإنسان من حيث معناه وشموليته، ومعنه من إيجاد تلك القيم المجردة التي تعبر عن المعنى الشامل لإنسانيته.

والماركسية جردت الإنسان من شموليته وجعلته سلوكاً متغيراً في ضوء تغير أدوات الإنتاج، مجبراً على ذلك السلوك مسلوب الإرادة، فحصرت شموليته الإنسانية في العامل الاقتصادي، ثم أثبتت التجارب الواقعية والإحصاءات الدقيقة في الدراسات الحديثة أن سلوك الإنسان لا يمكن أن يفسره عامل واحد. لأن تفسير سلوكه وتطور حياته بعامل واحد يعني فصمه عن كيانه الإنساني الشامل وفي ذلك انحرافه وأزماته وشقاؤه.

والداروينية نظرت إلى الإنسان من زاوية حيوانية انطلاقاً من التشابه الظاهري في القانون الواحد الذي خلق الله تعالى به الإنسان وسائر الحيوانات. ناسية مساحة الاختلاف والتنافر التي تجدها شمولية شخصية الإنسان لجانبه الحيواني البحت وجانبه الإنساني الفكري والشعوري، فأثرت وجهة نظرها الاحتمالية تأثيراً كبيراً في إنكار ثبات الصفات الخلقيّة والإنسانية القيمية، وانتهت إلى اعتبار الإنسان حيواناً اجتماعياً متطورا، لا ضوابط لتغييره إلا في إطار تكوينه الحيواني.

وأما الفرويدية فقد نظرت إلى الإنسان في ضوء حيوانية الإنسان الداروينية، فانتهت إلى أن الجنس هو أساس حركة الإنسان وسلوكه. فلا بد أن يطلق منهج التغيير في زعمه، هذا الدافع حتى يأخذ مجراه الطبيعي.

وكان من نتائج الفرويدية تحطيم الأسرة وضوابطها، من خلال الفوضى الجنسية العارمة التي نفذت إلى كل جزئية من جزئيات الحياة الاجتماعية في الحضارة الحديثة، ومن خلال الانحرافات المتلاحقة التي شببت أمراضاً نفسية وجنسية خطيرة ومعقدة في المجتمعات الغربية، وانتقلت جراثيمها بدرجات متفاوتة إلى المجتمعات الأخرى في العالم كله.

وأما المذهب النفعي فقد شارك المذاهب الأخرى في التفسير الأحادي ونظر إلى الإنسان من خلال غريزته الذاتية المصلحية التي تحقق له أكبر نفع ممكن. فمقياس الحق مرهون عند "جون ديوي " وأرباب هذه النظرية بمدى تحقق المصلحة، وهي غير منضبطة بضوابط القيم الثابتة العادلة عندهم.

ومن هنا فمنهج التغيير النفعي "البراجماتي " انتهى إلى التخلخل الخطير في الحياة الاجتماعية في المجتمع خاصة، لأنه رأى الحق في تحقق المصلحة بمعزل عن اليم الروحية ومبادئ الحق والعدل المجردين في تاريخ الفكر الإنساني.

وكانت خاتمة المطاف في سلسلة النظرات الأحادية المجزِّئةِ لكيان الإنسان ، النظرة الوجودية "السارترية " التي أنكرت كسابقاتها وجود الإله، لينصب الإنسان نفسه مكانه بدعوى إثبات وجوده، وتحقيق حريته، بعيداً عن أوامر الدين ونواهيه وتوجيه الفلسفات العقلية وضغط العادات والتقاليد.

وقادت الوجودية جيل ما بعد الحرب العالمية الثانية إلى حالة يائسة من القلق والضياع والسلبية في الحياة والحرية غير المضبطة والفوضى الاجتماعية (23).

ومن هنا فإن المناهج التغييرية في العالم التي توجهها تلكم الفلسفات المادية البحتة، لم تستطع أن تعدل من عرج الحضارة الحاضرة. ولم تقد المجتمع الإنساني إلى السعادة والتوازن، لأن هذه المناهج لا تنظر نظرة شمولية إلى الإنسان . وحتى لو نظرت فهي إنما تنظر تعين بشرية محضة، لا تفلح قط في مهمتها. لأن لأسرار الحياة الحيوانية للعالم الإنساني لا يمكن أن تدرك في عصر واحد. وهي من التعمق والتشابك والتعقيد بحيث لا يدرك أبعادها إلا خالق الكون والإنسان الذي أودع في الوجود هذه الأسرار، وهو عليم بها وبحركتها وضوابط موازنتها.

ومن هذا المنطلق الحكيم، فإن المنهج التغييري الإسلامي هو المنهج الصالح لقيادة حضارتنا الحاضرة، وملء الثغرات التي حدثت في منظومتنا الحضارية الخاصة. وذلك لسببين:

- الأول:

إن هذا المنهج، ليس منهجاً بشرياً، إنما هو من عند الله، خالق الوجود وعالم الأسرار، عنايته تصل إلى كل ذرة من ذرة من ذرات الوجود بما فيه ومن فيه.

- الثاني:

إنه منهج قائم على أساس شمولية مترابطة متوازنة، داخليتها مرتبطة بظاهرها ارتباطاً وثيقاً في وحدة متناسقة لا تستطيع أن تفصل جزءاً عن جزءٍ. وإن أدخلنا القسمة المنطقية بين أجزائه، فإنما نفعل ذلك من باب الفهم والتوضيح.

إذن فمنهج التغيير الإسلامي منهج شامل لتحريك طاقات الإنسان كافة. إذ هو لا يقتلها بل يخرجها من عالم القوة إلى عالم الفعل وينظمها ويحركها في الاتجاهات التي تنسجم مع أصل تكوينها.

ونحن في المجتمع الإسلامي لا يجوز في منهجنا التغييري لتجاوز السكون الزمني السابق، أن نعيد التجارب الأحادية الغربية الممثلة بالمبادئ التي تحدثنا عنها. بل لا بد لنا أن نتحرك داخل نمطنا الإسلامي في منهج التغيير، حتى يتم التغيير في إطار طبائع الأشياء، فنصل إلى حياة متقدمة متوازنة وحضارة تعبر بصدق عن كيان الإنسان الشامل وفطرته

============

# المذهبية الإسلامية وجوهر الإنسان

خلق الله الإنسان وأودع فيه دوافع فطرية تعبر عن تكوينه الخاص الذي تتفرع منه غرائزه التي تشكل أساس وجوده. ولا يمكن للزمن أن يبدل أو يقتل تلك الغرائز والنوازع الفطرية، فهي أصيلة في الحياة الإنسانية فالإنسان هو الإنسان من حيث تلك الصفات الجوهرية. ولقد قرر القرآن الكريم ذلك في قوله تعالى:

((… فِطْرة اللهِ الّتي فطر النّاس عليها لا تبديل لخلق اللهِ ذلك الدّينُ القيِّم ولكنّ أكثر النّاس لا يعلمون )) (الروم : 30).

نعم إن تلك الغرائز يمكن أن تهذب وتوجه في ظل مذهبية متناسقة حتى تتحرك في مساراتها الصحيحة ولا تنتهي إلى انحرافات خطيرة وأمراض نفسية وجنسية واجتماعية.

إن حركة الإنسان في التاريخ لم تكن تتحرك باتجاه محاولة تغيير العمق الإنساني بقدر ما كانت تتوجه أساساً إلى محاولة إحداث التبديل في علاقة الإنسان بالعالم الخارجي، أي علاقته بما حوله من الكائنات الحية، وتسخيره للقوى التي أودعها الله في هذا الوجود.

وبقدر ما يتعلق الأمر بتلك العلاقة، فإن الأحكام والمثل يمكن أن تتبدل من ظرف إلى آخر، دون أن يكون هناك بالضرورة خروج على المثل الخالدة الفطرية التي تنبعث من جوهر النفس الإنسانية وكيانه الطبيعي.

وفي مراحل تاريخية معينة، لم يستطع أصحاب المناهج التغييرية أن يدركوا حقيقة التفريق بين الجوهر الإنساني الأصيل وعلاقته العرضية بالعالم الخارجي، فساووهما في التعامل فألحقوا بحركة التوازن الحضاري أضراراً كبيرة وسببوا لها انحرافات خطيرة.

على سبيل المثال، نأخذ الآباء النصارى الأوائل. فقد واجهوا المجتمعات المادية الإباحية الرومانية وغيرها، وأرادوا أن ينتشلوها من تلكم الحياة الهابطة، لا بتوجيه الغرائز الدافعة لها وصقلها بروحانية الديانة النصرانية، بل بنفي تلك الغرائز والدعوة إلى قتلها والقضاء عليها، فلم يتحقق قط هدفهم فيما أرادوا، بل ظلت النصرانية تصبغ تلك المجتمعات من فوق، أما أعماقها الحقيقة فقد ظلت أسيرة بلك الغرائز الثابتة في كيان الإنسان.

ولذلك فلم تستطع النصرانية في تاريخها أن تطبق نظرية "من ضربك على خدك الأيمن فأدر له الخد الأيسر " ونظرية "إذا زنت عينك فاقلعها " و "إن العلاقات الجنسية ولو كانت مشروعة فهي قذرة " لأن هذه النظريات لم تعبر عن أصالة الإنسان وغرائزه الفطرية.

ولذلك لم يستطع المنهج النصراني أن نؤثر في سير الحضارة الغربية ذات الأصول الرومانية فقد ظلت عبادة القوة والإباحية الجنسية تشكل المسارات الحقيقة للحضارة الأوروبية عبر تاريخها الطويل.

وكانت ردود فعل الاتجاهات المادية تجاه سيطرة التربية النصرانية الكنيسية قوية بحيث وقعت هي بدورها في الانحراف ذاته.

فلقد رسمت تلك الاتجاهات كلها صورة مادية حيوانية بحتة في عالم الإنسان وألغت المساحة التي تتصل بكيان الإنسان الروحي، فكانت النتيجة الحتمية الانحراف المعاكس الذي حدث في كيان الإنسان ، وهو الفراغ الذي أحدثه إنكار حقيقته الروحية، والذي أدى إلى أزمات نفسية وشعورية خانقة جعلت من الكائن الإنساني في ظل الحضارة الحديثة كائناً قلقاً ضائعاً شقياً، نتيجة الصراع الرهيب بين الغريزة الداخلية والمناهج المادية التغييرية التي خططت لطمس معالمها، لا بل قتلها إلى الأبد، بدعوى أن الإنسان يعيش في الطور الثالث من أطوار حركة التطور الاجتماعي وهو طور المعرفة الحسية، بعد أن مرّ على ما زعمه "أوجست كونت " بطور المعرفة الخرافية، وطور المعرفة العقلية!!

ولقد دلت عشرات البحوث العلمية الحديثة على أن الإنسان لا يمكن أن يتطور في صفاته الجوهرية، وأن التدخل الذي حدث لإنكار دور تلك الصفات هو المسؤول عما تعانيه الحضارة الحاضرة من عدم الاستطاعة في إيجاد صيغة متوازية للحياة الإنسانية(24).

لقد نظر الإسلام إلى الإنسان من حيث هو جوهر أصيل له رغبات ذاتية فطرية لا بد أن تشبع وأن تحل مشاكلها في زل مذهبية ربانية تنظر إلى الإنسان نظرة أصيلة لا عرضية، ولذلك نجد أن الشريعة الإسلامية تعالج مشاكل الغرائز الإنسانية المتنوعة من مبدأ الاعتراف بوجودها. فجانبها الروحي يحتاج إلى مخطط عبادي يملؤه ويشعره بلذة العبودية لخالقه، حتى لا يبقى تائهاً حائراً يعاني من الفصام. وجانبها الجنسي يحتاج إلى مخطط اجتماعي أخلاقي يضبط العلاقات الجنسية في المجتمع ويحصرها في داخل الأسرة، حتى لا يودي به ضغط الغريزة الجنسية إلى الدرك الأسفل من السلوك الحيواني غير المنضبط. وجانبها في غريزة الشبع يحتاج إلى مخطط اقتصادي يحافظ على التوازن المعاشي الذي يمنع انتقال المجتمع إلى حياة الترف من جهة والجوع المهلك من جهة أخرى. وجانبها في غريزة الطموح الإنساني يحتاج إلى مخطط يحقق آدميته ويثبت له حرية مهذبة مضبوطة، حتى لا ينتهي الأمر إلى استعباد طائفة لطائفة أخرى وسحقها تحت مطرقة غريزة الاستعلاء والطمع.

وكذلك كل غريزة من غرائزه لو دققنا النظر فيما شرع لها الإسلام وجدنا أنه أراد المحافظة على جوهر الإنسان ممثلاً في شمولية غرائزه التي تستوعب كيانه كله، عن طريق خلق التوازن المطلوب بينها، بحيث يأخذ بعضها برقاب بعض لأداء دورها كاملاً في الحياة.

ونحن الذين نقف اليوم على مفترق الطريق لا بد لنا أن ندرك هذه الحقائق الفطرية في كيان الإنسان ، فعندما نخطط للتغيير علينا أن لا ننسى جوهره وأصالته، فنحاول إخضاعه لتجارب المؤسسات التربوية في الحضارة الحديثة. وإنما لا بد لنا أن نأخذ مخطط الإسلام التغييري في هذا المجال فيطبقه بحسمه ومرونته، لأنه هو الحق الذي يدرك في ظله الحقائق الثابتة والتوازن الأصيل.

ولدقة مسألة أمر الغرائز، وحتى لا يحصل تجاوز معاكس أقول: إننا عندما نقول (مخطط الإسلام التغييري ) لا نقصد آراء الفقهاء التي قد تكون مرتبطة بظروفها الزمانية والمكانية. إذ أن بعض تلك الآراء كثيراً ما انطلقت من ضغط العادات والأعراف، وحاولت محاصرة الغرائز، بل كبتها من منطلق الخوف الموهوم على أخلاق الناس، ومن مبدأ اتخاذ "التحريم" أصلاً في كل حالة من غير دليل شرعي قاطع أو حتى قوي.

وتلك الآراء تمثل جانباً من الفكر الإسلامي في مرحلة معينة، ونحن قد قررنا أن أفكار المسلمين في أية مرحلة من مراحل التاريخ ليست معصومة، لأنها ليست وحياً إلهياً وإنما هي اجتهادات قد نقبلها في عصرها وقد لا نقبلها.

المهم ألا نخرج على الضوابط الإسلامية الصحيحة الثابتة بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ، في تربية الغرائز والاستجابة لدوافعها الصحيحة

==============

# المذهبية الإسلامية وجوهر الإنسان

خلق الله الإنسان وأودع فيه دوافع فطرية تعبر عن تكوينه الخاص الذي تتفرع منه غرائزه التي تشكل أساس وجوده. ولا يمكن للزمن أن يبدل أو يقتل تلك الغرائز والنوازع الفطرية، فهي أصيلة في الحياة الإنسانية فالإنسان هو الإنسان من حيث تلك الصفات الجوهرية. ولقد قرر القرآن الكريم ذلك في قوله تعالى:

((… فِطْرة اللهِ الّتي فطر النّاس عليها لا تبديل لخلق اللهِ ذلك الدّينُ القيِّم ولكنّ أكثر النّاس لا يعلمون )) (الروم : 30).

نعم إن تلك الغرائز يمكن أن تهذب وتوجه في ظل مذهبية متناسقة حتى تتحرك في مساراتها الصحيحة ولا تنتهي إلى انحرافات خطيرة وأمراض نفسية وجنسية واجتماعية.

إن حركة الإنسان في التاريخ لم تكن تتحرك باتجاه محاولة تغيير العمق الإنساني بقدر ما كانت تتوجه أساساً إلى محاولة إحداث التبديل في علاقة الإنسان بالعالم الخارجي، أي علاقته بما حوله من الكائنات الحية، وتسخيره للقوى التي أودعها الله في هذا الوجود.

وبقدر ما يتعلق الأمر بتلك العلاقة، فإن الأحكام والمثل يمكن أن تتبدل من ظرف إلى آخر، دون أن يكون هناك بالضرورة خروج على المثل الخالدة الفطرية التي تنبعث من جوهر النفس الإنسانية وكيانه الطبيعي.

وفي مراحل تاريخية معينة، لم يستطع أصحاب المناهج التغييرية أن يدركوا حقيقة التفريق بين الجوهر الإنساني الأصيل وعلاقته العرضية بالعالم الخارجي، فساووهما في التعامل فألحقوا بحركة التوازن الحضاري أضراراً كبيرة وسببوا لها انحرافات خطيرة.

على سبيل المثال، نأخذ الآباء النصارى الأوائل. فقد واجهوا المجتمعات المادية الإباحية الرومانية وغيرها، وأرادوا أن ينتشلوها من تلكم الحياة الهابطة، لا بتوجيه الغرائز الدافعة لها وصقلها بروحانية الديانة النصرانية، بل بنفي تلك الغرائز والدعوة إلى قتلها والقضاء عليها، فلم يتحقق قط هدفهم فيما أرادوا، بل ظلت النصرانية تصبغ تلك المجتمعات من فوق، أما أعماقها الحقيقة فقد ظلت أسيرة بلك الغرائز الثابتة في كيان الإنسان.

ولذلك فلم تستطع النصرانية في تاريخها أن تطبق نظرية "من ضربك على خدك الأيمن فأدر له الخد الأيسر " ونظرية "إذا زنت عينك فاقلعها " و "إن العلاقات الجنسية ولو كانت مشروعة فهي قذرة " لأن هذه النظريات لم تعبر عن أصالة الإنسان وغرائزه الفطرية.

ولذلك لم يستطع المنهج النصراني أن نؤثر في سير الحضارة الغربية ذات الأصول الرومانية فقد ظلت عبادة القوة والإباحية الجنسية تشكل المسارات الحقيقة للحضارة الأوروبية عبر تاريخها الطويل.

وكانت ردود فعل الاتجاهات المادية تجاه سيطرة التربية النصرانية الكنيسية قوية بحيث وقعت هي بدورها في الانحراف ذاته.

فلقد رسمت تلك الاتجاهات كلها صورة مادية حيوانية بحتة في عالم الإنسان وألغت المساحة التي تتصل بكيان الإنسان الروحي، فكانت النتيجة الحتمية الانحراف المعاكس الذي حدث في كيان الإنسان ، وهو الفراغ الذي أحدثه إنكار حقيقته الروحية، والذي أدى إلى أزمات نفسية وشعورية خانقة جعلت من الكائن الإنساني في ظل الحضارة الحديثة كائناً قلقاً ضائعاً شقياً، نتيجة الصراع الرهيب بين الغريزة الداخلية والمناهج المادية التغييرية التي خططت لطمس معالمها، لا بل قتلها إلى الأبد، بدعوى أن الإنسان يعيش في الطور الثالث من أطوار حركة التطور الاجتماعي وهو طور المعرفة الحسية، بعد أن مرّ على ما زعمه "أوجست كونت " بطور المعرفة الخرافية، وطور المعرفة العقلية!!

ولقد دلت عشرات البحوث العلمية الحديثة على أن الإنسان لا يمكن أن يتطور في صفاته الجوهرية، وأن التدخل الذي حدث لإنكار دور تلك الصفات هو المسؤول عما تعانيه الحضارة الحاضرة من عدم الاستطاعة في إيجاد صيغة متوازية للحياة الإنسانية(24).

لقد نظر الإسلام إلى الإنسان من حيث هو جوهر أصيل له رغبات ذاتية فطرية لا بد أن تشبع وأن تحل مشاكلها في زل مذهبية ربانية تنظر إلى الإنسان نظرة أصيلة لا عرضية، ولذلك نجد أن الشريعة الإسلامية تعالج مشاكل الغرائز الإنسانية المتنوعة من مبدأ الاعتراف بوجودها. فجانبها الروحي يحتاج إلى مخطط عبادي يملؤه ويشعره بلذة العبودية لخالقه، حتى لا يبقى تائهاً حائراً يعاني من الفصام. وجانبها الجنسي يحتاج إلى مخطط اجتماعي أخلاقي يضبط العلاقات الجنسية في المجتمع ويحصرها في داخل الأسرة، حتى لا يودي به ضغط الغريزة الجنسية إلى الدرك الأسفل من السلوك الحيواني غير المنضبط. وجانبها في غريزة الشبع يحتاج إلى مخطط اقتصادي يحافظ على التوازن المعاشي الذي يمنع انتقال المجتمع إلى حياة الترف من جهة والجوع المهلك من جهة أخرى. وجانبها في غريزة الطموح الإنساني يحتاج إلى مخطط يحقق آدميته ويثبت له حرية مهذبة مضبوطة، حتى لا ينتهي الأمر إلى استعباد طائفة لطائفة أخرى وسحقها تحت مطرقة غريزة الاستعلاء والطمع.

وكذلك كل غريزة من غرائزه لو دققنا النظر فيما شرع لها الإسلام وجدنا أنه أراد المحافظة على جوهر الإنسان ممثلاً في شمولية غرائزه التي تستوعب كيانه كله، عن طريق خلق التوازن المطلوب بينها، بحيث يأخذ بعضها برقاب بعض لأداء دورها كاملاً في الحياة.

ونحن الذين نقف اليوم على مفترق الطريق لا بد لنا أن ندرك هذه الحقائق الفطرية في كيان الإنسان ، فعندما نخطط للتغيير علينا أن لا ننسى جوهره وأصالته، فنحاول إخضاعه لتجارب المؤسسات التربوية في الحضارة الحديثة. وإنما لا بد لنا أن نأخذ مخطط الإسلام التغييري في هذا المجال فيطبقه بحسمه ومرونته، لأنه هو الحق الذي يدرك في ظله الحقائق الثابتة والتوازن الأصيل.

ولدقة مسألة أمر الغرائز، وحتى لا يحصل تجاوز معاكس أقول: إننا عندما نقول (مخطط الإسلام التغييري ) لا نقصد آراء الفقهاء التي قد تكون مرتبطة بظروفها الزمانية والمكانية. إذ أن بعض تلك الآراء كثيراً ما انطلقت من ضغط العادات والأعراف، وحاولت محاصرة الغرائز، بل كبتها من منطلق الخوف الموهوم على أخلاق الناس، ومن مبدأ اتخاذ "التحريم" أصلاً في كل حالة من غير دليل شرعي قاطع أو حتى قوي.

وتلك الآراء تمثل جانباً من الفكر الإسلامي في مرحلة معينة، ونحن قد قررنا أن أفكار المسلمين في أية مرحلة من مراحل التاريخ ليست معصومة، لأنها ليست وحياً إلهياً وإنما هي اجتهادات قد نقبلها في عصرها وقد لا نقبلها.

المهم ألا نخرج على الضوابط الإسلامية الصحيحة الثابتة بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ، في تربية الغرائز والاستجابة لدوافعها الصحيحة

==============

# المذهبية الإسلامية والمجال الغيبي

تبين لنا فيما سلف كيف أن الله سبحانه وتعالى جعل الإنسان خليفته في الأرض، وخلقه خلقاً فريداً متميزاً وكلفه بأن يقوم بدوره العظيم والقيام بالأمانة العظمى التي ارتضاها لنفسه.

لقد زود الله الإنسان بالطاقات التي تحقق له هذه الخلافة على أكمل وجه على الأرض لا في مكان آخر. فمجال تفكيره واجتهاده وإبداعه هو هذه الأرض وما يتعلق بها من القوانين المادية التي حولها.

وإذا وجهت طاقته المادية والمعنوية إلى ولوج مجالات أخرى لا تتصل بتحقيق تلك الخلافة، فإنه يتيه فيها ولا يستطيع أن يتوصل إلى اليقين، فيضيِّع كثيراً من الوقت الذي كان يمكن أن يصرفه في مهمته الكبرى في إنشاء الحضارة الإنسانية الموزونة.

وفي سبيل ألا يضل الإنسان في عوالم الغيب وضع الله تعالى في كتابه الكريم الحقائق النهائية التي يحتاجها، كي لا يتعب نفسه وفكره في هذا المجال، دون جني أية ثمرة، ليتفرغ إلى التفاعل مع الأرض والاستفادة من الزمن، لإنجاح عملية الخلافة الإلهية.

وانطلاقاً من هذا المبدأ، فإن على الإنسان في إطار الحقائق الإلهية التي وضعت أمامه أن يسلم بالتفصيلات الغيبية. فهو طالما آمن بإله خيالاته المادية في محاولة تصور ماهية الإله وصفاته. ولذلك فلقد دعاه الخالق سبحانه وتعالى إلى الإيمان بالغيب وجعل ذلك من أمارات صدق يقينه في قوله:

((الّذين يُؤْمِنُون بِالغيبِ ويقيمون الصّلاة وممّا رزقناهم ينفقون )) (البقرة: 3).

ثم بين له أن أي تحرك خيالي للعقل في غير ما كلّف به لا يكون مجدياً أبداً ولن يوصل إلى المراد.

((.. ليس كمثْلِهِ شيءٌ وهُو السَّميعُ البصِيرُ )) (الشورى : 11).

إن العقل الإنساني على الرغم من طاقاته الكبيرة عقل محدود ناقص وجد أصلاً ليكون عقلياً عملياً يشتغل في إطار عالم المادة، فيحاول الكشف عن قوانينه وأسراره. ومن أجله نجد العقل الإنساني في التاريخ كله، كلما حمِّل نفسه في قضايا ما وراء المادة أكثر مما يتحمل ضل وتاه ولم يصل قط إلى الأمان.

والدليل على ذلك آراء الفلاسفة والمفكرين في تلك القضايا الغيبية منذ أقدم العصور إلى اليوم، فهي عبارة عن مجموعة من الأفكار المضطربة والمتصارعة والمتضادة والساذجة في أحيان كثيرة، والتي تحمل كل قصور ذلك العقل المحدود في المجالات الغيبية المذكورة.

ومن جهة أخرى كلما عرف العقل الإنساني مقداره ومجاله واشتغل في إطار كشف أسرار عالم المادة، أنتج وأبدع في هذا الإنتاج.. والدليل على ذلك ثمرات الحضارة المادية عبر التاريخ التي حقق بها الإنسان جزءاً من خلافته على الأرض.

وكلما ادعى العقل الإنساني المعرفة المطلقة في حل أسرار عالم الغيب ضل وتاه وانتهى إلى الإلحاد والانحراف وارتمى في أحضان المادية وأنتج حضارة غير متزنة بعيدة عن تمثيل الفطرة الكونية والإنسانية بعداً كبيراً.

لقد انطلقت الحضارة الإسلامية من هذا المنطلق الإسلامي فاتجهت في علومها اتجاهاً تجريبياً محضاً، استطاعت أن تنقذ الحضارة الإنسانية من العموميات الوصفية التي ورثتها من الحضارة اليونانية، وكان من نتيجة ذلك التقدم الكبير في علوم الطب والصيدلة والكيمياء وعلوم الحياة التي درست في الجامعات الإسلامية ابتداء من بخارى وطاشقند عبوراً ببغداد ودمشق والقاهرة إلى قرطبة الأندلس. ثم في الجامعات الغربية قروناً.

ولا تزال المخطوطات التي كتبها لماء المسلمين تملأ المكتبات المنتشرة في حواضر الشرق والغرب.

لقد انتقل المنهج التجريبي من الحضارة الإسلامية إلى مراكز الثقافة الأوروبية فأثرت فيها تأثيراً كبيراً وحولت اتجاهها من المناهج الأسطورية إلى المناهج العلمية التجريبية الحديثة.

إن هذه القضية أصبحت من المسلمات العلمية التي يؤمن بها العلماء المنصفون والفلاسفة الأحرار من أمثال "جوستاف لوبون " و "سيديو " و "سارتون " و "جارودي " وغيرهم.

يقول جارودي:

"وعندما رحل الراهب الفرنسي "جربير" للدراسة في جامعة قرطبة، قفل راجعاً وقد بلغ من العلم مبلغاً صار يتهم من أجله بأنه قد تاجر مع الشيطان! وبعد أصبح البابا باسم "سلفستر الشاني". إننا ندين للعرب بكليات الطب الفرنسية الأساسية. وقد كانت "مونبلييه" في طليعتها. وقد ظلت كتب الطب العربية مثل كتب الرازي الشهير تنشر وتدرس حتى القرن السادس عشر في فرنسا، وحتى منتصف القرن التاسع في انجلترا. وكان العرب منذ القرن الثامن يجرون عملية سحب الماء الأزرق بإبرة جوفاء. وقد عرفوا الجبر بأكثر مما نعترف لهم به ".

الشاعر "عمر الخيام" الذي عاش حوالي سنة "1100م " توصل إلى حل معادلات الدرجة الثالثة باستخدام الطريقة عينها التي سيستخدمها "ديكارت" بعد خمسة قرون. وبذلك وضع أسس الهندسة التحليلية.

وقد طل كتاب الجبر الكبير الذي ألِّفه وترجم إلى الفرنسية مرجعاً معتمداً حتى سنة 1857م(25).

ليس غرضنا هنا أن نكدس المعلومات عن التقدم العلمي ومنهجه في الحضارة الإسلامية، وإنما الذي نريد أن نؤكده أن المنهج الإسلامي اليوم وهو في طريقه إلى بناء الشخصية الإسلامية وحضارتها من جديد، عليه أن يؤكد في نظريته التربوية على جانب الدراسات العلمية، ويدعو إلى اتباع المنهج العقلي والعلمي والتجريبي والربط بين الظواهر، لمعالجة روح الخرافة والعقلية الأسطورية والمواقف اللاعقلانية واللا سببية التي فتكت بعقلية المجتمع الإسلامي في القرون الأخيرة، والتي جعلته يبطئ في تقبل التقدم العلمي والمنطق التجريبي والفلسفة العقلية والواقعية التي تعتمد العلل، تلك التقاليد العلمية التي شكلت ركناً مهماً في الحضارة الإسلامية في القرون التي قادت فيها الحضارة الإنسانية.

إن منهجنا التغييري الإسلامي، لا بد أن يأخذ بنظر الاعتبار إعادة بناء العقل المنهجي والموضوعي والعلمي التجريبي في الحياة الإسلامية المعاصرة. مع الفارق العظيم بين المنهج التجريبي الإسلامي الذي يتحرك بحرية كاملة في إطار القوانين المادية وتسخيرها لصالح الإنسان وبناء الحضارة، تاركاً قضايا الغيب وأسرارها إلى الوحي الإلهي، وبين المنهج التجريبي الغربي الذي لم يكتف بالحركة داخل إطار العالم المادي وإنما تعداه في تطبيق القاعدة عينها على عالم الغيب لا سيما في القرن التاسع عشر وما قبله، فوقع في الانحراف التاريخي الكبير الذي دفعه إلى إنكار وجود الله سبحانه وتعالى ورفض عبادته، كنتيجة طبيعية للصراع الذي حدث بينه وبين الكنيسة، عندما اصطنعت الأخيرة قضايا علمية خاطئة ومواقف خرافية فأسبغت عليها قداسة الدين وحاسبت العقل الإنساني، فاضطهدته اضطهاداً شديداً، جنح به إلى الكفر ولانحراف فابعدته عن طريف الهداية الإلهية.

إن هذا الصدام المصطنع لم يحدث في تاريخنا لسبب واضح هو أن القرآن الكريم هو الذي علم الناس كيف ينتقلون من المحسوس إلى المجرد في آيات كثيرة، منها: قوله تعالى:

(( إنَّ في خَلْقِ السّموات والأرضِ واختِلاف اللّيل والنّهار والفلك الّتي تجري في البَحر بِما ينفَعُ النّاس وما أنزل الله من السّماء من ماءٍ فأحيا بِهِ الأرض بعد موْتِها وبثَّ فيها من كُلِّ دابّةٍ وتصْريفِ الرِّياح والسَّحابِ الْمُسخَّر بين السّماء والأرض لآياتٍ لقومٍ يعْقِلون )) (البقرة:164).

إن استعادة المنهج التغييري الإسلامي لأصالته التجريبية وروحه العقلانية هي الطريق الصحيح للقضاء على ازدواجية التربية والتعليم في حياتنا الحاضرة، عندما عانقت عوامل النكوص والجمود والانغلاق والتأخر مخططات المستعمرين التي فصلت بين التعليم الإسلامي والتعليم الإنساني والعلمي، والذي أدى إلى أن تفقد المذهبية الإسلامية قيادتها لحركة النمو الحضاري الجديد في العالم الإسلامي والذي ضيق على الإسلام فحصره في إطار المؤسسات الثقافية الخالية من روح الحركة الربطة بين القديم والجديد، وفتح المجال أمام التعليم العلماني الذي تجرد من الإسلام ومشى في خط التمرد الذي رمسه له منهج "دنلوب" في بلاد المسلمين

==============

# المذهبية الإسلامية وقضية المستضعفين

من المسلمات المعروفة في الشريعة الإسلامية أن درء المفسدة عن الناس وجلب المصلحة لهم، بكفالة ضرورياتهم وتوفير حاجياتهم وتحسينياتهم من أهم مقاصدها العامة(26).

ولو استقرأنا نصوص القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة وآراء المذاهب الفقهية وجدنا أن تحقيق مصالح الجماهير الواسعة تأتي في مقدمة تلك المصالح، حتى غدت هذه القضية لوضوحها في النصوص وتواترها في النقل عن السلف الصالح تشكل قاعدة فقهية عامة، تحسم مسألة تعارض المصالح الخاصة مع المصالح العامة، لصالح العامة دائماً(27).

لقد كان من أعظم أهداف الإسلام إنقاذ الشعوب المظلومة الكادحة من ظلم الطغاة الظالمين، الذين استلبوا الجماهير الغفيرة من أممهم حقوقهم، وقضوا على إنسانيتهم وداسوا على آدميتهم.

وكان أولئك المجرمون من طغاة الأمم والشعوب وحدهم يتمتعون تنعم الحياة ويشكلون طبقة متميزة، منحرفة في عقيدتها، مستعلية في سياستها، فاسدة في أخلاقها، حيوانية في سلوكها الاجتماعي.

وقد حاول الخلفاء الراشدون والأمراء العادلون والعلماء الربانيون، عبر التاريخ الإسلامي كله أن يقفوا أمام كل انحراف يمكن أن يركز القوة والطغيان والثروة في أيدي طبقة مترفة، قليلة العدد، تتبع كل السبل المنحرفة في التحايل على المذهبية الإسلامية العادلة في الحياة، التي ارتضاها الله تعالى بمنه وكرمه، لنقل البشرية من عبادة العباد إلى عبادة الله وحده، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام وأخذ الحقوق من مغتصبيها وإرجاع الكرامة والحق إلى الأكثرية الساحقة من أفراد الشعوب المسحوقة تحت مطارق الفراعنة والأباطرة والنماردة و"الآباء الجاهلين " إن صح التعبير.

غير أن الرياح لم تكن تجري دائماً بما كانت تشتهيه السفينة الإسلامية، فبجانب الخلفاء الراشدين رأى التاريخ الإسلامي الحكام الظالمين، ومع الأمراء العادلين وجدنا الوزراء اللاهين. ولم تخل ساحة العلماء الربانيين الصالحين على كثرتهم من الأدعياء الطالحين الذين زوّروا الحقائق الإسلامية، لتسويغ كل باطل، وتعطيل كل عدل، ومناصرة كل ظالم.

ومن هنا فبقدر ما نفتخر في تاريخنا بالجوانب المشرقة التي يظهر بين ثناياها الحق والعدل والخير الذي جاءت به رسالة الإسلام العظيم نخجل كثيراً من رؤية الطغيان وهدر كرامة الإنسان الذي أبقت عليه رواسب الجشع والطمع والنفاق في المجتمع الإسلامي.

ونخن اليوم نعيش في عصر تتحرك فيه الجماهير المحرومة في كل مكان تطالب بتحقيق كرامتها الضائعة، واسترجاع حقوقها المسلوبة، وإنقاذ إنسانيتها المهدورة، من اخطبوط الجهل والجوع والمرض.

أولسنا أحق الأمم والجماعات بتحقيق هذه الطالب العادلة في هذا العصر ونحن نحمل المذهبية الإسلامية التي كرمت الإنسان ، وجعلته خليفة الله تعالى في أرضه وفضلته على سائر خليقته.

إن منهجنا التغييري الإسلامي، لا بد أن يتبنى الحلول الجذرية التي تكون في خدمة مصالح أسع الجماهير الإسلامية وإنقاذها من وجوه الاستبداد السياسي والظلم الاجتماعي والاستلاب الاقتصادي، حتى تندفع بإيمان واقتناع وحرارة إلى صنع تاريخها من جديد، وبناء حضارتها الإسلامية الإنسانية العلمية.

ويستطيع منهجنا التغييري أن يستنبط تلك الحلول الجذرية من الكتاب والسنة وعشرات الاجتهادات والنظريات الفقهية التي عالج فيها فقهاؤنا تلك الحلول بأدلتها التاريخية من خلال مشاكل ومصطلحات عصورهم، بعقلية إسلامية مرنة جداً.

ولا بد لنا أن نتجاوز آراء فقهية أخرى، تفتقر في معظم الأحوال إلى أدلة أصولية قوية، كانت تعبر في كثير من الأوقات عن سوء الفهم، وعدم الإدراك الحقيقي لأهداف الإسلام ، وتحويل الأعراف إلى أصول دينية من خلال رؤية مغلقة، لا ترى إلا جزئية حاضرة ولا تتجاوز إلى إدراك الكلية والشمولية في مقاصد الشريعة الإسلامية، ولقد كانت هذه الآراء لا سيما في المضمار السياسي والاقتصادي تعبر عن مصالح الظالمين والطغاة، والتي يراد اليوم إحياؤها من خلال فتاوى تصدر هنا وهناك لتسويغ الاستبداد، وتكدس الثروات وامتهان الكرامات، والتي لن يكون التفكير في الخلاص منها ومن أوزارها، عند أجيالنا الضئعة الجاهلة إلا الماركسية الملحدة أو الاشتراكيات العلمانية، التي تصطدم في أصولها ونتائجها مع المذهبية الإسلامية في شؤون الكون والحياة والإنسان.

فمذهبيتنا التغييرية الإسلامية لا بد أن تأخذ المبادرة قبل فوات الأوان فتعطي الأكثرية الساحقة من المظلومين والكادحين انحيازها الكامل وتقدم إليها الحلول الإسلامية الجذرية لمعالجة أوضاعها المتدهورة، وإلا ادعى فعل ذلك أرباب المذاهب المادية. ولن تفعلها إلا في ظل ضياع العقيدة والأخلاق، وسحق كرامة الإنسان ، وتسليم الأمة إلى مراكز القوى التي ترتبط بها تلك المبادئ المادية والعلمانية ارتباطاً عضوياً.

ويحق للقارئ هنا أن يسأل فيقول:

يا ترى ماذا فعلت الحركة الإسلامية الحديثة في هذا المجال؟

نقول منصفين إن شاء الله:

إن الحركة الإسلامية الحديثة على الرغم من العقبات والمحاربة والاضطهاد، استطاعت أن تنقل العالم الإسلامي من حالة السكون والتأخر والمرض إلى حالة من الوعي ومعرفة الأمراض ورصد مؤامرات الأعداء، وإثبات أن الإسلام هو دستور الكون ونظام الحياة عبر مؤلفاتها وجهودها الفكرية والحركية وصحفها ومجلاتها ومؤتمراتها. وقد استطاعت تحويل الإسلام ومذهبيته الكونية الاجتماعية بتفاصيلهما إلى سلوك عملي تجسد في أجيال شابة مثقفة في مختلف المستويات والشرائح الاجتماعية حملت الإسلام بصدق وإخلاص ورجعت إلى الله تعالى وآمنت بنبوة رسوله صلى الله عليه وسلم حقيقة، وارتضت الجهاد الشامل في مضامير الحياة كلها، من أجل استئناف الحياة الإسلامية وبناء حضارتها الربانية.

ولا يمكن أن ينكر من كانت له ذرة من الإنصاف أن هذا التحول الكبير الذي حدث في العالم الإسلامي كان كبيراً، لأنه أعاد إلى الإسلام أحقيته ورسم للمسلم ملامح واضحة لشخصيته الإسلامية، وأخرجه من الحياة الخرافية السلبية الميتة إلى الحياة العقلية الإيجابية الحية.

وكان من المنطقي في سلسلة الأحداث أن يؤدي ما كتب حول الإسلام ومبادثه ومذهبيته الشاملة من دراسات جامعية وفكرية عامة، وما طرح حول جزئياتها من اجتهادات ونظريات في الحياة الإنسانية كلها، إلى منهج متكامل واضح المعالم، مؤصل في تفاصيله التربوية والسياسية والاجتماعية والاقتصادية متفق علية في الأقل مرحلياً في عصرنا الحاضر، قابل للتجدد والنماء المستمر، يتبنى المشاكل الحضارية العامة، لا سيما المشاكل التي تتصل بالإنسان في تربيته الحيوية، وحريته السياسية والاجتماعية بالمفهوم المعصر، وبربط مصيره بمصيره، بحيث يشعر المستضعفون والمظلومون في كل مكان من العالم الإسلامي، أنه لا حل لمشكلتهم إلا في الإسلام ومذهبيته العادلة المناصرة للمظلومين والمحققة لأحلام المسحوقين الكادحين.

ولا يعتقدنّ أحد أن دعوتنا هنا إلى الانحياز الكامل إلى المعذبين يعني أننا ندعو إلى إثارة حرب الطبقات وقتل المستغلين وسلبهم أموالهم واستبدال طبقة مستغلة بأخرى أبشع استغلالاً. فهذه من شيم المذاهب المادية المتطرفة لا سيما الماركسية، وإنما الذي نقصده أن يتوجه المنهج التغييري الإسلامي إلى إقرار قطع دابر الاستغلال ومظاهره وأشكاله في شؤون الحياة كلها وتثبيت ذلك بوضوح، والنضال الحاسم من أجله بما يؤدي إلى إنقاذ الأكثرية المسلمة المستغلة بأيدي قلة قليلة تستند في مظاهر استغلالها السياسي والاقتصادي والاجتماعي على أنظمة غير إسلامية.

ولقد بدأ هذا التحول في نهاية الأربعينيات وكاد أن يتحول إلى ما يسمى بـ " أيديولوجية المرحلة الحاضرة" لولا أن الضربات القاصمة قد وجهت في كل مكان إلى الفكر الإسلامي الحديث وحركته عن طريق التصفيات الجسدية والاضطهادات التاريخية لقادتها ومفكريها، ووضع العقبات المتنوعة في طريق الدعوة الإسلامية، الأمر الذي أدى إلى انشغال الحركة الإسلامية الحديثة بآلامها الماحقة، وهمومها الكثيرة، وحال بينها وبين إتمام مهمة المرحلة الثانية بقوة ووضوح وحسم.

ولا بد أن يتوجه التفكير الآن وبعد أكثر من ثلاثة عقود من الآلام والهموم إلى رسم خطوط تلك "الأيديولوجية الإسلامية المرحلية " التي يجب أن تستند أساسً على "المذهبية الإسلامية الشاملة " التي لم تأت إلا لربط الإنسان بربه، وتذكيره بآخرته، والدفاع عن عبيده المستضعفين أمام قوى الترف، حتى يشعر هؤلاء العبيد المستلبون أنه لا ملاذ لهم إلا في إسلامهم الذي هو عقيدتهم ومصدر عزهم في الدنيا ونجاتهم في الآخرة.

إن مئات الكتب التي أُلِّفت حول الإسلام ونظمه العامة فيها مادة تشريعية ضخمة من خلال نقل آراء المذاهب والاجتهادات المتنوعة، أو من خلال اختيار الكاتب لاجتهادات خاصة في المشاكل الحضارية التي يطرقها.

ومن هنا فقد تنوعت اختيارات ومناهج مفكري الإسلام وعلمائه في هذا العصر، بحيث لو سألنا سائل:

ما منهجكم في القضية السياسية الفلانية أو المسألة الاقتصادية العلاّنيّة؟ وجدنا أنفسنا في بحر من النظريات والاجتهادات المتنوعة التي لا يتفق عليها المفكرون ودعاة الإسلام جميعاً.

إن الحركة الإسلامية المتصلة بالقواعد الجماهيرية، يقع على عاتقها هذه المهمة الإسلامية الكبيرة والنبيلة، وهي استنباط منهج الحركة السياسي والاقتصادي والاجتماعي والتربوي في إطار المذهبية الإسلامية، من أجل حل مشاكل وأزمات عصرنا الحاضر، وقد تتعرض تفاصيل ذلك المنهج إلى التغيير من جيل إلى جيل آخر، حسب ظهور تطور الحياة. إذ أن لكل عصر منهجه التفصيلي الذي يستوعب الحياة الإنسانية ومشاكلها في ذلك العصر.

والحركة الإسلامية للظروف التي مرت بها، لم تقم بعد بهذه المهمة الكبيرة.

وهذا الفراغ في المنهج التفصيلي الواقعي المتصل بآمال الجماهير الغفيرة من أمتنا هو الذي شجع بعض الجاهلين أو المتصيدين في الماء العكر أن يدّعوا أنهم يريدون الجمع بين روحية الإسلام وقيمه وبين المناهج النضالية الاقتصادية الحديثة، كما يحلو لهم أن يسموها. على الرغم من أن في الإسلام مناهج نضالية شاملة تستوعب آمال أهل الحقوق الضائعة في كل عصر، ولكن الظروف التي مرت بها الحركة الإسلامية الحديثة لم تدع لها مجالاً لاستنباطها وبيان مقدماتها ونتائجها التفصيلية في مظاهر الحياة الإنسانية كلها. وعندما نقدم ذلك المنهج الإسلامي النضالي التفصيلي إلى المظلومين في كل مكان، لن نجدهم يركضون وراء سراب المناهج المادية العلمانية التي تريد أن تفرغ مجتمعاتنا من الإسلام عقيدة وشريعة وسلوكاً وحضارة.

إن المنهج التغييري النضالي الإسلامي إذا أخذ بنظر الاعتبار طبيعة الإسلام الجماعية. ومبدأ تحقيقه الدائم لمصالح العباد وإنهاء التعسف في استعمال الحقوق، مع مراعاة الواقع المتغير والإدراك العميق لمشاكله العصرية، فسيكون هو البديل وحده، لأوضاع الانهيار الحضاري في مجتمع الإسلام ، لا غيره من المناهج التي تنطلق من داخل المنظومات الحضارية الغربية، الغربية كل الغرابة عن المنظومة الحضارية الإسلامية.

وأقول "وحده "، لأن المنهج الذي يمثل خصائص الأمة ومنطلقاتها الاعتقادية وأهدافها الحضارية وجوانيتها التاريخية العميقة من الروابط والأعراف والمصالح المشتركة، لا يمكن أن تزحزحه المناهج الغربية عنها في كل شيء.

إن منطق الحياة واستقراء أحوال الأمم والشعوب يقتضي هذا!!

ونحن اليوم نقف في العالم الإسلامي على مفترق الطريق، لا بد لنا من أن نحسن الفهم والاختيار، وإلا ضاعت الفرصة التاريخية وألحقنا بقضية الإسلام والإنسانية خسارة كبيرة

==============

# المذهبية والمصطلح الحضاري

إذا أردنا أن تتغير أوضاعنا الحضارية في ضوء المذهبية الإسلامية، فلا بد أن تكون مصطلحاتنا الحضارية تعبر تعبيراً دقيقاً عن حقائقها وطبيعتها ووحدتها الداخلية ومنظومتها المتميزة. لأن في ذلك الصفاء ووضوح الرؤية واستقامة المنهج، ولأن التغيير الحضاري في أي مجتمع إذا قاده التلفيق بين مجموعا اصطلاحية، تنتمي إلى منظومات حضارية مختلفة فإن التغيير يفقد التخطيط الموجه ويدخل في إطار الفوضى في الفكر والممارسة، فيؤثر ذلك في كيان المجتمع كله.

وفوضى الاصطلاحات من جهة أخرى دليل عدم الأصالة، وبرهان عدو وجدان الذات، وفقدان للخصوصية الحضارية.

ومن المشاكل الفكرية الخطيرة التي تعاني منها في مرحلتنا الحاضرة، تشابك الاصطلاحات التي تنتمي إلى حضارات متضادة في كل شيء، والتي لم تستطع إلى الآن أن تضعنا على طريق الفهم الحضاري المشترك والاتفاق ولو على أصول مذهبية واحدة، وبذلك فقدنا الانسجام الفكري والأرضية المشتركة للتفاهم في مجتمع مشتت الفكر، لم تتوضح أمامه الرؤية المذهبية بعد:

فمن أهل الفكر من يدعو إلى استعارة المصطلحات الحضارية الأجنبية دون تردد، لأنها أصبحت لغة عالمية، فهم لا يرون مانعاً من استعمال كلمات اليمين واليسار، والديمقراطية والثيوقراطية، والطبقة والحكم الإلهي المطلق، ورجال الدين والصراع والثورة، والرأسمالية والماركسية والاشتراكية… وما إلى ذلك، على أساس أننا لا بد أن نعيش - في زعمهم - عصرنا ونفهم مصطلحاته ونستعملها حتى يفهمنا الناس، ويتوحد فكرنا على أساسه وتظهر آثار التقدم والتطور في حياتنا ونتحرر من المصطلحات التراثية التي أكل عليها الدهر وشرب.

ويصرحون بأننا لا بد لنا أن نسقط لغتنا العقيدية الخاصة ونتبنى لغة المصطلحات الحديثة الشائعة حتى نصل إلى لغة مشتركة للحوار بين الاتجاهات الفكرية داخل ثقافتنا وبين حضارتنا وحضارات أخرى.

هذا واحد منهم يقول:

وقد حدثت ظاهرة لغوية فريدة هي ظاهرة (التشكل الكاذب ) عندما أسقطت الحضارة الإسلامية الناشئة لغتها العقائدية الخاصة ووضعت محلها لغة العصر لغة الحضارات القديمة وليست بالضرورة اللغة اليونانية لأنها كانت لغة العصر في ذلك الوقت وعبرت عن مضمون الحضارة الإسلامية التي لم تعد اللغة الدينية القديمة قادرة على التعبير عنها وعن كل إمكانياتها. وهي في مواجهة حضارات مجاورة تنتشر فوقها تحتويها وتتمثلها. لم يعد لفظ "الله " يعبر عن مضمونه (كذا ) بل كانت الفاظ "المحرك الأول " "العلة الأولى " "الصورة المفارقة" "الواحد " "العقل العاقل والعقول " "اللانهائي " إلى آخر هذه الألفاظ التي استعملها الفلاسفة قديماً وحديثاً للدلالة بها على مضمون التنزيه ومع ذلك ظل المضمون الأول وإن تم الاستغناء عن الشكل وهو اللفظ (28).

إن مقارنة موقفنا الحضاري بمواقف أسلافنا من الحضارات الأخرى، مقارنة تفتقر إلى الأساس المشترك، وهذا الأساس مفقود هنا لما يلي:

- الأول:

إن أسلافنا عندما واجهوا الحضارات الأخرى، كانت مذهبيتهم الإسلامية، تسيطر على حياتهم وتوجه حضارتهم. وكانت دولتهم أقوى الدول. ولم تكن هنالك مذهبية أخرى تستطيع أن تشكل خطرأ على مذهبيتهم الإسلامية بتفاصيلها الدقيقة. فلم تكن مشكلة الضياع والذوبان مثارة يومئذ أصلاً، بل هم كانوا يفتحون عقولهم وقلوبهم لدينهم وحضارتهم وجوانب حياتهم المشرقة.

ونحن اليوم بعكس أسلافنا. كياننا السياسي الإسلامي ممزق، وحضارتنا الإسلامية قد سقطت منذ زمن بعيد. لا بد غزتنا الثقافات المتنوعة داخل الحضارة الغربية غزواً يكاد يكون كاملاً، بحيث فقدنا شخصيتنا المستقلة.

فنحن اليوم عندما نختار لسنا أحرارً كأسلافنا؛ منطلقاتنا الفكرية ليست واضحة، رؤيتنا لما حولنا لا تتحكم فيها عيون سليمة، حياتنا الاجتماعية والحضارية غير مخططة، لا لون لنا، لا نمط متميز لحياتنا.

فهل وضح أسلافنا ووضعنا متماثلان؟ حتى نجمع بينهما ونتصرف على أساسهما ونختار، هذا إذا كانت القضية التي نواجهها تشبه التي واجهوها، فكيف إذا كانت القضيتان مختلفتين؟

- الثاني:

إن المصطلحات التي نواجهها اليوم تختلف اختلافاً كبيراً عن المصطلحات التي واجهها أسلافنا؟ لأن المصطلحات في عصرنا ليست ألفاظاً لغوية أو أوصافاً لعلم من الأعلام. وإنما هي مصطلحات تكمن وراءها منظومة حضارية تختلف في مقدماتها ونتائجها عن منظومتنا الحضارية ونمطنا الاجتماعي.

فلو جئنا إلى لفظ الجلالة "الله " سبحانه وتعالى نجد أنها لسم علم، يدل على الفاطر أو الخالق أو المبدع، وهو المعبود الحق الذي لا معبود سواه. فإذا وصفنا هذا الخالق بأنه "العلة الأولى " أو "المحرك الأول " أو "الواجب الوجود ". لم تتغير الحقيقة، لأن الباري تعالى يتصف بهذه الأوصاف جميعاً. ثم إننا لم نبتعد بإطلاقنا تلك الألفاظ عن دائرة الفهم اللغوي المباشر. واستعمال هذه الألفاظ لا يستدعي أبداً إدخال معنى آخر بجانبه. ومن استعمل من الفلاسفة المسلمين كالفارابي وابن سينا وابن رشد، مضامين أخرى بجانب تلك الألفاظ، لم يأخذوها لأنها مضامين تدخل في معنى تلك المصطلحات. وإنما هم أخذوا فلسفة أرسطو الإلهية بكاملها وظنوها صحيحة تسند المذهبية الإسلامية. أو ظنوا ذلك دفعاً للتعارض بين العقل والنقل.

والحقيقة أنه لم يكن هنالك تعارض بين النقل الصحيح والعقل الصريح، بل كان هنالك تعارض بين النقل وبين أقوال "ارسطو " وفلسفته الإلهية ذات التأثيرات الوثنية (29).

أما ما نحن اليوم فيه من المصطلحات الحضارية، فلها وضع آخر غير الوضع الذي تحدثنا عنه. فلنتكلم على وضع كل مصطلح متى نركن إلى الحقيقة فيه.

الرأسمالية:

الرأسمالية ليست معنى لغوياً صرفاً، ولا هي مجمل في المعنى، وإنما تدل دلالة قطعية على نظام اقتصادي حر، لا يرتبط بقاعدة أخلاقية في الحصول على التملك أو كيفية الحصول عليه. وفوق ذلك فإنه نظام يتأسس عليه حكم معين وتترتب عليه نتائج تولد المآسي والمظالم لا تقف عند المجتمع الرأسمالي وإنما تتجاوزه إلى مجتمعات أخرى.

فكيف يمكن أن نجيز موضوعياً لباحث إسلامي يصف الاقتصاد الإسلامي بأنه اقتصاد رأسمالي لمجرد أنه يبيح الملكية الفردية بشروطها المعروفة في الشريعة الإسلامية.

إن الاقتصاد الإسلامي يتفرع من مذهبية إسلامية شاملة متكاملة لها جوانب كثيرة مترابطة، مقدماتها وموضوعاتها ونتائجها تختلف جذرياً مع الاقتصاد الرأسمالي.

الشيوعية:

هذا المصطلح، ليس معنى لغوياً بحتاً وليس مجملاً، وإنما يدل على نظام خاص محدد، له تفسيره المادي لشؤون الكون والمجتمع والإنسان، وتتفرع منه أنظمة تنسجم مع مقدماته ذات التفسير المادي للتاريخ، منها النظام الاقتصادي المبني على تحريم الملكية لأدوات الإنتاج، وسيطرة الدولة الكاملة على توجيه النشاط الاقتصادي في المجتمع.

فهل يمكن أن نكون علميين إن قلنا: إن النظام الاقتصادي الإسلامي هو نظام شيوعي أو شبيه بالشيوعية، لأن اتجاه الاقتصاد الإسلامي هو اتجاه جماعي، أو لأنه يبيح للإمام التدخل في الأوضاع الاقتصادية وإعادة التوازن إلى المجتمع، كلما دعت الحاجة إلى ذلك. زد عليه أن النظام الاقتصادي الإسلامي هو جزء من كلِّ يختلف أساساً عن الكل الحضاري الذي تنتمي إليه الشيوعية.

الديمقراطية:

كلمة يونانية الأصل تتكون من مقطعين، الأول نعني الشعب والثاني يعني الحكم، ومعناه أن يحكم الشعب نفسه بنفسه مباشرة أو عن طريق الممثلين الذين يختارهم في مجلس النواب، وهو نظام علماني، ليس فيه محور ثابت لحركة التغيير، بل إن الشعب عن طريق نوابه يغير حياته كما يشاء من دون ارتباط بقيمة ثابتة.

وهذا المعنى يختلف عن النظام السياسي الإسلامي الذي ينبثق من المذهبية الإسلامية التي تستند نصوص القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة القاطعة، ولكن لها الحق أن تغير ما يتعلق بالأمور الدنيوية التي تخضع لتغييرات الحياة في داخل الضوابط المستنبطة من الكتاب والسنة وطبيعة اللغة وحقائق المنطق العام، فكيف يمكن أن نسمي النظام الإسلامي بعد ذلك بالنظام الديمقراطي الإسلامي.

الثيوقراطية:

وهي عبارة عن كلمتين في اليونانية: "ثيو " معناه : ديني و "كراتيس " معناه: حكم، وهو الحكم، القائم على التفويض الإلهي، أي أن الحاكم يختاره الله فيحكم باسمه ويستمد منه سلطته، يحيط به جمع من الكهنة يسيطرون على الناس ويستغلونهم.

وهذا المعنى النابع من التاريخ الأوروبي لا ينطبق على مفاهيم الحكم الإسلامي، لأن إمام المسلمين أو خليفتهم، لا يختاره الله، بالمعنى السابق ولم يفوض إليه أن يحكم باسمه، بل تختاره الأمة، فينوب عنها في تطبيق أحكام الشريعة الإسلامية. ثم إنه لا توجد طبق كهنة أو رجال الدين في الإسلام، وإنما يوجد العلماء، شأنهم شأن غيرهم من العلماء في العلوم والآداب والفنون، وليس لهؤلاء العلماء الاجتهاد في موضع النص القاطع الثابت بالوحي الإلهي.

فإذن كيف يمكن أن يستعمل هذا المصطلح للدلالة على الحكم الإسلامي؟

اليمين واليسار:

من التعابير الاصطلاحية التي أصبحت مرتبطة بنظم الحكم وبالمذاهب السياسية والأحزاب المعاصرة. نشأ اللفظ أصلاً مع قيام الجمعية الوطنية الفرنسية عام 1789م التي مهدت لقيام الثورة. إذ كان النبلاء من أعضائه يجلسون في مكان الشرف إلى يمين رئيس المجلس بينما كان يجلس ممثلو الشعب إلى اليسار، ثم شاعت في المجالس الأوروبية، أن يجلس المحافظون في اليمين والراديكاليون التقدميون في اليسار،ثم توسع في استعمال اللفظ، فأطلق اليمين على المحافظين واليسار على الثوريين أو التقدميين(30) .

إذن فهذان المصطلحان يرتبطان بما حدث من تطورات سياسية في داخل المنظومة الحضارية الغربية، ولهما دلالات ترتبط بهما ارتباطاً عضوياُ.. فكيف يمكن أن يوصف ما جرى في تاريخ الإسلام بهذين المصطلحين؟!

إن الإسلام كان له مصطلحان معروفان، وهما الحق والباطل، فأهل الحق هم معروفون لمن يعيش في إطار المنظومة الحضارية الإسلامية، وكذلك أهل الباطل. ولو نقل المصطلحان إلى الحضارة الغربية، لم بفهم أحد معناهما لأنه لم يستعملهما أحد داخل المنظومة الحضارية الغربية.

وهكذا الأمر بالنسبة للمصطلحات: "الاشتراكية " و "الدكتاتورية " و "الرجعية والتقدمية " … وغيرها، فهي ثمرة تطور النمط الحضاري الغربي لا علاقة لها بتاريخ الإسلام وحضارته وتطور الحياة فيه.

على أنه توجد مصطلحات أخرى لا ترتبط بمنظومة حضارية معينة، ولو قيدتها بمعانٍ خاصة بها وبالمبادئ التي تفرعت منها عند استعمالها. فألفاظ مثل: "الثورة " أو "الطبقة " أو "التقدم" كانت ولا تزال مستعملة في ثقافات شتى، فمن الناس من يستعملها على إطلاقها ومنهم مستعملة في ثقافات شتى، فمن الناس من يستعملها على إطلاقها ومنهم من يستعملها مقيدة. فهي عندئذ بمثابة الألفاظ المجملة. فعند إطلاقها لا بد لنا أن نبحث عن المعنى المقصود في السياق، حتى نحدد موقفنا منه بدقة. فالسياق هو الذي يحدد معنى قول الماركسي "ثورة الطبقة " والديمقراطي "الثورة الفرنسية " والإسلامي "جاء الإسلام ثورة على المجتمع الجاهلي ".

فلو سألنا الماركسي:

ماذا تقصد بكلامك؟

أجابنا:

أقصد بثورة الطبقة ثورة الطبقة التالية على الطبقة السابقة عليها كثورة البورجوازية على الإقطاع وكثورة العمال على البورجوازية بشروطها التاريخية.

ولو سألنا الديمقراطي أجابنا:

هي ثورة الشعب الفرنسي على المظالم التي كانت سائدة قبلها.

ولو سألنا الإسلامي أجابنا:

أقصد أن الإسلام لما جاء اقتلع جذور الجاهلية وقبلها رأساً على عقب.

وفي رأيي أن استعمال الألفاظ المجملة بسياقها المعرِّف الذي يزيل كل ليس عند القارئ لا خطر فيه. فالكاتب الإسلامي عندما يقول:

(لا توجد طبقية في الإسلام ) لا يحدث كلامه التباساً عند القارئ، لا سيما أن هذه الجملة وردت ضمن موضوع يتحدث عن أن الناس كلهم عيال الله. فلا تمايز لجماعة على الأخرى إلا بالتقوى، أي لا طبقية بأي مفهوم من مفاهيمها الظالمة في الإسلام.

فهذا شيء، وقولنا "الإسلام نظام ديمقراطي " أو "ثيوقراطي " إلى آخره شيء آخر.

وإذا قيل : ما المانع أن أستعمل تلك المصطلحات، ثم أشرح المقصود بها في كلامي. قلنا: هذا فساد في الفكر. إذ كيف تصف الإسلام بمصطلح أجنبي استقر معناه ، ثم تنتهي إلى ضده؟

والذين يقولون: إن طبيعة الحوار في عصرنا تقتضي استعمال تلك المصطلحات لأنها تشكل جسور التفاهم بيننا وبين أصحابها. نقول لهم: لقد ثبت لنا أن كل علم أو فن أو دين له مصطلحاته الخاصة به. فنحن نستطيع عن طريق الإيضاح والتفسير أن نفهم مقاصدنا للناس. فإذا كنت أكلم مفكراً انجليزياً وقلت له: إن الإسلام "ديمقراطي " في الحكم. فهم الكلام في إطار مفهومه هو عن الديمقراطية. والحال إن الإسلام ليس كذلك. إذن فلا بد أن نقدم إليه الحقيقة كاملة حول الإسلام حتى يدرك التمييز الكامل بين نظام الحكم في الإسلام والنظام الديمقراطي. وهكذا في المصطلحات الأخرى.

إن المشكلة الكبيرة في عصرنا أن أبناء القرن الرابع عشر الهجري في العالم الإسلامي الذين عاشوا داخل المنظومة الحضارية الغربية وفي إطار مصطلحاتها، لا يتصورون أن يتم التفاهم إلاّ بما نشأوا عليه.

إن المذهبية الإسلامية بكلياتها ومصطلحاتها غدت غريبة في مجتمعاتنا الإسلامية. فالمسلمون لا يعيشون في إطارها. فلا بد لمنهج التغيير الذي يتبناه الإسلاميون، أن يلتزم بإطار المصطلحات الإسلامية، حتى ترجع الأصالة الفكرية إلى مجتمعنا فلا نعيش إلى الأبد على فتات موائد المذهبيات المادية التي توجه الحضارة الغربية المعاصرة.

إن المذهبية الإسلامية تعيش اليوم في معركة ضارية مع المذهبيات المادية العلمانية. واستعمال المصطلحات التي تعبر عنها لن يكون إلاّ في صالح تمكين أفكارها ونمطها الثقافي في مجتمعاتنا الإسلامية

==============

# المذهبية الإسلامية والقومية

كان الناس أمة واحدة، يوم أن كانوا قليلي العدد، يسكنون في منطقة واحدة، حياتهم منسجمة، ومواقفهم من مظاهر الطبيعة متشابهة ثم توسعوا، فضاقت بهم الأرض وتعددت بهم سبل العيش، فانتشروا في الأرض وتفرقوا إلى جماعات هنا وهناك وقبائل، ثم نمت تلك الجماعات وتحولت إلى شعوب وأمم تباعدت عن بعضها.

وفرضت عليها ظروف الحياة أن تتجمع حول نفسها لتكون خصائصها عبر ألوف السنين، فتكونت بذلك اللغات المتعددة والعادات والتقاليد المتباينة، فشعرت كل أمة باستقلاليتها وانتقلت إلى مرحلة التفكير والنزاع والسيطرة على الجماعات والشعوب الأخرى طمعاً في الاستعلاء وحصولاً على مصادر العيش الرغيد.

ولقد بعث الله تعالى النبيين مبشرين منذرين في الأقوام والجماعات:

((… وإن من أمّةٍ إلاّ خلا فيها نذير )) (فاطر:24)

((وما أرسلنا من رسولٍ إلاّ بلسان قومه ليُبيِّن لهم… )) (إبراهيم:4).

ورسل الله، ذكَّروا الناس بأصلهم الواحد، وبربهم الواحد، ودعوهم إلى عبادته، كي لا يتخذ بعضهم بعضاً أرباباً من دون الله فيضلوا السبيل:

((كان النّاس أُمّةً واحِدةً فتعث الله النّبيِّين مُبشِّرين ومنذرين وأنْزل معهم الكتابَ بِالحقِّ لِيحْكُمَ بيْن النّاسِ فِيما اخْتلفُوا فيهِ وما اختلف فيه إلاّ الّذين أوتوه من بعْدِ ما جاءتْهُمُ البيِّناتُ بغياً بيْنهم فهدى الله الذين آمنُوا لما اخْتلفُوا فيه من الحقِّ بإذنِهِ واللهُ يهدي من يشاءُ إلى صراطٍ مُسْتَقِيمٍ )) (البقرة : 213).

والقرآن الكريم يذكر الناس بحقيقة الوحدة الإنسانية فيقول:

((يأيُّها النّاسُ إنّا خلقْناكُم من ذكرٍ وأُنثى وجعلناكم شعوباً وقبائِل لتعارفُوا إِنَّ أكرمكُم عند اللهِ أتقاكم )) (الحجرات : 13)

فهو إذن يدعوهم إلى التعارف والتعاون ولم يدعهم إلى الذوبان جميعاً في وحدة اجتماعية واحدة. لأن وجود الشعوب والقبائل واقع اجتماعي، ليس من المصلحة القضاء عليها في حد ذاتها، ولا من المصلحة أن توحد لغاتها. لأن هذا التنوع في وجودهم ولغاتهم يدفعهم إلى التنافس على الخير وإقامة الحضارة وبناء الحياة، ثم هي آية من آيات الله المبثوثة في الوجود.

((ومِنْ آياتِهِ خَلْقُ السّمواتِ والأرضِ واخْتِلافُ ألْسِنتِكم وألوانِكُم إنّ في ذلك لآياتً لِلْعالِمين )) (الروم: 22).

وليس من القطرة أن نطلب القضاء علي آيات الله في الوجود، لأنها مظاهر تجليات أسمائه الحسنى.

ومع أن الإسلام اعترف يذلك الواقع في المجتمع الإنساني غير أنه استنكر العصبية الجنسية والقبلية، لأنها تسبب الفرقة وتولد البغضاء وتنخر المجتمعات وتسقط الحضارات. والاستقراء التاريخي في كل الأمم والشعوب دليل قاطع على ذلك.

وفي سبيل المحافظة على وحدة الإخاء البشري رسم الإسلام ثلاث دوائر حولها، حتى لا يعيش كل من في الدائرة الواحدة في دائرتها وحدها، فينتج من ذلك التعصب المقيت، والعرقية البغيضة. وتلك الدوائر هي:

- الأولى:

دائرة الإسلام التي تجمع بين المسلمين جميعاً في أمة واحدة:

((إنّما المؤمنون إخوة ٌ)) (الحجرات:10)

- الثانية:

دائرة الدين عامة:

((قل يا أهْل الكتاب تعالوا إلى كلمةٍ سواءٍ بيننا وبينكم… )) (آل عمران : 64)

((إنَّ هذه أمّتُكُم أمّةً واحدةً وأنا ربُّكُم فاعبدون )) (الأنبياء : 92).

وهذه الآية الكريمة خطاب للرسل جميعاً لأنهم جاؤوا بحقيقة إسلام الوجه لله رب العالمين.

- الثالثة:

دائرة الأصل البشري والأخوة الإنسانية عامة:

((يأيُّها النّاسُ اتّقُوا ربُّكمُ الّذي خلقكم من نفسٍ واحدةٍ… )) (النساء : 1)

ولقد عاش المسلمون خلال أحقاب متطاولة في ظل أخوة الإسلام وعاش معهم غيرهم في أمن وأمان في معظم الأحوال، وانصهرت عبقريات الأمم والشعوب لتشكل الحضارة الإسلامية التي حملت لواء العلم والمعرفة قروناً من الزمان في أرجاء العالم.

وكان المسلمون جميعاً على تنوع ألوانهم وشعوبهم ينتقلون بلا قيود بين بخارى وسمرقند وغزنة وطاشقند وبغداد والكوفة ودمشق والقاهرة والقيروان وفاس وقرطبة، على الرغم من تعدد المؤسسات السياسية وتنوع الخلافة الإسلامية. يؤمنون بعقيدة واحدة، ويتجهون إلى قبلة واحدة، تجمع بينهم كذلك اللغة العربية الجميلة، والتي كانت لغة الحضارة الإسلامية بين المحيطين، إلى أن داهمتنا جيوش المستعمرين في عقر دارنا وبدأوا بالتخطيط الذكي لتمزيقنا وتأليب بعضنا على بعض عن طريق الفلسفات القومية العنصرية التي ظهرت في الغرب، ومن خلال تشجيع النزعات الطائفية في البلاد الإسلامية.

ولقد ظهرت النزعة القومية العنصرية أول ما ظهرت في البلاد العثمانية في ستينيات القرن الميلادي الماضي، عندما احتكت الدولة العثمانية بألمانيا احتكاكاً قوياً. وتوثقت بينهما أواصر السياسة والتجارة والثقافة، وبدأت البعثات العسكرية والثقافية تتقاطر على ألمانيا التي كانت تعيش يومئذ الحالة القصوى في العصبية للجنس الجرماني نتيجة لظروفها السياسية والأخطار العسكرية التي كانت تهددها من الخارج، فرجع المبعوثون الأتراك وهم مشحونون بالإعجاب الكبير لحركة القومية الألمانية ومظاهر الحضارة الغربية، ليشكلوا نواة الحركة الطورانية العنصرية التي تحولت بعد سنوات قليلة إلى حركة "تركيا الفتاة " ثم إلى "الاتحاد والترقي " التي انسلخت من الرابطة الإسلامية ودعت إلى إلغاء سياسة التتريك (بعد خلع السلطان عبد الحميد ) واضطهاد الشعوب التي كانت منضمة تحت لواء الدولة العثمانية - لا سيما العرب - والاستعلاء عليها الأمر الذي أدى إلى حركة ردّ فعل قوي عند شباب العرب المتأثرين بالثقافة الأوروبية.

ومن الحقائق الثابتة التي أثبتتها الأبحاث الحديثة والوثائق التي نشرت في القرن العشرين، أن هذه الحركات القومية العنصرية كانت تقف وراءها الماسونية العالمية وسفارات الدول الأجنبية والأقليات غير الإسلامية والمؤسسات الثقافية التنصيرية التي أنشأتها الدول الاستعمارية الكبرى يومئذ ومن أبرزها الجامعة الأمريكية في بيروت(31) التي خرّجت معظم منظّري حركة القومية العربية الحديثة، وأكثرهم نصارى، سواء أكانوا مفكرين أو مؤرخين أو أدباء أو شعراء.

ومن المؤسف أن الوعي الذي ظهر بين المثقفين المسلمين عموماً نتيجة لاحتكاكهم بالحضارة الغربية في القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين الميلادي، بالتأخر العام الذي أصاب المجتمع ومظاهر الجهل والجوع والمرض والسقوط الحضاري فيه، لمّا لم يجد وعياً إسلامياً حقيقياً لتوجيهه يومئذ، استسلم للحركات العنصرية ومظاهرها الخلابة في الدعوة إلى الإصلاح والتقدم والأخذ بأسباب الحياة الحديثة.

ولقد انتهت الحركة الطورانية العنصرية في تركيا إلى إلغاء الخلافة العثمانية، وإبعاد الإسلام من شؤون الحياة وإعلان اللادينية ومحاربة اللغة العربية وإلغاء حروفها وفرض سياسية التتريك على الشعوب الإسلامية الأخرى كالأكراد والعرب في ظل الانقلابات الكمالية، ابتداءً من أوائل عشرينيات القرن الحالي.

وانتهت حركة القومية العربية الحديثة إلى سلوك خط معارض للإسلام من حيث هو عقيدة وشريعة وسلوك، بل حاول مفكروها أن يوجهوها بحيث تضع ديناً بدل دين الإسلام ، فهذا أحد هؤلاء يقول:

"… القومية بالنسبة إلينا نحن القوميين العرب دين له جنته وناره ولكن في هذه الدنيا… "(32).

إن لحركة الطورانية العنصرية التكية وحركة القومية العربية، كان لهما تأثير كبير في دفع الأكراد الذين كانوا من أخلص الشعوب الإسلامية لمبادئ الإسلام وخدمة علومه وثقافته إلى التفكير في قوميتهم لا سيما بعد شعورهم بالاضطهاد الدموي الرهيب الذي أصابهم على أيدي الكماليين العنصريين في تركيا.

وقد حاول المخططون لإثارة النزعة القومية العنصرية في بلاد الإسلام 'ن ينطلقوا دائماً من منطلق دفع القوميات للخروج النهائي من الإسلام.,من هنا فإن المتطرفين من القوميين الأكراد، دعوا قومهم إلى الانسلاخ من الإسلام ، عقيدة ولغة وحضارة.

ووقعت هذه المأساة بالنسبة إلى بعض البربر في شمالي أفريقيا، فالمستعمرون الفرنسيون عندما احتلوا الجزائر والمغرب وتونس حاولوا بكل ما أوتوا من قوة أن يدفعوا المسلمين البربر إلى اتخاذ مواقف متطرفة في التمسك بقوميتهم، بل خططوا لإخراجهم من جماعة المسلمين والإسلام في بداية الثلاثينيات من القرن العشرين، عندما أعلنوا "الظهير البربري " الذي قاومه المخلصون من المغاربة عرباً كانوا أم بربراً.

غير أن القضية في شمالي أفريقيا لم تتأجج كما تأججت القوميات في الشرق الإسلامي، لأن محاربة المستعمر للإسلام قد ولّد رد فعل معاكس، وجعلت المسلمين جميعاً يدركون غايات المستعمرين من إحياء النزعة القومية في بلاد الإسلام .

إن الحركات القومية لما وجدت أنه من المستحيل أن يتحول مجرد التعصب العرقي إلى مضمون حضاري ومذهبية عقيدية في الحياة استعاروا لها المذهبيات المادية المتنوعة والعلمانية، معتبرين الإسلام تراثاً قديماً يمثل بعض أمجادهم.

ولقد كانت نتائج هذه المأساة التاريخية كبيرة في العالم الإسلامي، بحيث أدى إلى محاربة الإسلام في مظاهر الحياة كلها وحصره في أمور عبادية ضيقة وعدم وقوف الأمر عند حدود الحياد بين الكفر والإيمان وهو جوهر "العلمانية " بل تجاوزها إلى "اللادينية " وفرض المضامين المادية وأماط الثقافة الأوروبية الأخرى على المجتمع الإسلام في نواحي الحياة كلها، ومحاصرة كل من ارتفع صوته فرداً أو جماعة بالحفاظ على الذات الإسلامية ومقاومة الإلحاد والإباحية المرتبطة بمراكز القوى الخارجية، لا بل تجاوز الحصار إلى تصفية المفكرين وقادة الحركات الإسلامية واضطهاد وسحق كرامة وحرية الجيل الإسلامي الجديد الرافض للمذهبيات الأجنبية التي ولدت الدمار العقائدي والأخلاقي والحضاري في المجتمعات الإسلامية.

وقد يقول لنا قائل:

ما موقع العروبة في منهج التغيير الإسلامي؟

هذا كلام مجمل نريد بيانه.

فإذا كنتم تريدون العروبة ذات المضامين المادية والعلمانية والعنصرية، فإن الإسلام يرفض هذا رفضاً قاطعاً، لأن تلك المبادئ تتنافى مع الإسلام. وتلك العروبة في الحقيقة ليست عروبة بل هي شعوبية جديدة واضحة تتقدم تحت شعارها لهدم الإسلام وإبعاده عن حياة المسلمين وتمكين المبادئ الجاحدة التي أنتجتها ثقافة الغرب غير العربية وغير الإسلامية.

إن شعوبية "العروبة " ذات المضامين الإلحادية والعلمانية ظهرت عندما نهشت في جسم الأمة العربية الواحدة فمزقتها، وضربت أبناءها بعضهم ببعض، وسلمت بلادها رخيصة إلى اليهودية العالمية دون تخطيط ودون إرادة قتال، بل بسبق إصرار في الخيانة والاستجابة إلى الأوامر التي صدرت إلى قادتها والداعين إليها من مراكز القوى السرية والعلنية في العالم.

لقد ذلت العرب أعظم ذلة في التاريخ في ظل هذه الشعوبية الجديدة في عقيدتها وأرضها وذات نفسها.

فكيف يمكن بعد ذلك لدعاة الإسلام أن يقبلوا بعروبة، مضمونها كفر بالله والرسول العربي، وواقعها سلسلة من الخيانات والهزائم المتلاحقة عبر نصف قرن كامل من أخصب زمان الأمة.

أما إذا أردتم، عروبة القرآن، عروبة الإسلام ، عروبة محمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه والتابعين لهم بإحسان، فهذه هي العروبة الحبيبة التي وصلت إلى أبعد نقطة في بلاد الإسلام من خلال دينها وثقافتها وعلومها التي كانت تقرأ وتكتب وتدرس بلغتها العبقرية الشاعرة، لغة القرآن الكريم.

هذه العروبة النظيفة هي التي حمل لواء الدفاع عنها وعن وجودها غير العرب من علماء الأمة الإسلامية وعباقرتها.

هذه العروبية التي وصفها رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال:

"ليست العربية من أحدكم بأب أو أم وإنما العربية اللسان فمن تكلم العربية فهو عربي " (33) هي التي نقلت بلاداً بكاملها إلى حظيرة العربية من حيث هي دين وثقافة ولغة ومن حيث هي أمة كريمة اختارها الله تعالى لحمل رسالة الإسلام ، وجعل منها أئمتها الهداة الذين نشروا لواء الإسلام في كل صقع ورووا بدمائهم أرض الإسلام كلها شرقاً وغرباً وشمالاً وجنوباً، وكانوا أرحم الفاتحين بالأمم والشعوب.

وكذلك إذا أردتم أن تتوحد العرب في أمة واحدة ذات شخصية مستقلة معيد النظر في حياتها فتنقلها من الفرقة إلى الوحدة ومن التأخر إلى التقدم ومن الاستبداد إلى الشورى ومن الظلم إلى العدل ومن جور المبادئ الغربية الجاحدة إلى نور الإسلام. فهذا أمل كل مسلم يؤمن بالله واليوم الآخر حقاً، يدعو إليها ويعمل لها، ويكافح من أجل تحقيقها.

فقوة الأمة العربية اليوم ووحدتها إذا تمت - وهي لن تتم إلا بقيادة المذهبية الإسلامية لها - فمتكون درعاً عظيماً للإسلام وإحياءً لحضارته وقيادة لشعوبه نحو بناء حضارة إسلامية إنسانية شاملة.

إن من أعظم أسباب ذل المسلمين اليوم وتأخرهم وجهلهم بحقائق الإسلام أن العرب منذ قرن من الزمان، في ضوء مخططات العدو، يساقون إلى طريق غير طريق الإسلام ، لأن الأعداء علموا جيداً أن الرائد إذا ضيِّع الطريق، ضاع الجميع معه.

فالشعوب الإسلامية تنتظر اليوم من العرب أن تقودها إلى بناء حياتها وشخصيتها الحضارية المستقلة، في جامعة إسلامية تتعاون شعوبها ودولها على البر والتقوى وترد الإثم والعدوان، وتري الأعداء العزة والقوة والتمكين.

والعرب لن يستطيعوا أن يقوموا بدورهم في إنقاذ أنفسهم وقيادة غيرهم وهداية شعوب العالم وإنقاذ حضارته من الانهيار القيمي والسلوكي، إلا إذا أدركوا مهمتهم وتمسكوا بعقيدتهم وحافظوا على ذاتهم.

هذا قدر العرب في هذا العصر، وكل الدلائل النظرية والواقعية تشير إلى أن العرب بعد أن مرّوا بتجارب مريرة وقاسية، سيتوجهون نحو هذا القدر الإسلامي العظيم، لأنهم مسؤولون أمام الله تعالى عن ذلك:

قال تعالى:

((وإنّهُ لذِكْرً لك ولِقوْمِك وسوف تُسْألُون َ)) (الزخرف: 44).

وبعكسه ستتسلم الراية أمة إسلامية أخرى، حسب الوعد الإلهي:

((… وإن تتولِّوا يسْتبْدِلْ قوْماً غيْركُمْ ثُمَّ لا يكُونُوا أمثالكُمْ )) (محمد: 38).

==============

# المذهبية الإسلامية وأزمة المثقفين

إن قصور المناهج التعليمية القديمة في العالم الإسلامي عن تقديم المذهبية الإسلامية الشاملة المتكاملة المترابطة إلى الأجيال الجديدة في القرون الأخيرة، ضيِّع عليها فرصة تاريخية كبيرة، عندما واجه المناهج التغييرية التي وجهتها المذاهب المادية في الثقافات الغربية، بحيث لم تستطع تلك الأجيال أن تدرس وتمحص تلك المناهج المذاهب في ظل رؤية سليمة للمذهبية الإسلامية، فوقعت في عبودية مشينة لها، وألغت عقولها تجاهها، وظنت أنها هي الحقيقة الكبرى التي انتهت إليها الثقافات المتطورة، وفيها الحل الأوحد لأزمة الإنسان المسلم وإخراجه من الأزمان القديمة الراكدة إلى الزمن الجديد الذي يصوغ حياته صياغة جديدة، وينقذها من سلبيات القرون الأخيرة، ومآسيها التي حطمت طاقات الأمة وأوقفت مسيرتها التنموية.

إن الفراغ الفكري الذي حدث نتيجة لغياب المذهبية الإسلامية الواضحة وسيطرة فكر الجمود التواكل والخرافة على الأمة، وتوجيه الثقافة المعاصرة من قبل المؤسسات التنصيرية والاستشراقية الاستعمارية كان مأساة تاريخية كبرى في العالم الإسلامي، انتهت إلى عزل أجيالنا المثقفة عن الثقافة عن الثقافة الإسلامية الأصلية عزلاً، كاد أن يكون كاملاً، في حين سيطرت الثقافات المادية والعلمانية مسطرة تامة على مؤسساتنا الجامعية والتعليمية ودوائرنا الثقافية والإعلامية التي غدت تفكر وتخطط لتغيير الحياة في العالم الإسلامي بمعزل عن الإسلام عقيدة وشريعة وسلوكاً، لا بل عدّت تلك الدوائر الإسلام بكل أنظمته وشموله فكراً لاهوتياً رجعياً وطبقت عليه المعايير المادية الأوروبية الحديثة ومواقفها تجاه الكنيسة وفكرها من خلال فهم تاريخ الإسلام في ضوء التاريخ الأوروبي الحديث.

إن هذه المأساة التاريخية حدثت في ظل جهل مركب بالإسلام ديناً وحضارة وتاريخاً، ثم عدم الاستعداد لتصحيح الخطأ الكبير والانحراف المشين والجهل الفاضح.

إن كل المعنيين بتاريخ الإسلام في العصر الحديث، لا حظوا ثمار تلك المأساة من خلال الاحتكاك الواقعي ومن خلال دراستهم لأنماط الكتابات التي تتحدث عن مختلف نواحي الحياة السياسية والاجتماعية والاقتصادية والتربوية والفلسفية.

إن مئات الدراسات الجامعية وغير الجامعية وعشرات المجلات الفكرية والدوريات العامة كانت تمشي في خطين متوازيين:

أولهما:

تجاهل الإسلام تجاهلاً كاملاً.

ثانيهما:

الجهل المركب به وبحضارته وقضاياه.

كان الناس يقرأون على سبيل المثال، في كتب الاقتصاد، في الجامعات وغيرها، كل شيء حول الاقتصاد ومذاهبه وتاريخه، دون ذكر أي شيء عن الاقتصاد الإسلامي، علماً ومذهباً وتاريخاً، وإن ذكر فيذكر خلال جهل مركب وسخرية واستهزاء.

لقد سئل أحد أكابر الاقتصاديين العرب الماركسيين في قاعة إحدى الجامعات العربية، عما يعرفه حول الاقتصاد الإسلامي، فأجاب:

لم أقرأ حول هذا الموضوع أيّ شيء.

وسئل آخر، فأجاب مستهزئاً:

"أستطيع أن أقول إن الاقتصاد الإسلامي اقتصاد وأسمالي بدائي ".

وعندما سأله الطلبة أن يعطيهم بعض المصادر حول الاقتصاد الإسلامي قال:

تستطيعون مراجعة كتاب الخراج الأبي يوسف، وعندما راجعني بعض هؤلاء الطلبة، فأعطيته قائمة بأسماء الكتب الاقتصادية الإسلامية الحديثة ومن بينها عدة رسائل جامعية فواجه بها الأستاذ في قاعة الدرس، أخفى الأستاذ موقفه الجاهل المخجل بقوله:

"أنا أدرِّس الاقتصاد وليس الدين "!!..

وإذا التفتّ إلى كثير من علماء القانون والاجتماع والفلسفة وعمل النفس وغير ذلك من مظاهر الثقافة في المجتمع الإنساني تجد هذا الجهل واضحاً وضوحاً كاملاً.

وقد يقول قائل: إنكم تظلمون المثقفين المعاصرين، فكيف يجوز أن يجهل كبار مثقفينا الإسلام ؟

نقول… استمع إلى واحد من أكابر أساتذة الفلسفة المعاصرين يعترف بهذه الحقيقة، وهو الدكتور زكي نجيب محمود الذي يسمونه بفيلسوف الوضعية المنطقية في العالم العربي:

لم تكن قد أتيحت لكاتب هذه الصفحات في معظم أعوامه الماضية فرصة طويلة الأمد، تمكنه من مطالعة صحائف تراثنا العربي على مهل، فهو واحد من ألوف المثقفين العرب الذين فتحت عيونهم على فكر أوروبي - قديم أو جديد - حتى سبقت إلى خواطرهم ظنون بأن ذلك هو الفكر الإنساني الذي لا فكر سواه، لأن عيونهم لم تفتح على غيره لتراه، ولبثت هذه الحال مع كاتب هذه الصفحات أعواماً بعد أعوام: الفكر الأوروبي دراسته وهو طالب، الأوروبي مسلاته كلما أراد التسلية في أوقات الفراغ…

استيقظ صاحبنا - كاتب هذه الصفحات - بعد أن فات أوانه أو أوشك، فإذا هو يحس الحيرة تؤرقه فطفق في بضعة الأعوام الأخيرة التي قد لا تزيد على السبعة أو الثمانية، يزدرد تراث آبائه ازدراد العجلان كأنه سائح مرّ بمدينة باريس، وليس بين يديه إلا يومان، ولا بد له خلالهما أن يريح ضميره بزيارة اللوفر، فراح يعدو من غرفة إلى غرفة، يلقي بالنظرات العجلى هنا وهناك، ليكتمل له شيء من الزاد قبل الرحيل…(34).

نعم لقد بدأت الصورة تتغير ببطء خلال العقود الأخيرة، بعد أن تحررت الدراسات الإسلامية الحديثة من كتب المتأخرين المغلقة ومن أساليب التعليم العقيمة ومظاهر مصر التأخر، وقدمت في جميع فروع الفكر الإنساني أنظمة الإسلام التفصيلية في دراسات جامعية، تعتمد البحث والاستنتاج والمقارنة في ضوء أصول الإسلام ومتغيرات الحياة الجديدة، بحيث اقتحمت تلك الدراسات العميقة الناضجة مجالات الثقافة الواسعة على الرغم من العوائق الكبيرة التي توضع أمامها من حيث المنع أو الإعلام أو النشر أو النقد، فبدأ كثير من الباحثين والعلماء في مختلف نواحي العلوم الإنسانية يعيدون النظر في مواقفهم ويخرجون من قوقعة ثقافاتهم الأوروبية، ليدرسوا عقيدتهم وشريعتهم وما قدمه مفكروهم عبر التاريخ من دراسات ونظريات.

ونستطيع أن أولئك المثقفين إلى صنفين:

صنف كانت دراساته للإسلام ومنهجه وحضارته عميقة شاملة، انطلق فيها من خلال حب الوصول إلى الحقيقة فوصل إلى نتائج باهرة، وأعلن في كتبه ومحاضراته التزامه بالإسلام ومبادثه العامة الملزمة للمسلمين في كل عصر(35).

وصنف آخر لا يزال يصارع ثقافاته الماضية التي شكلت بقوة خلفيته الثقافية واقتناعاته الإنسانية. وهذا الصنف يدرك من الإسلام بقدر ما يبذل من جهد وصدق نية، وبقدر ما يحمل نفسه على التخلص من التعصب والرواسب والهوى.

والحق أن هناك أسباباً كثيرة تحول بين الصنف الأخير وبين عودته إلى رحاب الإسلام نستطيع أن نعرضها على الوجه الآتي:

- الأول:

إن الإنسان الذي تربى على مصطلحات وأفكار الثقافات الأجنبية وشاب عليها من الصعوبة البالغة أن يتحرر منها، لأنه تعوّد أن ينطلق منها ويفكر خلالها، فهو إن لم يقرأ الإسلام وحضارته قراءة عميقة من داخله وفي إطار مصطلحاته ووحدته، لا يمكن أن تحدث في كيانه هزة عميقة، تحوله إلى خط الإسلام الواضح.أما الاكتفاء بمراجعة بعض جوانب الفكر الإسلامي أو قراءة جانب من جوانب ما يسمى بـ"التراث " فهو قد يصحح بعض المفاهيم والأخطاء ولكنه لا يكفي لنقل صاحبه إلى الخط الإسلامي الصحيح لا سيما إذا كانت قراءته سطحية سريعة اقتصرت على بعض مظاهر التطور في الفكر الإسلامي الذي لا يخلو من سلبيات قد يحسبها على الإسلام نفسه(36).

- الثاني:

قد ينطلق الباحث من ثقافته الغربية ويحاول أن يسقطها على الإسلام وحضارته ودراسة مفكريه، أي إنه يحكم من خلال ضوابط وخصوصية نمط حضاري على نمط آخر يختلف عنه اختلافاً جذرياً، وهذا على القطع يقود إلى الخطأ في النتائج، فبعض الباحثين على سبيل المثال يدرسون من خلال فكرهم العلماني الغربي سواء أكان ماركسيا أم ليبرالياً "ابن رشد " فيجدون أنه يدعو إلى أن يمشي البرهان الفلسفي في طريقه والدين في طريقه، فيظنون أن ابن رشد يدعو على فصل طريق العقل عن الدين، فيسقطون على مقولة ابن رشد علمانيتهم فيقولون: إن العمانية ليست جديدة وإنما هي من صلب أفكار مفكرينا القدماء، لا يسما من أصاب المذاهب العقلية الفلسفية، ويوهمون الجيل الجديد أن العقلانية الحديثة أو العلمانية الحديثة لا تشكل خطراً على الإسلام ولا تصطدم معه.

بينما هم ينسون أن ابن رشد كان يفكر في إطار الحضارة الإسلامية، وقوله طريق العقل وطريق الدين لكل بناؤه الداخلي، يعني من وجهة نظره، أن للعقل أساليبه الخاصة في التفكير وللدين طريقه في الوصول إلى الحقيقة، إلا أنهما يلتقيان في الحقيقة عينها، أي إن ابن رشد يقول لنا:

إننا إذا اقتصرنا على البرهان العقلي فلا محالة أن نصل إلى ما قرره الإسلام في أصوله من حقائق عليا.

وهذا واضح جداً في كتابه "فصل المقال " و "مناهج الأدلة " وكتبه الفلسفية الأخرى.

- الثالث:

وهنالك باحثون آخرون(37) ينطلقون في فهم الإسلام من خلال واقعه التاريخي الفكري في مجالات العلوم الإنسانية كلها. وهذا الواقع يحمل خصائص الفكر الذاتي وأخطاء وقصور العقل البشري، كما يحمل سلبيات وانحرافات المراحل المتتابعة التي نتجت من الاحتكاك المباشر بين الحضارة الإسلامية والحضارات الأخرى، وكذلك المخططات الثقافية التي نسج خيوطها الأعداء في أوكار التآمر على الإسلام وأمته خلال تاريخه الطويل.

إنهم لا يدركون أن الإسلام من حيث هو وحي إلهي مستقل عن الزمان والمكان وأن الثقافات المتنوعة التي نسجت حوله، تمثل أشخاصاً وعصوراً، ومن هنا فلا بد من الفصل الكامل عند الحكم بين الوحي والفكر أو الوحي والتراث حتى تكون المراجعة واضحة ومفيدة.

هل يكون تقبل ابن سينا لأفكار أرسطو وغنوصية الشرق ممثلاً للإسلام نفسه؟ وهل كل ما يقوله المعتزلة والأشاعرة والمتصوفة، يمكن أن يكون هو الإسلام نفسه؟ أم هو الفكر المتأثر بالحضارات الدخيلة وطبيعة الصراعات المرحلية، وهل كل ما يقوله الفقهاء يجب أن يحسب بالتالي على الإسلام.

إن الذي يريد أن يحكم على هذه القضايا المصيرية الخطيرة، لا بد أن يعرضها على أصول الإسلام القاطعة في الكتاب والسنة، إن كان لا يزال يعتقد بعصمة الوحي الإلهي.

إنني أعتقد اعتقاداً جازماً أن التطورات الثقافية في العالم الإسلامي في صالح المذهبية الإسلامية. إذ ما من يوم نشرق الشمس فيه على العالم إلاّ ويظهر دليل جديد على أحقية مذهبية الإسلام في الكون والمجتمع والإنسان.

إننا ندعو المثقفين الذين لا يزالون مسلين أن يدرسوا الإسلام دراسة شاملة ومختصة كلِّ من خلال اختصاصه، حتى لا يحكموا على قضايا الحياة من جانب واحد، يبعدهم عن الإسلام ومذهبيته الواضحة في الوجود. على أن يكون في ذلك الوصول إلى الحقائق كما هي، في ضوء منهج علمي موضوعي، بعيد عن المناهج المسبقة، والمصطلحات المادية، والمبادئ التي تعود إلى منظومات حضارية تتنافى مع أصول الإسلام.

إن المسلم الذي يعتقد أن الإسلام هو دين الله الخاتم يفرض عليه منطق الإيمان أن ينطلق من أصوله وفي إطار ضوابطه وقواعده، ولا يجوز أن يتخذ من الثقافات الأجنبية والمذاهب المادية والاتجاهات العلمانية التي آمن بها في غياب فهم صحيح للإسلام، حجة على الإسلام ، يحاول أن يحرف مبدئه وضوابطه في سبيل أن يسوغ خلفيته الثقافية الأجنبية التي شكلتها ثقافات متنوعة تصطدم مع الإسلام في أصوله وقواعده وأنظمته الحيوية.

على هؤلاء أن يذكروا موقفهم بين يدي رب العالمين، إن كانوا يؤمنون بالله واليوم الآخر، عندما يحاسبهم الله تعالى عما ارتكبوه من الأخطاء والآثام بحق دينهم وأمتهم، لأنهم لم يتبعوا طريق الإسلام الحق، بل شوهوا الحقائق وحرفوا الشرائع، وزيفوا الأفكار، فاقتدى بهم كثيرون من أبناء جيلنا الحائر القلق.

إنهم يحملون أوزار هؤلاء مع أوزارهم، نرجو الله تعالى لهم الهداية والاستقامة، ولنا الثبات على دينه، ونعوذ بالله تعالى في ختام هذه الصفحات من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، ونردد بإخلاص قوله تعالى على لسان المنيبين إليه:

((ربَّنا لا تُزِغْ قُلُوبَنا بَعْدَ إذْ هَدَيْتَنا وَهَبْ لَنا مِن لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أنْتَ الوَهّابُ. ربّنا إنّك جامِعُ النَّاسِ لِيَوْمِ لاَ رَيْبَ فِيهِ. إنَّ اللهَ لاَ يُخْلِفُ الْمِيعاَد )). وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.

--------------

الدكتور محسن عبد الحميد

• ولد في مدينة كركوك - العراق عام 1357هـ - 1937م.

• تخرج في جامعة بغداد - كلية التربية عام 1380هـ - 1959م.

حصل على درجة الماجستير عام 1387هـ - 1967م. ودرجة الدكتوراه عام 1392هـ - 1972م. من جامعة القاهرة.

• أستاذ مادة التفسير والعقيدة والفكر الإسلامي الحديث في جامعة بغداد.

• له عدة مؤلفات في أصول التفسير، ومنهج التغيير الاجتماعي في الإسلام، والاقتصاد الإسلامي. . . إلى جانب أبحاث ومقالات فكرية متنوعة في الثقافة الإسلامية والتيارات الفكرية المعاصر

===============

# الحرمان والتخلف في ديار المسلمين

تقديم : بقلم الأستاذ عمر عبيد حسنة

الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ، بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهد الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلاّ الله وأن محمد صلى الله عليه وسلم عبده ورسوله ..

الحمد لله القائل في محكم آياته: ( ما أفاء الله على رسوله من أهل القرى فلله وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل كيلا يكون دُولَةٌ بين الأغنياء منكم وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا واتقوا الله إنّ الله شديد العقاب )(الحشر: 7 ). وبعد:

فهذا الكتاب السابع في سلسلة (كتاب الأمة ) التي تصدرها رئاسة المحاكم الشرعية والشؤون الدينية (التخلف والحرمان في ديار المسلمين ) للدكتور نبيل صبحي الطويل، يأتي مساهمة منه في تحقيق الوعي الثقافي الإسلامي إلى جانب العطاء الصحفي وتبصير المسلمين بمشكلاتهم، وإغناء مسلمي اليوم بالرؤية الشمولية عن عالم المسلمين، وبيان الثغور المفتوحة التي تقتضي حق الأولوية في المرابطة، ووضع القادرين من المسلمين أمام مسؤولياتهم، وإذكاء حسهم باستشعار هذه المسؤوليات، وتجديد ذاكرتهم نحو الإسلام، وتحديد المعاني الإسلامية السامية في نفوسهم.. إنه إحدى محاولات تجديد الفهم الإسلامي بعد أن ترسبت عليه أوضاع اجتماعية معينة، أو ترسب هو على عادات وتقاليد ليأخذ شكلها ولتصبح شيئاً فشيئاً من الإسلام أو هي الإسلام!! في نظر بعضنا؛ وتصويب مفهوم العبادة وتحقيق العبودية بالنسبة للمسلمين الموزعين في المواقع المختلفة: فهناك عبادة خاصة بالأغنياء، وعبادة خاصة بالعلماء، وعبادة خاصة بالحكام والأمراء، وعبادة خاصة بالفقراء وطلاب العلم والقائمين على الحراسة في سبيل الله إلخ .. إلى جانب القدر المفروض والمشترك من الصيام والصلاة وبقية التكاليف في بناء الإسلام ..

فعبادة الأغنياء وعبوديتهم: أن يؤدوا شكر النعمة بإعطاء الفقير حقه:( والذين في أموالهم حق معلوم للسائل والمحروم ) (المعارج:24 ) ذلك أن الله عز وجل جعل حقوق الفقراء أمانةً عند الأغنياء، فإذا جاع الفقير أو عري فبظلم من الغني، فإذا حاول الأغنياء الاقتصار على الصلاة والصيام والحج وأداء النوافل وقعدوا عن إعطاء الفقراء حقهم وظنوا أنهم خرجوا من عهدة التكليف فقد أخطؤوا فَهْمَ التكليف الإسلامي، وأخطؤوا طريق العبادة وتحقيق العبودية..

وعبادة العلماء: قولة الحق والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لئلا يضل الناس أو يضللوا، وألاّ تأخذهم في الله لومة لائم،وألاّ يشتروا بآيات الله ثمناً قليلا من منصب أو جاه أو مال.. حتى لا تنتقل للأمة المسلمة علل أصحاب الأديان السابقة الذين كانوا لا ينهون عن المنكر ولا يستنكرون فعلاً محرماً، قال تعالى: ( لولا ينهاهم الربانيون والأحبار عن قولهم الإثم وأكلهم السُّحْتَ لبئس ما كانوا يصنعون ) (المائدة: 63 )، فاستحقوا اللعن والسقوط حتى أصبحوا أثراً بعد عين ..

وعبادة الحكام: الحكم بما أنزل الله وتحقيق العدل، والوقوف إلى جانب الضعيف والفقير والانتصاف له من القوي (القوي فيكم ضعيف عندي حتى آخذ منه الحق، والضعيف فيكم قوي عندي حتى آخذ له بحقه ).. إنه ميزان العدالة وطريق العبودية الحقة لله تعالى..

وعبادة الفقراء: الصبر على الواقع وعدم الانكسار أمامه والاستسلام له، الصبر الذي يحمي النفوس ويصقل المواهب، ويفتح النوافذ ويجمع الطاقات ويدفع إلى الانطلاق لتحقيق الكسب..

وعبادة طلاب العلم : النبوغ في اختصاصاتهم لتحقيق فرص الكفاية لمجتمعاتهم ـ التكافل الاجتماعي والاكتفاء الذاتي ـ ذلك أن التحقق بالاختصاص والنبوغ فيه بالنسبة لهم أصبح فرض عين بعد اختيارهم لطريقه؛ وعدم النكوص والسقوط في الفهم المعوج وترك مقاعد الدراسة والتخصص باسم مصلحة الإسلام ومتطلبات الدعوة الإسلامية.. وهكذا فئات المجتمع عامة كل تأتي عبادته وتحقيق عبوديته لله عز وجل بأداء ما أنيط به، وليس من الإسلام أداء بعض النوافل والمندوبات بالنسبة للأغنياء والقعود عن الفرائض والواجبات من إعطاء الفقير حقه، ومخادعة النفس بأن ذلك هو التقوى والصلاح المطلوب، فقد يكون ذلك من تلبيس إبليس ..

لقد افتقد مسلم اليوم ـ إلاّ من رحم الله ـ الرؤية الإسلامية الشاملة على مستوى التصور والتطبيق معاً، فبدأ يعيش حالة التبعيض التي تورث الخزي (أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض فما جزاء من يفعل ذلك منكم إلا خزي في الحياة الدنياويوم القيامة يردون إلى أشد العذاب وما الله بغافل عما تعملون ) (البقرة: 85 ) وافتقد تبعاً لذلك الإحساس بترابط الجسم الإسلامي الواحد بعد عمليات البتر والتقطيع التي مورست عليه، فغابت الحقيقة الإسلامية المتمثلة في قول الرسول صلى الله عليه وسلم: ( مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى ) لقد قطعت أوصال الجسم الإسلامي فلم يعد المسلم اليوم يحس بما يصيب سائر الجسد، و( من لم يهتم بأمر المسلمين فليس منهم.. ) لقد غابت عن عالم المسلمين اليوم الأصول النفسية للتكافل الاجتماعي التي غرسها الإسلام، غاب مدلول الأخوة وحقوقها مرتكز هذه الأصول جميعاً، قال تعالى:

(إنَّمَا المؤمنون إخوة فأصلحوا بين أخويكم واتقوا الله لعلكم ترحمون ) (الحجرات:10 ) وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم (المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يسلمه ولا يحقره ) فكيف نسلم الكثير من المسلمين اليوم إلى الفقر والفاقة والظلم الاجتماعي والاستبداد السياسي ؟! .

وغاب مفهوم الرحمة، وهي الغاية التي من أجلها نزلت شريعة الله عز وجل، قال تعالى: (وما أرسلناك إلاَّ رحمةً للعالمين ) (الأنبياء: 107 ) وغاب مفهوم الإحسان، وهو عدم الاقتصار على إعطاء الناس حقوقهم عدلاً وإنما التنازل لهم عن بعض حقوقنا، إحساناً، والله تعالى يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى.. وغاب مدلول المحبة التي هي من ثمرات الأخوة والتي بدونها لا يستقيم إيمان ولا تتحقق نجاة وفوز(لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه ) وغاب مفهوم الإيثار الذي كان يحكم جماعة المسلمين في الشدة والرخاء، قال تعالى: (ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة ) (الحشر:9 ) .

ولم يقتصر الإسلام في حمايته مجتمع المسلمين على غرس الأصول النفسية للتكافل، وبذلك تنتهي التعاليم الإسلامية إلى وصايا خُلُقية تحاكي الضمير، وإنما أوجد إلى جانب ذلك التشريعات التكافلية الملزمة من نظام الزكاة والميراث والنفقات الواجبة، وحرس استمرارية هذه المعاني بالتربية في جانب الأصول النفسية، وبالعقوبات الملزمة للتشريعات المالية، وبالرقابة العامة الدائمة على ذلك، ـ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وظيفة كل مسلم ـ من جانب آخر..

وفي اعتقادنا أنه في غيبة تشريعات التكافل الاجتماعي الملزمة بسبب غياب الشريعة الإسلامية عن التطبيق لا بد من التأكيد على هذه الأصول النفسية التي هي في طبيعتها أسبق من التشريعات الملزمة، والمقدمة الطبيعية للانتهاء إليها..

ونعود إلى القول: إنه لا بد من مراجعة لفهمنا للإسلام وتجديد هذا الفهم الذي أنتج هذا الواقع الذي نحن عليه، وإن قبولنا بهذا الفهم يعني رضانا بهذا الواقع .. لقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيما يرويه عنه أبو سعيد الخدري رضي الله عنه: (من كان له فضل ظهر فليعد به على من لا ظهر له، ومن كان له فضل زاد فليعد به على من لا زاد له .. ) يقول أبو سعيد: فذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم أصنافاً من المال ـ غير الظهر والزاد ـ حتى رأينا أنه لا حق لأحدنا في فضل .

إن الظهر والزاد لم تذكر هنا على سبيل الحصر، وإنما ذكرت على سبيل المثال كما هو معلوم، لقد مثل الرسول صلى الله عليه وسلم بها وبغيرها من الأموال ـ فذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم أصنافاً من المال ـ حتى انتهى رأي الصحابة رضوان الله عليهم فيما يرويه أبو سعيد: حتى رأينا أي انتهى رأينا.. أنه لا حق لأحدنا في فضل .. إنه يحرُمُ الادخار أيام الشدائد والأزمات، التي تتعرض لها الأمة.. الأمر الذي لم تقل به أكثر المذاهب تطرفاً وادعاءً للتكافل الاجتماعي أو للضمان الجماعي، حتى وصل الأمر ببعض الصحابة إلى القول بتحريم الادخار دائماً، وتحديد الكنز بأنه ما زاد عن حاجة يومك في كل الأوقات مما كاد يوقع المسلمين في حرج .. فكان جواب سيدنا عمر رضي الله عنه على ذلك بقوله: لماذا شرعت الزكاة إذن ؟. أليست شرعة الزكاة هي عن المدخرات المملوكة التي يحول عليها الحول ؟

ومن هنا نقول : إن الادخار يصل إلى مرحلة التحريم وقت الحاجات والشدائد والأزمات ..

هذا كله عدا عن نفي الإيمان عن الذي يبيت شبعان وجاره جائع وهو يعلم (والله لا يؤمن من بات شعبان وجاره جائع وهو يعلم ) ولا يتسع المجال هنا لذكر بعض الفتاوى في هذا السبيل التي تؤكد على عنصر الإلزام في الموضوع، كفتوى ابن حزم وغيره لأنها معروفة في مظانها من كتب الفقه، لكن الذي أردنا إليه هو تحديد موقع الفقراء والمحرومين في المجتمع الإسلامي ..

إن الحصانة الإسلامية ضد الأفكار والمبادئ الهدامة سوف لا تتأتى باستعارة الإسلام والمبادئ الإسلامية كشعار يرفع في المناسبات، ويكون وسيلة للوصول إلى السلطة أو الاحتفاظ بها، ولا بإطعام فقراء المساكين في المواسم، الدينية وإطعامهم الخطب والمواعظ والكلام والوعود، وإنما بمعالجة الأسباب التي تستدعي هذه المبادئ إلى عالم المسلمين؛ ولو بذل علماء المسلمين الجهود في تربية وتوعية أغنياء المسلمين على الإسلام الباذل ومناصحة أولي الأمر ليقوموا بمسؤولياتهم تجاه ذلك لما احتاجوا إلى مهاجمة هذه المبادئ التي سوف لا تجد طريقاً إلى بلاد التكافل والعدالة الاجتماعية والتغرير بالفقراء ووعدهم بالفردوس المفقود حيث ترتفع آمالهم ويشتد فقرهم.. إن بعض العلماء الذين يستأجرون ليغدقوا على الفقراء الخطب دون أن يجهروا ببيان الأسباب، أسباب الفقر، ومعالجتها سوف لا يجدون آذاناً صاغية من الجماهير الفقيرة ، هذه الجماهير التي تشكل عدة الأمم في السلم والحرب على حد سواء، فهي سواعد الإنتاج في السلم، ودروع البلاد في الحرب، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (إنما ترزقون وتنصرون بفقرائكم ) .

من هنا نقول: إن هذا الكتاب وضع أغنياء المسلمين وولاة أمرهم أمام مسؤولياتهم، وأوضح لهم بالأرقام تلك الثغور المفتوحة التي سوف يؤتون من قبلها إن عاجلاً أو آجلاً إذا لم يتداركوا الأمر، ووضع العاملين للإسلام ودعاته في الصورة الدقيقة ليحددوا بعدها أولويات العمل وساحات الجهد الحقيقي ..

لقد قدم الدكتور نبيل صبحي الطويل في هذا الكتاب إحصائيات لواقع البؤس والمرض والجهل والتخلف والأمية في أكثر من بلد إسلامي من خلال تجربته الميدانية وطبيعة عمله في منظمة الصحة العالمية، ولا شك عندنا أن هذه الإحصائيات غائبة غياباً يكاد يكون كاملاً عن العاملين في الحقل الإسلامي فكيف بعامة المسلمين، إن الإحصاء أصبح علماً له وسائله وطرقه، كما أصبح ضرورة لا يستغنى عنها في رسم خطط التنمية، إنه بالنسبة للعمل الصحيح ووضع الخطط أشبه بما يسبق عملية البذر من دراسة للتربة وتحديد لنوعيتها، ودراسة لكمية الأمطار والمناخ الملائم، ومن ثم يأتي اختيار البذر المستنبت .. وقد يكون الأمر الخطير في عالم المسلمين اليوم فيما وراء فسق المترفين الذين هم دائماً سبب دمار هذه الأمم وسقوط حضارتها، وأقنية القاذورات والأمراض الجنسية والانحلال الذي يتسرب إلى جسمها.. قد يكون الأمر الخطير عند المسلمين اليوم: فقدان جدول الأولويات، وليست مسألة تصنيف الإنفاق وتحقيق التكافل بأحسن حالاً من قضاياهم الأخرى الكثيرة التي تغيب فيها جدولة الأولويات وتتغيب الحسابات!! فقد تقدم أموال في بعض بلدان العالم الإسلامي لمشاريع خيرية وفقراء تعتبر إذا ما قيست بالفقراء الذين لا يجدون الكفاف في مناطق أخرى من صور الترف والرفاهية، والعالم الإسلامي كالجسد الواحد، فما بالنا نساهم بتكريس تمزيقه وتقطيع أوصاله ؟ لقد بحث فقهاؤنا أولوية الحاجة، ولعل الذي يرجع إلى بحثهم حول: أيهما أشد حاجة إلى العطاء.. الفقير أم المسكين من مصارف الزكاة، وإذا لم يجد الإنسان إلاّ أن يعطي أحدهما ؟! بَيَّنَ الشافعية والحنفية ما يدلل على هذا النظر الثاقب والبصيرة الواعية التي غابت عن عالمنا ..

ولست بحاجة إلى القول هنا : إن العالم الإسلامي هو عالم متكامل اقتصاديا، إنه يمتلك الطاقة التي تحرك العالم، ويمتلك المساحات الواسعة والمياه والمناخات المختلفة التي تؤهله لأن يكون مخزن العالم بالغذاء أيضاً.. فإذا أضيف إلى ذلك كله العقيدة الوسط، فإن العالم ينتظر دوره في قيادة البشرية إلى الخير وإلحاق الرحمة بها .. لقد قام بعض المتخصصين في الجغرافيا ـ الأستاذ عمر الحكيم رحمه الله ـ بتقديم دراسة رقمية عن واقع العالم الإسلامي المتكامل اقتصادياً.. القادر على أن يكون مخزن غذاء العالم وطاقته في المستقبل فيما إذا أحسنت قضية الاستثمار: فهل من سبيل إلى ذلك لتنتهي مشكلة الفقر في العالم الإسلامي ويتحقق النصر ؟! .

إن تحقيق التكافل الاجتماعي من شروط نهوض الأمم وبناء المجتمعات، وحسبنا أن نعلم أن المسلمين في جيش العسرة (غزوة تبوك ) بعد أن نفد زادهم في طريق العودة، اشترك العشرة منهم في امتصاص التمرة الواحدة، فكان ما كان من النصر والتمكين، فأين واقعنا اليوم من التحقق بشروط النصر ؟

وبعد : فكم نتمنى أن يتفرغ الدكتور نبيل، وهو الطبيب الأديب بما أتيح له من مجال بطبيعة عمله أو طبيعة طوافه على معظم بلاد العالم الإسلامي، ليقدم دراسة اجتماعية اقتصادية ثقافية لمجتمعات المسلمين التي شاهدها لتكون دليل عملٍ للمسلم اليوم، وألاّ يوزع اهتماماته في أكثر من موقع، فليس المستشرقون والمنصَّرون أحق بذلك ..

ونحب أن نؤكد بأننا عدلنا عن ذكر بعض النماذج لصور التخلف والحرمان في بلاد المسلمين لندع الأخ القارئ وجهاً لوجه أمام هذه الأرقام المفزعة على صفحات الكتاب، والله حسبنا ونعم الوكيل.

==============

# الصبح .. موعدنا

عندما أغلقت عيادتي وضربت .. في الأرض، قبل عقدين من الزمان، للعمل في إطار الصحة العامة على المستوى الدولي، لم يجل بخاطري، ـ آنذاك ـ، أنني، بذلك، أنتقل من المحيط الصغير للفرد المريض والعائلة الفقيرة.. إلى المحيط الكبير للمجتمعات الأفريقيةـ الآسيوية المسحوقة والشعوب المحرومة في ديار المسلمين.

ومثلما حاولت جهدي ـ في محيطي الضيق ـ القيام بواجب التوعية، كأحد أبناء هذه الأمة الصابرة، لتغيير المنكر قلباً ولساناً ويداً، أسعى الآن ـ في المحيط الأرحب ـ؛ ذلك أن: (القيام بخدمة المجتمع وتقديم العون له ـ وخصوصاً للفئات الضعيفة فيه ـ عبادة رفيعة القدر لم يُحسنها كثير من المسلمين اليوم برغم ما ورد في الإسلام من تعاليم تدعو إلى فعل الخير وتأمر به وتجعله فريضة يومية على الإنسان المسلم ) (1 ).

والفقر والمرض، والجوع والعطش، والأمية والجهل هي ـ فضلاً عن آلامها ومصاعبها ـ من ثغور الإسلام المفتوحة التي ينفذ منها الأعداء .. تحت ستار المساعدة على مكافحة التخلف !!، فالمرابطة فيها دفاعاً عن عزّة الإيمان وكرامة المؤمنين، ورفعاً للظلم عنهم، فرض عين على كل القادرين من ذوي الاختصاص وذوي السعة .

ومن هذا المنطلق جاءت هذه الدراسة عن أحوال المسلمين المحرومين والمآسي التي يُعانونها وأبعادها أفقياً وعمودياً ـ جغرافياً وسكانياً ـ، ومضاعفاتها وعقابيلها،.. لعل هذا العرض الموضوعي الموثق يوضح الصورة المحزنة.. بل المخجلة أمام الله، ويثير الاهتمام اللازم، ويحث على العمل الجاد، ويُذكِّر الجسد الواحد أن كثيراً من أعضائه يألم فلتتداع البقية بالسهر والحمى، ليكون المؤمنون في التواد والتراحم والتكافل كما وصفهم الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم: (مثل المؤمنين في تراحمهم وتوادّهم وتعاطفهم كمثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى ) [رواه الشيخان ]؛.. إن أردت إلاّ الإصلاح ما استطعت وما توفيقي إلا بالله .

فإلى المستضعفين في الأرض أقدم جهدي هذا سعياً متواضعاً في سبيل تحسين حالهم وتخفيف آلامهم، بانتظار أن يعمهم العدل الشامل.. يوم يحكم الإسلام .. عسى أن يكون هذا اليوم قريباً بإذن الله .. والصبح .. موعدنا.

(قُل اللهم مالك الملك تؤتي الملك من تشاء وتنزع الملك ممن تشاء وتعز من تشاء وتذل من تشاء بيدك الخير إنك على كل شيءٍ قدير ) (آل عمران: 26 ).

=============

# الفقر

( لو كان الفقر رجلاً .. لقتلته)

[ علي بن أبي طالب كرم الله وجهه ]

- ماهو الفقر ؟

- أفقر الدول العالم - مسلمة !!

- تلازم الفقر والمرض

- البلاد المعدمة ( الأكثر تخلفا والأقل نموا )

- الدول النامية - أم الدول الفقيرة ؟ !

- تراكم الديون الخارجية العامة لبعض دول العالم المسلمة

ما هو الفقر ؟

يُعرف الفقر الآن بأنه (عدم القدرة على الحصول على الخدمات الأساسية )؛ وهذه الخدمات هي أساسية لأنها توفر الحد الأدنى اللازم ـ الكفاية ـ لكي يعيش الإنسان، خليفة الله في الأرض، عيشه كريمة تليق بمستوى التكريم الذي خصَّه الله به ( ولقد كرمنا بني آدم ).

والخدمات الأساسية هذه هي حق من حقوق الإنسان في الإسلام، إن لم يستطع الحصول عليها بعمله وإنتاجه ومدخوله لأي سبب وجيه، على الدولة القائمة أن توفرها له.

( إن الإنسان خليفة الله في أرضه، قد استخلفه عليها لينمي الحياة فيها ويرقيها، ثم ليجعلها ناضرة بهيجة ثم ليستمتع بجمالها ونضرتها، ثم ليشكر الله على أنعمه التي آتاه. والإنسان لن يبلغ من هذا كله شيئاً إذا كانت حياته تنقضي في سبيل اللقمة.. ولو كانت كافية، فكيف إذا قضى الحياة فلم يجد الكفاية ؟ )(2 ) .

ولقد استعاذ الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم من الفقر والكفر في حديثه الصحيح: (اللهم إني أعوذ بك من الكفر والفقر )؛ وذكر عليه الصلاة والسلام حق الإنسان الآدمي في هذه (الخدمات الأساسية ) في حديث آخر:(ليس لابن آدم حق في سوى هذه الخصال: بيت يسكنه، وثوب يواري عورته، وجلف الخبز والماء ): أي المسكن المناسب ـ له ولأهله ـ، والكساء اللازم ـ له ولأهله ـ، والغذاء الضروري من طعام متوازن كاف وماءٍ نظيف يمنعان عنه وعن أهله الجوع والعطش، فيأمن، هو وأهله، غائلة الأيام ويكون صحيحاً في بدنه ونفسه وبيئته التي يعيش فيها.

وإذا جاءت منظمة الصحة العالمية، في أواسط القرن العشرين، بتعريفها الجامع للصحة فذكرت أن (الصحة هي حالة من اكتمال السلامة بدنياً وعقلياً واجتماعياً.. لا مجرد انعدام المرض أو العجز ) (3 )، فالرسول الكريم صلى الله عليه وسلم أوضحها قبل أربعة عشر قرناً من الزمان في معرض توجيهه للمؤمنين في القناعة والاطمئنان والرضى في هذه الحياة إذا توفرت لهم هذه (الأساسيات )، قال صلى الله عليه وسلم: (من أصبح آمناً في سربه، معافى في بدنه، عنده قوت يومه، فكأنما أجيزت له الدنيا بحذافيرها ) أي توفر الأمن والأمان في النفس والبدن والمجتمع (وهذا ما يسمونه في هذه الأيام الأمن النفسي والأمن الغذائي والأمن الاجتماعي ).

والقناعة والرضى والزهد هي من الخصال التي يتحلى بها صفوة المؤمنين الأتقياء.. بعد أن ينالوا حقوقهم الأساسية المذكورة ـ الكفاية ـ، فيرتقون درجات في الإحسان والتكاسل عن طلب الحقوق الأساسية.. ليس زهداً؛ فعلي المسلم أن ينال حقوقه هذه ويتمتع بها، فإن وقف دونه ظلم (سعى لدفع الظلم عنه بكل ما أوتي من قوة بالوسائل التي شرعها الإسلام، فالسكوت على الظلم والصبر على الظالمين مع إمكان دفعهم عن ظلمهم، أمر غير محمود في الإسلام، وإذا كان الإسلام أجاز قتال الإنسان عن ماله واعتبره شهيداً إذا قُتل [من قتل دون ماله فهو شهيد ] فما بالك بمن يدفع عن نفسه غائلة الجوع والهلاك ) (4 ) .

(وقد شرَّع الإسلام قواعد إلزامية لتحرير البشر من الفقر دون أن يقتصر على الحض ترغيباً وترهيباً، وبدافع التقوى على تخليص الناس من الفقر وتخفيف وطأته عنهم بمشاركتهم ومواساتهم، بل سلك الطريقين معاً الإلزامية والداخلية النفسية، وبهذه يتضح لنا خطأ القائلين بالرضى بالواقع بحجة أن الله قد قسَّم الأرزاق بين الناس وجعل منهم الفقراء والأغنياء. إن الله أمرنا ألا نرضى بالظلم والفساد والشرك والجهل مع أنها كلها من تقدير الله وقضائه بل أمرنا بالإنكار والتغيير بل محاربة هذه الظاهرات الاجتماعية لإحلال العدل والفضيلة والإيمان والعلم محلها، وما يصاب به الإنسان من مرض أو هلاك نفسٍ أو مالٍ عليه أن يدفعه عن نفسه )(5 ) .

وصدق الله العظيم :

(والذين إذا أصابهم البغي هم ينتصرون. وجزاءُ سيئةٍ سيئةٌ مثلها فمن عفا وأصلح فأجره على الله إنه لا يحب الظالمين. ولمن انتصر بعد ظلمه فأولئك ما عليهم من سبيل. إنما السبيلُ على الذين يظلمون الناس ويبغون في الأرض بغير الحق أولئك لهم عذاب أليم )

(الشورى: 39 ـ 43 ).

هذا هو ( الطابع الأساسي الدائم للجماعة المسلمة ).

أفقر دول العالم - مُسلمة !!

الفقر .. الذي كاد أن يكون كفراً، هو الحرمان في أشد حالاته. تقول مصادر الأمم المتحدة: إن أكثر من نصف سكان ( بنغلاديش )، البالغ عددهم (92 ) مليوناً من البشر، يعيشون دون مستوى الكفاف.( وتنقل وكالة رويتر للأنباء أن عشرة بالمائة من سكان العاصمة (داكا )،والبالغ مجموعهم 5.2 مليون نسمة، هم من(الشَّحَّادين ) الذين يسهمون بنصيب في الجريمة والدعارة، وتمثل النساء 34% منهم، وتتراوح أعمار 12% منهنَّ بين 12ـ17 سنة (6 ) .

ولا حاجة للاسترسال في نقل ما كتبته الوكالة عن أحوال هؤلاء الفقراء المعدمين فلقد شاهدتم منذ سنوات يفترشون، بالآلاف، أرصفة الشوارع حتى إنه يستحيل على المارة المشي على الأرصفة في المساء، فالأجساد الهزيلة المريضة الجائعة تتكدس بأسمالها البالية متراصة على جوانب الطريق. وكلما استعدتُ هذه المشاهد المؤلمة في ذاكرتي تداعت معها بالمقابل كلمات الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم: ( ليس مني من بات شبعان وجاره جائع، وهو يدري )، ( أيما أهل عَرصَةٍ أصبح فيهم امرؤ جائع فقد برئت منهم ذمة الله )، ( المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يسلمه ) .. فأين التكافل الإسلامي المفروض؟

ولقد وضع علماء الاجتماع مقاييس كمية لمدى انتشار الحرمان في العالم باعتماد مؤشرات تقريبية معينة منها: نقص التغذية في الفرد،ومتوسط العمر المتوقع عند ولادته ، ومدى انتشار الأمية، وغيرها؛ أما التغذية فحاجة بدنية أساسية لازمة، وأما متوسط عمر الفرد فيعكس مدى تأثير مختلف أنواع الحرمان؛ وأضيف إلى هذين المقياسين البيولوجيين، عنصر الأمية كمؤشر للحرمان من التطور الاجتماعي.وتعطي هذه المؤشرات الثلاثة، بنظر خبراء الأمم المتحدة، صورة موجزة وواضحة لمدى انتشار الفقر في مظاهره الشائعة.

وعلى هذا الأساس صنفت هيئة الأمم المتحدة عام 1971م دول العالم حسب المقاييس، في جدول مقسم إلى ثلاث فئات: دول متقدمة، ودول نامية فقيرة، ودول معدمة ( أكثر بلاد العالم فقراً وتخلفاً.. مادياً )، ـ أو الأقل نمواً ـ !!، أما الفئة الأولى ـ المتقدمة ـ فتشكل 25% من سكان العالم وهي في 37 دولة تعدادها حوالي (1100 ) مليون نسمة. والدول النامية تشكل، مع الدول المعدمة 75% من سكان العالم، ومجموع دولها ـ آنذاك ـ (89 ) دولة، أما سكانها فيبلغون (3000 ) مليون نسمة، وحددت الجمعية العمومية للأمم المتحدة عام 1971م الدول المعدمة ـ الأكثر تخلفا ً ـ بـ 24 دولة ثم أضيفت إليها أربع دول أخرى عام 1975م، وزيدت ثلاث أخرى عام 1977م، وأخيراً رفعوها إلى ست وثلاثين دولة بعد إضافة خمس دول أخر. وقالوا إن هذه الدول ـ الأقل نمواً ـ كما سموها صنفت هكذا(7) على أساس شروط ثلاثة قائمة فيها:

1- إجمالي الدخل القومي للفرد كان أقل من (100 ) دولار أمريكي في العام

2- كان نصيب الصناعة من إجمالي الدخل القومي لا يتعدى 10%.

3- كانت نسبة الأمية فيها 80% أو أكثر.

(25 ) دولة منها في أفريقيا، و(8 ) في آسيا، و(2 ) في أوقيانوسيا وواحدة في أمريكا، وأغلبية سكان هذه الدول (في آسيا وأفريقيا ) .. هم من المسلمين، وأربع دول منها أعضاء في جامعة الدول العربية !! وهذا هو جدول بأسمائها ومواقعها:

أفقر دول العالم ( وأكثرها تخلفاً )

في آسيا

في أفريقيا

26 - أفغانستان 15- بورندي 1- تشاد

27- بنغلاديش 16- بنين 2- غينيا

28- بهوثان 17- بوتسوانا 3- مالي

29- اليمن - في الشمال 18- ليسوتو 4- النيجر

30- اليمن - في الجنوب 19- ملاوي 5- الصومال

31- جزر المالديف 20- رواندا 6- السودان

32- نيبال

21- أوغندا 7- غامبيا

33- لاوس- في أوقيانوسيا 22- جيبوتي 8- تنزانيا

34- جزيرة ساموا- الغربية 23- غينيا الاستوائية 9- فولتا العليا

35- تونجا- في أمريكا 24- ساوتومي 10- الحبشة

36- هاييتي 25- سيشيل غينيا بيساو-11

12- جزر القمر

13- أفريقيا الوسطى

14- الرأس الأخضر

والجدول التالي يبين نسبة الفقر بين السكان في بعض الدول الأفريقية الآسيوية حيث تعيش غالبية المسلمين(8 ) .

نسبة الفقر بين السكان

أفريقيا

السنة

دخل الفرد بالدولار- عام 1970

نسبة الفقر

شمالي نيجيريا

1970 - 71م

-

51 %

الصومال

1976

65 في العام

70 %

غانا

1970

57 - 71 " "

أكثر من50 %

سيراليون

1977

80 " "

55 %

تنزانيا

1969

43 " "

65 %

كينيا

1974 - 75م

51 " "

40 %

مصر

1974 - 75م

87 " "

28 %

آسيا

السنة

دخل الفرد بالدولار- عام 1970

نسبة الفقر

أندونيسا (جاوا)

1977م

38 " "

80 %

ماليزيا

1970م

115" "

55 %

بنغلاديش

1975

46 " "

74 %

الهند

1975م

51 " "

56 %

الفلبين

1970م

89 " "

59 %

إيران

1975 =- 76م

92 " "

38 %

كيف ينظر للفقر في هذا العصر ؟

( في الوقت الحاضر يحدد الفقر والظلم الاجتماعي الذي يلازمه، بوصفهما العقبتين الرئيستين اللتين تعترضان سبيل التنمية الاجتماعيةـ الاقتصادية وتحسين نوعية الحياة ) (9) .

سنة 1978م كان حوالي (800 ) مليون شخص ـ أي 40% من سكان البلدان (النامية )ـ يعيشون في فقر مطلق، وأغلبهم في أرياف جنوبي آسيا وأندونيسيا وأفريقيا الاستوائية؛ ورغم نسبة أن الفقر في أفريقيا أعلى، إلا أن عدد الفقراء في آسيا أكثر من عددهم في أفريقيا لأن عدد سكان آسيا أكثر بكثير من عدد سكان القارة الأفريقية(10 ).

مقارنة

في البلدان الفقيرة نجد أن 87% من السكان يعيشون في الريف، و77% من البالغين ـ فوق سن الخامسة عشرة ـ أميون، و48% من الأولاد في سن الدراسة، غير ملتحقين بالمدارس الابتدائية، و75% من السكان لا تتاح لهم مياه نقية صالحة للشرب .

أما في البلدان ذات الدخل المتوسط فالنسبة هي: 57% من السكان هم في الريف، و37% من البالغين أميون، و3% من الأولاد ـ في سن الدراسة ـ غير ملتحقين بالمدارس الابتدائية، و48% من السكان لا تتاح لهم مياه صالحة للشرب(11 ) .

تلازم الفقر والمرض

( لقد جرى، مراراً وتكراراً، إثبات العلاقة القائمة بين الثروة المادية ومؤشرات الحالة الصحية، كما جرى بصورة خاصة إيضاح أن متوسط العمر المتوقع عند الميلاد، ونسبة وفيات الرضع، يرتبطان على نحو وثيق بمؤشرات التنمية الاقتصادية مثل الناتج الإجمالي للفرد ) (12 ) .

كذلك أظهرت الدراسات، في الولايات المتحدة نفسها، العلاقة بين الدخل والمرض، فلقد تبين أنه توجد لدى أفراد الأسر الفقيرة أمراض مسببة للاعتلال والعجز( الطويل والقصير الأمد )، أكثر مما في الأسر ذات الدخل المرتفع، كذلك الأمر في عدد أيام التغيب عن المدرسة والعمل، في كل الأعمار من الجنسين ذكوراً وإناثاً والطريف أن هذه الحالة قد استمرت رغم تنفيذ برامج توفير الرعاية الصحية للمسنين ولمن يعيشون على دخول منخفضة. كما أن التخلف العقلي.. يزيد انتشاره بين الذين يولدون في بيئة فقيرة، ويرجع ذلك إلى ارتفاع نسبة المخاطر المقترنة بالولادة من ناحية، وبالحرمان الثقافي ـ التعليمي ـ من ناحية أخرى (13 ) .

لذا ( فليس غريباً أن يكون الوضع الصحي في البلاد المتخلفة .. متخلفاً أيضاً مثل الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية والتربوية والتقنية ) (14 ) . فهو ـ أي الوضع الصحي ـ على صلة وثيقة بهذه الأوضاع كلها يفعل فيها ويتفاعل بها؛ فالصحة تلعب دوراً هاماً ـ سلباً أو إيجاباً ـ في الوضع الاقتصادي، والفقر، كما هو معروف، حليف المرض كما هو حليف الجهل، ولقد أوضح البروفيسور البريطاني (ونسلو ) التأثير المتبادل بين الفقر والمرض بقوله: ( في البلاد الفقيرة يمرض الرجال والنساء لأنهم فقراء.. ويزيد فقرهم عندما يصابون بالأمراض، ويشتد المرض عليهم لأنهم فقراء معدمون.. وهكذا تتشكل الحلقة المفرغة ويستمر دوران المساكين المسحوقين فيها ) (15) .

فقر

اشتداد المرض مرض

زيادة الفقر

بعض الأرقام المُعبِّرة:(16)

في الجدول التالي مقارنة بين المؤشرات الصحية في البلاد المتقدمة والبلاد المتخلفة والبلاد المعدمة:

البيان

البلادالمتقدمة

البلاد المتخلفة (النامية)

أفقر بلاد العالم

عدد السكان

1131 مليوناً

3001 مليوم

283 مليوناً

متوسط العمر المتوقع عند الولادة

72 سنة

60 سنة

45 سنة

نسبة وفيات الرضع (لكل ألف ولادة )

19 / بالألف

41 / بالألف

200/ بالألف

وزن الوليد

5ر2 كيلوغرام أو أكثر

في 93 %

من الولادات

في 83%

من الولادات

في 70

من الولاات

نسبة المستفيدين

من الماء الصالح للشرب

100 %

41 %

31 %

الناتج القومي للفرد الواحد في العام

6230 دولاراً

520 دولارً

170 دولاراً

نسبة الأميين في البالغين

2 %

45 %

72 %

معدل الإنفاق العام على القطاع الصحي للفرد الواحد في السنة

244 دولاراً

62 دولاراً

7ر1 دولار

عدد السكان لكل طبيب

520

2700

17000

وهكذا نرى من الجدول أن خمس المواليد في الدول الفقيرة المعدمة يموتون في العام الأول لحياتهم؛ وفي عام 1981م مات 17 مليون رضيع في العالم، أكثر من 13 مليون منهم كانوا من الدول الفقيرة في أفريقيا وجنوبي آسيا(17 ) .

ويقول الخبراء إن سوء التغذية هو عامل منفرد في زيادة وفيات الأطفال في الدول الفقيرة؛ ولقد قدّر أنه هو العامل المسبب لـ 28 % من وفيات الأطفال ـ دون سن الخامسة ـ في نيجيريا، و76% في مصر(18 ) .

كذلك يؤثر سوء التغذية في البلاد المعدمة على النساء الحوامل وعلى مواليدهن، فهناك 30% من المواليد دون الحد الأدنى للوزن الطبيعي؛ أما في البلاد المتقدمة الغنية فهذا أمر نادر الحدوث لا يقع إلاّ في 7% من حالات الولادة، ولا خطر منه في تلك البلاد فالحاضنات الاصطناعية والعناية الفائقة في دور التوليد ترعى الوليد الناقص الوزن إلى أن يستوي على عوده .

أما الماء الصالح للشرب فليس متوفراً إلاّ لأقل من ثلث السكان في البلاد المعدمة، ويحضرني هنا في هذا المجال، قول السيدة( بربارا وورد ) في موضوع توفير المياه الصالحة للشرب للناس الذين لا يحصلون عليها:

( إن الدول المتقدمة تصرف مائة مليار دولار سنوياً على الخمور، كذلك تصرف حكومات العالم مجتمعة ثلاثمائة مليار دولار (19 ) سنوياً على التسلح، ويكفي استعمال 3% فقط من مصروفات الخمور أو تخفيض 1% فقط من مصروفات التسلح لكي تتوفر المياه النظيفة للعالم كله ) (20 ) .

وفقدان الماء الصالح للشرب، ونقص الغذاء، والأمراض التي تنتج عنهما، بالإضافة للأمراض السارية الأخرى، تسبب وفاة أربعين ألف طفل في العالم كل يوم، كلهم تقريباًـ وبالتحديد 97% منهم ـ من الدول الفقيرة. وينام حوالي (100 ) مليون طفل كل يوم جائعين، ويصبح عشرة ملايين من هؤلاء الجائعين معوقين جسمياً وعقلياً، يقول السيد/

( جيمس غرانت ): إن البنك الدولي قدر سنة 1980م أن عدد الناس الذين يعيشون في فقر مدقع بـ (780 ) مليوناً وتنبأ أن عددهم سينخفض في أواخر الثمانينيات ليصبح (720 ) مليون نسمة فقط .. إلاّ أن النظرة المتشائمة تقول: إن عددهم سيزيد ليصبح (800 ) مليون نسمة خلال هذه الفترة(21 ) .

البلاد المعدمة ( الأكثر تخلفاً والأقل نمواً )

لا تشكو هذه الدول فقط من نقص المصادر والموارد المادية، يُقعدها عن تحسين حال مواطنيها، بل هي مرهقة أيضاً بالتضخم المالي

طفل مصاب ( بسوء التغذية ) في أفريقيا

المتزايد؛ يضاف إلى قسوة هذه العوامل الاقتصادية والاجتماعية. كما هو مبين في الجدول السابق، خشونة المناخ والجغرافيا، فأكثر أراضي هذه الدول غير مضيافة وأغلبها واقع في ما يسمى بحزام المرض، ومعرض تعرضاً شديداً للكوارث الطبيعية، وسكان هذا الحزام هم أشد المحرومين بين المحرومين في العالم كما سماهم الرئيس الفرنسي ( فرنسوا ميتران )؛ فهم ضحايا مزيج من القوى الاقتصادية والجغرافية والسياسية والإدارية لا يستطيعون السيطرة عليها.

بلاد ( الساحل ) أو حزام الجفاف الشديد

يمتد حزام الجفاف الشديد من غربي أفريقيا إلى شرقيها على أطراف الصحراء ـ من جزر الرأس الأخضر غرباً حيث يدوم موسم المطر يومين يتيمين فقط في السنة، إلى الصومال شرقاً حيث تنفق المواشي بالآلاف من العطش القاتل؛ والدول الموجودة على طول هذا الحزام هي : جزر الرأس الأخضر، غامبيا ، مالي، النيجر، فولتا العليا، تشاد ، موريتانيا، غينيا بيساو، نيجيريا، الصومال، السودان الحبشة ، وكل هذه الدول مسلمة!

والحاجة ملحة فيها لإيجاد الغذاء محلياً ـ طعاماً وشراباً ـ بالإضافة إلى عمليات مكافحة (التصَحُّر ) أي توسع الصحراء باستمرار على حساب الأراضي الصالحة للزراعة؛ ويتزايد ( التصحّر ) بسبب الحرائق في الغابات، وقطع الأشجار بدون ضوابط، والرعي المبالغ فيه. ومشكلة الغذاء هي مشكلة حياة أو موت، والحاجة المستعجلة كانت تبلغ (830 ) ألف طن من الحبوب بينما لم تتعهد دول العالم لهذه البلاد الجائعة إلاّ بـ 255 ألف طن عام 1979م ـ 1980م لذا ارتفع العجز في الحبوب إلى مليون طن بينما المساعدات الموعودة لا تغطي إلا ربع المطلوب .

ولا تستطيع الأمم المتحدة ووكالاتها المتخصصة وحدها حمل كل أعباء المساعدة للدول الفقيرة لأن ميزانيتها محدودة، ومن الطريف أن ميزانية إطعام القطط والكلاب في الولايات المتحدة الأمريكية تعادل خمسة أضعاف ميزانية الأمم المتحدة في نيويورك، ففي عام 1979م صرف على القطط والكلاب الأمريكية 2ر3 مليار دولار بينما كانت ميزانية الأمم المتحدة لعام 1981م 683 مليون دولار فقط(22 ) !! .

مشكلة اللاجئين

يضاف إلى كل ما تقدم ذكره من بؤس وشقاء ومجاعة وجفاف وعطش، تدفق اللاجئين من وإلى دول ( الساحل ) هذه، فلقد كان عدد اللاجئين في أفريقيا عام 1981م أكثر من ستة ملايين، وهم في ازدياد مستمر حتى الآن، ونصف اللاجئين تقريباً من الأولاد، وأكثر هؤلاء اللاجئين هم من البلاد المسلمة: مثل تشاد، أوغندا، الصومال، إريتريا، الحبشة، ويتحمل السودان والصومال في الوقت الحاضر أكبر الأعباء فهما يستوعبان ـ سوية ـ ملايين اللاجئين.

أما اللاجئون المسلمون في آسيا فأعدادهم في تزايد مطرد أيضاً من الفيليبين وكمبوديا، وفيتنام وبورما وأفغانستان والهند ـ آسام ـ وفي رأس القائمة اخوتنا من فلسطين، ويحتاج موضوع اللاجئين المسلمين في العالم إلى أن يُفرد له كتاب خاص، لعل أحد المهتمين من شباب الإسلام المطلعين يقوم بهذا الواجب في المستقبل القريب إن شاء الله

مشكلة النزوح المستمر من الريف إلى الحضر

المدينة بأضوائها وأسواقها والخدمات الموجودة فيها تجذب الريفي الطموح خاصة إذا كان عاطلاً عن العمل . وحركة الهجرة المستمرة من القرية إلى المراكز الحضرية ليست حكراً على بلاد العالم (النامي )، فهي عارض عام، إلاّ أن درجة النزوح هائلة في العالم الفقير لأسباب عدة منها فترات البطالة المتقطعة ـ بين المواسم الزراعية ـ، وضعف المدخول، وانعدام الخدمات ماء وكهرباء ومجار ير، ومدارس وعناية صحية إلخ ـ وغياب الحاجيات الضرورية بعض الأحيان.. كل هذه عوامل دافعة نابذة من الريف إلى المدينة، التي تجذب بدورها، الريفي البسيط بمغرياتها المادية المتعددة.

ولكن كثيراً ممن قاموا بهذه الخطوة المغامرة، تحت ضغوط الظروف المعيشية، لم يلقوا ما أمَّلوه، فالمساكن مفقودة بالنسبة لأمثالهم، والخدمات معدومة، والعمل ليس ميسراً دائماً؛ وعدم اهتمام المسؤولين بالتنمية الجدية للأرياف المحرومة تجعل العودة إلى القرية شبه مستحيلة، أضف إلى ذلك العامل النفسي في الخيبة بل وربما الشماتة التي قد يقابل بها العائدون الذين هجروا أصولهم في سبيل حياة متمدنة (أفضل ) كانت حلمهم .!

والمشكلة الحقيقية هي في المعيشة الصعبة لهؤلاء، النازحين وأكثرهم من العمال غير المهرة لأنه لم تتيسر لهم فرص التدريب والتعلم. إنهم يعيشون في أكواخ من الصفيح والخشب البالي الرقيق يتكدسون على بعضهم بعضاً في مساحات ضيقة ينقصهم الماء الصالح للشرب، والطعام المتوازن الكافي، وتحيط بهم بيئة ملوثة حيث تتجمع القمامة والأوساخ والمياه الآسنة والذباب والحشرات والجرذان والفئران والحيوانات الشاردة الأخرى؛ وهذا المحيط مثالي لانتشار الأمراض، خاصة السارية منها، وظهور سوء التغذية وأعراضه. وبما أن تخطيط المدن الجديدة أمر لم تعرفه أكثر المراكز الحضرية في العالم (النامي ) حتى الآن لا توجد أية استعدادات لتقديم الخدمات الضرورية لهؤلاء المساكين، فتتعقد أمورهم الحياتية في ثالوث الجهل والفقر والمرض، وفقدان الأمن النفسي الغذائي، وتفشي الانهيار الخلقي والانحرافات النفسانية، وتكثر الأمراض الجنسية، ويغيب القانون كلياً عن مثل تلك الأجواء وتسود شريعة الغاب: سرقة وجريمة وعنف وجنوح.. تدور حياة هؤلاء الذين يعيشون على هوامش المدن الكبرى في الحلقة المفرغة دون أمل في حل قريب لهذه المآسي ؛ وكلما ازداد عدد سكان هذه المراكز الحضرية الكبرى تزداد المشكلة اتساعاً وعمقاً وتعقيداً فتنهار الخدمات، على بساطتها أصلاً، ويحصل انقطاع التيار الكهربائي، والماء، وتحصل الاختناقات في السير وتكثر الحوادث على الطرق، وتزيد الضوضاء ويتضاعف عدد المدمنين على الكحول والمخدرات، وتنقص المواد الأساسية وتتوتر الأعصاب وتظهر المشاجرات لأتفه الأسباب. ويشكل هؤلاء التعساء على حواشي المدن جزءاً كبيراً من المحرومين في ديار المسلمين .

لقد زرت، وعشت، أياماً وأشهراً، في كثير من هذه الحواضر الكبرى في ديار المسلمين: (لاغوس ) في نيجيريا ـ سكانها 6ر4 مليون نسمة ـ و(القاهرة ) في مصر ـ وفيها حوالي 8 ملايين نسمة ـ و (كراتشي ) في باكستان ـ وفيها [5 ] ملايين نسمة، و (جار كرتا ) في إندونيسيا ـ وفيها حوالي 6 مليون نسمة ـ و ( داكا ) في بنغلادش ـ وفيها حوالي 5ر2 مليون نسمة ـ؛ ورأيت فيها جميعاً التناقض المخيف بين من يملكون الملايين ومن لا يملكون شروى نقير، بين البيوت الفخمة والشوارع العريضة وبين الأكواخ الخشبية والطرق الضيقة، بين الحدائق الغناء في الأحياء السكنية الراقية وبين أكوام القمامة والأوساخ وتجمعات المياه الراكدة والحفر والحشرات والفئران على حواشي الحواضر الكبرى هذه وفي أحيائها القديمة؛ بين نظافة الثياب الأنيقة للفتية في الأماكن الموسرة والأجسام الممتلئة بل وربما المترهلة شحماً ودهناً من التخمة.. وبين الأسمال والخرق البالية على الأجساد الضعيفة الهزيلة المريضة الجائعة؛ بين الفنادق الفخمة ـ ذات النجوم الخمسة ـ وكثير منها للأجانب ـ وبين المقعدين المعوقين من الشحادين الفقراء صغاراً وكباراً .. على أبواب هذه الأبنية الرائعة .

يحدث هذا كله في ديار المسلمين والله تعالى يقول لهم: ( والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض ) ( التوبة : 71 ) .

وكان نبيهم الكريم صلى الله عليه وسلم لا يترك شيئاً في داره إلاّ وزعه على الناس المحتاجين، وكان خلفاؤه الراشدون يحملون على أكتافهم أكياس الدقيق إلى الأرامل والمساكين، وكان أنموذج العدل الإسلامي لدى أولي الأمر( الخليفة عمر بن عبد العزيز ) يكفي الناس جميعاً حتى إنهم لم يجدوا في عهده من يحتاج لمال زكاة أو صدقة. والرسول القائد والقدوة، صلوات الله وسلامه عليه، هو الذي قال :

إن الأشعريين ـ قبيلة من اليمن ـ كانوا إذا أجدبوا أو أرملوا ـ أي افتقروا وأصابهم الجدب والقحط ـ، جمعوا ما عندهم من زاد واقتسموه بينهم بالسوية .. فهم منِّي وأنا منهم (23 ) ومن تاريخ الإسلام في العهد العباسي نعرف( أن الحكومات المتعاقبة تعهدت بتقديم الرعاية الصحية المجانية للمواطنين جميعاً دون تمييز في الأديان والمذاهب ) (24 ) .. فهل نكون رجعيين ـ يا ترى ـ إذا طالبنا الآن ، بعد أكثر من اثني عشر قرناً هجرياً أن تعود الرعاية الصحية المجانية للمواطنين كما كان الحال في العهد العباسي ؟!

إن مشكلة النازحين من الريف إلى المدن الذين يعيشون على هامش الحواضر.. بل على هامش الحياة هي ـ أي المشكلة ـ تتمة الصورة البائسة للاجئين وللمحرومين عموماً في ديار المسلمين.

الدول النامية.. أم الدول الفقيرة ؟!

تشكل ديار المسلمين الجزء الأكبر من العالم الثالث في أفريقيا وآسيا .. هذا العالم الذي يُسميه الغرب ـ نفاقاً وخداعا ً ـ: ( الدول النامية ) ! والعالم كله، كما هو معروف مقسوم الآن إلى (عالم الشمال ) الغني المتقدم تكنولوجياً، والمستغِل ـ بكسر الغين ـ؛ و( عالم الجنوب ) الفقير المتخلف المستغِل ـ بفتح الغين ـ، ولكن الغرب ـ الرأسمالي والماركسي على السواء ـ يتحاشى ظاهراً استعمال كلمة التخلف والفقر ويُطلق على العالم الفقير المعدم تعبير ( الدول النامية ) والخبث في هذا التعبير يظهر من معنى الكلمة بالإنجليزية

[ Developping ] أو بالفرنسية [En Voie de development ] فهي توحي بالحركة القائمة مع أن واقع هذه الدول هو العكس تماماً، ففي عالم الجنوب ( استنقاع ) اقتصادي إن لم نقل تراجعاً وتأخراً. يقول الاقتصادي البريطاني ( بريان آيل سميث ) :

(هناك دلائل كثيرة على أن الأوضاع المادية لمجموعات كبيرة من الناس في العالم الثالث هي أسوأ مما كانت عليه منذ عقدين من الزمان ) (25 ) .

ورغم ما يشاع ويذاع ويملأ الأسماع عن المعونات الخارجية للدول (النامية ) .. فإنها .. لا تنمو !! بل تزداد فقراً على فقر؛ يقول (جورج وودز ) المدير السابق للبنك الدولي في المعونات الاقتصادية:

( إذا استمر الحال على هذا المنوال تكون كمية رؤوس الأموال الخارجة من الدول النامية أكثر من البالغ التي دخلتها في فترة خمسة عشرعاماً وذلك بسبب الفوائد المرتفعة ) (26 ).

وتؤكد مصادر أخرى هذا الرأي فتقول :

( هناك درجة من المصداقية في القول بأن مساعدات التنمية زادت ( الطين بلَّة ) وجعلت الدول النامية المستلمة للمساعدات أسوأ مما كانت عليه .. قبل أن تُساعد ) (27 ).

ولعل أطرف الأمثلة وأحدثها عما تفعله ( المعونات الخارجية ) هو قصة صندوق النقد الدولي مع مصر في اتفاق برنامج التثبيت الاقتصادي والذي عقده البنك مع جمهورية مصر العربية للفترة ما بين 1978م - 1981م، وكان الهدف المعلن لهذا البرنامج هو إخراج مصر من أزمتها الاقتصادية وتقليل نسبة عجز ميزانها التجاري؛ وفي الدراسة التي أجراها الدكتور رمزي زكي الخبير الأول في معهد التخطيط القومي المصري ظهر أن (الصندوق ) دخل مصر عام 1978م وهي مدينة بـ ( 8000 ) مليون دولار .. وخرج (الصندوق ) إيّاه منها عام 1981م وهي مدينة بأكثر من (18000 ) مليون دولار .. أي أن كل مواطن مصري كان مديوناً بـ (422 ) دولار للعالم(28 ) .

وتفصيلاً للديون المصرية كتبت ( ناهد فريد ) في مجلة صباح الخير ما يلي: ( إن إجمالي الديون المصرية حسب دراسة البنك الدولي للإنشاء والتعمير بلغ في منتصف عام 1982م ( 2ر19 ) مليار دولار وهكذا أصبح ترتيبنا التاسع بين أكبر الدول المدينة في العالم .

كان إجمالي ديون مصر في بداية عام 1970م 6ر1 مليار دولار

وفي نهاية عام 1973م 1ر2 مليار دولار

وفي نهاية عام 1976م 10 مليار دولار

وفي عام 1980م 054ر13 مليار دولار

وأصبح في منتصف عام 1982م 2ر19 مليار دولار

ولو قسمت الديون هذه الديون المتراكمة على عدد السكان لوجدنا أن الفرد الواحد مديون عالمياً بحوالي (420 ) دولاراً في السنة، والغريب أن دخل الفرد الواحد أيضاً لا يتعدى (460 ) دولاراً في السنة ) (29 ) .

وتذكر دراسة أخرى ملخصاً لواقع الحياة الاقتصادية في مصر تحت العنوان التالي: (تضاعف أعباء الديون (7 ) مرات في أقل من 6 سنوات وزيادة العجز التجاري 40 مرة ) (30 ) .

وبمناسبة الحديث عن الديون الخارجية وتراكمها في كثير من الدول المسلمة أعرض الجدول التالي وفيه بعض الأرقام المذهلة التي ـ تزايدت بصورة هائلة في العقد الماضي (ما بين 1970 ـ 1980م ) بحيث شكلت في عام 1980م أكثر من خمسين بالمائة من إجمالي الناتج القومي.

وكما أن الدين بالنسبة للفرد هو هَمٌّ بالليل وذلٌّ بالنهار، كذلك ديون الدولة المستدينة التي تصبح عالة على دائنيها معتمدة عليهم اعتماداً كليّاً في حياتها وحياة شعوبها. وإذا تذكرنا أن الدول الكبيرة هي الدائنة في الغالب، أو المؤسسات الدولية الخاضعة لها نجد كيف تؤثر هذه الدول الكبيرة في سياسات الدول الفقيرة المدينة ( في سياساتها الداخلية والخارجية ) ومن أراد الاستزادة في موضوع المعونات يمكنه الرجوع إلى الكتاب الذي أشرت إليه قبلاً.

تراكم الديون الخارجية العامة لبعض دول العالم المسلم (32)

الدولة

عام 1970

عام 1980

المبلغ بالملايين

بالدولار

الأمريكي

النسبة المئوية

من إجمالي

الناتج القومي

المبلغ بالملايين

بالدولار

الأمريكي

النسبة المئوية

من إجمالي

الناتج القومي

أفغانستان

454

-

1094

-

باكستان

3059

5ر30 %

8875

7ر34 %

السودان

308

3ر15 %

3097 (32)

2ر37 %

اليمن الجنوبي

1

-

499

-

أندونيسيا

2443

1ر27%

14940 (32)

5ر22%

موريتانيا

27

8ر16%

714

7ر139%

مصر

1644

8ر23%

13054

7ر51%

المغرب

711

18%

7098

6ر38%

نيجيريا

478

4ر6%

4997

5ر5%

تونس

541

2ر38%

2955

9ر33%

سورية

232

8ر12%

24.93 (32)

1ر20%

تركيا

1854

4ر14%

13216

4ر22%

الجزائر

937

3ر19%

15073

7ر38%

السنغال

98

6ر11%

906

9ر34%

ولا يقتصر عدم التوازن في المداخيل عالمياً على وجود دول غنية ودول فقيرة، بل هناك في الدول الفقيرة خلل كبير في التوازن الاقتصادي والاجتماعي؛ وإليكم هذا المثل الآخر عن الظلم الاجتماعي في ديار المسلمين، من بلد صغير هو لبنان: يقول الكاتب الاقتصادي السيد/ عدنان كريمة في دراسة طريفة عن (أصحاب الملايين ) في لبنان ما يلي:

كلمة [مليونير ] ـ أي رجل يملك مليوناً من الليرات اللبنانية كحد أدنى ـ لم تعد مستهجنة في الثمانينيات كما كانت في الستينيات .. وبعض الشيء في السبعينيات، ففي الستينيات كان في لبنان حوالي (500 ) مليونير ( وسكان لبنان هم أقل من ثلاثة ملايين نسمة )؛ وقد ارتفع الرقم في نهاية العام 1972م إلى حوالي (900 ) مليونير ثم ازداد عدد (المليونيريين ) خلال السبعينات فوصل في نهاية علم 1979م إلى حوالي (12000 ) مليونير وقفز في العام الماضي ـ أي 1982م ـ إلى أكثر من عشرين ألفا (33) ً ومن المعروف أن الحرب الأهلية المستعرة، وغزو إسرائيل للبنان خَلَّفت مئات ألوف الأيتام والمشردين والمعوقين والجياع من فلسطنيين ولبنانيين بالإضافة لأكثر من مائة ألف قتيل وجريح وتدمير شديد لوسائل المعيشة لجميع الطبقات .

يقول السيد/ ( عدنان كريمة ) في آخر مقاله عن أصحاب الملايين في لبنان :

(( لا يختلف خبيران على وجود خلل كبير في التوازن الاقتصادي والاجتماعي في لبنان والحل المطلوب لإزالة هذا الخلل لا يكون بالطبع زيادة عدد (المليونيريين ) ولا بمضاعفة الرواتب والأجور بل بتقريب الفوارق قدر الإمكان بين فئات الشعب، ورفع مستوى ذوي الدخل المتدني، وهنا تكمن مسؤولية الدولة في الإسراع بأخذ المبادرة والدخول بقوة إلى ثلاثة قطاعات رئيسة هي: السكن والتعليم والصحة، لأن توفيرها يعتبر (( صمام الأمان )) الوحيد للمشكلة الاجتماعية، ويساهم في الوقت نفسه في لجم ( غول ) التضخم )) .

وهناك في ديار المسلمين مئات ألوف أصحاب الملايين وربما وصل عددهم إلى (المليون ) إلا أن المسلمين في العالم هم ألف مليون عدداً.. أي واحد بالألف يجعلون المال ( دُولة بينهم ) وتسعمائة وتسعة وتسعون يشكون إلى الله العدل والتكافل المفقودين.

يجري كل هذا والمسلمون يسمعون قول الله الكريم في محكم تنزيله.

( ما أفاء الله على رسوله من أهل القرى فلّله وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل كي لا يكون دُولة بين الأغنياء منكم وما آتاكم الرسول فخذوهُ وما نهاكم عنه فانتهوا واتقوا الله إنّ الله شديد العقاب )( الحشر: 7 ) .

ويقول آخر تقرير اقتصادي: (( إن حجم الديون الإجمالية لدول العالم الثالث حالياً هو بين 600 ـ 1000 مليار دولار، وأشار التقرير الذي أصدرته وزارة التنمية في ألمانيا الاتحادية أن حوالي ( 660 ) ملياراً هي ديون الدول (النامية ) في آسيا وأفريقيا )) (34 ) .

إذن ( مهزلة ) الدول ((النامية )) ! ستستمر طالما أن ( عالم الشمال ) يعيش في بحبوحة على حساب بؤس وانسحاق وحرمان آلاف الملايين من سكان (عالم الجنوب )، فمنه تُسرق ـ حتى الآن المواد الخام والمنتجات الزراعية أو تُشترى بأبخس الأثمان ثم تُصّنع وفي الغرب المتقدم لتعود بأسعار فاحشة، وليس من مصلحة المستغل تقدم وتطور و(نمو ) المستغل (بفتح الغين )، ووقوفه على قدميه اقتصادياً وسياسياً. لذلك لم تنجح ( تمثيليات ) ! المعونات الاقتصادية والفنية للدول النامية ولن تنجح إذا استمر الشمال في استغلال الجنوب بهذه الصورة الشنيعة رغم بعض الأصوات الحرة القليلة المعارضة التي تنادي ـ في الغرب ـ بإيقاف هذه الطريقة الظالمة المُذلة في العلاقات الاقتصادية بين أغنياء العالم وفقرائهم، يقول المفكر الفرنسي المعاصر روجيه غارودي ( أو رجاء غارودي بعد أن شرح الله قلبه بالإسلام ): ( لا يغرب عن بال أحد أن النعيم المادي الذي ترتع المجتمعات الغربية في بحبوحته مبني على بؤس سكان العالم الثالث.. وهم أربعة أخماس المعمورة. وليس من المعقول أن يستمر خمسمائة مليون من الغربيين في تنعمهم ورفاهيتهم.. بل في بذخهم، في الوقت الذي يوجد فيه على الضفة الأخرى من العالم حوالي أربعة مليارات من الجياع يعيشون في فقر مدقع ) (35 ).

ويلخص (جيمس غرانت ) المدير التنفيذي لصندوق الأمم المتحدة للطفولة ـ اليونسيف ـ الموقف اليائس بقوله : باختصار تفاؤل الستينيات، والذي قاد إلى واقعية السبعينيات .. تراجع الآن أكثر ليترك المجال للشك والتشاؤم الذي يظهر أنه طابع الثمانينيات. إنها خيبة الأمل التي ازدادت حدَّة وظهرت دلائلها بتناقص إسهام الدول الغنية في مساعدتها للفقراء، وعام 1965م ناشدت الأمم المتحدة للمرة الأولى الدول المعطية أن تزيد مستوى مساعداتها لتصبح (37ر0% ) (36) من إجمالي الناتج القومي وكان ـ آنذاك ـ (049ر %) فقط؛ واليوم ورغم جهود دول قليلة تعد على رؤوس الأصابع، والتي استجابت لهذا النداء، انخفضت النسبة لتصبح (47ر0% )، ويختم (غرانت ) قائلاً:

تحسين صحة وتربية أولاد البلاد الفقيرة.. يمكن إنجازه بكمية أقل مما تصرفه الدول المصنعة على (خمورها ) كل عام.. كذلك الوصول إلى الهدف الأعم في توفير الحاجات الأساسية لكل السكان المحتاجين في العالم ممكن بمخصصات سنوية توازي الكمية التي تصرف الآن كل ستة أسابيع لصيانة وزيادة القدرات العسكرية ) (37 ).

=============

# الجوع - والمجاعة في ديار المسلمين

الجوع - والمجاعة في ديار المسلمين

(ذكرت مصادر جبهة التحرير الإريترية أن عشرات الآلاف من الأطفال وكبار السن لاقوا حتفهم نتيجة مجاعة لم يسبق لها مثيل، اجتاحت أجزاء كبيرة من إريتريا بسبب الجفاف الذي ضرب المرتفعات الإريترية وأجزاء من المديرية الغربية مما أثر على الزراعة وتسبب في نفوق أعداد من قطعان الماشية. وناشد ممثل جبهة تحرير إريتريا الدول العربية والإسلامية والمنظمات الدولية تقديم مساعدات غذائية عاجلة للمقاتلين واللاجئين الإريتريين، وأوضح أن المساعدات التي تتلقاها السلطات الأثيوبية تقوم بتوزيعها على أفراد جيشها ويتسرب أغلبها إلى السوق السوداء حيث تباع بأثمان باهظة ولا يصل منها شيء إلى أكثر من مليون إرتيري ) (1 ) .

هذا مثل من أفريقيا، أما في آسيا فتقدر منظمة الأغذية والزراعة أنه كان هناك (460 ) مليون نسمة عام 1977م لا يحصلون على غذاء كاف، وثلثا هذا العدد (306 ) ملايين من سكان جنوبي آسيا ـ أي ثلث سكان المنطقة (2 ) .

وهناك اليوم ألف مليون شخص يشكون من نقص غذائي، يموت منهم كل عام (11 ) مليوناً بسبب سوء التغذية (3 ).

ويذهب المدير العام لمنظمة الصحة العالمية إلى أبعد من ذلك في تقديراته فيقول: (من المؤسف أن يكون نصف سكان العالم أو ربما ثلثهم مصابين بسوء التغذية ) (4 ) صحيح أن تصريحه هذا كان عام 1963م إلاّ أن الحالة لم تتحسن في البلدان الفقيرة كما يقول السيد/ (إدوارد صوما ) المدير العام لمنظمة الأغذية والزراعة واصفاً حالة عام 1981م بما يلي: (لم يطرأ أي تحسن على حالة الأغذية في البلدان ذات الدخل المنخفض وعلى الأخص في أفريقيا ولا يزال هذا الموضوع مصدر قلق بالغ )، ويضيف: (ومازالت الزيادة في المخزونات العالمية من الحبوب تتركز في عدد قليل من البلدان المتقدمة والبلدان الرئيسة المنتجة، ومعظم هذه الزيادة هي من الحبوب التي لا تمثل سوى جزء صغير من الاحتياجات الاستيرادية للبلدان النامية خاصة البلدان ذات الدخل المنخفض )، ويختم هذا الكلام الواضح بقوله:

(وهكذا فإن حالة الأمن الغذائي العالمي ما تزال غير كافية بل مضطربة ) (5 ).

هذا الكلام مركز على إنتاج الغذاء، أما توزيعه بالعدل على المستوى العالمي فأمر آخر محزن حقاً ليس من أهداف هذا الكتاب الخوض فيه بتفصيل.

الغذاء المفقود في المجتمعات المسلمة

من المؤسف حقاً بل من المخجل ألاّ يكون هناك اكتفاء ذاتي ـ حتى الآن ـ في المواد الغذائية الأساسية في أية دولة مسلمة رغم غنى بعضها والإمكانات الزراعية الضخمة لدى بعضها الآخر(6 ). فالدول التي تستهلك القمح أو الأرز كمادة أساسية في الغذاء تستورد من الخارج.. وهذا(الخارج ) معادٍ للإسلام في غالبه؛ لذا فالشعوب المسلمة الفقيرة جائعة أكثر الأوقات لعدم حصولها على الغذاء الكافي، بل وفي بعضها مجاعة حقيقية تحاول الجمعيات الأجنبية التنصيرية تخفيفها على حساب الكرامة والعقيدة. والدول المسلمة القادرة على شراء غذائها من الخارج معرضة لمضغوطات وابتزازات هذا (الخارج ) متى شاء ذلك. وإذا كانت الحبوب سلاحاً تهدَّد ـ بفتح ـ الدال ـ به أكبر دول العالم مثل الاتحاد السوفييتي الذي يشتري هو أيضاً غذاءه من الخارج، فباستطاعة الأخ القارئ أن يتفهم مدى خضوع الدول الصغيرة الفقيرة لتهديد الدول المصدرة لهذه المواد الغذائية: بيعاً أو قروضاً أو هبات ذات أغراض سياسية خبيثة وسيطرة اقتصادية أخبث.

ومن الطبيعي أن تعيق الدول الكبرى المصدرة للحبوب سبيل الوصول إلى الاكتفاء الذاتي في الدول المستوردة؛ يقول الاقتصادي اللبناني السيد عدنان كريمة تحت عنوان القمح الأمريكي والاكتفاء السعودي ما يلي:(إثر جولة لبيع القمح شملت مصر وتونس والسعودية قال وزير الزراعة الأمريكي جون بلوك ): أعتقد أننا وضعنا أنفسنا في موقع يمكننا من الحد من اندفاع السعودية نحو الاكتفاء الذاتي من القمح!! )، ولم يحدد الإجراءات التي اتفق مع الجانب السعودي على اتخاذها لتحقيق الهدف الأمريكي في زيادة مستوردات المملكة من القمح الأمريكي ) ويضيف السيد/ كريمة: (يستدل من تصريح الوزير (بلوك ) أنه مرتاح لنتائج مباحثاته ومطمئن إلى أنها حققت على الأقل بعض نتائجها. ولكن هل تم ذلك على حساب تحقيق التنمية الزراعية والوصول إلى الاكتفاء الذاتي؟ لا أعتقد ذلك لأن أي بلد يستطيع أن يخطو خطوة إلى الأمام في تأمين الاكتفاء الذاتي من المواد الغذائية في عصرنا الحالي حيث دخلت هذه المواد الخُطط الاستراتيجية وأصبحت أقرب إلى (السلعة السياسية منها إلى السلعة الاقتصادية )، يمكن أن يتراجع إلى الوراء، لذلك فالسعودية تركز خطتها التنموية على تحقيق تنمية صناعية وزراعية تخفف من اعتمادها على الأسواق الخارجية، وتساهم في تحقيق الاكتفاء الذاتي من القمح، وقُدِّر موسم العام الحالي بما يتراوح بين 500و600 ألف طن. وقد تحققت هذه النهضة الزراعية في حقول القمح خلال أربع سنوات، وهو إنجاز عظيم في إطار خطط التنمية الطموحة، ففي عام 1977م كان إنتاج المملكة من القمح في حدود ثلاثة آلاف طن فقط، غير أن سياسة الدولة لجهة تركيز اهتمامها على الزراعة ومنح المزارعين القروض الميسرة أدّت إلى رفع الإنتاج إلى (400 ) ألف طن في العام 1982م وأكثر من ذلك في العام الحالي. وهذه السياسة أدّت إلى خفض الواردات السعودية من القمح الأمريكي والدقيق إلى النصف منذ عام 1979 م ـ 1980م، وبالطبع فإن الكمية المستوردة ستنخفض مع استمرار زيادة الإنتاج السعودي ) (7 ).

ومن أمثلة اعتماد المسلمين كلياً على الاستيراد لسد الأفواه الجائعة أذكر اثنين فقط:

1- نقلت الأخبار (أن دولة مصر العربية تستورد الطعام بما قيمته 8 ملايين دولار في اليوم الواحد ) (8 )..

2- ونقلت الأخبار أيضاً أن أندونيسيا ستضطر إلى استيراد مليونين ونصف من الأطنان أرزاً عام 1983 نتيجة سوء موسم الحصاد الذي كان متوقعاً بسبب الجفاف الذي مرّ على معظم مناطق زراعة الأرز، وستصبح أندونيسيا من أكبر مستوردي الأرز في العالم . جاء هذا في تقرير للسفارة الأمريكية في (جاكرتا ) نشرت تفاصيله وكالة يوناتيد برس انترناشونال(9 ).

وما بين عام 1967م ـ 1977م زادت قيمة الواردات من منتجات الألبان أربعة أضعاف، في البلدان الفقيرة، والمعتقد أن زيادة الواردات من مسحوق اللبن المستخدم في صناعة أغذية الأطفال بمختلف أنواعها، هي من العناصر الرئيسة التي تؤدي إلى تدهور ميزان المدفوعات في هذه البلدان. (وعام 1980م بلغت واردات البلدان النامية من الأغذية (52300) مليون دولار أمريكي بزيادة الثلث عن السنة السابقة ) (10 ).

ومن أمثلة الدول المسلمة التي تتعرض للمجاعة باستمرار بلاد ما يسمى بـ (الساحل ) أي حزام الجفاف الشديد في أفريقيا ـ ولقد سبق ذكرها ـ؛ ارتفع فيها العجز في الحبوب إلى مليون طن والمساعدات الواعدة لا تغطي إلاّ ربع المطلوب، كما أسلفت. وعندما لا تتقدم الدول المسلمة(الشقيقة )! بالعون اللازم ـ على الأقل بالنقد اللازم لشراء الغذاء فليس هناك إلا الجمعيات التنصيرية.. ولقد تعوّدت(11 ) هذه شراء الجائعين من أطفال المسلمين.

وكأن متاجرة هؤلاء بفقراء المسلمين لا تكفي.. حتى جاءت الآن بعض الشركات الأجنبية ـ وفيها بعض العرب.. كالمعتاد ـ لتسويق النفوس البشرية البائسة تحت ستار جمعيات

(الاستخدام والعمالة ).

فلقد نُشر تقرير في جريدة (الاتفاق ) البنغلادشية اليومية، في معرض الحديث عن الفقر في (بنغلاديش ) يذكر أن سماسرة أخذوا عدّة آلاف من فتيات بنغلاديش، وكثيرات منهن كن يمارسن مهنة (الشحادة )، إلى باكستان لينقلوهن بعد ذلك إلى دول ذات ثراء في العالم الإسلامي. (12 )

فأين أغنياء المسلمين يستمعون لحديث الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم: (أيّما مؤمن أطعم مؤمناً على جوع أطعمه الله يوم القيامة من ثمار الجنة، وأيما مؤمن سقى مؤمناً على ظمأ سقاه الله من الرحيق المختوم، وأيما مؤمن كسا مؤمناً على عُري كساه الله من حُلل الجنة ). وأين زكاة الأموال المكنوزة ذهباً وفضة وأسهما وعقارات؟ .

من الذي يستهلك غذاء العالم بإسراف؟

يدعي بعض الغربيين أن الزيادة في عدد سكان العالم الفقير هي سبب مشاكل الجوع ونقص الغذاء، ولعل أحسن رد على هذا الادعاء الباطل جاء من المفكر الفرنسي المعاصر(رجاء غارودي ) حين أفحمهم قائلاً:

من العار أن نسمع المؤتمر السكاني ـ الديموغرافي ـ في (بوخارست ) يقول فيما يتعلق بالسكان: إن إنجاب أقل عدد ممكن من الأطفال يُجنب العالم مشاكل الجوع، في الوقت الذي نعرف جيداً أن فلاحاً باكستانياً أو هندياً يستهلك أقل مما يستهلكه زميله الأمريكي في (كاليفورنيا ) بأربعمائة مرة، وهذا يعني، بكل بساطة أن عشرات آلاف من المواليد الأمريكيين أكثر خطورة على التوازن العالمي من أربعة ملايين(13 ) من المواليد الباكستانيين أو الهنود والمسألة إذن ليست في تحديد النسل كما طالب مؤتمر (بوخارست ) لأن الداء قائم في أسلوب ونمط النمو الاقتصادي الموجود في الغرب بينما يكمن الدواء والحل في ضرورة تغيير تصرفات وأهداف العالم الغربي (14 ).

ما هو غذاء الإنسان ؟

يتألف الغذاء من العناصر التالية منفردة أو مجتمعة، بكميات ونسب متفاوته حسب المصدر:

1- الفحوم المائية ـ الكربوهيدرات ـ مثل النشويات والسكريات وهي موجودة بكثرة في الحبوب والبقول والفواكه.

2- البروتين: وهو أهم العناصر التي يتشكل منها اللحم ـ وأهم مصادره الحيوان ـ وقد يأتي من النبات .

3- الدهن ـ بمصدريه الحيواني والنباتي.

4- الفيتامينات بأنواعها المتعددة.

5- بعض المعادن مثل الحديد واليود والصوديوم والبوتاسيوم والفسفور والمغنيزيوم ويحتاجها الجسم بكميات قليلة؛ وهناك معادن يحتاج الجسم منها أثراً فقط وهي (الكوبالت والزنك والنحاس والمنغانيز والمولْبِديوم والسيلينيوم ).

وتوفر العناصر الثلاثة الأولى بعد امتصاصها وتمثلها قدرة حرارية يحتاجها الجسم ليصرفها في نشاطاته الدائمة عن طريق عمليات الجسم الكيماوية الحيوية (الاستقلاب - Metabolism ) المستمرة، ومع ازدياد معدل النشاط تزداد الحاجة للقدرة بارتفاع معدل ما يصرفه الجسم من جهد(15 ). ويحتاج الشاب السليم الجسم، ذو النشاط المتوسط حوالي (3000 ) وحدة قدرة حرارية (سعر أو حريرة ) في اليوم من غذائه ( ويوفر كل جرام من الفحوم المائية والبروتين 4 حريرات ـ أسعار، أما كل غرام من الدهن فيوفر 9 حريرات ـ أسعار ـ ) ويستحسن أن يأخذ الإنسان السليم في غذائه اليومي غراماً واحدة من البروتين مقابل كل كيلو غرام من وزنه، وهناك أعمار خاصة تحتاج لغذاء معين أو لحريرات ـ أسعار ـ أكثر ، كالأعمار الصغيرة والحوامل والأمهات وبعض الناقهين من أمراض معينة؛ والغذاء الكافي المتوازن ضرورة صحية بالإضافة إلى أنه ضرورة حياتية؛ والنقص في كمية أو نوعية الغذاء، أو كلاهما معاً، يؤدي إلى سوء التغذية وإلى الأمراض فضلاً عن تأثيره على الإمكانات الجسمية والعقلية وتقلص إنتاجها.

ولقد بدأ التحسن في المستويات الصحية في البلدان الأوروبية في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر قبل مدة طويلة من ظهور الطب العلمي الحديث، وبدا، ذلك واضحاً بانخفاض نسبة الوفيات، لقد نقص حوادث (الكوليرا ) و(التيفوس ) و(الطاعون ) و(السل ) و

(الحصبة ) قبل ظهور أي علاج فعّال لها. والتحسن في السوية الصحية هذا كان السبب فيه راجعاً جزئياً لزيادة إنتاج الغذاء وتحسن مستوى توزيعه، مما أدى إلى تحسن السوية الغذائية في الأفراد وزيادة قوة مقاومتهم للأمراض. وفي أواخر القرن التاسع عشر ظهر تحسن آخر بعد توفير المياه الصالحة للشرب على مدى واسع وبناء شبكات المجارير(16 ).

السويّة الغذائية في الدول الفقيرة

ما بين عامي 1977م ـ 1979م كان متوسط نصيب الفرد من السًعرات الحراية (Calories ) المتاحة أقل من (2200 ) سعرة في اليوم في 48% من سكان أفريقيا (أي في إحدى وثلاثين دولة ) (17 ).

(وفي بنغلاديش، متوسط السعرات المتاحة أقل من (2000 ) سعرة يومياً )؛ ولا يحصل الأطفال دون سن الثالثة من العمر، في بنغلاديش إلاّ على 46% فقط من حاجتهم من السعرات، و68% من البروتين اللازم؛ و17% من الأطفال دون سن الرابعة يعانون من نقص حاد في التغذية يؤدي إلى الهزال، والنقص المزمن يؤدي إلى توقف النمو(18 ).

( وبصورة عامة فإن 15 ـ 25% من الأطفال مصابون بسوء التغذية، وتصل النسبة إلى حوالي 60% في بعض الدول (النامية )؛ ويعتبر الفقر السبب الرئيس المؤدي إلى هذا الوضع، ولكنه ليس العامل الوحيد، فنقص التوعية وانعدام المياه النظيفة الصالحة للشرب، واستعمال الأغذية المصنعة في الغرب ) (19 )، تسهم كلها إلى حد ما في هذه الحالة

وقد يكون من الأفضل إعطاء أرقام في مقارنة عامة بين معدلات نصيب الفرد من السعرات اليومية في عالم الأغنياء وعالم الفقراء، وهذه عيّنة:(حوالي عام 1975م ):

--------------------------------------------------------------------------------

المعدل في أوروبا الغربية (3230 ) سعرة حرارية في اليوم

المعدل في أوروبا الشرقية (3240 ) سعرة حرارية في اليوم

المعدل في أوقيانوسيا (3270 ) سعرة حرارية في اليوم

المعدل في أمريكا الشمالية (3350 ) سعرة حرارية في اليوم

المعدل في آسيا (إجمالاً) (2160 ) سعرة حرارية في اليوم

المعدل في أفريقيا (إجمالاً) (2250 ) سعرة حرارية في اليوم

أما في البلاد المسلمة فهذه عيَّنة من معدلات نصيب الفرد من السعرات (حوالي عام 1975م ).

--------------------------------------------------------------------------------

الجزائر 1730 تونس 2220

اندونيسيا 1790 مصر 2500

أفغانستان 1970 نيجيريا 2270

بنغلاديش 1840 ماليزيا 2460

موريتانيا 1970 إيران 2300

المغرب 2160 سورية 2650

اليمن الشمالي 2040 السعودية 2270

اليمن الجنوبي 2070 الأردن 2430

مالي 2060 غينيا 2200

النيجر 2080 باكستان 2160

العراق 2160 لبنان 2280

--------------------------------------------------------------------------------

وهكذا نرى أن المعدلات في كل الدول المسلمة إما قليلة ـ نسبيا ً ـ أو ناقصة جداً خاصة المعدلات التي تقل عن (2000 ) سعرة للفرد في اليوم. وهذه هي الظاهرة الأساسية فيما سنراه من سوء تغذية وأمراض ووفيات في ديار المسلمين .

سوء التغذية

يقول (هلفدن ماهلر ) المدير العام لمنظمة الصحة العالمية (سوء التغذية هو، في الوقت نفسه، أحد نتائج الظلم الاجتماعي، وأحد العوامل التي تسهم في بقاء هذا الظلم ) (20 ).

وهناك من يقول: إن70% من أولاد البلدان النامية يشكون من سوء التغذية(21 ). وفي أفريقيا 63% من النساء الحوامل (أي من 1ر15 مليون ) و40% من بقية النساء (أي من 1ر77 مليون ) مصابات بضعف الدم ( الأنيميا Anamia ) أما في آسيا 65% من النساء الحوامل (أي من 2ر43 مليون ) و57% من بقية النساء (أي من 2ر253 مليون ) مصابات أيضاً بضعف الدم. وبصورة عامة يمكن القول: إن أكثر من نصف النساء في آسيا وأفريقيا مصابات بضعف الدم (64% من الحوامل و50% من غير الحوامل ) (22 )؛ ومجموع المصابات في القارتين 75ر212 مليون امرأة.

وفي الفترة ما بين 1969م، و1971م قُدّر أن المتوفر من الغذاء الذي يولد طاقة الإنسان هو أقل من 10% من حاجات الجسم في 24 دولة نامية، وفي(33 ) دولة نامية أخرى هناك نقص أقل من 10%. وقًدِّر في بداية السبعينيات أن 30% من سكان شرقي آسيا (حوالي 300 مليون نسمة ) و25% من سكان أفريقيا (حوالي 67 مليون نسمة ) لا يحصلون على بروتين ومواد مولدة للطاقة بكميات كافية في غذائهم(23 ).

(وفي عام 1974م انتشرت أمراض سوء التغذية في بلاد آسيوية عدة منها: الهند، وباكستان، وكمبوديا، والفيليبين، ومن مجموع ثمانمائة مليون طفل في الدول النامية الآن (عام 1978م ) ـ سيواجه أكثر من ثلثيهم السقم والأمراض المعوقة إما بسبب مباشر من نقص التغذية أو باستفحال هذه الأمراض لنقص البروتين والمواد المولدة للطاقة ) (24 ).

ويتناقص إنتاج الغذاء باستمرار، للسنة العاشرة على التوالي، في أفريقيا جنوبي الصحراء الكبرى، وفي (34 ) دولة فيها (260 ) مليون نسمة يوجد نقص شديد في الغذاء، والأطفال الناشئون هم أكثر الأعمار تأثراً بهذا الوضع ) (25 ).

بعد كل هذه المقدمات والمعلومات المحزنة، قد يتساءل الأخ القارئ عمّا هو تعريف (سوء التغذية ): كلمة( Malnutrition ) بالإنكليزية تعني سوء التغذية ويحصل ذلك عادة من عدم توازن في العناصر الأساسية المستهلكة في الغذاء على افتراض وجودها كلها في متناول الناس، إلاّ أن سوء التغذية الذي نتحدث عنه في البلاد الفقيرة ـ النامية كما يسمونها ـ ناتج عن نقص هذه العناصر.. كلها أو بعضها كمّاً ونوعاً في غذاء سكان البلاد البائسة. ونقص الغذاء ـ أي أن يكون دون مستوى الكفاية ـ يسمى بالإنكليزية (Underutrition )، وهذه هي الحالة السائدة والمسببة لسوء التغذية في العالم الثالث. وقد يحصل سوء تغذية في البلاد الغنية .. وبين الأغنياء إلا أن هذا ناتج عن أمر معاكس تماماً: هو التخمة وزيادة الوزن والتشحم والترهل بسبب الاستغراق في شهوات البطن، والدعة والخمول وهذه الحالات نادرة الوقوع في المجتمعات المسحوقة المحرومة.

وأتعجب ـ والله ـ من وجود الجائعين في المجتمعات المسلمة بل وجود المجاعات في بعضها في الوقت نفسه الذي يوجد فيه كثيرون من أهل اليسر ويقرؤون ما جاء في القرآن الكريم .

(ماسلككم في سقر. قالوا لم نك من المُصلين. ولم نك نُطعمُ المسكين ) (المدثر: 42ـ44 ).

(أرأيت الذي يُكذبُ بالدينِ. فذلك الذي يدُعُ اليتيمَ . ولا يحُضُّ على طعامِ المسكينِ ) (الماعون: 1ـ3 ) .

(ويسألونكَ ماذا يُنفقُونَ قُلِ العَفْو َ) (البقرة: 219 ) ـ أي الزائد عن حاجتهم وعيالهم ـ.

إلاّ أن كثير من (المسلمين ) اليوم في وادٍ والإسلام في وادٍ آخر مع الأسف. ولا يكف أعداء الإسلام عن الادعاء الكاذب الجاهل الحاقد بأن سبب تخلف المسلمين هو.. الإسلام (كَبُرتْ كَلِمةً تخرجُ من أَفواههم إنْ يقُولُونَ إلاّ كَذِبا ً)؛ ورحم الله المفكر الإسلامي مالك بن نبي فهو أحد الذين دحضوا هذه الفرية قائلاً:

(التخلف الذي يعاني منه الشرق لا يتحمل الإسلام وزره، فهذا التخلف يعد عقوبة مستحقة من الإسلام على المسلمين لتخليهم عنه لا لتمسكهم به كما يزعمون ).

وصدق الله العظيم: (ومن أعرضَ عَنْ ذكْري فإنَّ له معيشة ضنكا ونحشرهُ يوم القيامة أعمى ) (طه: 124 ) (وأن لو استقاموا على الطريقة لأسقيناهم ماءً غدقا ً) (الجن:16 ) .

وإذا امتنع ذوو الفضل والسعة واليسر من المسلمين عن طاعة الله ورسوله في هذا المجال (مجال التكافل ) أخذ (ولي الأمر ) فضول أموالهم، كما قال سيدنا عمر رضي الله عنه، إذا اقتضت الضرورة ذلك، بالإضافة إلى الزكاة، يقول الأستاذ محمد المبارك، رحمه الله، بعد ما عرض النصوص المتعلقة بالموضوع (ويستنتج من مجموع النصوص السابقة المبدأ التالي: ما زاد عن كفاية الإنسان وعياله وحاجاتهم من ماله، معرض ـ حين ضرورة المجتمع إليه ـ للأخذ منه بل أخذه جميعاً إذا اقتضت الضرورة، ولا يقتصر في ذلك على أداء الزكاة في مثل هذه الحالات، بل يتعداه إلى بقية المال بالنسبة للأغنياء الذين في أموالهم فضل وسعة ) (26 ).

أسباب سوء التغذية (المباشرة وغير المباشرة):

قلت: إن السبب الأول في العالم (النامي ) هو الفقر وهذا يعني:

1- فقدان المال لشراء الغذاء الكافي.

2- الفقر مسؤول إلى حد كبير عن الأمية والجهل وبالتالي عدم معرفة قيمة الغذاء وأنواعه وعناصره الأساسية وكمياته اللازمة وتوازنه المنشود .

3- حالة الفقر تُسهل حدوث الأمراض السارية الحادة والمزمنة، وهذه بدورها تؤثر على المستوى الغذائي وتضعفه.

4- ثم إن الفقير المريض الجائع لا يجد عملاً، وإذا وجده لا يعطي فيه المردود المطلوب ولا الإنتاج الكافي لتحسين دخله. وهكذا تستمر الحلقة المفرغة في دورانها .. إلى أن يموت هذا المسكين بحرمانه.

طرق تاثير الأمراض السارية على المستوى الغذائي للإنسان:

--------------------------------------------------------------------------------

الطريقة الأولى:

- ضعف شهيّة

- تقيُّؤ

- خلل في الهضم

- خلل في التمثل والامتصاص

وهذه تؤدي إلى :

- نقص في الكمية المستهلكة من الغذاء.

- نقص في الاستفادة من الغذاء.

--------------------------------------------------------------------------------

الطريقة الثانية:

- خسارة عناصر غذائية من الجسم لزيادة استهلاكها عند المرض ، وبواسطة الجراثيم والطفيليات المسببة .

وهذه تؤدي إلي:

- ضياع كمية من الغذاء أيضاً

--------------------------------------------------------------------------------

الطريقة الثالثة:

- تخريب أنسجة وخلايا ناصر بناءه عضوية.

- بعض الأمراض تسبب النزف المستديم كالبلهارسيا، أو التخريب المستمر للكريات الحمراء مثل الملاريا.

وهذه تؤدي إلي:

- ضياع عناصر أساسية من أنسجة الجسم المريض.

--------------------------------------------------------------------------------

كذلك يؤثر سوء التغذية بدوره في الأمراض وهذه الحلقة المفرغة هي التي تحصل:

1- سوء التغذية

2- المرض

3- فداحة في سوء التغذية

4- اشتداد في أعراض المرض

والجسم الذي ينقصه الغذاء، خاصة(البروتين ) لا يستطيع تشكيل مستوىً عالٍ من المناعة ضد الجراثيم والطفيليات ـ خاصة وحيدة الخلية ـ، والديدان المعوية، لهذا تكون أعراض هذه الأمراض أشد عادة في الجسم المصاب بسوء التغذية وتطول فترة المرض وتكثر الوفيات.

--------------------------------------------------------------------------------

طفل مصاب بداء (سوء التغذية في آسيا )

الأمية تلازم الفقر والمرض

إن أعلى نسبة من الأمية في العالم هي في البلاد العربية .. يذكر تقرير البنك الدولي لعام 1982م أن نسبة التعليم في العالم الثالث كانت لا تتجاوز 33% في عام 1950 ولكن هذه النسبة قد ارتفعت في عام 1960م إلى 38%، وفي عام 1970م إلى 46% ووصلت عام 1979 إلى 56% .

ولكن.. على الرغم من تلك الصورة الحسنة، فإن عدد الأميين في ازدياد مع أن نسبة الأمية في انخفاض، والسبب راجع إلى ازدياد سكان العالم؛ إذ يوجد ثمانمائة مليون شخص أمي في العالم ويتوقع المختصون بهذا الميدان ارتفاع هذا العدد إلى (950 ) مليون أو ألف مليون شخص بحلول عام 2000م. يضاف إلى أن نسبة الأمية في عشرين بلداً تبلغ أكثر من ثمانين بالمائة (80% ). (27) وتبعاً لما تقوله رابطة القراءة الدولية فإن العالم العربي فيه أعلى نسبة من الأمية إذ أن النسبة تبلغ 62% من السكان. ونسبة الأمية في أفريقيا هي 60% إجمالياً، وفي أمريكا اللاتينية 20% وفي آسيا 37%. أما من حيث عدد الأميين فإن نصفهم في آسيا ويبلغون (599 ) مليون نسمة (28 ).

وهذه عينة من نسب الإلمام بالقراءة والكتابة في البالغين في عديد من الدول المسلمة (إحصاءات عام 1975م ) (29 ) :

--------------------------------------------------------------------------------

البلد النسبة المئوية البلد النسبة المئوية

--------------------------------------------------------------------------------

باكستان 21 % اليمن (في الشمال ) 10%

بنغلادش 22 % اليمن(في الجنوب ) 10%

السعودية 15% المغرب 28%

تشاد 15% الصومال 50%

النيجر 8% سورية 53%

أفغانستان 12% العراق 26%

نيجيريا 25% (عام1960 ) إيران 50%

الجزائر 35% تركيا 60%

تونس 55% مصر 40%

موريتانيا 10% الأردن 62%

السنغال 10% لبنان 68%

مالي 10% السودان 15%

--------------------------------------------------------------------------------

التركيب السكاني ـ الديموغرافي للمجتمعات الفقيرة

أغلبية سكان العالم الثالث (النامي ) من اليافعين إذ تشكل الأعمار الشابة نسبة عالية بعكس ما هو قائم في الدول المتقدمة. فالأطفال دون سن الخامسة هم خمس السكان (20% ) ومجموع الأطفال والأولاد دون سن الخامسة عشرة يبلغ حوالي (45 ـ 50% ) من المواطنين بينما النسبة في البلاد المتقدمة هي حوالي 20%.

ما علاقة هذا التركيب بالصحة والمرض ؟ إن لهذا الواقع الديموغرافي انعكاساً سلبياً على الوضع الصحي في الدول (النامية )؛ فالأعمار الصغيرة معرضة أكثر من البالغين والكبار لتأثيرات سوء التغذية والأمراض السارية المنتشرة في هذه الدول.

وهكذا نرى أن نصف أطفال الشرق الأوسط المسلم لا يتمتعون بمستوى غذائي كاف(30) ؛ وهذا يؤثر على النمو الجسمي والعقلي كما يقول البروفيسور (آبل سميث ):

(سوء التغذية يضر بنمو الإنسان وذلك بالتأثير على شكل حجم الجسم، أما في الصغار فيؤدي إلى تخلف خطير في النمو العقلي ) (31 ). وسوء التغذية بدوره يضعف، كما أسلفنا، مقاومة الجسم للأمراض عامة والأمراض السارية بصورة خاصة، لذا فنسبة الأمراض والوفيات مرتفعة جداً في الدول النامية (97% من مجموع وفيات الأطفال في العالم كله.. هي من الدول النامية حيث يعيش أربعة أخماس أطفال العالم ) (32 ). ونسبة إجمالي وفيات الأطفال دون سن الخامسة تشكل في بلاد الشرق الأوسط المسلم أكثر من نصف مجموع الوفيات كلها، وهذه نسبة عالية جداً.

وكان عدد وفيات الأطفال المساكين عام 1977م في هذا الشرق المسلم مليونين تقرياً (ربع مليون في كل من أفغانستان وإيران ومصر ـ تقريبا ً ـ، وثلثي المليون في باكستان(33 ). واغلب وفيات هؤلاء تحدث قبل سن الثالثة وأهم أسبابها (سوء التغذية ) والإسهالات المعوية والأمراض السارية كالملاريا ـ البرداء ـ والحصبة .. وغيرها.

ما علاقة التركيب السكاني بزيادة متاعب العالم (النامي )؟ نسبة الصغار للكبار عالية جداً في العالم (النامي ) كما رأينا بعكس ما هو عليه الحال في الدول المتقدمة‍! في ألمانيا والاتحاد السوفييتي مثلاً، هناك (بالغان ) عاملان مسؤولان عن(صغير ) أو (شيخ ) لا يعملان. أما في (بنغلاديش) و(نيجيريا ) فالنسبة هي واحد لاثنين أي شخص عامل واحد يُعيل اثنين لا يعملان. وهذا الوضع يفرض على العالم (النامي ) حملاً ثقيلاً يرهق إمكاناته لإعالة الأطفال. وفي مجال التربية والتعليم أيضاً يشكل الأولاد الذين هم في سن التعليم الابتدائي ـ في الدول النامية ـ 25% من السكان أما في الدول الغنية فالنسبة هي 15% فقط(34 ).

===============

# الحالة المرضية في الشرق الأوسط المسلم

الحالة المرضية في الشرق الأوسط المسلم (1)

مؤشرات هامة

عندما تحصل ولادة في هذا الإقليم يتراوح متوسط العمر المتوقع لهذا الوليد ما بين 30 ـ 50 عاماً (ومتوسط العمر المتوقع للوليد في أوروبا هو 71 عاماً ) (2 ).

ويشكل الأولاد ـ دون سن الخامسة ـ خُمس السكان، أما نسبة الأولاد دون سن الخامسة عشر فهي 45 ـ 50% من مجموع ـ أي حوالي 125 مليوناً.

نصف أطفال وأولاد الإقليم مصابون بسوء التغذية(3 ) أي حوالي 62 مليونا منهم  وتتراوح نسبة وفيات الرضع في الإقليم ما بين (5 ) إلى (20 ) بالمائة ( بينما النسبة في الولايات المتحدة الأمريكية مثلاً هي 8ر0 بالمائة ) ـ إحصاءات عام 1975م ـ

ومن مجموع أحد عشر مليوناً من المواليد في الإقليم كل عام يموت مليونان  مليون ونصف يموتون في سن الرضاعة ـ أقل من عام ـ، ونصف مليون آخر يموتون قبل سن الثالثة.

أما الأمراض القاتلة فهي:

الإنتانات المعدية المعوية مع

مضاعفات سوء التغذية تقتل 000ر800

التهابات جهاز التنفس تقتل000ر400

حُميَّات الطفولة (الخُناق، السعال الديكي، الكزاز، الحصبة، شلل الأطفال والسل ) تقتل000ر250

ولها كلها مصول واقية

الملاريا تقتل 000ر50

أمراض وإصابات الأسبوع الأول من العمر تقتل000ر500

المجموع 000ر000ر2 مليونان (4).

وكل هؤلاء الأطفال المتوفين يموتون وهم في حالة سوء تغذية (حاد أو مزمن ). وإذا نظرنا إلى جميع المواطنين ـ من جميع الأعمار ـ في هذا الإقليم.. المريض (وليس ذلك تشاؤماً ولا مبالغة )، فنجد أن فيه تقديرياً-:

مليون حالة من السل(5 )، و217 مليوناً من السكان معرضون للإصابة بمرض الملاريا؛ وسبعة ملايين ونصف مليون من حالات فقد البصر (العمى )، بالإضافة إلى عدَّةملايين من المصابين بضعف البصر(6 ).

ولعل من المستحسن، هنا، أن أعرض بإيجاز الأمراض التي تؤدي للعمى وضعف البصر في شرقنا الإسلامي المنكوب.

أولاً - نقص فيتامين (أ):

نقص فيتامين (أ ) (A ) وهو الموجود في (الخضار والحليب والبيض والزبدة )، يؤدي لمرض يسمى كزير وفثلميا ( XEROHTHALMIA )، ويظهر في أطفال أعمارهم ما بين سنة إلى ثلاث سنوات، وضحايا هذا المرض هم أبناء العائلات المعدمة؛ وينتشر المرض في أكثر الدول النامية (! ) خاصة في التجمعات الحضرية الكبرى في جنوب شرقي آسيا، ونسبته عالية جداً في (أندونيسيا ) (5ر1% ـ 13% ) عام 1975م؛ و60% إلى70% من حالات فقدان البصر في الأطفال تنجم عن هذا المرض؛ ويعتقد أنه ثالث أهم العوامل المسببة للعمى في أطفال (ماليزيا )، والعامل المسبب الأول للعمى في فيتنام؛ وفي جنوبي النهد يسبب المرض50% من حالات العمى(7 )، ومن المعقول التخمين بأن خمسة ملايين طفل آسيوي ـ دون سن السادسة ـ يصابون كل عام بهذا المرض بدرجات متفاوتة، ويفقد ربع إلى نصف مليون منهم البصر(8 ). وفي العالم الثالث كله يسبب نقص فيتامين (أ ) العمى بنسبة مليون حالة سنوياً.

أما في شرقي البحر المتوسط فنسبة الإصابة بالمرض أقل بالمقارنة لشرقي آسيا، وفي عام 1963م أظهرت دراسة في الأردن أن 8% من الأطفال ما بين 5ر2 ـ 5ر3 سنة مصابون بمرض (كزير وفثلميا ) (9 ).

ثانياً - مرض التراخوما: (Trachoma)

التهاب في مُنْضمة العين ويصنف بحق كمرض من (امراض الفقر ) فكل حالاته الشديدة التي تؤدي للعمى هي في سكان الريف أو أطراف المدن الكبرى الذين يعيشون ظروفاً حياتية صعبة في بيئة غير نظيفة، وعادات غير صحية (ازدحام في المسكن، فقدان الماء، محيط ملوث، سوء تغذية ) كل هذه عوامل إضافية؛ والمرض متصل اتصالاً وثيقاً بالمستوى الاقتصادي والاجتماعي وطريقة المعيشة.

وتعد (التراخوما ) أهم عامل منفرد مسبب للعمى في العالم ( ونسبة العمى في العالم النامي ـ من باب المعلومات ـ هي 10 إلى 40 ضعفاً لمثيلتها في الدول الصناعية المتقدمة )؛ وهناك حوالي (500 ) مليون إصابة تسبب العمى لتسعة ملايين وتترك عدداً أكبر ضعيفي البصر.

والمرض منتشر في الشرق الأوسط وجنوب شرقي آسيا وأفريقيا خاصة في شماليها و(بلاد الساحل ) جنوبي الصحراء. وقد أظهرت دراسات أجريت في أرياف مصر واليمن وجود حوادث (تراخوما ) كثيرة، ويقول الخبراء: إن نتائج المسح تعكس في الغالب، الواقع في كل بلاد المنطقة.

وقد تبدأ عوارض المرض بالظهور في الأشهر الأولى من عمر الرضيع ولكن تظهر أغلب الأعراض عادة في الأعمار (2 ـ 5 سنوات ) ففيهم أعلى نسبة من الإصابات وهذا يقود إلى نسبة عالية من فقدان البصر.

والجدير بالذكر أنه يمكن التخلص من هذا المرض خلال عشر سنوات مهما كانت نسبة الاستيطان عالية.. إذا قامت حملة مكافحة جادة له. ولقد قًدّر في الدول النامية أن كلفة علاج ( التراخوما ) والإصابات المشابهة أكثر من 50% من الخسارة الاقتصادية التي تنتج عن بصر مضطرب تسببه التهابات العين(10 ).

ثالثاً- مرض عمى الأنهار: (Onchocerciasis)

ويسببه طفيلي (الفيلاريا ) وتنقله ذبابة صغيرة سوداء اسمها (سيموليوم Simulium ) وهي تبيض وتفرخ بالقرب من الأنهار لذلك سمى المرض ( بعمى الأنهار ).

- العمى في شبه القارة الهندية بسبب مرض (كزيروفثلميا)

نقص فيتامين (أ)

--------------------------------------------------------------------------------

- صورة لمرض (التراخوما) الذي يسبب العمى

والمرض منتشر في أفريقيا الاستوائية (مثلاً السنغال، غانا، نيجيريا، فولتا العليا، ساحل العاج، تنجانيقا، كينيا، السودان واليمن شماليه وجنوبيه ) وكلها ديار المسلمين.

وتذكر التقديرات وجود ما بين 20 ـ 30 مليون حالة من هذا المرض في العالم أغلبها في أفريقيا؛ وعندما تصاب العين بتوضع الطفيلي فيها ينتهي الأمر بالعمى.

وهناك في العالم اليوم حوالي 28 مليون أعمى أكثر من ثلثيهم في البلاد النامية، (ويسهم الفقر والبيئة الملوثة وفقدان الخدمات الصحية في حصول هذا العدد الضخم من العميان ) (11 )؛ والعميان من الفتيان والشبان خسارة اقتصادية كبرى بالإضافة للمأساة الإنسانية في فقدهم لبصرهم بأمراض يمكن الوقاية منها لو توفرت الخدمات الصحية للمحرومين المسحوقين في العالم ( النامي )!

المأساة الواقعة

اثنا عشر سنتاً أمريكياً أي ما يعادل ـ نصف ليرة لبنانية تقريبا ً ـ تكفي لشراء كمية فيتامين (أ ) تقي طفلاً من هذا المرض لمدة عام كامل، ولا حاجة لشراء هذا الفيتامين إذا كان في طعام الأولاد اليومي بعض

- صورة لذبابة (السيموليوم)

--------------------------------------------------------------------------------

- صورة لمصابين بالمرض

نشرت مجلة (صحة العالم ) هذه الصورة في كانون الثاني (يناير)1981م وكتبت تحتها ( اثنان من ضحايا مرض عمى الأنهارفي غربي أفريقيا يرتلان آيات من القرآن الكريم) !!

الخضراوات ذات الأوراق الخضراء . فإذا أردنا وقاية كل أطفال وأولاد إقليم الشرق الأوسط المسلم المصابين بنقص التغذية ـ وهم حوالي ستين مليوناً ـ بإعطائهم كلهم فيتامين (أ ) لما احتجنا لأكثر من دولار لكل عشرة منهم أي ما مجموعه ستة ملايين دولار أمريكي، فهل هذا كثير لوقاية المسلمين من العمى ؟

بعض أثريا المسلمين ينفقون على بعض الأمور والهوايات التافهة ما يكفي لإنقاذ أطفال المسلمين من العمى.. وزيادة!!.

ويمكن مكافحة أمراض العين الالتهابية ـ بما فيها التراخوما ـ وشفاؤها بكلفة أقل من دولار أمريكي واحد للفرد، وإذا كانت هذه تسبب العمى لتسعة ملايين شخص في العالم كله، وإذا بالغنا وافترضنا أن خمسة ملايين منهم من المسلمين يكفينا خمسة ملايين دولار، لو صرفت في حينها لأنقذنا الملايين الخمسة من العمى. ولقد نقلت الأخبار أن مصاريف إقامة وعلاج المرضى العرب في عاصمة أوروبية كان، في السبعينيات، (800 ) مليون دولار في العام وتتوقع السلطات هناك أن يتضاعف هذا الرقم في أوائل الثمانينيات(12 ).

فإذا صرف عدد قليل من المرضى العرب الأغنياء (لا يتعدى عددهم المئات أو حتى اللوف ) ثمانمائة مليون دولار في العام.. ربما لتخسيس الوزن! ومداواة السمنة! والإفراط في حياتهم الخاصة أكلاً وشرباً وتناسلاً ورفاهية وتخمة، أقول: إذا صرف هؤلاء العرب أو صرفت عليهم حكوماتهم هذا المبلغ الهائل ألا يستطيعون ـ أو تستطيع حكوماتهم ـ صرف عدّة ملايين من الدولارات لمداواة عشرات الملايين من المسلمين المصابين بأمراض العمى الثلاثة لنقي أولاً إخوتنا في الله العمى وضعف البصر؟ لا بدا أن يكون جواب أي مسلم عاقل على هذا التساؤل: نعم يستطيعون هم ويستطيع (رعاتهم ) فأين الذين يخافون الله أن يسألهم، إن نفقت شاة من العطش في العراق، حسابها يوم القيامة ؟

اللهم إن هذا ظلم يحيق بملايين الفقراء من عبادك فمتى يتذكر ذوو السعة الحديث القدسي: قال النبي الكريم صلى الله عليه وسلم: يقول الله عز وجل: [وعزتي وجلالي لأنتقمن من الظالم في عاجله وآجله ولأنتقمن ممن رأى مظلوما يقدر أن ينصره فلا يفعل ] (13 ).

ذكر( بيريز دي كويلار ) السكرتير العام للأمم المتحدة أن العالم سينفق عام 1983م (14 ) على السلاح ثمانمائة ألف مليون دولار (000ر000ر0000ر800 ) فقط لا غير!!

(وكانت حصة الشرق الأوسط، من الأسلحة التقليدية فقط، عام 1982م أكثر من نصف مبيعات الدول المصدرة. ولقد ذكر التقرير السنوي الرابع عشر الذي أصدره معهد أبحاث السلام (سبيري ) أن إجمالي الصادرات العالمية من الأسلحة قدر بـ 8448 مليار دولار عام 1982م دفع الشرق الأوسط منها (4584 ) مليار دولار (أسعار عام 1975م )، وكانت دول الشرق الأوسط قد اشترت عام 1981م بـ (4287 ) مليار دولار من إجمالي (8917 ) مليار، وفي عام 1980م اشترت بـ (4926 ) ملياراً من إجمالي (9542 ) مليار؛ وتصدّرت الدول العربية الدول المستوردة للأسلحة في الشرق الأوسط حيث بلغ إجمالي نفقات التسلح في هذه المنطقة في العام الماضي (3ر53 ) مليار دولار.

فإذا صرف الشرق الأوسط(15 ) ـ باستثناء إسرائيل ـ أكثر من خمسين ألف مليار دولار على التسلح، أما كان باستطاعته صرف (5 ـ6 ملايين دولار ) فقط لوقاية ستين مليون طفل مسلم من العمى ؟

الأمر المؤسف حقاً هو أن ميزانية وزارة الصحة، في كل دول العالم الثالث تقريباً، ليست من الأولويات، لذا فهي في ذيل القائمة من حيث المخصصات مقارنة ببقية الوزارات.

مراحل نمو المواليد في شرقنا المسلم وتعرضهم للأمراض

تعريف ومدخل

صحة الوليد مرهونة بعوامل عدَّة: منها العامل الوراثي من الوالدين وصحتهما خاصة الأم، وعمرها وعدد المواليد الذين أنجبتهم، ومستوى تغذيتها، والأمراض التي أصابتها والتي يمكن أن تنقلها للجنين. ومحصلة تأثير هذه العوامل قد يؤدي إلى إجهاض الحمل أو إلى وليد ميِّت أو إلى ولادة قبل أوانها لرضيع لم يكمل أشهراً تسعة في الرحم .

وفي الأشهر الستة الأولى من عمر الرضيع تحميه مناعة أخذها من أمه التي اكتسبتها بدورها، ضد بعض الأمراض كمرض الحصبة مثلاً؛ والطفل الذي ينمو على حليب أمه يكتسب مناعة إضافية ـ ضد الإسهالات المعوية مثلا ً ـ، عن طريق حليب الأم. لذلك فإن هذا الرضيع محمي ـ إلى حد ما ـ من الأمراض السارية حتى الشهر السادس من عمره؛ وقربه من أمه مناسب لنموه النفسي والاجتماعي.

بعد الشهر السادس من العمر تضيع هذه المناعة، وفي هذه الفترة تبدأ الحاجة لتغذية إضافية، وهذا يزيد من تعرضه للإنتانات المعوي؛ وحتى الشهر الثلاثين من عمره يبقى الطفل معتمداً على أمه في غذائه ويكون تحركه محدوداً، ثم بعد ذلك يبدأ بالحركة والتنقل ويعبر عن رغبته في الأكل، وزيادة الحركة تزيد من احتمالات تعرضه للإنتانات، ليس فقط من المحيط العائلي بل من المجتمع حوله، بالإضافة إلى احتمالات تعّرض متزايد للحوادث. .

وفي الفترة ما بين عمر (ستة أشهر إلى خمس سنوات ) تظهر، في البيئة غير المواتية، الحلقة المفرغة من الإنتانات وسوء التغذية، وإذا عاش الولد هذه الفترة يخرج منها ببعض المناعة والتأقلم، إلاّ أنه يتعرض الآن لنمط أمراض الكبار، وربما يُصاب بالأمراض الطفيلية مثل ديدان الإسكارس، والبلهارسيا والانكلوستوما أو أمراض أخرى منتشرة في الشرق الأوسط مثل السل (التدرن ) و(التراخوما)، و(الليشمانيا ) ـ الجلدية كحبة حلبة وحبَّة بغداد، أو الباطنية ـ؛ وتَحُدُّ هذه الأمراض المزمنة من إمكانات تعلمه وتحضيره لحياة مستقبلية منتجة مثمرة أو ربما يصاب بأمراض تسبب له إعاقات دائمة مثل الشلل أو ضعف البصر أو العمى الكامل.

الواقع المرضي لأولاد المنطقة

1- الوليد:

متوسط وزنه في الإقليم، بصورة عامة أقل من متوسط وزنه في بلاد (عالم الشمال ): أوروبا الغربية والولايات المتحدة الأمريكية. ومرض الكزاز (التيتانوس Twtanus )مهم في الأيام الأولى من العمر، ويصاب به عدد غير قليل من الرضع؛ ولقد أظهرت الدراسات مثلاً أن 5ر16% من الرضع ماتوا بهذا المرض في الصومال ما بين عامي 1970م ـ 1977م .

2- الشهور الستة الأولى من العمر:

أمراض سوء التغذية الشديدة تفتك بأطفال الإقليم في هذه الفترة كما أظهرت المسوحات التي أجريت عام 1977م في مراكز حضرية جديدة الثراء في ليبيا وعام 1976م، في العراق، وهنالك من 1 ـ4 % من الإصابات الخطيرة بسوء التغذية في كل من لبنان وتونس والمراكز الحضرية بإيران ومصر(16 )، أما في العراق والأردن واليمن الشمالي وأرياف مصر وإيران، والسودان واليمن الجنوبي وباكستان فالنسبة أعلى من 4%(17 ) .

3- فترة الفطام ـ ما بين الشهر السادس والشهر الثلاثين:

تتضافر مؤثرات العوامل الممرضة في الإنتانات المعوية والالتهابات التنفسية وحميات الطفولة (الحصبة والسعال الديكي وغيرها )، مع عوامل سوء التغذية الشديدة والأمراض السارية الأخرى كالملاريا ـ البرداء على قتل الأطفال في هذه الفترة من أعمارهم؛ وفي الشرق الأوسط المسلم 25 ـ 40% من الأطفال يتمتعون بوزن عادي يناسب سنهم، أما الباقون فعندهم نقص غذائي، وهذا لا يعود فقط لنقص الغذاء بل أيضاً لفقدان الوعي الصحي والثقافة اللازمة، وفي هذا المجال يجب أن أذكر أن الغذاء ليس هو المؤشر الوحيد على الوضع الصحي، فهناك عوامل أخرى هامة مثل: النمو الاقتصادي الاجتماعي (متوسط دخل الفرد )، الأمية، تَوَفُّر المياه الصالحة، السكن والبيئة الصحية الحسنة كل ذلك ذو صلة وثيقة بوفيات الأطفال الرضَّع .

4- العمر ما بين 3 _ 5 سنوات:

يتعرض الطفل في هذه الفترة للحوادث الطارئة، وتبرز أهمية مرض السل و(الخنَّاق Diphtheria )، إلا أن نسبة الوفيات فيه أقل من الفترة السابقةـ دون الثالثة من العمر.

5- سن أولاد المدارس:

يظهر تأثير سوء التغذية للفترات السابقة على نمو الأولاد وزناً وقامة، وأولاد الشرق الأوسط المسلم أخف وزناً وأقصر قامة من المقاييس العالمية لمماثليهم في العمر؛ ففي دراسة جرت عام 1970م في محافظة الجيزة بمصر ظهر أن الأولاد، في الريف والحضر، أقل وزناً وطولاً من المقاييس العالمية لمماثليهم في العمر وكان النقص أكثر في أولاد الريف ـ لأن الحرمان أشد ـ، وفي مسح أجري في اليمن عام 1972م ظهرت أن مقاييس الطول والوزن للأولاد اليمنيين ـ ذكوراً وإناثاً ـ هي أقل من مماثليهم في مصر(18 ).

البيئة في ديار المسلمين نظيفة أم ملوثة ؟

أظهرت نتيجة الدراسات أن نسبة سكان الحضر، في الشرق الأوسط المسلم، الذين كان لديهم (بيت خلاء ) بين عامي 1970م ـ 1977م، هي أقل من الثلثين (63% فقط، أما في الريف فما كانت النسبة تتعدى 14% ).

أما نسبة الذين يعيشون في بيوت تتصل مجار يرها بالمجارير العامة فهي10% فقط وهذه هي أقل نسبة في العالم أجمع؛ وهذا يعني، بكل صراحة المؤمن، أن بعض المسلمين يعيشون مع أوساخهم مع أن الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم أوصاهم أن ينظفوا وينظفون أفنيتهم وألا يتشبهوا باليهود ـ في قذارة محيطهم ـ.

قال عليه الصلاة والسلام في حديث رواه الترمذي عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه: (إن الله تعالى طيب يحب الطيب، نظيف يحب النظافة ، كريم يحب الكرم، جواد يحب الجود فنظفوا أفنيتكم ولا تشبَّهوا باليهود ) وهذا ما سمى الآن بلغة العصر: تحسين صحة البيئة.

ورغم أن في الشرق المسلم دولاً غنية ودولاً فقيرة، يبدو أن كلا الصنفين لم يجعلا النظافة والصحة من .. الأولويات .. !! ففي مجال توفير المياه الصالحة للاستعمال وهذه من مستلزمات نظافة الجسم، ونظافة الأفنية، والبيئة بصورة عامة، فلقد كانت نسبة أهل الحضر الذين يتمتعون بماء يصلهم بالأنابيب 52% عام 1975م.

ولقد تناقصت النسبة عما كانت عليه عام 1970م، وكذلك الأمر بالنسبة لأهل الريف فلقد تناقصت النسبة من 19% عام 1970م إلى 16% عام 1975م، وهذه هي المنطقة الوحيدة في العالم حيث تتناقص فيها النسبة ـ مع مرور الزمن ـ بدلاً من أن .. تزيد !!

هذه دراسة للشرق الأوسط أما في أفريقيا والشرق الأقصى فالأرقام محزنة بالنسبة لمن يحصلون على مياه للشرب نقية في الريف. حوالي عام 1980م كان هناك 6% فقط من سكان الريف في أندونيسيا يحصلون على مياه نقية للشرب، وفي اليمن 4% من السكان فقط كانوا يحصلون على مياه صالحة للشرب عام 1975م، وفي أفغانستان 6% فقط ، في العام نفسه. وفي بلاد الجفاف بأفريقيا، كما أسلفت، انعدام الأمطار وغياب المياه السطحية وحتى الجوفية يعرض الناس، والبهائم، للموت عطشاً

- جرثومة (الكوليرا ) - لمرض الوبائي الشديد والتي تنتقل عن طريق الماء الملوث.

===============

# بعض الأمراض الخطيرة في ديار المسلمين

أولاًـ مرض السل أو التدرن

وهو من أمراض الفقر، واسع الانتشار وعدد الإصابات الجديدة به كل عام ـ في سائر ديار المسلمين ـ هو حوالي أربعة ملايين وهذا رقم مخيف حقاً وأكثر هذه الإصابات تكون في الأعمار الفتية : أطفال دون سن الثالثة، وفتيان وشبان يافع.. والسل مرض سار سببه جرثومة تتوضع في الغالب في أنسجة الرئة تصيب بعض الأنسجة الأخرى أحياناً كالأغشية السحائية والعظام والمفاصل والكلى والأمعاء والغدد البلغمية ـ اللنفاوية ـ وغشاء البريتون والحنجرة والجلد . ولقد اكتشف جرثومة المرض العالم الألماني (روبرت كوخ) في 10 نيسان ) أبريل عام 1882م. وإذا لم تعالج حالات المرض المعدية معالجة فعّالة كافية يموت ثلثا المصابين خلال عامين من بدء المرض، وإذا عاشت الإصابة الواحدة مدة عامين دون تشخيص ومداواة يمكنها أن تعدي 24 شخصاً آخرين قبل أن تموت .

يقول الدكتور (ماهلر ) المدير العام لمنظمة الصحة العالميةـ وهو اختصاصي بهذا المرض:

( نحن نعلم اليوم أن سبب المرض يرجع لمزيج من العوامل الاجتماعية والاقتصادية بالإضافة للعوامل البيولوجية: نقص التغذية، عدم وجود المسكن الصحي المناسب، فقدان النظافة في الأشخاص والبيئة، عدم وجود الماء، الإرهاق الحاصل نتيجة الإنتانات الحادّة والإسهالات، ونقص في الوعي الصحي؛ لذلك هناك حاجة لتدابير عدة في جميع هذه المجالات في آن واحد معاً، حتى يستطيع جسم الإنسان الاستفادة من مقاومته الذاتية، وفي هذا الإطار فقط يكون للخطوات الوقائية والعلاجية التأثير المطلوب )(1 ) .

ويموت كل عام ثلاثة ملايين شخص بهذا المرض أكثرهم من الدول النامية حيث نسبة التعرض للمرض أعلى بـ 20 إلى 50 مرة من نسبتها في الدول المتقدمة.. وهي تتزايد باستمرار؛ والجدير بالملاحظة أن مرض السل قد تراجع في البلاد المتقدمة حتى قبل اكتشاف الأودية الفعالة ضد الجرثومة، وذلك بتحسين المستوى المعاشي: غذاءً متوازناً كافياً، ومسكناً صحياً واسعاً كامل التهوية، ووعياً تثقيفاً، وعزلاً للمرضى عن الأصحاء، لذا فالوفيات بمرض السل في البلاد المتقدمة نادرة جداً .

مدى انتشار المرض في الشرق الأوسط المسلم

تقسم الدول في هذا الإقليم إلى فئات ثلاث بالنسبة لهذا المرض:

بلاد الفئة الأولى ـ حيث حوادث السل متدنية نسبياً ـ:

البحرين، الكويت، قطر، لبنان، سورية، ليبيا (ومجموع سكانها حوالي 16 مليون نسمة ).

بلاد الفئة الثانية ـ حيث حوادث السل متوسطة الارتفاع:

مصر، العراق، الأردن، عُمان، باكستان، أفغانستان، السعودية، دولة الإمارات، وتونس، (ومجموع سكانها حوالي 180 مليون نسمة ).

بلاد الفئة الثالثة ـ حيث حوادث السل مرتفعة:

اليمن الشمالي، اليمن الجنوبي، جيبوتي، الصومال، السودان (وهي أفقر دول الجامعة العربية)!! (ومجموع سكانها 32 مليون نسمة )، وفي أندونيسيا هناك (150 ) إصابة في كل مائة ألف مواطن، فإذا حسبنا الإصابات في مجموع السكان (وهم حوالي 130 مليون نسمة ) نعرف أن هناك حوالي مائتي ألف (000ر200 ) مصدور جديد كل عام. أما في

( بنغلاديش ) فهناك حوالي مائة ألف مصدور جديد كل عام، وفي بلد قليل السكان كموريتانيا (وسكانها لا يتجاوزون مليون ونصف المليون )، سجلت اثنتا عشرة ألف إصابة يضاف إليها (3300 ) حالة جديدة كل عام.

وتجدر الإشارة إلى أن عدد حالات السل التي تسجل في الدول النامية ـ الفقيرة ـ هي أقل بكثير من الواقع، بل غالبية الحالات لا تكشف لأسباب عدة، منها: أن المرضى لا يراجعون السلطات الصحية لعدم تمكنهم من الوصول إلى مراكزها(2 )،أو، بكل بساطة لعدم وجودها، وإذا ما راجع مريض مركزاً صحياً.. قد لا يُشخص مرضه لضعف وسائل التشخيص ومحدوديتها خاصة في الأرياف، ثم إن عملية التسجيل ضعيفة ناقصة أو غير موجودة، ومعنى ذلك أن عدد الحالات في بعض الدول المسلمة هو في الواقع بمئات الألوف؟!

تكاليف الوقاية والعلاج

هناك تحصين ضد هذا المرض باستعمال المصل الواقي في السنة الأولى من العمر، ويعاد إعطاء المصل مرة ثانية في سن الدراسة الابتدائية (6-12 سنة )، ولا يكلف المصل إلاّ (قروشاً ) قليلة لكل طفل (2-5 سنتات أمريكية ) أي أن كل دولار يكفي لتحصين من (20 إلى50 طفلاً ) وهناك عقاقير فاعلة لعلاج كان يدوم عامين ويكلف 15 دولاراً للمريض الواحد تقريباً، وللأدوية الحديثة فاعلية أقوى، وتختصر مدة العلاج إلى عام واحد أو أقل (9 أشهر )، ولكنها تكلف المريض (250 ) دولاراً.

فإذا افترضنا ـ جدلاً أننا نريد معالجة المليون حالة التي تظهر في الشرق الأوسط المسلم بأغلى أنواع العقاقير الحديثة.. سيكلف ذلك كله ـ نظرياً ـ: 250 مليون دولار فهل تعجز الدول المسلمة عن توفير مثل هذا المبلغ لمعالجة مليون مسلول؟؟

وإذا علمنا أن غالبية الدول النامية ـ الفقيرة ـ (50 من 86 دولة ) تصرف على مجمل الخدمات الصحية لمواطنيها في العام كله أقل من خمسة دولارات على الفرد، وهناك 22 دولة منها لا تصرف إلاّ حوالي دولار واحد في السنة على كل مواطن، تبين لنا لماذا لا يزال مرض السل يفتك بملايين الفقراء في ديار المسلمين!! ومن باب المقارنة فقط أذكر أن إنفاق دولة مثل (السويد ) عام 1976م على الخدمات الصحية كان (550 ) دولاراً على كل مواطن في العام..، أما الإنفاق الصحي في دولة (بنغلاديش ) في أوائل الثمانينيات فكان فقط 04ر0 من الدولار أي ( أربع سنتات لا غير ) على كل الخدمات الصحية !!!

-صورة لجراثيم السل (التدرن)

أين يضع المسلمون فائض أموالهم؟

تقول جريدة (السياسة ) اليومية الكويتية(3 ):

(رتفعت قيمة الاستثمارات العربية خارج المنطقة من 13 مليار دولار عام 1974م إلى نحو (104) مليارات دولار في عام 1980م ويتوقع الخبراء الاقتصاديون أن هذه الاستثمارات ستبلغ (900) مليار دولار عام 1985م )، فإذا استعاد المرء ما ذكرت آنفاً من أن أعلى نسبة لحوادث السل في المنطقة هي في أفقر دول الجامعة العربية (اليمن شمالاً وجنوباً، الصومال، جيبوتي، والسودان ) يتبادر للذهن.. بتداعي.. بيت الشعر القائل ـ مع بعض التحريف اللازم ـ:

أحرام على (مساكينه ) المال *** حلال (للغير ).. من كل جنس !؟؟

ولماذا أذهب بعيداً.. لنقل الحق .. ولو على أنفسنا: هناك بعض أغنياء المسلمين الذين يصرفون المال أحياناً كثيرة في أمور لا ترضى الله ..،.. أو يمحق الله هذا المال ليكون درساً قاسياً للمضاربين من الأفراد الذين أعمتهم شهوة الربح المادي السريع، وأحدث كارثة هائلة من هذا النوع أدّت لخسارة مخيفة: (تقدر المبالغ الإجمالية المكشوفة، أي المبالغ المدفوعة لقاء الأسهم بشيكات مؤجلة الدفع بغير رصيد بـ (94) مليار دولار وهو نصف الاحتياطي المتراكم لدى الكويت بالعملات الأجنبية ) (4 ).

ولا أقول لو صرف هذا المال كله أو جلّه .. بل لو صرفت (زكاته ) فقط على مرضى المسلمين ـ وهي حوالي (235) مليون دولار ـ لما بقي مسلول بينهم، ولما مات ملايين المسلمين المصدورين ولتحسنت قطعاً سويَّة معاشهم وصحهتم وغذائهم ، وانخفضت نسبة الإصابات والوفيات بسبب أمراض الفقر الأخرى (الأمراض السارية وسوء التغذية ).

أيها المسلمون من أهل اليسر.. هلاّ ذكرتم أهل المسغبة من إخوانكم؟ وهلاّ وعيتم أحاديث الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم: (من كان في حاجة أخيه كان الله في حاجته )

[البخاري ] و(لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحبه لنفسه ) [الشيخان ]، و(يقول العبد مالي مالي وإنما له من ماله ثلاث: ما أكل فأفنى، أو لبس فأبلى، أو أعطى فأقنى، وما سوى ذلك فهو ذاهب وتاركه للناس ) [مسلم ]، و(السَّخيّ قريب من الله والبخيل بعيد من الله بعيد من الناس بعيد من الجنة قريب من النار، ولجاهل سخي أحب إلى الله تعالى من عابد بخيل ) [الترمذي ] .

ثانياًـ مرض الجُذام

مرض مزمن مُعْدٍ يصيب أنسجة الجلد والأغشية المخاطية والعيون والأعصاب الطرفية والعضلات، ويؤدي إلى ضعف وشلل فيها، وتغيير وتقرح في هذه الأنسجة كلها؛ وينتج عن ذلك تعطيل وإعاقة في 50% من الحالات التي تعالج.

وسبب المرض جرثومة تشبه ـ شكلا ً ـ إلى حدّ ما ـ جرثومة السل، وتنتقل بالاحتكاك المباشر والاختلاط المستمر؛ ونسبة الإصابة في الأعمار الصغيرة (5 ـ 14 سنة ) هي ضعف النسبة في البالغين وتتراوح فترة حضانة المرض ما بين (7 أشهر إلى 5 سنوات ) من بدء التعرض للجرثومة.

والمرض منتشر بكثرة في المناطق الحارة، وبدرجة أقل في الأجواء المعتدلة، إلا أن الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية (الفقر والتخلف ) هي، على الأغلب، أكثر أهمية في انتشاره، من المناخ.

كانت التقديرات، في السبعينيات، تقول بوجود (11 ) مليون(5 ) مجذوم في العالم.. أما تقديرات منظمة الصحة العالمية في الستينيات فكانت كالتالي:

في أفريقيا الاستوائية 000ر500ر3 مليون حالة

في جنوب شرقي آسيا 000ر510ر4 مليون حالة

[أي حوالي 45% من مجموع المجذومين في العالم ]

في إقليم شرقي البحر المتوسط 000ر160 حالة (الشرق الأوسط ) .

في إقليم غربي المحيط الهادي 000ر000ر2 مليونان من الحالات أي إن مجموع الإصابات المحتملة في آسيا وأفريقيا فقط، هو 000ر170ر10 حالة، وفي بلد مسلم قليل السكان مثل (موريتانيا ) كان هناك، في أواسط السبعينيات، (2500 ) حالة مسجلة من الجذام .

- هذا هو الجذام

--------------------------------------------------------------------------------

- وهذه بعض مضاعافاته

أما علاج المرضى فيدوم سنوات طويلة قد تفوق العشر، وتخف العدوى بعد العلاج وتنعدم كلياً بعد بدئه بثلاثة أشهرـ إذا كان منتظماً ـ أما المضاعفات والشلل وفقدان الأطراف فلا علاج لها بعد حدوثها.

ثالثاًـ مرض البلهارسيا

مرض مزمن خطير ينهك الجسم، ويسببه طفيلي ينتقل بالماء، ويصيب جهاز الهضم (الأمعاء ) وجهاز البول ويحدث نزفاً مستمراً في التغوط والتبول؛ واسم الطفيلي

(Schistosoma ) وهوعلى ثلاثة أنواع.

وآخر التقديرات في العالم عن عدد الحالات هو (200 ) مليون إصابة تقريباً، ويكثر وجود المرض في المناطق الزراعية التي تتوسع فيها أعمال الري؛ والمرض منتشر بصورة كبيرة في أفريقيا وآسيا، والخريطة المرفقة تعطي بعض المعلومات عن أماكن وجوده في العالم الأفريقي والآسيوي.

-التوزيع الجغرافي لمرض ( البلهارسيا ) بأنواعها في أفريقيا وآسيا- اللون الأسود يدل على النوع الذي يصيب الأمعاء ، والمنقط للنوع الذي يصيب جهاز التبول

كانت نسبة الإصابة في مصر عام 1974م ـ في بعض المناطق ـ 22% من السكان؛ وكانت نسبة الإصابة بالبلهارسيا ـ في جهاز البول ـ عام 1968م في مديرية الفيوم 7ر45% وفي أواسط مصر 31% (في المسح الذي أجري عام 1976م ).

وهناك عدد ضخم من الحالات في غربي أفريقيا ـ نيجيريا مثلا ً ـ وفي السودان، أما في إيران فنسبة الإصابة كانت 3ر8% في منطقة خوزستان، ولقد سجل في المغرب خمسون ألف حالة، وكانت النسبة العامة للمرض في جنوبي تونس 6ر6%، أما في بعض القرى هناك فكانت النسبة (30 ـ 70% )؛ وهناك بؤر محدودة من هذا المرض في شمالي سورية وجنوبي لبنان، وشبه الجزيرة العربية.

والمرض يؤدي إلى ضعف عام و(أنيميا ـ ضعف دم ) ومضاعفات عدة تنهك المصاب وتجعل حياته بائسة حزينة. وهناك علاج للمرض إلا أن المزارعين العاملين في الحقول المروية يصابون مرات ومرات؛ وتنفق مصر في مكافحة المرض مئات ملايين الجنيهات؛ (ثلاثمائة مليون دولار في العام خسارة مصر على هذا المرض: مداواة وضياع إنتاج ).

رابعاً ـ مرض الملاريا (البرداء)

مرض سار يسببه طفيلي يغزو كريات الدم الحمراء وينتقل بواسطة نوع معين من البعوض اسمه (أنوفيليس ).

والملاريا هي أوسع الأمراض انتشاراً في آسيا وأفريقيا؛ تقتل الأطفال إذا كانت من النوع الخبيث عندما تحصل مضاعفات دماغية، وتعطل الشباب عن أعمالهم خاصة في الريف كلما جاءت نوباتها المتكررة التي تحدث شعوراً بالبرد مع ترفع حراري؛ وإزمان الإصابة يؤدي إلى ضعف الدم (الأنيميا ) وتضخم الطحال، والكبد .. إلى حد ما.

يموت بهذا المرض حوالي مليون طفل كل عام في أفريقيا وحدها، ورغم المكافحة المستمرة للمرض لا يزال منتشراً في كثير من البلاد. والخريطة المرفقة تبين مناطق آسيا وأفريقيا حيث يحصل انتقال المرض (وهي تعرض ما كان عليه الحال عام 1980م ).

والملاريا، مثل البلهارسيا، يؤثران سوية على الحياة الاقتصادية في الريف ويعيقان، بوجودهما التنمية في سائر الميادين الاقتصادية والاجتماعية والصحية، وكلما توسعت أعمال الري (وهدفها التنمية الزراعية ) ازدادت خطورة هذين المرضين لزيادة نسبة التعرض للإصابة بإزدياد كثافة البعوض الناقل (للملاريا ) وكثافة الحشرات المائية الناقلة

(للبلهارسيا ).

وهناك علاج فعَّال للملاريا إلاّ أن استمرارية انتقال المرض عن طريق البعوض يعرض السكان في البلاد التي يستوطنها المرض، إلى إصابات متكررة حيث يكون الانتقال على مدار السنة، أو يزداد في فصول معينة (فصول الأمطار والارتفاع المعتدل لدرجات حرارة الجو ).

- صورة البعوض الناقل لمرض ( الملاريا ) في أفريقيا.

--------------------------------------------------------------------------------

-خريطة انتشارالمرض في آسيا وأفريقيا (عام 1980م)

وباستثناء لبنان والأردن والبحرين وقبرص، لا تزال جيوب الملاريا موجودة في كل الشرق الأوسط على درجات مختلفة من الشدة.

أما في أفريقيا فانتشار الملاريا واسع في كل المناطق الاستوائية ولا يخلوا بلد من المرض (إلاّ في صحارى لا ماء فيها ولا ناس )؛ حتى في الواحات، حيث يتوالد البعوض في تجمعات المياه الراكدة أو الجارية ببطء يحدث انتقال المرض.

وتسجل مثلاً ملايين الحالات في نيجيريا والسودان كل عام،وفي أندونيسيا 10% من السكان مصابون بالملاريا، فإذا علمنا أن سكان أندونيسيا هم أكثر من 130 مليون نسمة يعني أن هناك حوالي 13 مليون مصاب بالملاريا.

ولا حاجة لتكرار القول: إن لهذا المرض علاقة بالتخلف والفقر، أيضاً، والمحرومون في الأرياف وعلى أطراف الحواضر المدنية الكبرى في آسيا وأفريقيا هم أكثر تعرضاً وأكثر إصابة بهذا المرض.

ولا يزال العلماء يبحثون في إمكانية تحضير مصل واقٍ فعال ضد هذا المرض؛ إلاّ أنه من المتيسر الآن تطبيق تدابير وقائية منه، إما باتقاء البعوض الناقل ـ خاصة في الليل ـ أو بأخذ أدوية باستمرارـ أسبوعيا على الأقل ـ، ولكن هذه التدابير غير عملية بالنسبة لأهل البلاد التي يتوطن فيها المرض، وعلى وجه الخصوص سكان الأرياف المعدمين. لذلك يجب الاستمرار في مكافحة هذا المرض على المستوى العام لتقليل نسبة الإصابات إلى الحد الأدنى الممكن.. بانتظار أن يُسْتأصل المرض كلياً.. وقد لا يحدث ذلك في أفريقيا وآسيا في المستقبل المنظور. وإلى أن يحدث، يكتوي مئات ملايين الناس ـ والمسلمون من ضمنهم ـ بنار هذا الداء بالإضافة إلى الأمراض العديدة الأخرى التي تصيبهم.

خامساًـ داء الفيلة و (الفيلاريا)

وهو مرض سارٍ سببه طفيلي (الفيلاريا ) الذي يتوضع في الجهاز البلغمي ـ اللنفاوي ـ ويحدث انسدادات في المجاري مما يؤدي إلى تضخم الأطراف المصابة مع أزمان المرض؛ وعندما يحدث ذلك في الساق مثلاً يزداد حجمها بحيث تشبه ـ إلى حد ما ـ ساق الفيل، ومن هنا جاءت التسمية..! وينتقل المرض من إنسان لآخر عن طريق البعوض أيضاً (إما نوع الكولكس أو الأنوفيليس ).

والمرض منتشر بكثرة في آسيا وأفريقيا وهو في ازدياد، ففي الهند مثلاً كان هناك 25 مليون حالة (فيلاريا ) عام 1953م أما عام 1972م أي بعد أقل من عشرين سنة أصبح العدد التقديري للحالات (136 ) مليون حالة (أي بزيادة خمسة إلى ستة أضعاف، مع الأخذ بالاعتبار الزيادة السكانية، وتحسن وسائل المكافحة )، والمرض موجود في شمالي أفريقيا كما هو موجود في المناطق الاستوائية منها كذلك في شبه الجزيرة العربية وجنوب شرقي آسيا والمحيط الهادئ في الشرق الأقصى وتخلو منه سواحل شرقي المتوسط.

-صورة رقم (1) للأطراف السفلية - (داء الفيلة)

--------------------------------------------------------------------------------

-صورة رقم (2) للأطراف العلوية (داء الفيلة)

والصورتان السابقتان رقم1 و 2 حالتان من حالات داء الفيلة الشديدة، والجدير بالذكر أن هذا الداء لا يظهر إلاّ بعد سنين طويلة من الإصابة بـ (الفيلاريا ) وعدم معالجتها معالجة فعالة كافية.

سادساًـ مرض النوم ( الأفريقي)

وهو موجود فقط في أفريقيا وسببه طفيلي اسمه ( Trypanosomaتريبانوسوما ) والمرض يصيب بعض الحيوانات أيضاً بالإضافة إلى الإنسان مثل الأبقار والخيول.. في أفريقيا الاستوائية فقط. وهو أحد أهم المخاطر الصحية على الإنسان ومن أهم العراقيل في سبيل التنمية الزراعية والصناعية في المناطق المصابة، وتقول التقارير الأخيرة بوجود (45 ) مليون إنسان و(25 ) مليون رأس من البقر معرضين للإصابة(6 )، وينتقل المرض بواسطة ذبابة تسمى (التسي تسي Tse Tse ) ولقد سمي مرض النوم لأن المرض المزمن هذا قد يُحدث في الإنسان المصاب تغيُّراً في فيسيولوجية الجسم تجعل المصاب أرقاً في الليل ناعساً في النهار. والصورتان رقم:1 للذبابة الناقة، ورقم: 2 لمريض مصاب بهذا المرض. ومن حسن حظ قارة آسيا أنها خالية منه [لا إصابات في الإنسان ].

- ذبابة ( التسي تسي) الناقلة للمرض

--------------------------------------------------------------------------------

- مريض مصاب بمرض النوم في ( أفريقيا )

سابعاًـ مرض الليشمانيا بنوعيه الجلدي والباطني

وسببه طفيلي اسمه ( Leshmania ) وهو مرض مزمن سارٍ ينتقل بواسطة ذبابة صغيرة اسمها (Phlebtomus ) أما النوع الجلدي فمنتشر في آسيا وأفريقيا، والشرق الأوسط، كله والتقرح الجلدي يسمى في سورية (حبَّة حلب ) وفي العراق (حبَّة بغداد ) ويترك بعد تندبه آثاراً واضحة في الوجه أو الأطراف. والنوع الباطني يسبب حمى متقطعة مع تضخم الطحال والكبد، وهو موجود في واطيء حوض البحر المتوسط كلها تقريباً ؛ والمرض خطير إذا لم يُعالج مدة كافية بالدواء المناسب.

والخريطة المرفقة تبين مدى انتشاره في القارتين الآسيوية والأفريقية.

أمراض خطيرة أخرى

وهناك أمراض هامة سارية أخرى في ديار المسلمين لا مجال للتفصيل فيها هنا، ويكفيني أن أعددها في هذا الكتاب: من أهمها (الكوليرا ) المستوطنة والتي تسبب موجات وبائية تنتقل عبر القارات، وتصل حوادثها أحيانا من آسيا وأفريقيا إلى أوروبا؛ و(التهاب السحايا الجرثومي )، وبعض بؤر ( الطاعون)، و(التيفوس المستوطن ) والحمى القلاعية

( Brucellosis ) التي تصيب الإنسان والماشية، و(الحمى الصفراء ) في أفريقيا الاستوائية، وأمراض جلدية كثيرة متنوعة. وأخيراً الأمراض الجنسية التي وفدت بأنواعها الجديدة من خارج عالم المسلمين.. إلى ديارهم، وانتشارها الآن ـ رغم محدوديته النسبية ـ يشكل خطراً مستقبلياً قد يستفحل إذا استمر التحلل الجنسي و(التحرر ) من الأخلاق الفاضلة، وتدني المستوى الصحي للفرد والمحيط.

- التوزيع الجغرافي لمرض( الليشمانيا) بأنواعه في أفريقيا وآسيا- اللون الأسود يدل على المرض الباطني ، والخطوط تدل على المرض الجلدي

ولا أريد أن أخوض في موضوع الإدمان الكحولي والإدمان على المخدرات فهي تندرج تحت عنوان الأمراض النفسية، وإذا نجحت عمليات (التغريب ) في مجتمعات المسلمين، لا سمح الله، سيزداد خطر هذه الأمراض، وتزداد عقابيلها؛ وكل هذه الأمراض تزيد من مصائب المسلمين وبؤسهم وتخلفهم وتحتاج لعلاج سريع

=============

# الأولويات في العمل الصحي

الأولويات في العمل الصحي

إذا كان مليونان من أصل أحد عشر مليون وليد سنوياً يموتون في الشرق الأوسط المسلم بسبب الإنتانات التي يمكن الوقاية منها (نصفهم يموتون بأمراض الإسهال وسوء التغذية ).

وإذا كان مليون طفل يموتون كل عام في أفريقيا من مرض الملاريا، وهناك مجال للوقاية من هذا المرض، فلا حاجة للتساؤل إذن عن الأولويات.. إنها في الوقاية من هذه الأمراض: بالتحصين،

إذا وجد، والتغذية الصحية، وتحسين صحة البيئة، ورفع المستوى الاقتصادي والاجتماعي والتربوي، وتوفير المياه الصالحة للشرب، وتصريف الفضلات والقمامة بالأسلوب الفني اللازم، والتوعية الصحية، ومكافحة الأمراض السارية المتوطنة على مستوى صحة العامة. وكل هذه النشاطات ـ تقريباً ـ تندرج تحت عنوان كبير هو: خدمات الصحة العامة، ومن أبرز ميادينها الطب الوقائي.

إلاّ أن أولوياتنا في العالم المسلم (مقلوبة ) لسوء الحظ(1 )، وهذا ليس حكراً على ديار المسلمين وحدها، بل هو عارض عام في العالم (النامي ) ـ المتخلف ،؛ ففي كل هذا العالم المتخلف نجد خدمات الصحة العامة، عادة، ضعيفة محصورة في المراكز الحضرية، تشكو من عدم الاهتمام الجاد بها، ومن عدم وجود المخصصات المالية والموارد اللازمة والأطُر الفنية المدربة، والتخطيط الصحي الواعي. ويكتسح (الطب العلاجي ) أكثر جوانب الميزانيتين ـ العادية والإنمائية ـ؛ ولهذا الواقع المؤسف خلفيات مادية ونفسية وسياسية وأنانية:

ومهما كان النظام القائم في العالم (النامي ) يفكر المسؤولون أولاً، وقبل كل شيء، بتثبيت دعائم وجودهم على رأس الهرم الحاكم.. بالطرق المتاحة؛ ومن أهم أجهزة السلطة وسائل الإعلام مقروءة و(مرئية ) ومسموعة؛ ولا غبار على الدعاية لإنجازات الدولة في كل ميدان..، فلنر ماذا يمكن أن يستفاد من الدعاية في ميدان وزارة الصحة ـ وهي أضعف الوزارات وزناً اعتبارياً ومالياً ـ في العالم النامي..

إذا بُني مركز صحي يروج له بكل وسائل الإعلام ويظهر كواقع حسي ملموس و(إنجاز مرئي )؛ وإذا اشتُريت معدات طبية غالية الثمن دقيقة الصنع ـ من الخارج طبعاً، ودعونا من الحديث عن حدودية استعمالاتها وانعدام صيانتها، وهذا ما يحدث عادة ـ فهذه الآلات أشياء يمكن لعامة الناس أن يروها مباشرة على التليفزيون ويكون لها تأثير نفسي يستفيد منه المسؤول دعاية لتدعيم مركزه الانتخابي ـ إذا جرى انتخاب ـ فشراء آلات الطب العلاجي المعقدة الشكل تسجل في قائمة المنجزات..

أما الطلب الوقائي ونشاطاته فليس له ولها ـ في الواقع ـ التأثير النفسي المطلوب: إذا أذيع مثلاً، أن أطفال الريف قد لُقّحوا ضد مرض شلل الأطفال وقاية لهم من إصابة محتملة في قابل أيامهم.. فليس في ذلك أمر ملموس مادي مرئي يمكن للمسؤولين أن يعرضوا نتائجه ـ وهي في بطن الغيب ـ في التليفزيون كما يعرضون الرئة الاصطناعية مثلاً أو يعرضون جناحاً جديداً شُيد حديثاً في مستشفى العاصمة ـ حتى ولو أن الجناح هذا قد أقيم دون تخطيط مسبق لتجهيزه بالأطر الفنية المدربة والأجهزة اللازمة.. ولا حتى رصد له المال اللازم لتسييره في العمل اليومي ـ؛ وليس هناك أي تفكير جاد في أن (درهم وقاية خير من قنطار علاج ).. هي حكمة لا تزال قائمة، وأن مصاريف الطب العلاجي تفوق تكاليف الطب الوقائي، وأن نجاح الوقاية يوفر نفقات كثيرة من مصاريف الطب العلاجي بتخفيف الأمراض التي تستخدم الأسرَّة في المشافي؛ وأي طالب اقتصاد مبتدئ يعلم أن المردود الاقتصادي على المدى الطويل أكثر بكثير في الطب الوقائي والخدمات الصحية.

إلاّ أن (مراكز النفوذ ) هي عادة في المدن، وتتألف من الفئات الموسرة ـ حلالاً أو حراماً ـ وهي التي تستفيد من تركيز الخدمات العلاجية في المدن على حساب حياة الملايين من أبناء الريف الفقير، وسكان الريف، بالمناسبة ، يشكلون في بعض ديار المسلمين أكثر من 87% من مجموع السكان.

وَيُضَحّى دائماً بالعلم والمعرفة والخبرة والتجربة الطويلة على مذبح الولاء.. الولاء لأولى الأمر، وتستفحل (هجرة الأدمغة ) ويسود حينذاك الجهل.. ومن مظاهره الفشل المتلاحق في جميع ميادين النشاطات الحياتية ومنها، طبعاً، النشاطات الصحية.

وحتى في مجال الطب العلاجي يفتقد الفقراء في كثير من ديار المسلمين الإخلاص في العاملين بهذه الخدمات، ويفتقدون الأدوية في المراكز الطبية.. والتمريض في المشافي ونظافة اليد في الإداريين.

ويسمع المسلمون حديث الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم:

(تداووا عباد الله فإن الله لم يخلق داء إلا خلق له دواء إلاّ الهرم ) [رواه أحمد وأبو داود والترميذي ].

ويريدون أن يقتدوا بسنة الرسول العظيم صلى الله عليه وسلم فلا يجد أكثرهم ـ الآن ـ المال لدفع أجور التداوي المرتفعة، هذا إذا وُجدت مؤسسات التداوي أصلاً في مناطقهم. واسألوا أبناء ريف (موريتانيا ) أو (بنغلادش ) أو (نيجيريا ) أو (الصومال ) أو (تشاد ).. مثلاً هل يجدون فرصة للتداوي عندما يمرضون ـ وهذا هو حالهم أغلب أيام السنة ـ ؟ اللهم إلاّ إذا لهثوا خلف المراكز التنصيرية، بل الواقع أن المنصِّرين هم الذين يلهثون خلف المحتاجين والمرضى والمعذبين والجائعين والمستضعفين المسحوقين واللاجئين المحرومين لتضميد الجراح وإطعام الجياع وكساء العراة، وإعطاء المحتاج، وإغداق المال بلا حساب.. وهكذا يغمرونهم (بالإحسان )!!

ومنذ أواسط السبعينيات كان للكنيسة لجان تنسيق تخطط، مع الحكومات الوطنية، الخدمات الطبية في ست دول أفريقية على الأقل، منها (نيجيريا ) ذات الغالبية المسلمة وأكثر دول أفريقيا سكاناً(2 ).

الضعف البشري

والمرض يجعل الإنسان قلقاً خائفاً لا يتردد في قبول المساعدة من أية يد تمتد إليه واعدة بإقالته من عثرته وشفائه من آلامه الجسدية والنفسية معاً.

ولقد أدرك المنُصرون هذه الحقائق منذ زمن بعيد وأتقنوا هذه اللعبة وتفننوا في استغلال هذا الضعف البشري الظاهر في كثير من ديار المسلمين في آسيا وأفريقيا، وحوَّلوا، عن طريقه، أعداداً كبيرة من المحرومين المسلمين عن دينهم.

(يذكر تقرير حديث من إندونيسيا أنه خلال العقدين الأخيرين ـ أي خلال عشرين عاماً فقط ـ أنشأت الأقلية النصرانية هناك من المستشفيات ما فاق في عدده مؤسسات الأغلبية الساحقة من المسلمين، حتى إن جمعية الإنجيل الثانية أعلنت عام 1976م عن تنصير 000ر4000 شخص، وتلا ذلك نبأ وكالة (اليونايتد برس) أن 000ر500ر3 (ثلاثة ملايين ونصف مليون) من المسلمين قد تنصروا خلال ثلاث سنوات ) (3 ).

وألفت النظر هنا إلى الأمر الهام التالي: إذا استطاع المسلم الأمي أن يقاطع مدارس المنصِّرين وفضَّل البقاء جاهلاً على أن يبيع دينه بدنياه، كما حدث لكثير من مسلمي نيجيريا مثلاً؛ وإذا استطاع المسلم الفقير مقاومة إغراء المال والرفاه الذي يؤمنونه له ولعائلته إذا اتَّبع ملتهم،.. فإن المسلم المريض لا يستطيع رفض اليد الرحيمة ـ ظاهرا ً ـ تمتد إليه هؤلاء المنصِّرين لتمسح جراحه وتنهي عذابه.. ثم تحوله لوجهها.! وليس من المنطق والمعقول والعدل أن ننتظر من إنسان أن يرقى بروحه ومشاعره وأفكاره وإيمانه إلى المستوى الإسلامي الرفيع ما لم تتوفر له حاجاته الأساسية من غذاء وكساء وصحة وتعليم وسكن وعمل.

ومن نافلة القول أن أذكر أن المسلم الصحيح القوي يستشعر عزته، كمسلم، أكثر بكثير من المسلم الفقير الضعيف الجائع الذي يشكو من علل كثيرة في جسمه.. هذا إذا افترضنا جدلاً أن المسلم المحروم يستطيع أصلاً الشعور بكل معاني الإسلام السامية؛ وعندما تنتهي آلامه ويشعر بالصحة والقوة يستطيع حينذاك الإحساس العميق بكرامته كإنسان كرّمه الله حين جعله الخليفة في الأرض؛ ومن هنا نرى أن ضعف المجتمعات المسلمة وهوانها على الأعداء راجع أكثره لفقدانها للحصانة الإسلامية روحاً وجسداً: فالجهل والانحراف والخرافة والإذلال والاستبداد السياسي من جهة، والفقر والمرض والجوع من جهة أخرى .

والتكافل الإسلامي الذي هو أصلاً فرض على الفرد وأولي الأمر، في إطار الأمة، يصبح الآن، أيضاً، ضرورة استراتيجية ـ بلغة العصر ـ وسلاحاً فعَّالاً للدفاع عن عقيدة المسلمين ووجودهم الكريم، ومواجهة المحاولات الخبيثة المستمرة التي يتعرضون لها.

التعامل مع الواقع الأليم

يُضيق كثير من مسلمي العصر مفهوم (العبادات ) فيقصرونه على إقامة الشعائر، أما (المعاملات ) وهي جماع النشاطات الحياتية في هذه الدنيا الفانية،.. فلا ترقى في مستويات اهتمامهم إلي منزلة العبادات مع أنها التطبيق العملي للإيمان الواعي الذي وقر في القلب وصدّقه العمل، وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم: (الدين المعاملة ).

العبادات في الإسلام أوسع وأشمل مفهوماً وإطاراً، فكل عمل حسن أريد به وجه الله، هو نوع من العبادة، ولقد ضرب الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم المثل حين فضّل الأخ العامل على أخيه الزاهد الذي لا يفارق المسجد ويعيش عالة على أخيه، حين قال ما معناه: أخوه أعبد أو أتقى منه .

والعدل وتوخّيه والظلم واجتنابه ومكافحته من أسس التعامل الإسلامي: أمرٌ بمعروف ونهي عن منكر، فإذا وُجد المنكر يجب تقويمه باليد أولاً.. فإن لم تكن استطاعة فباللسان.. وإلاّ فبأضعف الإيمان .. بالقلب.

والظلم بأشكاله منكر سواء أكان في فقدان المساواة ـ والناس سواسية كأسنان المشط ـ أو في انعدام الحرية ( ويولد الناس في الأصل أحراراً كما قال الخليفة العادل عمر رضي الله عنه )، أو في تسلط الحكام المستبدين، أو في احتكار السلع والحاجيات الضرورية للناس، أو في امتيازات خاصة بفئة أو طبقة أو لون أو عرق.

يقول الرسول القائد صلى الله عليه وسلم: (من لم يهتم بأمر المسلمين فليس منهم ) والتكافل الإسلامي واجب في إطار الأمة على الفرد وعلى الجماعة، فإذا لم يقم.. فهذا تكذيب بالدين:

(أريت الذي يكذب بالدين. فذلك الذي يدُعُّ اليتيم. ولا يحض على طعام المسكين ) وينذر الله المرائين الذين يؤدون بعض العبادات.. ويفعلون عكس غاياتها في معاملاتهم:

(فويل للمصلين الذين هم عن صلاتهم ساهون . الذين هم يراؤون. ويمنعون الماعون )

( الماعون 1-7 ).

والمؤمن الواعي هو الإنسان المطمئن الذي لا يخاف مكافحة الشرور ويسهم في عمل الخير، يؤدي فروض عبادته لله ويؤدى حق المحرومين المعلوم في ماله:

(إنَّ الإنسان خُلق هلوعاً . إذا مسهُ الشرُّ جزوعاً. وإذا مسه الخير منوعاً. إلا المصلين الذين هم على صلاتهم دائمون. والذين في أموالهم حق معلوم للسائل والمحروم )

(المعارج: 19 ـ 25 ).

مواصفات المؤمنين الأتقياء المحسنين معروفة وثوابهم في الآخرة معروف

(إنَّ المتقين في جنات وعيون. آخذين ما آتاهم ربهم إنهم كانوا قبل ذلك محسنين. كانوا قليلاً من الليل ما يهجعون . وبالأسحارِ هُم يستغفرون. وفي أموالهم حق للسائل والمحروم ) (الذاريات:15 ـ19 ).والله يحب عياله من الخلق، بقدر محبتهم ومنفعتهم لبعضهم بعضا، قال عليه الصلاة والسلام:

(الخلق كلهم عيال الله وأحبهم إليه أنفعهم لعياله )، لذا إذا افتُقد التكافل الإسلامي في بيئته أو مجتمع أو حي أو عَرضَةٍ فإن هذا (خروج ) من الإيمان، إلى درجة أن المسؤولين عنه تبرأ منهم ذمة الله، كما أسلفت:

(والله لا يؤمن من بات شبعان وجاره جائع ـ وهو يدري ـ ). ( أيما أهل عَرضَةٍ أصبح فيهم أمرؤ جائع فقد برئت منهم ذمة الله ) [الحاكم ]

(إن اللهجة الشديدة المنذرة بالخروج عن الإيمان لم تستعمل بحق مرتكبي الكبائر كشرب الخمر والزنى، كما استعملت هنا بحق هؤلاء، وذلك مما يدل على عظم مسؤولية المجتمع كله إذا وجد فيه فقراء معدمون لا ينهض أحد بأمرهم؛ وإن هذه الظاهرة ـ أعني إهمال المجتمع لمن فيه من الفقراء والمحتاجين والعجزة المضطرين والمساكين المعوزين وأمثالهم ـ تعتبر (جريمة ) أعظم من جرائم الزنى وشرب الخمر.. التي هي من الكبائر، وسكوت المسلمين على ظلم أغنيائهم وتحكمهم، مع يسارهم وترفهم، من الكبائر العظمى كذلك، خاصة إذا كان السكوت من دعاة الدين وعلماء المسلمين ) (4 ).

والشيخ حسن البنا رائد الحركات الإسلامية المعاصرة ـ رضي الله عنه وأجزل ثوابه ـ لم يقتصر في قوله وعمله على العقائد، والعبادات ـ بالمفهوم الضيِّق ـ بل اهتم بأمور المسلمين كلها فأقام المؤسسات الاقتصادية والمشاريع التعاونية وفتح المدارس والمعاهد وأنشأ المستوصفات والمشافي ودرَّب الشباب على الإخشيشان والكفاح وواجه الظلم بأنواعه والظالمين حتى استشهد برصاصهم..

فما بال أقوام يهتمون اليوم ببعض الجزئيات على حساب المقاصد للشريعة، ولا يولون القدْر نفسه من الاهتمام للتأسي بأفعال الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم وأعماله وتعامله اليومي مع الناس، وهو سيد البشر جميعاً في أخلاقه وصفاته زكَّاه الله في محكم كتابه: (وإنك لعلى خُلُقٍ عَظيمٍ ).

واليوم هناك عشرات الملايين من المسلمين الجائعين المرضى الأميين في ديار مصابة بالجدب والقحط والجفاف والأوبئة والحرمان التام، وكلهم من المستضعفين المظلومين على أيدي أولي الأمر من ذوي القربى.. وعلى أيدي الأجانب دولاً وشركات وجمعيات مشبوهة، وهم ينتظرون من إخوانهم العون والإسعاف والمؤاساة

فلماذا يخفف بعضهم من التركيز على العدل الاجتماعي والتكافل الإسلامي ولا يبرزها في دعوته؟

أو يظن هؤلاء الإخوة أن الزاد الروحي يكفي لإطعام هؤلاء الجائعين ؟ إن للجسد حقاً مثلما للنفس حقاً كما علَّمنا الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم. ألا يعلم هؤلاء الإخوة أنهم يتركون، بذلك، هذه الساحة الاجتماعية للأفاكين من الملحدين الذين يهتمون، ظاهراً، بالفقراء ويعدونهم ـ كذباًـ بجنة ماركسية مستقبلية إذا ردّدوا كالببغاوات: (إن الدين أفيون الشعوب )؛ بل يترك هؤلاء الإخوة الساحة نفسها للأجانب و(الخواجات ) في جمعيات رحمة! وإسعاف وتوزيع أغذية وأدوية، وتأسيس رياض أطفال وثانويات بل وجامعات، وإقامة مستشفيايٍ وعيادات ومآوي عجزة، ونوادٍ اجتماعية وإغداق المساعدات المالية الضخمة في قروض زراعية وهبات وغيرها(5 ).

ويعترض بعضهم على الدعوة للانخراط في العمل الاجتماعي بحجة أن هذا هو جزء من كل ويقولون: يجب التركيز على قيام الدولة الإسلامية، ومتى حدث ذلك.. تحل هذه المشكلات حلاً عادلاً؛ إلاّ أن العمل لقيام الحكم الإسلامي لا يمنع قيام عمل اجتماعي مواكب ربما أسهم في تسريع قيام هذا الحكم؛ وإلى أن يقوم الحكم الإسلامي في سائر دار الإسلام ماذا يرتئي هؤلاء الإخوة فعله لعشرات ملايين المحرومين ؟ إنهم بالفعل يتركونهم ـ حتى الآن ـ للجمعيات الأجنبية، أما سمعوا بالخواجا (أندرية سابيه ) البلجيكي الذي تبنى (30903 ) من أطفال المسلمين الصوماليين ؟(6 ) .

ولقد نشرت إحدى الصحف العربية الرصينة (7) أربعة عن هذا الموضوع وذكرت أن البليجيكي (أندرية سابيه ) طالب حكومته بعلاوات عائلية تبلغ (37 مليون دولار )، وتقول الصحيفة بالحرف الواحد: والأغرب من هذا كله أن الدولة الأفريقية لم تكذب الموضوع بل وصل الأمر إلى أن أعلنت سفارتها في بروكسل أن ( أندريه سابيه ) سيمنح المواطنة الفخرية، بل وتفكر هذه الدولة الأفريقية صاحبة الأطفال في ترشيح ( أندريه سابيه ) الذي يعمل لحساب شركة بلجيكية ترتبط بعقود في أفريقيا، لجائزة (نوبل ) !! وتختم الجريدة الموضوع بقولها:

(وكل هذه الجهود الجماعية والفردية في تغيير اتجاهات الإفريقيين وتحولهم إلى الأديان والعقائد غير الإسلامية ليست بهدف تحقيق الذات أو إشباع حاجة إنسانية ).

والطريف أن الجريدة بدأت مقالها هذا بالمقطع التالي:

( المسلمون في أفريقيا يعانون معاناة شديدة، فهناك محاولات كثير ة للضغط على بعض هذه الجماعات الإسلامية في مناطق العوز والجفاف لتغيير اتجاهاتهم الإسلامية، فقد اشتدت أزمة الجوع في أفريقيا وزاد التخلف في مناطق متسعة بدرجة مخيفة لدرجة أن بعض الدول (النيجر) لا تستوعب في مدارسها سوى واحد بالمائة فقط من شبابها الذين وصلوا إلى سن التعليم الثانوي.. وزادت شدة الفقر.. وكل هذا يؤثر على استقلال هذه الجماعات في ممارستها عقائدها بحرية.. وقامت المنظمات الأهلية الغربية والأفراد بما عجزت عنه الأمم المتحدة!!.. وحدثت عملية جلب صغار اللاجئين من أفريقيا إلى الغرب وتعليمهم وتدريبهم ثم عودتهم بعد سنوات إلى مواطنهم الأصلية وهم يحملون في داخلهم علامات ذات صبغة رسمية وتعاقدية مع الغرب ليكونوا دعاة مخلصين ينشرون معلوماتهم المغلوطة وغير الصحيحة عن الإسلام والعرب ).

وتتابع الجريدة: (وفي قلب الريف الانكليزي تتم هذه الممارسات بشكل رسمي الآن فقد تم إنشاء (قرية الأطفال الدولية) في (سيد لسكومب) وتستقبل القرية آلاف الفقراء من الأطفال، بالاتفاق مع ذويهم، والذين لا يقل سنهم عن عشر سنوات ويشترط أن يمكث الأطفال في هذه القرية لمدة عشر سنوات). ثم تضيف الصحيفة: ( وفي الولايات المتحدة يمكن للمواطن أن يشتري طفلاً من أفريقيا، وسعر الطفل يتراوح ما بين ألفي دولار وثلاثة آلاف وخمسمائة دولار حسب العمر، ومصدر هؤلاء الأطفال مؤسسة تدعى مؤسسة (أمل) التي تقوم بشراء الأطفال من المستشفيات أو الملاجىء أو دور التربية في البلاد التي تعاني من المجاعة والفقر ثم تقوم بتصديرهم لبيعهم في العالم الجديد ) انتهى كلام الجريدة.

فما بال أقوام آخرين يوجهون جهودهم المالية، في مؤسساتهم المسلمة، إلى بلاد الغرب: أوروبا وأمريكا، لدعم جاليات مسلمة هناك واكثر هذه الجاليات مكتفية مادياً وذات دخل كبير (8)، أليس الأولى الدفاع عن كرامة المسلمين المحرومين وحمايتهم من الغزو الأجنبي في عقر دارهم؛ وتركيز الدعوة والخدمات الاجتماعية على عشرات ملايين المسلمين المرضى والجياع في أفريقيا وآسيا عوضاً عن صرف المال الكثير على اجتماعات ولقاءات وزيارات وحفلات في الخارج يكثر فيها الكلام ويقل بعدها العمل الهادف الدؤوب المبرمج، ولا يستفيد من هذه الأموال المصروفة إلا نفر قليل من المرتزقة الذين يعيشون على الإسلام ولا يعيشونه؟

وما بال قوم آخرين ـ أفراداً ومؤسسات ـ يدفعون للمستشرقين ـ وجلهم من الصهاينة ـ في ميزانيات إقامة دوائر للدراسات العربية والإسلامية !!! إنهم يستعملون المعلومات المجموعة من هذه الدراسات لمزيد من التخريب والتفتيت المجتمعي وزيادة الانقسامات بين المسلمين، أفراداً وحكومات، وأكثر دراساتهم عن : الفرق والطوائف والشيع في تاريخ الإسلام !!

أما آن الأوان لتحديد الأولويات في العمل للإسلام ووضع المال والجهد فيما يفيد ويجدي آنياً ومستقبليا ؟ من المفارقات المؤسفة أن هناك مؤسسات وجمعيات مخلصة تعي هذه البديهيات إلا أنها محدودة الدخل والمال، وهناك مؤسسات وجمعيات قادرة ـ مالياً ـ إلا أنها،على ما يبدو، لم تستوعب بعد هذه الأولويات..!

(المؤمن كيِّس فطن ) و(لا يلدغ المؤمن من جحر واحد مرتين ) هكذا علّمنا الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم.. فاللهم اجعل قومنا جميعاً ممن يتحلون بالكياسة والفطانة لكي لا يلدغوا من الجحر نفسه مرات عدّة !

============

# الخاتمة

* التخلف المادي الذي يخيم على المجتمعات المسلمة هو نتيجة طبيعية للتخلف الفكري؛ نحن بحاجة ماسة لإيمان عميق وإخلاص كامل مع وعي وبصيرة، ومتى تيسر ذلك يأتي التخطيط الدقيق والعلم النافع والعمل المستمر.. والتكافل المنشود، حينئذ نكسر طوق التخلف الذي يحيط بنا؛ ولكن.. لن يتغير حالنا.. إلى أن نغير نحن ما بنا: (إنّ اللّه لا يُغيَّرُ ما بقوم حتى يُغيِّروا ما بأنفسهم ).

* التخلف الصحي هو صورة من التخلف العام، ومكافحته تكون بمكافحة التخلف على مستويات كافة وفي سائر الميادين؛ فلن تتحسن السوية الصحية ما لم تتحسن السوية التربوية والغذائية والاقتصادية والاجتماعية والبيئية في آن واحد معاً. والجواب على تحدي الواقع المرضي هو في التنمية الشاملة كما يقول البروفيسور (آبل سميث ): ( في الفترة ما بين 1962 م ـ 1966م أجريت دراسة لتقويم آثار برامج المراكز الصحية على صحة الريف، وكانت هذه المراكز توفر الخدمات العلاجية والوقائية؛ وكانت النتيجة تحسناً جزئياً في السوية الصحية للأطفال ـ دون سن الخامسة ـ إلا أن هذا التحسن لم يدم، واستُخلص من هذه الدراسة أنه يجب تناول موضوع التخلف بأسلوب شامل، فتحسين السوية الصحية يحتاج لتحسين صحة البيئة، نظافة وسكناً وطرقاً ومجار ير، ورفع السوية الاقتصادية والاجتماعيةـ تربية وتثقيفا ً) (1 ).

* والتنمية، في مفهومنا الإسلامي ، تستهدف الإنسان أولاً وأخيراً،فهي ليست تنمية غربية (رأسمالية أو ماركسية )، بل تنمية إسلامية الأسلوب والغاية. فالتنمية الرأسمالية تؤدي إلى مجتمعات استهلاكية فارغة الفؤاد، قلقة النفس، تجعل التكنولوجيا إلهها المعبود، وهي أنانية تعيش بحبوحتها المادية على حساب بؤس الآخرين وفقرهم : والتنمية والنمو على كل حال، ليس هدفاً وغاية بل وسيلة لحياة إنسانية أفضل (والتطلع إلى موقف إنساني غير خاضع للتكنولوجيا.) ليس رجعية ولا انهزامية بل موقف تقدمي وجهد بطولي ) (2 ). والخرافة التي تقول ( النمو هو التقدم ) ما هي إلا(توراة الدمار ) كما يقول: ( ستيوارت أودال ). والأسلوب الماركسي المادي يطعم الإنسان في الوقت نفسه الذي يقتل فيه إنسانيته، ويقود إلى ظهور قطعان بشرية مسلوبة الإرادة والحرية، يتلاعب بها الحزب ( الراعي ) كيف يشاء؛ (لذا فنظم النمو الاقتصادي المتقاربة في الغرب تنظر للعالم من الزاوية نفسها، لا تصلح للمجتمع الإسلامي )(4 ).

* نريد تنمية مدروسة واقعية توضح الأولويات وتبني النتائج على المقدمات، وتتمسك بالعدل بين الناس في المغنم والمغرم، في الإنتاج والتوزيع؛ ( ففي حالات كثيرة تكون التنمية الاقتصادية سبباً في زيادة فقر الفقراء ) (5 ).

* نريد تنمية يشترك فيها الجميع حكاماً ومحكومين: في التخطيط والتنفيذ والمال والجهد، فإقالة المسلمين من عثراتهم واجب على الفرد القادرـ بعلمه وماله ووقته ـ مثلما هي واجب على أولى الأمر، ولا يكفي الطلب إلى أولي الأمر أن يعملوا بينما يقعد غيرهم متفرجين .. إذا أُفسح لهم مجال العمل.

* العمل الاجتماعي ـ بمفهومه الواسع الشامل، هو عبادة رفعية القدر، على حد تعبير فضيلة الدكتور القرضاوي، والرسول الكريم يعلمنا (إن الله يريد من أحدكم إذا عمل عملاً أن يتقنه )، لذا يجب أن نتقنه حباً بإحسان العبادة، وحباً بالأجر والثواب، وحبّاً برفع الظلم والفاقة عن أبناء الأمّة المحرومين وإعادة الأمن والطمأنينة إلى نفوسهم وأبدانهم.

* على الدعاة العالمين أن يكونوا في مقدمة الركب لأن التخلف بأشكاله، يشكل ثغوراً إسلامية مفتوحة يجب المرابطة فيها، ودعوة الآخرين للمشاركة بهذا الفرض، فمن خلال التكافل وتوفير الحقوق الأساسية لأخوتنا المسلمين المحرومين وتحسين حالهم، ندفع أيضاً الأخطار التي تستهدف الوجود الإسلامي كله كأمة فاعلة في التاريخ الإنساني.. إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها ـ بإذن الله ـ(وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون ) ( صدق الله العظيم ).

==============

#محنة المسلم مع حضارة عصره

تقديم بقلم: عمر عبيد حسنة

الحمد لله الذي كرّم الإنسان بالعقل، وزكاه بالعبادة، ومنحه القدرة والإرادة، وفرض عليه التفكير، وجعل من خطاب التكليف ضرورة النظر في السموات والأرض، واكتشاف قوانين التسخير، والسنن التي تحكم الحياة والأحياء، والتعرف على الأسباب لاتباعها، وحسن التعامل معها، وبذلك يكون أهلاً للتمكين في الأرض، وأداة أمانة الاستخلاف الإنساني، وفق منهج الله، وحمل رسالة الشهادة والقيادة.

الحمد لله القائل في كتابه، حكاية عن ذي القرنين: (إنا مكنّا له في الأرض وآتيناه من كل شيء سببا ً)، والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء والمرسلين، القائل:(لا تزال طائفة من أمتي قائمين على الحق لا يضرهم من خالفهم حتى يأتي أمر الله ). وبعد:

فهذا كتاب الأمة الحادي والعشرون: (دراسة في البناء الحضاري ـ محنة المسلم مع حضارة عصره ـ )، للدكتور محمود محمد سفر، في سلسلة الكتب التي يصدرها مركز البحوث والمعلومات، برئاسة المحاكم الشرعية والشؤون الدينية، في دولة قطر، مساهمة في تحقيق الوعي الحضاري والتحصين الثقافي، وإعادة بناء الشخصية المسلمة، بعد أن افتقدت الكثير من فعاليتها، ومنهجيتها، وصوابها، وأبعاد تكليفها، ومسؤوليتها في الشهادة والقيادة، وانتهت، إلى صورة محزنة من التدين، بعيداً عن التبصر بحركة التاريخ، وإدراك سنة التداول الحضاري.

ولعلنا لا نتجاوز الحقيقة كثيراً إذا قلنا: إن الأمة المسلمة اليوم، تعيش مرحلة (القصعة ) ـ وهي مرحلة الوهن الحضاري بأبعادها كلها ـ التي أخبر عنها الصادق المصدوق بقوله: (يوشك أن تداعى عليكم الأمم كما تداعى الأكلة إلى قصعتها .. قالوا: أو من قلة نحن يومئذ يا رسول الله؟ قال: لا، بل أنتم كثير ولكن غثاءٌ كغثاء السيل، ولينزعن الله المهابة من قلوب أعدائكم، وليقذفن في قلوبكم الوهن، قيل: وما الوهن يا رسول الله؟ قال حب الدنيا وكراهية الموت ).

فمؤشرات الوهن الحضاري، ومسبباته، كما أشار إليها الحديث: حب الدنيا الذي يعني العب من متعها واللهاث وراء زينتها، واستهلاك أشيائها، والتزاحم على الحقوق. ويمكن تلخيص ذلك كله بالانتهاء إلى مرحلة الاستهلاك وظهور الإنسان الاستهلاكي الذي يتجاوز حقه في الأخذ، ولا يحسّ بواجبه. أما كراهية الموت الذي هو العنصر الآخر للوهن الحضاري، فيعني: انكماش فكرة الاحتساب ، وغياب روح الإيثار والتضحية ، وعدم استشعار الواجب، والقعود عن العمل والإنتاج، والاقتصار على الاستهلاك.

فالوهن الحضاري ، في حديث الرسول صلى الله عليه وسلم يتلخص ببروز الإنسان المستهلك الذي لا يهمه إلا حقه، وغياب الإنسان المنتج الذي لا يرى إلا واجبه.

وسوف لا يكون أي نهوض أو بناء، إلا بتصويب تلك المعادلة، والخروج من مرحلة (القصعة )، ومعالجة الإصابة بالوهن، وذلك إنما يكون بإعادة صياغة الشخصية المسلمة اليوم، والارتفاع بها إلى سوية الإنسان المنتج، وتغييب صورة الإنسان المستهلك عن ضميرها، ومناخها الثقافي، والتركيز على إنسان الواجبات، لا إنسان الحقوق .. إنسان البقاء والخلود بالعمل والإنتاج، لا إنسان الزوال والاستمتاع والاستهلاك، الذي يدرك مدلول قوله تعالى: (أرضيتم بالحياة الدنيا من الآخرة فما متاع الدنيا في الآخرة إلا قليل ) (التوبة:38 ).

ونرى أنه لابد لنا بداية من التفريق بين الموت الحضاري، الذي يعني انقراض الأمم وهلاكها، وبين الوهن الحضاري الذي يعني المرض، أو الوباء الاجتماعي الذي يعتري روح الأمة، فيطفئ فعاليتها، ويقعد بها عن بلوغ أهدافها، وحمل رسالتها. فالمؤشرات الواردة في حديث الرسول صلى الله عليه وسلم، تدل على حلول المرض وليس نزول الموت، لذلك تبقى إمكانية النهوض كامنة ومستمرة، لكن لابد لها من معالجة صحيحة، كما لا بد للأمة ـ في مرحلة الوهن ـ من محرضات، ومنبهات حضارية، تنبعث من داخلها على يد النخبة من أبنائها الشرعيين الذين أخبر الرسول الخاتم عنهم بأنهم الطائفة القائمة على الحق التي لا يضرها من خالفها حتى يأتي أمر الله.

إنها الطائفة المعافاة، التي تشكل خميرة النهوض، ووسيلة التواصل الحضاري، والتي لم تلحقها إصابة الوهن، وليست جزءاً من الاستنقاع والركود الذي لحق عموم الأمة، لكنها النخبة التي تستشعر مرحلة القصعة بآكليها، وموكليها، وتفكر في سبل الخروج ..

وما أشرنا إليه، من أن الوهن الحضاري، مرض قابل للشفاء، وأنه لا يعني بحال من الأحوال الموت الميئوس، يؤكد استقراء التاريخ، وما فيه من أخبار الأمم السائدة والبائدة، وقراءة الواقع الذي نحن عليه، ذلك أن مواثيق الله تعالى لهذه الأمة، صاحبة الرسالة الخالدة ، ومبشرات المعصوم صلى الله عليه وسلم، يؤكدان أن قابلية النهوض كامنة، ودائمة، ومستمرة، إذا أبصرنا شروطه ومقوماته، وتحققنا بأسباب التمكين في الأرض، وأحسنا التعامل مع السنن الجارية. فغلبة الأعداء موقوتة، وتسلطهم علينا ليس تسلك استئصال، وإنما هي عقوبات يوقعها الله علينا بسبب معاصينا السياسية، والثقافية، والفكرية والحضارية، ويبقى لهذه العقوبات دور المنبه الحضاري، والتحدي المستفز، ذلك أن الصعوبات هي في الحقيقة تحدٍ خلاّق، لأنه يستحث الأمة ويستفزها للرد عليه.

ولعل في حديث الرسول صلى الله عليه وسلم، الذي يرويه (ثوبان ) كبير مغزى في هذا المجال: يقول الرسول صلى الله عليه وسلم : ( إن الله زوى لي الأرض، فرأيت مشارقها، ومغاربها، ) (انظر ما تمتلك الرسالة الخاتمة من رصيد حضاري وتجربة وعبرة، من لدن آدم عليه السلام إلى الرسول الخاتم صلى الله عليه وسلم ) وإن أمتي سيبلغ ملكها مازوي ـ جمع ـ لي منها. وأعطيت الكنزين، الأحمر والأبيض ـ معادن الأرض وثرواتها ـ (وهذا يفسر ما يعج به العالم الإسلامي من الثروات والمعادن والخامات ) وإني سألت ربي لأمتي أن لا يهلكها بسنة عامة ـ قحط شامل ومجاعة مهلكة ـ وألا يسلط عليهم عدواناً من سوى أنفسهم، (قل هو من عند أنفسكم ) فيستبيح بيضتهم .

وإن ربي قال: يا محمد إني إذا قضيت قضاءً، فإنه لا يرد! إني أعطيتك لأمتك، ألا أهلكهم بسنة عامة! وألا أسلط عليهم عدواً من سوى أنفسهم يستبيح بيضتهم، ولو اجتمع عليهم من أقطارها، أو من بين أقطارها ـ يعني: أهل المعمورة ـ حتى يكون بعضهم يهلك بعضاً، ويسبي بعضهم بعضاً.

والحديث ظاهر في أن مصائبنا من عند أنفسنا، وأن تسلط العدو علينا ليس تسلط استئصال، وأن أخطر الإصابات الحضارية، هي التي تلحق بأنفسنا، وأرواحنا، وأخلاقنا، وبنائنا الداخلي. ولا يغير الله ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم، وإن علاج الوهن الحضاري إنما يبحث عنه في الداخل الإسلامي، ومن المستحيل في ضوء هدي النبوة، واستقراء التاريخ، وقراءة الواقع، استيراد علاج الوهن من الخارج الإسلامي، فالاستيراد، والاستدعاء الحضري، إنما معالجة للعرض، وليس لسبب المرض، وما نظنه ونتظاهر به من وهم العافية، بسبب الاستيراد، إنما هو إخفاء وتمهيد للمرض، وليس علاجاً له.

ونحب أن نعلن أنه على الرغم من الواقع الذي نعاني منه، والذي أسميناه بالوهن الحضاري، الذي يحكم مرحلة القصعة التي أشرنا إليها، فإننا لسنا مع أصحاب النظرة التشاؤمية والذين وصلوا إلى مرحلة الإعياء.

الذين يرون استحالة اللحاق بقافلة الحضارة، لبعد الشقة وطول المسافة، وعمق الفجوة، فقعدوا عن إعداد العدة (ولو أرادوا الخروج لأعدوا له عدة ).

كما أننا ـ في الوقت نفسه ـ لسنا مع أصحاب الأماني ، وأحلام اليقظة (ليس بأمانيكم ولا أماني أهل الكتاب، من يعمل سوءاً يُجْزَ به )، الذين يقضون حياتهم في غرفة الانتظار، ينتظرون سقوط الحضارة لمصلحته من خلال بعض ما يقرأون عن أمراضها دون مكابدة، ومجاهدة، ومجاهدة، وتهيؤ.

ولا مع أولئك الذين يظنون أن الموضوع كله، يمكن أن يحسم بمجرد رفع درجات التوتر الروحي، والتوثب الإيماني السلبي، بعيداً عن ساحة المجاهدة والابتلاء، ويؤثرون الانسحاب من معركة الحضارة، على الرغم من اعتقادنا أن التوثب الروحي والتوتر الإيماني، هو الشرط الضروري للتحصين، حتى لا يكون السقوط في زخرف الحضارة وزينتها أثناء المعركة والمواجهة، لكننا نرى أنه لابد من النزول إلى الساحة والمواجهة، بالصبر والمصابرة والتعرف على الأسباب الموصلة، وتحري الصواب، مع الإخلاص وطلب التوفيق من الله.

ولا مع أولئك الذين يستغنون بالتنظير والفلسفة البادرة، عن الممارسة والتدريب، واكتساب الخبرة الميدانية، وتحديد مواطن القصور، ودراسة أسباب التقصير.

ولا مع الذين، ينظرون التواصل الحضاري الوارد في حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا تزال طائفة من أمتي قائمين على الحق لا يضرهم من خالفهم حتى يأتي أمر الله ) برؤية نصفية: من أن القيام على الحق مقتصر على الجانب العبادي الروحي السلبي، دون إدراك أن من مقتضى القيام على الحق، إدراك سنن التسخير، ومعرفة الأسباب التي تنظم الحياة، وحسن التعامل معها. بل إننا نرى أن التفكير والملاحظة، والاختيار، والتجريب، واكتشاف قوانين التسخير، ومعرفة التمكين في الأرض، من لوازم العبادة ومقومات العبودية، والارتفاع إلى مستوى الخطاب الإسلامي الذي نلمحه في آيات القرآن الكريم التي تدعو إلى التفكير، وتؤكد على التسخير.

ولا مع الذين يتقنون فن الجلد، والتوهين لهذه الأمة؛ ولا يميزون بين الجلد والنقد البناء، والمناصحة، ويعجزون عن إثارة دوافع الخير، وعوامل النمو فيها، ويعنيهم البحث في أسباب الفرقة أكثر مما يعنيهم التأكيد على عوامل التوحد،لأنهم ومهما كانت دعاواهم عريضة، يبقون العقبة الحضارية التي لابد من اقتحامها، حسبهم أنهم يعيشون في الخارج الإسلامي بأفكارهم ، ومسالكهم ورؤيتهم في النهوض والإصلاح فأنى لهم أن تقبل شهادتهم الحضارية على هذه الأمة! خاصة والمتأمل في تاريخ هذه الأمة الطويل، يرى أن حركات الانبعاث، والتجديد كلها، إنما جاءت من الداخل الإسلامي.

إن تفاؤلنا بقدرة هذه الأمة على النهوض، والبناء الحضاري، وتجاوز حالة الوهن، والهوان، التي هي عليها اليوم، لا يمثل بالنسبة لنا خياراً، بقدر ما هو دين وعقيدة، مستمدة من مواثيق الله، ومبشرات الرسول صلى الله عليه وسلم، واستقراء التواصل الحضاري التاريخي لهذه الأمة، واستعصائها على التذويب، والتمويت والإبادة، لأنها تمتلك خميرة البقاء والنهوض، لكن ذلك لم يمنع من وقوعها في الوهن الحضاري، الذي نلمح مظاهره اليوم على أكثر من صعيد.

والادعاء بأن سبب التخلف هو التشبث بالماضي، والافتخار بهن يحمل في طياته الكثير من التجني. وفي اعتقادنا أن الأمة المسلمة اليوم، لو استطاعت أن تتمثل شخصيتها الحضارية التاريخية، وتستوعب إنجاز السلف على مختلف الأصعدة، لأدركت رسالتها، واسشعرت مسؤولياتها، وكان حالها على غير ما هي عليه اليوم، لكننا نرى أن انتسابنا إلى الماضي،، دعوى بلا دليل، بل نستطيع أن نقول: إن الافتخار بإنجاز الأجداد، والهروب إلى ملاجئهم والاحتماء بها، دون القدرة على تعدية الرؤية وصناعة الحضارة، ضرب من التوبيخ لأنفسنا، ولون من الإصابة التي تعني أول ما تعني، أن هذه الأمة أحالت نفسها على التقاعد، وأصبحت تستهويها قصص الماضين والذكريات التي تستردها لتزجية الوقت وشغل أوقات الفراغ، وهي بذلك تقع خارج الزمن بأبعاده الثلاثة: الماضي والحاضر والمستقبل، وإنها لو أدركت ماضيها، واستوعبته، وكانت ابناً شرعياً له، لصنعت الحاضر، واستشرفت آفاق المستقبل.

من هنا نقول: بأن انتسابنا للماضي مشكوك فيه، إنه لون من الانحياز العاطفي الذي لا يسمن ولا يغني من جوع. فما الفرق بين من يجانب الماضي ومن ينتصر له، إذا كان الإثنان يعيشان خارج الماضي والحاضر والمستقبل؟ ولعل الكثير من معاركنا وصراعاتنا التي نعنون لها بالتراث والمعاصرة، تدور في الحقيقة خارج الماضي، وخارج الحاضر معاً، فلا التراثي استفاد من زاد التراث واستطاع توظيفه بشكل صحيح، ولا المعاصر أدرك مقتضيات العصر وأحسن التعامل معها، إنها معارك (حضارية ) بغير خصومة حقيقية.

ولعل من مظاهر الوهن الحضاري أيضاً الذي تعيشه الأمة: هذا الاضطراب في الموازين، والخلط في الأوراق. فمن أبجديات المنطق الأولى، أن الحكم على الشيء فرع عن تصوره، وأن من أبرز سمات العصر الذي نعيشه، تقسيم العمل والتخصص، بل التخصص الدقيق في فروع المعرفة الواحدة، ليكون بعد ذلك الإنجاز والإتقان، ومن ثم الوصول إلى فجائيات الإبداع. أما في أمة الوهن الحضاري، فلا يزال الرجل الملحمة الذي يدعي أنه يفهم بكل شيء هو الشخص المميز. ولا نخشى أن نقول هنا: بأن مثل هذا الادعاء في هذا العصر يعني أن صاحبه لا يفهم في شيء، فكثير من المشتغلين بالقضية العلمية التجريبية يتقحمون ساحة التخصص الشرعي الدقيق، التي لا يبلغها إلا من أفنى عمره في بحثها. وعلى الجانب الآخر نرى بعض المشتغلين بالأمور الشرعية والفقهية يصرون على اقتحام ساحات العلوم التجريبية الدقيقة، التي يقتضي إدراك بعضها، عمر فرد وعلم أفراد، ظناً منهم أنهم بذلك يحسنون أداء رسالتهم، أو الارتقاء بوسائل دعوتهم، وتحضير الأمة لممارسة دورها الحضاري المفقود.

والحقيقة أن هذا الخلط، لون من الثقافة المغشوشة، والعجز عن تجاوز النزعة الفردية إلى روح الفريق والجماعة والعمل المؤسسي، والإنجاز المشترك، لكل في ميدانه، وبذلك لا تقتصر الإصابة الحضارية على مجال دون سواه، كما أن الارتقاء الحضاري، لا يأتي إلا متكاملاً في الاجتهاد الشرعي والإنجاز العلمي على حد سواء.

وقد يكون من مظاهر الوهن الحضاري، على مستوى الإبداع العلمي والتقني: انعدام دور المثقفين والمفكرين والأدباء، في تصميم الذهنية ورعاية القابلية، وتحضير المناخ، وتشكيل العقلية القادرة على حسن التفكير والارتقاء بالتخصص، واكتشاف قوانين التسخير، والتعرف على الأسباب الموصلة إلى التمكين في الأرض وبناء الحضارة. ونستطيع أن نقول: بأننا نعاني من غياب كامل لما يمكن أن نسميه الأدب العلمي أو الثقافة العلمية، أو الثقافة التقنية، وتكاد تكون المكتبة الإسلامية اليوم، شبه خالية من الدراسات العلمية المتخصصة التي تغري بالبحوث وتسهم بعملية النهوض الحضاري وتشكل دليلاً لها، وقد أصبحت هذه الدراسات اليوم لازمه، بعد أن تجاوزنا إلى حد ما مرحلة مواجهة التبعية وضرورة الفكر التعبوي الذي مرت بها أدبيات الحركة الإسلامية الحديثة.

ومن مظاهر الوهن الحضاري: ما نشاهده اليوم عند الذين يحاولون تحديث مجتمعاتهم، والإفادة من تجارب الأمم الأخرى، من التوهم بأن الحضارة إنما تكون بتكديس المنتجات؛ وكيف انقلبت النتائج عندهم مقدمات، وصارت المقدمات نتائج، فلم يدركوا أن الحضارة هي التي تصنع المنتجات، وليست المنتجات هي التي تصنع حاضرة، وأن الإكثار من استيراد المنتجات الحضارية، والعبّ والاستهلاك منها بدون ضوابط، يساهم بتكريس الوهن، ويقتل الفاعلية ويؤدي إلى الركود والاستنقاع الحضاري. فكثير من المنتجات الحضارية في العالم الآخر، إنما اقتضتها الحاجة والضرورة، وانعدام اليد العاملة، وأهمية اختزال الوقت والجهد، وتوفيرهما ووضعهما في آفاق أخرى، اكثر جدوى في نظرهم؛ بينما نجد تلك المنتجات تزيد عند أمم الوهن الحضاري من مساحة وقت الفراغ، وتفتح على الإنسان سبل غواية الشيطان، وتحلق بالفرد العطالة التي تأتي بالطاقات الفائضة الكثيرة، فيكون وقته عبئا عليه، يورثه الكآبة، والملل، والضياع، والعبث، وما إلى ذلك بحيث نعيش أمراض الحضارة، مضافة إلى أمراضنا، في الوقت الذي لا يمكننا التحقق بمنجزاتها.

وأكبر مثال على ذلك، ما نراه اليوم في بعض بلاد المسلمين، التي استطاعت من خلال إمكاناتها، إحضار منتجات الحضارة كلها، ومع ذلك لم يغن الاستيراد عن إنسانها شيئا، بل لعل هذه المنتجات دفعته إلى لون من العطالة، والاستزادة من الاستهلاك.

ولئن أمكننا استيراد الآلات، والمصانع، والأدوات، لكن لا يمكننا أبدا استيراد البشر. من هنا نرى أنه لابد من التفكير السليم في حل هذه المعادلة.

إن عملية الاستيراد للآلة، والفني، والعامل، سوف يُبقي إنساننا في موقعه، مهما كان التظاهر بغير ذلك. وقد لا نستغرب كثيراً عندما نرى الإنسان في عالمنا الإسلامي اليوم يجوب محلات بيع الساعات المتعددة، ويدفع الأثمان الباهظة للحصول على ساعة منضبطة، ودقيقة جداً، وبعد ذلك نجد وقته كله يمضغه الضياع، فلا قيمة له، ولا إنجاز فيه. إنه اكتفى بالساعة الضابطة، عن إدراك قيمة الوقت المنتج، ونسي أنه وضعها في اليد العاطلة! وقد يكون هذا وأمثاله، من المناظر المألوفة كثيراً في حياتنا. إن السبب كله يكمن في أننا نواجه مشاكلنا بمنطق الأشياء، لا بمنطق الأفكار، ونظن أنها تحل بالاستزادة منها، لذلك نبقى عاجزين عن التصرف في الإمكانات التي نمتلكها، وعن التبصر بها.

يضاف إلى أن لكل أمة معادلتها الاجتماعية، وعمرها الحضاري، وأولوياتها المطلوبة، الأمر الذي لابد أن يؤخذ بالحسبان أثناء عملية الاستيراد لمنتجات الحضارة. ونحن في هذا لا ندعو إلى إلغاء الإفادة من المنتجات الحضارية للأمم الأخرى، لأن ذلك أقرب إلى الاستحالة، وإنما ندعو إلى ترشيد الاستيراد، وتجسير العلاقة بين منتجات الحضارة، ومعادلة الأمة الاجتماعية، ذلك أن مخاطر المنتجات في عالم الاستهلاك، تختلف عن مخاطرها في عالم الإنتاج.

ومن مظاهر الوهن الحضاري، الذي تعاني منه الأمة المسلة: غياب الحس الديني، أي غياب فكرة الثواب والعقاب، عن أجواء البحث العلمي، حتى وصل الأمر ببعض العقول الكليلة من المسلمين إلى اعتبار هذه البحوث والتخصصات، من علوم الكفار التي تصرف الإنسان عن التعبد إلى الله بطلب العلم الشرعي. لقد سيطر هذا المناخ الثقافي المغشوش على العقل الإسلامي ردحاً من الزمن، حتى فاتنا الركب، ولا تزال رواسب هذا المناخ حاضرة، في نفوس الكثير منا حتى اليوم، على الرغم من المعاناة الشديدة، والمحنة الحضارية التي نعيشها بسبب ذلك. وليس غريبا أن نرى كثيراً ممن اختاروا طريق العلوم التجريبية من المتدينين أو من الذين استدركوا أمر دينهم بعد الولوج في التخصص، يشعرون بعقدة الذنب الداخلي بسبب اختيارهم، لتوهمهم أن هذا اللون من الاختصاص، لا يقع في دائرة العبادة والفريضة، أو على الأقل هو من نظرهم خارج منطقة الكسب الديني، لذلك نجد بعضهم يتحول عن ممارسة تخصصه، أو ينقطع عنه، ويخلي مكانه للعمل في مجال الدعوة إلى الله، وكأن الكسب العلمي، الذي يؤدي إلى تمكين الأمة، والوصول بها إلى مرحلة الشهادة على الناس وقيادتهم وفق منهج الله ليس من الدعوة!!

ولعل الأغرب من ذلك، أن يعتقد بعضنا، بأن الله جعل الكفار في خدمتنا، لذلك فهم يتولون الصناعة لاستهلاكنا! أما نحن فنتفرغ للعلوم الشرعية، وكأن معرفة الحرفة والصنعة والإنتاج، ليس من العلوم الإسلامية، والتكاليف الشرعية! وما من الأنبياء نبي إلا كانت له حرفة، وهم في موقع الأسوة والقدوة ـ ولا ندري كيف يفهمون قوله تعالى في بيان نعمه على سيدنا داود (( وأَلنَّا له الحديد ))، (( أن اعمل سابغات )) ، ((وقدر في السرد )) ، ((وعلمناه صنعة لبوس لكم )). وكيف يقرأون قصة ذي القرنين في القرآن الذي مكن الله له في الأرض باتباعه للأسباب: (( آتوني زبر الحديد حتى إذا ساوى بين الصدفين قال انفخوا حتى إذا جعله ناراً قال آتوني أفرغ عليه قطرا )) (الكهف : 96 ).

ومن مظاهر الوهن الحضاري أيضاً: أن الإصابة لم تقتصر على العلوم التجريبية كما يتوهم بعضهم، وإنما نعتقد أن الإصابة في العلوم التجريبية كانت ثمرة للإصابة في العلوم الشرعية نفسها، التي انتهت إلى لون من التقليد والمحاكاة والشرح تارة والاختصار أخرى، مما عزل هذه العلوم عن حياة الناس، وجعل منها تجريدات ذهنية بعيدة عن الوقع، وأفقدها الكثير من أبعادها الرحبة التي لو وجدت، فلا أن تثمر في مجال العلوم الأخرى، كما كان الحال في فترات التألق الحضاري والثقافي الإسلامي، حيث جاء الإبداع في مختلف المجالات، كما أن التخلف اليوم يعم مختلف المجالات.

ولم يكن نصيب العلوم الاجتماعية بأحسن حالاً من العلوم التجريبية وهي ميدان هام وهام جداً في عملية الابتعاث الحضاري، فعلوم التاريخ والاجتماع والتربية والنفس والسياسة إلخ، هي من لوازم عملية الدعوة والبلاغ المبين وإعادة صياغة الإنسان وتشكيله، وإلا فكيف ندعو إلى الله ونرقى بالناس ونحن نعيش في عالم نجهل إنسانه ولا نمتلك الوسائل المدروسة لخطابه، والمعرفة الدقيقة لتاريخه ومعتقداته ولا ندرك خصائصه وكينونته البشرية؟! وإذا كان محل التكنولوجيا التي نتكلم عن ضرورة استنباتها، أو استيعابها، والإبداع فيها، هو وسائل الإنسان، فإن محل العلوم الاجتماعية هو الإنسان نفسه، الذي لابد من إعادة بنائه وتشكيله أولاً، حيث لا فائدة لوجود العربة بدون الحصان. وإذا وجد الإنسان السوي، وجدت الحضارة. فالإنسان لا يُستورد. وما الفائدة إذ استوردنا أشياء الإنسان ووسائله، وخسرنا الإنسان نفسه، لذلك نرى أنه لابد من إعادة النسغ الإسلامي للعلوم الاجتماعية، ووصل ما انقطع وتوقف، واستشعار أهمية ذلك ودوره بالقدر نفسه الذي نبحث فيه قضية العلوم التقنية أو يزيد.

وقد تكون المشكلة أن إنسان التخلف لا يبصر إلا أشياء الحضارة، ويصعب عليه إبصار أفكارها.

ونعتقد أن تخلفنا في العلوم الإجتماعية اليوم لا يقل عن تخلفنا في العلوم التقنية، أن لم يكن أخطر، لذلك نرى أنه لابد أن نعود لاستئناف البحث في العلوم الاجتماعية برؤية إسلامية، أو أن نعيد العلوم الاجتماعية إلى إطارها الإسلامي، أي لابد أن تمتد المدرسة الخلدونية، وتستمر، وبذلك وحده نكون قادرين على إدراك قوانين التسخير، وميكانيكية عملها، والتفسير الحضاري لها، وخطورة أهداف ومنطلقات وحكمة تلك العلوم، ودورها الهام في تشكيل ثقافة الإنسان، وتأهيله للنهوض الحضاري من خلال رؤية إسلامية.

ومن مظاهر الوهن الحضاري: الخلط العجيب بين المبادئ والقيم الثابتة التي وردت في الكتاب والسنة وبين البرامج والأوعية الزمنية التي تعني الاجتهاد والنظر البشري في إنزال تلك المبادئ على حياة الناس بما يتوافق مع ظروف كل عصر وبيئة والظن بأن التأثم هو في الخروج على برامج واجتهادات السابقين لما لاءم عصرهم.

إن هذا الخلط العجيب أدى إلى الانغلاق والركود، ووضع حاجزاً نفسياً أمام العقل المسلم، أقعده عن الإبداع والاجتهاد، لما يوافق عصره، كما حال بينه وبين الإفادة من تجارب الآخرين، في مجال النظم والبرامج. ونعتقد أن الإسلام أرسى القيم والمبادئ والموجهات الأساسية، التي لابد أن تضبط السير، وتحذر من الانحراف والانزلاق. أما إبداع النظم والبرامج، فهو من اختصاص العقل الإنساني، ونعتقد أن من أهم عوامل التخلف، إن لم يكن أهمها، هو هذا الحجر وتلك المحاصرة التي أوقعناها على أنفسنا فحالت بيننا وبين الكسب والتصرف والحركة بما يلائم عصرنا.

ونحب أن نؤكد أننا باستعراضنا لبعض مظاهر الوهن الحضاري، الذي تعيشه أمتنا، إنما أردنا لفت النظر إلى بعض جوانب المحنة التي نعاني منها في الداخل الإسلامي، لأننا نعتقد أن الحس بالمعاناة هو سبب للتأمل في الدواء، والوقوف على عتبة النهوض وأن تحسيس الأمة بالأزمة هو إدخال لها في مرحلة القلق السوي على مصيرها.

فالصعوبات التي تواجه الأمة هي الحقيقة مبشرات، والحس بالصعوبة واستشعار أبعادها مؤشر على الدخول في هم الكفاح، والمواجهة الحضارية، واكتشاف مواطن الخلل، لأن الصعوبات والمحن، دليل الخلل في البناء الاجتماعي، ومن شروط الاستجابة التحدي. والله سبحانه وتعالى يقول: (الذين استجابوا لله والرسول من بعد ما أصابهم القرح ).

وبعد:

فلا شك أن الكتاب الذي نقدمه اليوم، للأخ الدكتور محمود محمد سفر، يمكن أن يعتبر إلى حدٍ بعيد، خطاباً أو دليلاً للنهوض الحضاري، إن صح التعبير، لأن مؤلفه ـ فيما نحسب ـ يعيش هم الأمة المسلمة العام، ويشعر بعمق الأزمة، ويحاول فتح النوافذ في النفق المظلم، لعل ذلك يوفر الجهود، ويبصر بالوجهة الصحيحة. ويمكن أن ندرك أهمية الموضوعات التي يعرض لها الأخ الدكتور محمود ويوليها همه واهتمامه إذا استعرضنا عناوين الكتب والدراسات التي قدمها للمكتبة الحضارية الإسلامية، ومن أهمها: الإقلاع الحضاري، إنتاجية مجتمع، الحضارة تحدٍ، الإعلام موقف، (ثغرة في الطريق المسدود ـ بالمشاركة ).

لقد آثر الموقع الفاعل والمؤثر على الرغم من المشقة التي تحيط بمثل هذه القضايا والمشكلات، القائمة أصلاً على النظر والتأمل، والمقارنة، والمقايسة، والمناقشة، والاستيعاب، في محاولة لما نسميه شمول الرؤية الإسلامية وتعديتها، لتستوعب أبعاد الزمن الثلاثة: الماضي، والحاضر، والمستقبل، إلى جانب القدرة على التبادل المعرفي، وهضم الإنتاج العالمي،والإفادة منه في ضوء دراية وفهم بعيداً عن التناول السهل الذي يقوم على مجرد الاغتراف، والنقل، والتكرار، والخطابيات التي باتت تثقل الذهن الإسلامي دون كبير فائدة، مما يسهم بتكريس الواقع ويحول دون أي أمل في النهوض.

ويأتي اعتزازنا بهذا الكتاب، لما يشكل من إضافة نوعية في إطار السلسلة، سوف يساهم إن شاء الله، برسم الطريق للخروج من أزمة التخلف الحضاري، على مستوى الأفراد والمؤسسات، والمعاهد والجامعات، بإحساس وإدراك متميزين يمكن أن يسمى (الفقه الحضاري ).

ولا يفوتنا، بمناسبة هذا اللون من النظر والدراسة أن نذكر بالأستاذ مالك بن نبي رحمه الله، الذي كان له فضل السبق والريادة، للمدرسة الحضارية الإسلامية الحديثة، لأننا نرى أنه لابد لهذا المنهج من أن يؤصل في حياة المسلمين، ونرى أن المزيد من هذه الدراسات يشكل علامة صحة وصحوة بحد ذاته.

ونعتقد أن الذهنية الإسلامية لم تأخذ بعد حقها المطلوب من منهج الأستاذ مالك، بسبب من النزعات الحزبية التعصبية التي حالت دون وصول منهجه إلى القاعدة الإسلامية العريضة، ولم تدرك المعالم الواضحة التي أقامها بين ما يمكن أن يسمى التفسير الحضاري لواقع المسلمين، وبين ما يمكن أن نسميه التسويغ الذي وقع به كثيرون.

وهذا لا يعني أننا ندعي العصمة للأستاذ مالك، ولا لغيره، فكما أن للريادة تألقها وإبداعها فإن لها أخطاءها ومنزلقاتها الخطيرة، ويبقى الخطأ من جبلة البشر، والمعصوم من عصمه الله.

وقد يستغرب بعض المهتمين بأمر الدعوة الإسلامية اليوم، مثل هذه الدراسات الإسلامية، لأنهم اعتادوا لوناً من الكتابة والخطابة والإثارة، التي ترضي العواطف، وتحرك المشاعر، أكثر مما تهدي العقل، وبالتالي فلا يعتبرون الكتاب إسلامياً ما لم يحمّل بنبرات الوعظ، والإرشاد، والترغيب، والترهيب المباشر، أما ما وراء ذلك من البحث في وسائل إعمار الأرض، والقيام بأعباء أمانة الاستخلاف الإنساني فيبقى خارج اهتمامهم، وتقديرهم، وبذلك ينفصل الدين عن الحياة عملياً، وإن كنا نرفضه نظرياً، والله نسأل أن يرزقنا الإخلاص في النية، والصواب في العمل، إنه على كل شيء قدير.

============

# المقدمة

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وآله وصحبه ومن والاه وبعد: فهذا كتاب مفتوح إلى شعوب الأمة الإسلامية عامة، التي خصها الله بالشهادة على الأمم السابقة يوم البعث وقيام الأشهاد، كتاب لا يدعي أن فيه فصل الخطاب، بقدر ما هو محاولة صادقة لتحديد مسار للتقدم والنهوض، بعد أن تعددت بالمسلمين الطرق، وتاهت بهم خطاهم بين اليمين واليسار، والشرق والغرب، فقد آن لهم أن يتأكدوا أن عماد نهضتهم، وسند تقدمهم هو إيمانهم المطلق، بأن لا هادي لهم من الله إلا كتابه وسنة نبيه المصطفى عليه أفضل الصلاة وأزكى التسليم، وأن لا ملجأ لهم من الله إلا إليه.

جرب المسلمون في الخمسين سنة الأخيرة ـ حتى لا نوغل في التاريخ، وحتى يكون الحديث من واقع مشاهدات الجيل الحاضر ـ شتى السبل، ومختلف الطرق، لكي ينهضوا ويستعيدوا مجدهم التليد، ونشط المنظرون والمفكرون من رجال العلم والسياسة والاقتصاد والثقافة وغيرهم في رسم المسارات، وتحديد المتطلبات، ووضع الاشتراطات، وتراكمت الخطط، وتعددت الرؤى، وتفرقت السبل، حتى لكأننا نشهد مبارزة حامية الوطيس، استهدفت تجاذب الأمة بشعوبها المتعددة بين النظريات، و ((الأيدولوجيات )).

الكل مجتهد في تحسين بضاعته، والكل جاد في عرض أفكاره، فمن منكفئ لا يرى أبعد من أنفه، ولا يشعر بفعل الزمن من حوله، إلى ((ليبرالي )) متحرر يسعى إلى التبعية الحضارية، بانسلاخ تام من ذاته، وهروب كامل من تراثه، إلى علماني متعسف يستعدي العالم على دينه وتراث أمته، إلى يساري مخدوع سجن نفسه وعقله في فكر غيره، ولبس رداء سواه.

كان هذا حال الأمة لا يتغير ولا يتبدل، والمسلم العادي يرقب بحذر وريبة تارة، وبحسن الظن ، وطيب سريرة، تارة أخرى، لكنه ـ على أي حال ـ فقد الثقة أو كاد في كل ما سمع ويسمع، وأخذ يبحث بجدية وحزم وإصرار عمن يهديه إلى طريق الرشد، ويصرفه عن طرق التيه، ويخرجه من محنته مع حضارة عصره.. فقد طال انتظاره.

ثم كان أن توالت النكبات والأزمات والهزائم والنكسات على الأمة، بأيدي من وعدوها بالتقدم والنهضة والتطور، إن هى سارت في طريقهم، والتحقت بركابهم، واعتنقت مبادئهم، والتزمت بمنهجهم. لقد امتحن الله صبر أمتنا، وقوة تمسكها بعقيدتها بأن سلط عليها من أبنائها لفترة من الزمن بعض تجار المبادئ المنحرفة، ومروجي العقائد الضالة، وسدنة الأيدولوجيات الهدامة، تسلط وعظ وإرشاد، وتنبيه وتحذير وإيقاظ، فجربوا فيها، وعليها، وبها، أفكارهم وضلالاتهم كلها، فلم يفلحوا في زحزحتها عن دينها، وظلت متمسكة به، رغم التعسف والظلم والطغيان والضلال.

واكتشف المسلم ذاته ، وعرف طريقه، وظهرت ملامح صحوة إسلامية فطرية، وعفوية طبيعية، وتلقائية مدهشة، ما كان للفئات الخاذلة والجماعة المُضَلِّة، أن تترك لهذه الملامح أن تنضج، وللنور أن ينبثق، وللصحوة أن تنشط، فأخذت تشوه ما فيها من صدق العودة إلى الله، وحسن الالتزام بحبله عن عمد وتربص، ولكن الله غالب على أمره.

فظل الضمير المسلم يقظا يرقب، وحياً يشاهد، يرقب الأحداث تمور من حوله، ويشاهد الأحوال تمر من أمامه، حتى وإن غاب الرشد، وازداد التيه، وسوف يظل هكذا يتنامى في حيويته، ويتعمق بنظرته باحثاً عن المخرج.

والحديث هنا بطبيعة الحال عن الضمير الملتزم بإطلاق اللفظ؛ لأن الالتزام في الحياة هو زاد مسيرتها، ونبراس طريقها، ونعنى بالالتزام: التمسك بهدي الله، وباتباع ما أمر، والكف عن ما نهى.

ونحسب أن في هذا الكتاب إصراراً على اصطحاب الأمة للصالح من قيمتها والمستقيم من مبادئها معها، وهي تسير في مشوارها الحضاري، نحو مبتغاها من التقدم والنهضة والسمو، وحرصاً على تمسك الأمة بجوهر الحضارة ومعدنها، والزهد في قشورها ومظهرها؛ لأن الإصرار على قيم الإسلام ومبادئه عصمة من الله للأمة من الزلل، وفي الحرص على جوهر الحضارة ومعدنها ملاذاً للأمة من الخطأ والسقوط.

يبدأ الكتاب في فصله الأول، بشرح لطبيعة الضغط الحضاري الذي تتعرض له أمتنا، وتخضع له باستجابة عجيبة، مع رصد لوسائله، وتوضيح لطرق تسربه، وقنوات انسيابه في مجتمعاتنا تمهيد لتعريف ما أسميناه بـ((محنة المسلم مع حضارة عصره )).

في الفصل الثاني حيث حددت دوائر المحنة التي تأخذ بخناق مجتمعاتنا، وشروط الخروج منها.

وفي الفصل الثالث، طرحنا سؤالاً هاماً، هو عنوان الفصل: هل إلى خروج من سبيل؟ بقصد الإجابة عليه، وهو محاولة لرسم طريق النهوض والتطور، وهو اجتهاد لتحديد كيفية البدء وفلسفته، مع استحضار تراث أمتنا الناصع، بصفحاته المشرقة، في هذا المضمار، الأمر الذي من شأنه أن يقوي العزيمة، ويشد الأزر، مع التأكيد على أن الحضارة المعاصرة، اتخذت من تقنياتها المتقدمة، وخدماتها المتطورة، ومنتوجاتها المتنوعة، ، وأنظمتها المبدعة، أسلحة قوية وفتاكة للسيطرة على الشعوب النامية، التي تأتي شعوب أمتنا الإسلامية في المقدمة منها، وليس لنا من بديل سوى المزاحمة في كل ذلك، آخذين في الاعتبار أن التقنية هي وقود الحركة، وزاد الطريق، وقد اقتضى الأمر التوسع جزئيا في دارسة واقع التقنية في مجتمعاتنا، والتأثيرات المتعددة التي تساعد على نموها واضطرادها، والسلبيات المختلفة التي مازالت تقف عائقا أمام انطلاق مركبتها، فاستحقت بهذا أن تستقل بالفصل الرابع كاملاً للحديث عن استنبات التقنية المتطورة في مجتمعاتنا وتنميتها. يحمل هذا الفصل قناعة ذاتية ثابتة بأن التقنية لا تنقل بشراء المعدات والأجهزة، والمراجع والكتب مهما أغدقت شعوبنا عليها من المال، ولكنها معاناة، ومجاهدة، والتزام، وإصرار، وثبات من جميع قطاعات المجتمع، ثم أعقب هذا التدليل على ذلك بتجارب الأمم اليابانية، والغربية والأوروبية منها على وجه الخصوص، التي سبقتنا في مضمار التقدم التقني، لاستخلاص العبر منها، ثم تلا هذا تعداد ضروريات وأسس استنبات التقنية المعاصرة، واستيعابها مع ذكر الشروط اللازمة لتحقيقها.

أما الفصل الأخير، فهو اقتراح منهج للخروج بأمتنا من المحنة الحضارية، وتحديد الركائز التي تعد بحق عدة الخروج، إذا ما عقدت الأمة العزم عليه.

وبعد: فما كان لهذا الكتاب أن يجد مكانه بين يدي القارئ بهذه الصورة، التي هو عليها ـ والتي أرجو الله أن يكون حسنة تحسب في موازين، كاتبها، وأن يجد لدى القارئ القبول، فيقبل عليه بحسن الظن الذي تجمعت به أفكاره ورتبت به فصوله ـ أقول: ما كان لهذا الكتاب أن يظهر، لولا الشعور والمعايشة، لما تكابده أمتنا المسلمة من ألم ومعاناة، تكاد تصل إلى مرحلة الإحباط، لولا استشراف الرجاء في الله، ثم الثقة في قدرة أمتنا على النهوض من كبوتها، واستعادة أمجادها، وسلطان قوتها بالإيمان والعلم، الإيمان بالله ، ثم العلم النافع.

ويظل هذا الكتاب في اعتقاد مؤلفه بداية على الطريق الشاق، طريق النهضة والتقدم الذي نسأل الله أن يعين أمتنا على السير عليه بزاد يقينها، وصدق معرفتها، والله يتولانا جميعاً بفضله، ويشملنا برحمته وهو من وراء القصد.

الظهران: غرة ربيع الآخر 1409هـ // 10 نوفمبر 1988م

الدكتور: محمود محمد سفر

============

# هندسة الضغط الحضاري المعاصر

حضارة العصر: أين نحن منها؟

إن الحديث على الحضارة هو حديث الساعة، بل هو حديث العصر، ولغته، وأسلوبه.

والحضارة في مفهومها العام: هي سلوك ونظام، وقيم ومعان، وأسس ومبادئ، ومنظومات وطبيعة حياة، يزخر بها مجتمع ما، وتسيطر على مجريات الأحداث فيه، يدعمها ويحافظ على بقائها عمل متصل، وفعالية عالية مرتفعة، يسهم فيها كل إنسان قادر مؤهل بقدر طاقته وتأهيله، وتبقى الحضارة والرقي ما بقي العمل المتصل، والعطاء المتجدد، والفعالية المرتفعة، فيتطور الفكر ويتفاعل، وتبرز المخترعات، وتتطور الاكتشافات، لتنتج أدوات تلك الحضارة ومنجزاتها.

وحضارة الغرب: هي حضارة العصر التي بسطت رواقها، ومدت آثارها في كل محفل وناد وبقعة من أرض الله، بحيث لا يلتفت الإنسان يميناً أو يساراً إلا ويجدها قد احتوته من كل جانب، وحاصرته في كل اتجاه. وأخذت عليه طريقه، فرداً وأمة… في مطعمه، ومشربه، وملبسه، ومسكنه، وصناعته، وتجارته، وزراعته، ومواصلاته، وعتاده، بل وكل شيء في حله، وفي ترحاله … بحيث لو نادى الإنسان المسلم على وجه الخصوص ، أو هتف بكل ما حوله أن يعود من حيث أتى، لفجع من هول النتيجة حيث يفاجأ بأنه وحده، وليس من حوله مما صنعت يداه شيء.

شكّل هذا كله ضغطاً على إنسان العصر، بدا واضحاً على مسيرة وأسلوب حياة إنسان المجتمعات النامية عامة، والمسلم خاصة، حتى لكأنّ الأمر غدا ظاهرة يتكرر حدوثها كل عشية وضحاها في مجتمعاتنا المسلمة، لتعيش بيننا ، ونتعامل معها، وبها، ولها.

الظاهرة الحضارية

دعونا نعرّف هذه الظاهرة، التي يمكن أن نطلق عليها ((ظاهرة الضغط الحضاري )) ثم نناقش تكرار حدوثها، وكيفيته، بعد أن نعقد مقارنة بينها وبين إحدى الظواهر الطبيعية في الكون.

الظاهرة الحضارية التي بين أيدينا هي وجود حضارة ضاغطة، ومجتمع مضغوط، وميل حضاري (GRADIENT ) (* ) وكما هي عادة الظواهر الطبيعية كلها، عندما يوجد ميل في أي خاصية من خواص النظام الطبيعي، فإن ذلك يحدث تدفقا طبيعيا من الجهة التي تعلو فيها هذا الخاصية إلى الجهة التي تتدنى فيها.

الظاهرة الحرارية

إن استعراض الظاهرة الحرارية في النظام الطبيعي، وما يحدث لها، سوف يعين على عقد مقارنة بين الظاهرة الحرارية الطبيعية، والأخرى الحضارية الاجتماعية.

نعلم مما تعلمناه في دروس العلوم العامة أن انتقال الحرارة من وسط (MEDIUM ) إلى آخر يحدث عبر طرق مختلفة إذا ما توفر ميل حراري (TEMPRATURE GRADIENT ) ويصاحب طرق الانتقال تلك أحداث مختلفة نذكر أبرزها فيما يلي:

الحدث الأول:

يرتبط بانتقال الحرارة بالتوصيل وهو ما يسمى الجزيئي (MOLE- COULERCONDUCTION ) ويعني أن جُزَيْئاً يتحرك فيحرك جُزَئيْاً معه؛ فيحرك جُزَيْئاً ثانياً ويحرك جُزَيْئاً ثالثا فتظل هناك حركة جزئيات، ومن ثم تنتقل الحرارة عن هذا الطريق من الوسط الأعلى حرارة إلى الوسط الأدنى منه حرارة.

الحدث الثاني:

يصحاب انتقال الحرارة بالحمل أو الانتقال الحملي ( CONVECTION OF HEAT ) وهذا الحدث يعني علميا ـ كما هو معروف ـ أن ينتقل جزء من الوسط من مكان إلى مكان آخر حاملا معه الحرارة إلى المكان الجديد.

الحدث الثالث:

هو انتقال الحرارة بالإشعاع، وهذا يعني انتقال الحرارة عبر موجات كهرومغناطيسية.

المقارنة بين الظاهرتين

تلك باختصار ظاهرة الانتقال الحراري، من وسط ذي حرارة مرتفعة، إلى وسط آخر أقل منه حرارة. فماذا عن الظاهرة الحضارية وطرق انتقالها من مجتمع متقدم ذي حضارة باهرة، مسيطرة، إلى مجتمع متخلف اتكالي، يعيش عالة على منتوجات، وأفكار وعادات وأشياء الحضارة المسيطرة عليه بنظمها الحاكمة‍‍؟‍!

هل تظل وسائل النقل في الظاهرتين واحدة؟ وكيف؟!

نعم إن الطرق الثلاثة للانتقال بالتوصيل، والحمل، والإشعاع، تتكرر أيضا مع الظاهرة الحضارية التي بين أيدينا.

فبالاتصال (التوصيل ) تنتقل كثير من العادات الأجنبية عبر تفاعل أفراد المجتمع المضغوط، مع الحضارة الضاغطة، فيحمل معهم بعض عادات هذه الحضارة، وتقاليدها، ويحملونها إلى غيرهم، وغيرهم يحملها إلى غيره، ومن ثم تنتقل كثير من العادات والتقاليد عبر هذه الطريقة الانتقالية من المجتمع الحضاري الضاغط إلى المجتمع المضغوط (الأقل حضارة ).

وهناك أيضا انتقال حضاري عن طريق الحمل، وهذا الظاهرة تبدو واضحة فيمن يأتي إلى بلداننا من الأجانب مصطحبين معهم ـ بطبيعة الحال ـ عاداتهم، وتقاليدهم، يختلطون بنا، ونتأثر بهم، ويتأثرون بنا.

وهناك أيضا انتقال عن طريق الإشعاع الفكري أو الإشعاع الحضاري، وهذا يحدث بتأثير متبادل بيننا وبين الحضارة الضاغطة، ومن ثم نبدأ في تقليد أهلها، وممارسة عاداتهم، وكما هو معتاد فإننا ونحن المغلوبين حضاريا مولعون بتقليد الغالب في عادات وتقاليد. والعادات والتقاليد هي أسرع الأشياء تسرباً وانقالاً، خصوصاً تلك المتعلقة بمتاع الحياة الدنيا وزينتها، ولعلنا نذكر في هذا المقام قول ابن خلدون: (إن المغلوب دائما مولع بتقليد الغالب في عاداته، وتقاليده، وأسلوب حياته ).

ولسائل أي يسأل: ماعمق التأثير الحضاري بأصنافه الثلاثة، على مجتمع أقل تحضراً من مجتمع متقدم حضاريا؟ وبتعبير آخر في هذه التأثيرات الثلاثة التي كان فيها تشبيه ما بين الانتقال الحراري والانتقال الحضاري: أيهما يكون أكثر تأثيراً، وأكثر عمقاً، وأكثر تقبلا في المجتمع.

الانتقال بالتوصيل، أو الانتقال بالحمل، أو الانتقال بالإشعاع؟

من الممكن القول: إن تأثير الانتقال الإشعاعي يكون غالباً على قطاع المثقفين، بينما الانتقال الاتصالي يتم من خلال وسائل الإعلام العامة، والسفر، والسياحة، وهذا يعني أن دائرة تأثيره تكون أوسع لتشمل القطاع الأكبر من المجتمع، مثقفين، وغير مثقفين، وتبقى طريقة الانتقال الحملي، وهذا يتم من خلال العمالة، أو الاستعمار، أو الاختلاط البشري، وتمازج الحضارات والثقافات المختلفة في مجتمع واحد.

إن التعرف على كيفية الانتقال الحضاري، وكيفية حدوثه، وميكانيكيته في الحالات الثلاث، أمر هام ويتطلب الكثير من التأمل، والتبصر، فيما يمكن أن يسمى بعلم الاتصال الحضاري، ويدخل في مضماره انتشار المبتدعات (COMMUNICATION OF INNOVATIONS ) أو بتعبير آخر، كيف تنساب وتتسرب أشياء وأفكار وعادات وتقاليد جديدة في مجتمع ما؟ هل يتم هذا قهراً وقسراً وطوعاً واختياراً؟

تأثير الإعلام على الظاهرة الحضارية

إن وسائل الإعلام في المجتمعات النامية، تستطيع أن تساعد في الإجابة على هذا التساؤل، مثلما أنها قادرة على المساهمة في هذا القهر والقسر بالنسبة للأمة عموما، أو بالنسبة لتسرب حالة نفسية فيها وَلَه بتقليد الغالب والإيمان به.

إن من المشاهد في بلداننا، وجود خليط من النوعين، وكل هذا يحتاج في اعتقادنا إلى دراسة علمية معمقة، وحسبنا أن نشير هنا، إلى هيكلية الظاهرة في محاولة لوضع أسس تطبيق جديد لعلم الاتصال في قضايا الحضارة المعاصرة.

ويمكن إضافة حقيقة أخرى هي: أن قضية تسرب الحضارات، أو تمازجها، أو تأثير حضارة مسيطرة على أمة مضغوطة كرها أو طوعا، تحدث بنسب متفاوتة، وتعتمد على توافر الظروف لكل وسيلة من وسائل النقل الثلاث التي ذكرناها. فإن كان الإعلام في ذلك المجتمع نشطاً، نجد أن طريقة النقل بالاتصال تكون أكثر تأثيراً؛ لأن الإعلام عادةً ما يزين للناس حب اقتناء المنتجات الحديثة، في جميع قطاعات المجتمع، في المدن والقرى والنجوع والبدو، كما أنه قادر على أن يحسن لهم الطرائق الجديدة، في أساليب الحياة ما يرد معها من عادات جديدة تحل ((بالإزاحة )) محل عادات أخرى تندثر وتزول.

إن التسويق، والإعلام التجاري، والاتصال الجماهيري كل تلك، علوم تصب في علم يرتكز على استمالة النفس البشرية، للاهتمام بمنتج جديد، وكيفية انتشاره بين الناس، وإقبالهم عليه. وإذا كنا الآن أمام ظاهرة الحضارة الضاغطة، والحضارة المضغوطة، وتدفق الأشياء، والأفكار، والعادات عبر الحدود، بين هذه الحضارة الضاغطة، والمجتمع المضغوط، فما أجدرنا بأن ندرس تلك العلوم، ونبحث في كيفية تأثيرها على استمالة المجتمع المتخلف، لتقليد المجتمع المتقدم، في أشيائه، وأفكاره، وعاداته، على أن تكون الدراسة والبحث، من أجل تقليل تلك التأثيرات، أو تحجيمها، أو وضع قائمة أولويات لها، إن كان ولابد من الانصياع لها. تلك دعوة مفتوحة نوجهها لشباب الأمة من الباحثين في مجالات العلوم الاجتماعية.

لنأخذ لهذا مثلا، من واقع الريف في أي بلد عربي، يعين المهتم على إدراك المشكلة وتحديد أبعادها.

كان الفلاح العربي يأوي إلى فراشه مبكراًن ويستيقظ مبكراً؛ ليذهب إلى حقله. ماذا نجد الآن؟نجده لا ينام إلا قبل الفجر بساعات، ويستيقظ بعد الشمس بساعات؛ ليفقد بذلك انشراح الصدر وبهجة الاستبشار، اللتين تحيطان بالإنسان دائما في بكوره. أثّر هذا بصورة مباشرة ليس فقط على إنتاجية ذلك الفلاح، بل أيضا على تعامله مع الأشياء من حوله، وتعامله مع مجتمعه، وتقبله للأفكار وأسلوب مواجهته لقضايا يومه، ومشكلات معاشه، شكل هذا كله خسارة كبيرة، له ولمجتمعه.

والحديث بطبيعة الحال هنا ليس عن الإنتاجية؛ لأن حديثها ذو شجون(1 ) لكن القول منصب على الظاهرة الحضارية، لهذا أشرنا إلى مثل الفلاح العربي الذي يجلس رابضا أمام التلفزيون كالمسجون، ويظل يسمع ويرى، ويتأثر بالإعلانات التجارية عن منتوجات، صنعها مجتمع غير مجتمعه، لمجتمع غير مجتمعه، فهذه خلاطة كهربائية جديدة، وتلك غسالة أوتوماتيكية، تغسل كل شيء وتجعله نظيفا، وغيرها وغيرها، فيصدق ما شاهد، ويسعى جاهدا لاقتناء تلك المنتوجات الاستهلاكية؛ لانه يريد أن يستبدل بأسلوب حياته هذا الأسلوب الجديد، الذي يراه في الإعلان، ويتحول بالتالي إلى كيان إنساني آخر؛ لأن أجهزة الإعلام تلح على أذني هذا الرجل، فيكون انتقالا قسرياً أو قهريان فإذا ذهبت الآن مثلا إلى الريف العربي وجدت أن الفلاح يقتني بجانب ماشيته أجهزة حديثة مثل الغسالة، وثلاجة ومطحنة بهارات، وخلاطة وغيرها.

ليس ثمة شكل إذن في أن الإعلام قد فتح لهذا الشخص عالماً رحباً للأشياء الزوالية، وجعله يتمادى في استخدامها، برغم، أنه قد لا يحتاجها. ومن المهم هنا، أن نؤكد حقيقة: إن عالم الأشياء الزوالية ظهر في الغرب مرادفاً لحضارة تحكم بقيمها الإنسان الغربي المتحضر ذاته، الذي لا يجد الوقت ليضيعه في طحن البهارات بهاون، فهو مشغول باستثمار وقته في أمور أهم ويترك للمطحنة الأتوماتيكية القيام بهذه المهمة، إذن فإن المنتوجات الحضارية تلك أتت ضمن معادلة اجتماعية محسوبة، للاستفادة من الوقت، وإنفاقه فيما هو نافع، ومن ثم لم يكن دور ((الأشياء الزوالية )) في حياة الإنسان الغربي ترفاً، بل هو ضروري، في حين هي في حياة الفلاح العربي ترف؛ لأنه ينام قبل الفجر بقليل، ويقوم بعد الشمس بكثير، وفي يقظته يشيع وقته. إن هذا الفلاح لا يعرف قيمة الوقت، ومن ثم فإنه ليس بحاجة إلى هذه ((الأشياء الزوالية )) وقد يكون من الخير أن يدرب يده على الطحن بالهاون.

إن التفاوت بين الطرق الثلاثة للنقل الحضاري، تبدو واضحة في حالة النقل الإشعاعي، فإذا اخترنا عينة من البشر من الذين يرفضون الحضارة الغربية كلية وإشعاعاتها الفكرية، وينأون بأنفسهم عنها، ويضادون أفكارها وحياتها، ولا يريدون أن يتصلوا بها بسبب من الأسباب، لوجدنا أن هؤلاء الناس برغم أن الإشعاع الفكري لتلك الحضارة، لم يحدث لهم أثرا فإنهم يستخدمون أدواتها الحضارية. يركبون السيار، ويستخدمون التليفون، ويملأون بيوتهم بالأجهزة الحديثة، التي تسهل الحياة لهم، فهم برغم رفضهم للحضارة الغربية يستمتعون بمنتوجاتها وأشيائها، ناسين أو متناسين أن الإشعاع لابد أن يأتي من خلال الفكر الذي لابد أن يحدث أثره في الرأس أولا، ثم ينتقل إلى السلوك، فهم رفضوا الإشعاع وصموا آذانهم ضده، ولكن برغم ذلك يستخدمون كل شيء من خلال ظاهرة الانتقال بالتوصيل، أو الانتقال بالحمل من خلال المجتمع الذي يعيشون فيه.

إن المجتمع الذي يحيط دفعاً إلى عملية التقليد، وهذا موضوع حيوي، يحتاج إلى بحث يقضي طالب دكتوراه فيه وقته، كي يدرس بالضبط كيف تنتقل العادات والتقاليد عبر المنتوجات الحضارية من مجتمع ينتجها إلى مجتمع يستهلكها؟ وقد يقوده بحثه إلى أمر آخر هو : أي صفات الحضارة الغربية أسرع في الانتقال؟ وأهمية الإجابة على هذا السؤال تظهر عند الحديث عن التعليم والمجتمع، حيث نجد أن الحضارة الضاغطة ساعدت على تدفق أشياء وأشياء، وتدفقت معها نظم حضارية مفيدة، ومعينة لنا في حياتنا، منها نظم التعليم، حيث نقله العالم العربي من الغرب ـ مصر مثلا: نقلت نظامها التعليمي عن الإنجليز، والبلاد العربية نقلت عن مصر صورا منه، ثم نقلت بعد ذلك مباشرة من الغرب، فنظامنا التعليمي في كليته وعمومه منقول من الغرب باستثناء نظام التعليم الإسلامي التقليدي، الذي مازال قائما، وهو مجال للحديث، وجدير بالدرس ولكن في وقت آخر.

أثر نظم التعليم على الضغط الحضاري

من الملاحظ أنه رغم اتفاقنا على أن نظم التعليم في العالم العربي والإسلامي عموما، نقلت بصورة أو بأخرى من الغرب، حيث ظلت حركة تطورها بطيئة خلال السنوات الماضية، منذ عهد الاستعمار، إلا في جزئيات وقضايا صغيرة ليست مهمة ، سوف نتعرض لها بشيء من التفصيل في فصل قادم(1 )، على أنه لا حرج من حيث المبدأ أن ننقل من الغرب ما يمكن أن يعين من نظم حضارية، لكن القضية هي : أن التأثيرات الحضارية على المجتمع كبيرة، نتيجة أن نظم التعليم القائمة في بقاع شتى من عالمنا العربي بل والإسلامي واهية.

إن التعليم استثمار فيه مدخلات وله مخرجات، ولكي يكون استثماراً منتجاً ذا مردود، فإن الضخ الإنفاقي في التعليم يجب أن يقابله نوعية من الخريجين، تكون أهواؤهم وتطلعاتهم، وإعدادهم متطابقة بالضرورة مع الأشواق الروحية، والحياة الإنتاجية للأمة، بمعنى أنه لابد أن يكون هناك توافق وتناغم وتطابق وتماثل، بين الإعداد البشري للكثرة من خريجي المدارس والجامعات، والوظائف أو المهام الموجودة أمامهم على الخارطة الإنتاجية لمجتمعهم لكي يقوموا بها، ولذلك تجدنا نضع دائماً الخريجين في مواضع إحراج كبيرة جداً، نطالبهم بأشياء هم لم يُعَدُّوا لها. هذه هي القضية الأساسية، وهذا هو المحور في هذا الأمر. والمطلوب التأكيد عليه هو: أنه لا عيب في النقل، لكن العيب في أننا نقلنا ثم جمدنا. بمعنى أننا لم نطور ما نقلناه، لم نعد صياغته؛ ليتلاءم معنا بل استسلمنا لكيفيته، فتلاءمنا معه وانصعنا له.

وبالإمكان طرح القضية كالتالي:

تدفقت على مجتمعاتنا، منتوجات حضارية استهلاكية زوالية، انسجمنا معها، وأحببناها، وتمسكنا بها، ولم نجعل لأنفسنا غربالا حضاريا بيننا وبينها، حدث هذا في العالم العربي الإسلامي: فقيره، وغنيه، دون تمييز.

وفي الوقت نفسه نجد نظم التعليم التي تدفقت أيضا علينا من الغرب لم تتطور بمعدل التسارع الرهيب نفسه الذي يحدث في عالم الأشياء والمنتجات الاستهلاكية الزوالية، فأصبح المهندس الذي يتخرج من الجامعة مثلا يجد نفسه أمام مشكلة حضارية هي: أنه مطالب أن يطور نفسه ليتناغم مع عالم الأشياء الجديد، سواء من ناحية اقتنائه وتشغيله، وصيانته، أو من حيث تطويره والارتقاء بأدائه؛ ليصل المهندس به إلى القدرة على إنتاجه، غير أن هذا العالم من المنتوجات الحضارية الزوالية عالم متجدد، ومتدفق من فوق رأسه، وأمام عينيه، والنظام التعليمي لم يؤهله لهذا ولذلك تأتي هنا القضية الثانية وهي ((طبيعة التحديث في المجتمع )) التي سوف نتحدث عنها بعد قليل.

إن قضية التعامل مع المنتوجات الحضارية الحديثة سواء كانت فيديو، أو سيارة، أو أي جهاز أو مركبة، أو منتجا، قضية تحتاج إلى وقفة نستعرض من خلالها طريقة تعامل الكثير منا معها، حتى بين الشباب المثقف؛ إذ نجد أنه تعامل سطحي استخدامي استهلاكي.

نزيد الأمر تأكيداً بأنه لا عيب أن أحضر لمنزلي أحدث ما صنع الإنسان من أجهزة الفيديو مثلا؛ لكي أستفيد منها، وأوجهها كمنتج حضاري؛ للتثقيف، والترفيه، والاستفادة العلمية، غير أن الملاحظ أنه في اللحظة التي أحضر فيها هذا المنتج الحضاري إلى منزلي، تجدني، أحرص الناس على تعلم كيفية عمل الجهاز، وكيفية توقفه عن العمل، وكيفية استبدال الشريط، ولكن عندما يمتنع الجهاز عن العمل لا أستطيع أن المسه، أو أن أقترب منه.

ومردود هذا هو أنني تعاملت معه تعاملاً استهلاكياً ولم أكلف نفسي عناء البحث عن طبيعة عمل الجهاز، ولا حتى قراءة ما يأتي معه، من كتيب يبين كيفية تشغيل الدائرة الكهربائية فيه، وكيفية صيانته والعناية به. لم أحاول أن أقلب النظر في صفحات الكتيب الذي جاء مع الجهاز، وهي أولى خطوات التعامل المتحضر مع الجهاز. لكن يبدو أن ضغط الحياة وتداخل الأولويات، وعدم الاستيعاب الحضاري لهذا المنتج كمنتج؛ نتج عنه ذلك التقصير الشديد في أسلوب التعامل مع الجهاز. ويمكن أن نقدم مثالا آخر يتصل بطريقة تعامل بعض الشباب ـ ولا أقول كلهم ـ مع السيارات، تلك هي ظاهرة (التفحيط ) التي نشهدها في بعض شوارعنا في بعض مدننا، حيث يظن (المفحطون ) من الشباب أن هذا النوع من المهارة الفردية. إن هذا بالطبع سَفَه، ومضيعة للطاقة، وتقليل من فعالية السيارة ، سببه الأساسي .. أن تعامل هذا النوع من الشباب مع المركبة لم يكن تعاملا حضارياً، لأن الذي أنتجها لم ينتجها لمثل هذا التصرف المجنون. أنتجها مركبة لاستخدامها، ولم ينتجها للعبث بها بمثل هذا السفه.

طبيعة التحديث والاستعمال المكثف لمنتجات الحضارة

سبقت الإشارة(1 ) إلى أن الفجوة الحضارية بين الحضارة الضاغطة والمجتمع المضغوط، تهيئ نقل عالم الأشياء بسرعة كبيرة، أكثر من أي شيء آخر، ومن هنا فإن التحديث في مجتمعاتنا أصبح يتركز في الاستعمال المكثف لمنتجات الحضارة في عالم الأشياء.

فنحن اليوم نبني بيوتنا على نسق غربي.

ونؤثثها بأثاث غربي.

ونجهزها بأجهزة غربية.

بل أننا نتمتع ونترفه بطرق غربية.

قل مثل هذا في نواحي الحياة كلها.

بل إننا أحياناً نسبق الغرب في انتشار استخدام بعض أدواته.

وربما لاحظ من له أصدقاء غربيون، واتته الفرصة لزيارتهم، أن لا يجد عند معظمهم أجهزة فيديو، في حين تمتلئ بيوتنا بهذه الأجهزة.

إن عالم الأشياء قد نما في الغرب نمواً طبيعياً، ليعين على بعض أهداف الحياة عندهم، ولكنه نما عندنا نموا عشوائيا من غير أن يحقق أهدافاً واضحة.

فالتحديث في مجتمعاتنا الإسلامية إنما هو تحديث في الظهر .

إن طبيعة التحديث في المجتمعات النامية أخذ طابع التحديث من خلال عالم الأشياء، أي كل ما يتصل بمتاع الدنيا، والحديث عن عالم الأشياء ومتاع الحياة الدنيا يقودنا إلى سؤال نعتقد في جدوى طرحه وهو:

ما دور المهندس عندما يتخرج من كلية لم تعده إعداداً كاملا لمواجهة هذه المواقف كلها؟ ونقول: المهندس بالذات، لأنه بطبيعة تكوينه العلمي وإعداده المهني، يجب أن يكون أقرب الطاقات البشرية لعالم الأشياء، وأكثرها تعاملا مع المنتوجات الحضارية، ومتاع الحياة الدنيا. إن هذا السؤال ـ رغم بساطته ـ يأخذ بأيدينا إلى القضية الثالثة وهي ترشيد اختيار المنتج الحضاري الملائم للبيئة الإسلامية.

ترشيد اختيار المنتج الحضاري .. مسؤولية من ؟!

سبقت الإشارة(1 ) بأن آخر الأشياء انتقالا من الحضارة الضاغطة إلى المجتمع المضغوط هو عالم القيم العليا، والعلوم والتقنيات؛ لأنها تحتاج إلى كدح في تعلمها وتشربها، والتفاعل معها، ومن هنا يتضح أن الفجوة تظل قائمة بين هذا العالم، وعالم الأشياء، ولأن المهندس هو صاحب دور أساسي في تحقيق عالم الأشياء، نقلاً، وصيانةً، وإبداعاً، فإنه مطالب بما لم تؤهله له الجامعة، هو مطالب أن يضع نفسه في حالة تعلم مستمر، ليوفق بين قدراته، وما يستجد في المجتمع من عالم الأشياء، حتى يكون أكثر فعالية في أداء دوره الحضاري في مجتمعه ولأمته.

ومن المؤكد أن المصالح الحكومية، والمؤسسات والشركات الخاصة، في بلداننا تستطيع أن تسهم في هذا إسهاماً متميزاً؛ إذ يقع عليها دور عظيم في تحقيق هذه الغاية.

فالجامعة جهاز تعليمي، يجنح دائما إلى السكون في عالم أكاديمي، وسوف تغط الجامعة ـ أي جامعة ـ في نوم عميق ما لم تستجيب لمتطلبات المجتمع من حولها، واحتياجاته، فتنبعث من سكونها الأكاديمي إلى التفاعل الحيوي مع ما حولها أخذاً وعطاءً.

وبالطبع تحتاج الجامعة إلى توصيف برامجها، وخططها لتتوافق مع الغايات الاجتماعية التي تسعى لتحقيقها، وهذه من أصعب الأمور والتحديات التي تواجه الإدارة في أي جامعة.

ولكن ما هو دور المهندس ـ خريج الجامعة الذي انغمس في الحقل ومارس المهنة، وواجه ضغوطاً حضارية، وتحديات التحديث الملحة؟

هذا سؤال يقود إلى سؤال آخر:

إلى أي حد يكون المهندس مسؤولاً عن تعليم ذاته تعليماً مستمراً؟

هل ينتظر حتى تأتي الجامعات والمعاهد والأجهزة التعليمية، وتعد له برامج لتحديث معلوماته وتدربه على كل جديد؟

في اعتقادنا أن المهندس سوف يطول انتظاره، وسوف يتأخر عن ركب التقدم العلمي والتقني، الذي لابد له أن يواكبه،. فهو مثل الطبيب الجراح على وجه الخصوص، إن لم يستطع أن يواكب أحدث النظريات والطرق في إجراء العمليات، سيظل متأخرا، وبلا شك سيعرض مريضه قبل أن يعرض نفسه إلى الخطر الشديد، فالمهندس إذا ظل ((مكانك سر)) في تعليمه، وفي توسيع مداركه، وتجديد معلوماته، يظل في حالة غياب علمي، وغيبوبة تقنية عن ما يحدث عالمياً.

وطرق التعليم المستمر ليست بالضرورة في فصل دراسي، وليست من خلال برامج تدريبية؛ إذ من الممكن أن تتم حتى من خلال السفر والسياحة.

فالمهندس عندما ينتقل في بلدان العالم المتقدم المتطور، وينظر حوله، ويبحث فيما يراه، ويتبصر في آيات الله في الكون والحياة، سوف يتعلم ويستفيد، وتزداد الاستفادة إذا تابع ذلك بالقراءة المتصلة في مجال تخصصه، فالقراءة وسيلة مهمة جدا في قضية التعليم المستمر.

وقضية التعليم المستمر، مثلما هي قضية المؤسسات والأجهزة، فهي مسؤولية الأفراد عن أنفسهم، وتحتاج إلى فكر أساسي عند المهندس، حتى يؤمن أنه في كدح دائم، وأن مسؤوليته التعليمية دائبة ولا تنتهي. أما أنه قد تعلم الهندسة في الجامعة أو المعهد وانتهى الأمر فهذه خرافة؛ لأنه في عمل دائم إلى أن يموت؛ لأن العلوم الهندسية، والهندسة التطبيقية علوم سريعة التطور والتغيير؛ من أجل هذا فإن المهندس مطالب بأن يواصل سيره ليفهم ـ ما أمكنه فهمه ـ ما يحدث في الغرب فإننا ـ شئنا أما أبينا ـ مضغوطون بهذه الحضارة، تتسرب من بين جوانبنا، ومن فوقنا ومن تحت أرجلنا، ومن بين أيدينا، ونحن لا نملك إلا أن نلهث خلفها، وليس بوسعنا حاضراً إلا أن نقف منها موقف التلميذ.

إن المهندس مثل باقي أفراد المجتمع مطالب بأن يفهمها، ويتعرف عليها، وله أيضاً دور اجتماعي، يفرق لأمته فيه ومن خلاله، بين ما هو زينة، وما هو وظيفي، وذلك يعني ـ أول ما يعني ـ أنه يجب عليه أن لا يستجيب لكل ضغط يأتيه إذ لابد أن تتوافر لديه رؤية حضارية، وغربال يفرق به بين ما هو زينة وترف، وما هو وظيفة وأساس. على المهندس أن يتبصر طريقه، وأن لا يستجيب لشهوات الناس في مجتمعه وضغوط الحضارة عليهم للتقليد والتبعية.

فما تموج به مجتمعاتنا، من مشاريع وبرامج وخطط، جعلتها تبدو وكأنها ورشة عمل متكاملة ومتصلة، وجعلت الكثير من النظريات الهندسية والأفكار التكنولوجية تتدفق عليها، سواء ما يتصل بالتصميم، أو من حيث التنفيذ، حتى أصبح بإمكان المهندس المثابر الاستفادة من كل ما يتعرض له، ويعرض عليه، ويعترض طريقه، في الحقل والمصنع والمعمل والمكاتب الهندسية، كي يستوعب ما أمكن تطبيقه من تلك النظريات والأفكار، ووسائل التنفيذ المتطورة، وأن يشارك زملاءه فيما استوعبه واطلع عليه، أو مارسه، بأن يعقد معهم ولهم لقاءات عمل ومشاورة متصلة، أو يجتمعون كلما دعت الحاجة على هيئة حلقة علمية يحضرها المهندسون؛ ليستعرضوا ما تعلموه وشاهدوه، ويتحاوروا فيما يواجههم من مشكلات علمية، أو خبرات ميدانية، وهذا إن تحقق فإنه يشكل بلا ريب وسيلة للتعليم الذاتي المستمر، الذي قد لا يجدها المهندس بين جدران الجامعة، والتي لا تحتاج إلى جهد، بل ويمكن أيضا، تأكيداً لذلك، واستكمالاً له، أن تقوم أجهزة الخدمات الهندسية في البلديات والمواصلات وغيرها، بمنح المهندسين العاملين بها إجازة تفرغ علمي. على فترات متفاوتة؛ ليمكنوهم من الاستزادة من العلم والخبرة المتجددة، وجمع أشتات أفكارهم، وتقويم تجاربهم بهدف تجديد معلوماتهم، وتطوير إمكاناتهم، وبهدف تمكين المهندس العامل في الحقل من تحديد المشكلة وتوصيفها، ووضعها في شكل يستخلص منه الخبرة والمعرفة العملية.

فالمهندس الذي ذهب إلى ميدان من ميادين العمل والممارسة، وتكونت لديه محصلة جيدة من التجارب والخبرة سيكون مفيدا لنفسه ولغيره، أن يتفرغ ولو لفترة محدودة؛ كي يستجمع خلالها التجارب التي صادفته في الحقل، ويقومها، ويعطي رأيه في المشاكل الفعلية للتصميم والتنفيذ.

ومثل ذلك كمثل الاستفادة من مجموعات المستشارين والخبراء والاختصاصيين والفنيين الذين نستقدمهم من خارج الحدود؛ إذاً لابد أن نشترط حق المشاركة، والتعليم، والتدريب للمهندس الوطني، على الأعمال الهندسية التي يقومون بتصميمها وتنفيذها في بلداننا؛ بحيث تظل مساهمة المهندس الوطني قائمة في جميع المراحل، خطوة بخطوة حتى يتعلم من خبرات أولئك بالاحتكاك، والممارسة، ويكتشف الكثير من أسرار مهنة الهندسة، وهذا جزء من التعليم الذاتي المستمر له.

ويبقى السؤال: هل نحن على استعداد لكي نتعلم من هذا الخبير أو الفني الذي أتى إلينا، أم نتظاهر أمامه بأننا علماء وقادرون، وأنه هو الذي جاء ليعمل، ومهمتنا نحن الإشراف عليه؟ هذا سؤال حيوي وواقعي وملح، يطرح في ثناياه قضية نفسية هامة تتصل بالذات.

إن الكثير من المهندسين في بلداننا يواجهون، عقب تخرجهم في الجامعة، وحصولهم على درجتهم العلمية، تحدياً مباشرا عندما تسند إلى الفرد منهم مهام أساسية تجعله في موضع كبير من مسؤولية اتخاذ القرار، بجانب الإشراف على مجموعة من مهندسين وخبراء، من داخل وخارج الحدود، فالحاجز النفسي الذي يفصله عنهم يجب إزالته؛ لأن رصيده الأساسي وثروته الحقيقية، هي الخبرة العملية، التي يستطيع اكتسابها خلال فترة احتكاكه بهم، إذا تنازل قليلاً عن كبرياء المنصب، دون تفريط في مسؤولياته؛ لأن مهندساً لديه عشر سنوات من الخبرة العملية المكتسبة، أفضل بكثير من مهندس حصل حديثاً على درجة الدكتوراه في الهندسية بدون خبرة عملية، ذلك لأن استفادة الوطن من الخبرة العملية للأول لا تقدر بثمن وهذه الحقيقة تقودنا إلى رصد ظاهرة نلمسها عند بعض العاملين في الحقول العملية كالبلديات، والإسكان، والمواصلات، والطرق، وهي اختيارهم لبعض المشكلات التي واجهتهم في الحقل، ثم مسارعتهم الخطى إلى جامعة خارج الحدود ليتقدموا لها بتلك المشكلات من أجل الحصول على الدكتوراه، وكأن الدكتوراه أصبحت غاية في حد ذاتها؛ إذ تجر بعض هؤلاء في مراكز مرموقة لن تزيدها الدكتوراه سموقا.

هذا الحديث ليس موجها ضد الاستزادة من العلم والمعرفة، والوصول عن طريقهما إلى أعلى الدرجات، لكن المقصود منه هو التأكيد على أهمية الخبرة العملية، وتفضيلها على درجة الدكتوراه بدون خبرة عملية في الحقول الهندسية، للذين سوف يمارسون المهنة على وجه الخصوص، مهما كان البريق الاجتماعي للشهادة؛ لأن المكان الطبيعي لحملة الدكتوراه هو الجامعة، أو معهد البحوث، والحديث عن الدكتوراه يقودنا إلى المطالبة بتغيير مفهومها السائد في عالمنا العربي؛ لأنه أصبح مفهوماً معوقا للعلم والتعليم وللتنمية، ولابد من إعادة صياغته، وربطه بفعالية إنتاجية محددة على خريطة المهام الوطنية وذلك لكي لا يصبح الحصول على درجة الدكتوراه هدفا في حد ذاته، وحتى تقل الهالة الاجتماعية التي تحيط بهذه الدرجة.

التوازن بين ما هو زينة وما هو وظيفي

لا يعني ما أسلفنا أن على المهندس أن يجعل من نفسه مطية لتحقيق عالم أشياء سريع في خطاه .. فيحقق للمجتمع كل ما يريد، من غير أن يحمل في أعماقه غربالاً حضارياً يساعده على عمليات الانتقاء، والاصطفاء، فيفرق بين ما هو زينة، وما هو وظيفي، ويميز بينهما، فلا يحرص على الأولى أكثر من حرصه على الثانية.

لنأخذ لهذا مثلا في الهندسة المعمارية حيث يحرص على التصميم الأمثل؛ من حيث تحقيق الجوانب الجمالية والحضارية. وإذا كان له أن يبرز في تصميمه الناحية الزخرفية التي تحقق أهدافا جمالية فإننا نطالبه بالحرص نفسه على الجوانب الوظيفة والعملية التي تؤكد خصائص مجتمعه. بمعنى أنه يؤكد على الاستخدام الحضاري الأمثل للتصميم، بما يتمشى مع طبائع الأشياء. وإلا فما معنى أن يصمم مسجدا ـ مثلا ـ على أحدث طراز، وينسى أن يحقق وظيفته الأساسية، وما يخدمها من أماكن مريحة ومجهزة للوضوء مثلا.

فالمهندس يجب أن يحمل في قلبه رؤية اجتماعية واضحة، يميز بها بين الغث والسمين، ويحرص من خلالها على الانتقال بأمته من حالها التكنولوجي المتخلف إلى حال أحسن وأرقى.

بإيجاز نقول: إن دور المهندس في صياغة الحياة دور أساسي وهام، وليس أدل على ذلك مما كتب ابن خلدون في مقدمته من أن أشياخه كانوا يعلمونهم الهندسة لأن الهندسة كالصابون، يغسل العقل من الأوساخ وينقيه من الأضرار. ولقد قيل: أن أفلاطون كتب يافطة على باب داره: ((من لم يكن مهندسا فلا يدخل بيتنا )).

إن ابن خلدون وأفلاطون يعلقان هنا على المنهج التحليلي الذي يحمله المهندس في عقله، فلا جدال بأن دراسة الهندسة دراسة تفيد العقل، وتعطيه قدرة رائعة على مواجهة المشاكل الجدية.

ومن هنا فان للمهندس أدواراً متعددة:

- فهو الذي يحقق للمجتمع رغباته في عالم الأشياء.

- وهو الذي يصون هذا العالم ويطوره ويقلده ثم يبدعه خلقا آخر.

- وهو بحكم العقلية التحليلية التي تعيش في جنباته، قادر على المشاركة في صياغة حياة عقلانية معاصرة.

- ثم إنه بحكم عمله الإنشائي، تبهره كل يوم آيات الله في نفسه، والكون، والحياة فيشعر بالجمال والكمال، وينساب ذلك كله في إشارات روحية إبداعية يغني بها حياة أمته.

=============

# محنة المسلم مع حضارة عصره

دوائر المحنة:

- الانبهار بحضارة العصر حتى الغشاوة، واللهث خلفها حتى الإعياء.

- الإفراط في التغني بالماضي التليد.

- خمول العقل المسلم وغيابه عن مجريات الأحداث.

شروط الخروج من المحنة:

- الإنسان ركيزة التطور وهدفه.

- تحقيق الذاتية في التطور ومن خلاله.

إن ما ذكرناه في الفصل السابق عن الضغط المتواصل، والتأثير الديناميكي المستمر الذي تتعرض له أمتنا من حضارة العصر التي ما كانت لتسود العالم وتحكمه ويتحكم أصحابها بمجريات الأحداث فيه، لولا سلطان القوة التي تمتلكه، بما تنتجه مصانعها من وسائل ومعدات، واكب العلم فيها التقنية، وبما تذخر به نظمها الحاكمة في مجالات السياسة، والاقتصاد. والاجتماع، والفكر، والإدارة من إبداعات. عن الضغط الحضاري وتأثيره الديناميكي يقوم دليلا واضحا أن على أمتنا أن تعقد العزم للتصدي لهذا الضغط الموجه نحوها، من حيث تعلم ولا تعلم، وأن تقف من ذاتها بإصرار وحزم موقفا صادقا لا تبالغ إن هي رددت فيه عبارة شكسبير الشهيرة.

نكون أولا نكون؟! .. ذلك هو السؤال.

ولا تكتفي بالإجابة على هذا السؤال، بل عليها أن تحدد على أي حال حضاري تكون؟! ومن أين تبدأ.

لقد آن لنا ـ نحن المسلمين ـ أن ندرك أن الحضارة المعاصرة بتقنياتها ونظمها وهما مصدر سلطانها وقوتها، أصبحت تشكل ـ بحق ـ تحدياً مباشراً للإنسان المسلم، وأسلوب حياته جدير به أن يتقبله، ويسعى ما وسعه الجهد لمواجهته، فالنظم الاجتماعية والاقتصادية والفكرية الوضعية التي ترتكز عليها تلك الحضارة، والتي يحمل بعضها في ثناياه تعارضاً جذرياً مع أمر الله وشرعه، تضغط بقوة على المجتمع المسلم أياً كان، وتحيط به من كل جانب، وتلك محطة لا يستطيع الفرد المسلم أن يجتازها إلا بحرصٍ شديد على ذاتيته وتمسكٍ تامٍ بخصوصيته، مع البحث المستفيض والجاد عن البدائل الإسلامية الفاعلة، لما تفرضه حضارة العصر من حلول لمشكلاته، وما تقدمه من خيارات قد لا تتطابق مع التطلعات والأشواق الروحية للأمة.

والحرص على الذاتية، والتمسك بالخصوصية، يتمثلان في المحافظة على القيم، والمبادئ، والأسس النابعة من عقيدة التوحيد، التي يجب أن يدين لها، ويلتزم بتطبيق تعاليمها، ويصوغ حياته على منهجها، لأنه إن هو فرط فيها فَقَد تميزه، وافتقد ذاتيته، وعاد كأي إنسان في هذه الدنيا ذهب يبحث عن مخرج من تخلفه فلم يجد إلا طريق الحضارة الغربية المعاصرة، وما تفرضه من نظم، وقيم ومبادئ، وسلوك، ومعاملات فاعتنقها، وأصبح سجين دوامتها بكل ما لها وما عليها، لا يقدر على الفكاك منها، ويجد نفسه ترساً في آلتها لا يستطيع الخلاص منها، فتلونه بلونها وتشكله بشكلها، وتطبعه بطبعها، وقد تدعوه إلى التفسخ من قيمه فلا يتردد، وتدفع به إلى التحلل فلا يقاوم، كما نرى ذلك واضحاً عند بعض أفراد المجتمعات النامية التي عرفت طريقها إلى الحضارة الغربية دون ضوابط، وبدون انضباط، فاعتنقتها واستبدلت تلك الحضارة من سلوك، وأفكار، ومعتقدات اجتماعية، بما تدين به من قيم، وفلسفة، ومبادئ، وأصالة، فأصبح إنسان تلك المجتمعات كغراب يقلد مشية الحمامة، فلا هو نسخة كاملة من إنسان الغرب، ولا هو بقي على حاله محافظاً على كيانه، ومؤكداً انتماءه، ومعتزاً بشخصيته.

إذن فمعاناة الإنسان المسلم الحقيقية مع حضارة العصر تبدأ يوم يفقد ذاكرته الحضارية، ويتخلى عن ذاته ويقطع صلته بقيمة الفاعلة، والصالح من تراثه فتزول مقاومته، وتقل مناعته، ويرتمي في أحضان السيئ من السلوك، والمعوج من المبادئ والقيم، باسم التقدم والتطور، والتقدم والتطور من كل ذلك براء.

دوائر المحنة

من هذا نخلص تحديداً إلى أن محنة الإنسان المسلم مع حضارة عصره تتركز في دوائر ثلاث متصلة، هي في تقديرنا:

أولا: الانبهار بحضارة العصر لدرجة الغشاوة، واللهث خلفها حتى الإعياء

وكل هذا دفع به إلى التقليد والمحاكاة ليجد نفسه في نهاية المطاف منقاداً طواعية إلى الرضوخ لسلطان تلك الحضارة فيصبح تابعا لها. تأمر فيطيع.

ولكن إلى متى سنظل ـ نحن المسلمين ـ هكذا عالة عليها، مبهورين بها، مشدودين إليها؟ إلى متى سنظل هكذا مستخدمين لمنتجاتها، ومستهلكين لبضائعها؟ إلى متى سنظل هكذا أسواقاً لمظاهرها، ومستودعاً لما تقذفنا به من أشيائها وتطرحه في أسواقنا من منتجاتها؟ ! أسئلة حرجة آن لنا أن نوجهها لأنفسنا بصدق وإصرار، حتى يمكننا أن نبحث عن الإجابات المحددة، والواضحة لها.

لا بأس إن ينبهر الإنسان بالجديد عليه، ولا تثريب أن يندهش بالغريب عنه، فتلك جِبِلّة الإنسان أينما كان، فالانبهار بالحضارة الغربية المعاصرة صورة واقعة وحقيقة لا تنكر من شعوب العالم النامي .

ولا عيب في هذا بذاته، إنما العيب في نظرنا أن يسيطر الانبهار على الفرد والأمة، فتغشى الأبصار، ولا ترى إلا بمنظور تلك الحضارة، وتتوقف العقول، فلا تفكر، إلا اعتماداً على عقول تلك الحضارة، فيسقط التبصر، ويمحى التفكير، وتلهث الأنفاس خلف ((عالم الأشياء )) في الحضارة الغربية، ولا تهدأ حتى تنال بغيتها منه، دون أن تسهم في صنعه أو تشارك في إنتاجه.

إن الحق كل الحق أن نعترف بأن هناك فجوة ملحوظة ـ يخشى اتساعها مع الزمن ـ بين تراث الأمة الإسلامية وتاريخها المجيد يوم قادت العالم إلى النور، وبين ما تعيشه من واقع متخلف، وأمية حضارية تعتبر امتداداً لأميتها الأبجدية، في الوقت الذي تنفجر فيه المعرفة والعلم ، ويحلق فيه إنسان العصر في آفاق رحبة من الإبداع والابتكار.

إننا بهذا الاعتراف ننتصر لأنفسنا على أنفسنا، ونقر: بأن البناء الحضاري، ومظاهر التقدم ما هي إلا محصلة تفاعل الأمة والمجتمع مع البيئة بجميع ما فيها من قيم ومبادئ، وسنن وقوى، وموارد مادية وبشرية، مثلما أن رسوخ البناء الحضاري ما هو إلا تعبير أصيل عن قيم الأمة، وتجسيد حيُ لكيانها العقدي والنفسي، والفكري ، والسلوكي، وبقاء الحضارات وديمومتها رهن دائما بوجود هذه القيم، وديمومة تلك المبادئ تلك المبادئ.

ثانيا: الإفراط في التغني بالماضي التليد كرد فعل غير مباشر لذلك الانبهار

مما يقود المسلم المعاصر ـ في عمومه ـ إلى الاتكاء على مخدة التراث فيروح في سبات عميق، لا يحس بما حوله ومن حوله، من متغيرات، وما يحيط به من تحديات، وعندما يستيقظ ـ إذا شاءت إرادة الله له أن يستيقظ والثقة بالله كبيرة ـ سوف نجده مندهشا للتطورات التي أخذت بعناق مجتمعه، وأحاطت به من كل جانب، ولأن تلك التطورات حدثت أثناء فترة نومه، فإذا لم يستطيع أن يستوعبها يبدأ في مقاومتها، والقدح فيها، بدلاً من أن يحتويها، وينقيها عن شوائبها، ولأن الزمن كفيل بحل الكثير من المشكلات تكون النتيجة في غير صالحه، لأن الزمن دائم الحركة كنهر متدفق لا ينتظر المنكفئين، ولا يهتم بالحائرين، ولا يتوقف من أجل الحالمين.

وبقدر اعتزازنا وفخرنا بتراث أمتنا وتاريخها المجيد، إلا أنه لا يضفي التغني به علينا هالة من شرف، ولا نوعا من تقدم، ولا شيئا من حضارة طالما بقينا نعيش على أطلاله، ونتخذه تكأة نجلس عليها في ساحات الفخر البالي، والحماس المهترئ ومواقع التراخي ، والاستسلام لأحلام الماضي، واليأس المريح.

دعونا نعترف بشجاعة وصدق أننا ـ نحن المسلمين ـ لا نملك اليوم حضارة تحمل سماتنا، وتعبر عن هويتنا، ولكننا نعيش في ظلال حضارة أقامها الأجداد، متمثلة في التراث العريق الذي ورثناه، ولم نبذل الجهد الكافي، ولا الجدية المطلوبة حتى الآن لإحيائه وتقديمه لأمتنا بأسلوب العصر، ليكون أحد مصادر طاقتها ووقود مسيرتها نحو مبتغاها من التطور والتقدم والنهضة.

توقفنا عند نهاية المسيرة لتراثنا، بينما عكف الغرب في فترة انحطاط المسلمين التي صاحبت ذلك التوقف ـ على علومهم ونهل من معارفهم، وأسس على بذورها وبأنفاسها قلاعه الحضارة الشامخة، التي ما فتئ يرفع من ناطحاتها، ويعلي من سوامقها من خلال كشوفه ومخترعاته، في مجالات العلوم والتقنية، والمؤسسات والنظم التي غمرت العالم كله، من مشرقه إلى مغربه، بمنتجاتها السريعة إلى الحد الذي يثير ـ عن جدارة ـ الانبهار والإعجاب بأصحاب هذه الحضارة. هذا هو الوجه الإيجابي لها، والذي يشكل في ذاته تحدياً رهيباً يزيد في عمق الفجوة الحضارية بيننا وبينه، يجب أن نسعى جاهدين لعبورها.

أما الوجه الآخر لها فإنه سلبي وقبيح يتمثل في أن أصحاب الحضارة الغربية يتوسعون دائما في منتجاتهم، ولم لا فقد قامت حضارتهم على الغزو والتوسع، وفتح الأسواق لمنتجاتهم، إنهم ينتجون كل يوم جديداً، ويصنعون كل يوم سلاحاً يدعوهم إلى بيع القديم، يشعلون من أجله حروباً في العالم، إن لم تشتعل بنفسها، وإن خمدت زادوها نارا وأججوها. هذا الاستعمار الجديد القوي لم تكفه الفجوة الحضارية بيننا وبينه، بل يحاول أن يجهض كل مشاريع التنمية الإنتاجية في بلدانا، ومن هنا تعيّن علينا ـ ونحن في حال لا نحسد عليه، بين مطارق التسارع الحضاري من جانب، ومحاولات الإجهاض لتوجهاتنا من جانب آخر ـ تعيّن علينا أن نقف موقفاً صريحاً، وصامداً، ومضاعف الجهود من الحضارة الغربية، وما تمثله.

إننا لا نستطيع أن نعيش بعزله عن عالم اليوم، بكل ما فيه من حضارة وتقدم، وبجميع ما فيه من إنجازات هائلة، عمقت الفجوة الحضارية بيننا وبينه، وواقع هذه الفجوة إنما يفرض علينا تحديات لامناص منها، ولا مفر عنها، إذا كنا فعلاً على المستوى اللائق من الإحساس بها، وإذا كنا فعلاً جادين في رغبتنا في تضييق هذه الفجوة، وفي تجاوز هذا التخلف التقني القاتل.

ثالثا: خمول العقل المسلم وغيابه عن مجريات الأحداث

إن ما أصاب العقل المسلم من ركود وخمول، بل وغياب تام، عن مجريات الأحداث في المجتمعات المسلمة، ترتب عليه خروجه من دوائر التحدي، والاكتفاء بالمشاهدة، فأسقط بذلك عن نفسه المسلمة واجب التكليف، الذي فرضه الله على الإنسان لعمارة الأرض عندما استخلفه فيها. إذ أن ما نلحظه بوضوح في مسيرة مجتمعاتنا اليوم أنها تعيش بالحد الأدنى من التفكير والتنظيم، وأن افرادها ـ في مجموعهم ـ يتعايشون مع واقعهم بشيء من اللامبالاة، وبقدر من عدم الاهتمام، إلى جانب الأنانية الفردية، التي عادةً ما تقود الشخص إلى التمسك بما يملك من فكر ، أو رأي ، أو خبرة، أو حتى متاع الدنيا، ويحرص على الاكتفاء بأدنى ما يستطيع من المشاركة في إنتاجية مجتمعه.

وإن من العدل والإنصاف أن لا يعمم مثل هذا القول على كافة أبناء الأمة الإسلامية، بل إن من الواجب الإشادة بفئات من أبناء أمتنا في مختلف أقطارها آمنت بصدق وعملت بجد، وجاهدت بعزم، وأعطت بسخاء فجاء الإيمان والعمل، والجهاد والعطاء، على قدر ما وقر في القلوب والأفئدة من صدق، وجد، وعزم وسخاء.

والذي يعنينا تشخيصه وتحديده بدرجة أساسية هنا هو الخمول، والركود، والكسل الذي أصاب المجتمعات الإسلامية في مجموعها، فغدت تابعة بعد ان كانت متبوعة، وأصبح العقل البشري فيها لا يتفاعل مع الحياة من حوله.

- فلا عاد يهتم ببحثه، وإن اهتم ففي أضيق الحدود.

- ولا المفكر عاد يدلي بفكره، وإن فعل فبكلمات وتعابير غامضة.

فما الذي أخرج العقل المسلم من دائرة الاهتمام بأمته واعتقله في دائرة الاهتمام بالذات، وجعله يتصف باللامبالاة؟ هل هو قصور الإمكانات الذي نسمع بعضهم يتحدث عنها؟ أو هو انعدام حرية التفكير التي تقيده عن الحركة؟ أو هما معا؟ أو أن هناك أسباباً أخرى؟!

أسئلة نتركها بلا إجابة، لأنها تحتاج إلى دراسة موضوعية، تظهر الحقائق، وتحدد الأسباب، لكن الذي لا نتركه، بل ونؤكده هو أن غياب المسلم من على مسرح الأحداث جعله يعيش المحنة بكل أبعادها، وصدق أبو الاقتصاد الياباني(دوكو ) (1 ) عندما عبر عن دور العقل فيما تشهده الإنسانية من تطور وتقدم بقوله:

((إن هذه التطورات الهائلة تدل على عظمة العقل الإنساني، وأن المصدر الحقيقي لكل شيء، هو هذا الجهاز الأعجوبة الذي على كتفيك. إنه المخ الإنساني وإلى هذا المخ الإنسان يجب ان نتجه بأفكارنا، فإذا عرفنا المخ الإنساني، وهو المصدر الذي لا ينفد للإبداع، فكل شيء بعد ذلك هين تماما، وهذه هي البداية لكل عمل عظيم، أو مجتمع يريد أن يكون عظيما ً)).

ويؤكد ((دوكو )) على أهمية العقل الإنساني، وعظمة خالقه في كلمات قليلة ولكنها بليغة فيقول: (1 )

((عندما يولد الطفل يكون مخه مكوناً من عشرة آلاف خلية، هذه الخلايا منفصلة بعضها عن بعض، ولكن هذه الخلايا لا تستطيع أن تعمل وحدها، لابد أن تتشابك وأن تتماسك، بل إن هذه الخلايا تشبه الأيدي عندما تتداخل أصابعها، وتشبه الكباري التي تربط الشواطئ.

والعلاقات المتشابكة، والترابط بين الخلايا، يشبه بالضبط الأسس الأولى لبناء أي مصنع، الآلات الحديدية، والقواعد الخرسانية، ولكن بعد ذلك يجب ان ننتقل من وضع الأساس الضروري إلى التشغيل، وكيفية استخدام الآلات وتطورها بعد ذلك، ولا يمكن أن نصل الى نتائج رائعة إذا كانت العقول الالكترونية رديئة )).

شروط الخروج من المحنة

تلك هي المحنة بدوائرها الثلاث فهل إلى الخروج من سبيل؟ نعم ولكن بشرطين اثنين:

الشرط الأول:

أن يكون الإنسان المسلم ركيزة التطور والتقدم وهدفه.

الشروط الثاني:

أن تتأكد ذاتيته في التطور والتقدم، ومن خلاله .. وليكن تناولهما بالتفصيل ليتبين المقصود منها.

الشرط الأول: الإنسان ركيزة التطور وهدفه:

للإنسان في المشوار الحضاري مكانة هامة، وعليه واجبات جسام، وإذا كانت الحضارة تتجه إليه بجوهرها، وفنونها وعلومها،وآدابها، وقيمها وسلوكها، وكل ما يتمخض عنها، وتنطلق منها وبها ـ وهذا أمر طبيعي على أي حال ـ فإن الهدف الأول من مناهج التطور، وخطط التنمية، واستراتيجيات التقدم ، يجب أن توضع بحيث توجد منه إنساناً سوياً متوازناً، فتشحذ فعالياته، وتقوي عزائمه، وتعبئ طاقاته، ليؤدي دوره، ويقوم بواجباته، لأن الإنسان النامي يختلف في متطلبات حياته، وفي حوافز نشاطه، ومنطلقات طاقته، عن الإنسان المتطور، الذي بلغ بمجتمعه قمة الحضارة، وبلغ به مجتمعه شموخ التحضر، في حين نجد أن إنسان التنمية يعاني من قصور ملموس في الخدمات الأساسية، ومتطلبات الحياة الكريمة في الوقت الذي يجد نفسه فيه مطالباً بأن يعمل بجد وجهد فائقين، لتحقيق خطط التنمية، حتى توفر له ما هو أكثر من الخدمات الأساسية، وما هو أبعد من المتطلبات الضرورية هذا إلى جانب أن واجب إنسان التنمية المسلم السوي أن يبتعد عن كل ما يمس الصالح من قيم مجتمعه، من تصرفات وعادات، لها ما لها من بريق الحضارة، وانبهار التقدم، وعليها ما عليها من تفسخ وانحلال يدعوان إلى تحطيم المجتمع، وانهيار أسسه الصالحة، وركائزه السليمة، وهو إن فعل هذا فإنه يبعد عن مجتمعه ما يقوض أركانه، ويهز جذوره، فيعيش المجتمع المسلم معافى من أمراض الحضارة، سليماً من خبائثها وشرورها، والعاقل من اتعظ بغيره.

الشرط الثاني: تحقيق الذاتية في التطور ومن خلاله:

يتفق علماء التنمية ومختصوها على أن مسيرة التنمية في أي مجتمع لا تكون راسخة الأركان، عميقة الجذور، وفائضة المردود، ما لم تكن نابعة من ذاتية ذلك المجتمع، متطابقة مع تصوراته، متمشية مع احتياجاته، لأن تبني أفكاراً تنمويةً غريبةً عن مجتمع ما، وصبها في القوالب الاجتماعية لذلك المجتمع لا يأتي بخير، ولا يفضي بالنتائج المرجوة.

كما أصبح من المؤكد، أن التنمية لا تخدم مجتمعها إلا إذا تمت داخل إطاره الاجتماعي المحدد، الذي يعكس قيمه، وأخلاقياته، ومبادئه، وعاداته، وتقاليده، وطرق معيشة أبنائه، وكل ذلك لابد أن يلعب دوراً أساسياً في صياغة فكر التنمية، وذهنية مخططيها.

لذا يظل البعد الاجتماعي للتنمية والتطور في المجتمع المسلم، مسئولية أبناء ذلك المجتمع من المختصين، لأن ما يترتب على خطط التنمية من تحولات سلوكية متوقعة، وتغيرات اجتماعية منتظرة، ما كان منها على مستوى الفرد، أو الجماعة، أمر هام يحتاج إلى رصد، وتحليل، ومتابعة، لا يكون قادراً على تحقيقها إلا أبناء المجتمع. وإذا اقتضى تنفيذ بعض المشروعات التنموية استقدام خبراء ومختصين أجانب، فإن الواجب يفرض أن تفرغ المشروعات تلك من محتواها الاجتماعي ليتولى المواطنون المختصون معالجته، لأنهم على فهم تام لصفات ومميزات، وعادات مجتمعهم، بحكم أنهم جزء منه، وبالتالي تأتي استشاراتهم في قضاياه الاجتماعية أبعد عمقاً، وأنفع علماً، وأكثر إدراكاً، ويترك للمختصين من الأجانب التصرف في الجانب التقني البحت بما تميله طبيعة كل مشروع؛ لأن الخبير القادم من خارج الحدود تكونت معادلته الاجتماعية، وخلفيته البيئية، في مجتمع بيئته مختلفة تماما عن بيئة المجتمع المسلم، برغم كل ما أوتي من عبقرية، وعلم، وقدرات.

لعل من المناسب في هذا المقام الإشارة إلى تجربة أندونيسيا مع العالم الألماني الاقتصادي ((شاخت )) والتي كتب عنها ((مالك بن نبي )) ـ رحمه الله ـ في كتابه ((المسلم في عالم الاقتصاد )) حيث أكد أن المجتمع الأندونيسي عاش في أواخر الأربعينيات من هذا القرن متوثباً ومتحمساً للخبرات الأجنبية، كي تعينه للنهوض باقتصاد أندونيسيا، فاستقدمت أندونيسيا عالماً يشار له بالبنان في مجال التخطيط الاقتصادي هو الدكتور ((شاخت ))، ووضعت تحت تصرفه كل البرامج، والخطط، والأفكار، ولكنه فشل فشلاً ذريعاً في مخططه للنهوض باقتصاد أندونيسيا. وفشله لم يكن متوقعاً في نظر الأندونيسيين، لأنه التزم في عمله بدقة فنية، وتوافرت له وسائل مادية وبشرية، كانت كفيلة بنجاح مخططه في رقعة منّ الله عليها بأخصب تربة تنبت من أنواع الخيرات كلها، في مناخ يجعلها تنتج من ثمراتها في ثلاثة مواسم، وأسكن فيها ما يزيد على مائة مليون من العباد، يعجب الإنسان من ذكائهم ومن ذوقهم الجمالي المرهف (على حد تعبير [ابن نبي ] ). الذي يثير في تحليله للأمر سؤالاً هاماً هو: ما الذي جعل مشروع ((شاخت )) يتعثر حتى فشل؟ ويجيب بأن الفشل ـ في اعتقاده ـ يرجع إلى أن ((شاخت )) وضع مخططه لأندونيسيا على هوى معادلته الشخصية، وبخلفيته الاجتماعية، كفرد من المجتمع الألماني، في حين أن التجربة الأندونيسية ستجري بطبيعة الحال على أساس معادلة الفرد الأندونيسي، فتعثرت التجربة على خطأ مخططها ((شاخت )) في تقدير المعطيات البشرية في المجال الاقتصادي لأن ذهنه يحمل لهذه المعطيات صورة واحدة تطبق في أي تجربة تجري داخل ألمانيا أو خارجها.

وقد استنتج ((ابن نبي )) حقيقة مهمة هي: أن الواقع الإنساني لايُفسر على أساس معادلة واحدة بل حسب معادلتين:

الأولى:

معادلة بيولوجية تسوي بين الإنسان وأخيه الإنسان في كل مكان، بحيث يستطيع هذا كل ما يستطيع الآخر، إلا فيما فضل فيه بعض الأفراد على الآخرين.

والثانية:

معدلة اجتماعية، تختلف بين مجتمع وآخر، وفي المجتمع الواحد من عصر إلى آخر، حسب الاختلافات في درجة النمو والتخلف.

وإذا كانت المعادلة الأولى موهوبة من الله الذي خلق الإنسان في أحسن تقويم، وميزه على المخلوقات بالتكريم فإن المعادلة الثانية هي هبة المجتمع إلى الأفراد كافة كقاسم مشترك يطبع سلوكهم، ويحدد درجة فعاليتهم أمام المشكلات بصورة تميزهم عن أفراد مجتمع آخر، وعن جيل آخر من مجتمعهم، إذا كان الفاصل الزمني كافياً لطبع المجتمع بأسلوب آخر يتفق مع معادلته الاجتماعية.

من هذا نستخلص أهمية الذاتية في التطور والنماء، ودورها في ضمان نجاح المشاريع الاجتماعية التنموية، وحتمية مواءمتها للمعادلة الاجتماعية للفرد والجماعة؛ لتظل مهمة الجزء الاجتماعي في تلك المشاريع منوطة بأبناء المجتمع ، وأمانة في أعناقهم يحاولون معها ما وسعهم الجهد وأسعفتهم التجارب والخبرات، تحقيق الذاتية والمحافظة عليها، وإبرازها.

==============

#هل إلى خروج من سبيل؟

من أين نبدأ؟

كثيرا ما تطرح الأمم النامية، وأمتنا الإسلامية تمثل مركز الثقل فيها، على نفسها سؤالاً ، عن كيف تبدأ مشوارها الحضاري وهي تعيش محنتها مع حضارة العصر الباهرة والمسيطرة؟ ومن أين؟! وفي طرح الصيغ العملية للإجابة على سؤال البداية الحضارية، تظهر الاختلافات والاجتهادات، وتزداد السبل تفرقاً وتيهاً بالدول النامية، في محاولاتها النهوض بمجتمعاتها، بازدياد شتات فكر أبنائها، وقلة مواردها، وما تعانيه من عدم استقرار، وما ترزأ به من ضغوط خارجية، وأولويات داخلية.

كل ذلك يتم ومسيرة الزمن ممتدة، لا تعرف الانقطاع، فالزمن تيار متدفق، تتداخل فيه الأحداث، عبر تتابع متناغم، وتشابك مستمر، فاليوم هو امتداد للأمس، وغدا هو محصلة لما نقرره وننجزه اليوم.

وكما أن للتاريخ علم له مؤلفاته وبحوثه، فقد اصبح للمستقبل علم (المستقبليات )

(FUTURLOGT ) له علماؤه ورواده، الذين يسعون إلى استشراق آفاقه، والبحث في كنهه المجهول، من خلال مبادئ، وأسس علمية، تحكم عملية التوقع للمستقبل؛ إذ لم تعد الدراسات المستقبلية ترفاً عقلياً، يتلهى به بعض المثقفين، فراراً من الواقع ومشكلاته المعقدة، بحثاً عن عالم أفضل، بل إن لها فائدة عملية مباشرة، من حيث التمكن من معرف النتائج البعيدة المدى، لما يجري في بلادنا الآن، وما نتخذه من قرارات، وما نمارسه من تغيير في العادات، وما ننشئه أو ندعمه من علاقات(1 )، وبمعنى آخر: قرارات الحاضر بما لها وما عليها ترسم آفاق المستقبل بما له وما عليه.

وعالم الغد مليء بالمفاجآت التي تستدعي الدراسة والنظر بتمعن، فالأمر يستلزم أن يمتد بصرنا ليحدد واقعنا الحضاري قياسا بالواقع المعاصر للعالم المتقدم، في مجالات النهضة الحديثة، وصولا إلى تحديد معالم الطريق إلى المستقبل.

ونقطة الانطلاق لابد أن ترتكز على دراسة تحليلية، تبين جوهر المشكلة الحضارية، وتحديد مكاننا الصحيح من حضارة العصر الباسقة، قبل أن نضع الحلول، فقد مضى وقت ثمين على أمتنا، كان يمكن أن تستغله في المواجهة الصادقة لقضايا التخلف، لو أن المهتمين بأمر نهضتنا في مواقعهم المتعددة والمتباينة، أحسوا التشخيص في البداية، ولكن اليقظة الفجائية، والرغبة في التغيير بحركة سريعة قوية، لا تعطيان عادةً فرصة للتأمل والتدبر. وهذا ما حدث في شتى بقاع عالمنا العربي والإسلامي، عندما أخذت الدول بصور متفاوتة تعد للنهوض والتطور.

ولأن اليقظة كانت فجائية، والرغبة في التغيير بحركة سريعة كانت قوية، وجدنا أنفسنا ـ نحن المسلمين ـ ونحن في طريقنا إلى النهضة نتبع سبيل (الشيء ) حينما نرى أوروبا تخرج علينا بزينتها المادية البهيجة، فيقع في نفوسنا شيء مما وقع في نفوس بعض بني إسرائيل حينما خرج عليهم قارون بزينته، فقالوا يا ليت لنا مثل ما أوتي قارون إنه لذو حظ عظيم وهكذا عمدنا إلى تلك الحُلَّة نفصل مثلها، ونحاول أن نقلد بجهالة، عثرة المقص في يد الخياط الأوروبي، مع أن الطريق إلى الحضارة هو وقبل كل شيء طريق الفكر، الذي يحدد الوسائل ونتائجها، في مدة معلومة، بحيث يرى السائر ما سوف تنتهي إليه الطريق، قبل أن يخطو فيها خطوة واحدة. (1 )

فعن طريق التقليد، والمحاكاة، والمباهاة، تكدست بيوت القادرين منا بأحدث ثمار ((التقنية ))، فكرست ظاهرة الركون والإخلاد المتصل لعالم الحاجات، وتعودت نفوسنا على اللهث خلف الأشياء، نقتنيها، ونتباهى بها، وما عادت النفوس قادرة على السيطرة على رغباتها؟ وكبح جماح أهوائها، دون أن نسأل أنفسنا: إلى أين نحن ذاهبون؟ وما هي نهاية عالم الأشياء؟ وما هي نتيجة هذا كله؟

وكما هو الحال دائما في ((ديناميكية )) التغيير الاجتماعي، تبدو ظاهرة الإخلاد المستمر، والركود الدائم، لعالم الحاجات والخدمات، مرض سريع الانتشار، لا نتجاوز القصد إذا ما أسميناه بالطاعون الاجتماعي.

فمجرد اقتناء فرد لشيء جديد، وبإعلان هذا في مجتمع الشخص القريب ـ نتيجة مرض اجتماعي آخر اسمه التباهي ـ تبدأ عملية الاقتناء للشيء نفسه تنتشر نتيجة مرض آخر اسمه التقليد. والإنسان يبحث عن حضارة تقنية ثابتة، راسخة، ومتطورة، يريد أن يقيمها بما صنعت يداه لابد أن يلتفت التفاتا عظيما لهذه المشكلات الأخلاقية؛ لأنها في الحقيقة جزء أساسي من مشكلات النهوض الحضاري، فالإنسان في غياب ضميره الأخلاقي، ينحط لعالم غريزي، جبل على التكاثر، يستكثر من الأشياء، حتى إذا ملها بحث عن شيء جديد.. ولن يوقف حركة نفسه الهابطة في عالم الأشياء، إلا الانتقال إلى عالم الخلود (1 ).

وإذا كان ثمة فائدة من اليقظة الفجائية، والرغبة العارمة في التغيير، فإنها بدون ريب وضعتنا في مواجهة مباشرة مع مأزق التخلف، بعد أن زالت عنا الغشاوة، وها نحن نحاول أن نلملم الشتات، لنكشف أن من أهم العمد الرئيسة للحضارة الغربية المهيمنة، هي التقنية، فكان أن أخذنا منتوجات الحضارة وانبهرنا بثمراتها، وسعينا إلى اقتناء حاجاتها في شكل سلع وأدوات.

ولما تراكمت لدينا المنتجات الحضارية، وتكدست، ظننا أنها الطريق إلى النهضة والتحضر، وإذ بنا نفاجأ مرة أخرى أنها ليست هي، وأن الفجوة التي تفصلنا عن الغرب المتطور تتسع، والمشكلة تزداد تعقيداً، إذن فمن أين نبدأ؟ وكيف؟

فلسفة البدء

يسبق البدء في أي أمر، تحديد فلسفته التي يقوم عليها، وتوجهاته التي يرنو إليها، وأهدافه التي ينوي تحقيقها. ونحن المسلمين، نحتاج اليوم أكثر ما نحتاج، إلى عبق النبوة الأولى، في طيبة الطيبة، حيث نجد كيف كان المجتمع المسلم الأول حريصا على أن يصل إلى أعلى درجات التطور التقني بمقياس عصره، فمنح أولوية قصوى للصناعات الحربية، وركز عليها، وأغفل الصناعات الأخرى للمقتنيات الترفيهية. في ذلك المجتمع وعلى قمته، كان يجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم، يوجه، ويرشد، ويعلم، ضرب المثل الأعلى بنفسه، في الإعراض عن عالم الحاجات الترفيهية، إذ كان يقول لسامعيه، عندما يستغرب بعض أصحابه من إعراضه عن مقتنيات الترف، وهو القادر على امتلاك الدنيا، وما فيها لو أراد. كان يقول لهم: ((إنما أنا ابن امرأة كانت تأكل القديد في مكة ))، ليذكرهم بنفسه قبل أنفسهم؛ حتى يتعظوا، وعندما يقترح بعض الصحابة سريرا للنبي العظيم عليه السلام، لينام عليه، يرفض، ويؤثر أن يظل على حاله، ينام على حصير، يترك أثرا في جنبه، ويدعوا الله: ((اللهم أحيني مسكيناً، وأمتني مسكينا، واحشرني في زمرة المساكين )).

تلك هي فلسفة البدء الحضاري، أما الترف فهو طابع الختام الحضاري، وأمة تريد البدء لا يمكن أن تنطلق من عالم الحاجات، حيث قتلها الترف من حيث بدأت.

إن طريق النهوض الحضاري، الذي ترتجيه الأمة، يفرض عليها شروط لابد من تحقيقها، ويحدد مسارات لابد من السير فيها، لإكمال المشوار المبتغى. فإن كان التسابق الاستهلاكي، واللهث خلف عالم الأشياء، هو الطريق المرتجى، فإنه يقود بلا شك إلى إخلاد الأفراد إلى ترفٍ، من شأنه أن يعوق عملية النهوض ذاتها، ولا يساعد على قيام قوة إنتاجية محلية، تعتمد على الإحلال المتصل، والإبدال المستمر للطاقة البشرية المستقدمة بطاقة بشرية وطنية. فالترف بطبعه يثبط الهمم عن التعلم والتدرب، ويهبط بالاستعداد الوطني في هذه المجالات إلى أسفل الدرجات.

وإن كان الطريق المؤمل لنهضة شاملة وحقيقية، هو ترسيخ الاعتماد على الذات، والمزاحمة على عالم الغد، بكل ما يحمله ذلك العالم من مفاجآت وتحديات، فإنه يفرض علينا الدعوة إلى تنمية تقنية نوعية، ترتكز على إعداد، وتدريب، وتأهيل الطاقة البشرية؛ لأن أي اتجاه للنهوض والتطور، لا يركز على الإنسان، وسوف يجد نفسه في دائرة مغلقة، يظل المجتمع بإنسانه داخلها دائماً أسير عالم الأشياء، الذي يتجدد دوماً، وتتجدد معه الحاجة إلى طاقة بشرية قادمة معه، ولن يخرج المجتمع من هذه الدائرة المغلقة، إلا بموقف أخلاقي يتحدد في أمرين.

الأول ـ أن تعمل لدنياك كأنك تعيش أبدا.

الثاني ـ وأن تعمل لآخرتك كأنك تموت غداً.

كما هو وارد في الأثر، مما يمكن أن نعتبره مبدءاً للنهوض الحضاري، ونبراساً للتنمية الإنشائية المنتجة.

والاختيار بين الطريقين: طريق التسابق الاستهلاكي، وطريق البناء الحضاري،واضح ومحدد، ولا يحتاج إلى تفسير، ولهذا دعونا نسير عليه بتؤدة ورسوخ، ولنبدأ المشوار

في ظروف محدودية الإدراك التقني المتطور، بل والأساسي أيضا في كثير من بلداننا الإسلامية، وتزاحم الأولويات يشعر المشتغلون بالتنمية التقنية أنهم يعملون تحت ضغوط نفسية غاية في التعقد عندما يجدون أنفسهم ومجتمعهم معهم في مواجهة حضارة تقنية باسقة الزروع، ما تكاد تنتهي من دور تقني، حتى تنتقل إلى حال جديد، وحال مجتمعاتهم مازالت تفصله عنها عصور البخار، والكهرباء، والحسابات الآلية، هذا إذا لم نقل: ثورة المعلومات، وعالم الفضاء، في فجوة ذات ديناميكية معقدة، لم نصل بعد إلى فهم واضح لطبيعتها، وكيفية تجاوزها؛ في مثل هذه الظروف، يلجأ مخططوا التنمية، إلى زيادة حجمها المرجو، زيادة كبيرة، على أمل اللحاق بركب الحضارة التقنية المسرع في خطاه، وفي إغلاق الفجوة التقنية التي تزداد مع الأيام اتساعاً.

التقنية زاد الطريق

إذا كانت التقنية مطلباً أساسياً للدول الآخذة في النمو، للخروج من وهدة التخلف، والقفز فوق الفجوة، التي تفصلها عن العالم المتقدم ، فهي بالنسبة للمسلمين ضرورة لتأكيد الذات، التي تنبع من امتداد طبيعي لحضارة إسلامية عريقة، كان العلم التجريبي دعامتها، وبدأت بكلمة حق، أوحى، بها الله سبحانه وتعالى إلى النبي العربي محمد بن عبدالله صلى الله عليه وسلم، فغرسها في النفوس لترتفع بها رايات الحق والهدى، وينتشر بها العلم، ويعم النور، وتقوم الحضارة.

إن التقنية الحديثة في العالم المتقدم نشأت من تزاوج العلم والْحٍرفة، ومن إصرار المجتمع على هذا التزاوج في صورة مراكز تطوير الصناعات المختلفة.

واقع التقنية في مجتمعاتنا

كانت الصناعات والحِرف قديماً في مجتمعاتنا العربية والإسلامية، راسخة الأسس، وواضحة المعالم، تضمها منظومة مهنية، وتحكمها تقاليد حرفية، وتتحكم فيها اعتبارات عملية، وكان الأبناء يتوارثون الصناعات والحرف من خلال تلك المنظومة عن الآباء، بالمحاكاة، والتقليد، كما كانت دكاكين أهل الحِرف والصناعات تمتلئ بالصبية، الذين ينفقون صباهم كله تحت رعاية معلميهم، يتدربون على أيديهم بصبر ويتعلمون منهم بدون ضجر.

بدأت هذه الطريقة في التعليم والتدريب تختفي رويداً رويداً، ولم يعد الآباء يرسلون بنيهم لحوانيت أهل الحرف والصناعات، وإنما يدفعون بهم إلى المدارس، ودور العلم، يودون لو أنهم أكملوا دراستهم الجامعية، فيملكون بذلك جواز المرور للوظائف العليا. وحدث نتيجة لذلك، شبه اختناق في عملية التغيير العلمي والتقني، حيث بدا واضحا أن أعداد الجامعيين نمت على حساب قطاع الحرفيين وأهل الصناعة؛ وذلك لاندفاع الأمة في طريق التعليم الجامعي، فاضمحلت الحرف، وزال معظمها، واستسلم المجتمع إلى التدفق الرهيب للسلع، والحاجات، والمنتوجات، التي صنعتها أيد أجنبية، وتحول بذلك من مجتمع حرفي صناعي بالتقليد والمحاكاة، إلى مجتمع ((الياقات البيضاء )) التي لا تأكل مما تزرع، ولا تلبس مما تنسج، ولا تسكن فيما تبني، وهذه قد تكون من الأسباب العملية، التي جعلت معظم المجتمعات المسلمة، تابعة واتكالية، وليس لها مخرج من هذا المأزق الحضاري، إلا باعتناق فلسفة البدء الحضاري، كما أشرنا من قبل (1 ) لتسير في طريق الحضارة التقنية.

ونقطة البدء في ذلك هي تعليم الحرف، وانتشارها بين الأغلبية الساحقة من أبناء المجتمع، في حين يتوجه جزء للتعليم الفني ليكون قادراً على تطوير الحرفة ونموها .. ويستنفر من ذوي العقول النادرة، من هو قادر على متابعة ما يطرأ على العلوم من تطور ونظريات، والنظر في إمكانية تسخيرها لخدمة التقنية المستحدثة.

لقد أفاء الله على العالم الإسلامي ـ بدوله العديدة وشعوبه المتعددة ـ بمصادر طبيعية، ورزقه موارد مختلفة، وعليه أن يسعى جاهداً إلى استثمارها ، لأنه يعلم أنها مصادر ناضبة لا محالة، قصر الزمن أو طال، كما أن أمتنا لا بد أن تعي بيقين أهمية الكثافة العددية، في الموارد البشرية، وضرورة صياغة وتنفيذ برامج لتأهيلها وتدريبها.

إذن فأمتنا في سباق مع الزمن؛ كي تستفيد من ثرواتها الطبيعية، ومواردها البشرية في تنمية شاملة، وواسعة، ومخططة، لتواجه تحدي نظام اقتصادي عالمي، يخدم الشمال المتقدم، ويستنزف الجنوب المتأخر، ولا سبيل إلى مواجهته إلا بالاعتماد على سلطان العلم بالتضافر مع التقنية.

والمراقب للتطورات المتلاحقة، في المجالات العلمية، وما يتبعها ويصاحبها من تقدم في التقنية، يحتاج إلى وقفة موضوعية للتعرف على واقع التقنية، وتأثير تطوراتها المتلاحقة على الحالة العلمية والتقنية سلباً وإيجاباً، واندثار الحرف والصناعات التقليدية كما أشرنا إليه قبل قليل، ونظرة المجتمع إلى العمل المهني، وعلاقة كل ذلك بتدفق المنتوجات ((الزوالية )) على المجتمع.

ونهدف باستعراضنا لكل تلك المكونات، أن نسعى إلى تشخيص ((المرض التقني )) الذي تعاني منه مجتمعاتنا؛ لنتعرف بعد ذلك على الفجوة التقنية التي تفصلنا عن العالم المتطور، وأسلوب معالجتها.

نظم التعليم وعلاقتها بالحالة العلمية والتقنية

إن من الحق أن نقرر: أن التعليم نشأ في أقطار العالم الإسلامي كافة، نشأة كان التعليم الديني فيها هو نقطة الارتكاز لباقي أنواع التعليم؛ إذ كانت له حلقات ومدارس اتخذت من المسجد منطلقاً ومقراً.

وقد تطور التعليم الديني من حيث مناهجه، في شتى أقطار العالم الإسلامي، فعلا مرة وسمق، وهبط أخرى وتأخر، ولكنه استمر - على كل حال يشكل الحياة العامة للمسلمين، حتى دقت نواقيس الحضارة الأوروبية، وجلبت معها بخيلها ورجلها العلم الأوروبي، وانبهر المسلمون بما حققه هذا العلم الأوروبي، إلا أن غالبية ديار الإسلام أقبلت عليه، ولم تجد في دينها ما يردها عنه، واعتبروا أنها بضاعتنا ردت إلينا، وهو على كل حال تراث البشرية، أدلى فيه الأجداد بدلو عظيم، فلم لا نستعيده؟!

ومن هنا بدأ صراع صامت، بين أسلوب التعليم القديم، وبين الأساليب الحديثة، واستقر الرأي في كثير من ديار الإسلام، أن تترك معاهد التعليم الديني على مناهجها، ونتجاوزها بتقديم العلم الحديث، بأساليبه ومناهجه في معاهد جديدة.

بدأت معاهد التعليم الديني تفقد ازدهارها بوقف تدفق النابهين والمتفوقين عليها؛ حيث اتجهت الغالبية منهم إلى النوع الجديد من التعليم، الذي يتسم بظاهرة جديدة، ألا وهي المهنية التي فقدها نظام التعليم القديم بإصراره على مناهج وضعت في العصور الوسطى.

خذ مثلا محاولات الأزهر في مصر في الستينيات من هذا القرن الميلادي، عندما اجتهد في تجاوز مشكلة الانفصال هذه، بين النوعين من التعليم، فافتتحت كليات مهنية متنوعة، لا تختلف في شيء عن أي كلية أخرى من حيث المناهج، مع إضافة منهج إسلامي فوق المناهج الأخرى، فجاءت التجربة ممسوخة، حيث كان من الأجدى ـ في رأينا ـ ((أسلمة )) مناهج العلوم الاجتماعية، من علم نفس، واقتصاد، واجتماع، وما إليها بمعاصرة، وفعالية، بدلا من خلطة ((سمك لبن تمرهندي )) التي سارت عليها الأمور، والتي لم تقف عند هذا الحد، بل تعدته إلى أن كليات الأزهر الدينية التقليدية بقيت على حالها دون تطوير، مما أفقدها كثيراً من حيويتها، ومن ثم انصراف الدارسين عنها.

تلك مقدمة عامة وسريعة، عن نظم التعليم، أردناها أن تؤكد ضرورة هدم الحدود المصطنعة، بين التعليم الديني، والتعليم المدني، وأن تكون مدخلا لسؤال هام هو: أي نوع من الخريجين نريد؟ ولأي غاية اجتماعية نعدهم؟

إن ازدواجية التعليم في العالم العربي والإسلامي، مشكلة يجب إعادة النظر فيها، من أجل نظام موحد للتعليم، ينبثق عن أحسن ما في القديم، وأفضل ما في الحديث.

لقد انحصرت مناهج التعليم القديمة في القرون الأخيرة، في دراسات فقهية، ولغوية، ولم تعد تدرسّ في معاهد التعليم المختلفة، أي مناهج علمية تجريبية، وأصبح تراث أجدادنا في هذه المجالات، كأنه ليس تراثنا، ومن هنا كانت الحرف التي نشأت في العلم العربي الإسلامي، والصناعات التي بدأت فيه، معتمدة على النقل والمحاكاة والتقليد.

وحتى وقت احتكاكنا بالحضارة الغربية، ظللنا لا نعرف كيف نضع بذور الصناعة في بلادنا؛ لأننا طلقنا أنفسنا (في عصور الانحطاط ) من العلم التجريبي وهو ماء الحياة بالنسبة للتقنية المعاصرة، قامت به، وبغيره لا يمكن أن تدوم.

نعود الآن إلى طرح السؤال السابق بصيغة أخرى:

أي نوع من التعليم يلزم لوظيفة اجتماعية معينة؟ بدلا من أن نسأل أنفسنا: أي وظيفة اجتماعية تصلح لهذا الخريج؟

أي أن التعليم في بلداننا، يجب أن يرتبط بمهمة اجتماعية مطلوبة، وهي التي تحدد آفاقه كماً ونوعاً.

ولا بد من القول في البداية: بأن ربط سياسة التعليم بالتخطيط ضروري، ويجب أن يزداد وثوقا مع الأيام، بحيث يقل فاقد التعلم إلى حده الأدنى، إن لم يمنع تماما. ومن المفيد أن يزداد إيماننا بأن الفجوة التقنية، التي تفصلنا عن العالم المتقدم، يحكم تجاوزها قوانين حضارية لا يمكن إغفالها. فتحول العلوم إلى تكنولوجيا، تحكمها فعالية اجتماعية، تتأثر بكل العوامل النفسية، والاقتصادية، السياسية، الضاغطة على الأمة، ولن يتم هذا التحول إلا بعد مرور الوقت الحرج من بدء الأمة في تكديس العلوم في عقلها الباطن.

أخذت بعض أقطارنا الإسلامية تدرك ذلك، وبدأت خطوات جريئة في تطوير التعليم، نرجو أن تتلوها خطوات أخرى في المراحل المختلفة، حتى تستطيع الأمة أن تتجاوز الوقت الحرج؛ لتصبح عملية تحول العلوم إلى تقنية، أمراً طبيعياً من غير تعسف، ولا تجاوز.

أثر القدرات الاقتصادية على الحالة العلمية والتقنية

تطورت القدرات الاقتصادية لبعض أقطارنا، بما أنعم الله عليها من خيرات، وحباها من ثروات طبيعية، تطوراً كبيراً، وصاحب هذا التطور عدة ظواهر جديدة، جديرة بالدراسة والعناية، نبرز أهمها فيما يلي:

- ظاهرة الثراء السريع الرخيص، أصبحت تهدد إقبال الناس على العلم مما يهدد بعدم نمو أعداد المتعلمين.

- رغبة المجتمع في الرفاهية جعلته يعج بكل أنواع المنتجات الحضارية وهذا يؤثر بدوره على الصناعة الوطنية.

- الإقبال على التعليم التقني في حالة غير مرضية يحتاج إلى نظرة موضوعية؛ لمعرفة أبعاده، وتأثيره المباشر على مستقبل العلم والتقنية.

إن فجائية التغيير الاقتصادي في أقطارنا، وأثره على مرافق حياتنا ظاهرة، تستحق الاهتمام، وتحتاج إلى عناية خاصة في دراستها فنحن لسنا مسبوقين من غيرنا بمثل هذه الظاهرة، ولذلك فليس هناك حلول جاهزة لنا. ونحن وحدنا قادرين بإذن الله على حل مشكلاتنا.

وإذا كانت فجائية التغيير الاقتصادي قد صاحبها بعض السلبيات التي أشرنا اليها آنفا، فإن من أهم إيجابيات تلك الفجائية، أنها مكنت بعض دولنا من الإسراع في توفير الخدمات الأساسية اللازمة لمجتمعاتها التي تريد أن تضاعف معدلات نموها، كما مكنت لها استقدام خيرة الخبراء والعلماء، للعمل في جامعاتها ومعاهدها ومؤسساتها، وكذلك مكنت لها ابتعاث أبنائها، والتوسيع المطرد في مؤسساتها كلها.

إذن فإن فجائية التغيير الاقتصادي ذات حدين، وعلى رجال الاجتماع، والاقتصاد، والفكر، والسياسة، من أبنائنا أن ينظروا فيما أسلفنا، وما له من أثر على خطط التنمية، لإيجاد حلول تحد من هذا الأثر وتتغلب عليه.

اندثار الحرف والصناعات التقليدية

ظلت المهن والصناعات والحرف، حتى وقت قريب، موجودة بصورة ملموسة في مجتمعنا الإسلامي، كمصدر أساسي للرزق وتلبية لحاجات اجتماعية ترتبط باقتصادنا، وتعكس انغلاقنا الاجتماعي عن العالم الخارجي.

وساعد على استقرار المهن والصناعات والحرف وترسيخها، غياب النمط التنظيمي للتعليم في بلداننا، فاتجه أفراد المجتمع، إلى تعلم المهن والصناعات والحرف، في الورش والدكاكين المنتشرة حينئذ، ولم يكن لتعلم الحرف، وإجادة المهن، والتمكن من الصناعات بهذه الطريقة (التلمذة الصناعية ) مناهج تعليمية مدروسة، ولم تكن تطبق في تعليمها أية أساليب تدريبية تكنولوجية، وإنما اعتمد التعليم على المشاهدة، ودقة الملاحظة، التي يتمتع بها الطالب، وبذلك توقفت فترة التدريب على إمكانيات الطالب الذاتية، وقدرته على التقليد والمحاكاة. وتوارث الابن عن أبيه الصناعة، والحرفة، وتسمت عائلات باسم المهن والحرف، التي كانت تمارسها، فعائلة الصائغ، والنجار، والصياد، والساعاتي، والحداد، والزارع، والقماش، والقزاز، وغيرها أمثلة تبين التزام الأسرة الواحدة بمهنة، أو صنعة، أو حرفة تتوارثها أبا عن جد، وابناً عن أب، وتصبح لقباً تسمى به العائلة.

ظلت الحالة التقنية في المجتمع على هذا المنوال، حتى انتظم التعليم وساد، وانتشرت المدارس، وتعددت الجامعات، فتكدست بالطلاب، وخلت المهن، والحرف والصناعات التقليدية من روادها وأربابها، واندثر بعضها، وبقي بعضها منزوياً في أركان المجتمع لا يقبل عليه من الطلاب إلا من فشل في التعليم المنتظم، أو الذي ساقته ظروفه إليه قسراً .

ثم تطورت أحوالنا المعيشية، وارتقت قدراتنا الاقتصادية، وتدفق على المجتمع أصناف وأصناف من المصنوعات المستوردة، تباع بأثمان رخيصة، فاستبدل الناس المستورد بما قد يصنع محليا؛ لرخص الثمن، وربما أيضا لجودة الصنف.

انتهى بذلك ـ أو كاد ـ تاريخ تقني تراثي، لا نستطيع أن نعيد أمجاده، ونكرر إشراقته، إلا إذا سلكنا مسالك عديدة نذكر من أهمها:

- تقنية التعليم الثانوي العام، بإدخال عدد من الحرف والصناعات عليه.

- تصميم نماذج تعليمية فنية مختلفة، بعد مراحل التعليم الإعدادية والثانوية، ومنحها كل فرص النجاح الممكنة، لاستقطاب العدد الكافي والنوعية الجيدة من الطلاب.

- دراسة وتحليل الحرف المعروفة، والصناعات التقليدية، لتوصيفها توصيفا دقيقا واضحا، ونشرها في كتيبات بأسعار زهيدة، مساهمة في نشر الوعي التقني.

النظرة الاجتماعية للعمل المهني

إن الرحلة الشاقة الطويلة، التي يجب أن تبدأها الأمة، على طريق استنبات التقنية تعني أول ما تعني: تمهيد وإعداد التربة الصالحة للغرس، والاستنبات، قبل وضع البذور، وسقيها، ورعايتها، لتنمو وتثمر.

وتهيئة التربة للغرس، تعني تهيئة المجتمع، لتقبل التقنية عند استنباتها، حتى لا تكون كالعضو الغريب، الذي يزرع في الجسم، فيقاومه ويلفظه، بل لتصبح جزءًا من تكوينه، يتعامل معها، ويستوعبها، ويطورها، بدلا من أن يكون مستهلكاً لها، وزبوناً لمنتوجاتها.

وإن أولى تلك الخطوات، تغيير نظرة المجتمع إلى العمل، وقيمته الحضارية؛ لأن مجتمعاتنا؛ مازالت تنظر إلى العمل اليدوي التقني، والممارسة المهنية، نظرة وصلت عند بعض أفراده إلى درجة الاحتقار؛ مما دفع بجزء كبير من الطلاب، إلى الاتجاه إلى التعليم النظري؛ لينتقلوا بعد حصوله على الدرجة العلمية في تخصصاته، إلى المقاعد الوثيرة، خلف المكاتب الفارهة، في ظل أبهة وهمية للوظيفة، دون فعالية تذكر، أو جهد ملموس.

لماذا نجد رئيس جامعة في أمريكا مثلا، يقوم بإصلاح سيارته في ورشته، ودهان سور منزله بيده، وتنسيق حديقته بذاته، في حين يأنف موظف في مجتمع العرب والمسلمين، من القيام بأبسط من ذلك من الأعمال اليدوية؟! سؤال ساذج؛ لأن الإجابة عليه واضحة، في الفروق والفجوات الحضارية بين المجتمع الأمريكي، والمجتمع العربي.

مجتمعاتنا ـ عموما ـ ليست بدعا في عدم تقدير قيمة العمل اليدوي؛ لأن تلك ظاهرة تشترك فيها مع غيرها، من مجتمعات العالم النامي، خصوصا تلك التي أنعم الله عليها برزق رغد، ومصادر وفيرة، لكنها ستكون بدعا، إن لم تستدرك تفشي ظاهرة الركون إلى الدعة، وحب الترف، وكراهية العمل، حتى تنضب مواردها، وتتحدد مصادر الرزق فيها، فنجدها وقد أضحت عالة على غيرها، وعيّا على نفسها.

إن تغيير النظرة الاجتماعية السلبية إلى الحرف والمهن، يتيح إعادة هيكلة القوى العاملة من أبناء الأمة؛ ليأخذ العمل التقني مكانه الاجتماعي الصحيح. وتغير تلك النظرة سوف يزيل الهدر في التعليم، ويقلل من فاقده، الذي نشاهد دلائله في الإقبال المتزايد على التعليم الجامعي والنظري منه على وجه الخصوص، وحتى يتجه الطلاب إلى قنوات ومسارات أكثر فاعلية وجدوى للمجتمع، كالتعليم التقنين ومعاهد الرف، والمهن التطبيقية.

وتغيير نظرتنا الاجتماعية للعمل، سوف توضح جديتنا، لتعويض فترات التخلف التقني المقفز، التي قاسينا منها وما نزال.

تدفق المنتوجات الزوالية وظاهرة الاستبدال

رأينا مما سبق، أنه خلال مسيرة التاريخ، كانت هناك حِرف مستقرة بمقاييس جيل أو أجيال كاملة، ولكن في العصر الحالي، أو قل: في العقدين الأخيرين من القرن الحالي بدأت حرف كثيرة تفقد أرضيها، وحل الاستبدال ((للشيء )) الخرب، أيا كان من منتوجات الحضارة المعاصرة، محل إصلاحه، وإعادة تشغيله، وصيانته؛ وتم ذلك، لأن التسارع الكبير في استيراد أحدث ما أنتجته المصانع المتطورة، لم يترك مجالا لتطوير الحرف، والمهن التي كانت تقوم بدور الإصلاح والصيانة، فارتفعت تكلفة الإصلاح والصيانة. لماذا لا يستبدل الفرد ثلاجته بأخرى جديدة، إذا كانت تكلفة الاستبدال، لا تفوق كثيرا تكلفة الإصلاح ؟!

أصبح التغيير والاستبدال، ظاهرة متميزة في المجتمعات الغربية، لها عندهم مبررات اجتماعية، واقتصادية ترتبط بالعوامل النفسية، والاجتماعية، لتلك المجتمعات، فهم الذين يصنعون البدائل على أي حال، وهم الذين يطورونها، ويحسنونها، وهم الذي يستفيدون منها في جميع مجتمعاتهم، وزيادة الإنتاجية القومية عندهم، ونحن لا نناقش كل ذلك، ولا نبرره لهم، ولكننا نناقش تكرار الظاهرة نفسها في مجتمعاتنا، بما هي عليه من تخلف تقني، وتأخر صناعي . إن تكرار الظاهرة عندنا، يدل على أن مجتمعاتنا، نقلت أشياء الحضارة الغربية ، ونقلت معها مظاهر وعادات مجتمعات الغرب الاستهلاكية، دون إدراك إلى أننا لا نصنع ما نستهلك، وهم يصنعونه.

إن هذا الاستبدال المتتابع لتلك المنتوجات ((الزوالية )) على حد تعبير ((الفن تفلر )) مؤلف كتاب صدمة المستقبل سوف يؤثر تأثيرا سلبيا على استيعابنا لماهية هذه المنتوجات، والتدريب على صيانتها، وبالتالي عدم إعادة انتشار المهن، والحرف، وتطويرها، ورسوخها في المجتمع، واحترام أربابها، ومحترفيها من أبناء الأمة.

إن ظاهرة الإخلاد لعالم الرغبات، والخدمات والمستهلكات، ظاهرة واضحة في مجتمعاتنا. إن لم نتدارك أمرها، فإنها ستجر المجتمعات إلى أمراض اجتماعية كالاتكالية، والاستسلام، والركون، والترف، والدعة إلى آخر السلسلة إن لم تكن قد فعلت ذلك.

خلصنا مما سبق إلى أن كل مجتمع من مجتمعاتنا الإسلامية، أخذ ينتقل بعيداً، رويداً رويداً، عن الحرف التي كانت سائدة فيه، والتي كانت تغطي معظم احتياجاته عندما كانت تلك الاحتياجات، بسيطة غير معقدة، إلى مجتمع يلهث وراء عالم الأشياء المتسارع في خطاه.

وعلينا أن نؤكد مرة أخرى، على أن هذا التسابق في عالم الأشياء، لم يتح لنا فرصة للتعمق في التقنية الغربية الضاغطة، ولم يعطنا فرصة لتعلمها، ومازلنا نقف عند بابها، لم ندخله بعد. والحديث هنا ذو شجون، يمكن لنا أن نفيض فيه ونعيد، ولكننا نؤثر أن نقول: إننا يجب أن نستغل عشقنا لعالم الأشياء الغربي، في العمل على إيجاد وتطوير منظومة حاكمة للتقنية في بلداننا، تكون الصيانة أو فصل عملي فيها.

إننا وإن كنا لا نصنع الأشياء، فلا أقل من أن نصونها، وإننا وإن كنا لا ننتج ما نستخدم، فلا أقل من أن نحافظ على ما نملك، والصيانة مدخل عظيم للتعلم التقني، لو أحسنا تنظيمه، وإدخاله في حياتنا.

ولسائل مهتم بهذا أن يسأل:

ماذا فعلت كليات الهندسة في جامعاتنا لتعزيز مفهوم الصيانة؟

لو أردنا الحديث عن مدى إعداد المهندس للصيانة، لوجدنا أن هناك قصوراً شديداً في الاهتمام بالصيانة والتشغيل، في برامج تعليم الهندسة، في الجامعات العربية عموما، ومن ثم عدم إدراك المهندس بوضوح، لدور التشغيل والصيانة، في حياة المنشأة.

وحديثنا عن تقصير كليات الهندسة في الجامعات العربية عموما،، في خلق الوعي وتوطين القدرة لدى المهندس، تجاه منظومة التشغيل والصيانة، هو نقد ذاتي نوجهه إلى أنفسنا؛ لأننا محسوبون على التعليم الجامعين ومنه وإليه نعود، فالملاحظ أن مناهج الهندسة، وبرامجها، وخططها الدراسية تهتم ربما بأحدث نظريات التصميم، وبالتحليل الرياضي للظواهر الهندسية، وينسون ولا يقبلون على التصميم العملي غلا قليلا، فإذا انتقلوا إلى النواحي التقنية في المناهج، وجدتها صفرا غليظاً.

وهذا أمر لو استمر، يشكل ضغطا حضاريا، على خريجي كليات الهندسة في العالم العربي.

ليكون حديثنا عمليا فلنأخذ مثلاً من الواقع:

خذ منهج الهندسة في ميكانيكا الموائع ( Fluid Mechanics ) السائد تدريسه في كليات الهندسة اليوم، وابحث في مكوناته الثلاثة، التي يجب أن تكون فيه، وهي الناحية التحليليه، والناحية التصميمية، والناحية التقنية، وسوف تجد أن حوالي 98% من المنهج يركز على الناحية التحليليه لعلم الموائع، بمعدلات رياضية، واستنتاجات، وتفريعات، لا يحتاج إليها طالب الهندسة، ومكانها الطبيعي في كلية العلوم، وهناك فرق بين علم الموائع. وسوف تجد 2% من المنهج للناحية التصميمية، ولن تجد شيئا من الناحية التقنية، والنتيجة أن الدارس لهذا المنهج لا يقدر على إدراك عمليات التشغيل، ونظرياتها، وأساليب الصيانة، فكيف بربك تريد من هذا الدارس، أن يتخرج بعد ذلك ويتعامل مع الأجهزة والمعدات في الحقل؟ هم لن يسألوه في المجتمع عن كيف يحل هذا المعادلة أو تلك التي تصف له الجهاز، ولكنهم يتوقعون منه حداً أدنى من معرفة: كيفية تصميم نظم تحكم للأجهزة

(Control Systems ) ، التي تقوم بتوزيع المياه في المدينة، وشبكات أنابيب المياه فيها، وكيفية تشغيلها، وصيانتها، كل هذا مطلوب في مجتمعاتنا، فنحن لا نصنع شبكات المياه، ولا أجهزة التحكم الآلي، مثل أهل الصناعة المتقدمة، وإنما المطلوب أساساً هو مجموعة من شبكات توزيع الأنابيب.

إذا نظرنا بعمق في هذا المثل سقناه، وجدنا فعلاً، أن إهمال علم الصيانة هذا، بدأ من التعليم نفسه، ولذا فإننا ندعو المعنيين بمناهج التعليم في بلداننا، أن يعيدوا النظر في صياغة مناهج الجامعة، لتتجه إلى السبيل القويم والفعال، وسوف نتعرض لهذه النقطة بعد قليل بشيء من التفصيل.

على أن الحديث اعن الصيانة، يظل حديثاً واسعاً، ومتشعباً، وذوي شجون، وشؤون، وصلة مباشرة بوضع التقنية في مجتمعاتنا، ولهذا سوف نعتبره مدخلا للتعرض للموضوع الأشمل، وهو تنمية التقنية، في الصفحات التالية.

=============

# استنبات التقنية وتنميتها

استنبات التقنية وتنم

لعل بالإمكان أن نطرح في البدء سؤالاً نعتقد أنه مهم وأساسي:

كيف تستطيع أمتنا، وهي تقف عند أبواب القلاع العلمية والتقنية لحضارة الغرب، أن تستوعب علوم الغرب وتقنياته؟ هل هناك جدولة زمنية لتتابع إدخال علوم وتقنيات، بحيث إذا استوعبنا مرحلة، انتقلنا إلى مرحلة ثانية، وهكذا؟

ليس من الصواب التصور، بأن الإجابة سهلة وبسيطة، لكنها على أي حال غير مستحيلة، ويمكن تجزئتها على مراحل، نستعرضها فيما يلي، من خلال المداخل الأساسية، لترسيخ التعليم التقني، والتدريب المهني، ومن هذه المداخل أيضاً التشغيل والصيانة، باعتبارهما معاً، الدرس الأول في التقنية، ثم التقليد الصناعي باعتباره أساس استنبات التقنية في المجتمع.

التشغيل والصيانة - الدرس الأول في التقنية

تعتبر الصيانة من أهم المشكلات، بل التحديات التي تواجه المجتمعات النامية، ونعني بالصيانة هنا: استمرارية أداء الأجهزة، والمعدات، والمباني، وغيرها، بصورة فعالة ومنتظمة، لفترة أطول، مع الإبقاء عليها.

ولا يغيب عن الذهن، أن الصيانة أداة من أدوات الاستنبات التقني في المجتمع، وترتبط ارتباطاً مباشراً باستيراد المنتوجات والأشياء، بل حتى ترتبط بملكيتها بعد استيرادها، وبالتالي فإن تعلم الصيانة الأولية، والامتحان فيها، يمكن اعتباره شرطاً من شروط الملكية في حالات معينة.

إننا نعتقد أن الأخذ بأسباب تقليص تدفق الأجهزة، والمعدات والمركبات، التي تسيطر عليها ((الزوالية ))، يعين على إتاحة الفرصة للمواطن للتريث، كي يتعلم عن طريق الصيانة، ويتأمل في أشياء شبه ثابتة أمام عينيه.

إننا ننادي أن يكون تعليم ((الصيانة العامة ))، جزءًا لا يتجزأ من خطط التوعية والتعليم، والتدريب في المجتمع، على جميع المستويات، وذلك لترسيخ مفاهيم الصيانة بشتى الوسائل والطرق، كي تدخل في مناهج حياتنا، وسبل تفكيرنا، ولتتحرك أيدينا المعقودة، وتنشط عقولنا الخاملة، وتحل عقدة الانبهار عندنا بمنتوجات صنعها غيرنا، لنفهم كيف تعمل هذه المنتوجات؟ فنقدرها، ونحترم تعاملنا معها، لنحافظ عليها أطول وقت ممكن. لذا فإن القوى البشرية التي تعمل في مجالات الصيانة، تصبح من هذا المنطلق، طاقة وطنية تحتاج إلى رعاية قصوى، واهتمام تام بتنميتها، وتدريبها، وتوجيهها.

إننا ننادي بإعطاء الصيانة مكانة علمية، في الجامعات ودور العلم، حتى إيجاد تخصصات لها في الدراسات العليا، إن أمكن ذلك. كما أن علينا تشجيع تعليم الصيانة في الورش الأصلية،والمصانع الوطنية، وحبذا لو فرضت دولنا قوانين على تلك الورش والمصانع، تطالبها بإعداد كتيبات، عن كيفية صيانة منتوجاتها، وإثارة الوعي بعمل نماذج وصناديق هوايات تتعلق بالمنتج الوطني.

ولنا أن نتساءل:

ماذا لو قامت الأجهزة المختصة في وزارات الصناعة في بلداننا، مع أقسام الورش في كليات الهندسة، ومعاهد التدريب المهني، بإعداد دورات تدريبية عن المنتوجات الشائعة جداً في المجتمع، مثل مضخات المياه، وعوامات الخزانات، وأدوات السباكة، وبعض الأدوات الكهربائية، وأصدرت كتيبات مبسطة عن طريقة تركيبها، وصيانتها، وكذلك الصيانة الأولية للسيارات، والمركبات المتحركة، والأثاث، والأدوات المنزلية؛ توزع مجانا؟ إن مثل هذا العمل سوف يعين، ولا شك على انتشار الوعي بين المواطنين، لحب العمل اليدوي، وممارسته، لا فرق في ذلك بين كبير أو صغير.

إن التركيب، والتشغيل، والصيانة، هم المداخل الأساسية للتقنيات المختلفة في المجتمع.

كما أن تدريس الحرف الشعبية، مثل الصيد، والزراعة، والصياغة، والخياطة، وخلافها، وإعداد كتيبات عن تركيب وصيانة أدواتها، يعتبر أمراً هاما وحافزاً لاستبقاء هذه الحرف.

والأمر يحتاج على كل حال إلى ترتيب الصيانة ترتيبا رقيما، وربطها بطيف القدرات البشرية المتوافرة، مع تجميع مكتبة للصيانة، من كل الكتب التي كتبت في الغرب، ليستعان بها في إعداد مثيلاتها باللغة العربية.

إنه من المفيد ملاحظة أن أدوات الاستهلاك التي تحتاج إلى صيانة متقدمة، تصبح عبئاً مضاعفاً على الأمة، لأن المتخصصين في هذه الصيانة قلة، فحبذا لو قللنا من استيرادها.

إن صيانة الأجهزة، والمعدات الاستهلاكية المتطورة، تحتاج إلى طاقات بشرية مؤهلة، ليست متوافرة وطنيا، ولا حتى قوميا، وبالإمكان، بطبيعة الحال، استئجارها من خارج الحدود، إلا أن الأمر لا يقف عند الاستئجار، وإنما يتعداه إلى النواحي النفسية في الأمة، وشعورها بالتبعية، كما قد يؤثر على كثير من سلوكها الدولي، والداخلي. والبديل الوحيد المؤقت لاستئجار الصيانة المتطورة، هو تقليل استيراد الأشياء الاستهلاكية التي نحتاجها وفي ذلك فائدة مزدوجة.

إذن فللصيانة هدفان أساسيان هما(1):

- حفظ الثروة الوطنية، المتمثلة في الأجهزة والمعدات المستوردة أو المصنعة.

- استنبات التقنية.

ونحن أمة تعيش على الاستيراد الصناعي، ونظل كذلك لفترة قادمة غير قصيرة، وفي مثل هذه الظروف تلعب الصيانة دوراً أساسياً وجوهرياً في حفظ الثروة الوطنية، وفي استنبات التقنية.

والخطوات الطبيعية، لتعزيز مفهوم الصيانة في كياننا الاجتماعي، ولتحقيق الهدفين السابقين، هي:

أولا: تصميم منظومة الصيانة تصميماً يرشّد الجهد العام، وجهد الأفراد، في تناغم يحقق المقاصد المرجوة، من غير تفريط، ولا إفراط. وهذا يتطلب صياغة دور الأجهزة العامة في المنظومة، ليحقق مجموعة من الوظائف المتكاملة، ومن ذلك صياغة القوانين والأنظمة التي تحكم:

- استيراد الأشياء وحق الصيانة.

- ملكية الأشياء، وضرورة تعلم الصيانة الأولية، والامتحان فيها شرط من شروط الملكية، أو باختصار: التشغيل، وحق الصيانة.

- التقليل إلى الحد الأدنى من تدفق ((الزوالية )) من العالم المتطور تقنياً، حتى نتيح للإنسان العربي والمسلم قدراً من الوقت، للتعامل مع ((بضائع بطيئة )) يصونها، ويتعلم منها الجديد.

- إلزام المصانع الوطنية بعمل كتب صيانة واضحة للمستعمل.

ثانيا: توسيع وتأكيد دور مؤسسات التعليم والتدريب في نشر الوعي التقني، عن طريق الصيانة، وذلك بإعادة النظر في كل مناهجنا التعليمية، لتخدم منظومة الصيانة، فالدراسة الأولية لمناهجنا التعليمية، سواء ما قبل الجامعة أو ما بعدها، تظهر بوضوح، أن الصيانة ليست وجهة، ولا هدفا، من أهداف العملية التعليمية. وبالطبع لن يضطلع بهذه المهمة في دولنا، إلا المشتغلون بالتعليم، سواء كانوا في الجامعات أو في غيرها.

وبجانب النظر في المناهج جميعها، كي تتخذ لنفسها وجهة صيانة، لابد من إعداد مجموعة من المناهج، على مستوى البكالوريوس ، ومستوى الدراسات العليا، تهتم بالصيانة علماً، ونثير في الطلاب والأساتذة الرغبة في بحوثها، حتى تصبح المفاهيم الصيانية التي تتمخض عنها الدراسات المختلفة، شائعة، بين أكبر قدر من التقنيين، الذين سيديرون دفة الصناعة في أجيال مقبلة.

ونخلص من ذلك إلى القول: بأنه من غير قوانين حاكمة، وتعليم، وتدريب يوفر الطاقة البشرية المدربة، وإدارة محيطة بأبعاد العملية الصيانية ودورها الحضاري، من غير ذلك يصبح كل جهد في الصيانة ضائعا، وتتعارض الجهود، وتصطدم المصالح.

وإذا جاز لنا أن نستخدم تعبيراً شائعاً في الحاسبات الأليكترونية ، فنقول: إن القوانين والأنظمة التي تحكم:

- منظومة الصيانة،

- وتوفير الطاقة البشرية الوطنية المؤهلة والمدربة

- وإيجاد الإدارة المستوعبة لأبعاد العملية الصيانية ودورها الحضاريّ،

كلها مكونات (لينة ) ( Soft ) للعملية الصيانية.

أما المكونات ((الصلدة )) (Hand ) لعمليات الصيانة فتنحصر في أنواع الخدمات التالية:

- خدمات الإصلاح والتجديد.

- خدمات الصيانة الدورية والوقائية.

- خدمات التركيب والتشغيل.

- خدمات التدريب، واكتساب المهارات الخاصة.

بقي علينا أن نحدد من خلال دراسة علمية متخصصة، نماذج مؤسسات الصيانة المطلوبة في المرحلة القادمة من عمرنا الصناعي وذلك عن طريق:

تحديد نوعية الصيانة المطلوبة، وحجمها، وفترة مستقبلية معينة.

- اختيار أمثل لمجموعة من نماذج مؤسسات الصيانة التي يمكن إقامتها، سواء على مستوى الأفراد أو مستوى المنشآت.

- اختيار أمثل لمجموعة من الخيارات العالمية لعمليات الصيانة، من خلال قائمة أولويات تحكمها(1 ).

التقليد الصناعي. أساس استنبات التقنية

يعد التقليد، من الدروس الأساسية للتعليم والتدريب التقني، الذي يخدم بدوره الصناعة الوطنية. والتقليد بمفهومه الصناعي، أو بما يمثل في مجالات التقنية هو: استيعاب كامل للقطع المتعددة، التي يتكون منها الجهاز المراد تقليد صناعته، وخواص المواد التي تصنع منها، وإدراك تام لدور كل قطعة منه، وما تقوم به من عمل، كي يؤدي الجهاز وظيفته بكفاءة وإتقان.

وإتقان التقليد الصناعي يمر بمراحل عديدة، لعل من أهمها ما يتعرض له المُصَنّع من بحوث وتجارب، للوصول به إلى الأداء الكفء. ولهذا تصبح البحوث التطبيقية والتجارب الميدانية من أهم واجبات المُقَلدْ.

لقد أدركت اليابان على وجه الدقة، ما للتقليد الصناعي من دور مهم، وعملي، وحاسم، في سبيل النهوض بصناعتها، وتبوئها مكان الصدارة، أو على أقل تقدير المزاحمة عليه، في كثير من الصناعات المتطورة المعاصرة، وسوف يتضح لنا شيئا مما قامت به اليابان، من أجل نهضتها وتقدمها، عندما نستعرض تجارب الأمم في مضمار العلوم والتقنية.

وعلينا أن ندرك أن مستوى التقليد، يرتبط بمستوى الحالة العلمية والتقنية، السائدة في المجتمع من قبل، وفي هذا المجال لابد أن تتعلم الشعوب الأقل تقنية أن ليس كل شيء تبغي تقليده، تستطيع أن تحققه، أي أن مستواها العلمي والتقني، يفرض عليها قيوداً وعقبات لا يمكن تجاوزها إلا إذا غيرت من مستواها العلمي والتقني.

ونعتقد أن على جزء يسير من أساتذة الجامعات العلمية والعملية، مسؤولية واجبة الأداء، وهي أن يحولوا الرسائل، والأبحاث الجامعية، أو بعضها، التي يقومون بها، أو التي يشرفون عليها، إلى رسائل وبحوث، تصب في معين التقليد للمنتجات المصنعة في الخارج.

إن الفجوة العلمية والتقنية، بيننا وبين الغرب، يجب أن نجتازها بمجموعة من الوثبات في التقليد المبرمج، يتلوها رغبة جادة في التأقلم على المقلد، من الإنتاج والمصنوعات، وهذا يحتاج إلى بحوث متصلة عن: ماذا نقلد؟ وماذا نؤجل؟ أي : وضع برنامج زمني يضيّق الفجوة العلمية، بين التقنية والتقليد.

الفجوة التقنية- نحن والعالم المتطور

إنه من المفيد أن تتكون لدينا قناعة ذاتية، بأن الفجوة العلمية والتقنية، بيننا وبين الدول الصناعية، تزداد ولا تنقص، وتتسع ولا تقل، برغم الظاهر من مؤشرات تدل على الاستعداد للتقدم العلمي، في مجالات عديدة، أبرزها تعدد الجامعات، وتنوع مجالات الأبحاث، وازدياد أعداد الملتحقين، وبالتالي المتخرجين من الجامعات، والمعاهد العليا. والقناعة تلك، يجب أن تهدف إلى إعطائنا دفعات قوية للعمل الجاد، دون أن توقعنا في شَرَك المتشائمين، الذين يظنون أن معدل اتساع الفجوة يتناسب مع حجمه، أي أنها تزداد بقانون أسّي، لأن هذا يؤثر على الحالة النفسية في مواجهتنا للتحدي الحضاري التقني.

وإذا كان الذين ينظرون للعلاقات الدولية بمنظار أسود، يعتقدون أن هذه الفجوة تزداد اتساعاً، بفعل فاعل من الدول الصناعية، فإن الذين يؤمنون بالاعتماد على الذات ـ ونحن منهم ـ يشعرون أن الفجوة تزداد اتساعاً لأسباب ذاتية محضة، ربما ساعدتها أسباب دولية، ذلك أن مشكلة التغيير العلمي والتقني، لا يمكن حلها أصلا إلا بجهود ذاتية، تستأنس بخبرة الذين سبقونا في هذا المضمار. وعلى الذين يظنون أن الذي يملك التقنية سوف يمنحها للذين لا يملكونها، لقاء مال أو طاقة تباع، أن يدركوا الحقيقة المجردة، وهي أن التقنية لا تمنح لأمة غير آخذة بأسبابها، ولكنها تستنبت بذوراً، فتنمو في أمة قد أعدت لها أرضاً، وتموت تحت السطح في أمة أهملت رعايتها: وتلك الحقيقة لا تعني تشكيكاً في عطاء الدول الصناعية بقدر إقرارها لواقع معاصر ملموس.

- آن لنا أن نعترف: بأن أرباب التقنية الحديثة لن يسمحوا بتعليم دقائقها لآخرين.

- آن لنا أن نعي جيّداً: أنه لن يمكننا الحصول على دقائق التقنية المعاصرة، حتى ولو دفعنا من أجلها المال الوفير.

- آن لنا أن نصدق أن طريقنا إلى التقنية الحديثة، لابد أن يمر بمراحل علمية تشبه التطور الزمني في بلاد الغرب.

- آن لنا أن نؤمن، بأن ما يسمى بنقل التقنية من دولة متقدمة إلى دولة متأخرة، هو فرية كبرى، صدقتها شعوب العالم الثالث وظنت معها أن التقنية سلعة تبيعها لها الأمم المتقدمة بقدر من المال.

- آن لنا أن نعتقد أن التقنية لا تنقل، ولكنها تستنبت بالجهد والمجاهدة، وتستوعب بالصبر والمثابرة، وتنمو بالعزيمة والإصرار، وقد آن الأوان لمن يعيش في وهم نقل التقنية أن يستيقظ على الحقيقة.

دعونا نزيد هذا الأمر إيضاحاً فنضرب مثلا بصناعة السيارات، المعروف أننا لا يمكن أن نصنع سيارة، من غير أن نتعلم كيف نصنع ترساً، من تروس نقل الحركة. صحيح أن الكتب العلمية، تمتلئ بالمعلومات النظرية، والنظريات العلمية عن كيفية صناعة ترس، ولكن لابد أن يجيء المهندس، ليحوّل هذه المعلومات إلى روتين، يقوم الفني بتبسيطه للعامل ليصنعه، وقد ينشأ عن ذلك مشاكل في التصنيع، فيرفعها المهندس لمجموعة التطوير إلى حلول علمية ، لمادة الترس، ومعالجتها الحرارية، وطريقة تصنيعها، ويترجم المهندس ذلك كله في خطوات واضحة للفني، ليتولى الأخير تنفيذها، بعد ذلك مع العمال.

إننا نصنع تروساً في بعض بلادنا العربية، ولكن الشكوى الدائمة منها هي: أن المعاملة الحرارية لسطوحها رديئة جدا، إذا ما قورنت بالتروس الأوروبية، أي: أن هناك دقائق في الصناعة الأوروبية، لا يمكن أن نحصل عليها، إلا إذا وفقنا إليها، عن طريق العلم والتجربة، فأوروبا لن تمنحنا السر التقني، للتركيبة المعدنية لمادة الترس، التي جعلته متفوقاً، مهما أغدقنا عليها من المال.

إن عمليات التدريب، والتعليم، والتصنيع، عمليات ذاتية، تنمو ببطء أولاً، ثم تصل بعد ذلك معها إلى نمو أسّي، مما يجعل المراقب لهذه العمليات في أولها، يظن أن معدل التغيير الأولي البطيء، لن يغلق هذه الفجوة أبدا، في حين لوجدّت الأمة إلى أن تصل إلى تغيير المعدل، لوجدت نفسها تتقدم بسرعة باهرة، من شأنها أن تغلق هذه الفجوة، في زمن قصير.

ويمكن لنا أن نضرب الأمثال بأمريكا، التي لحقت بأوروبا في فترة قصيرة، عندما أكدت عزمها على التطور بتخطيط متقن، وعمل متصل، وإمكانات هائلة، واليوم تلهث شعوب أوروبا وراء التقنية الأمريكية، وتقترب منها، ولا تكاد تلحقها. ويمكن أن نقول ذلك على التقنية الأمريكية، تجاه بعض التقنيات اليابانية، ولك أن تتعجب، ولك أن تندهش.

وإذا كنا ما زلنا في أول الطريق، ومازال معدل تغير الفجوة العلمية والتقنية بطيئاً، والفجوة تزداد مع الأيام، فعلينا أن ندرك، أن ذلك ليس لتقهقرنا، بل للتقدم السريع الذي يحرزه العالم الصناعي، وذلك كله مفهوم في ظل ما قدمناه، لأننا نؤمن أننا سوف نصل يوما ما إلى نقطة التحول إلى المعدل الأسرع وحينئذ تبدأ الفجوة في الانغلاق.

ولكن علينا أن نتعرف على تجارب الأمم من قبلنا، لنتعلم منها، كيف استطاعت أن تتقدم علمياً، وتقنياً وتضيّق الفجوة العلمية والتقنية، والتي تفصلنا عن عالم الغد.

تجارب الأمم من قبلنا

إن تجارب الأمم الأخرى في هذا المجال، ميدان رحب، ندرسه ونمحصه، ونأخذ العبرة منه، لنحدد الطرق في هدي تلك الدراسة، ولا نقول: بنقل تجارب غيرنا، لأننا نؤمن أن التقنية ما هي إلا غرسة أو شتلة، تغرس في أرض سبق حرثها، ينمو الزرع فيها برعاية أبنائها، وقد يكون من المناسب أن نستفيد من تلك التجارب، ولكن تبقى مسؤولة الأبناء في تمهيد التربة والغرس والرعاية هي الأساس.

الأمة اليابانية:

وقد تكون أولى تلك التجارب وأهمها، هي تجربة اليابان الرائدة، وهي اليوم في الصف الأول، بين الدول الصناعية، في الوقت الذي نجد فيه الهند والصين، تسعيان لإيقاف اتساع الفجوة، بينما تقف دول العالم الثالث، على حافة فجوة علمية وتقنية، بينها وبين دول العالم الصناعي، لم تستطع بعد من تغيير معدلها.

ماذا فعلت اليابان؟

تحضرني هنا كلمات للأستاذ مالك بن نبي ـ رحمه الله ـ في كتابه (( حديث في البناء الجديد )) يقول فيها:

((إن اليابان وقفت من الحضارة الغربية موقف التلميذ، ووقفنا منها موقف الزبون، إنها استوردت منها الأفكار بوجه خاص، ونحن استوردنا منها الأشياء بوجه خاص )).

ومع ما في هذا التشبيه من دقة في القول، فإن اليابان استوردت من الأفكار، ما يتلاءم مع تربتها الاجتماعية وبخاصة الأفكار التي تثري التقنية، أي : أنها جردت الأفكار من أي مضمون اجتماعي أو ثقافي، واستخلصت منها ما يتلاءم مع تطورها، وتقنياتها، فلم تجر وراء نماذج تطبقها، ولم تستورد خبراء من الخارج، ليقوموا بالعمل عوضا عن أبنائها، ولكنها توسعت في الابتعاث للخارج، ليتفاعل أبناؤها مع الحضارة الغربية، ولينهلوا من العلوم الحديثة، وهم في ذلك في شغل شاغل للإجابة عن سؤال مهم هو:

ما سبب تقدم تلك البلدان علينا؟

لقد تبنت اليابان أكبر حركة للترجمة، شملت جميع المعارف والعلوم، فكانت النتيجة انصهار الأفكار مع إمكانات الإنسان الياباني، بتقاليده، وتراثه، وقيمه، في بوتقة واحدة، نقلت المجتمع الياباني إلى الصف الأول وبدون خسائر تذكر.

واليابان دولة فقيرة في مواردها الطبيعية، ولكنها غنية بالإنسان الياباني الملتزم، المشغول دائما بقضية وطنه.

لما سئل (دوكو ) أبو الاقتصاد الياباني عن عبقرية الشعب الياباني كان من رأيه(1 ):

((إن المصانع ليست إلا أسرة، إنها حياة العائلة الواحدة، بكل ما في كلمة العائلة من معنى ريفي قديم، فالمصنع عائلة مرتبطة تماما.

وعمال المصنع قد ولدوا ليموتوا في داخله. وإذا ترك الواحد منهم هذا المصنع، فإنه لن يذهب مطلقا إلى مصنع منافس، وإذا حاول أحد عمال هذه المصانع، أن يذهب إلى مصنع منافس، فان المصنع لا يقبله لأن العائلات أسرار، والعائلات اليابانية تتنافس، ولكنها لا تتصارع، إنما تتفوق على المصانع الأوروبية والأمريكية، من أجل رفاهية وعظم الشعب الياباني كله )).

وقد يكون أعظم اكتشافات اليابان هو الإنسان ذاته، إذ بهذا الإنسان، وعلى أرضها وقفت اليابان بإباء وشموخ، حتى بعد أن تعرضت لنكبة التدمير بالقنبلة الذرية في (هيروشيما )، وتخطت العقبة، ولم تتوقف، وبدأت مرة أخرى تدرب شعبها، تطوره، وتعلمه.

ولا أدري لماذا تلح عليّ قصة المواطن الياباني، الذي استطاع أن يسهم إسهاماً عظيما في نهضة بلده اليابان، التي كانت حتى نهاية القرن التاسع عشر أمة حائرة، تتلمس طريقها، حتى إنهم أرسلوا بعثة إلى مصر، في عهد الخديوي إسماعيل يبحثون عن أسباب تقدم مصر عليهم، وأتأمل اليوم في حالنا وفي حالهم، وأتلمس الإجابة في قصة هذا الياباني، الذي يمثل ظاهرة العمل، التي قفزت باليابان من دول العالم الثالث، إلى دولة صناعية كبرى، ولله في خلقه شؤون.

ورجل قصتنا اسمه ((تاكيو أوساهيرا ))، وندعه هو يحكي قصته كما رواها وليام هارت، ونقلها عنه الأستاذ حسين مؤنس، في مقالة له نشرتها مجلة ((أكتوبر )) المصرية، بالعدد رقم 234 وتاريخ 14 يونيه 1981م

يقول أوساهيرا، وكان في هذا الوقت مبعوثا من قبل حكومته للدراسة في جامعة هامبورج بألمانيا:

((لو أنني اتبعت نصائح أستاذي الألماني، الذي ذهبت لأدرس عليه، في جامعة هامبورج، لما وصلت إلى شيء، كانت حكومتي قد أرسلتني لأدرس أصول الميكانيكا العلمية، كنت أحلم بأن أتعلم، كيف أصنع محركا صغيراً؟ كنت أعرف أن لكل صناعة وحدة أساسية أو ما يسمى ((موديل ))، هو أساس الصناعة كلها، فإذا عرفت كيف تصنعه، وضعت يدك على سر هذه الصناعة كلها. وبدلا من أن يأخذني الأساتذة إلى معمل، أو مركز تدريب عملي، أخذوا يعطونني كتباً لأقرأها، وقرأت حتى عرفت نظريات الميكانيكا كلها، ولكنني ظللت أمام المحرك، أياً كانت قوته، وكأنني أقف أمام لغز لا يحل ، وفي ذات يوم، قرأت عن معرض محركات إيطالية الصنع، كان ذلك أول الشهر، وكان معي راتبي. وجدت في المعرض محركاً، قوة حصانين، ثمنه يعادل مرتبي كله، فأخرجت الراتب ودفعته، وحملت المحرك، وكان ثقيلاً جداً، وذهبت إلى حجرتي، ووضعته على المنضدة، وجعلت أنظر إليه، كأنني أنظر إلى تاج من الجواهر. وقلت لنفسي: هذا هو سر قوة أوروبا، لو استطعت أن أصنع محركاً كهذا، لغيرت اتجاه تاريخ اليابان. ))

وطاف بذهني خاطر يقول: إن هذا المحرك يتألف من قطع ذات أشكال وطبائع شتى، مغناطيس كحدوة حصان، وأسلاك، وأذرع دافعة، وعجلات، وتروس، وما إلى ذلك، لو أنني استطعت أن أفكك قطع هذا المحرك، وأعيد تركيبها، بالطريقة نفسها التي ركبوها بها، ثم شغلته فاشتغل، أكون قد خطوت خطوة نحو سر ((موديل )) الصناعة الأوروبية.

وبحثت في رفوف الكتب التي عندي، حتى عثرت على الرسوم الخاصة بالمحركات، وأخذت ورقاً كثيراً، وأتيت بصندوق أدوات العمل، ومضيت أعمل: رسمت منظر المحرك، بعد أن رفعت الغطاء الذي يحمي أجزاءه، ثم جعلت أفككه، قطعة قطعة، وكلما فككت قطعة، رسمتها على الورق بغاية الدقة، وأعطيتها رقماً وشيئا فشيئا فككته كله، ثم أعدت تركيبه وشغلته فاشتغل، كاد قلبي يقف من الفرح، استغرقت العملية ثلاثة أيام، كنت آكل في اليوم وجبة واحدة، ولا أصيب من النوم إلا ما يمكنني من مواصلة العمل.

وحملت النبأ إلى رئيس بعثتنا فقال: حسناً ما فعلت، الآن لابد أن أختبرك، سآتيك بمحرك متعطل، وعليك أن تفككه، وتكشف موضع الخطأ، وتصححه، وتجعل هذا المحرك، العاطل يعمل، وكلفتني هذه العملية عشرة أيام. عرفت أثناءها مواضع الخلل، فقد كانت ثلاث من قطع المحرك بالية متآكلة، صنعت غيرها بيدى، صنعتها بالمطرقة والمبرد … إننى بوذي على مذهب ((رن ))، ومذهبي هذا يقدس العمل، فأنت تتعبد إذ تعمل، وما تعمله بعد ذلك من شيء نافع، يقربك من بوذا .

بعد ذلك قال رئيس البعثة ـ وكان بمثابة الكاهن يتولى قيادتي روحيا ـ قال: عليك الآن أن تصنع القطع بنفسك، ثم تركبها محركاً، ولكي أستطيع أن أفعل ذلك، التحقت بمصانع صهر الحديد، وصهر النحاس، والألمنيوم، بدلاً من أن أعد رسالة دكتوراه، كما أراد مني أستاتذتي الألمان، تحولت إلى عامل ألبس بذلة زرقاء، وأقف صاغراً إلى جانب عامل صهر معادن، كنت أطيع أوامره كأنه سيد عظيم، حتى كنت أخدمه وقت الأكل، مع أنني من أسرة ساموراي، ولكنني كنت أخدم اليابان، وفي سبيل اليابان يهون كل شيء.

قضيت في هذه الدراسات والتدريبات ثماني سنوات، كنت أعمل خلالها ما بين عشر وخمس عشرة ساعة في اليوم، بعد انتهاء يوم العمل، كنت آخذ نوبة حراسة، وخلال الليل كنت أراجع قواعد كل صناعة على الطبيعة.

وعلم ((الميكادو )) بأمري، فأرسل لي من ماله الخاص، خمسة آلاف جنيه إنجليزي ذهب، اشتريت بها أدوات مصنع محركات كاملة، وأدوات وآلات. وعندما أردت شحنها إلى اليابان، كانت النقود قد فرغت فوضعت راتبي وكل ما ادخرته. وعندما وصلنا إلى ((نجازاكي )) قيل لي: إن ((الميكادو )) يريد أن يراني. قلت: لن أستحق مقابلته إلا بعد أن أنشئ مصنع محركات كاملاً.

استغرق ذلك تسع سنوات. وفي يوم من الأيام حملت مع مساعدي عشرة محركات صنعت في اليابان، قطعة قطعة، حملناها إلى القصر، ووضعناها في قاعة خاصة، بنوها لنا قريباً منه، وأدرناها، ودخل ((الميكادو ))، وانحنينا نحييه، وابتسم، وقال: هذه أعذب موسيقى سمعتها في حياتي، صوت محركات يابانية خالصة.

هكذا ملكنا ((الموديول ))، وهو سر قوة الغرب، نقلناه إلى اليابان، نقلنا قوة أوروبا إلى اليابان، ونقلنا اليابان إلى الغرب، ثم ذهبنا وصلينا في المعبد، وبعد ذلك نمت عشر ساعات كاملة لأول مرة في حياتي منذ خمس عشرة سنة.

انتهت قصة ((تاكيو أوساهيرا ))، قصة مدهشة حقاً أعظم ما فيها هو هذا الانتماء الكامل للوطن، والاستسلام المدهش لحاجته الحقيقية، والعشق الواضح، للعمل المنتج.

قد كانت حاجة الوطن إلى ((موتور ))، أهم وأعظم من شهادة دكتوراه، يعود بها ليتبارى ويتفاخر.

وانظر كذلك إلى أمره، يعتذر عن مقابلة ((الميكادو ))، قبل أن ينجز لأمته شيئا، لأنه اعتبر تلك المقابلة، شرفاً عظيما لا يستحقه، من لا يقدم لأمته عملا منتجا، ومجهوداً واضحاً.

تلك هي الروح الحقيقية لبداية انطلاق اليابان، لم تشغل أبناءها المسميات، أو المناصب، وإنما شغلتهم أهداف سامية للنهوض باليابان، وشغلتهم معرفة أسرار التقنية، وليس نقلها، ليس من الغريب إذن، أن ترسل اليابان إلى مصر، في عهد الخديوي إسماعيل بعثة لتدرس أسباب تقدم مصر عليها، ولتقف اليابان موقف التلميذ من مصر تتعلم وتستفيد، وكذلك كان موقف اليابان من الحضارة التقنية الغربية.

قد أكد هذا الفهم ((تاكيشى هاياشي )) في بحثه الممتع عن ((الخلفية التاريخية لنقل التقنية، والتحولات، والتطورات في اليابان ))، وهو بحث قمت بترجمته إلى اللغة العربية بشيء من التصرف لا يخل بالمعنى، ويجد القارئ الترجمة كاملة من الفصل السادس من كتاب ((إنتاجية مجتمع )) (1 ). ومن الممكن أن نستخلص منه الحقائق التالية عن تجربة اليابان:

1- أدخلت اليابان العلوم والتقنية الغربية على مرحلتين.

الأولى عن طريق استيراد البضائع التامة الصنع، ولما لم تُجْد تلك الطريقة، انتقلت إلى مرحلة أخرى، حيث تم بذل الجهود لاستنبات التقنية، عن طريق إعادة إنتاجها، واستنساخها، وصرفت اليابان جهودها إلى تعلم طرق التشغيل، والإصلاح، والصيانة، للآلات المستوردة، حتى أصبحت تقوم بإنتاج آلات شبيهة بالآلات المستوردة، ولكنها تتلاءم مع احتياجاتها. ووصل الأمر في بعض الأحيان إلى تفكيك قطار كامل، تم تصنيعه في الولايات المتحدة، بعد تسلمه مباشرة، وصناعة آخر شبيهاً له.

2- سبقت التقنية الحربية مختلف التقنيات الأخرى، في دخولها إلى اليابان، وقد كان ذلك رد فعل للتدخل العسكري من القوى الأجنبية الذي ارتبط مباشرة بالتهديد الاقتصادي، وتحت هذا التهديد، كانت صناعة المدافع، والسفن الحربية، أسبق الصناعات، بل إنها كانت القاعدة، التي انطلقت اليابان منها، برصيد واسع من الخبرة فيها، عندما أقامت عدداً آخر من الصناعات، كما حدث في مصنع سك النقود، فقد كانت المعالجة الكيمائية للمعادن، والتي اكتسبت اليابان خبرة واسعة فيها، في مجال صناعة المدافع، أكبر مساعد في نجاح تلك الصناعة.

3- بدأت عمليات التصنيع الرئيسة في اليابان، بالصناعات الثقيلة، كصناعة الحديد والصلب والآلات، وخطوط السكك الحديد، وهي في ذلك تختلف عن أوروبا التي بدأت بالصناعات الخفيفة بعد الثورة الصناعية، ولم تكن التجربة اليابانية سهلة، ولكن التصميم على الهدف، كان دافعاً لهم على المواصلة، وقد حدث ذلك عند إقامة مصنع الحديد والصلب، فقد حاولت الاستعانة بأحد الخبراء الإنجليز، ولكن المصنع فشل، ثم عاودت الكرة مع الخبرة الألمانية، وفشلت مرة أخرى، حتى استطاع الخبراء اليابانيون حل المشكلة، واستفادت اليابان من ذلك درساً مهماً، هو أن مجرد نقل التقنية المتقدمة، وإعادة تطبيعها لا يؤديان إلى الهدف، كما أنها انتهت إلى محدودية فعالية الاستعانة بالخبراء الأجانب.

4- كان من أهم عوامل نجاح التجربة اليابانية، اكتشافها حقيقة إجراء التغيرات الملائمة للظروف العملية على التقنية المستوردة، لكي تتلاءم مع ظروفها المحلية. وعلى سبيل المثال؛ فإنها في صناعة الغزل والنسيج، اتخذت طابعاً خاصاً بها يتلاءم مع طبيعة السكان، والمادة الخام بها، برغم أنها استفادت من خبرة العديد من الدول في هذا المجال.

تلك حقائق أمكن استخلاصها من البحث، ويهمنا أن ننقل عبارة قيّمة أنهى بها البروفسور ((هاياشي )) بحثه وهي:

(( من المهم للتنمية البشرية والاجتماعية ألا تطبق التقنية بسذاجة، ولكن ينبغي مواءمتها بعناية، ويمكن مواءمة التقنية إذا استخدمت لإنتاج بضائع مناسبة، وإذا أمكن لها أن تجد أسواقا مناسبة )).

الأمم الأوروبية:

وأوروبا، ماذا فعلت في سبيل سموها التقني؟ إن دارسة تاريخها بعمق ودراية، يكشف عن حقيقة أساسية، هي أن الثورة الصناعية التي قامت فيها، لم تكن سوى وليدة لاتجاهها نحو العلم التجريبي، الذي صنعه العلماء المسلمون، ومن خلال المعابر العديدة، التي انتقلت عليها الحضارة الإسلامية. حدث ذلك في ذات الوقت تقريبا الذي طلق المسلمون فيه أنفسهم من العلم التجريبي.

لم يذهب المسلمون إلى أوروبا ليشعلوا الثورة الصناعية، ولكن أوروبا وقفت من الحضارة الإسلامية موقف التلميذ، تعلمت، وترجمت، واستوعبت، ثم أبدعت تقدما وحضارة، باسقة، أصبحت وكأنها غريبة عنا، برغم أنها نتاج تراثنا العلمي ولكننا أضعناه.

لقد أمضى الغرب زهاء أربعة قرون، ليبني قلاعه العلمية والتقنية، والقاريء الموضوعي لتاريخ الإنسانية، لا يملك إلا أن يعترف، بأن أعمال العلماء العرب والمسلمين، تحتل أنصع صفحات التراث العلمي العالمي، فقد كانت تلك الأعمال الركيزة الأساسية التي قامت عليها الحضارة الغربية، إذ أن جذور شجرة الحضارة العلمية المعاصرة، تمتد إلى عصور السمو في الحضارة العربية الإسلامية، حين ازدانت تلك العصور بمئات من العلماء العرب والمسلمين، الذي تقرن مساهماتهم بأعاظم العلماء في كل عصر لقد كان لابد من ظهور (ابن الهيثم )، و(البيرونى )، و(ابن سيناء )، و(الخوارزمي )، و(الرازي )، و(الزهراوي )، و(الغافقي )، و(ابن يونس )، و(الصوفي )، و(الكندي )، و(ابن رشد )، و(ابن زهر )، ومن إليهم، لكي يتسنى ظهور (كبلر )، و(كوبرينق ) و(نيوتن )، و(دالتن )، و(أنشتاين )، و(ديكارت )، ومن إليهم. تلك حقيقة، نذكرها بكل فخر، ونشير إليها بكل اعتزاز، لنوقظ بها المشاعر، ونحفز بها الهمم، ونحيي بها النفوس.

نقول: قد أمضى الغرب أربعة قرون، ليبني حصونه العلمية، ويحقق منجزاته التقنية .. وكان لكل فرع من فروع العلم والتقنية، مسيرة معينة، تتميز بفترات التكدس والاستيعاب، ثم فجائيات الإبداع. دعونا ندلل على ذلك الأمر، ونزيده توضيحا، بأن نضرب مثلا بفرع من فروع المعروفة، يعتبر العمود الفقري للتقنية المعاصرة، وهو علم (الميكانيكا ) في عصر ما قبل العالم ((كبلر )).

كان علم ((الميكانيكا )) عبارة عن مجموعة معلومات مكدسة، عن حركة النجوم والكواكب، لا يستبين الإنسان قوانينها، ثم جاء ((كبلر )) واستخرج منها قوانينه الثلاثة المشهورة، فاستغنت الإنسانية على يديه، عن هذا الركام الضخم من المعلومات، واستبدلت به ثلاثة قوانين، لا تشغل أكثر من نصف صفحة، تهتم بمسار جسم، تحت تأثيره قوة جذب مركزية. وفي الفترة ما بعد ((كبلر ))، كان علم الميكانيكا يزداد بطريقة تكدسية، معلومات متفرقة، عن أشياء لا يبدو واضحا ما يحكمها من قوانين، حتى جاء (إسحق نيوتن )، فأحدث باكتشافه لقوانين الحركة الثلاثة، فجائية إبداعية، كانت من بين الأسس العظيمة التي بنى الإنسان عليها حضارته العلمية والتقنية المعاصرة. عن قوانين (نيوتن ) الثلاثة لا تصف حركة الكواكب والأقمار في مساراتها فحسب، وإنما تصف ديناميكية التحرك لكل الأجسام، تحت تأثير أي نوع من القوى.

واستمر علم ((الميكانيكا )) بعد ذلك، في حالة تزايد تكديسي دونما طفرة، حتى جاء ((أينشتاين ))، فعمم قوانين ((نيوتن ))، في طفرة إبداعية أخرى، بحيث أصبحت قوانين ((أينشتاين )) قادرة على وصف حركة الأجسام الدقيقة، ذات السرعات العالية، التي تقترب من سرعة الضوء.

ومنذ أن نشر ((أينشتاين )) بحثه عن النظرية النسبية الخاصة، في عام 1905م،وحتى الآن، يتزايد علم الميكانيكا تزايداً تكديسياً، في انتظار طفرة إبداعية جديدة، تأخذ الإنسانية إلى مجالات أرحب من التقدم والسمو.

استخلاص العبرة:

إذن فإن موقف اليابان وأوروبا يتخلص في أنهم سعوا إلى تكديس العلوم، والمعارف، والأشياء، بغرض البناء. أما الدول النامية في حركتها الحالية، فإنها تكدس العلوم، والمعارف، والأشياء، بغرض الاستهلاك، وعلى أحسن الفروض، بغرض المباهاة والتظاهر، دون مضمون، ودون بناء.

والعبرة التي يمكن استخلاصها بجلاء من ذلك هي: أن الأمم في مدرسة الحضارة كالتلميذ في مدرسته. في العملية التعليمية، يمر الطالب بثلاث مراحل رئيسة هي::

مرحلة التكديس: وهي مرحلة التلقي للمعلومات، تتراكم لديه يوما بعد يوم، بصورة غير مرتبة، أو منتظمة، ومتعددة المجالات، تليها:

مرحة أخرى، تتضح فيها الصورة في ذهن الطالب، ويتم ترتيب المعلومات بشكل أفضل حيث يبدأ في تكوين علاقات بينها، تساعده على الهضم أو الاستيعاب، ويمكن تسمية تلك المرحلة بمرحلة الاستيعاب، تليها

مرحلة الإبداع: حيث يستطيع الطالب أن يعطي فكرا جديد يختلف عما تلقاه، ولكنه ينبع من جوهره، ويرتكز عليه.

وهاكم التفصيل:

مراحل التدرج الحضاري

مرحلة التكديس:

تتميز مرحلة التكديس الحضاري للأمة ـ أي أمة ـ بأنها ذات معدل بطيء للنمو، يصل إلى قيمة ظاهرية، تبدو العملية معها وكأنها لا تتحرك، مما يسبب ضغوطا لكثير من الأفراد فيستسلموا لليأس، وربما لاذوا بالفرار، ليعيشوا في أمة، تعيش مرحلة متقدمة.

وعلى الأمة أن تدرك، أن بطء النمو في هذه المرحلة، أمر طبيعي جداً، فهي مرحلة غرس، لا جني، يجب أن تصبر عليها، وتتواصى بهذا الصبر، حتى يثبت الرجال، وراء القدوة الصابرة، الثابتة في مواقعها، غير المستعجلة ثمار جهادها، المتمثلة دائماً بالقبول المأثور الذي سبقت الإشارة إليه من قبل، ونعيد رصده للتذكير:

((اعمل لدنياك كأنك تعيش أبداً، واعمل لآخرتك كأنك تموت غدا ))

فإذا كان هذا الأثر، هو شعار مرحلة التكديس، فإن الأمة تستطيع أن تمر بهذه المرحلة من غير ضغوط نفسية مدمرة، ومعوقة لعمليات النمو ذاتها.

ولعلنا لا نبالغ إذا قلنا: إن الضغط النفسي، في مرحلة التكديس، من أخطر الأمراض الحضارية، التي تصيب معظم شعوب العالم النامي، أو ما يسمى بالعالم الثالث،حيث يظن مثقفو هذه الشعوب ـ وهم يرون الفجوة الزمانية كأنما تزداد اتساعا ـ أن لا أمل في اللحاق،. ويفقدون الثقة في أنفسهم، وتضطرب خطاهم على طريق الحضارة، ويفرون من الواجب، ليبحثوا لأنفسهم عن ملجأ حضاري، خدعهم بريقه، ويتركوا من خلفهم شعوباً، تجد نفسها تزداد تخلفا بفرارهم عنها، فكلما أعدت الأمة صفوة من أبنائها لعمليات البناء، فقدتهم، فتخسر المال، وتخسر الزمن بخسارة الرجال.

لذا فإننا نود أن نؤكد مرة أخرى: أن معدل النمو البطيء، في مرحلة التكديس، لا يعني ضياع الجهد، وانما هو ((جهد مكنون ))، أو لنقل بلغة العلماء: إنها طاقة وضع، وليست طاقة حركة، يمكن للأمة استردادها كطاقة حركة، في الخطوات التالية لمرحلة التكديس.

مرحلة الاستيعاب:

إذا تجاوزت الأمة التكديس بثبات، وصبر، وحزم، وإصرار، حيث تكون قد تكدست في وعائها الاجتماعي طاقات علمية، وتقنية، وروحية، وشحذت بذلك الفعالية الاجتماعية للإنسان شحذاً كبيراً، إذا انتهت من هذه المرحلة، التي تتميز بالبطء فإنها تقبل بذلك على مرحلة جديدة، تتميز بسرعة أكبر للنمو، هي مرحلة الفهم، والاستيعاب. في هذه المرحلة الجديدة، تبدأ الأمة في فهم العلاقات العضوية، بين الطاقات المكدسة في وعائها الاجتماعي، فتكشف لنفسها، وبنفسها ما تم اكتشافه في أمم أخرى لتصل إلى الجوهر، بين الركام المكدس، ويعطيها ذلك قدرات جديدة.

حيث سيكون انطلاقها من الجوهر، لا من الركام المكدس، وحيث تكون الأمة تعرفت على قوانين التحضر، لا على نتائجه فحسب، فتصبح عندها القدرة على الخطو بثقة في ميدان الحضارة، وهي غير منبهرة بالركام المكدس، وإنما عاشقة للجوهر، متفاعلة معه.

مرحلة الإبداع:

قلنا: إن الضغوط النفسية نبدأ في الانقشاع عن ضمير الأمة، في مرحلة الاستيعاب والفهم، حيث تجد الأمة نفسها وجها لوجه، مع الينابيع الأساسية للإبداع الإنساني المعاصر، وتسرع حينئذ مسيرتها رويداً رويداً، فكلما حققت نصراً، زادها ذلك ثقة ورسوخاً، فإذا واصلت العمل، مدركة لكل مقومات قيام الحضارة، ومتطلباتها، فإنها ستصل لا محالة، إلى مرحلة الإبداع، حيث يصبح معدل نموها أُسِّياً متزايداً، ونعني بـ (النمو الأُسِّي ) هنا، أن يحدث تطور سريع، ومبدع في فترة زمنية قصيرة نسبياً، إذا قيست بمقدار التطور والنمو الذي حدث خلالها. والمتتبع لمسار الحضارة الغربية المعاصرة، يلحظ أن فترة الإبداع المادي، في هذه الحضارة، تميزت بأن صَاَحبَ نموها الأُسِّي المتزايد، آخر، حدث في العلاقات الاجتماعية، والتصورات الكلية للمجتمع، حدث هذا التغيير بسرعة مذهلة، فاقت سرعة فكر قادة هذه الحضارة وعلمائها وحكمائها، واليوم تعيد الحضارة الغربية حساباتها، لترى أين كان الخطأ في وجهتها؛ بل لقد بدأ ينظر كل إنسان اليوم في الغرب، في العلاقات الأساسية التي تربط ما حدث من تقدم في العلوم؛ بالمجتمع، وما يحمل من عقائد وقيم، وأصبحنا نرى أقساماً علمية جديدة في معظم جامعات أمريكا، تدرس التفاعل بين التقدم العلمي والتقني، وبين المجتمع والدين.. في محاولة منهم لاستدراك الآثار الجانبية لهذا التقدم الأُسِّي في الحياة المادية، على المجتمع وقيمه.

إن هناك كثيراً من الناس، ممن يرون آثار الحضارة الغربية السيئة، أو يسمعون عنها، فيتنبأون متعالمين بهلاك هذه الحضارة وحتمية فنائها. إن الآثار السيئة للحضارة الغربية هي آثار طبيعية، برزت نتيجة لانحياز تلك الحضارة إلى الجانب المادي، وابتعادها عن القيم الروحية، التي ما زالت تظهر على استحياء في المجتمع الغربي. ووجود هذه الآثار السيئة في الحضارة الغربية، لا يمنعنا من الاعتراف، بأن هذه الحضارة تزخر بالحياة، قوية فتية، وحسب مفكروها فخراً، أنهم هم الذين اكتشفوا آثارها السيئة، وبدأوا يحاولون تداركها لحماية المجتمع منها.

ويهمنا أن نأخذ العبرة مرة أخرى، من غيرنا، في محاولتنا التعرف على المنحنى الزمني للحضارة، ومعدل تغيره، والتزامنا بما تؤكده العقيدة الإسلامية من مسؤولية الإنسان في خلافته على الأرض، لعمارتها بالعمل الصالح، والجهد المثمر، والعطاء المبدع، لنصل إلى توازن، بين التقدم المادي بكل ما يحمله من ترف، ورغد، ورفاهية، وبين المحافظة على مبادئ الحق وقيم الخير، بكل ما يترتب عليها من تضحيات وتقشف والتزام.

ولسائل أن يسأل: كيف يمكن لأمتنا أن تنحو منحى الأمم اليابانية والغربية في استيعاب حضارة العصر، والانطلاق بها إلى رحاب أوسع، من العطاء والإبداع بما يحقق خدمة الإنسانية، وقيمها الصالحة، ويعيد لأمتنا سالف مجدها، ويحقق لها مكانتها السامية، لتكون بحق وصدق أمة أخرجت للناس؟!

باختصار نقول:

إننا في محاولة تدريب مجتمعاتنا الناشئة تقنياً، لابد أن نأخذ بعين الاعتبار، المسار التاريخي لتطور العلوم والتقنية، في الغرب واليابان، فالأمة الجادة تستطيع أن تختصر 400 عام من تاريخ التطور العلمي والتقني للعالم الغربي إلى 40 عاما، أو أقل، لكنها لا يمكن أن تستسيغ الحضارة التقنية المعاصرة دفعة واحدة، مهما أوتيت من مال.

قد أخذت الحضارة الغربية، أربعمائة عام لتصل بتقنيتها إلى حالتها الحالية، وحققت ذلك من خلال الإصرار على تزاوج العلم والحِرُفة.

ونحن يمكننا أن نختصر هذه المدة إلى عشرها، أو أقل، شريطة أن نلتزم بتزاوج العلم والحرفة زواج تأبيد، وأن نتبصر بالتتابع الزمني، في عملية تدريب الأمة على الحرف والتقنيات المختلفة.

إننا نستطيع أن نسقط عمر الحضارة العلمية والتقنية المعاصرة، على عمر الإنسان في أمتنا فنبدأ معه منذ الطفولة، نعلمه مثلا كيف تنتقل الحركة بالتروس والسيور؟ وكيف نصل الأشياء بعضها ببعض؟ أي: نعلمه نظرية الآلات مبسطة، حسب إدراكه وسنه، متطورين معه كما تطورت الحضارة في طريقها الطويل.

علينا أن نغرق مدارسنا، في جميع مراحل الدراسة بنماذج علمية، وألعاب تقنية، ونفسح المجال أمام أطفالنا وطلابنا لكي يقضوا وقتا، مع هذه النماذج والألعاب، ليتدربوا عليها، ويلتصقوا بها، فيعشقوا العمل المهني من الصغر، ليكبر معهم، ويكبروا معه، ونكون بذلك قد وضعنا الأساس السليم والقوي، لقيام صناعة وطنية، كما أننا نزيل عن أنفسنا عناء الاعتماد على الغير من القادمين من خارج الحدود، فنعين مجتمعنا على القليل من استيراد العمالة من الخارج فنحميه بذلك من مشكلاتها، وتبعاتها.

إن الوصول بالإنسان العربي والمسلم ـ طفلاً وشاباً ـ إلى المستوى المطلوب منذ نشأته، ودخل مدرسته، وفي المنزل، يحتاج إلى إعادة نظر جذرية في مناهج التعليم، وطرق تدريسها، كما يحتاج إلى إنشاء نوادي للعلوم في المدارس والجامعات يلتحق بها الطالب بغض النظر عن تخصصه الدراسي.

ولكن هذا يستدعي تطوير أجهزتنا العلمية، وأنظمتنا التربوية، وبرامجنا التعليمية. كما أن الأمر يحتاج إلى جهد مضاعف، لبناء أجهزة متمكنة، متخصصة، تعنى بهذا النوع من التعليم الحرفي للناس عامة، ومن رغب من خاصتهم.

ضرورات استنبات التقنية المعاصرة، وأسسها

على أن هناك ضروريات ومفاهيم وأسس لابد من مراعاتها، واستيعابها، وفهمها في عملية الإدراك الكامل للحضارة التقنية المعاصرة نوجزها فيما يلي:

* إدراك الأصول، والطرائق، والنظم الحاكمة للتقنية المعاصرة، هو الجوهر والمنطلق، أما الدقائق والتفصيلات، فهذه لا يمكن لأصحابها منحها، وإنما تدرك بالممارسة الواعية، والتفاعل البناء.

* التأكد من عدم انفصال حركة العلم في المجتمع، عن الحالة التقنية فيه، وذلك بضبط إيقاع تطور الحركة العلمية، حتى لا يسرع كثيرا، ويبتعد معه العلم عن التقنية بصورة كبيرة.

* ضرورة توافر قلة من المتخصصين، في الجامعات ومراكز البحوث، تستنفر للعمل عند مشارف العلوم، وتكون مهمتها التطوير المستمر للعلوم، لتصبح أكثر ملاءمة لتحقيق الهدف التقني.

إن هذه الضروريات والمفاهيم، التي أسلفنا ذكرها، ستضع شروطا جديدة، على أجهزتنا العلمية، وأنظمتنا التربوية، وخططنا التعليمية، والصناعية. وفي هذا المضمار نورد التوصيات التالية.

شروط الاستنبات

في مجال التعليم والتدريب:

1- ارتباط التعليم بمهام اجتماعية مطلوبة، تحدد آفاقه كماً، ونوعاً، أي، بمعنى آخر: علينا أن نجيب على السؤال التالي:

* أي نوع من التعليم يلزم لوظيفة اجتماعية معينة؟

بدلا من الإجابة على السؤال المعكوس القائم فعلا: أي وظيفة اجتماعية تصلح لهذا الخريج؟

2- ترشيد الإقبال على الكليات النظرية، وحصرها فقط بالموهوبين، وحسب الحاجة.

3- إعادة تدريب الأعداد الغفيرة، من خريجي الكليات النظرية، التي لا تقوم بعمل فعّال مطلوب لإعدادها للقيام بوظائف اجتماعية فاعلة.

4 - العمل على تقنية التعليم الثانوي، بإدخال عدد من الحِرف، والصناعات عليه، وأن يتبع ذلك تعديلات جذرية، في المراحل السابقة عليه، والمراحل اللاحقة له، من خلال خطة واضحة، وبرامج محددة.

5- نشر معاهد الحِرف، والمهن، والكليات التقنية المتوسطة، ومنحها كل فرص النجاح الممكنة، لاستقطاب العدد الكافي، والنوعية الجيدة.

6- المحافظة على الحِرف، والمهن، والصناعات التقليدية، التي ما زالت موجودة، وتشجيع أربابها بشتى الطرق والوسائل.

7- دارسة وتحليل الحرف المعروفة، والصناعات التقليدية، لتوصيفها توصيفا دقيقا واضحا، ونشرها في كتيبات، بأسعار زهيدة، مساهمة في نشر الوعي التقني.

في مجال التشغيل والصيانة:

1- الأخذ بأسباب تقليص تدفق الأجهزة، والمعدات المستهلكة، التي تسيطر عليها ((الزوالية ))، لإتاحة الفرصة للمواطن للتريث، كي يتعلم عن طريق الصيانة والتشغيل، ويتأمل في أشياء شبه ثابتة أمام عينيه ليتعلم منها، ويتدرب عليها، بعد أن يستوعبها تشغيلا وصيانة.

2- الدعوة لتعليم ((الصيانة العامة )) بتضمينها خطط التوعية، والتعليم، والتدريب في المجتمع، على جميع المستويات بهدف ترسيخ مفاهيم العمل اليدوي المنتج.

3- إعطاء الصيانة مكانة علمية، في الجامعات، ودور العلم، ومعاهد الأبحاث، وإيجاد تخصصات لها في الدراسات العليا.

4- مطالبة الورش، والمصانع الوطنية، بإعداد كتيبات، عن كيفية صيانة منتوجاتها وإثارة الوعي العام، لعمل نماذج، وصناديق هوايات، تتعلق بالمنتج الوطني.

5- دعوة وزارات الصناعة، بالتعاون مع ورش كليات الهندسة، ومعاهد التدريب المهني لإعداد دورات تدريبية، عن المنتوجات الشائعة حدا في المجتمع، مثل مضخات المياه، وعوامات الخزانات، وأدوات السباكة، وبعض الأدوات الكهربائية، وإصدار كتيبات مبسطة، عن طريقة تركيبها، وصيانتها، توزع مجاناً.

6- التقليل من تدفق استيراد أدوات ومعدات الاستهلاك، التي تحتاج إلى صيانة متقدمة، كي لا تصبح عبءًا على المجتمع، لمحدودية عدد المتخصصين في هذه الصيانة.

7- صياغة القوانين والأنظمة التي تحكم:

أ - استيراد المعدات والأجهزة والأدوات، وحق صيانتها.

ب - توثيق العلاقة بين ملكية وتشغيل وصيانة المعدات، والأجهزة، والأدوات.

8 - التركيز في منظومة الصيانة والتشغيل، على أجهزة ومعدات وأدوات الخدمات المختلفة، ليتمشى ذلك مع طبيعة المرحلة، التي ينال فيها قطاع الخدمات القسط الأولى من الدعم والرعاية.

9- تكوين الأطر البشرية، في مجال الإدارة، المستوعبة لأبعاد عمليات التشغيل، والصيانة، ودورها الحضاري.

10- إعداد دراسة علمية متخصصة بهدف:

أ - تحديد نوعية الصيانة المطلوبة وحجمها، في فترة مستقلة معينة.

ب - اختيار أمثل لمجموعة من نماذج مؤسسات الصيانة، التي يمكن إقامتها سواء على مستوى الأفراد، أو مستوى المنشآت.

جـ ـ اختيار أمثل لمجموعة من الخيارات العالمية، لعمليات الصيانة والتشغيل من خلال قائمة أولويات تحكمها.

في مجال التقليد والتطوير الصناعي:

1- التركيز على تقليد أدوات الإنتاج الضرورية، قبل تقليد أدوات الترفيه.

2- التركيز على أن يكون التقليد الصناعي موجهاً لاستغلال الطبيعة المحيطة بنا، كأدوات القنص والصيد وغيرها.

3- توجيه جزء من أساتذة الجامعات العلمية والعملية، لتحويل بعض الرسائل العلمية، والأبحاث الجامعية، التي يقومون بها، أو التي يشرفون عليها، إلى رسائل وبحوث، تصب في معين التقليد للمنتجات المصنعة في الخارج.

4- تشجيع ودعم المصانع الوطنية، والورش الأهلية للتقليد الصناعي للمنتجات المستوردة.

5- رصد جوائز مالية مغرية لأفض منتج صناعي مقلد.

6- إلزام المصانع الوطنية، بإنشاء أقسام الأبحاث، والتطوير، حتى تسهل النقلة من التقليد إلى الاستيعاب، ومن ثم الإبداع.

7- توثيق الصلات بين الصناعة والجامعة، من أجل مشاركة الجامعيين في بحوث التصميم والتطوير، وفي مجالات التعليم المستمر، للعاملين في ميدان الصناعة.

===============

#منهج الخروج من المحنة

الآن وقد استبانت لنا محنة الإنسان المسلم، مع عصره وحضارته الباسقة، وبعد أن تحدد الشرطان اللازمان لخروجه منها، وبعد أن تأكد دور التقنية الحديثة في حضارة اليوم، وكيف نواجه تطورها ونواكب تقدمها. يبقى لنا أن نستعرض ما نعتقد أنه دراسة موضوعية ومنهج يحدد معالم طريق الخروج من المحنة، ومواجهة التحدي الذي فرضته حضارة باذخة مسيطرة بإنجازات تقنية هائلة، تُعمق الفجوة الحضارية، بين المسلم وعالمه المعاصر، إذ لا أقل من أن نبحث ـ ونحن نستمسك بعرى ديننا الحنيف ـ عن منهج يسد الفجوة، ويقيم جسور عبور لمركبة التنمية التي تحمل التقدم، والتطور، والنماء.

ركائز المنهج

يقوم المنهج الذي نقترحه على الركائز التالية:

الركيزة الأولى: شحذ الفعالية الروحية في الفرد والأمة:

إن قدرة أمتنا ـ وهي ترنو إلى وصل حاضرها الماثل، بماضيها المجيد ـ على شحذ الفعالية الروحية، وتحريك الدوافع، والبواعث، والنوازع، والكوامن في أرجائها ـ كافة، نحو المقاصد، والغايات، والأهداف، التي تصب بروافدها تجاه الإعداد الحضاري الواجب، هي قدرة موفورة مذخورة.

ومحور هذه العملية الروحية والحضارية، هو الإنسان، بل إن شئت فقل: إن الإنسان هو الخلية الحضارية الأولى، التي يجب تكوينها، وبناؤها، ورعايتها، المتناغمة مع شروط النهضة، وحيثيات الحضارة. إننا إذا اهتممنا بهذا الإنسان، ونمينا قدراته، وصقلنا مواهبه، ونفضنا عن عزيمته غبار التخلف، وشحذنا فعاليته، وفجرنا طاقاته، استيقظت روح العمل فيه، وتدفق عطاؤه، وغدا بإمكاناته الروحية والمادية مستعداً للتلقي والإبداع، وملاحقة العصر، ومواكبة حضارته، بنظرة ثاقبة، وبصيرة نيرة، وعزيمة وثابه، تتجاوز مظاهر الخمول والكسل، وجميع صور البريق والزيف، والجمود، والتقوقع، وعبر كل هذا إلى أمل الحضارة، ولب المدنية، وجوهر التقدم.

إن الروحية الخاملة لا مكان لها اليوم في دنيا الناس، ولا قيمة لها أبداً في آفاق الحضارة، ولا شك أن نصيب أمتنا من هذا الخمول الروحي أمر يفوق الوصف، فقد زحف على كل مقدراتنا ومقوماتنا الحضارية، حتى صارت منه وبسببه خراباً بلقعاً، وقد تم هذا مع الأسى والحسرة، وبين يدي أمتنا رصيدها الضخم، وميراثها العظيم، من هذه المقومات العملاقة، التي يفيض بها دينها في كل نص، وأثر، وشعيرة من آثارها ونصوصها، وشعائرها.

إن الروحيات الفعالة في النفس المسلمة، إنما ترتبط بصورة مباشرة بعمق الإيمان، ومقدار الإخلاص للعقيدة، والاستمساك بقيمها ومبادئها.

وإذا كان ولابد للفعالية من مثيرات، ومستحثات، ومكونات فإنني ألمح في طليعتها:

* البيت بدوره الأساسي المطلوب.

* المدرسة بمناهجها الدينية المتلاقية والمتناغمة، وطرائقها المؤثرة المنتجة.

* المناخ العام، الذي تسهم به وفيه سائر المؤسسات، والهيئات ذات التأثير المباشر كافة.

* القدوة الصالحة.

إن دور البيت في شحذ الفعالية الروحية، هو أول الطريق، حيث يبدأ في رحابه الإعداد والتهيئة، ثم المتابعة المباشرة، لعملية التلقي التربوي في المسجد، والمدرسة، والجامعة.

وإذا لم يمارس البيت دوره، فإن مجهود هذه المؤسسات يظل ناقصا مهما تعاظم، والفعالية تبقى قاصرة مهما ارتفعت.

والتربية الدينية في المدرسة، طليعة المصادر الأساسية، لتنمية الأشواق الروحية في الأمة؛ لذا فإن برامجها يجب أن تكون على مستوى نبعها الدفّاق، بإثارة هذه الأشواق وتنميتها، ثم على مستوى الواجب المأمول منها، من حيث تلقائية الحلقات، وتناغمها، وحيوية العطاء وديناميكية الأسلوب، ومعاصرة الحلول، واتساق العلاج للمشكلات العصرية، وجاذبية العرض، والتركيز القوي على عملية التعلم من جانب الطالب، دون عملية التعليم من جانب المدرس، والحرص على بساطة الأسلوب، وعمق المفهوم، مع البعد عن القوالب الجامدة، والأنماط العتيقة، وعلى أن يصب هذا بجميع روافده ومعطياته، في قاع الشبيبة، وعقول الناشئة، إيماناً، ونقاءً، وطهارة،ومناقب، ومحامد، وأخلاقاً، وسلوكاً، وقيماً، ومثلاً، تغدوا في حياتهم خير حافز لهم، وأعظم عنوان عليهم.

وأما المناخ العام، فإنما نعني به المصلحة الانعكاسية لعطاء سائر المؤسسات، والهيئات التربوية، والتوجيهية، والإصلاحية، ذات التأثير، المباشر، وغير المباشر، في تأصيل الانتماء، وتأكيد الولاء للدين، والأمة والوطن، وزرع ركائزه في النفس المسلمة، وبسط أروقته في أرجاء الأمة، وشتى مواقعها.

هذا المناخ العام، إنما يسوق المجتمع كله في مسار جمعيّ، ويتوجه به توجها جمعياً نحو الخريطة الحضارية المرسومة له. وهو وثيق الأواصر، بربه، ودينه، وقيمه، ومثله، ووطنه، ومجتمعه، يطوع لها حضارة عصره، أو يبدعها على هديه ووفق منظومته الحاكمة.

وأما القدوة الصالحة، التي تمارس دورها في شحذ الفعالية الروحية للأمة، فإنما نعني بها تلكم النماذج القيمة الرائدة، التي تقع على كواهلها، مهمة التغيير الديناميكي، عن طريق القيادة العملية، غير المنظورة، وغير المباشرة، والتي تتولى في نفسها، وبسلوكها، تجسيد المفاهيم، وترجمة القيم، والتعبير المثالي عن واقعيتها، دون جلبة أو ضجيج، ولكن بلغ واقعية مأنوسة اللهجة. إنها باختصار شديد، لغة العمل، ولهجة الواقع.

تلكم التي تفوق أبلغ المواعظ والدروس، وتختصر الطريق في مقام التربية والتوجيه، والتغيير، والإصلاح، والحضارة، والتقدم.

وتحضرني بهذه المناسبة قصة ذلك العالم القدوة، الذي آتاه الله ملكة الخطبة المؤثرة، ومقدرة الحديث المشوق، والذي كان بمثابة المحور الروحي للناس، يلتفون حوله، ويتعشقون سماعه، ويتلهفون إلى عظته، وما أن ينفض مجلسه، حتى يتطلعون إلى لقائه.

اقترب منه عبد ضاق ذرعاً برقه وعبوديته، وتاقت نفسه إلى الحرية، وهمس في أذنه برجاء أن تكون خطبة وعظه القادمة عن عتق الرقيق، لعل الله يهدي سيده ـ وكان من المواظبين على سماع الشيخ ـ فيتأثر بالخطبة، فيعتقه، فوعده الشيخ بذلك، وطال على العبد انتظاره في أن يبر الشيخ بوعده، حتى كان يوم تحدث فيه عن العتق، وما فيه من مثوبة وأجر، وما يناله المعتق من رضوان الله ومثوبته، وما يشعر به من سعادة وبهجة، وقد اقتحم العقبة، وفك رقبة، وحررها من إسار العبودية، وكان الشيخ كعادته موفقاً مؤثراً، حين لمس بحديثه شغاف القلوب، فنالت الموعظة من قلب سيد العبد مكانها فأعتقه، وتحققت أمنية العبد، ونالت نفسه بغيتها، فجاء إلى الشيخ الواعظ يشكره، ويحمد له صنيعه، ثم عاتبه على تأخره، في إنجاز وعده، حتى كاد اليأس، أن يبلغ منه مبلغه، فأجابه الواعظ بتأثر واضح: لقد كنت أملك عبد يقوم على خدمتي، ويقضي حوائجي، وأنا في هذه السن المتقدمة، وأردت أن أعتقه، واحتجب إلى كل هذا الوقت، لجمع المال كي أستأجر به من يؤدي عمله بعد عتقه.

لقد أراد الشيخ الواعظ، أن يبدأ بنفسه، قبل أن يعظ غيره، فجاءت خطبته بكل الصدق، والعمق، والتفاعل، وكان فعلاً، قدوة لسواه؛ حيث لم تنفصم عظته عن فعله.

والله تعالى يلفتنا إلى هذا فيقول:

(يا أيُّها الذين آمنوا لم تقولون ما لا تفعلون، كبر مقتاً عند الله أنْ تقُولُوا ما لا تفعلون ) (الصف 2ـ3 )

وينعى على أهل الكتاب عدم التزامهم فيقول:

(أتأمرون الناس بالبِّر، وتنسون أنفسكم، وأنت تتلون الكتاب أفلا تعقلون ) (البقرة440 ).

ويقول النبي ـ صلى الله عليه وسلم:

((يُجاء بالرجل يومَ القيامة، فيُلقى في النار، فتندلق أقتابُهُ، فيدورُ كما يدورُ الحمارُ برحاهُ، فيجتمعُ أهل النار عليه، فيقولون: يا فلان ما شأنُك أليس كنت تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر؟ فيقول: كنت آمركم بالمعروفِ ولا آتيهِ، وأنهاكم عن الشر وآتيه )) (رواه مسلم ).

ورغم الأهمية القصوى، لشحذ الفعالية الروحية، في مرحلة الإقلاع الحضاري، فإن الحاجة لهذه المهمة تظل قائمة، لاستمرارية الحضارة، وعندما تنسى الأمة هذه المهمة، تبدأ مشاكلها مع البقاء.

ولكن من الذي يقوم بمهمة شحذ الفعالية الروحية، بعناصرها الأربعة السالفة في الأمة؟

إنها مهمة النفر القدوة المؤمنين، الموقنين، والقادرين، على مخاطبة عقول الأمة، وإيقاظ مشاعرها، وتشخيص عللها، وتوصيف الحلول العملية لمشكلاتها، حتى توجد لديها القدرة، على مواجهة تحديثات الحضارة، ومعطياتها الجديدة، وتتوافر عندها الإمكانات لترجمة رسالة الإيمان إلى تصور ذهبي، وسلوك حضاري، يُعني بالقدوة ، أكثر مما يضيء بالفلسفة، وتجتمع عليه القلوب، وتلتقي عليه الأفئدة، فينساب في جماعية نلمسها في تصرف جموع الأمة.

ثم هي أيضا مهمة جميع المؤسسات الإعلامية، والعلمية، والتربوية، التي لا بد لها أن تفرغ لشحذ الفعالية الحضارية، وإثارة الوعي الحضاري.

الركيزة الثانية: استيعاب حضارة العصر استيعابا كاملا

هناك حقائق لا مراء فيها، تبدو واضحة للدارس المتبصر، في تاريخ الحضارات، وحضارة الغرب المعاصرة على وجه الخصوص، نسردها فيما يلي كمدخل لشحذ قدرات أمتنا، وفعاليتها العلمية.

الحقيقة الأولى:

إن حضارة العصر التي تبدو لنا في غاية التعقيد، قامت على أساس العلم، ومدخلنا إليها لن يكون إلا عن طريق شحذ الفعالية العلمية للأمة، وسبيلنا إلى شحذ الفعالية العلمية هو جهازنا التعليمي المتطور.

الحقيقة الثانية:

إن التقنية الحديثة، نشأت في الغرب من تزاوج العلم والحرفة، ثم من إصرار المجتمع الغربي على هذا التزاوج، في صورة مراكز لتطوير الصناعات المختلفة.

الحقيقة الثالثة:

إن أرباب التقنية الحديثة لن يسمحوا بتعليم دقائقها لآخرين. هذا هو الواقع في عالمنا المعاصر. وعلينا أن نعي جيدا، أنه لن يمكننا الحصول على دقائق المعاصرة، حتى لو دفعنا من أجلها المال الوفير.

وفي ضوء هذه الحقائق، يجب علينا أن ندرك: أن طريقنا إلى التقنية الحديثة، لابد أن يمر بمراحل علمية تشبه التطور الزمني في بلاد الغرب، وليس منها ـ بطبيعة الحال ـ ما يسمى بـ ((نقل التقنية )) من دولة متقدمة إلى دولة متأخرة.

إن التقنية ((لا تنقل )) بالأجهزة والمعدات، ولكنها ((تستنبت )) بالجهد والمجاهدة، و((تستوعب )) بالصبر والمثابرة، وتنمو بالعزيمة والإصرار، وقد آن الأوان لمن يعيش في وهم ((نقل التقنية )) أن يستيقظ على الحقيقة.

إن أمتنا تستطيع ـ كما أشرنا إلى ذلك من قبل ـ أن تُسْقط عمر الحضارة العلمية، والتقنية المعاصره على عمر الإنسان فيها، فتبدأ معه منذ الطفولة، تَعلمه من خلال المزاوجة بين العلم والحرفة، وتأخذ بيده، لكي يتعلم، أن طريق التطور التقني طويل وشاق، وأن السير عليه يتطلب الثبات، والإصرار، والمثابرة.

على أن علينا أن نذكّر مرة أخرى، بضروريات لابد من مراعاتها، وفهمها، في عملية ((الاستيعاب )) الكامل للحضارة التقنية المعاصرة، سبق أن فصلناها من قبل، ونوجزها هنا فيما يلي:

* إن ((الاستيعاب )) الكامل للحضارة التقنية المعاصرة، يعني استيعاب الأصول والطرائق والنظم. أما الدقائق، فهذه لا يمكن لأصحاب الحضارة منحها، وإنما تدرك بالممارسة الواعية، والتفاعل البناء.

* ألا تسبق الحالة العلمية للأمة، الحالة التقنية فيه بكثير، وإلا أدى ذلك إلى انفصال العلم عن التقنية.

* لا يمنع ذلك من وجود فئة من المتخصصين في الجامعات، ومراكز البحوث، توقف نفسها للعلوم، وتتوفر عليها عند مشارفها، وتكون مهمتها التطوير المستمر للعلوم، لتصبح أكثر ملاءمة لتحقيق الهدف التقني المنشود.

إن ((استيعاب )) العصر بحضارته الباسقة، وتحدياتها المضنية، ليس مقالاً يكتب، أو كتابا ينشر، أو حديثا يذاع، أو خطبة تلقى، أو كلاماً يقال، أو بضاعة تباع، ولكنه معاناة، وجهاد، تسهم فيه الأمة، بكل مؤسساتها، ومعاهدها، ومعاملها، ورجالها، وتعقد عليه العزم للبناء، والمثابرة، وتسقط في سبيله من حياتها، مظاهر الترف والدعة، والركون إلى الاستسلام والتواكل، حتى تستطيع أن تتهيأ لعملية الاستيعاب المعاصر، وتقيم البناء الحضاري على عمد ثابتة راسخة ومتينة، تلتزم فيه ومن خلاله، بإعادة النظر بصورة جذرية ومعمقة، في كل نظم حياتها، ووسائل معيشتها، في إطار عقيدتها السمحة، وفي نطاق قيمها الرفيعة، متمسكة بالسير على طريق الحق المستقيم، وهو طريق واضح وبين، وإن توالت خطواتها عليه بإذن ربها، تحقق وعده لها، مصداقا لقوله جل شأنه:

(وأنْ لَوِ اسْتَقَامُوا على الطَّرِيقَةِ لأسْقَيْناهُم ماءً غَدَقاً ) ((الجن:16 )) صدق الله العظيم.

الركيزة الثالثة: تبني أساليب الحضارة المعاصرة أو إبداع البدائل:

إن المسلمين ـ بيقين ـ يملكون عقيدة سماوية كاملة، بمجموعة قيمها الحية، ومبادئها الفعالة. وأسسها الصحيحة، ومعانيها السامية، التي كانت وستظل إلى يوم الدين، نبراساً لهم وللإنسانية عامة، تحثهم على الخير، وتدفعهم إلى النهوض والسمو، وكانت وستظل سياجاً واقياً لهم من الهبوط والتدني، وجسراً متينا يصلهم بعصرهم، ويربطهم بحضارته.

أجل: إننا ـ نحن المسلمين دون سوانا من خلق الله ـ نملك هذا الرصيد القيمي الضخم .. الذي يعتبر في ذاته خميرة البقاء، وتكمن في حناياه أسرار التقدم، وتستقر في رحمه خلايا الانطلاق والحضارة، وتتمركز في جوهره الركائز الأساسية، والشروط الضرورية للبعث الحضاري، ولكننا ـ للأسف ـ نملك النظم، فلا مناص لنا من أن نكون بإزاء هذا وذاك، وجها لوجه أمام خيارين، لا مفر منهما:

الخيار الأول:

أن نتبنى المؤسسات الحضارية الغربية بوضعها الحالي، آخذين في الاعتبار أن نظمها الحاكمة، ومدخلاتها الإنتاجية، تحتاج إلى تعديل، وتبديل، يأتي عن طريق الممارسة، والتجربة، والإصرار على تحقيق المباديء والقيم، والأخلاقيات في النظم المعدلة، للوصول بها إلى معطياتها الحضارية، دون التأثير بسلبياتها الاجتماعية، والفكرية.

الخيار الثاني:

أن نبدع البدائل، وهذا أمر لا يفتي فيه إلا المتخصص، في أعمال مثل هذه المؤسسات.

إن خيار إبداع البدائل للنظم، لابد من أن يوضح، ويحدد دور الفقهاء، وعلماء الشريعة بيننا، وهو دور العين السحرية الثاقبة، المتبصرة في نهاية خط الإنتاج.

بمعنى: أنه دور التحكم في النوعية، التي تحكمها المبادئ، والقيم والأخلاقيات الإسلامية، فما وافقها من النظم مضى، وما خالفها يعاد لأهل الاختصاص، للتغيير والتبديل.

ونؤكد هنا: أن أهل الاختصاص، هم القادرون دون سواهم، على التغيير والتبديل؛ من حيث بات من السمات الواضحة، لعالم الحضارة المعاصرة، أنه عالم التخصص، في كل شيء، ولا سيما في مجالات العلوم، والمعرفة، والتقنية، حتى غدا الأمر، وكأن في كل فرع من فروع العلوم الإنسانية، والتطبيقية، والمجردة، مدارس متخصصة تنبثق عنها دقائق وتفصيلات، يوقف علماء وباحثون حياتهم عليها في محاريب العلم، ومعامل التجارب.

فمهمة إبداع البدائل، لا بد أن يضطلع بها متخصص في دراسات النظم، التي تحكم مؤسسات شبيهة بالمؤسسات المرجوة كما أسلفنا، آخذين في الاعتبار أن البديل المقترح، إنما هو من قبيل المحاولة الإسلامية وليس هو الإسلام؛ لأننا من خلال التجربة والاحتكاك قد نكتشف تقصير النظم المقترحة، في تحقيق كل جوانب مبادئنا وقيمنا، وأخلاقياتنا، فنلجأ إلى تغيير هذه النظم، أو إصلاحها حتى تكون أكثر تحقيقا لما ندين له، ونؤمن به.

والحق: أن الصراط المستقيم في مثل هذا، ليس واضحاً من غير هداية الله تعالى، وهدايته لا تأتي إلا باستمرار المجاهدة وديمومتها، من أجل هذا فإننا نتوجه إلى الله تعالى في كل صلاة ضارعين إليه: ((اهدنا الصراط المستقيم )) (الفاتحة:6 )، آملين في وعده: ((والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا وإن الله لمع المحسنين )) (العنكبوت:69 ).

والحق الذي نؤمن به، أن القرآن الكريم، والسنة النبوية المطهرة، قد اشتملا على جميع الأصول العامة، والقواعد الكلية، والمبادئ والقيم والأخلاقيات كلها اللازمة لانبثاق أرقى النظم الحضارية، وهذه الثوابت في حد ذاتها كافية جدا لهذا المهمة.

أما النظم الحضارية نفسها، فهي محاولات بشرية، تنطلق من القيود كلها، إلا القيود الأخلاقية، والمبادئ الأساسية، والأطر القيمية، التي يحددها الكتاب والسنة، وهما ـ بيقين ـ خير أساس لقيام حضارة إنسانية مثلى، لا تطاولها حضارة.

الركيزة الرابعة: ضرورة التفاعل بين ديناميكية الأفكار .. وديناميكية النظم

لقد عرّف ابن خلدون، الحضارة في مقدمته بأنها: نمط من الحياة المستقرة ينشئ القرى والأمصار، ويضفي على حياة أصحابها، فنونا منتظمة من العيش، والاجتماع، والعمل، والعلم، والصناعة، وإدارة شؤون الحياة، والحكم، وترتيب وسائل الراحة والرفاهية. وهذا القول يعني: أن الحضارة، ترتكز على ركيزتين أساسيتين هما: ((الثقافة )) و ((المدنية )).

و ((الثقافة )) تعني: التطور في الأفكار النظرية، لنظم السياسة، ونظريات الاقتصاد. وأسس القانون، ومبادئ التاريخ وغيرها، من العلوم الإنسانية والاجتماعية.

و ((المدنية )) تعني: التقدم في العلوم العملية، والتجريبية، كالطب والصيدلة، والهندسة، والزراعة، والكيمياء، وما إليها، مما يرتبط بالقرى والأمصار، على حد تعبير ابن خلدون، فلا يمكن للطب أن يمارس، أو يتطور، دون وجود مستشفيات، ومرافق علاج، ولا الهندسة أن تُطبق، دون وجود ورش، ومعامل، وتجارب، ولا الاختبارات الزراعية أن تجرى دون أن ترتبط بالحقول والمزارع.

ولا شك أن ((الثقافة )) و((المدنية ))، هما العنصران الأساسيان للحضارة، تلتحمان، وتتكاملان. على برامج التعليم ـ إن أرادت أن تكون ذات مفعول حضاري متطور ـ أن تعبر عن هذا التكامل، والتلاحم بين الثقافة والمدنية.

من هذا نستخلص: أن مدلول الحضارة هو مزيج من الرقي، في مجالات شتى: كالأخلاق، والسلوك والتربية، والعلوم التجريبية، والبحتة.

ومفهوم الحضارة الإسلامية، يحتوي هذا المدلول، ويتجاوزه إلى مفهوم عقدي، وفكري، ووظيفي أوسع وأعمق، وحري بأمتنا، التي تستهدف الحضارة، وتستعد لها، أن تتشبث بهذا المفهوم الفكري الإيماني للحضارة، وألا تفرط في التسلسل المنطقي لإنشائها، حتى يمكنها البدء في دورة حضارية جديدة، تمهيدا للبعث الحضاري المنشود، وأن تحرص على أن يرتكز الجانب المادي للحضارة، على الجانب الفكري الذاتي لأمتنا، لتنشأ حضارتنا في نطاق مناخنا الروحي، المشبع بصفاء العقيدة، الفواح بشذا المبادئ، وأنفاس القيم.

على أن الحالة الفكرية لأية أمة من الأمم تتكون عادة من ثلاثة ألوان من الفكر هي:

1- الفكر التراثي:

وهو عبارة عن تراكمات فكرية تراثية، بكل ما فيها من إيجابيات وسلبيات، وحوافز ومثبطات، وصعود وهبوط، وتقدم وانحطاط. وموقف الأمة من هذا الفكر، أجدى أن يكون موقف الباحث الأمين في دربه، المقلب في نظرياته، المتمكن من الأخذ منه بما يحقق الأصالة، ويبرز شخصية الأمة، في توازن وقصد، لا إفراط فيه ولا تفريط.

2- الفكر الوافد (الغازي):

وهو الفكر الغازي المتسرب من الحضارات المعاصرة، وهو أخطر ما تواجهه الأمة في انطلاقاتها نحو حضارة عصرية حديثة؛ لأن أجنبي التربة، غريب النزعة.

وموقف الأمة منه، أحرى أن يكون موقف الحذر والتيقظ، تأخذ منه ما يتناسب مع قيمها، وتفتح له من النوافذ، بقدر ما يتلاءم مع تصوراتها للمبادئ الإنسانية، كما عرفها لها ديننا الحنيف.

3- الفكر الذاتي:

وهو ذلك البناء العقلي، الذي ينمو من مجموعة القيم والمبادئ، التي تمثل عقيدة الأمة، والذي استقر في وجدانها، عن طريق الإسلام، الذي تؤمن به، وترسب في ذهنها، على أيدي رجال أوتوا الحكمة. (( ومن يُؤْتَ الحكمة فقد أُوتى خيراً كثيراً )) ( البقرة:269 ).

إن تعاقب الأجيال، وقيام حضارات، واندثار أخرى، ليجعلنا نؤكد على أن الأفكار يجب ألا تورث مع الأرض. وإنما هي مهمة كل جيل، أن يبصر لنفسه، وكذلك الحال في عالم النظم، التي هي وليدة عالم الأفكار، من حيث كانت ديناميكية الأفكار تستدعي ديناميكية النظم، وديناميكية النظم، تستدعي، ديناميكية الأفكار وهكذا يدور كل منها مع الآخر ، وجوداً وعدماً، وتكون النتيجة تبعا لذلك، طرداً وعكساً من حيث: ((السمو الحضاري )) أو ((الانحطاط الحضاري )).

الركيزة الخامسة: تمييز الحضارة المعاصرة وتصحيح النظرة إليها

إن التحديات الحضارية المعاصرة، تقتضينا بالضرورة، أن نصحح نظرتنا إلى الحضارة الغربية المعاصرة، المسيطرة على مجريات الأحداث، في كل أرجاء الأرض، بنظمها، وأدواتها، ومنجزاتها، وكل ما يصدر عنها، وهذا التصحيح، ما يأتي من خلال البحث في دروبها، عن الإيجابيات التي تزخر بها، كي نستفيد منها، ونقلدها، ونحتوي سبلها، وعن السلبيات التي تلتصق بها، لعزلها، حتى لا نتأثر بها، وبذلكم، يكون موقفنا من هذه الحضارة، موقفاً موضوعياً محايداً نكثف فيه جهودنا على الإعداد، ونركز فيه طاقاتنا على الاحتشاد، لدورة حضارية جديدة، وإقلاع حضاري رشيد.

وإذا استلهمنا تاريخنا، وجدنا أن أسلافنا المسلمين، قد أفادوا من سوابق النظم الساسانية، والبيزنطية، التي وجدوها في البلاد المفتوحة، في كل مجال، وأخذوا منها ما وافق مبادئ الإسلام العامة، وكلياته، وأصوله، ولم يتعارض مع أحكامه القطعية، وبدا ذلك ((الاقتباس المباح ))، جليا في بعض جوانب تراثنا. فاستفادت الأمة من مناخ هاتين الحضارتين، وتمثلت خير ما فيهما، ثم تجاوزته، بما قدمت من منجزات، ذات خصائص قيمية، تصل إلى عمق (( الكيف )) و ((الجوهر ))، ولا تقف عند حدود ((الكم ))، و ((الشكل )).

كما لم يأخذ أسلافنا لحضارتهم ((ميثولوجيا )) اليونان، أو نحتهم، ومعنى هذا: ألا تقبل أمتنا جزئيات الحضارة القائمة، ومفرداتها كلها، بل عليها أن تحكم معايير قيمها، وإيحاءات دينها، في تحديد ((الإيجابيات )) و ((السلبيات ))، وتقرر ماذا تأخذ، وماذا تدع وأن تستفيد من خبرات أهل الحضارة المعاصرة أنفسهم، في ((نقد )) حضارتهم، وتحليل أزمتها ومعضلاتها، كافتقاد العفاف، والطهر، في بعض مظاهر حياتها، وشيوع التحلل الخلقي، عند قطاعات من مجتمعاتها، والسفه المدمر في الإنفاق على التسليح، وإنتاج أسلحة الدمار، والتوسع المهول، في وسائل الترف والزينة، والاستهلاك لمجرد الاستهلاك، والإعلام المطلق لترويج المنتجات، وتسلط المادية القاتلة، والأنانية المسفة، والجمود العاطفي، والتفسخ الأسري، والإبادة الجماعية، وإفرازات القلق، والموت الجماعي، حتى بدا وكأن الإنسان قد تحول في ظل التقدم التقني الرهيب، إلى ((آلة ))، أو ((رقم )) أو ((نمط )) مطرد لا تفرد فيه؛ أو تحول ((الإنسان )) إلى عاهة مرضية مكررة من: ((التمزق ))، و((القلق )) و((الضياع ))، و ((الاغتراب )). ومع ذلك فللحضارة الراهنة منجزات، لها قيمتها غير المنكورة في مجالات: ((النظم ))، و ((الفكر )) السياسي، والاجتماعي، والاقتصادي، فضلا عن مجالات التقدم التقني. وأمتنا أحوج ما تكون، للإفادة من وسائلها المنهجية في البحث، وأساليبها في العرض، والنشر، والإعلام، والمؤسسات السياسية، والإدارية، والقضائية، والتعليمية، والاقتصادية على سائر المستويات.

لا ينبغي للأمة أن تعزل نفسها، عن المناخ والتيار الحضاريين الراهنين، وإلاّ تكون قد حكمت على نفسها بالتيبس، والجمود، والانقراض، وبقيت الحضارة الراهنة في شوطها، وإلى أجلها المقدور.

أجل: إن اللحاق بحضارة العصر يتنافى مع اعتزالها. كما أنه أيضا لا يعني ((احتضان )) كل ما فيها على حالاته وعلاته، من غير فرز، ولا تصنيف، ولا انتقاء تقتضيه قيمنا، وزماننا، وبيئتنا، وبنيتنا، وتركيبنا الديني، والنفسي، والخلقي، والاجتماعي، وإلا وقعنا ثانية، فيما وقعنا فيه من قبل، فعندما نقلنا العلوم الإنسانية من الغرب، نقلناها بحرفيتها، مع أنها علوم قيمية، وليست علوما بحتة مجردة . . فبناء شخصية الطفل المسلم مثلا في العالم الإسلامي، تختلف عنه في الحضارة الغربية، ((والسيكلوجية )) في العالم الإسلامي، تختلف عنه في الحضارة الغربية، ((والسيكلوجية )) المطلوبة لهذا الطفل، تختلف عنها بالنسبة للطفل الغربي .. وعلم الاجتماع الذي يقوم عندنا على التكافل والتراحم اللذان أمر بها الدين، ونظر إلى الاجتماع الإنساني على أنه عبادة، يختلف عن علم الاجتماع في مجتمع يتطاحن ويتصارع، والبقاء فيه للأقوى.. وعلم الاقتصاد الذي يقوم في الغرب، في شقه هذا أو ذاك على المنفعة، يقوم في الإسلام على مجموعة من المبادئ العليا.

والحق .. أن قبول كل ما لدى الغرب دون تمييز، وفحص، وانتقاء، إن هو إلا مظهر من مظاهر القابلية للاستعمار، والارتماء في أحضانه، دون قناعة، طائعين، أو كارهين، إذ ليس الاستعمار فقد، مجرد جيوش جرارة، ومعسكرات، واحتلال مادي، خطر لبقاعنا وبلادنا، ولكنه أيضا وبصورة أخطر، استعمار الأدمغة والعقول، والأخلاق والسلوك، والايديولوجيات والمذاهب.

إن أمتنا ـ بل والإنسانية جميعا ـ في أمس الحاجة إلى الحضارة المؤسسة على: ركائز الوحي، وهداية الحق، وإلهام القيم، وتلكم جميعا بحمد الله متوافرة عندنا. ولديها القدرة الكاملة، على أن تعالج كل أدواء الإنسانية، من تخلف وفراغ، وخلل، وانحطاط، دون أن تتجاهل الواقع الآني للحضارة المعاصرة، وما تحقق فيها من مكاسب، وإيجابيات، ودون أن تصاب بسلبياتها، وجراثيمها، ومن غير أن تفرط قيد أنملة في أصولها الكلية، وثوابتها الخالدة، وجزئياتها القطعية.

الركيزة السادسة: حماية المنجزات الحضارية للأمة

منجزات الحضارة هي ثمار العمل الدائب، والجهد المضني، والتضحية الغالية، من الأمة جميعا، وحماية منجزات الحضارة، تعني أول ما تعني: أن المؤسسات الحضارية متطورة في عملها، متقدمة في نظمها، حركية في إنجازاتها.

ولعلنا نتفق، على أن قدرة الأمة على حماية نفسها، مما عرف بأمراض الحضارة، إبان تلقيها للعملية الحضارية، وفي مرحلة إقلاعها الحضاري أمر مهم وحيوي، وجزء لا يتجزأ من الإعداد الحضاري، والتواكب الواقعي مع الحضارة. وواقع أمم الحضارة يعج بمختلف المتناقضات، والعلل الإنسانية، والفكرية، والاجتماعية، والسلوكية، التي لا تخفي على أحد،. كما أن شيوع مذاهب النفعية، والتبرير فيها، ونبذ الضوابط، والخروج على الأعراف، والنظم، والمبادئ، والقيم المحلية، والعالمية أصبحت أمورا لا يقبلها عاقل.

إن العمل على حماية المؤسسات الحضارية في أمتنا، إنما يستهدف التأكيد على عصمة المنطلق، واستقامة الدرب، وانضباط الخط، بما يتناغم مع إيحاءات عقيدتنا السمحة، ومعطيات ديننا العالمي الحضاري، الخالد الخاتم، وهذه الحماية لها شقان: ذاتي وخارجي..

الشق الذاتي:

ونعني به أن يتسم الفرد المسلم، بأعلى سمات الحرص، واليقظة والتبصر؛ حتى يحمي مجتمعه، ويحرس المنجزات الحضارية لأمته، وحتى يظل التجاوب الواعي منه لكل ما يمر به مجتمعه من تحولات وتغيرات، ذا أثر متجدد، ومردود فعال، يفرض حول المجتمع سياجا من الضمانات، لحماية قيمة الصالحة، من الذبول والزوال.

إن هذا الشق مطلوب، لحماية المنجزات الحضارية، من الأمراض التي تصيب الحضارات، عندما يصاب المجتمع بالغفلة والوهن. ويركن إلى الترف والدعة، وينسى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وتحيط به ملذاته وأهواؤه ، وتصدأ نفسه فيصبح عالة على غيره من الأمم: ((زبونا )) يأكل ما يزرعون، ويلبس ما ينسجون، ويستهلك ما يصنعون .. ثم هو مطلوب لديمومة التعديل في النظم، في إطار المبادئ والقيم، وفي نطاق الوقاية من هذه الأمراض الحضارية، فلا يسمح مثلا لنظامه الاقتصادي بأن يوجد إنسان مترف، وبجواره فقير معدم، أو أن يغدوا الفرد ((ترساً )) في الآلة، أو يتحول إلى آلة صماء لا رأي له، ولا مشورة، أو أن يكون نظامه الاجتماعي متفككاً بحيث تنتفي منه روح الأخوة، وتنعدم فيه روح الأسرة، أو أن يعمل نظامه الثقافي على تبلد الفكر، وركود المعرفة، فإن واحدا من هذه الأمراض يكفي لإصابة المجتمع بالعجز عن حماية ما أنجزه وحققه،ومن ثم فلا بد من أن تكون نظم الحضارة نظما فعالة، قائمة على ديمومة الرقابة الذاتية، لنفسها ضد الأمراض الحضارية التي تصيبها من داخلها ، وخاصة التي تتصل بتحويلات المجتمع، من التوازن إلى الخلل، ومن الاستقامة إلى العوج، ومن الفطرة إلى الجنوح، ومن الروح إلى المادة، ومن الواجب إلى النفعية، ومن عبادة الله إلى عبادة غيره، وكلها علل فطن لها المجتمع الغربي، فغدا الآن يسعى إلى طب نفسه منها، وإنقاذ حضارته من أوضارها، عن طريق إعادة النظر في أسس هذه الحضارة وقاعدتها، والنظم الحاكمة لها، في محاولة لإعادة وصلها بعلوم القيم والأخلاق، والهندسة الاجتماعية والإنسانية.

وهذا في الواقع، أمر في غاية الأهمية بالنسبة لنا ولهم.

أما بالنسبة لهم، فلأنهم قوم وضعوا أيديهم على بعض أمراض الحضارة، وحاولوا أن يبحثوا لها عن علاج، وأن يتعرفوا على أثر الروح وجودا أو عدما، وأن يدركوا مفعولها في مسيرة البشر الحياتية والحضارية، كوقاية وبلسم وشفاء، وري يلطّف من هجير المادة وجفافها ..

وأما بالنسبة لنا، فمن حيث إننا نسعى جاهدين لنطل على مشارف دورة حضارية جديدة، ينبغي في سعينا هذا، أن نضع في اعتبارنا، كيف نتوقى من البداية هذه العلل والأدواء الحضارية، حتى لا نتوحل في عقابيلها، ونصاب بجراثيمها، ثم نذهب ونبحث عن العلاج حالما يستعصي، ولا يكون.

ومنهج الوقاية بين أيدينا ـ بحمد الله ـ ميسور مذخور، يكمن فيما لدينا من خلايا البقاء، إن الحضارة، تبقى ما بقي الإنسان بهويته، ومشخصاته، وخطوطها المتوازنة في روحه وبدنه، في دينه وتدينه، في أشواق روحه، وحاجات بدنه، في توجهاته وتطبيقاته، في مفهوماته ومدركاته، ووسائله وغاياته، في بواعثه ومقاصده، في ضميره وسلوكه، في شعوره ونزوعه، وحركته ونشاطه، في مسيرته وترداده بين سنن النفس، وسنن الكون، في عبوديته لربه، وتسخيره لكونه، في رغبته في الله ورهبته منه، ثم في التوازن الشامل في مجال التوجيه والمعرفة، بين خطوط الوحي، والكون، والعقل معا، والعمل للدنيا والآخرة جميعا.

الشق الخارجي:

إن هذا الشق لحماية المنجزات الحضارية للأمة، يلعب دوراً مهما، في درء الأخطار القادمة من وراء الحدود بجميع أشكالها، وفي منعها من غزونا، والتسلل إلينا من خلف الثغور.

وهذا أمر يجب أن يعنى بالقدرة على بناء أنظمة منيعة، وأجهزة دفاع قوية، تذود عن حمى المنجزات الحضارية كلها: عسكريا، واجتماعيا، ونفسيا، وثقافيا، وتربويا، وسياسياً .. الخ..

وبناء الأجهزة على هذا النحو، يحتاج إلى جهد متكامل، وبصيرة نافذة، ووعي عال، وفكر يقظ، فلا يكفي مثلا، أن يكون لدى الأمة جيش دفاع قوي، مجهز بأحدث الأسلحة والعتاد، في حين نظامها التعليمي لا يحمي الأمة من الغزو الفكري المضلل، ولا يعد الشباب لمواجهة أخطاره، ولا يبث فيهم روح الرجولة والإقدام، ولا ينشر بينهم القدرة على الصمود ببسالة، وعلى الجهاد ببطولة.

الخلاصة:

والخلاصة هي: أننا ـ بإذن الله ـ واجدون ـ بكل تأكيد الشروط الضرورية، والأصول الأولى، الكفيلة بالبعث الحضاري المرتقب، والاستراتيجية الحضارية المناسبة، لتنقذنا مما تعانيه مجتمعاتنا وديارنا، من الحرمان والتخلف، وذلكم من خلال:

1- ((فعالياتنا الروحية ))، ومعطياتنا القيمية،وعقيدتنا الموحية، وخطوطنا التربوية المأمولة في البيت، والمدرسة، والمناخ العام، والقدوة الصالحة.

2- ((استيعابنا لحضارة العصر )) على أسس علمية وتعليمية متطورة، وتزاوج بين العلم والحرفة، يمكننا بها وبالجهد والمجاهدة من ((استنبات التقنية )) في بلداننا.

3- ((تبني الأساليب الحضارية )) الإيجابية، التي تناسبنا في الحضارة المعاصرة، دون أن نصاب بسلبياتها الفكرية والاجتماعية، مع الجد والاجتهاد في ((إبداع البدائل )) للنظم الحضارية الحاكمة، على أيدي المتخصصين في دراسات النظم، التي تحكم مؤسسات شبيهة بمؤسساتنا المرجوة، سيما وأن ديننا بسعته يشتمل على الأصول العامة، والقواعد الكلية: والثوابت اللازمة كافة لانبثاق أرقى النظم الحضارية.

4- ((ضرورة التفاعل المطلوب بين ديناميكية كل من: الأفكار، والنظم، والزمن )) من حيث إن النظم والأفكار، قديمها وحديثها، أمرا ينقصه الكمال، وليس فيها جميعاً شيء مقدس، ولكأن الزمن نهر جار يخط طريقه في حياة البشر، فتتحرك الأفكار والنظم والزمن، كل خلف الآخر، في دورة ديناميكية، تستهدف دائما ـ في مجال التطور ـ الوصل إلى الكمال.

5- ((تصحيح النظرة إلى الحضارة المعاصرة )) بعد فحصها وفرزها، من خلال التعامل معها، والبحث في دروبها، والفقه العميق لعملية ((توارث )) الحضارات ((حلولها ))، و ((احلالها )) ونشأة أطوارها، ودوراتها، كل في ظلال الآخر، وحضانته، ومناخه، وضرورة الإفادة من نقد العلماء، والمصلحين للحضارة الغربية، والتركيز على ((الكيف )) و ((الجوهر )) والإيجابيات في عوالم النظم، والفكر ، والمنهجية، كل بما يناسب بيئتنا ، وبنيتنا، وتركيبنا.

6- ((ثم حماية منجزاتها الحضارية المأمولة )) بديمومة التطور والتقدم، والحركة، وحماية الأمة من أمراض الحضارة، من خلال العناية بسماتنا الذاتية، والاهتمام بسياجاتنا الواقية لقيمنا ومبادئنا من جراثيم الحضارة، والحرص على بناء أجهزتنا الدفاعية الحامية لثغورنا وأنظمتنا في كل مجال وأفق.

الخاتمة:

وبعد، فالحق الذي لا ريب فيه، أن بين أيدينا في كل ما سلف أعظم منهاج، وأكرم دين يمنحنا هذه الاستراتيجية، ويضع أصابعنا على شتى أصولها وفروعها، وكلياتها وجزئياتها، وجميع خطوطها المتوازنة والمقاطعة.

لقد أراد الله لديننا الإسلامي الحنيف، أن يكون مثابة للناس وأمنا، وشفاء ورحمة، وفضلا وهدى، ونعمة لا تطاولها في دنيا الناس نعمة.

جدير بمن حباه الله به، أن يقدر نعمته، وأن يلزم جادته، وألا يستدرك عليه، من حيث قد احتوى بين برديه خيري الدنيا والآخرة.

دين كفل الله به لأتباعه، الأمن والأمان، والمجد والعزة، والبشرى لهم بالتوفيق، ما مضوا على سننه، وساروا على دربه، وكانوا على مستوى التبصر والتغيير، والديناميكية والحركة، من السيء إلى الحسن، ومن الحسن إلى الأحسن، في خط بياني صاعد، في نطاق مبادئه وإطار عقيدته.

يقول الحق تبارك وتعالى:

((يأيُّها النَّاسُ قد جاءتْكُم موعظةُُ من ربكم وشفاءُُ لما في الصدور وهدىً ورحمةُُ للمؤمنين قل بفضلِ الله وبرحمتهِ فبذلك فليفرحوا هو خيرُُ مما يجمعون. قل أرأيتم ما أنزل الله لكم من رزق فجعلتم منه حراماً وحلالاً قل آلله أذن لكم أم على الله تفترون. وما ظنُّ الذين يفترون على الله الكذب يوم القيامة إن الله لذو فضل على الناس ولكن أكثرهم لا يشكرون . وما تكون في شأنٍ وما تتلو منه من قرآنٍ ولا تعملون من عمل إلا كنا عليكم شهوداً إذ تفيضون فيه، وما يعزبُ عن ربك من مثقال ذرةٍ في الأرضِ ولا في السماءِ، ولا أصغرَ من ذلك ولا أكبرَ إلا في كتاب مُبين. ألا إن أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون، الذين آمنوا وكانوا يتقون. لهم البشرى في الحياة الدنيا وفي الآخرة لا تبديل لكلمات الله ذلك هو الفوز العظيم. ولا يحزُنك قولهم. إنّ العزة لله جميعاً هو السميعُ العليم. ألا إنّ لله من في السموات ومن في الأرض وما يتبعُ الذين يدعون من دون الله شركاء إن يتبعون إلا الظن وإن هم إلا يخرصون )) . ((يونس: 57 ـ66 ))

سدد الله على طريق الهدى خطانا، وبصرنا بأمور ديننا ودنيانا، وأعاننا على همومنا، وحقق آمالنا، وهدانا جميعا إلى سواء السبيل ....

وآخر دعونا أن الحمد لله رب العالمين

============

# أزمتنا الحضارية في ضوء سنّة الله في الخلق

تقديم: عمر عبيد حسنة

الحمد لله الأكرم ، الذي علم الإنسان ما لم يعلم ، ميزه بالعقل ، ومنحه حرية الاختيار ، وبذلك جعله أهلاً لتحمل المسؤولية ، والقيام بأعباء الاستخلاف الإنساني ، فهو المخلوق المكلف .. والمسؤولية في حقيقتها تكليف وتشريف ، فهي تكليف يحمل الأمانة الثقيلة ، التي عرضها الله على السموات والأرض فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وحملها الإنسان ، فلو لم يكن مؤهلاً للحمل ، بما يمتلك من خصائص وصفات ومزايا وقدرات هائلة ، لما نيطت به الأمانة من دون سائر الخلق . وهي تشريف أيضاً ، لأن اختياره من الله لحمل الأمانة دليل شرفه وتميزه وأهليته ، والتكليف والمسؤولية إنما هما في الحقيقة دليل الحرية وامتلاك الاختيار، فالمسؤولية فرع الحرية فلا مسؤولية بلا حرية.

والصلاة والسلام على البني الخاتم ، الذي انتهت إليه تجربة النبوة التاريخية وأصول الرسالات السماوية، فكانت رسالته في قمة التجربة البشرية ، قال تعالى: (شرع لكم من الدين ما وصى به نوحاً والذي أوحينا إليك وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه .. )(الشورى:13) .

وطلب من أصحاب الرسالة الخاتمة ، أن يتبصروا بأحوال الأمم السابقة ويستشرفوا التجربة البشرية التاريخية ، فينقلوها من ورائهم إلى أمامهم ، ليعتبروا ويحول اعتبارهم دون السقوط الحضاري ، وانتقال علل الأمم السابقة إليهم ، والتعرف من خلال الأمر بالسير في الأرض ، والنظر في أحوال الأمم ، على سنن وقوانين النهوض والسقوط.

فالتاريخ العام هو المصدر الأساسي للفقه الحضاري ، والمختبر الحقيقي لصواب الفعل البشري ، قال تعالى: (أولم يسيروا في الأرض ، فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم ، كانوا أشد منهم قوة وأثاروا الأرض وعمروها أكثر مما عمروها ، وجاءتهم رسلهم بالبينات ، فما كان الله ليظلمهم ولكن كانوا أنفسهم يظلمون )(الروم:9) . فاكتشاف سنن السقوط والنهوض من لوازم البناء الحضاري ، وإن شئت فقل : من لوازم الشهادة على الناس ، والتأهل لقيادتهم ، والقدرة على اختيار وتمثل الموقع الوسط .

قال تعالى: (وكذلك جعلناكم أمة وسطاً لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيداً )(البقرة: 143) .. وبعد :

فهذا كتاب الأمة السادس والعشرون : ( أزمتنا الحضارية في ضوء سنة الله في الخلق ) ، للدكتور أحمد محمد نعمان ، في سلسلة الكتب ، التي يصدرها مركز البحوث والمعلومات ، برئاسة المحاكم الشرعية والشؤون الدينية ، بدولة قطر ، مساهمة في تحقيق الوعي الحضاري ، والتحصين الثقافي ، وإعادة بناء الشخصية المسلمة ، بعد أن افتقدت الكثير من فعاليتها ، ومنهجيتها ، وصوابها ، وانحسر شهودها الحضاري ، وتوقفت عن السير في الأرض ، والتبصر بالقوانين ، التي تحكم حركة الحياة والأحياء ، وبذلك تكررت أخطاؤها ، وتكرس تخلفها وعجزت عن التقويم والمراجعة ، ومعرفة أسباب القصور ، وتحديد مواطن الخلل والتقصير ، فأصبح موقعها خارج التاريخ ، والواقع المشهود ، والمستقبل المأمول.

والغياب الحضاري ، أو الأزمة الحضارية ، التي نعاني منها ليست بسبب الفقر في القيم ، التي أكملها الله ، وتعهد بحفظها في الكتاب والسنة، الأمر الذي تستلزمه خاصيتا الخلود والخاتمية في الرسالة الإسلامية، أو بتعبير آخر: ليست المشكلة، التي يعاني منها العقل المسلم اليوم ، مشكلة قيم أو أزمة قيم، وإنما المشكلة كل المشكلة في العجز عن التعامل مع القيم ، والإنتاج الفكري ، الذي يجّسر العلاقة بين القيم ، وبين العصر، أو يساهم بتعديه الرؤية القيمية المحفوظة بالكتاب والسنة ، ويفيد من خلود الرسالة الإسلامية وقدرتها على العطاء المتجدد ، المجرد عن حدود الزمان والمكان ، لحل المشكلات الإنسانية ، وهذه وظيفة الفكر أو عالم الأفكار الذي نعاني من التأزم فيه ، لذلك نرى أن الخلط بين الأزمة الفكرية، التي يعاني منها العقل المسلم اليوم ، والتي أورثته العجز عن التعامل مع القيم ، وبين التوهم بأن الأزمة في القيم نفسها ، كان وراء الكثير من المغالطات ، والتراجعات ، التي لا تزال تكرس التخلف باسم التدين .. لذلك نعتقد أن من الأبجديات الأولى الضرورية لقراءة المسلم اليوم : إزالة الخلط بين المباديء المحفوظة ، والبرامج المطلوبة ، بين القيم الثابتة ، والأفكار الغائبة ، التي تبسط تلك القيم على الواقع المعاصر ، وتقومه بها.

فالانحسار الحضاري ، أو الأزمة الحضارية ، التي نعاني منها اليوم هي أزمة فكر أولاً وقبل كل شيء ، لأن النسغ الفكري للحضارة الإسلامية ، توقف عند حدود العقول السابقة ، وكأن الله خلق عقولنا لنعطلها عن الإنتاج ، ونعتبر العصور الأولى هي نهاية المطاف ، وغاية البعد الزمني بالنسبة للرسالة الإسلامية ، حتى انتهينا إلى هذه المرحلة من الانحسار ، والاستفزاز ، والتحدي الحضاري ، التي لابد معها من العكوف على الذات ، وتحديد مواطن الخلل والإصابة ، واستلهام القيم ، في محاولة للتوصل إلى صناعة فكرية معاصرة ، قادرة على الحوار الإنساني ، والمواجهة لكل الإصابات والأمراض ، التي لحقت بالشخصية المسلمة ، فأفقدتها صوابها ، وإن لم تفقدها الإخلاص الذي لابد من استصحابه في أبة عملية نهوض.

لقد اُتِهم العقل المسلم ، بأن السبب في عجزه وانحساره الحضاري هو اعتماده في النظر والتفكير على المنهج القياسي الاستنباطي ، بمعنى أنه محكوم ومكبل دائماً بأصل يقيس عليه ، أو بنص يحول بينه ، وبين الطلاقة في التفكير ، فهو دائماً فرع لأصل ، يدور في إطار سابق ، لا يمتلك الاستقلالية ، والحرية . وأن السبب في انطلاقه وإنجاز العقل الأوروبي هو اعتماده على المنهج الاستقرائي ، الذي يحرر العقل من القيود المسبقة ، من الأنموذج الحاكم ، أو المثال السابق ، أو الآبائية كما يعبر عنها بعضهم ، أخذاً من قوله تعالى: (إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مقتدون )(الزخرف:23) .

وهذه القضية ، لابد من التوقف عندها ، بما تسمح به هذه العجالة ، فمما لا شك فيه أن العقل المسلم يعتمد المنهج القياسي ، أو الاستنباطي ، في قضايا الفقه التشريعي ، في إطار الحلال والحرام ، وذلك عند إعمال العقل في النص الديني الموحى به لإدراك أبعاده ومقاصده ، وتحديد علته ، ومن ثم تعديه هذه العلة إلى الفرع الذي تتوفر فيه العلة نفسها ليأخذ حكم الأصل المقاس عليه ، ويكاد هذا الأمر ينطبق على الإجماع بالمصطلح الشرعي ( قياس الجماعة ) والقياس ( الاجتهاد الفردي ) والاستحسان ، والاستصلاح ، والاستصحاب ، بمعنى أن العقل إنما يتحرك في إطار سابق محكوم ببعض القيود والضوابط التي جاء بها الوحي.

أما فيما وراء الحكم الفقهي التشريعي ، فالإسلام يعتمد المنهج الاستقرائي .. يعتمده في كشف السنن ، والقوانين الثابتة .. والمطردة ، التي تحكم الحياة والكون والأنفس ، والآفاق ، الأمر الذي يتأتى منه البصارة واستقراء حركة النهوض والسقوط والتداول الحضاري ، بل لعل البرهان والدليل على ثبات السنن واطرادها هنا يتحقق من الاستقراء ، وليس من القياس ، فالسير في الأرض ، واكتشاف السنن الحاكمة لحركة الحياة ، أو فقه الحياة نلمحه في قوله تعالى: (قد خلت من قبلكم سنن فسيروا في الأرض فانظروا.. )(آل عمران:137) .

وقوله تعالى: (سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق )(فصلت:53) .. فاكتشاف السنن والتوصل إلى الدليل الذي يبين الحق ، إنما يتأتى من استقراء التاريخ ، والواقع ، وآيات الأنفس والآفاق ، لكن المشكلة جاءت من الامتداد بأحد المنهجين ، وتعطيل الآخر ، خاصة عندما توقف العقل المسلم عن السير في الأرض ، وتعطل عن النظر في الأنفس والآفاق ، في العصور المتأخرة ، الأمر الذي أدى به إلى الانحسار الحضاري.

وحقيقة أخرى لابد من إيضاحها هنا ، وهي أن المنهج الاستقرائي ، الذي يعزى إليه الإنجاز والإبداع الحضاري ، وإطلاقه للعقل من القيود ، لم ينطلق من فراغ كما يتوهم بعضهم وإنما جاء الكشف والإبداع نتيجة النظر في سوابق قائمة ، أيضاً ، تستقرأ أو تستنطق ، والمقدمات أو السوابق التي تمكن من النظر موجودة في كلا المنهجين.

وخلاصة القول: إن الفقه التشريعي في الإسلام يخضع للمنهج الاستنباطي القياسي، وأن الفقه الاجتماعي والحضاري يخضع للمنهج الاستقرائي . والإصابة اليوم التي لحقت بالعقل والفكر الإسلامي لم تقتصر على أحدهما دون الآخر ، وقد تكون من بعض مشكلات العقل المسلم المعاصر ، الخلط بين المنهجين وعدم القدرة على استخدام كل في مجاله.

وقضية السنن بمعنى القوانين المطردة والثابتة ، التي تحكم حركة الحياة والأحياء ، وتحكم حركة التاريخ ، وتتحكم بالدورات الحضارية ، بما يمكن أن نسميه سنن التداول الحضاري ، استيحاء من قوله تعالى (وتلك الأيام نداولها بين الناس )(آل عمران:140) والتي تعتبر معرفتها شرطاً أساسياً للتبصر بالعواقب ، وتؤهل معرفتها إلى تسخيرها والتمكن من الإنجاز والإبداع الحضاري ، لا يتأتى إلا من السير في الأرض ، الذي فرضه الله على المسلم بقوله: (قل سيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة الذين من قبل. .)(الروم:30).

هذا السير وهذا الاستقراء ، الذي يحقق الاعتبار لأولي الأبصار ، لم يأخذ بعد البعد المطلوب في العقل المسلم المعاصر، وعلى الرغم مما قيل حتى الآن من تعريف للسنن وأهمية إدراكها، وضرورة التعامل معها، إلا أن رصيدنا لم يخرج في ذلك عن بدايات ونظرات لم تتجاوز إلى الكنه ، ولم تتسع لتشكل مجرى ثقافياً عاماًَ في الأمة ، وإنما بقيت في إطار بعض المفكرين ، والمتأملين ، الذين يمكن اعتبارهم رواد الاستطلاع والاستشراف على الرغم من أن القرآن حض على ذلك في أكثر من موضع.

لقد كان جيل القرون الأولى يتعامل مع السنن بشكل عملي وتلقائي ، لأنهم فقهوا الوحي ، أما نحن فلم نزل نبحث فيها ، وننظر في مدى أهميتها ، وإن كان الاهتمام بالموضوع بدأت تتسع مساحته في إطار الفكر والعقل الإسلامي في السنوات الأخيرة ، على الرغم من اقتصار الأمر في معظم الأحيان على الحديث عن أهمية الموضوع وضرورته في إعادة تشكيل العقل وتصميم الذهنية الإسلامية ، التي لا تزال تعاني من التخلف ، بسبب الغفلة عن السير في الأرض والكشف عن سنن الله في الأنفس والآفاق ، وأهمية ذلك في معرفة قيام المجتمعات وسقوط ونهوض الأمم.

وبالإمكان القول: بأننا إلى الآن لا نمتلك الرصيد الفكري المأمول في هذا الموضوع ، الذي تنبه له بعض الرواد مبكراً من مثل الأستاذ مالك بن نبي رحمه الله ، الذي حاول لفت النظر إليه بمختلف الوسائل ، إلا أن العقل المسلم المعاصر بسبب تشكيله الخاص لم يتح له أن يأخذ حقه من نظرات مالك ، ومنبهاته الحضارية، وبقيت تلك النظرات عبارة عن بوارق ، ونوافذ تستدعي الكثير من التفكير ، والتأصيل والنظر ، حتى تتبلور، ويتم تحويل الذهنية الإسلامية من الألم والإحباط ، إلى الأمل ، ومن الأمل والأماني إلى الفعل والعمل والممارسة. ذلك أن الرؤية القرآنية ، والتوجيهات النبوية ، تؤكدان أن هناك قوانين وسنناً ، تحكم حركة التاريخ، والاجتماع البشري، لا تتخلف ولا تحابي أحداً، ولولا ذلك لما كان في الدعوة للسير في الأرض، والتبصر بالعواقب، والمآلات ، التي انتهت إليها التجمعات البشرية أي معنى أو مردود ، خاصة وأننا نحن المسلمين ، نخضع للقوانين نفسها ، حيث لا يكفي النظر في النتائج ، كما هي حالنا اليوم ، بل لابد من النظر في المقدمات والأسباب التي انتجتها ، حتى يتمكن المسلمون من التحكم بها ، وأخذ الحذر من الوقوع فيها ، وحتى لا ينتهوا النهاية نفسها ، فالمقدمات نملكها ، والنتائج تملكنا ، وقد تكون إحدى آفات العقل المسلم اليوم أننا ندع ما نملكه إلى ما يملكنا.

ولا شك أن معطيات الوحي ، في الكتاب والسنة تضمنت خلاصة السنن التي تحكم الحياة والأحياء ، بما عرضت له من القصص القرآني ، عن نهوض الأمم والحضارات وسقوطها ، وربط الأسباب بالمسببات ، والمقدمات بالنتائج ، بشكل أشبه ما يكون بالمعادلات الرياضية ، التي تحكم عالم المادة ، ليعتبر أولوا الأبصار.

وهنا قضية أخرى لابد من لفت النظر إليها أيضاً : وهي أن الدعوة للسير في الأرض ، التي حث عليها القرآن، إنما هي في الحقيقة للاستدلال والتأكد من فاعلية السنن، التي قررها القرآن، وعدم تخلفها، من جانب، والامتداد والاكتشاف لسنن أخرى بالاستقراء والملاحظة ، وديمومة النظر العقلي ، من جانب آخر ، وإلا فما قيمة القصص القرآني الخالد ، إذا لم يشكل عقلاً مدركاً للقوانين والسنن ، التي تحكم التجمع الإنساني ، وتتحكم بقيام وسقوط الحضارات، هي حكايات لتزجية الوقت أسقطها الزمن وطواها التاريخ؟!

وقد يكون المطلوب اليوم ، أكثر من أي وقت مضى ، في مجال الدراسات الإنسانية التي بلغت عند غيرنا شأواً بعيداً ، أن نتوجه صوب فقه القصص القرآني ، بالقدر نفسه الذي توجهنا به نحو آيات الأحكام، واستنبطنا منها هذه الكنوز العظيمة في مجال التشريع ، لنكتشف فقهاً حضارياً في إطار علوم الإنسان، والقوانين الاجتماعية ، التي تحكم مسيرة الحياة والأحياء ، والتي تخلفنا فيها إلى درجة لا نحسد عليها.

لكن إلى أي مدى يمكننا القول: بأن السنن التي تحكم النفس والمجتمع هي بنفس الدقة والصرامة التي تخضع لها المادة الصماء ، التي لا خيار لها ، كما يخضع لها الحيوان الأعجم المدفوع بالغريزة ، والجانب المادي في الإنسان نفسه ، وإلى أي مدى يمكن أن تتحكم بالإنسان الحر المختار ، الذي يخضع في مسالكه وحركته لكثير من الظروف والتغييرات والمؤثرات؟

فالإنسان والواقع الإنسان ، يختلف في طبيعته عن الواقع الكوني المادي من حيث صرامة السنن والقوانين ، التي تحكم سيرورته ، ولذلك يمكن القول : بأن كشف القوانين والسنن ، التي تحكم المادة الصماء والكون المادي ، تثمر المعرفة اليقينية ، وعلى ضوئها يتعامل الإنسان مع الكون في جهوده التي يبذلها في تسخيره لمصلحته ، لكن الإنسان ، والواقع الإنساني ، ليس منضبطاً كواقع المادة ، فالعنصر الروحي في تكوين الإنسان ، والإرادة الحرة ، جعلا هذا الواقع يتصف بكثير من الخفاء والغموض في العوامل والأسباب ، التي تنشأ عنها الظواهر السلوكية ، الأمر الذي يجعله عصياً عن الفهم اليقيني ، والاطراد الصارم ، خاصة وأن الإنسان هو أداة التحليل ومحله في وقت واحد ، بينما في إطار المادة والكون ، فالإنسان هو أداة التحليل ، أما المحل فشيء آخر منفصل عنه.

وهذا لا يعني أن حركة الإنسان ، ونهوض وسقوط الحضارات ، تسير بشكل عشوائي عبثي ، خالية من كل قانون ثابت ، بل هي محكومة بقوانين عامة تحكم توجهاتها ومساراتها العامة ، ولو قبلنا جدلاً أن خصائص وصفات المادة والحيوان الأعجم ، يمكن أن تنطبق على الإنسان لأفقدنا الإنسان الكثير من حرية الحركة والاختيار ، ووقعنا بلون من القدرية الرهيبة ، التي تلغي إنسانية الإنسان ، وعقله ومسؤوليته ، وتمنعه من القدرة على المداخلة والتحكم ، وهو أهم ما امتاز به .. لذلك نرى أن الاعتقاد بأن معرفة السنن يحسم قضايا الاختلاف في الاجتهاد والتنوع والاختلاف في وجهات النظر ويؤدي إلى وحدة النظر ، فيه الكثير من المجازفة والتجاوز والتداخل بين المنهج القياسي والمنهج الاستقرائي.

من جانب آخر ، فإن نفاذ السنن ، والتحول الاجتماعي والإنساني الذي يخضع لها يتم ببطء شديد ، وعمر مديد ، قد يستغرق حياة الإنسان ، لذلك يكون من الصعوبة بمكان رصد مساراته ، والتعرف على اتجاهاته بدقة في الواقع المشهود.

فالنظر إلى موضوع السنن ، التي تحكم الأنفس والآفاق ، من خلال بعض الجزئيات في الحاضر التي قد تبدو عصية عن الانسلاك في نطاق السنة ، وخارجة عن الاطراد ، بل ومناقضة لحقيقة ، ومعادلة اجتماعية ثابتة ، أو النظر إلى ذلك من خلال مدى زمني أقل من العمر المطلوب الذي يقتضيه التفاعل الاجتماعي ، بمعنى غياب سنة الأجل المفترض للتغيير الاجتماعي عن أدوات الدراسة ، قد يؤدي إلى لون من الضلال في الرؤية ، واضطراب في الموازين ، وإنكار لموضوع السنن أصلاً ، والانتهاء إلى لون من العبثية والوجودية المدمرة.

من هنا نقول: إن الكشف عن السنن التي تحكم الحركة الاجتماعية لا يتأتى إلا من السير في الأرض ، واستقراء التاريخ ، والتعرف على القوانين التي حكمت حركة البشر ، للإفادة منها للحاضر والمستقبل ، فالحاضر على كل حال ، ليس محلاً كافياً للقراءة والاستقراء.

فقد يكون الحاضر نتيجة لمقدمة في الماضي ، وقد يكون مقدمة لنتيجة لا تظهر إلا في المستقبل ، فاستقراء الحاضر وكشف السنن التي تحكم حركته، لا يكون دقيقاً إلا باستصحاب الماضي وما يعطي من حقائق ثابتة لا يمكن أن يخرج عنها الحاضر .. فالإفادة للحاضر إنما تتحقق بالقدرة على قراءته من خلال وضعه في موقعه المناسب من الحركة التاريخية.

بينما يمكننا أن نلمح حدوث التفاعل في المجال المادي ، واطراد القانون ، في زمن قد لا يعتبر شيئاً في عمر الفرد بعد انقضاء رحلة الاستكشاف التي قد تطول وقد تقصر.

ولعل من الرحمة بالإنسان ، والتكريم له ، أن تكون السنن والقوانين ، التي تحكم حركته ، ملامح وتوجهات عامة ، وبذلك تتضاءل الأخطاء ويمكن تجنبها ، وتكون ساحة التفاعل والانفعال والحرية أوسع مدى ، ولعلنا نستطيع أن نقول : بأن السنن في مجال المادة والكون هي أشبه ما تكون بقضبان الحديد التي يسير عليها القطار وتحكم وجهته بصرامة ، حيث لا يستطيع أن يعدل عنها أو يخرج عليها ، فإذا حاد عنها تعرض للخطر ، بينما السنن التي تحكم قضايا الإنسان هي أقرب لحركة السيارة التي تحدد الاتجاه والهدف، ويمتلك السائق معها حرية الحركة أكثر في الوصول إلى غايته ، وكل محكوم باتجاه ، وإن اختلفت طبيعة ومدى حركته .

لذلك نرى علماء وفلاسفة الاجتماع والحضارة ، الذين حاولوا وضع قوانين وسنناً للدورات الحضارية وأسباباً للبناء الحضاري ، لم يتمكنوا من الوصول إلى الحتمية على الرغم من أن دراساتهم ذات قيمة علمية رفيعة ، إلا أنها لم تتسم بالصرامة والدقة التي خططت للمادة الصماء ، ولا نزال نسمع بالتفسير المادي ، والنفسي والسياسي ، والاقتصادي ، والمذهبي ، والقومي ، والقبلي ، والديني .. للتاريخ ، والتاريخ ثمرة لذلك كله وإن تفوق بعض العوامل في بعض الظروف .. ونستطيع أن نقول باطمئنان : بأن سننهم وقوانينهم وحساباتهم لم تنطبق تماماً على الحضارة الإسلامية ، التي كانت ولا تزال عصية على تلك القوانين بشكل صارم ، وإن خضعت لها في بعض الجوانب.

إن السقوط المريع للبناء الشيوعي في الاتحاد السوفيتي ودول أوروبا الشرقية ، دليل جديد بعد تجربة أكثر من نصف قرن ، على سقوط الحتميات وقوانينها التي حاول فلاسفتها أن يخضعوا البشر لها كما أخضعت المادة.

ونحن هنا ، لا نريد أن نهون من الكسب البشري في كشف السنن في مجال العلوم والدراسات الاجتماعية ، وإنما الذي نريد أن نبينه : أن تطبيق قوانين المادة الصماء على الإنسان الحر المختار المكلف المسؤول ، بنفس الصرامة واليقينية ، فيه القليل من الصواب ، والكثير من المجازفة ، وذلك لخضوع الإنسان للعديد من الرغبات والأهواء والمؤثرات والانفعالات والحالات النفسية المعقدة ، التي يمر بها ، ولأن الإنسان أداة الكشف والتحليل ومحله ، كما أسلفنا ، فليس موضوع الدراسة شيئاً خارجاً عنه ، فهو الأداة ، وهو المحل ، ومن هنا يحق لنا أن نفخر نحن المسلمين أن السنن الأساسية التي تحكم الحياة والأحياء عندنا يقينية، لأنها ليس من وضع الإنسان ، إنما نستمدها من الوحي ، من علم الله الذي لا يخطيء ، وأقداره النافذة ، وقد بسطها القرآن وبينتها السنة ، وأن ما طلب إلينا من السير في الأرض ، إنما هو وسائل إيضاح معينة على الفهم والإدراك ، لأحقية وصواب ويقينية السنن .

إن المميزات التي اختصت بها الأمة المسلمة تؤكد على أن السنن التي تحكم الحياة والأحياء لا تتصف بالصرامة واليقينية التي تخضع لها المادة وحتى الجانب المادي في الإنسان أيضاً . نلمح ذلك في :

- مواثيق الله وما وعد به الرسول صلى الله عليه وسلم من أن تسليط الأعداء على الأمة المسلمة ليس تسليط استئصال ، وأن إصابتهم للمسلمين وإضرارهم بهم ، ما هو إلا أذى ، وليس إنهاءاً لهم ، لأنهم أمة الرسالة الخالدة ، والخاتمة ، والشواهد التاريخية دليل ذلك .. فالأمة المسلمة تمرض وتضعف ، لكنها تستعصي على الموت الذي لحق بالكثير من الحضارات السابقة لها واللاحقة عليها .

- وأن الأمة المسلمة لا تجتمع على الخطأ والضلالة ، فلا تزال عصمة الأمة بعمومها قائمة ومستمرة ، حتى يرث الله الأرض ومن عليها .

- وأن هناك طائفة من الأمة لا تزال قائمة على الحق تحرسه ، وتحول دون الانحراف عنه ، وتضمن سلامة التواصل الثقافي بين الأجيال ، لا يضرها من يخالفها حتى يوم الدين ، والتي تشكل خميرة النهوض والإمكان الحضاري في كل حين .

- وأن العشرين الصابرين من المؤمنين المقاتلين يغلبون مائتين ، وذلك حتى بعد التخفيف .

- وأن الاستمساك بالإيمان واق من آثار الهزيمة ، وما تورثه من الوهن والحزن ، وداع إلى الاستعلاء وعدم السقوط ، والمعاودة للشهود الحضاري بعد الانكسار ، إلى جانب عدم انطباق قانون الدورات الحضارية الذي انتهى إليه علماء التاريخ والحضارة والاجتماع ، على الأمة المسلمة .. وهذه القضية يمكن أن نعتبرها من خصائص أمة الرسالة الخاتمة ، ومواثيق الله لها ، مهما حاولنا الحديث عن توفر أو تخلف الشروط والظروف .

نعاود القول : إن الاجتماع البشري لاشك أنه يخضع لسنن قد عرض لها القرآن ، وأكدها من خلال تاريخ البشرية الطويل ، في القصص القرآني والبيان النبوي ، وأن الله لم يخلق الناس عبثاً ، وأن من يعمل سوءاً يجز به ، وأن الإنجاز والإبداع والشهود الحضاري له شروطه ومقدماته وأسبابه وفروضه ، وهو ليس عبارة عن أماني (ليس بأمانيكم ولا أماني أهل الكتاب من يعمل سوءاً يُجْزَ به ولا يجد له من دون الله ولياً ولا نصيراً )(النساء:123) .. هذا قانون الله ، لكن المشكلة أن نقول : بانطباق قوانين المادة الصماء على الإنسان المختار ، وهذا لا يعني أن حركة الإنسان خلو من القانون والنظام ، وإنما يعني أن المعيار هنا عند الإنسان غيره عند وسائل الإنسان المادية .

وأخشى ما نخشاه - ونحن نطرح موضوع سنن الله في الأنفس والآفاق من خلال ضغوط العجز والتخلف الداخلي التي يعاني منها العقل المسلم اليوم ، والتحدي ، والاستفزاز المادي الخارجي - أن تغيب عنا النظرة المتوازنة ، وهي : إدراك العلاقة بين البعد الإيماني والغيبي ، والسنن التي تحكم عالم الشهادة ، ودور البعد الإيماني في الهداية إلى هذه السنن ، والتفاعل الذي يحدثه الإيمان بين هداية السماء واستجابة الأرض لتحقيق الشهود الحضاري ، وربط نتائج ذلك بقضية الإيمان .. إن اكتشاف انتظام هذه القوانين , وعملها يقود إلى الإيمان بالله ، والاستدلال بالأمور المادية والسنن الكونية على الأمور النفسية والإيمانية .

ودور الإيمان في التنبه لهذه السنن ، وإعمالها ، وما يهب الإيمان والتقوى الفرد المسلم من استعدادات تدفعه إلى الإنجاز ، ولا تقعد به عاطلاً عن التعامل معها .

نقصد أن العلاقة بين البعد الإيماني والإنجاز الحضاري ، تحتاج إلى مزيد من النظر والتأمل .. لذلك رأينا بعض المدارس الحديثة التي كانت تتعامل مع المادة فقط ، تراجعت لتقرر : أنه لابد من إعادة صياغة المعادلة النفسية والاجتماعية للأمة ، حتى تصبح قابلة للتطور والإنجاز التكنولوجي ، لأن التكنولوجيا تأتي ثمرة لفلسلفة ، وعقيدة ، ومعادلة نفسية معينة ، وبالتالي فلا يمكن أن تتطور في مجتمع عقيدته تغاير أو تختلف عن مجتمع نشوئها ..

لقد ربط القرآن كثيراً من النتائج المتحصلة من إعمال هذه السنن بالتقوى .. فمثلاً : ربط بين التقوى وما تؤدي إليه من بصيرة في النظر للأمور ، والحكم عليها بالحق والباطل ، والصواب والخطأ .. يقول تعالى: (يأيها الذين آمنو إن تتقوا الله يجعل لكم فرقاناً )(الأنفال:29) .

وهناك ارتباط بين الإيمان والتقوى ، وبين اكتشاف سنن التسخير وزيادة الرزق: (ولو أن أهل القرى ءامنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض )( الأعراف : 96 ) .

وهناك ربط بين الإيمان والصبر الإيجابي وبين تجاوز المحن: (ولنبلوَّنكم بشيء من الخوف والجوع ونقص من الأموال والأنفس والثمرات وبشر الصابرين )(البقرة:155) .

وربط أيضاً بين الاستغفار والتوبة وبين نزول المطر وتحقق الخير ..

وهناك ربط بين الانتصار في ميدان المبادئ ، والانتصار على الشهوات وبين الانتصار على العدو .

وهناك أيضاً الربط بين الظلم الاجتماعي ومنع الفقراء حقوقهم ، وبين فقدان الثروة ..

وهناك أيضاً الربط بين الفسق والترف ، وبين الهلاك ..

وهناك أيضاً ربط بين غياب العدل وانقراض الأمم والحضارات .

ونحن بسبيل الحديث عن سنن الله في الأنفس والآفاق ، ومدى خضوع الحياة والأحياء لها ، لابد أن نوضح أنها قدر من قدر الله سبحانه وتعالى ، فهو الذي شرعها وسنها وناط تكليف الإنسان بها ، وربط جزاءه وقيمة إنجازه بمقدار ما يكشف منها ، ويلتزم بها ، فالقيام بأمانة الاستخلاف الإنساني لا تتم إلا بالتعرف عليها ، لأن أمر تسخير الكون مرتبط إلى حد كبير بحسن إدراكها ، ذلك أن التعرف عليها لا يمنح الإنسان القدرة على تسخير الكون فحسب ، وإنما يمنحه قدرا كبيراً من التحكم بالنتائج ، والتخفيف من الآثار السلبية ومغالبة قدر بقدر ، والفرار من قدر إلى قدر ، وفي ذلك انفساح هائل أمام طاقات الإنسان غير المتناهية ، وتحكم في الكون الذي خلق الله الإنسان سيداً له ، وجعله محل تسخيره .

والسنن التي تحكم الكون والحياة قدر من قدر الله تعالى كما أسلفنا والتعرف عليها والانضباط بمقتضياتها هو حقيقة التكليف ، وحقيقة الإيمان ، والتوكل ، وهي مظهر من مظاهر العدل الإلهي المطلق ، حيث لا يصح غير ذلك على الله سبحانه وتعالى ، فكيف يصح عدلاً أن يعطى من لا يعمل ، ويحرم من يعمل ، وكيف يمكن للإنسان أن يستجيب لأمر الله ، دون معالم هادية ، وأسباب موصلة إلى النتائج ؟

ويمكننا أن نقول : إن الانحسار الحضاري ، الذي يعاني منه المسلمون اليوم كان بسبب العدول عن الانضباط والانسلاك بالسنن ، التي شرعها الله للشهود الحضاري (الشهادة على الناس والقيادة لهم): ونخشى أن نقول : إن بعض علل الأمم السابقة التي حذرنا الله منها ، والتي كانت سبب انحسارهم الحضاري تسربت إلى المسلمين ، في عصور التخلف والانسلاخ عن الدين ، وهي ما يمكن أن نعبر عنه بالغزو الفكري في المجال الديني : من عدم الاعتقاد بثبات السنن ، والتوهم بأن الاعتقاد أن الأسباب توصل إلى النتائج يتعارض مع الإيمان بقدرة الله الذي شرع الأسباب وقدر أن تكون موصلة للنتائج ، ويناقض التوكل ، ويتعارض مع قدر الله ، فكان العدول عن كشف السنن ، هو الذي أورثنا الاستنقاع الحضاري، الذي نعاني منه ونظن أننا أكثر إيماناً ويقيناً ، كما فعل رجال الكنيسة ، فأوقفوا عجلة الحضارة والتقدم العلمي .

وقد تكون المشكلة أو بعض جوانبها ، في الخلط بين السنن الجارية التي تتطلب فعل مقدمات تحكمها نتائج، وبين السنن الخارقة التي لا تخضع للمقدمات والنتائج ، ومن ثم الاستشهاد بالآيات التي غالباً ما تنصرف إلى السنن الخارقة ، في مجال السنن الجارية ، وبذلك خروج عن المنهج ، وضياع عن السنن الجارية والخارقة معاً .

ويتفرع عن هذا أيضاً: ضرورة مراجعة وتحديد مصطلح الغيب الذي ورد ذكره في الكتاب والسنة وهو ما اختص الله بعلمه ، فقد يطلق الغيب ويراد به الماضي (ذلك من أنباء الغيب) ، وقد يطلق على الأمر الغائب عن ساحة المشاهدة ، وقد يطلق على المستقبل في عالم الشهادة نفسه ، وقد يطلق على العالم الآخر (ما بعد الموت)، وهذا التحديد يمنحنا فرصة ومدى أكثر رحابة لجولات العقل ، وكشفه ، ومساحاته ، ويجعلنا أكثر اطمئناناً عندما نحاول رصد المقدمات والأسباب في الحاضر ، والتنبؤ بالنتائج في المستقبل أننا لا نقترف إثماً ، ولا نرجم بالغيب ، ولا نتدخل بعلم الله الخاص به سبحانه .

وعلى الرغم من أن الغيب ، بمعنى العالم الآخر ، له سننه وقوانينه ، وطبيعته المختلفة ، وأن مصدر معرفته هو الوحي فقط ، ودور العقل هو فهم الوحي دون الاستقلال بالنظر ، إلا أن مفهوماته العامة ، كما جاء بها الوحي ، لا تخرج عن المعقولية من ربط الأسباب بالمسببات ، والعلة بالمعلول ، والمقدمات بالنتائج ، لأنه منطق العدل الإلهي ، كما أسلفنا .. فالدنيا كلها أو عالم الشهادة ، مقدمة ومزرعة للعالم الآخر ، وواقع المؤمن في الآخرة مرهون بما يقدم في الدنيا ، وما يفعله في الدنيا بدافع ما يأمل في الآخرة من نتائج على عمله .

فالمؤمن يشعر أن عمله واختياره وإنجازه في الدنيا له دور كبير في تحديد مستقبله ومصيره في الآخرة .

ألا يحق لنا بعد هذا، أن نستغرب عزوف المسلمين عن دراسات المستقبل من خلال التعرف على السنن وملاحظة اطرادها، والمستقبل عندهم لا تحده الدنيا ! وتغيب عنهم عمليات التخطيط واستشراف المستقبل بعد أن أصبح علماً له مقوماته واختصاصاته!؟

لقد ربط الإسلام إمكانية الإنجاز بمعرفة الأسباب ، وكشف السنن ، التي تحكم الكون وعالم الحياة والأحياء ، وقدم القرآن ذو القرنين ) أنموذجاً متجسداً لربط الأسباب بالمسببات ، والمقدمات بالنتائج ، واعتبر ذلك مقدمة لابد منها للنهوض والإنجاز الحضاري ، وبذلك لم يكتف القرآن بتأكيد موضوع السنن نظرياً.

فذو القرنين الذي آتاه الله من كل شئ سبباً فأتبع سبباً، وكان له التمكين في الأرض لأنه عرف السنن وانضبط بها: سار في الأرض وكانت مساحة رحلته من مشرق الشمس إلى مغربها ، وتعرف من خلال هذا السير إلى أسباب العجز الحضاري ، والتحديات والمعاناة التي تواجه البشر، وأيقن بضرورة توفير الظروف والشروط التي تكسبهم المنعة ، فكان أشبه بالمهندس الذي عرف أسباب التردي ، ووسائل التمكين، في الأرض ، ووضع الخطط ، وأشرط الأيدي العاملة ، واستحضر المواد المطلوبة لإتمام عملية الإنجاز .. وقد تكون العودة إلى النص القرآني والوقوف أمام هذا الأنموذج بدون حواجز ، أدعى إلى التأمل المطلوب: قال تعالى: (ويسألونك عن ذي القرنين قل سأتلوا عليكم منه ذكراً إنا مكنا له في الأرض وآتيناه من كل شئٍ سبباً * فأتبع سبباً * حتى إذا بلغ مغرب الشمس وجدها تغرب في عين حمئة ووجد عندها قوماً قلنا ياذا القرنين إما أن تعذب وإما أن تتخذ فيهم حسناً * قال أما من ظلم فسوف نعذبه ثم يرد إلى ربه فيعذبه عذاباً نكراً ، وأما من آمن وعمل صالحاً فله جزاءً الحسنى * وسنقول له من أمرنا يسراً * ثم اتبع سبباً * حتى إذا بلغ مطلع الشمس وجدها تطلع على قوم لم نجعل لهم من دونها ستراً كذلك وقد أحطنا بما لديه خبراً * ثم أتبع سبباً حتى إذا بلغ بين السدين وجد من دونهما قوماً لا يكادون يفقهون قولاً قالوا ياذا القرنين إن يأجوج ومأجوج مفسدون في الأرض فهل نجعل لك خرجاً على أن تجعل بيننا وبينهم سداً قال ما مكني فيه ربي خير فأعينوني بقوة أدعل بينكم وبينهم ردماً * آتوني زبر الحديد حتى إذا ساوى بين الصدفين قال انفخوا حتى إذا جعله ناراً قال آتوني أفرغ عليه فطراً * فما استطاعوا أن يظهروه وما استطاعوا له نقباً )(الكهف: 83-97).

وبعد : فهذا الكتاب الذي نقدمه اليوم ، للأخ الدكتور أحمد محمد كنعان ، لاشك أنه يعتبر محاولة متقدمة في هذا المجال ، تفتح الأبواب والنوافذ لمزيد من الدراسات والبحوث في هذا الموقع الحيوي الهام والغائب بالنسبة لاستئناف المسملين دورهم الحضاري ، ومعالجة حالة الركود والانحسار ، التي يعيشونها .

ويمكن أن نقول : بأن الكتاب مساهمة طيبة وإن كان لا يخلو من بعض الاجتهادات التي لا تزال تستدعي الكثير من الحوار والنقاش والتفكير والتأصيل.

وحسبنا في هذا الكتاب أنه يستدعي موضوع سنة الله في الخلق إلى ساحة اهتمام العقل المسلم بعد هذا الغياب الطويل ، ليبدأ رحلة التفتيش عن مواطن الخلل ، ويدرك أسباب القصور ، فيستدركها ، ويصوب المسيرة، ويمارس عمليات النقد والمراجعة والتقويم في ضوء تلك المقاييس السننية التي لا يمكن أن تتم أية عملية مراجعة دقيقة بدون إبصارها ، والتي لا تزال غائبة بشكل أو بآخر عن ساحة الفكر والعمل الإسلامي، والله من وراء القصد

=============

# المقدمة

إن الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله . وبعد:

فإن المرض سنة من السنن التي فطر الله عليها أمور خلقه..

يصيب الإنسان فيعطله عن القيام بشؤونه ، وقد يتفاقم فينتهي به إلى الموت .. وكذلك هي حال الأمم . فإنها جميعاً تخضع لسنة المرض ، كما يخضع الأفراد ، وتؤكد لنا أحداث التاريخ أن الأمة الإسلامية لم تكن استثناء من هذه السنة الإلهية المطردة ، فقد تعاقبت عليها أمراض شتى على مدار تاريخها الحافل بالأحداث الجسام ، ولكنها كانت في كل مرة تواجه المرض بنفس مطمئنة ، وعزم لا يلين ، وتوكل على الله عز وجل ، لا يدانيه ريبة ، ولا عجز ، ولا كسل .. وما هو إلا قليل حتى تقوم من وعكتها ، وتنطلق من جديد لإتمام واجبها الجليل ، الذي ناطه بها رب العزة سبحانه ، وهو واجب الشهادة على البشرية (وكذلك جعلناكم أمة وسطاً لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيداً )(البقرة:143) .

لقد كان هذا هو حال أمتنا الإسلامية في مواجهة ما ألم بها من أمراض على مدى القرون الماضية ، إذ لم يكن المرض غير مرحلة عابرة في حياتها ، لا تلبث بعده أن تقوم إلى أداء واجب الشهادة .

والشهادة على الناس ..

ليست مجرد ( فرجة ) أو تسلية .

بل هي : فعل وقرار ..

فعل .. يبتغي تبليغ رسالة التوحيد للبشرية ، كل البشرية . وقرار .. يتضمن معنى القوامة على البشرية ، فهذه الأمة التي اختارها الله عز وجل لتكون (خير أمة أخرجت للناس) من واجبها -وقد خصها ربها بهذا التكريم- أن تكون ( الراعية ) في بيت البشرية الكبير .. تبين للناس الحق ، وتأطرهم عليه أطراً ، وتبين لهم الباطل ، فتصدهم عنه صداً ، فهذا هو السبيل لكي يستقيم أمر الدنيا ، وتعيش البشرية الحياة الكريمة ، التي أرادها لها خالقها .. سبحانه ..

واليوم .. نرى هذه الأمة التي يفترض فيها أن تكون ( الشاهدة ) وقد حقت عليها سنة المرض ، وسرى في أوصالها الوهن ، الذي لم يكن بطبيعة الحال وليد الحاضر وحده ، بل كان نتاج عصور متطاولة من المحن والرزايا والبلايا والخطوب .. مما جعل هذه الأمة تعيش اليوم على هامش الأحداث ، وقد خرج القرار من بين يديها ، وأصبح في أيدي ( الآخرين ) الذين راحوا يخططون ويدبرون ويكيدون !

وقد كان من نتيجة هذا الوضع المقلوب أن تخلفنا عن ركب الحضارة أشواطاً بعيدة ، ليس في ميدان واحد من ميادين العلم أو السياسة أو الاقتصاد ، بل في تلك الميادين جميعاً ، بما فيها ميدان الإيمان نفسه ، فأمسينا في الغالب مسلمين بالعنوان فحسب ، وأما المضمون فذلك شأن آخر !

نحن مسلمون .. هذا صحيح إن كان الإسلام مجرد نطق بالشهادتين ، وبضع ركعات في اليوم والليلة ، وصوم أيام من كل عام ..

لكن الحقيقة غير هذا .. فالإسلام ليس مجرد شعائر تعبدية تؤدى في دقائق معدودات ، وإنما الإسلام حياة متكاملة يتجه كل نشاط فيها إلى بارئ الكون سبحانه ، لا دقائق معدودات ، بل العمر جميعه ، بكل أيامه وساعاته وثوانيه .. وصدق الله العظيم الذي يبين لنا هذه الحقيقة ناصعة في محكم التنزيل ( وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون )(الذاريات:56) . وحين تعود حياتنا عبادة خالصة لله وحده ، حينئذ يمكن أن نستعيد مكاننا تحت الشمس ، وأن يعود القرار في أيدينا ، وأن نعود كما كنا في يوم من الأيام شهداء على الناس.

وهنا يبرز السؤال المرير .. كيف السبيل إلى ذلك ؟ هذا السؤال الذي لا أشك أنه يتبادر إلى أذهاننا جميعاً..

وأقول: إن الجواب الذي لا يكاد يختلف عليه اليوم مسلمان هو (العودة الصادقة إلى نبع الإسلام الصافي) غير أن هذا الجواب - للأسف - لا يكاد يقدم أو يؤخر في حل المشكلة لأنه جواب فضفاض .. عام .. شامل .. لا يبين لنا : كيف تكون البداية ؟ ولا كيف نتابع المسير ؟

وأرى في هذا المقام - كما قرر من قبل معظم المهتمين بالمشكلة - أني لا أملك الآن جواباً وافياً شافياً عن هذه التساؤلات ، غير أنني من خلال معايشتي الطويلة للعمل الإسلامي، وبخاصة في السنوات القليلة الماضية ، التي شهدت ما اصطلح على تسميته (الصحوة الإسلامية) أستطيع أن أجزم بأن العمل الإسلامي ما يزال يفتقد إلى المنهج الواضح ، الذي يقوم على تحليل دقيق للمشكلة ، وتحديد موضوعي للأسباب والعوامل ، التي أدت إليها ..

ومن هنا انطلقت فكرة هذا الكتاب ، الذي يعد بمثابة محاولة للبحث عن الأسباب والعوامل ، فالبحث عن الأسباب والعوامل التي تقف وراء تخلفنا الحضاري ، يعد مرحلة لا محيص عنها ، قبل التفكير بوضع الخطط والبرامج ، التي تبتغي الإقلاع نحو مستقبل جديد .

والحق .. إن هذا الكتاب ليس إلا إضافة للأبحاث والدراسات التي سبقته إلى تناول الأزمة الحضارية ، التي تعيشها اليوم أمتنا الإسلامية في مشارق الأرض ومغاربها ، ولعلي أتذكر هنا على وجه الخصوص تلك الأعمال القيمة التي قدمها للمكتبة المفكر الأستاذ (مالك بن نبي) تحت عنوان (مشكلات الحضارة) ، فقد أبدع مالك رحمه الله في تحليل أسباب أزمتنا الحضارية ، من خلال رؤية متميزة للسنن التي تحكمها ، فساهم بذلك في تصحيح النظرة للأزمة ، حيث قدمها للناس بصيغة قوانين قابلة للفهم، ومن ثم قابلة للتسخير في حل هذه الأزمة .

كما أشير في هذا المقام إلى السلسلة التي قدمها المفكر الأستاذ ( جودت سعيد ) (2) تحت عنوان ( أبحاث في سنن تغيير النفس والمجتمع ) والتي تعد بحق إضافة طيبة في هذا المجال .

إلى جانب عدد كبير من الدراسات والأبحاث التي ظهرت في غضون السنوات القليلة الماضية في ساحة الفكر الإسلامي ، وكان لكل منها فضل في إلقاء المزيد من الأضواء على جوانب الأزمة المتعددة .

وقد شعرت من خلال مطالعتي لتلك الأعمال القيمة أنها - على تفاوت بينها - قد أولت موضوع ( سنة الله في الخلق ) اهتماماً خاصاً ، على أساس أن التعامل مع الكون المحيط بنا لا يتم بصورة صحيحة إلا بعد فهم السنن الربانية ، التي جعلها الله عز وجل أبواباً للتعامل مع موجودات هذا العالم .

لكن الملاحظ أن تلك الأعمال التي تحدثت عن ( السنن ) قد انصرفت في الغالب لبيان مدى تقصير المسلمين في كشف ودراسة هذه السنن ، دون التفصيل في طبيعة هذه السنن ، وخصائصها ، وعلاقتها بالجهد البشري ، وقد وجدت ضرورة هذا التفصيل ، حتى نعرف كيفية الوصول إلى تسخير السنن ، وهو غاية دراستنا لها .. وربما كانت الإضافة الحقيقية في هذا الكتاب أنه يقدم دراسة تفصيلية لطبيعة السنن الربانية ، التي تحكم كل صغيرة وكبيرة في هذا الوجود ، وهو ما لم تتعرض له الدراسات السابقة إلا بصورة عابرة في الغالب .

وقد قسمت الكتاب إلى : مدخل ، وثلاثة فصول ..

* فأما ( المدخل ) فقد ناقشت فيه العلاقة العضوية التي تربط ما بين الجهد البشري ، وبين السنن ، التي فطر الله عليها أمور خلقه ، وبينت كيف أن الجهد البشري لا يمكن أن يكتب له النجاح إلا بفهم السنن المتعلقة به ، ومعرفة كيفية تسخيرها .

* وفي ( الفصل الأول ) عرضت أسباب اهتمامنا بالحديث عن السنن ، مع بسط دعوة القرآن الكريم والحديث النبوي الشريف للسير في الأرض ، والنظر في آيات الله (أو سننه) للاهتداء بها في التعامل مع مخلوقات الله التي تخضع جميعاً لهذه السنن.

* كما عرضت في هذا الفصل أيضاًَ خصائص السنن ، وبينت كيف أنها تمثل قوانين عامة شاملة ، تتصف بالثبات والاطراد ، ويخضع لها كل مخلوق من مخلوقات الله المادية وغير المادية ، كما تناولت بالتفصيل تلك الظروف والحالات التي يحصل فيها خرق للسنن ، أو الخروج بها عن مألوف البشر ، كما هي الحال في المعجزات والكرامات ..

* وأما ( الفصل الثاني ) فقد خصصته لمناقشة عدد من القضايا الهامة ، التي لها مساس مباشر بأزمتنا الحضارية الراهنة ، وذلك في ضوء ما بينته في الفصل السابق عن خصائص السنن .

* وفي الختام جاء (الفصل الثالث) بمثابة تلخيص للبحث ، واستخلاص لأهم النتائج التي انتهيت إليها من خلاله.

أسأل الله العلي العظيم أن يجعل في هذا العمل نفعاً وفائدة ، وأن يتقبله مني خالصاً لوجهه الكريم.

د. أحمد محمد كنعان

=============

# مدخل ( الفكرة . العمل . السُّنة )

.. بعد أن نفخ الله عز وجل من روحه في قبضة الطين ، واكتمل خلق آدم في أحسن تقويم ، أمر الله ملائكته بالسجود لهذا المخلوق ، فسجدوا .. وفي هذا الجو المهيب من التكريم الرباني ، بدأ عهد الإنسان في هذه الحياة .. ومن رحمة الله عز وجل ، أنه لم يسلم هذا المخلوق لمصيره الذي بدأ للتو ، من غير زاد كاف من المعرفة ، التي تعينه على التعايش مع العالم الذي وجد فيه ، والذي كان مجهولاً تماماً بالنسبة له .. فعلمه الأسماء (وعلم آدم الأسماء كلها ثم عرضهم على الملائكة فقال أنبؤوني بأسماء هؤلاء إن كنتم صادقين )(البقرة:31) .

* فماذا تعني تلك الأسماء التي تعلمها آدم عن ربه؟

إنها - كما يتفق معظم المفسرين - تعني نوعاً من العلم الكلي بطبيعة العالم ، الذي سيحيا فيه آدم ، وذريته من بعده .. أو هي فكرة مجملة عن العالم لكي يتمكن آدم وذريته من فهم هذا العالم ، والتعامل معه ، تعاملاً إيجابياً فعالاً ..

ويتبين لنا من هذه الإشارة القرآنية في قصة خلق آدم ، واستخلافه ، وظيفة (الأفكار) في بناء الحضارة الإنسانية .. وقد أثبتت وقائع التاريخ أن أية أمة من الأمم لابد أن تنطلق في دربها الحضاري من مجموعة من الأفكار ، التي على أساسها تشيد صرح حضارتها .

ويقدم لنا الواقع شواهد عديدة ، على أن سلوك الأفراد في مجتمع من المجتمعات ما هو إلا الترجمة العملية لما يؤمنون به من أفكار ، ولهذا السبب نجد المجتمعات تسمو ، أو تنحط ، أو تبيد ، تبعاً لطبيعة الأفكار ، التي يعتنقها أبناؤها .

.. وحسبنا للتدليل على وظيفة الأفكار في المسيرة الحضارية ، أن نذكر ، بأن معجزة الإسلام باقية على الدهر ، قد تمثلت في كتاب الله الكريم ، الذي ضم بين دفتيه مجموعة من الآيات ، التي تنطوي كل منها على فكرة أو مجموعة من الأفكار .. وقد استطاع القرآن بهذه الأفكار أن يبدل حياة العرب من حال إلى حال ، وأن يصوغ منهم أمة واحدة متآلفة ، متراحمة ، بعد أن كانوا قبائل متفرقين ، يفتك بعضهم ببعض!

لكن الملاحظة التي تستحق الانتباه هنا هي أن الفكرة لا تؤدي وظيفتها في حياة الناس بصورة تلقائية ، بل لابد لها لكي تفعل فعلها من جهد بشري مكافئ ، يترجمها إلى فعل ، فالفكرة من هذه الوجهة تشبه (الدليل) الذي ترفقه الشركات الصانعة مع الأدوات والأجهزة التي تصنعها ، وتبين فيه مواصفات كل أداة أو جهاز، وطريقة التشغيل .. وغني عن البيان أن الفائدة من هذا الدليل لا يمكن أن تتحقق بغير ترجمة التعليمات التي فيه إلى أفعال .. فإن قال لك الدليل مثلاً : ( صل الجهاز بمصدر التيار الكهربائي ) ثم لم تفعل ذلك ، فهل تتوقع أن يعمل الجهاز ، وأن ينجز المهمة المرجوة منه؟ بالطبع لا ، وكذلك الفكرة ، فهي تظل مجرد خاطر، يجول في الوجدان ، حتى يحولها الإنسان إلى فعل . ولكن مع هذا فإن اجتماع العاملين معاً ( الفكرة والفعل) لا يكفي لإخراج الفكرة إلى حيز الواقع ، بل لابد من عامل ثالث مكمل لهما ، وهو أن تكون الفكرة قابلة للتنفيذ العملي ، أو بمعنى آخر أن تكون موافقة لسنة ( قانون ) من السنن التي فطر الله عليها أمور الخلق ، فقد قدر الله في هذا الوجود لكل أمر سنة خاصة به ، لا يتم إلا من خلالها..

* ونضرب لذلك مثلاً الفكرة التي تقول : ( إن الإنسان أصبح اليوم قادراً على الانتقال ما بين أوروبا وأمريكا في غضون ساعات قليلة ) فهذه الفكرة تبدو ممكنة التحقيق من الناحية النظرية ، غير أن محاولة تحقيقها بالركوب على حصان مثلاً ، يجعلها فكرة مستحيلة التنفيذ ، لأنه ليس في وسع الحصان أن يتحرك بسرعة تكفي لقطع المسافة القصية ما بين قارتي أوروبا وأمريكا في بضع ساعات ، إضافة إلى أن البحر يفصل ما بين القارتين ، وليست السباحة من طبيعة الحصان.

* ويمكن أن نسوق بالمقابل الفكرة التي تقول : ( إن جيشاً ما يمكن أن ينتصر على جيش آخر يفوقه في العتاد والعدد عشرة أضعاف ) فهذه الفكرة تبدو من الناحية النظرية مستحيلة ، لولا أن وقائع التاريخ أثبتت حدوث مثل هذا الانتصار الباهر ، بل لقد أكد القرآن الكريم إمكانية وقوع انتصار كهذا وتكراره في صورة سنة مطردة لا تتخلف ، ولكن بشروط الآية الكريمة : (يا أيها النبي حرض المؤمنين على القتال إن يكن منكم عشرون صابرون يغلبوا مائتين وإن يكن منكم مائة يغلبوا ألفاً من الذين كفروا بأنهم قوم لا يفقهون )(الأنفال:65) .. مما يعني أن سنة انتصار الجيش على جيش أكبر منه وأقوى ممكنة التحقيق ، ولكن بعد توفير الشروط التي بينتها الآية الكريمة، وما لم تتحقق هذه الشروط فإن انتصار الجيش الضعيف يظل ضرباً من الخيال أو المستحيل .

ونلاحظ من خلال هذين المثالين اللذين سقناهما أن الفكرة ذاتها يمكن أن تبدو من الناحية النظرية واقعية أو مستحيلة ، إلى أن يجيء التنفيذ العملي الذي يقطع بواقعيتها أو باستحالتها .. مما يعني أن الجهد البشري يتطلب شروطاً ثلاثة لكي يكون جهداً ناجحاً ، وهذه الشروط هي :

(1) الفكرة ..

(2) توافق الفكرة مع سنة من السنن التي فطر الله عليها أمور الخلق ..

(3) اقتران ذلك بالعمل ..

وانطلاقاً من هذه المقدمة الموجزة ، نصل إلى تحديد معلم هام من معالم الأزمة التي تمر بها اليوم عقلية كثير من المسلمين .. هذه العقلية التي غدت طافحة بالأفكار النظرية المجردة ، ولكنها ما تزال - على الرغم من ذلك - عاجزة عن وضع هذه الأفكار موضع التنفيذ الفعلي ، أو هي ما تزال مقصرة في تسخير هذه الأفكار بطريقة واقعية ، تجعلها على أكبر قدر من الفعالية .. في حين أن أصول هذه الأفكار نفسها قد نهضت في زمن من الأزمان بأمتنا العربية ، بل وبالجنس البشري كله نهضة تفوق الخيال !

وحين ندقق النظر في أوضاع المسلمين الراهنة ، ونستقرئ الوقائع التاريخية التي انتهت بهم إلى التخلف والانحطاط ، نجد أن هذه الأمة ترجع في جزء كبير منها إلى الغموض الذي يسود فكر كثير من المسلمين حول طبيعة السنن ، وعلاقتها بالجهد البشري .. فكثير من المسلمين اليوم لا يعيرون مفهوم السنن ما يستحقه من اهتمام ، وكثير منهم لا يدركون أصلاً مفهوم ( سنة الله في الخلق ) إدراكاً صحيحاً ، فنراهم يرفضون عن وعي ، أو غير وعي علاقة ارتباط النتائج بأسبابها ، لأنهم يظنون أن القول بارتباط النتائج بأسبابها ارتباطاً ضرورياً يعني الحتمية على الله عز وجل ، ومن ثم يعني تعطيل الإرادة الإلهية !

ومن هنا كانت الأزمة ، ونعني بها نسبة النتائج إلى غير أسبابها ، وترسيخ الاعتقاد ، بأن علينا أن نعمل وليس علينا أن ننظر في النتائج ، فكان من نتيجة هذا الاعتقاد تعطيل دور ( المحاسبة ) التي تعد العين الساهرة ، التي تميز بين الخطأ والصواب ، وترشد إلى طريقة التصحيح .

وأسارع إلى القول : بأن نظام السنن ، أو ارتباط العلة بالمعلول لا يعني أنه حتمية تسري على الخالق عز وجل ، بل يعني أن حكمته سبحانه اقتضت ارتباط هذه بتلك ارتباطاً ضرورياً ، لكي يتمكن الانسان من تسخير ما في الكون في شؤون حياته المختلفة ، لأنه من غير هذا الارتباط ، يتعذر عليه القيام بأمانة الاستخلاف في الأرض .

ومما لا جدال فيه أن الحتمية في السنن لا يمكن (لا عقلاً ولا تصوراً) أن تسري على الخالق العظيم ، لأنه سبحانه هو الذي خلق الكون ، وخلق كل شيء فيه ، وقدر العلاقات المختلفة بين عناصره ومفرداته .. أي أنه سبحانه هو الذي قدر السنن على هذه الصورة البديعة المتناسقة ، وخلق أسبابها ، وقدر نتائجها ، وجعل العلاقة بين السبب والنتيجة قائمة وفق نظام مطرد ، قابل للتكرار والإعادة كلما توافرت شروطه ..

ولقد أظهر الله عز وجل من خلال تاريخ البشرية الطويل ، ومما جاء في كتابه العزيز ، وعلى لسان نبيه الأمين محمد صلى الله عليه وسلم أن خرق السنن ، والخروج بها عن مألوفها ، لا يكون أبداً إلا بمشيئة الله ، وأنه ليس في وسع أي مخلوق كان أن يتدخل في طبيعة هذه السنن ، فيغيرها ، أو يحرفها عن الطريقة التي قدرها الله عز وجل لها .

وحين ندرك -نحن المسلمين- إدراكاً عميقاً أن كل شيء في هذا الوجود خاضع لسنة لا تتبدل ولا تتحول ، ثم نحّول هذا الإدراك إلى نتاج عملي من خلال تعاملنا الواقعي مع سنن الله في الخلق .. فعندئذ نصبح - بعون الله - قادرين على تسخير الكون من حولنا ، وفق الطريقة القومية ، التي أمرنا بها رب العزة سبحانه .. وبهذا نأمل أن نخرج من أزمة تخلفنا ، التي عشنا عليها ردحاً طويلاً من الزمان ، والتي كانت في جانب كبير منها نتيجة طبيعية لغفلتنا عن العلاقة بين الجهد البشري ، وسنة الله في الخلق .. هذه الغفلة هي التي أوقعتنا في أغلال التواكل ، الذي شلنا عن الحركة الفاعلة المؤثرة في أحداث العالم!

وثمة ثمرة طيبة أخرى ، يمكن أن نجنيها من فهمنا الصحيح لعلاقة السنن بحياتنا ، ذلك أن إيماننا بأن كل أمر في هذا الوجود خاضع لسنة ، سوف يعيننا بإذن الله - على الخروج من متاهة الاختلاف والنزاع والتشتت ، لأن كشف السنة التي تحكم أمراً من الأمور ، سيجعل النظرة إلى هذا الأمر نظرة واقعية ، وينقل التعامل معه من نطاق الفرضيات والنظريات القابلة للأخذ والرد والاختلاف ، إلى آفاق العلم الذي لا جدال فيه ولا اختلاف .

كما نأمل أن يسهم فهمنا الصحيح للسنن، وتحكيم هذا الفهم بالتعامل مع الواقع في تخليص الصحوة الإسلامية المعاصرة من الاجتهادات المزاجية، التي انتشرت في صفوف بعض الجماعات ، التي لم تضع حتى الآن مفهوم السنن في حسابها ، ولم توجه بعض جهدها وفق معطيات هذه السنن ، فنراها تخرج من مأزق ، لتدخل في مأزق جديد .. وتستمر على هذه الحال قانعة بكل ما يترتب على أفعالها من نتائج ، وهي تظن أنها تحسن صنعاً! وكثيراً ما نسمع الآية الكريمة (قل إن الأمر كله لله )(آل عمران:154) تتردد بعد كل محنة، لتبدأ من جديد أحداث محنة جديدة! بينما كان بالإمكان فعل شيء أفضل من هذا لو أننا بعد الإخفاق وقفنا وقفة تأمل وتدبر ومحاسبة ، لنحدد موقع الخلل ، ونعرف السنة التي على نهجها يجب أن تضبط حركتنا .. فعندئذ يمكن أن نصل لما نريد بإذن الله ، وأن نحقق حلم الحضارة الإسلامية الذي عشنا عليه زمناً طويلاً .

من هنا كانت أهمية الحديث عن أزمتنا المعاصرة من زاوية علاقتها بالسنن التي فطر الله عليها أمور خلقه، علماً بأن هذه الزاوية ليست إلا واحدة من زوايا عديدة جداً يمكن من خلالها النظر إلى هذه الأزمة .. فمما لا ريب فيه أن أزمتنا أزمة معقدة متشابكة الفروع ، لا يستطيع أي باحث أن يدعي الإحاطة بملابساتها جميعاً.

غير أن هذه الحقيقة -على فداحتها- لا تعني عصيان الأزمة عن الحل .. فمهما اشتد الظلام، وتلبدت الغيوم، سيبقى ثمة قمر منير .. وسيبقى ثمة أمل بالفرج.

=============

# ( سنة الله في الخلق ) دواعي اهتمامنا بسنة الله في الخلق

.. تنبع أهمية بحثنا في السنن التي فطر الله عليها أمور خلقه من حقيقة أولية ، وهي أن كشف السنن ومعرفة شروطها وخصائصها ، يجعل الأمور ، التي تخضع لهذه السنن في نطاق التسخير لنا نحن البشر .. أي إن معرفتنا بالسنن تجعلنا أقدر على تسخير الكون بما فيه من حولنا ، والاستفادة من ذلك في تصريف شؤون حياتنا ، فضلاً عن تحديد مسار سلوكنا وفق ضوابط تحدد المعالم والأهداف والسبل الموصلة إليها.

ويجدر بنا أن نلاحظ هنا أن تاريخ الإنسان فوق هذه الأرض قد بدأ منذ اللحظة التي اختار فيها حمل الأمانة، ورضي استخلاف الله له في الأرض ، وأهم ما يعنيه هذا الاستخلاف منح الإنسان (القدرة العقلية) لتكون مناط المسؤولية الدنيوية والأخروية ، وبها يتمكن من استكشاف العالم ، وتمييز السنن التي تتحكم في المخلوقات المختلفة .. ومنحه كذلك (القدرة المادية) التي تمكنه من تسخير هذه المخلوقات في شؤونه وحاجاته.

ولاشك في أنه لولا تمكين الله للإنسان في الأرض بمنحه هاتين القدرتين ، لظل عاطلاً عن الفعل الحضاري، ولظل -مثله مثل أي مخلوق آخر في هذا الوجود- غير قادر على تغيير شيء من حاله ، التي وجد عليها منذ لحظة خلقه ، ولما كانت حاله بأحسن من حال العصفور الذي خلقه الله قبل ملايين السنين ، ولكنه على الرغم من هذه السنين الطويلة لم يتمكن من صنع رغيف خبز!

بينما استطاع الإنسان بالمقابل أن يسخر العصفور لخدمته ، كما سخر بقية المخلوقات ، التي وقت تحت طائلة يده ، ومنها ما هو أقوى منه وأكثر عدداً .. كما سخر كل ما وصلت إليه يده ، وكثيراً مما لم تصل إليه يده .. وقد تم له ذلك خلال سنوات قليلة من تاريخه .

فهم السنن يفتح لنا آفاقاً جديدة :

ولعله من المناسب أن نذكر هنا قصة العبد الصالح (ذي القرنين) التي حكاها القرآن الكريم ، لكي ندرك كيف يمكن أن تذلل المعرفة بالسنن الصعوبات التي تعترض حياة الإنسان ، وتفتح له آفاقاً جديدة ، لم يكن يتوقع أن يصل إليها .. فقد استطاع ذو القرنين أن يفتح مشارق الأرض ومغاربها ، وأن يحقق في حقبة قصيرة من الزمان انتصارات عسكرية ، لم يحققها فاتح آخر في تاريخ البشرية .. فما هو السر يا ترى؟ وكيف استطاع أن يحقق مثل هذه الانتصارات الباهرة؟ لنستمع إلى القرآن الكريم يقدم لنا الجواب واضحاً جلياً: (ويسئلونك عن ذي القرنين قل سأتلو عليكم منه ذكراً ، إنا مكنا له في الأرض وآتيناه من كل شيء سبباً ، فأتبع سبباً )(الكهف: 83-85 ) . فالسر إذن يكمن فيما أعطاه الله له من علم بالأسباب ، كما جاء في التعبير القرآني البليغ ، أو علم بالسنن ، حسب التعبير الذي نستخدمه في هذا البحث ، وهذا العلم بالأسباب أو بالسنن ، هو الذي أمد ذا القرنين بتلك القدرات العظيمة ، التي استطاع بها تحقيق أهدافه البعيدة والقريبة..

ولنتأمل معاً قوله تعالى: (وآتيناه من كل شيء سبباً )(الكهف: 85 ) لندرك عظمة القدرة التسخيرية ، التي منحها الله له ، فاستطاع بها أن يفعل ما يريد ..

(عن حبيب بن عمار ، قال: كنت عند علي رضي الله عنه ، فسأله رجل عن ذي القرنين كيف بلغ المشرق والمغرب ؟ فقال : سبحان الله ، سخر له السحاب ، وقدر له الأسباب ، وبسط له اليد).

* وهكذا بدل ذو القرنين وجه الأرض ، بما كشف الله له من سنن وسخرها له.

* وكم من سنة أثرت في حياة الإنسان تأثيراً عميقاً ، حين عرفها ، وهيأ الله له كيفية تسخيرها .. وما سيرة الطاقة الذرية عنا ببعيد ، فقد تمكن الإنسان خلال سنوات قليلة أن يسخر هذه الطاقة الهائلة في أغراض شتى ، بعد أن عرف السنن التي تتحكم فيها ، ولم يكن ممكناً له ذلك من قبل ، حين كان يجهل هذه السنن جهلاً تاماً.

ويمكن أن نشير هنا إلى سنن كثيرة أثرت في حياة البشرية ، ومنها مثلاً تلك السنة التي تنبه لها العالم الرياضي الشهير ( نيوتن ) والتي صاغها فيما عرف باسم ( قانون الفعل ورد الفعل ) فقد تمكن الإنسان - بعد أن يسر الله له الظروف والإمكانيات المواتية - أن يستفيد من خصائص هذه السنة في مجالات عديدة من أبرزها اختراع المحركات النفاثة ، التي ساهمت في تقدم صناعة الطائرات والصواريخ مساهمة أساسية، حتى أوصلت الإنسان إلى سطح القمر الذي ظل دهوراً طويلة يتغزل به عن بعد !

من عود الثقاب إلى أجواز الفضاء:

وثمة مثال آخر يستحق منا وقفة تأمل طويلة ، ونحن نتحدث عن دور الأخذ بالسنن في تقدم حياة البشرية .. ونأخذ هذا المثال من الحدث الذي ابتدأ به تاريخ الفضاء الأمريكي - ففي شهر آب ( أغسطس ) من عام 1932م أطلقت الجمعية الأمريكية للسياحة بين الكواكب صاروخها الأول ، ولم يكن طوله يزيد عن 15 سم، وقطر قاعدته 7.5 سم ، وكانت منصة الإطلاق مكونة من قائمين مصنوعين من خشب الصنوبر(!) وقد غطيتا بكمية وافرة من الصابون لتسهيل انطلاق الصاروخ إلى الأعلى (تأمل!) وقد وقف رئيس الجمعية (ديفيد لير) والمهندس (لورانس ماننغ) يراقبان عملية الإطلاق من خلف أكياس الرمل(!)

وتفادياً لمشكلات الإشعال فقد كلف أحد المهندسين المساعدين بإشعال الصاروخ بعود من الثقاب (!!) وبعد ثانيتين دار المحرك كما كان مقدراً له ، ولكن لم يلبث أن انفجر وطار إلى حيث وقع على بعد 170 م من منصة الإطلاق!

إنها -دون ريب- صورة غريبة عجيبة لا يكاد جيل اليوم أن يصدق أنها حدثت قبل خمسين عاما فقط، وأنها كانت هي البداية لعصر الفضاء ، الذي لا يفتأ يطلع علينا كل يوم بكشوفات جديدة لا تكاد تصدق.

ومن المؤكد أنه لم يكن يخطر ببال أحد ممن شاهدوا تلك التجربة أنه لن يمضي سوى سنوات قليلة حتى يتمكن الإنسان من إرسال أول قمر صناعي ، ليدور حول الأرض، ثم سنوات أخرى قليلة ليطأ بقدميه أرض القمر.

وإذا ما قارنا الآن تلك الصورة للصاروخ الأول ، مع الصورة الحالية التي عليها محطات الفضاء ، فإننا نجدها أشبه بفيلم كارتوني هزلي ضاحك !! فأين مثلاً ذلك الصاروخ الضئيل ، الذي لم يتجاوز طوله بضعة سنتيمترات ، من صواريخ اليوم ، التي تناطح بقاماتها السحاب؟ أضف إلى هذا أن عملية إطلاق الصواريخ اليوم تتم تحت إشراف أعداد كبيرة من الفنيين والخبراء والعلماء، يزيد عن عشرة آلاف، موزعين في محطات المراقبة والتوجيه المختلفة والموزعة في أرجاء عديدة من الولايات المتحدة ، وهؤلاء -بطبيعة الحال- لا يقومون بالمراقبة من خلف أكياس الرمل ، كما فعل أولئك الرواد الأوائل ، بل يقومون بالمراقبة عبر شاشات التلفزيون والرادار والكمبيوتر ، التي تعطي في نفس اللحظة جميع المعلومات المتعلقة بالصاروخ وبعملية الإطلاق .. وقد بلغت الصواريخ في أقل من نصف قرن درجة راقية من التطور ، فأصبحت قادرة على الوصول إلى أية بقعة من الأرض ، أو من كواكب مجموعتنا الشمسية المترامية الأبعاد ، بحيث يمكن مقارنة الدقة في توجيه الصواريخ ، وإيصالها لأهدافها بإصابة ذبابة تقف على رأس تمثال الحرية في نيويورك ، من بندقية قناص يقف على سطح الكرملين في موسكو!!

وهذه - بدون ريب - نقلة نوعية متميزة ، ما كان للعلماء أن يحرزوها لولا أنهم تعمقوا أكثر فأكثر في دراسة وفهم السنن المتعلقة بالطيران .. فإن هذا الفهم قد أمدهم بقدرات باهرة ، استطاعوا بها تحويل الخيال إلى واقع ، وجعل المستحيل ممكناً!

من الزهري إلى الأيدز .. رحلة أربعمائة عام نقطعها في عام واحد:

والمعرفة بالسنن - إلى جانب ما ذكرناه - توفر لنا الوقت ، وتجعلنا أقدر على التحكم فيه ، وهذا ما يعجل مسيرة الحضارة ، ويدفعها للتسارع يوماً بعد يوم .. ولعل سيرة مرضى الزهري والأيدز خير شاهد على هذه الميزة التي يتيحها لنا فهمنا العميق للسنن الكونية .. فمن المعروف أن تاريخ الداء الجنسي المعروف باسم (الزهري) أو ( الأفرنجي ) قد ( بدأ في أوروبا حوالي عام 1493م في عهد الملك الفرنسي ( كارل الثامن ) الذي اشتهر بنزواته الطائشة .. فقد غزا هذا الملك الرعديد إيطاليا بموكب من الجنود المرتزقة ، يجر خلفه ذيلاً يضم أكثر من خمسمائة داعرة اصطحبن للمتعة والإيناس والليالي الحمراء .. وفي روما اجتمع هذا الملك ( الذي يعتقد أنه من أوائل الذين أصيبوا بالزهري ) مع رجل طائش مثله هو ( البابا اسكندر السادس ) الذي أصيب بالزهري كصاحبه ! وهناك فعل الاثنان الأفاعيل ، مع من كان معهما من الجنود والغانيات .. وعندما قفل الملك راجعاً من رحلته المشؤومة بعد أقل من عام واحد كان قد أهدى أوروبا كلها مرض الزهري وما يستوقفنا من هذه القصة المخزية أن الزهري استمر ما يزيد عن أربعمائة عام يفتك بالزناة والشاذين والمنحرفين ، يشوه أجسادهم ، ويزهق أرواحهم ، قبل أن يتمكن العلماء من معرفة الجرثومة التي تسببه ( اللولبية الشاحبة ) وقبل أن يتمكن العالم (فلمنغ) من اكتشاف عقار البنسلين ( 1928م ) القادر على قتل جرثومته !

واليوم .. نجد أن داءاً جنسياً آخر قد ظهر ليعيد إلى الأذهان قصة الزهري ، ولكن على وتيرة مختلفة .. ففي عام 1981م ظهر فجأة الداء الجنسي المعروف باسم الأيدز ( أو داء نقصان المناعة المكتسبة ) الذي انتشر كالوباء انتشاراً مفزعاً في أوساط الشاذين جنسياً بصورة خاصة ، وأوساط المدمنين على المخدرات ، ولاسيما منها التي تؤخذ عن طريق الحقن وكما كان الانحلال الأخلاقي وراء ظهور الأيدز وانتشاره ، إلا أن الفارق الجوهري ما بين سيرة الزهري وسيرة الأيدز أن العلماء في نحو عام واحد استطاعوا فضح أسرار الأيدز ، وعزل الفيروس المسبب له ، بينما استغرق تحقيق ذلك أربعة قرون في حال الزهري .. وحين نبحث عن السر في تحقيق هذا الإنجاز العلمي الرائع فإننا نجده يرجع إلى ما أصبح اليوم في حوزة العلماء من معرفة السنن التي فطر الله عليها أمور الخلق ، ومنها السنن المتعلقة بالمرض ، فإن هذه المعرفة هي التي مكنت العلماء من التعجيل بفك رموز الأيدز ، واختزال الزمن من أربعمائة عام إلى عام واحد .. وهذه دون ريب نقلة نوعية متميزة تستحق منا وقفة تأمل طويلة .

وفي الحقيقة فإن هذا المثال الذي سقناه من عالم الطب يعبر عن سمة أصبحت بارزة من سمات العصر الحاضر ، فقد أصبح العلماء اليوم - بفضل تعمقهم بفهم السنن الكونية - قادرين على كشف أسرار الاكتشافات الجديدة بصورة أسرع بكثير مما كان يجري في الماضي ، كما أتاح لهم فهمهم للسنن التعجيل في تحويل أفكارهم النظرية إلى تطبيقات عملية ( وقد أجرى بعض العلماء مقارنة بين الفترات الزمنية التي كان يستغرقها الوصول من الكشف العلمي النظري إلى التطبيق في ميدان الإنتاج منذ عصر الثورة الصناعية حتى اليوم فتبين لهم ما يلي :

* احتاج الإنسان إلى 112 سنة ( 1727 - 1839 م ) لتطبيق المبدأ النظري الذي يبنى عليه التصوير الفوتوغرافي .

* واحتاج إلى 56 سنة ( 1820 - 1876 م ) لكي يتوصل من النظريات العلمية الخالصة إلى اختراع التليفون .

* وإلى 35 سنة ( 1867 - 1902 م ) لظهور الاتصال اللاسلكي.

* وإلى 15 سنة ( 1925 - 1940 م ) للرادار.

* و12 سنة ( 1922 - 1945 م ) للتلفزيون.

* و6 سنوات ( 1939 - 1945 م ) للقنبلة الذرية.

* و5 سنوات ( 1948 - 1953 م ) للترانزستور.

* و3 سنوات ( 1959 - 1961 م ) لإنتاج الدوائر المتكاملة .

وهكذا يبدو جلياً أننا نقترب بخطى حثيثة من فهم العالم المحيط بنا ، وتسخيره بصورة أكثر فعالية ، وذلك نتيجة كشفنا للمزيد من السنن ، وتعمقنا أكثر فأكثر في فهم هذه السنن ، وهذا ما يزيد إيماننا بأهمية البحث في السنن ، خاصة وأن التعامل مع العالم المحيط بنا لا يمكن أن يتم على وجهه الصحيح إلا من خلال معرفتنا اليقينية بالسنن التي تتحكم فيه ، لأن تعاملنا مع هذا العالم بغير هذه المعرفة يعد ضرباً من العبث ، الذي لا يمكن أن يحقق لنا الأهداف ، التي نصبو إليها ..

سنة الله في الخلق بين القرآن والسيرة :

.. والملاحظ من خلال السياق القرآني كثرة الآيات التي تحض المؤمنين على السير في الأرض ، والتفكر في آيات الله المبثوثة في الوجود ، حتى يلتفت العقل إلى النظام البديع الذي يحكم الأشياء ، ويوجه الأحداث، فيستنبط من ذلك السنن ، التي تتحكم في حركة الحياة وتطورها ، ويعمل من ثم على تسخيرها في عمارة الأرض ، وبناء الحضارة الإنسانية المنشودة.

وقد خصص القرآن الكريم جانباً كبيراً من سوره لعرض قصص الأمم الغابرة ، ليلفت انتباهنا إلى ما آلت إليه تلك الأمم ، حين سلكت سبيلاً معيناً ، وليلفت الانتباه كذلك إلى أن المجتمعات البشرية محكومة بنوع من السنن ، التي تضبط حركتها وتطورها ، وتحدد مصيرها آخر الأمر.

وقد كان لهذا التركيز القرآني على أهمية النظر في الآيات ، أو السنن التي يخضع الكون لها أثر عميق في نشأة الحضارة الإسلامية ، ونموها واستمرارها ، وتميزها عن سائر الحضارات التي سبقتها .. فهؤلاء العرب الذين لم يكن لهم علم ، ولا معرفة بالسنن ، التي تتحكم في حياة الأفراد والمجتمعات ، جاء القرآن الكريم ، فقدم لهم تلخيصاً وافياً دقيقاً عن تلك السنن ، حتى إذا فهموها وأخذوا بها في حياتهم ، تغيرت نظرتهم للكون والحياة تغيراً جذرياً ، ولم يلبثوا أن أصبحوا أمة واحدة ، يشد بعضها بعضاً كالبنيان المرصوص .. كما اكتسبت الأمة الإسلامية - إلى جانب ذلك - قدرة باهرة على تسخير ما في أيديها (على قلة ما كان في أيديها) ، فاستطاعت بفضل الله أن تستفيد من ذلك في الانطلاق صوب (الآخرين) حاملة إليهم نور الهداية والرحمة ، حتى انتشرت راية التوحيد خفاقة في أرجاء المعمورة .. وقد تم هذا الفتح المبين في سنوات معدودات لا تعد شيئاً في عمر التاريخ !

* فما الذي تغير بعد ذلك حتى عاد المسلمون فانتكسوا ؟!

* وكيف حَطَّ التخلف رحاله في ديارهم ، بعد ذلك التاريخ المجيد ؟!

للإجابة عن هذين السؤالين ، لابد أن نعترف ابتداء ، بأن العوامل التي أدت إلى هذه النتيجة المأساوية عديدة، لا يكاد يحصرها عد . ولكننا مع هذا يمكن أن نردها جميعاً إلى علة أولية ، تولدت عنها العلل اللاحقة جميعاً .. ونعني بها (الغفلة عن منهج الله عز وجل) ، وأهم ما تعنيه هذه الغفلة : تجاهل السنن الربانية ، التي تحكم حياة الأفراد والأمم ، وحياة كل شيء في هذا الوجود ، والجهل كذلك بأن أي اتصال فعال مع الحياة ، لا يمكن أن يتم على تمامه بغير الإيمان بهذه الحقيقة ، وفهم هذه السنن، وتسخيرها على الوجه الصحيح.

وإن من الظواهر التي باتت بارزة في حياتنا نحن المسلمين اليوم .. ضعف اهتمامنا بمسألة السير في الأرض ، والبحث والتنقيب عن السنن ، التي يمكن أن تعيننا في تصريف شؤونا المختلفة ، وتذلل أمامنا الصعاب ، وتيسر لنا أمر عمارة الأرض، وفق المنهج الذي يأمرنا إسلامنا بإقامته في واقع الحياة.

ولعلنا لا نعدو الحقيقة حين نقرر أن مفهوم (السنة) نفسه قد فقد مكانته في مناهجنا الفكرية والعلمية، وراجت بيننا من ثم مقولة: ( إن على المؤمن في هذه الحياة أن يعمل ، ويخلص النية في عمله ، وليس عليه أن ينظر في النتائج بعد ذلك ، لأن النتائج قدر محتوم من الله عز وجل ، ولا يد للإنسان فيه).

أي أنه حدث في تصور كثير منا نوع من الفصل بين الأسباب والنتائج.. علماً بأن هذه النظرة القاصرة إلى المسألة ، تنفي عن الجهد البشري المسؤولية في صنع النتائج ، وتوهم الإنسان في الوقت نفسه ، بأن لديه نوعاً من الحصانة تجاه الأخطاء ، التي يرتكبها مادام قد فعلها عن نية صادقة !

بل إن مثل هذه النظرة لتجعل المرء يعتقد بتميزه عن بقية خلق الله ، مما يوقعه في الخطأ ، الذي وقع فيه أهل الكتاب من قبل ، حين قالوا : (نحن أبناء الله وأحباؤه )(المائدة: 18) فقد ادعوا لأنفسهم مكانة عند الله ليست لهم ، وحسبوا أنه سبحانه عفا عنهم عفواً أبدياً ، ظناً منهم بأن مجرد إيمانهم القلبي ، أو مجرد انتسابهم إلى دين سماوي ، سوف يشفع لهم عند بارئهم ، وهذه هي حال كثير من المسلمين اليوم ! والحق .. أن القضية ليست كذلك أبداً ، إذ لا استثناء لقوم دون قوم أمام شرعة الله أو سننه ، وهذا ما أشار إليه بوضوح تام حديث النبي صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع حين قال: (يا أيها الناس ، إن ربكم واحد ، وأباكم واحد ، لا فضل لعربي على عجمي ، ولا لعجمي على عربي ، ولا لأسود على أحمر ، ولا لأحمر على أسود إلا بالتقوى ) فالأصل الذي تقوم الأعمال على أساسه هو التقوى ، التي تعني : إخلاص النية ، والأخذ بالأسباب ، أو بالسنن ، التي جعلها الله أبواباً لا تتم الأعمال الصالحة إلا من خلالها .. فالصلاح في الأعمال لا يكون بمجرد الإخلاص في النية ، بل لابد للعمل أن يوافق سنة من السنن التي فطر الله عليها أمور الخلق ، حتى يكون صالحاً بحق .. فإذا ما جمعنا إلى هذه الحقيقة حقيقة أخرى ، وهي غموض النظر - عند كثير من المسلمين - إلى مسألة السنن ، وعلاقتها بالجهد البشري ، فإننا نكون قد حددنا بعض معالم أزمتنا الحضارية الراهنة :

فمن جهة .. نجد التصور السائد اليوم بين كثير من المسلمين يقوم على الفصل ما بين الأعمال والنتائج ، ومن جهة أخرى نجد أن الأعمال نفسها تقوم على غير هدي من السنن .. علماً بأن فصل النتيجة عن العمل، أو فصل المسبب عن السبب يناقض الفكر الإسلامي الأصيل.

وقد تناول الإمام العلامة ابن القيّم الجوزية هذه القضية بشيء من التفصيل في كتابه الأشهر (زاد المعاد) عندما كان يبحث في الأحاديث النبوية التي تحض على التداوي من المرض ، فقال رحمة الله عليه : (..فقد تضمنت هذه الأحاديث الأمر بالتداوي ، وأنه لا ينافي التوكل ، كما لا ينافي دفع داء الجوع والعطش والحر والبرد بأضدادها ، بل لا تتم حقيقة التوحيد إلا بمباشرة الأسباب ، التي نصبها الله مقتضيات لمسبباتها قدراً وشرعاً ، وإن تعطيلها يقدح في نفس التوكل ، كما يقدح في الأمر والحكمة ، ويضعفه من حيث يظن أن تركها أقوى في التوكل ، فإن تركها عجز ينافي التوكل ، الذي حقيقته اعتماد القلب على الله ، في حصول ما ينفع العبد في دينه ودنياه ، ودفع ما يضره في دينه ودنياه ، ولابد مع هذا الاعتماد من مباشرة الأسباب ، وإلا كان معطلاً للحكمة والشرع ، فلا يجعل العبد عجزه توكلاً ، ولا توكله عجزاً ) أ هـ .. صحيح أن النتائج قدر من قدر الله عز وجل ، إلا أن مشيئته سبحانه قد اقتضت ارتباط النتائج بأسبابها ، وهذا الارتباط أيضاً قدر من قدر الله عز وجل ، نجد مصداق هذا في قوله تعالى: (وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى )(الأنفال:17 ) فقد أثبت الرمي له ، وهو السبب واحتفظ لنفسه سبحانه بالنتيجة ، لكي يلفت العقل البشري إلى طلاقة القدرة الإلهية ، لكن هذا لا يعني حصول النتيجة من غير رمي .. بل إن الرمي ، ونتيجة الرمي ، وارتباط النتيجة بالرمي .. كل أولئك قدر من قدر الله سبحانه.

وحين يستيقن العقل البشري هذه الحقيقة ، ويتعمق في فهم سنن الله في الخلق ، يصبح أقدر على فهم العالم ، الذي يعيش فيه ، كما يصبح أقدر على تسخير الكون في صالحه ، وإن من يراقب الأوضاع المختلفة في أرجاء العالم ، يدرك دونما عناء كبير ، السبب الحقيقي ، الذي جعل الدول المتطورة في مركز السيطرة على مقدرات الشعوب الأخرى ، هذه السيطرة التي يظن معظمنا أنها ترجع إلى امتلاك تلك الدول قوى عسكرية ضاربة ، وموارد اقتصادية غنية .. وهو ظن مبني على فهم خاطئ للتاريخ والواقع، إذ كيف استطاعت تلك الدول أصلاً، أن تحصل على تلك القوى ، التي بين أيديها ؟ أبالقوة وحدها ، أم أن للعلم دوراً في هذه القضية؟ ألم تكن الولايات المتحدة الأمريكية مثلاً قبل قرنين من الزمان مجموعة من المستعمرات الإنجليزية المتناثرة؟ فأين هي اليوم؟ ألم تصبح إحدى أكبر قوتين في العالم؟

ومثال آخر .. ألم تخرج كل من اليابان وألمانيا من الحرب العالمية الثانية مطحونتين ، لا حول لهما ولا قوة ؟ فأين هما اليوم؟ ألم تصبحا في طليعة الدول القوية ، التي بات العالم كله يحسب حسابهما مع أنهما منزوعتا السلاح؟

فالسر إذن ليس في امتلاك القوة العسكرية ، أو الاقتصادية ، أو غيرهما، (مع إيماننا بضرورة العمل على امتلاك مثل هذه القوى)، وإنما يكمن السر ابتداء في القدرة على تسخير القوى المتاحة ، فعلينا أن نتصرف في حدود ما نملك فعلاً ، لا أن نحلم بما هو خارج عن أيدينا ، لأن مثل هذه الأحلام لا تثمر في النهاية إلاّ الحسرة والندامة!

وحين نتصرف فيما نملك وفق السنن ، التي فطر الله عليها أمور الخلق ، فإننا بهذا نستثمر الطاقات المتاحة على أحسن وجه ، وإن لنا في رسول الله صلى الله عليه وسلم أسوة حسنة ، فقد كانت سيرته العطرة حافلة بالشواهد الناصعة على أخذه بالأسباب ، وتجنيده للطاقات البشرية والمادية والمعنوية خير تجنيد ، مما كان له تأثير كبير في إغناء الجهاد النبوي ، الذي أثمر في غضون سنوات قليلة ، ما لم تثمر مثله محاولات بشرية أخرى ، استغرقت مئات السنين .

ونريد هنا أن نقف عند شاهد واحد من تلك الشواهد في سيرته صلى الله عليه وسلم ، وهو حادث الهجرة النبوية من مكة إلى المدينة ، لنرى مدى حرصه صلى الله عليه وسلم على الأخذ بالأسباب .. ويرجع سبب اختيارنا للهجرة دون غيرها إلى أن أمر هجرته صلى الله عليه وسلم كان يتعلق به تعلقاً مباشراً ، وقد كان صلى الله عليه وسلم موقناً بنصر الله (إلا تنصروه فقد نصره الله )(المائدة: 40) . كما كان واثقاً من حماية الله له، (والله يعصمك من الناس )(المائدة: 67) . لكنه لم يركن إلى ذلك وحده ، بل بذل غاية جهده في تهيئة الأسباب ، التي رأى ضرورة تهيئتها لمثل تلك الرحلة المحفوفة بالمخاطر .. ولنستمع إلى السيدة عائشة رضي الله عنها ، تروي لنا التفاصيل .. قالت : ( كان لا يخطئ رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يأتي ببيت أبي بكر أحد طرفي النهار ، إما بكرة وإما عشية ، حتى إذا كان اليوم الذي أذن فيه لرسول الله صلى الله عليه وسلم في الهجرة ، والخروج من مكة ، من بين ظهري قومه ، أتانا رسول الله صلى الله عليه وسلم بالهاجرة في ساعة كان لا يأتي فيها .. قالت : فلما دخل تأخر له أبو بكر عن سريره ، فجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وليس عند أبي بكر إلا أنا وأختي أسماء بنت أبي بكر ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أخرج عني من عندك . فقال : يا رسول الله إنما هما ابنتاي ، وما ذاك فداك أبي وأمي ؟ فقال صلى الله عليه وسلم : إن الله قد أذن لي في الخروج والهجرة .. قالت : فقال أبو بكر : الصحبة يا رسول الله . قال صلى الله عليه وسلم : الصحبة .. قالت فوالله ما شعرت قط مثل ذلك اليوم أن أحداً يبكي من الفرح حتى رأيت أبا بكر يبكي يومئذ، ثم قال : يا نبي الله ، إن هاتين راحلتان قد كنت أعددتهما لهذا . فاستأجرا عبد الله بن أريقط - وكان مشركاً - يدلهما على الطريق فدفعا إليه راحلتيهما ، فكانتا عنده يرعاهما لميعادهما .. ولم يعلم -فيما بلغني- بخروج رسول الله صلى الله عليه وسلم أحد حين خرج إلا علي بن أبي طالب ، وأبو بكر الصديق وآل أبي بكر . فلما أجمع رسول الله صلى الله عليه وسلم الخروج ، أتى أبا بكر فخرجا من خوخة لأبي بكر في ظهر بيته ، ثم عمدا إلى غار ثور (جبل بأسفل مكة) فدخلاه .. وأقام رسول الله صلى الله عليه وسلم في الغار ثلاثاً ومعه أبو بكر ، وجعلت قريش فيه ، حين فقدوه ، مائة ناقة ، لمن يرده عليهم .. وكان عبد الله بن أبي بكر يكون في قريش نهاره معهم ، يسمع ما يأتمرون به ، وما يقولون في شأن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر ، ثم يأتيهما إذا أمسى ، فيخبرهما الخبر ، وكان عامر بن فهيرة مولى أبي بكر يرعى في رعيان أهل مكة ، فإذا أمسى أراح عليهما غنم أبي بكر فاحتلبا وذبحا ، فإذا عبد الله بن أبي بكر غدا من عندهما إلى مكة أتبع عامر بن فهيرة أثره بالغنم حتى يعفي عليه .. حتى إذا مضت الثلاث ، وسكن عنهما الناس ، أتاهما صاحبهما الذي استأجراه ببعيريهما وبعير له ، وأتتهما أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما بسفرتهما). فهل بعد هذا الحرص من حرص ؟

.. هذا مع التذكير بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان أغنى الناس عن مثل هذا السلوك بما أنه مؤيد من الله عز وجل ، وموعود بالنصر والتمكين .. وهذا ما يدعونا لأن نكون حريصين كحرصه صلى الله عليه وسلم على الأخذ بالأسباب ، والسير في الأرض ، لكشف السنن التي بتسخيرها يمكن أن نحقق الأهداف التي نسعى إليها.

=============

#سنة الله في الخلق ) تعريف وخصائص

لقد تناولنا فيما سبق مفهوم (سنن الله في الخلق) تناولاً عاماً مجملاً ، وبينا العلاقة ما بين دراسة هذه السنن وتسخير الكون المحيط بنا ، وقلنا : إننا من غير فهم هذه السنن ، ومعرفة شروطها ، وأحكامها ، لا نستطيع أن نسخرها على الوجه الصحيح .. وقد آن الأوان لكي نفصل الحديث في ماهية السنن ، فما الذي نعنيه بمصطلح (سنة الله في الخلق)؟

* بالرجوع إلى معاجم اللغة نجد أن لفظ (السنة) يعني الطريقة أو القاعدة .. وكل من ابتدأ أمراً عمل به قوم من بعده فهو الذي سنه.

السنة في الاصطلاح الشرعي: (كل ما صدر عن النبي محمد صلى الله عليه وسلم من قول أو فعل أو تقرير أو صفة خَلقية أو خُلقية، وهي مصدر تؤخذ عنه الشرائع والعقائد متى ثبت إسنادها وصحت نسبتها).

* وأما ( سنة الله في الخلق : فإنها تعني حكم الله في خليقته ، وهذا ما بيناه في الفصول السابقة ، من أن الله عز وجل قد سن لكل أمر في هذا الوجود حكماً (أو قانوناً) لا يحيد عنه .. فالسنن التي فطر الله عليها أمور خلقه ، هي إذن : ( مجموعة القوانين التي سنها الله عز وجل لهذا الوجود ، وأخضع لها مخلوقاته جميعاً ، على اختلاف أنواعها وتباين أجناسها ) ، ويوضح هذا التعريف اختلاف معنى سنة الله في الخلق عن معنى السنة في اللغة ، وفي الاصطلاح الشرعي كذلك .. على الرغم من المعنى الجامع لها.

وتتصف السنن الربانية بثلاث خصائص مميزة هي : الشمولية ، والثبات ، والاطراد ، وهذه الخصائص تنطبق على جميع السنن التي بثها الله في هذا الوجود .. فما هي طبيعة هذه الخصائص؟ هذا ما سوف نفصل فيه فيما يلي:

1- الشمولية

.. عندما يعيش الإنسان في هذا الوجود بقلب سليم ، وعقل متفتح ، وبصيرة نافذة ، فإنه يجد في حياته على هذه الشاكلة سعادة غامرة ، لا يعرف حلاوتها البشر ، الذين عطلوا حواسهم عن رؤية ما في الكون من تكامل يدل على الإعجاز في الخلق ، كما يدل على قدرة الخالق !

وإن من يتأمل هذه الخلائق المبثوثة في الكون من حوله ، يجد أنها جميعاً ترتبط بمنهج موحد من السنن الربانية ، التي تقرب بعضها إلى بعض ، فتجعل منها عالماً أنيساً متكاملاً ، يسوده الانسجام والاستقرار والتوازن .. والأدلة على هذه الحقيقة الباهرة لا يكاد يحصرها عد ..

دليل من علم الفيزياء:

.. فمن عالم الذرة المتناهية في الصغر ، إلى عالم المجرة المتناهية في الكبر ، نجد أن السنن التي تحكم هنا، هي نفسها التي تحكم هناك ، فلا فرق ما بين صغير وكبير أمام السنن الربانية الشاملة ، التي تحكم الكون كله ..

وليس هذا الكلام خيالاً ، ولا شطحات فيما وراء المعقول ، كما يحلو لبعض الناس أن يصفوا كل حقيقة كونية تثبت وجود خالق لهذا الوجود ، فالعلم نفسه يصوغ الحقائق صياغة علمية دقيقة ، بالمعادلات والأرقام التي لا يسع أي عاقل إلا الوقوف عندها خاشعاً لله ، لما تدل عليه من عظمة في الخلق وإتقان في الصنعة .. فمن المعلوم أن التفاعلات أو الظواهر التي تسود الكون أربع ، هي : الكهربائية ، والمغناطيسية ، والنووية ، والجاذبية .. وقد ظل العلماء زمناً طويلاً يظنون أن هذه الظواهر متميزة بعضها عن بعض ، وأنه لا علاقة بينها البتة .. وظل الأمر كذلك حتى عهد قريب ، حين أثبتت النظريات الجديدة ، والتجارب التي تمت بناء عليها ، أن هذه الظواهر التي تبدو متباينة ، يمكن توحيدها أو إرجاعها إلى ظاهرة واحدة ، وقد بدأت مسيرة التوحيد هذه مع الإنجليزي اسحق نيوتن ( 1642 - 1727م ) ، الذي وحد بين ظاهرتي الجاذبية الأرضية ، والجاذبية بين الأجرام السماوية ، وصاغ قانون الجاذبية العام ، ثم تابعت عملية التوحيد مسيرتها مع الاسكوتلاندي جيمس ماكسويل ( 1831 - 1879م ) الذي وحد بين ظاهرتي الكهرباء والمغناطيس ، في ظاهرة واحدة ، هي الحقل الكهرومغناطيسي ، وصاغ لها المعادلات الشهيرة التي مازالت تحمل اسمه .. وفي بداية القرن الحالي جرى تعميم نظرية ماكسويل في نظرية الإلكتروديناميك الكوانتية ( 1927م ) ، ومؤخراً في سبعينيات هذا القرن نجح العلماء ومنهم الفيزيائي الباكستاني ( عبد السلام ) في التوحيد ما بين التفاعلات الكهرومغناطيسية ، والتفاعلات النووية الضعيفة ، في نظرية واحدة أطلق عليها اسم ( كهروضعيفة ) وعلى أثر اكتشاف هذه النظرية ازداد أمل العلماء في إمكانية جمع ظاهرة التفاعلات النووية القوية إلى الشكلين المذكورين اللذين تم توحيدهما ، وأطلق اسم ( نظرية التوحيد الكبير ) على النظرية المرشحة للقيام بذلك ، ويفترض في هذه النظرية أن تعبر عن نوع من التناظر في البنية الهندسية للمادة في أعمق أعماقها .. وعندما يكون هذا التناظر قائماً فهو يحتم وجود ظاهرة واحدة ، أو حقل كهرنووي واحد ، يجمع التفاعلات الثلاثة في تفاعل واحد .. ) ويبدو واضحاً من خلال هذه الوقائع التي انتهى العلماء إليها حتى الآن أن العالم المادي يشكل معاً وحدة متكاملة ، ويخضع لمنهج واحد ، وتحكمه سنن شاملة يكمل بعضها بعضاً .

دليل من علم الأجنة:

لقد كان دليلنا السابق من عالم المادة ، التي نصفها عادة بالجمود .. ونختار الآن مثالاً آخر من عالم الحياة، عالم المخلوقات الحية ، التي تتصف بالنشاط ، والحركة ، والتكاثر ، والنمو ، والتبدل المستمر .

ونورد مثالنا من علم الأجنة ، الذي أصبحنا نعرف عنه الكثير من المعلومات والحقائق اليقينية .. ويكفينا دليلاً من علم الأجنة أن نتتبع مراحل تخلقها ونموها لنرى النظام الذي تسير وفقه ، سواء أكانت هذه الأجنة أجنة بشر ، أو أجنة حيوانات مثل السمك والضفدع والطير والفيل .

إن تكوين هذه الأجنة على اختلافها يبدأ من التقاء نطفة الذكر ببيضة الأنثى ، ومن خلال عرس اللقاء هذا تتشكل خلية واحدة ، هي العروس الملقحة التي لا تلبث أن تبدأ بالانقسام والتكاثر ، على خليتين ، ثم أربع ، ثم ثمان ، ثم ست عشرة .. وفي مرحلة لاحقة يبدأ تخصيص كل مجموعة من الخلايا المتكاثرة ، لتشكيل عضو من أعضاء المخلوق الجديد إلى أن يكتمل نموه ، ويبلغ غاية خلقه ، ويخرج إلى الحياة مخلوقاً كاملاً سوياً .. ومما لا ريب فيه أن هذا الأسلوب الموحد في تخلق الأجنة المختلفة يوحي أنها جميعاً تخضع لمنهج واحد من السنن الشاملة .. كما يدل هذا الأمر على أن سنن الحياة لا تسود عالم الإنسان وحده ، بل تسود عالم المخلوقات الحية كلها .

دليل من علم الخلية:

.. وإذا ما انتقلنا بعد ذلك إلى الخلية ، فإننا نجد المخلوقات الحية كلها دون استثناء ، تتكون من وحدات أساسية تدعى كل منها ( خلية ) وهذه الوحدات متشابهة في التركيب ، سواء أكانت الخلية بشرية أو حيوانية أو نباتية .. فكل خلية تتركب من مادة صبغية وراثية تتجمع في النواة ، وتحمل صفات المخلوق ، وتنقلها بالتزاوج والتكاثر من جيل إلى جيل في النوع نفسه.

وتحيط بالنواة مادة هيولية تتم فيها النشاطات الحيوية المختلفة .. ويحيط بالمادة الهيولية هذه غلاف ، أو غشاء يحدد الخلية ، ويعطيها شكلها الذي يميزها عن غيرها من الخلايا.

وهذا الأسلوب في تكوين الخلايا يسود أنواع المخلوقات الحية كلها ، حتى المجهرية منها كالطفيليات والجراثيم .. مما يدل دلالة واضحة على أن تكوين المخلوقات الحية ينتظم وفق سنن شاملة محكمة كذلك .

دليل من علم (الأحياء):

.. ولعلنا نتبين طرفاً من التكامل في الخلق ، حين ننظر نظرة شاملة إلى عالم المخلوقات الحية ، التي تعيش فوق هذه الأرض ، إذ تظهر لنا النظرة المدققة إلى حياة النبات من جهة ، وحياة الإنسان والحيوان من جهة أخرى أن هذه المخلوقات جميعاً تتعاون في حياتها ضمن حلقة واحدة متكاملة :

فوظيفة النبات هي ( الإرجاع والتركيب ) ، إذ يأخذ التراب والهواء والماء فيركب منها الثمار ، ليقدمها يافعة للإنسان والحيوان ، لكي يبنيا منها أجسامهما .. إلى جانب ما يقوم به النبات من علم بالغ الأهمية في تنقية جو الأرض من غاز ثاني أكسيد الكربون ، الذي ينتج عن تنفس الإنسان والحيوان فينزع منه الأكسجين ويعيده إلى جو الأرض ، خلال عملية التمثيل الضوئي ، لكي يقوم الإنسان والحيوان باستخدام هذه الأكسجين من جديد .

وأما وظيفة الإنسان والحيوان فهي ( الأكسدة والتقويض ) أي هي نقيض وظيفة النبات ، إذ يأخذ الإنسان والحيوان غذاءهما من عالم النبات فيهضمانه ليبنيا منه خلاياهما وأعضاءهما ، وليستمدا منه الطاقة اللازمة للحركة والنمو والتكاثر .. ثم يطرحان ما لا يهضمانه إلى التراب والهواء ، ليبدأ دور النبات من جديد .

وبهذا تكتمل دورة الحياة ، وتتعاون هذه المخلوقات معاً ضمن حلقة متكاملة من السنن .

دلائل من علم النفس وعلم الاجتماع:

.. وندرك من خلال الأمثلة التي سبقت أن العالم المادي ( الحي وغير الحي ) محكوم بمجموعة من السنن التي توجه مساره ، وتحدد وجهة تطوره .. فماذا عن النفس البشرية والحياة الاجتماعية .. هل يخضعان كذلك لسنن مخصوصة ؟

والجواب الذي نقطع به دون تردد هو : أجل .. فإن سنن الله عز وجل لا تحكم العالم المادي وحده ، بل هي تحكم ما في هذا الوجود من خلائق ، سواء أكانت مادية كالذرة ، والكهرباء ، والحرارة ، أم كانت معنوية كالعواطف الإنسانية ، والسلوك الاجتماعي .. وهذا ما تأكده آيات كثيرة من القرآن الكريم ، من مثل قوله تعالى: (أفغير دين الله يبغون وله أسلم من في السموات والأرض طوعاً وكرهاً وإليه يرجعون )(آل عمران: 83) .. فالكل خاضع لله .. خاضع لسننه التي فطر الخلق عليها ..

وكما أن الماء يطفئ النار ..

وكما أن المعدن يتمدد بالحرارة ويتقلص بالبرودة ..

وكما أن رمي الحجر في الفضاء يجعله يسقط إلى الأرض ..

وكما أن التقاء النطفة بالبيضة يولد الجنين ..

وهذه كلها سنن مادية مشاهدة مدركة .. فكذلك السنن التي تحكم النفس البشرية والحياة الاجتماعية ، فهي سنن تقوم على مقدمات ونتائج ، وترتبط نتائجها بمقدماتها ارتباطاً وثيقاً مقدراً من الله عز وجل .

ويقدم لنا الواقع المشاهد أدلة عديدة تثبت هذه الحقيقة .. فنحن نشاهد مثلاً أن الحسد (وهو انفعال نفسي محض) يؤدي إلى نتائج مدركة تظهر بوضوح من خلال سلوك الحسود وتصرفاته ، كما تظهر فيما يعانيه الحسود من ضيق وتبرم بالحياة ، وقلق يقض مضجعه ، وينغص عليه عيشته.

ويجمع علماء النفس من خلال ما حصلوه من معلومات وخبرات عن طبيعة النفس البشرية ، بأن هذه النفس محكومة بسنن صارمة ، تقرر حالها ، من حيث الصحة والمرض ، والسعادة والشقاء ، كما يجمعون على أن الوضع النفسي للفرد يتوقف بصورة مؤكدة على عوامل عديدة ، كالثقافة والظروف البيئية والاجتماعية والسياسية .. وعوامل أخرى بات كثير منها معروفاً اليوم للباحثين في ميدان علم النفس ، بحيث أصبح هؤلاء الباحثون قادرين على علاج كثير من الاضطرابات النفسية والسلوكية بناء على هذه المعرفة . ويثبت القرآن الكريم هذه الحقيقة دون لبس ، ويبين بوضوح تام ، أن حال الإنسان من حيث السعادة والشقاء مثلاً مرهونة بنظرته إلى الحياة ، وبموقفه من هذه الحياة .. ففي سورة الشمس ، يخبرنا الله عز وجل بأن صلاح الإنسان مرهون بتزكيته نفسه ، وأن شقاءه بالمقابل ، مرهون بتدسية هذه النفس .. قال تعالى: (ونفس وما سواها ، فألهمها فجورها وتقواها ، قد أفلح من زكاها ، وقد خاب من دساها )(الشمس: 7-10).

فهذه سنة نفسية تصدق على أي إنسان ، فأيما إنسان صدق العزم ، وأخلص النية ، وزكا نفسه ، فنأى بها عن المحرمات ، وعن الخبائث ، فإن الفلاح سيكون من نصيبه ، وأيما إنسان دنس نفسه بالحرام ، ورضي بالخبائث فإن الخسارة نازلة به لا محالة.

ولقد قدم لنا القرآن الكريم السنة التي تحكم سعادة الإنسان وشقاءه بصورة معادلة رياضية لا تقبل الجدل ، وذلك في قوله سبحانه: ( فإما يأتينكم مني هدى فمن تبع هداي فلا يضل ولا يشقى * ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكاً )(طه:123-124) فالسعادة والشقاء - كما يقرر الحق تبارك وتعالى - رهن بالتزام شرع الله ، أو النأي عنه ورفضه ، وهذه سنة ربانية تحكم حياة البشر ، وستظل تحكمها إلى يوم القيامة.

ولو تتبعنا الآيات القرآنية ، لوجدناها تعرض لنا الدليل تلو الدليل على أن النفس البشرية خاضعة لسنن صارمة ، لا تقبل التبديل ولا التحويل.

فإذا ما انتقلنا بعد ذلك من نطاق النفس البشرية ، إلى نطاق المجتمع ، فإننا سنجده أيضاً محكوماً بسنن ربانية صارمة شأنه شأن النفس .. ولا عجب في هذا فإن المجتمع في الحقيقة ليس إلا مجموعة من الأفراد .. وأن حال المجتمع يعكس سلوك هؤلاء الأفراد أنفسهم ، ومن ثم فإن مصير المجتمع بأسره مرهون بسلوك أفراده .. نجد مصداق هذا في قوله تعالى: (إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم )(الرعد: 11 )، وقوله تعالى: (ذلك بأن الله لم يك مغيراً نعمة أنعمها على قوم حتى يغيروا ما بأنفسهم )( الأنفال: 53 )، وقوله كذلك: (واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة )(الأنفال: 25 ) ، وفي هذا دليل على أن سلوك الناس ، الذين يشكلون مجتمعاً ما ، يعد بمثابة مقدمة لنفاذ السنة المرتبطة بهذا السلوك .. وبمعنى آخر فإن انتقال المجتمع من حال إلى حال لا يحصل عشوائياً . بل يحصل وفق سنن ربانية تحكم مساره وتضبط وجهته.

وقد حدثنا القرآن الكريم عن حياة مجتمعات مختلفة ، منها من عاش حياة رغيدة آمنة ، ومنها من ذاق لباس الخوف والجوع ، ومنها من باد وهلك بعذاب أليم ، وتأتي هذه اللمحات القرآنية لتلفت انتباهنا إلى وجود سنن ربانية تحكم حياة المجتمعات البشرية قاطبة ، وتقرر مصيرها .. وقد كان البيان القرآني واضحاً ، حين قرر أن رقي المجتمعات أو انحطاطها مرهونان بالتزام شريعة الله ، أو النأي عنها ، ففي باب الرقي وبسط النعمة ، نجد قوله تعالى: ( ولو أن أهل القرى آمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض )(الأعراف:96 ).

وفي باب الانحطاط يخبرنا القرآن الكريم مثلاً عما آلت إليه حال النصارى ، عندما انحرفوا عن خط التوحيد ، فكان جزاؤهم أن انتشرت بينهم نار العداوة والبغضاء: (ومن الذين قالوا إنا نصارى أخذنا ميثاقهم فنسوا حظاً مما ذكروا به فأغرينا بينهم العداوة والبغضاء إلى يوم القيامة )(المائدة: 14)، فلما انحرفوا عن خط التوحيد أشد من ذلك حقت عليهم سنة ربانية أخرى ، وكان الهلاك مصيرهم: (فلما نسوا ما ذكروا به فتحنا عليهم أبواب كل شيء )(الأنعام: 44).

* وهذه كلها سنن ربانية ماضية في الناس إلى يوم القيامة.

وإلى جانب القرآن الكريم نجد عدداً غير قليل من الأحاديث النبوية ، التي بينت الكثير من السنن النفسية والاجتماعية .. ولنستمع مثلاً لهذا الحديث النبوي الجامع الذي يقول فيه صلى الله عليه وسلم: (.. لم تظهر الفاحشة في قوم قط حتى يعلنوا بها إلا فشا فيهم الأوجاع ، التي لم تكن في أسلافهم ، ولم يمنعوا زكاة أموالهم ، إلا منعوا القطر من السماء ، ولولا البهائم لم يمطروا ، ولم ينقضوا عهد الله وعهد رسوله ، إلا سلط عليهم عدو من غيرهم ، فيأخذ بعض ما في أيديهم ، وما لم تحكم أئمتهم بكتاب الله إلا جعل بأسهم بينهم ) فهذه كلها سنن اجتماعية لا تتخلف نتائجها عن أسبابها ، فهي كالمعادلة الرياضية ، التي ترتبط فيها النتيجة بالمقدمة ارتباطاً محكماً لا يقبل التبديل .

اعتراض:

يبدي بعض الباحثين تحفظهم تجاه شمولية السنن ، لأنهم يظنون أن المادة وحدها تخضع لسنن صارمة ، يمكن أن تصاغ صياغة رياضية دقيقة ، بينما لا تخضع النفس البشرية ولا الحياة الاجتماعية ، لمثل هذه الصرامة ، ويظنون فوق هذا أن التغيرات النفسية والاجتماعية تتم في حياة البشر بطريقة سحرية خارقة غامضة الأسباب !

وقد عمق هذا الظن ما حدث من فارق كبير بين تقدم العلوم الرياضية والمادية من جهة ، وبين تقدم العلوم الاجتماعية والنفسية من جهة أخرى .. فقد قطعت العلوم المادية عموماً شوطاً بعيد المدى ، وقدمت إنجازات علمية هائلة ، وأثبتت جدارتها ومصداقيتها في معظم الأحوال .. وأما علوم النفس والاجتماع فمازالت عند البدايات الأولى ، لأنها لم تعط الأهمية ذاتها ، ولهذا ظل معظمها عاجزاً عن تفسير سلوك الإنسان تفسيراً صحيحاً دقيقاً ، وظلت هذه العلوم جاهلة بمعظم السنن ، التي تتحكم بسلوك الفرد والمجتمع ، مما جعل هذه العلوم متخلفة بمراحل واسعة عن علوم المادة ، لكن هذا لا يعني أن النفس والمجتمع لا يخضعان للسنن كما تخضع المادة ، بل معناه أن الإنسان نفسه مازال مقصراً في كشف سنن النفس والمجتمع ..

والظاهر أن الالتباس في مسألة السنن النفسية والاجتماعية ، وعدم اعتبارها صارمة كالسنن المادية الأخرى ، يرجع إلى أن المادة يمكن أن تخضع للتجربة المباشرة في المختبر بسهولة ويسر ، بحيث يمكن استنباط النتائج النهائية منها خلال زمن قصير ، بينما يتعذر ذلك من التجارب النفسية والاجتماعية ، لأن إخضاع النفس والمجتمع للتجربة ليس بالسهولة نفسه ، كما أن التجربة النفسية والاجتماعية تتطلب فترة رصد طويلة ، وربما استغرقت أجيالاً عديدة.

هذا إلى جانب ما قد تمر به الظاهرة الاجتماعية من صعوبات أو نكبات خلال مسيرتها الطويلة ، مما يؤدي إلى انحرافها وتغيير معطياتها ، ومن ثم يلتبس على من يدرسها أمر الصرامة في السنن التي تخضع لها.

وربما كان هذا هو السبب في تركيز الآيات الكريمة على دعوة المؤمنين للسير في الأرض ، والنظر في تاريخ الأمم الغابرة لاستنباط الدروس والعبر (أو السنن) من خلاله ، على أساس أن التاريخ يمثل تجارب اجتماعية ونفسية واقعية ، عرفت بداياتها وتطوراتها ونهاياتها ، كما عرفت سائر الملابسات التاريخية التي أحاطت بها .. ومن ذلك قوله تعالى: (قد خلت من قبلكم سنن فسيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة المكذبين )(آل عمران: 137) وكثير من مثل هذه الآيات التي سيرد التفصيل فيها لاحقاً بإذن الله .. ومما لا ريب فيه أن الاعتبار بقصص الأمم الغابرة يغدو بلا فائدة لو لم تكن السنن التي تحكم حياة الأفراد والمجتمعات سنناً ثابتة مطردة ، يمكن أن تتكرر كلما توافرت شروطها، وانتفت الموانع التي تحول دون تحقيقها.

ملاحظة أخيرة:

وتبقى ملاحظة هامة لابد من الوقوف عندها ، ونحن في معرض الحديث عن سنن النفس والمجتمع ، وهي أن الحقيقة التي انتهينا إليها من ( أن النفس والمجتمع يخضعان لسنن صارمة لا تختلف عن تلك السنن التي تخضع لها المادة ) لا تعني أن النتائج التي انتهت إليها البحوث الاجتماعية والنفسية ، التي بين أيدينا اليوم هي نتائج صحيحة مائة بالمائة ، ولا أن القواعد الاجتماعية والنفسية التي توصل إليها بعض الباحثين صحيحة مائة بالمائة كذلك.. فما توصل إليه البشر من اكتشافات في هذا المجال أو ذاك قد يصيب أو يخطئ بمقدار ما يقترب من الحقيقة أو يبتعد عنها ، وقد حدث مثل هذا مراراً ، حتى بالنسبة للعلوم الرياضية ، التي يحسب معظمنا أنه لا يأتيها الباطل أبداً .. فكم من نظرية رياضية ظلت محل قداسة وتقدير دهوراً طويلة ، ثم نقضت من أساسها ، وظهر بطلانها .. وهكذا علم الاجتماع وعلم النفس ، وغيرهما من العلوم الإنسانية ، فهذه العلوم المختلفة تعد اكتشافات بشرية قد تصيب وقد تخطئ ، وهذا الأمر يختلف عما نريد إثباته هنا ، وهو أن النفس البشرية والمجتمع البشري كليهما يخضعان لسنن ربانية صارمة ، كما تخضع المادة ، سواء بسواء .

ويجمع الباحثون في العلوم الإنسانية ، بما فيهم الباحثون الاجتماعيون والنفسيون ، على أن علمي الاجتماع والنفس بوضعهما الحالي لا يعبران تعبيراً موثوقاً عن طبيعة السنن النفسية والاجتماعية ، أو بمعنى آخر فإن هذين العلمين ما يزالان قاصرين عن معرفة هذه السنن معرفة يقينية دقيقة .. ويمكن إرجاع أزمة هذين العلمين إلى عدة عوامل ، نذكر منها :

(1) أن الاهتمام بالدراسات النفسية والاجتماعية - على مدار التاريخ - كان أقل بكثير من الاهتمام بالدراسات المادية الأخرى ، مما جعل علم النفس وعلم الاجتماع متخلفين بمراحل عديدة عن العلوم المادية التي تطورت تطوراً مذهلاً ، وبخاصة في العصر الحديث ..

(2) أن الظواهر الاجتماعية والنفسية شديدة التعقيد ، كما قدمنا .

(3) أن العامل البشري كثيراً ما يتدخل في تفسير الظاهرة الاجتماعية أو النفسية ، فينأى بها عن الموضوعية .

(4) أن المنهج السائد اليوم في البحوث النفسية والاجتماعية يحتاج إلى إعادة نظر وتقويم ، لأن معظم الباحثين مازالوا يؤسسون معتقداتهم على أساس من التجارب التي تجري على الحيوان ، ثم يعممون هذه النتائج على عالم البشر ، وفي هذا خلط عجيب ، لأنه يفترض أن السنن الخاصة بعالم الحيوان هي ذات السنن السائدة في عالم الإنسان ن بينما هما عالمان مختلفان اختلافاً جذرياً ، فهما وإن اتفقا في بعض الصفات الحيوية من حيث الشكل ، أو التركيب ، أو الوظائف ، إلا أنهما يختلفان من حيث التكوين النفسي والعقلي .. وهذا ما يجعل تعميم التجارب الحيوانية على الإنسان خطأ فاحشاً ، يؤدي بالضرورة إلى أحكام بعيدة غاية البعد عن الحقيقة .

ولا نريد أن نستطرد أكثر في تفنيد مشكلات علمي النفس والاجتماع ، إلا أننا نريد التأكيد هنا على نقطة أساسية ، وهي أننا إذا ما توصلنا يوماً ما إلى معرفة سنة اجتماعية أو نفسية معرفة يقينية ، فإننا سنجد أنها لا تختلف عن أية سنة مادية أخرى من حيث شمولها وصرامتها ، وسوف نجد كذلك أننا نستطيع صياغة هذه السنة الاجتماعية ، أو النفسية ، صياغة رياضية ، كما نصوغ أية معادلة رياضية صحيحة .

.. وهكذا يبدو لنا جلياً أن كل ما في هذا الكون من جماد وحيوان ونبات يخضع لسنن ربانية محكمة .. وأنه لا شيء في هذا الوجود خارج عن سنة الله .. بل الكل خاضع له سبحانه .. وصدق الله العظيم الذي يبين هذه الحقيقة الباهرة في محكم تنزيله فيقول: (ولله يسجد من في السموات والأرض طوعاً وكرهاً وظلالهم بالغدو والآصال )(الرعد: 15).

خصوصية السنن:

هذا ، ولكل سنة من السنن التي فطر الله عليها أمور خلقه خصوصيتها المتفردة ، ونعني بها أن السنة التي يتم بها أمر من الأمور هي واحدة لا تقبل التعدد ، فكل سبب يولد النتيجة المقدرة له وحده ، ولا تنفصل النتائج عن أسبابها ، وكل مجموعة متفقة في حقيقتها من مجاميع الطبيعة يلزم أن تتفق كذلك في الأسباب والنتائج ، أي يلزم أن يكون لها سنة مخصوصة تتحكم فيها ، ومثال هذا ما ذكرناه من خضوع العناصر الكيميائية المختلفة للسنة ، أو القانون ، الذي اكتشفه العالم (دالتن) فهذا القانون هو الذي يحكم تفاعل العناصر الكيميائية بعضها مع بعض ، إذ لا يتحد عنصر مع عنصر آخر إلاّ وفق نسبة محددة ، وما لم يتوافر العنصران بالنسبة المطلوبة فإنهما لا يتحدان معاً ، ولا نحصل منهما على المركب الذي نريد .. وكذلك هو كل أمر في هذا الوجود ، فكل أمر خاضع لسنة محددة لا يتم إلا بها ، ولا يمكن أن يتم بغيرها من السنن .. فتركيب الماء بمواصفاته المعروفة ، والذي رأينا في مثال سابق أنه يتم من اتحاد الهيدروجين والأكسجين ، لا يمكن أبداً أن يتم من اتحاد الأكسجين بالهيليوم مثلاً ، مع العلم بأن الهيليوم هو أقرب العناصر الكيميائية إلى الهيدروجين من حيث البنية الذرية .

ويمكن أن نسوق أمثلة عديدة على أن سنة مخصوصة ، لا تتم إلا من خلال شروط مخصوصة وعلى أن كل أمر في هذا الوجود يخضع لسنة مخصوصة كذلك .. وهذه الحقيقة يجب أن تظل ماثلة في أذهاننا كلما أردنا أن نحقق هدفاً من الأهداف ، أو القيام بعمل من الأعمال فإن الخطوة الأولى في سبيل ذلك ، هي أن نتبين السنة الخاصة بهذا العمل أو ذاك الهدف ، لأن القيام بأي عمل دون معرفة بالسنة التي يخضع لها ، يعد ضرباً من العبث ، وإهداراً للطاقة .

ويمكن أن نشبه السنة بالخط المستقيم .. فمن المعروف أن الخط المستقيم هو أقصر خط يصل بين نقطتين ثابتتين ، فلو كان لدينا مثلاً النقطتان أ ، ب فإننا لا يمكن أن نصل بينهما إلا بخط مستقيم واحد هو أ ب :

أ x _________________ x ب

وأما بقية الخطوط التي تمر بها هاتين النقطتين ، فإن كانت مستقيمة انطبقت على الخط الأول ، وكانت مستقيمة مثله ، أو كانت هي هو ، لأنها جميعاً تحقق صفة الاستقامة ، وأما إن كانت الخطوط متعرجة فإنها تكون قد خرجت عن الاستقامة ، ولم تعد تحقق الصفة المطلوبة .. وهكذا هي سنن الله في الخلق ، فكل سنة تتعلق بسبب ونتيجة ، كما يتعلق الخط المستقيم بالنقطتين ( أ ، ب ) وكما أنه لا يوجد سوى خط مستقيم واحد يصل ما بين هاتين النقطتين ، فكذلك لا توجد سوى سنة واحدة تتعلق بسبب مخصوص وبنتيجة مخصوصة . وهذه الحقيقة تقدم لنا منطلقاً هاماً جداً للنظر إلى مشكلاتنا ، فمادام أن لكل أمر سنة مخصوصة لا يتم إلا من خلالها ، فإن هذا يعني ضرورة الاجتهاد في إصابة السنة ، التي تحكم كل قضية من القضايا ، التي تعترضنا ، لأن إصابة السنة هذه تحل لنا القضية من أساسها ، وتغلق من ثم باب الاختلاف والنزاع .. وهذا ما سوف نفصل فيه - بإذن الله - عند الحديث عن علاقة السنن بالاجتهاد في الشريعة الإسلامية .

2- الثبات :

وثبات السنة يعني أنها لا تتبدل ولا تتحول ، مصداقا لقوله تعالى : ( فلن تجد لسنة الله تبديلاً ولن تجد لسنة الله تحويلاً )(فاطر 43) .

* والتبديل ( لغة ) : التغيير ، قال تعالى: (وإذا بدلنا آية مكان آية )(النحل: 151) ، وقال: (ثم بدلنا مكان السيئة الحسنة )(الأعراف 95) .

* وأما التحويل ( لغة ) فهو التحول من حال إلى حال ، يقال : تحولت القوس ، أي صارت معوجة بعد استقامة ، ويقال ، حوله : أي نقله من موضع إلى آخر .

فهذان الأمران ( التبديل والتحويل ) لا يطرأن أبداً على ما بث الله من سنن في هذا الوجود، فإن سنن الله باقية على حالها ، منذ خلق الله السموات والأرض ، وهي مستمرة على هذه الحال من الثبات إلى أن يشاء الله .. وفي هذا ما فيه من دلائل بالغة ، توحي برحمة الله عز وجل بالعباد .. فلولا ثبات السنن على هذه الشاكلة لما أمكن للبشر أن يسخروها أو يستفيدوا منها ، ولما كان استخلاف البشر في الأرض ممكناً ، إذ كيف يمكن أن يستخلفوا في عالم هلامي لا يثبت على حال ؟ ، وكيف يمكن أن يسخروا مثل هذا العالم الذي لا يحكمه قانون ، ولا تضبطه سنة ؟

ومن جهة ثانية .. لو لم تكن سنة الله ثابتة على هذه الحال ، لما كان في هذا الوجود توازن ولا استقرار ، ولكانت الفوضى حينئذ هي سمة الخلق كله .. وهذا ما يتنافى مع الواقع المشهود ، الذي تدلنا كل صغيرة وكبيرة فيه على آيات التوازن والاستقرار، كما قال تعالى في وصفه: (وكل أمر مستقر )(القمر: 3).

ولكن .. ما الذي نعنيه بثبات السنن؟

إننا حين نصف السنن بالثبات ، فإننا نعني بذلك ارتباط الأسباب بالمسببات ، أو ارتباط العلة بالمعلول ، ارتباطاً ضرورياً لا ينفصم ، إلا أن يشاء الله .. فقد اقتضت حكمة الخالق سبحانه ، أن يكون له في كل حادثة سبب يؤدي إليها ، وأن يكون وراء كل معلول علة يرتبط بها .. وهذا ما يعطي السنن صفة الثبات ..

ومما لا ريب فيه أن الكون لو لم يكن خاضعاً لسنن ثابتة ، لا تتبدل ، ولا تتحول ، ولو كانت الأحداث فيه تجري مصادفة بلا ضابط يضبطها كما يدعي الملحدون.. لما كان ثمة ضرورة إذن لوجود تماثل بين ذرات العنصر الكيميائي الواحد مثلاً ، ولما كان من الضروري أن تشترك جميع ذرات هذا العنصر بصفات معينة، تميزها عن غيرها من ذرات العناصر الأخرى، ولكانت ذرات العناصر المختلفة في تبدل مستمر، وعندئذ يكون من الجائز أن تحدث الظاهرة في بعض ذرات العنصر الكيميائي ، ولا تحدث في غيرها من ذرات العنصر نفسه. لا لشيء إلا للمصادفة! وهذا ما لا يقبله منطق العقل ولا تؤيده الوقائع الملموسة والمشاهدة ، والتي تثبت كلها التقدير والتدبير في أمر الخلق كله ، ونفي العبث عنه ، وتوحي بالثبات في السنن ، التي تحكم كل شيء فيه .. وهنا .. قد يتبادر إلى الذهن سؤال : هل ثبات السنن ماض إلى مالا نهاية؟ أم أن له أجلاً معلوماً؟

ونقول: إن الثبات في سنن الله ليس ثباتاً أبدياً لا نهاية له ، بل هو ثبات موقوت، والظاهر من نصوص قرآنية عديدة أن نهايته تتزامن مع انتهاء مهمة الإنسان فوق هذه الأرض ، فيوم تنتهي هذه المهمة ، ينتهي أجل السنن ، التي تسود اليوم عالمنا ، ليبدأ عمل سنن أخرى قدرها الله للحياة الآخرة .. نجد مصداق هذا في قوله تعالى: ( فلا تحسبن الله مخلف وعده رسله إن الله عزيز ذو انتقام ، يوم تبدل الأرض غير الأرض والسموات وبرزوا لله الواحد القهار )(ابراهيم: 47-48) فإن يوم القيامة - كما يخبرنا القرآن الكريم - يمثل نقطة تحول حاسمة ، ليس في حياتنا نحن البشر فحسب ، بل في حياة الكون كله .

اعتراض:

وقد كنت في أحد الأيام أعرض فكرة ثبات السنن على واحد من أصحابي المتخصصين بالدراسات الجيولوجية فأبدى اعتراضه على صفة الثبات هذه ، وقال : (.. لا أحسب أن السنن التي تتحكم بالكون ثابتة على هذه الصورة ، وحين نتتبع مثلاً تاريخ المخلوقات ، التي تتابع ظهورها على وجه الأرض ، فإننا نلاحظ حدوث تبدل في الخلق ، مما يدل دون ريب على حدوث تبدل في السنن التي تحكم هذا الخلق .. فقد أثبتت المشاهدات والدراسات الجيولوجية الكثيرة ، أنها سادت فوق الأرض - خلال حقبة تاريخية بعيدة - حيوانات بالغة الضخامة ، كالديناصورات وأفيال الماموث وغيرها من الحيوانات الماردة ، كما انتشرت في تلك الحقبة أنواع عملاقة من الشجر والنبات .. ثم انقرضت تلك المخلوقات ، وظهرت من بعدها مخلوقات أخرى تختلف عنها اختلافاً تاماً ، ومن هذه المخلوقات الجديدة .. الإنسان .. أفلا يدل هذا التبدل في الخلق على تبدل في سنن الحياة ؟).

وقبل أن أجيب صاحبي ، أردف يقول : (ومن جهة ثانية ، فقد شهدنا في العصر الحاضر اختفاء بعض الأمراض ، التي كانت سائدة في عالمنا ، كما شهدنا ظهور أمراض أخرى جديدة ، فقد اختفى داء الجدري مثلاً من على وجه الأرض منذ سنوات ، ولم تسجل منه أية حالة منذ شهر تشرين الأول ( أكتوبر ) 1977م كما شهد هذا القرن ظهور داء جديد تماماً ، هو داء نقصان المناعة المكتسب ، الذي اشتهر باسم (الإيدز) والذي سجلت الحالة الأولى منه عام 1981م.. أفلا يدل هذا على تبديل في السنن التي تتحكم بحياة المخلوقات ؟

فقلت لصاحبي : إن هذه الأمثلة التي أتيت بها ليس دليلاً على التبدل في السنن ، بل إنني لأرى فيها دليلاً آخر يؤيد ( الثبات في السنن ) ولنأخذ المثال الأول الذي ذكرته عن اندثار المخلوقات العملاقة التي يقال : إنها سادت في الأرض قبل خلق الإنسان .. فأنت تعرف يا صديقي دون شك ما انتهى إليه العلماء حول اندثار تلك المخلوقات ، إذ يرجحون أنها اندثرت لسبب عادي ، أو قل سنة معروفة من سنن الحياة ، وهي أن لكل جسم حي درجة حرارة معينة لا يستطيع العيش خارج نطاقها ، وقد أظهرت الدراسات الجيولوجية أنه داهم تلك المخلوقات عصر جليدي بالغ القسوة ، لم تستطع تلك المخلوقات أن تصمد أمامه ، فقضت نحبها واندثرت عن بكرة أبيها .. ثم شاءت إرادة الله عز وجل ، أن ينحسر العصر الجليدي ، وأن يسود الأرض عصر جديد يناسب حياة البشر ، ومخلوقات أخرى قدر الله خلقها في ذلك الزمن ..

ولم يصطبر صاحبي حتى أكمل حديثي ، بل اعترض قائلاً : ( وهذه العصور التي تتعاقب بين وقت وآخر على سطح الأرض أليست ناشئة عن تغيير أو تبديل في السنن ؟ ) .

فقلت : لا .. وإنما تتعاقب هذه العصور كما تتعاقب فصول الربيع والخريف والصيف والشتاء ، بنظام ثابت ، وتوقيت محدد ، وفق سنن ربانية محكمة .

ثم تابعت أقول : وأما مثالك الآخر ، الذي اخترته من عالم الطب ، فهو كذلك لا يؤيد اعتراضك على ثبات السنن ، فالجدري مثلاً الذي اختفى منذ سنوات قريبة ، لم يختف نتيجة تغيير في سنة المرض ، بل اختفى لأسباب معروفة ، أهمها تعميم استخدام اللقاح الواقي من الجدري على نطاق واسع في بلدان العالم قاطبة .

قال صاحبي يعترض من جديد : ولكن اللقاح لم يعد مستعملاً الآن ، ومع هذا لم تعد تسجل أية حالات جديدة من المرض ؟

قلت : أجل ، هذا صحيح فعلاً ، فقد أوقف العلماء استخدام اللقاح لأنهم أصبحوا واثقين من أن الجنس البشري قد اكتسب نوعاً من المناعة المتأصلة ، التي أصبحت تشكل إخلالاً في سنة الإصابة بالجدري .. إذ تتطلب هذه السنة الخاصة بالعدوى بالأمراض المعدية ، وجود عاملين رئيسيين ، هما :

1 - العامل الممرض ( وهو فيروس الجدري في المثال المذكور ) .

2 - الجسم القابل للعدوى والمرض .

ويعتقد أن لقاح الجدري ، جعل أجسام البشر غير قابلة للعدوى والمرض بجرثومة الجدري ، أي حدث إخلال بالعامل الثاني ، الذي يلزم لحدوث هذا المرض .. وهذا يعني أن سنة الإصابة بالمرض لم تتعطل أو تتبدل ، بل حدثت هنالك موانع حالت دون فعل هذه السنة ، وهذا - طبعاً - بالنسبة للجدري فقط ، وأما بقية الأمراض السارية ، فلم يحدث فيها مثل هذا ، ومازالت هذه الأمراض تصيب أعداد كبيرة من البشر كل يوم .. مما يعني أن داء الجدري قد يعود إلى الظهور مستقبلاً ، إذا ما زالت الموانع التي تحول دون ظهوره اليوم.

وكما هو الحال بالنسبة لداء الجدري ، فكذلك الحال بالنسبة لداء ( الإيدز ) فهو يخضع أيضاً لسنة الأمراض السارية التي أشرنا إليها .. وقد ظهر هذا الداء عندما تهيأت الظروف لظهوره .

وقاطعني صاحبي فقال : وما قولك في الحديث الشريف الذي جاء فيه (.. لم تظهر الفاحشة في قوم قط حتى يعلنوا بها إلا فشا فيهم الأوجاع التي لم تكن في أسلافهم )؟

قلت : صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنه لا ينطق عن الهوى .. ولكن هذا الحديث يا صاحبي يمثل برهاناً على ثبات السنن ، فإن ظهور أوجاع جديدة بين الناس ، لا يعني أنها تتطلب خلق سنن جديدة من أجلها ، وإنما يكفي أن تتوفر الشروط اللازمة لحصولها ، وهي كما قلنا آنفاً :

وجود العامل الممرض ، أي فيروس الإيدز بالنسبة للحالة التي تعرضها ، وهذا الفيروس ربما يكون قد خلق قبل هذا الزمان بآماد بعيدة ، أو أنه خلق حديثاً بمشيئة الله ، نتيجة تفاعل بعض السنن الكونية ، فيما بينها ، بسبب ظروف طارئة جديدة .

والعامل الآخر استعداد الجسم البشري للإصابة بهذا المرض ، وهذا الشرط يمكن أن يتوفر في أي زمان ، إما لأن جسم الإنسان يمتلك أصلاً مناعة ضد المرض الجديد ، وإما لضعف يطرأ على الجسم فيجعله قابلاً للعدوى بهذا المرض .. وقد اثبتت الدراسات الحديثة أن تعاطي المخدرات ، وممارسة الشذوذ الجنسي ، يضعفان مناعة الجسم، ومما يؤيد هذه الحقيقة انتشار داء الإيدز خاصة في البلاد التي فشت فيها مثل هذه الفواحش .. وعلى هذه الشاكلة يمكن أن نفهم حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم .. فهو لا يحتم حصول تغيير أو تبديل في السنن التي فطر الله عليها أمور خلقه .

موقف الإنسان تجاه ثبات السنة:

.. وثبات السنة على صورة واحدة لا تتبدل ، يشكل نوعاً من العقبة أمامنا بقدر ما يمنحنا قدرة على التعامل معها والتحكم بمسارها ، إذ كيف يمكننا أن نوجه السنة أو نسخرها لخدمتنا ، ونحن لا نملك أن نغير شيئاً من طبيعتها ؟ هنا يمكن أن نشبه السنة بالجدار المتين ، الذي لا يمكن هدمه ، ولا اختراقه ، ولا زحزحته عن مكانه ، فمثل هذا الجدار يمثل - دون ريب - نوعاً من التحدي أمامنا .. غير أننا يمكن أن نواجه هذه العقبة دون تغيير شيء من صفات الجدار .. فيمكننا مثلاً أن نستخدمه للاستناد وإقامة جسر فوقه ، أو نستخدمه كجزء من بناء غرفة ، أو نستخدمه لدرء الريح والشمس .. وبهذا نستطيع التحكم بالجدار من غير تبديل في وضعه أو اتجاهه أو صفاته .. وكذلك هي سنن الله في الخلق ، والله عز وجل وهبنا القدرة على تسخيرها في شؤون حياتنا بهدايته لنا إلى كشف صفاتها ، وإعطائنا القدرة على التصرف بها ، من خلال هذه الصفات ، وليس من خلال تغييرها .

ويمكن أن نقدم مثالاً آخر يزيد الفكرة وضوحاً .. فقد خلق الله عز وجل العناصر الكيميائية المختلفة ، وجعل لكل منها صفات كيميائية وفيزيائية ثابتة لا تتغير ، ومع هذا فقد استطاع الإنسان بفضل الله أن يحصل من هذه العناصر على صفات جديدة ، من خلال التفاعلات التي تتم بين بعض العناصر وبعضها الآخر .

وتعد سنة الله في الخلق بمثابة عناصر كيميائية ، ذات صفات ثابتة لا تتغير ، وكما نحصل من تفاعل العناصر الكيميائية على مركبات جديدة ، وصفات جديدة ، فكذلك التفاعل بين السنن ، التي فطر الله عليها أمور الخلق ، فإن هذا التفاعل يمدنا بقدرات تسخيرية جديدة ، لم تكن متاحة لنا من قبل .. ونضرب لهذا مثلاً من عالم الفضاء والأقمار الصناعية .. فمن المعلوم أن هناك سنتين مختلفتين تتحكمان في دوران الأقمار الصناعية حول الأرض:

(1) سنة الجاذبية الأرضية.

(2) وسنة القوة الطاردة المركزية.

فالقمر الصناعي إنما يستقر في مداره الثابت حول الأرض نتيجة تفاعل هاتين السنتين ، فيما بينهما، فالجاذبية الأرضية تشد القمر الصناعي نحو مركز الأرض بقوة معينة ، بينما تدفعه القوة الطاردة بعيداً عن مركز الأرض بقوة مساوية للأولى بالمقدار ، ومعاكسة لها بالاتجاه ، فتكون المحصلة استقرار القمر في مدار ثابت حول الأرض .

وعلى هذه الصورة من الفهم يجب أن يكون تعاملنا مع السنن ، التي فطر الله عليها أمور الخلق ، فليس لنا أن نفكر في تعديل صفاتها ، أو تبديلها ، وإنما علينا أن نعرف صفاتها ، وأن نتصرف بها وفق هذه الصفات الثابتة ، التي قدرها الله عز وجل كما شاء .

3- الاطراد:

والاطراد في ( اللغة ) : التتابع والتسلسل.

ونعني باطراد السنة تتابع حصولها ، أو تكرار آثارها على الوتيرة نفسها كلما توافرت شروطها ، وانتفت الموانع التي تحول دون تحقيقها .. ونضرب مثلاً لهذا تركيب الماء ، فالماء يتركب من اندماج غازين مختلفين هما الأكسجين والهيدروجين وفق المعادلة الكيميائية التالية:

H2 + O2 = 2H2O

وقد أصبح في مقدورنا اليوم أن نعيد تشكيل الماء من هذين الغازين بطرق اصطناعية ، بعد أن عرفنا الشروط التي تتحكم باندماجهما ، أهم هذه الشروط أن ندمج العنصرين بمقدارين متناسبين ، وفق قاعدة النسب التي اكتشفها العالم الكيميائي ( دالتن ) والتي تقول : ( إن الاتحاد الكيميائي بين العناصر يجري طبقاً لنسب معينة من هذه العناصر ، في ظروف وشروط خاصة بكل منها ) فهذه القاعدة تعد سنة مطردة تخضع لها جميع التفاعلات الكيميائية التي تتم بين مختلف العناصر .. وكلما وفرنا شروط هذه السنة حصلنا على نتائج التفاعل المطلوب ، حتى ولو أعدنا التفاعل مئات المرات.

وهذا ما نعنيه باطراد السنة ، فجميع السنن التي فطر الله عليها أمور الخلق قابلة للتكرار والإعادة - بإذن الله - كلما توافرت شروطها ، وانتفت الموانع ، التي تحول دون تحقيقها .. فالمطر يهطل بإذن الله كلما تبلدت الغيوم في السماء وتهيأت الظروف الجوية المواتية ، والحجر يسقط إلى الأرض كلما ألقينا به في الفضاء ، واليد تحترق كلما لامست النار ، والمرض يحصل كلما صادفت الجراثيم جسماً قابلاً للعدوى والمرض .. وهكذا .

وهناك آيات كثيرة في القرآن الكريم أشارت إلى صفة الاطراد في سنن الله ، منها قوله تعالى : (يا أيها الذين آمنوا إن تنصروا الله ينصركم ويثبت أقدامكم )(محمد: 1) (وإن تصبروا وتتقوا لا يضركم كيدهم شيئاً إن الله بما يعملون محيط )(آل عمران:120) (من عمل صالحاً من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينه حياة طيبة ولنجزينهم أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون )(النحل: 97) ، ( من يعمل سواء يجز به )( النساء: 123)، ( ألم تر أن الله يزجي سحاباً ثم يؤلف من بينه ، ثم يجعله ركاماً فترى الودق يخرج من خلاله ، وينزل من السماء من جبال فيها من برد فيصيب به من يشاء ويصرفه عن من يشاء ، يكاد سنا برقه يذهب بالأبصار )(النور - 43).

فهذه كلها سنن ربانية مطردة ، لا تتخلف بإذن الله إلى يوم القيامة ، وأمثالها كثير في القرآن الكريم .. وإن من يدقق النظر في أحكام الشرع المختلفة ، يجد أنها تعبر عن نوع من السنن المطردة ، التي لا تتخلف نتائجها عن مقدماتها ، فإن ترك شيء مما أمر به الشارع الحكيم يترتب عليه عاقبة وخيمة دوماً ، في الدنيا قبل الآخرة ، وإن الإتيان بشيء قد نهى الله عنه يترتب عليه كذلك عواقب وخيمة في الدنيا قبل الآخرة ، وفي هذا غاية العدل والحكمة والتدبير .

وقد ذكر العلامة ابن قيم الجوزية رحمه الله بهذا الصدد ما يلي : ( .. لهذا يذكر الشارع العلة والأوصاف المؤثرة ، والمعاني المعتبرة ، في الأحكام القدرية والشرعية والجزائية ، ليدلك بذلك على تعلق الحكم بها أين وجدت ، واقتضائها لأحكامها ، وعدم تخلفها عنها إلا لمانع يعارض اقتضاءها ، ويوجب تخلف أثرها عنها).

ومن هنا يتبين أن سسن الله في الخلق تقوم على الاطراد ، بحيث تمضي السنة إلى غايتها المقدرة بإذن الله، كلما توافرت شروطها ، ولم يكن ثمة ما يحول دون تحقيقها .. ويمكن تشبيه السنة من هذه الوجهة بطلقات البندقية فهي تنطلق من الفوهة كلما ضغطنا على الزناد ، وكذلك هي سنن الله ، فهي تمضي إلى غايتها كلما وفرنا شروطها.

وكما أننا نفقد السيطرة على الطلقة بمجرد خروجها من الفوهة ، فكذلك نفقد السيطرة على نتائج السنة فور أن نوفر لها شروطها ، لأنها ستمضي بعد ذلك لتحقيق أهدافها شئنا ذلك أم أبينا .

وقد يعترض بعضهم على صفة الاطراد في السنن ، بحجة أن الصفات لا ترتبط بالموجودات ارتباطاً لازماً ، بل ترتبط بها ارتباط ( عادة ) إذ يعتقد هؤلاء مثلاً أنه ليس من طبيعة النار الإحراق ، ولكن الله يجعل فيها هذه الصفة لحظة ملامستها ! وكذلك السكين ليس من طبيعتها القطع ، وإنما يخلق الله فيها هذه الصفة حين إمرارها على الجلد مثلاً !

ويرى هؤلاء أن ارتباط الصفات بالموجودات إنما تتشكل في أذهاننا نتيجة العادة ، فقد اعتدنا أن نرى النار تحرق ، والسكين تقطع ، فارتبطت في أذهاننا .. هذه الصفات بهذه الموجودات ، ارتباط عادة .

والحقيقة أن هذه النظرة إلى طبيعة الأشياء قد نشأت نتيجة ملابسات تاريخية باتت معروفة في تاريخنا الإسلامي ، فقد بدأ الحديث عن الجواهر والأعراض ، وارتباط الأعراض بالجواهر منذ العصور الإسلامية الأولى ولا سيما في القرن الهجري الثاني ، حين بدأ الجدال بين أهل الفلسفة وأهل العقيدة ،ولعل أكثر من تكلموا في هذه القضية الأشاعرة والمعتزلة الذين حاولوا نفي فكرة ( الطبع ) ، التي كان يقول بها بعض الفلاسفة القدماء ، فقد اعتقد أولئك المتكلمون أن التسليم بوجود الصفات في طبع الأشياء يعطل الإرادة الإلهية ، ويجعل هذه الأشياء فاعلة بذاتها وليس بقدرة الله ، وبما أنه لا يجري شيء في هذا الوجود إلا بمشيئة الله ، فقد أصروا على أن الصفات ليست مرتبطة بالموجودات ارتباطاً لازماً ، وأن الله يجعل فيها تلك الصفات ساعة يشاء ، ليدللوا من ذلك على هيمنة المشيئة الإلهية على العالم ، في كل حين !

ولا ريب في أن هذه النظرة إلى العالم تضفي عليه صورة سحرية غريبة ، لأنها تجعل من الجائز للنار مثلاً أن تحرق ، أو لا تحرق ، بنفس النسبة ، وفي جميع الأحوال ، وكأن الأمر عبث لا يضبطه ضابط !! وهذا ما يؤيده الواقع المحسوس ، الذي يثبت لنا بما لا يدع مجالاً للشك صفة الاطراد في سنن الله التي تحكم الوجود .

وقد أخطأ أولئك المتكلمون ، حين ظنوا بأن الاطراد في السنن ينفي المشيئة الإلهية أو يعطلها ، وقد سبق أن بينا من قبل ، بأن السنن التي تحكم هذا الوجود ، ما هي إلا قدر من قدر الله عز وجل ، فهو سبحانه الذي قدره وأراد لها أن تعمل على هذه الصورة من الاطراد ، لكي يستقر أمر الخلق ، ويستطيع الإنسان تسخير ما في الكون في شؤون حياته .

وملازمة الصفات للموجودات لا تعني تعطيل المشيئة الإلهية ، لأن هذه الصفات ما كان لها أن تكون - أصلاً - لولا مشيئة الله سبحانه ، أضف إلى ذلك أن الله عز وجل ، الذي جعل في النار مثلاً صفة الإحراق قادر على أن يسلبها هذه الصفة متى شاء ، ودليل ذلك أنه سبحانه قال للنار: (كوني برداً وسلاماً على إبراهيم )(الأنبياء: 69) ، وهذا يعني أن صفة الإحراق كانت ملازمة للنار ، قبل إلقاء إبراهيم عليه السلام فيها ، وأن الله سلبها هذه الصفة في هذا الظرف الخاص ، على وجه المعجزة لنبيه عليه السلام ، على أنه يجب ألا يغيب عن بالنا أن سلب الإرادة الإلهية للصفات ، أو تعطيل سنة من السنن ليس أمراً اعتباطياً متروكاً للمصادفة أو الاحتمال ، بل شاءت إرادة الله عز وجل أن يكون ذلك محكوماً بظروف مخصوصة معلومة ، كما هو الحال في المعجزات مثلاً ، مما يؤكد أن صفة الاطراد في السنن هي الأصل ، وما عداها هو الاستثناء ، وهذا ما سوف يفصل الحديث فيه بإذن الله عندما نتناول خوارق السنن.

ونخلص من هذا العرض إلى أن السنن التي تحكم الوجود ، تعمل فيه بنوع من الاطراد الذاتي (الأوتوماتيكي) فالنار من طبيعتها أن تحرق ، والكهرباء من طبيعتها أن تصعق ، والسم من طبيعته أن يقتل ، وعلى هذا الأساس يجب أن نتعامل مع العالم من حولنا .. مع التذكير بأن هذا الاطراد خاضع في الوقت ذاته لمشيئة الله كما قال تعالى: ( ألم تر إلى ربك كيف مد الظل ولو شاء لجعله ساكنا ً)(الفرقان: 45) ، فإن مد الظل كناية عن اطراد حركة الشمس والأرض ،ولو شاء الله لعطل هذا الاطراد ، وجعل الشمس والأرض ساكنتين ، وفي هذا دليل على الهيمنة الإلهية المطلقة الدائمة .. فالله عز وجل ، لم يخلق الكون ويتركه وشأنه ، بل هو قائم على أمر خلقه في كل حين ، يسطر على كل ذرة من ذرات الكون ، وقادر أن يفعل بخلقه ما يشاء (إن الله يحكم ما يريد )(المائدة: 1) ، (إن ربك فعال لما يريد )(هود: 107) .

وقد أصبحنا اليوم أقرب إلى فهم هذا النظام الرباني المطرد ، بعد أن أتاحت لنا العلوم الحديثة ، ما يعرف بالنظم ذاتية التسيير ( الأوتوماتيكية ) إذ نستطيع مثلاً أن نشغل جهاز التلفزيون بواسطة جهاز التحكم عن بعد ( ريموت كنترول ) فيظل التليفزيون يعمل من تلقاء ذاته دونما حاجة لتدخلنا المستمر من أجل حثه على العمل ، وهذا لا يعني أننا فقدنا السيطرة على عمل التليفزيون ، فنحن قادرون متى شئنا أن نوقفه عن العمل ، أو نوجهه إلى محطة جديدة ..

فإذا كنا قد سلمنا بأن الإنسان - صاحب القدرة المحدودة المقيدة - استطاع إنشاء نظم ذاتية الحركة ، ونخضع في الوقت نفسه للسيطرة ، فكيف لا نسلم بأن الله عز وجل خلق هذا الكون وفق نوع من الاطراد الذاتي الخاضع للسيطرة الربانية؟!

============

# كشف سنن الله في الخلق

.. لقد خلق الله هذا الكون البديع ، وبث فيه من المخلوقات أنواعاً كثيرة لا تعد ولا تحصى ، حتى إننا لو أردنا إحصاء المعلومات ، التي حصلها البشر حتى يومنا هذا عن تلك المخلوقات ، لكان من العسير على أية موسوعة أن تتسع لمجرد فهرسة هذه المعلومات ، هذا على الرغم من أن ما حصله البشر من علم ، لا يعد شيئاً مذكوراً بالنسبة للحقائق ، التي يزخر الكون بها .. وصدق الله العظيم الذي يبين طرفاً من هذه الحقيقة المعجزة بقوله تعالى: (وما أوتيتم من العلم إلا قليلاً )(الاسراء: 85) . ومن هنا يمكن أن ندرك مقدار التنوع في السنن ، التي تحكم مخلوقات الله ، وندرك كذلك السبب في عدم انكشاف كثير من هذه السنن .. ويمكن أن نبسط هذه المسألة على الوجه التالي :

إن الإنسان مستخلف في هذه الأرض ، لأجل أداء مهمة محددة ، بينتها الآية الكريمة: (وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون )(الذاريات: 56) .. والعبادة هنا لا تعني فقط الشعائر التعبدية ، من صلاة وزكاة وصوم وحج وغيرها ، مما يسمى بالعبادات في كتب الفقه الإسلامي ، بل تعني الانقياد والانصياع التامين للمنهج ، الذي شرعه الله عز وجل للناس ، ولكي يستطيع الإنسان القيام بهذه الأمانة ، فقد زوده الله عز وجل بالكفايات والاستعدادات اللازمة لكشف بعض السنن ، التي تعينه على أداء هذه الأمانة ، وتفتح أمامه الطريق لفهم هذا العالم ، وفك رموزه ، والتعامل معه.

وأما بقية السنن المقدرة لهذا الوجود ، فقد نتوصل إلى معرفة أسرار بعضها ، بينما تخفى علينا أسرار بعضها الآخر .. وإن الواقع ليشهد بأننا نرى كثيراً من مخلوقات الله عز وجل ، ونرى كثيراً من الظواهر ، فلا ندرك الحكمة من خلقها ، ولا ندرك السنن التي تحكمها ، وكثيراً ما تساءلنا بيننا وبين أنفسنا : لماذا خلق الله هذه الخلائق ؟! دون أن نهتدي إلى جواب .. لكن هذا لا يعني أن تلك الخلائق قد خلقت عبثا .. (ربنا ما خلقت هذا باطلاً سبحانك )( آل عمران: 191) بل كل شيء عند الله بمقدار (إنا كل شيء خلقناه بقدر )( القمر: 49) ولكل أمر أراده حكمة ، سواء أدركناها أم لم ندركها ، وسواء علمنا السنة التي يخضع لها هذا الأمر أم لم نعلمها !

ويرجع خفاء بعض السنن عنا إلى تقصير في البحث عن هذه السنن ، وقد يرجع أحياناً أخرى إلى القصور في الوسائل المتاحة بين أيدينا ، ومن ذلك مثلاً الإشعاع الذري .. فهذا الإشعاع الذي أوجده الله عز وجل منذ ملايين السنين ، لم نتمكن من اكتشافه إلا بعد تطوير الأجهزة الحساسة لهذا الإشعاع ، الذي يصدر عن العناصر الكيميائية المشعة .. وبعد دراسة هذه الظاهرة عرفنا بوجود سنة تحكم عملية الإشعاع الذري .. وعندما تعمقنا بدراسة هذه السنة استطعنا - بفضل الله - أن نسخر الإشعاع الذري في أغراض شتى ، كعلاج الأورام السرطانية ، وتوليد الطاقة الكهربائية ، وصنع القنابل الذرية ..

الحاجة أم الاكتشاف:

.. ومن الملاحظات البارزة عبر التاريخ ، أن الأمم تمر بمراحل متغيرة , فتتطور أحوالها .. وتطرأ عليها ظروف مستجدة ، تضطرها للبحث عن وسائل جديدة ، تعينها على القيام بعمارة الأرض ، وأداء أمانة الاستخلاف ..

وتحت ضغط هذه الظروف القاهرة ، ينشط الإنسان في الدراسة والبحث والتنقيب ، إلى أن تتكلل مساعيه بالنجاح ، وتنكشف له سنن جديدة تكون بمثابة حلول مرحلية للمشكلات التي واجهته ..

ومن أجل هذا نجد كثيراً من آيات القرآن الكريم تحثنا على السير في الأرض ، بقصد الكشف عن السنن المغيبة عنا ، والعمل على تسخيرها فيما يصلح لشؤون حياتنا .. وهذا هو الأصل في قضية استخلاف الإنسان من قبل الله عز وجل ، والتي عرضها القرآن الكريم وفق محاور ثلاثة :

الأول : خلق الإنسان : (وإذا قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة )( البقرة: 30 ).

الثاني : تسخير الكون للإنسان: (وسخر لكم ما في السموات وما في الأرض جميعاً منه ، إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون )(الجاثية: 13) .

الثالث : دعوة الإنسان للنظر والتدبر والبحث : ( قل انظروا ماذا في السموات والأرض )(يونس: 101) .

وعلى هذه الشاكلة يجب أن نفهم القضية .. فالله عز وجل هو خالق البشر ، وهو مستخلفهم في هذه الأرض، ومسخر لهم كل شيء في هذا الوجود ، وقد أمرهم سبحانه أن يسيروا في الأرض ، فينظروا كيف تمضي مسيرة الحياة وفق سنن ثابتة ، غير عصية على الإدراك البشري ، وغير متمنعة عن التسخير من قبل البشر ، متى عرفوها وفهموا طبيعتها.

قهر الطبيعة!

.. ومن ثم فإن اكتشاف الإنسان لسنة من سنن الله ، وتسخيرها ، ليس قهراً للطبيعة ، كما يحلو للملحدين أن يصوروا هذه القضية ، إذ هم يظنون أن حياة الإنسان فوق هذه الأرض صراع متواصل ، ومعركة لا تنتهي ضد عناصر الطبيعة .. وما ذلك إلا لإنكارهم وجود خالق لهذا الكون ، وزعمهم بأن الطبيعة هي التي خلقت نفسها بنفسها ، وأنها هي التي أوجدت الإنسان مصادفة ، وألقت به في خضم هذا الصراع المحموم ! وهذا هو موقف المدنية المعاصرة اليوم ( بشطريها الغربي والشرقي ) إذ هي تصور تحقيق إرادة الإنسان في صورة الانتصار على الطبيعة ، وكأن الطبيعة عدو أو حاجز يحول بين الإنسان وبين تحقيق إرادته !

في حين أن النظرة الإسلامية للقضية مختلفة تماماً ، فالمسلم يحس بالانتماء للطبيعة ، بسبب إيمانه بأن قوانينها قدر من قدر الله عز وجل ، وسنة من سننه ، التي سخرها لخدمة الإنسان ، تفضلاً منه وكرماً .. ولهذا نجد العلاقة ما بين الإنسان المسلم ، وبين الطبيعة ، مطبوعة بطابع السلام والمحبة والانتماء ، على النقيض من علاقة غير المسلم بالطبيعة والتي تتصف بصفة التحدي والقوة والتحايل .

وما تعبير (قهر الطبيعة) الذي يلوكله الملحدون بمناسبة وبغير مناسبة إلا تلاعب بالألفاظ ، وتسمية للحقائق بغير أسمائها (إن هي إلا أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم ما أنزل الله بها من سلطان )(النجم: 23).

والحق .. أن الله سبحانه خلق في الإنسان بموجب استعداده علماً ضرورياً بحقائق الأشياء ، وسنن الله التي تحكمها ، وما لها من قوانين النفع والضر ، والواقع يؤيد هذا الرأي ، فقد ورث الجنس البشري ، على مدى العصور ، هذا الاستعداد الفطري عن أبيهم آدم ، الذي أودع الله في نفسه علم الأشياء ، من غير تحديد ولا تعيين (وعلم آدم الأسماء كلها )(البقرة: 31) ، وقد ظلوا بهذا الاستعداد يكشفون من أسرار هذا الأرض وقوانين طبيعتها ، ما مكن لهم من السيطرة عليها ، وتحقيق قوله تعالى : ( إني جاعل في الأرض خليفة.. )( البقرة:30) فلا عجب إذن أن تنكشف سنة من سنن الله على يدي الإنسان ، ما دام الله عز وجل هو الذي قدر لها أن تنكشف على هذه الصورة ، ولا عجب كذلك أن يتم هذا الكشف على يدي مؤمن أو كافر ، لأنهما سواء بالنسبة لقدر الله ، الذي يجريه على يدي من يشاء من خلقه ، ونلمح ظلال هذا المعنى في قوله تعالى: ( كلا نمد هؤلاء وهؤلاء من عطاء ربك ، وما كان عطاء ربك محظوراً )(الإسراء: 20).

.. والكون - كما قدمنا - زاخر بالخلائق ، وهذه الخلائق تحكمها سنن لا تعد ولا تحصى ، وما يزال معظم هذه السنن في ذمة الغيب ، وستبقى كذلك ، حتى يحين الوقت ، الذي قدره الله لانكشافها ، وكأن الإنسان في هذه الحال أمام كنز لا ينضب ، ينهل منه ما يشاء ، ولكن بشرط أن يبذل الجهد اللازم لاستخراج جواهر هذا الكنز .. علماً بأن حجب بعض السنن عن الإنسان لم يكن عبثاً ، بل كان لحكمة بالغة ، أرادها الله عز وجل ، فإن هذا الحجب يشكل نوعاً من التحريض ، الذي يدفع الإنسان دوماً للبحث والتنقيب والمحاولة ، مما يضفي على حياته مسحة من التغيير المستمر ، الذي يجمل الحياة في ناظريه ، ويدخل إلى نفسه البهجة والسعادة ، كلما استطاع بجهده الواعي أن يكتشف جديداً ، أو يتغلب على صعوبة من الصعوبات التي تعترض سبيله ..

يقول الدكتور عماد الدين خليل حول هذه النقطة : ( إننا إذا أردنا أن نعتمد مصطلحات المؤرخ الانكليزي (آرنولد توبيني) ومقاييسه الحضارية فإننا سنرى في العالم تحدياً مناسباً للإنسان ، ليس معجزاً ولا هو دون الحد المطلوب البشري لإثارة التوتر للرد .. وكأن إرادة الله سبحانه شاءت أن تقف به عند هذا الحد لكي يحقق خلافته في الأرض ، فلم يشأ الله أن يمهد العالم تمهيداً كاملاً ، ويكشف للإنسان عن قوانينه وأسراره كلها ، لأن هذا نقيض عملية الاستخلاف ، والتحضر والإبداع ، التي تتطلب مقاومة وتحدياً واستجابة ودأباً وإبداعاً ، ولأنه يقود الإنسان إلى مواقع السلبية المطلقة ، ويسلمه إلى كسل لا تقره مهمة الإنسان على الأرض أساساً ، كما أن الله سبحانه لم يشأ - من جهة أخرى - أن يجعل العالم على درجة من التعقيد والصعوبة الطبيعية ، والانغلاق والغموض ، بحيث يعجز الإنسان عن الاستجابة والإبداع ، الأمر الذي ينافي أيضاً مهمته الحضارية التي نيطت به لإعمار عالم غير مقفل ولا مسدود ).

فالقضية إذن ليست قهراً للطبيعة .. فالله عز وجل خلق هذا الكون ، واستخلفنا فيه ، ومنحنا القدرة على تسخيره .. ولكنه سبحانه جعل شرطاً للوصول إلى تسخير الكون من قبلنا نحن البشر ، وهو أن نعرف ابتداء السنن التي يخضع لها ، ثم نعمل على توفير الوسائل المناسبة ، التي تعيننا على تسخير هذه السنن ، التي من طبيعتها أنها لا تعاند الإنسان , ولا ترفض الاستجابة له ، ولأن الله عز وجل هو الذي أمرها بهذا، وقدر لها هذه المهمة .

عقبات في طريق كشف السنن:

.. وعلى الرغم من أن الله عز وجل قد سخر لنا السنن الكونية ، وجعلها طوع أمرنا ( وفق الشروط التي ألمحنا إليها آنفاً) إلا أن هناك عقبات كثيراً ما تحول بيننا وبين الوصول إلى كشف السنن أو فهمها .. وقد سبق أن بينا بعض هذه العقبات التي تتعلق بطبيعة السنن نفسها ، أو بالوسائل اللازمة لكشف هذه السنن .. غير أن العقبات التي نريد مناقشتها هنا ، تختلف عن تلك بأنها عقبات ذاتية تنبع من نظرتنا إلى الكون ، وموقفنا مما يجري فيه من أحداث .. ويأتي في مقدمة هذه العقبات .. ما يلي :

1 - النظرة الغائية:

ونعني بها نظرتنا إلى ظواهر الحياة من جهة الغاية أو الحكمة ، التي من أجلها تحدث هذه الظواهر .. فنحن مثلاً نعتقد أن البراكين والزلازل تضرب القرى والمدن ، وتهلك الناس عقوبة من الله عز وجل على ما ارتكبوا من آثام وجرائم ، وكذلك نعتقد بالمرض وبسائر الكوارث الطبيعية .. ومع تسليمنا بأن لهذا الاعتقاد ما يبرره انطلاقاً من إيماننا بأن لله حكمة في كل ما يجري في هذا الكون والتي قد ندركها وقد لا ندركها .. إلا أن اعتقادنا بالحكمة الإلهية على هذه الصورة يجب ألا يحول بيننا وبين النظر إلى المسألة من جانب آخر ، وهو معرفة الأسباب التي تؤدي عادة لحدوث هذه الظواهر ، لأن معرفة الأسباب تفيدنا في التحكم بالظواهر الكونية المختلفة ، وتجعلنا أكثر قدرة على تسخيرها لصالحنا ، ودرء أخطارها عنا بإذن الله . أضف إلى ذلك أن النظر إلى الأحداث من جهة الحكمة في وقوعها فحسب ، يضعنا في موقع السلبية المطلقة التي تكتفي بتأمل الأحداث من الخارج ، بدل المشاركة فيها مشاركة إيجابية فعالة .. علماً بأن مثل هذه المواقف السلبية كثيرة في حياتنا العملية .

هكذا تحطم شالنجر:

وأذكر أنني في كانون الثاني ( يناير ) من عام 1986م كنت في الولايات المتحدة الأمريكية ، عندما دعاني صديق يتابع هناك دراسته الجامعية العليا لنشاهد على الطبيعة عملية إطلاق المكوك الفضائي ( شالنجر ) الذي كان من المقرر أن يحمل سبعة رواد للدوران حول الأرض ، وفي الموعد المحدد كنا في قاعدة الإطلاق مع جموع المشاهدين ، نترقب لحظة انطلاق الصاروخ نحو الفضاء .. وقد لفت انتباهي أن صديقي لم يكف طوال فترة ترقبنا لانطلاق الصاروح عن إبداء دهشته وإعجابه بما وصلت إليه (تكنولوجيا) الغرب من تقدم وتطور مذهلين ، وأعاد على مسامعي أكثر من مرة قوله : ( إننا - نحن المسلمين - لن نستطيع مسايرة التقدم العلمي المعاصر ، ولن نستطيع مواكبة ركب الحضارة ، ما لم نأخذ بمنهج هؤلاء ، ونتابع خطواتهم في شتى مجالات الحياة ! ) ، لكن موقف صاحب المليء بالإعجاب والدهشة ، لم يلبث أن تبدل باتجاه معاكس تماماً عندما انفجر الصاروخ ، بعد ثوان من إطلاقه .. فقد عد صاحبي انفجار الصاروخ بمثابة ضربة إلهية قاصمة موجهة لغطرسة أمريكا ( على حد تعبيره ) التي لا تفتأ تعتدي على الشعوب المستضعفة ، كما رأى في تلك الكارثة عقوبة عاجلة على ما وصل إليه المجتمع الأمريكي من استهتار وانحلال أخلاقي ، وإباحية وفوضى في كل شيء ..

لقد كان واضحاً من هذا التبدل المفاجيء في موقف صاحبي أنه لم يكن يصدر في تقويمه للحادث عن نظرة موضوعية بمقدار ما كان يصدر عن نظرة غائية قاصرة تستهدف ( التبرير ) أكثر مما تستهدف معرفة الأسباب الموضوعية ، التي أدت إلى الانفجار ، والتي يمكن بمعرفتها منع تكرار الكارثة مرة أخرى !

ومن المؤكد لو أن العلماء والمسؤولين في وكالة الفضاء الأمريكية ( ناسا ) نظروا للحدث كما نظر إليه صاحبي لأوقفوا تماماً برامجهم الفضائية ، بانتظار أن تتراجع الولايات المتحدة عن غطرستها ، وانتظار أن يصلح حال المجتمع الأمريكي ، ( ترى كم من السنوات أو القرون سيستغرق ذلك ؟ ) .

لكن شيئاً من ذلك لم يحدث ، بل سرعان ما عكف العلماء والمسؤولين في وكالة الفضاء على دراسة وتحديد الظروف والأسباب التي أدت إلى وقوع الكارثة .. وما هي إلا شهور قليلة حتى قامت الوكالة من كبوتها ، ودبت الحياة من جديد في قاعدة ( كيب كينيدي ) وانطلق المكوك التالي إلى الفضاء وفق البرنامج المقرر !

إن النظر إلى الأحداث على هذه الشاكلة لا يعني إغفال جانب الحكمة فيها ، بل يعني فهماً جديداً للحكمة ، يقوم على معرفة الأسباب الكامنة وراء الأحداث ، أو معرفة السنن التي تحكم الأحداث .. لأننا بهذه المعرفة نصبح أقدر على توجيه الأحداث ، بما يتوافق وأمانة الاستخلاف ، التي نيطت بنا .

2 - موقفنا من ( النصوص):

.. وأما العقبة الثانية التي قد تحول بيننا ، وبين التعرف إلى سنن الله في الخلق ، فهي موقفنا من تفسير النصوص الشرعية غير السليم ( من القرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة ) فنحن غالباً ما نقف عند حدود تفسير هذه النصوص دون محاولة تجاوز هذا الموقف إلى معرفة السنن التي تعين على تفسير النصوص .. ومما لا جدال فيه أن مثل هذا الموقف ليس في صالح النص ، وليس في صالح العقل أيضاً ، لأنه - من جهة - يجمد النص عند فهم واحد لا يتعداه على مر العصور ، واختلاف الأحوال .. وهو - من جهة أخرى - يحد من ملكات العقل ، لأنه يجعل فهم النص محصوراً بعصر وجيل من السلطة القاهرة وهذا يثبط العقل ، ويحجب عنه رؤية الآفاق الفسيحة المتعددة ، التي يعبر النص عنها ، ومن هذا المنطلق نجد القرآن الكريم يلح كثيراً في دعوتنا للسير في الأرض ، والتفكير في ملكوت الله ( قل انظروا ماذا في السموات والأرض )(يونس: 101) ، وتأتي هذه الدعوة من القرآن تعبيراً عن احترامه للعقل ، وتأكيداً على ضرورة شحذ الفكر ، لاستكشاف أسرار الوجود ، ومعرفة طبيعة الأحداث ، التي تجري فيه على حقيقتها التي هي عليها فعلاً ، لا كما نتصورها أو نتوهمها ، أو نفهمها من خلال ما يتبادر لنا من النص ..

وجدير بنا أن نتذكر هنا موقف الكنسية في أوروبا إبان العصور الوسطى تجاه علماء الطبيعة ، فقد رفضت الكنسية آنذاك كل ما جاء به العلماء من نظريات ، واكتشافات جديدة ، واتهمتهم بالتجديف ، وقامت بإحراق بعضهم وهم أحياء ، وهددت آخرين بالقتل ، إن لم يتراجعوا عما أسمته الكنسية هرطقة وتجديفاً ضد الكتاب المقدس ، وهكذا عكست الكنسية القضية ، وقلبتها رأساً على عقب ، إذ جعلت فهمها للنصوص التي وردت في الكتاب المقدس ، هو الضابط الذي على نهجه يجب أن يسير العلم ، وكان الأحرى بها أن تجعل العلم هادياً لها في فهم نصوص الكتاب! وقد يعترض على هذا المثال الذي سقناه من تاريخ الكنيسة في أوروبا بأن النصوص التي اعتمدتها الكنيسة لم تكن نصوصاً صحيحة ، بل كانت نصوصاً محرفة أو مدسوسة ، وهذا ما يجعل القضية مختلفة عن قضيتنا - نحن المسلمين - لأن النصوص التي بين أيدينا صحيحة قطعية الثبوت ، لم يصبها تحريف ، ولم يتسلل إليها دس ..

فنقول : هذا صحيح ، فالقضية عندنا مختلفة عما كانت عند الكنيسة ، إذ تتركز المشكلة عندنا في (تفسير) النصوص نفسها ، أو بمعنى آخر في (موقفنا من هذه النصوص) وأضرب على ذلك مثلاً المسألة السابقة نفسها ، وأعني بها .. كروية الأرض ودوران الشمس .. فقد اقتصر بعض مفسرينا على فهم النصوص في الحكم على هذه المسألة دون محاولة ربط النصوص بواقع الحال ، ودون الالتفات إلى ما يقول به علم الطبيعة والفلك ، فانتهوا من ذلك إلى أن الأرض منبسطة لا كروية ، وأنها ثابتة ، والشمس تدور من حولها .. وقد تذرع هؤلاء المفسرون بنصوص عديدة من مثل قوله تعالى : ( والأرض مددناها وألقينا فيها رواسي وأنبتنا فيها من كل شيء موزون )(الحجر: 19) ، وقوله تعالى : ( والشمس تجري لمستقر لها ذلك تقدير العزيز العليم )(يس: 38) .. ومن العجيب أن بعض من يدعون العلم ما يزالون إلى يومنا هذا مصرين على ظنهم الخاطئ بأن الأرض ليست كروية ، وأنها ثابتة ، والأرض والشمس تجري من حولها !! ولقد يقال : إن هذه المسألة قد حسمت نهائياً بالنسبة لعلمائنا المعاصرين خاصة الذين لم يعودوا يرون أي تعارض ما بين النصوص الصحيحة الصريحة وبين ثوابت العلم الحديث .. فنقول : هذا صحيح بالنسبة للمسألة التي ذكرناها ولكثير من المسائل المشابهة ، إلا أن هناك الكثير من المسائل التي لم تحسم بعد ، والتي لم يزل بعض علمائنا يقفون منها موقفاً معارضاً بحجة أن النصوص تعارض هذه المسائل .

ويلاحظ أن معظم الذين يتصدون من بيننا لنقد النظريات العلمية ليسوا من أهل الاختصاص ، مع أن من الأمور المسلم بها أن كل قضية لا يصح أن يتصدى لها إلاّ من يملك علماً راسخاً في هذا الحقل ، أضف إلى ذلك أنه لا يصح بحال من الأحوال تجاهل الشواهد المادية التي قدمها العلماء بحجة أن الفهم الحرفي للنصوص عندنا يعارض هذه الشواهد ، وبخاصة أن هذه النصوص لا تقطع برد النظرية .

إن قضية الإعجاز العلمي في القرآن وفي السنة النبوية ، والتي حازت قبولاً حسناً في الأيام الأخيرة عند المسلمين ، وعند غيرهم , من ذوي العقول الراجحة ، خير شاهد على ما نقول ، لأنها أصبحت تقدم النصوص للناس وفق فهم جديد يعتمد ربط النصوص بأحدث ما توصل إليه العلم من مكتشفات .

وهذا ما يجعلنا اليوم ننظر إلى النصوص نظرة متجددة في ضوء ما استجد في عصرنا الحاضر من متغيرات ، وما تم فيه من اكتشافات، لعلنا بمثل هذه النظرة نستطيع الغوص إلى جوهر النص ، واكتشاف المزيد والمزيد من السنن المتعلقة به .

3 - تسييس العلم:

.. ومن العوامل الهامة ، التي وقفت على مدار التاريخ حجر عثرة في طريق التقدم العلمي ، وكشف سنن الله في الخلق - فيما نظن - ، أن الإنجازات العلمية ظلت ترتبط بالأهداف السياسية ( والعسكرية منها على وجه الخصوص ) ، أكثر من ارتباطها بأية أهداف أخرى ، مما جعل مسيرة العلم تنحرف عن مسارها الصحيح ، لتركز على أنواع معينة من الكشوف والاختراعات ، وتغفل من ثم الجوانب الأهم والأكثر فائدة للبشرية .. فقد وجدنا مثلاً أن أعظم الكشوف العلمية ، تنمو وتترعرع في ظل السياسات العسكرية ، فالحرب العالمية الثانية - على سبيل المثال - كانت من أهم الأسباب التي دفعت البشرية لدخول ( عصر الذرة ) ، وكان الدافع الأساسي لتفجير الذرة خوف الحلفاء من امتداد السيطرة النازية على العالم ، مما جعل الولايات المتحدة الأمريكية في عهد الرئيس الراحل ( روزفلت ) تجند كبار علمائها ، إلى جانب عدد من العلماء الألمان ، الذين فروا إليها من بطن الطاغية ( هتلر ) ، ليعملوا على مدار الساعة في المشروع السري ، الذي عرف آنذاك باسم ( مشروع مانهاتن ) وقد استطاع العلماء في فترة وجيزة جداً من الزمن ، أن يحولوا معادلات الطاقة والمادة التي وضعها (آينشتاين) إلى حقيقة واقعة ، واستطاعوا إجراء اول تجربة ذرية في التاريخ عام 1945م ، في صحراء نيفادا ، ولم يلبثوا أن حولوا هذا الكشف العلمي الكبير إلى قنبلة رهيبة ، ألقيت فوق مدينة ( هيروشيما اليابانية ، في الثامن من آب ( أغسطس ) من العام نفسه ، وبعدها بأيام قليلة ألقيت القنبلة الثانية فوق مدينة ( ناغازاكي ) ، وبقية المأساة معروقة للجميع دون ريب !

وكما كانت الحرب العالمية الثانية وراء التعرف على الطاقة الذرية ، كذلك كان التهديد بنشوب حرب عالمية ثالثة وراء التقدم العلمي في ميدان الفضاء .. فقد أصيب أرباب الحرب والسياسة بحمى التفوق العسكري ، فراحوا يتسابقون في ميدان الفضاء ، رغبة منهم في امتلاك السلاح الأسرع والأبعد مدى ، إلى أن توجوا ذلك بالمشروع الأمريكي الشهير الذي عرف باسم ( حرب النجوم ) ، والذي استهدف فيما استهدف زرع الفضاء الخارجي حول الأرض برؤوس نووية ، قادرة على ضرب أية بقعة من الأرض في دقائق معدودات !

وقد كان من نتيجة حمى التسابق الفضائي ، أن تطورت الصواريخ والأقمار الصناعية ، والمركبات الفضائية ، تطوراً مذهلاً ، فاق كل التصورات والتوقعات ، حتى أصبح الإنسان اليوم قادراً على الوصول إلى إية بقعة يريدها ، ليس على سطح الأرض أو القمر ، بل على سطح أي كوكب من كواكب منظومتنا الشمسية .

إن التقدم العلمي المذهل في مثل هذه الميادين ، ليكشف لنا عن حقيقة مفجعة حقاً ، وهي أن الإنسان يملك من الطاقات العقلية والمادية ، ما يستطيع به أن يحقق ما يبدو مستحيلاً ، غير أنه (ولغاية في أنفس بعضهم!) لا يستخدم هذه الطاقات فيما يخدم حياته ، بل يستخدمها بالاتجاه المضاد !

ومما لا ريب فيه أن علاج مشكلة صحية نفسية كالاكتئاب النفسي مثلاً الذي يدفع آلاف المرضى النفسيين للانتحار سنوياً ، ليس أصعب ، ولا أعقد من إنزال إنسان فوق القمر ، أو إرسال مركبة فضائية إلى أطراف منظومتنا الشمسية .

وهذا يعني إن الإنسان - لو أراد - لحقق الكثير من التقدم في ميادين العلم ، التي لم تعط حتى الآن حقها من العناية والاهتمام ، ومنها على سبيل المثال ميدانا علم النفس ، وعلم الاجتماع ، وغيرهما من الميادين ، التي تتعلق مباشرة بحياة الإنسان .. لكن التقدم العلمي - للأسف الشديد - سار في اتجاه آخر ، أدى إلى دخول البشرية جمعاء منعطفاً خطيراً ، بات يهددها بالفناء !

ونعتقد أن تصحيح هذا المسار لن يتم إلا باتخاذ العلماء أنفسهم موقفاً حاسماً ، يحددون على أساسه أولويات الكشوف ، التي تحتاجها البشرية فعلاً ، أما المواقف السلبية ، التي غالباً ما يقفها العلماء ، حتى بالنسبة للاكتشافات التي تتحقق على أيديهم ، وتستنزف طاقاتهم وعقولهم ، فإنها ليست في صالح التقدم العلمي ، ولا في صالح البشرية ، لأنها تتيح الفرصة أمام التجار والساسة ( أو الساسة التجار ) لاستغلال الكشوف العلمية في أحط الأغراض ، وأبعدها عن الأخلاق النبيلة !

وهذا مما يعوق التقدم العلمي ، ويحول دون كشف السنن المتعلقة بجوانب هامة جداً من حياة الإنسان

===========

# خوارق سنة الله في الخلق

.. تحدثنا في الفصول السابقة عن خصائص السنن ، التي فطر الله عليها أمور الخلق ، وبينا أن هذه السنن تتصف بثلاث خصائص رئيسة هي الشمولية ، والثبات ، والاطراد ، وأكدنا أن هذه الخصائص تجعل من السنن قوانين صارمة لا تتبدل ولا تتحول ، ولا قدرة للإنسان على أن يبدلها ويحولها أبداً ..

فهل يعني هذا أن السنن مازالت على حالها ، منذ أن خلق الله الخلق ، وقدر السنن ؟ أم أن السنن تبدلت في وقت ما ؟ أو عطلت في مكان ما ؟ وهل كل السنن ثابتة أم بعضها الثابت فقط ؟ وما علاقة الخوارق التي شهدتها البشرية في بعض الأزمان بالسنن ؟ هذه الأسئلة وغيرها ، سنحاول الإجابة عنها في هذا الفصل ، الذي نتحدث فيه عن بعض الظروف الاستثنائية ، التي يحصل فيها خرق للسنن ، وخروج عن مألوف البشر ..

ولكن قبل أن نستعرض هذه الاستثناءات من قانون السنة ، نود أن ننبه إلى أن هذه الاستثناءات قد تكون حقيقية ، أي أن تقوم على تبدل حقيقي في سنة كونية ما ، لحكمة يريدها الله عز وجل ، وقد يكون الاستثناء غير حقيقي ، أي أن نتوهم نحن البشر حدوث تبدل في السنة دون أن يكون لذلك حقيقة .

ومن الحقائق الأولية التي لابد من التذكير بها قبل مناقشة هذا الموضوع ، أن خالق السنن ومقدرها هو الله عز وجل ، فهو سبحانه الذي قدر أسبابها ، وهو الذي يقدر نتائجها .. وما صفة الثبات في السنن ، وارتباط نتائجها بأسبابها إلا بقدر من الله عز وجل .. ومن ثم فليس في استطاعة أحد من الخلق أن يخرق سنة من السنن ، أو يبدل فيها ، فهذا لا يكون إلا بمشيئة الله وحده ، متى شاء ، وكيف شاء .. وقد شاءت حكمته سبحانه أن يخرق بعض السنن ، في بعض الظروف الخاصة ، ليدلل بهذا على طلاقة قدرته من كل قيد، وليدلل كذلك على أنه خالق هذه السنن ، وأنه وحده المسيطر عليها ، إن شاء خرقها ، أو بدلها ، أو عطلها..

وأذكر أن أول ما لفت انتباهي شخصياً لمسألة الخوارق ما شاهدته في بيت أحد أصدقائي ، فقد شاءت حكمة الله عز وجل أن يرزق هذا الصديق بثلاثة أولاد أسوياء الخلقة ، فقد حباهم الله بجمال ونضارة قل مثيلها بين البشر ، ثم شاءت حكمته سبحانه أن تلد زوجة الصديق طفلة لم تكن على هيئة البشر ، بل كانت مسخاً أقرب في شكلها وتكوينها إلى هيئة بعض الحيوان .. فخيل إلي وقتذاك أن ولادة الطفلة على تلك الهيئة يمثل خرقاً للسنن ، التي تتحكم في خلق وتصوير الجنين البشري .. غير أنني - بعد دراستي لعلم الجنين ومعرفتي بالتشوهات ، والتي قد تطرأ على الأجنة أثناء تخلقها - عرفت أن المسخ لا يمثل خرقاً للسنن التي تحكم نمو الأجنة ، وإنما هو يحدث من تأثير عوامل خارجية تعيق عملية الخلق والنمو .. وقد أصبح الكثير من هذه العوامل معروفاً اليوم للأطباء وعلماء الأجنة الذين أصبحوا قادرين - بإذن الله - على درء كثير من التشوهات الجنينية نتيجة لهذه المعرفة .

والواقع .. أن معظم ما نشاهده في حياتنا من خوارق هو من قبيل هذه الحادثة التي ذكرناها .. أي أن معظم الخوارق التي نراها لا تشكل خرقاً حقيقياً للسنن ، وإنما هي تحدث نتيجة أسباب قد تخفى علينا ، وقد نعلمها .. ونستعرض فيما يلي أشهر الخوارق التي عرفها البشر لنبين علاقتها بالسنن التي فطر الله عليها أمور خلقه !

1 - المعجزة:

.. والمعجزة ( أمر خارق للعادة ، داعية إلى الخير والسعادة ، مقرونة بدعوى النبوة ، قصد بها إظهار صدق من ادعى أنه رسول من الله ) وكما هي الحال في الإرهاص ، فإن المعجزات مرتبطة بزمن الأنبياء كذلك .. وتقوم الحجة في المعجزة على أساس من ثبات السنن ، التي فطر الله عليها أمور الخلق ، فلو لم تكن السنن ثابتة ، لما كان في الخروج عنها إعجاز ولا حجة ، وإنما كانت الحجة في المعجزة لأنها تأتي بما لم يألفه البشر ، وما لا يمكن الإتيان بمثله ، إلا من قبل نبي مرسل ، مؤيد من الله عز وجل ، الذي خلق السنة أصلاً وأوجدها .

وقد كانت المعجزات كثيرة في حياة الأنبياء عليهم السلام ، ولا تكاد تخلو سيرة نبي من ذكر المعجزات ، التي أجراها الله على يديه ، ونذكر من ذلك ، عصا سيدنا موسى عليه السلام ، التي انقلبت حية ، وابتلعت حبال سحرة فرعون وعصيهم ..

ومن المعجزات كذلك إنزال مائدة من السماء على قوم سيدنا عيسى عليه السلام ، وإبراؤه للأكمه والأبرص والأعمى ، وإحياؤه الموتى .. كل ذلك بإذن الله .

ومن المعجزات التي جرت على يدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم ، إنطاقه للشجر ، وتكليمه ذراع الشاة المسمومة ، وتفجر الماء من بين أصابعه .. وغيرها كثير مما جاء في كتب الحديث والسيرة .

ولا شك أن معجزته الخالدة الباقية على الزمن هي القرآن الكريم .

2 - الإرهاص:

.. ومن الحوادث الخارقة التي ذكرتها كتب السيرة ( الإرهاص ) ، وهو حدوث أمر خارق للعادة ، يدل على بعثة نبي قبل بعثته .. ومن الإرهاصات التي سبقت بعثة النبي محمد صلى الله عليه وسلم ، تلك البركات التي ظهرت لمرضعته حليمة السعدية ، بعد أن ذهبت إلى قريش لتسترضع ولداً ، فلم تجد غيره صلى الله عليه وسلم .

ومن الإرهاصات التي سبقت بعثته صلى الله عليه وسلم أيضاً حادثة شق صدره الشريف ، وفيها ( إن نفراً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قالوا له : يا رسول الله أخبرنا عن نفسك ، قال : نعم ، أنا دعوة أبي إبراهيم ، وبشرى أخي عيسى ، ورأت أمي حين حملت بي ، أنه خرج منها نور أضاء لها قصور الشام ، واسترضعت في بني سعد بن بكر ، فبينما أنا مع أخ لي خلف بيوتنا نرعى غنماً لنا ، إذ أتاني رجلان عليهما ثياب بيض بطست من ذهب مملوءة ثلجاً ، ثم أخذاني فشقا بطني ، واستخرجا قلبي فنقياه ، فاستخرجا منه علقة سوداء ، فطرحاها ، ثم غسلا قلبي وبطني بذلك الثلج حتى أنقياه ).

والإرهاصات في حياة الأنبياء عليهم السلام معروفة وكثيرة .

3 - الكرامة:

.. والكرامة كالمعجزة من حيث أنها أمر خارق للعادة ، خارج عن مألوف البشر ، إلا أنها غير مقترنة بدعوى النبوة ، وغير مرتبطة بزمن النبوات ، فهي خوارق يجريها الله عز وجل على أيدي بعض عباده وأوليائه الصالحين تكريماً لهم ، وبشارة على تقواهم وصلاحهم .. ونذكر من الكرامات التي حكاها القرآن الكريم ، أمر السيدة مريم عليها السلام التي نذرتها أمها لخدمة بيت المقدس ( فتقبلها ربها بقبول حسن وأنبتها نباتاً حسناً وكفلها زكريا كلما دخل عليها زكريا المحراب وجد عندها رزقاً قال يا مريم أنى لك هذا قالت هو من عند الله إن الله يرزق من يشاء بغير حساب )(آل عمران: 37) والكرامة هنا هي ما خص الله عز وجل به السيدة مريم عليها السلام ، بأن كان يرسل إليها الرزق الوافر ، وهي في خلوتها ، حتى أن سيدنا زكريا عليه السلام كان يستغرب وجود ذلك الرزق عندها ، وهو يعلم أنه لا أحد يدخل عليها غيره .

وقد أورد الإمام النووي رحمه الله في كتابه ( رياض الصالحين) أحاديث عديدة عن الكرامات في ( باب كرامات الأولياء الصالحين وفضلهم ) ختمه بقوله : ( وفي الباب أحاديث كثيرة صحيحة سبقت في مواضعها من هذا الكتاب ، منها حديث الغلام ، الذي يأتي الساحر والراهب ، ومنها حديث جريج ، وحديث أصحاب الغار ، الذين أطبقت عليهم الصخرة ، وحديث الرجل الذي سمع صوتاً في السحاب يقول : اسق حديقة فلان ، وغير ذلك ، والدلائل في الباب كثيرة مشهورة ) .

وهذه كلها دلائل على أن الله عز وجل قد يخرق السنة كرامة لأوليائه ، وهذا الخرق غير مرتبط بزمان ولا مكان ، وغير مرتبط كذلك بإرادة العبد الصالح نفسه ، وإنما هو مرتبط أولاً وأخيراً بإرادة الله ومشيئته وحكمته .

4 - السحر:

والسحر ( لغة ) : هو كل أمر يخفي سببه ، ويتخيل على غير حقيقته ، ويجري مجرى التمويه والخداع .. وقد فصل بعض أهل العلم في أنواع السحر فذكروا منها : التمائم ، والشعوذة ، وتسخير الجن ، واستخدام الأدوية والأبخرة ، وغير ذلك من الأساليب ، التي يلجأ إليها السحرة عادة .. ولا نريد أن ندخل في تفصيلات هذه الأساليب ، نظراً لطبيعة بحثنا هذا من جهة ، ونظراً لاختلاف العلماء حول حقيقة هذه الأساليب ، وتأثيرها من جهة أخرى .. لكن الذي نريد أن نناقشه الآن هو تلك الحوادث من خداع البصر الذي يبدو خارقاً للعادة التي تجري على أيدي بعض السحرة ، سواء منهم من يفعلون ذلك بقصد الإمتاع في الحفلات وغيرها ، أو الذين يفعلون ذلك لأغراض أخرى كالوقيعة بين الناس .. والظاهر من نصوص القرآن الكريم أن فعل السحرة لا يعدو أن يكون خداع بصر ، ولنستمع إلى وصف الحق تبارك وتعالى لما جاء به سحرة فرعون ، وهم أمهر السحرة على مر التاريخ : ( قالوا يا موسى إما أن تلقي وإما أن نكون أول من ألقى ، قال بل ألقوا فإذا حبالهم وعصيهم يخيل إليه من سحرهم أنها تسعى )(طه: 65 - 66) وقوله تعالى : ( قال القوا فلما ألقوا سحروا أعين الناس واسترهبوهم وجاؤوا بسحر عظيم )(الأعراف: 116 ) فلم يكن سحر السحرة إذن غير تخييل ( يخيل إليه من سحرهم .. ) ولم يكن غير خداع لأبصار المشاهدين (سحروا أعين الناس .. ).

والفرق كبير ما بين التخييل والوهم والخداع ، وبين الحقيقة ، وهذا ما أثبتته بقية القصة حين ألقى موسى عليه السلام عصاه (وأوحينا إلى موسى أن ألق عصاك فإذا هي تلقف ما يأفكون فوقع الحق وبطل ما كانوا يعملون )(الأعراف: 117 - 118). فإن ما جاء به موسى عليه السلام كان معجزة من الله عز وجل .. كان حقيقة لا وهماً .. كان خرقاً حقيقياً للسنن ، فقد انقلبت العصا الجامدة إلى حية تدب على الأرض ، وتتحرك وتبتلع السحرة وعصيهم ! ولما كان سحرة فرعون يعلمون طبيعة السحر ، فإنهم لم يتمالكوا وهم يرون المعجزة إلا أن يخروا سجداً لله ، ويعلنوا إيمانهم بما جاء به موسى لأنهم - وهم أهل الصنعة - قد أيقنوا أن ما جاء به لا يمكن لبشر أن يأتي به ، إلا أن يكون مؤيداً من الله ، الذي خلق الخلائق وقدر السنن .. فهو وحده سبحانه القادر على خرقها ، وأما السحرة فإن دأبهم التمويه والخداع .

ونلاحظ من خلال عرض هذه الخوارق الخارجة عن مألوف البشر أنها ليست خوارق مطلقة ، فهي غير قابلة للحدوث في كل زمان ومكان ، بل هي مقيدة بظروف ..

فالمعجزات والإرهاصات مرتبطة بعصر النبوات ، وما دام عصر النبوات قد اختتم ببعثة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم ، فلا معجزات ولا إرهاص إذن بعد ذلك .

وأما السحر فإن أغلبه من باب التخييل والخداع ، وهو لا يعبر عن خرق للسنة كما بينا آنفاً .. وإن أحوال الذين يمارسون السحر لتدل على طبيعة أفعالهم ، فالسحر لا يصنعه إلا الفساق والكفار ، وأما المؤمنون فهم أبعد الناس عن فعل السحر ، وبخاصة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حذر منه ، وعده من الكبائر .

و تبقى ( الكرامة ) هي الخارقة الوحيدة ، التي قد يداخلها بعض الالتباس ، إذ قد يلجأ بعض أصحاب النفوس الضعيفة ، والنوايا الخبيثة ، لادعاء ظهور بعض الكرامات على أيديهم ، بقصد الوصول إلى مكاسب معينة ، أو تحقيق مآرب شخصية دنيئة ، وهذا ما حصل في العصور الإسلامية المتأخرة في صفوف غلاة الطرق الصوفية ، وأصحاب الدعوات الباطنية الباطلة ، وكثيراً ما نشاهد هؤلاء يعقدون الجلسات الخاصة ، ليعرضوا مهاراتهم في الإتيان بخوارق مختلفة ، يدعون أنها كرامات من الله عز وجل.

والحقيقة أن العبد الصالح الذي يخصه الله عز وجل بكرامة من عنده ، يغلب عليه أن يداري هذه الكرامات عن غيره من الناس ، مخافة أن يحبط الله عمله ، فهو أشد حياء بالكرامة من البنت في خدرها ، كما يقولون ، بينما نجد أدعياء الكرامات يفاخرون بها ، ويذيعون أخبارها للقريب والبعيد لكي يحققوا من وراء ذلك أغراضهم ..

ويحتم علينا هذا البيان أننا كلما رأينا خارقة من الخوارق أو سمعنا خبراً من أخبارها أن نعرضها على كتاب الله ، وسنة رسوله ، فإن وافقهما قبلناها منه ، وعددناها كرامة ، وإن وجدناه غير ذلك لم نقبل منه ، وعددناها نوعاً من السحر أو الاستدراج ..

ونخلص من حديثنا عن الخوارق إلى أنها تعد استثناء لا قاعدة ، لأن القاعدة في سنن الله في الخلق هي الثبات ، وأما هذه الخوارق فهي استثناءات .. ولهذا ينبغي أن نضعها في موضعها الصحيح من حركة الكون ، لا أن نجعلها الأصل في تعاملنا مع الكون من حولنا .. ونحن مستخلفون في الأرض بناءً على هذا الأصل ، وأعني به ثبات السنن على الهيئة التي قدرها الله عز وجل ، يوم أن خلق السماوات والأرض ، كما أننا محاسبون على تصرفاتنا بالعالم المحيط بنا ، بناء على هذا الأصل كذلك ..

ويجب أن نؤمن يقيناً أننا لا يمكن أن نستفيد من ذخائر هذا العالم أو نسخرها في شؤوننا إلا من خلال معرفتنا الدقيقة بالسنن ، التي تحكمها ، وأما التطلع إلى الخوارق ، والتعامل مع الأحداث من خلالها فلا يجدي فتيلاً ، لأنها كما قدمنا ليست هي القاعدة في بناء هذا العالم ، وليست هي التي تحكم مسيرة الحضارة والبناء ، وإنما يحكم ذلك الجهد الواعي ، والبحث الدؤوب ، الذي يهدف إلى كشف سنن الله في الخلق ، والعمل على تسخيرها فيما يستهدف خير البشرية وصلاحها

============

# ( مفاهيم في ضوء سنة الله في الخلق ) 1- – الحرية

عرفنا في الفصول السابقة ، ما نقصده من مفهوم ( سنة الله في الخلق ) وقلنا : إن هذا المفهوم يعني: مجموعة من القوانين التي سنها الله عز وجل وأخضع لها مخلوقاته جميعاً على اختلاف أنواعها وتباين أجناسها .. وعرضنا بعد ذلك شواهد عديدة ، دلت كلها على أن كل صغيرة وكبيرة في هذا الوجود تخضع لسنن ربانية ، لا تتبدل ولا تتحول ، ثم بينا أن تسخير العالم المحيط بنا غير ممكن ، بغير الفهم الصحيح لطبيعة السنن الربانية ، لأن هذا الفهم يعد بمثابة (كلمة السر) التي تفتح لنا مغاليق هذا الكون ، وتتيح لنا فرصة الاستفادة من كنوزه، التي لا تعد ولا تحصى، وتسخيرها فيما يصلح شؤون حياتنا، وييسر لنا أمر عمارة الأرض.

ولكن .. هل ثمرة (التسخير) هي الثمرة الوحيدة ، التي يمكن أن نجنيها من فهمنا لطبيعة السنن ، التي فطر الله عليها أمور خلقه ؟ لا .. بل هناك ثمرات أخرى كثيرة يمكن أن نجنيها من فهمنا للسنن ، ويأتي في مقدمة هذه الثمرات ثمرة.. الإيمان.. لأننا حين نطلع على طبيعة السنن ، التي تحكم الكون ، وما فيه من مخلوقات كثيرة ، فإننا سندرك أن هذا الكون ما كان له أن يقوم على هذه الصورة البديعة من التناسق والتوازن والاستقرار ، لو لم يكن خالقه .. رباً واحداً ، حكيماً ، عالماً ، محيطاً بكل شيء ، وقادراً على كل شيء (سبحانه).

ويلحق ثمرة الإيمان ثمرات أخرى كثيرة ، من أبرزها تصويب نظرتنا إلى كثير من المفاهيم ، التي لها مساس مباشر وعميق بسلوكنا وحركتنا في الحياة .. وهذا ما سوف نعرض له في هذا الفصل .

1- – الحرية

عندما نسمع كلمة ( الحرية ) نتذكر على الفور قولة الخليفة الثاني عمر بن الخطاب رضي الله عنه : ( متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحراراً ؟ ) .

وقد نتذكر كذلك ( الثورات ) التي قادها أصحابها باسم ( الحرية ) ..

وقد نتذكر السجون ودهاليز التعذيب الجهنمية الرهيبة .

وقد نتذكر أعواد المشانق التي أقيمت وما تزال تقام بين الحين والحين هنا وهناك بهدف (تأديب) المنادين بالحرية ..

وقد نتذكر .. ونتذكر ..

قد نتذكر ذلك كله مادام الحديث يدور عن ( الحرية ) ..

ومن العجيب أن ينحصر جل تفكيرنا بالمعنى السياسي للكلمة ، مع أن للحرية معاني كثيرة أوسع وأشمل من مجرد فهم سياسي محدود .. فما الذي يجعل تفكيرنا يتوجه نحو السياسة وحدها دون سواها ؟

إنه – دون ريب – ضغط الواقع الذي يعيشه الإنسان اليوم ، في كثير من بلدان العالم ، حيث حرية الرأي ، وحرية الحياة ، وحرية التعليم ، وحرية التملك .. وكل الحريات الأخرى مهددة بالإعدام في لحظة واحدة نتيجة قرار سياسي أحمق !

غير أن هذا الواقع الأليم – على فداحته – لا يصح أن يحجب عن الرؤية الموضوعية للمسألة ، ولا أن يمنعنا من الفهم الصحيح للحرية ، التي ننادي جميعاً بها .. لأننا من غير تلك الرؤية ، وهذا الفهم ، لن نستطيع أن نتجاوز أزمتنا الحضارية الراهنة ، بل قد نزيد هذه الأزمة تعقيداً ، وقد ينتهي بنا الأمر إلى خسارة أخرى من حريتنا ، التي يفترض ألا نقبل بها إلا كاملة ، غير منقوصة .

فما هي الحرية يا ترى ؟

ربما كانت الحرية من أكثر المصطلحات التصاقاً بحياة الإنسان وبمصيره ، وربما كان هذا هو السبب ، الذي من أجله يتعرض مفهوم الحرية للكثير من عمليات التشويه والتلبيس والتلاعب .. وقد ظلت الحرية على مدار التاريخ عرضة لعمليات ( تحجيم ) ماكرة يراد منها أن تخدم مصالح بعض أصحاب القرار ، الذين لا يؤمنون أصلاً بالحرية إلا بمقدار ما تمنحهم هذه الحرية من ( سلطات ) تضاف إلى رصيدهم من التسلط والطغيان والجبروت !

ويقودنا البحث عن معنى الحرية أول ما يقودنا إلى رحاب القرآن الكريم الذي يخبرنا بأن الله عز وجل – الذي خلق السموات والأرض – لم يترك هذا الخلق ليعيش على هواه ، ويتصرف بلا ضابط ولا نظام (وما خلقنا السموات والأرض وما بينهما لاعبين )(الدخان: 28) ، بل أخضع الله ذلك كله لمجموعة من السنن لتحكم مسيرة هذا الخلق (وخلق كل شيء فقدره تقديراً) ( الفرقان: 2) . وتوحي آيات كثيرة بأن هذه السنن تعد بمثابة حواجز تحد من حرية الإنسان في هذا العالم ، وتقيد حركته ، نلمح هذا مثلاً في قوله تعالى: (يا معشر الجن والإنس إن استطعتم أن تنفذوا من أقطار السموات والأرض فانفذوا )(الرحمن: 33) فالنفاذ لا يكون إلا لوجود مانع أو حاجز ، لكن إرادة الله سبحانه شاءت ألا تكون هذه الحواجز مطلقة بحيث لا يستطيع الإنسان الفكاك من أسرها ، بل جعل الله عز وجل هذه السنن قابلة للتسخير من قبل الإنسان ، لكي يتمكن من القيام بأمانة التكليف، وهذا معنى قوله تعالى (وسخر لكم ما في السموات وما في الأرض جميعاً منه )( الجاثية: 13 ) ، لكنه سبحانه جعل شروطاً لابد للإنسان أن يوفرها حتى يتمكن من تسخير السنن الربانية ، ومن تلك الشروط أن يعرف طبيعة السنن ، التي تحكم الأشياء التي يريد تسخيرها ، وأن يهيئ الظروف المواتية لهذا التسخير .. نلمح هذا المعنى في قوله تعالى تعقيباً على تحدي الجن والإنس أن ينفذوا من أقطار السموات والأرض في ختام الآية السابقة من سورة الرحمن (لا تنفذون إلا بسلطان ) ويرجح أن السلطان هنا هو معرفة السنن الربانية التي تعين الإنسان على الطيران وتجاوز أقطار السموات والأرض .. والملاحظ أن الإنسان عندما استطاع أن ينفذ من أقطار السموات والأرض اكتسب هامشاً جديداً من الحرية ، إذ تحرر من قيد الجاذبية ، وتحرر من قيد السرعة ، التي منحت له فطرة ، وهي سرعة مشيه على قدميه ، فأصبح قادراً على الحركة بسرعات مذهلة تتجاوز عشرات الآلاف من الأميال في الساعة الواحدة !!

ويمكن أن نزيد هذه الفكرة توضيحاً بمثال آخر .. فلو أننا أتينا بإنسان لا يعلم شيئاً عما وصلت إليه الاختراعات والتقنية الحديثة من تقدم ، ثم عرضنا عليه سيارة .. فما يكون موقفه منها يا ترى ؟ إنه – دون ريب – سيقف حيالها حائراً مستغرباً مندهشاً ، وربما فر منها خائفاً مذعوراً ! فهي بالنسبة له عالم مجهول تماماً ، ينطوي على كل ما ينطوي عليه المجهول من خوف ومفاجآت.

ولو أننا طلبنا من هذا الإنسان ، أن يتصرف بالسيارة على مقدار ما لديه من علم فطري ، فربما اكتفى باستخدامها مأوى لدجاجاته .. وهذا غاية ما قد يقوده إليه تفكيره من استخدام هذه الآلة العظيمة .. أي أنه لن يستطيع أن يستفيد من الحرية الواسعة ، التي يمكن أن توفرها السيارة له ، وما ذلك إلا لجهله بالقوانين التي تحكم عملها .. بينما نجد أن إنساناً آخر لديه علم بتلك القوانين ، سيتصرف بالسيارة بصورة مختلفة تماماً ، فهو يعرف كيف يشغلها ، وكيف يحركها ، وكيف يجعلها تحمل متاعه ، وتجري به بسرعة كافية ، تعينه على توفير الوقت ، وتقريب المسافات .. فهذا الإنسان اكتسب بعلمه بالسنن ، التي تحكم عمل السيارة هامشاً إضافياً من حرية الحركة في هذا العالم ، كما اكتسب قوة جديدة أضيفت إلى قوته الجسدية ، فأصبح قادراً على بلوغ أماكن ، وتحقيق أهداف ، لم يكن ليبلغها أو يحققها بقوته الجسدية وحدها.

الحرية والعلم بالسنن

وعلى هذه الشاكلة من المعرفة بالسنن يكتسب الإنسان المزيد من الحرية في هذا العالم .. ونستشف من خلال استعراض الخلق في القرآن الكريم أن الإنسان أول ما أوجده الله فوق هذه الأرض أصيب بخيبة أمل كبيرة ، فبعد أن كان يعيش في الجنة سيداً ، ينعم بحرية مطلقة .. أهبط إلى الأرض ليجد نفسه فجأة في عالم يتنكر له ، عالم مختلف تماماً عن عالم الجنة ، لأن كل ما فيه عصي على الأمر المباشر .. كان آدم في الجنة يأمر فيطاع .. أما هنا في عالم الأرض فإن الأمر وحده لم يعد يكفي للوصول إلى الهدف ، بل لابد من جهد ، وعلم بالقوانين ، أو السنن ، التي تحكم هذا العالم .. وهكذا وجد آدم نفسه فجأة مقيداً داخل حدود السنن .. ووجد نفسه بسبب جهله بسنن العالم الجديد خاضعاً لسيطرة المخلوقات الأخرى ، والتي كانت أكثر منه عدداً ، وأشد قوة ! فاحتار :

- ماذا يصنع ؟

- أيستسلم ؟

- أيقف مكتوف اليدين أمام هذا الواقع الجديد ، الذي اختاره بنفسه طائعاً ؟

- أم يتحرك ليسترد حريته من جديد ؟

ولم تطل به الحيرة ، فاختار – بما وهبه الله من عقل – أن يتحرك ، وراح يواجه العالم المحيط به ، بكل ما آتاه الله من عزم وتوق إلى الحرية ، فأخذ يفك طلاسم الوجود ، ويكشف من أسراره ما شاء الله له أن يكشف ، فاهتدى إلى معرفة الكثير من السنن ، التي على نهجها تسير الحياة ، وبهذه المعرفة السننية ، تمكن من تسخير العالم المحيط به ، وتحرر من السيطرة التي كانت مفروضة عليه ، وشيئاً فشيئاً راحت تتوسع دائرة حريته ، حتى تمكن في النهاية من قلب الموازين ، وتغيير المعادلات ، فأمسى العالم الذي كان يفرض عليه سيطرته رهن أوامره هو !

ما مدى حريتنا في عالم اليوم ؟

ويمكن أن نوسع مفهوم الحرية كما قدمناه ، لننظر على ضوئه إلى أزمتنا الراهنة .. فبعد عصور التخلف والانحطاط والأزمات السياسية والاجتماعية والاقتصادية .. التي تعاقبت على أمتنا ، أصابنا الوهن ، وقعدت بنا الهمة عن متابعة الدرس والبحث ، والسير في الأرض ، لكشف المزيد من السنن الكونية ، التي كان يمكن أن نستفيد من تسخيرها في عمارة الأرض ، وتشييد الحضارة الإنسانية التي نتوق إليها ..

وكان من نتيجة تخلفنا أننا أصبحنا اليوم نقف أمام ما استجد في العالم من اكتشافات واختراعات وحقائق ، موقف ذلك الذي وقف خائفاً مهزوماً أمام السيارة ، لا يدري ما طبيعتها ، ولا كيف يتعامل معها !

وأما ( الآخرون ) فقد انطلقوا بالمقابل يبحثون ويدرسون ويجربون ويكتشفون ، حتى عرفوا الكثير من سنن الوجود ، فكسبوا بذلك هامشاً رائعاً من الحرية .. هذا في الوقت الذي ضاقت فيه مساحة الحرية ( المتاحة ) لنا .. فانتهت بنا هذه المعادلة غير المتكافئة ، أن أمسينا تابعين غير متبوعين ، وهذا جانب هام من أزمتنا جدير بوقفة تأمل طويلة !

ويخطئ من يظن أن سبب أزمتنا الراهنة نقص في الطاقات المادية .. فإن هذه الطاقات مبثوثة في الأرض كلها ، حتى لا تكاد تجد دولة من دول العالم إلا وتجد فيها من الثروات والطاقات ما يغنيها ويكفيها ، لتعيش حياة حرة كريمة هانئة .. وربما كانت بلادنا من أغنى الأرض من حيث خصوبة أراضيها ، ووفرة الثروات المخبوءة فيها .. فما الذي ينقصنا إذن؟

إن الذي ينقصنا حقاً هو موقف متجدد من الحياة ، ونظرة متجددة إلى واقعنا .. موقف متجدد ونظرة متجددة ينطلقان على هدى التوجيه الرباني الحكيم (قل انظروا ماذا في السموات والأرض )(يونس: 101) فلقد غفلنا عن هذه الدعوة الربانية أمداً بعيداً ، وقصرنا في دراسة السنن التي جعلها الله سبباً لتسخير هذا الكون .. ويوم نعاود البحث والدرس ، ونفهم طبيعة هذه السنن ، ونهيئ الشروط اللازمة لتسخيرها .. فيومئذ يمكن أن تنفتح السبل أمامنا ، وتنهار الحواجز التي قيدت حريتنا عصوراً طويلة !

=============

#2 - – العلم

. الصلة وثيقة بين ( العلم ) ، وبين السنن ، التي فطر الله عليها أمور خلقه ، فالقوانين التي قامت عليها العلوم المختلفة ، ترتكز على أساس من فهم السنن ، بل إن القوانين التي ثبتت صحتها بدليل قطعي ، ما هي إلا صياغة بشرية ، لما اكتشفه الإنسان من السنن الربانية ، التي تحكم كل صغيرة وكبيرة في هذا الوجود !

ومن المعروف أن القانون العلمي يمر بمراحل عدة ، قبل أن يصاغ صياغة نهائية ، وقبل أن يصبح قابلاً للتطبيق العلمي ( أو التسخير ) ، وهذه المراحل هي :

أ – الملاحظة : إذ يلاحظ الباحث من خلال تأملاته بالطبيعة ، أو من تجاربه في المختبر ، أن هناك ظاهرة ما تتكرر في وتيرة واحدة ثابتة .

ب – الفرضية : وبناء على معطيات الملاحظة الأولية يضع الباحث فرضية لتفسير الظاهرة التي استدعت انتباهه .

ج - البرهان : وبعدئذ يصبح على الباحث لزاماً أن يستيقن من صحة الفرضية ، التي وضعها لتفسير الظاهرة ، وفي سبيل ذلك لابد أن يبحث عن العوامل ، التي لها علاقة مباشرة بهذه الظاهرة ، وقد يتطلب ذلك منه إجراء بعض التجارب المعملية للبرهنة على صحة ما توصل إليه من معرفة العناصر والعوامل والظروف في حدوث الظاهرة .

د – القانون : فإذا ما نجح الباحث في إعادة تشكيل الظاهرة نفسها فإنه يكون قد فهمها فهماً صحيحاً وعلم حقيقتها علماً يقينيّاً ، أي أنه يكون قد علم السنة التي تحكمها .. وحينئذ يصبح قادراً على أن يصوغ القانون العام الشامل الذي يحكم هذه الظاهرة ، ويحكم كذلك كل الجزئيات المماثلة لموضوع هذه الظاهرة .

ويعد هذا المنهج في البحث هو الأساس الذي قامت عليه العلوم المختلفة .. أي أن الهدف الذي تسعى إليه العلوم قاطبة هو معرفة السنن التي تحكم هذا الكون .

.. ومما لا ريب فيه أن وضع العلماء للقوانين ، وتعميم هذه القوانين بعد ذلك على الصورة التي قدمناها ، سوف يفقد مبرراته ومصداقيته ، ويغدو بلا معنى ، لو لم تكن السنن الربانية متصفة بالثبات ، وعدم التبدل والتحول ، فلولا هذه الصفات لما أمكن لأي باحث أن يضع نظرية ، أو يقرر قانوناً علمياً له صفة العموم والشمول ، ولما كان ممكناً أيضاً قيام أي من العلوم البشرية المعروفة اليوم ! وهذا ما يؤكد أن ثبات السنن يشكل الأساس الأول في بنية العلوم ، لأن ثبات السنن هو الذي جعل من الأمور المسلم بها لدى العقل البشري ، أن القانون الذي يصدق على مجموعة معينة من مجاميع الطبيعة ، يصدق كذلك على المجموعات الأخرى المماثلة لها .. ونضرب على ذلك بعض الأمثلة:

فقد لاحظ العلماء مثلاً أن عنصر الأكسجين يتحد مع عنصر الهيدروجين بنسبة معينة ليتكون من هذا الاتحاد جزئيات الماء ، وفق المعادلة التالية:

H2 + O2 = 2H2O

ثم لاحظ العلماء أن الأكسجين نفسه يتحد مع الكربون بنسبة مختلفة عن النسبة التي اتحد بموجبها مع الهيدروجين ، فينتج من ذلك ثاني أكسيد الكربون كما يلي:

C + O2= CO2

ثم عرف العلماء أن هذه الظاهرة تتكرر في بقية العناصر الكيميائية ، فيتحد كل عنصر مع العناصر الأخرى ، وفق نسب معينة تتعلق بالأوزان الذرية لهذه العناصر .. وعندئذ توصل العلماء إلى معرفة السنة، التي يتم بموجبها اتحاد العناصر الكيميائية بعضها مع بعض ، وأطلقوا على هذه السنة اسم ( قانون النسب) الذي يحمل اليوم اسم الكيميائي (دالتن) .

ونأخذ مثالاً آخر من علم الاجتماع .. فعندما لاحظ الباحثون الاجتماعيون أن تفشي ظاهرة اجتماعية معينة في أحد المجتمعات يؤدي إلى حدوث تغييرات واضحة المعالم في بنية هذا المجتمع .. وعندما لاحظوا أن تلك الظاهرة نفسها تؤدي لحدوث نفس التغييرات في المجتمعات البشرية الأخرى .. عندئذ أيقنوا أن حياة المجتمعات قاطبة محكومة بنوع من السنن الصارمة التي تحكم تطورها واتجاهها .. وبناءً على هذه المعطيات استطاع هؤلاء الباحثون تحديد معالم بعض السنن الاجتماعية ، ووضعوا على أساسها أصول ( علم الاجتماع ) !

ومن هنا .. يمكن أن نخرج بتعريف أولي للعلم على ضوء علاقته بالسنن التي فطر الله عليها أمور الخلق ، فنقول : ( العلم : هو المعرفة اليقينية بالسنن ، التي تحكم جزئية من جزئيات هذا الوجود ) وهذا التعريف للعلم يحدد لنا المسألة تحديداً دقيقاً ..

فلا يصح أن أدعي بأن عندي علماً بقضية ما من القضايا ، ما لم أكن قد عرفت يقيناً السنة التي تحكمها ، مع الأخذ بعين الاعتبار ، أن معرفة السنة التي تحكم ظاهرة ما ، تعني بالضرورة معرفة كل العوامل والشروط المتعلقة بالظاهرة المحيطة بها ، وتعني كذلك القدرة على إعادة تشكيل الظاهرة من جديد انطلاقاً من تلك العوامل والشروط .. وبمعنى آخر : فإن العلم بظاهرة ما من ظواهر الوجود يعني أمرين اثنين :

1 – القدرة على التنبؤ بنتائج الظاهرة تنبؤاً يقينياً ، وليس مجرد ظن ، لأن الظن قد يصيب وقد يخطئ ، ويعني كذلك أننا لم نحط بالظاهرة إحاطة تامة .

2 – القدرة على تسخير الظاهرة نفسها من خلال تهيئة شروطها وأسبابها ، التي سبقت معرفتنا بها .

وهذا هو العلم اليقيني ، الذي لا يدانيه باطل .

وهذا هو العلم النافع ، الذي يمكن به تسخير العالم المحيط بنا تسخيراً صحيحاً .

وهذا هو العلم الذي يحثنا القرآن الكريم على تحصيله ، وذلك من خلال عدد كبير من الآيات .. فقد وردت كلمة ( العلم ) بتصريفاتها المختلفة فيما يزيد عن سبعمائة آية ، مشفوع معظمها بالدعوة إلى التأمل في آيات الله ( أو سننه ) على بصيرة ، ووفق المعايير العلمية المبرأة من الظن والهوى!

وقد كان لهذه التوجيهات القرآنية الحكيمة أثر هام في تشكيل العقلية الإسلامية ، التي استطاعت فيما بعد إرساء قواعد البحث العلمي ، وأصول المنهج التجريبي ، لأنها أصبحت تنظر إلى الكون نظرة جديدة لا تكتفي بمجرد الدهشة والانبهار ، عند اكتشاف سر من أسرار الخلق ، أو سنة من سنن الخلق .. بل أصبحت تنظر إلى الوجود نظرة علمية إيجابية ، تستهدف فهم السنن التي فطر الله عليها أمور الخلق ، ومن ثم تسخير هذه السنن ، و الاستفادة من معطياتها في تصريف شؤون الحياة ، وعمارة الأرض على الوجه الذي أمر به رب العزة سبحانه .

علم الكتاب:

والحق .. أن القرآن الكريم لم يقف بالمسلمين عند هذه الحدود في حثهم على العلم ، بل تجاوز ذلك إلى تحريض العقلية الإسلامية على التحليق نحو آفاق أبعد وأرحب ، حين تحدث حديثاً مسهباً عن واقعة خارقة للعادة ، ثم ربطها ربطاً مباشراً بقضية العلم ، وتلك هي قصة نبي الله ( سليمان ) عليه السلام مع (بلقيس) ملكة ( سبأ ) التي طلب من جنوده إحضار عرشها قبل أن تأتيه وقومها مسلمين ، فتصدى لهذه المهمة الصعبة واحد من الجن (قال عفريت من الجن أنا آتيك به قبل أن تقوم من مقامك وإني عليه لقوي أمين )(النمل: 39) ، لكن سليمان عليه السلام كان يطمح للحصول على العرش بأسرع من ذلك ، فراح ينظر فيمن حوله متسائلاً عمن يستطيع تحقيق حلمه ، وعندئذ (قال الذي عنده علم من الكتاب أنا آتيك به قبل أن يرتد إليك طرفك )(النمل: 40) ، وما هي إلا لحظات خاطفة حتى كان العرش الثمين بين يدي النبي عليه السلام !

وواضح من خلال السرد القرآني البليغ لهذه القصة الطريفة ، أن قضية إحضار العرش من أقصى اليمن، حيث كانت تعيش الملكة بلقيس ، إلى فلسطين ، حيث كان يعيش نبي الله سليمان ، كان أمراً معجزاً خارقاً للعادة آنذاك ، يوم لم يكن معروفاً من وسائل التنقل غير الدواب .. لكن الملفت للنظر حقاً ، أن القرآن الكريم لم يعرض الواقعة بوصفها أمراً معجزاً وكفى ، بل عرضها عرضاً متميزاً يدعو للتأمل والتدبر، إذ نجده يؤكد على دور العلم في القضية ، نلمح ذلك من خلال معالجة كل من العفريت والذي عنده علم من الكتاب لهذه القضية .. فالعفريت من الجن أراد إحضار العرش معتمداً على قدراته الجسدية ، التي منحه الله إياها خلقة فقال: (وإني عليه لقوي أمين ) وأما ( الآخر ) الذي أحضر العرش فعلاً خلال زمن قياسي قصير جداً فقد لجأ إلى ( العلم ) الذي تشير الآية الكريم إلى أنه (علم من الكتاب) !

وقد اختلف المفسرون في بيان حقيقة هذا الكتاب ، فقال بعضهم : إنه التوراة . وقال بعضهم الآخر : إن الذي أحضر العرش كان يعرف اسم الله الأعظم . وقال آخرون أقوالاً غير هذا وذاك ودون تعليل مستيقن ، ونحن نرى أن الأمر أقرب وأظهر من ذلك كله ، حين ننظر إليه بمنظار الواقع الملموس .. فكم في هذا الكون الرحيب من أسرار نجهلها .. وكم فيه من سنن لا ندركها .. وحينما يشاء الله عز وجل أن يكشف شيئاً من ذلك ، فإنه يهدي من يشاء إلى ( السر ) ، ويرشده إلى فهم بعض السنن الكونية التي يحصل من تسخيرها ما يبدو لنا – نحن الجاهلين بذلك السر – أنه خارج عن المألوف ، خارق للعادة !

وعل هذه الشاكلة يمكن أن نفهم كيف حقق ذلك العبد ( الذي عنده علم من الكتاب ) تلك الخارقة العظيمة في نقل عرش الملكة آلاف الأميال خلال لحظات خاطفة !!

واليوم .. نحن نعيش هذه الثورة العلمية ، التي تطلع علينا كل صباح باختراعات وإنجازات مذهلة ، نجد أنفسنا وقد أصبحنا أقرب إلى فهم تلك الواقعة التي حدثنا القرآن عنها ، كما أصبحنا ندرك إدراكاً مباشراً لماذا ربطها بقضية ( العلم ) ، وبخاصة أن العلم الحديث قد أتاح لنا تحقيق منجزات تقارب تلك الخارقة في عظمتها ، وذلك بفضل الله الذي هدانا إلى كشف الكثير من السنن ، التي مهدت لنا صنع الطائرات النفاثة ، والمركبات الفضائية ، القادرة على الطيران بسرعات تتجاوز الصوت بمرات ومرات !

وقد تناقلت وكالات الأنباء مؤخراً أن الولايات المتحدة الأمريكية بدأت فعلاً بتنفيذ مشروعها الطموح لإنتاج ( قطار الشرق السريع الجديد ) وهو في الواقع ليس قطاراً بل طائرة صاروخية تفوق سرعتها سرعة الصوت بنحو ( 25 مرة ! ) تستطيع مثلاً قطع المسافة القصية ما بين ( لندن ) في إنجلترا و( سيدني ) في استراليا بأقل من ( 45 دقيقة ! ) وهذه المسافة تزيد أضعافاً مضاعفة عن المسافة التي نقل عبرها عرش بلقيس !!

وهذا يعني أن الإنسان – بما حصله حتى الآن من علم بسنن الطيران – قد تجاوز سرعة الجن ( أنا آتيك به قبل أن تقوم من مقامك ) وسوف يواصل الإنسان – بإذن الله – رحلة بحثه هذه حتى يقترب أكثر فأكثر من تحقيق السرعة القرآنية الأخرى ( أنا آتيك به قبل أن يرتد إليك طرفك ) التي بدأنا نلمح بعض تباشيرها فيما توصل إليه حتى الآن ، من اختراعات فذة في مجالات الاتصال اللاسلكي ، إذ أصبح التلفزيون مثلاً قادراً على نقل الأحداث إلينا لحظة حدوثها في أية بقعة من بقاع الأرض ، أو الفضاء البعيد .. كما أن وسائل الاتصال الإلكتروني يسرت لنا اليوم نقل الرسائل المكتوبة عبر الهاتف فيما يعرف بـ (الفاكسميلي) وهذه كلها بعض تباشير تحقيقنا لتلك السرعة القرآنية التي أشرنا إليها!

ونعود من جديد إلى رحاب القرآن الكريم الذي لا تنتهي عجائبه ، ولا تنقضي غرائبه ، لكي نتوقف عند هذا البيان المعجز في قوله تعالى: (قال الذي عنده علم من الكتاب أن آتيك به قبل أن يرتد إليك طرفك )(النمل: 40) فإن هذه الآية لم تبين لنا شخصية ذلك الذي (عنده علم من الكتاب) أبشر هو أم جني ؟! وهي لفتة جديرة بالتأمل ، وأن نقف عندها طويلاً ، ونجعلها مع الإشارة السابقة إلى (الكتاب .. بهذا اللفظ المعرف المبهم !) دليلاً قوياً على وظيفة العلم في عملية التسخير .. وكأن الآية الكريمة تريد أن توحي لنا بأن العلم ما هو إلا (كتاب) مبثوثة حروفه وكلماته في أرجاء هذا الكون الفسيح ، وما على الذين يريدون الاستفادة مما في هذا الكتاب إلا أن يحسنوا القراءة فيه .

وهم – بطبيعة الحال – لن يحسنوا القراءة أبداً إلا أن يسيروا في الأرض بقلوب مبصرة ، ونفوس تواقة للمعرفة ، على هدي التوجيه الرباني الحكيم (قل انظروا ماذا في السموات والأرض )( يونس: 101) ، لكي يتفكروا في السنن التي تحكم هذا الوجود ، ويستجلوا حقيقتها في الآفاق وفي أنفسهم ، ثم يعملوا على تسخيرها كما أمرهم بذلك رب العزة سبحانه ! وبهذا المنهج يمكن أن نهتدي – بإذن الله – إلى السنن التي على نهجها تسير الحياة .. وهذا هو الطريق الصحيح للوصول إلى ( العلم ) الحقيقي الذي سوف يحقق لنا في المستقبل ما نراه اليوم مستحيلاً !

==============

#3- – علم الغيب

* الغيب : خلاف الشهادة .

* وكل ما غاب عن إدراكنا فهو غيب بالنسبة لنا .

* والغيب غيبان :

أ – ( غيب مطلق ) ويشمل كل المغيبات المتعلقة بالعالم الآخر ، وهذا النوع من الغيب يمكن أن نعلمه علماً يقينياً عن طريق واحد لا ثاني له ، وهو طريق الوحي الثابت الصحيح ..

ب – ( غيب نسبي ) ويشمل المغيبات في عالم الشهادة التي تتعلق بالماضي أو بالحاضر ، وهي مغيبة عنا إما بسبب وجود مانع يحول دون علمنا بها ، أو لأن الوسائل التي بين أيدينا لا تسعفنا في الكشف عنها ، وهذا النوع من الغيب يمكن أن نتوصل لمعرفته بصورة يقينية قاطعة ، بوسائلنا الخاصة .

ومن المعروف أن الإنسان تطلع منذ وقت مبكر من تاريخه إلى عالم الغيب ، وتثبت سجلات التاريخ أن الإنسان قام بمحاولات كثيرة جداً لكي يستشف آفاق المستقبل ، وتشير الآثار القديمة ، وبعض الأساطير والحكايات إلى تلك المحاولات ، التي لا نشك أبداً أنها باءت بالفشل لأنها اعتمدت على الظن أو الخيال ، ولم تلتفت إلى دور العلم في هذه المسألة.

ولقد سبق الحديث عن أن العلم يعني المعرفة اليقينية بالسنن الربانية ، التي تحكم ظاهرة من الظواهر الكونية ، وأن السنن ذاتها تقوم على أساس أولي من ارتباط العلة بالمعلول ، أو ارتباط النتيجة بالسبب ارتباطاً لازماً ، وهذا يعني أن اجتماع أسباب معينة يؤدي إلى نتيجة معينة بإذن الله .. وانطلاقاً من هذه الحقيقة ، يمكن أن يكتسب الإنسان قدرة ما على التنبؤ بأمور مغيبة عنه ، فعندما تتوافر لديه مجموعة من القرائن أو المقومات أو الأسباب ، فإنه يمكن أن يتنبأ بالمغيبات ، التي ترتبط بها من النتائج ، كأن يتنبأ مثلاً بهطول المطر عندما تتراكم الغيوم في السماء ، وتتهيأ الظروف الجوية المواتية ، أو يتنبأ بحدوث زلزال عندما تشير أجهزة الرصد الجيولوجية إلى حدوث تحركات في طبقات الأرض ، أو يتنبأ بإصابة إنسان ما بمرض معين ، بعد تعرضه للعدوى من مصدر معروف .. وهكذا .

إلا أن تنبؤ الإنسان على هذه الصورة يبقى ناقصاً لسببين اثنين :

أ – لأن هذا التنبؤ قابل للخطأ والصواب ، بمقدار ما يكون الإنسان قد عرف من شروط وظروف الظاهرة التي يحاول التنبؤ بما وراءها .

ب – لأن هذا التنبؤ ليس أولياً ، أي أن الإنسان لا يعلم الغيب علماً أولياً بلا مقدمات ، بل هو يتنبأ اعتماداً على أساس ارتباط النتيجة بالسبب ، ولهذا تبقى نبوءته ناقصة .. فهي ليست كعلم الله بالغيب ، لأن علم الله عز وجل هو علم أولي تام لا يدانيه الخطأ أبداً ، ولا يقف دونه مانع ، فهو علم غير مرتبط بزمان ولا مكان ولا أسباب ، فالله سبحانه يعلم ما كان ، وما هو كائن ، وما سوف يكون (وعنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلا هو ، ويعلم ما في البر والبحر وما تسقط من ورقة إلا يعلمها ولا حبة في ظلمات الأرض ولا رطب ولا يابس إلا في كتاب مبين )(الأنعام: 59 ) ، ولا عجب ، فالله عز وجل هو الذي خلق الخلائق كلها، وقدر الأسباب والنتائج ، وأحاط بكل شيء علماً (عالم الغيب لا يعزب عنه مثقال ذرة في السموات ولا في الأرض ولا أصغر من ذلك ولا أكبر إلا في كتاب مبين )(سبأ: 3) .

ويرجع اهتمامنا بالبحث في العلاقة ما بين سنن الله في الخلق وبين معرفة الغيب ، إلى أن هذه العلاقة يمكن أن تمدنا بقدرات باهرة لم نكن نملكها من قبل ، وتفتح أمامنا آفاقاً لم تكن مفتوحة .

ومما لا ريب فيه أن الإنسان عندما بدأ الاهتمام بالبحث العلمي ، واكتشف أن مخلوقات الله جميعاً تخضع لسنن ثابتة مطردة لا تتخلف ، قد اكتسب من خلال ذلك رؤية جديدة للعالم ، الذي يعيش فيه ، فراح على ضوء رؤيتة الجديدة هذه ، يتعامل مع الكون تعاملاً أكثر إيجابية وفعالية ، إذ أمدته معرفته بسنن الله بقدرات إضافية ، أعانت على التنبؤ بوجود ظواهر ومخلوقات ، لم يكن يعلم عن وجودها شيئاً من قبل .. ولعل خير مثال على هذا ما حدث مع العالم الروسي الشهير (مندلييف) الذي وضع الجدول الدوري للعناصر الكيميائية عام 1869م .. فقد لاحظ هذا العالم أن ذرات العناصر التي كانت معروفة في زمانه تتركب وفق نظام ، أو سنة معينة ، اذ يتعقد تركيبها بالتدريج واحداً بعد الآخر ، فقد وجد مثلاً أن أبسط العناصر هو ( الهيدروجين ) وتتركب ذرته من نواة فيها بروتون واحد ونترون واحد ، ويدور حولها بروتونان يدور حولهما الكترونان .. وهكذا يزداد تركيب العناصر تعقيداً واحداً بعد الآخر إلى نهاية الجدول ، وفق سنة مطردة تدل على النظام البديع الذي ركبت الذرات على أساسه .

وقد درس مندلييف العناصر الكيميائية التي كانت معروفة في زمانه ، ثم رتبها في جدول بحسب تركيبها الذري ، من الأبسط إلى الأكثر تعقيداً ، فلاحظ خانات في الجدول ظلت فارغة ، ولما كان مندلييف واثقاً من وجود قانون صارم ( أو سنة ) يحكم تركيب هذه العناصر وفق نظام مطرد ، فقد استدل من هذه الخانات الفارغة على وجود عناصر في الطبيعة ، لم تكتشف بعد ، وبعد دراسة عميقة ، وبحث شاق استطاع مندلييف ، أن يقدر بعض صفات العناصر المغيبة ، وقام بوضع تقرير مفصل عنها ذكر فيه خصائصها ، التي تنبأ بها بناء على موقعها من الجدول .

وبالفعل لم يمض وقت طويل حتى جاءت الاكتشافات ، فأكدت صدق ما تنبأ به مندلييف ، ففي عام 1875م اكتشف عالم فرنسي أحد العناصر التي تنبأ بوجودها في الطبيعة ، وأطلق عليه اسم ( غاليوم ) نسبة إلى بلاد الغال حيث اكتشف هذا العنصر ، وفي عام 1879م اكتشف عالم سويدي عنصراً آخر من تلك العناصر ، أطلق عليه اسم ( سكانديوم ) وبعدها اكتشف عالم ألماني العنصر الثالث ، عام 1887م وأطلق عليه اسم ( جرمانيوم ) نسبة إلى ألمانيا .. وكانت خصائص هذه العناصر المكتشفة مطابقة للخصائص التي تنبأ بها مندلييف إلى درجة تبعث على الدهشة !

وبمثل هذا الفهم لطبيعة السنن التي فطر الله عليها أمور الخلق ، يمكن أن يكتسب الإنسان القدرة على التنبؤ ببعض ما سوف يجيئ به في المستقبل ، ومن هذا المنطلق راح علماء الاستشراف المستقبلي يحدثوننا في ثقة تامة عن الغد وكأنهم يرونه عياناً .. ومن ذلك مثلاً ( أن علماء الفلك يتنبأون بأن الليل والنهار لن يظلا على ما هما عليه اليوم بعد مرور خمسة آلاف مليون سنة مثلاً ، فهم يتنبأون أن اليوم بعد هذا العمر الطويل لن يكون 24 ساعة بحساباتنا الحالية ، بل سيصير 36 ساعة ، وهذه الحسابات لا تأتي هكذا اعتباطاً ، لأن العوامل الكثيرة التي تتسلط على أرضنا تؤدي إلى إبطاء دورانها حول نفسها ، وإبطاء الحركة ينعكس على إبطاء الزمن ، بحيث يؤدي ذلك إلى جعل يومنا الحاضر أقصر من غدنا بحوالي 000.000.25/ثانية أي 25 جزءاً من ألف جزء من الثانية .. ويتنبأ العلماء كذلك بحصول أطول كسوف للشمس ( سيستمر لمدة سبع دقائق و28 ثانية ) وذلك يوم 16 تموز (يوليو) عام 2186م أي بعد حوالي 196 سنة ( أطال الله في أعماركم ) وكلنا نذكر دون ريب المذنب الشهير (هالي) الذي ظهر في سمائنا يوم 9 شباط ( فبراير ) من عام 1986م في تمام الساعة التاسعة والنصف ، والذي استعد العلماء لظهوره ورصده ، قبل هذا التاريخ بسنوات عديدة ، لأنهم كانوا يعلمون موعد تشريفه!

وهناك إلى جانب ما ذكرناه تنبؤات عديدة لا تقل غرابة وإثارة .. نذكر منها ما يلي:

يقول العالم ( ريتشارد سيلزر ): ( إن أهم التطورات التي ستفضي إليها البحوث في العشرين سنة المقبلة ، ستكون بلا شك العقاقير المضادة للفيروسات ، واللقاحات التي ستؤدي إلى انقراض الأمراض السارية من على وجه الأرض .. أما علم الهندسة الوراثية ، فسوف يساعد في القضاء على العاهات الوراثية ، التي ضربت المجتمعات منذ زمن بعيد .. يقيني أن التحكم بالتقنيات المختصة بمعاملة الموروثات البشرية ستخلف سلالات بشرية متفوقة ، وأن هذه الحقيقة قد بدأت بشائرها اليوم . وعلى المستوى الاجتماعي والنفسي والسياسي هناك تنبؤات أكثر غرابة وأبعد شأوا ، يقول الأستاذ ( تيموتي ليري ).. سوف نشهد في العقود المقبلة اضمحلال السياسات الحزبية ، فهذه من مخلفات العهود الإقطاعية ، أو من بقايا العصر الصناعي ، في أحسن الأحوال ، فمن الجنون أن يتم حكم أمريكا مثلاً – وهي ذلك المجتمع التكنولوجي المعقد والتعددي – على هذه الصورة المتخلفة .. سوف نصبح كلنا مسؤولين ومشاركين في الحكومة ، وسنقوم بالتصويت الإلكتروني ، ومن منازلنا ، ولن نحتاج إلى مرشحين حزبيين مخاتلين ، يلعبون على أوتار معتقداتنا وعواطفنا !

ويقول أيضاً : ( في غضون العشرين سنة المقبلة ستطرح في الأسواق مئات الأصناف المتطورة من (النواقل العصبية) التي تسمح بتنشيط الدماغ ، وتحسين الأداء الفكري ، وتعديل المشاعر والأحاسيس ، بالكيفية التي تريد ، وستظهر كذلك (أجهزة الراديوات الدماغية) القادرة على التقاط الموجات الكهربائية الصادرة عن الدماغ ، وتعديل كيفيتها ، بحيث يمكن تسريع عملية التفكير أو إبطائها ، وهذه الأجهزة سوف تعيننا على التفكير بوضوح ، وعلى التواصل فيما بيننا بصورة أفضل، وهكذا أخذت تظهر يوماً بعد يوم تنبؤات جديدة لعلماء الاستشراف المستقبلي ، لتضيء لنا صورة المستقبل شيئاً فشيئاً ، حتى كأننا نراه عياناً .. ، وهي ليست مجرد تنبؤات للتصدير الإعلامي ، بقصد التشويق والإثارة ، بل هي في الحقيقة تشكل الهيكل الأساسي للبرامج ، التي تعتمد عليها شركات الإنتاج والتصنيع ، التي أصبحت بسبب تسارع إيقاع العصر ، تهتم بالمستقبل ، ربما أكثر مما تهتم بالحاضر ! وهذه التنبؤات ليست تنبؤات منجمين يضربون بالرمل ، ولا شطحات شعراء يهيمون وراء الخيال .. بل هي تنبؤات تقوم على أسس راسخة من المعرفة الصحيحة بطبيعة السنن ، التي فطر الله عليها أمور الخلق .. فهذه المعرفة هي التي أمدت العلماء بقدرات عظيمة ، استطاعوا بها استشراف آفاق المستقبل ، واستنكاه ما سوف يقع فيه من أحداث، وما سوف يطرأ عليه من تحولات بالغة الغرابة.

ومما لا ريب فيه أن مثل هذه التنبؤات ، ستعطي العلماء بعداً جديداً للحركة ومجالاً أرحب للفكر النظري والتطبيقي ، مما سيعينهم بإذن الله على وضع البرامج المستقبلية ، الكفيلة بمواجهة التغيرات القادمة ، بصورة أكثر فعالية ، وأقدر على الاستفادة من عامل الوقت ، وتجنبهم الأخطار القادمة ، لأنهم يكونون قد أخذوا حذرهم تجاهها ، بل قد يستطيعون تسخير هذه الأخطار لصالحنا نحن البشر ، بدل أن نكتوي بنارها!

وكما قالوا ( من عرف لغة قوم أمن شرهم ) وكذلك هي معرفتنا بالمستقبل ، فهي تجعلنا نأمن شره ، وتقلل من أخطائنا ، وتجعلنا نتعامل معه تعامل الصديق ، الذي يعرف صديقه جيداً .. ولا سبيل إلى هذه المعرفة بالمستقبل غير السير في الأرض ، واستكشاف السنن ، التي فطر الله عليها أمور خلقه !

============

# 4 - – الخير والشر

.. بينا في فصل سابق أن الله عز وجل خلق هذا الكون البديع ، وبث فيه من المخلوقات أنواعاً كثيرة لا تعد ولا تحصى .. وذكرنا أن هذا التنوع في الخلق ، يستتبع وجود نوع مماثل في السنن التي تحكمه .. وقد اقتضت حكمة الخالق سبحانه أن تكون هذه السنن موافقة لطبيعة الأمانة ، التي وكل الإنسان بها .. كما اقتضت حكمته أن يترتب على الأخذ بهذه السنن نتائج خيرة ، إذا ما أخذ الإنسان بها على الوجه الذي بينه الشارع الحكيم ، وأما إن أخل الإنسان بهذا الشرط ، فإن النتائج تنقلب شراً والعياذ بالله ..

ومن هنا كان الحلال والحرام في شريعة الله ، وكانت ضرورة إرسال الرسل إلى الناس لكي يبينوا لهم طريقة الأخذ بالسنن ، التي تعينهم على أداء الأمانة العظيمة ، التي خلقوا من أجلها .. وهذه من أعظم نعم الله على الخلق ، فلو أنه تركهم يعيشون في هذه الحياة بلا زاد ولا مرشد ، لتاهوا وضلوا .. ولكنه – بسبب رحمته الواسعة – أرسل إليهم من يرشدهم إلى الطريق ، ويدلهم على كيفية التعامل مع هذه الحياة تعاملاً يثمر الخير والصلاح !

* ونضرب للأمر مثلاً ..

فقد قدر الله عز وجل لبقاء النوع الإنسان سنة تقوم على التقاء الرجل بالمرأة ، وغرس في كل من الجنسين ميلاً وشوقاً وتعلقاً بالآخر ، حتى تفعل هذه السنة فعلها ، وتحقق الهدف المنشود منها .. ولكن الله عز وجل لم يدع هذه السنة رهن الميل الجنسي وحده ، بل جعل لها شروطاً عديدة ، ، لابد من مراعاتها ، حتى تؤدي السنة وظيفتها على الوجه الصحيح ، وحتى تعود بالخير على الزوجين والأولاد ، الذين يأتون ثمرات لهذه العلاقة بين الرجل والمرأة .. ونحن لا نريد أن ندخل في الحديث عن كل الشروط التي اشترطها الشارع الحكيم للعلاقة الزوجية ، فهي كثيرة ، ولكننا سنكتفي بالوقوف عند الشروط الغريزية (الفسيولوجية) لكي نبين بعد ذلك ما ينتج عن الإخلال بهذه الشروط التي منها :

- ألا تكون الزوجة من المحرمات ، كالأخت ، وبنت الأخ وبنت الأخت ..

- ألا ترتبط المرأة – في وقت واحد – بأكثر من زوج واحد .

- فإن أرادت الزواج بآخر ، لوفاة الأول أو لطلاقها منه ، فلابد لها من الانتظار فترة (عدة) قبل أن ترتبط بالآخر .

- فإن أراد زوجها أن يواقعها فلا يحل له أن يواقعها إلا في طهر .

- ولا يحل له أن يأتيها إلا من حيث أمر الله .

وهكذا نجد أن الأحكام الفرعية ، بينت مجموعة من الشروط الكفيلة – بإذن الله – بوقاية الزوجين من الأضرار والأمراض ، التي تنشأ عادة من العلاقات الجنسية المحرمة ، والتي أقلها الأمراض الجنسية الفتاكة ، التي يلاحظ تفشيها بين الزناة خاصة .

* مثال آخر ..

ونذكر أن الإشعاع الذري الذي اكتشفت قوانينه وطبيعته في مطلع هذا القرن ، أصبح خاضعاً الآن للتسخير من قبل العلماء .. وقد وجدنا أن هؤلاء قد سخروه تارة في الخير ، وذلك حين استخدموه لتشخيص بعض الأمراض ، وعلاج بعضها الآخر .. وحين استخدموه في توليد الطاقة الكهربائية ، وفي إدارة المصانع وتشغيلها ، وفي دفع السفن والغواصات ، وهذه كلها أغراض نبيلة خيرة .

إلا أن علماء آخرين استخدموا الإشعاع ذاته في الشر ، فوضعوه في قنابل ذرية دمرت على الناس مدنهم وحضارتهم ، وما نكازاكي وهيروشيما عنا ببعيد !

وهذا يعني أن سنة الإشعاع نفسها قد سخرها الإنسان تارة في الخير .. وتارة في الشر ..

* ومثال ثالث ..

فقد خلق الله العناصر الكيميائية ، وجعل في كل منها صفات محددة ، باتت معلومة للعلماء ، وقد استطاع هؤلاء بما اهتدوا إليه من سنن الكيمياء أن يركبوا مركبات عديدة جداً من تلك العناصر ، ويكفي أن نذكر أننا يمكن أن نحصل من تلك العناصر على أدوية نافعة تدفع عنا آلام المرض وأضراره .. وهذه غاية طيبة خيرة .. كما يمكننا أن نصنع من العناصر ذاتها سموماً ومخدرات تسبب لنا شتى أنواع الضرر والأذى .. وربما الموت والهلاك ..

وأحسب أنه ظهر لنا من خلال هذه الأمثلة أننا قادرون بمشيئة الله على تسخير السنن الربانية في الخير ، أو في الشر ، فنحن أمام هذه السنن واقعون بين خيارين كما قال تعالى : (وهديناه النجدين )(البلد: 10) ، فإما أن نوجه هذه السنن نحو الخير ، وعندئذ نفوز وننجو ، ونحقق الخير ، الذي نصبوا إليه .. وإما أن نوجهها نحو الشر .. وحينئذ .. لا نلومن إلا أنفسنا ، لأن الخسارة ستكون نصيبنا لا محالة !!

وثمة أمر آخر له صلة بحديثنا عن الخير والشر ، وعلاقتهما بسنة الله في الخلق ، فقد سبق أن قلنا عند استعراض صفة الاطراد في السنن : إن السنن تمضي نحو غاياتها المقدرة ، وتقع نتائجها كالقدر المحتوم ، كلما توافرت شروطها ، وانتفت الموانع التي تحول دون تحقيقها ، فهي من هذه الوجهة مثل أصيص الزهور ، الذي يهوي من شرفة عالية ، فبعد أن يبدأ الأصيص رحلة سقوطه ، فإنه دون ريب سيمضي فيها حتى النهاية ، ولن يتوقف إلا أن يرتطم بالأرض ، أو بجسم آخر ينهي رحلة سقوطه .. وكذلك هي سنن الله في الخلق ، فهي تمضي حتى النهاية كلما توافرت شروطها .. وكما أن أصيص الزهور حين يهوي لا يميز بين أن يسقط على الأرض ، أو يسقط على رأس طفل برئ ، أو على رأس لص محتال ، أو على رأس امرأة حامل .. فكذلك سنن الله حين تتوفر شروطها فإن نتائجها قد تصيب البرئ أو المذنب من غير تمييز .. وهذه الحقيقة تضع الإنسان وجهاً لوجه أمام مسؤوليته في الاختيار ، فما دام أنه حر في تسخير السنن وتوجيهها نحو الخير أو الشر ، فإن عليه أن يتحرى في اختياره ، خشية أن يرتكب الخطأ القاتل ، فيوجه سنة نحو الشر ، بينما كان يريد أن يوجهها نحو الخير!

=============

#5 - – الدعاء

. ليس الدعاء مجرد ألفاظ تجري على لسان الإنسان ، بينما أفعاله تكذب ما يقول : عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : (قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إن الله طيب لا يقبل إلا طيباً ، وإن الله أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين .. ثم ذكر الرجل يطيل السفر ، أشعث أغبر ، يمد يديه إلى السماء ، يارب يارب . ومطعمه حرام ، ومشربه حرام ، وملبسه حرام ، وغذي بالحرام ، فأنى يستجاب له ؟ ) وإنما الدعاء جهد واعٍ ومسؤولية .

فهو جهد واعٍ لأنه – كما أسلفنا – ليس مجرد ألفاظ تقال ، بل هو موقف نفسي متميز ، يتطلب من المرء أن ينتقل من موقفه السلبي ، الذي كان عليه حين ارتكب الخطأ ، إلى موقف ملؤه العزم والتصميم ، على تجاوز الخطأ ، والعودة إلى الحق !

والدعاء مسؤولية .. لأن العبد منذ اللحظة التي يتوجه فيها إلى ربه بالدعاء ، يصبح مسؤولاً عن موقفه ، هذا ، الذي يتضمن عهداً مع الله ، ألا يعود إلى ما كان عليه من سلوك ، وما ارتكبه من ذنب .. فإن عاد كان كالمستهزئ بربه ، وكان عهده مع الله حجة عليه !

وكما يكون الدعاء من العبد رغبة في محو ذنب ، أو تجاوز زلة ، فكذلك قد يكون الدعاء طمعاً في تحصيل نفع ، أو تحقيق مطلب ، وهو أمر مشروع دون ريب ، إلا أن له شروطاً من أهمها ألا يخالف الدعاء معلوماً من الدين بالضرورة ، وألا يبتغي مخالفة سنة من سنن الله في الخلق .. فمثل هذا الدعاء غير قابل للإجابة أصلاً ، فليس للإنسان مثلاً أن يدعو الله أن يسقط عنه أمراً معلوماً من الدين بالضرورة ، كأن يسأل الله إعفاءه من تكليف شرعي ، كالصلاة أو الزكاة أو غيرها .. وليس للإنسان أن يدعو الله ليبطل سنة من السنن التي فطر عليها أمور خلقه .. وما ظنك بإنسان يلقي بنفسه من شاهق ، وهو يرفع كفيه إلى السماء ضارعاً: (يارب أبطل سنة الجاذبية الأرضية) هل يستجاب له؟ وكذلك هي حال الذين يتجاهلون سنن الله ، ويحسبون أن مجرد الدعاء سيشفع لهم عن بارئهم ، متناسين أو متجاهلين التوجيه الرباني الصريح في هذه المسألة: (ليس بأمانيكم ولا أماني أهل الكتاب من يعمل سوءاً يجز به ولا يجد له من دون الله ولياً ولا نصيراً )(النساء: 123) فالمسألة ليست مجرد أدعية ولا أماني ، وإنما عمل أو لا عمل ، لأن العمل هو مناط النتائج ، فإن كان العمل متوافقاً وسنن الله كان مجدياً .. وأما إن كان مخالفاً للسنن ، فإنه لا يجدي أبدا ، بل قد تنجم عنه نتائج وخيمة !

إذن .. أين هو موضع الدعاء من حركة الإنسان وعمله .؟

لا ريب أن للدعاء وظيفة عظيمة الأهمية في حياتنا ، ودليل ذلك تلك الآيات الكثيرة والأحاديث التي تحثنا جميعاً على التضرع لله ، وطلب المعونة منه .. (وقال ربكم ادعوني أستجب لكم )(غافر:60) ، (وإذا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الداعِ إذا دعان )(البقرة: 186) ، (الدعاء مخ العبادة ) .. ولكن ليس معنى هذا أن يتوقف كل نشاط الإنسان على الدعاء وحده .. فاللدعاء مواضع يجدي فيها بإذن الله ، ومواضع لا جدوى للدعاء فيها كما سبق أن بينا .. ويكفي أن نشير إلى القاعدة العريضة التي ترتكز عليها الأعمال الناجحة ، وهي أن يستكمل الإنسان الشروط ، التي يعتقد أنها لازمة للعمل ، الذي يزمع القيام به ، ثم يقبل على العمل متوكلاً على الله ، سائلاً إياه التوفيق والرشاد .

وأما الإقدام على العمل من غير توفير تلك الشروط ، فإنه يعد إخلالاً بالقيام بمهمة الاستخلاف بالأسباب التي ناطها الله بنا.. لأن من شروط القيام بهذه المهمة أن نأخذ أولاً ، كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم للذي ترك دابته سائبة ، وادعى أنه متوكل على الله في الحفاظ عليها : (اعقلها وتوكل ) اعقلها .. خذ بأسباب حمايتها وحفظها .. ثم توكل على الله .

وهكذا يجب أن يكون سلوكنا في هذه الحياة .. نأخذ بالأسباب ونهيئ الظروف ، ونراعي الشروط .. ثم تبقى قلوبنا معلقة بالله ، ضارعة إليه أن يسدد خطواتنا ، وأن يلهمنا الرشاد ، وأن يهدينا إلى السبل ، التي تعيننا على إنجاز أعمالنا على أحسن ما نحب ونشتهي .. وعندئذ يجدي الدعاء بإذن الله.

=============

# 6 –- الابتلاء والمحنة

.. لقد شاءت إرادة الله عز وجل أن تكون حياة الإنسان فوق هذه الأرض سلسلة متواصلة لا تكاد تنتهي من الابتلاءات والمحن ، وفي هذا يقول سبحانه وتعالى: (تبارك الذي بيده الملك وهو على كل شيء قدير الذي خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملاً وهو العزيز الغفور )(الملك: 1-2 ) وهذا الابتلاء قد يكون بالخير أو بالشر: (كل نفس ذائقة الموت ونبلوكم بالشر والخير فتنة وإلينا ترجعون )(الأنبياء: 35 ) وقد يكون الابتلاء للمؤمنين في سبيل تمييز المجاهدين منهم والصابرين (ولنبلونكم حتى نعلم المجاهدين منكم والصابرين ونبلو أخباركم )(محمد: 31) فالابتلاء يمكن أن يكون في أي شأن من شؤون الحياة ، فالله عز وجل خلق البشر ، واستخلفهم في الأرض ، ولم يتركهم يهيمون على غير هدى ، بل أرسل إليهم الرسل مبشرين ومنذرين ، فبينوا لهم سنن الهداية والرشاد ، وبشروهم بالفوز في الدنيا والآخرة ، إن هم أخذوا بها واتبعوها ، كما حذروهم من مخالفة هذه السنن ، وأنذروهم من عذاب الله إن هم ضلوا عنها ، وتنكبوا جادة الصواب .. فلم يعد إذن للناس من حجة بعد الرسل ، بل أصبحوا بعد الرسالات في غمرة الابتلاء والاختبار ، وغدوا مطالبين بتحري الصواب في شؤونهم كلها ، وإلا سقطوا في الامتحان , خسروا الدنيا والآخرة .. ويالها من خسارة !

وفي هذه الطريق الصعبة ، طريق الابتلاء تعترض الإنسان شدائد ومحن شتى فنجد أنه يتخذ حيالها أحد موقفين :

* الموقف الأول :

حين تصيب الإنسان شدة من غير قصد منه ، ولا إرادة ، ولا تدبير ، فهذا الموقف هو ما يصح أن نطلق عليه اسم ( الابتلاء ) ، والعبد المؤمن مأمور حين يبتلى على هذه الشاكلة أن يصبر على الشدة ، وألا يقنط من رحمة الله ، وأن يسأل الله تفريج كربه .. وهو مأجور بإذن الله على ذلك كله .

* الموقف الثاني:

حين تصيب الإنسان شدة نتيجة تدبير منه ، واختيار ، أو ممارسة فعلية خاطئة ، فهذا النوع من الابتلاء يصح أن نسميه مصيبة أو عقوبة ، حلت به نتيجة ما قدمت يداه .

ونضرب لهذين الموقفين مثالين من عالم الطب والصحة .. فالمرض يمكن أن يصيب الإنسان دون أن يكون قد عرض نفسه للأسباب الداعية للمرض ، بل قد يكون اتخذ الاحتياطات الوقائية ، التي يغلب على ظنه أنها تمنع المرض ، ولكنه مع هذا يصاب بالمرض .. ففي مثل هذه الحال نقول : إن الشخص تعرض للابتلاء .

وأما المثال الآخر ، فهو نقيض للأول ، ونشاهده عندما يصاب الشخص بالمرض نتيجة تفريطه في أمور صحته ، وعدم أخذه بأسباب الوقاية ، كأن يتناول طعاماً أو شراباً يضر بصحته ، أو يزني ، أو يتناول المخدرات .. فهذا الشخص يعد مفرطاً في أمر صحته ، ومن ثم يصح أن نعد ابتلاءه نوعاً من العقوبة ، التي حلت به نتيجة مخالفته لقواعد الصحة أو للسنن التي بها يمتنع المرض بإذن الله .

ويظهر لنا هنا الفارق الجوهري ما بين الابتلاء والعقوبة .. ويمكن أن نسوق أمثلة كثيرة لزيادة الإيضاح ، ولا بأس أن نتناول موضوع الجهاد من هذا المنظور ، وبخاصة أنه كثر الحديث حول هذا الموضوع في أيامنا الحاضرة .. فالمؤمنون مأمورون ابتداءً بالإعداد لمواجهة أعدائهم قال تعالى: (وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم وآخرين من دونهم لا تعلمونهم الله يعلمهم )(الأنفال:60 ) فبعد هذا الأمر الرباني الصريح بالإعداد لا يصح أن يغفل المؤمنون عن أخذ الأهبة ، وتجهيز ما يلزم من عتاد وعدد ، استعداداً للجهاد ، ولا يجوز لهم أن يدخلوا المعركة ضد معسكر الكفر ، إلا بعد أن يستوفوا شروط القتال ، فيخططوا للمعركة تخطيطاً دقيقاً واعياً بكل الملابسات ، ويجندوا طاقاتهم البشرية والمعنوية تجنيداً مناسباً ، حتى يغلب على ظنهم أنهم أخذوا بالأسباب ، التي تكفل لهم النصر بإذن الله .. فإن هم فعلوا هذا ، ودخلوا المعركة صابرين مقبلين غير مدبرين ، ثم لم ينتصروا ، كانت هزيمتهم حينئذ ابتلاء من الله ، لأن الهزيمة وقعت لأسباب خارجة عن إرادتهم وتدبيرهم .. والمجاهدون حينئذ مأجورون بإذن الله على جهادهم على الرغم من هزيمتهم .

وعلى النقيض من ذلك تكون حال المؤمنين ، لو أنهم دخلوا المعركة بلا إعداد ولا تخطيط ولا معرفة بأصول القتال .. لأن هزيمتهم حينئذ تكون عقوبة على ما فرطوا في أمرهم ، ولمثل هذا ألمحت الآيات الكريمات من سورة آل عمران ، والتي حملت المؤمنين مسؤولية ما أصابهم يوم ( أحد ) ، عندما قصر بعضهم ، فغادروا مواقعهم التي أمرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بالتزامها ، وذلك طمعاً منهم في الغنيمة ، فقال الله تعالى في حق هؤلاء : (أولما أصابتكم مصيبة قد أصبتم مثليها قلتم أنى هذا ، قل هو من عند أنفسكم إن الله على كل شيء قدير )(أل عمران: 165) والمصيبة التي تشير إليها الآيات الكريمات ، هي ما أصاب المسلمين يوم أحد من قتل السبعين منهم ، وأما الإشارة في قوله تعالى: (قد أصبتم مثليها ) فتعني يوم بدر ، فقد قتلوا في ذلك اليوم سبعين رجلاً من المشركين وأسروا سبعين آخرين ، وقد أرجعت الآيات سبب المصيبة التي أصابتهم يوم أحد إليهم هم أنفسهم (قل هو من عند أنفسكم )(آل عمران: 165) بمعنى أن هزيمتهم كانت عقوبة لهم على تفريطهم!

ولعلنا بهذه الأمثلة قد أوضحنا بما يكفي الفرق ما بين معنى الابتلاء ، ومعنى العقوبة ، إذ كثيراً ما يخلط الناس بين المعنيين ، فيظنون أن المصائب التي تنزل بهم نتيجة أخطاء يرتكبونها ، أو نتيجة مخالفة لسنة معروفة من السنن ، التي فطر الله عليها أمور الخلق .ز يظنون ذلك نوعاً من الابتلاء يكرمهم الله به ، فنراهم يستبشرون بما ينزل بهم ، لاعتقادهم بأن الله اختارهم للابتلاء كرامة لهم ، حتى يجزل لهم الجزاء!!

- وكان حرياً بمثل هؤلاء أن يحسوا بالندامة على ما بدر منهم ..

- وكان الأجدر بهم أن يرجعوا إلى أنفسهم ( قل هو من عند أنفسكم ) لكي يعرفوا الخلل ، ويشمروا عن ساعد الجد ، ويبدأوا عملية التقويم ، وجبر ما انكسر ، والنهوض من السقطة !

وهذا ما يجب علينا أن نفعله عند كل شدة .. أن نعرف إن كنا في موقف ابتلاء أم في موقف عقوبة ؟ لأن الفرق ما بين الموقفين عظيم

============

#7- – العبادة

والعبادة في الإسلام ليست الشعائر التعبدية من صلاة وصوم وزكاة وحج فقط .. بل إن كل نشاط يؤديه المؤمن يدخل في باب ( العبادة ) مادام يبتغي بهذا النشاط وجه الله .. ولقد سبق الحديث عن أن كل ما في هذا الوجود خاضع لسنن ربانية صارمة لا تتخلف .. وقد اقتضت مشيئة الله سبحانه ، أن تكون العبادة التي افترضها على عباده جزءاً من تلك السنن ، التي لا تستقيم حياتهم إلا بها ، فقد ركب الله عز وجل جبلة الإنسان من مركبين اثنين هما:

- الجسد، والنفس.

وأخضع كلا من هذين المركبين لسنن ضرورية لابد من مراعاتها حتى يصلح أمرهما .. فالجسد يحتاج إلى طعام وشراب ونوم وتزاوج ، وحاجات أخرى عديدة حتى يستطيع المحافظة على حيويته ونشاطه ، وحتى يستطيع التناسل والتكاثر للإبقاء على نوعه .. وهذه كلها سنن لازمة لوظائف الجسد ، فإن أصابها أي اختلال ، أصيب نظام الجسد بالاختلال والاضطراب .. وربما الموت والهلاك!

وكذلك هي النفس البشرية .. فهي تخضع لمجموعة من السنن التي لا غنى عنها ، حتى تحيا هذه النفس حياة سوية بعيدة عن الخوف والقلق والشقاء وشتى أنواع الاضطرابات النفسية .. وكما أن الإخلال بالسنن، التي يخضع لها الجسد يؤدي إلى اختلال وظائفه ، فكذلك الإخلال بالسنن التي تخضع لها النفس البشرية يؤدي إلى اختلال أكيد في سلوكها ، وفي استقرارها النفسي ..

وقد حذر القرآن الكريم مراراً من الغفلة عن السنن التي تصلح أمر النفس ، لأن هذه الغفلة توقع المرء في الشقاء لا محالة .. ومن الآيات البليغة ، التي دلت على ذلك قوله تعالى: (ومن يعش عن ذكر الرحمن نقيض له شيطاناً فهو له قرين )(الزخرف: 36) فالغفلة عن ذكر الله وعبادته ، تفتح الباب للشيطان ، لكي يوسوس في النفس ، ويعكر عليها صفوها وهدوءها ، ويوقعها تحت وطأة القلق والهم والحزن ..

ومن ذلك أيضاً قوله تعالى : (ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكاً ونحشره يوم القيامة أعمى * قال رب لم حشرتني أعمى وقد كنت بصيراً * قال كذلك أتتك آياتنا فنسيتها وكذلك اليوم تنسى )(طه:134 – 136) ، فإن سنة الله هذه تقتضي أن تصبح حياة الإنسان حافلة بالضنك والتعب والنصب ، حين يغفل عن ذكر الله أو عن عبادته ، وهذه سنة ربانية ماضية في الناس إلى يوم القيامة .

هذا وقد أشار القرآن الكريم في مواضع عديدة إلى أن العبادات المختلفة .. من صلاة وصيام وذكر .. تؤدي بالنفس البشرية إلى السمو ، وتترفع بها عن الدنايا ، وترقى بها إلى مراتب الفلاح والنجاح ، كما قال تعالى: (إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر ولذكر الله أكبر )(العنكبوت: 45) وقال كذلك : ( قد أفلح من تزكى * وذكر اسم ربه فصلى )(الأعلى: 14 – 15 ) فالزكاة والذكر والصلاة وشتى العبادات .. سبل إلى الفلاح والسكينة وراحة البال .

ومن هنا يظهر أن العبادات في الإسلام ليست مجرد شعائر ، تقام للتقرب إلى الله فحسب ، بل هي أيضاً سنن لازمة للكيان البشري ، حتى يستكمل وظائفه على الوجه الأكمل ، ودليل هذا أن الكيان البشري سرعان ما يصاب بالتفسخ والاضطراب إذا ما امتنع عن القيام بالعبادات المفروضة عليه .. وها نحن اليوم نرى أمراض النفس وقد تفشت بصورة مروعة في كثير من بلدان العالم ، التي حادت عن منهج الله ، وانقطعت عن العبادة .. حتى باتت الأمراض النفسية فيها تشكل أوبئة خطيرة تهددها بالفناء !

ولا غرابة في ذلك ، فإن الإنسان حين يغفل عن عبادة ربه ، فإنما هو يغفل عن سنة أساسية ، لا يمكن أن تستقر حياته إلا بها .. فكما أن الإنسان الذي يمتنع عن الطعام والشراب ، لا يلبث أن تتدهور صحته وتخور قواه .. فكذلك الذين يمتنعون عن العبادة ، فإن نفوسهم لا تلبث أن تضعف وتخور .. ثم تموت .. وإذا بهم (أموات غير أحياء وما يشعرون أيان يبعثون )(النحل: 21) حتى وإن قاموا وقعدوا ، وتكلموا وتنفسوا ، وظنوا أنهم من الأحياء !

وهكذا حال المؤمنين .. فحين يدرك المؤمن أن أعماله كلها عبادة ، فإنه يصبح حريصاً على التزام جانب الصواب من أموره كلها ، بحيث توافق سنة الله التي سنها لعباده الصالحين .. وبهذا يكون المؤمن قد أدرك معنى الإحسان ، الذي أشار إليه الهادي البشير صلوات الله وسلامه عليه حين سأله جبريل عله السلام عن ( الإحسان ) فقال: (أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك ).

=============

# 8- – الاجتهاد في الشريعة الإسلامية

.. عندما تناولنا بالبحث خصائص السنن التي فطر الله عليها أمور خلقه ، خرجنا من ذلك بنتيجة ذات أهمية خاصة ، وهي أن لكل أمر في هذا الوجود سنة مخصوصة ، لا يتم إلا من خلالها ، ولا يمكن أبداً أن يتم بغيرها من السنن .

وقلنا : إننا كلما أردنا تحقيق هدف من الأهداف ، علينا أولاً أن نعرف بالتفصيل طبيعة السنة ، التي تتعلق بهذا الهدف ..

وقلنا كذلك : إن اجتهادنا في تحقيق أهدافنا يجب أن يتوجه أولاً ، وقبل أي شيء آخر ، نحو معرفة تلك السنة .. حتى إذا عرفناها معرفة يقينية ، أصبح لزاماً علينا أن نأخذ بها ، وأن نلتزم بمعطياتها ، ولا يجوز لنا أبداً – بعد ذلك – أن نختلف حول الموضوع المتعلق بهذه السنة .. لأن اختلافاً من هذا القبيل هو سبيل أكيد للفشل الذريع !

وتقودنا هذه النتيجة إلى مناقشة قضية الاجتهاد في الشريعة الإسلامية .. ونبدأ بإيراد مثالين اثنين نعرضهما كمدخل لهذا الموضوع ، وهما تركيب الماء وإنجاب الأطفال :

فنحن نستطيع الحصول على الماء بعدة طرق ، ومنها إجراء تفاعل كيميائي بين عنصري الهيدروجين والأكسجين ، كما نستطيع الحصول على الماء من حرق بعض المواد العضوية ، حيث ينتج عن هذا الاحتراق الماء وغاز الكربون ، ومواد عضوية أخرى ، وهناك طرق أخرى للحصول على الماء ، وهذه مسألة مادية بحتة لنا الحرية الكاملة فيها ، فلا فرق ولا ضير في أن نحصل على الماء بأية طريقة من تلك الطرق ، مادام الأمر متروكاً أصلاً لاجتهادنا ، فهذا الأمر وأمثاله يدخل تحت عنوان ( أنتم أعلم بأمور دنياكم ) كما جاء في الحديث النبوي الشريف الذي سنعود إليه بعد قليل.

وأما المثال الآخر ، فهو إنجاب الأطفال ، فالجنين البشري يمكن أن يتخلق بإذن الله عندما تلتقي نطفة الرجل ببيضة المرأة ، وهذا الالتقاء يمكن أن يتحقق بطرق عديدة ، منها الزواج الشرعي ، المحكوم بالكتاب والسنة ، ومنها الجمع بين نطفة الزوج وبيضة الزوجة في أنابيب الاختبار ، ومنها كذلك الزنا..

غير أن مسألة الإنجاب ليست كمسألة الحصول على الماء ، فإن الإنجاب محكوم بمجموعة من الأحكام الشرعية المعروفة ، ولم يترك لاجتهادنا واختيارنا ، وأما تركيب الماء فليس محكوماً بشيء من تلك الأحكام .. مما يعني أن الشريعة الإسلامية وضعت ضوابط للتعامل مع مسائل الحياة المختلفة ، بحيث يمكن تقسيم هذه المسائل إلى قسمين :

1 – مسائل لا يجوز الاجتهاد فيها ، بل يجب التزام الأحكام الشرعية التي وردت بخصوصها وتضم هذه المسائل كل ما ورد فيه نصوص شرعية ، ومن الأمثلة على هذه المسائل : الصلوات الخمس ، والزكاة ، والصوم ، وتحريم الجرائم كالقتل والزنا والسرقة وشرب الخمر ، وما ورد فيها من عقوبات مقدرة مما هو معروف بالقرآن الكريم أو السنة النبوية .

2 – مسائل يمكن الاجتهاد فيها .. إما لعدم ورود نص فيها ، وإما لأنه ورد فيها نص ظني الدلالة ، أو ظني الثبوت ، أو ظني الثبوت والدلالة معاً .. فهذه المسائل يجوز الاجتهاد فيها للوصول إلى حكم شرعي ، أو لمعرفة السنة التي تحكمها ..

والاجتهاد ( لغة ) : بذل الجهد ، واستفراغ الوسع في تحقيق أمر من الأمور ، سواء أكان حسياً كالمشي ، أو كان معنوياً كاستخراج حكم أو نظرية عقلية أو شرعية أو لغوية .. الخ.

والاجتهاد ( شرعاً ) : هو بذل الفقية أقصى الوسع في استنباط الأحكام الشرعية من أدلتها التفصيلية ، علماً بأن الأدلة التي يجتهد فيها هي : القرآن والسنة ، ويتفرع عن هذين المصدرين الأساسيين مصادر أخرى كالإجماع والقياس والاستصلاح والاستحسان والعرف والعادة وسد الذرائع .. إلخ .

وقد دلت النقول الصحيحة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه كان يجتهد في شؤون الحياة المختلفة ويرى فيها رأياً ، حتى إذا تبين له أن المصلحة تتطلب غير ما رأى ، رجع صلى الله عليه وسلم عن رأيه ، وفعل ما هو خير .. ومن ذلك اجتهاده في أمور الحرب ، وفي بعض الشؤون الأخرى ، كما كان من أمره في حادثة تأبير النخل المشهورة: (عن أنس رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم مر بقوم يلقحون ، فقال : لو لم تلقحوا لصلح ، قال فخرج شيصاً. فمر بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ما لنخلكم؟ قالوا: قلت كذا وكذا. قال رسول الله عليه وسلم: أنتم أعلم بأمور دنياكم). ويجدر بنا أن نشير إلى أن هذا الحديث قد أسئ استخدامه كثيراً وبخاصة من قبل الذين لا يدركون مقاصد الشريعة إدراكاً صحيحاً، والذين في أنفسهم مرض، ويريدون أن يتخففوا من عهدة التكليف، أو الذين يرغبون في تعطيل بعض النصوص اعتماداً على هذا الحديث .. علماً بأن ذكر هذه الحادثة قد ورد في أكثر من حديث بصيغ مختلفة تبين بوضوح ما قصد إليه النبي صلى الله عليه وسلم من قوله : ( أنتم أعلم بأمور دنياكم ) فعن رافع بن خديج رضي الله عنه قال : قدم الني صلى الله عليه وسلم المدينة وهم يأبرون النخل ، يقول : يلقحون النخل . فقال صلى الله عليه وسلم: ما تصنعون؟ قالوا: كنا نصنعه. قال صلى الله عليه وسلم : لعلكم لو لم تفعلوا لكان خيراً . فتركوه . فنفضت (أو فنقصت) قال: فذكروا ذلك له ، فقال صلى الله عليه وسلم: (إنما أنا بشر ، إذا أمرتكم بشئ من دينكم فخذوا به، وإذا أمرتكم بشئ من رأيي فإنما أنا بشر) وواضح من هذا النص أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد فرق بين ما هو وحي من الله عز وجل ، لا يصح للمسلمين أن يتجاهلوه ، أو يميلوا إلى غيره عنه ، وبين ما هو من اجتهاده ورأيه في الشؤون الدنيوية ، وهذا متروك للمسلمين ليأخذوا به ، أو يعدلوا عنه إلى غيره إذا تبين لهم أنه أصلح.

وما يهمنا من هذا العرض ، الحديث عن الأمور التي فيها مساغ للاجتهاد ، ومادامت حكمة المولى عز وجل قد قضت أن يكون لكل حادثة سنة مخصوصة ، فإننا مكلفون ابتداءً بالاجتهاد لإصابة هذه السنة ، ومأمورون كذلك أن نجند كل طاقاتنا العقلية والمادية في سبيل كشف السنة المتعلقة بالأمر الذي نجتهد فيه .. حتى إذا تبينت لنا هذه السنة يقيناً ، وجب علينا الالتزام بها ، وعدم الحيدان عنها ، ولا مخالفتها ، لأن ذلك يجلب الضرر كما أسلفنا ، وينتهي بنا إلى الفشل الأكيد .. ونزيد على هذا أن الاجتهاد مجدداً في أمر عرفت سنته يعد تفريطاً بالوقت ، وإهداراً للطاقات من غير جدوى!

والسؤال الذي يبرز أمامنا الآن هو : كيف نتعامل مع المشكلات التي فيها مسوغ للاجتهاد؟

ونقول : إن هذه القضية قد شغلت الفكر الإسلامي طويلاً ، وتصدى لها أئمة علماء ، ومفكرون أفذاذ ، وضعوا القواعد والشروط والضوابط للاجتهاد ، بناء على أصول شرعية معتبرة ، لكن القضية – مع هذا – ظلت قائمة ، وظل كثير من المسائل الفقهية وغير الفقهية محل اختلاف ، بل وصل هذا الاختلاف في بعض الحالات إلى حد مساواة النقيض بنقيضه !

ونحن لا ندعي في هذا البحث المقتضب أننا قادرون على إنهاء قضية الاختلاف ، وإنما الذي نريد التنبيه إليه أن الاجتهاد في الشريعة الإسلامية انطلق أساساً من النصوص ، وظل البحث يدور في فلك هذه النصوص دون الإفادة من ربطها بمفهوم السنن ، التي فطر الله عليها أمور خلقه ، ونعتقد أنه لو أخذت السنن في الاعتبار عند تناول القضايا المختلفة ، لكان ذلك بمثابة ضابط إضافي ، يضبط وجهة الاختلاف ، ويضيق – في الوقت نفسه إلى حدٍ بعيد – مجال التنازع والاختلاف .

وهناك الكثير من القضايا الفقهية التي وقع فيها الخلاف قديماً بين المذاهب المختلفة ، وما يزال الخلاف فيها وارداً حتى يومنا الحاضر ، وما يزال بعض القضاة يحكمون بموجبها ، على الرغم من أن السنن التي تخضع لها هذه القضايا باتت معروفة لأهل الاختصاص .. وأذكر على سبيل المثال : أنهم اختلفوا في تحديد أطول مدة لحمل المرأة ، فقال بعضهم : ( إن أقصى مدة الحمل أربع سنين ، وبه قال الشافعي ، وهو المشهور عن مالك ، وروي عن أحمد أن أقصى حمل مدته سنتان ، وروى ذلك عن عائشة ، وهو مذهب الثوري وأبي حنيفة ، وقال الليث : أقصاه ثلاث سنين ، وقال عياد بن العوام : خمس سنين ، وعن الزهري قال : قد تحمل المرأة ست سنين ، وسبع سنين ، وقال أبو عبيد : ليس لأقصاه وقت يوقف عليه ). وكان هذا الاجتهاد نتيجة للمعارف الموجودة في عصرهم واستقراء أحوال زوجاتهم وأخواتهم .

( وقد ذكر عصام غانم في كتابه Islamic Medical Jurisprudence صفحة 44 : ( أن أحد القضاة حكم لامرأة طلقت بأن ولدها الذي أنجبته بعد أربع سنوات من طلاقها حكم به لزوجها ، وكذلك حكم لأختها التي ولدت بعد مرور خمس سنوات على وفاة زوجها)! وهذا يعني أننا مانزال حتى اليوم نتجاهل حقائق العلم ، ولا نلتفت لما كشفه لنا من سنن واضحة بينة ، فيما يختص ببعض القضايا الحيوية ، التي تترتب عليها أحكام شرعية بالغة الأهمية ، فقد ثبت بالدليل الطبي القاطع أن مدة الحمل الطبيعية هي نحو 280 يوماً محسوبة من بدء آخر حيضة حاضتها المرأة ، ومن ثم فإن الجنين لا يعيش داخل الرحم أكثر من هذه المدة ، وبخاصة أن المشيمة التي يتغذى الجنين ويتنفس عن طريقها لا تعيش لأكثر من أيام قليلة بعد مدة الحمل المعتادة ، لأنها تبدأ بعد تمام مدة الحمل بالتنكس ، وتضعف وظائفها ، ولا تعود قادرة على الوفاء بحاجات الجنين ، فإذا لم تحدث الولادة في الموعد المقرر ، ماتت المشيمة ، وانقطع الغذاء والأكسجين عن الجنين ، وهذا يؤدي إلى موته المحقق. وأذكر أيضاً مثالاً آخر عن قضية أخرى ما يزال الجدال حولها محتدماً على الرغم من فهم السنن الربانية التي تخضع لها ، وهي إثبات مطالع الأشهر القمرية ، وبخاصة منها مطالع رمضان وشوال وذي الحجة ، لتعلق هذه الأشهر بالصوم والفطر والحج .. فما يزال السواد الأعظم من فقهائنا يصرون على ضرورة الرؤية العيانية للهلال ، ويرفضون الأخذ بالحسابات الفلكية تمسكاً بظاهر الآية الكريمة (فمن شهد منكم الشهر فليصمه )(البقرة: 185) ، وما جاء في الحديث الصحيح (صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته، فإن غم عليكم فأكملوا عدة شعبان ثلاثين يوما ً) مما أدى في مناسبات عديدة إلى حدوث اختلاف عجيب في مواقيت العبادات المرتبطة بالأشهر المذكورة ، حتى وصل الأمر مرة أن بعض المسلمين صاموا رمضان ثمانية وعشرين يوماً ! وفي مرة أخرى كان فارق التوقيت بين بلدان إسلامية وأخرى ثلاثة أيام في الصوم والفطر ، وهذا ما لا يمكن تبريره أبداً ، إذا المعروف ميلاد القمر في كل شهر، واحد لا يتعدد!!

ومما لا جدال فيه أن هذه الاختلافات لم يعد لها ما يبررها بعد أن أصبحنا اليوم على معرفة تامة بالسنن التي تحكم دوران الأرض والشمس والقمر ، وبتنا قادرين –بفضل الله– على تحديد ميلاد القمر بدقة متناهية محسوبة بأجزاء الثانية!

وعلى هذه الشاكلة يمكن أن نحسم الخلاف في مثل هذه القضايا المختلف فيها ، بأن نلتفت إلى السنن التي تحكمها ، وأما القضايا الأخرى التي لم نتوصل بعد إلى معرفة سننها ، فيمكن بشئ من الجهد المخلص أن نكشف سننها ، ونفهم أبعادها ، وبذلك نزيل الكثير من أسباب الخلاف حولها .. ونعتقد أن مثل هذا التناول لقضايانا الاجتهادية سيكون أكثر جدوى من البحث النظري المجرد الذي يتعامل مع المشكلات بمعزل عن واقع الحياة ومعطيات العلم لأن هذا الواقع خاضع لسنن محكمة ، لا يجوز تجاهلها بحال من الأحوال .. وتجاهلها يجعل بعض اجتهاداتنا في وادٍ ، وواقع الحياة والمجتمع في وادٍ آخر ! ويجعلنا من ثم منفصلين عن حركة التاريخ والحياة وصنع القرار !!

هل تخضع مشكلاتنا للسنن ؟

.. وما من شك أن حياة الإنسان زاخرة بالمسائل المعقدة ، التي يتعذر في بعض الحالات إيجاد حلول مثالية لها ، ولكن مع هذا لا يصح التسليم بهذه الحقيقة وكأنها واقع مطلق لا يمكن تجاوزه ، لأن مثل هذا التسليم يدفع مشكلاتنا للدخول في متاهة واسعة مكتوب على بابها ( مستحيل ) ، وعندئذ سنجد أنفسنا مكتوفي الأيدي ، عاجزين ، لا رغبة عندنا في البحث عن حل .. أي حل ! وكان بإمكاننا أن نفعل شيئاً أفضل من هذا لو أننا آمنا بوجود حل للمشكلة ، التي بين أيدينا ، وآمنا بوجود سنن لهذه المشكلة يمكن كشفها وتسخيرها في سبيل إيجاد الحل .

ولقد ناقش الأستاذ ( جودت سعيد ) هذه القضية بكثير من التفصيل في كتابه القيم (حتى يغيروا ما بأنفسهم) ومما قاله في ذلك: ( إن العقل البشري يتخذ أحد موقفين إزاء المشكلات ، فهو إما أن يفترض أنها تخضع لقوانين ، ومن ثم يمكن أن تخضع للسيطرة عليها وتسخيرها ، وإما أن يفترض فيها أنها لا تخضع لقوانين، أو يمكن كشف قوانينها .. وبين هذين الموقفين مواقف متعددة يتفاوت فيها القرب من أحدها والبعد عن الآخر .. وإن لكل من الفرضيتين نتائج عملية تظهر في مواقف البشر وسلوكهم بصورة متفاوتة ، على حسب الخضوع لأحد الموقفين).

مشروع عمل :

.. ويمكن من خلال ما قدمناه أن نخرج بتصور مبدئي يعد ( مشروع عمل ) تحدد فيه السمات الأساسية لأسلوب التعامل مع المشكلات والأزمات ، التي نرى فيها مسوغاً للاجتهاد ، وذلك على النحو التالي :

1 – أن نؤمن إيماناً راسخاً بأن المشكلة التي بين أيدينا ( أياً ما كانت هذه المشكلة ) قابلة للحل ، فمثل هذا النظر إلى المشكلة ، يجعلنا نتعامل معها بصورة إيجابية تستمد عزمها من أملنا بالوصول إلى حل ما ، في نهاية المطاف .

2 – أن ندرك بأن لكل أمر أو حادث سنة مخصوصة تحكمه ، لا يتم إلا من خلالها ، ولا يمكن أبداً أن يتم على تمامه بغيرها من السنن .

3 – أن نعرف المشكلة التي هي موضوع بحثنا ، ونجمع المعلومات المتعلقة بها ، حتى نحيط بالمشكلة من جوانبها جميعاً .

4 – نصنف المعلومات التي تجمعت لدينا ، ثم نعهد لأهل الاختصاص بدراستها ، عملاً بالقاعدة الأصولية التي أرستها آيات كثيرات من القرآن الكريم ، ومنها قوله تعالى: (وإذا جاءهم أمر من الأمن أو الخوف أذاعوا به ، ولو ردوه إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم ، ولولا فضل الله عليكم ورحمته لاتبعتم الشيطان إلا قليلا ً)(النساء: 83) .. فإن كانت المشكلة اقتصادية عهدنا بها إلى أهل الاقتصاد ، وإن كانت سياسية أوكلنا أمرها إلى أمراء السياسة والحكم ، وإن كانت طبية استشرنا الأطباء في علاجها ، وإن كانت حرباً أو سلماً استنفرنا رجال الحرب وقوادها ليروا فيها رأيهم .. وهكذا .

وكل ذلك مشروط بالتوجيه الرباني الداعي للسير في الأرض ، والنظر في السنن التي فطر الله عليها أمور خلقه ، على أمل أن نصل لمعرفة السنة التي تحكم المشكلة .

5 – فإذا ما علمنا السنة التي تحكم المشكلة ، نكون قد توصلنا إلى الحل المثالي لها ، وعندئذ يصبح لزاماً علينا أن نراعي هذه السنة ، مادمنا راغبين في الحل .

6 – وأما إذا لم نستطع أن نعرف السنة المتعلقة بالمشكلة ، فإن علينا مواصلة البحث والدراسة ، وتبادل الآراء ، من غير تعنت يشق الصف ، ويعمق النزاع الذي يؤدي حتماً إلى الفشل ، كما قال تعالى: (ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم )(الأنفال: 46) .. وإن لشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله نظرة عميقة في هذه المسألة ، إذ قال : ( ولكن الاجتهاد السائغ لا يبلغ مبلغ الفتنة والفرقة إلا مع البغي ، لا لمجرد الاجتهاد، كما قال تعالى: (وما اختلف الذين أوتوا الكتاب إلا من بعد ما جاءهم العلم بغياً بينهم )(آل عمران: 19)، فلا يكون فتنة وفرقة مع وجود اجتهاد سائغ ، بل مع نوع بغي ، ولهذا نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن القتال في الفتنة ، وكان ذلك من أصول السنة ).

والخلاصة .. إن البحث في مشكلاتنا المعاصرة على ضوء سنة الله في الخلق ، يجب أن يكون أصلاً ومنطلقاً للخروج من أزمتنا الحضارية ، وهذا المنهج في الحل ينسجم مع المنهج الرباني ، الذي فطر الله عليه أمور خلقه ، وهو الطريق الأقوم لتوحيد الفكر ، الذي يحقق للأمة وحدتها وتماسكها .. ومادام الأمر كذلك ، فإن واجبنا اليوم تركيز اجتهادنا في بيان سنن الله ، وتجنيد طاقاتنا المختلفة في هذا الاتجاه ، بدل الاستمرار في إهدارها بالبحث النظري المجرد الذي كثيراً ما يجعل الاجتهاد يدور في ساحة غير ساحته

=============

# 9- – التغيير الاجتماعي

. رأينا في فصل سابق من هذه الدراسة أن سنن الله في الخلق تتصف بالعموم والشمول ، وأنها لا تحكم عالم المادة فحسب ، بل تحكم كل ما في هذا الوجود من مخلوقات ، وكل ما يجري فيه من أحداث .. ومن ذلك حياة المجتمعات البشرية ، التي تخضع كذلك لسنن صارمة مطردة ، لا تتخلف نتائجها عن أسبابها .

وقد بين الله عز وجل في محكم تنزيله السنن الأساسية ، التي على نهجها تمضي سيرة المجتمعات ، فتسمو أو تنحط أو تبيد .. وقد كان لهذا التوجيه الرباني الحكيم تأثير عظيم في تكوين الأمة الإسلامية منذ نشأتها ، فقد أولى المسلمون منذ بداية الدعوة جل اهتمامهم لتلك السنن ، وكانوا يسترشدون بها في شؤون حياتهم المختلفة ، مما أدى بالنتيجة إلى تماسك المجتمع الإسلامي الوليد حينذاك ، وأدى كذلك إلى ترسيخ المفاهيم الحضارية في كل المجتمعات ، التي دخلها الإسلام بعد ذلك .

ويُعد العلامة ( ابن خلدون ) صاحب الفضل الأكبر في وضع الأصول الأولى لعلم الاجتماع ، إذ كان من أوائل الدارسين الاجتماعيين ، الذين أقاموا دراساتهم على أساس من فهم السنن الاجتماعية ، وقد استطاع ابن خلدون بفضل ثقافته القرآنية العميقة ، واطلاعه الواسع على التاريخ، أن يعرض في ( المقدمة ) التي كتبها لدراسته التاريخية عدداً من السنن الاجتماعية بأسلوب علمي موضوعي .

وبدءاً من دراسات ابن خلدون ، بدأ علماء الاجتماع يلتفتون إلى دراسة أحوال الأمم والشعوب ، وفق المنهج الذي وضعه ابن خلدون نفسه ، فلاحظوا أن أي تغيير اجتماعي لا يتم إلا من بعد أن تتوافر الشروط الأولية الخاصة به ، وبمعنى آخر : فإن سنن التغيير الاجتماعي – شأنها شأن أية سنة من السنن الربانية – لا تتم إلا إذا توافرت شروطها ، وانتفت الموانع التي تحول دون تحقيقها .

وعلى هذا الأساس نستطيع أن نحدد أهم الشروط التي تتطلبها سنة التغيير ، مسترشدين في ذلك بأمثلة واقعية موثوقة رواها القرآن الكريم عن الأمم الغابرة ، وبخاصة منها الأمم التي بعث الله عز وجل إليها رسله ، يدعونها للالتزام بمنهج الله وشريعته – على أساس أن هذا الالتزام هو الطريق القويم لتغيير المجتمع ، وتأهيله للقيام بمهمة الاستخلاف خير قيام.

أ – الفكرة ( العقيدة ):

.. ما من شك في أن أي نشاط إنساني لابد له أن ينطلق من ( فكرة مبدئية ) ، لأن الأفكار تبقى هي المحرك الأول لأي عمل ، أو جهد يزمع الإنسان القيام به .. ومما لا شك فيه كذلك أن أي نشاط لا ينطلق من فكرة صحيحة واضحة المعالم ، يكون جهداً ضائعاً ، لأنه يفتقد – على هذه الشاكلة – الضابط الذي يضبط حركته واتجاهه.

ولقد سبق أن تحدثنا عن أن الفكرة ، التي يقوم عليها جهد ما ، يجب أن توافق سنة من السنن التي فطر الله عليها أمور خلقه ، حتى تكون هذه الفكرة قابلة للتنفيذ العلمي ، وحتى يكون الجهد مجدياً .. فإن لم تكن الفكرة موافقة لسنة ، كانت عديمة الجدوى في التغيير الذي ننشده ، وقد يترتب عليها – فوق ذلك – نتائج بالغة الخطورة.

والسؤال الذي يعترضنا هنا : ما هي الفكرة المبدئية الصحيحة الموافقة لسنة الله في الخلق ، والتي لابد منها لحصول التغيير المنشود في مجتمع من المجتمعات؟

إن مثل هذا السؤال يحتم علينا الرجوع إلى سجلات التاريخ ، لاستقراء الأحداث التي انتهت بولادة الحضارة الإنسانية ، لنتبين ( الفكرة ) التي قامت عليها هذه الحضارة ، كما يتحتم علينا كذلك الإصغاء إلى آراء الباحثين الذين تناولوا هذه المسألة:

أما الرجوع إلى سجلات التاريخ فإنه يقدم لنا بما لا يدع مجالاً للشك أن الفكرة الدينية أو (العقيدة) ، كانت دوماً هي الفكرة الأصلية، التي تولدت عنها الحضارات الإنسانية على مدار التاريخ، وأن أي استقراء منصف للتاريخ، يؤيد هذه الحقيقة تأييداً كاملاً، ويكفينا مثلاً أن نستعرض من خلال سور القرآن الكريم المختلفة ، تاريخ الأمم الغابرة ، حتى نتبين صدق هذا الأمر .. ولنا عودة على هذا الموضوع فيما بعد.

وأما آراء المؤرخين والباحثين والمفكرين الذين تناولوا قضية الحضارات الإنسانية ، فإنها تجمع كذلك على أن التغيير الاجتماعي ، والنهوض الحضاري ، لابد وأن يرتكز في انطلاقته على الفكرة الدينية ، ولا يكاد ينكر هذه الحقيقة أي باحث منصف ، بما فيهم الباحثون الذين كانت لهم مناهجهم الخاصة في تناول القضية، فحتى هؤلاء لم يسعهم إلا الاعتراف بتأثير الفكرة الدينية في تكوين الحضارات ، ومنهم –على سبيل المثال– المؤرخ البريطاني الشهير (أرنولد توينبي) الذي أقام نظريته في تفسير التاريخ، ونشوء الحضارات، على أساس عامل التحدي الجغرافي، فإن هذا المؤرخ في مواضع عديدة من دراسته ، وقف يؤكد أهمية وتأثير الفكرة الدينية في استيلاد الحضارات ، ومما كتبه في هذا: (ولا يسع كاتب هذه الدراسة إلا أن يعترف بقناعته بهذا الرأي ، الذي هو أميل إلى مناصرة فكرة دور العقائد الدينية في مجريات التاريخ .. فإذا ما ألقينا ببصرنا على الحضارات ، التي ما برحت قائمة حتى يومنا الحاضر ، نجد أنه يكمن وراء كل منها نوع من العقيدة الدينية العالمية .. وعلى هذا النحو تصبح العقيدة الدينية جزءاً من نظام الاستيلاد الحضاري.

والحقيقة أن توينبي لم يكن أول ولا آخر الذين تحدثوا عن تأثير الدين في النهضة الحضارية ، فقد تحدث قبله وبعده كثيرون حول هذا الموضوع ، وقد أورد (مالك بن نبي) رحمه الله في كتابه شروط النهضة ، آراء عديدة في هذا الشأن ، ومنها مثلاً رأي المؤرخ ( هنري بيرين) صاحب كتاب (محمد وشارلمان) الذي قارن فيه بين الحضارتين الإسلامية والمسيحية ، وبين دور الديانتين في بعث هاتين الحضارتين.

كما نقل ( مالك بن نبي ) عن المفكرة (هرمان دي كيسرلنج) في كتابه ( البحث التحليلي لأوروبا ) قوله: (وكان أعظم ارتكاز حضارة أوروبا على روحها الدينية ، وقوله كذلك (إن الروح المسيحية ومبدأها الأخلاقي هما القاعدتان اللتان شيدت عليهما أوروبا سيادتها التاريخية) ويخلص مالك بن نبي –بعد استعراضه لآراء عديدة– إلى القول : (فالحضارة لا تنبعث إلا بالعقيدة الدينية ، وينبغي أن نبحث في أية حضارة من الحضارات عن أصلها الديني ، الذي بعثها ، ولعله ليس من الغلو في شيء أن يجد التاريخ في البوذية بذور الحضارة البوذية ، وفي البرهمة نواة الحضارة البرهمية .. فالحضارة لا تظهر في أمة من الأمم إلا في صورة وحي يهبط من السماء ، يكون للناس شرعة ومنهاجاً ، أو هي – على الأقل – تقوم أسسها في توجيه الناس نحو معبود غيبي بالمعنى العام ، فكأنما قدر للإنسان ألا تشرق عليه شمس الحضارة، إلا حيث يمتد بصره إلى ما وراء حياته الأرضية ، أو بعيداً عن حقبته ، إذ حينما يكتشف حقيقة حياته كاملة ، يكتشف معها أسمى معاني الأشياء ، التي تهيمن عليها عبقريته ، وتتفاعل معها.

والواقع أن الحضارة بمعناها الشامل ، وبمعناها الإنساني ، الذي يرمي إلى رفعة الإنسان والسمو به نحو الأخلاق الفاضلة ، والحياة الكريمة ، لا يمكن أن تتحقق بغير دفعة روحية تستمدها الحضارة من الدين .. ولكن أي دين ؟ أهو الدين بالمعنى العام المغبش الذي أشار إليه فالتر شوبرت؟ أم هو الدين بالمعنى الغيبي الذي ألمح إليه مالك بن نبي؟ أم هو الدين بالمعنى الإسلامي الذي جاءت به الأديان السماوية جميعها؟

إننا بالعودة إلى الواقع ، واستقراء الأحداث ، وفق التوجيه الرباني (قل سيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة المجرمين )(النمل:69) نجد أن نوعاً من المدنية (وليس الحضارة) قد تقوم أحياناً على أساس المبدأ العام ، الذي نوه به فالتر شوبرت ، وقد تقوم أحياناً وفق المعنى الغيبي ، الذي تحدث عنه مالك بن نبي .. ولكن مثل هذه المدنية مآلها إلى الانقراض ، وفي القرآن الكريم شواهد كثيرة على هذا ، قال تعالى: (ولقد أهلكنا القرون من قبلكم لما ظلموا وجاءتهم رسلهم بالبينات وما كانوا ليؤمنوا ، كذلك نجزي القوم المجرمين )(يونس:13).

فهذه الأمم التي تحدث القرآن عن سيرتها للعبرة ، كان لها نوع من المدنيات التي لم تستطع الرقي إلى أفق الحضارة السامي ، لأنها لم تأخذ بمنهج الإيمان ، ولم تجعله هادياً لها للوصول إلى ذلك الأفق !

ونخلص من هذا العرض الموجز ، إلى أن الأساس الأبقى الذي يمكن أن تقوم عليه الحضارة الإنسانية الحقيقية ، هو العقيدة الدينية بلا جدال ، لأن هذا الأساس يستمد مقومات قوته وبقائه من خالق الكون والإنسان ، وهو سبحانه أعلم بما يصلح أمر الكون والإنسان.

فالإيمان بالله إذن شرط أولي لبسط النعمة ، أو بالمصطلح المعاصر (الحضارة) وفي هذا يقول رب العزة سبحانه (ولو أن أهل القرى آمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض )(الأعراف:96) وأما الحفاظ على هذه النعمة (أو الحضارة) فمرتبط بالصلاح ، وهذا ما أشارت إليه الآية الكريمة (ولقد كتبنا في الزبور من بعد الذكر أن الأرض يرثها عبادي الصالحون )(الأنبياء:105) .

ولسيد قطب رحمه لله قول بليغ حول أثر الدين في تكوين الحضارة حيث قال : ( حين ينهض الإنسان بالخلافة في الأرض على عهد الله وشرطه ، ويصبح وهو يفجر ينابيع الرزق ، ويصنع المادة الخام ، ويقيم الصناعات المتنوعة ، ويستخدم ما تتيحه له كل الخبرات ، التي حصل عليها في تاريخه كله .. حين يصبح وهو يصنع هذا كله ( ربانياً ) يقوم بالخلافة – على هذا النحو 0 عبادة الله .. يومئذ يكون هذا الإنسان كامل الحضارة ، ويكون هذا المجتمع قد بلغ قمة الحضارة ).

إذن .. فإن الفكرة الدينية عامل أساسي في التغيير الاجتماعي نحو الحضارة ، ولكن بشرط أن تكون هذه الفكرة نابعة من دين سماوي خالص ، لم ينله تشويه ولا تحريف .. وما دام الأمر كذلك ، فإننا لا نجد من بين الديانات السماوية ديناً مرشحاً اليوم للنهوض بالبشرية سوى الإسلام ، لأن الإسلام هو الدين الوحيد الذي حافظ – بفضل الله على صفاء عقيدة التوحيد ، كيوم نزلت أول مرة من السماء إلى الأرض ، والسر في هذا أن الله عز وجل قد تكفل بحفظ كتاب الإسلام العظيم ، فقال تعالى: (إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون )(الحجر: 9) .. وسوف يبقى الإسلام بهذا الكتاب الكريم ، هو المصدر الوحيد القادر –دوماً وأبداً– على النهوض بالبشرية إلى آفاق الحضارة السامية.

ب – الإنسان:

.. ويقدم لنا القرآن الكريم أدلة عديدة ، تدل على أن دعوة التغيير تبدأ عادة على يدي رجل فرد ، وبعد ذلك يأخذ الناس بالالتفات حول هذا الرجل صاحب الدعوة ، ليعمل هو وهم على إحداث التغيير المنشود .

ومع أن هذه هي القاعدة في التغيير ، إلا أننا نلاحظ – من خلال الشواهد القرآنية نفسها – وجود استثناءات لهذه القاعدة ، ومن ذلك مثلاً ما نلمسه في قصة أصحاب القرية التي ورد ذكرها في سورة يس: (واضرب لهم مثلاً أصحاب القرية إذ جاءها المرسلون * إذ أرسلنا إليهم اثنين فكذبوهما فعززنا بثالث فقالوا إنا إليكم مرسلون )(يس: 13 – 14) فقد أرسل الله عز وجل إلى أهل تلك القرية ثلاثة من رسله ، ولكن القوم كذبوهم وردوهم رداً قبيحاً ، ولم يستجيبوا لدعوتهم .. وبينما هم يجادلون رسل الله جاءهم رجل .. رجل نكرة ، لكنه رجل صالح: (وجاء من أقصى المدينة رجل يسعى قال يا قوم اتبعوا المرسلين * اتبعوا من لا يسألكم أجراً وهم مهتدون ) (يس: 20 – 21) واستمر الرجل يدعو القوم إلى الإيمان ، ويرغبهم فيه ، ويحذرهم من عذاب الله ، الذي يتربص بهم ، ويبين لهم ما هم فيه من ضلالة ، ولكنهم لم يسمعوا له ، ولم يستجيبوا .. ويوحي سياق القصة بعد ذلك أنهم لم يمهلوا الرجل أن قتلوه ، وانتهى أمره في لحظات ، كما بدأ في لحظات ، لكن حكاية القرية لم تنته عند هذا الحد ، بل تنزل أمر الله ليغير حال القرية عن بكرة أبيها : ( وما أنزلنا على قومه من بعده من جند من السماء وما كنا منزلين . إن كانت إلا صيحة واحدة فإذا هم خامدون ) ( يس 28 – 29 ) فكأن دعوة الرجل الصالح ، كانت الإنذار الأخير من رب العالمين لأهل تلك القرية ، التي استؤصلت من على وجه الأرض ، وباستئصالها تم التغيير المنشود.

ولقد يعترض معترض هنا فيقول : وأي تغيير هذا الذي انتهى بالدمار ؟

فنقول: هو تغيير لا شك في ذلك ، هو تغيير بالمعنى الأشمل للتغيير ، فمادام أهل القرية قد رفضوا دعوة الهداية والرشاد ، وأصروا على كفرهم ، وعلى انحرافهم عن الفطرة الربانية – على الرغم من الدعوات المتكررة ، التي جاءتهم – فقد أصبحوا بموقفهم ذاك يمثلون أزمة ، أو داءاً مزمنا بالنسبة للمجتمع البشري، ومثل هذا الداء المزمن لا ينفع فيه غير الاستئصال الجراحي .. وهذا ما كان فعلاً ..

وليس هذا المثال الذي قدمناه فريداً في التاريخ البشري ، ففي القرآن الكريم أمثلة كثيرة نطالعها في الآيات ، التي تحدثت عن قصص الرسل ، الذين لم يؤمن معهم أحد من أقوامهم ، أو آمن معهم نفر قليل ، فانتهى أمر تلك الأقوام إلى الهلاك ( قوم عاد ، قوم نوح ، قوم ثمود ، قوم لوط .. وغيرهم كثير ) .

إذن كيف يكون التغيير الآخر ، التغيير الذي لا ينتهي بالهلاك ، بل يتوج بنهوض الأمة إلى آفاق الحضارة الإنسانية السامية؟

وللجواب عن هذا السؤال ، نعود من جديد إلى رحاب القرآن الكريم ، لنجد أن مثل هذا التغيير الطموح لا يمكن أن يتحقق ، أو يكتب له النجاح ، ما لم تستجب له نفوس الغالبية من الناس ، لأن المجتمع – من هذه الوجهة – يشكل في مجموعه جسداً واحداً ، لا يصلح إلا أن تصلح معظم أعضائه ، ولقد أخبرنا القرآن الكريم أن أنبياء الله – عليهم السلام – كانوا دوماً يتوجهون بدعواتهم إلى أفراد المجتمع كافة بلا تمييز ، من أجل هذه الغاية أملاً في كسب العدد الكافي منهم إلى صف الدعوة ، لأن هذا العدد أمر لازم حتى يتغير حال المجتمع .

وربما كانت دعوة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم ، هي الدعوة الوحيدة ، التي استطاعت أن تحل المعادلة الصعبة ، ونعني بها كسب العدد الكافي من الناس إلى صفها ، في وقت قياسي ، على الرغم من العوائق الهائلة التي اعترضت سبيلها .. فقد ظل رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ما يقارب ثلاثة عشر عاماً في مكة ، يدعو قومه للإيمان بدعوة التوحيد ، باذلاً في ذلك أقصى جهده ، فلم يؤمن بدعوته إلا قليل من الناس ، ولكن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم ييأس ، ولم يقنط من رحمة الله ، وتأييده ونصره ، فواصل جهاده ، حتى قيض الله عز وجل رجالاً أتوا في موسم الحج من يثرب إلى مكة ، فالتقاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وعرض عليهم الإسلام ، فأسلموا ، ثم عادوا إلى قومهم يدعونهم للإيمان بالدعوة الجديدة ، فوجدوا منهم قبولاً حسناً ، على النقيض مما كان في مكة ، التي وقف سادته حائلاً عنيداً بين الناس والدعوة.

وهكذا فشا أمر الإسلام في يثرب ، وتهيأ المجتمع للمرحلة التالية ، فأذن الله لرسوله بالهجرة ، فهاجر هو وأصحابه من مكة إلى يثرب ، (التي تغير اسمها منذ ذلك الوقت فأصبحت تدعى المدينة ، وكان هذا التغيير أحد بوادر التغيير في المجتمع الوليد) وواصل المؤمنون في المدينة جهادهم ودعوتهم ، حتى آمن بالدعوة خلق كثير ، وترسخت دعائم الإسلام ، وتحول مجتمع المدينة من الكفر إلى الإيمان ، وبات الإسلام هو صاحب الكلمة في المجتمع ، وأصبح رسول الله صلى الله عليهم وسلم هو القائد والحاكم في هذه الدولة الوليدة ، التي كانت بحق نواة الحضارة الإسلامية ، التي بدأت أنوارها تشع على الدنيا منذ ذلك التاريخ ..

ومنذ أن تم التغيير في مجتمع المدينة ، وتبعه التغيير في مجتمع مكة بعد الفتح ، وبدأ الناس يدخلون في دين الله أفواجاً .. منذ ذلك الحين بدأت معالم التغيير الحضري تظهر وتنتشر في أرجاء الأرض .. ومما لا ريب فيه أن هذا الفتح المؤزر ، وهذه الثمرة الطيبة لم تكن لتتحقق ، لولا ما توافر للدعوة من رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه ، أعطوا أقصى ما يستطيعون من أنفسهم وأموالهم وأرواحهم ..

.. فبمثل هؤلاء الرجال يتم التغيير .. رجال لم يكتفوا بالالتفاف حول صاحب الدعوة صلى الله عليه وسلم، بل جاهدوا أنفسهم حتى تتغير وتتلاءم وطبيعة هذه الدعوة ، وهذا ما حصل فعلاً ، فقد كان نطق الواحد منهم بالشهادتين بمثابة ولادة جديدة له ، فكان على أعتاب الدخول في الإسلام ، يخلع عنه كل ماضيه ، ليرتدي حلة الإسلام ، التي تصوغ نفسه صياغة ربانية تنسجم مع الفطرة ، وتتلاءم وطبيعة الدعوة الجديدة .. وبمثل هذا التغيير ، الذي حصل في نفوس المسلمين الأوائل ، حصل التغيير الحضاري ، الذي لم تشهد البشرية مثيلاً له ، لا قبله ولا بعده .. والسبب أن هذا التغيير يساير السنة التي فطر الله عليها أمور خلقه، والتي بينتها الآية الكريمة في قوله تعالى: (إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم )(الرعد: 11) ، فعندما تغيرت تلك النفوس بالإيمان ، غير الله ما بها من جاهلية ، وخلصها من ربقة القبلية الضيقة الشقية ، إلى آفاق الأمة المتوحدة المتكاملة ، ونقلها من مستنقع التباهي بالأنساب والأحساب ، إلى روضة الأخلاق الإنسانية الوارفة!

ج - الزمن:

.. وبعد أن يتهيأ للدعوة فكرة صحيحة ، (أو عقيدة كما قدمنا) ويتهيأ لها العدد الكافي من الناس ، الذين يؤمنون بها ، ويبدؤون تحركهم على أساسها ، يأتي دور (الزمن) باعتباره عاملاً أساسياً من العوامل اللازمة لإنضاج عملية التغيير .. والملاحظة الأولى التي تستوقفنا فيما يتعلق بالزمن ، أن التغيير الاجتماعي ، يمكن أن يتم في بعض الحالات خلال زمن قياسي قصير ، بينما يتطلب في حالات أخرى أجيالاً عديدة ، قبل أن يكتمل وتظهر آثاره واضحة جلية في المجتمع ، ولنستعرض بعض الأمثلة القرآنية البليغة لنتبين كيف يفعل الزمن في عملية التغيير:

دعوة سيدنا نوح عليه السلام:

.. وتعد دعوة نوح عليه السلام دعوة السلام دعوة متفردة بين الدعوات السماوية ، من حيث الزمن الذي استغرقته ، إذ أستغرقت ألف سنة إلا خمسين عاماً ، قبل أن تؤتي ثمارها ، وقد استمر نوح عليه السلام طوال هذه السنين يدعو قومه إلى الإيمان ، ويعمل على تغيير حالهم واستنفاذهم من الضلال ، سالكاً إلى ذلك شتى الطرق ..

(قال رب إني دعوت قومي ليلاً ونهارا ً)(هود: 5).

(ثم إني دعوتهم جهاراً )(هود: 8).

(ثم إني أعلنت لهم وأسررت لهم إسرارا ً)(هود: 9).

ولكن .. دون جدوى ، فقد تمسك القوم بكفرهم ، وبالغوا في عنادهم ، حتى جاء البيان من السماء (وأُوحي إلى نوح أنه لن يؤمن من قومك إلا من قد آمن فلا تبتئس بما كانوا يفعلون )(هود: 36) ، وحينئذ فقط أيقن الرسول أن القوم الذين أرسل إليهم قد فقدوا إلى الأبد القابلية للهداية ، وأيقن أنهم تحجروا على حالهم ، ونادى متحسراً (وقال نوح رب لا تذر على الأرض من الكافرين دياراً * إنك إن تذرهم يضلوا عبادك ولا يلدوا إلا فاجراً كفاراً )(نوح: 26 – 27).

.. فالمجتمع الذي تحجر على الكفر ، لا أمل أن يلد إلا فاجراً كفاراً ، وكذلك هي المجتمعات التي تحجرت على حال معينة ، لا يمكن أن تتغير بغير الاستئصال ، وهذا ما كان ، فقد استجاب الله عز وجل دعوة رسوله ، وأنجز له التغيير الذي أراد ، فأغرق الكافرين ، ونجى المؤمنين ، في مشهد للتغيير ، لم تشهد البشرية له مثيلاً على امتداد تاريخها!

ويظهر التفرد في دعوة سيدنا نوح عليه السلام من خلال النتيجة التي انتهت إليها ، فالمؤمنون الذين ثبتوا على دعوة الحق كل تلك السنوات الطويلة ، أصبحوا هم سادة الأرض وعمارها ، وغدوا من ثم نواة المجتمعات اللاحقة.

دعوة أصحاب القرية:

ونعني بها دعوة الرجل الصالح ، الذي ورد ذكره في سورة ياسين ، وقد سبق أن تحدثنا عن قصته ، عند الحديث عن أثر العامل البشري في التغيير .. فقد رأينا هذا الرجل استطاع – بفضل الله عز وجل – أن يعجل بإيصال عملية التغيير إلى غايتها ، خلال زمن قياسي قصير ، ربما لم يزد عن بضع دقائق أو ساعات ، إذ عمد إلى تأزيم الصراع الفكري مع قومه ، حتى أوصله إلى الذروة الحرجة ، بحيث لم يعد ثمة مجال إلا للمفاصلة ، التي قلنا : إن سياق الآيات يوحي بأن القوم لم يمهلوه أن قتلوه ، وكانت النتيجة أن جاء أمر الله عاجلاً بعدئذ (وما أنزلنا على قومه من بعده من جند من السماء وما كنا منزلين * إن كانت إلا صيحة واحدة فإذا هم خامدون )(يس: 28 – 29).

مناقشة تأثير العامل الزمني على عملية التغيير

.. ونلاحظ أن القضاء الجماعي على الكفار ، قد تكرر في هاتين القصتين : قصة قوم نوح عليه السلام ، لما تأت عاجلة ، كما أتت في قصة أصحاب القرية ، بل جاءت بعد سنوات طويلة جداً ظل نوح خلالها يدعو قومه للإيمان بدعوة التوحيد ، ولكنهم لم يؤمنوا، إلا نفراً قليلاً منهم، آمنوا بالدعوة إيماناً راسخاً كالجبال ، وهذا الإيمان هو الذي رشحهم لاختيار الله عز وجل ، وجعلهم نواة البشرية القادمة من بعدهم .. فقد حق في ميزان الله لهذه الدعوة ، التي استمرت نحواً من ألف عام تنافح أهل الشرك والكفر .. حق لها أن تسود الأرض ، وأن يكون تاريخ البشرية منذ ذلك الوقت هو تاريخ هؤلاء المؤمنين ومن جاء من أصلابهم !!

وأما الرجل الصالح ، فلم يؤمن معه من أصحاب القرية أحد ، لأن الزمن – على ما يظهر من السياق – لم يتح له أن يكسب أحداً إلى صف الدعوة ، فانتهت دعوته من ثم بانتهاء حياته هو .. ومن هنا يمكن أن نلاحظ تأثير العامل الزمني على نتائج التغيير ، فقد انتهت دعوة هذا الرجل الصالح باستشهاده وهلاك القرية من بعده، وطوى الزمان صفحة الداعية والقوم إلى غير رجعة!

وأما دعوة نوح عليه السلام فقد انتهت نهاية مختلفة تماماً ، إذ تم بها استئصال شأفة الكفر من على وجه الأرض ، وأورث الله الأرض للمؤمنين ..

وتوحي هذه المقارنة بين القصتين كما حكاهما القرآن الكريم ، بأن التغيير النوعي في المجتمع يتطلب فترة زمنية كافية حتى يكتمل ، ويؤتي ثماره ناضجة سائغة .. وأما محاولة حرق المراحل ، واستعجال التغيير ، قبل استكمال شروطه وأركانه ، فإنه غالباً ما يجهض المحاولة من أساسها ، وينسف الشروط الأولية التي بدأت منها ، وقد يحول دون توفر هذه الشروط مرة أخرى ..

ولا غرو في هذا ، فإن التغيير الاجتماعي يرتبط أساساً بتغيير ما بالأنفس ، وفق السنة الربانية التي عنوانها (إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم )(الرعد: 11) ، ومن المعلوم أن النفس البشرية ذات تركيب معقد ، ومن ثم يتطلب تغيير ما فيها شروطاً كثيرة ، كما أن هناك عوامل عديدة يمكن أن تؤثر في النفس ، وتحول دون التغيير ، ومن ذلك مثلاً : تأثير الأهواء الشخصية ، والنزاعات العصبية ، والصراعات الفكرية .. وغيرها !

تنبيه:

غير أن مطالبتنا بمراعاة الزمن من أجل التغيير ، وتحذيرنا من خطورة حرق المراحل واستعجال الثمرات ، لا يعني أن نهمل العامل الزمني ، ولا أن نعلل أنفسنا بأن زمن التغيير لم يحن بعد ، فنقعد غير آبهين بالساعات والأيام والسنوات التي تمر .. فإن الزمن قد يفعل في عملية التغيير فعلاً مغايراً لما نريد ، فهو سلاح ذو حدين كما يقولون ، لأنه – من جهة – لازم لإنضاج عملية التغيير ، وبلوغها الغاية المرجوة ، ولكنه – من جهة أخرى – قد يسيء إلى هذه العملية ، إذا لم نستفد منه ، ونصرفه بطريقة حكيمة ، لا إفراط فيها ولا تفريط .. ونعود من جديد إلى رحاب القرآن .

دعوة سيدنا عيسى عليه السلام:

.. فقد قام عيسى عليه السلام بدعوة قومه للتوحيد قائلاً: (إن الله ربي وربكم فاعبدوه هذا صراط مستقيم )(آل عمران: 51) .. واستمر يدعوهم ، ويرغبهم بالاستجابة لدعوة التوحيد ، لكنهم لم يستجيبوا ، ولم يؤمن منهم إلا نفر قليل ! ثم شاء الله عز وجل ، أن يرفع رسوله إليه ، فرفعه ، وظلت الدعوة محصورة في مجموعة قليلة من المؤمنين ، الذين سماهم القرآن الكريم ( الحواريين ) .

وعندما حاول الحواريون نشر دعوتهم بين الناس ، واجهوا صداً عنيفاً من الحكام ، الذين كانوا وقتذاك على دين الشرك ، فآثر المؤمنون كتمان إيمانهم في صدورهم ، وتركوا دعوتهم للزمن على أمل أن يحسم هو الموقف .. واستمرت الدعوة على هذه الحال ، تنتقل من جيل إلى جيل متخفية ، صامته ، حتى فعل الزمان بها ما لم يكن في الحسبان ، إذ انحرفت الدعوة عن خط التوحيد ، وخالطتها الوثنية ، ومن هنا نلاحظ ضرورة توفر شرط إضافي إلى شرط الزمان ، حتى يمكن إنضاج عملية التغيير إنضاجاً صحيحا من جهة ، وحتى يمكن تجنب التأثير السلبي لتطاول الزمن من جهة أخرى ، وهذا الشرط هو التفاعل البناء ما بين عامل الزمن ، والعامل البشري ، الذي سبق الحديث عنه ، بمعنى أن تبقى دعوة التغيير متفاعلة في المجتمع من خلال العصبة المؤمنة ، بحيث تعمل هذه العصبة على إبقاء الدعوة حية نابضة في صميم المجتمع ، ولمثل هذا الهدف جاء التوجيه الرباني الحكيم (ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وأولئك هم المفلحون )(آل عمران: 104) .. فإن وجود هذه العصبة المؤمنة ضروري لضبط برنامج التغيير ، لكي تعطي كل مرحلة من مراحل العمل حقها من الوقت ، دون تفريط يضيع الوقت ، ويميع القضية ، ويحرفها عن مسارها الصحيح ، ودون إفراط باختصار الوقت وحرق المراحل واستعجال الثمرات ، لأن هذا قد يجهض العملية إجهاضاً مبرماً .. وإن عمل هذه العصبة من هذه الوجهة ، يشبه عمل المهندس الحاذق ، الذي كلما أنجز مرحلة من مراحل البناء ، قام بفحصها وتقويمها ، لكي يستيقن أنها قامت وفق المخطط المرسوم ، وأنها أنجزت حسب المواصفات والمعايير الفنية المعتبرة ، وأنها تتماشى مع البرنامج الزمني المحدد للمشروع !

الدعوة الأنموذج

وتعد دعوة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم ، أنموذجاً متفرداً من حيث استفادتها من عامل الزمن ، كما هي متفردة من الجوانب المختلفة الأخرى .. فقد استطاعت هذه الدعوة أن تحقق خلال عمرها القصير ، الذي لم يتعد عقدين ونيفاً من السنوات ، مأثرة في التغيير مازالت آثارها باقية حتى يومنا هذا ، وسوف تبقى كذلك إلى آخر الزمان .. فقد غيرت هذه الدعوة القبائل العربية ، التي كانت تعيش على الغزو والسلب والنهب ، فجعلت منهم أمة واحدة ، يسود بين أفرادها المودة والرحمة والتعاطف والتكامل ، بحيث أصبح المجتمع الإسلامي جسداً واحداً ، كالبنيان المرصوص يشد بعضه بعضاً .. وهكذا نقلت هذه الدعوة العرب من المرحلة القبلية ، إلى مرحلة الأمة ، في سنوات قليلة لا تعد شيئاً في عمر الزمان ، وإن هذه النقلة – لعمري – نقلة متميزة ، لم تستطع أية دعوة أخرى في تاريخ البشرية أن تحققها خلال تلك المدة الزمنية القياسية .

فكيف – ياترى – استطاعت دعوة محمد صلى الله عليه وسلم أن تحقق هذه المأثرة؟

لا ريب في أنه توافر لهذه الدعوة عوامل عديدة بفضل الله ، ساعدتها على اختصار عامل الزمن ، وتعجيل الوصول إلى الأهداف المنشودة ، ويأتي في مقدمة تلك العوامل عاملان ، هما :

أ – تأزيم الصراع الفكري ( أو العقيدي ) بين الجماعة المسلمة ، وبين المشركين في مكة ، وقد تم ذلك على طريقة الرجل الصالح ، الذي عرضنا قصته كما جاءت في سورة يس ، أي بالجهر بالدعوة ، ومقارعة الحجة بالحجة ، مع الحرص على تجنب إقحام الصراعات القبلية في هذه القضية ، وتجنب الدخول في صراع مسلح ، وبخاصة أن الجماعة المؤمنة لم تكن قد ملكت بعد عدة هذا الصراع .. وقد انتهت هذه المرحلة إلى تميز الجماعة المؤمنة ، ووضوح الأصول العقيدية التي تدعو إليها ، وختمت هذه المرحلة بالهجرة إلى يثرب.

ب – وأما العامل الآخر الذي ساهم في اختزال الفترة الزمنية اللازمة للتغيير ، فهو نزول أمر الله عز وجل بقتال المشركين ، ومواجهتهم مواجهة عسكرية مسلحة ، وقد تم ذلك بعد أن استقر رسول الله صلى الله عليه وسلم في المدينة ، وأقام فيها دولة الإسلام ، وأصبح له هناك منعة ، ودار وأنصار .. ويلاحظ عندما حدث الصدام المسلح بين معسكر الإيمان ، ومعسكر الكفر ، أن الصراع بينهما أخذ يزداد حدة ، مما عجل في وضع النهاية المحتومة لمعسكر الكفر ، الذي استسلم سريعاً للدعوة الجديدة ، وهذا ما حصل بفتح مكة المكرمة ، حين بدأ الناس يدخلون في دين الله أفواجاً ، واستقر الأمر في الجزيرة لرسول الله صلى الله عليه وسلم .. وذلك كله في سنوات قليلة ، ولكنها سنوات حافلة بالتخطيط والإعداد ، والجهاد والتضحية !

وبهذا نكون قد عرضنا – بشيء من التفصيل – الشروط التي تقوم عليها سنة التغيير الاجتماعي ، وهي:

الفكرة ( العقيدة ) + الإنسان + الزمن

ونعود هنا فنؤكد أن سنة التغيير الاجتماعي ، مثلها مثل أية سنة أخرى من السنن ، التي فطر الله عليها أمور الخلق .. لا تتم إلا أن تتوافر لها الشروط اللازمة ، وتنتفي الموانع التي تحول دون تحقيقها .. مع العلم بأن الموانع التي يمكن أن تقف حجر عثرة ، وتعيق إنفاذ سنة التغيير كثيرة جداً ، وهي تتفاوت في تأثيرها على مسار العملية ، إلا أن النقطة الحاسمة في الأمر هي توفير الشروط اللازمة للتغيير ، فمتى توفرت هذه الشروط ، وتوفر إلى جانبها الإخلاص ، والجهد المكافئ الواعي ، فإن التغلب على الموانع يغدو ممكناً بإذن الله.

=============

# واقعنا المعاصر .. معالم في طريق الحل

إن موضوع البحث في ( سنن الله في الخلق ) لم يلق حتى الآن الاهتمام اللائق به من قبل المفكرين الإسلاميين المعاصرين ، وبخاصة منهم الذين ينتمون إلى الجماعات الإسلامية ، التي تصدت لقيادة العمل الإسلامي ، ووضعت نصب أعينها القيام بتغيير اجتماعي ونفسي متميز في المجتمعات الإسلامية ، يهدف إلى نقل هذه المجتمعات من حال الضعف والجهل والتخلف والبعد عن منهج الله ، إلى حال القوة والسيادة والالتزام بشريعة الله.

ولقد أدى إغفال دور السنن في الجهد البشري ، إلى جعل التكوين الفكري لهذه الجماعات أقرب إلى المثالية النظرية ، منه إلى الواقعية العملية ، وجعل غالبية الجماعات ( إن لم نقل كلها ) تدور في حلقات مفرغة ، لا تدري كيف تخرج منها ، فهي – من جهة – تحس بالأزمة التي تعيشها ، ولكنها –من جهة أخرى– لم تتقن بعد كيفية التعامل مع هذه الأزمة ، للخروج منها بحل واقعي معقول ! وربما ساهم في تعقيد الأزمة ، وترسيخ هذا الوضع الغريب، أن معظم المناهج الفكرية التي سارت عليها الجماعات الإسلامية المعاصرة ، عمدت إلى تناول القضايا بعقلية ذرائعية ، تميل إلى منطق التبرير والاستسهال .. فما أسهل أن نتذرع بأسباب مختلفة لننفي عن أنفسنا مسؤولية ما وقعنا فيه من أخطاء .. وما أيسر أن نرد النتائج المخيبة للأمل إلى قضاء الله وقدره .. وكأن مثل هذا الرد يعفينا من المسؤولية أمام الله عز وجل!

وأما بذل الجهد في البحث الدؤوب عن جذور الأزمة ، ومعرفة أسبابها ، وتحليل ملابساتها تحليلاً علمياً دقيقاً ، فليس هذا كله من شأننا !؟

ولعلنا – بما قدمناه في الفصول السابقة حول مفهوم (السنة ، والمفاهيم الأخرى، التي عرضناها على ضوء هذا المفهوم ، نكون قد اقتربنا خطوة من نقطة البداية في تناول هذه الأزمة .. ولا بأس أن نعود في هذه الخاتمة ، فنلخص أبرز النتائج التي خرجنا بها من البحث ، والتي يمكن أن نعدها بمثابة معالم ، تعيننا على فهم طبيعة الأزمة ، وترشدنا في الوقت نفسه إلى الطريقة العملية لتجاوز العقبات ، التي تحول دون حل هذه الأزمة .. ونجمل هذه المعالم فيما يلي :

1 – إن لهذا الكون رباً ، خلق كل ما في هذا الكون من خلائق ، وأخضعها جميعها لسنن (قوانين) تحكم كل صغيرة وكبيرة منها .

2 – وتتصف هذه السنن التي فطر الله عليها أمور خلقه ، بمجموعة من الصفات ، التي تعطيها صبغة القانون الرياضي الصارم ، فهي –من جهة– ثابتة لا تتبدل ولا تتحول وهي من جهة ثانية – مطردة ، تتكرر على الوتيرة ذاتها كلما توافرت شروطها وانتفت الموانع ، التي تحول دون بلوغها غايتها ، وهي – من جهة ثالثة – أحادية لا تقبل التعدد ، أي أن لكل أمر في هذا الوجود سنة مخصوصة ، لا يتم إلا من خلالها ولا يمكن الوصول إليه بغيرها من السنن .

3 – وسنن الله في الخلق تسري على كل شيء في هذا الوجود من غير تمييز ، سواء أكان هذا الشيء مادياً أم معنوياً ، ونحن البشر خاضعون كغيرنا من خلائق هذا الوجود لسنن الله هذه ، شئنا ذلك أم أبينا ، وهذه الحقيقة تحتم علينا مسايرة هذه السنن ، لكي نتمكن من تسخيرها فيما ينفعنا ، وإلا فإن مخالفة السنن أو معاندتها لا يأتي بخير أبداً ، بل فيه الخسارة الأكيدة دون ريب .

4 – وإن أي عمل نقوم به يعتمد على سنة أو أكثر من السنن ، التي فطر الله عليها أمور خلقه ، يقتضي ضرورة معرفة تلك السنة ( أو السنن ) قبل الشروع في العمل ، فإذا ما عرفنا السنة ، وجب علينا أن نهيئ الشروط اللازمة لها ، إن كنا حقاً نريد إنجاز العمل المطلوب .

5 – فإذا ما فشلنا في إنجاز العمل المطلوب فإن هذا الفشل يعني وقوع خلل ما في الخطة ، ويمكن أن نحصر مواضع الخلل هذا في ثلاثة مواضع رئيسة :

أ – عدم سلوك الطريق الصحيح نحو الهدف ، أو عدم إصابة السنة التي توافق العمل ، الذي نريد إنجازه .

ب – وجود عوامل داخلية تؤدي إلى الإخلال بشرط أو أكثر من الشروط اللازمة لتحقيق السنة التي تتحكم بالعمل.

ج – وجود عوامل خارجية تحول دون تحقيق السنة وبلوغها غايتها . ففي كل مرة نعجز عن إنجاز العمل، أو الوصول إلى الهدف ، يجب أن نكون على يقين من أن هناك خللاً قد حصل فعلاً ، مما يحتم علينا العودة للبحث من جديد عن مصدر هذا الخلل ، ومراجعة ما سبق إنجازه من مراحل .. حتى نستطيع تصحيح المسار ، وتدارك الأزمة قبل أن تستفحل .. فإن فعلنا هذا وصلنا بإذن الله إلى ما نريد ، وإلا فإن الفشل سيكون من نصيبنا ثانية .. وثالثة .. ورابعة ..

ونود أن نذكر هنا بحقيقة هامة قلما تنال حقها من الاهتمام من قبل الباحثين ، الذين يتناولون مشكلة التخلف في ديار المسلمين عامة ، ومشكلة العمل الإسلامي بصورة خاصة ، فإن اهتمام هؤلاء ينصرف في معظمه نحو ( العوامل الخارجية ) بينما لا يحظى العاملان الآخران بالعناية الكافية ، مما يجعل البحوث التي تتناول المشكلة تدور خارج إطارها الحقيقي ، وليس في صميمها .. ويمكن أن نشبه هذا التناول القاصر للمشكلة بسلوك الطبيب الذي يعالج مظاهر الحمى والصداع ، ويغفل عن علاج الجرثومة التي تعيث في جسد المريض فساداً !!

ولا نحسب أن اثنين يختلفان حول الحقيقة الجوهرية التالية ، وهي أن البحث في أية مشكلة يتطلب ابتداء تحديد طبيعتها ، قبل الشروع في وضع الحلول لها ..

وما دمنا قد علمنا بأن أي عمل يقوم به الإنسان إنما يخضع لسنن مخصوصة، فإن دراسة أية مشكلة، يستلزم معرفة السنن، التي تتعلق بها .. ونضرب لهذا مثلاً قريباً .. فالأمراض السارية التي ظلت قروناً طويلة تفتك بالبشر ، استطاع العلماء أخيراً أن يعرفوا السنة ، التي تخضع لها ، ومؤدى هذه السنة أن هذه الأمراض تحصل عندما تنتقل جرثومة المرض من مصدر خارجي إلى جسم إنسان لديه القابلية للعدوى والمرض .. وعندما عرف الأطباء هذه السنة ، أصبحوا قادرين – بمشيئة الله – على معالجة هذه الأمراض الفتاكة ، بينما كان الناس – قبل اكتشاف السنة التي تخضع لها هذه الأمراض – يتخبطون في معالجتها ، فكانوا يلجأون للسحر والشعوذة تارة ، وكانوا يلجأون لأساليب أخرى تارة أخرى ، كأن يضربوا المريض ضرباً مبرحاً ، أو يغطسوه في الماء المغلي ، لأنهم – بسبب جهلهم بسنة المرض – كانوا ينسبونه إلى الأرواح الشريرة ، ويظنون الضرب أو الماء المغلي ، يمكن أن يطرد تلك الأرواح !

وقد نعذر القدماء في تخبطهم بالمعالجة على تلك الشاكلة، لأنهم لم يكونوا يعلمون شيئاً من أسرار المرض، ولكن .. هل لنا – نحن أبناء القرن العشرين – من عذر إن نحن سلكنا اليوم مسلك القدماء نفسه في معالجة المرض ، بعد أن عرفنا سر الجراثيم ، وتأثير المضادات الحيوية فيها؟

بالطبع .. لا

ولكن .. مع هذا ، وعلى الرغم من وضوح هذه الحقيقة البديهية ، فإننا ما نزال نقع في الخطأ نفسه، ونتخبط في معالجة كثير من المشكلات ، فنلجأ إلى (الضرب) في معالجتها ، على طريقة الأقدمين في طرد الأرواح الشريرة!

وكثيراً ما نتساءل في استغراب حائر بعدما حصل : كيف لم نصل إلى حل مع أننا بذلنا غاية جهدنا؟!

والجواب على هذا التساؤل الساذج واضح لا لبس فيه ، فنحن لم نسلك الطريق الصحيح إلى الحل ، ولم نبذل الجهد في محله ، فذهب هباءً منثوراً .

واقعنا المعاصر

.. وحين ينظر أي مسلم غيور على أمته ودينه إلى حال هذه الأمة اليوم ، فإنه لا يشعر بالرضى أبداً ، لأنه يراها في حال من الضعف والهوان ، وقد تكالبت عليها أمم الأرض قاطبة ، حتى باتت نهباً لكل طامع !

ونتساءل من جديد ( ذلك السؤال القديم الساذج ): أَنَّي هذا ؟ وكأننا بهذا السؤال ننفي تبعة هذه الحال عن أنفسنا ، والله عز وجل يقول : (وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم )(الشورى: 30) .

أجل إن هذا الحال من أنفسنا نحن ، من غفلتنا عن منهج الله ، وعن سننه في الخلق ، وإن واقعنا ليشهد بهذه الحقيقة بلا جدال .. ولنأخذ – على سبيل المثال لا الحصر – بعض السنن التي جعلها الله طريقاً للفلاح والنجاح والسيادة ، ثم لننظر كيف فرطنا بها، ففرط الله بنا ..

فقد جعل الله عز وجل سنة للنصر لا تتخلف إلى يوم القيامة ، فقال تعالى : (يا أيها الذين آمنوا إن تنصروا الله ينصركم ويثبت أقدامكم )(محمد: 2) .. وها نحن مهزومون في كل ميدان ، أمام أنفسنا ، وأمام أعدائنا .. مما يعني أننا لم ننصر الله حق نصره!

كما جعل الله عز وجل سنة لإرهاب العدو ، وقذف الرعب في قلبه ، فقال تعالى: (وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم وآخرين من دونهم لا تعلمونهم الله يعلمهم )(الأنفال: 60) .. فماذا يقدم لنا واقعنا الحالي؟ إنه يقدم لنا صورة مهزوزة هزيلة غير هذه الصورة، التي أمرنا الله أن نكون عليها ، إذ نرى ديارنا تعيش اليوم تحت رحمة الدول المستكبرة الكافرة ، بعد أن كنا سادة الأرض .. وقد نزع الله رهبتنا من قلوب أعدائنا ، فلا يقيمون لنا وزناً ، ولا يلتفتون إلى رأينا حتى في القرارات المتعلقة بمصيرنا نحن !!

وجعل الله عز وجل للبركة والغنى وسعة الرزق سنة كريمة ، فقال تعالى: (ولو أن أهل القرى آمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض )(الأعراف: 96) .. وها هي ذي ديارنا تعاني من الفقر والجوع، والجهل والمرض ، على الرغم مما تزخر به أراضينا من ثروات هائلة .. مما يعني أن نفوسنا تعيش اليوم أزمة إيمان وتقوى . (ولا حول ولا قوة إلا بالله)!

وهكذا .. إن أردنا أن نعدد السنن التي أخللنا بها في واقع حياتنا لأعيانا العد ، وكأننا لم نسمع قول الله جلت قدرته ، وهو يتوعد الذين يخالفون عن أمره أشد وعيد : (فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم )(النور: 63) بل إنه سبحانه ليتوعدهم بما هو أشد من ذلك .. إنه يتوعدهم بالهلاك (وإن تتولوا يستبدل قوماً غيركم ثم لا يكونوا أمثالكم )(محمد: 38).

حقيقة لابد من الاعتراف بها ، على الرغم من مرارتها .. إننا اليوم نعيش في غفلة عن سنة الله في الخلق، مع أننا لا نفتأ نردد ليلاً ونهاراً قول الحق تبارك وتعالى : (قد خلت من قبلكم سنن فسيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة المكذبين )(آل عمران: 137) ونردد كذلك قوله تعالى: (ليس بأمانيكم ولا أماني أهل الكتاب من يعمل سوءاً يجز به ولا يجد له من دون الله ولياً ولا نصيراً )(النساء: 123) ثم .. لا نعمل بمقتضى هذه التوجيهات الربانية الحكيمة !

فلا نحن نسير في الأرض ، فننظر كيف سارت حياة الأمم التي سبقتنا ، فنعتبر بها ، ونأخذ السنن التي تعيننا على أداء أمانة الاستخلاف ، كما أمرنا رب العزة سبحانه.

ولا نحن نتعامل مع الوجود من حولنا تعاملاً واقعياً يراعي سنن الله في هذا الوجود ، بل نتعامل معه تعاملاً خيالياً ينبع من الأماني والأحلام .. ونحسب – فوق هذا – أننا أصحاب امتياز على سائر الأمم الأخرى ، مادمنا مسلمين ، دون أن نعطي هذا الإسلام حقه في العلم والإخلاص والتضحية.

فهل نستغرب بعد هذا ، ونحن نسير عكس الريح ، ألاّ يصل المركب بنا إلى حيث نريد ؟!

ولعل أعجب ما في أزمتنا أننا – على الرغم من كل الأخطاء التي نرتكبها – أننا لا نعجز عن اختلاق المبررات والأعذار أمام أنفسنا وأمام الآخرين .. فما أيسر أن نتهم الريح أنها جاءت من الشرق ، بدل أن تأتي من الغرب ، وأما الاعتراف بأننا أخطأنا فوضعنا المركب عكس الريح .. فهذا ما لا يكون أبداً !!

وعلى هذه الشاكلة النكدة ، تمضي سيرتنا مع كل قضية نواجهها ، فنتعامل معها من منطلق أننا دوماً على صواب ، ونزعم أن الظروف الخارجية لم تكن مواتية ، وأنها هي التي ارتكبت الخطأ ، لا نحن .. وعلى هذا المنوال تدخل القضية في متاهة ( الاستحالة ) ولا يبقى علينا إلا أن نسدل عليها الأردية القاتمة ، لنخفيها حتى عن أنفسنا ، وكأن إخفاءها سيغير من واقع الحال شيئاً !!

=============

# معالم في طريق الحل

.. إلى الذين تؤرقهم حال هذه الأمة ، وتقض مضاجعهم ، أقول : إن الطريق إلى الخروج من أزمتنا سهل وميسور حين نحزم أمرنا ، ونعد عدتنا ، ونجد السير في هذا الطريق الذي يمكن أن نتبين أهم معالمه فيما يلي ..

إن تغيير الحال التي نحن عليها اليوم لا يمكن أن يتم دون أن نغير ما بأنفسنا ، فهذه سنة من السنن المطردة التي فطر الله عليها أمور خلقه ، كما قال تعالى: (إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم )(الرعد: 11).

وإن تغيير ما بأنفسنا لا يتم إلا أن نواجه مشكلاتنا مواجهة صادقة ، لا مواربة فيها ولا أعذار ، لنعرف مواطن الانحراف فنقومها ، ونكشف مواضع الخلل فنصلحها ، ونحدد نقاط الضعف فنقويها ..

وليكن الإحسان والصواب ضالتنا المنشودة (وأحسنوا إن الله يحب المحسنين )(البقرة: 195) ، (الحكمة ضالة المؤمن فحيث وجدها فهو أحق بها) مع العلم بأن من أهم معاني الصواب معرفة السنن ، التي بموجبها نحقق وظيفتنا في هذه الحياة ، والتي بينها الله عز وجل في قوله : (وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون )(الذاريات: 56) ، وأما الإحسان فهو تهيئة الشروط اللازمة، حتى تفعل هذه السنن فعلها، وتمضي بنا نحو الحضارة الإنسانية التي نتطلع إليها.

ولنكن على بينة من أن المضي في طريق هذه غايته ، لا يمكن أن يكتب له النجاح دون علم وجهد وجهاد وصبر ومصابرة ، ودون إخلاص لله ، وتقوى ، واستعداد للتضحية .

فإننا بمثل هذه العدة يمكن أن نخرج من أزمتنا بإذن الله .. ونبدأ أولى خطواتنا في درب الصعود..

وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.

===============

# الإسلام و صراع الحضارات

الدكتور أحمد القديري

* مولود بالقيروان، تونس، عام 1946م.

* حائز على شهادة الدكتوراه من جامعة السوربون (الأطروحة حول تقييم الإعلام الفرنسي للصحوة الإسلامية الحديثة).

* خريج الجامعة التونسية، المعهد العالي للصحافة وعلوم الأخبار. قسم السياسة والقانون (الإجازة والأستاذية).

* صدرت له خمسة كتب، آخرها كتاب باللغة الفرنسية صدر عن دار الفكر العالمي بباريس، بعنوان: (الإسلام والغرب: صراع الألف سنة.. من الحروب الصليبية إلى حرب الخليج).

* حاصل على وسام الاستقلال، ووسام الجمهورية من الدولة التونسية عامي 1982م و 1986م.

* يعمل حاليًا بجامعة قطر منذ 1992م.

تقديم: عمر عبيد حسنه

الحمد لله ، الذي اصطفى الأمة المسلمة ، لوراثة الكتاب بقوله: (ثم أورثنا الكتب الذين اصطفينا من عبادنا ) (فاطر:32) ، وجعلها خير أمة أخرجت للناس ، بما تحمل من رسالة ، وما تقوم به من وظيفة ، وما تؤديه من أمانة الأمر بالمعروف ، والنهي عن المنكر ، والإيمان بالله ، قال تعالى: (كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله ) (آل عمران:110) ، وما تقيمه من موازين العدل ، والرحمة في حياة الناس ، وتقوم سلوكهم بشرع الله ، لأنها الأمة الوسط ، الأمة المعيار التي وكل إليها ، بما تمتلك من قيم الوحي السماوي السليم ، الشهادة على الناس ، وتصويب مسيرتهم ، قال تعالى: (وكذلك جعلناكم أمة وسطاً لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيداً ) ( البقرة:143) ، وبما تمتلك من رصيد التجربة التاريخية للأنبياء مع أقوامهم ، إضافة إلى ما تتمتع به من خصائص ، وصفات إنسانية ، ما تزال مفقودة عند كثير من الأمم ، التي يقوم كيانها على العروق ، والأجناس ، والألوان ، وما يشابهها من الأمور القسرية ، التي لا يد للإنسان في كسبها ، والتي مهما ادعى صاحبها الرقي والحضارة ، لا تنجو من التمييز ، والتعصب ، والروح العدوانية ، تجاه الآخر ، والشعور بالتعالي ، الذي يقود إلى الحقد ، والنزاع غير المشروع ، ويكفي تاريخها وواقعها دليلاً ، على أن هذه الأمم ، بخصائصها ، ومقوماتها ، التي هي عليها ، لا تمتلك رسالة إنسانية ، وعطاءاً عالمياً ، وامتداداً تاريخياً ، إلا بفعل السيطرة والاستعمار ، لأنها ترفض بأصل تكوينها ، فلسفة المساواة الإنسانية ، وتحقيق تكافؤ الفرص ، وحرية الاختيار ، التي تعتبر روح الحضارة الممتدة ، حيث تتأصل بها كرامة الإنسان.

وقد تكون مشكلة المسلمين ، وخاصة في مراحل الكمود ، والخمود ، والوهن الحضاري ، وشيوع التقليد، وغياب الوعي الجماعي ، وانطفاء الفاعلية ، في محاولة بعضهم التفكير بدخول جحور الضباب -حتى إنهم لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه- التي تعيشها الحضارات الأخرى ، واختزال التاريخ الحضاري ، بعصر واحد ، والانبهار بالطفرات الحضارية ، أو الخداع الحضاري ، واستبدال الذي هو أدني ، بالذي هو خير ، والعجز عن إدراك الإمكان الحضاري ، الذي تمتلكه الأمة المسلمة ، لو تمثلت إسلامها ، واستشرفت ماضيها ، وأبصرت مستقبلها حقيقة.

والصلاة والسلام على الرسول القدوة ، الذي جاء للعالمين بشيراً ونذيراً وكانت الغاية من ابتعاثه ، إخراج الناس ، من الظلمات إلى النور ، ووضع الآصار والأغلال التي عليهم ، وتزكية البشرية ، وإلحاق الرحمة بها، قال تعالى: (وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين )(الأنبياء: 107) ، وتقديم الانموذج الحضاري الإنساني ، على الأصعدة المتعددة ، المتحقق من خلال عزمات البشر ، وهدايات الوحي ، المرشد إلى سنن البناء ، ليكون محلاً للاقتداء والتأسي ، بعيداً عن عبث الإنسان ، وأهواء الإنسان ، وتسلط الإنسان على الإنسان ، حيث لا أسوة بغيره ، ولا اقتداء بسواه ، لأنه مسدد بالوحي ، ومؤيد به ، وكل إنسان غيره ، يؤخذ من كلامه ويرد ، ويجري عليه الخطأ والصواب ، والانحراف والاستقامة.

لذلك كان من أهم عوامل الإمكان ،والارتكاز الحضاري ، امتلاك الأمة المسلمة للقيم السماوية السليمة ، التي لم يداخلها تحريف ، ولا تبديل ، إلى جانب امتلاكها أنموذج الاقتداء والتجسيد ، والعطاء لهذه القيم ، الذي استوعب جميع الأحوال التي تمر بها الأمة ، من سقوط ونهوض ، واستضعاف وتمكين ، ودعوة ودولة ، على مستوى الفرد ، والمجتمع ، والأمة ، والدولة .. إنها أمة تمتلك القيم ، وتمتلك الأنموذج التطبيقي ، ليكون دليلها في كل حالة تمر بها.

وبعد:

فهذا كتاب الأمة الرابع والأربعون: (الإسلام وصراع الحضارات) ، للدكتور أحمد القديدي ، في سلسلة كتاب الأمة ، التي يصدرها مركز البحوث والدراسات ، بوزارة الأوقاف والشؤون الاسلامية ، في دولة قطر ، مساهمة في إعادة بناء فاعلية المسلم المعاصر ، الصالح بنفسه ، المصلح لغيره ، من خلال إحياء وعيه ، بموقعه الثقافي ، ورسالته الإنسانية ، وأمته المعيار ، وإمكاناته في النهوض ، وقدرته على استئناف السير ، وإحياء شخصيته الحضارية التاريخية ، وتوضيح ملامح حضارته ، وبيان قسماتها ، ونقاط ارتكازها ، والدور المنوط به اليوم -على الرغم مما يعانيه- (لإخراج الناس ، من عبادة العباد ، إلى عبادة الله ، ومن ضيق الدنيا ، إلى سعة الدنيا والآخرة ، ومن جور الأديان ، إلى عدل الإسلام)، واستنقاذه من العبث الثقافي ، والضلال الحضاري ، وتبصيره بالسنن الإلهية ، في الأنفس والآفاق ، التي تحكم الحياة والأحياء ، والتي هي أشبه بقوانين مطردة ، تمثل أقدار الله الغلابة التي لا تتبدل ، ولا تتغير ، ليحسن التعامل معها ، ويمتلك القدرة على تسخيرها ، ومغالبة قدر بقدر ، والفرار من قدر إلى قدر . يقول ابن القيم رحمه الله : ليس الرجل الذي يستسلم للقدر ، بل الذي يحارب القدر بقدر أحب إلى الله (مدارج السالكين ج1).

وقد يكون من المفيد هنا ، أن نشير إلى أن الصراع ، أو التدافع ، أو التداول ، أو الحوار الحضاري ، سنة اجتماعية ، من سنن الله تعالى وقوانينه ، التي لا تتخلف ، ولا تتبدل ، كما أنها سنة فردية أيضاً ، فالإنسان كفرد ، ليس خارجاً عن دائرة الصراع والتدافع الذاتي ، في الاختيار بين دوافع الخير ، ونوازع الشر ، في نفسه ، لأن في ذلك تتحدد حرية الإنسان في الاختيار ، وتتميز كرامته ، ويبين فضله، والشر من لوازام الخير ، وبضدها تتميز الأشياء.

فالصراع والتدافع ، هو سبيل الحيوية ، والنمو ، والازدياد ، وعلامة الحياة والاستمرار ، ابتداء من الخلية ، وانتهاءاً بالحياة الحية .. وهو إحدى محركات الحياة الاجتماعية ، وامتداد التاريخ البشري ، وله صوره المتعددة ، وشوكاته المتنوعة ، من الحوار ، والمفاكرة ، والمثاقفة ، والمناظرة ، والقتال ، والمواجهة ، والمنافسة ، والسباق ، والمغالبة ، كلها صور ومعارك ، منها : المشروع المحكوم بضوابط ليست من وضع الإنسان ، ومنها ما يستخدم وسائل غير مشروعة ، وكل ذلك يقع ضمن دائرة الصراع الحضاري ، الذي يندفع من عقائد وأنساق معرفية ، ورؤى قيمية ، وأنماط حياتية وسلوكية ، تمتاز بخصوصيتها ، وتسعى للبرهنة على أحقيتها ، وإثبات وجودها ، فهي أشبه ما تكون في خصوصيتها ببصمات الأصابع ، وسحن الوجوه ، وملامح الشخصية ، لا يمكن أن تتطابق ، ذلك أن التطابق ، يعني التوقف والموت.

والصراع بين الخير والشر ، والعدل والظلم ، والحب والحقد ، والعفو والثأر ، والإيثار والأثرة ، والحق والباطل ، وبعبارة أخرى : الصراع بين المعروف والمنكر ، لا يتوقف إلا بتوقف الحياة.

قال تعالى: (وكذلك جعلنا لكل نبي عدواً من المجرمين وكفى بربك هادياً ونصيراً )(الفرقان:31) وقال: (وكذلك جعلنا لكل نبي عدواً شياطين الإنس والجن يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غروراً )(الأنعام:112).

إنها ابتلاءات الحياة: (ولو شاء الله لجعلكم أمة واحدة ولكن ليبلوكم في ماءاتاكم )(المائدة:48).

فإبليس أبى السجود والطاعة لأمر الله ، وتمرد ، منذ بدء الخليقة ، وقال: (انظرني إلى يوم يبعثون ) (الأعراف : 14) فقال الله تعالى : ( فإنك من المنظرين ، إلى يوم الوقت المعلوم )(الحجر:37-38) ، واستمرت رحلة الغواية والصراع ، وكان لها جولات ممتدة في تاريخ البشرية ، أفراداً وجماعات ، وأخذت أشكالاً متنوعة ، وفاعليات متفاوتة ، واستراحات ، واسترخاءات ، هي غالباً ما تكون استعداداً لجولات جديدة. (ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة ولا يزالون مختلفين ، إلا من رحم ربك ولذلك خلقهم )(هود:118)، (اولو يشاء الله لانتصر منهم ولكن ليبلوا بعضكم ببعض )(محمد:4).

ولعل من مظاهر رحمة الله ، هذا التدافع والاختلاف ، الذي من خلاله يتحصحص الحق ، ويتمحص، وبسببه تنجو الحقيقة ، من الدمار ، والخير من الجفاف ، قال تعالى: (ولوا دفع الله الناس بعضهم ببعض لهدمت صوامع وبيع وصلوات ومساجد يذكر فيها اسم الله كثيرا ً)(الحج:40) ، وقال: (ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض )(البقرة:251) ، وقال: (كذلك يضرب الله الحق والباطل فأما الزبد فيذهب جفاءً وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض )(الرعد:17).

لذلك رأى بعض العلماء في ضوء ذلك ، أنه من المستحيل واقعاً وشرعاً ، أن يسلط الله على البشرية ظالماً واحداً ، يتحكم في مصيرها ، لفترة طويلة ، ذلك أن التدافع يكون بين الظلمة أنفسهم ، وبينهم ، وبين الحق ، وهذا سنة جارية ، في الحياة ، حتى يتوقف التاريخ ، ويتغير نظام الكون.

وأعتقد أن من أعظم الخلل الذي لحق بالعقل المسلم المعاصر ، ما يكمن في عدم التأصيل ، والتأسيس ، لعلم السنن ، من خلال نضج الرؤية القرآنية ، وتنزيلها على الواقع ، في السيرة والسنة ، ومن خلال استقراء محركات الصراع ، في تاريخ البشرية ، وعوامله ، وأسبابه ، ونتائجه .. إن هذا الخلل هو غياب عن الوعي ، تطيش معه السهام ، وتضل معه العقول ، ويقع الإنسان معه فريسة للمفاجآت ، والعجز عن التعامل معها ، لأنه عاجز ابتداءاً عن فهم المقدمات ، والأسباب الموصلة لها.

والذي يدرك سنة التدافع والصراع ، وأطرافه ، وميادينه ، وأسلحته ، ومساراته ، يصبح قادراً على حسن تسخيره ، والفقه بنتائجه ، ويمتلك القدرة على المداخلة ، والتحكم ، ومغالبة سنة بسنة ، أو بقدر بقدر - كما أسلفنا - ويمتلك القدرة على الحركة في كل الظروف وإيجاد مساحات لزرع الحقيقة وتنميتها.

ومن هنا ندرك بدقة مغزى قول الرسول صلى الله عليه و سلم: (.. وإن الله ليؤيد هذا الدين بالرجل الفاجر )(أخرجه البخاري) .

وندرك النتائج العظيمة ، من نصرة الحق التي ترتبت على قدرة وحكمة الصحابي الجليل نعيم بن مسعود رضي الله عنه في غزوة الأحزاب ، عندما رمت العرب المسلمين عن قوس واحدة ن حيث تكالبت عليهم ، وتحالفت : اليهودية ، والوثنية ، والقبلية ، وابتلى المؤمنون هنالك ، وزلزلوا زلزالاً شديداً ، حتى لقد بلغت القلوب الحناجر ، وبدأت الظنون ، تتسرب إلى النفوس الضعيفة ، قال تعالى: (إذ جاءوكم من فوقكم ومن أسفل منكم وإذ زاغت الأبصار وبلغت القلوب الحناجر وتظنون بالله الظنونا ، هنالك ابتلى المؤمنون وزلزلوا زلزالاً شديدا ً)(الأحزاب:10-11) .

في هذه اللحظات الحاسمة وهذه الشدة الشديدة من المواجهة ، أسلم نعيم بن مسعود ، وجاء خفية إلى الرسول صلى الله عليه و سلم ، وقال فيما ترويه كتب السيرة : أسلمت ، ولم يعلم أحد بإسلامي ، فمرني بما ترى ، فقال له الرسول صلى الله عليه و سلم: -بما معناه- ( إنما أنت فينا واحد ، وإن الحرب خدعة، فخذل عنا ما استطعت ) فكان ما كان من نعيم ، من فهم ، واستيعاب ، وفقه لسنة التدافع وعوامله ، ومداخله ، وكان النصر بعد الشدة ، وكان بلاء نعيم في الوقت المناسب وفاعليته ، أعظم من جيش كامل ، بخططه وعدده.

صحيح ، بأن المسلم ، يعتقد بأن النصر من عند الله ، وهي حقيقة ، يجب ألا تغادر نفسه ، لكن صحيح أيضاً ، أن هذا النصر أراده الله أن يتحقق من خلال أقدارٍ وسننٍ ، وعزمات بشر ، وأسباب ومسببات ، وكم يحتاج المسلمون اليوم - في حالات الحصار التي تفرض عليهم ويعانون منها أشد المعاناة - إلى نماذج ذكية ، فقيهة بسنن وأقدار التدافع الحضاري ، قادرة على دخول حلبة الصراع ، بجدارة واقتدار ، إلى درجة قد تمكن من إدارة الصراع ، وتحقيق كسب أكبر ، للقضية الإسلامية.

كم نحن بحاجة إلى نماذج من أمثال نعيم ، قادرة على التحرك في الوقت المناسب ، وحسن استخدام المتاح ، ذلك أن الإنسان المسلم ، بمقدوره أن يحقق الكثير الكثير ، إذا أدرك إسلامه وعقيدته ، وفقه المعادلة الاجتماعية ، التي يعيشها .

ومن هنا ندرك ، كيف يمكن أن يكون الفرد أمة ، وخاصة عند غياب الأمة.

يقول الشيخ محمد رشيد رضا رحمه الله في تفسير المنار ، عند قوله سبحانه وتعالى: (قد خلت من قبلكم سنن فسيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة المكذبين )(آل عمران:137).

(إن إرشاد الله إيانا ، إلى أن له في خلقه سنناً ، يوجب علينا ، أن نجعل هذه السنن علماً ، من العلوم ، لنستديم ما فيها من الهداية ، والموعظة ، على أكمل وجه ، فيجب على الأمة - في مجموعها - أن يكون فيها قوم يبينون لها سنن الله في خلقه ، كما فعلوا في غير هذا العلم ، من العلوم والفنون ، التي أرشد إليها القرآن بالإجمال ، وبينها العلماء بالتفصيل ، عملاً بإرشاده ، كالتوحيد ، والأصول ، والفقه.

والعلم بسنن الله تعالى ، من أهم العلوم وأنفعها ، والقرآن يحيل عليه في مواضع كثيرة ، وقد دلنا على مأخذه على أحوال الأمم ، إذ أمرنا أن نسير في الأرض ، لأجل اجتلائها ، ومعرفة حقيقتها) (انظر تفسير المنار ، المجلد الأول).

ويقول الشيخ محمد عبده رحمه الله:

ولا يحتج علينا ، بعدم تدوين الصحابة لها ، فإن الصحابة ، لم يدونوا غير هذا العلم ، من العلوم الشرعية ، التي وضعت لها الأصول والقواعد ، وفرعت منها الفروع والمسائل ، وإنني لا أشك ، في كون الصحابة ، كانوا مهتدين بهذه السنن ، وعالمين بمراد الله من ذكرها ، يعني أنهم ، بما لهم من معرفة أحوال القبائل العربية ، والشعوب القريبة منهم ، ومن التجارب ، والأخبار ، في الحرب وغيرها ، وبما منحوا من الذكاء ، والحذق ، وقوة الاستنباط ، كانوا يفهمون المراد من سنن الله تعالى ، ويهتدون بها في حروبهم ، وفتوحاتهم ، وسياساتهم للأمم ، التي فتحوها ، وما كانوا عليه من العلم ، بالتجربة ، والعمل ، أنفع من العلم النظري البحت ، وكذلك كانت علومهم كلها.

ولما اختلفت حالة العصر اختلافاً ، احتاجت معه الأمة ، إلى تدوين علم الأحكام ، وعلم العقائد ، وغيرهما ، كانت محتاجة أيضاً ، إلى تدوين هذا العلم ، ولك أن تسميه علم السنن الإلهية ، أو علم السياسة الدينية ، سم بما شئت ، فلا حرج في التسمية.

والسنة كما هو معلوم : الطريقة المعتبرة ، والسيرة الحميدة المتبعة ، والقانون المطرد ، الذي يتبدل ، ولا يتحول ، قال تعالى: (ولن تجد لسنة الله تبديلا ً) (الأحزاب:62) ، فالحياة لم تخلق عبثاً، وإنما خضعت لسنن وقوانين ، وأمر البشر في اجتماعهم، وما يعرض فيه من الصراع ، والتدافع الحضاري ، بين الحق والباطل ، وما يتبع ذلك ، من الحرب ، والنزال ، والملك ، والسيادة ، والتداول الحضاري ، يجري على طرق قويمة ، وقواعد ثابتة ، فمن سار على سنن الله ظفر بالفوز ، وإن كان ملحداً ، أو وثنياً ، ومن تنكبها ، خسر ، وإن كان صدّيقاً ، أو نبياً.

وعلى هذا يتخرج انهزام المسلمين في أحد ، وكذلك في أول المعركة في حنين ، ويتخرج انتصارهم على الأصعدة المتعددة ، (انظر تفسير المنار).

لذلك قد يكون من الأولويات المطلوبة في الفهم والتفكير الإسلامي اليوم ، إدراك أمر السنن والأسباب ، والأقدار ، وامتلاك القدرة على التعامل معها ، وتسخيرها ، ودخول حلبة الصراع الحضاري ، بميادينه المتعددة ، بأدواته ووسائله النوعية المطلوبة ، ذلك أن دخول أية معركة ، بدون أسلحتها الفاعلة ، سوف يؤدي إلى الخسارة الفادحة ، فالتعامل مع أي ظاهرة دون تحليلها ومعرفة أسباب نشوئها واستيعابها ، والإحاطة بها ، سوف يوقع بإحباطات كبيرة ، ومفاجآت غير متوقعة أو محسوبة.

وهذا لن يتأتى بالأماني والرغبات ، ولن يتأتى بالصراخ والعويل ، ولن يتأتى من زيادة الحماس ، وزيادة التوثب الروحي ، ولن يتحقق لعامة الناس ، وإنما لابد له من وعي كامل بمعرفة الوحي ، في الكتاب والسنة ، كأمر لابد منه لبناء المرجعية ، وتشكيل مركز الرؤية ، ومن ثم التحقق بالتخصص في فروع المعرفة والعلوم المتعددة ، وبخاصة العلوم الاجتماعية ، وتأسيس مراكز بحوث ومعلومات ودراسات يقوم عليها متخصصون ، يمثلون أهل الحل والعقد فيما اختصوا فيه ، وإحلال العقل الجماعي المؤسس ، محل العقل الفردي.

وأستطيع أن أقول : بأن أية مفاجأة بالنتائج ، تعني من بعض الوجوه ، نوعاً من البلاهة ، كما تعني عدم إدراك المقدمات ، فلكل قضية علمها المطلوب ، لإدراكها ، وفهمها ، والقدرة على التعامل معها ، ومن هنا يمكن أن ندرك بعض أبعاد قوله تعالى: (بل كذبوا بما لم يحيطوا بعلمه )(يونس : 39) .

وفي ضوء ذلك يمكن أن نفسر الإصابات والارتكاسات ، وتوالي الهزائم ، واستمرار السقوط ، والانحدار ، والانكسار ، والتراجع ، الذي يمنى به العالم الإسلامي والمسلمون بشكل عام.

ولا سبيل أمامنا للإحاطة بعلم الأشياء ، على الأصعدة المتعددة وعلى الأخص في مجال التدافع الحضاري الذي لا يتوقف ، ما لم ندرك السنن ، التي شرعها الله ، لتحكم حركة الحياة ، وسلوك الأحياء ، ذلك أن الفقه بالسنن ، هو الذي يحقق لنا الفرقان ، من إدراك المقاصد ، وإبصار المخارج ، وامتلاك الوسائل ، ودخول حلبة الصراع ، بالمؤهلات المطلوبة.

وقد يكون من المفارقات العجيبة ، والمؤرقة حقاً ، في الحالة الإسلامية اليوم ، أن المسلمين ما يزالون يمتلكون الخطاب الإلهي السليم ، دون سائر الأمم ، يمتلكون معرفة الوحي ، التي توقفهم على تاريخ الحضارات ، نهوضاً وسقوطاً ، وخلاصة التجربة البشرية ، والسنن التي حكمتها في التدافع ، والسقوط والنهوض ، لكنهم يعجزون عن الإفادة منها.

لقد قدمت معرفة الوحي ، في الكتاب والسنة ، الخلاصات ، والنماذج المطلوبة ، من قصص الأنبياء ، التي تعتبر منجماً زاخراً بالعبر والدروس ، وعطاءاً لا ينفد للتدافع ، والصراع بين الخير والشر ، والنتائج والمآلات التي تحققت وفق هذه السنن الإلهية في التاريخ ، الذي يعتبر المختبر البشري الدقيق لفاعلية هذه السنن ، حتى لقد جعلت معرفة الوحي السير في الأرض والنظر في أحوال الأمم السابقة ، وإدراك السنن والقوانين ، التي حركت مسار التاريخ ، أو تحرك التاريخ في مسارها ، من العلوم المطلوبة للمسلمين ، والتي بدون العلم بها سوف يخرجون من التاريخ ، وينقلبون من وسيلة محركة فاعلة ، قائدة ، مُسَخِّرة ، إلى أداة معطلة مُسَخَّرة .. سوف يتحولون من صناعة التاريخ ، إلى أن يكونوا محلاً لحركة التاريخ ، وتجاربه.

وبالإمكان القول : إن علم السنن التي شرعها الله للأنفس والآفاق ، تعتبر من الفروض الكفائية ، أو من الفروض الحضارية ، التي غفل عنها المسلمون جماعات ، وجمعيات ، ودولاً ، وأفراداً ، اللهم إلا من بعض الملحوظات والاضاءات ، والإشارات ، والبدايات ، التي لم ترق إلى مستوى العلم.

قال تعالى: (قد خلت من قبلكم سنن فسيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة المكذبين ، هذا بيان للناس وهدى وموعظة للمتقين )(آل عمران:137-138) ، فأين السير في الأرض المأمور به شرعاً ن والتوغل في التاريخ ، واكتشاف السنن التي طلب القرآن تحصيلها ، والاهتداء بها إلى فعل الصواب ، والاتعاظ بما تحقق منها ، في إطار الأمم السابقة ، والقيام بعملية المغالبة بين سنة وسنة ، وبين قدر وقدر؟

إن قسماً كبيراً من المسلمين اليوم ، يسيرون في الأرض ن ويذهبون إلى بلاد الحضارات الأخرى ، سير البلهاء ، والمغفلين اللاهين ، الذين ينتهي بهم قصدهم ويتحقق على مزابل الحضارة الغربية وإباحيتها ، أو على أحسن الأحوال يقرأون الحضارة قراءة خاطئة لا تسمن ولا تغني من جوع ، وقد تسخرهم وتسحرهم ، بدل أن يسخروها ، ويعتبروا بإصاباتها.

إن السنن هي أمر الله ، وقدره الثابت ، الذي لا يتبدل ، قال تعالى: (سنة الله في الذين خلوا من قبل وكان أمر الله قدراً مقدوراً )(الأحزاب:38) .

ونعترف أن علم السنن ، تأصيلاً وتأسيساً ، لما يأخذ بعد طريقه إلى المسلمين ، وأكثر من ذلك ، إلى المؤسسات الإسلامية الرائدة ، المنوط بها إخراج الأمة والعالم الإسلامي ، من حفر التخلف ، التي يعيش فيها ، في الوقت ، الذي أصبحت فيه مراكز البحوث والدراسات ، والمعلومات المتخصصة في نطاق الحضارة الغربية ، التي تسعى إلى الغلبة والتفوق ، والسبق ، تتجاوز التصور.

لقد أصبحت مراكز البحوث والمعلومات ، جزءاً لا يتجزأ من نواتج الحضارة ، ولوازمها ، وأصبحت وسيلتها الفاعلة ، في إدارة الصراع والحوار الحضاري .. أصبحت جزءاً من البيئة العقلية ، للنظام الحضاري الغربي ، ومرتكزاً من مرتكزات النظام المعرفي ، وحاسة متقدمة من حواس صاحب القرار السياسي ، وجانباً هاماً من مباني الجامعات ، والمعاهد ، والمدارس .. إنها مخبرات الفحص ، والتحليل ، والاختبار ، لكل الظواهر الاجتماعية ، والنواتج الفكرية التي تمكن من التخطيط المستقبلي ، وصناعة القرار.

في الوقت الذي نرى فيه عالم المسلمين - إلا من رحم الله - لا يزال يمارس حالة الانتظار ، أو يعيش في غرفة الانتظار ، حتى تسقط الحضارة الغربية لصالحه ، دون أن يكون صالحاً مصلحاً ، والله سبحانه وتعالى يقول: (ولقد كتبنا في الزبور من بعد الذكر أن الأرض يرثها عبادي الصالحون )(الأنبياء : 105).

إن الكثير من المسلمين اليوم ، يعاني من إصابة الأمية ، التي أخبر الله عنها في أهل الكتاب ، حيث قال تعالى: (ومنهم أميون لا يعلمون الكتاب إلا أماني )(البقرة:78) .. إنهم مسلمو اليوم .

قال ابن تيمية رحمه الله : عن ابن عباس وقتادة رضي الله عنهما ، في قوله تعالى: (ومنهم أميون )، أي غير عارفين بمعاني الكتاب ، يعلمونها حفظاً ، وقراءة ، بلا فهم ، لا يدرون ما فيها..

وقوله: (إلا أماني ) ، أي تلاوة ، لا يعلمون فقه الكتاب ، إنما يقتصرون على ما يتلى عليهم .

وعن الإمام أحمد رحمه الله قال :

ذكر النبي صلى الله عليه و سلم شيئاً ، فقال: (.. وذلك عند ذهاب العلم ) . قلنا : يا رسول الله : كيف يذهب العلم ، ونحن قرأنا القرآن ، ونقرئه أبناءنا ، وأبناؤنا يقرئونه أبناءهم ؟ فقال: (ثكلتك أمك يا ابن لبيد ، إن كنت لأراك ، من أفقه رجل في المدينة ، أوليس هذه اليهود والنصارى ، بأيديهم التوراة ، والإنجيل ، ولا ينتفعون مما فيهما بشيء )! ( الحديث رواه أحمد في مسنده ، ورواه ابن ماجه في سننه ، عن زياد بن لبيد الأنصاري ، رضي الله عنه ، في كتاب الفتن ، ورواه الترمذي في سننه في باب : ما جاء في ذهاب العلم ، وقال: وهذا حديث حسن غريب).

إن الحالة السلبية ، الانسحابية ، الإرجائية ، التي يعيشها معظم المسلمين اليوم انعكست على فهمهم للدين ، لإيجاد مسوغات ، ومشروعيات لحالهم.

إنهم ينتظرون السنن الخارقة ، ويعدلون عن السنن الجارية ، ولا يحسنون فقه الكتاب ، ومع ذلك يندبون حظهم العاثر ، والله تعالى يقول: (من يعمل سوءاً يجز به )(النساء : 123).

ولعل من أخطر ميادين التدافع الحضاري ، أو إن شئت فقل : الحوار الحضاري -وما الحوار إلا صورة من صور التدافع- مشكلة تحديد المفاهيم والمصطلحات ، والمفردات المعرفية ، التي تعبر عن الثوابت الحضارية والمرجعية الثقافية ، ذلك أن المفاهيم ، والمصطلحات ، أو ما يمكن أن نعبر عنه بعالم الأفكار ، والعقائد ، هي وسائل التحصين ، وأسلحة التدافع ، وأدوات الحوار الحضاري.

لذلك أعتقد أن الغفلة عن مدلول المفاهيم الشائعة ، أو التي يراد إشاعتها في عالم المسلمين ، والسماح بالاستقرار لدلالاتها بالذهنية الإسلامية ، وتأنيسها أو الأنس بها ، يعتبر من الغفلة عن الأسلحة ، وأول مراحل الوهن ، والاغتراب ، قال تعالى: (ود الذين كفروا لو تغفلون عن أسلحتكم وأمتعتكم فيميلون عليكم ميلة واحدة )(النساء:102).

من هنا نقول: إن وضوح المفهومات والمصطلحات الإسلامية ، ومحاولة إشاعتها ، وإحيائها ، وإدراك دلالاتها ، يعتبر من الأمور المهمة في بناء المرجعية ، والتحصين الثقافي ، والانطلاق إلى ميادين التدافع والحوار ، بالزاد الكافي ، لأن المفهومات والمصطلحات الإسلامية تشكل أوعية التفكير ، وجذوع النسغ الحضاري ، الممتد ، من الماضي ، إلى الحاضر ، والمستقبل ، وتمثل خلاصات لمعطيات الوحي والعقل معاً ، إضافة لما لها من رصيد نفسي وثقافي ، واختبار تطبيقي تاريخي ، يجعلها محل ثقة واستمساك .. إنها باختصار تشكل ملامح حضارة الأمة ، وقسمات شخصيتها ، ومحصلات الفكر ، وأبجديات قراءة الهوية ، ومعالم الطريق .

لذلك فأي تنازل عنها ، بإسم الحداثة ، أو العصرية ، أو حتى مقاربتها بمصطلحات أو مفهومات الآخر ، هو تخل عن الذات ، وتوهين لقيم الأمة ، في معركة الصراع الحضاري ، وعدول عن الانتماء ، إلى الارتماء ، والسقوط لصالح الآخر.

من هنا نقول : لابد من البصارة ، والفقه ، والدقة الكاملة ، في فحص واختبار المفاهيم ، والمصطلحات السائدة ، والتعرف على منطلقاتها ، وأهدافها ، ودلالاتها ، وخلفياتها الثقافية.

ذلك أن المعركة الثقافية ، التي بدأت تتبلور لصالح الحضارة الغربية ومصطلحاتها على الساحة العالمية اليوم ، هي الأخطر ، ولئن كنا نعاني سابقاً ، من السقوط والانهزام ، والتخلف ، في عالم الأشياء ، فهذا يعني ، أننا مازلنا نحتفظ بالإمكان الحضاري ، أو نحتفظ بعالم الأفكار والقيم ، وخميرة النهوض ، لكن الخطر اليوم يكمن في التضليل أو التطبيع الثقافي ، المراد لهذه الأمة ، ومحاولة توهين قيم الحضارة الإسلامية ، ومقاربتها بالقيم الحضارية الغربية ، لضمان قبولها ومرورها إلى الداخل الإسلامي ، وذلك باستنبات كتاب ، ومفكرين ، وباحثين ، وإعلاميين ، وسياسيين ، ومراكز للبحوث والدراسات في التربة الإسلامية، مسكونين بقيم الحضارة الغربية ، ومفتونين بأشيائها ، وإنجازها المادي ، لتمكين مرورها إلى عالم المسلمين، باسم الانفتاح والحداثة ، وتحقيق المشترك الإنساني ، والعلمية ، والموضوعية ، والتجديد ، والعقلانية ، والوسطانية .. إلخ .

فالشورى الإسلامية المأنوسة ، بما لها من دلالات ، وتطبيقات ، وارتكاز عقيدي ، والتي هي في نهاية المطاف ، دين من الدين ، تصبح الديمقراطية الغربية نفسها ، مع التجاهل ، أو التجاوز الكامل ، لكل الخلفيات الفكرية لكل من الحضارتين والمصطلحين.

وأهل الذمة بكل دلالة المصطلح في السيرة النبوية والفكر والقيم ، والتاريخ ، يصبحون : مواطنين ، لا ذمِّيين ، وكأن الذمي ليس مواطناً ، يتمتع بحقوق وحماية إسلامية ، قد تتجاوز حقوق المسلم!

وفصل الدين عن الدولة ، وعزل الإسلام عن حكم الحياة ، وحصره في المساجد ، والعبادات التقليدية ، والعلاقات الفردية بين الإنسان وربه ، بعيداً عن حكم الحياة ، تُفَصّل له عملية التفريق بين الرسول النبي، الواجب الاتباع ، في الأمور العبادية البحتة ، والرسول الحاكم ، الذي تعني سنته هنا اجتهاداً يمكن تجاوزه!

والضرورة الشرعية بكل ضوابطها ودلالاتها ، التي يجوز معها ، وقف الاحكام لمرحلة ، أو لحالة طارئة ، تصبح هي المصلحة ، الموهومة الموقوته ، التي تبيح تعطيل النصوص ومحاصرتها ، ورفعها من التطبيق.

والجهاد في الإسلام إنما شرع لمحاربة الظلم ، وليس لمقارعة الكفر ، مع أن الله سبحانه وتعالى يقول: (والكافرون هم الظالمون )(البقرة : 254).

والجهاد الذي هوأعلى أنواع العبادة والتضحية ، هو من الفعل الاجتهادي والسياسات الشرعية ، وليس من شؤون العقيدة ، ومقتضيات الدعوة.

لقد غابت ، أو غيبت من حياتنا الثقافية اليوم ، مفاهيم ومصطلحات الكقر ، والنفاق ، والإيمان ، والإسلام ، والشرك ، والتوحيد ، ومصطلحات أهل الكتاب ، وأهل الذمة ، والمعاهدين ، والنصارى ، واليهود، والوثنيون، والباطنيون ، والملحدون ، والمشركون ، تماماً ، لتحتل عقولنا مصطلحات ، ومعايير، ومفاهيم ، ومقاييس ، تطبع الهزيمة ، وتقرأ الحضارة المعاصرة ، بأبجديات خاطئة ، غير إسلامية، وتتحول حياتنا الفكرية إلى استخدام مصطلحات ومدلولات حضارة الآخر.

وقد تكون المشكلة أيضاً - إلى جانب من استنبتوا في التربة الاسلامية ، ليعملوا لصالح حضارة الآخر في المجالات المتعددة - فيما يسمى : النخب العربية الاسلامية ، التي مكن لها ، لتحتل مواقع القدوة والقيادة ، والتأثير ، والتي ارتهن معظمها لتلك المفاهيم والمصطلحات الفكرية ، بسبب دراستها وتخصصاتها ، في معاهد ومدارس وجامعات الغرب ، فهي رهينة المدرس ، والمنهج ، والكتاب ، والمرجع ، والتطبيق الحضاري ، مع التوهم بأن ما تعلمته ، هو معيار عام ، لكل تقدم وإنجاز ، حضاري ، يصلح لكل أمة ، مهما كانت عقيدتها ومعادلتها الاجتماعية .. لذلك والحالة هذه ، فإن عملية الصراع أو الحوار الحضاري ، سوف تكون محسومة لصالح الآخر .

فما يسمى اليوم ندوات للحوار الحضاري بين الإسلام والغرب ، أو ندوات ، لدراسة التيارات الفكرية في العالم الإسلامي ، كالصحوة ، وتياراتها ، أو الأصولية وأسبابها ، ودوافعها وأهدافها ، وما إلى ذلك من العناوين التي باتت تملأ الصحف والمجلات ، يدعى للحوار والمشاركة ، وتمثيل الإسلام ، أو الطرف الذي يحاور عن الإسلام في هذه الندوات ، بعض العلمانيين الذين يسكنون جغرافياً فقط في العالم الإسلامي ، يُدعي هؤلاء الذين لا يمثلون الثقافة والحضارة الإسلامية، ولا يعبرون عن ضمير أمتهم ، لقلة بضاعتهم فيها ، من جانب ، ولأنهم منحازون بطبيعة دراستهم ، وثقافتهم للغرب.

لذلك فالحوار معهم ليس حواراً مع الآخر ، وإنما هو لون من النرجسية الثقافية ، والتخاطب مع الذات ، فالمؤسسات الغربية ومراكز البحوث والجامعات ، عندما تدعوهم ، فهي لا تدعو الآخر المسلم ، وإنما تدعو تلامذتها وخريجيها ، وحاملي ثقافتها ، وتحاور بهم نفسها ، وعلى ذلك فهي تزداد جهلاً بالإسلام ، والعالم الإسلامي ، وتعجز عن فهمه من الداخل ، وتكرس الصورة المشوهة ، والتفسيرات البعيدة ، عن الحقيقة ، هذا إذا أحسنا النية بأسباب الحوار وأهدافه .. كل هذا يتم اليوم باسم الحوار .

أما الحوار الحضاري أو الحوار مع الآخر ، وإتاحة الفرصة لتوسيع دائرة التفاهم ، وإبلاغ رسالة الإسلام إلى العالم ، التي إنما جاءت لاستنقاذه ، وإيصال دين الله إليه ، بأفضل الوسائل ، والمجادلة له بالتي هي أحسن ، مع مراعاة أدب الحوار وشرائطه .. فهو من الفروض الشرعية الكفائية ، التي تعتبر من مسؤولية الأمة جميعها.

وأحب أن أوضح هنا : أن الحوار مع الآخر ، وإتاحة الفرصة لتبادل الرأي ، للوصول إلى قناعات معينة ، أو للوصول إلى صيغ مشتركة ، للتفاهم والتعاون ، هو مطلب إسلامي ، وإحدى وسائل الدعوة والبلاغ المبين ، إذا توافر للحوار شروطه ، من إتاحة الفرص المتكافئة ، وتحرير موضوع الحوار ، والالتزام بآدابه ، وأخلاقه ، بل هو أكثر من مطلب إسلامي ، أو أحد خيارات المسلم ، إنه تكليف شرعي ، يقع تحت مدلول قوله تعالى: ( ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن )(النحل:125) ، ذلك أن الدعوة إلى دين الله ، وسبيله ، محلها ابتداءً : الآخر .

ولم يقتصر القرآن على الأمر بالمجادلة ، وإنما نص على أسلوبها , واشترط أن يكون بالتي هي أحسن حتى لا يكون منفراً ، وحتى يحقق الاقتناع عن اختيار ، ولا يشكل حاجزاً نفسياً يحول بين الآخر والإسلام ، خاصة أن الإسلام لا يخص جنساً ، ولا لوناً ، ولا قوماً.

وأحسب أن المبادرة بالحوار ، والدعوة إليه ، يجب أن تبدأ من عند المسلم ، وأن يكون المسلم أكثر حرصاً عليها من الآخر .. ولعلي أرى في قوله تعالى: (قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ألا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئاً ولا يتخذ بعضنا بعضاً أرباباً من دون الله فإن تولوا فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون )(آل عمران:64) ، تكليفاً شرعياً لا يخص عصراً بعينه ، ولا حادثة بعينها ، ولا يجوز أن يعتبر سبب النزول قيداً لخلود النص ، وتجرده عن حدود الزمان والمكان .. فمقتضى خلود النص يعني : أن التكليف جار وقائم في كل زمان ومكان .. والدعوة إلى الحوار ، واللقاء بالآخر ، ومحاججته بالتي هي أحسن ، وظيفة المسلم ، لإلحاق الرحمة بالناس .. وما يمتلك المسلم من قيم سماوية معصومة منزلة من رب العالمين ، وتجربة تاريخية فذة ، وشخصية حضارية وثقافية ، تجعله في موقع مكين ، يدفعه إلى الإيجابية ، وطلب الحوار ، ويجعل مكاسبه من الحوار مقدرة ابتداءً ، ذلك أن الآخر سوف يتأثر على كل حال ، وليس بالضرورة أن تظهر النتائج بشكل سريع ، فكثير من الصحابة رضوان الله عليهم سمع القرآن لأكثر من عشر سنوات ، وكان الحوار بالقرآن ، وكان المحاور الرسول صلى الله عليه و سلم الذي أوتي جوامع الكلم ، وجاء إيمانه متأخراً ، ومع ذلك أبلى في الإسلام بلاءً حسناً ، وانتصر هذا الدين على يده ، في معارك كثيرة ، فكرية ، أو فقهية ، أو عسكرية.

وكان الآخر هو الذي يتهرب من الحوار ، ويغلق منافذه ، ولعل قوله تعالى: (وقال الذين كفروا لا تسمعوا لهذا القرآن والغوا فيه لعلكم تغلبون )(فصلت:26) ، مؤشر واضح على موقع المسلم في الحوار ، وموقع الآخر ، لذلك لا أرى عذراً ولا مصلحة في إقفال باب الحوار مع الآخر أو نفيه ، أو إلغائه ، مهما كانت الأسباب ، أو ترك المبادرة له ، لتنظيم ندوات الحوار ، وتحديد أهدافه ، وموضوعه ، واستدعاء بعض الاسلاميين لملء المربعات المرسومة لهم مسبقاً ، بحيث تنتهي ندوات الحوار لتصب في مصلحة الآخر في نهاية المطاف خاصة اذا كان الإسلاميون المدعوون ممن استنبتوا على التربة الإسلامية ، وغرسوا فيها لهدف ، حيث جعلت مهمتهم توهين القيم الإسلامية ومقاربتها بقيم الحضارة الغربية ، التي تمثل الآخر في الحوار الدائر اليوم.

وقضية الحوار مع الآخر ، وإعادة النظر بمواصفات الخطاب الإسلامي المعاصر ، وأدوات توصيله ، ووسائل إبلاغه على مختلف الأصعدة ، لم تعد خياراً للمسلم ، في عصر ثورة المعلومات والاتصالات ، وتطور وسائل الإعلام ، حتى يكاد العالم يصبح قرية إعلامية صغيرة ، وحيث امتدت حواس الإنسان من خلال وسائل الإعلام ، لترى ، وتسمع ، وتستقبل ، وترسل ، إلى أقاصي الدنيا ، وتعالت الأصوات في الدعوة إلى الحضارة الواحدة ، والنظام العالمي الجديد ..

والمطروح : كيف يستطيع المسلم استشعار التحدي الإعلامي والمعلوماتي ، وامتلاك القدرة على أن يصب في هذه الأوعية الإعلامية ، المواد النافعة ، ويسجل حضوراً ، أو شهوداً حضارياً ، ويحول النقم التي تصب من فوق رأسه إلى نعم ، في إيصال الإسلام إلى الناس؟

وهنا قضية ، أرى أن إعادة التذكير بها ، في غاية الأهمية ، وهي أن الحضارة الإسلامية ، هي في حقيقتها ، وتاريخها ، ونواتجها ، حضارة إنسانية ، لا تخص جنساً ، أو لوناً ، أو عرقاً ، أو منطقة جغرافية ، أو طبقة اجتماعية ، وإن كان العرب وبلادهم هي قاعدتها ، وهم حملتها الأوائل ، لقد تجاوزت بدعوتها وممارستها كل الفوارق القسرية ، التي لا يد للإنسان في وجودها ، وجعلت معيار الكرامة ، فعلاً كسبياً ، بمقدور كل إنسان أن يرقى إليه ، وليس أمراً قسرياً لا يد له فيه ، قال تعالى: ( يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم )(الحجرات:13) .

لقد جاءت معظم آيات القرآن المكية ، تؤكد الوحدة الإنسانية ، وتحطم الفوارق التمييزية ، قبل أن يكون للمسلمين أمة أو دولة ، أو حكومة ، أو موقعاً جغرافياً ، وكانت الوحدة الإنسانية ، أو وحدة الأصل البشرية ، من المقومات الأساسية التي نص عليها الوحي ، ولم يدع مجالاً لا للمساومة عليها ، أو يسمح بتجاوزها ، وكان عطاء الوحي موجهاً إلى العالمين ، بل لقد كانت الغاية من الرسالة السماوية وإنتاجها الحضاري ، هو إلحاق الرحمة بالناس كافة ، قال تعالى: (وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين )(الأنبياء:107) ، وكان الإسلام أول من دعا إلى فكرة المواطن العالمي ، في أمة الإسلام ، والتمتع بالحقوق ، والواجبات كافة ، في دولة الإسلام ، بمجرد أن يعتنق الإنسان الإسلام ، كائناً من كان ، وبذلك انتفت عن الإسلام وحضارته إصابات العنصرية ، والعرقية ، ولوثة وعقدة الشعب المختار التي لم تبرأ منها الحضارات البشرية بشكل أو بآخر.

وبذلك فالإسلام بطبيعته يناقض التعصب ، والانغلاق , ويعتبره من الجاهلية وآفاتها ، ونخوتها ، وتعاظمها بالآباء ، وسفهها ، لأن أسوار التعصب المحتمل ، أو العارض ، لا يلبث أن يكسر بمجرد الإيمان ، والدخول بالإسلام ، بينما نرى الحضارة الغربية ، هي حضارة اللون والعرق والقوم ، رغم ادعائها بالإنسانية .. إنها توبخ نفسها بادعاء الإنسانية ، والمعيار الحضاري الإنساني ، في أكثر من موقع من العالم ، ولسنا بحاجة للتذكير ، بتاريخها الإستعماري، كما أننا لا نرى أنفسنا بحاجة إلى القراءة في واقعها وممارساتها في فلسطين ، والبوسنة ، والشيشان ، وغيرها من بلاد العالم.

والحضارة ، أية حضارة ، ترتكز إلى اللون ، أو العنصر ، أو القوم ، أو العرق ، أو الطبقة ، هي حضارة عنصرية ، أو عدوانية ، بطبيعتها وأصل تكوينها ، لا تستطيع أن تعيش بدون عدو أو عدوان ، فإن لم يوجد لها عدو حقيقي ، تصنع لنفسها عدواً ، ولو كان وهمياً ، لمعالجة مشكلاتها الداخلية ، وتوجيه أنظار شعوبها إلى الخارج ، فهي كالنار التي سوف تأكل بعضها ، إن لم تجد ما تأكله.

لذلك رأينا كيف أن عسكر الحضارة الغربية حاولوا استعمار العالم واستنفاد خيراته ، وامتصاص خبراته ، وكيف أن مصانع ، ومعامل ، وجسور ، وأنفاق بلاد الحضارة الغربية ، إنما بنيت بأموال المستعمرات ، وسواعد العمال ، الذين جلبوا ، والأرقاء الذين خطفوا من بلادهم الأصلية.

وأن أموال ، وخبرات وطاقات العالم النامي ، وعلى الأخص العالم الإسلامي ، ما تزال موظفة بشكل أو آخر لصالح حضارة الغرب .

وكيف أن هذه الحضارات العرقية العنصرية ، بمجرد أن يتوقف عدوانها على الخارج تنفجر فيها النزعات العنصرية الداخلية ، وتقوم فيها الديكتاتوريات الاستبدادية.

إن فكرة الصراع الحضاري ، أو التحدي الحضاري ، أو ما يسمى صراع البقاء للأقوى ، أو الصراع الطبقي ، هي الأساس الذي تقوم عليه الحضارة الغربية ، بمذاهبها المتعددة ، وتطبيقاتها المتنوعة .. والصراع يعني - فيما يعني - محاولة إلغاء الآخر بشتى الأساليب والوسائل ، لذلك فإن أية حضارة ، أو ثقافة ، تفتقد النزوع الإنساني ، وتقوم على العرق أو الجنس ، أو اللون ، أو الطبقة ، هي حضارة تمييز وتعالٍ بطبيعتها - كما أسلفنا - الأمر الذي يقودها إلى الاعتقاد بأن البقاء مرهون بإلغاء الآخر ، لذلك تصبح الطبيعة العدوانية ، من أخص خصائصها ، إن لم نقل : إنها في الأصل تقوم على الفكرة العدوانية ، لأنها تنظر إلى الآخر نظرة دونية ، وتحاول أن تصرعه ، وتتغلب عليه ، وهذا يستدعي استعماره واسترقاقه ، واستنفاد طاقاته ، ليبقى صريعاً .

من هنا ، قلنا : بأنها لا تستطيع أن تعيش بدون عدو ، يضمن تماسكها ، واستمرارها .. فإن لم يكن لها عدو ، فلتصنع عدواً .. وإن لم تستطع صناعة الأعداء ، لاستمرار التعبئة والمواجهة ، ترد سهامها إلى ذاتها ، فتتآكل من داخلها ، أو يتحول عدوانها إلى الداخل .

وفي ضوء ذلك ، يمكن أن نفسر دوافع الحملات الصليبية على العالم الإسلامي ، كما نستطيع أن نفسر دوافع الاستعمار الحديث ، الذي لم يختلف عن الحملات السابقة إلا بوضع الصليب ، الشعار المستفز لعالم المسلمين .. ويمكن أن نفسر في ضوئه أيضاً ، الحروب الكونية العالمية ، التي جاءت من أخطر صور العدوان وأعظمها ضحايا .. هذا على مستوى الموقف العدواني من الآخر ، ثقافة وحضارة

فإذا ما جئنا إلى الموقف العدواني ، على مستوى الذات ، فنرى أن معظم الأنظمة الفاشية ، والنازية ، والديكتاتورية ، ومؤسسات الاستبداد السياسي ، كانت من إفرازات الحضارة الغربية ، ومواليدها الشرعيين ، ولا يزال العالم يذكر نماذج المآسي الإنسانية ، من أمثال : موسليني ، وهتلر ، وستالين ، وفيردنياند ، وإيزابيلا ، ومحاكم التفتيش ، وفرانكو ، وغيرهم .. كما لا يزال يذكر مذهب ميكافيللي الذي يمثل الأساس الثقافي والفكري لحضارة الصراع الغربية .

ونحب أن نوضح أن إصابات العدوى التي لحقت بمؤسسات الحكم في العالم الإسلامي ، من حضارة الغرب العنصرية ، والتي جاءت بسبب الانسلاخ عن الإسلام ، والعدوان له ، وأفرزت نماذج لا علاقة لها بسماحة الإسلام ، وعدالته ، وإنسانيته ، هي دخيلة على الحضارة الإسلامية ، التي تعتبر الاعتراف بالآخر ، وحقه في حرية العقيدة والعبادة ، والعمل ، والاختيار .. ديناً من الدين.

وخلاصة القول : إن حضارة الغرب ، هي حضارة القوة والصراع ، وتسلط الإنسان على الإنسان ، ولو بدت على غير ذلك ، بسبب التضليل الإعلامي .. إنها حضارة جباية ، وحقد ، وعدوان ، والتاريخ والحاضر يعتبران شاهد إدانة على ذلك في مواقع متعددة .. بينما نرى الحضارة الإسلامية ، حضارة إنسانية .. حضارة رحمة ، وحب ، وهداية ، واحتساب ، واعتراف بالآخر ، وليست حضارة حقد وصراع .. هي حضارة الإنسان ، التي تدعو إلى الحوار على كلمة سواء ، وتعتمد الدعوة بالحكمة والموعظة الحسنة ، وتتنكر للإكراه في الدين ، وتبتغي إلحاق الرحمة بالعالمين ، لأن الناس كل الناس ، هم محل الخطاب السماوي .. والقوة في الإسلام ، إنما تشرع حتى تحمي حرية الاختيار وتحقيق إنسانية الإنسان.

ونعتقد أن الحضارة الغربية ، وإن استطاعت بأشيائها ، وقوتها ، أن تطفو حضارياً ، وتكسب بعض الجولات في الصراع الحضاري ، إلا أن العبرة دائماً بالعواقب ، والمآلات ، وليس بالنتائج القريبة ، فكثيراً ما حمل لنا التاريخ ، دلالات حضارية ، على أن الأفكار والعقائد ، تبقى أقوى من الأشياء والسياسات ، وأن قيم المغلوب عسكرياً ، كانت أقوى من عسكر الغالب ، وأن الحضارة الإسلامية ، هضمت الكثير من الموجات ، والاجتياحات الاستعمارية العدوانية ، وانتهى الغالب إلى اعتناق حضارة المغلوب ، وهذا ما لا نراه إلا في تاريخ الحضارة الإسلامية ، لأنها حضارة الفطرة ، حضارة الإنسان.

وقد يكون من أخطر إشكاليات الصراع الحضاري ، التي يعاني منها عالم المسلمين اليوم -إضافة إلى وجود العلمانيين ، والحداثيين المرتهنين لحضارة الآخر ، بسبب تشكيلهم الثقافي ، وتاريخهم التعليمي ، ونظامهم المعرفي ، الذين يشكلون طلائع متقدمة ، للحضارة الغربية في الداخل الإسلامي ، ويفعلون فعلهم في الإفساد ، والتخريب ، لصالح الغرب- هو في أنظمة الاستبداد ، وما يلازمه من القمع السياسي ، والظلم الاجتماعي ، التي وجدت لصالح الغرب ، بحيث أصبحت عوامل الطرد للطاقات المتميزة ، والخبرات ، والسواعد ، والأموال ، متوفرة في معظم بلاد العالم الإسلامي ، إلا من رحم الله ، وبذلك يدمر المسلمون طاقاتهم ، ويكسرون أسلحتهم ، ويكرسون تخلفهم بأنفسهم ، أو بمعنى آخر : يخربون بيوتهم بأيديهم ، في الوقت الذي نرى فيه ، عوامل الجذب ، والإغراء بالهجرة ، متوفرة في مجتمعات الحضارة الغربية .

ونستطيع أن نقول : إن خيرة الطاقات الإسلامية ، اليوم ، في العلوم التطبيقية ، والإنسانية على سواء ، مسخرة لخدمة الحضارة ، والتقدم ، والتحكم ، والسيطرة الغربية .

إن كثيرا من الجامعات ، والمعاهد ، ومراكز الدراسات ، والمخابر ، والشركات ، والمؤسسات المالية ، والاقتصادية الغربية ، تتوفر على أفضل الطاقات الإسلامية ، و تتقوى بها. ويُخشى أن تفتقد هذه الطاقات والخبرات ، انتماءها ، شيئاً فشيئاً ، بسبب أجواء الإرهاب السياسي ، والفكري ، في معظم بلاد عالم المسلمين .. وكم يبدو الأمر مذهلاً ، وخطيراً مستقبلاً ، إذا أدركنا أن الهجرة لم تعد تقتصر على الأدمغة المتميزة ، والسواعد القوية ، والخبرات المقدورة ، وإنما تتجاوز ذلك إلى هجرة الأجنة في الأرحام .. إنها قمة المأساة من الناحية الحضارية ، أن يسعى الكثير من أبناء العالم الإسلامي المنكوب بأهله ، أن يستولدوا نساءهم في ديار الحضارة الغربية ، لاكتساب الجنسية والمواطنة ، هناك ، حيث يجد الإنسان نفسه ، ولو وهماً ، يستمتع ببعض حقوقه ، ويشعر بإنسانيته ، المفقودة هنا.

وتزداد محنة المسلم ، وفتنته ، عندما يرى ، أن ما يتمتع به من الحقوق والحريات ، وسيادة النظام والقانون ، في بلاد الغرب ، مفقود تماماً في العالم الإسلامي وأن ما يقوله ، ويمارسه ، من الحرية ، في الدعوة إلى الإسلام ، في المراكز ، والحدائق ، والشوارع ، ووسائل الإعلام - على الرغم من أن هذه الحرية ، الواقعة تحت السيطرة ، بدأت تواجه اليوم بالزعات العنصرية ، التي تعبر عن طبيعة وحقيقة الحضارة الغربية - لا يمكن قوله وممارسته ، في كثير من مساجد العالم الإسلامي التي تحكمها أنظمة الاستبداد السياسي ، ويفوته أن هذا يشكل قمة الصراع ، والاستلاب الحضاري ، والغزو الثقافي.

فإذا عجز عن تجاوز الصورة ، إلى إدراك الحقيقة ، وتجاوز النتيجة إلى فهم المقدمة ، وأدرك أن حضارة الغرب ، التي تتيح له أقداراً من الحرية ، وحقوق الإنسان - لا تخرج عن السيطرة بحال من الأحوال - وأن الغرب الذي يستقبله مهاجراً ، أو لاجئاً سياسياً ، هو الغرب نفسه ، الذي يدعم أنظمة الاستبداد ، والقمع السياسي ، في كثير من بلدان العالم الإسلامي ، ويخوف من عودة الوعي الإسلامي ، ويغري باستئصالها ، ويمد الأنظمة ، بالخبرات ، والأدوات ، والمعلومات ، لتكون في مواجهة الأمة .. إذا عجز عن إدراك هذه الحقيقة ، استلب حضارياً ، وأصبح رهينة ، واقعاً في العمالة الثقافية.

حيث لابد أن ندرك أن اليد التي تمنح المسلم ، الحرية هناك ، هي اليد نفسها ، التي تمنعها هنا ، ليتم الاستقطاب ، والتحكم من جانب ، ولإعطاء دليل عملي واقعي ، على أن حضارة الغرب ، بعطائها ، تتميز عن حضارة المسلمين ، فتهفو النفوس إليها ، وتهاجر الأجنة إلى بلادها.

ولقد بلغت المحنة مداها ، وأخذت الفتنة أبعادها المرسومة ، حتى عند بعض المفكرين والأفراد الممتازين - إن صح التعبير - الذين بدأوا يشيدون بقيم الحضارة الغربية ، واحترامها للإنسان .. ولم يقتصر نقدهم ، على واقع المسلمين البائس ، بسبب انسلاخهم عن الإسلام ، لا بسبب انتمائهم له ، والتزامهم به ، وإنما تجاوزوا إلى نقد التاريخ الإسلامي ، ولم يعودوا يروا فيه إلا النقاط السوداء ، والممارسات الشاذة ، وبدأوا يعيشون عقدة مركب النقص ، أمام قيم الحضارة الغربية ، وآلياتها ، دون أن يبصروا صورتها الحقيقية ، أو وجهها الآخر ، على يد عملائها وسدنتها في العالم الإسلامي .

وأعتقد أن التحكم والسيطرة على العالم الإسلامي ، واستنفاد طاقاته ، لم تعد تقتصر على إقامة الحراسات ، والمخافر ، لمصلحة الحضارة الغربية ، ودعم أنظمة القمع والاستبداد السياسي ، والتمكين لها ، وامتصاص خبرات ، وطاقات ، وسواعد المسلمين ، وإنما تجاوز ذلك ، إلى محاولات التحكم بالمستقبل ، حتى لا تقوم للمسلمين قائمة .

إنها مرحلة التحكم بالأرحام ، والحد من النمو الديموغرافي للمسلمين ، وذلك بإقامة مؤتمرات للسكان ، والتمهيد لتشريعات ، وتوصيات ، الغاية منها الحصار السكاني ، بعد أن تحقق الحصار السياسي ، والاجتماعي ، والاقتصادي ، حتى لا تخرج الأصلاب ، وتحتضن الأرحام ، من يفكر بالخروج عن السيطرة في المستقبل .

ومن ميادين الصراع الحضاري الخطيرة ، التي لابد من التنبه لها أيضاً ، قضية الابتعاث ، وتلقي العلم والثقافة ، في معاهد ، وجامعات الحضارة الغربية ، ذلك أن الإلقاء بالطلبة في محاضن الحضارة الغربية ، دون توفير التحصين الثقافي المكين ، والوعي الحضاري اليقظ ، ودون تزويدهم بدليل التعامل مع قيم الحضارة ، وفهمها ، وحسن قراءتها ، سوف يجعل منهم ضحايا ، قد يعودون إلى بلادهم ، مشوهين حضارياً ، أو قد ينتهون ، إلى الاستيطان ، يصبحون طاقات ودماءً في شرايين الحضارة الغربية ، ويستوي في ذلك الذين يذهبون لتلقي العلم التجريبي ، والذين يدرسون الإنسانيات ، وإن كانت دراسة الإنسانيات أشد خطراً وأعظم أثراً

أما الكثيرين من الذين يذهبون لأقسام الدراسات الشرقية ، وأقسام الشريعة ، والدراسات الإسلامية ، التي أقامها الغرب لأداء رسالة معينة ، دون تحصينهم بمعرفة الوحي ، وبناء مرجعيتهم بضوابط الشريعة وعزائم الإيمان ، بشكل صحيح ، فسوف يكونون الأخطر ، في آليات الصراع الحضاري ، لأنهم ينقلبون إلى ألغام في جسم الأمة ، قابلة للانفجار في كل لحظة ، حيث يتحدد دورهم ، في نقض الأسس ، وهدمها ، وتوهين القيم ، والتشكيك فيها ، لصالح الآخر ، ذلك أن العدوان على الإسلام ، والتحدي والاستفزاز من الخارج ، يجمع الطاقات ، ويقضي على الرخاوة ، ويقوي العزائم ، ويبعث الروح الحضاري .

إنه المحرض الحضاري ، الذي يساهم باسترداد الذات ، والاحتماء بالقيم ، وتجديد الانتماء ، وتمتين الالتزام في معركة المواجهة .. وقد تكون المشكلة ، كل المشكلة هنا ، هي في تدمير البيوت ، بأيدي أهلها.

والحقيقة الأخرى ، التي لابد أن نعرض لها ، في إطار الحوار ، أو الصراع الحضاري ، هي قضية اللغة، وما تحمل من دلالات ، تعتبر أوعية للتفكير ، وليس مجرد وسيلة للتعبير ، وما تحمله وتعبر عنه ، من حالات نفسية وشعورية ، وما تمتلكه من مصطلحات ، ومفاهيم هي خلاصات لعقل الأمة , وتجاربها وخبراتها . وليس من قبيل المجازفة القول: إن اللغة هي أداة الفعل الحضاري ، ووسيلة التكوين ، والتشكيل الثقافي .. إنها وعاء الهوية ، وأداة التواصل بين الأجيال .. هي التراث ، والحاضر ، والمستقبل ، لأنها طريقة الفهم للتراث ، والتاريخ ، والقيم .. لهذا كله ، كانت ، ولا تزال ، مستهدفة من الآخر ، في عملية الصراع ، والاستعمار ، والحوار الحضاري ، فالأمة الي تلغي لغتها في المعهد ، والجامعة ، والمدرسة ، والكتاب ، والمصدر ، والمرجع ، هي أمة متوقفة حضارياً عن الامتداد والإبداع ، ومهزومة حضارياً ، إن صح التعبير ، مهما حاولنا التخفيف من آثار ذلك ، والادعاء ، بأن اللغة هي وسيلة تعبير ، وتفاهم فقط ، لا علاقة لها بالتفكير ، أو الفعل الحضاري.

ولا يستع المجال هنا ، أن نعرض لدور القرآن ، في حماية اللغة العربية ، ولماذا أنزل بالعربية ، ودور سلامة اللغة ، في إدراك مدلولات النص القرآني ، وعمليات المسخ ، والتشويه ، والتحريف ، التي لحقت بالنصوص المقدسة الأخرى ، والتمزق ، والتبعثر الديني ، والعقيدي الذي نتج عن ذلك ، بسبب سوء الترجمات التي اتسعت لسوء المقاصد والنوايا.

وسوف تستمر هزيمتنا ، ويتوقف نمونا ، ويغيب إبداعنا ، وتحاصر رسالتنا ، إلى العالم ، طالما أننا نفكر بأوعية الآخرين ، ونصب أفكارهم في عقولنا ، من خلال لغاتهم .

وتبقى قضية على غاية من الأهمية .. فإذا تقرر لدينا ، أن الحوار الحضاري ، هو سنة من سنن الله في الكون ، له مقوماته ، وآلياته ، وأدواته ، وأهدافه ، وغاياته ، وأسلحته المتعددة ، فإن فهم إدارة الحوار، وكيفيات التعامل معنه ، لا يقل أهمية عن امتلاك أدواته .. فكثيراً ما تستنزف الطاقات ، في معارك دفاعية ، غير مجدية ، بل خاسرة ، لأنها استنفاد للطاقة ، واستهلاك لها ، على حساب مواقع انتاجية أخرى .. فإذا استغرقتنا المواقف الدفاعية ، في معركة الصراع الحضاري ، وأصبح كل فعلنا ، الرد على التهم ، التي توجه إلينا ، دون وعي بآلية الصراع ، والتحكم بإدارته ، نتحول من أن نكون أحد أطراف الحوار ، المستخدمين لأدواته ، إلى أداة للحوار ، وميدان له ، ونخضع لتحكم الآخر ، بتفكيرنا ، ونشاطنا ، بحيث يصبح الزمام بيده ، فيكفي أن يلقي إلينا بالتهم ، التي يريد ، ويحدد الزمان الذي يختار ، ومكان المعركة التي تناسبه ، ونحن ما علينا إلا رد الفعل ، والاستجابة المرسومة مسبقاً ، وبذلك يتحكم بساحة تفكيرنا ، وبنوع نشاطنا ، ومجال فعلنا ، ويفقدنا زمام المبادرة ، وتصير حياتنا ، رد فعل عفوي ، بعيداً عن الفعل المختار.

إن عمليات الاستهداف ، ولائحة الاتهامات للإسلام اليوم ، ومحاولات إدانة صحوته ، وشل حركة العاملين، ومحاصرتهم ، باسم الأصولية ، والإرهاب ، واعتبار الإسلام هو العدو الحضاري للغرب ، وتوظيف كثير من الأنظمة ، والأفراد ، والمؤسسات ، يتطلب من المسلمين استيعاب الهجمة ، بعيداً عن الانفعال ، والاستجابة العفوية للاستفزاز ، والصبر ، والتبصر ، بكيفيات إدارة الصراع ، لتفويت غرض الآخر ، والتحول من أن نكون موطناً لأفكار الحضارة الغربية ، وترجمتها إلى حياتنا ، ومقاربة قيمنا بها ، إلى نقل كنوز ، وروائع ، وقيم الحضارة الإسلامية ، إلى الآخر لإلحاق الرحمة به ، واستنقاذه من التشويه العنصري والقومي ، وبذلك نسهم فعلاً في الحوار الحضاري المثمر ، وبناء حضارة إنسانية ، يكون فيها الأكرم هو الأتقى.

إن الحضارة الغربية التي انتصرت بأشيائها وقوتها ، وسقطت بقيمها وإنسانها ، يرتفع صوتها اليوم ، وترفع شعارها يومياً ، على عالم المسلمين ، وكأني بها تقول للمسلمين المهزومين : ( اعل هُبل ) ، مستخدمة في ذلك وسائل إعلامها .. ولنا أن نتصور مدى الخطورة المستقبلية ، إذا لم نكن في مستوى إسلامنا ، وعصرنا ، حيث من المتوقع ، في هذا العام ، أن يصل عدد قنوات الإرسال التلفزيوني الفضائية، إلى نحو 140 قناة ، تعمل 75 قناة منها على مدار الساعة ، أكثر من 91% منها تبثها شركات أو شبكات من أوروبا الغربية ، وأمريكا الشمالية ، واليابان ، واستراليا ، والعشر الباقية لا تخرج عن أن تكون رجع الصدى.

ولا شك أن هذا الإغراق الثقافي والإعلامي ، سوف يوقع في الداخل الإسلامي الكثير من الضحايا ، ممن ينقلبون على المفاهيم ، ويقررون الانسلاخ عن هذا الدين ، في مناخ القهر الحضاري ، ومحاولات التطبيع للهزائم .. لكن العالم الإسلامي ، المهزوم بأشيائه ، سوف يستعلي بقيمه وأفكاره ، ويواجه الغزو الذي يرفع شعار: (أعل هبل) بشعار ( الله أعلى وأجل) ، قولة أهل أحد.. وأن الهزيمة والاستفزاز والقرح ، الذي يصيب المسلمين ، سوف تؤدي إلى الاستجابة لله وللرسول ، ويتحقق الخلود لقوله تعالى: (ولا تهنوا ولا تحزنوا وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين )(آل عمران:139) ، ولقوله تعالى: (الذين استجابوا لله والرسول من بعد ما أصابهم القرح للذين أحسنوا منهم واتقوا أجر عظيم )(آل عمران:172) .

وتنبعث الروح الإسلامية من جديد .. فالاستجابة قادمة ، على مستوى عالم المسلمين ، والبشائر قائمة ، إن شاء الله .

والكتاب الذي نقدمه اليوم ، يعتبر إسهامة من الإسهامات البارزة في مجال الصراع الحضاري ، سواء فيما يفتح من نوافذ على رؤية الآخر للإسلام و المسلمين، أو بما يكشف من نوايا مبيتة لعالم المسلمين ، وصناعة للعداوات ، أو بما يقدمه من إلقاء الضوء على بعض جوانب حضارة الإسلام ، الأمر الذي يرشحها للصمود في معركة تحقيق الذات وحمايتها ، كما صمدت في الماضي ، كما يرشحها لأن تكون حضارة الإنسان البديلة ، بما تمتلك من القيم السماوية السليمة ، التي لابد فيها للإنسان ، ولا مجال معها لتسلطه على الإنسان الآخر ، وبهذه المساواة أمام الخالق الواحد التي تعتبر روح الحضارة الإسلامية سوف يتحقق التوحيد وتتوحد العبودية ، فإن حضارة الإسلام هي التي سوف تشكل البديل المأمول ، والملاذ الآمن ، للبشر جميعاً ، حيث تتحقق المساواة بين الخلق جميعاً ، وتسقط الفوارق ، التي كانت سبباً للشقوة والحياة الضنك .. والحمد لله رب العالمين.

=============

# المقدمة

باسمه سبحانه أبدأ هذا الكتاب ، مصلياً ومسلماً على أشرف المرسلين وخاتم النبيين محمد المصطفى الأمين صلى الله عليه و سلم ورضي الله تعالى عن الأنبياء والرسل من قبله وهدى المسلمين إلى سواء السبيل .. وبعد

فحين هداني الله إلى وضع هذا الكتاب الوجيز ، عن مراجع الحضارة الإسلامية ، ومواقع قوتها الفكرية، كنت في الواقع أفكر في مستقبل تلك الحضارة، وما اعتمادي على الماضي ، إلا بقصد توظيفه لخدمة المستقبل.

ولعل القاريء المعاصر ، يعلم كما أعلم -وهو يعيش معي محاور هذا الكتاب ، في حرارته السياسية والثقافية- أن تحولات عميقة تطرأ يومياً على عالمنا ، وأن هزات عنيفة تغير خريطة الكون ، وأن الأنباء تتلاحق وتتسابق صباح مساء ، لتعلن عن تغيرات جذرية في السياسة والاقتصاد والعلم والثقافة ، يساعد على الإحساس بها ، ذلك السيل الطامي من المعلومات والأخبار ، بسرعة انتقالها الآني عبر الأقمار الصناعية ، من منطلقاتها ، بأي مكان في الدنيا ، إلى أجهزة التلفزيون لدينا ، وهي في كل بيت ، كأنها القريب الحميم ، أو الصديق المقيم.

فالقاريء المعاصر عايش انتصار الثورة الإيرانية عام 1979م ، وشهد مذهولاً عام 1989 سقوط جدار برلين ، تحت أقدام الشباب الألماني ، وإعدام آخر ديكتاتور شيوعي شاوشيسكو في بوخارست عام 1990م ، وعاش حرب عام 1991م ، وحضر انهيار الاتحاد السوفيتي ، وانفلاق جمهورياته كالحب والنوى ، وانتهاء الحرب الباردة ، وتعملق الولايات المتحدة وحدها ، وانتصار الثورة الإسلامية الأفغانية ، على الطاغوت الملحد ، واتساع المد الإسلامي كعقيدة استرجاع الهوية في أغلب البلدان المسلمة ، وأخيراً انتشار العدوان الصليبي الصهيوني المشترك على الأمة الإسلامية ، وبخاصة في رافديها الهامين فلسطين والبوسنة.

تلك في عجالة خاطفة ، بعض زلازل هذه العشرية ، ارتجت من هولها أركان عالمنا بأسره ، وفرضت على المجتمع الدولي استراتيجيات جديدة ، ورؤى فكرية مبتكرة ، فاضطر العقل هنا وهناك ، إلى محاولة القراءة في كتاب الأحداث الطارئة ، وفك طلاسم الوضع الراهن ، باستنباط أصناف مستحدثة من اللغة ، والسياسة ، والثقافة ، والفلسفة ، والفن ، والعلوم.

وهكذا نشأت تطورات عديدة ، ومتناقضة لمصير الإنسانية ، على ضوء اليقظة العنيفة للقوميات ، والهويات ، والثقافات ، وحاولت الحضارة المسيحية إنقاذ هيمنتها على العالم ، من التصدع ، فاكتشفت أن القيم الرأسمالية وما يصحبها من تحررية اقتصادية وسياسية .. يمكن أن تشكل مستقبل الإنسانية قاطبة ، من هنا جاء كتاب الأمريكي الياباني ( فوكوياما ) تحت عنوان : نهاية التاريخ .

ونهاية التاريخ لدى هذا المفكر ، هي نهاية الحرب الباردة ، وانتصار الرأسمالية والتحررية ، بصورة حاسمة وأبدية ، على الشيوعية المنهارة .

أي في الحقيقة انتصار الغرب على الغرب ، لأن الرأسمالية والشيوعية ، كلاهما ثمرة من ثمار الفكر الغربي .

ألسنا اليوم ، ونحن على مشارف القرن الحادي والعشرين ، بازاء هيمنة نصرانية يهودية ، تحت ستار أحادية القوة الأمريكية ، التي لا تقهر ، وتحت شعار انصهار الحضارات كلها في قالب الغرب الظافر المسيطر؟ ألسنا نواجه كمسلمين ، محاولة تاريخية للعودة للإمبراطورية الواحدة ، التي لا تغيب عنها الشمي ؟ وريثة الامبراطورية الرومانية .. ثم البريطانية .. بعد سقوط الخلافة الإسلامية العثمانية ؟

نعم . إن انهيار الاتحاد السوفيتي ، أعلن عن قيام قوة عاتية ، لم يكن انتصارها مثل سائر انتصارات القوى التقليدية ، عسكرياً ، بل كان انتصارها بدون حرب ، مثلما قال الرئيس الأمريكي الأسبق ريتشارد نيكسون. ولم تحسم المعركة بين العملاقتين في ساحة وغى ، بل إنهما لم تتصادما مباشرة في أية أزمة حدثت ، وأكثر من ذلك فقد كانت أمريكا والاتحاد السوفيتي حليفين في الحرب الكونية الثانية ، ضد ألمانيا الهتلرية، وقوى المحور ، وانتصرا معاً وجنباً إلى جنب ، واقتسما الأرض ، إلى مناطق نفوذ معروفة معلومة .

وجاءت هزيمة المعسكر الشيوعي ثقافية وسياسية ، أو هي كما نسميها : هزيمة حضارية .

ضرب السوس في قلب الشجرة العجوز ، وخربها من الداخل ، وجدت القلعة المحروسة نفسها مشتعلة من خلف أسوارها . سقطت الأيديولوجية القائمة على الإلحاد ، وإلغاء الحريات ، وانعدام المبادرة ، ومنع الملكية الفردية ، تحت وقع الإعلام الغربي والثقافة الغربية ، حتى تشكل وجدان الشعوب السوفيتية والأوروبية الشرقية على الشوق للمدينة الأمريكية الفاضلة ، كحلم .. كمثل أعلى .. كجنة موعودة .

نعم كان الإعلام الأمريكي والأوروبي ، منذ العشرينيات ، متجهاً للرأي العام في الجمهوريات السوفييتية ، وأوروبا الشرقية ، يضرب له الأمثال بحياة المواطن الأمريكي والأوروبي ، ويظهر له تلك المجتمعات ، قمة من قمم النجاح ، والسعادة ، والرفاه ، والسؤود ، والاستهلاك ، والحرية ، والمبادرة .

وشاءت الثورة التكنولوجية والإعلامية والاتصالية ، أن تتقهقر الحدود الجمركية القديمة ، وأن تنهار الجدران ، وتذوب مساحات الجليد ، أمام الصورة بالقمر الصناعي ، عبر شاشات التلفزيون ، وشرائط الفيديو ، فهجم المثل الأعلى الأمريكي ، على المدن السوفييتية والأوروبية الشرقية ، كما يهجم نور الشمي الساطعة على السجون ، والمحتشدات المظلمة الحالكة .

ولم تجد تلك الإمبراطورية الشيوعية ، ما تقاوم به هذا الغزو ، سوى يقظة القوميات ، المخدرة منذ سبعين سنة . ثارت الأديان واللغات والأعراق ، وحلت حروب أهلية عاتية ، محل الوفاق الخادع ، والسلام الهش ، والصمت المفروض .

وبدأ العملاق الروسي يحرك جثته الحية ، من تحت أنقاض الخراب الشيوعي . هو أيضاً يتطلع بدوره للإمبراطورية القيصرية . تلك التي ظل يحملها في قلبه وفي كتبه الكسندر سلجنتستين ، الحائز على جائزة نوبل ، والمنفي في أمريكا ، والتي بدأ يعبر عنها فلاديمير جيرينفسكي بتطرف ، وبوريس يلتسين بتكتيك .

بدأ العملاق الراقد مثل أهل الكهف ، ينفض الغبار عن وجهه ويديه ويستعيد أسماء مدنه ، ورموز عظمته ، وآيات ثقافته ، وأطلق سراح تلك الجمهوريات ، التي كانت تدور في فلكه ، لتواجه كل منها مصيرها ، كما أطلق عقال شعوب أوروبا الشرقين في نوع من الذهول المدوخ .. ذهول السجين الذي خرج فجأة من زنزانته ، ولم يتعلم بعد طريقة استعمال الإرادة والحرية ، بل لم يفقه بعد طريقة استعمال حواسه الطبيعية.

وفي هذا الخضم المتلاطم من الثورات والتحولات ، فتح المسلمون أعينهم على عالم جديد ، كأنهم يكتشفون جزيرة حي بني يقظان ، وعرفوا أن الأمر جلل ، لأن عليهم أن يصمدوا بإزاء العواصف الهوجاء ، وأن يجوسوا خلال ركام الأيديولوجيات ، وتزاحم الهيمنات ، حتى ينجو بإسلامهم ، ويفرضوا هويتهم ، ويعيشوا عصرهم ، دون الذوبان في ذلك الجهاز الأعمى الصاهر المسمى بالنظام العالمي الجديد ، الذي لم توضع أسسه معهم.. بل وضعت ضدهم.

أفاق المسلمون على التحديات الجديدة المتربصة بمصالحهم، وهي تحاول التخطيط لمصادرة مصيرهم، وإخراجهم من حركة التاريخ ، فتنادوا متواصين بالحق من أدنى الأمة إلى أقصاها، وإنك لتقرأ أصداء ذلك التواصي ، فتدرك أن الضمائر استنفرت، وأن العقول شحذت، وأن الساعة دقت، لتجاوز مرحلة التواصي بالحق، إلى مرحلة العمل الصالح ، بتنسيق الجهود المتبعادة، والخروج على العالم باستراتيجية إسلامية متكاملة ، تكون الجذع المشترك لتلك الصفوات الواعية في ديار الإسلام كلها.. وما أحوجنا اليوم إلى ما يجمع ، وما أغنانا عما يفرق.

إن ما يجمعنا هو المنقذ من الضلال، إنها تلك الروح الحية المتوهجة من سراييفو بقلب أوربا، إلى تمبكتو بقلب أفريقيا ، ومن سمرقند بقلب آسيا ، إلى نيويورك ، حيث ينشط المسلمون السود بقلب أمريكا ، ومن الدوحة بقلب الخليج ، إلى نواكشوط بالصحراء المغاربية ، ومن معهد الثقافة الإسلامية ببكين عاصمة الصين الشعبية ، إلى مركز الدراسات الإسلامية بواشطن عاصمة الولايات المتحدة ، ومن إسلامبول إلى الألف جمعية إسلامية النشيطة في مدن أوربا الغربية . إنها الأشواق والطموحات والتطلعات نفسها ، تهز الضمائر وتحرك السرائر.

فانظر إلى المسلم المعاصر أينما كان . في أندونيسيا أو في السينغال ، أو في أفغانستان ، أو في الصومال ، عربيا كان في مكة المكرمة أو سلافيا قي مدينة غوراجدة البوسنية ، أو أفريقيا في لاغوس النيجيرية ، أو آسيويا في مانيلا الفلبينية . لاحظه وهو يشاهد مجازر سارييفو ، أو عدوان الصهاينة على مسلمي فلسطين ، على شاشات التلفزيون ، تكتشف تلك الوحدة المثالية الرائعة في رد الفعل ، فتقسم أنك بإزاء ظاهرة حضارية مدهشة ، منعشة ، اسمها الروح الإسلامية ، مهما اختلفت الأعراق و الألوان والجنسيات ومعدلات النمو ، ومستويات الدخل الفردي ، إنها الروح الإسلامية ، حركتها الثورة الاتصالية الحديثة ، وشحذتها هذه السرعة المدوخة في وصول الأخبار عبر الأقمار...

كانت تلك الروح الإسلامية كالجمر المتوقد تحت الرماد . كانت ساخنة حارة ، لكنها مخفية ، ولعل الناس من حولها حسبوها ميتة ، ركاماً حطاماً ، بينما هذا العصر أحياها ، بفضل آنية انتقال الصورة ، فعبارة الله أكبر التي يطلقها المجاهد الشاب من مجاهدي حماس في مدينة الخليل بفلسطين المحتلة ، تدوي في اللحظة نفسها ، بفضل ( سي. إِن.إِن ) الأمريكية ، في عائلة سودانية بأم درمان ، وعائلة تونسية بالقيروان ، وعائلة مسلمة في تركستان . في الثواني نفسها التي يرفع فيها الأذان في مدينة بيهاش البوسنية ، عبر قعقة المدفعية الصربية الصليبية ، تكون أصداؤه وصلت الجزائر وبيروت وإسلام آباد.

وأنا ذكرت محطة ( سي . إِن .إِن ) الأمريكية عن قصد ، لأقول : إِن الله سبحانه وتعالى أراد أن يجعل تلك الوسائل المعدة ضدنا، سلاحاً في أيدينا ، وأراد أن يحول بعملية إلهية ، بعض الاكتشافات التكنولوجية الموجهة لصدرونا ، إلى جنود لا نراها ، تعزز صحوتنا ، وتيسر وحدتنا ، وعسى أن تكرهوا شيئاً وهو خير لكم.

وسيكتشف القارئ ، وهو يتابع فصولي ، أن الحافز على تحرير هذا الكتاب ، هو الإجابة على الحيرة الملحة ، التي تظهر في كتابات المسلمين وغير المسلمين وهم يتساءلون عن منزلة الإسلام في عصر أعلنه الغرب -من خلال صمويل هنتينجتون- عصر صراع الحضارات ، بعد نهاية صراع المصالح ، وصراع الأيديولوجيات. فما هو سلاحنا الثقافي الاقتصادي والسياسي والاجتماعي في هذا الصراع المقبل؟ وهل أعددنا لخوضه ما استطعنا من قوة فكرية وثقافية؟

وإنني توخيت بقدر الإمكان مجادلة أفكار الآخرين بالتي هي أحسن ؟ مفضلاً إقامة البرهان على تشنج العدوان . راجياً ما يرجوه المسلمون ، وهو أن يكون بين حضارتنا والحضارات الأخرى حوار هاديء مستقيم ، لا صراع عنيف مستديم . وإن النصر الذي ننشده للمسلمين في هذا الصراع الحضاري ، ليس نصراً عسكرياً ، فنحن نأبى أن نختزل مجد الإسلام في قوة حربية ، وهو دين اتخذ السلام منهجاً ، والسلام اسم من أسماء الله الحسنى ، كما أن النصر الذي نأمله ليس طغياناً على الحضارات الأخرى ، أو إرادة هيمنة على شعوب سوانا بقدر ما هو دفاع مشروع عن أصولنا الروحية ، وثوابتنا الحضارية ، حتى نعتمدها في تحديد مصيرنا ، وصيانة استقلالنا ، وإنشاء تضامننا .

ويعلم الله جل وعلا أننا قصدنا بهذا الكتاب ، إثارة أقلام جيلنا المسلم من أهل العلم والفقه والمعرفة ، حتى نسهم في إقرار فضيلة الحوار الذكي ، الحي ، حول شؤون حضارتنا ، من مناظير مختلفة ، وبموازين متباينة ، فالحق لا يتبين من الباطل ، ولا الغي من الرشد ، إلا متى خضع الموضوع للنقاش الحر الكريم ، بما يخدم الإسلام ، وينهض بالمسلمين.

ويحضرنا ما رواه سعيد بن المسّيب عن علي رضي الله عنه قال : قلت يا رسول الله ، الأمر ينزل بنا ، لم ينزل فيه القرآن ، ولم تمض فيه منك سنة ؟ قال: (اجمعوا له العالمين - أو قال : العابدين - من المؤمنين، فاجعلون شورى بينكم، ولا تقضوا فيه برأي واحد ).

إن آفة الحضارة الإسلامية في عصرنا الراهن ، القضاء برأي واحد ، ومخالفة رسول الله صلى الله عليه و سلم في هذا الحديث ، فقد تجاوزت الدراسات الإسلامية ، إلى درجة جعلت كل صاحب رأي يريد أن يقضي به ، دون إجماع العالمين أو العابدين من المؤمنين ، ودون جعله شورى بين الناس .

باتت قلوب المسلمين شتى من جراء انعدام فضيلة الحوار ، ولعل أخطر ما يهددنا ، هو أننا نتقدم نحو الحضارات الأخرى المتكاتفة المتكافلة ، ونحن ملل ونحل ، ضرب أعداؤنا أعز ما يربطنا : ديننا .. عندما أفرغوا استقلالاتنا من محتواها الحضاري ، فلم تنجل جيوشهم الدخلية عن أراضينا ، إلا بعد أن عششت ثقافاتهم البديلة في ضمائرنا ، ولم تغادر الإدارة الصليبية المباشرة مجتمعاتنا ، إلا بعد أن فرخت بيضتها الصهيونية في وجداننا .

فكيف نحاور الحضارات إذن بدون أن نعيد قراءة مراجعنا الأصيلة ، حتى نتفق جميعاً على الأصول ، مهما اختلفنا حول الفروع . وهذا الكتاب أردته خطوة بسيطة على هذا النهج القويم ، في عالم متغير متحول ، يموج من حولنا يومياً بالأفكار والاكتشافات ، والتحديات ، وثورة الاتصالات .

وأنا موقن أشد اليقين ، أن هذا الجهد عسير ، وأن الفوز بالمقصد نادر ، ولكن الإيمان بالله سبحانه يعد المحرك الأكبر للهمم ، والحافز القوي للإرادة . فاتكالي عليه ، وإنابتي له ، فيما اعتزمت من عمل .

المؤلف

============

# أين موقعنا من صراع الحضارات؟

عصرنا الراهن عصر تحولات مدوخة ومثيرة وسريعة. عصر اتسم بالثورة التكنولوجية والاتصالية العارمة، التي لم تستطع مجاراتها ثورة أخلاقية ودينية وروحية معاصرة لها. العلم تطور بشكل مذهل، مما جعل الإنسان يكاد يفقد قواعده الروحية أمام اجتياح المادة. كأنما العالم اليوم منقسم إلى جنوب متخلف اقتصادياً وصناعيًّا وتكنولوجياًّ، وإلى شمال متخلف روحياًّ. وفي كلتا الحالتين فإن التخلف يعني الشقاء وانعدام الشعور بالأمان.

إن الجنوب المتخلف مادياًّ، والشمال المتخلف روحياً، يتعايشان في عالم واحد، تربط بينهما اتصالات حينية متكاثرة باستمرار، ويدخل العالم تدريجياً مرحلة تتصادم فيها الحضارات والثقافات، وتتحارب أنماط الحياة. الجزء المتخلف روحياً، بلغ أقصى النعم المادية، لكن الروح خواء. لم تصمد لديه المعتقدات والمرجعيات والأصول الدينية والثقافية، فتحصن بالمؤسسات السياسية الدستورية، تحميه من سطوة المجتمع التنين، بينما الجزء المتخلف مادياً استنجد بأديانه وقومياته وهوياته، يستنفرها في معركة بقاء: معركة حياة أو موت.

إن الصراع القادم بين هذين الجزئين لن يكون كما عرفناه - تقليدياً بين المصالح والأيديولوجيات فحسب، بل أغلب الظن أنه سيكون صراعاً جديداً بين الحضارات مثلما أعلنه صمويل هنتينجتون فهل سيكون النصر لهذا الجزء أم ذاك؟ ثم إن هذا الصراع الكوني المعلن، ستدور رحاه بين جزئين معوقين: الأول معوق روحياً، والثاني معوق مادياً، أي أن الأول يفتقد الغايات، والثاني يفتقد الوسائل، حسب تعبير المفكر الفرنسي آلن توران.

ونحن المسلمين؟

أين موقعنا.. وهل أعددنا لذلك الصراع ما استطعنا من قوة؟

الإجابة البسيطة هي أننا ننتمي كأمة إسلامية، إلى ما كان يسمى بالعالم الثالث، أو ما يسمى حاليا بالجنوب، أو البلدان النامية. فأغلب شعوب الإسلام وقبائله - ما عدا البوسنة والهرسك - تقع في آسيا وأفريقيا، وهما قارتان تقعان في الشطر الأقل حظاً من التنمية، والاكتفاء الذاتي والتصنيع، وهما مستهدفتان من الاستعمار والاحتلال، والاستغلال، والسلب، والنهب، على مدى قرون طويلة، كما أنهما تداولتا حضارات متميزة متعاقبة ثرية، ونشأت فيهما الأديان والثقافات، وتحركت المقاومات، وتبلورت الهويات. ونحن المسلمين بعض من هاتين القارتين، وفق الله فتوحاتنا الإسلامية إلى الامتداد على جزء هام من أوروبا منذ أول نزول المسلمين بالأندلس سنة 710م في حملة طريف، وفتحها سنة 711م على يد طارق بن زياد، بعد أن استقر الإسلام في أفريقية (القيروان).

ومن الجزيرة العربية انطلق الإسلام في المرحلة نفسها، أو قبلها بقليل، لنشر رسالة القرآن على ممالك فارس وبيزنطة، ثم تم فتح السند وغنم الإسلام البنجاب وكابول (713م) ثم شرع المسلمون يفتحون جنوبي فرنسا (714م).

فانتماؤنا كمسلمين إذن انتماء مزدوج جغرافياً، ولعلنا الحضارة الوحيدة التي تربط كحلقة وصل بين الجزء الأول والجزء الثاني. فالعالم الإسلامي الحالي يتحمل طبعاً قدره الجغرافي الصعب، لكنه محكوم عليه أن يعي قدره التاريخي الفريد. فالأمة الإسلامية تقع حضارياً بين هذا الجزء المتخلف روحياً، وذلك الجزء المتخلف مادياً، ورسالتها أن تقدم للإنسانية نموذجاً طريفاً وفذًّا من الحياة الصحيحة، تنصهر فيها الروح مع المادة في وفاق أمثل، وتمتلك فيها الوسائل دون التفريط في الغايات.

ليس هذا حلماً!

لقد تحقق في مراحل عديدة من تاريخ الإسلام ، والتقائه بالحضارات الأخرى، ونشأت دول مسلمة قوية تعددية - بالمفهوم الديني والعرقي والثقافي - متسامحة، متقدمة، ذات إيمان عميق بجوهر الشريعة، وكان سرّ عظمتها دائماً، في قدرتها على التوفيق بين الروح والمادة، بين الوحي والعقل، بين الغيب والمحسوس، بين الغايات والوسائل.

وبهذه العبقرية الفريدة التي ينبوعها القرآن والسنة، أثبتت حضارة الإسلام قدرتها على صهر الثقافات الثرية الأخرى في بوتقتها الإسلامية، وأمامنا أمثلة تاريخية عديدة، مثل نشأة الدولة المسلمة في فارس منذ معركة القادسية (633م)، ونواة الدولة المسلمة في مملكة بيزنطة منذ أن استولى معاوية على قبرص (649م) واستقرار الدولة المسلمة في المغرب ببناء مدينة القيروان (670م) ثم امتداد الفتح إلى الأندلس، وتكوين دولة مسلمة في أشبيلية (712م). كل هذه الأمثلة تعتبر فرعية كأنها أغصان الجذع أصلي هو الدولة الأم، مركز الخلافة المؤتمنة على الأمة، وقد انتقلت من المدينة المنورة أثناء حياة الرسول صلى الله عليه وسلم وخلفائه رضي الله عنهم، إلى دمشق أثناء الحكم الأموي، ومنها إلى بغداد على أيدي بني العباس، ثم ومنذ 29 مايو 1456م إلى القسطنطينية عاصمة الخلافة العثمانية، حتى 3 مارس 1924م، تاريخ إلغاء الخلافة الأخيرة وانتصار القوى النصرانية والصهيونية على آخر حصن جامع للمسلمين.

ونعود إلى مقال الكاتب اليهودي الأمريكي صمويل هنتينجتون، الذي يتوقع تطور صدام الحضارات خلال العقدين الأول والثاني للقرن الحادي والعشرين. فهو يتجاوز النظرية التي طرحها فرنسيس فوكوياما المفكر الأمريكي الياباني الأصل، والقائلة بنهاية التاريخ عند الواقع الكوني الراهن، بعد انتصار قيم الغرب الليبرالية والديمقراطية، واختفاء الشيوعية.

إن (هنتينجتون) يؤمن مثل (فوكوياما) أن التاريخ مات، والمقصود هنا هو تاريخ الحرب الباردة، والجدل القائم منذ سبعين سنة بين الاشتراكية والليبرالية، لكنه يعلن عن صراع جديد، لا بين العقائد السياسية، وإنما بين الحضارات، بل إنه يحدد مناطق التشابك الحالية، ويتنبأ بأنها ستتطور إلى ساحات صراع، بين أنماط حضارية متضادة، إن لم تكن تطورت بعد، مثل قضية البوسنة والهرسك، حيث يتقابل النموذج المسلم - وليس الإسلامي، فلكلا المصطلحين معنى خاص - بالنموذج الصربي الأرثوذوكسي.

ويعيّن هنتينجتون هذه المناطق المتشابكة فيقول: إن أهمها:

- شمال البحر الأبيض المتوسط بإزاء جنوبه (هنا تحتل المسألة الجزائرية مكاناً هاماً، مثلما رأينا في قمة الدول المصنعة الثمانية بمدينة نابولي الإيطالية 9-10 يوليو 1994م).

- جمهوريات الاتحاد السوفييتي المسلمة وجمهورياته المسيحية ( هنا الحرب الحقيقية دائرة مثلاً بين الأزر والأرمن، وبين الروس والطاجيك، وبين الروس والشيشان).

ويهمل هنتينجتون التحدي الأكبر المفروض على المشرق الإسلامي، بسبب توسع الدولة اليهودية، لا على حساب فلسطين وحدها، بل على حساب أراض عربية مسلمة عديدة، وبتطلعات استراتيجية واقتصادية وعسكرية وثقافية، تجعل في نظرنا المعركة الفلسطينية أخطر مواطن صراع الحضارات مستقبلاً، ويتجاوز حجم تلك المعركة مجرد رسم الحدود لنواة دولة فلسطينية، إلى أن يصبح مواجهة بين حق الإسلام التاريخي المكتسب في القدس، منذ الفتح الأول، وبين مشروع تشويهي دخيل، تتضافر فيه جهود الصليبية والصهيونية، لا لمجرد احتلال أرض، بل لتطويق دار الإسلام وتفجيرها من الداخل (مشروع السوق الشرق أوسطية، والنظام العالمي الجديد، ومخطط تحريف الأنهار عن مجراها، وبرامج تهويد المدن الإسلامية بفلسطين).

وإننا نعتقد أن إهمال الكاتب اليهودي لهذا الصراع القادم الحتمي، ليس بسبب نقص في ثقافته، بل هو إهمال مقصود عن أيديولوجية، لأن هنتينجتون يريد إيهام قرائه والرأي العالمي، بأن هذه المسألة محسومة، لأنه يضع الثقافة اليهودية، فيما يسميه المنظومة الثقافية الشرقية، التي يضع فيها الإسلام أيضاً، وهو ضرب من ضروب التضليل، يندرج في المخطط، بينما الواقع أن الثقافة اليهودية انفصلت في أواخر القرن التاسع عشر عن جذورها الشرقية، واندمجت في المشروع الاستعماري الإمبريالي الفكري والسياسي، ضد العدو المشترك: الخلافة الإسلامية (انظر كتاب الدولة اليهودية لثيودور هرتسل).

وهذا الكتاب الذي عربه وقدمه الأستاذان عدس وغنيم، ظل بدون ترجمة عربية منذ صدوره عام 1896م ! وهو يفصح قبل قرن، عن عملية قطع حبل السرة بين اليهودية وجذورها الشرقية، لكي تتحول إلى "الصهيونية" وتصبح رأس حربة المشروع الغربي المسيحي، لابتلاع دار الإسلام، ويشرع مهندسو الإمبراطوريات الفرنسية والبريطانية، في الترويج لمصطلح "الحضارة المسيحية - اليهودية"، وتوضع في لغات أوروبا مئات المؤلفات، وتعقد مئات الندوات، للتبشير بهذا المولود اللقيط المشوه، الذي يجمع بين الضد والضد، ويتناسى الجميع تراثاً عملاقاً من القهر والإبادة والعنصرية، والكراهية، بين المسيحيين واليهود، بدأ بالمفهوم النصراني لصلب السيد المسيح، ومرّ بكارثة إحراق اليهود في الأندلس في محاكم التفتيش مع المسلمين عام 1492م، وانتهى بفاجعة هتلر والنازية (1939 - 1945م). والعجيب أن اليهود في تاريخهم هذا، لم يجدوا ملجأً ومستجاراً إلا عند المسلمين.. وأحداث الهجرات اليهودية إلى إسلامبول، ومدن المغرب الإسلامي في القرنين الخامس عشر والسادس عشر معروفة، سجلوها بأنفسهم قبل أن يسجلها المسلمون.

إن الذي يطالع كتاب (أعمدة الحكمة السبعة) لضابط المخابرات البريطاني الذي قاد ثورة الشريف حسين، ضد الخلافة العثمانية، يكتشف بعض الحقائق التاريخية التي اتضحت أبعادها مع مرور الزمن في هذه النقطة بالذات.

فلورانس يكتب عام 1916م حرفياًّ: "لقد طلبت مني وزارة الخارجية البريطانية، أن أرسل نسخة من كل تقرير أكتبه إلى السيد روتشيلد" - أكثر اليهود ثراءاً في أوروبا، ورجل المصارف وزعيم الحركة الصهيونية الاقتصادية - ويضيف لورانس متسائلاً: "ولم أفهم بالضبط القصد من تلك التعليمات…".

هذا وقع عام 1916م، ونحن فهمنا بعد سبعين عاماً القصد من تلك التعليمات، ويكفي أن نلاحظ أن الأحداث الواقعة مباشرة بعد الثورة العربية - في الحقيقة الحجازية - جاءت كالتالي:

1916 - معاهدة سايكس - بيكو ، لاقتسام البلدان العربية.

1916 - ترقية مصطفى كمال أتاتورك إلى رتبة لواء، ومنحه لقب الباشوية.

1917 - البريطانيون يحتلون بغداد، وألنبي الجنرال الإنجليزي يحتل القدس.

1917 - كذلك وعد بلفور، بإنشاء وطن قومي لليهود على أرض فلسطين.

1918 - لورانس يدخل دمشق مع فيصل بن الحسين.

1918 - كذلك اندثار الخلافة العثمانية من كل البلدان العربية.

1920 - الفرنسيون يطردون فيصل من سوريا، ويحتلونها ويحتلون لبنان.

- البريطانيون يعلنون الانتداب - أي الاستعمار - على فلسطين وشرق الأردن والعراق.

وهل يفيد أي تعليق على هذا المسلسل الساطع الناطق؟ وهو مسلسل تمتد حلقاته إلى يوم الإسلام هذا، لكن الغلاف الخارجي، يتغير بتغير الأحوال. فالذي كان احتلالاً أو انتداباً، أصبح يسمى مقتضيات النظام العالمي الجديد، والذي كان تنصيراً مباشراً، أصبح ينعت بالتنوير، والذي كان اسمه استعمار الشعوب المسلمة، أصبح يكنّى بكنية لطيفة مستساغة، هي مقاومة الأصولية، والذي كان يعرف بالقضاء على اللسان العربي، أصبح اسمه الجديد: كونية الثقافة أو إنسانية المعرفة، ورأينا جنوداً من صلبنا وأبناء عمومتنا، تنطلي عليهم هذه المصطلحات الجديدة، فيهبون للترويج لتلك البضاعة المغشوشة، وهم غافلون، أو إن مصالحهم الشخصية الضيقة، ترتبط بالتوسع الغربي المتغطرس الفج.

منذ زمن قصير صدر كتاب المفكر الأمريكي بول كينيدي بعنوان: (الإعداد للقرن الحادي والعشرين)، وهو تأليف شامل يضم السياسة والاقتصاد والثقافة وعلم الاجتماع، في منظومة مستقبلية تطمح إلى الموضوعية، لدراسة مصير الإنسان، على ضوء التحولات المدوخة الكبرى في حياته ومواقفه.

والطريف في الكتاب أنه يفرد الحضارة الإسلامية، بفصل هام، يوضح فيه مدى قدرة حضارتنا في كسب سباق القرن القادم، وعناصر قوتها ونقاط ضعفها. ويستعرض بول كينيدي مواطن الصراعات الإسلامية الداخلية والخارجية، ويقول: إن أبرزها المعضلة الفلسطينية، ومشاكل عقائدية حدودية بين عدد من البلدان المسلمة، ومشاكل أقليات عرقية أو دينية في بعض البلدان ذات الأغلبية المسلمة..ويلاحظ المفكر الأمريكي، أن أبرز عراقيل التنمية في هذه البلدان هي عدم المواءمة بين التعليم والمجتمع، وتخريج خبرات لا توظف بعد تحصيلها على الشهادات، وعدم الاهتداء إلى مناهج حكم توفيقية في أغلب البلدان، وانشغال بعض الدول بالاقتصاد التعبوي (وضع العراق وإيران من 1980 إلى 1988م) إلا أن بول كينيدي ينتهي إلى خلاصة نعتقد أنها ذكية وحقيقية، فيقول: إن العالم الإسلامي يفتقد "ثقافة المشروع"، وهو مصطلح أمريكي يشير إلى انعدام رؤية مصيرية متكاملة، أي تحديد مسبق لغاية التنمية والتقدم، ثم السعي لتنفيذها بوسائل التربية، والمؤسسات الاقتصادية، والتطور الاجتماعي.

وينتقد الكاتب أفكار جل الملاحظين الغربيين الذين يقولون: إن أسباب تخلف العالم الإسلامي تعود إلى معوقات تاريخية وحضارية - وهم يقصدون طبعاً التفسير الاستعماري الجائر، بأن الإسلام مضاد للعلم - فيرد عليهم بول كينيدي، بأن "الإسلام ولقرون قبل النهضة الأوروبية، قاد العالم في الرياضيات وعلوم رسم الخرائط والطب، والعديد من وجوه العلم والصناعة، كما ضم هذا العالم مكتبات وجامعات ومراكز، في وقت لم تكن اليابان وأمريكا تمتلك شيئاً من هذا، ولم تكن أوروبا تمتلك إلا القليل…

وإني أردت الإلحاح على رأي هذا المفكر لما وصفه للحضارة الإسلامية من وصفة "ثقافة المشروع"، فنحن فعلاً نحتاج إلى ثقافة المشروع، لأننا في الواقع نمتلك الوسائل، فلدينا الخبرات التي ندخل بها سباق الحضارات.. وهذه الخبرات المسلمة، سبعون بالمائة منها تعمل في جامعات أوروبا وأمريكا ومخابرها، ومراكزها، وأسباب هجرتها معروفة، وحلول عودتها معروفة، وهي في أيدي أهل الحل والعقد، ورهينة اختيارات سياسية، وجامعية معروفة كذلك، والزمن كفيل بتغيير هذه المعادلة، من نزيف الأدمغة، إلى إدماج الأدمغة، وتمكينها من الإنجازات والبحث والإسهام.

والقول بأن الإسلام والتخلف العلمي صنوان، هو قول أحمق يفنده التاريخ، وكذلك الحاضر الراهن، فلم يكن للعالم نصيب من العلوم التجريبية، إلا عندما نهض الإسلام وحده، بمغامرة النفاذ إلى أقطار السماوات والأرض… وغير صحيح أنه أخذ ذلك من الثقافة الإغريقية بعد تعريبها في بيت الحكمة، لأن التراث العلمي الإغريقي تراث يتسم بالتأمل في ظواهر الطبيعة، واستقراء تحولاتها، دون النفاذ التجريبي الذي استقاه العلماء المسلمون من نص القرآن، وإعلان استخلاف الإنسان في الأرض، وحثه على السعي والتدبر والتغيير. (ذلك بأن الله لم يكُ مغيّرًا نعمة أنعمها على قوم حتى يغيروا ما بأنفسهم وأن الله سميع عليم )(الأنفال:53)، (كُلُّ امرئٍ بما كسب رهين )(الطور:21)، (وأن ليس للإنسان إلا ما سعى * وأنّ سعيه سوف يُرى )(النجم:39-40).

ويكفي القول إن كتب الطب الإسلامي ظلت تدرس بجامعات أوروبا وخاصة فرنسا إلى القرن التاسع عشر، وكذلك كتب الرياضيات ، مثل كتاب الجبر الكبير للشاعر العالم عمر الخيام، والذي توصل إلى حل معادلات الدرجة الثالثة التي نسبت ظلماً إلى ديكارت - بعد الخيام بخمسة قرون - وكان المسلمون أول من أجرى عمليات جراحية على العين، وعلى الجمجمة مثلما دلت على ذلك اكتشافات أثرية بكل من بغداد والقيروان، ومثلماً تؤكده الكتب الطبية، وكان المسلمون كذلك أول من عالج الأمراض العقلية، بما يسمى اليوم علم النفس في زمن كان المرضى بهذا النوع من العلل، يحرقون في الكنائس، على أيدي الرهبان والقساوسة، كمصابين بحلول الشيطان في أرواحهم.

وكان أول بابا مسيحي مستنير هو سلفستر الثاني، الذي رحل من فرنسا للدراسة في جامعة قرطبة الإسلامية، عندما كان راهباً بسيطاً يدعى (جربير) وعاد لوطنه يبشر بالثورة العلمية والتكنولوجية، بمفهوم ذلك العهد، حتى ظنه مواطنوه مجنونًا !

===============

# التاريخ الأكبر والتاريخ الأصغر

يرتكب أغلب المجادلين في حضارة الإسلام خطأً شائعاً وهذا الخطأ أصبح كأنه الصواب ، لكثرة ما شاع حتى انغرس في الأذهان ، وتحول إلى (حقيقة). إنه إقامة الحجة على الملتزمين بالنهج الإسلامي، بأن تاريخ الإسلام ما هو إلا مسلسل استبداد ، وسفك دماء، وانتهاك حقوق ، منذ الفتنة الكبرى إلى عهد الخلافة العثمانية، أو حتى إلى يوم الناس. وهو تفسير أيديولوجي موجه للتاريخ ، يستعمله عادة المستشرقون المغرضون، وتلامذتهم ومريدوهم من بني جلدتنا لإفحام خصومهم ومخالفيهم. ولكن على شدة ما استعمل هذا المنطق، وعلى طول تكراره ، تبناه معظم شبابنا عن حسن نية، واعتمدوه في كل جدل ، كأنما اقتنعوا به، وإنك تعثر على أثره في كتبهم ومقالاتهم ودراساتهم ، ومداخلاتهم، وهو منطق يبعث الريبة في نفوس المسلمين، ويزعزع إيمانهم ، ويحدث شروخاً في كبريائهم، ويجعلهم أذلة في اللقاءات والندوات والمناظرات.

وهكذا نجح أعداء الإسلام ، في زلزلة الإيمان في قلوب الشباب ، حينما يقدمون أمثلة الفتنة الكبرى ، ومقتل عثمان ، والحرب الطويلة ، بين على كرم الله وجهه ، ومعاوية ، كأنها هي الوجه الوحيد لفجر الإسلام ، في حين يغفلون فتح مكة ، وملحمة الشورى في السقيفة ، وهزيمة البيزنطيين في فلسطين ، وانتصار الإسلام على الفرس في القادسية ، وفتح مصر على يد عمرو بن العاص ، والقضاء على الدولة الساسانية ، وفتح أرمينيا وجورجيا ، وانتصار المسلمين في البحر على الأسطول البيزنطي في معركة أم الصواري . كل هذه الملاحم التي توشح صدر الإسلام في فجره وقعت فيما بين عام 632م ، حين التحق النبي الكريم صلى الله عليه و سلم بالرفيق الأعلى ، وسنة 656م حين قتل عثمان بن عفان ، وتولى علي بن أبي طالب رضي الله عنهما . وهي الانتصارات التي تحققت للإسلام في مطلع شمسه ، ووضع عبرها أقدامه على أرض يابسة من التمكن ، حتى أتيح له ما جاء بعدها من فتوحات . وهذه الانتصارات الكبرى ، نكاء لا نعثر لها على أثر في أغلب كتابات المؤرخين من مستشرقين وتلاميذ المستشرقين من العرب ، لأن هم هؤلاء ليس إنصاف التاريخ الإسلامي ، بل غرضهم الطعن فيه ، وفي رجاله ومؤسسيه ، واتخذوا لذلك خطة محكمة ، وهي إبراز التاريخ الأصغر على حساب التاريخ الأكبر.

التاريخ الأصغر هو تاريخ الصراع السياسي - الدموي أحياناً - من أجل القيادة والحكم.. والتاريخ الأكبر هو ذلك المد الإسلامي العظيم الواثق الذي نبع كالنهر القوي الدافق من جهاد الرسول صلى الله عليه و سلم ، وانطلق فاتحاً الأمصار وهادياً الأمم ، وحاملاً أمانة السلام والعدل ، ومؤمناً الشعوب المغايرة على حياتها ومعتقداتها وأملاكها وأعراضها.

التاريخ الأصغر هو تاريخ الرجال كأشخاص يتقاتلون من أجل سدة الحكم وهم - مسلمين أو غير مسلمين - لا يعدون كونهم أفراداً لهم نفوس بشرية لم يعلن الله سبحانه ، ولا الرسول صلى الله عليه و سلم ، أنها معصومة من الخطأ والزلل ، وأنها منزهة عن الضعف والخلل ، بل قال الله تبارك وتعالى: (ونفس وما سواها ، فالهمها فجورها وتقواها ) (الشمس : 7 - 8).

ذلك هو التاريخ الأصغر الذي تعلمته أجيال المسلمين ، وحجب عنها رؤية نور التاريخ الأكبر . تاريخ الأمة بأكملها : كيف نشأت ؟ وكيف جاهدت ؟ وكيف فتحت ؟ وكيف انتصرت ؟ وكيف سادت؟

وهذه الملاحم العظمى الخالدة ، بما فيها من شحنات تربوية ، كان من المفترض أن نؤسس عليها كبرياء أمتنا ، خلال القرون ، وقع مع الأسف اختزالها ، بل أريد لها كسوف كامل مثل كسوف الشمس وراء كوكب الفتنة الكبرى، وموقعة الجمل ( 656م ).

وهذا مثال واحد من كامل مسلسل الغش والخديعة ، الذي زيف تاريخنا وجاء من بعده مثال الصراع بين الدولة وخصومها ، وهو من باب التاريخ الأصغر، حيث غطت القصص الأدبية الملفقة ، التي حيكت عن يزيد والوليد ، على أولى انتصارات المسلمين في الهند ، وعبور جيحون إلى بلاد الترك (من 664م إلى 667م)، والحدث الحاسم المتمثل في فتح المغرب الإسلامي ، وتأسيس القيروان (670م) وبدء حصار المسلمين لمدينة القسطنطينية ، قلعة النصرانية في المشرق ( 678م ) ، وضرب أول دينار عربي (695م) واستقرار مؤسسات الدولة الإسلامية الأموية على يدي عبد الملك بن مروان.

كل هذه الأمجاد التى رسخت الإسلام ، ووطدت أركانه ، يمر عليها أغلب مؤرخينا مر الكرام ، في حين تطفو على سطح كتبهم ، ثورة المختار الثقفي بالعراق ( 685م ) ، وقصص استبداد الحجاج بن يوسف .

وهنا أيضاً ينجح التحريف التاريخي والأيديولوجي ، في إسدال الحجب السميكة على انتصارات الأمة ، بواسطة إبراز سلوك الأفراد . أي أن التاريخ الأكبر يضيع في دوامة التاريخ الأصغر.

وإن الذي يروم دراسة نهاية القرن الأول ، وبداية القرن الثاني للهجرة ( بداية وأواسط الثامن المسيحي ) ليصطدم ، بأن أخبار الوليد بن عبد الملك بن مروان ، وحاشيته ، وقصره ، تنشر سحاباً سميكاً على أحداث جليلة عملاقة منها فتح قتيبة بن مسلم لبخارى وسمرقند ، ومد السيادة الإسلامية على آسيا الوسطى (705م)، وإتمام الفتح الإسلامي لشمالي أفريقيا ، وأول نزول للمسلمين بإسبانيا في حملة طريف (710م) ، ثم فتح الأندلس ، وبداية أذكى وأثرى حضارة في البحر الأبيض المتوسط على يد طارق بن زياد (711م)، وكذلك بداية الفتوح المسلمة في فرنسا ذاتها ( 714م ) وغزو العرب للشبونة ( 716م ).

ثم تمضي في حب اطلاعك على قمة بني أمية ، في انتشار الحضارة الإسلامية ، فيهولك ما تعرض له هذا الزمن المجيد الأبي ، من طمس ، فتطفوا على سطح الكتب ، مغامرات يزيد بن عبد الملك ، وحكايات هشام بن عبد الملك التي يعوز معظمها التحقيق العلمي ، بينما تغرق في قاع التناسي المتعمد أعمال عظمى غيرت مجرى التاريخ ، مثل فتح نربونة بجنوبي فرنسا (719م)، ثم إن مجداً أثيلاً مثل بسط السلطان الإسلامي على كامل جنوب فرنسا ، لمدة ربع قرن، يندثر تماماً لكي تنفرد منه بالتعريف معركة بلاط الشهداء ، التي تواجه فيها عبد الرحمن الغافقي ، وشارل مارتال ، بسهول مدينة (بواتي) في قلب فرنسا (732 م) ، كما تندثر مناقب الدولة الأموية في دفع حركة التاريخ والحضارة باتجاه الحق والعدل ، لتنقل لنا كتب الرواة أخبار الشاعر عمر بن أبي ربيعة ، والوصلات الغنائية لمعبد ، والغريض ، وابن سريج ، وابن عائشة ، والأبجر.

أما إذا ولجنا باب الدولة العباسية منذ قيامها سنة (750م) فستندهش لتزاحم أخبار الصراع بين السنة والشيعة مع أنباء اضطهاد الفكر إلى جانب انتعاش الثورات ، وكأنما توحي إليك كتب الأدب والتاريخ بأن حضارة الإسلام تفردت بهذه الظواهر البشرية ، دون سواها من الحضارات ، بينما تشير وقائع الماضي الإنساني منذ فجر التاريخ ، إلى أن هذه سنة الله في خلقه ، وأن الإسلام جاء ليحد من نوازع الشر وغرائز الضعف ومكامن الجور ، لا ليعلن أن الأرض أصبحت جنة ، ولا ليقول : إن المسلمين أصبحوا ملائكة.

إن السر المختوم في القرآن هو أن نعتبر بالماضي وأن نتعظ بالقرون الخوالي ، وأن نتدبر حركة التاريخ، ونشوء الحضارات ، ونتأمل الأسباب ، ونربط بينها وبين النتائج . ولذلك نؤمل أن نعتمد التاريخ الصحيح للحضارة الإسلامية ، لا أن نعتمد التاريخ المحرف ، الذي وصلنا أغلبه عن طريق رواة الأدب ، وهم صناع أساطير ، ومثل من يأخذ عنهم اليوم ، كمثل من سيأخذ بعد ألف سنة عن أجهزة إعلام الغرب الراهنة لدراسة الإسلام في القرن العشرين . ومن تلك المرحلة العباسية ، خذ مثال غياب الغزوات الصيفية لبلاد الروم ، بعد تأسيس مدينة بغداد ، من كتب التاريخ الأدبي ، وتعويض هذه الأحداث الجسام ، بأخبار المغنية دنانير ( من 766 إلى 780م ) .. وخذ مثال طغيان التصادم بين الفكر الإسلامي الحر والدولة العباسية ، على المنعرج الثقافي الحاسم المتمثل في حركة إعادة إحياء الفكر اليوناني ، وتعريب أمهات كتب الفلسفة والعلوم الإغريقية ، ومن ثم إثراء الثقافة الإسلامية وقيامها بدور ريادة الثقافة الإنسانية من ( 800م إلى 850م ) أي من نكبة البرامكة على يد هارون الرشيد إلى نكبة القاضي أحمد بن أبي داوود على يد المتوكل.

ونحن إذا واصلنا هذا الجرد المختزل لتاريخ الحضارة الإسلامية ، فمررنا إلى الدولة الزيدية بجنوب بحر قزوين ، ثم باليمن ، وإلى الدولة الصفارية بشرقي فارس ، وإلى الدولة الطولونية في مصر ، والدولة الطاهرية بفارس ، ثم الدول المتعاقبة بالأندلس ، بإماراته المتناحرة ، ثم عددنا الثورات المتلاحقة ، التي تعز عن الحصر ومنها ثورة الزنج ، وثورة القرامطة ، لو قمنا بعمل كهذا ، لما كفانا جبل من الورق ونهر من المداد ، ولكننا أردنا بعرض أمثلة من القرون الأولى لانتشار الإسلام ، لندلل على أن هناك تاريخاً كبيراً ، وتاريخاً صغيراً لحضارة الإسلام . تاريخ أكبر صنعته الأمة في مسارها الواثق نحو الفتوح والتوسع ، وتأليف القلوب ، وتاريخ أصغر ، صنعه رجال بعينهم . فتشكل التاريخ الأكبر على مستوى الإسلام ، وإرادة الله سبحانه في تعمير الأرض ، وإنشاء المصالح ، وإقامة العدل ، في حين تشكل التاريخ الأصغر على مستوى القصور والبلاطات ، ولذلك اتجهت إليه أضواء الكشف ، وتناولته ألسنة الرواة والقصاص ، وأقلام المبدعين ، وقصائد الشعراء ، ونفخت فيه الفطرة الشعبية بالتضخيم والتهويل حتى اختلط مع مرور الزمن ، وبعد المسافة ، ما هو تاريخ محض ، بما هو خيال محض ، وانطلت على أبناء جيلنا المسلم أغلب الروايات ، فلم يعودوا يرون في تاريخهم ، إلا ما ظهر منه ، أي تعاقب الفتن وتواصل المحن ، غافلين عما صنع عظمة هذه الحضارة ، أي عبقرية الأمة ، المتمثلة في إجماعها.

نحن بصدد عرض ما بيد الحضارة الإسلامية من عناصر القوة والمنعة ، وهي تدخل صراع حضارات معلن ، لا بصدد تقديم كشف عن مآثر الإسلام ، فهي والحمد لله كالشمس تضيئ العالم ، وتبعث فيه الحياة ، وتجدد لديه الأمل.

ولذلك ننتقل إلى استخلاص فكرتنا الأساسية التالية:

ماذا لو اعتبرنا أن تاريخ الإسلام الحقيقي ليس هو التاريخ الأصغر ، الذي يدور في فلك الأفراد من خلفاء وملوك ووزراء ، ولكنه التاريخ الأكبر الذي صنعه إجماع الأمة في ملاحمها الفتوحية بالأمس ، ويصنعه إجماع الأمة اليوم ، بمقاومة الدخلاء ، واستعادة الهوية ، واسترجاع الأصول؟

ماذا لو أعدنا النظر جذريا في مادة التاريخ ، فاعتززنا بالملحمة الفكرية وبالمغامرة الثقافية اللتين فجرتا عبقرية الأمة ، منذ فجر الإسلام إلى يوم الناس ، عوض أن نحصر تاريخ الحضارة الإسلامية في التاريخ الأصغر : تاريخ الإنسان الفرد باستبداده وقمعه وجبروته ، وضعفه وخيانته ، واستحلاله ما حرم الله ، عبر أحداث السياسة وتقلبات الملك؟

ثم ماذا لو اعتبرنا أنفسنا كمسلمين أمناء على رصيد الإجماع الإسلامي، وخزنة لذلك التراث العظيم، غير مسؤولين كأمة ، عن سلوك الأفراد مهما كانت مراتبهم ومهما علت مواقعهم؟

ونحن عندما ندعو لهذ الاتجاه لا نأتي ببدعة من عندنا ، بل نستخلصه من عبقرية الإسلام . فالإسلام هو دين الحضارة الإلهية ، أي ان عماد حضارتنا هو القرآن ، بما أنزل من تشريعات ، حدّت من تطرف الإنسان الفرد ، فعقلت يديه عن الطغيان بالضرورة ، ووضعت اجتهاده في كنف تلك التشريعات المنزلة .. وبعكس الإسلام ، كانت وما تزال الأمم غير المسلمة تعتمد على تشريعات بشرية فردية ، تحمل أسماء الملوك الذين وضعوها ، أو أوحوا بها لمن وضعها ..

يقول الدكتور أحمد حمد : ( عندما أراد حمورابي قبل الميلاد بعشرين قرناً ، أن يضع تشريعاً يسير الناس عليه في معاملاتهم ، جمع العلماء وأمرهم ، أن ينتهوا من وضع هذا التشريع في مدة حددها لهم .. ثم في عهد جوستنيان ، أي في النصف الأول من القرن السادس الميلادي ، صنع جوستنيان هذا الصنيع مع العلماء .. ثم في أوائل القرن التاسع عشر الميلادي ، يأتي نابليون ليصنع هذا الصنيع كذلك مع العلماء .. وأدل دليل على ذلك ، أن هذه التشريعات التي صدرت بمجهود العلماء ، لا تنسب إليهم هم ، بل تنسب إلى هؤلاء الحكام ، فيقال : تشريع حمورابي ، وتشريع جوستنيان ، وتشريع نابليون .. ولم يحدث في أي عصر من العصور ، أن ينسب تشريع ما إلى حاكم من المسلمين ، فإن الشرع هو شرع الله ، والفقهاء إنما يجتهدون ثم يجمعون على ما يرضي الله من حكم ..

ولقد كان اهتمام الأمة بالعلماء ، وتعظيم شأنهم ، أن جعلوا اتفاق المذاهب على حكم في مسألة من المسائل إجماعاً ، يؤخذ به مأخذ الاتباع والالتزام ، فاتفاقهم حجة ، ونسبوا كل مذهب من هذه المذاهب إلى صاحبه لا إلى الحاكم الذي كان في عهده ، فقالوا : مذهب أبي حنيفة ، ومذهب مالك ، ومذهب الشافعي ، ومذهب أحمد بن حنبل ، بل إن الحاكم هو الذي ينسب إلى المذهب إذا مال إليه ، فيقال : هذا الحاكم حنفي ، والآخر كان شافعياً وهكذا .. ) .

نحن إذن بإزاء جوهر من جواهر الحضارة الإسلامية . فالإجماع هو المصدر الثالث للشريعة بعد القرآن والسنة ، وهو كما أسلفنا يعتمد اتفاق المسلمين أو أهل الحل والعقد منهم - حسب تعريف الغزالي، والرازي ، والآمدي - وهذا الجوهر الإسلامي ثابت من الثوابت عبر تاريخ الحضارة الإسلامية مهما اعتراه من خلل ، عندما استبد بعض الحكام ، فاضطهدوا بعض رجال الفكر والاجتهاد والصلاح . بل بالعكس ، إن تاريخ اضطهاد الأئمة والعلماء لعبرة لمن يعتبر ، إذا ما درسنا عاقبة الطغاة ، وكيف هبت ريحهم ، وانهار بنيانهم ، وزالت دولتهم ، وخسف الله سبحانه بهم الأرض ، وبقي فكر العلماء ، وإجماع المجتهدين ، آية من آيات الإسلام ، وحجة من حججه ، ونبراساً هادياً للأمة بالأمس واليوم وغداً.

فالرأي عندي أن تنطلق صحوة الإسلام المباركة من عملية إعادة قراءة تاريخ الإسلام ، فنغير جذرياً من اعتباره تسلسل الدول فحسب ، إلى اعتباره تسلسل المدارس الفكرية ، والمذاهب الثقافية على مدى القرون. فالمنظور التقليدي السائد اليوم في دراسة التاريخ ، هو المنظور الأوروبي الذي يضع الحدث السياسي في قمة قراءة التاريخ ، ولا يكون الحدث الفكري إلا ثانوياً أو فرعياً ، وهو منظور لعله ينفع في التاريخ الأوروبي ، لكنه منظور قاصر في التاريخ الإسلامي . فإذا كانت السياسة تحدد الفكر في أوروبا ، نظراً لأسباب تاريخية ، ودينية ، وجغرافية ، واجتماعية يطول شرحها ، فإن الفكر هو الذي يحدد السياسة في العالم الإسلامي ، حتى لو اصطدم ذلك الفكر بالبلاط .

ويجدر بنا إذا أن نعيد الاعتبار لتاريخ الأفكار في الإسلام ، ونتبنى من ماضينا ، ما تعاقب من علماء وفقهاء ، وأئمة ، ودعاة ، وحكماء ، لنتخذه موروثا شرعياً لجيلنا المسلم في القرن الحادي والعشرين ، منه نستمد طاقة الاجتهاد ، ورصيد المواجهة الحضارية ، وعليه نؤسس الصحوة المباركة .

وقد أخطأت كتب الأدب وتصانيف الرواة في حق الحضارة الإسلامية عندما أرخت للملوك وحاشياتهم ، وجيوشهم ، وفتنهم ، وصراعهم على سدة الحكم ، في حين أهملت تاريخ الفكر ، والمفكرين ، والمناظرات ، والمدارس الثقافية ، مقتصرين في أحيان كثيرة على الشعر والشعراء ، بسبب دوران الشعراء في فلك الملوك والخلفاء ، وتناولهم في المدح ، والهجاء ، لخصائص الملوك وأعدائهم ، وانقسام الشعراء في كل العصور إلى أحزاب تناصر هذا ، وتحط من قدر ذاك .

ثم إن الشعر بهذا المعنى لا يكون ديوان العرب ، بل المرايا المضللة ، والمحرفة ، لواقع العرب ، وبالتالي لحضارة الإسلام .

وإذا أخذنا مثلاً واحداً من أمثلة عديدة ، لتأكدنا من صحة هذا الرأي . فالكتب التي تناولت نهاية عهد المعتصم بالله ، وعهد الواثق ، وعهد المتوكل ، وبداية عهد ابنه المنتصر ، تكاد تنحصر في ذكر الصراع الدموي داخل الأسرة الحاكمة ، وما صاحبه من مؤمرات القصر المتلاحقة ، دون التطرق الكافي إلى التدخل المكثف بين قضايا الحكم ، وقضايا الفكر في ذلك الجزء من القرن التاسع الميلادي .. فمنذ إنهاء محنة خلق القرآن ، ازدهرت المدرسة العلمية التطبيقية على يدي العالم الرياضي الخوارزمي ، وتنامي علم الجغرافيا على يدي ابن خرداذبة صاحب كتاب ( المسالك والممالك ) ، وتشكلت المدرسة الفكرية التي أسميها بالموسوعية ، على يدي الجاحظ بكتب الحيوان ، والبيان والتبيين ، والبخلاء ، والرسائل المعروفة ، وجاءت مساهمات عبد الله بن المقفع ، في الفكر السياسي ، بكتب كليلة ودمنة ، والأدب الكبير ، والأدب الصغير ، ورسالة الصحابة .. ثم ازدهر الفتح الإسلامي ، حتى بلغ روما ، وكاد يدخلها المسلمون ( 846م ) ، ووضع الإسلام يده على جزء كبير من بيزنظة .

ونحن نشعر بمزيج من المرارة ، والانكسار ، حينما نجد أن كتب السير الأدبية التي تحدثت عن هذه المرحلة الثرية الحاسمة من تاريخ الإسلام ، إنما اكتفت بتقديم المسرح البلاطي والأدبي - عادة الشعري والغنائي - ولم تفلح في رسم خارطة العمران البشري الإسلامي ، في عهود أربعة ملوك مع الامتدادات السياسية والمعرفية ، والروحية ، والفلسفية ، التي تساعد على دراستها والاعتبار بخصائصها . وإذا كان هذا حال كتب وضعها معاصرون لتلك المرحلة ، مثل كتاب ( طبقات فحول الشعراء ) ، لمحمد بن سلام الجمحي ، فما عسى يكون حال كتب جاءت بعد تلك المرحلة بعشرات بل ومئات السنين ، مثل كتاب الفهرست لابن النديم ( 988م ) ، أو كتاب زهر الآداب للحصري القيرواني ( 1022م ) ، أو كتاب طوق الحمامة لابن حزم ( 1027م ) ، إلى آخر الكتب الأدبية والتصنيفية المعروفة ، التي جاءت بعدها ، وشكلت - مع الأسف - مراجع أساسية لدراسة الحضارة الإسلامية , وخاصة بأقلام المستشرقين ، وتلاميذهم العرب . فدرج المؤرخون المسلمون وغير المسلمين - وبعضهم عن حسن نية - على استقاء مراجعهم من الكتب الأدبية ، وأغلبها مكتوب في بلاطات الملوك ، والأمراء ، بقصد تسلية ذوي النفوذ ، وأصحاب السلطان ، لا بقصد دراسة التاريخ والاعتبار به . فهذه الكتب ذات قيمة فنية متميزة ، ولكنها تاريخياً لا تعدو أن تكون أجزاءاً ملحقة بكتاب ألف ليلة وليلة.

وهذا الخطأ الفادح ، ليس مقصوراً على القدماء ، بل إن المعاصرين يرتكبونه ، ولكن عن سوء نية ، وخبث مقصد . فإنك لو قرأت كتاب ( الخلافة الإسلامية ) للمستشار محمد سعيد العشماوي ، لعثرت في الهوامش على أغلب التصانيف الأدبية المذكورة ، كمراجع أساسية لدراسة الخلافة الإسلامية . وفي هذه الحالة كما في غيرها ، فإن المطلوب إثباته _ أيديولوجياً - هو بطلان الخلافة الإسلامية ، ودموية الماضي الإسلامي ، وبالطبع اقتناع المسلمين بأنه ليس بالإمكان خير مما كان ، وأنه محكوم علينا بالتبعية لقوالب الغرب ، وأشكال نظامه ، وسائر شؤون حياته ، حتى نكون ( مجتمعات مدنية ) ، وشعوباً محبة للسلام)!

ونحن لن نكون في واقع الأمر سوى أمم مغلوبة ، تابعة ، لا كبرياء لديها ، ولا ذمة ، ولا سيادة . وقضية المستشار العشماوي ، تتجاوز مجرد إبداء الرأي ، إلى كونها إسهاماً في صنع الهزيمة الحضارية للإسلام ، بأيدي الذي أسهموا في هزيمته السياسية ، والعسكرية ، منذ 1967م تحت شعار القومية العربية.

============

# الفتنة ونشأة الفكر السياسي الإسلامي

رأينا في الفصل السابق ، كيف أن تاريخنا الإسلامي ، يصلنا أعرج معوقاً ، بعد مروره بالمحرفين من الحاشيات المتعاقبة على البلاطات ، وعرفنا كيف يكيد المعاصرون لتاريخنا بالطعن والتشكيك ، وقد نجحوا في ذلك العمل التخريبي بعض النجاح ، بتوجيه ذكي مخطط من أجهزة الإعلام والاستعلام المعادية ، حتى إن اسم الإسلام أصبح يعني لدى بعض الشباب ، العنف . والغريب المدهش أن أبناء الحضارة الغربية ، الذين رسخوا هذه المغالطة في أذهان الرأي العام ، ينتمون إلى الحضارة نفسها التي فجرت على مدى جيل واحد (ثلاثون عاماً) من 1914م إلى 1944م حربين عالميتين، راح ضحية أولاهما ثلاثون مليوناً من البشر ، وراح ضحية الثانية سبعون مليوناً من البشر ، وانتهت هذه الأخيرة بفاجعة نووية ، مسحت من على الأرض مدينتين كاملتين ، هما هيروشيما وناجازاكي باليابان . وهذه الأحداث ليست من عصر ما قبل التاريخ ، بل إن ( أبطالها ) وضحاياها ، ما يزالون يعيشون بيننا إلى اليوم .

والفكر المادي الغربي ، هو الذي أباد شعوباً كاملاً ، كان آخرها شعب سكان أمريكا الأصليين ، الملقبين بالهنود الحمر ، منذ عام 1492م إلى أواسط هذا القرن العشرين ، وكذلك الملحمة الدموية المريرة للتجارة بالعبيد الأفارقة ، بعد اختطافهم من أدغالهم ، وقبائلهم ، مما يمثل اليوم وصمة عار على جبين أوروبا وأمريكا . وأقرب إلينا تاريخياً محاولة إبادة ستالين لمخالفيه التي قدر عددها المؤتمر العشرون للحزب الشيوعي السوفييتي نفسه ، بخمسة ملايين ضحية في ثلوج سيبيريا ، ومحاولة إبادة شعب فيتنام ، الذي افرغت طائرات أمريكا على رؤوس أبنائه قنابل توازي ما أفرغ أثناء الحرب الكونية الثانية ، على أوروبا بأسرها . وجاءت المأساة الاستخرابية المسماة زوراً بالاستعمارية ، فأظهرت للإنسانية بشاعة الفكر الغربي العلماني ، الذي استحل دماء الشعوب المستضعفة وأراضيها ، وخيراتها ، فسخرتها القوة العمياء لخدمة ازدهار الغرب ورفاهيته ، وزيادة استهلاكه.

وإنك لو قلبت تاريخ القرون الخمسة عشر من الحضارة الإسلامية ، على كل الوجوه ، لما عثرت على أمثال هذه المذابح ، والمجازر ، التي حدثت في الغرب ، انطلاقاً من الفكر الغربي ، أو من انحرافاته.

ونحن حين نذّكر بهذه الحقائق ، فبقصد إبطال مفعول السحر الزائف ، الذي أعمى عيون جيلنا المسلم ، لينظر إلى تاريخه بدون عقد أو مركبات نقص ، وليعرف أن ما يميز حضارته الإسلامية ، هو الفكر المضاد للفكر الرسمي ، الذي ساد عبر التاريخ . فكل سلوك بشري في الدول الإسلامية المتعاقبة ، مال إلى الاستبداد ، وخرج عن الشريعة ، واجه فكراً إسلامياً حراً ، كان بمثابة كفة الميزان الشعبية الأخلاقية المرجعية ، لإعادة الحق إلى مجراه ، والعدل إلى منتهاه ، ورد الباطل عن هواه.

إن رصيد الإسلام من الفكر الحر المتمسك بالشرع والحق ، هو الذي صنع التاريخ الأكبر ، تجاه سلوك الاستبداد ، والظلم الفردي أو الرسمي ، الذي صنع التاريخ الأصغر . وذلك الرصيد المجيد ، هو المخزون، الذي يخوض به الإسلام صراع الحضارات ، في صورة حدوث صراع ، أو يدخل به حوار الحضارات، في حالة الجنوح للحوار.

وفي البدء كان فجر الإسلام ، التحم التاريخ الأكبر مع التاريخ الأصغر ، لصيانة أعظم تحول طرأ على الحضارة الإنسانية ، بظهور الإسلام وانتشاره السريع ، وتغيرت الخارطة البشرية في محيط يبلغ قطره حوالي ثمانية آلاف كيلومتر ، في ظرف جيل واحد ، شرقاً وغرباً ، وجنوباً وشمالاً.

في البدء كان فجر الإسلام

وإنك إذا قرأت الأغلبية من كتابات المستشرقين ، أو تلاميذهم العرب ، لوجدت تسليط الأضواء على الفتنة وتبعاتها ، أي على التاريخ الأصغر ، وذلك لإثارة النقع على التاريخ الأكبر : تاريخ الفتوحات الزكية ، والبطولات الجبارة .

يعدد الدكتور شعبان محمد إسماعيل الخلافات بين الأشخاص في فجر الإسلام ، كما يلي:

أول خلاف : لم يتفق المهاجرون والأنصار على منصب الخلافة في سقيفة بني ساعدة ، بعد التحاق الرسول صلى الله عليه و سلم بالرفيق الأعلى.

ثاني خلاف : اعتزال على رضي الله عنه وبعض الصحابة وأهل البيت ، الدخول في البيعة .

ثالث خلاف : تفرق الكلمة في عهد أبي بكر الصديق رضي الله عنه حول المرتدين ومانعي الزكاة .

رابع خلاف : تغلب الرحمة على الحزم ، واللين على الشدة ، في عهد عثمان رضي الله عنه ، مما أعان على استرسال الغواية .

خامس خلاف : مبايعة على رضي الله عنه في غمرة مقتل عثمان رضي الله عنه.

سادس خلاف : قضية التحكيم الشهيرة بين علي رضي الله عنه ومعاوية.

سابع خلاف : ظهور الفرق الثلاث نتيجة للفتنة:

(أ) جمهور الأمة ، الذي يرون وجوب الطاعة لولي الأمر.

(ب) أنصار علي رضي الله عنه وأهل البيت ، القائلون بأحقية علي في الخلافة.

(ج) الخوارج ، الذين عارضوا هؤلاء وأولئك.

في البدء إذن كان فجر الإسلام متفجراً بهذه الخلافات ، لكن القراءة المنصفة للفتنة الكبرى لا تختزل فجر الإسلام في أحداثها ، بل تحاول أن تستخلص عبرها السياسية والفكرية التي ساعدت على انتشار الإسلام .

وهذه القراءة لا تتاح إلا متى جردنا الأحداث عن رداء التزوير والتهويل الذي ألبسته كتب الأدب المتعاقبة للتاريخ المحض ، فأضفت عليه صفات أسطورية تراكمت مع مر القرون ، حتى خبا وهج اللهب الإسلامي، تحت أكوام الرماد الخرافي.

وإنك لو حللت كل خلاف من الخلافات المذكورة ، لوجدته منطلقاً لمدرسة فقهية أو شرعية ، كان لهما فضل فيما بعد في تجسيم الفكر الإسلامي الخصب الممتد عبر خمسة عشر قرناً من مجد الإسلام إلى يوم الناس هذا.

فالخلاف الأول : وقع والرسول الكريم صلى الله عليه و سلم لم يزل مسجى في بيته لم يوارى الثرى بعد ، وهو خلاف يدل على حيوية المسلمين الأقدمين ، وميلهم إلى استعمال عقولهم ، في أشق فترات التوهج العاطفي ، وإنك إذا راجعت وقائع حوار السقيفة لأيقنت أنك بإزاء مجلس شورى حقيقي ، حر ذي صلاحيات نسميها اليوم دستورية ، أين منه أغلب المجالس الراهنة . فالخلاف بين المهاجرين والأنصار كان في الحقيقة شعورا حاداً بالمسؤولية ، لدى أوائل المسلمين ، نظراً لثقل الأمانة وأهمية قضية الاستخلاف . فالسقيفة ليست شقاقاً بقدر ما هي مرجع للشورى الخالصة المتميزة في الإسلام . ثم إن هذا الخلاف انتهى بإجماع . والإجماع هو الأصل الإسلامي لحكم الأغلبية ، دون قهر الأقلية . وهي ميزة يختص بها تاريخ الإسلام دون غيره من الحضارات.

أما ثاني خلاف : أي اعتزال علي رضي الله عنه البيعة ، فإنه يضع أسس التوازن في الحكم ، وهو مصدر أصلي من مصادر الفكر السياسي الإسلامي . ألم يصفق المثقفون المعاصرون اليوم لثنائية المسؤولية ، بين أهل الحكم ، وأهل المعارضة في نطاق سنة الحوار والتداول ؟ كان ذلك هو جوهر اعتزال علي رضي الله عنه : منع الانفراد بالسلطة ، وإيجاد توازن حي ، بين صاحب الأمر ، وصاحب الرأي ، والحفاظ على إمكانية التداول . وهكذا يجب أن نقرأ هذا الخلاف.

ويأتي الخلاف الثالث : ليكرس الشورى في أروع معانيها ، إذ تعتمد على تفسير ثاني مصادر التشريع أي السنة ، ولا تعتمد على الهوى . فقد حدث في عهد الخليفة الأول أبي بكر رضي الله عنه ، أول نكوص عن الالتزام بأحد ثوابت المجتمع الإسلامي ، وهو الزكاة ، مما أذن ببداية زعزعة ذلك البناء الجديد ، في زخم تحديات داخلية وخارجية متراكمة . فالزكاة إحدى قواعد الإسلام الخمس ، كما أنها ركيزة الدولة الإسلامية الناشئة ، والمساس بها يعد بالطبع ردة عن الدين ، وتدميراً للمجتمع الفتي.

لكن الذي وقع ، كان حواراً فقهياً وسياسيا ، بين أبي بكر وعمر رضي الله عنهما ، فكان الخليفة الأول يرى وجوب قتال مانعي الزكاة ، بينما يرى عمر ألا يحاربوا ، متمسكا بحديث رسول الله صلى الله عليه و سلم: (أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله فمن قال لا إله إلا الله عصم مني ماله ونفسه إلا بحقه ، وحسابه على الله ).

فبين أبو بكر لعمر ، أن الزكاة من حق لا إله إلا الله ، قائلاً: (والله لأقاتلن من فرق بين الصلاة والزكاة ، فإن الزكاة حق المال ، والله لو منعوني عقالاً كانوا يؤدونه إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم لقاتلتهم على منعه ). فقال عمر: (فوالله ما هو إلا أن رأيت الله قد شرح صدر أبي بكر للقتال فعرفت أنه الحق ).

وأجمع القوم على رأي واحد ، وتمت محاربة مانعي الزكاة ، ونجا الإسلام في صدره من فتنة محققة.

إنها تجليات أخرى مرجعية لسماحة الحوار وآدابه ، وانطلاق الخلاف الفقهي من نص القرآن أو السنة المطهرة ، كمصدرين للتشريع قبل الإجماع.

ونأتي إلى الخلاف الرابع ، حول أهم وأخطر مسألة من مسائل الحكم ألا وهي حدود صلاحيات الحاكم ، وضوابط المسؤولية ، ووضع الفواصل الشرعية والقانونية بين المصالح الشخصية والأسرية ، ومصالح عامة المسلمين . وهذا الصنف من الخلاف نراه مؤسساً للفقه السياسي في الحضارة الإسلامية ، نعتز بسبقنا فيه على الحضارات كافة ، حتى وإن كان عنيفاً بالدرجة التي جرت ضمنها الأحداث . وإننا لسنا بصدد إفراد حادثة اغتيال عثمان رضي الله عنه ، بالحديث المطول ، فالكتب التي خصصت للفتنة الكبرى كثيرة ومتنوعة بل تكفي إشارتنا لعمق الجدل الفقهي السياسي ، الذي دار على ألسنة أسيادنا الصحابة الأجلاء في ذلك العهد ، قبل وأثناء وبعد حادثة اغتيال ثالث الخلفاء رضي الله عنه . فقد أثيرت في ذلك الجدل أدق قضايا الفكر الاجتماعي والاقتصادي ، وأكثر مشكلات الحكم تعقيداً وتشعباً ، إن في تقويم تصرف ذي النورين عثمان رضي الله عنه ، وإن في الحكم على تصرف مغتاليه . وإنك لظافر في هذا الجدل ، بأبرز أسس علم الاجتماع والفلسفة السياسية ، وفقه المعاملات ، وحتى القانون الدستوري ، مما لا شك ، هيأ فكرياً لقيام الدولة الإسلامية واستنادها إلى ثوابت قارة من المباديء والمثل.

ويجيء الخلاف الفلسفي المتمثل في تباين الآراء والمصالح حول مبايعة الإمام علي رضي الله عنه ، في غمرة الضجة الكبرى ، الي أحاطت باغتيال عثمان رضي الله عنه ، وهذا الخلاف مهما كان تأثيره ، لم يخرج عن كونه يشتمل على جوانب شخصية وفقهية ، أما الجوانب الشخصية فتتعلق مثلاً بحديث الإفك وما روي عن علي من أنه قال للنبي صلى الله عليه و سلم: (النساء سواها كثير) ، فشق ذلك على عائشة حسبما يذكره القرطبي في تفسيره أما الجوانب الفقهية ، فكتب التراجم والتفسير تزخر بها ، وهي تطوف حول منزلة علي من الرسول صلى الله عليه و سلم ، والأحاديث المتواترة الواردة في هذا المعنى كثيرة ، ومنها: (من كنت مولاه فعلي مولاه ) ، وقول الرسول صلى الله عليه و سلم لعلي: (أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى ، غير أنه لا نبي بعدي ).

وأن ما يهمنا استخلاصه من هذا الخلاف ، هو أنه كان المنطلق الحقيقي الأول لمعالجة المسلمين لمسألة الإمامة ، والقيادة ، والزعامة ، وقد نشأ عن ذلك الاختلاف المبارك شعور بمسؤولية المجتمع الإسلامي في اختيار الخليفة ، وطرحت مشكلة الشرعية لأول مرة ، حينما تم الاتفاق على وجود خمسة مناهج متباينة في اكتساب الشرعية:

(أ) ترك الأمر للأمة كما فعل الرسول صلى الله عليه و سلم عندما سكت عن التعيين .

(ب) ممارسة الشورى بعد الجدل والاختلاف ثم الاتفاق ، كما تم في السقيفة حين تعيين أبي بكر الصديق.

(ج) التعيين الصريح مثلما فعل أبو بكر حين أوكل بالخلافة لعمر رضي الله عنهما .

(د) اصطفاء ما سمي من بعد بأهل الحل والعقد ، يتولون اختيار الخليفة ، نيابة عن المسلمين مثلما وقع عشرات المرات في التاريخ الإسلامي.

(هـ) أخذ الإمامة بالقهر والغلبة ، وهو أمر تم كذلك في فترات متعددة ومتباعدة من الحضارة الإسلامية ، وقد أطنب فيه سهيل بن عبد الله التستري وابن خويز منداد.

ثم نأتي إلى الخلاف السادس ، الأخطر والأكثر تأثيراً في مجرى الحضارة الإسلامية ، على مدى قرون ، وهو تأسيس الدولة الأموية ، وتعويض الأساليب التي ذكرناها ، بأسلوب التوريث ، ورغم ما قيل في التوريث من اعتماد مناهج الساسانيين والبيزنطيين ، فإن له أصولاً في التنظيم الجاهلي العربي لا يمكن نكرانها ، بفضل الارتباط الوثيق بين صلات الدم وصلات القوة لدى القبائل العربية الكبرى ، وهو ما عبر عنه فيما بعد عبد الرحمن بن خلدون ، بالعصبية . ونحن نميل للاعتقاد بأن التوريث ليس هو الخطر الذي هدد الحضارة الإسلامية بل إن الخطر الفادح جاء من أن صاحب الأمر ، أصبح هو صاحب الرأي ، وتمت ازدواجية كاملة بين من بيده السيف ، ومن بيده الفكر.

ثم نخلص للخلاف السابع : انقسام المسلمين الأوائل ، قبيل وأثناء وعلى إثر انتصار معاوية ، إلى ثلاث فرق كبرى ، دون الجماعات الصغرى التي لا تحصى:

(1) فرقة المنتصرين لمعاوية ، والذين بدأوا - فيما ذهبت إليه بعض الروايات - برفع المصاحف على الرماح ، في موقعة صفين ، مطالبين بالتحكيم ، وانتهوا بعد مقتل على رضي الله عنه ، إلى بناة الدولة الإسلامية الجديدة ، فانتقلت الخلافة ، على أيديهم إلى ملك .

(2) فرقة شيعة علي وآل البيت ، التي تأسس معها المذهب الشيعي ، فرافق كل تقلبات التاريخ الإسلامي ومنعرجاته ، وتضاريسه ، من سنة 40 هـ (661م) سنة مقتل علي رضي الله عنه ، بيد عبد الرحمن بن ملجم الخارجي ، إلى يوم الناس هذا ، بدون انقطاع.

(3) فرقة الخوارج ، التي تأسست على رفض التحكيم ، ثم استحلت قتال علي ، لقبوله بالتحكيم .

وهكذا فإن الخلاف السابع ، كان هو الخلاف الأكبر ، ومنه انبثق شيء جديد كان مجهولاً في عهد الرسول الأعظم صلى الله عليه و سلم، وفي عهد خلفائه الراشدين رضي الله عنهم ، وهذا الأمر الجديد هو (السياسة) بالمعنى الذي أقره فلاسفة الإغريق القدامى ، وخصوصاً أفلاطون وأرسطو وسقراط ، وبالمعنى الذي نعرفه اليوم ، أي أن الحضارة الإسلامية دخلت مرحلة بناء مؤسسة الدولة ، بما فيها من خير وشر ، فأما الخير العميم فكان بالطبع سرعة استشراء الإسلام في العالم الذي ما كان لينجز لولا قوة السلطان الرافعة لواء القرآن ، وأما الشر الوخيم فكان الانشطار بين المؤسسة الرسمية ، والصفوة الفكرية ، وما نتج عنه من ضياع الحق بالقمع والتدجين ، وشراء الضمائر ، بالرغم من أن منارات فكرية عديدة سلمت من الغرق ، واستقلت بحريتها ، ونالها الاضطهاد ، فلم يطفيء لها نوراً. (والله متم نوره ولو كره الكافرون )(الصف:8).

=============

# هل أعدت حضارتنا ما استطاعت من قوة؟

يتسم عصرنا الراهن بأنه عصر تحولات سريعة ومدوخة ومثيرة. اكتسحت الثورة التكنولوجية والاتصالية، كل قطاعات حياتنا.

تغلغل العلم في اتجاهين كبيرين: اتجاه الفضاء الكوني الواسع اللامتناهي، واتجاه جزئيات الخلايا الدقيقة. إنهما مغامرتان نقرأ يومياً عن مداهما. (كولومبيا) المكوك الفضائي رحل في يوليو 1994م إلى مداره حول الأرض يحمل سبعة باحثين من أمريكا، ومن اليابان، لدراسة الحياة البيولوجية، في حالة انعدام الجاذبية.. وأحدث اكتشاف طبي جاء من ماساشوستس، يتعلق بالتغلب على أسباب العقم، وزيادة نسبة الأمل في الإنجاب. وتتواصل ضمن هاتين المغامرتين كذلك اكتشافات أجرام سماوية جديدة، ورصد التحولات المناخية من علو شاهق، والتعمق في برامج الجينات الوراثية DNA لدى الإنسان. وتوصل العلماء في مغامرة البيولوجيا إلى أن الإنسان يجد نفسه بإزاء عالمين متشابهين منسجمين: عالم الملكوت السماوي الشاسع، وعالم الخلايا الدقيقة غير المنظورة.

في هذا وذاك نظام عجيب، وميزان غريب. في الفضاء تدور الأفلاك وتتوالد، وتنتظم حركتها بمفعول الجاذبية المدهش، وفي جسم الإنسان خلايا ونوى الخلايا، تدور أيضاً كما الأفلاك، وتنتظم حركتها بمفعول عوامل الوراثة والتغذية والبيئة، ونوعية ردود الفعل إزاء الصدمات والتحولات الاجتماعية اليومية.

ولكن الذي وقع خلال هذه العشرية، هو أن العلم المحض وجد نفسه عاجزاً عن فهم لغز الكون والحياة بمفرده ، بل وأكثر من ذلك أحس بخطر انفراد العلم بإدارة الكون، لأن العلم يكتشف ولا يفسر، يحلل ولا يبرّر، فاستنجد العلم بالدين. وكان أحدث مثال على ذلك هو قصور العلم عن الإحاطة بالهندسة الوراثية، والاحتياط لمجابهة هذا العالم الجديد، عالم البرمجة الجينية.

اكتشف العلماء أن حياة كل منا وحتى قبل أن نولد، تشبه (ديسكات) جاهزة في بعض خطوطها، توضع مع ميلادنا في جهاز كمبيوتر - أي الحياة - لتبوح بأسرارها وتسلك طريقها، وتعاني أمراضها وبلواها، وتنال رغباتها، وتحقق أمنياتها. واندهش العلماء لعظمة ما اكتشفوا. أليسوا بذلك يدركون مفهوم القضاء، والقدر، المنصوص عليه في القرآن، ويتجلى معنى خلق الله للنفس البشرية، وإلهامها الخير والشر قبل أن توهب الحياة:

(ونفسٍ وما سوّاها * فألهما فجورها وتقواها * قد أفلح من زكّاها * وقد خاب من دسّاها )(الشمس:7-10).

(إن الله بالغ أمره قد جعل الله لكل شيء قدرا )(الطلاق:3).

(الذي خلق فسوّى * والذي قدّر فهدى )(الأعلى:2-3).

(الله يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر )(الرعد:26).

ثم إن الله تعالى يسبغ الأقدار نفسها على الكواكب، أي ذلك الفضاء الكوني الذي نحن منه ولسنا مركزه: (هو الذي جعل الشمس ضياءً والقمر نوراً وقدّره منازل )(يونس:5).

إن الذي نراه في اكتشافات المراصد، والمخابر، ونتأمل صوراً له في المجلات العلمية الحديثة، ليعطينا أبعاداً جديدة لقراءة القرآن، ويفتح في وجوهنا بعض مغاليق الكتاب المكنون. وإنك ستحار إذا ما شاهدت إحدى هذه الصور الضوئية، فهل هي الكواكب في الفضاء تسبح، أم هي لخلية واحدة من خلايا الجسم بما لها من قلب وذرات تسبح هي الأخرى ! إنك ستحار بين صورة أضخم ما وصلت إليه مراصد الإنسان، أي الفضاء الرحب اللامتناهي، وبين صورة أصغر مالتقطته عدسة الميكروسكوب ! لقاء غريب مدهش بين الأضخم والأصغر، بين ما لا نستطيع أن نراه بعيوننا لأنه كبير بعيد، وبين ما لا نستطيع أن نراه بعيوننا لأنه صغير دقيق! ألسنا محكومين بأن نتأمل فقط هذا العالم، الذي نعيش فيه! مع أن الله أراد لنا أن نتطلع إلى ما وراء عالم الشهادة: (إن استطعتم أن تنفذوا من أقطار السماوات والأرض فانفذوا لا تنفذون إلا بسلطان ٍ)(الرحمن:33).

وللقارئ أن يسألني: ما الذي أردت إثارته بقولي هذا؟

إن غايتي هي إثارة علمائنا وفقهائنا حتى يتعمقوا في دراسة هذه الاكتشافات الخارقة الكثيرة، ويبحثوا فيها عما يدعم الفكر القرآني، ويرسخ البعد الإسلامي ، ويؤيد الرؤية الإيمانية.. فالقرآن نقرأه اليوم بعيون هذا العصر الذي تكثفت فيه الاكتشافات، بما يطابق القرآن، لا بما يشكك فيه، وكثرت حقائق العلم في الآفاق وفي أنفسنا، مما يجعلنا نفهم أكثر، تلك الإشارات الإلهية التي بثها سبحانه في كتابه الكريم.

إننا في قرننا الخامس عشر من الهجرة، نشهد على انتصار كاسح للإسلام في ساحة لم نكن نتوقعها، وهي ساحة العلم المجرد، فكلما فتح العلم باباً بفضل اختراع أو اكتشاف، إلا وانبهرنا بالنور الإلهي يغمرنا، ونزداد إيماناً، ويقوى تمسكنا بالإسلام.

لقد خسر الجاهليون الجدد معركة أخرى حاسمة على ساحة العلم التي اختاروها بأنفسهم، لتكون مقبرة للدين الحنيف، فإذا بهم يحفرون فيها قبور أوهامهم، وضلالاتهم وضياعاتهم. رفعوا شعار العلم واشتقوا منه العلمانية، واتخذوا كلام الله ودعاته هزواً، حتى خسف الله بدعاويهم الأرض، وجعل سبحانه من كل خلقه آيات جلية مطهرة، تنطق بعظمته وتسبح لذاته العلية وتذكره بالعشي والإبكار.

ومن هذه الملاحظات العامة، نخلص للقول: إن المشروع الحضاري الإسلامي يملك هذا التميز الأساس في صراعه القادم مع الحضارات الأخرى ، ألا وهو خضوع العلم لديه، للدين. فالعلم الإسلامي منذ نشأته كان ملتحماً بالدين، متفرعاً عنه، ملتصقاً بالوحي، أمرنا الله تعالى: (قل سيروا في الأرض فانظروا كيف بدأ الخلق )(العنكبوت:20) ، (سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق )(فصلت:53).

وأطلق الحق سبحانه وتعالى على ظواهر الطبيعة، وبيئة الإنسان، وأجزاء الفضاء الرحب، عبارة: (الآيات)، التي لا ترجمة لها في أية لغة على الإطلاق، ولا شبيه، فهي كلمة تجمع المحسوس والمجرد في آن واحد، وتوحي بأن مخلوقات الله لا تقتصر على الشكل المادي الملموس والمرئي، بل هي آيات أوجدها الله حتى يتدبرها قوم يعقلون، أي يعملون عقولهم إزاءها. وكان العلم بهذا المعنى في حضارة الإسلام، لا تفسيراً لظواهر الطبيعة، أو جسم الإنسان فحسب، بل عملية مستمرة، غايتها إدماج الإنسان في الطبيعة، وفي الكون: (إنّ في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار والفلك التي تجري في البحر بما ينفع الناس وما أنزل الله من السماء من ماءٍ فأحيا به الأرض بعد موتها وبث فيها من كل دابة وتصريف الرياح والسحاب المسخر بين السماء والأرض لآيات لقوم يعقلون )(البقرة:146).

ويمكن أن نؤيد الرأي الكريم السائد، وهو أن الحضارة الإسلامية، هي التي سلمت مشعل العلوم إلى أوروبا، لتقوم هذه بنهضتها العلمية، فما من علم - كالطب والفلك والكيمياء الرياضيات والفيزياء والصيدلة - إلا وترك أبرز المصطلحات الأساسية متداولة بأصلها العربي في أوروبا إلى اليوم، وحتى الصناعات الأوروبية القائمة اليوم، احتفظت بمصطلحاتها عربية، يجهلها علماء أوروبا، وأغلب علماء المسلمين.. من ذلك كلمة ARSENAL أي مصنع بناء السفن، وهي تحريف بسيط لكلمة دار الصناعة، جلبها الصليبيون العائدون من الشام، بعد أن لمسوا مستوى بناء السفن العربية في الموانئ المسلمة. والمصطلحات أكثر من أن تحصى، وهي معروفة، من الصفر، إلى الجبر، إلى الخوارزميات، إلى مواقع المجرات والكواكب، إلى أسماء الأدوية، ومسميات الأمراض… إلخ.

أما السر المكنون في أن أوروبا، رغم أنها أخذت مشعل العلوم عن الإسلام لم توفق إلى اليوم إلى إنجاز مجتمعات آمنة سعيدة، فذلك راجع إلى أن أوروبا ورثت عن المسلمين الوسائل، ولم ترث الغايات. أوروبا أخذت عن المسلمين الجانب المادي من العلوم، ولم تأخذ الجانب الروحي. ونحن حينما نقول اليوم: إن أوروبا - أو الغرب عامة - بلغت درجات عليا من التقدم، فإنما نقصد درجات عليا من التحكم في وسائل الإنتاج، والصناعة، ولا نقصد درجات عليا من الحضارة، فالحضارة هي الإنسان قبل كل شيء، والإنسان في المجتمعات الأوروبية، إنسان شقي، مستعبد.

إن بلوغ أوروبا قدراً متقدماً من التكنولوجيا والتصنيع وعلوم الاتصال والإنتاج، وفّر للمجتمع الأوروبي قدرة على الاستهلاك والإنتاج، فتحول الفرد هناك من مواطن حر إلى مجرد أداة إنتاج واستهلاك، أي إلى (برغي) مجهول في ماكينة جبارة، عمياء، صماء، لا ترحم.

وإذا أردت الاقتناع بهذه الحقيقة، فعليك استجلاء الأرقام، لتجد أن السويد، وفرنسا، وألمانيا، تأتي في مقدمة بلدان العالم، من حيث عدد المنتحرين (في فرنسا وحدها إحدى عشر ألف حالة وفاة عقب انتحار عام 1992م، بعدد ضحايا حوادث الطرقات نفسها في هذه البلاد).

وخذ أرقام تعاطي المخدرات، وأرقام جرائم العنف والاغتصاب، والسفاح، لتكتشف أن هذه المجتمعات رغم امتلاكها للوسائل، فإن الغايات مفقودة، بل لا تجتمع الوسائل بالغايات إلا في الإسلام ، وفي الإسلام وحده.

المواطن الأوروبي تعلق بحاكمية السوق، ففقد كل مقومات الإنسانية فيه، ليخرج من رق الإقطاع أو رق الكنيسة، ويدخل في رق المؤسسة المالية أو المؤسسة السياسية. المطلوب منه هو أن يفكر بحرية بل يفكر كيف يكون منتجاً، وكيف يكون ناخباً، وكيف يكون مديناً للبنوك، وكيف يكون مستهلكاً‍ !

خرجت العبودية لديه من الباب لتعود من الشباك.. ثم هل تعلمون أن إحدى معارك المجتمعات الأوروبية اليوم، وأكبرها، هي معركته ضد الربا، الذي حرمه الإسلام؟! صدرت كتب لا تحصى، وخصصت مقالات ودراسات كثيرة في فرنسا وحدها، لتؤكد أن العائلة الفرنسية أصبحت رهينة قروض المصارف، أي ضحية الربا. كل مواطن فرنسي مدين للمصارف بما يجعله يشتغل خمسة أعوام بدون أجر، لتسديد ديونه ذات الفوائد المتصاعدة.

هو الربا، ولكنهم لا يسمونه هكذا، وصفوة المجتمع الفرنسي تقاومه وتطالب بتحريمه قانوناً لا شرعاً، بينما القرآن حسم هذه المظلمة منذ أربعة عشر قرناً.

فماذا فعل العلم المحض لدرء هذه الأخطار عن المجتمعات الأوروبية؟ نعم العلم وفر السيارة وجهاز "السكانير"، وخلاط المطبخ، والكمبيوتر، لكنه لم يوفر السعادة، لا للفرد الذي استعبد، وصودر رزقه، ولا للأسرة التي تفجرت وانفطرت كالحب والنوى، ولا للمجتمع الذي سار بدون هدى نحو حتفه.

الفرد عبد للمصارف، وللمؤسسة السياسية، والإعلامية، وهو ضحيتها ووقود نارها، ولا يساوي فلساً. تحدد له المصارف دخله الضئيل لكي يظل حياً، لا لكي يصبح سعيداً، بعد أن تقتطع سبعين بالمائة من مرتبه، وترهن بيته وأثاثه، وسيارته، فهو لا يملك شيئاً في الحقيقة، ثم تقتطع الدولة مما بقي من مرتبه نسبة النصف (ضرائب مباشرة، وضرائب غير مباشرة، تتمثل في ألعاب الحظ وغلاء المعيشة…) ثم يفرض عليه الإعلام الإقطاعي بواسطة الإشهار، ما يجب عليه أن يستهلكه ( أي أن يقتنيه بقروض إضافية) ثم توهمه المؤسسة السياسية (أحزاب، نقابات)، أنه مواطن حر في اختيار من يمثله في المجالس المحلية والتشريعية.

ثم إن هذه التنينات الثلاثة:

- تنين المؤسسة المصرفية،

- تنين المؤسسة السياسية،

- تنين المؤسسة الإعلامية،

اجتمعت في تحالفات عتيدة مريبة (لعل أحسن مثل لها المافيا الإيطالية، التي تجمع رئيس المصرف ورئيس الحكومة ورئيس تحرير الصحيفة)، تحالفت هذه المؤسسات لتسد طريق النجاة في وجه المواطن الأوروبي، حيث أعلنت أن المجتمع لائكي ولا ديني، فعزلت الكنيسة في دور عبادة، وإقامة طقوس لا تأثير لها في المجتمع، وهذا هو ما يريد الجاهليون المعاصرون في أمتنا المسلمة أن ينفذوه، حتى "نلتحق بركب التقدم الغربي…!" وهم يعلنون حاكمية التنوير أو يزينون لنا "بحبوحة العيش" لدى أهل أوروبا، وهم في الحقيقة يصدون عن سبيل الله، ويقاتلون في سبيل الطاغوت، ويضلون البلاد والعباد، وإنهم إذا ما رفعوا شعار العلمانية - المشتق زوراً وبهتاناً من العلم - إنما هم يخرجون للأمة الإسلامية عجلاً له خوار، مثلما أخرج السامري لبني إسرائيل، لكي يزيغ بهم عن عبادة الله عز وجل، ولعل أبلغ رد على هؤلاء - أصحاب العجل المحدثين - ما جاء في سورة طه: (إنما ألهكم الله الذي لا إله إلا هو وسع كلّ شيء علما ً)(طه:98).

وتأتي عبارة العلم هنا في القرآن الحكيم، للرد على العلمانية المزيفة، فالعلم اقترن في تاريخ الإسلام بالوحي الإلهي، لدرجة أن لفظة حكيم كانت إلى زمن قريب تطلق على الطبيب، في أرجاء العالم الإسلامي كافة. إن ا لذي أصاب المسلمين هو التفريط في هذه العبقرية الحضارية الفريدة، الرابطة بين العلم والدين، وبين العقل والوحي، ومثال علم الطب، نموذج صالح للاعتبار. والكثير من أطبائنا الحكماء المسلمين، يأسفون لهذه القطيعة بين الطب والإيمان وللهبوط الذي أصاب رسالة الطب، حينما تحولت إلى صناعة، يوجه إليها الطلبة حسب معدلات الثانوية العامة، فأصبح الطب علماً بلا حكمة، إلا من رحم ربك من ذلك المعدن الإنساني الباقي، والذي لم يجر لاهثاً وراء ربح مادي سريع، وجاه دنيوي زائل. وقد أحسن الدكتور زيدان تفكيراً عندما قرن ذلك الهبوط المؤسف في الحكمة، بهبوط أعم وأشمل في العلاقات الاجتماعية، بين المسلمين، وهبوط في سلم القيم الحضارية، التي تشكل نسيج هويتهم، وهبوط في مستوى التعامل الأخلاقي، بين أفراد الأمة الإسلامية وشعوبها. فلا غرو إذن أن يتحول الطب إلى مهنة عادية، والعلاج إلى صناعة، والاستشفاء إلى تجارة، حتى إن الاستثمار بمعناه المادي الربوي، دخل إلى هذا المجال الشريف، فأخضعه إلى نواميس السوق والعرض، والطلب، مما جعل مجهود الحكومات في العلاج الرخيص، أو المجاني، يصبح كأنه ملجأ للصدقة والزكاة، أمام المستشفيات ذات النجوم الخمسة الاستثمارية.

وأستسمح القراء الكرام أن أستعيد معهم بعض معالم الطب الإسلامي وتاريخه الحافل بالأمجاد، فهو الطب الذي غذاه الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم بما يلزم من سمو روحي، ورفعة أخلاقية، جعلته - منذ عهد طبيب الرسول والصحابة حارث بن كلدة الثقفي - أداة مثلى لإنقاذ الجسد والروح، وعلاج الألم والريبة بواسطة الدواء والإيمان معاً. وهذا هو سر حكمة الطب الإسلامي: اكتشاف عظيم للنفس البشرية، التي ألهمها الله سبحانه فجورها وتقواها، وأعلن في السورة نفسها أنه قد أفح من زكاها، وقد خاب من دساها.

كما أن المسلمين هم أول من أعاد بعث قسم أبقراط، ونجد له فصلاً وافياً عند أبي أصيبعة في كتابه: "عيون الأنباء لطبقات الأطباء"، وثبت أن أوروبا لم تعرف قسم أبقراط إلا عن طريق هذا الكتاب الإسلامي في القرن الثالث عشر المسيحي، ثم هلت على العالم أنوار بن سهل الطبري، والرازي، وابن سينا، وسواهم حتى استوت في الدنيا مدرسة الحكمة، بعد أن كانت أوروبا قبل التقائها بالثقافة الإسلامية الأندلسية، تعتبر المرض حلولاً للشيطان في جسم الإنسان، تعالجه بالحرق والمباخر، والتعاويذ.

وجاءت حكمة الأطباء المسلمين، من كونهم فقهاء، قبل التعمق في الطب، فكان الفقه الإسلامي ، يسبق العلم، بإرساء الأسس الأخلاقية، من فضيلة، ورحمة، وصبر، وإيثار، ونصيحة، وتعفف.

يقول الشيخ الرئيس ابن سينا في مقدمة كتاب النجاة: (إن أفضل الحركات الصلاة، وأمثل السكنات الصيام، وأرفع البرّ الصدقة، وأزكى السير الاحتمال، ولن تخلص النفس عن الدرن، ما التفتت إلى قيل وقال، ومناقشة وجدال، وانفعلت بحال من الأحوال، وخير العمل ما صدر عن خالص نية، وخير النية ما ينفرج عن جناب علم، والحكمة أم الفضائل، ومعرفة الله أول الأوائل…).

وأروع ما في هذه التعريفات الكريمة للطب، ما جاء على لسان رشيد الدين على بن خليفة، حيث قال: "الأمراض لها أعمار، والعلاج يحتاج إلى مساعدة الأقدار، وأكثر صناعة الطب حدث وتخمين، وقلما فيه اليقين، وجزاها القياس والتجربة، لا السفسطة وحب الغلبة، ونتيجتها حفظ الصحة، إن كانت موجودة، وردها إن كانت مفقودة.. ويتميز الفاعل عن الجاهل، والمجد عن المتكاسل، والعامل بمقتضى القياس والتجربة، عن المختال في اقتناء المال، وعلو المرتبة…).

ويضيف القلقشندي درة حكمة، لهذه التعريفات في القرن السابع الهجري، حيث يبدع في الإيجاز والبيان قائلاً: "يشترط في الطبيب أن يتحلى بالإيمان، وشرعة التقوى". أما ثابت بن قرة الحراني، عالم الفلك والرياضيات والطب والفلسفة، الذي نبغ في هذه الفنون في عهد المعتضد العباسي، فيقول: (إن راحة الجسم في قلة الطعام، وراحة النفس في قلة الآثام، وراحة القلب في قلة الاهتمام، وراحة اللسان في قلة الكلام…).

ثم إلى جانب شرف الفضيلة، فإن صفوة من حكماء الطب الإسلامي ضحوا بحياتهم أو بحرياتهم، من أجل مواقف وقفوها، وفي سبيل كلمة حق قالوها في حضرة سلطان جائر، فقتل منهم من قتل، وسجن منهم من سجن، ومات منهم من مات، في الفاقة والنسيان والإهمال، ومن بين هؤلاء الحكماء المجاهدين: أبو بكر الرازي، وعلي بن رضوان، والحسن بن الهيثم، وإسحاق بن عمران، ولسان الدين بن الخطيب، وابن ماجة، ونجيب الدين السمرقندي، وسواهم أكثر في جميع العهود، رحمهم الله، إن كانوا قضوا ، ونصرهم الله إن كانوا بيننا، وجزاهم عن الإسلام كل خير.

ولعل القارئ الكريم يريد مزيد التعمق في هذه المعاني الجليلة، خاصة وشبابنا المسلم ، يتعطش لمعرفة تراثه العلمي الغني والواسع، أرجو أن يفوز بتلك المعرفة من ينابيعها، أي بالرجوع إلى مؤلفات القمم، التي ذكرت بعضها في هذا الفصل القصير، وإذا تعذر عليه ذلك، فليعد إلى كتب أوجزت هذه العلوم الإسلامية الطبية للقارئ المعاصر، منها كتاب تاريخ الطب الإسلامي، للأستاذ الدكتور سليم عمار، أستاذ الطب النفسي بالجامعة التونسية، وكتاب المستشرق الألماني المنصف يوحنا كرستوف بيرغل بعنوان: الوجه المزدوج للطب في الحضارة الإسلامية، وغيرهما من المؤلفات، وليتأمل القارئ الحصيف كذلك بعض ما بلغه أطباء علماء مسلمون، يعملون في جامعات أوروبية وأمريكية من شأو بعيد، ليدرك أننا لسنا أيتام علم وحكمة، بل إننا أمة تصدر عقولها وتفيد مجتمعات غيرها.

=============

# الاقتصاد الإسلامي يؤسس على الفضائل

شهدت السنوات الأخيرة في أمتنا ، رواج فكر علماني سفسطائي ، وجد له منظرين ، ووجد له بخاصة مستثمرين ، فالكلمة السحرية التي أصبح يستعملها أعداء النهج الإسلامي ، هي كلمة اقتصاد ، والدعوى هي أن الخيار الإسلامي لا برنامج اقتصادي لديه ، وثانياً : لا يكون الاقتصاد إلا عالمياً . فكيف نصنع في دوامة الاقتصاد العالمي؟

هاتان في الواقع حيلتان من قبعة المشعوذين الجدد ، كالأرنب والحمامة الذين يخرجهما المهرج للجمهور ، وهما حجتان واهيتان ، اعتمد نجاحهما لا على عبقرية الجاهلين ، بل على جهل قسم من شباب الإسلام ، بأسرار الاقتصاد ومحركاته وثوابته ، مضافٌ إلى عدم إحاطة بالتراث الفكري الاقتصادي الإسلامي.

وعلي شبابنا إذا أراد توخي النجاعة ، أن لا يقع في الدائرة التي يحددها أعداء الإسلام ، في أي جدل حول الاقتصاد ، بل أن يجلبوا هؤلاء إلى الدائرة التي حددها الإسلام ، وذلك لاختلاف تام بين المنظور الاقتصادي الجاهلي الرأسمالي السائد ، وبين المنظور الاقتصادي الإسلامي المنشود ، فهما خطان لا يلتقيان.

نحن ننطلق من أسس أخلاقية وفضائل إنسانية ، وهم ينطلقون من منطق القوة العمياء ، والربح السريع ، والاستغلال الفاحش.

إن اقتصادهم يقوم على قانون الغاب، ويبيح كل أشكال الإبادة والقتل، ويصب في خزائن تجار الموت ، وسماسرة السلاح، وقادة العصابات المنظمة، والجريمة المنسقة. كل الهرم الاقتصادي الدولي ، مقام على الجور ، قاعدته نهب ثروات المستضعفين، وإذلال الشعوب الفقيرة ، وبث الفرقة بينها ، وتوكيل الوكلاء على مصائرها ، وإقرار سيادة الدول الكبرى على طاقاتها، وأسعار موادها الأولية.. أما قمة الهرم ، فتمثله المصارف العملاقة ، بفخاخ قروضها ، وفوائدها ، يعلوها جميعاً عرش البنك الدولي ، وصندوق النقد الدولي. كل الهرم مؤسس على أيديولوجية مواصلة الاستخراب ، وتغيير أشكال النهب والسلب ، وتزويق وجه الباطل بمساحيق النظام الاقتصادي العالمي الجديد ، من أجل تسويق الاعتقاد بأن العالم يخضع لقانون أبدي خالد هو الظلم ، وتحكم الدول الأخطبوطية الكبرى في مصائر الشعوب.

هذه هي الدائرة الفكرية التي يريدون أن يجرونا إليها ويحسبون أننا نسكت عن الكلام المباح ، ونقر لهم بأننا عاجزون عن الخوض في الاقتصاد المكنّى بالعالمي، بينما الحكمة هي أن نشك في أسس هذه الاقتصاد المفروض، ونفند بواعثه الأيديولوجية، ونفضح مروجيه السماسرة، انطلاقاً من فقه الاقتصاد الإسلامي، الذي لا حل سواه، حتى نحمي مصالحنا الحيوية، ونضع مستقبل أطفالنا تحت مظلة ظليلة.

إن الواقع الراهن يثبت أن ما نسميه مقتضيات الاقتصاد العالمي، ما هو إلا تكريس الهيمنة على خيرات الأرض ، من طرف عشرين بالمائة من سكانها ، ولهذه الأقلية وسائل سخرتها لاستمرار المظلمة ، وآخر تلك الوسائل ما فرضته من ضريبة الكربون على إنتاج البلاد المسلمة من النفط ، حتى تخضع لضغوط السوق ، وتقبل بأسعار منخفضة لهذه المادة الحيوية، لا تستجيب لضرورات التنمية في مجتمعاتنا .. وآخر تلك الوسائل ، هذه القرارات الأممية القاضية بفرض حصارات على بلدان مسلمة ، لأسباب شتى حتى تنهار مقدراتها وتنحل الروابط الإسلامية القائمة بينها ، وبين جيرانها، ورهن مستقبل أجيالها لعقود طويلة قادمة.

كما أن آخر تلك الوسائل ، الشروع في الترويج لمشروع الشرق الأوسط الاقتصادي، دون رفع الجور التاريخي المسلط على شعب مسلم ، هو الشعب الفلسطيني، وعلى حساب بلدان عربية مسلمة ، لا تزال بعض أراضيها محتلة جهاراً نهاراً من طرف إسرائيل ، رغم أنف قرارات مجلس الأمن الداعية لتحريرها .. وينادي المروجون للسوق الشرق أوسطية ، بإذلال الشعوب المسلمة وحصرها في دور الأيدي العاملة، وإهانة بعض الدول العربية، بتسخيرها للتمويل ، كأنما هي خزائن مال ، وليست شعوباً أصيلة، لها مجدها، ولها رجالها، ثم تخصيص دور إسرائيل في هذا المثلث، يجعلها العقل التكنولوجي المدبر، والقلب الاقتصادي الحي ، وما نحن إلا الأذرع الرخيصة ، والخزينة المليئة ، والأرض المفتوحة ، والسوق المضمونة ! وذلك يعني أن دار الإسلام ستكون لإسرائيل ، وحماتها ، إذرعاً تصنع ، وبطوناً تبلع ، وصيرفياً يدفع ! فياله من مآل خزي ، ومصير هزيمة ، أهون منهما أن يبدلنا الله سبحانه وتعالى بأمة غيرنا ، ولا تكون مثلنا ، وذلك هو الوعد الذي أنذر به القرآن أمماً هانت على نفسها ، ضربت على مصائرها المذلة ، فهانت على أعدائها والمتربصين بها.

والسؤال هو : بماذا نواجه هذا الاقتصاد ؟ وما هو بديلنا؟

أول ما يجب علينا فعله ، هو تفكيك آليات ذلك النظام الخادع ، وفهم محركاته ، والتدبر في الأيدي التي تديره في الظل ، في مكاتب الشركات الكبرى المتعددة الجنسيات ، ومكاتب سماسرة السلاح ، ومن تحت هذه الأشباح توجد الأحزاب والحكومات في أوروبا وأمريكا ، ومن تحتها قاعات تحرير التلفزيونات والصحف والإذاعات.

ثلاث مستويات تسيِّر دفة الاقتصاد العالمي : صاحب المال ، وصاحب القرار السياسي ، ثم صاحب الرأي العام .. ونحن كشعوب وصفت بأنها سائرة نحو النمو نقع في هذه الكماشة ، وبين فكيها .

وثاني ما يجب علينا فعله ، بعد الفهم ، أن نرسي قاعدة قوية للاقتصاد الإسلامي ، بفضل عمل متعمق رصين ، يصل بين المثل الأعلى ، وحياتنا اليوم ، وبين النظرية القرآنية ، والتطبيق في عصرنا الحاضر . وأخطر ما سيلاقيه علماؤنا وخبراؤنا المسلمون في هذه المرحلة ، هو حجة الجاهليين والمتغربين القائلة : بأننا بعيدون بعد كوكب المشترى ، عن عصر الفاروق عمر بن الخطاب رضي الله عنه ، وعن زمن نزول القرآن . وهي حجة باطلة ، لأن رجل الاقتصاد الإسلامي يأخذ من روح القرآن وجوهر السنة ، الأسس الأخلاقية الخالدة ، ويطوعها ببصيرته وإيمانه وعلمه ، حتى تلبس مشاكل عصرنا ، ومعضلات واقعنا ، شأنه شأن المربي في عالم التربية الحديثة ، والطبيب في ميدان الطب ، والإعلامي عندما يؤسلم الإعلام .

إن النكبة الحقيقية ، هي أساساً في عدم توفيق المسلمين اليوم ، لابتكار اقتصاد إسلامي ، وأصل هذه النكبة سببان رئيسان : الأول جهل لا إرادي بالقيم الإسلامية في الاقتصاد ، مما جعلنا نتخبط في الأنماط الواردة علينا ، من شرق وغرب ، حتى ضاع جيل كامل من الأمة المسلمة ، في جدل أيديولوجي عقيم ، بين أنصار الشيوعية، ودعاة الرأسمالية، وانقسمت شعوبنا إلى عربات مجرورة من طرف المعسكر الماركسي، وعربات مجرورة من طرف المعسكر الحر ، وتحملنا انتقال الجدل الاقتصادي ، إلى خنادق سياسية، تمركز فيها هؤلاء وأولئك ، وبلغ بنا الحال إلى الحرب الباردة المنسوخة عن أصلها ، الحرب الباردة بين العملاقين ، فانقسمت صفوتنا إلى تقدمية ورجعية ، وذهب كل فريق إلى شطط : الأول إلى شطط التصنيع الثقيل ، والثاني إلى شطط التداين ورهن الإعناق لدى البنك الدولي للإنشاء وإعادة التعمير ، ولم تنج إلا دول مسلمة قليلة ، حاولت الأخذ من هذا وذاك ، وكادت ترسم سياسة اقتصادية غير منحازة ووطنية لولا مؤمرات دولية.

أما السبب الثاني ، فهو انعدام التشاور والتنسيق والتكامل ، وهو سبب داخلي وخارجي ، لسنا بصدد تعداد منطلقاته ، وهي معروفة ، مما جعل سياستنا الاقتصادية ، لا تقوى على تحقيق استقلال قرارها ، ولا تقوى خاصة على تحقيق اكتفائها الذاتي ، لا في التغذية ، ولا في الصناعات الخفيفة المرافقة للزراعة .

ويأتي السبب الثالث ، مكملاً لهذه المعوقات ، وهو الداء العضال ، المتمثل في القطيعة بين المؤسسة التربوية ، والمؤسسة الاقتصادية . القطيعة بين المدرسة والمجتمع ، حيث ظلت مدارسنا ، على مدى جيل تخرج العاطلين ، وتدفع بالدفعات البشرية نحو المقاهي ، والشوارع ، كأن المدرسة كوكب صناعي يدور في فضاء رحب ، لا تربطه بأرض الواقع رابطة ، وتوالت في جل دولنا برامج الإصلاح ، تجب برامج الإصلاح، ويتناوب على تخطيط مناهجها التربوية (خبراء) و(متعاونون) من دول أوروبا ، ومن أمريكا، ومن روسيا، بينما الحل الأوحد هوا لخيار الأصيل النابع من إسلامنا، ومن هويتنا، والمنصب في عصرنا، والمتكلم بلساننا العربي ، قبل أية لغة أجنبية ، فلا تغيير لاختياراتنا الاقتصادية، دون البداية بالتربية ، التي هي رحم الاقتصاد، وفيه ينشأ جنين الاستقلال، والهوية والنهضة. فكل بنيان نبنيه على غير أسسه، إنما هو آيل للسقوط، مقدر عليه الانهيار، وجلت كلمة الله تعالى عن حضارة قوم عاد ، التي أقاموها شامخة، لكن بدون التقوى - أي بدون الاستناد إلى أصول الإسلام - (أتبنون بكل ريع آية تعبثون * وتتخذون مصانع لعلكم تخلدون * وإذا بطشتم جبارين * فاتقوا الله وأطيعون * واتقوا الذي أمدكم بما تعلمون )(الشعراء:128-132). (أفمن أسس بنيانه على تقوى من الله ورضوان خير أم من أسس بنيانه على شفا جرف هار فانهار به في نار جهنم والله لا يهدي القوم الظالمين )(التوبة:109).

إن مبدأ الانطلاق من شريعة الله في الاقتصاد ، هو تبين التضاد الكامل ، بين المقصد الإسلامي، والمقصد الغربي -وهو الطاغي- فبينما يخضع المقصد الإسلامي ، إلى نظرية الخير والشر ، في شؤون الإنتاج والبيع ، والشراء ، والكسب ، والإنشاء كلها ، يخضع المقصد الغربي ، إلى نظرية الربح والخسارة ، في تنظيم أمور السوق كلها .. وفي حين يرتكز المقصد الإسلامي ، على عقيدة الحق والباطل في كل ما يتعلق بإيجاد الثروة ، وتنميتها ، يرتكز المقصد الغربي القائم حالياً، على عقيدة التوسع ، والتكثيف، ومضاعفة الكم.

ولعله من اليسير علينا ، إذا ما أرخنا لأمتنا الإسلامية ، وللغرب الأوروبي ، أو الغرب الأمريكي اليوم ، أن نتأمل في ما انتهت إليه حضارتنا وحضارتهم .

لقد كانت الحروب الصليبية ، التي دامت قرنين كاملين ، تجسيماً ، عن طريق العدوان والحرب ، لمنظور الغرب الاقتصادي ، أي الربح والغنم السريعان ، بواسطة التوسع والإبادة ، وكانت كذلك أيضاً عمليات غزو القارة الأمريكية ، منذ 1492م على أيدي كرستوف كولمبو ، ثم كانت كذلك الحملات الاستخرابية (المعبر عنها بالاستعمارية!) بداية من حلول جيوش نابليون بالقاهرة يوم 24 يوليو 1798 ، ومروراً باحتلال الشام والمغرب الإسلامي ، والهند ، وأندونيسيا ، تحت شعار توسع السوق الأوروبية -غير الموحدة آنذاك- إلى يوم الناس هذا ، حيث نعاني من ويلات العقيدة نفسها بطرق أخرى ، أي من انعكاسات قانون السوق .

ثم انظر إلى آثار عقيدتنا الإسلامية ، التي أفشلت الحروب الصليبية بسلاح الإيمان والجهاد أولاً ، ثم بتمسك المسلمين بالثوابت الاقتصادية . فكم من حصار لمدن مسلمة ، دام شهوراً ، ثم اندحر على أعقابه ، وانهزم فيه المحاصرون ، بسبب النظام الاقتصادي المتبع ، من الإيثار والصدقة ، وتكثيف الإنتاج والقناعة ، بل وابتكار اقتصاد حرب إسلامي متكامل ، مثل نهاية حصار أنطاكية وأسر حكامها بوهيموند الصليبي سنة 1100م ، وانتصار المسلمين في الموصل سنة 1127م ، واستيلاء عماد الدين زنكي على حلب سنة 1128م ، إلى آخر هذه السلسلة المشرقة ، التي أدى فيها الاقتصاد الإسلامي رسالته الجهادية.

وكان مصير المعتدين الصليبيين الهزيمة ، والعودة إلى نقطة البداية ، بعد قرنين ، فانتهت الصليبية بموت ملك فرنسا القديس لويس في قرطاج سنة 1270م ، وأسر ملوكها ، مثل ريتشارد قلب الأسد ، وكانت نتيجة الحملات الصليبية ، انتقال النظام الاقتصادي الإسلامي في بعض مظاهره إلى أوروبا ، مثل الزراعات ، وتنظيم الأسواق ، والمسالك التجارية . وبعد قرون من ذلك العهد ، انهزمت جيوش نابليون في مصر ، وكانت المقاومة الاقتصادية المسلمة ، للدخيل المحتل ، وجهاً من وجوه الصمود ، مثلما جاء في مذكرات أحد المؤرخين الفرنسيين ، المشاركين في الحملة Vivant-Denon ( فيفان دونان ) وكما أكده الجبرتي في تاريخه ، ولعله من الرموز الناطقة بعزة الإسلام ، أن يتسلل نابليون هارباً ناجياً برأسه من مصر ، تاركاً نائبه كليبر ، الذي قتل على يد الشهيد الإسلامي سليمان الحلبي ، وتولى الجنرال مينو عوضاً عنه قيادة جيش الاحتلال ، فانحاز إلى جانب المسلمين ، وأشهر إسلامه وأصبح اسمه عبد الله مينو .

وهكذا انهارت آخر الحملات الصليبية ، وأولى الحملات الاستخرابية ، إلى أن تقاسمت دول أوروبا المشرق والمغرب الإسلاميين ، بداية من مطلع القرن التاسع عشر ، وأول ما صنعته ، كان تخريب الاقتصاد الإسلامي ، بالتوازي مع مقاومة دين الأمة ولغتها ، ومعالم حضارتها ، وتم بسرعة تذييل قوت الشعوب ، وربط اقتصادها باقتصاديات مركزية أوروبية ، وتمادت هذه الحالة من التبعية المادية والمعنوية ، حوالي قرن ، إلى أن نالت بلداننا استقلالاتها الإدارية والعسكرية ، ولكنها في أغلبها ظلت تعاني التشابك القوى ، بين اقتصادها ، واقتصاد أوروبا وأمريكا وأحيانا روسيا ، وظلت كذلك تعاني زعزعة قواعدها الدينية واللغوية ، وارتجاج ثقة المسلمين في هويتهم وحضارتهم ، ولعلها إلى اليوم تحمل أوزار ضعفها ووهنها ، وتبحث عن الخلاص.

ثم يكفي مقارنة حضارة الإسلام ، بالحضارة الغربية ، في مثل تاريخي واحد ، لتعرف مدى قوتنا ، ومدى هشاشتها . وهذا المثل هو كما أسلفنا الوجود الصليبي في مشرقنا الإسلامي من 1095م إلى 1270م ، واحتوى على ثماني حملات مدججة بالسلاح والمال ، وتعاونت فيها أوروبا كلها ، واستعملت أساليب الإبادة والتهجير والتنصير كلها ، لكنها باءت بالهزيمة النكراء ، ولم تؤسس دويلة ، ولم تترك أثراً عمرانياً ، أو معلماً ثقافياً ، بل غنم الصليبيون النهضة الإسلامية ، لبناء مدنهم ، وتكوين جامعاتهم ، حتى إن أول مستشفى أوروبي ، نشأ بعد أن شهد الصليبيون مستشفى دمشق ، ومصحة شنِرر.

وبالمقابل تأمل وجود المسلمين في الأندلس: ثمانية قرون كاملة، من الحضارة، عمادها اقتصاد راسخ ، وعدالة متسامحة ، ومعمار أصيل ، وأدب رفيع ، وطب مزدهر ، حتى إن نظام الري القرطبي، لا يزال معمولاً به في إسبانبا إلى اليوم.

فشتان بين حضارة الإسلام، القائمة على تسخير الوسائل، من أجل الغايات، وبين حضارة الغرب ، القائمة على تسخير الوسائل ، لمضاعفة الوسائل بلاغايات.

ونحن حينما ندعو إلى الرجوع إلى جوهر الاقتصاد الإسلامي، فإننا لا ندعي الإحاطة بهذا الاختصاص ، بل إن غايتنا تحريك سواكن فقهاء الاقتصاد الإسلامي حتى ييسروا هذا العلم ، ويستنبطوا أسبابه، ويثروا روافده ، وقد شرع المسلمون في هذا العمل الصالح ، فصدرت الدراسات الجامعية ، حول المصارف الربوية ، وفضحت دراسات أخرى مؤامرات تحديد النسل ، وكشفت دسائس إباحة الإجهاض ، وكل ما من شأنه تشويه دار الإسلام ، وتحجيم قوتها ، وخضد شوكتها.

وأول ما يجب الرجوع إليه ، هو أصل عبارة الاقتصاد ، التي جاءت من ( ق ص د ) أي المنهج السوي، ووجوب النيّة، بعكس عبارة Economy التي اشتقت من التوفير.

فالجذور الإسلامية للكلمة ، انغرست إذن في تربة الدين ، والفضيلة ، والأخلاق ، باشتراط النية ، وفرضية استقامة النهج ، بينما جاءت الكلمة الغربية من مبدأ جمع المال ، وتوفيره ، وكنز الثروة .

وقد ذكر الله في كتابه المجيد مشتقات القصد ست مرات ، هي كالآتي: (واقصد في مشيك واغضض من صوتك ) (لقمان : 19) .

والمعنى هو : اليسير المتعارف أي عدم الإسراف ، ولكن أيضاً إخضاع المشي إلى سلوك أخلاقي ، يوجب التواضع والتعفف .. (وإذا غشيهم موج كالظلل دعوا الله مخلصين له الدين فلما نجاهم إلى البر فمنهم مقتصد وما يجحد بآياتنا إلا كل ختار كفور ) (لقمان : 32) .

المقتصد في أداء الشكر والحمد لله ، بعد أن نجاه ربه إلى البر ، أي القائم بواجب الشكر ، دون تجاوز ذلك السلوك ، إلى إيفاء حق الله كاملا من العرفان ويفيد معنى الكفاية والتقليل.. (لو كان عرضاً قريباً وسفراً قاصداً لاتبعوك )(التوبة : 42).

هنا يعني المولى عز وجل أولئك المنافقين الذين يتأخرون عن الجهاد ، أما لو دعاهم الرسول صلى الله عليه و سلم إلى عرض قريب ، أو سفر قاصد (بمعنى له قصد وغاية) لاتبعوه ، ويلاحظ هنا استعمال القاصد بمفهوم الغاية. (ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا فمنهم ظالم لنفسه ، ومنهم مقتصد ومنهم سابق بالخيرات بإذن الله )( فاطر: 32).

تلاحظ هنا الدرجات الثلاث ، التي وضع فيها الله سبحانه ورثة الكتاب، ممن اصطفاهم، فمنهم ظالم لنفسه، ومنهم مقتصد ، ومنهم سابق بالخيرات ، ويحدد الله منزلة المقتصد كدرجة بين ظلم النفس وهي رزيلة ، وبين السبق بالخيرات ، وهي فضيلة ، وتفيد الوسطية السلوكية ، حيث لا عقاب الأول ينالها ، ولا ثواب الثالث. (ولو أنهم أقاموا التوراة والإنجيل وما أنزل إليهم من ربهم لأكلوا من فوقهم ومن تحت أرجلهم منهم أمة مقتصدة وكثير منهم ساء ما يعملون )(المائدة : 66).

وهنا يتعرض الله سبحانه وتعالى لأهل الكتاب ، ويطنب الشيخ الشهيد سيد قطب في شرح معنى الأمة المقتصدة ، غير المسرفة على نفسها ، قائلاً رحمه الله : ( يبدو من خلال الآية ، أن الإيمان والتقوى ، وتحقيق منهج الله في واقع الحياة البشرية .. لا يكفل لأصحابه جزاء الأخرة وحده - وإن كان هو المقدم وهو الأدوم - ولكنه كذلك يكفل صلاح أمر الدنيا ، ويحقق جزاء العاجلة ، وفرة ونماء ، وحسن توزيع ، وكفاية ، يرسمها في صورة حسية ، تجسم معنى الوفرة والفيض في قوله: (لأكلوا من فوقهم ومن تحت أرجلهم ).

ثم نأتي للآية التي ذكرت القصد بذلك المعنى الجليل الذي عرضناه: (وعلى الله قصد السبيل ) ( النحل:9).

ويفيد القصد هنا : تبيان المنهاج ، ورسمه على النية ، وهي أمانة أوكلها سبحانه لذاته العليا: (وعلى الله قصد السبيل ) ، ونحن ندرك أبعاد تلك الأمانة ، فنجعل من قصد السبيل -ما نعبر عنه اليوم بالاقتصاد- وسيلة لبلوغ غاية سامية كريمة ، ألا وهي تحقيق إنسانية الإنسان ، ودعم أواصره بخالقه ، وإعادة ترميم الجسور التي انهدمت ، أو كادت ، بينه وبين السعادة ، وبينه وبين عالم الغيب ، إذ الشهادة مقرونة بالغيب.

هذا هو السر المكنون في الجهاد الاقتصادي الإسلامي ، وهو الذي ينبغي أن يعلو على الأرقام ، والجداول ، والحسابات ، والأرباح ، ومعدلات الإنتاج ، ومسالك التوزيع ، وإلا كان مآلنا مآل الأمم الخاسرة ، مهما كان دخلها ، وهل تجدون تفسيراً لشعب مثل شعب السويد ، حقق رقمين لهما عبرة :

- حقق رابع معدل في الإنتاج الوطني الخام في العالم.

- حقق أول نسبة في الانتحار لدى الشباب ، ما بين الخامسة عشر والخامسة والعشرين سنة ، وذلك في عام 1992م.

يقوم جوهر الاقتصاد الإسلامي ، على ثوابت خالدة ، صلح بها حال المسلمين في فجر الإسلام وعزه ، ويصلح بها حالهم اليوم ، إذا أعملوا فيها حكمة الاجتهاد ، واخضعوا لها معاملاتهم ، وهذه الثوابت توجز في المباديء التالية:

الملكية : العقيدة المؤسسة للاقتصاد الإسلامي ، هي الإيمان بأن ملكية العالم لله وحده سبحانه ، وما الإنسان إلا مؤتمن عليه: (لله ملك السموات والأرض وما فيهن )(المائدة:120).

وهنا يراجع الفصل الذي أفردناه ، للخلافة ، والأمانة ، في هذا الكتاب .. وملكية الله للعالم ، تجعل من رسالة الإنسان المستخلف المؤتمن ، رسالة صيانة وحفاظ وتوريث للثروات ، التي في السماوات والأرض، وقد توصل كل علماء الاقتصاد ، والبيئة ، والفيزياء ، والاجتماع ، حتى في الغرب نفسه ، إلى أن معضلات الإنسان المعاصر ، من التلوث ، إلى تخريب الطبيعة ، تعود إلى اعتقاد الإنسان ، بأنه سيد الكون، وما الأحزاب الخضراء الصاعدة في الغرب ، إلا دعوة لهذا النبع الصافي ، لوضع الإنسان في منزلته الحقيقية من الكون ، أي أنه جزء منه ، لا مالكه الأوحد ، وهو أساس الفكر الاقتصادي المسلم.

أما الملكية الصغيرة أي حق التصرف ، وحق التوريث ، فقد بينهما القرآن الكريم والسنة المطهرة بما لا يدع مجالاً للتأويل ، ويبقى الإسلام حضارة اقتصادية متكاملة ، امتازت بذلك عن الأديان السابقة ، وحتى النظريات اللاحقة.

الإنفاق: من أبدع ما عرف به الله سبحانه المؤمن ، صفة الإنفاق مما رزق ، (ومما رزقناهم ينفقون )(البقرة:3). وذلك في أول آيات أول سورة بعد الفاتحة ، حيث وضع الله عز شأنه ، شروط إيمان المؤمن: (آلم * ذلك الكتاب لا ريب فيه هدىً للمتقين * الذين يؤمنون بالغيب ويقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون )(البقرة:1-3).

وصفة المؤمن إذن ، هي عدم حبس المال ، وهي قاعدة قرآنية ، وقاعدة أساسية في علم الاقتصاد الحديث ، إذ أن دور السيولة في مجرى الحياة ، هو الضامن للانتعاش الاقتصادي ، وما نسميه اليوم : تنمية . وقد ربط الله بين الإيمان والإنفاق لجعل المسؤولية الاقتصادية للمسلم ، موازية لمسؤوليته الإيمانية: (الذين يؤمنون بالغيب ويقيمون الصلاة ) لأن الإنسان المسلم ليس متلقياً للعمل التنموي ، بل هو باعثه ، والمسؤول عنه، والمطالب به ، أي وسيلته وغايته في آن واحد.

وقدر الله درجة الإنفاق فوضعها بين التبذير والتقتير ، أي في الدرجة الوسطى بين رزيلتين ، وكل درجة وسطى هي فضيلة - عدم غل اليد إلى العنق ، وعدم بسطها كل البسط - وهذه الوسطية هي العقيدة الأساسية في النهج الاقتصادي الإسلامي ، لأنها تقف ضد الحرية المطلقة المتوحشة للرأسمالية ، وضد التقييد القاتل المشل للشيوعية.

أليس هذا هو ما وصل إليه علماء الاقتصاد ، في العصر الراهن ، بعد انهيار الماركسية ، وإعادة النظر في الليبرالية؟

المال : إن الإنفاق في القرآن الكريم مقترن بالمال ، أي بعصب الاقتصاد ، فأعلن سبحانه وتعالى أن المال مال الله : (وآتوهم من مال الله الذي آتاكم ) (النور:33) .

ثم جعل صفة حب المال، صفة شائنة، تقصر صاحبها على حياة البهائم ، وتحط من إنسانيته .. وجعل صفة جمع المال ، وتعداده صفة، ترخص من قدر المرء ، وتزيغه عن سواء السبيل ، حتى ولو ظن أن ماله أخلده ، كما جاء في آيات مبثوثة في الكتاب المجيد. ثم إن الله سبحانه ألغى الفوارق، بين غني ، وفقير ، حيث لا يشفع المال لصاحبه يوم القيامة، ولا يفيده في الدنيا، إلا متى زكى وتصدق ، وأنفق حلالاً ، كما توعد الله الذين يأكلون المال الحرام ، أو يأكلون أموال الناس بالباطل ، أو أموال اليتامى ، في عديد من السو النيرة ، مثل سورة البقرة ، والنساء ، والروم ، وتوج الفكر القرآني ، هذه النظرية الأخلاقية السامية ، لوظيفة المال ، بأن سخره للجهاد ، إلى جانب النفس: (وتجاهدون في سبيل الله بأموالكم وأنفسكم )(الصف:11). (لكن الرسول والذين آمنوا معه جاهدوا بأموالهم وأنفسهم )(التوبة : 88).

ولم يكتف القرآن بسن هذه القيم العليا الخالدة ، بل فصل سبل صرف المال تفصيلاً عجيباً ، لم يفرط في جزئية ، فقدر توريث المال ، وقنن كفالة الأيتام ، وعين الصدقات ، وحدد الزكاة ، وبين الخراج والجزية ، وأنذر الذين ينفقون أموالهم للصد عن سبيل الله .. وكل ذلك ، وهب للإنسانية منهاجاً للكسب والإنفاق ، يقع داخل إطار أخلاقي فذ ، من التعامل الاقتصادي والاجتماعي ، ولم نجد له نظيراً في الأديان الأخرى على الإطلاق ، وتحت هذه الراية الفريدة ، سبق القرآن كافة المدارس الاقتصادية الحديثة ، برفضه انحصار الثروة في الطبقات ، أو قيام دولة المال على حساب مجموع الأمة: (ما أفاء الله على رسوله من أهل القرى فلله وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل كي لا يكون دُوَلة بين الأغنياء منكم )(الحشر:7).

الرزق: أعظم سمة للفكر الاقتصادي الإسلامي ، ربطه المحكم ، بين الكسب والرزق الحلال ، فقد زخر القرآن ، وحفلت السنة ، بهذه المعاني فالله هو الرزاق ، وعطاؤه يُنْعَتُ بالطيبات ، والإنفاق يجري من هذا الرزق ، أي أن معنى الإنفاق يكتسي قيمة الدين ، وإعادة الخير إلى صاحبه ، مما يكبح جماح الطغيان ، بفتنة المال ، فالمؤمن يكسب رزقاً وهبه إياه الله تعالى ، وإنفاقه في وجوه الخير ، هو إرجاع الحق إلى صاحب الحق ، ويتدخل عالم الغيب في عالم الشهادة ، في هذا الميدان ، حيث يعلن الله سبحانه أن: (ومن يتق الله يجعل له مخرجا * ويرزقه من حيث لا يحتسب )(الطلاق:2-3).

ويقرن سبحانه لفظتي الحلال والطيب ، ليضع حدوده التي لا يتجاوزها المؤمن .. ثم أوضحت السنة النبوية شراكة الناس في مصادر الرزق الأساسية ، وعدم انفراد نفر أو جماعة بها : قال الرسول الكريم صلى الله عليه و سلم: (الناس شركاء في ثلاث : الماء ، والكلأ ، والنار )، (رواه صاحب مصابيح السنة في الحسان ، وابن داود في التاج ، وابن ماجة في حديث أبي هريرة ، وإسناده صحيح عن سبل السلام).

الأجر: ترددت عبارة الأجر في القرآن الكريم ، بدرجتين ، درجة الثواب المتاح لفاعل الخير المؤمن ، ودرجة المقابل المادي لعمل دنيوي.

مثال الدرجة الأولى: (والذين آمنوا وعملوا الصالحات لهم مغفرة وأجر كبير )( فاطر:7).

ومثال الدرجة الثانية: (قالت إن أبي يدعوك ليجزيك أجر ما سقيت لنا )(القصص:25).

وبهاتين الدرجتين في القرآن ، يكتسب الأجر معنى روحياً صرفاً ، ومعنى مادياً محسوساً ، فيحافظ الأجر في الإسلام على الصفتين معاً ، ويشحن المصطلح العربي بطاقة دينية أخلاقية، لا تجدها في سواه من الأديان ، ولا في سوى العربية من اللغات . فالله سبحانه قدر الأجر للشهادة في سبيله ، وللصبر، والإحسان، والنجدة، والوفاء، والتقوى، والعفو، والإصلاح، والتصدق ، بدون من أو أذى، إلى غير هذه الصفات الحميدة .. ومن عبقرية المنهاج الاقتصادي الإسلامي ، أننا نجد تلك الصفات نفسها ، مطلوبة لدى الإنسان في تعامله التجاري والاجتماعي عموماً ، كأنما القرآن ، يرجو تنظير الإنسان في عبادته ، بالإنسان في تجارته ، باشتراط الصفات نفسها ، في هذا وذاك ، وهنا يحضر مثال (الميزان) في الذهن، وقد أطلق القرآن المجيد مصطلح الميزان على العدل الإلهي المطلق ، وعلى الجهاز الذي يستعمل للوزن، والمعنيان نفساهما أعطيا لكلمتي القسط والقسطاس.

التجارة : ينزل القرآن التجارة ، منزلة المعاملة مع الله سبحانه: (يا أيها الذين آمنوا هل أدلكم على تجارة تنجيكم من عذاب أليم )(الصف : 10).

ثم يستعمل القرآن الكلمة نفسها بمعنى المعاملة مع الناس ، بل جمعها مع اللهو ، داعياً الترفع عنها: (قل ما عند الله خير من اللهو ومن التجارة )(الجمعة : 11). وأخيراً يستعمل القرآن كلمة التجارة ، بمعنى ثالث محايد ، وهو المعنى الاقتصادي المتعارف إلى اليوم: (إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم )(النساء: 29).

ثم مضى القرآن ومضت السنة في بيان هذه المعاني الثلاثة ، يتطهير التجارة من الربا ، والغش ، والاحتكار ، والرشوة ، والترف ، والطغيان ، والاستغلال ، وذلك بمجموعة من الآيات القرآنية ، والأحاديث القدسية والنبوية ، معلومة لدى كل من عكف على بحث المنهاج الاقتصادي الإسلامي: (يا أيها الذين آمنوا إتقوا الله وذروا ما بقي من الربا إن كنتم مؤمنين * فإن لم تفعلوا فأذنوا بحرب من الله ورسوله وإن تبتم فلكم رءوس أموالكم لا تظلمون ولا تظلمون )(البقرة : 278 - 279 ) .

هذه بعض القيم التي تجعلها حضارة الإسلام عدتها ، لخوض صراع الحضارات إذا لم يكن بد من هذا الصراع المعلن ، وهي قيم تقتضي ، أن يكون الراعي مسؤولاً عن تطبيقها ، بعد سنها ، لا أن نملأ بها خطبنا للتمويه ، ثم ينفذ عكسها .

وقد ضرب لنا الفاروق عمر بن الخطاب رضي الله عنه ، أرقى أمثلة المسؤولية - والمسؤولية الاقتصادية بالذات - حين قال: (والله لئن بقيت لأوتين الراعي بجبل صنعاء ، حظه من مال بيت المسلمين ، وهو يرعى مكانه )(مسند الإمام أحمد).

وخلاصة قولنا : أن الاقتصاد الذي اعتبره الجاهلون حجة علينا ، إنما هو حجة لنا ، وإن البرامج الاقتصادية التي يدعي أعداؤنا افتقادنا لها ، إنما هي ميراثنا من الحضارة الإسلامية ، بفضله انتشرت رسالة الإسلام ، وستزداد انتشاراً . كل القضية أننا شربنا من غير حياضنا ، وأننا وردنا من غير نهرنا ، فحسبنا أن قدرنا - الاقتصادي - هو أن نبقى تابعين خانعين ، في حين أن في أيدينا مفاتيح نهضتنا ، وأسرار تقدمنا ، ولله الأمر من قبل ومن بعد

==============

# الاستخلاف والأمانة

إذا بحثنا عن الأصل القديم الأول للمشروع الحضاري في الإسلام ، فإننا نعجز تماماً ، عن قطع الصلة ، بين السياسة والفقه ، بل وحتى بين السياسة والوحي . فأول ما يصادف المرء هو القرآن الكريم ، وتأتي الآيتان (30) من سورة البقرة و(72) من سورة الأحزاب ، كإعلان مباشر واضح ، لما نسميه اليوم بالمسألة السياسية . وتضع الآيتان تبارك قائلهما ، القضية السياسية في منزلتها الإسلامية الأصلية ، أي تحدد ببيان القرآن ، وإعجازه ، التعريف الإسلامي:

(1) لماهية الإنسان فرداً ومجتمعاً.

(2) لرسالته التي اؤتمن عليها.

ونورد فيما يلي الآيتين ، اللتين نعتبرهما الينبوعين الأولين ، لكل ماورد بعدهما وحولهما من آيات ، تشرح ، وتوضح المقصد الإلهي ، لرسم صورة المجتمع الإسلامي كما يريده الله سبحانه: (وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك قال إني أعلم ما لا تعلمون ) (البقرة : 30). (إنا عرضنا الأمانة على السموات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وحملها الإنسان إنه كان ظلوماً جهولاً )(الأحزاب:72).

أي تعريف أبلغ ، وأي كلام أعمق يمكن أن يضع الإنسان في منزلته التي أنزله الله إياها بهاتين الآيتين ؟! فسورة البقرة ، حددت في مطلع القرآن الكريم ، معنى الاستخلاف في الأرض ، ومنها نشأ مفهوم الخلافة : ( وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة ) . وعندما رد الملائكة بالتعبير عن الاستغراب في شكل سؤال واستفهام : ( قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك ) ، جاء جواب المولى عز وجل مزيلاً لكل استغراب ، معلناً إرادته العليا ، فارضاً حكمته السامية ، بقوله: (قال إني أعلم ما لا تعلمون ) .

وبهذا الجزم الإلهي دخلت قضية الاستخلاف حوزة الغيب ، أي تجاوزت منطقة الجدل الملائكي ، لتصبح أول ملف رباني يودعه الله في تلك الحوزة الغيبية التي يعلمها الله وحده ، ولا يعلمها خلقه ، ملائكة كانوا أم بشراً .

ونستخلص نحن ، أن استخلاف الإنسان في الأرض ، هو من إرادة الله وحده ، وأن خلافة الإنسان من الله ، قدره لا يحيد عنه .

فالمعنى الجليل لعبارة (الخليفة) ، تحدد وانضبط في تلك الآية الكريمة ، بشكل لا يقبل التحريف والزيغ ، وهو المعنى ، الذي لابد أن نرجع إليه - أي نتخذه مرجعاً - كلما أردنا الخوض في مسألة السياسة الإسلامية ، ونحن إذا ما تخلينا عن هذا الأصل في القرآن -أي معنى الخلافة- فلن نكون مسلمين ، بل ندخل بوعي منا ، أو بلا وعي ، فضاءات فكرية وسياسية ، وتاريخية لأمم أخرى غير مسلمة ، وفي مناطق نفوذ ثقافية غربية أساساً ، سيطرت لمدة قرنين تقريباً ، على عقولنا ، وأخضعت شعوبنا وصفوتها ، لعمل دؤوب وطويل وصبور ، جردها من أصولها المرجعية ، وأوهمها بأن صلاتها بجذورها انقطعت ، وأن عليها أن تبني على أسس غير أسسها ، وأن تنطلق من منطلقات غير منطلقاتها ، وذلك ما تم لهذه القوى الصليبية والصهيونية الغازية - أو كاد يتم - لولا يقظة الأمة من تلك الغفوة المشلة ، التي دامت قرنين ، وخاصة منذ أن وطأ الجيش الصليبي الفرنسي شواطيء مصر بقيادة (نابليون بونابرت) يوم الثاني من يوليو 1798م في الحملة الصليبية التاسعة ، إلى غاية السنوات الأخيرة من القرن العشرين.

إن مسألة الخلافة حسمت في هذه الآية: (وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة ) فهو إذن قرار إلهي حاسم لا يسع الإنسان - في الأرض - إلا أن يتدبره ويطوع الواقع على مقاسه ، لا أن يطوع تلك الخلافة على مقاس الواقع ، مثلما رأينا خلال قرون في الدول المسلمة .

وهكذا - وبتلك الطاعة الواجبة لله تعالى - تتحول الدول المسلمة إلى دول إسلامية ، أى تجتاز الحد الفاصل ، بين دول تجمع في كنفها مسلمين ، مثلما هي الحال اليوم ، إلى دول تؤسس على إرادة الله ، وتعاليم دينه القويم ، كما يود المسلمون أن تكون .

ومن الخلافة نبدأ ، لأن الله عز وجل بدأ بإقرارها في الآية المذكورة في أول سورة قرآنية بعد الفاتحة .

فاستخلاف الإنسان ، يعني تحميله جملة من الفضائل ، كالمسؤولية والحرية والإخلاص لله ، والتلاؤم مع نواميسه ، وسننه ، حتى تنشأ فكرة الخلافة ، لتغذية تلك الفضائل ، وإعلاء شأنها ، وإعلان الولاء لله وحده ، دون الأرباب المزيفين .

وإذا ما استعرضنا كل المفردات القرآنية المنبثقة عن الخلافة ، تأكدنا من خلال المعنى المعطى للعبارة ، أبعادها الأخلاقية والروحية والسياسية . جاء في تفسير مفردات القرآن الكريم لسميح عاطف الدين ما يلي :

(خلف فلان فلاناً قام بالأمر عنه ، والخلافة النيابة عن الغير ، وجاءت في القرآن لتشريف المستخلف .. استخلف الله أولياءه في الأرض):

(هو الذي جعلكم خلائف في الأرض )(فاطر:39)

(ويستخلف ربي قوماً غيركم )( هود:57).

(وهو الذي جعلكم خلائف الأرض )(الأنعام:165).

والخلائف جمع خليفة ، أما خلفاء فجمع خليف:

(وجعلناهم خلائف )(يونس:73).

(واذكروا إذ جعلكم خلفاء من بعد قوم نوح )( الأعراف:69).

(واذكروا إذ جعلكم خلفاء من بعد عاد وبوأكم في الأرض )(الأعراف:74).

( أمن يجيب المضطر إذا دعاه ويكشف السوء ويجعلكم خلفاء الأرض (النمل:62).

(وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض )(النور:55).

(إن يشأ يذهبكم ويستخلف من بعدكم ما يشاء )(الأنعام:133).

(ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم )(النور:55).

(قال عسى ربكم أن يهلك عدوكم ويستخلفكم في الأرض )(الأعراف:129).

(يا داود إنا جعلناك خليفة في الأرض فاحكم بين الناس بالحق )(ص:26).

ومن اليسير على المؤمن قاريء هذه الآيات النوارنية ، أن يستخلص الحكمة الإلهية المستوفاة من معنى الخلافة والاستخلاف . ففي كل الآيات ترد العبارة المشتقة من الأصل (خ ل ف) مقترنة بالتمكين في الأرض ، أي بما نسميه اليوم ممارسة الحكم ، أو القيام بشؤون السلطة .

فبينما انقلب في عصرنا الراهن مفهوم الحكم ، إلى التسلط والاستبداد ، ظل ذلك الجوهر القرآني على معناه الأصلي ، أي ربط الخلافة بالحكمة ، وإقامة العدل ، بل وجعل سبحانه ، الاستخلاف وعد الله للذين آمنوا وعملوا الصالحات ، فهو إذن جزاء أوفى للمؤمنين ، الذين يعملون الصالحات ، كما أن الله سبحانه جعل نزع الاستخلاف من قوم ، شكلاً من أشكال الإنذار والعقاب .

فيتبين لنا ما وهبه القرآن للخلافة من ارتفاع بالإنسان ، والمجتمع ، إلى منزلة الحق والعدل ، والشعور بالمسؤولية ، وأداء الأمانة ، وقد اشترط سبحانه على نبيه داود قائلاً له : (يا داود إنا جعلناك خليفة في الأرض فاحكم بين الناس بالحق )(ص:26) ، فاقترن الاستخلاف ، لا بالحكم المطلق ، بل بالحكم الحق ، وبذلك تنتفي الخلافة تلقائياً إذا ما انتفي الحكم بالحق ، فهما صنوان متلازمان. كما وطد سبحانه الصلة بين الخلافة ، وبين إجابة المضطر ، وكشف السوء ( آية 62 من سورة النمل ).

وهكذا تتجلى الخلافة ، كما أرادها الله في كتابه العزيز ، أنموذجاً فريداً من الحكم السياسي ، لم يأت في غير القرآن ، ولم يشهد له الناس في التاريخ مثيلاً لدى الأمم الأخرى . فالحضارات الكبرى المتتالية ، كالفرعونية ، والإغريقية ، والفينيقية ، والكنعانية ، والرومانية ، كانت تقتسم العالم وتتصارع من أجل التوسع والبقاء ، لكنها لم تهتد إلى ما حدده القرآن الكريم ، وانفرد به دون الأديان ، وإلى ما شرعت في تجسيمه الحضارة الإسلامية في صدر الإسلام ، دون الحضارات الأخرى.

فهل يمكن أن نبوأ في الأرض - أي أن نستعيد دورنا الريادي في قيادة الحضارة من جديد - بدون الرجوع الجريء إلى الجوهر السياسي في الإسلام ألا وهو استخلاف الله لنا في الأرض بإرادته عز وجل ؟

وهل يمكن أن نتدبر شؤون الحكم في بلداننا وشعوبنا ، بدون أن نعيد الروح لمفهوم الاستخلاف ، فنقيم مؤسسات الدول الإسلامية ، على هذا الأصل الكريم الفريد ، وحسب الشروط والفضائل ، والقيم ، والمثل ، التي أودعها لله في الخلافة ، وخص بها أمته الإسلامية ، دون سواها؟

ونأتي بعد ذلك إلى الآية 72 من سورة الأحزاب التي رسمت الخطوط الكبرى للميثاق المعقود بين الخالق والمخلوق ، كأنما أراد الله سبحانه توضيح معنى الاستخلاف بإضافة مفهوم الأمانة عليه .. والأمانة هي كما نعلم ، أساس كل ميثاق - أو عقد ، حسب تعبير فلاسفة السياسة في فرنسا القرن الثامن عشر. (إنا عرضنا الأمانة على السماوات والأرض والجبال ).

توجد تلك الأمانة لدى مالكها الأول ، الذي هو الله سبحانه وتعالى ، وأراد أن يعرضها لا أن يفرضها ، فلو اراد فرضها دون انتظار استجابة لفرضها ، لكن الله عرضها ، أي تقدم بها برحمته الإلهية ، وانتظر موقفاً من السماوات والأرض والجبال ، فأبين أن يحملنها ، وأشفقن منها ، وحملها الإنسان -وهو مخير في ذلك القرار الحاسم- لكن المولى عز وجل ، عقب على القبول الإنساني ، للأمانة بأن الإنسان كان ظلوماً جهولاً.

إن الصفتين اللتين نعت بهما الله سبحانه الإنسان (الظلم والجهل) هما أصل كل نقص بشري ، وسبب مباشر لأغلب مصائبه في الأرض ، ويقتضي حمل الأمانة المعروضة عليه ، أن يسعى لإصلاح هاتين النقيصتين ، بالعمل السياسي ضمن مجتمع مسلم . فلاحظوا معي ، أن اختيار الله سبحانه للظلم والجهل ، هو الإقرار بالنقائص السياسية، أو الاجتماعية أساساً ، دون النقائص الفردية الذاتية الخاصة بكل إنسان ، مثل الكفر ، والنفاق ، والأنانية ، واللؤم.

أراد الله أن يعدد نقيصتين ، لا يتسم بهما فرد واحد ، وإنما مجتمع بأسره ، فالظلم نقيض العدل ، وهما مفهومان سياسيان ، أي لن يستقيم معنى الظلم ، وكذلك معنى العدل ، إلا ضمن مجتمع سياسي ، والمعنى نفسه لعبارة الجهل نقيض العلم ، فهما أيضاً مفهومان سياسيان ، حيث لا يظلم ، ولا يجهل إنسان ، وهو بمفرده معزول عن الآخرين من أبناء جلدته ، وإنما يصبح معنى الظلم -نقيضه العدل- ومعنى الجهل -أو نقيضه العلم- في مجتمع متكون من خلاياه العائلية ، والقبلية ، والمهنية.

وتأتي آيات عدة لتعطينا مفاتيح ما انغلق من أسرار الأمانة ، كما عرّفها الله تبارك وتعالى:

(فإن أمِنَ بعضكم بعضاً فليؤد الذي أؤتمن أمانته )(البقرة:283).

(إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها )(النساء:58).

(لا تخونوا الله والرسول وتخونوا أماناتكم )(الأنفال:27).

(والذين هم لأماناتهم وعهدهم راعون )(المؤمنون:8).

وكذلك يتضح البعد الأخلاقي والإيماني ، لعبارة الأمانة ، فيربط سبحانه بينهما وبين رعاية العهد ، ويعلمنا بأنها موصولة بعلاقة الإنسان بالله والرسول : وأن عدم خيانة الأمانة ، بمثابة عدم خيانة الله والرسول ، وتكمل سورة النساء هذه الأبعاد الفاضلة بأمر الله: (إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها ).

وينطبق هذا المفهوم القرآني على الأمانة التي ذكرها سبحانه في الآية 72 من سورة الأحزاب ، والتي عرضها الله على السماوات والأرض والجبال ، فأبين أن يحملنها ، وأشفقن منها ، وحملها الإنسان ، ويضيف سبحانه مبيناً ، أنه كان ظلوماً جهولاً ، في قبوله للأمانة ، والعزم على حملها.

ألسنا من خلال الآيتين (آية الخلافة وآية الأمانة) نعبر عن صميم قضية الحكم في الإسلام ، فتبدو المسألة السياسية واضحة يسيرة طيعة ، صفت وتجلت أمام أعيننا في جوهرها الأول المكنون ، أي في القرآن الكريم ، كتاب الله المرسل للمسلمين ، وجاءت السنة النبوية ، وتبعها السلوك الأمثل للخلفاء الراشدين ، ثم التحق الفقهاء والعلماء ورثة الأنبياء ، لتأكيد هذا التعريف القرآني المؤسس للفكر السياسي الإسلامي ، والقائم كما بينا على الثنائية الروحية والأخلاقية والتعاقدية : الاستخلاف ، والأمانة؟!

ونخلص إلى القول : بأن مشروعنا الحضاري الإسلامي ، هو الفريد المتميز ، بانطلاقه من هاتين القيمتين الخالدتين ، الاستخلاف والأمانة ، وهو الوحيد الذي شكل منظومته السياسية ، وأرسى قواعده الاجتماعية والثقافية ، على هاتين المثلين الأعليين . ثم إنه كما أسلفنا ، مشروع تحقق ، أي أننا لا يمكن أن نشك في إمكانية تنزيله على واقعنا الراهن ، كما نزله الرسول الأمين صلى الله عليه و سلم وخلفاؤه من بعده على واقعهم ، وكما تحقق منه الجزء الأوفر ، أثناء الدول الإسلامية عبر التاريخ ، بفضل اجتماع الكلمة ، والتمكن من أسباب القوة والمنعة .. وتعرض المسلمون كذلك لعهود من الضعف والانحلال والتشرذم ، وكان سببها الرئيس التفريط في القيمتين المذكورتين - الاستخلاف والأمانة - بل بتعبير أدق : كان سبب تلك العهود المظلمة ، تحول الاستخلاف والأمانة من منزلة الحكم ، إلى منزلة المعارضة ، وانتقالها كما سنرى من خانة السلطة إلى خانة الفكر المقموع.

لكن الاستخلاف والأمانة كقيمتين متلازمتين ، ظلتا موجودتين في التراث السياسي والثقافي الإسلامي : أحياناً في موقع المسؤولية وقيادة الدولة ، وبالتحام الراعي مع الرعية ، وأحياناً في موقع الريادة الفكرية ، حين تضل السبل ، بأولي الأمر ، وتشتبه المسالك

=============

# قل اللهم مالك الملك

إذا كان قيام الإسلام على التوحيد ، أي الإيمان بوحدانية الله تبارك وتعالى ، فإنه قضى بوحدانية مصدر التشريع . والوحدانية المصدرية نابعة من الوحدانية الإلهية ، فلا شرك بالله ، كشرط أول لإسلام المسلم ، ولا تعدد لمصادر القانون ، كشرط أول لبناء المجتمع الإسلامي . وبذلك يكون التوحيد الأكبر ، أي التسليم بأن الله أحد ، هو شرط إسلام الفرد في سريرته ، ويكون التوحيد الثاني ، أي الاعتقاد بأن الحكم لله وحده ، هو شرط إسلام الفرد في عشيرته وفي مجتمعه.

وتتعدد في القرآن الكريم آيات تحريم اتخاذ الأرباب من دون الله ، وتجريم عبادة الطاغوت: (قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ألا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئاً ولا يتخذ بعضنا بعضاً أرباباً من دون الله )(آل عمران:64). (أفحسب الذين كفروا أن يتخذوا عبادي من دوني أولياء إنا أعتدنا جهنم للكافرين نُزُلا ً) (الكهف:102). (فلا تخشوا الناس واخشون ولا تشتروا بآياتي ثمناً قليلاً ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولائك هم الكافرون )(المائدة : 44). (قل أغير الله أبغي رباً وهو رب كل شيء )(الأنعام:164).

ذلك هو معنى الانفراد بالألوهية ، الذي سنه القرآن لإعلان مساواة المؤمنين ، فلا يحق لبعضهم اتخاذ بعض أرباباً أو أولياء ، ولا يحق لبعضهم خشية بعض.

ثم جاءت آيات انفراد المولى عز وجل بالتشريع ، واختصاصه وحده بسن القانون الأعلى للحكم: (اتبع ما أوحي إليك من ربك لا إله إلا هو وأعرض عن المشركين )(الأنعام : 106).

( اتبعوا ما أنزل إليكم من ربكم ولا تتبعوا من دونه أولياء )( الأعراف : 3).

( ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولائك هم الكافرون )(المائدة : 44).

وفي آية أخرى (هم الظالمون ) ، وفي آية ثالثة (هم الفاسقون ) ، وزاد القرآن بياناً، فوضع منهجين واضحين للحكم هما:

(1) حتمية حكم الله .

( 2 ) عقلانية شريعة الله .

1 - سن الله سبحانه وتعالى حتمية القبول بحكم الله ، لكي يكون الإيمان إيماناً كاملاً ، في قوله تعالى :

(فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجاً مما قضيت ويسلموا تسليماً ) ( النساء : 65 ) .

ويرتبط الإيمان الحقيقي هنا ، بتحكيم الشريعة فيما شجر بين الناس ، بنفس مطهرة من الحرج .

2 - أما توافق الشريعة مع العقل ، فتنص عليه الآية الكريمة :

(ثم جعلناك على شريعة من الأمر فاتبعها ولا تتبع أهواء الذين لا يعلمون ) ( الجاثية:18).

فجاءت الشريعة هنا مناقضة للأهواء، أي منطلقة من خالق الإنسان، العالم به ، المسير للكون، بعيداً عن تقلبات الإنسان ، وتحولات المجتمعات ، كأنما هي الدر المكنون الذي لا تعتريه الشوائب.

وإذا نظرنا اليوم ونحن في قلب القرن الخامس عشر هجري ، إلى أغلب الانحرافات التي حادت بالمجتمعات الإسلامية عن الطريق المستقيم ، وأخلت بتوازنها ، وزعزعت مواطن قوتها لوجدنا أن أسبابها الجوهرية تعود إلى عدم اتباع المسلمين للشريعة من الأمر ، واتباعهم لأهواء الذي لا يعلمون ، حتى ولو ادعوا عكس ذلك نطقاً ، أو ألبسوا سلوكهم الباطل بكلمات حق: (يا أيها الذين آمنوا لم تقولون ما لا تفعلون ، كبر مقتاً عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون )(الصف:2-3) . وكان ذلك الانقطاع عن الشريعة ، هو السبب المباشر للكوارث التي أصابت الأمة الإسلامية ، منذ الفتنة الكبرى ، إلى فقدان الأندلس ، ومنذ انهيار بغداد تحت أقدام هولاكو ، إلى سقوط الخلافة العثمانية .

وبعكس ذلك لم تكتب للأمة صفحاتها البيضاء الناصعة ، وهي بحمد الله أكثر من صفحات الانكسار والانحدار ، إلا حينما تولى أمر الأمة رجال عضوا على شريعة الله بالنواجذ ، وبدأوا بتطبيقها على أنفسهم وقبائلهم ، فكان لهم النصر ، ومكنهم الله من العنفوان والقوة منذ فجر الإسلام ، وعهد الرسول الكريم صلى الله عليه و سلم وعهد خلفائه الراشدين ، والخلافات المتتابعة ، التي قامت بواجب الجهاد ، وحققت الفتوحات ، إلى غاية الخلافة العثمانية ، حيث امتدت دار الإسلام إلى جزء عظيم من الأرض ، يتحكم في أخطر المضايق ، ويسود أهم البحار، ويملك أبرز الثروات والطاقات.. ( وفي تلك العهود التي كانت الدولة العثمانية تمد ظلالها على امبراطوريتها الشاسعة ، في شرق وشمال أوروبا ، وفي غرب وجنوب آسيا ، كان العربي يسير من عدن على المحيط الهندي ، صاعداً إلى الشام ، ولبنان ، والأناضول ، وآسيا الصغرى ، ومن ثم يسير إلى بلغاريا ، ورومانيا ، ويوغسلافيا ، والمجر ، حتى يصل بعد ذلك إلى أسوار مدينة ( فينا ) عاصمة النمسا ، وفي كل هذه الرحلة لا يحتاج العثماني والعربي حمل جواز سفر ، ولا هوية ، لأنه كان يمشي في بلاده ، وتحت علمها ، إلى أن يصل إلى حوض نهر الداوب في فينا.. ).

فالله سبحانه هو مالك الملك ، وهو صاحب الخلق والأمر ، مما جعل الحضارة الإسلامية في أعز تجلياتها ، حضارة تؤمن بالغيب ، حسب الشرط الذي اشترطه القرآن في المؤمنين ، عند الآيات الأولى من سورة البقرة ، أولى سور الكتاب بعد الفاتحة: (ألم ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين الذين يؤمنون بالغيب .. ) فلا إسلام إلا بالإيمان بالغيب . يقول مالك بن نبي رحمه الله: ( إن الحضارة لا تنبعث كما هو ثابت تاريخياً إلا بالعقيدة الدينية ، فالحضارة لا تظهر في أمة من الأمم إلا في صورة وحي يهبط من السماء ، يكون للناس شرعة ومنهاجاً. فكأنما قدّر للإنسان ألا تشرق عليه شمس الحضارة إلا حيث يمتد نظره إلى ما وراء حياته الأرضية ، أو بعيداً عن حقبته ، فحينما يكتشف حقيقة حياته كاملة ، يكتشف معها أسمى معاني الأشياء ، التي تشكل له مركز الرؤية ، وتتفاعل معها عبقريته ، وهذا لا يتحقق دون معرفة الوحي..).

ولسائل أن يسأل ، وهو محق في سؤاله:

- مادام المسلمون ، انطلقوا في بناء حضارتهم من إيمان بالغيب والوحي ، وما داموا ، أقروا بأن الحاكمية لله ، فما الذي حاد في بعض مراحل تاريخهم ، بتلك الحضارة إلى الانحدار ؟ وما الذي حول مسارهم أحياناً إلى فتن ، وجعلهم في القرن التاسع عشر مسيحي ، مؤهلين لقبول الاحتلال الصليبي ، حسب عبارة مالك بن نبي ؟ ما الذي تسبب في تغير بعض أساليب الحكم لدى المسلمين ، إلى استبداد فج ، لا يختلف عن أي استبداد ، مسيحياً كان ، أو يهودياً ، أو بوذياً ، أم شيوعياً ، أم فاشياً؟

الجواب صعب ومتشعب ، إذا ما تعمقنا في الجزئيات التاريخية كلها ، وملابساتها دينياً ، وسياسياً ، واقتصادياً ، ولكن الجواب واضح ، إذا ما أدركنا ، أن الأسباب نفسها ، تؤدي إلى النتائج نفسها ، من قيام الفتنة الكبرى ، إلى سقوط بغداد ، ومن ضياع الأندلس ، إلى انهيار الخلافة العثمانية ، ومن مقتل حجر بن عدي ، إلى مقتل سيد قطب .

إن السبب يكاد يكون واحداً : القطيعة بين النموذج ، وتطبيقه .. نعم . ظل النموذج المحمدي ، وفروعه لدى خلفائه الراشدين ، نموذجاً حياً في الأذهان ، ولكن تعطل التطبيق . الهوة اتسعت بين المثل الأعلى ، والواقع المعاش .. بين المثال الحي في الضمائر ، وبين جهد العقل البشري ، لتنفيذه في الميدان.

بل الأخطر أن الخطاب الإسلامي كرس تلك القطيعة ، حينما أراد عكس ذلك ، أي تطبيق الشريعة بالاجتهاد ، وإعمال العقل .. فهذا الفكر ، تصدى للتغريب والتنصير ، والاحتلال بسلاح المثال ، وهو سلاح قوي وناجع ، لكنه لم يتصد لإنتاج فقه متجدد ، يضع ذلك المثال موضع التنفيذ ، في حياتنا السياسية ، والتربوية ، والاقتصادية ، والثقافية ، وعلاقاتنا مع غيرنا من الأمم ، مما أتاح لأعدائنا فرصة مقاومتنا ، على أساس أن المثال الذي ندافع عنه ، مستحيل التنفيذ ، أو هو سلفي ، أو نظري ، أو طوباوي ، أو غير ذلك ، مما نقرأه صباح مساء ، في كتابات المنبتين ، وأيتام الحضارة ، والجاهلين الجدد.

إن المقاومة الإسلامية ، ترفع سلاح النموذج ، لطرد المحتل الصهيوني من فلسطين ، وطرد المحتل الصربي من البوسنة والهرسك .. والمقاومة الإسلامية ، تقاوم الفكر الصليبي التنصيري ، والصهيوني العنصري ، داخل المجتمعات المسلمة نفسها ، لدرء الخطر الثقافي والإعلامي والسياسي ، برفع النموذج ، لكن المقاومة لن تكون استثماراً حضارياً مستقبلياً ، دائماً وصامداً ، إلا متى أقمنا بوسائلنا تلك ، الدولة الإسلامية العصرية الحية القوية ، وانصهرنا فيها شعوباً وقبائل ، حتى نثبت لأنفسها ، ثم للعالم من حولنا ، أن النموذج ليس حلماً ، وأن جهادنا لا يقتصر على رفعه شعاراً ، بل الجهاد الحق ، ونحن نتوغل في القرن الخامس عشر ، يتمثل في تحقيقه وتجسيمه ، واستشراف المستقبل ، بتضامن إسلامي ، أصلب عوداً ، ووحدة إسلامية ، أعمق جذوراً ، ووعي إسلامي أكثر اتصالاً بقضايا عصرنا المتشعبة الدقيقة .. أي في النهاية ، قدرة المسلم على تنزيل الإسلام في حياتنا ، وتطويع مصيرنا لتقبل رسالته العظيمة.

تلك هي معركة المستقبل ، لفرض الآية الكريمة القائلة ، بأن الله هو مالك الملك ، وأنه له الخلق والأمر سبحانه.

ولكن على أصحاب الفكر الإسلامي ، أن لا يتخلوا عن عقلية المنتصر ، في أي جدل يفرضه عليهم خصومهم ، حين يدعون أننا نسعى نحو مدينة فاضلة ، لم توجد إلا في فجر الإسلام ، وإننا نحلم بنموذج لا يتحقق .. وردنا على هذا الجدل هو أنهم أنفسهم ، يسعون إلى حلم مستحيل . أليسوا يعتبرون الغرب المسيحي الراهن سدرة منتهاهم ، وغاية منالهم ؟! إنهم في كتاباتهم الجاهلية ، المسماة خطأ ، بالعلمانية ، يرسمون لك صورة المدنية الصناعية المادية الغربية ، كأنها الأمل المنشود والمثل الأعلى ، والخير المطلق ، ثم يلهثون وراء سراب ، يسمونه اللحاق بركب الحضارة.

إنهم يحلمون ، ونحن نحلم.

ولكن شتان ما بين الحلمين ، وشتان ما بين النموذجين..

حلمنا يغرس جذوره في ينبوع حضارتنا الإسلامية ، فيستعيد أمجادها ، ويحي قيم الجهاد ، والعدل ، والمساواة ، والمروءة ، والإحسان ، والتواضع ، الزهد ، والإيثار ، التي أتاحت للإسلام فتوحاته ، ومكنته في الأرض..

وحلمهم لقيط ، يجري وراء وهم مستحيل ، إذ يريدون نسخ مجتمعات الغرب نسخاً ميكانيكياً ، وإلباس شعوبنا أثواباً ، لم تفصل على مقياسها ، بل وتجريعها بالعنف دواءً ، لم يصفه حكيم لأمراضها .

ثم متى كانت الحضارات المختلفة تتناسخ ؟ إنهم يحملون أمتنا مصائب تركيبات ثقافية ، وتطورات دينية، وتحولات اجتماعية ، وتقلبات سياسية ، لم تتفاعل معها ، ولم تعرفها قط . وإذا كان الغرب المسيحي اليوم ، يمتلك أدوات نهضته ، ويعاني بالمقابل من تأثير تلك النهضة ، فله مداره الخاص به ، وله وسائله المتميزة ، لعلاج الخلل الطاريء على تقدمه أو سعادته ، أو استقراره ، هو حر في استنباط تلك الوسائل .

لكننا لا يمكن البتة ، أن نؤسس بيوتنا على أسسه هو ، ولا أن ننبت أشجارنا على تربته هو ، وذلك يعني أننا ، لا يمكن أن نبرأ من عللنا بوصفات دوائية ، وضعها التاريخ لعلته هو ، بعد أن أعد له ملفاً يضم فصيلة دمه ، وأمراضه الوراثية ، وكذلك معدل ضغطه ، ونسبة السكر في الدم.

ذلك حالنا ، إزاء الميالين مع رياح النموذج الغربي ، والحالمين بالمستحيل ، ونحن نعلم ، أن لنا عللا ، وأن لنا خللاً ، ولكن العلاج لن يكون بوصفة مستوردة من وراء البحار ، قد تصلح لمجتمع بعينه ، روعيت فيها معطيات خاصة به ، وقدرت له طبيعة الداء والدواء.

ذلك هو ربما جوهر المد الإسلامي الهاديء الرصين الواثق : إيقاف علاجنا كمسلمين بالوصفة الأوروبية ، والأمريكية ، والروسية ، الجاهزة ، والشروع في تشخيص علاتنا - السياسية والثقافية والاقتصادية - في انتظار شفائنا بما يراه حكماؤنا الأصليون ، وأطباؤنا الصادقون من العلاج الملائم ، الموائم . وتلك رحمة من الله ونعمة ، بل هي طريق نجاتنا المفردة الوحيدة.

أما أهل الجاهلية ، المتجهون كطبق (الدش) ، أو كَعبَّاد الشمس نحو الغرب ، فالحجة لديهم ، أننا يجب أن ندخل إلى عصرنا ، ونصبح عصريين . وفي الحقيقة تم مسخ مصطلح العصرية من أصله اللغوي الحضاري ، كنتيجة راهنة لمسار متشعب وبطيء ، إلى مفهوم تغطية النموذج الغربي (العلماني) ، وإسباغ العصرية العالمية عليه ، كنوع من إكسابه الشرعية ، وإفراده بالريادة.

(ولما كان الأكثر تقدماً هو دول أوروبا والغرب بصفة عامة ، سواء رأسمالية أو اشتراكية ، فقد سادت خصائصهم الحضارية ، بحسبانها خصائص العصر ، فكراً وعلوماً وأنماط حياة ، وسلوكاً ، ومذاهب ، وصار حاضر الغرب هو مستقبلنا ، وصارت حياته ، ومجتمعاته ، هي مدينتنا الفاضلة المرجوة .. وأكثر من ذلك ، صار ماضيه ، بما أفضى إليه في حاضرهم ، هو معيار تاريخ العالم ، وبهذا قام مفهوم المعاصرة ، بحسبانه مفهوماً مطلقاً ، يقوم به إطار مرجعي ، ومفهوم شرعي ، يضم المجتمعات والدول التابعة كلها ، إلى الدول والمجتمعات المتقدمة).

ومن هذا المسخ الحضاري لدار الإسلام ، بدأت تدب في أوصالنا أسباب الوهن ، ومن هذا الكهف ، خرج علينا تنين التبعية والإلحاق ، وكان وصول النخب الوطنية ، خريجة جامعات أوروبا ، إلى سدة الحكم ، عند الاستقلال العسكري والإداري ، استقراراً للنموذج الغربي المسيحي ، في بلادنا ، وتخلينا عن حاكمية الله ، معتقدين خطأ أننا اخترنا حاكمية الشعب المسماة باللغة اليونانية (ديمقراطية) ، ولكننا في واقع الأمر ، نفذنا حاكمية النظام الاستعماري الصليبي ، وأردنا لأنفسنا حاكمية قوانين السلب والنهب ، التي وضعت فيها مؤلفات لا تحصى ، من أهل أوروبا أنفسهم.

وبدلاً من أن نقول كما أمرنا الله (قل اللهم مالك الملك ) قلنا : إن الغرب المصنع والمسلح ، هو السيد ، وهو القدوة ، وقوانينه الوضعية هي قوانيننا ، وثقافته هي مطمحنا ، وطريقته في الحياة هي غايتنا ، وانطبقت علينا قولة عبد الرحمن بن خلدون : من أن المغلوب يسعى لتقليد الغالب ، في لسانه ، وملبسه ، ومأكله ، وعيشه ، وسائر شؤونه.

=============

# من الخلافة الراشدة إلى الخلافة العثمانية

تلك هي روح الإسلام الجديدة في عنفوانها ، وحدة في المشاعر ، وتفاعل مشترك إزاء المتغيرات .. لكنه تفاعل ظل إلى اليوم عاطفياً ، لعله في زحمة العصر وكثافة المعضلات ، لم يجد مجراه ، لكن غياب المجرى مؤقتاً ، لا يمنع من وجود النهر الواثق العظيم .. فكيف يجد النهر مجراه ؟ بل كيف يعود إلى مجراه؟ هذا هو السؤال.

لم يعد خافياً على أحد اليوم ، أن الحلم المشترك ، لمليار ومائتي مليون مسلم ، هو تلك الثنائية الرائعة:

(1) فجر الإسلام في عهد الرسول الأعظم صلى الله عليه و سلم وعهد الخلفاء الراشدين الأبرار من بعده ، رضي الله عنهم وأرضاهم ، أبو بكر ، وعمر ، وعثمان ، وعلي.

(2) قوة الخلافة العثمانية ، واتساع دار الإسلام في أزهى عهودها ، وسيطرتها على ثلث مساحات الأرض تقريباً.

هذان الوجهان للحلم الإسلامي ، يمثلان الخلفية الفكرية ، الأكثر عمقاً ، والأوفر تواجداً ، في الضمير المسلم ، مهما كان موقع الصحوة جغرافياً ، وكيفما كانت درجة وعيها حضارياً ، وطبيعة علاقتها بالسلطة القائمة سياسياً .

هذان الأساسان التاريخيان ، هما اللذان يتم عليهما عادة إنشاء الصرح السياسي ، الملقب بالمشروع الإسلامي الحضاري ، مثلما يؤسس المشروع الديمقراطي على تاريخ الثورة الفرنسية (1789م) ، ومثلما يؤسس المشروع الاشتراكي على الثورة الروسية (1917م).

هذان هما المرجعان ، أخلاقياً ، وسياسياً ، واقتصادياً ، وفقهياً.

- فجر الإسلام ، والخلافة العثمانية.

طبعاً عندما تقرأ آلاف الكتب والمقالات ، الصادرة عن الإسلام الراهن ، وعندما تحضر مئات الندوات والمؤتمرات ، المنعقدة عن أمة الإسلام ، سوف تعجب من وفرة المصادر التاريخية ، والمرجعيات الفكرية ، ولابد أن تعثر على تاريخ الدولة الأموية ، والدولة العباسية ، وفتوح هاتين الدولتين ، وأسباب تقدم الحضارة الإسلامية ، في عهديهما ، شرقاً وغرباً ، وشمالاً وجنوباً ، ثم لابد أن تلمس العناية بدول : السلاجقة ، والفاطميين ، والموحدين ، والمرابطين ، وأن تجد اهتماماً فائقاً بمنارات أصبحت رموزاً للإسلام ، أمثال عمرو بن العاص ، وموسى بن نصير ، وعقبة بن نافع ، وصلاح الدين الأيوبي ، وعبد المؤمن بن علي ، وغير هؤلاء الأبطال كثيرون.

لكن الحلم الكامن في الضمير الجماعي ، لدى صفوة المسلمين ، وفي الشارع الإسلامي ، هو بلا منازع المتعلق بالمرجعين : فجر الإسلام في نقائه ، وجلاله وصفاته وسنة رسوله ، وأخلاق خلفائه الأربعة من جهة ، ثم الخلافة العثمانية بقوتها العظمى ، وسيطرتها على البحر والبر ، وسيادتها على المضايق ، وعدم تفريطها في أراضي المسلمين وأعراضهم من جهة ثانية ، كآخر خلافة جامعة للمسلمين حتى العشرينيات من هذا القرن.

ومن الطبيعي أن يكون هذان المرجعان ، هما الحلم الحي ، المنعش لصحوة الإسلام الراهنة ، والمحرك القادر للحركات الفكرية الإسلامية ، في زمن صعب ومتشعب ، يعتبر النقيض تماماً وعلى كل المستويات لهذين المرجعين الكبيرين .

يعيش الشباب المسلم ، أينما كان نقيض هذين المرجعين ، فبينما هو يتأمل عدل الرسول صلى الله عليه و سلم وعدل خلفائه البررة رضي الله عنهم ، يعيش واقعاً يتميز بالمظالم على أصعدة كثيرة : سياسية ، وقضائية ، واقتصادية .. وبينما يقرأ عن جهاد فجر الإسلام ، يعيش سلسلة متصلة من الاستسلامات .. وبينما يتذكر الانتصارات والفتوح ، التي انطلقت من جزيرة العرب ، حتى غطت نصف المعمورة ، يعاني من الهزائم المتوالية ، والغزوات الصليبية والصهيونية المتعاقبة ، على أرضه وثقافته وثرواته . وتتحول لديه ، وفي ضميره ، صورة الخلافة العثمانية -آخر الخلافات- إلى غاية منشودة ، بما كانت ترمز إليه ، رغم نواقصها وعثراتها ، من اجتماع المسلمين في كنف واحد ، وتضامنهم شعوباً وقبائل ، مهما اختلفت أعراقهم وأجناسهم.

فالماضي لدى شباب الإسلام ، يكاد يكون مختزلاً في هذين الأصلين ، ويصبح الماضي في الوعي الإسلامي المشترك مستقبلاً ، تتطلع إلى تحقيقه تلك الحركات الفكرية والسياسية ، التي تعتمد الإسلام منطلقاً ، وقاعدة وأداة كفاح .

والخطر المحدق ، هو أن يظل الحلم حلماً ، ولا يتحول إلى واقع.

الخطر أن يجهض الحلم ، وهو بصدد التكوين ، فيقع وأد النطفة ، لكي لا تصبح جنيناً في رحم الحضارة .

الخطر أن يتجمد الفكر المسلم ، ويتجلد ، وهو في مرحة الحلم بالمرجعين الأساسين ، بينما يفرض عليه أعداؤه الأمر الواقع ، بتضافر قوى الردة ، والجاهلية ، والصليبية ، والصهيونية .

كيف يمكن توظيف المثل الأعلى ، لتحديد مصير إسلامي أفضل ؟ فقد أثبت التاريخ الإنساني ، أن المثل العليا يمكن أن تظل مثلاً عليا ، على مدى قرون طويلة ولا تتجسم .. وأسطع مثال على ذلك ، المدينة الفاضلة ، التي رسم ملامحها الفلاسفة الإغريق (بداية من 490 قبل المسيح) فتبارى أفلاطون ، وسقراط ، وأرسطو ، وديمقرطيس ، وأبيقور ، وليوكريتس ، على مدى أربعة قرون ، في تشييد مشروع فلسفي متكامل ، ظل على مدى ألفي سنة ، أي إلى يومنا هذا ، مجرد مشروع .. محض حلم ذهني .

والمدينة الإغريقية الفاضلة (جمهورية إفلاطون) ، تناولت لأول مرة في التاريخ الإنساني المعروف ، قضايا الحرية ، والعبودية ، والأخلاق ، والهمجية ، والطبيعة ، والسلطة ، والدين ، والجنس ، وحدود المقدرة البشرية ، أي تعمقت في كل المستويات الفلسفية المعلومة لدينا .. لكن المشروع ، ظل مشروعاً ، وانتهت أثينا إلى نوع من الحكم القهري ، وإلى انقسام حاد وشرس بين الأحرار والعبيد (150 ألفاً من العبيد في مجتمع يعد 400 ألف من المواطنين) ، وإلى انتحار الفلاسفة ، واضطهادهم ، ونفيهم ، وقتلهم . وخارجياً انهار المشروع الطوباوي ، في حروب طويلة بين أثينا واسبرطة ، وحروب أطول بين اليونان والفرس .

ثم انتهت مغامرة الإسكندر إلى انتصار القوميات ، التي أراد أن يصهرها ، ونشوء الأوطان ، التي أراد أن يقهرها ، وقيام الحدود ، التي أراد أن يمحوها.

وكأن الإسكندر بن فيلبوس المقدوني ، في تلك النهاية ، يشكل تحطم مشروع الفلسفة اليونانية على صخور التاريخ ، وجاءت سورة الكهف في القرآن الكريم تلخص من الآية 83 إلى الآية 99 هذه الجملة من التداعيات ، قال تعال : (ويسئلونك عن ذي القرنين قل سأتلوا عليكم منه ذكراً * إنا مكنا له في الأرض وءاتيناه من كل شيء سبباً * فأتبع سبباً * حتى إذا بلغ مغرب الشمس وجدها تغرب في عين حمئةٍ ووجد عندها قوماً قلنا ياذا القرنين إما أن تعذب وإما أن تتخذ فيهم حسناً * قال أما من ظلم فسوف نعذبه ثم يرد إلى ربه فيعذبه عذاباً نكراً * وأما من ءامن وعمل صالحاً فله جزاءً الحسنى وسنقول له من أمرنا يسراً * ثم أتبع سبباً * حتى إذا بلغ مطلع الشمس وجها تطلع على قوم لم نجعل لهم من دونها ستراً * كذلك وقد أحطنا بما لديه خبراً * ثم أتبع سبباً * حتى إذا بلغ بين السدين وجد من دونهما قوماً لا يكادون يفقهون قولاً * قالوا يذا القرنين إن يأجوج ومأجوج مفسدون في الأرض فهل نجعل لك خرجاً على أن تجعل بيننا وبينهم سداً * قال ما مكنى فيه ربي خير فأعينوني بقوة أجعل بينكم وبينهم ردماً * ءاتوني زبر الحديد حتى إذا ساوى بين الصدفين قال انفخوا حتى إذا جعله ناراً قال ءاتوني أفرغ عليه قطراً * فما اسطعوا أن يظهروه وما استطاعوا له نقباً * قال هذا رحمة من ربي فإذا جاء وعد ربي جعله دكاء وكان وعد ربي حقاً )(الكهف:83-99) .

ولا يفوتنا تمسكاً بالدقة، أن نشير في هذا الباب ، أن اختلافاً كبيراً ، قام بين علمائنا المفسرين ، حول هوية ذي القرنين المذكور في سورة الكهف. فبينما أقر الألوسي ، والثعالبي ، وغيرهما ، أن المقصود هو الإسكندر المقدوني ، نفى ذلك ابن كثير ، ومحمد الطاهر بن عاشور ، وغيرهما ، وقدم كل من الفريقين حججاً وبراهين ، بل إن الشيخ عبد الرحمن الثعالبي (القرن الثاني هجري -الرابع عشر مسيحي) يروي (أن جميع من ملك الدنيا كلها أربعة: مؤمنان وكافران: فالمؤمنان سليمان بن داود عليهما السلام، والإسكندر الأكبر، والكافران نمرود وبخت نصر) .

ونميل نحن إلى الاعتقاد إلى ما أكده الشيخ سعيد حوي ، حينما ذكر أن النص القرآني لا يذكر شيئاً عن شخصية ذي القرنين ، ولا عن زمانه ، أو مكانه ، فالمقصود إذن هو العبرة المستفادة من القصة ، والعبرة تتحقق بدون الحاجة إلى تحديد الزمان والمكان في أغلب الأحيان.

وإني أستدل بعرض هذه القصة القرآنية ، على أن الله سبحانه وتعالى ، ضرب المثل بها ، على هشيم المشروع الحضاري الإغريقي: (قال هذا رحمة من ربي فإذا جاء وعد ربي جعله دكاء وكان وعد ربي حقاً ).

فالإسكندر كان تمليذا لفلسفة اليوانيين ، وتعلم منهم مجموعة القيم التي انطلق غازياً ، لتجسيمها ، واختلف المؤرخون بعد ذلك في قضايا إيمانه وتوحيده ، لكن العبرة - في نظري المتواضع - من ذكره في سورة الكهف ، هي الإقرار حسب نص الآية الكريمة ، بأن وعد ربي كان حقاً ، حين اندثر صرح الإسكندر الأكبر ، لأسباب عديدة ، أحصت تلك الآيات البينات خلفياتها ، ولسنا في هذا المجال بصدد إفرادها بالتحليل.

لكن هنا تتجلى إرادة الله تبارك وتعالى .. كأنما اندثر الحكم الإغريقي إلى حين أعد الله الأمة الإسلامية ، في خلافة الدولة العباسية لإحيائه ، وتعريبه وتوزيعه ، بل وإثرائه ونقده وتحديثه ، حتى كانت الريادة الحضارية للإسلام الحنيف ، بفضل تفاعل ذلك التراث العلمي والفلسفي اليوناني ، مع العقل المسلم ، الذي تميز بالمغامرة الفكرية الموفقة ، والتسامح الفطري الرائع ، وإرادة الفتح ، والانتشار بالثقافة والعلوم والآداب

=============

# الخلاصة

لقد حاولنا في فصول هذا الكتاب ، أن نتجنب الجدل مع صاحب نظرية صراع الحضارات (أو صدام الحضارات) تيمناً بالفقهاء المسلمين الأولين ، الذين يتورعون عن الخوض في صراع شخصي ، أو فكري ، مع صاحب رأي ، مفضلين على الصدام إقامة الحجة ، وإصابة المعنى ، وإيجاز اللفظ.

ولقد رد على صوميل هنتينجتون ، مثقفون مسلمون كثر جزاهم الله خيراً ، كفونا مؤونة المواجهة الفكرية . إننا أردنا هذا العمل ، بياناً لما يمكن للمسلم أن يتحصن به ، من جليل المثل ، وكريم المباديء ، وقوي العتاد ، وهو يسعى لحوار الحضارات ، فلا يتأخر عن نداء المصير ، متمسكاً باحترام صادق لكل الحضارات ، رافع الهامة بكبرياء مشروعة ، معتزاً بذلك الذخر النادر ، والكنز الثمين : تراثه التشريعي ، والسياسي ، والاقتصادي ، والثقافي الإسلامي.

ثم إننا لابد أن نستخلص صفوة الاعتبار ، من نظرية هنتينجتون ، لأنها ليست نتيجة اجتهاد ذاتي ، لأحد الأساتذة الأمريكان ، بل هي أرضية لاستراتيجية السياسة الخارجية الأمريكية والأوروبية ، بإزاء الأمة الإسلامية ، حتى وإن لاحظنا اختلافاً طفيفاً حول الجزئيات ، ثم أنها تترجم يومياً ، في منطق النظام العالمي الجديد ، إلى مواجهة معلنة ، مع تطلعات المسلمين الشرعية ، وحقوقهم الطبيعية ، وتكفي الإشارة إلى مأساة الشعب البوسني المسلم ، وهو يستشهد في قلب أوروبا ، ضحية صراع الحضارات ، ويكفي النظر في فاجعة الشعب الفلسطيني المسلم ، وهو يقاوم الهمجية الصهيونية ، ويسقط شبابه بالعشرات كل يوم ، وكذلك الحال بالنسبة للوجود المسلم في أوروبا ، حيث تعاني الأقليات المؤمنة بالله ، اضطهاد اليمين المتطرف ، والنزعات الصليبية المرخص لها بالعمل السياسي، والمشاركة في هياكل الحكم ، باسم الديمقراطية .. وتكفي الإشارة أيضاً إلى التيه ، في المجتمعات المسلمة ، بين الحفاظ على الأصول ، والهرولة وراء أوهام اللحاق بركب الشعوب الغربية.

هذه بعض مظاهر الصراع بين الحضارات ، مما يدل دلالة قاطعة ، على أن نظرية صمويل هنتينجتون ، كما أسلفنا ، ليست مجرد طرح شخصي ، قابل للنقاش أو التفنيد ، بل هي تلخيص نظري سياسي ، لمجمل العلاقات الدولية ، بين الغرب والحضارة الإسلامية ، كما يراها الغرب ، ويخطط لتنفيذها .

لذلك وجب علينا اختزال مطالبها ، والتعرف إلى ما تهيئه لنا النظرية ، من سوء العاقبة ، وبئس المصير .

يرى هنتينجتون :

(1) أن الديمقراطية نعمة غربية ، لا يمكن أن يتمتع بها المسلمون ، لأنهم باسمها ينصبون في الحكم الاتجاهات المتطرفة .

(2) أن السلام الدولي ، يجب أن يقتصر على الغرب ، لأن انسحابه على العالم الإسلامي ، يحرم الغرب من بيع السلاح ، وشفط الاحتياطي من الثروات.

(3) أن تحديد النسل عملية استعجالية للعالم الإسلامي ، نظراً لتزايد المسلمين ، واختلال التوازن الديمغرافي مع العالم الغربي.

(4) من الحكمة أن يقع دعم وتأييد ، الجماعات الموالية للمصالح والقيم الغربية ، في العالم الإسلامي .

(5) تقوية المؤسسات الدولية ، التي تعكس المصالح الغربية ، وإعطاؤها الشرعية والعمل على دفع الدول غير الغربية ، للانضواء تحت جناح هذه المؤسسات.

(6) مزيد من تكريس الحضارة اليهودية المسيحية ، ذات المباديء المشتركة ، بإزاء الحضارة الإسلامية.

هذه هي أبرز عناصر نظرية صدام الحضارات ، باختصار مفيد ، لأن مقالة هنتينجتون الشهيرة ، تمضي في تحليلها ، وتفسيرها ، بإعطائها أبعاداً استراتيجية عديدة ، ومن اليسير أن يفهم القاريء ، أن إضافة الحضارة الكنفشيوسية ، بجانب الحضارة الإسلامية ، في مواجهة الغرب ، ما هو إلا للتخفيف ، من عنف ذلك الصدام المعلن ، وإنما تفكير صاحب النظرية كله كان متجهاً للإسلام ، وصحوته الجديدة ، التي يصفها هنتينجتون ، بأنها (صحوة متوحشة مفترسة) ، بينما يصف الخطر الأصفر (الصيني اساساً ) بأنه ( خطر بطيء ومعتدل ).

ومن خلال الاستنتاجات الستة ، التي يقترحها المقال ، يمكن أن نستخلص نحن ست مناهج مضادة ، تكون في مصلحة الإسلام ، وتصب في خير المسلمين ، وتجعل الحضارات المستكبرة ، تقرأ لأمتنا حسابها ، كلما سعت الإنسانية إلى تحقيق مصيرها المشترك ، عوض محاولات تهميشنا خارج حركة التاريخ:

(1) إذ اعتبر هنتينجتون الديمقراطية نعمة غربية ، فإن علينا اعتبار الشورى نعمة إسلامية ، وممارستها في كل مستويات مجتمعاتنا ، حتى يقع حل المشكلة الكبرى المطروحة في عالمنا الإسلامي ، ألا وهي مشكلة الشرعية ، فنكون بذلك حققنا إنجازاً سياسياً عملاقاً ، يتمثل في التوافق بين إرادة الحاكم ، وإرادة المحكوم.

فالشرعية هي مصدر قوة الشعوب ، وانعدامها يجعل الراعي في واد ، والرعية في واد ، ولا يلتقيان ، مما يصرف الأمة عن رفع تحدياتها ، ويطلق العنان للاستبداد والضلال ، ويفتح أبواب العنف ، والعنف المضاد، ولما عناه عبد الرحمن بن خلدون حين قال : تصريف الآدميين طوع الأغراض والشهوات.

(2) يقترح هنتينجتون استثناء المسلمين من عملية السلام ، ونرى نحن أن تسعى الشعوب المسلمة ، أولاً إلى إقرار السلام المدني ، في داخلها ، وبين أبنائها ، ثم إقرار السلام ثانياً بين بعضها بعضاً. فصراع الحضارات موجود داخل المجتمعات المسلمة كلها ، ويكاد يكون محتدماً ، داخل معظم الأسر المسلمة ، نظراً لاختلاط القيم ، وامتزاج المفاهيم ، بين الأصالة والمعاصرة . فالسلام مفقود في ذواتنا ، وعلينا استحضاره بيننا ، بعلم تربوي مؤصل ، وحركة فكرية حرة ، والدخول إلى العصر من مسالكنا الأصيلة . وإذا تحقق ذلك ، يصبح السلام بيننا ، وبين الشعوب الأخرى ، ممكناً لأنه يعقد ميثاقاً بين أمم نظيرة ، منيعة ، وإلا فهو سلام هش ، يقوم على الهيمنة والسلب والإخضاع.

(3) كان الموقف الإسلامي في المؤتمر العالمي للسكان والتنمية موقفاً متناسقاً ، ولابد من عمل إسلامي ، مكثف لإلغاء جرائم الإجهاض ، التي ترتكب في بعض المجتمعات المسلمة ، تحت ستار التنظيم العائلي ، وتحرير المرأة ، وهي جرائم رفضتها الضمائر الكتابية ، في أمريكا وأوروبا ، فتنظيم العائلة المسلمة ، له وسائل أخلاقية أخرى ، غير هذه العلميات الإبادية ، الرامية إلى إعدام المسلمين في الأرحام ، قبل إعدامهم في الانتفاضات ، والمداهمات ، والمصادمات.

(4) يدعو صمويل هنتينجتون ، إلى دعم الجماعات الموالية للمصالح والقيم الغربية ، في العالم الإسلامي ، وهذا من حقه كمدافع عن حضارته ، ولكن من واجبنا نحن ، دعم الاتجاهات الموالية للمصالح والقيم الإسلامية ، إذا ما تحلت بالفضيلة ، والوسطية ، والاعتدال.

(5) يطرح هنتينجتون بوضوح مباشر ، ما يومئ إليه غيره بتقية ، وهو أن المؤسسات الدولية ، من منظمة أممية ، ومجلس أمن ، ومصارف ، ومنظمات مختصة تابعة لها ، تعكس المصالح الغربية ، وتعطيها الشرعية . وصاحب هذا الاعتراف مشكور على تأكيد ما نعتقده نحن ، وما أشرنا إليه منذ عقدين على الأقل. ولكننا مدعوون كأمة إسلامية ، ذات وزن ، ونمثل خمس الإنسانية ، أن نعود بهذه المؤسسات الدولية، إلى احترام مواثيقها ، والحرص على خدمة قضايا الحق والعدل والسلام ، ونحن نسجل بأسف ومرارة ، استعمال الأمم المتحدة ، أداة لإضفاء الشرعية على عالم المظالم الدولية ، الموجهة ضد المسلمين ، في كل بقاع الدنيا ، حتى أفرغت من محتواها ، وسخرت لعكس ما وضعته لنفسها من رسالة . ولابد كذلك من تفعيل أجهزة إسلامية ، مثل منظمة المؤتمر الإسلامي ، بعد فشل جامعة الدول العربية .

(6) يضيف صمويل هنتينجتون لبنة أخرى إلى هرم شامخ من البهتان التاريخي ، والتزوير الحضاري، بإلحاحه على تكريس ما سماه : الحضارة اليهودية المسيحية . فاليهود شرقيون ، وارتباطهم بالحضارة الإسلامية وثيق وقوي ، ولم يحمهم من اضطهاد المسيحية ، إلا المسلمون ، في أحداث عظمى ، معروفة مثل محاكم التفتيش في الأندلس (1492م) ، حيث التجأوا إلى الخلافة الإسلامية والمغرب الإسلامي ، ثم عمليات إبادة النازية ( 1939 - 1945م ) ، حيث احتضنتهم الشعوب المسلمة ، قبل أن يتحولوا إلى رأس حربة ، للإمبراطوريات الاستخرابية ، عام 1948م ، بتأسيس كيان عنصري ، متوسع باستمرار ، في فلسطين . إن علينا كمسلمين ، اعتبار اليهود أصحاب دين سماوي كريم ، لا يحق لهم العدوان على حقوقنا في القدس الشريف ، وفرض وضع مخز على ملايين المسلمين في فسلطين . فكل سلام لا يؤسس على الحق ، والعدل ، والقسطاس ، سلام قصير هش زائل ، وليست هناك مرجعية للقضية الفلسطينية ، إلا المرجعية الإسلامية ، من جهاد عمر بن الخطاب رضي الله عنه ، إلى جهاد عز الدين القسام رحمه الله ، مروراً بجهاد صلاح الدين أكرم الله مثواه .

اللهم اجعلنا من عداد (الذي استجابوا لربهم وأقاموا الصلاة وأمرهم شورى بينهم ) ، واجعل كتابي هذا نصراً لأمتك ، وتعزيزاً لدينك ، واغفر لي ، واعف عني ، إن قصرت ، أو أخطأت ، فغاية مناي أن أثير الأقلام الصادقة ، وأستنفر النفوس المؤمنة ، لتدارس أحوال المسلمين، ونحن في عصر الاتصالات الآنية ، والثقافات الطاغية ، والقوى المهيمنة ، فعسى أن تكون لجيلنا أمانة يؤديها ، ورسالة يبلغها ، حتى يتبين لنا الرشد من الغي ، والخير من الشر ، والحق من الباطل.

سبحانك اللهم أنت مولانا ، ونعم النصير

=============

# المنهج النبوي و التغيير الحضاري

برغوث عبدالعزيز بن مبارك

* من مواليد رأس العيون، ولاية باتنة، الجزائر.

* دراسات عليا في علوم الوحي والعلوم الإنسانية.

* شارك في العديد من الدراسات المنهجية في الصحف والمجلات.

* عمل محاضراً في الجامعة الجزائرية في قضايا الاقتصاد والحضارة.

* نشرت له عدة دراسات في مجلات وصحف، في مجالات: الاقتصاد الإسلامي، التغيير الاجتماعي، البناء الحضاري، الثقافة.. إضافة إلى دراسات أخرى حول أفكار ابن خلدون، ومالك بن نبي رحمهما الله.

تقديم : عمر عبيد حسنه

الحمد لله ، الذي أنزل القرآن ، مصدقاً لما بين يديه من الكتاب ، ومهيمناً عليه ، وجعله للناس شرعة، ومنهاجاً ، واعتبر العدول عن منهجه ، والالتزام بحكمه ، عدولاً عن الحق ، ووقوعاً في الهوى والضلال، وحذر الرسول صلي الله عليه و سلم ، والسائرين على طريق الاقتداء والتأسي ، من الفتنة التي يكون بها العدول عن بعض ما أنزل الله ، بقوله: (وأنزلنا إليك الكتاب بالحق مصدقاً لما بين يديه من الكتاب ومهيمناً عليه فاحكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم عما جاءك من الحق لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجاً ولو شاء الله لجعلكم أمة واحدة ولكن ليبلوكم في مآءاتاكم فاستبقوا الخيرات إلى الله مرجعكم جميعاً فينبئكم بما كنتم فيه تختلفون ، وأن أحكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم واحذرهم أن يفتنوك عن بعض ما أنزل الله إليك )(المائدة:48-49) ، وذلك أن العدول عن بعض المنهج ، عدول عن الكل .. كما أن التعديل في بعض جوانب المنهج ، هو عدول في حقيقة الأمر ، وسقوط في علل التدين ، التي وقعت بها الأمم الماضية ، من الإيمان ببعض الكتاب والكفر ببعضه الآخر ، وما لحق بها بسبب ذلك ، من الخزي والسقوط في الدنيا ، والعذاب الأليم في الآخرة ، قال تعالى : (أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض فما جزاء من يفعل ذلك منكم إلا خزي في الحياة الدنيا ويوم القيامة يردون إلى أشد العذاب .. )( البقرة : 85) .

ولقد اعتبر الله حال الذين جعلوا القرآن ( الشرعة والمنهاج ) تفاريق وأجزاء ، يؤخذ بعضها ، ويترك بعض - هؤلاء الذين جعلوا القرآن عضين - كحال المقتسمين الذين سبقوهم من الأمم السابقة ، فافسدوا على الأمة منهجيتها القرآنية ، وأوقعوها في الهوى والضلال ، والمعاصي ، والإصابات ، التي تعاني الأمة من آثارها اليوم ، أو التي تشكل أزمتها الحقيقية ، وتتسبب فيما يقع عليها من العقوبات ، وما يمارس عليها من الفتن ، والمساومات من (الآخر) لإخراجها عن بعض ما أنزل الله عليها ، قال تعالى:(كما أنزلنا على المقتسمين ، الذين جعلوا القرآن عضين ، فوربك لنسئلنهم أجمعين ، عما كانوا يعملون )( الحجر:90-93). والصلاة والسلام على الرسول القدوة ، الذي أصّل المنهج الإلهي ، وبيّنه ، وجسّده ، في واقع الناس ، في ضوء هدايات الوحي الأعلى ، ومن خلال عزمات البشر ، واستطاعتهم ، وتركنا على المحجة البيضاء ، ليلها كنهارها ، لا يزيغ عنها إلا هالك ، متمثلاً قوله تعالى: (قل هذه سبيلي أدعوا إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعني وسبحان الله وما أنا من المشركين )( يوسف : 108).

وقوله تعالى: (وأن هذا صراطي مستقيماً فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله ذلكم وصاكم به لعلكم تتقون ). (الأنعام : 153) ، فوضع بسنته ، وسيرته ، منهج الوصول إلى التمكين في الأرض ، وتحقيق مهمة الاستخلاف الإنساني ، والعمران البشري ، في الدنيا ، والفوز والنجاة في الآخرة ، ومثل لسبيله هذا بخط مستقيم واضح ، ودعا لاتباعه على بصيرة ، ومثل للمناهج الأخرى ، من على يمينه وشماله ، بخطوط متعرجة ، يقف على رأس كل منها شيطان ، يغري باتباعها .

وبعد :

فهذا كتاب الأمة الثالث والأربعون : (المنهج النبوي والتغيير الحضاري) ، للأستاذ برغوث عبد العزيز بن المبارك ، في سلسلة (كتاب الأمة) التي يصدرها مركز البحوث والدراسات ، بوزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية ، في دولة قطر ، مساهمة في استرداد شخصية المسلم المعاصر ، وتحقيق الوقاية الفكرية ، والحصانة الثقافية ، وإعادة بناء المرجعية الشرعية ، وتشكيل مركز الرؤية ، في ضوء هدايات ومعارف الوحي ، وتجارب ومكتسبات العقل ، وإعادة بناء الوعي ، بالمنهج النبوي في التغيير ، والتحويل الثقافي ، وتبيّن الأسباب ، التي حالت دون منهج النبوة ، وحسن التعامل معه ، وامتلاك القدرة على إنتاج النماذج المأمولة ، التي تحقق خلود المنهج ، القادرة على حمل أمانة الاستخلاف ، والعمران ، وإدامة البحث والنظر ، في ظروف وشروط ميلاد المجتمع الأول القدوة ، مجتمع خير القرون ، واستيعاب جميع المراحل التي مر بها ، ووسائل توفيرها ، للإفادة منها في عمليات النهوض ، وتجاوز الواقع ، وردم فجوة التخلف ، من أجل أن يستأنف المسلم رسالته ، ويقوم بالدور الذي ناطه الله به ، في إلحاق الرحمة بالناس ، مستثمراً إمكاناته الروحية ، والذهنية ، والمادية كلها ، ومنطلقاً من ذاتيته الخاصة ، ومرجعيته الشرعية ، على طريق النهوض ، وتحقيق الإرادة ، والإفادة من الإمكان الحضاري ، وفك قيود التحكم ، والارتهان الثقافي ، ومعالجة أسباب التقليد الجماعي والتخاذل الفكري .

وقد تكون الحاجة اليوم ، أشد من أي وقت مضى ، وقد اشتدت الفتن ، وكثر الغثاء والادعاء الثقافي ، وشاع مناخ التضليل والضلال ، وتطبيع الهزيمة ، وتقطيع الرؤية الإسلامية ، لإيجاد المسوغات للسقوط الحضاري ، والفلسفات لتكريس الهزائم على الأصعدة المتعددة .. قد تكون الحاجة اليوم ، أشد من أي وقت مضى ، إلى اللجوء إلى المنهج النبوي ، والاحتماء والتشبث به ، والعض عليه بالنواجذ ، خوفاً من الاقتلاع والضياع ، ومن ثمّ محاولة استقرائه بوعي وإحاطة ، وقراءة الواقع ، والحال الذي صار إليه ، والتعرف علىأسبابه ، ومحاولة تحديد المكان والموقع المناسب ، الذي يمكن أن يوضع فيه هذا الواقع ، من خلال المنهج النبوي في التغيير ، ومسيرة السيرة النبوية ، من خلال استيعاب المراحل كلها ، لتكون كل مرحلة أنموذجاً ومحل اقتداء للمرحلة التي تماثلها في واقع الأمة ، ابتداءاً من مرحلة الاستضعاف ، والاحتفاظ بالإيمان في القلب ، والاقتصار على كف اليد ، وإقامة الصلاة ، حتى تتوفر الإمكانات ، ويحضر الواقع ، وانتهاءاً بمرحلة التمكين في الأرض ، والدفاع عن إنسانية الإنسان ، وتحقيق حرية اختياره ، والحيلولة دون افتتانه .. أو إبتداءاً من مرحلة : (اقرأ ) كمدخل وسبيل إلى التغيير ، وانتهاءاً بمرحلة الاكتمال والكمال ، التي يشير إليها قوله تعالى : ( اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام ديناً )(المائدة : 3) .

ذلك أن المنهج النبوي في التغيير ، والبناء الحضاري ، وسيرة الرسول صلي الله عليه و سلم في التعامل مع الواقع ، قد استوعب ، ومر بالحالات كلها ، التي يمكن أن تعرض لها المجتمعات البشرية بشكل عام ، والإسلامية بشكل خاص ، نهوضاً وسقوطاً وحركة وركوداً ، وامتلك الحلول والإجابات الكاملة ، لأصول المشكلات الإنسانية والاجتماعية ، وكيفيات التعامل معها ، وإلا كيف استحق أن يكون خالداً ، وأن يكون محل الأسوة والاقتداء؟!

لذلك فمن الأهمية بمكان - ونحن بسبيل معاودة النهوض - امتلاك القدرة على الوعي بالمنهج النبوي في التغيير والبناء الحضاري ، وإدراك مراحله بدقة ، ومقاصده في كل مرحلة ، ومرونته في التعامل مع الواقع ، في ضوء تلك المقاصد ، أمراً ونهياً ، وحظراً وإباحة ، ورخصة ، وعزيمة ، بحسب الظروف والأحوال ، والاستطاعات ، وتوفر الأسباب ، ومن ثم القدرة على تحقيق خلوده ، وذلك بتجريده من حدود وقيود الزمان والمكان ، وتوليد الرؤى ، والأحكام الشرعية ، والحلول النبوية ، للحالات ، مع مراعاة الأعمار التي يمر بها المجتمع ، وتنزيل هذه الحلول على الواقع ، في ضوء ظروفه ، وامكاناته ، وموقعه من مسيرة المجتمع الأول وسيرته ، مع الأخذ بعين الاعتبار ، أن اعتماد المرحلية والتدرج لا يعني بحال من الأحوال تجزيء المنهج ، وتقطيعه ، بمقدار ما يعيني استصحاب المراحل كلها ، التي مر فيها المجتمع القدوة ، للوصول إلى مرحلة الاكتمال والكمال ، والإدراك الكامل لأبعاد حركة النهوض الشاملة ، ومستلزماتها ، من خلال المرحلة والموقع ، الذي يكون عليه المجتمع اليوم ، لتجيء هذه المرحلة في عمرها وموقعها ومكانها مستقبلاً ، لبنة في البناء الكامل المأمول.

إن العودة إلى بعض مراحل السيرة ، فيما قبل مرحلة الاكتمال والكمال ، للمجتمع القدوة ، ومحاولة الاستضاءة بها ، لحل المشكلات المشابهة ، من واقع المجتمع ، واستطاعته ، لا تعني هنا النكوص والتراجع ، بمقدار ما تعني المراجعة للواقع ، وظروفه ، واستطاعته ، ومحاولة تحضيره ، والنهوض به ، في ضوء الرؤية الشاملة ، لمسيرة مجتمع القدوة..

وفي ظني : أن الذين يشيعون ، ويدّعون أن أزمة الأمة المسلمة اليوم ، أو أزمة العمل الإسلامي ، هي أزمة منهج ، هكذا بدون تحديد واضح للمصطلحات ، وبيان ما هو المقصود بالمنهج ، الذي نعاني من غيابه ، أو أن غيابه هو سبب الأزمة ، يساهمون أيضاً في الغيبوبة والالتباس .. إن هذا الادعاء ، بهذه المجازفة والعمومية الشديدة ، يحمل من المخاطر والبلايا والطوام ، والتضليل الثقافي ، والإلغاء للانتماء ، والانتهاء إلى الارتماء ، واستدعاء (الآخر) ، أو بشكل أصح استدعاء منهاج (الآخر) ما لا يعلم مداه إلا الله سبحانه وتعالى ، سواء صدر عن حسن نية من بعض البسطاء ، الذين انتهت عقولهم إلى آذانهم ، والذين يقْفُون ما ليس لهم به علم - وما أعتقد أن مثل هذه القضايا الشائكة محلها البسطاء - أو من بعض المَكَرة ، الذين يحاولون التسلل إلى الداخل الإسلامي ، من خلال التدليس ، والتلبيس للمصطلحات ، والتأنيس والمقاربة لمصطلحات (الآخر) ، والإيهام بأن القضية قضية إبداع فكري ، ضمن القيم نفسها ، لتمرير طروحاتهم ، بينما الأمر في الحقيقة لا يخرج عن أن يكون بدعاً فكرية ، غريبة عن مرجعية هذه الأمة ، وبعيدة عن منهج وفهم الجيل الأول ، المشهود له بالأهلية ، ليكون هو وحده بفهمه ومسالكه محل الاقتداء.

وهنا قضية لابد من تحرير القول فيها ، ما أمكن ، وهي أننا إذا كنا نريد بالمنهج ، أنه بشكل عام هو : منهجية النظر والبحث ، وعلوم الطريق الموصلة إلى الهدف ، أو بتعبير آخر : أن المنهج هو طريق الوصول ، يصبح من الضروري ، أن نحدد ، ما هي الأهداف ، التي نريد الوصول إليها ابتداءاً ، ومن ثم ، ما هي الوسائل والأدوات والمعارف المطلوبة ، لتحقيق هذه الأهداف؟ مع ضرورة الانتباه إلى أهمية عدم المجافاة بين الوسائل المعتمدة ، في مشروعيتها والأهداف المرجوة.

فإن كان المنهج المقصود هو نظام مسيرة الحياة في هذه الدنيا ، والأهداف هي سعادة الإنسان ، وكرامته ، وحياته الطيبة ، في الدنيا والآخرة ، وما يتطلب ذلك من الوسائل التربوية ، والأوامر والنواهي ، فإن أي ادعاء بأن الأزمة التي نعاني منها ، أزمة منهج ، يمكن أن يخرج عن الملة - والعياذ بالله تعالى - لأن الله سبحانه وتعالى يقول: (فاحكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم عما جاءك من الحق لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجاً ) (المائدة : 48) ، فالمقصود بالحكم بما أنزل الله ، المنهج الذي شرع الله التزامه .. والحكم الذي شرعه الله هنا ، لا يخص الجانب السياسي ، أو التشريعي ، أو الأخلاقي ، أو الاقتصادي ، أو التربوي ، وإنما يعني ذلك جميعه ، بكل ما يتطلب المنهج من منطلقات أساسية ، وأهداف مرحلية ، ونهائية واضحة ، ووسائل وأوامر ونواة ، وقيم ومعايير ثابتة ، ليست من وضع الإنسان .. وما يتطلب أيضاً من أنموذج تطبيقي لهذا المنهج ، أشبه ما يكون بوسيلة إيضاح معينة على تنزيل قيم المنهج على الواقع ، وتحويل فكره إلى فعل مجسد في حياة الناس ، أو هو كالمجسمات والنماذج ، والصور ، التي تبين الشكل ، الذي لابد أن تنتهي إليه الوسائل.

وهنا نقول : إن الأزمة التي نعاني منها ، ليست أزمة منهج ، وإنما أزمة فهم للمنهج ، وأزمة تعامل مع المنهج .. أزمة تنزيل للمنهج على الواقع ، وتقويمه به .. فالاسلام بمصدريه : الكتاب والسنة ، والسيرة كتنزيل عملي وأنموذج ، هو المنهج ، وأن المعايرة للواقع ، والتحديد للخلل ، إنما يكون في ضوء الكتاب ، والسنة ، والسيرة ، وأن أي معاودة للنهوض ، واستئناف السير ، مرهون بتقويم الواقع ، بمنهج الكتاب ، والسنة ، والسيرة .. فالإسلام هو المنهج ، وهو الصراط ، وهو السبيل ، وهو الحجة ، وهو موثق الاستمساك والتلقي ، والمعايرة ، واكتشاف الخلل ، وتحديد الأزمة ، أو هو بكلمة جامعة : الدين ، الذي يحكم تصرفات الإنسان ، أو يدين له الإنسان بتصرفاته ، ونشاطه ، لأن أي عدول عن هذا ، أو تعديل له - والتعديل هو عدول في الحقيقة ، عن بعض الجوانب ، كما أسلفنا - إنما يعني بالضرورة استدعاء مناهج ونظم معرفية ، ومسالك ومعايير (الآخر) وليس من (آخر) الآن ، سوى المنهج الغربي ، بوسائله ، وأدواته ، ونظامه المعرفي.

إن اعتماد المنهج الغربي ، في النظر ، والتحليل ، والدراسة ، سوف يؤدي بالضرورة أيضاً ، إلى أن يصبح الإسلام ، كتاباً ، وسنة ، وسيرة ، هو مادة التحليل ، ومحل وموضوع النظر ، وليس منهج النظر ، ومعيار التقويم .. ولا يغيب عنا هنا التذكير بالأبجديات الخاطئة في قراءة الإسلام ، من ماركسية ، ورأسمالية وعلمانية ، وكل المقاربات التي تتم وتملأ الساحة الثقافية اليوم ، حيث باتت ، مصطلحات (الآخر) هي أدوات ، ومحددات الفهم ، والقسمات الفكرية ، لأي باحث .. وهنا يبرز التناقض والضياع وتزييف الوعي ، أو التدليس ، عن وعي.

وحتى لو سلمنا بحسن النية - وما نظن ذلك حاصلاً في هذه المواطن الخطيرة - فإن فصل الأدوات المنهجية عن نظامها المعرفي ، ومرجعيتها الفكرية ، ومضمونها القيمي ، هو خلل منهجي ، وتفتيت للنظرية ، وتجزيء لها ، ومحاولة نقلها للتشغيل ، والتعامل مع نسق آخر.

ذلك أن الأدوات المستخدمة ، وعلوم طريق الوصول ، والتبصير بما يمكن أن يتحصل من إصابات في الطريق ، وكيفية الوقاية منها ، هو جزء منبثق من المنطلقات ، والقيم ، والنظرة الكلية الشمولية للأهداف ، وليست جزءاً منفصلاً محايداً ، قائماً بذاته.

ونخشى أن نقول : إن الذين يدّعون بأن الأزمة عندنا ، هي أزمة منهج ، متجاوزين في ذلك الصراط ، والشرعة ، والمنهاج ، والسبيل ، والدين ، الذي أنتج هذه الحضارة ، وتلك العلوم ، سوف يقودهم سعيهم إلى تبني واحتضان المنهج الغربي ، في النظر إلى القيم ، والأفكار ، والمجتمعات الإسلامية ، وحتى إلى إعطاء الكتاب والسنة والسيرة ، واعتبارها كسائر المواد التراثية الأخرى ، حتى لو أعلنوا خلاف ذلك .

وهنا تحفظ لابد من التوقف عنده قليلاً ، وهو أن التراث عند من يعّرفه بأنه اجتهاد ، وكسب بشري ، خارج دائرة الكتاب والسنة والسيرة ، قد يغيب عنه ، أنه أثناء فحصه واختباره ، وتقويمه ، ومحاكمته ، لابد من استخدام المنهج ، الذي تم إنتاج هذا التراث في ضوئه ، ومن ثم بيان فساد أو صواب التنزيل والتطبيق لهذا المنهج في الواقع ، لأن من العقم المنهجي ، والفساد الفكري ، محاكمة واقع حضارة وتراثها ، أو إنتاج حضارة ، بأصول ومناهج وأدوات معرفية لحضارة أخرى مغايرة ، في منهجها ، وقيمها ، ومنطلقاتها ، وأهدافها ، ووسائلها.

وقد يكون أحد الوجوه الخطيرة ، للأزمة الفكرية ، التي نعاني منها ، بسبب عجزنا عن التعامل مع المنهج الذي شرعه الله ، وبينته السنة ، ونزلته ، أو طبقته السيرة ، هو الادعاء بضرورة الاقتصار على النص القرآني ، في التقويم ، والمنهجية ، والمرجعية ، والمعايرة ، والعدول عن السنة والسيرة ، أو عن المنهج النبوي في البيان ، والتطبيق ، والتنزيل على الواقع ، أو تجاوزهما عملياً ، بحجة ظنية السنة ، وضعف المروريات ، من وجه ، أو بأن التنزيل على الواقع في فترة السيرة ، كان باجتهاد بشري ، محكوم بظروف الزمان والمكان والحاجات ، لا علاقة له بالنبوة والوحي ، وأن الرسول النبي صلي الله عليه و سلم الذي يبلغ رسالة ربه (القرآن) ، ويبيّن كيفية عبادته ، غير الرسول الحاكم (!!) فالمهمة الأولى هو مؤيد فيها بالوحي ، ومسدد به ، أما الثانية (السنة) فلا وحي فيها ، وإنما هو اجتهاد جاء مناسباً لعصر معين ، ليس بالضرورة ، أن يكون صالحاً لكل زمان ومكان ، وأن إلغاءه ، أو تجاوزه ، لا علاقة له بالدين ، أو التدين (!!) وهذه بدعة في التفكير ، خارجة عما أجمع عليه المسلمون في عصورهم المتطاولة ، ووسيلة ماكرة لعلمنة الإسلام ، ومحاصرة المنهج القرآني ، وإقصائه ، بمحاولة إلغاء سنة الرسول صلي الله عليه و سلم ، في التطبيق والبيان ، لكنها اليوم باسم الإسلام ، وهي لا تقل خطراً وأثراً عن الابتداع في العبادة .. إنها مروق من الدين ، كما يمرق السهم من الرقبة.

أما القول : بأن نص القرآن قطعي ، وإلهي ، ومطلق ، والادعاء بأن نص السنة في معظمه ظني ، وبشري ، ونسبي ، يمكن رده .. فهو ادعاء ساقط ، قرآنياً ، ومنهجياً ، وواقعياً ، وقد فند العلماء ذلك ، ولم يبقوا فيه استزادة لمستزيد ، ذلمك أن النص القرآني نفسه ، يعتمد السنة ، مصدراً للتشريع ، والمعرفة ، والأحكام ابتداءاً.

أما ظنية السنة ، من الناحية المنهجية ، فإن السنة محكومة بضوابط القرآن الكريم ، قطعي الثبوت ، بحيث لا يجوز لها أن تخرج على نصوصه ، أو تعارض مقاصده ، أو مرجعيته ، حتى في البيان ، الذي هو مهمتها ، وذلك بنص القرآن ، إلى درجة اعتبر معها العلماء ، أن من علامات الحديث الموضوع ، معارضته لصريح القرآن الكريم ، فالسنة ، على الرغم من ورود معظمها عن طريق خبر الآحاد ، إلا أنها موثّقة بضوابط ومرجعية القرآن ، قطعي الثبوت.

إضافة إلى أن هذه النصوص الظنية الدلالة ، تجسدت ، وتمثلت في واقع أمة ، كاملة ، مشهود لها بالخيرية، في مرحلة السيرة ، والخلافة الراشدة ، الأمر الذي يمنحها التواتر العملي ، أو السكوتي - إن صح التعبير - وهذا لم يتوفر لنص آخر غير نصوص السنة ، التي تضمنت المنهج النبوي ، اللهم عدا النص القرآني ، الذي ثبت بالتواتر ، الذي يفيد القطع ، وعلم اليقين ، وهذا التواتر من حيث المنهجية العملية ، يمنح السنة السياج الواقي ، ويجعل الظنية فيها ، معتمدة في التشريع ، والمعرفة ، والأحكام ، الأمر الذي لم يعان منه جيل الصحابة ، حيث لم تكن هذه الإشكالية مطروحة أصلاً.

ولابد أن نعترف أن بعضنا يعيش اليوم مرحلة الأرض الأجادب ، لكن بعضنا الآخر - مع الأسف - يعيش مرحلة الأرض القيعان ، التي أخبر عنها الرسول صلي الله عليه و سلم بقوله: (مثل ما بعثني الله به من الهدى والعلم ، كمثل غيث اصاب أرضاً ، فكانت منها طائفة قبلت الماء فأنبتت الكلأ والعشب الكثير ، وكان منها أجادب أمسكت الماء فنفع الله بها الناس ، فشربوا ، وسقوا ، وزرعوا ، وأصاب منها طائفة أخرى ، إنما هي قيعان لا تمسك ماءاً ولا تنبت كلأ ، فذلك مثل من فقه في دين الله ونفعه ما بعثني الله به ، فعلم وعلم .. ومثل من لم يرفع بذلك رأساً ... ) (متفق عليه) .. حيث تتقدم عندنا وسائل الحفظ والنقل لقيم الكتاب والسنة ، لكن يصاحبنا العجز عن أن نستنبت منها الكلأ والعشب الكثير ، إلى جانب حفظ الماء ، فنكون من الطائفة الأولى . وقد يكون من المفيد هنا ، أن نورد ما روي عن عثمان وعبد الله بن مسعور وأبي رضي الله عنهم ، من أن رسول الله صلي الله عليه و سلم كان يقرئهم العشر ، فلا يتجاوزها إلى عشر أخرى حتى يتعلموا ما فيها من العمل ، فتعلموا العلم والعمل جميعاً (صحيح سنن أبي داود) ، وما روي عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما ، أنه قال : كان الفاضل من أصحاب رسول الله صلي الله عليه و سلم في صدر هذه الأمة ، لا يحفظ من القرآن إلا سورة أو نحوها ، ورزقوا العمل بالقرآن ، وأن آخر هذه الأمة ، يقرأون القرآن ، منهم الصبي والأعمى ولا يرزقون العمل به (القرطبي 1/40) .

وحتى يكون الكلام واضحاً ، لابد أن نبيّن أن العجز المقصود هنا ، هو عدم القدرة على الإفادة من المنهج النبوي ، في مجال التغيير والبناء الحضاري ، وليس المقصود مجال الفقه التشريعي ، حيث خلف لنا العلماء والمجتهدون ثروة فقهية لا نظير لها ، من الناحية القانونية ، والثقافية ، والتشريعية ، والقضائية .

لذلك نقول : إن الأزمة الحقيقية التي نعاني منها ، أو الأزمة الفكرية ، هي أزمة فهم عملي ، وأزمة تعامل، مع قيم الكتاب والسنة ، وتحويلها إلى برامج ، من خلال مسيرة السيرة النبوية .. أو بكلمة مختصرة : أزمة تعامل مع معرفة الوحي بشكل عام ، أو استيعاب المنهج النبوي ، في البناء والتغيير ، سواء في ذلك من ينكرون وجود المنهج ، في الكتاب والسنة ابتداءاً ، ويعتبرون أن الأزمة اليوم ، أزمة منهج ، أو من يسلمون بوجود المنهج ، إلا أنهم عاجزون عن وضع مناهج فهم ، وتعامل ، من خلال القيم نفسها ، ونسقها المعرفي ، وتراثها الممتد ، الذي يشكل عقلها الجماعي ، وشخصيتها الحضارية التاريخية .. لذلك نراهم يتطاولون على التراث ، ويحكموا عليه ، من خلال تشكيلهم الثقافي ، بعيداً عن القيم المعيارية ، التي أنتجته ، وإنما من خلال قيم حضارات ، ومناهج معرفية ، وعقائد أخرى ، لذلك لا يخرج عملهم عن طحن الماء ، على الرغم من الجهد المبذول ، والمال المهدور ، دون أن تكون عندهم القدرة على إيجاد البديل ، أي بديل ، وقد يضطرهم سعيهم في النهاية ، بسبب فقر إنتاجهم - كما أسلفنا - إلى احتضان أشخاص ، قد يفتقرون لأدنى حد من المرجعيات الشرعية ، سواء في دراستهم الأكاديمية ، أو كسبهم الثقافي ، أوفي مسالكهم ، وإنما هم متخصصون ، بالمنهج الغربي ، ونظامه المعرفي ، وأدواته البحثية ، ويحاولون اليوم أن يجعلوا من الإسلام ، والنصوص الإسلامية ، في الكتاب والسنة ، محلاً للتحليل ، والدراسة ، وفق المناهج ، والأنظمة المعرفية : الخارجة عن نسقه ، وقد يلحقون بأعمالهم أي شعار إسلامي ، لتمريرها وتسويقها في عالم المسلمين .. إنهم يجرأون على الفتوى ، في المعرفة ، ويبتدعون في الفكر ، وقد لا يحسنون معرفة فرائض الوضوء ، وأحكام الحلال والحرام ، التي يجب أن تعرف من الدين بالضرورة ، وقد لا يستطيع الكثير منهم أن يقيم لسانه بآية ، أو حديث ، وغاية عملهم اقتطاع بعض النصوص الإسلامية ، وإعمال أدوات المناهج الغربية في فهمها ، وإعادة تفصيلها .. فكيف والحال هذه ستكون النواتج الفكرية والثقافية ، خاصة إذا علمنا أن الأدوات المعرفية ، ووسائل البحث ، ومناهج الفهم والتفكير ، ليس آليات محايدة ، وإنما هي ثمرة لخلفيات عقائدية ، ومرجعيات حضارية ، لا تخرج عن أن تكون جزءاً منها ؟

إنها المرحلة الجديدة للاستلاب الحضاري ، والاختراق الثقافي ، التي يفترض لها أن تكون أكثر قبولاً في عالم المسلمين ، بعد أن سقطت الطروحات السابقة للإسلام ، المعنونة بالمصطلحات الغربية أو الشرقية ، لإيجاد غطاء تراثي لتسللها إلى الفكر الإسلامي.

ونخشى أن نقول : إن هذ المسعى اليوم يعتبر من أخطر البدع الفكرية الخفية ، التي يجب التنبه لها ، والتحصين منها ، لأنها لا تقل خطراً عن البدع في العبادات ، التي نهض فقهاء السلف والأتّباع ، لمحاصرتها والتحصين منها ، وهزيمتها بالسنة.

هذه البدع الفكرية ، التي دخلت علينا باسم وضع الحلول لأزماتنا ومشكلاتنا ، وحاولت اصطيادنا في حالة المعاناة ، نرى أنها خلفت لنا تراكم الأزمات ، بدل أن تضع الحلول .. وقد يكون المطلوب اليوم : أن تصبح مواجهتها من الأولويات ، وهزيمتها إنما تكون بوعي المنهج النبوي ، والتحصن بمعرفة الوحي ، في الكتاب والسنة ، والاجتهاد في إبداع الأدوات المعرفية ، في إطار النسق الإسلامي ، وتصوراته عن الحياة ، ومرجعيته الشرعية.

وقد تكون الإشكالية الحقيقية ، في النظر للمنهج النبوي ، في التغيير والبناء الحضاري ، تكمن في استيعاب مسيرة هذا المنهج ، بمراحله المختلفة ، ومحطاته الكبرى ، والإفادة منه في تحديد وفهم الواقع ، ووضعه في الموقع المناسب من هذه المسيرة ، وامتلاك الفقه والقدرة ، في كل مرحلة ، على ضبط النسب ، وإعادة ترتيب الأولويات ، في ضوء الحال ، وتطور المراحل ، واستصحاب المقاصد ، الأمر الذي يتطلب هضم الجزئيات في شعب المعرفة المختلفة ، وإعادة تجنيسها ، كمعطيات للمنهج النبوي المعرفي ، في كل مرحلة.

نعود إلى القول : بأن المنهج النبوي في التغيير ، والبناء الحضاري ، إذا لم يُدرك بمراحله وأبعاده ، ويميّز بين ثوابته ، ومتغيراته ، ومراحله ، وتدرك الظروف والشروط ، التي توفرت لكل مرحلة ، يمكن أن ينقلب إلى معوق ، بسبب سوء الفهم ، ومن ثم سوء التطبيق ، بدل أن يكون دافعاً للنهوض .. لذلك فالأمر لا يجوز أن يبقى خاضعاً لرؤية فردية ، تدعي الإحاطة بكل شعب المعرفة ، وإنما لابد له من دراسات متخصصة ، بشعب المعرفة المتنوعة ، شريطة أن تكون متحصنة بالمرجعية الشرعية الكافية ، للتمييز بين ما هو من الوسائل ، وما هو من الأهداف ، وما هو من المباديء ، وما هو من البرامج ، وما هو من القيم المعيارية ، وما هو من الاجتهاد الخاضع للتقويم ، لتشكيل رؤية جماعية لكل عصر ، بحسب مشكلاته وظروفه ، وإمكاناته ، وقضاياه ، وموقعه من مسيرة النبوة.

وقد يكون الكثير من مشكلاتنا الفكرية والمنهجية والنهضوية - إن صح التعبير - نابعاً من وجود متخصصين بشعب المعرفة ، لكنهم يفتقدون المرجعية الشرعية ، أو يفتقدون لمعرفة الوحي بشكل أعم سواءاً منهم من تخصصوا في الغرب ، أو تخرجوا على أيديهم في مدارس ومعاهد وجامعات العالم الإسلامي ، المرتهنة للنظام المعرفي الغربي في المرجع ، والمنهج ، والكتاب ، والمدرس ، أو من هم من المتحمسين للقضية الإسلامية ، بعيداً عن أي معرفة أو تخصص.

والمجتمع الإسلامي الأول ، هو مجتمع الأنموذج ، ومعيار الاقتداء العملي ، ليس في مرحلة الكمال والاكتمال فقط ، وإنما في المراحل كلها التي مر بها ، فكل مرحلة تعتبر قدوة وأنموذجاً لما يشابهها ويقابلها من الأحوال التي يعيشها ويتقلب فيها المجتمع المسلم .. فالمجتمع الأول بالنسبة للمسلم ، يشكل المرجعية التطبيقية .. كما أن القيم في الكتاب والسنة ، تشكل المرجعية الشرعية والفكرية ، وقد تحقق له ذلك دون غيره ، بسبب حراسة الوحي ، والرؤية الراشدية ، بعد توقف الوحي ، المشهود لها من الموحى إليه صلي الله عليه و سلم ، الذي اعتمدها في المرجعية والاقتداء فقال : (.. فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين ، وتمسكوا بها ، وعضوا عليها بالنواجذ ) (رواه أحمد) .

وهنا قضية لابد من الإشارة إليها في الحقيقة : وهي أن المجتمع الأول ، مجتمع القدوة ، والمثال ، والأنموذج ، والمرجعية ، ليس هو نهاية المطاف للحياة الإسلامية ، إنما هو نهاية المطاف للبناء الأنموذجي ، إذ أن المجتمعات الإسلامية ، الممتدة تاريخياً ، كما هو الواقع ، والتاريخ ، والسنن الاجتماعية ، سوف تمر بسقوط ، ونهوض ، وقوة ، وضعف ، ومرض ، وصحة ، بحسب أقدار التدين المتفاوتة ، فهي ليست نسخة مكررة عن المجتمع الأول ، مهما حاولت المقاربة والتأسي ، ولكنها لا تخرج في كل حالاتها ، التي تمر بها ، عن المشابهة ، مع مجتمع القدوة ، في المراحل التي مر بها.

وقد يكون من المفيد التأكيد هنا ، أننا مهما حاولنا الاقتراب من مجتمع القدوة ، تبقى لمجتمع القدوة الذي ربي على عين النبوة ، خصوصية في كونه قدوة دون سائر الحالات المماثلة الممتدة على طول التاريخ الإسلامي ، فهي تجارب تفيد العبرة ، ولا يمكن أن تتحول إلى أنموذج أو مصدر للتشريع والتلقي.

والفقه المطلوب اليوم : كيف يشكل المنهج النبوي ، والرؤية الراشدية - قيماً وبرامج ، فكراً وفعلاً - بمراحلها المتنوعة ، مرجعية ، وقدوة للمجتمعات الإسلامية ، ضمن الحالات التي تمر بها؟ وكيف يمكن أن يتحقق الاقتداء والإفادة ، من المنهج ؟ هذه هي القضية المطلوبة بشدة ، الغائبة غياباً مذهلاً.

نحن عندما ندعو لاستيعاب المنهج النبوي في التغيير والبناء الحضاري ،واستيعاب الواقع ، ومن ثم وضع الواقع في مرحلته المناسبة من مسيرة النبوة ، أو من المنهج النبوي، حتى نحقق الاقتداء في عملية التغيير ، وكيفية التعامل مع الواقع ، وتغييره ، والارتقاء به ، أو تقويمه بمنهج النبوة ، في ضوء عطاء المنهج نفسه ، أو عطاء المرحلة المشابهة لواقع الحال، لا نعني بذلك عملية التقطيع ، والانتقاء الفقهي ، كما اننا لا نعني إيجاد المسوغات الشرعية ، أو التستر على هذا الواقع بفقه حيل ، أو فقه مخارج ، وإنما الذي نريد أن نوضحه: أن القضية قضية اجتهاد فكري ، أو رؤية منهجية في كيفية إعادة البناء ، في ضوء المنهج النبوي ، ترتكز إلى فقه المقاصد ، الذي كان محور التغيير في كل مرحلة ، ومرتكز ومنطلق آلياته ، ووسائله .. لذلك جاء تأكدينا باستمرار ، ومهما كانت مواصفات وشروط المرحلة ، على ضرورة استصحاب الرؤية الشاملة.

وأعتقد أن الجهود ، التي بذلت لحماية السنة ، والسيرة وحفظها ، ومناهج وضوابط الحفظ ، والنقل الثقافي ، ومعايير الجرح ، والتعديل ، لم تتوفر بعد القرآن الكريم ، لأي نص تاريخي ، أو وثائقي ، أو ديني على الإطلاق ، ولعل هذا من لوازم وخصائص الخلود .. إن هذه الجهود العلمية العظيمة التي توفرت لحماية بيان القرآن ، وكيفيات التعامل معه ، فهماً وتنزيلاً على الواقع ، والتي تحققت من خلال عزمات البشر ، الذين يمثلون أوعية الحفظ وأدواته ، جاءت مصداقاً لقوله تعالى: (إن علينا جمعه وقرءانه * فإذا قرأنه فاتبع قرءانه * ثم إن علينا بيانه ) (القيامة : 17 - 19) .

والحقيقة التي قد يكون ذكرها هنا من الأهمية بمكان ، أنه أثناء العمل مع المنهج النبوي ، لابد من استصحاب الرؤية الشاملة للمنهج ، حتى ولو كان التنزيل ، والتطبيق لبعضه ، بحسب النوازل ، وظروف الحال ، والاستطاعات ، التي تقتضي التركيز على بعض الجوانب في مرحلة معينة ، لمعالجة الخلل ، دون الجوانب الأخرى .

ذلك أن غياب الرؤية الشاملة للمنهج النبوي ، وعدم الفقه مقاصد التعامل مع الحالات المتنوعة ، من الواقع ، وأسباب التركيز عليها ، أدى ببعض المفكرين إلى اختلال في شمولية الرؤية ، وضبط النسب ، وبروز فرق خارجة ، ونتوءات فكرية ، لا تتفق مع توازن وشمولية المنهج النبوي .. أخذت بعض الجزئيات وضخمتها ، وحاولت المرابطة من ورائها ، وتعميمها على المنهج كله ، فاضطربت الأولويات ، واهتزت النسب ، وظهرت الثنائيات المتناقضة ، والتعسف في التفسير والتأويل المذهبي ، لا المنهجي ، وأصبحت القواعد والأصول المذهبية ، كلامية كانت أو فقهية ، هي المعيار لتفسير النص والتحكم بمقاصده ، وهو ما لم يعرفه تنزيل الإسلام الأنموذجي في خير القرون .

ولا شك عندي أن عملية التنزيل للمنهج النبوي على الواقع ، أو الفقه التطبيقي ، وتحويل القيم والمباديء ، إلى برامج ، إذا لم تترافق بالرؤية الشاملة ، والضوابط الصارمة ، واليقظة المستمرة ، قد يؤدي إلى لون من التكيف مع الواقع ، دون القدرة على تكييفه ، وفق القيم ، بسبب الإلف له ، والقبول به ، نتيجة للتوارث الاجتماعي ، ومن ثم الدفاع عنه ، واعتماده كمقياس للمعايرة .. أو بتعبير آخر : نتيجة لإلف الواقع وحالة الركود ، التي يفرضها ، وسهولة التعامل معه ، يصبح تقليداً يصعب تغييره ، ومن ثم يعتمد هذا التقليد ، أو هذه التقاليد ، لتصبح قيماً ، ومعايير ، تحل محل المنهج ، والقيم والتعاليم .. وبدل أن تُقوّم التقاليد بالقيم ، والتعاليم ، وتكون التقاليد هي مادة البحث ، والتحليل ، تصبح هي معايير البحث ، والتحليل ، فيصاب المجتمع بالركود والاستنقاع الحضاري ، ويصل إلى مرحلة ذهاب العلم ، وإن بقيت مصادره التي اخبر عنها الرسول صلي الله عليه و سلم .. فعن الإمام أحمد رحمه الله ، قال : ذكر النبي صلي الله عليه و سلم شيئاً ، فقال : (وذاك عند ذهاب العلم ) .. قلنا : يا رسول الله ، كيف يذهب العلم ، ونحن قرأنا القرآن ، ونقرئه أبناءنا ، وأبناؤنا يقرئونه أبناءهم ؟ فقال : ( ثكلتك أمك يا ابن لبيد ، إن كنت لأراك من أفقه رجل في المدينة ، أو ليست هذه اليهود والنصارى بأيديهم التوراة والإنجيل ، ولا ينتفعون مما فيها بشيء؟! ) (الحديث رواه أحمد في مسنده ، وابن ماجة في سننه ، باب ما جاء في ذهاب العلم ، وقال : هذا حديث حسن غريب) .

لذلك ، وحتى يحول المنهج النبوي في التغيير والبناء الحضاري ، دون هذا التوطين للتقاليد ، بسبب التوارث الاجتماعي - كما أسلفنا - شرع الدورات التجديدية ، التي اعتمدها كحراسات لسلامة المنهج واستمراره ، والتي تعني بعث الحياة للتعاليم والقيم من جديد ، وإعادة ترتيب تصويب المعادلة الاجتماعية .

فالتجديد هو العودة إلى الينابيع الأولى ، وإعادة التقويم بها ، وبذلك يتحقق الحفظ والاستمرار ، وديمومة العطاء ، للمنهج النبوي ، أو لمعرفة الوحي ، بشكل أعم ، ليصبح منهج النبوة ، أو معرفة الوحي بشكل أعم ، هي الإطار المرجعي ، والضابط المنهجي ، والمعيار للمراجعة المستمرة ، وإعاد تقويم الواقع ، قبل أن ينغلق على تقاليده ، التي يكرسها التوارث الاجتماعي ، لذلك قال الرسول صلي الله عليه و سلم : (إن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة عام ، من يجدد لها دينها )(رواه أبو داود في الملاحم) .

لقد جُعل التجديد تكليفاً ، ولم يقتصر على أن يكون إخباراً .. والتجديد - الذي هو في الحقيقة تقويم للواقع ، وتغيير له ، ومحاولة للعودة به إلى الينابيع الأولى ، بعد إدراك هذا الواقع في ضوء المنهج النبوي للتغيير ، أو بكلمة مختصرة : هو النظر في الواقع ، وتقويمه من خلال المنهج النبوي ، والنظر إلى المنهج النبوي ، وكيفيات التزامه ، والإفادة منه ، من خلال الواقع - هو لازم من لوازم الخاتمية ، حيث توقف التصويب من السماء ، فلابد من ممارسة عمليات التصويب والتقويم للواقع ، في ضوء مرجعية قيم السماء وبيانها النبوي.

ولعلي أرى أن في تسمية منهج الرسول صلي الله عليه و سلم في التغيير والبناء الحضاري ، بمصطلح السنة ، بعض ملامح الخلود ، والتجرد من ملابسات الزمان والمكان ، ذلك أن السنة هي: القانون المطرد الممتد ، الذي لا يقبل التحويل ، ولا التبديل ، فهي في مجال الأنفس كالقانون الطبيعي الكوني ، في إطراده وثباته ، في مجال الآفاق ، وإن كان محل الاستشهاد على ثبات السنن واطرادها ، غالباً ما ينصرف إلى السنن الكونية الآفاقية ، لسهولة إدراكها ، ووقوعها تحت الحواس ، وفي متناولها ، ولأن الزمن المطلوب لاستيعاب اطرادها ، وإدراك نتائجها ، هو في مقدور الإنسان ، وضمن عمره المفترض ، أما السنن النفسية والاجتماعية ، والتعرف على عواقبها ، فأمر بطيء ومديد ، إلى درجة قد يكون عمر جيل كله ، مقدمه لها ، إضافة إلى أنه قد تحول بعض العوائق ، أو تغيب بعض الشروط ، فتختل النتائج أو تتخلف ، فيتوهم الإنسان عدم الاطراد ، لذلك غالباً ما يتحدى القرآن في مجال السنن النفسية والاجتماعية ، بالعواقب ، التي هي آكد من النتائج عملياً.

فإذا سلمنا ، بأن السنة النبوية ، هي قانون مطرد في التغيير الاجتماعي ، والبناء الحضاري ، وأن الاطراد سمة لازمة لها ، كلما توفرت الظروف والشروط ، وانتفت العوائق ، وأن نهوض المجتمع الإسلامي من سقوطه اليوم ، مرهون باستعادة الأنموذج ، القدوة ، والمنهج في التغيير ، وأن توفير الظروف والشروط التي توفرت لميلاد المجتمع الأول ، أساس لمعاودة الإنتاج ، أدركنا مغزى قولة الإمام مالك رحمه الله : لا يصلح آخر هذه الأمة ، إلا بما صلح به أولها.

ولعل من الأمور الأساسية التي لابد من التنبه لها ، والتذكير بها هنا ، أن منهج الرسول القدوة صلي الله عليه و سلم في البناء والتغيير الحضاري ، هو منهج اللبنة والتدرج ، وتحضير المحل ، والأخذ بيد الناس إلى تحقيق المقاصد الإسلامية ، وتقويم سلوكهم بشرع الله ، شيئاً فشيئاً ، حتى وصل بهم ، إلى درجة الاكتمال والكمال ، في بناء المجتمع الأنموذج .. وهذا المنهج لم يقتصر على مرحلة النبوة الخاتمة ، وإنما هو منهج النبوة في التاريخ الإنساني ، ووسيلة الأنبياء جميعاً ، حتى أن النبوة الخاتمة بكل عطائها ، ومقوماتها ، وأهدافها ومنطلقاتها ، لم تخرج عن أن تكون لبنة ، في البناء النبوي الممتد ، مع رحلة الإنسان على الأرض ، وقد ألمح إلى هذا وأكده الرسول صلي الله عليه و سلم بقوله: (مَثَلي ومثُل الأنبياء من قبلي ، كمثل رجل بنى بنياناً ، فأحسنه وأجمله ، إلا موضع لبنة من زاوية من زواياه ، فجعل الناس يطوفون به، ويعجبون له ، ويقولون : هلا وضعت هذه اللبنة ؟ قال : فأنا اللبنة ، وأنا خاتم النبيين ) (رواه مسلم).

حتى إننا لنجد في القرآن الكريم ، الذي يمثل اللبنة الأخيرة ، أو المنهج الأخير للنبوة ، الذي انتهت إليه النبوات ، مساحة كبيرة ، لدعوة الأنبياء ، وقصصهم مع أقوامهم ، وكيفيات تعاملهم مع المجتمعات ، وخلاصة التجارب التاريخية ، التي صدقها الوحي ، وتحققت من خلال سنن الحياة الاجتماعية والنفسية ، والتي تشكل رصيداً في بناء مرحلة النبوة الخاتمة.

لذلك بالإمكان القول : إن الصورة الأخيرة التي انتهت إليها النبوة لا تخص فترة النبوة الخاتمة ، ولا تقتصر عليها من الناحية الزمانية ، والمكانية ، والحضارية ، والثقافية ، وإنما هي في الحقيقة ثمرة النبوة التاريخية ، بكل بنائها وعطائها ، وإن النبوة الخاتمة ، هي لبنة في هذا البناء المتكامل الكامل ، لذلك فقول الله تعالى : (إن الدين عند الله الإسلام ) (آل عمران:19) إنما يعني من الوجوه كلها ، أن الإسلام هو العنوان والسمة والتعريف ، لهذا البناء النبوي التاريخي الكامل المتكامل ، وإن انتهت تسميته إلى النبوة الخاتمة ، وأصبح علماً عليها .

لذلك فالإسلام الذي جاء به محمد صلي الله عليه و سلم ، هو ملة إبراهيم ، ودين موسى ، وعيسى ، والأنبياء من قبل ، قال تعالى : (شرع لكم من الدين ما وصى به نوحاً والذي أوحينا إليك وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه .. ) (الشورى : 13) .. وأن أي صدق مع منهج النبوة التاريخي ، يقتضي الإيمان به ، وأن الدعوة إلى الإبراهيمية ، ووحدة الأديان ، خارج نطاق الإسلام ، الذي حقق وحدة الأديان - إضافة إلى أنها تشوية للتكامل والكمال ، وحفريات تاريخية لا طائل من ورائها ، إلا المزيد من التضليل - هي نكوص ، وانتكاس ، وتراجع على طريقٍ دارسةٍ.

وكذلك نرى أن اليوم الذي نزل فيه قوله تعالى: (اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام ديناً ) ( المائدة : 3 ) ، إنما كان ذلك الاصطلاح دليلاً على اكتمال البناء ، الذي تعتبر النبوة الخاتمة ، تسديداً وتصويباً لنقصه ، حتى بلغ الكمال .. فالخطاب من كل الوجوه ، خطاب للبشرية جميعاً ، ولأبناء الأديان السابقة ، التي انتهت نبواتهم إلى الصورة الأخيرة ، إلى الإسلام الشامل ، ذي العمق ، والبعد التاريخي ، والبعد المستقبلي معاً .. فالإسلام الذي نزل على محمد صلي الله عليه و سلم ليس مقطوعاً عن الماضي ، ولا مبتوراً من سياقه ، وإنما استوعب الماضي ، في بناء الحاضر ، قال تعالى:(ملة أبيكم إبراهيم هو سماكم المسلمين من قبل ) ( الحج : 78 ) كما أحسن بناء الحاضر ، وكماله ، في ضوء عطاء النبوة التاريخي ، ليصبح الإسلام بناء المستقبل الخالد ، ومنهجه الدائم ، الذي اكتمل ، وكمل على يدي محمد بن عبد الله عليه الصلاة والسلام ، وأصبح في مأمن من النقص والانهدام ، قال تعالى: (اليوم يئس الذين كفروا من دينكم فلا تخشوهم واخشون ) (المائدة : 3) .

والذي نراه هنا أن منهج اللبنة ليس مقتصراً على بناء الأنموذج ، وإنما هو منهج كل بناء ، أو إعادة بناء .. وكل لبنة من هذه اللبنات ، تشكل مرحلة للاقتداء بما يماثلها ، شريطة استصحاب صورة البناء الكامل ، التي لابد أن تشكل اللبنة مرحلة للانتهاء إليها .

وقضية أخرى ، في إطار منهج اللبنة ، يمكن أن نلمحها في سنة الرسول صلي الله عليه و سلم ، وطريقته في التغيير والبناء الحضاري ، وهي أنه بالرغم من الرصيد التاريخي لدعوة الأنبياء مع أقوامهم ، والخلاصات التي انتهت إلى النبوة الخاتمة ، وساهمت في بنائها وعطائها ، فإن دعوة الرسول صلي الله عليه و سلم ومنهجه في التغيير والبناء ، استغرق ثلاثة وعشرين عاماً ، أي استغرق الزمن المطلوب لبناء جيل كامل ، على رأي علماء الاجتماع ، بدءاً من قوله تعالى : (اقرأ ) - ولا نقصد بالقراءة هنا : تعلم الأبجدية فقط ، وهي مقصودة بلا شك ، كمفتاح للعلم ، وطريق للدين الجديد الخاتم ، ووسيلة للتغيير والبناء الحضاري ، وإنما نقصد القراءة بأبجدية إسلامية ، ذات منهجية خاصة بها .. فليس كل قاريء بالأبجدية ، قادراً عليها ، إذا افتقد الإيمان الذي يعتبر المؤشر الصحيح لتوجيه أبجدية الإنسان ، وربطها بغاياتها .. إنها القراءة باسم الله الخالق ، القراءة باسم الرب الأكرم .. إنها قراءة جديدة متميزة ، عن كل القراءات القائمة ، والأبجديات المعروفة - وانتهاءاً ، بالوصول إلى مرحلة الاكتمال والكمال ، التي أوصلت البناء إلى غايته ، والقراءة إلى هدفها ، بقوله تعالى : (اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام ديناً )( المائدة : 3) .

ومن الأمور الأساسية التي قد يكون من المفيد التوقف عندها قليلاً ، ونحن نحاول ، تحديد بعض الملامح ، لمنهج النبوة الخاتمة ، في التغيير والبناء الحضاري ، قضية بشرية الرسول صلي الله عليه و سلم وخضوعه في حمله ، وولادته ، ورضاعته ، وشبابه ، وهرمه ، ومرضه ، ووفاته عليه الصلاة والسلام ، للسنن الفطرية ، والقوانين الطبيعية ، التي يخضع لها سائر البشر .. فلقد كان حمله طبيعياً ، استغرق مدة الحمل نفسها ، كما كانت ولادته طبيعية ، كسائر الولادات ، وعانى من فقد الأم والأب ، ككثير من البشر ، وخضع لكفالة الأقارب ، وبلغ سن الشباب ، وعمل في الأعمال ، التي كان يمارسها قومه ، كالرعي ، والتجارة ، وتزوج ، وأنجب ، وفقد الابن ، والبنت ، والصديق ، والزوجة ، وتعرض للأذى والمرض ، والنصر ، والهزيمة ، وحل به من جراحات الحرب ، ما يمكن أن يحل بكل إنسان ، وأعلن أكثر من مرة : أنه بشر من البشر ، وأن النبوة لم تخرجه عن بشريته ، وإنما امتاز عن البشر بالوحي ، والعصمة ، حتى يتأهل ليكون قدوة للبشر ، ويربى على عين الوحي ، قال تعالى على لسان نبيه مقرراً حقيقة البشرية: (قل إنما أنا بشر مثلكم يوحى إلي ّ...)(الكهف : 110) .

ولعل من الأمور الجديرة بالنظر هنا ، أن سيرة الرسول صلي الله عليه و سلم التي كانت تنزيلاً لقيم القرآن ، وتجسيداً لها في الواقع البشري ، تمثل منهجاً لكيفية التعامل مع القيم ، وتطبيقها في الواقع ، والأصعدة المختلفة ، بمعنى أن القدوة ، وتقديم النماذج للاقتداء ، لم يتقصر على الحاضر ، وإنما استوعب أبعاد الزمن الثلاثة : الماضي ، بما عرض من قصص الأنبياء كنماذج ، والمستقبل أيضاً في إبصار بعض ملامحه الرئيسة ، والإخبار عن كيفيات التعامل معه ، والواقع الذي يعيشه الناس ، وتقويمه بشرع الله .

لذلك نقول : بأن القدوة هنا ، في الرسالة الخاتمة ، جاءت شاملة شمول الإسلام نفسه ، ولئن كان الأنبياء السابقون ، يمثلون نماذج للاقتداء في مجالات معينة ، فإن النبوة الخاتمة ، قدمت القدوة والأنموذج المحتذى في مجال الدعوة ، ومنهجها ، وكل وسائلها ، ومتطلباتها ، وفي مجال الدولة ، وكل ممارساتها ، ووظيفتها ، وأعبائها ، وعلاقاتها ، وسلمها وحربها .

والحقيقة التي يمكن أن نلمحها هنا ، والتي قد يكون من بعض مدلولاتها أهمية تقديم الأنموذج والقدوة ، أن مساحة تعبيرية كبيرة من سور وآيات القرآن الكريم ، وهي متواترة الورود ، قطعية الثبوت ، قد تضمنت عرضاً تفصيلياً لسيرة الرسول صلي الله عليه و سلم ، والأنبياء من قبله ، حتى لا تبقى القيم والتعاليم الإلهية المنزلة ، نظريات مجردة عن النماذج العملية ، التي تجسد هذه الأفكار في أفعال ، وإنما جاءت في معظم الأحوال ، مقترنة بالأنموذج التطبيقي .. جاءت متلازمة ، مع القدوة ، التي تشكل منهج التعامل ، وتحويل الفكر إلى فعل ، والقيم إلى برامج ، لذلك بالإمكان القول : بأن المنهج ، والأنموذج ، والقدوة ، حٌفظت بحفظ القرآن ، لأنها لا تقل ، من حيث الدلالة العملية ، عن آياته شأناً في عملية البناء والتغيير ، حتى إن بعض الباحثين المعاصرين - والأستاذ محمد عزة دروزة رحمه الله يأتي في مقدمتهم - كتبوا السيرة من القرآن مباشرة .

وقد يكون من أبرز الخصائص ، التي تجعل المنهج النبوي في التغيير والنهوض والبناء الحضاري ، محلاً للاقتداء والتأسي ، وتجعله أنموذجاً (يحتذى انما هي في واقعيته وتوافقه مع فطرة الإنسان)، وإنه تحقق من خلال تعامله مع السنن الجارية في الكون ، ومن خلال عزمات الإنسان ، بضعفه وقوته ، وتذكره ونسيانه ، وفطرته وغريزته ، ونزوعه إلى الخير ، وانحداره في الشر ، واستيعاب جميع ما يتعرض له من الظروف ، والأحوال ، والقابليات ، من الشدة والرخاء ، والسقوط والنهوض ، والهزيمة والنصر ، ليكون المنهج من ثم دليلاً ومرشداً ، في كيفية التعامل مع الأحوال كلها ، من خلال الاستطاعات المتوفرة ، والظروف المحيطة ، ولم يتحقق من خلال تعامله مع السنن الخارقة ، الخارجة عن طاقة البشر ، التي قد تسهم بالتواكل ، والإلغاء ، وانطفاء الفاعلية ، وتؤدي إلى السلبية ، والإرجاء . واعتمد الزمن ، وسنة الأجل ، كعنصر لازم ، لإنضاج الفعل الحضاري ، وتحكم بالزمن تسخيراً وإنتاجاً ، بعيداً عن النظرة الدهرية والجبرية الزمانية ، التي كانت من مثالب الكفر ، وليس من خصائص الإيمان ، ونستطيع القول: إن المنهج النبوي في التغيير ، والبناء الحضاري ، تحكم بالزمن، وأعاد التعامل مع المسار الحقيقي ، وأكد استدارته كهيئته يوم خلق الله السموات والأرض ، وأبطل عبث العابثين بمساره ، ليتحقق الانسجام ، بين السنن الكونية ، والسنن النفسية والاجتماعية ، فلقد قال الرسول صلي الله عليه و سلم في مراحل الاكتمال والكمال للمنهج النبوي ، في خطبة الوداع: (إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله سموات والأرض .. إلخ )، حيث تحقق بالنبوة الخاتمة ، التصويب لوجهة الإنسان ، والقراءة الصحيحة ، لحركة الكون ، وغايات الحياة.

والناظر في منهج الرسول صلي الله عليه و سلم يرى أنه لم يعان من الثنائية ، بين هدايات الوحي ، ومدركات العقل .. بين التعامل مع السنن الجارية ، بل واستفراغ الجهد في التعامل معها ، إلى درجة ، قد يظن معها الجاهلون بالمنهج النبوي أن الأمر كله موكول إليها ، ومعتمد عليها ، وبين الالتجاء إلى الله ، والتوكل عليه ، واستفراغ الوسع في الدعاء ، والابتهال ، وانتظار المدد من السماء ، لدرجة قد يظن معها الغافلون عن أبعاد المنهج النبوي ومقاصده ، أن صاحبها لا علاقة له بالتعامل مع السنن والأسباب .

كما أنه لم يعان من الثنائية بين القدر و الحرية والإرادة الإنسانية ، بل كان يعتبر أن الأسباب هي قدر من قدر الله ، وأن الله الذي خلقها ، وجعلها قدراً وسبباً لحصول النتائج ، هو القادر على خرقها ، وليست المعجزات في تعريفها المبسط إلا خرق للأسباب ، وما اعتاده الناس ، وأن من الفهم للمنهج النبوي ، مدافعة سنة بسنة ، ومغالبة قدر بقدر ، والفرار من قدر إلى قدر ، وأن إرادة الله هي التي أرادت للإنسان أن يريد ويفكر ، لمغالبة قدر بقدر ، وإلا ، كيف يمكن عقلاً وشرعاً ، ترتيب المسؤولية على الفعل ، إن لم يأت ثمرة للإرادة والحرية ؟ وكيف يمكن أن يتحقق العدل المطلق ، الذي لا يليق غيره بالله سبحانه وتعالى؟

كما أن منهج الرسول صلي الله عليه و سلم ، في التغيير والبناء الحضاري ، الذي اكتسب خلوده من خلود القرآن ، تجاوز حدود وقيود الزمان والمكان ، ليكون قادراً على العطاء العالمي في كل عصر ومكان ، ويكون قادرا على الاستجابة ، والاستيعاب ، لمشكلات كل عصر ، وتقديم الحلول المناسبة لها ، ولذلك نراه استغرق في التغيير والبناء ، مسيرة جيل كامل ، واستوعب مراحل التغيير والبناء في كل ما يعرض لها من الأحوال ، ابتداءاً من حالات الاستضعاف ، وحتى التمكين والوصول لحالات الكمال.

لذلك كان منهج المقاصد ، والغايات ، والأهداف ، والاستطاعات .. لم يكن جامداً على حالة واحدة ، من حالات الفرد ، والمجتمع ، والأمة ، والدولة ، والاستطاعة .. ولم يضع قوالب يابسة ، ليصب الناس فيها بكل أحوالهم وحالاتهم ، وإنما كان يتغير بحسب الرؤية المتوفرة ، والمصلحة المتحصلة ، والهدف المطلوب .. يتغير بحسب الظروف والإمكانات ، ليستحق أن يشكل القدوة للإنسان ، في كل ما يعرض له ، حتى على مستوى الدعوة والفكر .. كان للحرب خطابه ووسائله ، وكان للعهد والسلم شروطه ، وضوابطه، وكان للنصر فقهه ، وللهزيمة فقهها ، وكيفيات التعامل معها.

وكان الرسول صلي الله عليه و سلم يحرم بعض الأعمال ، في عام ، ويبيحها في عام آخر ، فعندما أصاب الأمة من المجاعات ، نهى عن ادخار لحوم الأضاحي ، وعلل ذلك بالدافة ، أي بسبب زيادة الفقر ، وقدوم الفقراء على المدينة ، للشدة والمجاعة التي يعانون منها ، فإذا انتهت المجاعة ، أعاد الأمر للإباحة فقال : (ألا فكلوا وادخروا ) .

كما أنه حرم الادخار ، والفضل من المال ، والظهر ، والزاد ، في حالات الشدة وضرورات التكافل الاجتماعي ، أو ما يسمى اليوم اقتصاد الحرب ، وأباح الادخار في حالات الرخاء .. يروي أبو سعيد الخدري فيقول : قال رسول الله صلي الله عليه و سلم: (من كان له فضل ظهر ، فليعد به على من لا ظهر له ، ومن كان له فضل زاد ، فليعد به على من لا زاد له ) ، فذكر من أصناف المال ما ذكره ، حتى رأينا ، أنه لا حق لأحد منا في فضل (رواه مسلم).

هكذا ، في بعض الظروف ، يحرم المنهج النبوي ، في الجانب الاقتصادي والاجتماعي الإدخار، ويعتبر الزائد عن الحاجة حراماً في حالات خاصة ، الأمر الذي لم تعرفه أشد المذاهب تطرفاً.

والمتأمل لمنهج الرسول القدوة ، صلي الله عليه و سلم ، في تعامله مع استطاعة المكلف ، وفقهه لحالته ، وتقرير الأحكام الشرعية ، في ضوء إدراك مقاصدها ، يرى كثيراً منا اليوم ، هم حملة للفقه وليسوا فقهاء حقاً .

ولعل في قصة خولة بنت ثعلبة رضي الله عنها ، التي كانت سبب نزول قوله تعالى: (الذين يُظاهرون منكم من نسائهم ) ( المجادلة : 2 ) ، وتطور الحكم في ضوء الاستطاعة ، ما يلقي أضواء كاشفة على ما نريد .. قال الإمام أحمد رحمه الله تعالى: ( حدثنا يزيد بن هارون ، أخبرنا محمد بن إسحاق بن يسار ، عن محمد بن عمرو بن عطاء ، عن سليمان بن يسار ، عن سلمة بن صخر الأنصاري ، قال : كنت امرءاً قد أوتيت من جماع النساء ما لم يؤت غيري ، فلما دخل رمضان تظهرت من امرأتي حتى ينسلخ رمضان ، خوفاً من أن أصيب في ليلتي شيئاً فأتتابع في ذلك إلى أن يدركني النهار، وأنا لا أقدر أن أنزع ، فبينما هي تخدمني من الليل إذ تكشف لي منها شيء ، فوثبت عليها ، فلما أصبحت ، غدوت على قومي فأخبرتهم خبري ، وقلت : انطلقوا معي إلى النبي صلي الله عليه و سلم فأخبره بأمري ، فقالوا: لا والله لا نفعل ، نتخوف أن ينزل فينا ، أو يقول فينا رسول الله صلي الله عليه و سلم مقالة يبقى علينا عارها ، ولكن اذهب أنت فاصنع ما بدا لك ، قلت : فخرجت حتى أتيت النبي صلي الله عليه و سلم فأخبرته خبري ، فقال لي: (أنت بذاك ) ؟ فقلت : نعم انا بذاك. فقال (أنت بذاك )؟... ها أنا ذا فأمض في حكم الله عز وجل ، فإني صابر له ، قال : (أعتق رقبة ) ، قال : فضربت صفحة رقبتي بيدي ، وقلت : لا والذي بعثك بالحق ، ما أصبحت أملك غيرها . قال : (فصم شهرين متتابعين ) . قلت : يا رسول الله ، وهل أصابني ما أصابني إلا في الصيام ؟ قال : (فتصدق ) ، فقلت : والذي بعثك بالحق ، لقد بتنا ليلتنا هذه وحشى ، ما لنا عشاء . قال : ( اذهب إلى صاحب صدقة بني زريق فقل له فليدفعها إليك ، فأطعم عنك منها ، وسقا من تمر ستين مسكيناً ، ثم استعن بسائره عليك وعلى عيالك ) ، قال : فرجعت إلى قومي فقلت : وجدت عندكم الضيق وسوء الرأي ، ووجدت عند رسول الله صلي الله عليه و سلم السعة ، والبركة ، قد أمر لي بصدقتكم فادفعوها إليّ ، فدفعوها إليّ وهكذا رواه أبو داود ، وابن ماجه ، واختصره الترمذي ، وحسنه . ( تفسير القرآن العظيم ، لابن كثير ، المجلد الرابع ، صلي الله عليه و سلم 319 ، ط دار المعرفة ، بيروت ، 1969م ) .

ويبقى المطروح باستمرار : كيف ندرك مقاصد المنهج في كل مرحلة ؟ وكيف نتعامل مع هذا المنهج من خلال العصر ؟ وكيف نتعامل مع العصر ونقّوم حركته ومسالكه ، من خلال المنهج؟

وبعد:

فلا شك أن الكتابة في المنهج ، ليس بالأمر السهل ، وأنه اليوم بحاجة إلى جهود جماعية ، وتخصصات متنوعة ، في شعب المعرفة المختلفة ، لتحقيق أمرين لابد منهما في كل مشروع للنهوض ، واستعادة العافية.

أولهما : فقه المنهج النبوي ، بعد التأكد من ثبوته ، من حيث النقل والحفظ ، لأنها المرحلة الأولى والأساس الذي يقوم عليه البناء .

الثاني : هو فقه التعامل مع المنهج ، تطبيقاً على الواقع ، الأمر الذي يقتضي فقه الواقع الإقليمي ، والعالمي، والإنساني ، واستطاعاته .

ولا نزعم للكتاب الذي نقدمه اليوم ، أنه استطاع أن يقدم المأمول ، أو أن يحسم بعض الإشكاليات المنهجية ، التي يعيشها العقل المسلم ، ليحقق النقلة النوعية المطلوبة ، من الحفظ ، والنقل ، والتوصيف ، والتحليل ، إلى التعليل وامتلاك القدرة على تعدية الرؤية ، والتنزيل على الواقع البشري المأزوم ، بغياب منهج النبوة .

وحسبنا في هذا الكتاب ، أننا طرحنا قضية المنهج النبوي ، من وجهة نظر أخرى ، ما تزال الدراسات فيها ضنينة ، لأن معظم الدراسات ، تمركزت حول منهج الحفظ والنقل ، واستنباط الحكم التشريعي ، أما أن يكون المنهج النبوي مصدراً للمعرفة بشكل عام ، ومنهجاً للتغيير والبناء الحضاري ، فلا تزال الحاجة إليه قائمة وماسة .

ونعتبر أن غاية ما قدمه الكتاب ، أنه طرح القضية للمناقشة ، وفتح ملفها ، وقدم محاولة ، قد تكون ، نجحت في بعض سعيها ، وتعثرت في بعضه الآخر ، حيث يعوزها الاستدلال والتوثيق ، لتحقيق البعد المطلوب ، وهي محاولة لا تخرج عن سائر المحاولات ، والاجتهادات البشرية ، التي يجري عليها الخطأ والصواب ، ويؤخذ منها ويرد .. ويبقى المطلوب اليوم بشدة ، تضافر الجهود لإعادة استيعاب المنهج النبوي ، الذي يشكل المعيارية ، لما يؤخذ وما يرد ، والله من وراء القصد.

==============

# تمهيد

الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين محمد صلي الله عليه و سلم وعلى آله وصحبه وتابعيه بإحسان إلى يوم الدين .. وبعد ..

فلقد خلق الله سبحانه وتعالى الإنسان ، وكرمه بفضله ، وأمده من علمه ، وجعل له عقلاً ، وسمعاً ، وبصراً، وفؤاداً ، وسخر له الأرض ذلولاً ، والكون خدوماً ، ووهبه قوى التعقل ، والتدبر ، والنظر ، وأعطاه حياة ووقتاً . ثم كلفه برسالة الاستخلاف في الأرض . ولكن الإنسان وهو يتفاعل مع الحياة ومشكلاتها ، والكون وأسراره ، والتاريخ وسننه ، بحاجة إلى مرشد يبصره بطريق الحق ، ونور يدله على معالم الطريق ، إذ العقل البشري لا يقوى وحده على إدراك سنن الخير ، وسنن الشر ، ولا يقدر بوعيه المحدود على فهم خبايا الكون ، والحياة ، والتاريخ ، والوجود ، ولهذا فقد وهبه الله خيراً آخر ، وفضلاً عظيماً من أفضاله ذلك هو (علم النبوة) الذي انبثقت عنه مناهج الهداية التي حملها الوحي الأعلى إلى الأمم والشعوب كافة ، عن طريق الأنبياء ، والرسل صلوات الله عليهم أجمعين . إذن قد أمد الله سبحانه وتعالى الإنسان بمنهاج قويم ، ومسلك أمين ، يدله على سبيل الفوز المبين . ثم شاءت إرادة المولى تبارك وتعالى ، أن يختم علم النبوة بالرسالة المحمدية التي أعطت للاستخلاف مضموناً عالمياً شمولياً ، وبعداً دعوياً إنسانياً هادياً .

وفي الحركة الإسلامية الخاتمة ، تمكن نبي الإسلام صلي الله عليه و سلم من بناء حضارة توحيدية سامقة ، واستطاع أن يقدم للبشرية جمعاء ، نمموذجاً فطرياً لتغيير حضاري إنساني ، كون به إنساناً استخلافياً ، وثقافة إنسانية ، ومجتمعاً منسجما ، وتاريخاً عالمياً ، وحضارة متوازنة . والنبي صلي الله عليه و سلم وهو يواجه ظروف بناء الحضارة الإسلامية ، كان منضبطاً بمنهج تغييري ، يستمد وجوده ، ووعيه ، وأصوله من معيار الوحي الإلهي.

ولما كان أي بناء حضاري إنساني ، مفتقراً في حدوثه إلى منهج تغييري يقوده نحو غاياته ، ومقاصده ، بخطوات منظمة وسليمة ، فقد استدعت العملية التغييرية النبوية وجود ذلك المنهج ، والمنهج النبوي في البناء الاجتماعي ، منهج فطري متوافق مع سنن الله في الخلق ، ومنسجم مع قوانين الدعوات الإنسانية.

من هذه الأهمية العظيمة للمنهج النبوي ، وقدرته على تركيب حضارة عالمية نموذجية ، تستجيب لقانون الفطرة العالمي ، برزت الضرورة الملحة لدراسته من وجهة نظر (حضارية سننية) تنفذ إلى محاولة وعي المنهج النبوي ، بغرض استدعائه ، ليساهم بقدرته الفائقة في حل معضلات الإنسان المعاصر وهو يستقبل عصر العالمية .

ففي هذا الجهد المتواضع جداً ، حاولت أن أنبه إلى أهمية المنهج النبوي في البناء الحضاري الجديد ، وذلك لما للوعي بهذا المنهج ، من فقه بصير ، وإدراك عميق ، وفهم سديد لسنن الدعوات ، وقوانين النهضات ، ومناهج البلاغات ، ومقاصد الديانات ، وأخلاق السياسات ، وحاجات النفسيات ، ومتطلبات العقليات ، واستعدادات الشخصيات ، وثقافات الجماعات ، وسلوكات الأمم الناجيات ، وشرائع الرحمة الميسرات ، ففي المنهج النبوي ، سبل لهداية الناس إلى الأعمال الصالحات ، والأقوال الصائبات ، والعبادات الصحيحات ، والمعاملات النافعات ، والمواقف المرضيات .

لقد قسمت هذا الكتاب إلى تمهيد ، وثلاثة فصول ، وخاتمة . بسطت الحديث في الفصل الأول ، عن الإطار المنهجي العام ، الذي يجب أن يدرس فيه المنهج النبوي ، مركزاً على أهمية النظرة الكلية إلى السنة النبوية ، وإلى طبيعتها الحضارية ، مع إبراز بعض أبعاد المنهج النبوي ، كالبعد المقاصدي ، والبلاغي الدعوي ، والسنني ، وتدعيمها بنماذج ، ودروس من الفقه النبوي العملي.

أما الفصل الثاني ، فقد خصص لمعالجة قدرة المنهج النبوي على فهم ، واستيعاب الظاهرة التغييرية في العصر العالمي ، مع تحديد أسباب هذه القدرة ، ومحاولة اكتشاف منطقية السنة النبوية ، ومنهجها الاستدلالي . وبعد ذلك حاولت تحديد بعض الخصائص التي تطبع الواقع العالمي الراهن ، مع إعطاء نموذج تحليلي لقدرة المنهج النبوي على حل المأزق العالمي الراهن ، ومحاولة تحديد مفهوم إسلامي للتغيير الحضاري ، بجانب الإشارة إلى بعض الفهوم المزيفة للتغيير.

أما في الفصل الثالث ، فقد أثرت قضية من أهم قضايا الفكر الإسلامي ، وهي المنهج النبوي وقدرته على تركيب حضارة في العصر العالمي ، وهنا تطرق التحليل إلى بعض القوانين التي تحكم التغيير الاجتماعي ، ومنها قوانين التوجيه ، وفلسفة الانطلاق ، والثقافة . كما تم التنبيه إلى منهج الترشيد النبوي للحركة التغييرية ، وإلى محاولة استخراج معالم المنهج النبوي ، وطبيعة الإنسان الذي يريد هذا المنهج تشكيله ، وتقديم نموذج لإنسان الاستخلاف الذي بناه رسول الإسلام صلي الله عليه و سلم. ثم ختمت البحث ببعض الملاحظات المهمة.

لقد تم هذا العمل المتواضع في قسمه الأول ( المقدمات) ، بحول الله وتوفيقه ، وإنني لسعيد جداً أن أشير إلى تلك الجهود التي بذلها أخي الأستاذ مصطفى عبد اللطيف حللي ، في سبيل إنجاز هذا الجهد البسيط ، الذي استفاد كثيراً من نصائح ، وتوجيهات أخي العزيز الدكتور إبراهيم محمد زين ، الذي كان فعلاً مثقفاً مسلماً متميزاً باهتمامه بقضايا الأمة ، حريصاً على مستقبلها ، عاملاً من أجل نهضتها . فقد عرضت عليه فكرة الكتاب في البداية ، فرحب بها ، وأبدى رأيه الذي أقدره كثيراً ، ثم بعد أن أنجزته بحول الله وقوته ، أطلعته عليه مخطوطاً ، فطلب مني أن أقوم بنشره بسرعة . كما سعدت كثيراً بترحيب البروفيسور الدكتور عبد المجيد مكين المفكر السيلاني المسلم بفكرة هذا الكتاب ، حيث أفدت كثيراً من أفكاره ، وتوجيهاته القيمة. فجزى الله سبحانه وتعالى كل من ساهم في إنجاز هذا العمل ، من قريب أو بعيد.

كوالالمبور - ماليزيا

15/ديسمبر 1993م

-=============

# الإطار العام لدراسة المنهج النبوي أهمية النظر الكلي في قضايا السنة

كما هو معلوم في كل نوع من أنواع المعرفة البشرية ، أن دراسة أي مشكلة من المشكلات ، يقتضي بالضرورة أن يمتلك الباحث رؤية ، أو منظوراً منهجياً ، يتصور من خلاله المسائل ، ويحلل في ضوئه الفرضيات ، والإشكاليات المطروحة على بساط البحث . ودراسة السنة النبوية ، كظاهرة دينية ، واجتماعية متصلة بالواقع الإنساني ، في كل مستوياته ، العقلية ، والنفسية ، والسلوكية ، والعمرانية ، الفردية ، والجماعية ، بحاجة إلى مدخل منهجي ، يتيح للباحث فيها فرصة دراستها بشكل مستوعب ، ينكب به إلى فهمها ، واستخراج قوانينها ، وسننها ، وإدراك منطقيتها ، ومنهجها الاستدلالي ، ونظامها الفكري الذي يتفرع إلى ما هو إلهي ، وإلى ما هو بشري . فالدراسة العلمية للسنة النبوية ، باعتبارها مركباً لحضارة من جهة ، وأثراً من آثار الوحي على أرض الواقع من جهة أخرى ، تستدعي فهماً مستوعباً للمفتاح المدخلي ، الذي يمكن الباحث من دراستها بشكل صحيح ، ومثمر .

أهمية النظر الكلي في قضايا السنة

فكثير من البحوث الإسلامية في هذا الميدان ، وعلى اختلاف لمداخل الدراسة أظهرت أن هناك قصوراً منهجياً في إطار الدراسة ، وأرضيته التحليلية ، يؤدي دائماً إلى تقديم السنة من إحدى زواياها المتعددة دون الأخرى . وهذا ما يجعل عملية التفاعل مع السنة تعاني من (النظرة الجزئية) التي تكتشف أحد أبعادها معزولة عن الأبعاد الأخرى .. فالمتكلم ، والأصولي ، والمحدث ، والمفسر ، والفقيه ، وعالم السيرة ، والتاريخ ، وعالم الاجتماع ، والاقتصادي ، والسياسي ، والعسكري ، والفيلسوف ، والتربوي ، والمفكر .. كل واحد من هؤلاء له منهجه في دراسة السنة النبوية .. فمحاولات الاستفادة منها تتم من زاوية التناول التي تخدم مجال الدراسة .. وكل منهجية تكشف لنا بعداً من أبعاد السنة ، فلو تأتّي لأحد تقديم دراسة تكاملية ، تستفيد من كل هذه المنهجيات ، وتنظر إلى السنة في كل أبعادها ، لقدم لنا منهجاً جديداً ، ومدخلاً متكاملاً ، قد يتيح لنا فرصة فهم السنة ، والإفادة منها في حياتنا العقلية ، والنفسية ، والسلوكية ، والعمرانية..

وسوف لا أزعم في هذه الدراسة ، أنني قادر على تقديم هذا المنهج المتكامل في دراسة السنة النبوية ، لأسباب أذكر منها هنا سببين اثنين هما:

- صعوبة المهمة على الصعيدين المنهجي ، والمعرفي معا . فالمنهجية المتكاملة في دراسة السنة النبوية ، تقتضي سبراً عميقاً للمناهج الجزئية في دراستها ، وهي التي أشرنا إليها قبل قليل .. وكذلك بالنسبة للجانب المعرفي الذي يقتضي إلماماً واعياً بما أنتجه تطبيق المناهج الجزئية من معارف ، وأفكار منثورة في كتب الأمة المتنوعة ، وهذا مما هو متعذر في الوقت الراهن على المؤسسات ، ناهيك عن الأشخاص ..

- أما السبب الثاني فهو راجع إلى منهجية هذا البحث المتواضع ، إذ لا يمكن الحديث عن مثل هذا الطرح قبل وضع إطار منهجي له ، تدرس ضمنه الأفكار ، وتحلل الإشكاليات .

طبيعة الجهد النبوي من الوجهة الحضارية

فمن هنا آثرنا في هذه الدراسة الأولية ، في موضوع (المنهج النبوي والتغيير الحضاري الجديد) ، أن نحاول تحديد مدخل منهجي عام للتعامل مع الظاهرة السنية .

إن دراسة سيرة الرسول صلي الله عليه و سلم وحركته ، في مدة ثلاثة وعشرين عاماً ، هي في جوهرها دراسة في تشكيل حضارة ، وبناء و أن نموذج حياتي جديد ، يدين : بـ (لا إله إلا الله و أن محمداً رسول الله) . فأقواله ، وأفعاله ، وتقريراته ، وشمائله ، وفضائله ، وأخلاقه هي القواعد التي عليها بني المجتمع الإسلامي ، وعضد لبناته . فلم يكتف عليه الصلاة والسلام بوضع مخططات التغيير ، وبرامجه ، ومناهجه ، وكيفياته ، وموجباته ، بل ساهم في البناء حتى وصل به إلى المرحلة التي أكمل فيها (مهمة البلاغ المبين) التي أمره بها الخالق عز وجل . حيث لا يمكن لأي مشكك أو متوهم أن يثير أي شبهة عن كمال هذه المهمة ، وشمولها لكل ما يخص بناء الانسان ، والمجتمع ، والثقافة ، والحضارة التي تدين بالإسلام .

قال تعالى : (اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام ديناً )( المائدة : 3) .

ومهمة البلاغ المبين على الصعيد العملي ، هي التي أنتجت الحضارة الإسلامية ، وأدخلت القبائل العربية الجاهلية إلى مرحلة التفاعل مع القضايا الحضارية الكبرى التي كانت تدور على محوري فارس ، وروما . فالمبلغون الأوائل تحت قيادة الرسول صلي الله عليه و سلم هم المؤسسون (لعلم الدعوة الحضارية العالمية) على الصعيدين النظري ، والعملي .. وبطبيعة الحال تكون دراسة الحضارة الإسلامية الأولى هي دراسة في صميم الجهد النبوي ، وفي منهجيته في البلاغ ، والدعوة ، والتغيير الحضاري ، والتي كان من آثارها ذلك العملاق الإسلامي الذي أثرى مسيرة الإنسانية ، وقدم لهما نموذجاً حضارياً فطرياً متوازناً ، ومتطابقاً مع الخطاب الإلهي .. فكانت الحضارة الإسلامية هي (حضارة المصلحة) بخلاف الحضارات التي عاصرتها ، والتي نعاصرها نحن اليوم بعد أربعة عشرة قرناً من الزمان ، أعني (حضارات المصلحية).

فالدارسون لجهد الرسول صلي الله عليه و سلم الثاوي في كل جانب من جوانب الحضارة الإسلامية ، يجب أن يلاحظوا بأن هذا الجهد كان نتاجاً طبيعياً لتفاعل عناصر أساسية لا يمكن أن نفهمهما إلا في صورة متكاملة ، تقدر قيمة كل عنصر من عملية البناء الحضاري النبوي وهي:

- عنصر الوحي الأعلى (قرآناً وسنة) بما فيه الرؤية ، والمنهاج ، والمشروع الإسلامي.

- وعنصر الواقع الجاهلي ، في معناه الشمولي المتضمن لحضارتي فارس ، والروم.

- والجهد النبوي ، في منهجيته ، ومقاصده ، ووسائله ، وأساليبه.

- وجهد الصحابة ، على اعتبار كونهم الجماعة المؤسسة الأولى.

فالنبي عليه الصلاة والسلام بشر ، كان يتحرك بالوحي في واقع إنساني ، ومطالب بالتبليغ عن ربه ، وذلك بدعوة الناس إلى الإسلام ، وتشكيل الجماعة الموحدة التي تحمل هم المشروع ، وهم توريثه للأجيال الإسلامية المتعاقبة . فمهمة الرسول صلي الله عليه و سلم تقتضي وعياً على الخطاب الإلهي ، ووعياً على الواقع ، ووعياً على معادلات البشر ، والمجتمعات المعاصرة ، ووعياً على منهج البلاغ المبين ، ووعياً على علوم التوجيه ، والتربية ، والسياسة ، والاجتماع ، والتاريخ والحروب .. ونحن عندما ندرس جهده عليه الصلاة والسلام ، نجد فيه كل هذه التخصصات منظمة في وحدة متكاملة ، ومتناسقة . ففي كل عمل أو قول أو تقرير أو خلق .. تبرز لك الحكمة ، وترى الوعي يتدفق ليروي عقول العلماء العظام الذين أفنوا أعمارهم في التحصيل ، فلا يسعهم أمام هذا الجهد إلا الاعتراف الصادق والحقيقي بعظمته ، وصحته ، وفعاليته ..

==============

# معالم منهجية الرسول صلي الله عليه و سلم في البلاغ المبين

إن دعوة الرسول صلي الله عليه و سلم كمبلغ عن ربه سبحانه وتعالى ، دعوة عالمية إنسانية ، موجهة إلى كافة الخلق بخطاب أخلاقي ، وعقلي ، غايته بناء الحضارة التي يكون بمقدورها تحقيق مقاصد الشارع في الخلق ، وتوفير موجبات الاستخلاف للعباد . لقد كان عليه الصلاة والسلام يخاطب الناس حسب أفهامهم ، ودرجات وعيهم ، وقدراتهم ، وفي كل خطابه راعى الرحمة ، والتيسير على الخلائق ، وحملهم محمل المصلحة ، ورفع الحرج ، ونبذ شرائع الإصر والأغلال ، وإدخالهم في السلم كافة ، قال تعالى: (وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين ) (الأنبياء : 107) . وقال رسول الله صلي الله عليه و سلم : (يسروا ولا تعسروا بشروا ولا تنفروا ).

وعليه ، فدراسة منهجية الرسول صلي الله عليه و سلم في البلاغ المبين ، يجب أن تتم على أساس هذا الوعي الغائب ، والجاري على المصلحة.

وإذا كانت منهجية الرسول صلي الله عليه و سلم مستندة إلى قاعدة المصلحة ، واليسير ، والعلم بحاجات الخلق ، وقدراتهم ، ومراعاة أحوالهم في السراء والضراء ، والمنشط والمكره ، فإن فهمها كمنهجية لفعل حضاري توحيدي ، يجب أن يتأسس على هذا الفقه المصلحي . ونحن هنا لكي نفهم المنهجية النبوية لابد أن ندرسها من خلال بعض المداخل المهمة ، والتي منها:

- البعد التوحيدي .

- البعد المقاصدي .

- البعد البلاغي ( الدعوة ) .

- البعد السُنني .

- البعد العقلي ( العملي ) .

- البعد الأخلاقي .

- البعد الزماني .

وفي هذه الدراسة سوف نركز على تحليل بعدين ، مرجئين غيرهما إلى حينه بإذن الله تعالى .

============

# أولاً : البعد المقاصدي للمنهج النبوي

الجهد النبوي بأكمله مبني على مراعاة مقاصد الشارع في الخلق ، ونحن في هذا العنصر ، نريد فهم المقاصد كإطار منهجي ، كان سمة الجهد النبوي خصوصاً ، وكضابط حاكم على الحركة الاجتهادية الإسلامية عموماً.

ملاحظة عن النظام المقاصدي:

فقصد الشارع قد انصرف ابتداءاً إلى درء المضرات على الناس ، وجلب المسرات الدنيوية ، والأخروية لهم . فالنظام المقاصدي ركب أصلاً من أجل تحصيل مقصد كلي عظيم ، يفتقر إليه الوجود البشري بفطرته التي فطره الله عليها ، وهو (مقصد الاستخلاف) الذي تنبني عليه كل المقاصد الأخرى ، وتصدر عنه منظومة المصالح البشرية . يقول الإمام الشاطبي رحمه الله في موافقاته:

(لما انبنت الشريعة على قصد المحافظة على المراتب الثلاث من الضروريات والحاجيات ، والتحسينيات ، وكانت هذه الوجوه مبثوثة ، في أبواب الشريعة ، وأدلتها غير مختصة بمحل ، ولا بباب ، ولا بقاعدة دون قاعدة ، كان النظر الشرعي فيها أيضاً عاماً لا يختص بجزئية دون أخرى ، لأنها كليات تقضي على كل جزئي تحتها "....." فإذا وجدنا أن الحفاظ على الدين ، أو النفس ، أو النسل ، أو المال ، أو العقل ، في الضروريات معتبر شرعاً ، ووجدنا ذلك عند استقراء جزئيات الأدلة ، حصل لنا القطع بحفظ ذلك وأنه المعتبر حيثما وجدناه).

مقصد الاستخلاف

ففي كلية الاستخلاف التي هي أصل الكليات السابقة ، نجد مصالح الفرد ، ومصالح المجتمع ، كما نجد مصالح الإنسانية .. فحفظ الدين ، والنفس ، والعقل ، والمال ، والنسل ، أمور مطلوبة شرعاً .. ولكن كلية الاستخلاف الكبرى التي بعث الخطاب الإلهي من أجل تحقيقها ، لا تقتصر على القضايا الخمسة المذكورة في معظم كتب الأصول ، ولكنها تتعدى لتنبه إلى قضية أخرى في غاية الأهمية ، وسوف لن تتحقق مصالح العباد على الوجه المطلوب إذا لم تراع . وهذا معناه أن النظام المقاصدي القائم ، يحتمل إضافة كليات ، يمكن أن تكون مما دل الشرع على اعتبارها ، وجاء أصلاً للمحافظة عليها ، وفي هذا يقول ابن تيمية - رحمه الله - عن علماء الأصول المشتغلين بفكرة المقاصد: (... رأوا أن المصلحة نوعان : أخروية ودنيوية ، جعلوا الأخروية ما في سياسة النفس ، وتهذيب الأخلاق ، من الحكم ، وجعلوا الدنيوية : ما تضمن حفظ الدماء ، والأموال ، والفروج ، والعقول ، والدين الظاهر ، وأعرضوا عن العبادات الباطنة والظاهرة من أنواع المعارف بالله ، وملائكته ، وكتبه ، ورسله، وأحوال القلوب ، وأعمالها : كمحبة الله ، وخشيته ، وإخلاص الدين له ، والتوكل ، والرجاء لرحمته، ودعائه ، وغير ذلك من أنواع المصالح في الدنيا والآخرة ، وكذلك فيما شرعه من الوفاء من العهود، وصلة الأرحام ، وحقوق المماليك ، والجيران ، وحقوق المسلمين بعضهم على بعض ، وغير ذلك مما أمر به ونهى عنه : حفظاً للأحوال السنية ، وتهذيب الأخلاق ، ويتبين أن هذا جزء من أجزاء ما جاءت به الشريعة من مصالح).

إن ملاحظة شيخ الإسلام تبحث في صميم (النظام المقاصدي)، وكأنه يريد أن ينبه على ضرورة إعادة قراءة مقاصد الشريعة ، ومحاولة إدراج أهداف أخرى دل الشرع على اعتبارها ، حيث رأى أنه من الضروري إلحاقها بالكليات السابقة .. وسواء أكان ما اقترحه من مقاصد يمكن أن يشكل كلية جديدة ، تدرج في عداد الكليات الموجودة ، أو كان داخلاً أصلاً في الكليات القائمة ، ولكن الاشتعال بها كان قليلاً فوجب التنبيه عليها ، فإن الأمر الذي يهمنا هنا هو طلب الاجتهاد ، والدعوة إليه في قضية تبدو أنها اكتملت حلقتها .. وحتى الإمام الشاطبي الذي أدار البناء الأصولي بأكمله على مقاصد الشريعة ، ركز على نفس الكليات الموجودة من قبل.

كلية الكون

إننا ونحن نستقبل العصر العالمي بكل ظروفه ، وموجباته ، نلاحظ بأن الإنسانية بحاجة إلى فهم أعمق لمقاصد الشارع في الخلق ، تلك المقاصد التي إذا لم تعتبر في حياة الناس ، فإن ذلك سيفتح عليهم مسالك المضرات ، والمشقات ، والأهواء التي لا تحمد عقباها في الدارين.

ومن بين المقاصد الكلية الضرورية التي دل الشرع على حفظما واعتبارها (مقصد المحافظة على الكون) بمفهومه الواسع ، الذي يشمل على كل ما سخره الله لخلقه من بحار ،و أرض وجبال ، ومعادن ، وطبيعة .. وآيات التسخير في القرآن كثيرة جداً . فما يحصل اليوم في حياة الناس من جراء التفاعل غير الصحيح مع الكون ، وما تعانيه البشرية من تلوثات ، ومجاعات ، وتهديد بنفاد المسخرات الإلهية - حسب البناء الفلسفي للنظرية الاقتصادية المادية - إنما يعبر عن جهل الناس لمقاصد الشارع الحكيم ، التي دلت على حفظ الدين والنفس والعقل والمال والنسل ، كما دلت على حفظ الكون ، فهذه الكلية الأخيرة تؤدي غرضين في موضوع الاستخلاف:

- التسخير المادي وما يشتمل عليه من خيرات هي قوام العمران البشري ، والبناء الحضاري في جانبه المدني والمعاشي..

- التسخير السنني وما يشتمل عليه من آيات ، وسنن ، وقوانين دالة على أنه الحق تبارك وتعالى .. قال عز وجل : (سنريهم آياتنا في الأفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق ) (فصلت : 53) . فللكون دور أساسي وضروري في هداية الناس إلى الحق تبارك وتعالى . والناس عندما لا يحافظون على الكون ولا يسخرونه كما أمر تبارك وتعالى ، فإنهم سيهلكون ، وما تلوث البيئة الحالي ، الذي يهدد بهلاك النسل ، إلا مظهر من المظاهر الدالة على أزمة عدم المحافظة على كلية الكون ، التي دل الشرع على اعتبارها ، إذ بدون ذلك ستضيع كل مصالح الناس الخاصة بحياتهم المادية ، والمعنوية.

وهناك توجيه نبوي عظيم الدلالة في هذا الميدان ، قل ما يدركه الباحثون وهو قوله ص : (إن قامت الساعة وفي يد أحدكم فسيلة فإن استطاع أن لا تقوم حتى يغرسها فليغرسها ).

إن مقاصد الشارع في الكتاب ، والكون والأنفس ، وضعت لتحقيق مصالح العباد في الدارين ، وبها سيحصل الاستخلاف الذي وجد البشر من أجله أصلاً ، كما أنها تمثل أصلاً ، منهجاً تغييرياً مستقيماً على الطريقة .

المنهج النبوي كإطار عملي للمقاصد

من استقراء السنة النبوية ، يتضح بجلاء البعد المقاصدي ، في السيرة النبوية ، فكل ما صدر عنه صلي الله عليه و سلم يقع في دوائر التيسير ، والرحمة ، والعدل ، ورفع الآصار والأغلال ، ويهدف إلى حفظ مصالح الخلق المتعلقة بحياتهم الفردية ، والجماعية ، والإنسانية .. وحياتهم المعاشية ، والروحية .. فمنهجية الرسول عليه الصلاة والسلام المضمنة في أقواله ، وأفعاله ، وتقريراته ، وأخلاقه ، وشمائله ، مصبوغة بالمنطق المقاصدي الهادف.

فكل جهده يجب أن يدرس في إطار مقاصد الشارع .. فاعتماده على منهج التربية ، والتكوين ، والتدريب على الاجتهاد ، والتشاور ، والتفكير ، والتبيين ، والسير في الأرض ، والجهاد ، إنما كانت غايته الأساسية توفير الجو والوسط ، الذي تنمو فيه (العقلية المقاصدية) المتدبرة لخطاب الله ، والتي تسبر أعماق البلاغ الرباني المبين ، وتحمل رسالة القول الثقيل .. حيث كان عليه الصلاة والسلام (مرجعية مقاصدية) توجه الناس إلى الأسرار ، والمقاصد التي حملها التكليف الرباني للخلق.

فعندما نقوم بدراسة سنن نبينا عليه الصلاة والسلام ، وأحاديثه التي حوت أقواله ، وأفعاله ، وتقريراته ، وسائر أعماله ، علينا أن نلاحظ المسحة المقاصدية ، التي لم تكن علماً صناعياً ينكب فيه عليه الصلاة والسلام مع صحابته الكرام على طاولات البحث ، والدرس ، والتحصيل المدرسي ، بل كانت سلوكاً وروحاً ، تسري في عروق الناس ، وتغذي جنين الحضارة برسالة الإنسان في الأرض ، وتريه حقيقة وجود الكتاب ، والكون ، والناس ، وتبين له أن كل شيء وجد ليحقق مصالح الناس في الدارين.

=============

# ثانياً : البعد البلاغي للمنهج النبوي

يقول المولى تبارك وتعالى في كتابه الحكيم : (هذا بلاغ للناس ولينذروا به وليعلموا أنما هو إله واحد وليذكر أولوا الألباب ) (إبراهيم : 52). (يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك وإن لم تفعل فما بلغت رسالته والله يعصمك من الناس إن الله لا يهدي القوم الكافرين ) (المائدة : 67). (وأطيعوا الله وأطيعوا الرسول واحذروا فإن توليتم فاعلموا أنما على رسولنا البلاغ المبين )( المائدة :92).

المنهج النبوي كإطار تطبيقي للبلاغ المبين

هكذا خطت الفكرة القرآنية طريقها نحو مشروعها الاستخلافي ، وهكذا تقرر المنهج ليكون بلاغياً ودعوياً في أصوله الأولى . فالبلاغ المبين هو طريق البناء الحضاري التوحيدي ، والدعوة البلاغية هي سبيل التحرك الإسلامي المبين في التاريخ.

فالمبلغ الذي يحمل همّ الدعوة الحضارية العالمية ، التي تنبثق في أصولها ، ومنهجها عن مصادر التوحيد الإسلامي ، مطالب بالفقه العميق لمنهاج الهداية الحضارية ، ومنهج الإصلاح الإنساني ، ومنهجية التغيير الثقافي . وهنا تظهر أهمية سنة الرسول ص في تقديم الوعي المستوعب ، على هذه القضايا المتعلقة أصلاً بالمنطق العملي للبلاغ المبين ، وصياغته التطبيقية ، كيما يتحول إلى قوة تنفيذية للنظرية الحضارية الإسلامية ، ومحاولة تحويلها إلى مواقف سلوكية يومية تدخل في توجيه حياة الناس العامة والخاصة ، الأخلاقية والمادية ، العقلية والنفسية ، الفكرية والاجتماعية ، الأدبية والعمرانية.

فالمنهج النبوي لا يقدم فقط الإطار المرجعي للسلوك البلاغي الدعوي ، والمنهاج التوجيهي للفعل الإصلاحي ، والترشيدي ، بل يقدم بالإضافة إلى ذلك البناء العملي لهذه الأفكار النظرية . فالسنة أصلاً موقف عملي منهجي منظم ،دخل في اطراد بناء المجتمع الإسلامي الأول ، وترك للأجيال الإسلامية معيار البناء الحضاري الخاضع لتعاليم الوحي ، والمنضبط بتوجيهاته ، فالباحث في السنة باحث أيضاً في الأصول التطبيقية للحضارة الإسلامية ، وفي المناهج السلوكية ، التي حولت الفكر النظري إلى سياسة عملية.

ومن هذا التأسيس نكون أمام مطلب جوهري في التعامل مع السنة النبوية ، وهو إلزامية كشف ، وفهم البعد البلاغي والدعوى للخطاب الإسلامي ، الذي أودعت فيه جهود النبي عليه الصلاة والسلام ، روح المنهج البلاغي الإسلامي ، وبينت قواعده ، وخصائصه ، ومضامينه ، ومناهجه.

فالرسول صلي الله عليه و سلم كان مبلغاً ، ومعلماً ، ومصلحاً ، وداعياً ، وشاهداً ، ومبشراً ، ومنذراً ، وهادياً ، يعتمد في خطابه على (الحكمة والموعظة الحسنة) ، تماماً كما دلت النصوص القرآنية والحديثية في مثل قوله تعالى :(ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن إن ربك هو أعلم بمن ضل عن سبيله وهو أعلم بالمهتدين ) (النحل : 125). (قل هذه سبيلي أدعوا إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعني وسبحان الله وما أنا من المشركين )(يوسف:108) .

لقد كان يخاطب النفوس ، والعقول بما تطيقه ، خبيراً بالواقع ، عالماً بأحوال المخاطبين ، مدركاً لثقافتهم وتاريخهم ، عارفاً بمداخل استجابتهم ، مستوعباً لمناهج مجادلتهم ، واعياً على قدراتهم ، وإمكاناتهم ، واستعداداتهم ، وآمالهم , وآلامهم .

معادلة البلاغ المبين

لكي ندرك بوعي ، نظرية البلاغ المبين ، كما تتصورها المذهبية التوحيدية ، نحتاج إلى التعرف على أمرين اثنين هما:

1 - مفهوم البلاغ المبين وشروطه .

2 - محاور البلاغ المبين .

1 - مفهوم البلاغ المبين وشروطه:

فهم نظرية البلاغ المبين ، كما يطرحها النموذج الحضاري الإسلامي ، يستدعي عرضها على ميزان خطاب الله سبحانه وتعالى ، ففلسفة هذا البلاغ ومناهجه ، ووسائله ، وغاياته ، ومقاصده ، تتحدد بالفلسفة القرآنية المتعلقة بقضايا الحياة ، والكون ، والإنسان ، وصيرورة الوجود الدنيوي عموماً . وعلى هذا الأساس نستطيع أن نقول : بأن وظيفة البلاغ المبين ، هي : تمكين الأمة من إنجاز رسالة الشهادة على الخلق ، وتحقيق مسؤولية الأمة الوسط ، وإقامة الحجة الدامغة على الناس ، وتبيين أنه الحق تبارك وتعالى ، وتحقيق تبعات هذه المسؤولية على صعيد:

- العبادة الحقة لله سبحانه وتعالى .

- الإعمار الكوني .

- التسخير السنني .

- الإنقاذ الحضاري للبشر .

- التعارف الثقافي بين الأمم والشعوب .

وعليه ، فالبلاغ المبين هو جميع الجهود الإسلامية المخلصة لله سبحانه وتعالى ، والمتوافقه مع الهدي النبوي، و الهادف إلى توفير وتحصيل مقاصد الشارع في الخلق ، عن طريق العرض المنهجي للإسلام في شموليته ، وتكامله كنظام حياتي ، مستوعب لسعادتي الدنيا والآخرة ، وتثقيف الناس على مذهبيته ورسالته ومشروعه ، والسعي إلى بنائه ، الواقعي بالوسائل المشروعة والمتماشية مع ظروف الواقع الإنساني المتغير في الزمان والمكان.

ومن هنا ، ولكي نحقق بلاغاً مبينا وهادياً في مستوى التحدي العالمي الذي تستدعيه مسيرة البشرية ، وتطوراتها العقلية والثقافية ، والمنهجية ، والحضارية ، علينا أن نحقق بعض الشروط الأساسية ، والتي منها :

- الفهم العميق لخطاب الله سبحانه وتعالى ، في مذهبيته التوحيدية ، ورسالته الاستخلافية ، ومشروعه الاجتماعي . وتعد هذه الغاية مرحلة من مراحل البلاغ المبين نسميها:(مرحلة فهم الخطاب الإلهي) .

- الفهم العميق لسنة النبي عليه الصلاة والسلام ، وفلسفته في البلاغ المبين ، ومنهاجه في الهداية ، ومنهجيته في تطبيق الإسلام ، وبنائه واقعياً ، وتعتبر كذلك هذه الغاية ، مرحلة من مراحل البلاغ المبين نسمها:( مرحلة فهم النموذج التطبيقي للإسلام) .

- الفهم المستوعب للسنن الإلهية التكوينية ، والتاريخية ، التي تتحكم في البلاغ المبين ، وفي بناء الدعوات الحضارية ، وتعتبر كذلك هذه الغاية مرحلة من مراحل البلاغ المبين ونسميها:(مرحلة السير في الأرض ، والوعي السنني).

- الفهم العميق لطبائع المراحل الحضارية التي مرت ، وتمر بها البشرية ، بغرض فهم صيرورتها فوق الكوكب الأرضي ، ونسمي هذه المرحلة من مراحل البلاغ المبين: (مرحلة فقه العمر الحضاري للإنسانية ) .

- الفهم المستوعب للواقع المحلي ، والعالمي ، في تركيبه ، وبنائه ، وتاريخه ، ونسمي هذه المرحلة البلاغية : (بمرحلة فهم الواقع القائم ، والخبرة التاريخية ، والمستقبل المنشود للبشرية ).

- الفهم العميق لمنهاج بناء البلاغ المبين في الواقع الحياتي للناس ، وتعد هذه المرحلة البلاغية مرحلة تطبيقية تنتج عن الوعي المتحصل من فهم المراحل السابقة ، ومحاولة استخدامها في مشروع اجتماعي عملي ، ونسميها (مرحلة البناء الحضاري).

2 - محاور نظرية البلاغ المبين:

فإذا أدركنا بأن مفهوم البلاغ المبين مستوعب لرسالة حضارية جماعية ، واستشعرنا صعوبة تحقيق شروطها ، وضخامة المهمة الملقاة على عواتقنا كأبناء أمة إسلامية رسالية ، وجب علينا أن نفهم المحاور النظرية ، والتطبيقية لنظرية البلاغ المبين.

فلكي نؤدي وظيفية البلاغ المبين ، علينا أن نعي فلسفة هذا البلاغ ، ومناهجه ، وعلاقته بالعلوم النفسية، والاجتماعية ، والثقافية ، والعلوم الشرعية من جهة ، والعلوم السياسية ، والاقتصادية ، والتربوية، والوسائلية، و الإعلامية والجغرافية ، والتكنولوجية ، والصناعية ، والعلوم الطبيعية ، والكونية ( الآفاقية ) من جهة ثانية.

إن الصلة وثيقة جداً بين هذه العلوم ، ونظرية البلاغ الاسلامي المبين ، على اعتبار أنه - البلاغ - الغاية القصوى لكل هذه العلوم ، فكل علم إسلامي نقلي أو عقلي ، مطالب شرعاً بأن يقصد في غايته ، المساهمة في البلاغ المبين ، إذ هذه العلوم تبقى فاعلة وعملية، إذا نزلت إلى ساحات البلاغ التي تقدم فيها الهداية الإسلامية للبشرية في كل المجالات الحياتية ، ونحن في هذه الدراسة الأولية سوف لا نتتبع هذه الصلات الموجودة بين البلاغ المبين ، والعلوم المختلفة ، لأسباب منهجية ، وموضوعية خاصة بوحدة الموضوع ، ولكننا سنقتصر على ذكر ملاحظات عن المحور الفلسفي ، والتاريخي ، والواقعي (المنهجي) للبلاغ المبين كما عرضته سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم مرجئين المحور السياسي ، والاقتصادي ، والثقافي ، والتربوي ، والمعرفي إلى حينه إن شاء الله .

أ - المحور الفلسفي للبلاغ المبين:

وأعني به فلسفة هذا البلاغ ، ومضامينه التصورية الكبرى ، وعلاقاته المنهجية الأساسية ، فالمبّلغ الإسلامي عن الله سبحانه وتعالى ، مطالب بأن يفهم بأن الإصلاح ، والترشيد ، والهداية ، والدعوة ، والتعليم ، كما تطرحه نظرية الإسلام الحضارية ، تقتضي الوعي على مراتب ، ومستويات ، ومضامين العلاقات الدعوية ، القائمة في نظرية البلاغ المبين . فلكي يكون هناك بلاغ مبين ، كما تطرحه الفلسفة التغييرية القرآنية ، علينا أن ندرك بعمق العلاقات المترتبة عن العناصر التالية:

- علاقة الإنسان المستخلف بالخالق سبحانه وتعالى ، الذي خلق الإنسان ، والكون ، والحياة .. ولهذه العلاقة مراتب يجب وعيها هي : مرتبة التكليف ، ومرتبة التوحيد ، ومرتبة العبودية ، ومرتبة المقاصد ، ومرتبة الاستخلاف ..

- علاقة الإنسان بأخيه الإنسان في مراتبها التالية : مرتبة الاجتماع ، ومرتبة الأمة ، ومرتبة الرسالة ، ومرتبة الثقافة ، ومرتبة الحضارة ، ومرتبة التاريخ ..

- علاقة الإنسان بالكون في مراتبها التالية : مرتبة التسخير ، ومرتبة الإعمار ، ومرتبة كشف الآيات ، ومرتبة استخدام السنن ، ومرتبة المؤاخاة بين الإنسان والكون ..

- علاقة الإنسان بالحياة في مراتبها التالية : مرتبة فهم الزمن ، ومرتبة فهم المتاع ، والعرض الدنيوي ، ومرتبة فهم لحظات العبور ، أو كما أثر عن الإمام علي كرم الله وجهه: (اعمل لدنياك كأنك تعيش أبداً واعمل لآخرتك كأنك تموت غداً).

فمن هذه العلاقات الأساسية ، تنبني نظرية البلاغ الإسلامي ، وتتوحد العلوم لأداء رسالة تبيين أنه الحق تبارك وتعالى ، فلكي نقدم بلاغاً إسلامياً تبشيرياً ، وتعليمياً هادياً ، علينا أن نفهم بعمق هذه العلاقات المتناغمة بين عناصر نظرية البلاغ الإسلامي المبين : الخالق تبارك وتعالى ، والإنسان ، والكون ، والحياة.

ب - المحور التاريخي للبلاغ المبين:

نعني بالمحور التاريخي للبلاغ المبين : مراعاة تاريخ الأمم ، والشعوب ، ومعرفة ثقافتهم ، وعاداتهم ، وتقاليدهم ، وذلك عندما نبدأ في ممارسة العمل الدعوي ، حتى نخاطب الناس من خلال المداخل الطبيعية لاستجاباتهم . والرسول صلى الله عليه وسلم كان خبيراً بتاريخ المجتمعات التي كان يمارس عليها الدعوة ، والبلاغ المبين ، ومن أمثلة هذا الوعي قوله عليه الصلاة والسلام لأصحابه الذين اضطهدوا ، آمراً لهم بالهجرة إلى الحبشة: (إن بها ملكاً لا يظلم عنده أحد ، وهي أرض الصدق ، حتى يجعل الله لكم فرجاً مما أنتم فيه ). فهذا الوعي التاريخي بشخصية هذا الملك ، وعدله ، وبالأرض وخاصيتها ، إنما يعبر عن إدراك صلى الله عليه وسلم لأهمية المحور التاريخي في البلاغ المبين . والوعي التاريخي متحصل من السير في الأرض ، والنظر في سنن الأولين ، وفي آيات الله في الآفاق والأنفس.

يقول الأستاذ جودت سعيد: (ثم أن الرسول صلى الله عليه وسلم نفسه يستخدم آيات الآفاق والأنفس ، ليحل المشكلة خارج النصوص . ولا مانع من التذكير بالحديث الذي أكرره كثيراً لما له من الدلالة ، والأهمية في هذا الموضوع ، موضوع آيات الآفاق ، والأنفس .. ذلك الحديث الذي يترك فيه الرسول صلى الله عليه وسلم الاحتجاج بسلطانه النبوي ، وسلطان ما أوحي إليه ، ليتخذ من آيات الآفاق والأنفس دليلاً ، وحجة لبيان موضوع معين ، وقع الجدال فيه مع صاحبه زياد بن لبيد: ( ذكر ابن كثير في تفسير سورة المائدة الآية 63 ، وصححه عن الإمام أحمد قال : ذكر النبي صلى الله عليه وسلم شيئاً فقال: (وذاك عند ذهاب العلم ) ، قلنا يا رسول الله : كيف يذهب العلم ؟ ونحن نقرأ القرآن ، ونقرئه أبناءنا .. وأبناؤنا يقرئونه أبناءهم ؟ فقال: (ثكلتك أمك يا ابن لبيد ، إن كنت لأراك من أفقه رجل في المدينة . أليس هذه اليهود والنصارى بأيديهم التوراة ، والإنجيل ، ولا ينتفعون مما فيهما بشيء ؟! ) .. هنا يلجأ الرسول صلى الله عليه وسلم إلى آيات الآفاق والأنفس ليحسم النزاع ، والجدال في آيات الكتاب ، وإن آيات الكتاب قد تكف عن أدائها دور العلم ، في ظروف معينة ، والرسول صلى الله عليه وسلم هنا يستشهد بحدث تاريخي واقع أمام العالم جميعاً ، لا يمكن أن ينكره أحد . وهذه القوة لآيات الأفاق والأنفس ، أشرنا إليها قريباً حين قلنا : إن دلالتها عالمية ، وفوق الأيديولوجيات ، ولم يحاول هنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقول : أنا رسول الله ولا أنطق عن الهوى ، وعليك أن تسلم بما أقول ، ولا تجادل فيه . إن هذه الحادثة ، والحوار العجيب الذي دار في مطلع الحياة الإسلامية ، لعميق الدلالة ، وسوف لا يكف عن عطاء ما يحتويه من منهج لا يزال يتألق على مر العصور في أهمية الوقائع في الآفاق والأنفس . وهذا ما أردنا أن نضعه أمام الشباب المسلم ليتأملوا فيه ، ليس كحدث جزئي ، وإنما كمنهج).

إننا حقاً لا نستطيع إدراك جهود الرسول صلى الله عليه وسلم إلا إذا نظرنا إليها كمناهج متكاملة ، وتأملناها كوسائل فاعلة في بناء الحياة الإسلامية .

ج - المحور الواقعي للبلاغ المبين:

إن الطبيعة البلاغية ، والدعوية للرسالة الإسلامية هي التي استدعت الوعي على أحوال الخلق ، وطبائعهم ، واستعداداتهم ، وميولهم ، وقدراتهم وذلك بغرض مخاطبتهم بما يطيقون من غير إكراه ، ولا تعسف . ومعنى المحور الواقعي للبلاغ المبين هو إدراك معادلات الناس الفردية ، والاجتماعية ، ومخاطبتهم حسب ظروفهم ، ومشاغلهم ، واكتساب مفاتيح التعامل مع أوضاعهم كما هي في الواقع المعيش. والنبي عليه الصلاة والسلام ، خبير بهذا الجانب من جوانب البلاغ المبين ، عارف لأسراره ، وخباياه ، ومناهجه ، ووسائله ، وليس أدل على هذا ، تتبع منهج النبي عليه الصلاة والسلام في التعامل مع الأفراد والجماعات .

يقول الإمام الشاطبي مقعّداً لقانون دعوي منهجي ، مستخلص من الفقه النبوي: (النظر فيما يصلح بكل مكلف في نفسه ، بحسب وقت دون وقت ، وحال دون حال ، وشخص دون شخص ، إذ النفوس ليست في قبول الأعمال على وزن واحد .. فصاحب هذا التحقيق الخاص ، رزق نوراً يعرف به النفوس ، ومراميها ، وتفاوت إدراكها ، وقوة تحملها للتكاليف ، وصبرها على حمل أعبائها ، أو ضعفها ، ويعرف التفاتها إلى الحظوظ العاجلة أو عدم التفاتها . فهو يحمل على كل نفس من أحكام النصوص ، ما يليق بها ، بناء على أن ذلك هو المقصود الشرعي في تلقي التكاليف).

فهذه قاعدة من قواعد التعاطي مع المنهج البلاغي النبوي ، الثاوي في سنته صلى الله عليه وسلم وهذه جملة من النماذج الواقعية لهذه المنهجية.

فمن ذلك أن النبي عليه الصلاة والسلام سئل في أوقات مختلفة عن أفضل الأعمال ، وخير الأعمال ، وعرف بذلك بعض أوقات من غير سؤال ، فأجاب بأجوبة مختلفة ، كل واحد منها ، لو حمل على إطلاقه ، أو عمومه ، لاقتضى مع غيره التضاد والتفضيل .

ففي الصحيح أنه عليه الصلاة والسلام(سئل : أي الأعمال أفضل ؟ قال : إيمان بالله . قال : ثم ماذا ؟ قال : جهاد في سبيل الله . قال : ثم ماذا ؟ قال حج مبرور ).. (وسئل عليه الصلاة والسلام : أي الأعمال أفضل ؟ قال : الصلاة لوقتها . قال : ثم أي ؟ قال : بر الوالدين . قال : ثم أي ؟ قال : جهاد في سبيل الله ).

وفي النسائي عن أبي أمامة قال : أتيت النبي ص فقلت مرني بأمر آخذه عنك . قال: (عليك بصوم فإنه لا مثيل له ). وفي الصحيح في قول: (لا إله إلا الله وحده لا شريك له .. إلخ . قال : ولم يأتي أحد بأفضل مما جاء به إلا رجل عمل أكثر منه ) . وفي الترمذي: (ليس شيء أكرم على الله من الدعاء )(5) .

وفي البزار: (أي الدعاء أفضل ؟ قال : دعاء المرء لنفسه ). وفي الترمذي: (ما من شيء أثقل في ميزان المؤمن يوم القيامة من خلق حسن ).

وفي البزار: ( يا أبا ذر ألا أدلك على خصلتين هما خفيفتان على الظهر وأثقل في الميزان من غيرهما ؟ عليك بحسن الخلق ، وطول الصمت ، فوالذي نفسي بيده ما عمل الخلائق بمثلهما ).

وفي مسلم : (أي المسلمين خير ؟ قال : ( من سلم المسلمون من لسانه ويده ).. وفيه : ( أي الإسلام خير؟) قال : تطعم الطعام ، وتقرأ السلام على من عرفت ومن لم تعرف ).. وفي الصحيح : (وما أعطي أحد عطاءاً خيراً وأوسع من الصبر ) .. وفي البخاري :(خيركم من تعلم القرآن وعلمه ).

ومن الضوابط الدعوية أن يخاطب الناس بما يفهمون ، فقد روي عن علي رضي الله عنه ، قوله: (حدثوا الناس بما يفهمون ، أتريدون أن يُكّذب الله ورسوله ).

ويضيف الإمام الشاطبي ضابطاً آخر في عالم البلاغ المبين ، محاولاً تحديد منهجية للتعامل مع العقول، والأذهان ، والوقائع ، والأزمان ، حسب ما تتطلبه منهجية الدعوة في المنهاج الإسلامي قائلاً: (وضابطه أنك تعرض مسألتك على الشريعة ، فإن صحت في ميزانها ، فانظر في حال مآلها بالنسبة لحال الزمان وأهله ، فإن لم يؤد ذكرها إلى مفسدة ، فاعرضها في ذهنك على العقول ، فإن قبلت .

============

# دروس من الفقه النبوي

والذي يتعمق في دراسة الجانب التطبيقي للإسلام ، من خلال السيرة النبوية الشريفة ، يرى كيف وفق رسول الله صلى الله عليه وسلم ، في مواجهة مشكلات المجتمع الجاهلي ، وكيف كان يتعامل مع النفوس البشرية المتباينة : فكراً ، ومزاجاً ومكانة . وكيف كان يتدرج بها من مرحلة إلى مرحلة ، بصبر وأناة ، وحكمة ، حتى نقلها من الجاهلية إلى الإسلام.

لقد كان من أبرز خصائص ، وسمات المنهج النبوي: (التغيير المتدرج حسب الأولويات) كما أفصحت عن ذلك السيدة عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها ، وهي تصف منهجية التغيير الإسلامي ، التي كانت وراء نجاح الدعوة الإسلامية : (إنما نزل أول ما نزل منه - أي القرآن - سورة من المفصل ، فيها ذكر الجنة والنار ، حتى إذا ثاب الناس إلى الإسلام ، نزل الحلال والحرام ، ولو كان أول شيء لا تشربوا الخمر ، لقالوا لا ندع الخمر أبداً ، ولو نزل لا تزنوا ، لقالوا لا ندع الزنا أبداً ) (رواه البخاري).

والمسلم اليوم عندما يتأمل عمل النبي صلى الله عليه وسلم في التربية والحركة ، يجد أن من بين أهم المفاتيح التي فتح بها مغاليق النفس البشرية ، وغير بها أوضاع الحياة الاجتماعية : (قدرته الفائقة على فهم النفوس البشرية ، والأوضاع الاجتماعية وإدراك المؤثرات النفسية ، والبيئية التي يخضع لها الناس ، والتعامل معها على ضوء ذلك الفهم الشمولي العميق) الذي كان خير معين له على طرح الحلول الجذرية ، للمشكلات الإنسانية ، النفسية ، والاجتماعية ، الفردية ، والجماعية.

ولقد أعانه على امتلاك تلك القدرة في فهم النفوس البشرية ، والأوضاع الاجتماعية ، وإدراك المؤثرات النفسية ، والبيئية أمران أساسيان هما:

- الوحي الأعلى.

- والاستعداد الذاتي.

فالوحي الأعلى كان يطلعه به الله سبحانه وتعالى سواء عن طريق جبريل عليه الصلاة والسلام مباشرة ، أو عن طريق الإلهام في بعض الأحيان عندما تقصر وسائله الخاصة ، في التحري ، والتدقيق ، ويبدو أن أمراً مهماً سيفوته ، أو خطراً كبيراً سيلحقه ، كما في تآمر بني النضير على قتله .. وكما في قصة حاطب بن أبي بلتعه .. وكما في قصة فضاله الذي جاء يريد قلته ، وغيرها من الوقائع التي يعلم بها رسول الله صلى الله عليه وسلم عن طريق الوحي ، فيأخذ حذره منها ، ويحتاط لها.

والاستعداد الذاتي: حيث كان عليه الصلاة والسلام يهتم بمعرفة كل صغيرة وكبيرة في المجتمع ، الذي يكون فيه ، ويكلف أصحابه بإبلاغه ما يصلهم من معلومات وأخبار عن أحوال الناس ، وأوضاع المجتمع.

قال القاضي عياض فيما روي عن الحسن بن علي رضي الله عنهما: (.. فيتشاغل بهم - أي الناس - ويشغلهم فيما يصلحهم والأمة ، ومن مسألته ، عنهم وإخبارهم بالذي ينبغي لهم ، ويقول : (ليبلغ الشاهد منكم الغائب ، وأبلغوني حاجة من لا يستطيع إبلاغي حاجته .. يكرم كريم كل قوم ويوليه عليهم ، ويحذر الناس ويحترس منهم ، من غير أن يطوي عن أحد بشره وخلقه ، ويتفقد أصحابه ويسأل الناس عما في الناس) .

(ويرسل رجاله المقتدرين إلى الجهات التي يريد معرفة حالها ، فيأتونه بالأخبار التي يستعين بها على رسم خططه ، وانفاذ أمره). ومواجهة أعباء ومسؤوليات الدعوة ، والحدب عليها ، حتى لا يلحقها الأذى.

فخبرته صلى الله عليه وسلم بالنفوس والأوضاع البشرية ، وحرصه على متابعة مجريات الأحداث ، والإشراف عليها ولو من بعيد ، ساعده كثيراً في ضمان قدر هائل من الفاعلية في حركته ، لأنها كانت (تتم في الوقت المناسب ، وبالكيفية المناسبة) . فلم يكن تستفزه الأحداث ، وتضطره إلى المغامرة - رغم كثرتها وإلحاحها - بل كان يتحرك بخطى مدروسة ، يستلهم فيها واقع الأفراد والمجتمع والدعوة ، وكما تجمعت لديه معطياته عن طريق الوحي الأعلى ، والتحرك الذاتي

============

# المنهج النبوي والتغيير في العصر العالمي وظيفة السنة النبوية في البناء الحضاري:

إن الجهد الرائع ، الذي بذله العقل المسلم ، في ميدان مواجهة خصوم المنهج النبوي ، قديماً وحديثاً ، قد أتى أكله بحول الله وقوته ، أضعافاً مضاعفة ، لما كان متوقعاً ، وهذا فضل من الواحد القهار سبحانه وتعالى . فقد خرجت السنة النبوية منتصرة من صراع مرير ، خاضته ضد الهوى ، الذي انغرس في نفوس المغرضين ، والمناوئين ، الذين ما تركوا سبيلاً إلا وسلكوه لمحاربتها ، ومحاولة النيل منها . فكان الصراع محتدماً على كل الأصعدة : صعيد المنهج والمعرفة ، وصعيد مضمون السنة وحملتها ، وصعيد فهمها وتطبيقها.

فلم تكن المعركة السُنية - إن صح التعبير - سهلة ، وبسيطة ،بل كانت شرسة ومعقدة ، وليس أدل على هذا ، من ذلك الكم الهائل من الأفكار ، والكتابات ، التي ظهرت في هذا الحقل المعرفي الإسلامي.

لقد خاضت السنة تجربتها الأولى في حضور نبي الإسلام عليه الصلاة والسلام ، لا لتترك لنا فقط أحاديثاً وسنناً روّي بها رسولنا عقول الناس ، بياناً وعلماً وهدياً ، ولكن لتخلف لنا أثراً عظيماً من آثار الإسلام ، وهو تنزيل القرآن إلى أرض الواقع ، وتحويله إلى ثقافة اجتماعية أخلاقية وروحية ، وسلوكية ، وعمرانية . والعجيب حقاً أن تتم عملية التنزيل ، في ظرف زمني وجيز ، امتد إلى حوالي ثلاثة وعشرين عاماً ، وهي حياة الرسول صلي الله عليه و سلم بعد البعثة.

ثم خاضت السنة معركتها الثانية في وجود الصحابة الكرام ، والتابعين الأبرار ، وتابعي التابعين الأخيار ، لتترك لنا تراثاً معرفياً سنياً ، وحديثياً ، ظهرت من خلاله عبقرية العقل المسلم الاجتهادية ، والمنهجية ، والعقلية ، فنشأت بذلك علوم رائعة ، ومناهج كفأة في هذا الحقل المعرفي الإسلامي ( علوم السنة ) .. وبعد هذا الزمن الطيب في حياة السنة النبوية ، توالت العهود ، ودخلت أمتنا العزيزة في مراحل الضعف والتخلف ، ليس عن ركب الحضارة كما يقولون ، ولكن عن مستوى القرآن والسنة ، فحدث لها ما هو معلوم من واقعنا بالضرورة .

دعونا نقول بأن السنة النبوية في تطورها التاريخي مرت بقراءتين:

- القراءة النبوية ، وتمتاز بأنها كانت سلوكاً ، وقيماً ، وأخلاقاً ، وواقعاً مجسداً وقرآنا ، يمشي داخل مؤسسات المجتمع وثقافته . ويمكن تسميتها (بالقراءة عن طريق الوحي) ، فقد كانت أقوالاً ، وأفعالاً ، وتقريرات كما يعبر عن ذلك علماء الأصول ، ولكنها محكومة بمرجعية الوحي ، ومعياريته.

- القراءة البشرية العلمائية : وأعني بها قراءة الصحابة ، والتابعين وتابعي التابعين ، وتابعيهم بإحسان ، وتمتاز بأنها معرفية وعلمية ، أي أنها اشتغلت بالجانب النظري ، والاستدلالي ، والبناء الفكري للسنة ، وصبها في كتابات ، ومؤلفات مثل الموطآت ، والمسانيد ، والصحاح ، والمدونات ، .. الخ أخذاً بعين الاعتبار الجانب المنهجي منها ، وما أنتجته العملية التدوينية من مناهج ، وعلوم مثل علم مصطلح الحديث ، وعلم الجرح والتعديل ، وعلم العلل والرجال ، بالإضافة إلى استخدام مناهج التاريخ ، ومناهج السير في الأرض.

وظيفة السنة النبوية في البناء الحضاري:

ما هي وظيفة السنة النبوية في البناء الحضاري الحديث؟

يبدو والله أعلم أن هذا السؤال من أخطر الأسئلة التي تواجه حركة البناء الحضاري الحديثة لأسباب منها :

- أن عملية البناء الحضاري المقصودة هنا ، هي التي تدور في إطار المرجعية الإسلامية . وهذه الأخيرة تنبني على الوحي الأعلى - قرآناً وسنة - ولهذا فمن اللازم ابتداء أن يتفاعل العقل المسلم ، مع هذا الإطار المرجعي الأم ، الذي بدونه تصبح عملية البناء الحضاري ، لا علاقة لها بالمجتمع الإسلامي ، وبالثقافة التوحيدية.

- إن عملية التعامل مع الوحي ، تتم عن طريق مفتاح السنة النبوية المطهرة ، فبالإضافة إلى كون السنة وحياً مبيناً للقرآن ، وموضحاً له ، وكاشفاً لأسراره ، وسننه ، وخيراته ، وأحكامه ، فهي كذلك مدخل مفتاحي ، لتحقيق الوعي على القرآن ، وبدونها يتعذر التعامل الحقيقي ، والصحيح معه.

فالتلازم بين البناء الحضاري ، والسنة النبوية المطهرة ، على جميع المستويات تلازم ابتدائي ، بمعنى أنه لا يمكن الحديث عن البناء الحضاري ، وإحداث تغيير اجتماعي ، في واقع الناس النفسي ، والاجتماعي ، بمعزل عن السنة النبوية المطهرة ، فهي الأساس الذي لا يمكن أن تقوم بدونه عملية تغييرية ، تنتمي إلى الثقافة التوحيدية . كما أن الحديث عن السنة النبوية سيبقى نظرياً ، وجذبياً فردياً ما لم يتحول إلى قوة داينامية ، تحرك طاقات المجتمع ، وتوجهها لممارسة عمليات البناء الحضاري ، من أجل تحقيق مقاصد حددها المولى تبارك وتعالى في كتابه العزيز الحكيم ، ووضحتها السنة النبوية المطهرة ، في ثنايا توجيهاتها ، وسننها المضطردة.

=============

# من سنن البناء الحضاري

فالاقتضاء الابتدائي في التركيب الإلهي للدعوة العالمية الإسلامية ، وللرسالة النبوية الخاتمة ، استدعى التلازم المطلق ، بين السنة النبوية المطهرة ، والقرآن الكريم، من جهة ، واستوجب التلازم المطلق ، كذلك بين السنة النبوية ، والبناء الحضاري ، الذي غايته القصوى هي تحقيق مقاصد الشارع في الخلق من جهة أخرى ، (الاستخلاف والمحافظة على الكون) . ومن هنا كانت رسالة الرسول صلي الله عليه و سلم (السنة) مؤلفة بين بنائية القرآن الكريم ، وغاية الخلق الكلية (كل البشر) ، على المستوى النظري ، ومُفاعلة بين وظيفة القرآن ورسالته ، وبين البناء الاجتماعي للحياة الإنسانية ، وواقعات الوجود البشري على المستوى العملي .. أعني أن السنة تؤدي دورين:

الأول : على الصعيد المفاهيمي الذي يساهم في توضيح ، وكشف المرجعية الكبرى للناس ، من خلال رؤية الوحي : للكون والحياة والإنسان.

والثاني: عملي توجيهي ، يتمثل في ربط الحياة الإنسانية ، والوقائع البشرية ، بالأصل المرجعي ، الذي هو (النظام التوحيدي) الكامل الشامل ، الذي ختم على يد سيدنا محمد صلي الله عليه و سلم .

فالسنة هي (الموحد) الواقعي بين خطاب الشارع الحكيم ، ومقاصده ، وبين حاجات الخلق ، ورغباتهم في الهدى ، وتحقيق مصالحهم (البناء الحضاري) ، ومظهر هذا التوحيد والمفاعلة بين (الوحي) و(الخلق) في إطار العلاقة الموجودة بينهما (الاستخلاف) هو الحضارة الإسلامية ، التي بناها الرسول صلي الله عليه و سلم ، وواصلتها أمته إلى ما شاء الله من الزمن ، قبل أن تتطلب الظروف حديثاً جديدا عن بناء حضاري جديد . ولهذا فالحديث عن البناء الجديد ، يقتضي بالضرورة المطلقة الحديث عن الموحد الأول ، والمنشيء الأول للتجربة الحضارية الإسلامية ، أعني (السنة النبوية المطهرة) كناظم ، وضابط لحركة البناء الحضاري ، من أجل تحقيق مقاصد الشريعة في الخلق ، وإحداث التوازن الاجتماعي من جديد في الواقع الإنساني المعضل..

المنهج النبوي والعصر العالمي

فإذا كانت هذه هي رسالة السنة النبوية المطهرة ، فكيف تقوم بهذه الوظيفة في ظل العصر العالمي المعيش؟

فعندما نطرح فكرة العصر العالمي ، فإنما نعني بها مجمل التطورات العقلية ، والنمهجية ، والروحية ، والسلوكية ، التي ساهمت في نقل البشر من مرحلة تاريخية حضارية سابقة ، إلى مرحلة حضارية جديدة ، والتي فرضت على البشر الدخول إلى العصر العالمي ، بكل ما فيه من تطور صناعي ، وتكنولوجي ، وثقافي ، وأخلاقي ، ومنهجي ، وبكل ما فيه من مشكلات خطيرة على الصعيد المفاهيمي ، والمناهجي ، والمعرفي ، والتي ستؤثر في صيرورة البشرية فوق الكوكب الأرضي . ولهذا تظهر حتمية ، وإلزامية التفكير في احتمالات الاستحالة على الصعيد الاجتماعي ، والحضاري ، وما سينجم عن ذلك من مواقف إنسانية ، قد تضع البشر جميعاً في لحظة حرجة من تطورهم في (نقطة الاختيار الكلي) الذي لا يحتمل إلا وجهتين : إما سلامة البشرية ، ونموها باتجاه الحق تبارك وتعالى ، أو انهيارها ، وتماديها على طريق الغي ، والظلم ، والصلف الذي سيؤدي إلى انتقام السنن الإلهية حتماً

================

# خصائص الواقع العالمي الراهن

من اللازم منهجياً في هذا العمل أن نقوم بمحاولة لتحديد خصائص الواقع العالمي الراهن ، الذي يفترض أن تقوم فيه السنة النبوية بعملية توجيه كبرى ، بهدف تحقيق تغيير حضاري أصيل ، يساهم في إنجاز البناء الحضاري المنشود للبشرية كافة.

فمن الضروري أن نقوم بتحديد خصائص (الواقع العالمي المعاصر) في شقيه الإسلامي ، وغير الإسلامي ، لأن العجز عن القيام بهذا العمل سوف يؤثر في طبيعة الأفكار التي نريد إيصالها من خلال هذا الجهد المتواضع . فالربط المنهجي بين الرؤية التغييرية الإسلامية ، ومنهجيتها في التوجيه ، وبين الوعي على الواقع العالمي الراهن ، أمر أساس وحاسم في نجاح الجهود الراهنة في حقل البناء الحضاري ، بمعنى أنه سوف يكون من العسير علينا فهم (السنة النبوية ، كمركب حضاري) والوصول إلى كشف نظامها الفكري ، والتوجيهي لحركة المجتمع ، دون إدراك موضوعي ، لطبيعة العصر ، وخصائصه . فهذا الوعي على الواقع هو الذي سنؤسس عليه منهجنا الأدائي المتصل بحياة الناس ، التي يراد تنزيل الشرع الإلهي عليها . وأخذها بالخطاب الرباني ، الذي جاء ليحقق مصالح البشر في الدارين.

فوعي الواقع القائم شرط من شروط توجيهه ، والتأثير في حركته ، بما يتوافق وعقيدة المجتمع.

إننا لا نهدف هنا إلى بحث مفهوم الواقع المعاصر من الوجهة اللغوية ، ولا المصطلحية ، التي تشتغل بالمعنى الساكن للمفاهيم ، ولكن سنحاول تحديد مضمون هذا الواقع ، وخصائصه الملازمة له من وجهة نظر من يريد أن ينجز مشروعاً حضارياً في حقل اجتماعي ، وثقافي مترامي الأطراف ( كالأمة الإسلامية مثلاً) .

ملاحظة عن فهم الواقع:

عندما يعاني الإنسان مأزق تنزيل الأفكار إلى أرض الواقع في ظل وسط بشري معضل ، يحس ساعتها بقيمة وعي الواقع ، كشرط من شروط التنزيل الأساسية . فمراعاة واقع الناس لازمة من لوازم التطبيق الأحسن للشريعة الإسلامية ، وقانون من قوانين البناء الحضاري المستقيم ، وسنة من سنن الله في خلقه ، من أخل بها فقد أخل بمصالح العباد ، التي جاءت الشريعة لتثبتها ، وتوضحها ، وتحافظ عليها ، مع مراعاة ظاهرة تغير الواقع في الزمان والمكان ، وهذا ما يتطلب الوعي المستمرعليه.

ففي دراسة أي واقع ، يجب أن نؤكد على أن هناك أموراً إيجابية ، يمكن الاستفادة منها في واقعها الأصلي ، ومنها ما هو سلبي ، يجب التخلص منه ، وتغييره بما يتناسب والعيش في ظل النموذج الحياتي الإسلامي. والأمور السلبية والإيجابية، قد تختلط على الناس ، فيصبح الزبد في مقام ما ينفع الناس ، ويتحول في أذهانهم ما ينفعهم إلى زبد ، يجب استئصاله ، وتكثر اضراب هذه المشكلات عندما يصاب المجتمع بفقر الفهم ، والوعي ، والإبداع . وفي هذه المراحل التاريخية ، تختل موازين العمل ، ومقاييس الجهد النافع ، ويصبح التزييف والعبث ، واللهو من التجارات الرابحة في حياة الخلق . فكم من خير عميم توارى تحت نظارة سياسي جاهل ، أو صاحب عمامة متمشيخ ، أو دكتور صنعته الشهادة ، أو داعية مصاب بالشذوذ الفكري ، أو رجل يسعى إلى بناء مجده على حساب المستضعفين في الأرض.

فكل إنسان من الناس له نظارة يتصور بها الأشياء ، ويقوم بها الأمور ، فالعلماء والرعاة ، والرعية من أصحاب النظارات ، ولكن النظارات في أوساط العلماء كثيرة ، ومتنوعة .. ونفس الشيء في أوساط الرعاة ، وكذا في أوساط الجماهير . فقد تجد في المستويات الثلاثة من يمتلكون نظارات صافية نقية خالصة لوجه الله ، ومنهم من يمتلك نظارة مزيفة مشوبة مشوشة ، ولأن كل نظارة من هذه النظارات تتصل في تشكيلها ، وبنائها ، ووظيفتها بما يدور في العقول من وعي وفهم ، وقدرة ، وما يعشش في القلوب من إيمان ، وأشواق ، ومبررات ، وما تشع به الجوارح من خير ، وعمل ، وسلوك .. وكذلك لأن الأمر متصل بما تفرزه حركة المجتمع من ثقافة ، وتاريخ ، ومناهج ، فإننا في هذه الحالة مضطرين من الوجهة المنهجهية الصارمة إلى البحث في الأصول التكوينية للأشياء ، والأفكار .. وعليه في فهم الواقع ، من العودة إلى الجذر التكويني للسلوك البشري ، وبالتالي الدخول إلى (مخابر صناعة الحضارة) حيث كهوف المنهج وشعابه المعقدة.

إن دراسة الواقع الإنساني ، لم تصبح بعد علماً قائماً بذاته في عالمنا الإسلامي الحديث .. وأعني بدراسة الواقع ، اكتساب رؤية منهجية في دراسة الأحداث والمشكلات ، أي دراسة حركة الخلق ، ووجهتها الحضارية ، ومعرفة مواقفهم من القضايا التي تواجههم ، وإمكاناتهم الفكرية ، والعقلية ، والروحية ، والسلوكية ، والجسدية ، ومعرفة أوضاعهم السياسية ، والاقتصادية ، والاجتماعية ، والتربوية ، والعسكرية . وإدراك كل ما يتعلق بحياتهم الفردية ، والجماعية ، بشروط قيامها وبعوامل انهيارها ، وكذلك ما يتصل بعلاقاتهم مع الخالق سبحانه وتعالى ، ومع بعضهم بعضاً ، ومع الكون المحيط بهم.

ونحن هنا لا تهمنا الكثير من هذه العناصر ، فغرضنا هو تحديد الخصائص الواقعية العامة ، التي تتصف بها حياة أمتنا الإسلامية ، وأمتنا الإنسانية ، وبعبارة أخرى التعرف على طبيعة المرحلة الحضارية التي تجتازها البشرية ، ومدى تأثير هذه الطبيعة في أي حركة تغييرية ، تقوم اليوم في العالم ، ونحن على مشارف القرن الواحد والعشرين.

من خصائص الواقع العالمي القائم:

إن المتأمل المتعمق في واقعنا الإسلامي الراهن ، سوف يلاحظ كل أصناف الفوضى ، والتسيب ، والانهيار . فالتجزئة المشينة للأمة ، والتشتيت المخطط لطاقاتها ، والقهر السياسي ، والفقر ، والحرمان ، والجهل ، والأمية ، والتخلف ، والبطالة ، والتبطل ، والتبعية ، والعلمانية ، والعصبيات القبلية ، والنعرات الثقافية ، وحب الدنيا وكراهية الموت ، والصراعات الداخلية ، والإقليمية ، والصراع الثقافي ، والفكري ، والمديونية ، والهزيمة النفسية ، والضعف الفكري . كل هذه الأمراض التي تطبع حياتنا ، تؤثر بشكل مباشر في أي جهد تغييري ، نريد أن نقوم به لصالح حفظ مصالح العباد ، وحمايتهم من الظلم والخوف ، والاستبداد .

إن ما نصبوا إليه هنا ليس هو تشريح هذه الأمراض ، ودراستها بشكل مخبري علمي ، فهذا مجال آخر ، وإنما نسعى إلى تحديد الخصائص العامة للواقع البشري بمقدار ما يجلي الأفكار التي نعرضها ، ولهذا فسوف نذكر بعض هذه الميزات الأساسية في هذه العناصر :

خاصية العالمية

هذه هي إحدى الخصائص الأساسية والمهمة ، التي تطبع الواقع الإنساني القائم ، ويبدو أن كل تغيير حضاري يتجاوزها سوف يبقى مراوحاً في مكانه مهما بدت لياقته في بعض مراحل السير ، ونحن كأمة بحاجة إلى وعي هذه الفكرة بشكل عميق . لأن أصلها التكويني يمتد إلى طبيعة المذهبية الإسلامية في تشكيلها النهائي ( القرآنية ) . فختم النبوة معناه عالمية الحضارة الإسلامية ، وثقافتها التوحيدية ، ومعناه كذلك ( الظهور الحضاري ) للدين الحق ، ولكن ما يلاحظ اليوم هو أن المسلم غافل عن هذه الحقائق الكونية الكبرى ، وأن غيره من الأمم ، والحضارات تطرح أفكارها في سوق الحضارة ، وتروج لها بشكل فعال جداً ، حتى أصبح ادعاء ( عالمية الحضارة الغربية ) ، من حقائق التاريخ البشري المعاصر التي يروج لها حتى بعض أبناء الأمة . فالطرح الذي تقدمه الحضارة الغربية لفكرة عالمية الحضارة ، لا يخدم بأي حال من الأحوال فكرة عالمية الحضارة ، كما يريد الإسلام تقديمها للبشرية ، بل تعاديها وتحاربها دون هوادة .

فنحن كأمة ، نؤمن بفكرة العالمية للحضارة ، من منظور الظهور الكلي للدين الحق ، الذي سيحقق مصالح العباد في الدارين ، كما أننا نعلم يقيناً بأن طرح فكرة العالمية - إسلامياً - هو البديل الحضاري الذي بمقدوره حل الأزمة الإنسانية الراهنة ، على جميع الأصعدة .

لقد رفعت الحضارة الغربية طاقة الإنسان إلى مستوى غير مألوف ، وعندما وصلت هذه الطاقة إلى درجتها تلك ، قلبت كل حقائق التاريخ ، وأدخلت فيه عنصر قوة ، بطابع الشمول ، وبذا وجدت الشعوب جميعاً نفسها وكأنما تقلها سفينة واحدة إلى مصير واحد . فهي شيئاً فشيئاً بفضل التطورات الصناعية الحديثة ، وبخاصة في الميدان الذري ، بات عليها أن تجتاز مجتمعة بعض المراحل الحاسمة وأن تعالج مشتركة بعض المراحل الجوهرية . وهكذا نرى أن تحلل المادة يتفق مع التجمع الإنساني ، إذ لم تعد هناك جزيرة الفردوس التي يمكن للإنسان أن يعيش فيها منعزلاً عن تيارات الأحداث . لقد صنعت الحضارة الغربية عالماً يترابط فيه الناس ويتعرفون فيه على الخير والشر ، وقد يؤثر عامل القوة في كلا الاتجاهين دون تمييز ، كأنه قوة عمياء لم يتحدد توجيهها ( ... ) وهو بقلبه للأوضاع التي سبق أن خلقها ، لم يكف عن أن ينمي عجينته الهائلة ، حيث أوجد فيه جميع عناصر الأزمة النفسية ، والزمنية الراهنة ، في الوقت الذي يفرض فيه جميع ظروف حلها ( ... ) فالظاهرة هي عالمية الحضارة الغربية ، التي تطرد بدافع من قوتها الخاصة ( ... ) والعالمية في مجراها ليست طرفة تاريخية من مفاجآت التاريخ ، وليست اتجاهاً عقلياً أو سياسياً ، وإنما هي ظاهرة القرن العشرين ).

لنحاول الرجوع بهذا التحديد إلى أصوله ، إلى ما قبل هذا التاريخ ، رغم أن هذه هي المرحلة التي بدأت تظهر فيها فكرة العالمية ، كطرح مؤسسي اجتماعي ، فالعالمية التي نعنيها هي طور آخر من أطوار الوجود البشري ، فوق الكوكب الأرضي .. والواقع الراهن بظروفه ، سوف يتيح لنا إخراج الفكرة إلى حيز الواقع بعد أن دامت قروناً متطاولة في حيز القوة ، تنتظر لحظات التاريخ الكبرى كاللحظة التي تعيشها البشرية اليوم مثلاً.

فكرة العالمية وختم النبوة :

في الحيقية وكما ذكرت فيما سبق بأن فكرة عالمية الحضارة متصلة مباشرة بفكرة ( ختم النبوة ) ودلالتها على الصعيد المنهجي ، والفكري ، والعملي ، لفهم المسلم لرسالته بصورة خاصة ، وفهمه لحركة العالم ، ومآليته بشكل عام . فمن الدلالات الأساسية لختم النبوة ما ذكره العلامة إقبال ، رحمه الله:

(إن مولد الإسلام هو مولد العقل الاستدلالي ، وأن النبوة لتبلغ كمالها الأخير ، في إدراكها العميق لاستحالة بقاء الإنسانية معتمدة إلى الأبد على مقود تقاد منه ، وأن الإنسان لكي يحصل على معرفته بنفسه ، ينبغي أن يترك ليعتمد في النهاية على وسائله هو) ويقول الاستاذ جودت سعيد - حفظه الله - : ( يمكن النظر إلى ختم النبوة من جانب آخر على أنها فكرة تعلن انتهاء الدروات الحضارية .. وبانتهاء النبوة ، وختمها ، انتهت الدورات ، وأمسك الإنسان بسنن الحضارة ليجعلها مستمرة .. فمعنى ختم النبوة : ختم الدورة الحضارية .. والميزة الأخرى لمحمد صلي الله عليه و سلم أنه للناس كافة ، وهذه هي عالمية الحضارة ، وانتهاء زمن الدورات ، وإن كنا لا نزال نعيش دورة الحضارة ، وتعددها ، إلا أن إرهاصات زوالها بدأت تبرز لمن تأمل ).

إن ختم النبوة إعلان رسمي عن انطلاق عهد الجهاد الحضاري الطويل ، وبداية عصر البحث عن البرهان الواقعي ، والعملي على فكرة عالمية الإسلام ، التي تقررت في عالما العقيدة الإسلامي كأساس من أسس الدعوة التوحيدية .

إننا في واقعنا الراهن نعيش معطيات العصر العالمي ، ولكن يبدو أننا لم نفكر بعد ، كما لم تفكر الحضارة الغربية بجد في موضوع العصر العالمي ، وشروط العيش فيه:

(فالحضارة أصبحت مع الثقافة الغربية ، هدفاً مقصوداً ، وعملاً شعورياً ، وفناً ، ووظيفة تتطلب ذكاءه ، وإرادته وهو يرى فيها غايته الأرضية . هذه الذاتية الجديدة ، قد وسعت أولاً حقل الحضارة نفسها ، حين مدته من النطاق القومي ، والعنصري إلى النطاق العالمي ، والإنساني ، ولكن الغرب حين حقق امتداد الحضارة في المكان ، بفضل قوته الصناعية ، قد أحدث تحولاً في طبيعتها التاريخية .. إن منعطف التاريخ الحالي .. يجتاز بالإنسانية المرحلة الثانية من تطورها ، بعد التحول الأول ، الذي دخلت به في التاريخ في نهاية العصر الحجري الجديد .. وهذا التحول قد يغير توقعات التاريخ تغييراً تاماً بحيث لا يدع مجالاً لافتراض (الأفول) إذ في التوقع الجديد لن يكون هناك أمامنا سوى افتراض الكسوف الكلي ، والنهائي الذي لا يمكّن من أن تصاغ (نهضة) .. وتلك هي نتيجة توحيد المشكلة الإنسانية .. هذا التوحيد الذي أوصل مقدرة الإنسان إلي المستوى العالمي ، وهو يتجلى في حياة كل شعب وفي تشكيلاته السياسية ، وفي ألوان نشاطه العقلي ، والفني ، والاجتماعي . فالمقاييس ، وطرائق السلوك ، والتفكير ، لا تكف عن التقارب على محور طنجة - جاكرتا ، ومحور واشنطن - موسكو).

من هذه التحديات الأولية ، تبدو لنا أهمية فكرة عالمية الحضارة كمشروع حضاري ، يطلب منه أن ينقل البشرية إلى طور حياتي جديد على الصعيد العقلي والسلوكي.

خاصية العلمية

ومن الخصائص المميزة كذلك للواقع البشري الراهن ، خاصية (العلمية) .. وأعني بها أن الحضارة المعاصرة ، علمية ، يقودها العلم ، والعلماء ، ولا تتحرك في مواقفها الكلية ، والجزئية إلا إذا قدم الخبراء ، والمتخصصون الإشارة الخضراء . (فحضارة العلم) تعني الحضارة التي أصبح التوجيه فيها عن طريق العلم ثقافة ، أي ميزة سلوكية تابعة لتشكيلها الثقافي . فالعلم مرسم سلوكياً ، ويتدخل تلقائياً في كل شؤون الحياة والمجتمع . فالعلم هو القائد للحضارة .. وفي هذه الحالات ، تموت الدروشات ، ويضمحل الجهل ، ويتراجع التكهن الخرص . وعندما يصبح التوجيه بين يدي العلم ، تصبح للفكرة قيمة ، ولصاحبها رسالة ، يعيش من أجلها . وهذه الرسالة في كل الحالات خاضعة لعقيدة الإنسان ، وفلسفته في الحياة .. وبشكل عام ، تمثل العلمية الطاقة الخلاقة التي فتقت الخيرات المركوزة في البشر ، فوصلوا إلى ما وصلوا إليه من الدقة ، والإتقان ، واستطاعوا أن يتحكموا في الكثير من سنن الله في الخلق . ( فالعلمية ) هي الضوء الخافت الذي ينساب بين دروب الجهل ، ليتحول إلى نور ساطع ينير طريق السائرين في الكون إن تدبروا ، وفقهوا ، ووعوا ولكنها قد تتحول إلى مرض عضال تسقط الحضارات العملاقة ، وذلك عندما تمسكها الأيدي التي لا تعرف قيمتها . تماماً كما يحدث هذه الأيام عند أصحاب الحضارة المعاصرة. .

خاصية العملية

العمل في الحقيقة هو محرك الطاقة الحيوية للبشر ، وإذا انتفى العمل انتفت معه الحضارة البشرية . فالعبادة عمل ، وعمران الكون عمل ، والتفكير عمل ، وإنقاذ الخلق من الظلمات إلى النور عمل ، والتعارف بين الناس عمل ، والبحث عن المعاش عمل ، ونحن لا نقصد هنا هذه القيمة المطلقة للعمل ، كشيء فطري تكويني في الخلق ، وإنما نعني ( بالعملية) ارتباط الفكر بساحات الأداء البشري المعضل ، واتصال المعارف بالتجربة والتطبيق . فالواقع الراهن يؤمن بالحركة العملية ، فهو لم يعد شغوفاً بالفلسفة النظرية ، والعمل هو الذي يعطي للأفكار قيمتها ، وإشعاعها ، ويبرهن على عبقرية الجهد الإنساني الواقعية.

إن استحكام هذه الخاصية في الحياة العقلية ، والثقافية للحضارة المعاصرة ، وفي السلوك العام للإنسان ، مكنه من امتلاك المنطلق العملي الذي يجعله يربط الفكرة بالواقع ، ويربط العمل بوسائله الكفأة بشكل فعال ، ومؤثر . ويصل الكيفيات المنهجية بالغايات البشرية . لقد أصبح لكل جهد إنساني مقياس واقعي واضح يحكمه . فالعملية كذلك تعني ( كيفية ارتباط العمل بوسائله ومعانيه ، وذلك حتى لا نستسهل أو نستصعب شيئاً بغير مقياس يستمد من واقع الوسط الاجتماعي ، وما يشتمل عليه من إمكانات ). كما تعني كذلك امتلاك ( الضابط الذي يربط بين عمل وهدفه ..بين سياسة ووسائلها .. بين ثقافة ومثلها .. بين فكرة وتحقيقها ).

خاصية التخصص

لقد كان لخاصيتي العلمية والعملية ، دور بالغ الأثر في طبع الواقع العالمي الراهن بميزة التخصص الدقيق في كل شيء . فعلى صعيد المعرفة مثلاً تفرعت المعارف ، وتخصصت بشكل لم يكن يتصوره ( دور كايم) ، وهو يقدم ملاحظاته في موضوع علم الاجتماع ، فقد تعب كثيراً في موضوع التسمية نفسه ، واليوم نجد هذاا لعلم متفرعاً إلى أكثر من سبعين فرعاً ، كل واحد منها بحاجة إلى وقت كبير جداً لاستيعابه . لقد انتشر المنطق التخصصي في كل تفاصيل حياتنا العامة ، والخاصة ، والاقتصادية ، والاجتماعية ، والثقافية ، والتعليمية ، والتربوية ، والإدارية . إنه فيما يتعلق بهذه الفكرة بالذات ، نتأسف كثيراً لما يحدث في عالمنا الإسلامي عندما نشاهد متخصصين مطلقين يتكلمون في كل العلوم بلا علم ولا دراية ، مازالت تراودهم فكرة الموسوعة التي قضي عليها عصر العالمية ، والعلمية ، والعملية.

خاصية الواقعية

نحن كثيراً ما نسمع في ثقافتنا الراهنة أصواتاً تذكرنا بعصر الفلسفة الخرافية المشؤومة ، فنسمع بعضهم يقول: أنت لست واقعياً ، وأنت خيالي ، وأنت فيلسوف ! .. حالم .!. تهيم في الفراغ ، وتعيش في جزيرة حي بني يقظان . وإذا سألت لماذا ؟ جاءك الجواب الذي يسقط كل الاعتبارات التي يمكنها أن تدخل في توجيه الواقع إلى الأحسن . فماذا تعني الواقعية في حياتنا المعاصرة؟ إنها باختصار شديد تعني : الحكمة في التعامل مع وقائع الحياة الإنسانية ، أي توجيه الأعمال بما يؤدي إلى نجاحها في إنجاز مهامها ، بدون خسائر في الأوقات و الجهود والطاقات .. إدراكه في حالته القائمة ، بدون زيادة ولا نقصان ، ومعالجته انطلاقاً من طبيعته ، وظروفه ، ومعطياته..

إن الواقعية في العقل الحضاري المعاصر ، خاصية نابعة من ثقافة العامة ، ومن تعامله السلوكي مع الأشياء . كما أنها الوعي التام ، والفهم الشامل لشروط ، وظروف ، ووسائل ، ومناهج ، وأساليب أداء عمل معين . فهي إعطاء الوقت الكافي لإنضاج الأفكار ، وفهم الأحداث ، والمتابعة الواعية لحركة المجتمع ، والإدراك المستوعب لإمكاناته ، ونقائصه ، وقواه.

خاصية المنهجية

العمل إذا لم يكن خاضعاً لقواعد ، وضوابط ، ونواظم معيارية ، ومعرفية ، فإنه لا يسمى منهجياً . فهو هنا لا يخضع لمنظور استدلالي معين ، ولمنطق برهاني منظم ، أي لا يصدر عن إطار مرجعي يحكمه ، ويوجهه وفق أسس معينة ، ولغاية محددة ، وبوسيلة مشروعة.

فالمنهجية خاصية من خصائص الخطاب العالمي القائم. فهي وعي على كيفيات إنجاز عمل ما ، وفهم لطريق الوصول إلى غرض مطلوب، وفق ترتيبات واضحة ومنظمة . والعقل الحديث ساهم بقسط وافر في تعميق القيمة المنهجية في السلوك الإنساني الراهن ، رغم أن موضوع المنهجية كان موجوداً قبل هذا التاريخ بقرون متطاولة . فكل عمل لا يخضع لمنهجية استدلالية أثبتت صحتها سوف لن يجد مكانه في منطقنا العالمي القائم . وكل إقناع لا يصدر عن توجيه منهجي مؤسس ، سوف يُرد ، فعندما تنعدم الحركة المنهجية في العمل الإنساني يصاب بالعمى ، وتظهر فيه لفوضى ، وتتملكه الحيرة . فالمنهجية هي برنامج العمل ، وخريطة السير ، وروح التوجيه ومنطقه الذي يربطه بالواقع.

خاصية التقنية والتكنولوجية

صحيح أن التكنولوجية والتقنية نتاج من منتوجات الوعي البشري في الحقل العلمي ، والمعرفي ، والعملي والمنهجي .. إلا أنها تمكنت من تحرير موقعها في عالم القرن العشرين كواحدة من خصائص الحضارة القائمة.

فالحياة البشرية اليوم ، مطبوعة بطابع التقنية والتكنولوجية ، التي وحدت القارات ، وقلصت زمن الاتصال والتعامل ، ورفعت درجة الحوار الثقافي بين الحضارات ، بشكل لم يكن يتصوره العقل الإنساني قبل هذا التاريخ . فقد حلت الآلة محل الجهد البشري ، وأصبحت العلاقات الإنسانية متيسرة بوسائل ، وأدوات بسيطة في متناول جميع البشر ، وغزت التكنولوجية الدقيقة عالم الناس.

فإذا كان ابن خلدون من قبل قد كتب مؤلفه التاريخي الضخم في أكثر من سبعة مجلدات ، وإذا كان معاصرنا أرنولد تويمبي قد أنجز عمله الضخم (دراسة للتاريخ) ، في ما يقرب من سبعة آلاف صفحة وقضى فيه أكثر من أربعين عاما ، فإن كتابة هذا الكم من المعارف أصبح اليوم ممكناً في جهاز بسيط يمكن للإنسان أن يحمله معه ، وهكذا دخلت التكنولوجية في تفاصيل حياتنا الخاصة والعامة ، ونقلتها إلى طور آخر من أطوار تعاملها مع الحياة والكون والناس ، وأخرجتها من طور قتل الأوقات ، وتبديد الطاقات إلى مراحل الاقتصاد في الجهد والوقت ، وإلى عالم الدقة ، والإتقان ، والجمال ، في العمل الإنساني .

فالاتصال السلكي واللاسلكي ، والحاسوبات الإلكترونية ، والأدمغة الصناعية ، وأجهزة الذكاء الاصطناعي ، والأقمار الصناعية ، والتقنيات الاتصالية الحديثة ، والمراكب الفضائية ، والتكنولوجية العسكرية ، والطبية ، وكل الأداتية ، والتقانية ، والألياتية التي نشاهدها في عالم الحضارة المعاصرة هي نتاج طبيعي (للمنطق التكنولوجي) و(للعقل التقني) الذي خلفته النزعة العالمية ، والعلمية ، والعملية ، والتخصصية ، والمنهجية في حياة الناس.

لقد أعطت ( التكنولوجية ) الحديثة للعقل البشري فرصة التفاعل الإيجابي مع سنن الله في الكون والأنفس ، وأمدته ببعض وسائل التسخير المادية التي تتطلب استعمالاً أكثر فاعلية لأجهزة التسخير المعنوية : السمع والبصر والفؤاد والقلب..

والتكنولوجية اليوم تسير بخطى متسارعة إلى عالم جديد أسماه مستشار الأمن القومي الأمريكي السابق (زبيغنيو بريجنسكي) بـ ( العصر التكنتروني).

==============

# المنهج النبوي وقدرته على البناء

ففي ظل هذا الواقع البشري الخطير الذي يستدعي التفكير الجدي في شروط ، وموجبات العيش في العصر العالمي الذي سيمتد في مستقبل الحضارة البشرية بشكل واسع ، وخاصة في القرن الواحد والعشرين ، يتثبت في الأذهان تساؤل مهم هو:

كيف يساهم المنهج النبوي في حل الإشكال العالمي الراهن؟ وبعبارة أخرى: ما هي المساهمة التي سيقدمها المنهج النبوي في مجال البناء الحضاري الجديد؟

فالمعلوم بالضرورة لدى قطاع ضخم من البشرية في الوقت الراهن أن الحياة الإنسانية موسومة بمسحة الشيطان . فالظلم الحضاري هو المنطق الذي يحكم حضارة البشر القائمة ، في نفس الوقت الذي يبدو فيه أفق الحضارة ، وصانعيها ، ضيقاً ، ولا يحتمل توسيعه - على مستوى المنظور - بشكل يعطي للناس فرصة العيش المشترك في العصر العالمي . فقدرة العقل البشري الراهنة غير قادرة على فهم مقتضيات الانتقال ، وموجبات الاستمرار الحضاري ، على أساس فطري عادل ، يستوعب كل الاتجاهات البشرية القائمة ، دون هدر لحاجات الناس العقيدية ، والعقلية ، مع إلزامية الوعي ، بأن البشرية لن يصلح حالها ما لم تعد إلى (فطرة الله) التي ركبها سبحانه وتعالى في الأنفس ، والآفاق ، وفي الكتاب.

إن هذا النوع من الاستيعاب قد أنجزته من قبل (السنة النبوية) بشكل لا يتوهم فيه أحد تغييره إلى الأصلح منه مطلقاً . وهنا تظهر لنا الأهمية القصوى في مجال دراسة المنهج النبوي كمركب حضاري ساهم من قبل في بناء حضارة التوازن الفطري من خلال المفاعلة بين الوحي الأعلى - قرآناً وسنة - وبين حاجة الخلق ، والغاية من وجودهم الأرضي (الاستخلاف والمحافظة على الكون) .

فالمنهج النبوي ليس فقط خطاباً أخلاقياً - (إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق ) - بل هو حركة وعي عقلية، ومنهجية ، وروحية ، وسلوكية لهذا الخطاب الأخلاقي على الصعيد الاجتماعي ، ودراسته في إطار تجربة بناء نموذج حضاري مستوعب للمطلق وللنسبي - أي - مركب على أساس وعي متطلبات الزمان والمكان. لهذا كان (النظام التوحيدي) الأخير (القرآن) أنموذجاً عالمياً مبعوثاً لكافة الخلق ، ولجميع البشر.

ونحن هنا نريد أن نبحث عن ظاهرة المنهج النبوي في هذا المستوى من الوعي ، الذي ساهم في تركيب حضارة ، بدءاً من تركيب إنسان ، وثقافة ، ومجتمع ، وأمة ، في ضوء مذهبية توحيدية ، إلهية المصدر ، ومن أجل غاية شاءت إرادة الله أن تكون لصالح الإنسان في حياته الدنيا والآخرة

==============

# من أجل قراءة أخرى للسنة

وبعبارة أخرى نريد أن نقوم بقراءة جديدة للسنة النبوية المطهرة تنطلق من قراءتين سابقتين:

- قراءة الرسول صلي الله عليه و سلم الأخلاقية ، والسلوكية القاصدة إلى وضع أسس البناء الحضاري العالمي ، الذي أصبح مصدراً أساسياً لفهم القرآن ، وتنزيله إلى أرض الواقع (قراءة الوحي).

- قراءة بشرية علمائية تمثلت في البناء النظري للنموذج النبوي ، وتدوينه ، وتسجيله في كتب السنة، والحديث ، والفقه ، والأصول ، والعقيدة ، والتاريخ ، والجغرافيا ، والسياسة الشرعية .. إلخ (قراءة بالعقل). مع العلم بأن القراءة الثانية مستخلصة من التفاعل بين العقل الإسلامي والقراءة الأولى (قراءة الرسول صلي الله عليه و سلم) ، وذلك في ضوء المذهبية التوحيدية. وهذا معناه أن غياب القراءة الأولى، يعني أن أي قراءة لاحقة إلى قيام الساعة مرفوضة في حياة الأمة ، وأن أي بناء حضاري لا يقوم عليها فهو رد ، وغير مقبول مهما كانت نتائجه . فالقراءة النبوية للوحي ، وتنزيله إلى أرض الواقع حجة على كل التطور العقلي ، والمنهجي الذي وصلته ، وستصله البشرية في مستقبل أيامها ، وبعباة أكثر دقة : أن كل الانتاج العقلي ، والفكري الراهن ، مطلوب للمثول بين يدي معيار الوحي الإلهي ، الذي تمثل السنة النبوية المطهرة إطاره العملي ، الذي أدى فيه الرسول صلي الله عليه و سلم رسالة البلاغ المبين ، كما أمره الله سبحانه وتعالى.

فالقراءة الجديدة محظوظة بشكل عظيم لأنها تقف على خبرة الجيل النبوي الأول ، الذي كان في مرحلة التأسيس للنموذج الحضاري التوحيدي ، كما تقف على تجربة الجيل الإسلامي الثاني (عصر التدوين ثم العصور التي تلته وساهمت في مواجهة الحملات الشرسة ضد السنة النبوية) الذي كان في جهاد متواصل للحفاظ على الحضارة الإسلامية ، ووراثتها بشكل غير مخل بغاياتها ، وحقائقها التاريخية.

فهذه القراءة التي ظهرت منذ بوادر الصحوة الإسلامية الحديثة مطالبة بالوعي العميق على القراءتين السابقتين ، بالإضافة إلى وعيها على أمرين مهمين:

- طبيعة القراءة الجديدة للسنة النبوية المطهرة ، باعتبارها مصدراً لبناء حضاري جديد ، بكل ما يتطلبه هذا العمل من فهم للعصر العالمي ، وشروط العيش فيه ، والتعامل معه من أجل تغييره لينسجم مع خطاب الشارع الحكيم ، ويحقق مقاصده العليا في الخلق.

- منهج وكيفيات ، ومستويات هذه القراءة على الصعيدين النظري والعملي . فهذان هما العملان الحاسمان اللذان يستحقان العناية الكافية من قبل حركة التغيير الإسلامي . إذ عليها أن تثبت فيهما بشكل منهجي . وعندما يتم هذا التلاحم ، والتفاعل بين العقل الإسلامي ، والسنة النبوية المطهرة في ضوء المعيار التوحيدي، فستظهر للناس القدرة المذهلة للمنهج النبوي في تركيب حضارة جديدة انطلاقاً من تغيير الإنسان ، والثقافة، والمجتمع ، وإعادة ضبط حركة هذه العناصر الأساسية في البناء الحضاري.

فالمنهج النبوي سوف لن يفهم بالشكل المطلوب ، ما لم يقرأ كقوانين اجتماعية ، وسنن تاريخية ، ومسالك أخلاقية ، حكمت حركة التغيير الحضاري الإسلامي الأول الذي أنجز من خلاله الرسول صلي الله عليه و سلم بناءاً حضارياً شامخاً ، وحقق به عملية (أسلمة حضارية شاملة) للمجتمع الجاهلي ، ومكنه من تحرير مكانه في عالم الحضارات . أعني أن المنهج النبوي نفسه يمثل إطاراً - ساحة تاريخية تطبيقية - خصباً لدراسة السنن الإلهية الحاكمة للجهد البشري . ولهذا فتطبيق (منهج السير في الأرض) في دراسته ، مجد جداً ، لأنه سيتم عن طريق منهجيات (النظر) التي تسعى إلى كشف سنن الهداية الربانية ، وقوانين الفطرة الإلهية التي فطر عليها الناس . فالمنهج النبوي ، ساحة للتعامل مع عالم الأسباب ، وعالم سنن العبادة ، والإعمار ، والإنقاذ ، والتعارف ، التي ستوصل الناس إلى تحقيق غاياتهم الدنيوية المتمثلة في (الاستخلاف والمحافظة على الكون)

===============

# المنهج النبوي يحدد المأزق العالمي الراهن

إن المنهج النبوي الذي اعتبرناه مدخلا أساسياً لأي بناء حضاري يقوم على أساس (النظام التوحيدي القرآني) ويساهم في تحديد المفتاح المدخلي للبناء الحضاري الجديد . إذ من المعروف في علم الاجتماع التغييري: أن حل أي مشكلة تواجه المجتمع ، مهما كان نوعها (ثقافية ، أو تاريخية ، أو حضارية) مشروطة بفقه هذه المشكلة في تركيبها الواقعي ، وتشكيلها الاجتماعي ، أي كما هي في حياة الناس ، دون زيادة ولا نقصان ، وهذا التحديد ، لابد أن يخضع كما هو معروف كذلك لمنهج علمي أثبت صحته ، ولخطوات تحليلية منظمة ، تقوم على الملاحظة ، والافتراض ، والتجريب ، والوصول ، أي استخدام المنهج الاستقرائي ، والمنهج الاستنباطي ، بغرض الوصول إلى كشف علل الأشياء ، والأسباب القابعة وراء وجودها ، وفهم قوانين التعامل معها ، وعلاجها . وهذا الأمر يتطلب منا أن نبحث في المنهج النبوي ، كسبيل لكشف سنن الهداية والترشيد . وهذا الأمر لن يتم لنا في الحقيقة إلا باستقراء كلي لنصوص السنة النبوية ، وتحقيق هذه النصوص على صعيد المنهج التاريخي ، أي وفق (منهج السير في الأرض والنظر في سنن الهداية الربانية) كما أمر المولى تبارك وتعالى في كتابه العزيز الحكيم . ولتعذر هذا العمل الضخم في مثل هذه البحوث الفردية ، سوف نحاول تقديم نموذج تحليلي لنص نبوي ، نبين من خلاله الطريقة المقصودة في التحليل ، والتي سنقوم بتطبيقها على الكثير من النصوص النبوية في المستقبل بحول الله وقوته.

قال رسول الله صلي الله عليه و سلم : (يوشك أن تداعى الأمم عليكم كما تداعى الأكلة إلى قصعتها ) .. قالوا : أو من قلة نحن يومئذ يا رسول الله ؟ قال : (لا ، بل أنتم كثير ولكنكم غثاء كغثاء السيل ، ولينزعن الله من صدور أعدائكم المهابة منكم ، وليقذفن في قلوبكم الوهن ) . قيل : وما الوهن يا رسول الله ؟ قال: (حب الدنيا وكراهية الموت؟ ).

إن هذا الحديث النبوي الشريف ، يعتبر من المداخل الأساسية التي يمكنها أن تعيننا على التحديد الصحيح ، والدقيق لنقطة الانطلاق في التغيير الحضاري الراهن للعالم . فللحديث منطقية منهجية خاصة في تفسير الظاهرة الاجتماعية . فقد تجاوز المراحل التمهيدية ، لما يسمونه البحث العلمي ، ثم تخطى مرحلة التجربة ، وتوصل إلى استخراج القانون ، الذي يحكم الظاهرة الإنسانية . وهذا التوصل ليس ضرباً من التكهن الخرص ، بل وعي مستوعب في عالم الأسباب ، وفهم مستنير للسنن الإلهية ، واستخدام ناجح للمنهج الذي يشكل وعياً تاريخياً مستقبلياً ، ينتج عن إدراك عميق للنفوس البشرية ، وللحركة الاجتماعية عموماً .

عرض عام لموضوعات الحديث النبوي :

هذا الحديث يشتمل على قضايا ، بعضها يتصل بمجتمعنا الإسلامي ، وبعضها الآخر ، متعلق بغيره من المجتمعات . كما يمثل في جوهره قمة سامقة من قمم الوعي التاريخي على سنن الله في الخلق . لنحاول التعرف على بعض جوانبه التي تهم بحثنا هذا:

أولاً : فهو يحدثنا عن أمم متنوعة ، سوف تتكالب على أمتنا - وهذا هو واقعنا اليوم - وهذا التداعي يكون في سياق التدافع الاجتماعي بين النموذج الإسلامي والنماذج الأرضية الأخرى - الغرب واليهود -.

ثانياً : ويصف لنا طبيعة هذا التداعي على هذه الأمة ، التي تدين بدين (الحق والحقيقة) , ويشبهه كتداعي الأكلة إلى قصعتها ، فهذا يدمر عالم أفكارها ، وذاك ينسف عالم أشخاصها ، وذلك يبدد علام أشيائها .

ثالثاً : ثم يضعنا أمام حوار صادق بين المجتمع الإسلامي الوليد ، الذي كان في أحسن ظروف انسجامه ، وفاعليته الاجتماعية في ذلك الوقت ، وبين النبي عليه الصلاة والسلام كمرجعية توجيهية ، وتبينية للخطاب الإلهي . إذ نجد المجتمع يستفسر عن سبب هذه الفاجعة الحضارية ، التي توشك أن تدرك مجتمعاً ناشئاً . ثم يقدم هذا المجتمع افتراضاً احتمالياً - الصحابة - محاولاً تفسير الظاهرة التي يتحدث عنها رسول الله صلي الله عليه و سلم قائلاً : أومن قلة نحن يومئذ يا رسول الله ؟ وكأنه يريد أن يرجع المسألة بأكملها إلى عالم الكم ، وبالضبط إلى (عالم الأشخاص) . ولكن النبي عليه الصلاة والسلام ، يرد القضية إلى مسارها الحقيقي ، بوعي سنني عميق ، بعيداً عن عالم الكم قائلاً : (بل أنتم كثير) . ثم يصف هذه الكثرة بوصف ينزع عنها الفاعلية النفسية ، والاجتماعية قائلاً: (ولكنكم غثاء كغثاء السيل) .. وهذه الحالة في الحقيقة ، هي أقصى حالة يعيشها مجتمع إنساني معين . فمليار من البشر لا يستطيعون توفير شروط حياتهم واستمرارهم الحضاري ، ويصبحون لقمة سائغة توجهها مجتمعات سرطانية ، تعشش اليوم في قلبها النابض - السرطان اليهودي - وهذا كله لأنهم غثاء ، ووضعية الغثائية ، من الأمراض النفسية الاجتماعية ، التي إذا حلت بثقافة مجتمع ما ، أهلكتها ، وحولتها إلى مجرد كيان شكلي مهلهل ، كالثقافة الإسلامية في عصور الانحطاط مثلاً.

رابعاً : ثم بعد هذا يقدم الرسول صلي الله عليه و سلم العلة الحقيقية للظاهرة المرضية مرجعاً أياها إلى مصدرين أساسيين هما:

- التحولات الجارية في نفسية الأعداء ، أي المجتمعات ، والثقافات التي تعادي الإسلام قديماً وحديثاً (الغرب واليهود ) والتي سعت وتسعى إلى إنهاء الوجود الحضاري للإسلام كعامل حاسم ، وأساس في إحداث التوازن الكوني - اجتماعياً - ، وهذه التحولات جعلت من هذه النفسيات تكتسب مناعة ، وقدرة على مواجهة قوى الأمة ، والعمل للفتك بها (ولينزعن الله من صدور أعدائكم المهابة منكم ).

- التغييرات الجارية في نفسية الأمة ( فرداً ومجتمعاً ) بحيث أصيبت هذه النفسية (بمركب الوهن) الذي أرجعه النبي عليه الصلاة والسلام إلى فاجعة العصور والدهور ، ومعضلة النفوس، والعقول ، وآفة الحضارات ، والثقافات وهي (حب الدنيا وكراهية الموت ).

فالنبي عليه الصلاة والسلام أعاد العلة الحقيقية في الحالتين إلى عالم النفوس وإن - صح التعبير - إلى عالم الأفكار ، كبديل عن عالم الأشخاص على ما رأى المجتمع الإسلامي . وبالضبط في فكرة الوهن ، التي لها علاقة مباشرة مع أجهزة العمل الصالح في الإنسان : العقل والقلب والجوارح . فالعقول جمد عملها ، والقلوب فتر إيمانها ، والجوارح تعثر عملها . وكما هو معلوم فإن : العلم والإيمان والعمل ، هم الزاد الدائم للحضارة.

خامساً : ويبدو كذلك بأن الحديث لم يربط تشكل مركب الوهن ، بفترة زمنية معينة ، ولكنه أعادها إلى جهود أجيال (الوهن الثقافي) والتخلف الحضاري ، لتساهم بإرادتها ، وتوجيهها ، في تشكيل هذا المركب داخل نفسية الفرد ، والمجتمع ، وثقافتهما على حد سواء . وبواسطة قوانين (التوارث الاجتماعي) للمركبات المرضية في (الحقل الثقافي) ، نقل المرض بشكل تراكمي إلى أن وصل إلى (بدايات العصر العالمي) الذي نعيشه اليوم ، عباد الثلث الأخير من القرن العشرين ، وهنا دخلت الإنسانية في منعطف من منعطفات صيرورتها فوق الأرض ، فتطلب منها الأمر ، نظرة مستوعبة في مشكلاتها ، وأزماتها .. والحديث النبوي يقدم وعياً عميقاً على هذه القضية كما أشرنا سابقاً.

إن (الحديث النبوي) الشريف ، سنة من سنن الله في الخلق ، ورؤية صائبة في المأزق العالمي الراهن الذي تشكل من:

- التحول النفسي الذي تم في نفسية صانعي الحضارة الحديثة ، بما في ذلك الجانب العقلي ، والفكري ، والمنهجي ، والعمراني ، والتكنولوجي ، والثقافي والسياسي ، والاجتماعي ، والتربوي.

- التحول النفسي الذي تم في نفسية الإنسان المسلم بما في ذلك جوانب الفعالية الثقافية الثلاثة: العقل ، والقلب ، والجوارح.

المنهج النبوي وتوجيه جهود النهوض

فالحديث يقدم المساعدة الأولية اللازمة لبناء حضارة العصر العالمي ، وذلك بتحديده للمشكلة الإنسانية المعيشة ، ولكن يبدو أن عالم الاجتماع المسلم المشتغل بحقل النهضات - إن وجد أصلاً كعلم جماعي - لم يعر بعد الاهتمام المطلوب للمنهج النبوي باعتباره مركباً حضارياً للطاقة الإنسانية ، كما لم يتذوق بعد قيمة هذا الحديث النموذجي الذي نحن بصدد تحليله.

فقد أتاح لنا الحديث فرصة عظيمة ، واختصر لنا زمناً طويلاً ، قد نقضي فيه كأمة ، ويقضي فيه غيرنا من الحضارة القائمة قروناً متطاولة بعلومهم الإنسانية ، والاجتماعية ، كيما يصلوا إلى تحقيق النتيجة المذهلة التي توصل إليها الحديث ، منذ أربعة عشرة قرناً . فقد حدد لنا رسول الإنسانية صلي الله عليه و سلم موقع المرض العضال الذي خلف حضارتنا ، وهو بصدد إسقاط الحضارة الغربية ، وقدم لنا منهجاً قاعدياً لتركيب حضاري جديد ، يؤهل الإنسانية للدخول إلى العصر العالمي ، فهذا الحديث يخدم منهجية عالم التاريخ ، وعالم النفس ، وعالم الاجتماع ، والمفكر المسلم ، لأنه يوفر عنهم تكاليف تأسيس منهجية لدراسة أزمة الأمة الحضارية على حد تعبير المرحوم مالك بن نبي.

إن في الحديث تعبيراً صادقاً وصحيحاً عن تغيير اجتماعي ونفسي عميق ، أصاب النفسية البشرية عموماً (الإسلامية وغير الإسلامية) .. فعلى صعيد النفسية الإسلامية ، سارت الأزمة على طريق ( حب الدنيا وكراهية الموت) . وعلى صعيد النفسية غير الإسلامية ، نمت العقلية الاستعمارية التي تسعى هذه الأيام إلى نفي الإسلام من العالم تحت تسميات ، ومسميات متنوعة مثل (السلام .. والحضارة الغربية العالمية .. والأصولية الإسلامية) .

فالحديث يرى بأن المجتمع الإسلامي غثاء ، لأنه فقد الشعور برسالته الاجتماعية ، التي تأسست على (حب الموت وكراهية الدنيا من أجل الدنيا) كما وضح بأن المسلم أصبح من المخلدين للواقع الأرضي الفاني . حيث هبط الكثير من الناس ليعيشوا راضين في فوضى عالم الأشياء . فمعظم مواقف المجتمع الإسلامي أصبحت تدور حول محور (حب الدنيا وكراهية الموت) وذلك هو جوهر (الأزمة الحضارية) التي تمر بها البشرية ، بما فيها مجتمعنا الإسلامي ، الذي أصيب بالوهن (فلقد كان هذا الحديث ضرباً من التنبؤ والاستحضار: استحضار حالة العالم الإسلامي ، بعد أن تتمزق شبكة علاقاته الاجتماعية ، أي عندما لا يعود مجتمعاً ، بل مجرد تجمعات لا هدف لها كغثاء السيل . ولا ريب أن جيلنا الحاضر يدرك الحديث ، أكثر مما يدركه أصحاب النبي عليه الصلاة والسلام ، لأنه يصف في مضمونه العالم المستعمر ، والعالم القابل للاستعمار ، الأمر الذي تعرضنا فيه لتجربة شخصية).

من هنا تتضح لنا أهمية هذا المدخل الذي ساعدنا على تشكيل الجملة السابقة من الملاحظات ، وفتح لنا طريق التأمل الأعمق . فهذه الطبيعة الدقيقة للأزمة ، هي المفتاح ، لأي تحول في مجتمعنا الإسلامي الراهن ، وفي مجتمعنا البشري القائم . فكل فلسفة للتغيير الحضاري ، تتجاوز هذا الوعي تعد جهلاً ، وانتحاراً في هذا الميدان الخطير ، وخير دليل على صحة هذا الزعم ، هو كل المشاريع النهضوية ، التي قامت في عالمنا الإسلامي المعاصر ، وكل الأمراض التي رافقت نمو الوجهتين الرأسمالية والشيوعية في العالم.

لقد تجاوزت السنة النبوية في وعيها للأزمة الإنسانية الراهنة ، العلوم الحديثة بقرون من الوعي ، والجهد المخبري الذي سيثبت في النهاية أن حل الأزمة الإنسانية وتأهيليها ، لتدخل العصر العالمي ، مشروط بعلمها (أنه الحق) ولهذا قال المولى تبارك وتعالى: (سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق )(فصلت : 53).

فحل الأزمة ينطلق إذن من عالم النفوس ، ويمتد في عالم المجتمع ، ثم ينتشر في عالم الثقافة ، وبعدها يدخل إلى عالم التاريخ ، ليتحول فيما بعد إلى منهج للسير في الأرض من أجل الاهتداء إلى السنن الإلهية . قال تعالى :(يريد الله ليبين لكم ويهديكم سنن الذين من قبلكم ويتوب عليكم والله عليم حكيم )(النساء : 26).

وهذه هي رسالة السنة النبوية في حقل البناء الحضاري ، حيث تبين منهج كشف السنن ، وكيفيات تركيبها لتصبح ثقافة اجتماعية حية ، تتجسد فيها قيم الوحي ، ومعاييره ، ونظمه الحياتية المتنوعة ، والشاملة لحياة الناس الدنيوية ، والأخروية

==============

# منطقية السنة النبوية في التعامل مع الظواهر الاجتماعية

إن منطق السنة في التعامل مع الظواهر الاجتماعية منطق متميز ، أخذ قوته الاستدلالية ، ومنهجه البرهاني، من منهج القرآن الكريم ، الذي يمتلك حق النظر في الماضي ، والحاضر ، والمستقبل ، وفي كل غيب علمه عند الله سبحانه وتعالى ، ويتحكم في هذه الحركة بشكل مستوعب ، وصحيح لا ريب فيه مطلقاً. فهو صبغة الله ، ومن أحسن من الله صبغة. وعلى هذا فالسنة النبوية مثلاً عندما تتحدث عن ( قصص الأنبياء) ، فهي تكشف لنا عن تجارب حضارية عميقة وعن تركيب جوهري للحقيقة الدينية ، مع حوادث الكون ، والحياة . ومن هنا يكون لها القصص النبوي ، حق كشف السنن ، وتوجيه الناس إلى سنن الهداية . فعندما تعطي السنة النبوية حكماً حضارياً ، وتاريخياً مضطرداً ، فإنما تأخذ حجتها من الموقف القرآني الكلي ، وتعتمد فيما وصلت إليه على استقراء كلي للمنطق القرآني في دراسته للظاهرة التاريخية .. وهذا مثال لذلك ، فقد ذكر رسول الله صلي الله عليه و سلم: (ما ظهر الغلول في قوم إلا ألقى في قلوبهم الرعب ، ولا فشا الزنا في قوم قط ، إلا وكثر فيهم الموت ، ولا نقص قوم المكيال والميزان ، إلا قطع عنهم الرزق ، ولا حكم قوم بغير الحق ، إلا فشا فيهم الدم ، ولا ختر بالعهد ، إلا سلط الله عليهم العدو ).

لنحاول فهم الحديث في منظور منهجي معين . ولتسهيل التحليل نقسم الحديث إلى موضوعات: - ظهور الغلول (مرض اجتماعي) في مجتمع يؤدي إلى (أزمة نفسية) ، من مظاهرها: (إلقاء الرعب في القلوب)، وهذا يؤدي بدوره إلى نتائج حاسمة في غير صالح المجتمع ، الذي يمارس هذه الأعمال . فالسبب مرض اجتماعي ، والنتيجة أزمة نفسية ، تجعل حياة الناس في قلق ، وفوضى ، وخوف ، وهذا صحيح ، ومعيش في حياتنا.

- فشو الزنا (مرض أخلاقي) في مجتمع يؤدي إلى (نتيجة كونية تدخل في إطار السنن التكوينية وتساهم في هلاك النسل) وهي حدوث الموت ، ومصداق هذا الحديث في هذه الأيام هو مرض (الإيدز) .

- نقص المكيال والميزان (مرض اقتصادي) يؤدي إلى (أزمة معاشية) هي انقطاع الرزق ، وهذ معناه هلاك الأموال.

- الحكم بغير الحق (مرض سياسي) يؤدي إلى (أزمة أخلاقية) هي التقاتل ، والتنازع ، وهذا سيؤثر في بقاء النسل ، ويساهم في فشو الدم الذي يخرب به العمران البشري.

- والختر بالعهد (مرض أخلاقي ونفسي) يؤدي إلى (أزمة حربية) وتقاتل وتسلط الأعداء ، وبالتالي الخوف ، وضياع الأمن ، وتعثر الاقتصاد ، وانهيار البلاد ، وهلاك مصالح العباد ، من حفظ للدين ، وللعقل ، وللنفس ، وللنسل ، وللأموال.

هذه الثنائيات التي يذكرها الحديث ، والتي تمثل سبباً ونتيجة ، ليست مذكورة على سبيل الحصر ، وإنما مجرد أمثلة بسيطة للسنن ، التي تتحكم في الظاهرة الاجتماعية في مستواهاا لاخلاقي ، والاجتماعي ، والسياسي ، والاقتصادي ، والتربوي ، والعسكري ، والعمراني ، والنفسي . أي أنه يمس كل حياة الناس ، ويرتب نتائج على أكثر من علم ، ومنهج وصعيد.

فالحديث يقدم منطقاً معيناً في فهم الحركة التاريخية ، والاجتماعية ، وبأمثلة تمس بعض جوانب الحياة الإنسانية ، والروح التي تسري في أحشاء الحديث هي الروح السننية . بمعنى أنه مبني على أسباب ، وقوانين ، وسنن مضطردة لا تتخلف في أي زمان ولا مكان ، في حالة توفر الشروط المحددة لكل قضية من القضايا المطروحة . ومن هذا المنطق بالذات ، استطاع النبي عليه الصلاة والسلام ، بحكمته ، وإحاطته بالأمور ، أن يخترق حدود الزمان ، والمكان ، ليقرر مسألة (الغثاء) التي تعيشها أمتنا اليوم . فهو ليس بالضرورة تكهن خرص ، وليس كذلك رجماً بالغيب ، وإنما تبصر ، وفهم . فهو وعي للسنن الإلهية ، ولقوانين الحركة التاريخية ، وهذا هو المنطق الكلي الذي جاءت السنة النبوية لتثبيته في حياة الناس ، وتنبههم عليه ، بوعي ، ومن خلال تجارب عملية ، ومواقف بشرية ، صنعت أحداث قسم من التاريخ العالمي ، هو تاريخ الحضارة الإسلامية ، بكل ما تحمله من خصائص متميزة .

فلو تساءلنا مثلاً عن سبب فشو الغلول ، والزنى ، ونقص المكيال والميزان ، والحكم بغير الحق ، والختر بالعهد .. إلخ ، لوجدنا السنة النبوية المطهرة ترسم لنا وعياً آخر ، على صعيد آخر من الأسباب ، والمنطق الاستدلالي ربما يهدينا هذا الحديث إليها:عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه : قال رسول الله صلي الله عليه و سلم : ( لا تحاسدوا ، ولا تناجشوا ، ولا تباغضوا ، ولا تدابروا ، ولا يبع بعضكم على بيع بعض ، وكونوا عباد الله إخواناً . المسلم أخو المسلم لا يظلمه ، ولا يخذله ، ولا يحقره ، التقوى ههنا - ويشير إلى صدره ثلاث مرات - بحسب امريء من الشر أن يحقر أخاه المسلم . كل المسلم على المسلم حرام : دمه ، وماله ، وعرضه ).

فالحسد ، والتناجش ، والتباغض ، والتدابر .. أمراض نفسية ، وأخلاقية ، تؤدي إلى سلوكيات ، وأعمال للجوارح ، تؤثر في الحركة الاجتماعية بأكملها .. والبيع على بيع الأخر ، والظلم ، والخذلان ، والكذب ، والتحقير .. إلخ أمراض أخرى تصدر عن نفس مريضة ، وكل هذه الظواهر السقيمة هي التي تصنع الأزمة داخل المجتمع بعد أن تكون قد كونتها في النفوس ، وبالتالي يحدث الانهيار الاجتماعي . والرسول صلي الله عليه و سلم يشير إلى مركز الداء العضال ، منبهاً إلى مصدره ، ومؤشراً على موقعه الحقيقي (التقوى ههنا) هناك في عالم القلب ، والفؤاد ، والعقل ، والنفس . ولهذا نجده في نفس الحديث ، يضع حدوداً أخلاقية لحفظ القلوب ، وتزويدها بالضابط الروحي ، والناظم الأخلاقي ، الذي يلهمها القدرة على الانسجام مع سنن الله في الخلق، (كل المسلم على المسلم حرام : دمه ، وماله ، وعرضه ).

ولا يتوقف النبي صلي الله عليه و سلم عند هذا الحد ، بل يرسم منهاج الحل للمشكلات ، ويعطي التدابير العملية لذلك ، وهذا ما نستخلصه من حديث سنني آخر: (عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه ، عن رسول الله صلي الله عليه و سلم: (من نفس عن مؤمن كربة من كرب الدنيا ، نفس الله عنه كربة من كرب يوم القيامة .. ومن يسر على معسر ، يسر الله عليه في الدنيا والآخرة .. ومن ستر مسلماً ، ستره الله في الدنيا والآخرة .. والله في عون العبد ، ما كان العبد في عون أخيه .. ومن سلك طريقاً يتلمس فيه علماً ، سهل الله له طريقاً إلى الجنة .. وما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله ، يتلون الكتاب ويتدارسونه بينهم ، إلا نزلت عليهم السكينة ، وغشيتهم الرحمة ، وحفتهم الملائكة ، وذكرهم الله فيمن عنده .. ومن بطّأ به علمه لم يسرع به نسبه ).

في هذا الحديث سنن ، وقوانين ، وتوجيهات تسعى إلى تأسيس القاعدة الأخلاقية للسلوك البشري ، وما التوجيهات ، والطرق التي قدمها الرسول صلي الله عليه و سلم في هذا الحديث ، بغرض تحقيق الرقي الروحي والسلوكي ، إلا مظاهر للغاية الأخلاقية الاجتماعية ، التي يقصدها الرسول صلي الله عليه و سلم . لقد ربط كل فعل بجزاء إلهي لا نظير له . فكما ربط تنفيس الكربة في الدنيا ، بجزاء إلهي ، هو تنفيسها في الآخرة - وما أعظمه من أمل يعيش من أجله المسلم - فقد ربط التيسير على المعسر ، بتيسير الله في الدنيا والآخرة . وهكذا تواصل منطقية السنة في تقديم نظامها البرهاني للحركة التاريخية ، ورسم وعيها في شكل نظام منهجي أخلاقي ، يمكن تطبيقه في أرض الواقع ، وفي حياة الناس ، وما غايتها إلا العمل من أجل المحافظة على مقاصد الشارع في الخلق ، كما أمر المولى تبارك وتعالى.

فالغاية القصوى للسنة ، والتي أخذتها من القرآن الكريم ، هي السعي إلى (إخراج المكلف عن داعية هواه ، حتى يكون عبداً لله اختياراً ، كما هو عبد لله اضطراراً).

إن هذا العرض العام لبعض الأحاديث ، مكننا على الأقل من اكتشاف المدخل الأولي، الذي يمكن أن نستعمله ، من أجل فهم منطقية السنة ، ونظامها البرهاني ، ومنهجها الاستدلالي ، ورؤيتها المنظمة للظواهر الإنسانية ، وتعاملها مع عالم الأسباب . فعمق هذه الأحاديث ، يعبر عن وعي الرسول صلي الله عليه و سلم لسنن الله في الخلق . وعليه فالسنة النبوية المطهرة ، ساحة خصبة للسنن الإلهية العاملة في الذكر ، والأنفس ، والكون .. واكتشافها ، وفهمها ، وتسخيرها ، مطلب شرعي ، ولازمة استخلافية ، لا تقوم بدونها حياة إنسانية مستقيمة على الطريقة.

================

# السنة النبوية مصدر للثقافة الإسلامية

ولكي نتعامل بشكل جيد ، ونافع ، مع السنة النبوية المطهرة باعتبارها مركباً للفعل الحضاري الإسلامي ، الذي يراد له أن يعمل على حفظ مقاصد الشارع في الخلق ، يجب أن نلاحظ بأن هناك مستويات للتعامل ، كما أن هناك منهجيات ، وكيفيات ، سوف نقوم بعرض عام لها ، ضمن هذا العنصر الذي عقدناه لبحث منطقية السنة في تعاملها مع الظاهرة الاجتماعية.

إن السنة النبوية مصدر من مصادر الثقافة الإسلامية. وهذا يؤدي إلى البحث في مستويات الفعل الثقافي ، وكيف يتركب في الواقع البشري المعضل . فللثقافة وجهان : الوجه النظري ويمثل البناء التصوري ، والمفاهيمي ، والمعرفي ، والمنهجي للظاهرة الثقافية. والوجه العملي ، ويمثل التشكل الاجتماعي ، والسلوكي للظاهرة . فدراسة أي ثقافة بشرية لابد أن تمر على المستويين السابقين : مستوى الإطار المرجعي ، ومستوى الإطار السلوكي . ودراسة أي منهما بمعزل عن الآخر ، سوف يجزيء الظاهرة الثقافية ، ويفصل شقيها المتلازمين . فكل السلوكيات ، والمواقف العملية ، والبنى المادية لثقافة ما ، إنما يرجع إلى الجذر النظري والمرجعي ، الذي يطبع عالم الثقافة بطابعه ، وبنائه الخاص ، المستمد أصلاً من تصورات المجتمع ، ومواقفه الكونية ، والحياتية.

وما دامت السنة النبوية مصدراً من مصادر الثقافة الإسلامية ، فإنها تؤثر في الجانبين معاً . وعليه فمن الضروري دراستها من الجانبين كذلك:

- السنة النبوية كمصدر للبناء الثقافي النظري والمرجعي (عالم العقيدة والأخلاق الإسلامية).

- والسنة النبوية كمصدر للنظام السلوكي لدى الأشخاص (عالم السلوك وعالم العمران).

في المستوى الأول ، تظهر لنا مجالات التعامل مع الظاهرة الثقافية التي منها:

- مجال التصور الكوني.

- مجال المفاهيم.

- مجال المنهجية.

- مجال النظرية المعرفية.

- مجال القوانين الثقافية.

- مجال القوانين الأخلاقية.

- مجال المشروع الاجتماعي.

- ومجال التنظير ، وضوابطه.

أما في المستوى الثاني للظاهرة الثقافية ، هناك كذلك مجالات للتعامل نذكر منها:

- مجال الواقع الإنساني.

- مجال السلوك البشري.

- مجال الجهد البشري.

- مجال المعاش والعمران البشري.

- ومجال التاريخ ، والسير في الأرض.

والسنة النبوية تدخل في توجيه الجانبين معاً ، حتى ينسجما مع الخطاب الإلهي ، وينضبطا مع القانون الفطري العام الذي جاءت الشريعة لتدل عليه ، وتعلم بأنه صبغة الله التي يجب أن يعود إليها البشر في صناعة حياتهم ، وتسخير سنن الله من أجل تحقيق السعادة في الدارين.

إن فهمنا للسنة النبوية بهذه الشمولية ، وإدراك قدرتها الفائقة على التوجيه في مختلف الأصعدة السابقة ، سوف يتيح لنا فرصة التعرف على الخير الإلهي الذي أودعه سبحانه وتعالي في جهد نبيه صلي الله عليه و سلم كما سيطلعنا على القدرة الذاتية للوعي النبوي المضمن في سنته ، التي تمثل الإطار العملي لمقاصد الشارع الحكيم في الخلق ، ولحركة تنزيل الخطاب الرباني في صورة موقف اجتماعي ، كان من محصلته بناء الإنسان ، والمجتمع ، والثقافة الإسلامية المعبرة عن حضارة الإسلام في الأرض

=============

# المنهج النبوي ومفهوم التغيير الحضاري

سوف لا نسعى إلى البحث عن مفهوم للتغيير الاجتماعي من وجهة نظر العلوم الاجتماعية ، والسلوكية الحديثة ، لسبب واحد ، هو أنها ليست في العمر الحضاري الذي تعيشه أمتنا عموماً ، والحركة الإسلامية التغييرية خصوصاً . فالموقع العملي للأحداث التي تمر بها الأمة داخلياً ، وخارجياً ، مختلف عما يدور في الذهنية الحضارية المعاصرة ، ولما تسعى إلى تحقيقه من الأهداف ، تبعاً لتصورها الكوني . أعني أن هذه العلوم ، وبشكل خاص علم اجتماع التغيير والحضارة ، والثقافة ، تعيش في عمر حضاري آخر ، يتصل بجدلية الحضارة القائمة ، وصيرورتها التاريخية الذاتية ، التي لا يمكن بأي حال من الأحوال تعميمها، مالم تصبح معارفها معبرة عن القانون الفطري ، الذي يحكم الخلق.

ومراعاة اختلاف الأعمار الحضارية ، لازمة منهجية في مجال التغيير الاجتماعي ، وقد أشار إليها ابن خلدون بذكاء في قوله: (اعلم أن الدولة تنتقل في أطوار مختلفة ، وحالات متجددة ، ويكتسب القائمون بها في كل طور ، خلقاً ، من أحوال ذلك الطور ، لا يكون مثله في الطور الآخر ، لأن الخلق تابع لمزاج الحال الذي هو فيه). وابن خلدون هنا ، يوضح قاعدة مهمة في مستوى الدولة ، يمكننا أن نعممها لتصبح حاكمة للسلوك الحضاري ، وهذا ما أكده مالك بن نبي رحمه الله ، بقوة في قوله: (وعليه فلا يجوز لأحد وضع الحلول والمناهج ، مغفلاً مكانة أمته ، بل عليه أن تنسجم أفكاره ، وعواطفه ، وأقواله ، وخطواته ، مع ما تقتضيه المرحلة التي فيها أمته .. أما أن يستورد حلولاً من الشرق أوالغرب ، فإن ذلك تضييعاً للجهد ، ومضاعفة للداء . إذ كل تقليد في هذا الميدان ، جهل وانتحار .. وعلاج أي مشكلة يرتبط بعوامل زمنية نفسية ، ناتجة عن فكرة معينة ، تؤرخ ميلادها عمليات التطور الاجتماعي ، في حدود الدورة الحضارية التي ندرسها .. فالفرق شاسع بين مشاكل ندرسها ، في إطار الدورة الزمنية الغربية ، ومشاكل أخرى تولدت في نطاق الدورة الإسلامية).

ونفس الموقف نجده عند المفكر السيلاني المسلم البروفيسور عبد المجيد مكين ، الذي يرى أنه: (في ظل الطرح الإسلامي ، يبدو لنا معيار الوحي ، هو المدخل الوحيد لدراسة مشكلات وقضايا الفكر الإسلامي ، إذ لا تجدي الطريقة العلمية الحديثة شيئاً ، في استكناه خبايا الظواهر الإسلامية ، ومغازيها الحقيقية ، وأبعادها الجوهرية ، التي لا يمكن فهمها إلا في ضوء معيار الوحي . فالظواهر الإسلامية لا يمكن إدراكها بمعزل عن منهاج الوحي ، وسياقه الذاتي . فالطريقة العلمية الحديثة تبقى دوماً مفتقرة إلى عنصر أساسي ، هو مخ البحث وروحه ، وهو من هبات معيار الوحي للباحث المسلم ، حيث لن يجد هذا العقل ذاته ، ووعيه ، إلا ضمن هذا الإطار).

فعندما أؤكد على هذه القضية ، فتأكيدي لا ينفي التعامل مع المناهج الاجتماعية السائدة في الحقل التغييري ، وإنما يتطلب الأمر دائماً أن نستعمل إمكاناتنا العقلية ، ومنهجيتنا الذاتية كيما نتجاوز بعض المراحل الخطيرة .. والمنعطف الحضاري الراهن ، الذي نعيشه ، منعطف من المنعطفات ، التي تحتاج إلى تجاوز أصيل ، لأننا نعيش في مرحلة التأسيس لعمل نهضوي جديد ، سوف يثمر في مستقبل الأمة ، وسترى الأجيال اللاحقة عمل أجدادها الذي قاموا فأعلنوا ضرورة العودة إلى مصدر الطاقة الخلاقة ، الذي أشع من قبل على الإنسانية ، عندما فتح لها طريق التفكير العلمي ، الذي يخضع لقواعد منهجية ومعيارية أخلاقية ، قصد بها الشارع الحكيم تحقيق مقاصد الخلق في الدارين.

=============

# التغيير الحضاري في ضوء وعي المنهج النبوي

إذاً لابد لناأن نبحث عن معيار آخر ، نعرف في ضوئه التغيير الحضاري ، ونحدد مضامينه . ولا يمكن ابتداء أن نعثر على هذا المعيار إلا في إطار (النظام التوحيدي) أعني في معيار الوحي الإلهي ، الذي يشتمل على القرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة.

فتحديد مضمون للتغيير الحضاري ، لابد أن يتم من خلال استقراء لمقاصد ( الوعي التغييري في المنهج النبوي ) ، وفهم عميق على المنهج التغييري الذي سلكه النبي عليه الصلاة والسلام في عملية البناء الاجتماعي الأولي ، أي في (عملية الإسلامية الحضارية الشاملة) الأولى التي حقق بها مرتبة (الأمة) للجماعة الإسلامية المؤسسة للحضارة التوحيدية.

طبيعة التغيير الإسلامي:

إننا كلما تعمقنا في فهم الأشياء ، وفق نموذج الإيمان التوحيدي ، كلما أحسسنا بضخامة مسؤوليتنا أمام الله، ثم أمام أنفسنا ، وأمام التاريخ ، وأدركنا خطورة واجباتنا أمام الواقع الإنساني المعضل ، وخاصة في مراحله الراهنة ، وأطواره المتوقعة . فموقفنا الحضاري اليوم مازال غامضاً ، وبشكل ملح في ميدان قدرتنا على وعي مناهج التعامل مع خطاب الله تبارك وتعالى ، وفقه ضرورات استيعابه العملية ، أي على المستوى الاجتماعي كمشروع حضاري . وسوف لن يتحقق لنا وعي رسالي اجتماعي ، إذا لم ندرك موقفنا الجماعي (كأمة) إزاء موضوع وجودنا الحقيقي في هذا العالم الأرضي . أعني موضوع (الاستخلاف) وتبعاته على صعيد العبودية والعمران . وهذا الأمر لن يتم لنا على الوجه المرغوب ، إذا لم نفهم موجبات تحصيل (التغيير الاجتماعي) في واقع أمتنا المتردي . فالتغيير اليوم من متطلبات استمرارية الأمة ، ومن شروط استعادتها لهيبتها الحضارية ، وتمكينها للناس ، كيما يسترجعوا ما فقدوا من فطرتهم الخيرة. والحديث عن التغيير هنا لا ينسحب إلى ما رسخه العقل الغربي منذ أربعة قرون ، القرون التي ولدت فوضى العالم الغربي المنهجية والثقافية الراهنة ، ولكن التغيير المنشود هنا هو ذلك الجهد الإنساني ، الذي يتيح للناس فرصة توفير موجبات (الوراثة الحضارية) ويعينهم على السير السنني في الكون . فهو تغيير عالمي ، علمي ، عملي ، سيتجه بالإنسانية من (العهد الحضاري) إلى (الطور الاستخلافي) الذي سيعبر عن الفعالية الكونية للتوحيد من الوجهة الاجتماعية ، ويفسر المشروع الحضاري للإسلام من الوجهتين النفسية والثقافية ، كما سيعلن عن إفلاس المنطق البشري الخاضع لسلطان المستكبرين ، ويخلصه من نزعة: (أتعبدون ما تنحتون) ويمده بالقدرة على فهم قيمة (اقرأ باسم ربك ) إذ بين القراءة باسم ما ينحتون ، والقراءة باسم ربك ، فرق كالفرق الموجود بين الكفر والإيمان ، والباطل والحق.

============

# المنهج النبوي كمركب حضاري مشكلة توجيه العملية التغييرية:

فرغنا فيما سبق ، من الحديث عن بعض الأفكار المتعلقة بالجانب النظري لعملية التغيير ، في ضوء المنهج النبوي ، وبقى لنا في هذا الفصل أن نقدم تفسيراً نفسياً ثقافياً ، واجتماعياً تربوياً ، لدور المنهج النبوي في تركيب حضارة ، وتوليد أمة في التاريخ هي (الأمة الإسلامية) .

ففي كل عمل تغييري ، أو توليدي لثقافة حضارية ، لابد من فلسفة تغييرية أو (توليدية) تقوم بتركيب عناصر الاجتماع البشري ، لتنتج منها وحدة تاريخية تمثل في جوهرها (المجتمع الوليد) ، الذي سيسعى إلى تحقيق رسالة جماعة من الناس ، في ظرف زمني معين ، استجابة لمذهبية كونية معينة ، وبوسائل معينة ، ولغاية معينة.

مشكلة توجيه العملية التغييرية:

الدارسون لميلاد مجتمع ، كحدث تاريخي ، والمتتبعون لتلك اللحظات الحية التي تهيئ لنشوة اجتماع بشري رسالي ، صادر عن عقيدة تغييرية معينة ، تحمل في أحشائها مشروعاً اجتماعياً تغييرياً ، يحتاجون في الحقيقة إلى فهم بعض القضايا المتعلقة بجملة من الترتيبات الأولية ، ذات الصلة بفلسفة التغيير ، ومنهجيته . فانطلاق أي تغيير اجتماعي ، مشروط ببعض الموجبات الأساسية ، التي تمثل في جوهرها (تحدياً) واقعياً لحركة التغيير ، وعلى رأسها ( القيادة التغييرية ) التي تحمل ( هم ) توجيه العملية التغييرية ، بكل ما تحمله هذه المهمة من صعوبات ، وابتلاءات متنوعة المصادر ، ومختلفة الأشكال ، ومتباينة الشدة والقوة . فالعملية تستدعي وعياً معيناً ، نطلق عليه تسمية ( الوعي الانطلاقي ) الذي يحتاج إلى نظرية في (التوجيه الانطلاقي) وأعني به ( جملة الأفكار والأعمال ، والاجراءات ، والخطوات المتعلقة بالإجابة عن هذه التساؤلات : ما مضمون النموذج الجديد ، الذي ننتمي إليه؟ وماذا نريد من خلاله؟ وكيف نحقق ما نريده؟ وما هي الوسائل المطلوبة لذلك ؟ وكيف نتعامل مع الوضع القائم ، الذي نريد تغييره؟ وبأي منهجية نعالج قضاياه ؟ فهذه المجموعة من الاستفسارات ، بحاجة إلى مخطط ، وبرنامج يحدد كل عنصر من عناصرها، ويقدم له الإجابات النظرية ، والعملية الكفيلة بحل إشكالاته ، وتحقيق متطلباته.

إن التوجيه في لحظات إنطلاق العملية التغييرية ، يختلف حتماً عن التوجيه الذي سيأتي بعد إنجاز هذه الخطوة ، بحيث تطرح فيما بعد ، أنواع أخرى من التوجيه منها: (توجيه المحافظة) على ما حققته الحركة التغييرية من منجزات على مختلف الأصعدة التغييرية ، ومنها (التحدي الاستيعابي) الذي يقوم بحل ما يواجه الحركة داخلياً وخارجياً من سلوكيات ومواقف ، قد تغير مسارها عن مسالكه الصحيحة ، ومنها ( التوجيه الاستمراري ) الذي يهدف إلى دفع الحركة لتستمر في خط سيرها الأصيل ، وتدوم في حركتها التغييرية ، مهما كانت التحديات .. ومنها ( التوجيه التقويمي ) الذي يقوم بعمليات التقويم للأزمة ، وللأشخاص ، والأشياء ، والأفكار ، في المنعطفات المختلفة للعملية التغييرية .. ومنها ( توجيه التوريث للتغيير ) بمعنى التفكير في مناهج ، وكيفيات ، ووسائل توريث الرسالة التغييرية بين الأجيال المختلفة ، كيما تواصل الحركة فعلها التغييري دونما انقطاع ، وتمرد على الأصول .. ومنها ( توجيه تنمية الوعي مع حركة التغيير) وفيها يطلب تجنب تخلف الوعي التغييري عن هموم المجتمع ، ومتطلبات المرحلة ، وضرورات الزمان والمكان .. إلخ . فكل هذه الأنواع من التوجيه وغيرها بحاجة إلى وعي تام ، من قبل القيادة التغييرية على الأقل ، كيما تتمكن من خوض معركة البناء ، والتغيير بكفاءة.

فالتوجيه إذن مشكلة من المشكلات الأساسية في أي عمل تغييري ، غايته بناء مجتمع على أصول رؤية كونية معينة.

فلسفة البدء والتوجيه الانطلاقي:

التوجيه الذي يلزم القيادة التغييرية في لحظات الانطلاق ، يعتبر من أقسى التحديات في المجال (المنهجي)، لأن حركة ( التحديات ) للواقع القائم ، ستسعى إلى مخاطبته بنوع جديد من الواجبات والأفكار ، التي تختلف كثيراً أو قليلاً عما ألفه من أوضاع ، وفي القرآن تعبير عميق عن هذا النوع من التحدي ، الذي تواجهه المجتمعات القائمة ، من قبل قوى التغيير الجديدة ، فيكون جوابها ما تعبر عنه هذه الآية بعمق . قال تعالى: (بل قالوا إنا وجدنا ءاباءنا على أمة وإنا على ءاثارهم مهتدون ) (الزخرف: 22).

فهذا النوع من الإحساس ، والسلوك المضاد لحركة التجديد ، إنما مرده إلى النفسية الأثرية ، والمقتدية بغير وعي ، والمحافظة على الوضع القائم الذي ألفته ، وتحول عندها إلى ثقافة آبائية مستحكمة . ومن هنا تكون الحركة التغييرية كمن يريد إيقاف أنفاس المجتمع القائم ، وقبض روحه القديمة ، ولهذا فالمجتمع القائم ، يرد بعنف على هذا السلوك ، ( والمجتمع الجاهلي ) الذي عاصر النبي صلى الله عليه و سلم خير دليل لهذا النوع من السلوك.

ولكي يكون التوجيه الانطلاقي متماشياً مع قوانين البناء الحضاري ، فإن القيادة التغييرية مطالبة بمواجهة ، وتوجيه أول عمل على طريق التغيير الاجتماعي وهو : ( التحديد الدقيق ، والصحيح لموقع المرض ، والأزمة القائمة في كل مستوياتها ) وعليه فمشكلة أي حركة تغييرية تلك المتصلة بالتاريخ التكويني لها ، هي امتلاك القدرة الكافية على التحديد الإيجابي لموقع ، ونوعية المرض ، الذي يراد استهدافه بالعلاج ، إذ الأمراض تختلف ، وتتنوع بشكل كبير . فمريض السرطان مثلاً يختلف عن مريض السل ، أو فقر الدم على الصعيد البيولوجي ، ومريض الثقافة ، يختلف تماماً عن مريض السياسة ، أو الاقتصاد ، على الصعيد العقلي . وهكذا فالتحديد مطلوب ولازم ، لأنه بهذا العمل الأساسي الأولي تنبني فلسفة الانطلاق في التغيير، ومناهجه ، وأهدافه ، ووسائله ، وطبيعته . والعجز عن آداء هذا العمل المفصلي ، سيؤدي حتماً إلى تضييع الجهود و( تبديدها ) خارج دوائر التغيير المطلوب ، وربما (تحريفها) عن مسارها الحقيقي ، وهذا ما حدث مثلاً مع الثورة الفرنسية ، التي استأثرت بها جماعة على حساب الفلسفة الانطلاقية ، التي قامت الحركة لتحقيقها ، ونفس الأمر تقريباً حدث للثورة الإسلامية التحريرية في الجزائر .

فأول نقطة استفهام كبرى تواجه القيادة إذن ، في الطور الأول من أطوار التغيير الاجتماعي ، هي تقديم الجواب الصحيح ، والواضح المعالم ، والذي تضبط به مشكلة المجتمع ضبطاً محكماً ، بحيث تعرف طاقاته ، وإمكاناته ، وقواه المختلفة ، وتناقضاته المتنوعة ، ونقاط الضعف والقوة فيه ، وتدرك مداخل استجابات أفراده ، ومفاتيح التعامل مع عقائدهم ، وطبائعهم ، وعوائدهم ، ومواقفهم التي درجوا عليها . والقيادة التغييرية ، عندما تقوم بهذا العمل ، ليس فقط من أجل التوجيه الخارجي للمجتمع ، ولكن وبشكل ملح من أجل التنظيم الذاتي لطاقاتها ، وإمكاناتها ، وتوجيه مشكلاتها ، وحل معضلاتها ، وترتيب قواها للمواجهة ، والمراجعة ، والإقدام ، والإحجام.

إن فلسفة البدء في التغيير ، وكل ما يتعلق بها من شروط ، ومتطلبات ، تقوم أصلاً على هذا (التحديد) في صحتها وخطئها ، فلا يمكن وضع برنامج للتوجيه الانطلاقي في مختلف مراحله ومستوياته بدون هذا الوعي على المشكلة وامتداداتها التاريخية ، والثقافية ، والاجتماعية ، والسلوكية ، والمنهجية..

=============

# المغزى الثقافي لميلاد الجماعة التغييرية

إن ميلاد الجماعة في التاريخ ، يعني من جهة ، ظهور فكرة جديدة ، داخل حركة المجتمع ، تكون مسنودة في كل الحالات بقيادة تغييرية ، ويعني من جهة أخرى ، بداية ظهور حركة وجود جديد ، ينزع إلى تحدي الوضع القائم ، ويسير بشكل معين ، لتحقيق غاياته ، ومضامين عقيدته ، من الناحية الواقعية . بمعنى أن الحركة الجديدة ، سوف تؤدي إلى (توليد نموذج تربوي) لبناء إنسان جديد ، يتبنى الفكرة الجديدة ، ويعمل من أجل تحقيقها في حياة الناس . وهذا مما سيؤدي إلى وضع نواة بناء اجتماع بشري ، يتميز بخصائص ثقافية معينة ، مازالت في حيز القوة . فميلاد الجماعة في التاريخ ، هو عنوان على بداية دورة حضارية ، ذات نزوع عقائدي ، مخالف لما هو موجود في لحظات ميلادها . فهذه الجماعة تقوم ، وتتحرك ، لأنها تشعر بضرورة ، وأهمية ، وإلزامية حركتها ، وذلك بغرض تغيير شرائط واقع ، لم يعد قادراً على تقديم دوافع العيش لأفراده ، ومؤسساته ، وأفكاره المتقادمة ، التي تحتاج إلى تجديد ، كيما يرتفع وعيها إلى مستوى الأحداث ، التي يمر بها (الوعي الجماعي) للمجتمع في صلاته الداخلية والخارجية . ومصيبة (تخلف الوعي)، عن فهم ومعايشة وقائع حركة العالم ، من الإصابات المنهجية ، التي تعيشها كثير من المجتمعات المعاصرة ، والتي منها المجتمع الإسلامي الراهن.

إن ميلاد الجماعة من الوجهة الثقافية ، دليل على ظهور منهج جديد للسلوك الاجتماعي ، وبروز اتجاه فكري ، يحمل قيماً تهدف إلى إعادة بناء المجتمع القائم ، وطبعه بطابع آخر ، لمّا يتحول بعدُ إلى نظام ثقافي مُولِّد للسلوك ، والنشاط الاجتماعي . فعندما يصبح ثقافة اجتماعية فذلك إعلان ، على أن الجماعة قد بدأت رسالتها ، ودخلت بذلك إلى ساحة (العمل الحضاري) ، وفي هذه الحالة تكون القيادة التغييرية ، مطالبة بالتنزيل المستديم لمضمون عقيدتها ، ووجهتها الحياتية إلى عالم النفوس أولاً ، ثم إلى عالم المجتمع ، الذي ينقله بدوره إلى عالم الثقافة ، التي تقوم بتغذية جنين الحضارة ، وتمده بلوازم النماء ، والنمو ، والنضج ، والاستمرار . فهذا هو ميلاد الجماعة في التاريخ (ولكن عندما نتحدث عن ميلاد معين ، فإنا نعرفه ضمناً " كحدث " يسجل ظهور شكل من أشكال الحياة المشتركة كما يسجل نقطة انطلاق لحركة التغيير ، التي تتعرض لها الحياة ، ويظهر هذا الشكل في صورة نظام جديد للعلاقات بين جماعة معينة .. الجماعة التي تغير دائماً خصائصها ، بانتاج وسائل التغيير ، مع علمها بالهدف الذي تسعى إليه من وراء هذا التغيير). فهذا النظام من العلاقات ، هو الذي يشكل المغزى الثقافي للجماعة ، التي تريد إنجاز عملية التغيير . (فالتوليد الجماعي المشترك للتاريخ) ليس عملاً عفوياً ، بمقدار ما هو جهد خاضع لسنن البناء الحضاري ، التي تحكم مقاييس السلوك ، داخل عالم الأفكار ، والأشخاص ، والأشياء . إذ (العمل التاريخي بالضرورة من صنع الأشخاص ، والأفكار ، والأشياء ، جميعاً ، ومعنى هذا أنه لا يمكن ، أن يتم عمل تاريخي إذا لم تتوفر صلات ضرورية داخل هذه العوالم الثلاثة ، لتربط أجزاءها في نطاقها الخاص ، وبين هذه العوالم ، لتشكل كيانها العام من أجل عمل مشترك .. وهذا الشرط يستلزم كنتيجة منطقية وجود عالم رابع هو شبكة العلاقات الاجتماعية). ونحن نريد أن ندرس المغزى الثقافي لميلاد الجماعة التغييرية في هذا المستوى ، وذلك باستيحاء النموذج النبوي ، موضوع هذه الدراسة.

الترشيد النبوي ونموذج التغيير الرسالي:

كما أسلفنا القول: فإن أول عمل تؤديه (القيادة التغييرية) على طريق نفي (ا لخبث الحضاري) هو تحديد موقع المرض الاجتماعي ، باعتباره لازمة منهجية في علم التغيير الحضاري.

ومن هنا كان أول عمل أنجزته القيادة النبوية بدقة بارعة ، وإيجابية كاملة ، وبترشيد واعٍ ، هو إدراك طبيعة المشكلة ، التي كانت تعشش في النفسية الجاهلية ، وفي أعماق العالم الثقافي المعاصر للرسول صلى الله عليه و سلم . لقد أدركها عليه الصلاة والسلام بشكل مستوعب ، استوفى شروط التحديد المنهجي العميق، وهذا الأمر يتبدى لنا بجلاء في المواقف ، والسلوكيات ، التي كان يتخذها النبي في سياق ترشيده للعملية التغييرية ، وتعامله مع النفسيات ، والعقليات ، والثقافات، والمشكلات المطروحة عليه يومياً . لقد فهم عليه الصلاة والسلام مشكلة المجتمع المنهك عقيدياً ، وثقافياً، وأخلاقياً ، ودبياً ، وسلوكياً .. ففي أعماق الواقع الجاهلي الذي كان مخرباً من الوجهة العقائدية - مما سمح بانتشار عبادة الأوثان ، والأصنام ، والمعبودات الأرضية المتنوعة (إثنوية ، ثالثية ، تعددية) - ومنهاراً من الناحية الاجتماعية ، والثقافية ، التي فتحت الطريق لظهور الزنى ، واللهو ، وشرب الخمر ، وإيتاء المحرمات ، ووأد البنات ، والرق ، والعبودية ، كما أنه متحلل من الناحية السياسية التي جسدت ( العقلية الفرعونية). ومختل من الناحية الاقتصادية التي كرست ( الثقافة القارونية ) . ففي ظل هذا الوضع المتأزم ، كان الرسول صلى الله عليه و سلم يمارس عمليات الترشيد للعملية التغييرية ، ويتحرك بوعي لترسيخ معالم النموذج الحضاري الإسلامي

=============

# المنهج النبوي والنظرة الكلية للمشكلة

لقد قام النبي عليه الصلاة والسلام بمعاينة المريض الجاهلي ، وتشخيص أسقامه على مستويات متعددة ، نركز في هذه الدراسة على مستويين:

- المستوى الكوني ، أي مستوى الرؤية الكونية .

- والمستوى الاجتماعي ، أي مستوى المشروع الاجتماعي .

أولاً : الرؤية الكونية

لقد حدد النبي عليه الصلاة والسلام ، أزمة ( إنسان ما قبل الإسلام ) في مستواها الكوني عن طريق الوعي القرآني ، وأرجعها إلى ( مشكلة غياب الرؤية الكونية الصحيحة ) لقضايا الإنسان ، والكون ، والحياة ، وموضوع كل واحد منها وغاياته ، ووظائفه .

فلم يكن عليه الصلاة والسلام ، ليضع مكان المرض أعراضه ، ولا مكان الأعراض أسبابها ، ولا مكان الأسباب آثارها ، ولم يكن ليغير الواقع الاجتماعي المخرب ، قبل تغيير واقع أسبق منه منهجياً هو (الواقع النفسي) .. ولم يكن ليغير الواقع النفسي ، قبل امتلاك نموذج تربوي للتغيير ، يستقيه من ( مذهبية كونية).

فالنبي عليه الصلاة والسلام يتحرك في وسط بشري ، ولكنه موجه بتعاليم الوحي الأعلى ، الذي دوى صوته من لحظات اقرأ) العالمية التي نشرت صوت الرسالة الخاتمة . فتلك هي اللحظات التي طبعت وعي النبي صلى الله عليه و سلم للأشياء ، وحددت له وجهة التغيير ، ومنهجيته . كما صاغت فهمه للحوادث والأفكار ، وشيدت إدراكه للسنن الإلهية ، وفتحت له سبيل الرشاد ، والهداية . ومن هنا كانت حركته الترشيدية ، متصفة بالخصائص الثلاث ، التي أشرنا إليها في مدخل هذه الدراسة : الوعي المقاصدي ، والوعي البلاغي ، والوعي السنني . ففي سياق فهمه لطبيعة المرض على المستوى الكوني مثلاً ، رأى بأن المرض عقائدي متصل بأزمة غياب الرؤية الكونية الصحيحة ، التي تهدي نشاط الناس ، وتريهم الحق حقاً ، والباطل باطلاً ، وتسلك بطاقاتهم على طريق مشروع حضاري ، يخدم غاية تنفعهم في دنياهم وأخراهم.

فطبيعة الأزمة كونية ، وتصورية ، وهي نتاج لافتقاد النموذج الحياتي السليم ، والصحيح ، الذي يشكل للناس شرعة ، ومنهاجاً ، يحدد لهم معالم طريق الاستخلاف ، ويرسم لهم أبعاد المذهبية التوحيدية ، في مستوياتها الأربعة : الخالق سبحانه وتعالى ، والإنسان ، والكون ، والحياة.

فهذا الغياب للرؤية الكونية ، هو الذي أنتج (إنسان الفراغ الكوني) الذي لا يملك أجوبة مقنعة ، وصحيحة ، عن التساؤلات الكونية الكبرى ، التي لا تستقيم الحياة البشرية بدونها.

المعالم الكبرى للمذهبية التوحيدية

فالمذهبية التوحيدية التي غير بها رسول الإنسانية صلى الله عليه و سلم وجه التاريخ الجاهلي ، وبنى بها حضارة الإسلام السامقة ، تتشكل من منطلقات أساسية سنحاول إثباتها في هذا العنصر دون شرحها - وذلك بسبب طبيعة البحث ، ومنهجيته الحالية - وهي:

- التوحيد كأساس مفاهيمي ، وتشريعي ، ومعرفي.

- الإيمان والتصديق بوحدة بعث أنبياء ورسل لكل الأمم بدون استثناء ، قال تعالى: (وإن من أمة إلا خلا فيها نذير ) ( فاطر:24).

- ضرورة الإيمان والتصديق بالملائكة .

- ضرورة الإيمان والتصديق بوحدة مضمون البلاغ الرباني للناس كافة (عبادة الله ، وتعبيد الناس له).

- ضرورة الإيمان والتصديق بالوحدة المصدرية للبلاغ والوحي (المولى تبارك وتعالى).

- ضرورة الإيمان والتصديق بوحدة جهل الغيب الإلهي ، من قبل البشر.

- ضرورة الإيمان والتصديق بوحدة القضاء و القدر خيره و شره.

- ضرورة الإيمان والتصديق بوحدة نصرة الله للأنبياء والمرسلين ، ولعباده الصالحين.

- ضرورة الإيمان والتصديق بأن الأرض يرثها الصالحون.

- ضرورة الإيمان والتصديق بالوحدة المصدرية للخلق والكون والحياة (الله سبحانه وتعالى).

- ضرورة الإيمان والتصديق بالوحدة الابتدائية للخلق.

- ضرورة الإيمان والتصديق بالوحدة الهدفية للخلق (الاستخلاف) .

- ضرورة الإيمان والتصديق بالوحدة التشريعية للخلق (الله هو المشرع الحقيقي) .

- ضرورة الإيمان والتصديق بالوحدة التكريمية للإنسان (كل البشر بدون استثناء) .

- ضرورة الإيمان والتصديق بوحدة الفطرة ، والإرادة البشرية (في اختيار الخير والشر).

- ضرورة الإيمان والتصديق بوحدة المسؤولية الفردية للناس عن أعمالهم أمام الله سبحانه وتعالى.

- ضرورة الإيمان والتصديق بوحدة الرزق الإلهي للمخلوقات كافة.

- ضرورة الإيمان والتصديق بوحدة التسخير الكوني (الكون المادي) للناس كافة.

- ضرورة الإيمان والتصديق بوحدة التسخير السنني (الكون السنني) لكل البشر.

- ضرورة الإيمان والتصديق بالوحدة المصيرية للخلق ، (الموت والرجوع إلى المولى تبارك وتعالى).

- ضرورة الإيمان والتصديق بوحدة بعث الخلق بعد الموت.

- ضرورة الإيمان والتصديق بوحدة الحساب الإلهي ، للناس.

- ضرورة الإيمان والتصديق بوحدة الجزاء الإلهي ( الجنة والنار).

- ضرورة الإيمان والتصديق بوحدة العدل الإلهي.

ثانياً : الرؤية الاجتماعية:

عندما نتأمل المشكلة السابقة من منظور عالم اجتماعي ، تبرز لنا أحد الجوانب الأخرى للأزمة الجاهلية . الجانب الذي يصلنا مباشرة بعالم الممارسة اليومية ، والحركة الواقعية للإنسان الجاهلي في ظل الثقافة الجاهلية . الثقافة الأرضية العاجزة عن السمو إلى مستوى الوعي التوحيدي . فالظاهرة الجاهلية من هذه الزاوية ترسم لنا صورة أخرى ، من صور المأزق العقائدي ، الذي كان وراء محنة الجاهلية . فالإنسان هناك كان سلبياً لجملة من الأهداف كرس ذاته ، وحياته ، وطاقته ليحققها . فكل قدراته الذهنية ، والجسدية ، والمادية موجهة لخدمة هذه الغاية ، والدافع الأساس الذي كان وراء حركة الجاهلي ، والمبرر المعقول بالنسبة إليه ليتحرك بالشكل السلبي ، الذي أشرنا إليه ، وهو تلك الأهداف التي سنتعرف عليها من خلال هذين المثالين:

المثال الأول:

ففي مقالة جعفر بن ابي طالب للنجاشي في أعقاب حوادث الهجرة الأولى إلى الحبشة قال : (يا أيها الملك كنا قوما أهل جاهلية نعبد الأصنام ، ونأكل الميتة ، ونأتي الفواحش ، ونقطع الأرحام ، ونسيء الجوار ، ويأكل القوي الضعيف).

المثال الثاني:

في مقالة مبعوث الكفار عتبة بن ربيعة لرسول الله صلى الله عليه و سلم قال: (يا ابن أخي إذا كنت تريد بما جئت به من هذا مالاً ، جمعنا لك من أموالنا ، حتى تكون أكثرنا مالاً ، وإن كنت تريد به شرفاً سودناك علينا ، حتى لا نقطع دونك ، وإن كنت تريد به ملكا سودناك علينا) .

يبدو أن هذا البيان المختصر عن حالة المنطق الجاهلي ، يستطيع أن يقدم لنا على الأقل الصورة الأساسية لطبيعة الحياة الجاهلية ، وملامح فلسفتها الاجتماعية . فالبشر هناك من الوجهة الاجتماعية ، يعانون من خلل ، جعلهم رهائن (دائمين) لجملة من الأهداف السلبية ، التي لم تتح لهم فرصة تفتيق طاقاتهم ، وتسخيرها في خدمة رسالة معينة ، ترتفع قليلاً أو كثيراً عن الفلسفة الأرضية المغرقة في المادية ، والظلم الاجتماعي . لقد حصر الاجتماع الجاهلي نفسه في سجن (الاهتمامات البسيطة) المتوارثة ، عن أجيال الفراغ العقائدي . ويبدو كأن خلاصة أمراض الجاهلية الإنسانية ، وجدت لها مكاناً آمناً للتعشيش ، والبيض ، والتفريخ ، والنمو في ذات الجاهلي . فالجاهلي يقدم لنا أزمة مثلثية الشكل ، تشتمل على ثلاث زوايا :

- زاوية الهوى والاشتغال بالعرض الدنيوي الزائل.

- وزاوية عبادة الأصنام ، والإعراض عن الحق تبارك وتعالى.

- وزاوية الجمود العقلي (الآبائية) والركود الثقافي .

قال تعالى : (أرأيت من اتخذ إلهه هواه أفأنت تكون عليه وكيلاً )(الفرقان : 43)(أتعبدون ما تنحتون )(الصفات : 95).

ولو استعملنا اللغة الاجتماعية ، للتعبير عن الأزمة الجاهلية ، لوجدنا بأن هذه (الأهداف البسيطة) لا تقدم مشروعاً اجتماعياً متكاملاً ، لتوجيه الطاقة الحيوية للمجتمع ، كيما تتحرك على خط التحضر ، والتثقيف ، تبعاً لإيديولوجية معينة . ولهذا فالمجتمع الجاهلي ، انعدمت فيه الفعالية الحضارية ، وبالتالي فقد القدرة على التأثير في حوادث العالم ، التي كانت تمر بهدوء يخدر النائمين ، بعيداً عن كونه الجغرافي والفكري ، هناك في ديار الحضارة الفارسية ، والرومانية ، حيث كانت تصنع الظاهرة الحضارية ، استجابة لعقيدة تلك المجتمعات . وسوف نرى بعد مدة غير طويلة ، من تحرك النبي صلى الله عليه و سلم ، كيف أصبحت المنطقة السابقة ، محطة لبناء حضاري عظيم ، استقطب أنظار الحضارات القائمة ، وهد فيما بعد أركانها من الأساس.

إن الناس في المجمع الجاهلي ، كانوا يستبسلون في دوامة أهداف بسيطة ، دلّ (علم السير في الأرض) أنها هي التي أغرقت كل الحضارات القديمة ، تلك الحضارات التي كانت تقدس أشباه الأرباب الأرضيين، وخير مثال نسوقه هنا هو نموذج المجتمع الفرعوني القديم .. ونفس هذه النزعة سوف تهلك الفراعنة الجدد للعالم .. فراعنة (الاستعمار الديمقراطي) ، والمجتمع السوفياتي القديم المعاصر ، مثال آخر .. وتلك هي سنن الله في الاجتماع البشري.

إن الأهداف البسيطة لا تمتلك الروح الدافعة ، التي تخلق للناس اهتمامات ترتفع بهم فوق وجودهم الأرضي الزائل ، وتربطهم بالواقع الرباني المتسامي ، الذي يستلهمون منه (النفس الحضاري) الممكن في الأرض.

هكذا إذن وضعيه المجتمع الجاهلي ، التي امتدت في الحقيقة (أكثر من ألفي عام ، ابتداء من الجد الأكبر إسماعيل حتى محمد صلى الله عليه و سلم ، ولقد أثمر هذا التاريخ الطويل فناً غنياً ، وخلف تراثاً أدبياً رفيعاً لا نظير له من بين الأمم الأخرى ، وتلك هي القائمة التاريخية للمجتمع ، خلال هذه الحقبة من الزمان ، ولو استخدمنا لغة الاجتماع لقلنا : إن هذا كل ما أثمره المجتمع الجاهلي ، كثمرة لنشاط استقطب حول (الحاجة) و(المنفعة) ، وبذلك نلاحظ أولاً أن هذا المجتمع لم ينتج كثيراً ، مادام لم يخضع إلا لاتجاهات الحياة اليومية وقواعدها).

من هنا تشكلت الأمة الحقيقية للمجتمع الجاهلي في شقيها: الكوني والاجتماعي. ولكي تحل هذه الفاجعة الحضارية الكبرى ، يتطلب الأمر إحداث تغييرات جذرية في المجتمع الجاهلي ، ولن يتحقق هذا إلا بتغييرات جذرية في البناء الثقافي ، ولا يمكن تحصيل ذلك إلا بتغييرات جذرية في الإنسان ، ولا يمكن إجراء أي تعديل عقلي أو روحي أو سلوكي في حياة الإنسان ، إلا بعقيدة كونية معينة . وهذا هو العمل التاريخي الأساس ، الذي قام به رسول الإسلام صلى الله عليه و سلم.

==============

# المنهج النبوي في بناء الحضارة العالمية

النبي صلى الله عليه و سلم واجه قضية تركيب حضارة ، وبناء مجتمع انطلاقاً من واقع معين ، ولكي نفهمه بعمق ، علينا أن نتعرف على العناصر الأساسية التي ساهمت في تشكيل الظاهرة التغييرية الإسلامية، وهي:

- عالم العقيدة الإسلامية ، الذي أشرنا إلى جانب منه في التحليل السابق.

- المنهج النبوي في البناء الحضاري (مرتبط بالسنن ، وبمنهج السير في الأرض).

- الإنسان القديم بمواريثه ، وأمراضه الكونية ، والاجتماعية.

- المجتمع الجاهلي ، بثقافته ، وتاريخه ، ومؤسساته.

- الجماعة المؤسسة للعمل التغييري الإسلامي (الصحابة).

- القراءة (باسم ربك) كمعجزة حضارية ، وكمنهج تغييري.

فالقدرة على فهم هذه العناصر في سياقها الاجتماعي ، والعضوي ، هو الذي سيكشف لنا عن معالم المنهج النبوي ، في بناء الحضارة العالمية من خلال تقديمه لنموذج من نماذجها ، وهو المثل الكامل ، والقدوة الحضارية ، التي تمثل معيار البناء الحضاري الإسلامي.

فالمنهج النبوي في بناء النموذج الأول للحضارة العالمية ، ووضع برنامجها ، وتأسيس قواعدها ، وترسيم حدودها ، وصياغة منهجيتها ، وتحديد وجهتها ، وتعليم مقاصدها ، كان مبنياً على أصول الوحي الأعلى ، الذي أدار العملية التغييرية ، حول الإنسان كفرد ، وكمجتمع ، وكأمة ، وكإنسانية ، وعلى هذا فدراسة الظاهرة التغييرية النبوية ، هي دراسة في منهج بناء الإنسان ، بما في ذلك فلسفة هذا المنهج ، ومشروعه ، وغاياته ، ومقاصده ، وأدواته ، وشروطه ، وأساليبه ، ومنهجيته ..

ومن هنا فسنحاول الآن إثبات بعض الملاحظات عن المعالم الكبرى للمنهج النبوي في بناء الإنسان

=============

# المحاور الثلاثة للمنهج النبوي

إن المتتبع لحركة التغيير النبوي ، يجدها قد سارت بتوافق تام ، مع سنن البناء الاجتماعي ، التي ترافق دوماً ميلاد المجتمعات الحضارية في التاريخ ، أعني أن جهد النبي صلى الله عليه و سلم مر بمراحل (الإنشاء الحضاري) الثلاث ، والتي سبق وأن أشرنا إليها في فصل سابق وهي:

- مفصل الربط الحضاري للإنسان بالرؤية الكونية الإسلامية.

- مفصل التثقيف الحضاري للمجتمع على المشروع الاجتماعي.

- مفصل البناء الحضاري للرؤية والمشروع في شكل واقع ثقافي وعمراني..

إن التحليل الاجتماعي ، والاستقراء التاريخي ، لحركة التغيير الاجتماعي ، التي ترافق نماذج التغيير الخاضعة لتوجيه نموذج فكري ، قد دلا على أن العملية التغييرية تمر بهذه المفاصل ، مع اختلاف منهجي في طبيعة الواقع المستهدف بالتغيير ، من حيث الوسائل ، والأدوات ، والكيفيات ، والتوجيهات الاجتماعية ، تبعاً للرؤية الكونية ، والإمكان البشري ، والفكري ، والمادي . فالتغيير الذي أجرته الحركة المسيحية على المجتمع الأوروبي ، وأدخلته بذلك إلى العصر العالمي الراهن يشبه التغيير الحضاري الإسلامي ، الذي أدخل المجتمع الجاهلي إلى عالم الحضارات في مفاصل التغيير ، أي في أنهما معاً قد مرا بمفاصل الربط ، والتثقيف والبناء . ولكنهما اختلفا في الأسلوب ، والفلسفة ، والمفهومية ، والوسائل ، المنهجية . فالتغيير الحضاري المعاصر ، الذي تسعى الحركة الإسلامية ، والحركة المسيحية إلى تحقيقه ، سيمر بنفس المفاصل التغييرية الثلاثة : الربط ، والتثقيف ، والبناء ، ولكن مع اختلاف جوهري في الفلسفة ، والمنهج ، وكذلك في اختلاف الوسائل ، والأدوات ، والتقنيات ، والكيفيات ، إذا قرناها بما كان عليه الوضع في حركة التغيير الإسلامي ، والمسيحي الأولي . فالعصر العالمي الراهن أحدث تغيراً مهولاً في وسائل ، وتقنيات التغيير الاجتماعي ، تجب مراعاتها في أي تغيير جديد.

فالوعي الذي يجب أن تتمتع به القيادة التغييرية في حقل التغيير ، هو ضرورة علمها بأن عملية التغيير الحضاري في الطور الأول من أطوارها ، تشتمل على عوالم ثلاثة هي : عالم الربط الحضاري ، وعالم التثقيف الحضاري ، وعالم البناء الحضاري ، ولكل عالم من هذه العوالم شروطه ، ومتطلباته ، ومراحله ، ومناهجه ، ووسائله ، وأساليبه .. وكل إخلال بحاجة أي واحد منها ، سوف يؤدي إلى الفوضى ، والتصادم داخل الحركة التغييرية ، ناهيك عن مسارها الكلي ، وخاصة في المجتمع العالمي الراهن.

أولاً : المنهج النبوي وعالم الربط الحضاري

عملية الربط الحضاري للإنسان برؤية كونية معينة ، هي العمل التاريخي الأول في حركة التغيير الاجتماعي ، الهادفة إلى بناء ثقافة .. وعملية الربط أول ما تتحرك ، فإن وجهتها ، تكون نحو الإنسان ، إذ هو غايتها الأساسية ، وساحتها الكبرى.

ولهذ السبب كان التوجيه القرآني حاسماً في التنبيه على الساحة المركزية للتغيير الاجتماعي الأصيل ، وهي الساحة النفسية بمفهومها الشامل : قال تعالى: (إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم )(الرعد:11).

فهذه الآية تحدثت عن ضرورات خاصة بفهم الرؤية الكونية عموماً ، وتحدثت عن ضرورات خاصة بالمجتمع ، وسلوكه الاجتماعي (سلباً وإيجاباً) .. كما تحدثت عن ضرورات خاصة بالمنهج التغييري .. والذي يهمنا منها في هذا التحليل هو الشق الذي أشار إلى تغيير ما بالنفس ، والذي سنبحثه من وجهة نظر النموذج التغييري النبوي.

ففي مفصل الربط الحضاري ، جاهد الرسول صلى الله عليه و سلم من أجل (ربط) النفوس والعقول بالخطاب الإلهي ، وأتاح لها فرصة الاستجابة لتوجيهات الوحي الأعلى .

مفهوم الربط الحضاري :

إذا ما حاولنا البحث عن كلمة الربط ، ومشتقاتها من خلال النصوص القرآنية نجدها وردت في عدة مواضع هي: (وليربط على قلوبكم ويثبت به الأقدام ) (الأنفال : 11). (إن كادت لتبدي به لولا أن ربطنا على قلبها لتكون من المؤمنين )(القصص : 10). (وربطنا على قلوبهم إذ قاموا فقالوا ربنا رب السموات والأرض لن ندعوا من دونه إلهاً لقد قلنا إذاً شططا ) ( الكهف : 14 ). (يا أيها الذين آمنوا اصبروا وصابروا ورابطوا واتقوا الله لعلكم تفلحون )(آل عمران : 200). (وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم وآخرين من دونهم لا تعلمونهم الله يعلمهم وما تنفقوا من شيء في سبيل الله يوف إليكم وأنتم لا تظلمون )(الأنفال : 60).

ففي الآيات الأربع الأولى ، جاءت معبرة عن وضع ديناميكي حركي ، أي في صيغة الفعل الذي يؤدي إلى نتائج مثل : الثبيت على الحق ، والإيمان ، والإقرار بالربوبية ، والدعوة إلى الله الواحد القهار ، والحركة المستديمة في سبيل الحق تبارك وتعالى ، حيث اشارت الآيات الثلاث الأولى من الأربع ، إلى قضايا متعلقة بعالم القلوب ، والنفوس (ظاهرة نفسية) ، متعلقة بعلوم النفس ، أما الآية الرابعة فقد أشارت إلى قضية متصلة بالظاهرة الاجتماعية ، والتحرك في الواقع ، ومسك الثغور ، والساحات الجهادية المتنوعة

(المرابطة) .. وبعبارة أخرى ، الآية تشير إلى (عالم الحركة الاجتماعية) ، حيث علوم الاجتماع البشري.

أما الآية الخامسة ، فقد أشارت إلى وسيلة من وسائل المرابطة ، أي توجهت نحو (عالم الوسائل) (رباط) . ثم تحدثنا الآيات في مجموعها عن مقاصد ، وغايات ، ينشدها الإنسان ، وعن كيفية الوصول إليها ، وفي الإطار الكلي للآيات يقف المنهج التغييري ، الذي ترجعه إلى عالم النفوس ، وعالم المجتمع ، فهو منهج الربط الحضاري الذي يحتاج إلى البنيان البشري المرصوص ، الذي يرابط في سبيل إعلاء كلمة الله سبحانه وتعالى.

إننا لا نقصد هنا ، البحث عن المعنى اللغوي لكلمة ربط ، وإنما عن المضمون المنهجي ، والنفسي ، والاجتماعي ، والغائي لها . فلو أخذنا مثلاً وجهة نظر مفسر كابن كثير ، فإننا نعثر لديه عن فكرة مهمة في هذا المجال ، وهذه فقرة من تفسيره : (..وربطنا على قلوبهم إذ قاموا فقالوا : ربنا رب السموات والأرض ) يقول تعالى : وثبتناهم على مخالفة قومهم ، ومدينتهم ، ومفارقة ما كانوا فيه من العيش الرغيد والسعادة والنعمة ).

فالربط الذي نعنيه هنا هو الذي يتعامل مع القناعات الخالصة للبشر ، بدون ضغط ولا إكراه .. فهو الاقتناع الراسخ ، والارتباط الوثيق بفكرة معينة ، وهو كذلك دافع ذاتي في أعماق النفس الإنسانية ، بحيث يعطيها طاقة الالتزام الكامل بضرورات العيش ، تحت توجيه فكرة معينة .

فالارتباط بالشيء هو السلوك الناتج عن عمليات الربط للإنسان بعقيدة معينة ، وفق منهجيات تتطابق مع سنن الله في الربط الحضاري ، فهو من الوجهة النفسية ، حرارة ذاتية غلابة على طريق الفكرة ، وإيمان داخلي يخلق في الإنسان طاقة الإخلاص لها .. وهو من الوجهة الاجتماعية ، الموقف التاريخي الذي تأخذه جماعة تغييرية ما ، وبه تستجيب لمقتضيات الكفاح ، من أجل رسالة معينة ، وتنشط من أجل تحقيق مشروعها الاجتماعي .. وهو كذلك جو إنساني يتيح للجماعة بأن تتعلم قوانين العيش في جماعة حضارية.

الربط الحضاري في الجهد النبوي:

والنموذج النبوي في التغيير ، يعطينا صورة عميقة لظاهرة الربط الحضاري ، وخير دليل على صحة هذا الاعتقاد ، هو تتبع بعض العينات العملية من حياة الرسول صلى الله عليه و سلم وصحابته الكرام:

المثال الأول:

تأمل جيداً جواب النبي عليه الصلاة والسلام لكفار قريش ، وهم يحاورونه في بعض قضايا الدين ، وذلك باستعمال وسائلهم الخاصة التي تنتمي إلى الثقافة التقليدية: (وما جئت بما جئت به أطلب أموالكم ، ولا الشرف فيكم ، ولا أملك عليكم ، ولكن بعثني الله إليكم ، وأنزل علي كتاباً ، وأمرني أن أكون بشيراً ونذيراً فبلغتكم رسالات ربي ، ونصحت لكم ، فإن تقبلوا مني ما جئتكم به فهو حظكم في الدنيا والآخرة ، وإن تردوه على أصبر لأمر الله ، حتى يحكم بيني وبينكم ).

المثال الثاني:

تأمل كذلك مقالة جعفر بن أبي طالب للنجاشي ، وهو يشرح مباديء الإسلام حيث قال : ( فكنا على ذلك حتى بعث الله إلينا رسولاً منا ، نعرف نسبه ، وصدقه ، وأمانته ، وعفافه ، فدعانا إلى الله ، لنوحده ، ونعبده ، ونخلع ما كنا نعبد نحن وآباؤنا من دونه ، من الحجارة ، والأوثان ، وأمرنا بصدق الحديث وأداء الأمانة ، وصلة الرحم ، وحسن الجوار ، والكف عن المحارم ، والدماء ، وأمرنا أن نعبد الله وحده لا نشرك به شيئاً ، وأمرنا بالصلاة والزكاة ..).

إن أول ملاحظة يمكن تسجيلها على المثالين ، هي بداية ظهور منظومة جديدة من الأهداف ، وبوادر ثقافة، مازالت في حيز القوة ، ومعالم مشروع اجتماعي وليد ، بدأ يسجل حضوره التاريخي ، في عالم الآخرين، عن طريق نموذجه الكوني ، الذي انطلق في تلك اللحظات في صراع واسع النطاق مع الجاهلية القائمة بكل ألويتها القديمة.

فكلام النبي عليه الصلاة والسلام من جهة ، يبرز لنا معالم النموذج التوحيدي ، ويحدد مضامينه العامة ، على الأقل في المرحلة الدعوية الأولى ، ومن جهة أخرى يوضح لنا مهمته صلى الله عليه و سلم في هذه المرحلة التاريخية ، ثم يوضح لنا نتائج الاحتمالين الواردين : احتمال الرفض ، واحتمال القبول ، وجزاء كل واحد منهما.

أما كلام واحد من أصحابه الأوائل (مرتبط بالفكرة) فقد بين لنا العلامات البارزة على طريق المشروع الإسلامي الجديد ، وحدد بعض أبعاده الاجتماعية ، والتربوية ، والسلوكية . كما قدم لنا تقريراً موجزاً ، ووافياً عن شخصية الرسول صلى الله عليه و سلم فيها بعض جوانب أخلاقه ، وتاريخه.

إن هذه العينة مأخوذة عمداً من الفترة المكية ، لكي تبرز لنا بعض القضايا المتعلقة بالتغيير من مراحله الانطلاقية.

فالمرتبطون الجدد بالإسلام سيخضعون لعملية تربوية منهجية ، من قبل النبي عليه الصلاة والسلام ، وهذا هو في الحقيقة العمل التاريخي الأول ، الذي أنجزه صلى الله عليه و سلم ، حيث عمل على ربط الناس بالرؤية التوحيدية ، وبالتالي (بالأهداف الحضارية الكبرى) للإسلام كبديل عن الأهداف الصغرى والبسيطة للجاهلية القديمة ، بكل ما يحتاجه هذا العمل الحضاري الضخم من وسائل ، ومناهج ، وأساليب ، تتماشى وطبيعة الدين الجديد ، حيث فكرة المشروع وغير المشروع من الأدوات ، والسلوكات ، والمواقف ، واجبة المراعاة . وحيث ضرورة الانتقال بالدعوة من مرحلة إلى التي تليها ، ومن مستوى البيت ، والأسرة ، والعشيرة ، والقوم ، والمجتمع الجاهلي القديم ، إلى مستوى العالم أجمع ، حيث كانت المنهجية الأخيرة في دعوة النبي صلى الله عليه و سلم للحضارات القديمة جميعاً ، وإعلان عالمية الحضارة الإسلامية واقعياً.

لقد سعى صلى الله عليه و سلم عن طريق عمليات (الربط الحضاري) الأولى إلى بناء جماعة إسلامية قاعدية - (الصحابة) - على أساس النموذج الحضاري التوحيدي ، تلك الجماعة التي ستكون قائدة البناء الحضاري الإسلامي الأول ، والذائدة عن حمى الإسلام ، ورسالته ، ومشروعه . لقد كان جهد الرسول صلى الله عليه و سلم منظماً ، ومخططاً بواقعية ، وعلمية ، وتوازن .. يعمل بلا كلل ولا ملل ، يحذوه الأمل المشرق ، ويرافقه العزم والتصميم ، والإرادة ، والرغبة المتنامية ، وتوجهه الإرادة الإلهية عن طريق رسالة الوحي الأعلى ، الذي كان يتابع عن كثب أحداث الدعوة ، ومراحل نموها لحظة لحظة ، وموقفاً موقفاً ، يتابعها في تفاصيلها الظاهرة والباطنة..

عمليات الربط وشبكة العلاقات الاجتماعية

مرحلة الربط الأولى ، كانت حاسمة في حياة الدعوة بأكملها ، كانت حاسمة في حياة الدعوة بأكملها ، لدقتها وخطورتها ، لأنها كانت تواجه الجاهلية في أعز ما تملك .. تواجهها في أصنامها وفي دنياها المطلقة . وهذه المواجهة باللغة الاجتماعية ، تعني استقطاب عالم الأشخاص الذي كان ينتمي إلى المجتمع الجاهلي ، وربطه بالمجتمع الإسلامي الوليد ، وهذا الذي ظهر من خلال حركة النبي عليه الصلاة والسلام ، من أجل بناء قاعدة بشرية ، ترتبط بأهداف الإسلام الحضارية ، وتقتنع برسالة ومشروع هذه العقيدة الجديدة . فهذا العمل هو مخاطبة للعقول ، ومحاورة للأذهان ، والثقافات ، والتقاليد ، والعادات ، كيما تنتقل من طورها الجاهلي إلى طورها الإسلامي ، وذلك عن طريق عمليات الربط الحضاري . وهذا فعلاً ما أنجز في فترة قصيرة حيث وجدنا جماعة ، تشتمل ضمن صفوفها على مختلف شرائح المجتمع ، وطبقاتها ، بما فيها : السيد والعبد ، والعالم والأمي ، الغني والفقير ، الصبي والشيخ ، التاجر والفلاح ، الراعي والصانع ، الطبيب والعسكري .. فكل هؤلاء - ( نساءاً ورجالاً ) - أصبحوا موضوعات للدعوة ، والربط الحضاري، فهم الذين كانوا بمثابة الزاد الذي غذى جنين الحضارة الإسلامية ، وصنع تاريخها.

من هنا نستطيع أن نؤكد بأن الغاية الأساسية لعمليات الربط الحضاري ، هي : بناء شبكة علاقات رسالية ، يتواجد فيها : العالم ، والمعلِّم ، والمتعلم .. والداعي ، والمفكر ، والمثقف .. والصناعي ، والزراعي ، والحرفي .. والجمهور المسلم الواعي ، ويتحرك هؤلاء في تناسق ، وتناغم ، وانسجام من أجل تحقيق رسالتهم الحضارية ، ذلك لأن (أول عمل يؤديه مجتمع معين في طريق تغيير نفسه ، مشروط باكتمال هذه الشبكة من العلاقات ، وعلى هذا الأساس نستطيع أن نقرر : أن شبكة العلاقات ، هي العمل التاريخي الأول ، الذي يقوم به المجتمع ساعة ميلاده).

عمليات الربط وشبكة العلاقات النفسية

أما عندما ننظر إلى عمليات الربط من الوجهة النفسية ، فإننا نجدها عبارة عن جهود من أجل تحقيق غايتين في ذات الإنسان ، هما:

- عملية إفراغ للعقول من المواريث الجامدة ، والمعطلة ، وإخلاء للقلوب من مس الشياطين ، وهوس الملاعين !!

- عملية بناء للعقول بالقيم الحية ، والأفكار السليمة ، وتعمير للقلوب بالمبررات الدافعة ، والشحنات الإيمانية القوية..

وبعبارة أخرى : إفراغ الإنسان من كل المعطلات ، والمثبطات الفكرية ، والنفسية ، والسلوكية ، التي تعيق حركته الفاعلة في التاريخ ، وتكبل نظم الطاقة الحيوية لديه ، وتبددها خارج دوائر البناء الحضاري المستقيم على الطريقة وتزويده بالقيم، والمبررات الفاعلة التي تسلك بطاقته على طريق الخير ، والعمل الصالح وبعبارة أخرى عمليات الربط على الصعيد النفسي ، هي التي تخلق في ذات الإنسان جواً: (يجد الفرد نفسه فيه متخلياً عن عدد من الانعكاسات المنافية للنزعة الاجتماعية ، ليكسب مكانها أخرى أكثر توافقاً مع الحياة الاجتماعية ، وذلك هو تكييف الفرد .. فهو عملية تنحية ، تجعل الفرد لا يعبأ ببعض المثيرات ذات الطابع البدائي - كتلك الحمية التي كانت تعتري عرب الجاهلية ، وتدفعهم إلى الأخذ بالثأر - وهو عملية انتقاء ، وإحساس ، تجعل الفرد قابلاً لمثيرات ذات طابع أكثر سمواً .. طابع أخلاقي ، جمالي مثلاً).

مثال من السيرة النبوية

لنتتبع هذا المثال التوضيحي .. فجعفر بن أبي طالب ، لما أجاب النجاشي ، قال له:

- ( كنا قوماً أهل جاهلية ، نعبد الأصنام ، ونأكل الميتة ، ونأتي الفواحش ، ونقطع الأرحام ، ونسيء الجوار .. ) فهذه هي مجموعة المواريث ، المعطلة للطاقة البشرية .. ثم واصل كلمته قائلاً:

- ( فدعانا إلى الله لنوحده ، ونعبده ، ونخلع ما كنا نعبد نحن وآباؤنا من دونه .. ) وهذه هي مجموعة الأهداف ، والمبررات الجديدة ، التي تمثل مصدر الطاقة الجديدة . ثم يضيف مؤكداً :

- ( فصدقناه وآمنا به ، واتبعناه على ما جاء به من الله ، فعبدنا الله وحده ، فلم نشرك به ، وحرمنا ما حرم الله علينا ، وأحللنا ما أحل ..).. فالدلالة واضحة هنا على تمام عمليات الربط الحضاري ، بشكل مستوف للشروط ، وذلك على صعيد العينات الفردية ، التي ستتحول فيما بعد إلى مجتمع حضاري هو ( مجتمع المدينة).

قال تعالى: ( وألف بين قلوبهم لو أنفقت ما في الأرض جميعاً ما ألفت بين قلوبهم ولكن الله ألف بينهم إنه عزيز حكيم )(الأنفال:63).

إن التحول الذي أحدثه الرسول صلى الله عليه و سلم في نفسية صحابته الكرام ، هو الذي يفسر لنا فيما بعد ، قدرة هذا المجتمع على (المرابطة الحضارية) ، والعطاء الإنساني الكبير ، في مختلف حقول المعرفة البشرية..

لقد مارس الرسول صلى الله عليه و سلم عمليات الربط الحضاري ، على مستوييها : النفسي ، والاجتماعي ، وحقق فيها أعلى مستويات الإتقان المنهجي والثقافي ، وترك لنا نموذجاً لبناء حضاري عالمي شامخ ، بمقدوره أن يقدم لنا ( الهداية الحضارية ) كلما استدعيناه بوعي ، وفهمناه بعمق .

العصر العالمي والربط الحضاري

إننا نريد اليوم ، ونحن على مشارف القرن الواحد والعشرين ، أن ننجز عملية تغييرية حضارية في مستوى القرآن الكريم ، والسنة النبوية . ففي ظل قرن الحضارة العالمية ، يطرح سؤال مهم هو:

كيف نربط الناس بالإسلام ، وبمشروعه الحضاري من جديد؟

وأمام هذا التساؤل ، فإننا مضطرين إلى تحديد صورة عامة ، عن طبيعة عمليات الربط الحضاري ، ومتطلباتها الأساسية ، مرجئين منهجية الربط ، وكيفياته ، إلى حينه . فلكي تتم عمليات الربط الحضاري ، بشكل مستوف للشروط ، نحن بحاجة إلى:

- السعي إلى بناء شبكة علاقات اجتماعية في كل مجتمع من المجتمعات الإسلامية القائمة ، كمرحلة ضرورية على طريق بناء شبكة العلاقات الحضارية للأمة من جديد ، وذلك من خلال التحرك على مستوى : الإنسان ، والمجتمع ، والإنسانية .. والاستفادة من التعاطف العالمي مع الإسلام ، من قبل من لم تمسخ الحضارة الغربية فطرتهم الخيرة.

- بناء وعي مستوعب على الواقع الاجتماعي الفردي ، والجماعي المحلي ، والعالمي ، على اعتبار أن هذا الواقع سوف يخاطب بالأهداف الحضارية الكبرى للإسلام.

- تشكيل وعي عميق على الرؤية التوحيدية ، ومشروعها الحضاري البديل وضوابطها الشرعية ، ونواظمها الثقافية ، والمعرفية ، والأخلاقية ، وضماناتها ووعودها.

- امتلاك منهج للعمل التغييري الذي سوف يجدد الوسائل ، والأولويات ، والمراحل ، والأوقات التي ينفذ فيها الفعل التغييري ، كما تعرف فيه أساليب التغيير في مرحة الربط الحضاري ، ومنهجياته النظرية والعملية ، وإجراءاته التربوية ، والاستثنائية . فبدون منهج واضح المعالم ، والخطوات ، والأهداف ، والسياسات ، قد لا تصمد الحركة التغييرية أمام ابتلاءات الواقع العالمي الداهمة!؟

وفي نفس المفصل التغييري سوف تكون الحركة التغييرية مطالبة بوضع مخططات ، وبرامج للربط الحضاري على المستوى الفردي ، والجماعي ، والإنساني ، وعلى الصعيدين المحلي والعالمي ، والانطلاق الفعلي في طرح الرؤية الإسلامية ، وعرضها على المجتمعات ، وهنا تنشأ ضرورة التخصص في الفعل التغييري من خلال إنشاء المؤسسات التغييرية لعالم الربط الحضاري والتي منها:

- مؤسسات إعداد ، وانتاج مناهج عرض الرؤية ، والضمانات ، بالأسلوب الأمثل ، الذي أثر عن النبي عليه الصلاة والسلام والصحابة الكرام (الجدل الأحسن) و(التيسير المخفف) .. وهنا تعد المشاريع التربوية بالمفهوم الشمولي حتى تصبح تربية اجتماعية ، تطول كل شرائح المجتمع ، وفي كل مؤسساته المتنوعة ، مع مراعاة توزيع الخريطة الثقافية ، والجغرافية للناس ، وقدراتهم ، واستعداداتهم ، كما أشرنا في البداية ، فالعامة موضوع ، والجماهير موضوع ، والمثقفون موضوع ، والمفكرون موضوع ، والمهنيون موضوع ، والسياسيون موضوع ، والتجار والأغنياء موضوع .. إلخ ، وكل موضوع من هذه الموضوعات يحتاج إلى فهم معادلته ، والأسلوب الأمثل في التعامل مع قضاياه ، ومتطلباته.

- مؤسسات ممارسة الدعوة ، وتخريج الدعاة الربانيين ، وإنتاج منهجيات البلاغ المبين.

- مؤسسات توزيع ، ونشر الأفكار ، وتبادل الخبرات .

- مؤسسات المتابعة ، والمراقبة ، والتقويم المتنامي للأشخاص ، والأشياء ، والأفكار .

- مؤسسات تنمية الإمكان المادي ، والوسائلي ، والخبرات الاستخدامية للأدوات .

كما أن كل مؤسسة من هذه المؤسسات وغيرها ، تقتضي تفريعات ، وتخصصات ، فمثلاً في مؤسسات إعداد ، وإنتاج مناهج عرض الرؤية ، والرسالة نحتاج إلى :

- قسم التوجيه وإنتاج المنهجيات الدعوية .

- قسم التوجيه المعرفي للعلوم الاجتماعية ، والسلوكية ، والكونية عموماً .

- قسم تصنيف احتياجات الدعوة على صعيد الأفراد ، والأسر ، والجماعات ، والدول ، والمجتمعات ، والأمم ، والإنسانية..

- قسم هندسة عالم الأشخاص ، وتسيير الجهاز البشري للحركة التغييرية ، بعيداً عن منطق الإدارات ، والبيروقراطيات المريضة ، بل في إدارات أخرى هي إدارات الجرح والتعديل ، وعلم الرجال .. إلخ .

- قسم متابعة الحركة التربوية ، والتكوينية للمرتبطين بالرسالة ، والإجابة عن تساؤلاتهم ، وتنمية صلاتهم بالفكرة.

هكذا إذن تتعقد العملية التغييرية ، وتتعقد العمليات في مفصل الربط الحضاري ، كلما تطور العقل البشري ، ونما نضجه الفكري ، والنفسي ، وكلما تحسن النمو العقلي والنفسي للناس ، كلما حقق الإسلام مقاصده المنشودة ، لأن الإسلام يحب العمل تحت سيادة منطق الحوار ، والإقناع ، والجدل الحسن ، ويمج منطق التزييف ، والغموض ، والقهر.

فالتغيير الحضاري لم يعد مجرد تكديس للأعمال والبشر ، بل أصبح هندسة حضارية عالية للمجتمع ، وطاقاته ، تتطلب المزيد من الوعي والفهم والخبرة .

ثانياً : النبوي وعالم التثقيف الحضاري

إن الحركة التغييرية وهي تتفاعل مع مشكلات الواقع ، وهمومه ، سوف تضطر إلى استيعاب متطلبات المجتمع ، والسماع لخطابه ، وحاجاته التي يرفع صوتها الناس من كل توجه ، وتيار ، وحزب . فمن الناس ، من مشكلاتهم عقلية ، ومنهم من مشكلاتهم نفسية ، أو أخلاقية ، أو تربوية ، ومنهم من مشكلاتهم معاشية أو مادية ، ومنهم من مشكلاتهم عصبية أو قبلية .. ومنهم من يطالب بسيادة منطق الفوضى ، ومنهم الحاقدون ، والمغرضون .. ومنهم من يجادل على صعيد الفكر والعلم، ومنهم المجادل على صعيد المنهج ، والمشروع .. ومنهم من يطالب بالبدائل ، ومنهم من يطالب بالمعجزات الخارقة ، ومنهم من يريد الخير للإسلام ، ولكن أسلوبه يسيء إلى الإسلام ، ومنهم من يريد الشر للإسلام ولكن يخدمه من حيث لا يعلم .. والخلاصة هي : أن في المجتمع حياة ، وديناميكية ، وخير ، وشر . والحركة التغييرية الحية ، هي التي تفهم حركية المجتمع ، وتسعى إلى معرفة همومه ، واحتياجاته في كل لحظة ، وآن ، كيما تتمكن من استيعابه ، وتقديم الخير له بدون إكراه ، ولا تكليف بما لا يطاق.

كما أن الحركة التغييرية سوف تواجه من قبل عالم أشخاصها ، وما يطرحه من تناقضات ، وأمراض ، وظروف متعلقة بثقافات الناس القديمة ، تلك التي ستدخل إلى الحركة التغييرية ، عن طريق العمليات الجارية في مفصل الربط الحضاري . ولكي تستجيب الحركة التغييرية بوعي ، لكل هذه المتطلبات وغيرها ، مما يعرفه أصحاب القضية ، فهي مضطرة منهجياً إلى فتح المفصل الثاني ، من مفاصل التغيير ، وهو مفصل ( التثقيف الحضاري).

مفهوم التثقيف الحضاري

إنه بمثابة المرحلة الوسيطة التي تتخصب فيها المشاريع ، وتنمو فيها الخبرة باستمرار ، وتتوجه نحو الواقع رويداً رويداً ، وذلك بعد أن تتم عملية بناء المشروع التغييري ، على الصعيد النظري ، أي مستوى النفوس ، والعقول ، التي تمارس عليها عمليات التثقيف ، التي ستؤهلها للعيش في ظل ظروف الواقع المعيش ، وفيها كذلك تعد مناهج تطبيق مشروع الإصلاح الاجتماعي.

إنها مرحلة حاسمة حقاً ، لأنها هي التي تصل الوعي النظري بالوعي الواقعي ، وتربط بين المباديء النظرية ، والمؤسسات الميدانية ، وتؤلف بين الرؤية الكونية ومشروعها العملي ، وبين إنسان النظرية الذي يكون في مؤسسات الربط الحضاري ، وبين إنسان التطبيق الميداني ، الذي يباشر عمليات الإنجاز . فهي مرحلة لازمة لاكتمال نمو الأفكار ، ونضج الطروحات ، وترسيخ القيم والمباديء ، وتجذر الاقتناع بالرسالة وبمشروعها.

فهي الجسر الذي يربط بين عالم ظهور الفكرة ، وبداية ارتباط الناس بها ، وعالم تجسيدها ، وبنائها الموضوعي ، وبين أزمة ما قبل الربط الحضاري ، التي يعيشها الإنسان والمجتمع ، وعالم ما بعد التثقيف الحضاري ، الذي يصير فيه الإنسان والمجتمع على استعداد تام ، ليعيشا في ظل الواقع الذي قاما لإنجازه .

وبعبارة أخرى : إنها مرحلة تعمير العقول ، وتنوير القلوب ، وتزكية النفوس ، واكتساب القدرة على البناء ، والعلاج لمشكلات المجتمع ، وصياغة المناهج الكفيلة بتقديم البدائل العملية للواقع المتأزم . والتثقيف الحضاري للإنسان ، وعملية تكوين الخبرات ، تحتاج إلى شروط ، وموجبات ، ومنهجيات ، ومؤسسات ، تماماً كما كان الحال في مفصل الربط الحضاري.

المنهج النبوي والتثقيف الحضاري

النموذج النبوي يعطينا صورة حية عن هذا المفصل ، من مفاصل التغيير ، وهذا ما تدل عليه توجيهات النبي عليه الصلاة والسلام ، المتعلقة بحثه على العلم ، والتجربة الواقعية ، والتفقه في دين الله ، وكذلك في عملياته التربوية التي ثقف بها المجتمع الإسلامي الأول ، وساعد الإنسان ليفهم بعمق رسالته ، ومشروعه ، والبدائل التي يجب تقديمها ، لحل أزمات مجتمعه . ومن الأهمية بمكان أن نثبت هنا بعض النماذج من حياته صلى الله عليه و سلم وحياة صحابته الكرام ، كمنتوج لعمليات التثقيف التي مارسها في مراحل الدعوة الأولى.

النموذج الأول:

تأمل جيداً جواب النبي عليه الصلاة والسلام لعمه أبي طالب ، عندما قدم له مقترحات قريش لإغرائه ، وصرفه عن دعوته حيث قال: (ياعم ، والله لو وضعوا الشمس في يميني ، والقمر في يساري ، على أن أترك هذا الأمر ، حتى يظهره الله ، أو أهلك فيه ، ما تركته ).

في هذا النموذج الرائع ، لم يترك النبي عليه الصلاة والسلام ، أي مجال للشك في ارتباطه الوثيق ، وإيمانه الجازم ، بالأهداف الحضارية الكبرى للإسلام ، فقد وضع عليه الصلاة والسلام وعيه ، بين حدي العمل المنتج ، وهما أن يظهر الله هذا الدين ، أو يهلك دونه ، وهذا فهم عميق لرسالة الإسلام ، وقدرة كبيرة على توجيه المشكلات ، وحل المعضلات ، لصالح مسار الدعوة الأصيل ، فهو هنا لم يقدم فقط موقفاً رافضاً لما هو مطروح عليه من استفسارات ، بل وضح منهجهاً في التعامل مع المشكلات ، التي تتصل بقضية الاعتقاد ، والإيمان بالأفكار ، والتعامل مع أعدائها المغرضين.

فالنبي عليه الصلاة والسلام ، قد نفذ بوعيه ، وإدراكه للفكرة التوحيدية ، من مجال الوعي البشري العادي ، إلى مجال الوعي المتسامي ، والمتجه نحو المولى تبارك وتعالى ، وليتحرك في الواقع بنور الله ، وهدايته .

النموذج الثاني:

أنظر إلى موقف أبي بكر الصديق رضي الله عنه ، من أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم الذين لحقهم أذى المجتمع الجاهلي ، عندما قال له والده أبو قحافة: ( يا بني إني أراك ، تعتق رقاباً ضعافاً ، فلو أنك ما فعلت ، أعتقت رجالاً جلداً يمنعونك ، ويقومون دونك؟ فقال أبو بكر : يا أبت إني ، إنما أريد ما أريد لله عز وجل ).

إن هذا الموقف من الخليفة الإسلامي الأول ، فيما بعد ، يعبر عن وعي بصير على الأهداف الحضارية الكبرى للأمة , ولنموذجها التوحيدي ، رغم أن هذا الموقف كان في المرحلة الأولى للدعوة .. فعلى الرغم من معقولية كلام والده وخاصة من المنطق القديم لكن جوابه كان واضحاً وحاسماً ، لأنه يعرف بأن هؤلاء الضعفاء هم إسمنت البناء الحضاري .. وهذا الموقف هو الذي صدقه التاريخ الإسلامي فيما بعد .

النموذج الثالث :

ويعبر عن الوعي التثقيفي ، والتربوي العميق لدى النبي عليه الصلاة والسلام ، وتحكمه الجيد في حركة التوعية على منهجية العمل الإسلامي ، وفهمه لمراحلها ، ومتطلباتها . ففي إطار التدريب التربوي لأصحابه ، رأي ( رسول الله صلى الله عليه و سلم ما يصيب أصحابه من البلاء ، وما هو فيه من العافية ، بمكانة من الله ثم من عمه أبي طالب ، وأنه لا يقدر على أن يمنعهم مما هم فيه من البلاء ، قال لهم : لو خرجتم إلى أرض الحبشة ، فإن بها ملكاً لا يظلم عنده أحد ، وهي أرض صدق ، حتى يجعل الله لكم مخرجاً مما أنتم فيه ).

النموذج الرابع:

في هذا النموذج يرسم لنا النبي عليه الصلاة والسلام منهجاً أصيلاً من مناهج الدعوات ، وذلك باستخدامه منهج السير في الأرض ، والنظر في سنن الذين خلوا ، من أجل تثقيف أصحابه على منهج البناء الحضاري . فعن خباب بن الأرت رضي الله تعالى عنه ، أنه قال: ( شكونا إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم وهو متوسد بردة له في ظل الكعبة فقلنا : ألا تستنصر لنا؟ ألا تدعو لنا؟ فقال صلى الله عليه و سلم: قد كان من قبلكم ، يؤخذ الرجل ، فيحفر له في الأرض ، فيجعل فيها ، ثم يؤتى بالمنشار فيوضع على رأسه ، فيجعل نصفين ، ويمشط بأمشاط الحديد ما دون لحمه ، وعظمه ، ما يصده ذلك عن دينه .. والله ليتمن الله هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضر موت لا يخاف إلا الله والذئب على غنمه ، ولكنكم تستعجلون ).

إن هذا الوعي البصير ، هو الذي حافظ على حركة التغيير الإسلامي ، ومكنها من المواجهة ، والمراجعة الناجحة ، والنمو الإيجابي ، الخاضع لسنن الله في الخلق .. ومن المهم هنا أن نعرف أمرين أساسيين:

الأول : ( أن الرسول صلوات الله عليه لما أخذ المسلمون عنه دينهم ، كان وازعهم فيه من أنفسهم ، لما تلي عليهم من الترغيب والترهيب ، ولم يكن بتعليم صناعي ، ولا تأديب تعليمي ، وإنما هي أحكام الدين ، وآدابه المتلقاة نقلاً ، يأخذون أنفسهم بها ، بما رسخ فيهم من عقائد الإيمان والتصديق).

ثانياً : ومن هنا ، فإن عمليات الربط الحضاري ، والتثقيف الحضاري ، كأنتا متلازمتين في النموذج التغييري النبوي ، وهذا ما انتبه إليه مالك بن نبي رحمه الله بذكاء حيث قال: (إلا أن الحضارة الإسلامية قد جاءت بالتحديدين مرة واحدة ، وصدرت فيهما عن القرآن الكريم الذي نفى الأفكار الجاهلية البالية ، ثم رسم طريق الفكرة الإسلامية الصافية التي تخطط للمستقبل بطريقة إيجابية).

التثقيف الحضاري والعصر العالمي

فكما أشرنا في موضوع الربط الحضاري ، أنه يقتضي وعياً على التطورات الراهنة للبشرية ، فإن نفس الشيء يستدعيه فهم مفصل التثقيف الحضاري .. ولكي نفهم النموذج التغييري الإسلامي ، في:

- رؤيته ، ورسالته ، ومشروعه ،

- ومنهج تطبيقه ،

- ومنهج المحافظة عليه ،

- ومنهج توريثه للاجيال،

- وفي منهج استمراره وتواصله ،

علينا أن نعي بأن هذا المفصل بحاجة إلى شروط ، ومنهجيات ، ووسائل ، وأدوات ، نذكر منها ضرورات قيام مؤسسات ، من أجل:

- استقبال منتجات عالم الربط ، من أفكار ، وأشياء ، وأشخاص ، وتساؤلات ، ومشكلات تحتاج إلى حلول.

- تأهيل الأفراد في مجال الوعي بالمشروع الاجتماعي ، والبديل الإسلامي .

- تكوين الإنسان منهجياً ، ومعرفياً ، وروحياً ، وسلوكياً ، وتأهيله ليتطابق مع نموذجه .

- تشكيل القدرات الإنجازية لدى الأفراد ، والجماعات .

- الصياغة المشروعية ، والتنفيذية لنظم النموذج الإسلامي ، القانونية ، والتشريعية ، والاجتماعية ، والاقتصادية ، والسياسية .. إلخ .

ولكي تقوم مؤسسات التثقيف بهذه الوظائف وغيرها ، فهي بحاجة إلى ما يلي:

- إنشاء مؤسسات للفكر ، والمعرفة ، تقوم بإعداد مشاريع ، ومنهجيات التثقيف .

- إنشاء مؤسسات للاتصال بين عالم الربط الحضاري ، وعالم التثقيف الحضاري ، بغرض مفصلة العمل التغييري ، وربطه ببعضه بعضاً ، في وحدة عضوية متكاملة .

- مؤسسات التوجيه ، والتقويم ،

- مؤسسات توزيع ونشر المشاريع ، والمخططات ، وتطبيقها على الأفراد والجماعات .

- مؤسسات استثمار الأفكار ، والأشخاص ، وتوليد الطاقة الحيوية ، والبدائل الضرورية.

من هنا تظهر لنا أهمية هذا المفصل التغييري ، كمرحلة وسيطة لازمة ، تعود إليها الكلمة في نجاح المشاريع أو فشلها ، وفي تزويد حركة التغيير بالأفكار ، والمناهج في كل أطوارها السابقة واللاحقة ، كما سنلاحظ بعد قليل ، إن شاء الله.

ثالثاً : المنهج النبوي وعالم البناء الحضاري

هل يمكننا القول : بأن العملية التغييرية قد اكتملت ، إذا توفر الشرطان السابقان ، وهما:

- طرح المذهبية التوحيدية على المجتمع ، ومحاولة ربط الناس بها،

- تثقيف الناس على مشروعها الاجتماعي؟

في الحقيقة ، يعتبر الشرطان السابقان ، من الركائز الأساسية في أي عملية تغييرية ، مهما كانت طبيعتها (مادية أو أخلاقية) ، ولكنهما غير كافيين ما لم ينزلا إلى أرض الواقع ، كتشريعات ، وسلوكيات ، ومواقف يومية ، تجسد المضمون الاجتماعي ، للرسالة المتبناة . إذ يعتبر الواقع ، في هذه الحالة بماثبة التحدي الحقيقي الذي يواجه عمليات الربط ، والتثقيف .ففيه تتأكد المصداقية الاجتماعية للفكرة ، ولمشروعها ، وتتأكد فيه الاستقامة ، والصواب ، والعاقبة.

وعلى هذا الأساس ، تضطر الحركة التغييرية ، وقيادتها ، إلى الانتقال إلى المفصل الثالث من مفاصل التغيير في إطار الاطراد العام للعملية التغييرية بأكملها ، وهو مفصل (البناء الحضاري) . وفيه تنزع الحركة إلى الواقع ، وساحاته المتنوعة ، لتطبق مضامينها ، وتنظر لحركة المجتمع اليومية ، وتقدم الأفكار العملية .. فهي مرحلة إرساء مؤسسات الميدان المتعلقة بـ :

- توفير شروط العبادة ،

- وشروط الإعمار ، والانتشار في الأرض ،

- وشروط الإنقاذ للناس ، من الظلمات إلى النور ،

- والتعارف بين الثقافات والمجتمعات ، على أساس نظرية (التقوى).

ففي هذه المرحلة ، تبنى قدرة الحركة الأدائية ، والعملية . فبعد أن كانت في عالمي الربط ، والتثقيف ، قدره نظرية ، تصبح في هذا المفصل ، قدرة عملية ، فهي مرحلة (الوعي الواقعي البناء) ، والتفاعل مع سنن الله في الذكر ، والأنفس ، والكون ، واقعياً ، استجابة للرؤية التوحيدية ، بغرض تحقيق مقاصد الشارع في الخلق ، وتثبيت ، وحفظ حقوق الدين ، والنفس ، والعقل ، والمال ، والنسل ، والكون.

فهو نقل للنظرية الحضارية ، ومشروعها ، إلى أرض الواقع ، وتحويل الوعي إلى قيم سلوكية ، ومواقف ميدانية منظمة ، تدخل في اطراد تسيير المجتمع.

جهد النبي والبناء الحضاري:

ففي سياق تتبع النموذج التغييري النبوي ، نجده قد مر بمفاصل التغيير الثلاثة:

- مفصل الربط الحضاري.

- مفصل التثقيف الحضاري.

- مفصل البناء الحضاري.

فمن الوجهة التاريخية ، نجد أن مفصل الربط الحضاري، قد امتد خلال الفترة المكية، مع التنبيه إلى ذلك التلازم الرائع ، بينه وبين مفصل التثقيف الحضاري ، كما أشرنا سابقاً .. أما مفصل البناء الحضاري ، فقد أعقب هاتين المرحلتين مباشرة ، حيث انطلق واقعياً من هجرة الرسول صلى الله عليه و سلم إلى المدينة المنورة ، مهد الحضارة الإسلامية الأولى ، وفيها بدأ في الترتيبات العملية لبناء المجتمع الإسلامي، وترسيم معالمه ، وحدوده السياسية والجغرافية ، وتشكيل مؤسساته الدينية والاقتصادية ، والدعوية ، والجهادية.

ثم تحرك النبي بعد عملية الترسيم الأولى ، إلى إكمال عمليات الربط والثقيف والبناء ، في مستويات أخرى من العملية التغييرية ، وفي ساحات جغرافية ، وثقافية أخرى ، حيث الدوائر المحلية ، والدولية ، والعالمية . وفي هذه المراحل بالذات انخرط الصحابة الكرام في عملية بناء واسعة النطاق ، طالت كل العالم الإسلامي القديم ، الذي وصله الدين الحق ، عن طريق الدعاة الفاتحين .

البناء الحضاري والعصر العالمي:

إن طبيعة البناء الحضاري أصبحت اليوم ، ونحن على مشارف العصر العالمي ، معقدة للغاية . ولذا فحاجتها ماسة جداً إلى الفعل المنهجي المنظم ، وإلى الوسيلة الكفأة ، والمناسبة ، والمشروعة ، وإلى الأسلوب الأمثل والفعال.

فلهذه المرحلة التغييرية موجباتها ، وشروطها ، ووسائلها ، ومنهجياتها .. ومن بين وظائفها الأساسية :

- استقبال منتجات مفصلي الربط والتثقيف من أشخاص ، وأشياء ، وأفكار ثم تزويد هذه المفاصل بما تحتاجه من متطلبات ، ولوازم،

- بناء مؤسسات توجيه طاقات الأفراد ، والجماعات ، ومساعدتها على ممارسة أدوارها الاجتماعية .

- بناء مؤسسات لحماية المنجزات ، والمحافظة على الحركة التغييرية ، وخطها الفكري الأصيل .

- بناء مؤسسات الربط بين أجيال المجتمع ، وتوريث الرسالة والمشروع ، من خلال إرساء مناهج الاستمرار الحضاري

==============

# المنهج النبوي وبناء إنسان الاستخلاف

إننا عندما نتأمل الجهد النبوي ، نجده فعلاً انصب حول بناء هذا الإنسان النموذجي بمختلف صوره .. حيث وجدنا الرسول صلى الله عليه و سلم وفر الجو الملائم لبناء الإنسان الخليفة ، والداعية ، والعالم ، والمبّلغ ، والعسكري والسياسي ، والمجاهد ، والقاضي ، والتاجر ، والفيلسوف ، والمترجم ، والطبيب ، والمالي ، والجمهور المسلم الواعي ، الذي يدافع عن الإسلام ، ويذود عنه في ساعات الخطر الداهم ، كما كان الحال في حروب الردة ، وفي الهجمة التتارية على العالم الإسلامي . وهذا الإنسان المنسجم مع الخطاب الإلهي ، هو الذي بنى المجتمع الإسلامي العادل .. وشيد ثقافته الحضارية التوحيدية..

إن إنسان الاستخلاف هو الإنسان ، الذي يتطابق مع الخطاب الإلهي ، ويستجيب لنداء الإسلام ، ويمارس وظائفه الأساسية في : العبادة ، والإعمار ، والإنقاذ ، والتعارف ، ويسعى دوماً إلى إيجاد الشروط التي تأهله لتقديم الإسلام للناس ، وتوفير الوسط الذي تعيش فيه تعاليمه ، وتشريعاته ، وتسمو فيه ذات الإنسان ، وتتكرم ، وتتصارع فيه الحسنة مع السيئة ، فتغلبها الحسنة.

إن إنسان الاستخلاف الذي شاده النبي عليه الصلاة والسلام ، هو من هذاا لطراز الذي دفع بمشروع الإسلام إلى عالم الحضارة ، حيث رابط هذا المجتمع في التاريخ أكثر من عشرة قرون كاملة .. ساهم خلالها في إثراء مسيرة الإنسانية بالعلم ، والمنجزات الحضارية المتنوعة ، التي ساعدت في وقت لاحق ، الكثير من الأمم لتعيد بناء ذاتها الحضارية ، مثل الأمة المسيحية.

فإنسان الاستخلاف هو الذي دفع بالمجتمع الإسلامي الوليد إلى عالم (الابتغاء الحضاري) ، وعندما توقفت رسالة هذا الإنسان ، ولم تستطع الأجيال المتعاقبة تجديد العهد بهذه النوعية من البشرية الراقية ، نزل المجتمع إلى مستوى دون المستوى الأول .. وتغير الإنسان غير الإنسان الأول ، وجاء (إنسان التولي الحضاري) الذي فتح عهد (التخلف الحضاري) في المجتمع الإسلامي.

إنسان المنهج النبوي

إن المنهج النبوي وهو يتحرك لبناء المشروع القرآني ، انطلاقاً من بناء الإنسان ، يضع في اعتباره نموذج هذا الإنسان ، الذي يفترض فيه التأهل لحمل أعباء الاستخلاف في الأرض .

فإنسان السنة النبوية ، مسؤول في كل ساحة يتواجد فيها (كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته ) ومجد في النهي عن المنكر ، والأمر بالمعروف ، طبقاً لسنن الدعوات ، وقوانين البلاغ المبين: (من رأى منكم منكراً فليغيره بيده ، فإن لم يستطع فبلسانه ، فإن لم يستطع فبقلبه ، وذلك أضعف الإيمان ) ومتق لله سبحانه وتعالى في كل موقع ، ومخالق للناس بخلق حسن: (أتق الله حيثما كنت ، واتبع السيئة الحسنة تمحها ، وخالق الناس بخلق حسن ).

فهو الساعي في الأرض ، والضارب في مناكبها باحثاً عن رزقه ، وقوته . تجده هناك في ساحات الحضارة ، يحتطب من قيمها ، وأخلاقها ، وعلومها ومدنيتها ، ومعاشها: (لأن يأخذ أحدكم حبله فيأتي بحزمة الحطب على ظهره فيبيعها ، فيكف الله بها وجهه ، خير له من أن يسأل الناس أعطوه أم منعوه ) .. ( أطيب ما أكل الرجل ، من كسبه ).

وهو الكيس، الفطن، الذكي، والمتحرز الحذر ، المنتبه: (لا يلدغ المؤمن من جحر مرتين ) وليس بماكر ، خداع ، وغشاش، غير مؤتمن: (من غشنا فليس منا ). نزاع إلى الأدب ، والخلق الحسن ، والجمال : ( إن الله جميل يحب الجمال ).

والمسلم يمثل مع إخوانه عضوية متماسكة ، وبناءاً منسجماً مرصوصاً: (المؤمن كرجل واحد ، إن اشتكى رأسه اشتكى كله ، وإن اشتكت عينه اشتكى كله ) فهم كلهم متعاونون ، ومتراحمون ، لا يحبون الظلم ، ويفرجون كرب بعضهم بعضاً: (المسلم أخو المسلم ، لا يظلمه ، ولا يسلمه .. من كان في حاجة أخيه ، كان الله في حاجته ، ومن فرج على مسلم كربة فرج الله عنه بها كربة من كرب يوم القيامة ، ومن ستر مسلماً ، ستره الله يوم القيامة ) كما أنهم متحابون: ( لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه ) (6) وجارهم محفوظة حقوقه ، ومحترمة محارمه: (والله لا يؤمن ، والله لا يؤمن ، والله لا يؤمن .. قيل : ومن يا رسول الله ؟ قال : الذي لا يأمن جاره بوائقه ) وجماعتهم لا تجتمع على الضلالة والظلم : ( ما كان الله ليجمع هذه الأمة على ضلالة أبداً ) ولا يتخلفون عن المشورة إذا استدعتها الظروف .. ويجاهدون في سبيل الله : ( إن سياحة أمتي الجهاد في سبيل الله ).

وإنسان الاستخلاف كذلك ، متوازن في حياته ، يربط بين الدنيا والآخرة ، ويعرف وظيفة ، وموقع كل واحدة في حياته ووجوده .

نموذج لإنسان الاستخلاف

لنأخذ نموذجاًمن النماذج البشرية ، التي أخرجتها مؤسسات البناء الحضاري التي كان يشرف عليها النبي عليه الصلاة والسلام .. ولغرض التحليل ، سوف نختار نموذجاً يصور لنا العملية التغييرية النبوية في مفاصلها الثلاثة:

جاء في كتاب البداية والنهاية لابن كثير :( أرسل سعد قبل القادسية ، ربعي بن عامر رسولاً إلى رستم ، قائد الجيوش الفارسية ، وأمريهم ، فدخل عليه ، وقد زينوا مجلسه بالنمارق المذهبة ، وزرابي الحرير ، وأظهر اليواقيت ، واللالئ الثمينة ، والزينة العظيمة ، وعليه تاجه ، وغير ذلك من الأمتعة الثمينة ، ، وقد جلس على سرير من ذهب .. ودخل ربعي بثياب صفيقة ، وسيف ، وترس ، وفرس قصيرة ، ولم يزل يركبها حتى داس بها على طرف البساط ثم نزل ، وربطها ببعض تلك الوسائد ، واقبل وعليه سلاحه ، ودرعه ، وبيضة على رأسه .. فقالوا له : ضع سلاحك ، فقال : إني لم آتكم ، وإنما جئتكم حين دعوتموني ، فإن تركتموني هكذا ، وإلا رجعت .. فقال رستم : إئذنوا له . فأقبل يتوكأ على رمحه فوق النمارق ، فخرق عامتها ، فقالوا له : ما جاء بكم ؟ فقال : الله ابتعثنا لنخرج من شاء ، من عبادة العباد ، إلى عبادة الله ، ومن ضيق الدنيا إلى سعتها ، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام .. فأرسلنا بدينه إلى خلقه ، لندعوهم إليه ، فمن قبل ذلك قبلنا منه ، ورجعنا عنه ، ومن أبى قاتلناه أبداً ، حتى نفضي إلى موعود الله . قالوا : وما موعود الله؟ قال : الجنة لمن مات على قتال من أبى ، والظفر لمن يبقى .. فقال رستم : قد سمعت مقالتكم ، فهل لكم أن تؤخروا هذا الأمر حتى ننظر فيه وتنظروا ؟ قال : نعم كما أحب إليكم ، يوماً أو يومين ؟ قال : لا بل حتى نكاتب أهل رأينا ، رؤساء قومنا . فقال : ما سن لنا رسول الله صلى الله عليه و سلم أن نؤخر الأعداء عند اللقاء أكثر من ثلاث بعد الأجل ، فانظر في أمرك وأمرهم ، واختر واحدة من ثلاث بعد الأجل .. فقال : أسيدهم أنت ؟ قال : لا ، ولكن المسلمون كالجسد الواحد ، يجير أدناهم على أعلاهم . فاجتمع رستم برؤساء قومه ، فقال : هل رأيتم قط أعز ، وأرجح من كلام هذا الرجل ؟ فقالوا : معاذ الله أن تميل إلى شيء من هذا ، وتدع دينك إلى هذا الكلب ، أما ترى إلى ثيابه ؟ فقال : ويلكم لا تنظروا إلى الثياب ، وانظروا إلى الرأي ، والكلام ، والسيرة ، وإن العرب يستخفون بالثياب والمأكل ، ويصونون الأحساب).

لنتأمل بعمق هذا الكلام الرسالي ، الذي لا يكف عن إعطاء السائرين في الكون بمعالم زاد المسير ، لنحلل بعض جوانبه . إن هذا الإنسان الجديد ، هو منتوج من منتجات المدرسة التغييرية النبوية ، كما أنه يقدم لنا صورة لجندي بسيط في مؤسسات البناء الحضاري ، وهو يؤدي واجبه اليومي في سياق تبليغ الإسلام للناس . إن هذا الإنسان يحمل في ذاته (المبررات الكونية للإسلام) وهو يتحرك بقوة الروح ، والعزيمة التي منحته أياها قيم هذا الدين وتعاليمه ، وضماناته ، ليحقق أهدافه في هذه الحياة والمتمثلة في : العبادة والإعمار ، والإنقاذ ، والتعارف - كما رأينا سابقاً .

عندما نتأمل موقع هذا الإنسان ، وهو يمارس مهامه ، وفي تلك اللحظة التي يقف فيها أمام رستم ، ماذا نستنتج؟

الأمر الأول الذي نلاحظه ، هو أن هذا الإنسان قد انهى تكوينه الحضاري القاعدي ، بمعنى أنه قد تخرج من:

- مؤسسات الربط الحضاري ، بالرؤية والرسالة الإسلامية ، حيث وعى أهدافه ، واقتنع بها .. فهو في حالة ارتباط قوي برسالته ، التي تتمثل في مشروع الإسلام عموما .

- ومؤسسات الوعي الحضاري للمشروع ، فهو يتمتع بفقه محيط لأهداف الإسلام ، وقيمه .

- ومؤسسات البناء الحضاري ، والانخراط في الإنجاز للمشروع .

ونستدل على المفصل الأول من التكوين من خلال قوله : ( الله ابتعثنا لنخرج من شاء ، من عبادة العباد ، إلى عبادة الله ، ومن ضيق الدنيا إلى سعتها ، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام .. ) فهو مؤمن بهذه المنظومة الجديدة من الأهداف ، ومجاهد من أجل تبليغها للناس ، كما نلاحظ بأنه تجاوز مفصل الوعي ، وبقوة عجيبة ، فرغم أنه كان في موقف زينت له فيه الدنيا ، وأعدت خصيصاً لإغرائه ، وإذهاله ، ولكن على العكس أذهلها ، وأذهل أصحابها . فقد استحقر كل ذلك العالم ، من الأشياء المائلة أمام عينيه ، ففي هذه اللحظة الجمالية الحضارية ، أعطى موقفه التاريخي الخالد ، وبرهن على ارتباطه بأهدافه ، ورسالته ، ووعيه العميق لها ، وأبان مدى مسؤولياته الكبيرة ، التي تفرض عليه أن يؤدي واجبه ، كممثل حضارة ، لا كمجرد مبعوث من قبل قائد إسلامي ، هو نفسه طراز آخر من النماذج الاستخلافية . فهو يعيش في موقف فرض عليه أن يلخص فيه رسالة الإسلام في كلما واضحة ، ومفهومة ، بعيدة عن التكهن ، والتفلسف ، والخلط . كما فعل جعفر من قبله بسنوات في أعقاب الهجرة الأولى إلى الحبشة وهو يخاطب النجاشي ، ولنا أن نقارن المواقف لنتعرف على مدى التطابق الذي يعبر على نفس النموذج ، الذي أخرجته المدرسة التغييرية النبوية ، مع مراعاة الفارق الزمني .. فجعفر كان في العهد المكي ، وربعي كان في العهد المدني ، لقد عبر ربعي - رحمه الله - عن تطليق عالم مادي ، لم تعد تسري فيه روح الحياة ، ولم يعد له مفعوله القديم على النفوس الجديدة ، وارتبط بعالم غيبي ، يمده بمبررات أكثر إنسانية ، وفعالية ، وفطرية . كما وضعه أمام ضمانات عظيمة ، لا يمكن تقديرها وفق المقاييس المتعارف عليها في عالم الناس ، حيث أصبح لعالم الأشياء مفهوم آخر ، أدمجه في منظموة تحقيق أهداف إنسانية ، تخدم مصالح الإنسان في عالمه الحاضر ، وعالمه الآخر.

وربعي في الحقيقة ، وفي ذلك الظرف ، كان في المراحل المتقدمة للبناء الحضاري ، للنموذج الإسلامي الاجتماعي ، وبالضبط كان يمارس عملية ( الإنقاذ ) التي هي الهدف الثالث في منظومة الأهداف الحضارية الكبرى للإسلام . وهذا واضح في قوله (.. ابتعثنا الله لنخرج ..) .. وكان كل كلامه نابع عن قناعة تامة بما يقول ، ويفعل ، وكانت الضمانات التي تبرر له سلوكه ، وتملأ عقله ، ونفسه وباطنه ، حتى أصبحت تشع بالخير في الخارج ، ويتضح ذلك في قوله (.. الجنة لمن مات على قتال من أبى ، والظفر لمن يبقى ..) وهذا الاستحضار ، ليس من باب (المنتاج السياسي) ، الذي ألفته المجتمعات القديمة ، ولكن من باب التوافق مع سنن الله في الذكر ، والأنفس ، والكون .. السنن التي دفعته ليقول ، وهو يجيب عن طلب رستم : (.. ما سن لنا رسول الله صلى الله عليه و سلم أن نؤخر عند اللقاء أكثر من ثلاث ، فانظر في أمرك وأمرهم ، واختر واحدة من ثلاث بعد الأجل ..) .. لقد حدد المصير بدقة ، وعن علم ، ودراية ..

فموقفه سنني ، لأنه قد وفر في تلك اللحظات شروط ( سنة الإعداد ) سواء الروحي ، أو المعنوي ، أو العملي ، أو المادي ، فهو قادر على أن يحقق عملية الإنقاذ ، بتوفيق من الله ، وتثبيته ، ونصرته ..

ثم يقدم لنا فصلاً كاملاً من فصول التغيير الحضاري ، في معرض إجابته عن تساؤل رستم: (أسيدهم أنت؟) فقال : لا ولكن المسلمون كالجسد الواحد ، يجير أدناهم على أعلاهم .. ) إنه يتحدث عن شبكة العلاقات الاجتماعية ، في أحسن ظروفها وانسجامها .. وفي خلاصة الكلام ، يأتي رستم ليحكم على هذه النوعية البشرية الراقية ، التي تغيرت معالم نفسيتها ، وعقليتها ، فتغيرت معها الكلمة ، والسيرة ، واللهجة ، والهدف ، والضمانة .. فقال : (.. ويلكم لا تنظروا إلى الثياب ، وانظروا إلى الرأي ، والكلام ، والسيرة.. ) وكأن رستم في تلك اللحظة أدرك جوهر التحول ، وأصل التغيير ، وأحس بأنه يتحدث مع نموذج بشري آخر ، لم يعهده من قبل ، في حياة الأمم السابقة . هذا النموذج الذي قال عنه خالد بن الوليد الصحابي الجليل المؤمن ، والعسكري المحنك المظفر ، والجندي الطائع عندما بعث لولاة كسرى على ألوية العراق: ( وإلا فوالذي لا إله غيره لابعثن إليكم قوماً ، يحبون الموت ، كما تحبون الحياة .. ) .. إن التغيير لما في النفس ، هو الذي أنتج هذه النماذج الاستخلافية العالية ، وإنه لتحول يعبر عن عظمة الإسلام ، ورسالته ، وأهدافه ، وضماناته ووعوده ، وعن التربية النبوية المستقيمة على الطريقة ، والمتطابقة مع سنن الله المنتشرة في الذكر ، والأنفس ، والكون . وعلى هذا الأساس ، نستطيع أن نؤكد على أن التغيير الأصيل ، هو الذي يكون موجهاً إلى تغيير النفس الإنسانية ، أي رفع قدارتها الفهمية ، والروحية ، والعملية ، التي تؤهلها لفهم عقيدتها وأهدافها ، ورسالتها ، واستيعابها لسنن الله العاملة في الذكر ، والأنفس ، والكون ، لأن هذا التغيير يتبعه آلياً التغيير في الكلام ، والعمل و الموقف . وعليه فالحركة التغييرية مالم تستهدف بالتغيير الإنسان في ذهنه ، وقلبه ، وجوارحه ، فإنها ليست أصيلة .. والحركة الأصيلة كالتي غيرت ربعياً ، هي التي تستطيع النفاذ إلى أقطار النفس ، وتستهدفها بالإفراغ من الأسقام ، والملء بالخير ، تبعاً لسنن الربط الحضاري..

لقد تخرجت أمثال هذه النماذج تحت الرعاية الخاصة للرسول صلى الله عليه و سلم وفي الورشات الإسلامية للبناء الحضاري ، المختصة في بناء القدرات الفهمية ، والقدرات الروحية ، والقدرات العملية ، والقدرات الجهادية ، والإعمارية ، والإنقاذية.

ومن الوجهة التاريخية العامة ، نلاحظ بأن العميلات الأولى لبناء (إنسان الاستخلاف) ، هي المقدمة الأساسية لبناء (مجتمع الاستخلاف) ، و( ثقافة الاستخلاف) ، كقوى حضارية كبرى ، بإمكانها تغيير مسيرة الإنسانية نحو الأفضل ، بتوفيق من الله عز وجل .. وعندما يبنى الإنسان ، ويرتفع إلى مستوى الاستخلاف ، فذلك دليل على اجتيازه المرحلة التي يكون فيها في (مؤسسات بناء المبررات الحضارية) وبالتحديد قد اجتاز العوالم الثالثة للتغيير الحضاري ، أي:

- الربط الحضاري ، وتكون المبررات في مرحلة التشكل وفي تنام مستمر .

- والتفقيه الحضاري ، وتكون المبررات في أعلى مستوياتها ودافعة للنشاط داخل النفس.

- وعالم البناء الحضاري ، وتكون المبررات دافعة للنشاط داخل الواقع الاجتماعي، المعضل بكل تحدياته، وصعوباته، ويكون الإنسان ، والمجتمع ، والثقافة في حالة حركة مستمرة..

=============

# خاتمة

الحمد لله الذي وفقني لهذا ، وأمدني من العون ما مكنني من إنجاز هذا العمل المتواضع ، الذي أضعه بين يدي القاريء الكريم ، راجياً من المولى تبارك وتعالى أن يعيننا جميعاً على الاستفادة منه ، وذلك بتقبل النصائح والتوجيهات ، واستقبال الانتقادات ، والتصويبات ، بقلوب شجاعة ، وعقول نيرة ، ونفوس على الحق صابرة ، وفي سبيله ماضية ، ومن أجله مضحية . فما أرجوه من قاريء هذا الكتاب هو أن يدلني على الخطأ إن اكتشفه ، ويبصرني على العيب إذا لمحه ، ويوجهني إلى الصواب ، كلما رأني ملت عنه ، وأخذت مسلكاً غيره ، وحدت عن طريق الحق ، وتنكبت عن العلم الذي ينفع الأمة ، ويسدد خطاها ، ويعينها على استعادة عافيتها ، حتى تعود لأداء دورها في العبادة ، والإعمار ، والإنقاذ ، والتعارف كما أمر المولى تبارك وتعالى.

إن القاريء الكريم سيلاحظ أفكار هذا الكتاب المتنوعة ، وسيكتشف أن بعضها لم ينضج بالشكل المستوفي للشروط ، وأن بعضها ينقصه العمق ، كما أن بعضها الآخر يفتقر إلى التحليل ، والتمثيل ، والتأصيل .. وهكذا سيسجل ملاحظاته المختلفة ، وأشد الناس حاجة إلى هذه الأمور ، هو المؤلف . ومؤلف هذا الكتاب من أحوج الناس إلى التعلم ، وطلب المعرفة ، وتلقي النصح ، والترشيد من الأساتذة ، والعلماء ، والمفكرين المتخصصين في هذه الحقول العلمية.

وفي ختام هذه الدراسة أريد أن أنبه إلى أن هذا الكتاب هو القسم الأول في هذه السلسلة ، التي خصصتها لدراسة قضايا التغيير الحضاري ، في ضوء السنة النبوية . وهي محاولة إنسان مسلم ، مقصده الأساس ، هو المساهمة في تحريك طاقات الأمة الحيوية من الأفكار ، والأشخاص والأشياء ، لتسير على خط (الاستخلاف) . وكما يعلم القاريء الكريم أن الذي يريد أن يخوض معركة الاستخلاف في الأرض ، بحاجة إلى منهج تغييري ، وكما رأى القاريء في الكتاب ، أهمية المنهج النبوي في التغيير الحضاري الجديد .. وعليه فالحركة الإسلامية المعاصرة ، بحاجة إلى فتح فصل كامل من فصول التغيير ، يتعلق بدراسة هذا المنهج الفطري المنسجم مع قانون الحياة السليم.

والله من وراء القصد ، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين ، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

==============

# المستقبل للإسلام

الدكتور أحمد علي الإمام

- ولد بمدينة دُنْقُلا بشمالي السودان، (1364هـ - 1945م) .. وبها تلقي الابتدائي والتوسط.. وتلقى تعليمه الثانوي في معهد أم درمان العلمي، بأم درمان.

- حفظ القرآن يافعاً.

- تخرج في جامعة أم درمان الإسلامية.

- حصل على درجة الدكتوراه من جامعة أدنبرا، بريطانيا، في علوم القرآن، مع عناية خاصة بنقد أعمال المستشرقين في لغويات وتاريخ القرآن.

- عمل محاضراً بجامعة أم درمان الإسلامية.

- عمل في الكلية الإسلامية في زنجبار، بتنزانيا، شرق أفريقيا.

- شارك في عدد من المؤتمرات والندوات العلمية الإسلامية، في دول مختلفة، على مستوى العالم. له العديد في الدراسات والأبحاث، باللغتين العربية والإنجليزية، وبعضها منشور، ومنها ما لا يزال مخطوطّا، مما يتصل بعلوم القرآن، وتطبيق الشريعة، ومستقبل الإسلام، والجهاد في سبيل الله، ودور العرب في انتشار الإسلام في شرقي أفريقيا.

- يجيد اللغات: الإنجليزية والسواحلية، فضلاً عن العربية.

- يعمل حالياً مديراً لجامعة القرآن الكريم والعلوم الإسلامية في السودان

تقديم بقلم: عمر عبيد حسنه

الحمد لله، الذي أنعم علينا بالإيمان لسبيله، وهدانا صراطه المستقيم، صراط الذين أنعم عليهم، غير المغضوب عليهم، ولا الضالين.

والصلاة والسلام، على المنقذ من الضلال، خاتم الأنبياء والمرسلين، الذي أخرج الناس من عبادة العباد، إلى عبادة الله، حرر العبودية، التي هي نزعة فطرية، في الإنسان، من التسلط، والاستعباد، واسترد إنسانية الإنسان، ووضع عن البشرية إصرها، والأغلال، التي كانت عليها..

وكانت النبوة، بكل المفاهيم، والاعتبارات، والواقع الميداني، والسياق التاريخي، ثورة تحرير، وانعتاق، ونسخ لألوهية الإنسان، التي تمارس تحت شتى العناوين، والشعارات، والادعاءات، لإخلاص الوجهة لله سبحانه وتعالى. ذلك أن الشر، والظلم، تاريخياً، ناشئ، من تسلط الإنسان على الإنسان، وتعدد الآلهة، المتخذة من دون الله، والانحراف عن التوحيد، الذي يعني فيما يعنيه، مساواة الخلق أمام الخالق.. والذي لم يعرف الجاهلية، ولا يعرف الإسلام حقيقة، وبعد:

فهذا كتاب الأمة السادس والأربعون: (لمستقبل للإسلام)، للدكتور أحمد علي الإمام، في سلسة ( كتب الأمة)، التي يصدرها مركز البحوث والدراسات بوزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية، في دولة قطر، مساهمة في التحصين الثقافي، والوعي الحضاري، وإعادة بناء المسلم المعاصر، وإحياء وعيه بدوره الحضاري، ورسالته الإنسانية، ووظيفته في الشهادة على الناس، والقيام لهم، إلى الخير، وإلحاق الرحمة بهم، بعد تحققه بالمرجعية الشرعية، وتبصره بالسنن الاجتماعية، في الأنفس والآفاق، التي تمثل أقدار الله ، وسننه، التي لا تتبدل، ولا تتغير، ليحسن التعامل معها، ويمتلك القدرة على تسخيرها، ومغالبة قدر بقدر أحب إلى الله، والفرار من قدر إلى قدر ، فليس الرجل الذي يستسلم للقدر، بل الذي يحارب القدر بقدر أحب إلى الله- كما يقول ابن القيم رحمه الله في مدارج السالكين- وهذا لا يأتى ما لم يمتلك- إلى جانب فقه السنن- القدرة على استشراف التاريخ، واستعياب الواقع، وإبصار المستقبل، في ضوء هدايات الوحي، ومدارك العقل، وإعداد العدة المطلوبة، بإحياء فروض الكفاية، وتحقيق التخصصات المتعددة، في فروع المعرفة جميعها، والإحاطة بالعلم، وإنضاج الخبرات، والتزود بالطاقات الروحية المحركة، ليتخلص المسلم، من العطالة، ويستأنف دوره من جديد، على هدى وبصيرة.

وقد لا نأتي بجديد عندما نقول: إن الإسلام دين الفطرة، وإن الحضارة الإسلامية، هي عطاء الفطرة، وإن خلود هذا الدين، وامتداده، وقدرته على الإنتاج، والعطاء، مستمد من خلود الفطرة، التي تتأبى على التشويه، والتبديل، وتمتلك إمكانية التجاوز، والتصويب، قال تعالى: (فطرت الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم ) (الروم:30) .. إن هذا الدين، فطرة الله، فقوامته، واستقامته، وقدرته على التقويم ، والامتداد، والتجدد، والتجديد، مستمدة من رصيده في الفطرة البشرية، وكأن بين الإسلام، الذي هو دين الله إلى البشرية: (إن الدين عند الله الإسلام ) (آل عمران:19)، الذي رضيه الله لعباده: (ورضيت لكم الإسلام دينا ً) (المائدة:3)، وبين الإنسان، الذي فطره الله على هذه الخصائص، والصفات، والمزايا، تواعد، والتقاء.. وأن المعركة الحقيقة، كانت ولاتزال، في صراع، والتدافع، بين الفطرة، التي فطر الله الناس عليها، وبين محاولات التشويه، والتبديل، والتضليل والاغتيال لهذه الفطرة.

وفي ضوء ذلك، يمكن أن نفهم قول الله سبحانه وتعالى، في الحديث القدسي: (...وإني خلقت عبادي حنفاء، كلهم، وإنهم أتتهم الشياطين، فاجتالتهم عن دينهم ) (رواه مسلم في كتاب الجنة)..

ونفهم قول الرسول صلى الله عليه وسلم فيما يرويه أبوهريرة: (ما من مولود إلا ويولد على الفطرة، فأبواه يهودانه، أو ينصرانه، أو يمجسانه.. كما تنتج البهيمة بهيمة جمعاء، هل تحسون فيها من جدعاء ؟ ) (رواه مسلم، في كتاب القدر).

وندرك الأبعاد الكاملة لقوله تعالى في سورة الروم: (أقم وجهك للدين حنيفاً فطرت الله التي فطر الناس عليها، لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم ولكن أكثر الناس لايعلمون30* منيبين إليه واتقوه وأقيموا الصلاة ولا تكونوا من المشركين31 من الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعاً كل حزب بما لديهم فرحون )

(الروم: 30-32).

وفي ضوء ذلك أيضاً، يمكن أن ندرك، بأن حقائق الخلق الإنساني العضوي، والنفسي، لها من الثبات، والامتداد، والديمومة، والعطاء، كحقائق الخلق الكوني.. وإن تميزت، عنها بأهلية الاختيار..وأن رصيد الخلق في الفطرة البشرية، كرصيد الخلق في الفطرة الكونية.. وأن حقائقها، لا تقل ثباتاً وامتداداً، عن حقائق الشمس والقمر، والكواكب، الأخرى.. وأن السقوط المستمر للآلهة المزيفة، التي أرادات تبديل خلق الله، عبر التاريخ البشري، وفتنت الناس إلى الحين، جاءت من مواضعات البشر.. وأن غياب الحضارات، واندثارها، واستمرار الإسلام، دليل على خلود هذا الدين، لأنه استجابة طبيعية لفطرة الله، التي فطر الناس عليها، وشاهد إدانة مستمر، وتأكيد على أنه لا تبديل لخلق الله، وأن العبرة دائماً هي بالعواقب، والمآلات الممتدة، وليست بالنتائج القريبة، التي تحاول أن تختزل الخلود في لحظات مرضية، في إطار الزمان والمكان..

لذلك بالإمكان القول: إن رصيد هذا الدين، في الفطرة البشرية، أو باعتبار هذا الدين، هو دين الفطرة، أو هو الفطرة نفسها، وإنه صبغة الله سبحانه وتعالى: {صبغة الله ومن أحسن من الله صبغة ونحن له عابدون} (البقرة:138)، وثمره علمه المطلق، بتقلبات الزمان، والمكان، والإنسان: (ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير} (الملك :14)، {وإذ قال ربك للملكة إني جاعل في الأرض خليفة قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك قال إني أعلم مالا تعلمون ) (البقرة :30)، ونتاج عدله المطلق الذي لا يليق به غيره... إن هذا المنطلق لفطرية هذا الدين، هو الذي أهل الإسلام، ليكون دين الإنسان، وهو الفيصل الأساس، بين الإسلام، وسائر المشروعات الحضارية البشرية، والمنظومات العقائدية المختلفة، والأيديولوجيات الوضعية المتعددة.. ولعل هذا هو السر الأعظم، في خلود الإسلام، حيث تتساقط المشروعات، والحضارات البشرية، والدينية التي عبثت بها أيدي البشر.

إن الإمكان الحضاري، والقدرة على تحقيق الشهود الحضاري على الناس، والقيادة لهم، وتقويم سلوكهم، بشرع الله، الذي يمثل أساس مهمة الأمة المسلمة، الذي بينه قوله تعالى: (لتكونوا شهداء على الناس ) (البقرة :143) ، نابع من القابليات المركوزة في الفطرة لهذا الدين.

وفي نطاق هذه القدرة، المتميزة، لهذا الدين، على النهوض، وإعادة البناء، الذي اصطلحنا على تسميته:بالإمكان الحضاري، يمكن لنا أن نلمح بعض المقومات، ولعل في مقدمتها، إضافة إلى ركيزة

الفطرة:

أن رصيد التجربة البشرية التاريخي، وبكل إصاباته، وإنجازاته، وسقوطه، ونهوضه، وعبره، ودروسه، انتهى إلى النبوة الخاتمة، فهي بذلك تمتلك، إلى جانب رصيد الفطرة، رصيد الفعل التاريخي، الذي يعتبر المختبر الحقيقي للأفكار، والمبادئ، والدعوات، والحضارات، والعبرات، فهي تقف على قمة التجربة البشرية، ليس وقوف الذاهل، الغافل، وإنما وقوف المبصر، الذي يمتلك أدوات النظر، ومعاييره، وقيمه.

إن الوقوف على هذه القمة الحضارية، إن صح التعبير، بكل ما فيها من نهوض، وسقوط، وكفر، وإيمان، وخير، وشر، وقوة وضعف، في أقدار التدين، سوف يمكن المسلم، من امتلاك القدرة على استشراف الماضي البعيد، والنظر إلى كيفية بدء الخلق، والتأمل في مسيرته، وما تعرضت له من عثرات، كما يمكنه من استشراف المستقبل البعيد والمآلات، والعواقب، في ضوء ذلك الماضي، الذي استقرت له، وفيه، قوانين الاجتماع البشري، والحركة التاريخية، وتأكدت فاعلية سنن الله في الأنفس، والآفاق.. وحتى لا يصيب إنسان الإسلام، الذهول، والغفلة، والعجز، والضياع، جعل الله النظر في العمق التاريخي، والتأمل في العواقب، والاهتداء إلى السنن، الناظمة للحياة، والاتعاظ بأحوال السابقين، واختصار الزمان، والتجربة، وتحقيق الوقاية الحضارية، من السقوط.. جعلها من الفروض الحضارية، أو الاجتماعية، فقال تعالى:(قد خلت من قبلكم سنن فسيروا في الأرض فانظروا كيف كان عقبة المكذبين * هذا بيان للناس وهدى و موعظة للمتقين ) (آل عمران:137-138)

وإذا سلمنا بأن الحاضر هو مستقبل الماضي، وماضي المستقبل، كما يقال، أدركنا الرصيد، والزاد، ومقومات الرؤية المستقبلية، التي يتمتع بها إنسان الإسلام، الذي لم يقف فيها عند حدود المحسوس، في عالم الشهادة، ويخادع ببعض النتائج القريبة، ويعيش قلق المصير، وإنما يتجاوز إلى ما وراء المحسوس، والمنظور، في عالم الشهادة، إلى التحقق برؤى مطمئنة عن العواقب، والمآلات، التي سوف تصير إليها الأمور، من خلال مقدماتها في الماضي، ونتائجها في الحاضر، الأمر الذي سوف ينتهي بها إلى إدراك مآلاتها المستقبلية، المقترنة بتوثيق الوحي، الصادق المصدوق، قال تعالى: (ولا ينبئك مثل خبير ) (فاطر:14).

وهنا قضية، قد يكون من المفيد الإشارة إليها، ولو سريعاً، وهي أن الرؤية، التي يمنحها الإسلام للمستقبل، بشكل أخص، ولعالم الغيب بشكل أعم، ليست رؤية غائمة، حالة، طوباوية، بعيدة عن القدرة على التصور، والإحاطة العقلية بها، وإنا هي رؤية تمتلك كامل مقوماتها، وحتى مقدماتها المادية في الدنيا، ونماذج السنن، التي تحكمها، حيث يمدنا التاريخ بدليل صدقها، وفاعليتها، ويضعنا على عتبة المستقبل، متحقيقن بالزاد المطلوب.

لذلك نقول: بأن أي استشراف للمستقبل، لا يمكن أن يتحقق بدون استشراف للماضي، والتحقق به، وأي إدراك لمصير الخلق، لا يمكن أن يدرك بدون السير في الأرض، والنظر في السيرورة البشرية: كيف بدأ الخلق، قال تعالى: (قل سيروا في الأرض فانظروا كيف بدأ الخلق ثم الله ينشئ النشأة الآخرة ) (العنكبوت:20).

والقرآن الكريم، لم يكتف، بتوجيه المسلم صوب التاريخ، وأمره بالتوغل فيه، واكتشاف السنن الناظمة للحركة الاجتماعية، وتسخيرها، والوقاية الحضارية من إصابتها،وتركه يمارس الاكتشاف بنفسه، وإنما زوده بهدايات الوحي، كما زوده بأدلة، ونماذج تاريخية، في القصص القرآني، تفتح بصيرته، وتقدم له القدر، الذي يشكل الأنموذج، وسراج الهداية، ودليل العمل، وبُوصلة التوجه.

والمقوم الآخر، الذي يمتلكه هذا دين، في إطار الإمكان الحضاري، أنه يتملك، دون غيره من الأديان، صحة النص السماوي، وسلامته من التحريف،والتبديل، وانتقاله بالتواتر.. وعلى الرغم من أن سلامة النص، تعتبر من لوازم الخاتمية، حيث تعني الخاتمية، في أقرب مدلولاتها، توقف التصويب من السماء، لما يمكن أن يكون من عمليات التحريف، والتبديل ، والإلغاء، فإن من خصائص الخلود أيضاً، استمرار النص سليماً، لكل الأجيال، في كل زمان ومكان، حيث لا يعقل أن يخاطب الناس بنصوص محرفة، أو منحولة، ومن ثم يحاسبوا على مدى التزامهم، بما حمل لهم الخطاب من تكاليف، وفي ضوء ذلك يمكن أن نفهم الأبعاد الكاملة لقوله تعالى: (إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون ) (الحجر:9).

نقول: على الرغم من ذلك، وعلى الرغم من لوازمه المادية، وثمرته، بتعهد الله بالحفظ، فإن الخطاب السماوي في الرسالة الخاتمة، خضع لأعلى درجات التوثيق، والحفظ، والنقل، حيث بلغ حد التواتر، الذي يفيد علم اليقين، مشافهته، وكتابته، إلى درجة أصبح معها النص القرآني-بالمعايير العلمية البشرية- يعتبر أقدم وثيقة تاريخية، وردت بطريق علمي صحيح، ولذلك قد لا نستغرب، أن يدرك ذلك بعض أبناء الأديان الأخرى، ويقوده إداركه، ومنهجه العلمي الوثائقي، إلى اعتبار القرآن، هو المصدر الوحيد، الوثيق، لبيان عقائد النصرانية، واليهودية الصحيحة، وبيان ما داخلها من تحريف، وتشويه، ذلك أن المصادر الأخرى، لا يوثق بها، لا من الناحية التاريخية، ولا من الناحية العلمية، إذا خضعت للفحص والاختبار، وأن قبولها واستمرارها، محكوم بنوع من التسليم، وهالة من القدسية، تحول دون مناقشتها، وعرضها على موازين التقويم والنقد.

وهنا قضية، لابد من إثارتها، ولعلها من مقومات الإمكان الحضاري أيضاً: وهي أن المسلمين، في الجيل المشهود له بالخيرية، لم يفهموا من قوله تعالى: (إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون ) (الحجر:9)، أنهم معفوون من مسؤولية الحفظ، والتوثيق، والنقل، طالما أن الله تعهد بها، وإنما أدركوا مسؤوليتهم تجاه القرآن، وأنهم أوعية الحفظ، والنقل، وأن الحفظ والنقل، إنما يتحقق من خلال عزمات البشر وفعلهم، لذلك، سارعوا إلى الحفظ والكتابة،منذ بدء الوحي، حيث اتخذ الرسول صلى الله عليه وسلم كتّاباً للوحي، ونهى عن كتابة غير القرآن، حتى لا يختلط النص السماوي بكلام البشر، فقال: (لا تكتبوا عني غير القرآن، ومن كتب عني شيئاً غير القرآن فليمحه ) (رواه مسلم في كتاب الزهد)، وأرعبهم اشتداد القتل بالقراء، في معركة اليمامة، وخافوا على ضياع القرآن، وأن يلحق بهم ما لحق باليهود والنصارى، من الاختلاف ومن ثم استنفروا جهودهم كاملة لحماية خطاب الله، الذي هُدد بالإصابة، فكان جمع القرآن، وحفظه، ونقله، حتى وصلنا كما أُنزل.

وأمة تمتلك وتنفرد بوراثة الكتاب، وبامتلاك النص السماوي الخاتم، الخالد، سليماً، وتدرك أن مدلولاته، ومقاصده، لابد أن تتحقق من خلال عزمات البشر، هي أمة مؤهلة، لتحقيق الشهادة على الناس، والقيادة لهم، والقيام بأمانة الشهود الحضاري.

وقد يكون من الأمور المهمة، التي تقتضي الإشارة إليها، نحن بسبيل الكلام عن مقومات الإمكان الحضاري الخالد، الذي تحقق للأمة المسلمة، والذي يمنحها القدرة على النهوض، وإعادة البناء، هو عقيدة التوحيد، وثمراتها الإيجابية، في إعادة صياغة الإنسان، وتوحيد وجهته، في العقيدة والعبادة، والولاء والبراء، وتحقيق الانسجام بين نفسه، وروحه، وجسمه، وعقله، وعاطفته، وسائر أشواقه، وتطلعاته، وسموه، وحاجاته، وترقية، خصائصه، وتصعيد غرائزة، ذلك أن التوحيد لم يقتصر على آفاق البحث النظري، في مجال العقيدة، وتوحيد الأسماء والصفات، وإنما أثمر رؤية توحيدية، في كل شُعب الحياة، المعرفية والعملية، ونفي الشرك، وتوحيد الوجهة، في المجال السياسي، والاجتماعي، والاقتصادي، والأخلاقي: (قل إن صلاتي ونسكى ومحياى ومماتى لله رب العالمين ) (الأنعام: 162).

ولعلنا نقول هنا: إن التوحيد هو الركيزة الأساس، في الإمكان الحضاري، حيث قضى على التثليث، والتجسيد في العقيدة، الذي حاول إخضاع الخالق لسيطرة الإنسان، وخصائصه، وصفاته، وقضى على الثنائية، بين الوحي والعقل، التي كانت سبباً في سقوط الحضارات تاريخياً، وتشطير الإنسان، وتقطيع أوصاله، وتعدد وجهاته، ومنازعه، ومصادر التلقي عنده.

لقد تخلص إنسان الإسلام، من ثنائية الوحي والعقل، ذلك الخيار الصعب، الذي طُرح تاريخياً، كثمرة لمقدمات مغلوطة، فلم ير المسلم تناقضاً، بين معارف الوحي، ومدارك العقل، لأن الله، هو مرسل الوحي، وخالق العقل، ومكلفه بتعاليم الوحي، ومخاطبه بمعارفه، ولذلك فلا يمكن أصلاً، تصور أي تناقض.. فالعقل هو سبيل معرفة الوحي، ومحل تكليفه، والوحي، هو سراج الهداية للعقل، والإطار المرجعي، والضابط المنهجي لمعارفه، ولا يمكن ابتداء لأحكام الوحي، أن تناقض العقل السليم، لأنه محل الخطاب والتكليف، كما أسلفنا.. ولو افترضنا أن الصدام والتناقض، حاصل من الناحية النظرية، فلا معني إذاً للتكليف، الذي مناطه العقل، لأن التكليف لايقع إلا في محله.. ولما كان العقل، متأثراً بالرغبات والنزوات، وواقعاً تحت احتمالات خطأ الحواس المعتمدة، لإيصال المعلومة إلى العقل، كما أنه خاضع للعلم المحدود، والعمر المحدود، والاطلاع النسبي، فلا يمكن له أن يستقل بالنظر، له والحكم. أما الوحي فهو: خطاب الله، العليم، علماً مطلقاً، منزهاً عن الخطأ والغرض، والمبلغ المبين له هو: الرسول المعصوم صلى الله عليه وسلم، لذلك فالتعارض منتف، بأصل الوضع، أما عند توهم التعارض، أو وجوده، لسبب أو لآخر فإن الوحي المعصوم، مقدم عقلاً، على العقل المظنون.

وجيل خير القرون، ومن تبعهم بإحسان، في فترات التألق، والعطاء الحضاري كلها، لم يعانوا من هذه الإشكالية، التي دمرت إنسان الحضارة الغربية، ووضعته أمام الخيار الصعب، فانتهى، إما إلى إلغاء العقل، وإسقاطه، واعتبار التدين والإيمان، يعني ويقتضي: الإلغاء الكامل للعقل، والتسليم، بدون تعقل، الأمر الذي أدى إلى شيوع الخرافة، والتصورات المشوهة، والانسلاخ من الدين، والقيم الأخلاقية.. وإما إلى نفي الدين، وتأليه العقل، والاكتفاء بعلم ظاهر الحياة الدنيا: (يعلمون ظهراً من الحياة الدنيا ) (الروم:7)، وإسقاط معارف الوحي، وتقطيع الإنسان إلى أبعاض.

إن جيل خير القرون، والفترات التاريخية كلها، التي تمتعت بالبناء، والتألق الحضاري، لم تعان من هذه الثنائيات، إلا عندما طغت مفاهيم الحضارة الغربية، وأخذ الناس بأشيائها، ونقلوا فكرها، وفلسفتها، وثقافتها، وهماً، منهم بأنها قارب النجاة، وسبيل الرقي الحضاري وما زادتهم إلا تبعية وتكريساً للتخلف، ونوعاً من الفصام الحضاري.

ولعل من مقومات الإمكان الحضاري، الذي يؤهل الأمة المسلمة للشهود الحضاري، أو بعبارة أدق: يؤهلها للشهادة على الناس،والقيادة لهم: هو وجود أنموذج الاقتداء التطبيقي، المعصوم، الذي تم تطبيقه، وبناؤه، على عين الله، صاحب الخطاب الأصلي،وفعل المعصوم صلى الله عليه وسلم لتنزيل القيم، والنص السماوي المطلق، على الواقع النسبي، وتقويم سلوك الناس بها..وهذا الأنموذج الذي امتد بناؤه ثلاثة وعشرين عاماً، أستوعب أسس الحالات، وسبل حلول المشكلات، التي يمكن أن تتعرض لها البشرية، في تاريخها الممتد، حتى قيام الساعة،إنه أنموذج للدعوة والدولة،والضعف والتمكين، والسقوط والنهوض، والهزيمة والنصر..الخ.. أنموذج لكيفية التعامل مع القيم، من خلال الواقع، والتعامل مع الواقع، والارتقاء به، وتقويم سلوكه، بشرع الله، من خلال القيم.. ويبقى المطلوب، في كل مشروع للنهوض والتجاوز: القدرة على استلهام الأنموذج المعصوم، وفقه الحالات المشابهة، ووضع الواقع في موقعه المناسب، من مسيرة بناء الأنموذج، والإفادة من كيفية تعامله مع الحال المشابه، لتسديد المسيرة، وتغذية السير، بعيداً عن أي تقليد، ومحاكاة للنماذج الرديئة، من أي مصدر جاءت. لذلك جعل الله استلهام الأنموذج المعصوم، ديناً من الدين، قال تعالى:(لقد كان لم في رسول الله أسوة حسنة ) (الأحزاب:21)

ومن الأمور التي لابد من لفت الانتباه إليها، ويمكن اعتبارها من مقومات الإمكان الحضاري أيضاً، في هذا المجال- مجال تميز الأمة المسلمة، بأنموذج الاقتداء التطبيقي المعصوم، لتنزيل القيم على الواقع- هو استمرار حمل الأنموذج، وعدم انقطاعه، في كل المراحل.. صحيح بأن مساحة هذا الأنموذج، قد تتسع، لكنها أبداً لا تنقطع، ولعل سمة الخلود، التي تعتبر من لوازم الرسالة الخاتمة، تعني فيما تعني، من الناحية النظرية: القدرة على الإنتاج العلمي في كل عصر، وتأكيد ذلك من الناحية العملية التطبيقية، إنما يكون في امتداد الأنموذج، الذي يجسد القيم، ويدلل على قدرتها على الإنتاج، وقابليتها للتطبيق، وإثارة الاقتداء بها.. في ضوء ذلك، يمكن أن نفهم بعض الأبعاد الغائبة، لقول الرسول صلى الله عليه وسلم :(لا تزال طائفة من أمتي قائمين على الحق، لا يضرهم من خالفهم، حتى يأتي أمر الله وهم على ذلك ) (رواه البخاري ومسلم).

إنه استمرار لأنموذج الاقتداء، الذي يمنح الدليل العملي، والشاهد الواقعي على الإمكان الحضاري، وقابليات النهوض،وإعادة، البناء،والإقلاع من جديد، ذلك أن الطائفة القائمة على الحق، تمثل بحق ميداناً تدريبياً تأصيلياً للمعاني الغائبة، وترجمة القيم إلى واقع وسلوك، والأفكار إلى أفعال.. ولعل امتلاك الأمة المسلمة للقيم، في الكتاب والسنة، التي لا يد للإنسان في وضعها، يمنحها القدرة على اكتشاف أخطائها، وممارسة عمليات التصويب، والنهوض، والتجديد الذاتي، والقضاء على جوانب الانحراف، ونوابت السوء.. يمنحها القدرة، ليس فقط على معايرة الحاضر(الواقع)، وتحديد مواطن الإصابة، والقصور، ومعرفة أسباب التقصير ورسم سبل الخروج منه، وتقويمه بشرع الله، وإنما تمتلك القدرة أيضاً، على تقويم الماضي(التاريخ)، وبيان جوانب الانحراف والاستقامة، والخطأ والصواب فيه، التي انتهت بنا إلى ما صرنا إليه.

فالتاريخ، هو في نهاية المطاف، فعل بشري، يجري عليه الخطأ والصواب، وهو محاولة لتنزيل القيم على الواقع.. وهو ليس أمراً مقدساً، ولا معصوماً، وهو بذلك ليس مصدراً لتشريع الأحكام، وإنما هو محل للدرس،والعبرة، والاهتداء إلى السنن الاجتماعية الفاعلة، والتحقق بالوقاية الحضارية، حتى لا يتكرر الخطأ، وتستمر الإصابة.

فالأمة المسلمة، ليست أسيرة لتاريخ أو لماضٍ ، اللهم إلا السيرة الصحيحة، التي تمثل أنموذج الاقتداء، المسدد بالوحي، والمؤيد به.. بل لعل السيرة النبوية، تشكل أحد المعايير التطبيقية، لتقويم التاريخ، وبذلك فالأمة المسلمة، قادرة باستمرار، على التجدد الذاتي، والتجديد ، وهذا يعتبر أحد مرتكزات الإمكان الحضاري الكامن في طبيعة الأمة، وقيمها، التي تؤهلها باستمرار، لاستئناف السير، ومعاودة النهوض، ولعل هذا، هو السر الحقيقي في عدم انقراض الأمة المسلمة، وموتها، وعدم خضوعها بإطلاق، للدورات الحضارية، التي جرت على الحضارات التي سادت ثم بادت، على الرغم من خضوعها لسنة التداول الحضاري، قال تعالى :(إن يمسسكم قرح فقد مس القوم قرح مثله وتلك الأيام نداولها بين الناس ) (آل عمران:140)، ذلك أن خميرة النهوض، تتمثل دائماً في القيم المستمدة من الوحي(الكتاب والسنة)، وفي تجسيدها، وتفعيلها في الطائفة الممتدة، القائمة على الحق.

لقد ذهب علماء الحضارات، كثمرة لاستقرائهم التاريخ البشري، وصفحات السقوط والنهوض، إلى أن الحضارة، أية حضارة، تمر بمراحل ثلاث، فقالوا:

إن المرحلة الأولى: هي مرحلة الفكرة، مرحلة الإيمان بالهدف، الذي يملأ على الإنسان نفسه، ويشكل له هاجساً دائماً، وقلقاً سوياً، ويدفعه للعطاء غير المتناهي، و التضحية في سبيل ذلك، بكل شيء، بما يمكن أن يعتبر أن من أهم سمات هذه المرحلة: بروز إنسان الواجب، الذي لا يرى إلا ما عليه، ويقبل على فعله بوازع داخلي، بإيمان، واحتساب، دون أن يخامر عقله، ماله من حقوق.. هو إنسان واجب، إنسان إنتاج، وليس إنسان حق فقط، إنسان استهلاك.. وقد يكون من المفيد هنا، أن نذكّر بحديث الرسول الله صلى الله عليه وسلم، الذي وصف مرحلة الوهن الحضاري، والإشراف على السقوط، وحدد معادلتها، عند سئل عن الوهن، الذي يصيب الأمة قال: (حب الدنيا ) (ظهور إنسان الغريزة-إنسان الاستهلاك)، (وكراهية الموت ) (غياب إنسان الإيمان، والإنتاج، والاحتساب) (الحديث رواه أحمد، مجلد5 ،ص 278).

أما الدورة الحضارية الثانية، أو المرحلة الحضارية الثانية، التي تمر بها الأمة، هي مرحلة العقل، وضمور الإيمان، وفتور الحماس، نسبياً.. مرحلة التوازن، بين العمل والأجر، بين الحق والواجب، بين الإنتاج والاستهلاك، بين الدنيا والآخرة، دورة ضبط النسب.. حلول العدل، محل الإحسان.. وهنا تصل الحضارة إلى قمتها، وتبدأ مرحلة السقوط، إذا لم تستدرك ما يتسرب لها من أمراض. والدورة الحضارية الثالثة، أو مرحلة ما قبل السقوط النهائي، هي مرحلة غياب الإيمان، وبروز الشهوة، والغريزة، وانكسار الموازين الاجتماعية، واستباحة كل شيء وبكل الأساليب، وعندها تسقط الحضارة، وتموت الأمة، ويتم الاستبدال.

إن عدم خضوع الأمة المسلمة، للدورات الضارية بإطلاق، وقدرتها على الاستمرار، والتجاوز، والتجدد، والتجديد، والنهوض، من دون غيرها من الأمم والحضارات، يعني فيما يعني: أنها تمتلك الإمكان الحضاري الممتد، والمفقود في الحضارات الأخرى، السائدة منها، والبائدة، وذلك بامتلاكها النص السماوي السليم، الذي يشكل المعيار، وامتداد الأنموذج، المفعم بالإيمان، والإيثار، والإحسان، المتمثل بالطائفة القائمة على الحق، التي تمثل خميرة النهوض، بما تحمل من إيمان وفاعلية، إنما تمثل استمرار إنسان الواجب الذي يحفظ التوازن، ويعيد للحياة معناها المفقود، ويثير الاقتداء به، وهذا من ثمرات الخاتمية، الخلود، ومن لوازمها، إن صح التعبير.

وفي ضوء ذلك، يمكن أن ندرك مواثيق الله، وعهده لهذه الأمة، أن لا يسلط عليها عدوها، تسليط استئصال وإبادة، وإنما تسليط تأديب على معاصيها، وتحريض لها، لتعاود المراجعة، والتقويم، والنهوض من جيد.

قال تعالى :(لن يضروكم إلا أذى ) (آل عمران:111)، وقال رسول الله صلى الله وعليه وسلم: (..وأن لا يسلط عليهم عدواً من سوى أنفسهم، يستبيح بيضتهم ) (رواه مسلم، في كتاب الفتن وأشراط الساعة).

وهنا نقطة، قد تكون جديرة بالتوقف قليلاً، بما يتسع له من المجال، وهي أن السقوط الحضاري، مهما كان قاسياً، يكون بالإمكان تجاوزه، واستدراكه، واستئناف عملية النهوض من جديد، إذا اقتصر السقوط والانهدام، على عالم الأشياء، أو ما اصطلح على تسميته: (بالمدنية)، واستمر عالم القيم والأفكار، أو ما اصطلح على تسميته: (بالثقافة)، سليماً.. لذلك استطاعت الأمة الإسلامية بما تمتلك من قيم محفوظة بحفظ الله:(إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحفظون) (الحجر: 9)، والمتحقق حفظها، من خلال عزمات البشر، استطاعات أن تعيد البناء، وتمارس عملية النهوض، على الرغم من فداحة الانكسارات، وعظم النكسات، وشراسة الهجمات، وقوة الأعاصير المدمرة، لأنها لم تفتقد قيمها، وأفكارها، و مخطط النهوض ودليله.

وفي ضوء ذلك، يمكن أن ندرك أبعاد قوله تعالى، في أعقاب هزيمة أحد: (ولا تهنوا ولا تحزنوا وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين * إن يمسسكم قرح فقد مس القوم قرح مثله وتلك الأيام نداولها بين الناس ) (آل عمران:139-140)..أنه استعلاء الإيمان رغم سقوط، وهزيمة الأشياء، وعظم الانكسار.. وقوله تعالى في سورة البروج، بعد أن عرضت السورة لعذابات المؤمنين، تحريقهم بالأخدود، وشراسة الظالمين، وتقديم نماذج للظلم المتصاعد، قال تعالى :(هل أتك حديث الجنود * فرعون وثمود ) (البروج:17-18) (طغيان واستبداد حاكم: فرعون. وتواطؤ وظلم أمة: ثمود)، ثم ختم السورة بقوله تعالى:(بل هو قرءان مجيد * في لوح محفوظ ) (البروج:21-22)، الأمر الذي يلمح منه الإنسان، أن الشدائد الشديدة، لا تنال من الأمة، ولا تسقطها، إذا حفظ لها عالم أفكارها، الذي يضمن القدرة على العود، لذلك فإن معركة إسقاط الأفكار، والغزو الثقافي، هي الأخطر دائماً، وعملياً.. وأن عملية التحريف والانتحال، والمغالاة، هي الأدهى والأمرّ..ولذلك أيضاً، نرى أن حسبة الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، رسالة كل مسلم، وفريضة الأمة المسلمة، هي الحارس الأمين لعالم القيم، وتطبيقاتها في المجتمع، ونرى أن الدورات التجديدية على رأس كل مائة عام، التي أخبر عنها الصادق المصدوق، تأتي لتعيد تنقية عالم الأفكار، مما أحدث فيه من جديد (يبعث الله على رأس كل مائة عام، من يجدد لهذه الأمة أمر دينها ) (رواه أبو داود، في الملاحم)، ليبقى الإمكان الحضاري مستمراً.

وفي إطار ما تتمتع به الأمة المسلمة، من الإمكان الحضاري، الذي يمنعها من السقوط، ويدفعها إلى النهوض، بما تمتلك من الخصائص، التي أشرنا إلى شيء منها، قد يكون من الأهمية بمكان، العود على بدء، من أن الحضارة الإسلامية، بعطائها، وامتدادها، لم تعان، على مستوى التصور والسلوك، معاً،أو على مستوى الفكر والفعل، من ثنائية العقل والوحي، الأمر الذي أدى إلى تشطير الإنسان، وتدمير بعضه، وإنما سار العقل والوحي بخطين متوازيين، لا يصطدمان، فلا تعارض في التصور الإسلامي، بين العقل والنقل، أو بين صريح المنقول، وصحيح المعقول، والأمر لا ينظر له في المجال المعرفي الإسلامي، في إطار التعارض، الذي غالباً ما يمليه اليوم الموقف الدفاعي، بمقدار ما ينظر إليه في نطاق الانسجام والتوافق، لإنتاج الإنسان المتوازن، المتناسق.

فإذا كان الوحي في الكتاب والسنة، مصدراً للمعرفة والتشريع، فإن العقل، بما يمتلك من الإمكان، والأهلية، هو الذي يستنبط، ويحقق ذلك، بل ويمتد به لتعدية الرؤية، وتنزيل النص، وتحقيق ذلك، بل يمتد به لتعدية الرؤية، وتنزيل النص، وتحقيق مقاصده في الواقع، بما اصطلح عليه :(بالاجتهاد، الذي يعتبر المصدر الثالث للتشريع..) وما الاجتهاد إلا إعمال العقل، لمد الرؤية، وتوليد الأحكام الجديدة، للحوادث الجديدة، في ضوء الوحي، ذلك أن العقل، يجرد المقاصد، من حدود الزمان، والمكان، ويولد في ضوئها الأحكام الجديدة، أي أن العقل، يمتد بالوحي ليقوّم بأحكامه جميع شؤون الحياة.. فإذا كانت النصوص تتناهى، والحوادث المتجددة لا تتناهى، كما يقول علماء الأصول، فإن اعتماد الاجتهاد كمصدر للتشريع، هو أحد مقومات الإمكان الحضاري، ومصدر الحيوية، وسبيل تحقيق الخلود، وآلية الفعل الحضاري، ذلك أن الاجتهاد، هو مصدر الإجابة عن كل الأسئلة، وتقديم الحلول لكل المشكلات، التي تواجه المسلمين، بعيداً عن صور التخلف، والعجز، والتخاذل الحضاري، التي يمكن أن يصنف خارج نطاقه الإسلام الصحيح، وأمانة التكليف.

وقد يكون من الأمور، التي لابد أن تقدر حق قدرها، على الرغم من كل المحاولات المستميتة لتشويهها، والتي كانت سبباً في اختيار الإسلام، واستمرار امتداده، في كل الظروف، والأحوال، والأوضاع، سواءً في أكثر المجتمعات تقدماً مدنياً، أو في أكثرها تخلفاً وانحطاطاً، أن الإسلام استرد إنسانية الإنسان، وجعل التدين حرية واختياراً، واستطاع إيقاف تأله الإنسان على الإنسان، الذي هو مصدر الشر، والظلم في العالم -كما أسلفنا-وحلّ المعادلة الصعبة، أو صوّب المعادلة، بين السلطة والألوهية والإنسان.

ذلك أن العلاقة، بين السلطة، والطغيان، والعلو في الأرض، وبين الألوهية، أخذت حيزاً كبيراً من تاريخ الإنسان الطويل، في هذه الدنيا، حتى لتكاد تكون علاقة تلازم في فترات طويلة، حيث كان يصعب على صاحب السلطة، أن يقبل، أو يعترف، أو يتصور بوجود سلطان غيره، أو بوجود إله غيره، يمكن أن يتجه إليه الناس.

وهنا لابد أن نذّكر مرة أخرى، بقولة فرعون، كأنموذج للطغيان في التاريخ البشري، عندما دعاه موسى إلى الإيمان بالله، حيث قال:(ما علمت لكم من إلهٍ غيرى ) (القصص: 38).. (أنا ربكم الأعلى ) (النازعات :24)، ومقوله النمرود:( أنا أحى وأميت ) (البقرة:258)، واستدل لذلك من استخدام سلطته، التي أوهمته بالألوهية، وفهم من قول سيدنا إبراهيم: إن الله يحي ، ويميت، تلك العملية الساذجة، حيث يقدر هو أيضاً أن يقتل إنساناً، ويطلق سراح آخر، ممن حكم عليهم بالإعدام، وعندما نأتي على ذكر هذين الأنموذجين، من تاريخ العلاقة، بين الإنسان، والسلطة، أو بين السلطان، والتأله، والعلو في الأرض، فإننا نؤكد أن هذه النماذج، سوف تتكرر، بشكل، أو بآخر، بشكل واضح، سافر، أو بشكل خفي مستتر، وأقل ما في ذلك اليوم، عزل الحياة عن سلطان الله، ليحل محله المتألهون، أو آلهة العصر الجديد-ولكل عصر آلهته-لأن القرآن خالد، ومجرد عن حدود الزمان، أو المكان.. وهذا الخلود يعني تكرار الفراعين، والنماريد،والقوارين، وتكرار المواجهة، والإصابات، والتدافع، بين الحق، والباطل، ليمتحن الناس، ويتمايزوا، والشر من لوازم الخير، قال تعالى: (كذلك يضرب الله الحق والبطل فأما الزبد فيذهب جفاء وأماما ينفع الناس فيمكث في الأرض ) (الرعد :17) ولولا هذه الشواهد، التي قد لا يخلو منها عصر، أو مكان، في جنبات الأرض الواسعة، لكان القرآن، كتاب تاريخ، وقصة، وتسلية، لا علاقة له بواقع الحياة، ولا مستقبلها.

إن صاحب السلطة، إذا تجرد من الإيمان بالله، وديمومة مراقبته، وخشيته، واستصحاب الحذر من التسلط، وما يترتب عليه من الإثم العظيم، يصعب عليه، بما يتملك من القدرات التنفيذية رؤية مقام العبودية لله تعالى، واستشعار المسؤولية عن العمل، والكف عن شهوات النفس.

لذلك نرى، من استقراء التاريخ، أن الكثير من أصحاب السلطان، والحكام، حتى عند اعترافهم، بوجود الله، لم يرضوا أن يعترفوا بسلطانه، على الأرض!!، وعند اعترافهم بهذا السلطان يحاولون تشويه، صورة العبودية لله تعالى، لتكون في خدمتهم، فيجعلون من أنفسهم، آلهة الأرض، نيابة عن إله السماء، ويعلنون أنهم هم المتحدثون باسمه، والمفسرون لتعاليمه، وأنهم هم ظله على الأرض، الذين يمثلون إرادته، وفي هذه الحالة، يربطون، بين استبدادهم، وتسلطهم على حياة الناس، وضمائرهم، وبين إدارة الله، الذي انتدبهم، بزعمهم، ليكونوا آلهة الأرض، بحيث يصبح كل من يخالفهم، أو يناقشهم، أو يتقاعس عن تنفيذ أوامرهم،عاصياً لله سبحانه.. إنه التأله، والتسلط، والظلم، باسم الله، والدين، وهو أشد وأشر أنواع التسلط، وتعبيد الإنسان للإنسان.

ولقد عاني الإنسان، من الحكم الديني، أو ما عرف في أوربا، باسم :( الحكم الثيوقراطي)، أشد المعاناة، حيث لم يعد الحكام يتسلطون، على دنيا الإنسان، ويلغون وجوده، واختياره، وإنما امتد ذلك، للتسلط على أخراه أيضاً، لأن معارضة الحاكم الثيوقراطي، عصيان لله، سوف يحاسب عليه الإنسان، في الدنيا بالظلم، والعسف، والطغيان، وفي الأخرة، بالعذاب الأبقى!!

وكان من المستحيل، عقلاً، وواقعياً أن يستمر، هذا التأله، الذي يمارس على الإنسان، منفصلاً، ومنكراً لله تارة، ومستخدماً اسم الله، وإرادته، حينًا آخر. لكن المشكلة بالقراءة الخاطئة، التي وقع فيها الإنسان،أثناء النظر إلى معادلة السلطة، والإنسان، فتوهم أن المشكلة كلها آتية من الإيمان بالله، الذي يزيفه هولاء، الذين يدعون أنهم ظل الله على الأرض، وليست المشكلة في التزييف، ومحاولة الاعتداء على سلطان الألوهية، من بشر، هم كسائر البشر، يعطون أنفسهم حق التسلط على الآخرين، الذين لا يختلفون عنهم، فكان أن أنكر الإنسان الدين، والإيمان، سقوطاً في هذا التزييف، دون أن يدرى أن حل المشكلة، وتصويب المعادلة، إنما يكون بالإيمان الصحيح، وتوحيد الألوهية، والربوبية، وإيقاف الشرك السياسي، ونسخ التألهات السلطوية، التي حاولت أن تجيّر الإيمان لحسابها.. ولم يدر الإنسان أن إلغاء الإيمان بالله، وقيمه، التي تحكم الجميع، ويتساوى أمامها الجميع، هو تكريس لألوهيات البشر، بشكل ظاهر، أو خفي، لأنهم هم، الذين سوف يتولون وضع الضوابط، والمعايير، التي يحكمون بها الناس، ويغيرونها تبعاً لأهوائهم، ولتحقيق مصالحهم، وتأمين سلطتهم، وتسلطهم.

ولابد أن نذكر هنا، أن أعتى المواجهات، كانت بين النبوة والكبراء، سدنة الشرك السياسي.. كانت بين مدعي الألوهية من البشر ومنكري ألوهية البشر وتسلطهم، من الأنبياء، إلى درجة يمكن أن نقول معها :إن النبوة جاءت كثورة تحريرية، لإيقاف تسلط الإنسان، على الإنسان، وإعلان مساواة الناس، وإعلان التوحيد، والوحدانية، التي تلغي تأليه البشر، أو شراكة البشر.. جاءت لتحرير الإنسان، من العبوديات جميعاً، وتربطه، بخالق البشر، بما فيهم أصحاب السلطان، وتمنحهم القدرة على الصمود، والمواجهة، والصبر، في مواجهة الظلم، والاستبداد، والشرك السياسي، وتجعل ثوابهم عظيماً، في مواجهة التأله، في الأرض، وتقدم لهم نماذج للظلم، والاستبداد السياسي الموهوم، وكيف كانت عاقبته، بل وتتحدى الظالمين، والمتألهين، بالعواقب، وأنهم على الأرض، ليسوا أكثر من وسائل إيضاح، وأدوات فتنة، موقوتة، للظلم، والطغيان، فأين فرعون، وهامان ونمرود، وقارون؟! وتمنحهم الثقة، والانتصار، مهما اشتد الظلم، والظلام، فالذي قوّض ملك فرعون، هو الذي تربى في قصره، على الرغم من كل الاحتياطات السلطوية.

ونستطيع أن نقول هنا :إن الإسلام، أو النبوة، الخاتمة، استطاعت أن تصوب معادلة السلطة، والإنسان، في التصور، وتجسد هذا التصويب، في الواقع، عندما نزعت صفة الألوهية، عن كل المخلوقات، وأعلنت المساواة في الإنسانية، والخلق، بين الحاكم، والمحكوم، بل أكدت أكثر من مرة، حتى لا يتلبس الإنسان بألوهية الإله، أن الأنبياء المتصلين بالله فعلاً، هم بشر من البشر، لا يملكون لأنفسهم ضراً ولا نفعاً.. وأن السلطة، هي في نهاية المطاف، تكليف، وليست تشريفاً.. وأنها مسؤولية، من أعظم المسؤوليات.. وأنها إجارة، وليست إمارة، وتعالياً على خلق الله.. وأن السلطان، ملزم بتنفيذ شرع الله.. وأن طاعته لا تنعقد، إلا بهذا الالتزام بالقيم، التي لا يد له في وضعها.. وأنه ليس بالضرورة، أن يكون خير الناس، لأنه تولى أمرهم.. وأن الشورى، إنما تكون فيما لا نص فيه،من الله، ورسوله، وحتى في تطبيق النصوص، وتنزيلها على الواقع.. وأن الإنسان، مسؤول أمام الله وليس أمام المخلوقين، مهما كانوا.

نقول : لقد استطاع الإسلام، أو النبوة الخاتمة، تصويب معادلة السلطة، والإنسان، واسترداد كرامة الإنسان، بحيث أصبحت العلاقة، بين السلطة والإنسان، نوعاً من العقد الاجتماعي، الذي ُضبطت فيه حدود الطاعة، والمسؤولية، سواء بالنسبة للحاكم، أو المحكوم، على حد سواء.

وكان شعار، أو ميثاق الحكم، في الإسلام: (أطيعوني، ما أطعت الله )- والناس يعلمون شرع الله، الذي يشكل لهم المعيار لفعل الحاكم، ويستوجب طاعته-(فإذا عصيت فلا طاعة لي عليكم ).. (وليت أمركم، ولست بخيركم، فإن أحسنت فأطيعوني، وإن أسأت فقوموني، ألا لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق ).

إن هذا الميثاق، للعلاقة سوَّى بين الحاكم، والمحكوم، وجعل المسؤولية أمام الله وليست أمام البشر، وجعل القيم المنزلة، الثابتة، هي معيار الحاكم، والمحكوم،وبذلك صوبت معادلة السلطة، والإنسان وألغيت ألوهيات البشر لبعضهم، وهذا هو أشد أنواع التسلط، الذي عاني منه الإنسان، في تاريخه الطويل، من التعامل مع الأرباب، من غير الله.

لكن النزوع السلطوي، إلى الطغيان، والاستبداد، والتألة، والترفع على خلق الله، لا يزال يتكرر بشكل، أو بآخر،..ولعل من مظاهر الخلود، في القرآن، أن يتكرر الوهم، عند بعض أصحاب السلطان، ويدعي بعضهم، أنهم آلهة الأرض، فتأتي ممارساتهم جميعاً، اعتداءً على كرامة الإنسان، واختيار الإنسان، ويتكرر شعار :(ءامنتم له قبل أن ءاذن لكم ) (الشعراء:49)، ويستمر العدوان على سلطان الله، في التشريع، ويخول بعض أصحاب السلطان أنفسهم، وضع الشرائع، التي تؤمن من مصلحتهم، وتحقق تسلطهم، ويتلاعبون بها، طبقاً لأهوائهم، حتى أصبحوا يتفننون بالاعتداء على سلطان الله، فكما كانوا، في الماضي يعتبرون أنفسهم آلهة الأرض، فهم اليوم يقولون :إن الإيمان بالله، أو الإسلام، هو نوع من العلاقة الوجدانية الخاصة، بين الله، والإنسان، محلها الضمير، بعيداً عن تنظيم مسالكه، وعلاقاته، في الأرض، التي يتصرف بها، بشر من البشر، هم أصحاب السلطة.

وبعد هذا، هل نستطيع أن نقول : إن فصل الدين عن الحياة، أو بعبارة أدق، فصل الحياة عن الدين، الذي يمثل التطبيق العلماني، في المجال المعرفي- كما أن اعتبار الإنسان مصدر كل السلطات، والتشريعات، باسم الديموقراطية، يمثل الوجه الآخر للتطبيق العلماني في المجال السياسي- هو لون من الارتكاس، عن طريق النبوة، وعودة إلى تأليه السلطة، ومنحها، سلطان وضع القيم للناس، وإلغاء لقيم الله الناظمة للحياة، والعلاقة بين الناس، وعودة إلى ممارسات الأرباب في الحكم، والتشريع، وإهدار كرامة الإنسان؟

لذلك نقول :إن تصويب المعادلة، بين السلطة، والألوهية والإنسان، هو من أبرز ملامح الإمكان الحضاري، وإعادة البناء الصالح.

وبعد:

ففي هذه الظروف العسيرة، التي، تمر بها الأمة المسلمة، التي يسودها الإحباط، واليأس، والتخاذل، والاستسلام، بسبب استكبار(الآخر) وعلوه، وما استدعى ذلك من العبث بمفاهيم الجهاد، وتغييب مدلوله، وإسقاط تاريخه، وتجاوز موقعه من الدين، بلون من التأويل الفاسد، والفهم المغشوش، والانتحال الباطل، وتفسير المنهزم، تأتي هذه اللمحات التفاؤلية، تحمل البشائر والبصائر، بأن المستقبل لهذا الدين، وتعيد الاعتبار لاستعلاء الإيمان، الذي يكاد يتوارى، والذي يحمي من الانكسار، استجابة لقوله تعالى :(ولاتهنوا ولاتحزنوا وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين ) (آل عمران :139)، ليس ذلك من خلال الأمنيات، والرغبات، وإنما من خلال السنن التغييرية، التي شرعها الله وأرادها، وفطر الناس عليها، وزودهم بآلياتها، بكل ما تقتضية من الإعداد الروحي والمادي، ليكون الإنسان هو وسيلة التغيير وهدفه، في آنٍ واحد.

يأتي هذا الكتاب، ليؤصل لمفهوم الجهاد، من الناحية الشرعية، ويعيد له روحه، وفاعليته، ومواصفاته، وبعده الحضاري، والمستقبلي، وما يقتضيه من إعادة الصياغة والإعداد، ويحذر من التقاعس، والتثاقل عن النفرة إليه، الذي يؤدي إلى تعريض الأمة للاستبدال، والانقراض، خاصة وأن دور الإعداد الروحي بدأ يتضاءل، ويغيب، تحت وطأة الانتكاسات المتلاحقة، وضغوط الحياة المادية، وانطفاء الفاعلية، وتسرب اليأس إلى النفوس، وغلبة سلطان العادة، وغياب معاني العبادة، وانكماش الأبعاد النفسية، والمادية، المترتبة على ملازمة المجاهد لذكر الله، لكي يتحقق بالنصر، والفلاح، :(يأيها الذين ءامنوا اصبروا وصابروا ورابطوا واتقوا الله لعلكم تفلحون ) (آل عمران:200).

إن الانهدام الروحي، الذي يعاني منه، الفرد المسلم اليوم، ومحاولات الانتقاص، والتقليل من شأنه، وإغفال دوره، يستدعي نذر النفس للمرابطة من جديد في هذا الموقع، وإحياء معانيه في نفوس الأمة.

وقد حاول مؤلف الكتاب-جزاه الله خيراً- ترجيح بعض الأمور الاجتهادية، لأسباب يراها ومواجهات يعيشها، ومقاصد شرعية يهدف إلى تحقيقها-وفي الأمر سعة، إن شاء الله- لكن تبقى وجهات نظر فكرية، اجتهادية، ليست بالضرورة أن تكون هي المرجحة في رأي كثير من المسلمين، ذلك أن (كتاب الأمة)، هو كتاب فكر، معنيُّ بالاجتهاد الفكري، والتشكيل الثقافي- وكل إنسان يجري عليه الخطأ والصواب من خلال مرجعية شرعية، منضبطة بضوابط الكتاب والسنة.

والله هو المرفق والهادي إلى سواء السبيل.

==============

# المقدمة

الحمد لله، الذي جعل المستقبل للإسلام، بالفتح المبين، والنصر العزيز، والتمكين لعباده المستضعفين، الذين، يسعون لنشر هدى الله، ونور الإسلام، أنحاء المعمورة، عبر القارات كلها، تحقيقاً لوعد الله الحق :(وكان حقاً علينا نصر المؤمنين ) (الروم :47).. (هو الذى أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون ) (التوبة :33)، وهو مستقبل قريب، إن شاء الله، يتحقق معه استخلاف المسلمين في الأرض، :(وعد الله الذين ءامنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم وليمكنن لهم دينهم الذى ارتضى لهم ) (النور :55).. (ألا إن نصر الله قريب ) (البقرة :214).. (إن ينصركم الله فلا غالب لكم ) (آل عمران :160).

وفي القرآن كله، يعضده ما صح من هدي نبينا عليه الصلاة والسلام، تأكيد بأن المستقبل لدين الإسلام، والأمة المسلمة، فالمصدر محفوظ بحفظ الله، باق أبد الدهر:(إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحفظون ) (الحجر:9).

فهو كتاب مصون عن التحريف، والتبديل.. أخباره صادقة.. وأحكامه عادلة :(وتمت كلمت ربك صدقاً وعدلاً لا مبدل لكلماته وهو السميع العليم ) (الأنعام:115).. ورسالته عالمية، تعم كل مكان وزمان..ورحمته تشمل العالمين :(تبارك الذى نزل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيرا ً) (الفرقان:1).. (وما أرسلنك إلا رحمة للعلمين ) (الأنبياء :107).

والصلاة والسلام، على من بعثه ربه، بالرسالة الخاتمة :(ما كان محمدُُ أبا أحد من رجالكم ولكن رسول الله وخاتم النبيين ) (_الأحزاب:40)، فكان من خصائصه عليه الصلاة والسلام، ختمه للرسالات، وعموم رسالته.. وختم الرسالة، وعموميتها، مقتضيان لأبديتها، وبقائها، لتؤدي دورها في هداية الإنسان، وعمران الكون، وسيادة الحضارة الإسلامية، التي هي حضارة الذاكرين، القانتين، الصالحين، الذين شروا أنفسهم، وأموالهم لله، وأقاموا شرع الله، فحكموا بالعدل بين الناس، وأحسنوا، وأصلحوا المجتمع، فكانت النهضة الواسعة، المؤذنة بتجديد أمر الدين، على سنة الله الماضية في القرون المتوالية :(إن الله يبعث على رأس كل مائة سنة، من يجدد لهذه الأمة أمر دينها ) (رواه أبو داود).

وبعد:

فهذه دراسات، كتبتها في ظروف مختلفة، حول المستقبل، الذي نعتقد يقيناً، بأنه للإسلام، بإذن الله، وعوامل وشروط صناعته، آخذين بعين الاعتبار، أنه يلزم لصناعة المستقبل، للإسلام، في عصرنا هذا، تضافر جهود العاملين في ميادين العمل للمستقبل، ومجالاته، لتلتقي، وتجتمع، وتتحرك إلى قبلتها، منشرحة الصدور، بتوحيد الله، مجتمعة القلوب، متحدة الكلمة، على حب الله تعالى، وحب رسوله صلى الله عليه وسلم، وحب المؤمنين:(يأيها الذين ءامنوا من يرتد منكم عن دينه فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه أذلةٍ على المؤمنين أعزةٍ على الكافرين يجهدون في سبيل الله ولا يخافون لومة لآئم ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله واسع عليم ) (المائدة:54).

ولعل في مقدمة هذه العوامل والشروط، الجهاد في سبيل الله، ذروة سنام الإسلام بمعناه الواسع، الذي يشمل: إلى جانب الجهاد بالأموال والأنفس، جهاد الحجة والبيان، ومجاهدة النفس، في سبيل الله، ليكون من ثم سبيل تمكين الدين، وإزالة العوائق والفتن، التي تحول دون صناعة المستقبل، ليعم من بعد السلام والأمن الحقيقيان، يقول تعالى :(أذن للذين يقتلون بأنهم ظلموا وإن الله على نصرهم لقدير 39 الذين أخرجوا من ديارهم بغير حق إلا أن يقولوا ربنا الله ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لهدمت صوامع وبيع وصلوات ومساجد يذكر فيها اسم الله كثيراً ولينصرن الله من ينصره إن الله لقوى عزيز ) (الحج: 39-40).

فالمؤمنون حين يمكن الله لهم دينهم الذي ارتضى، يؤدون واجبهم في بناء النفوس، ونشر الطمأنينة، وانشراح الصدور بذكر الله، وتحقيق التكافل، والإصلاح الاجتماعي، يقول تعالى:(الذين إن مكناهم في الأرض أقاموا الصلوة وءاتوا الزكوة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر ولله عاقبة الأمور ) (الحج:41).

ومثلما كانت مشروعية الجهاد بالسلاح، بعد سلوك السبل السليمة كلها، مع الصبر على الأذى، واحتساب ما لقي المؤمنون في سبيل الله، فهو كذلك في ترتيب العمل الإسلامي اليوم، لإحياء شعائر الله، وإقامة شرائعه، وتبليغ كلمة الحق ليكون الناس منها على بينة.. ولكن المؤمنين مأمورون أبداً بإعداد العدة، ما استطاعوا إلى ذلك سبيلاً، وعلى قدر طاقتهم في التصنيع الحربي، والإعداد القتالي:(وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ) (الأنفال:60).

وعوامل النصر الحقيقية، هي الاستنصار بالله، والتوكل عليه، والافتقار إليه، يقول تعالى:(واذكروا إذ أنتم قليل مستضعفون في الأرض تخافون أن يتخطفكم الناس فآوئكم وأيدكم بنصره ورزقكم من الطيبات لعلكم تشكرون ) (الأنفال:26).. ويقول :(يأيها الذين ءامنوا اصبروا وصبروا ورابطوا واتقوا الله لعلكم تفلحون ) (آل عمران :200). وقد لزم إعداد المجاهدين أنفسهم، بما يشرح صدورهم، من التحقق بالمقامات الإيمانية، والتزام ذكر الله كثيراً، ليقبل على القتال، وهو كره للنفوس، من حبب الله إليه الإيمان، وزينه في قلبه، وكره إليه الكفر، والفسوق، والعصيان، ليكون جهاد المجاهدين، من ثم: حتى لا تكون فتنة، ولا صد عن سبيل الله، ويكون الدين كله الله، ولتكون كلمة الله هي العليا، وكلمة الذين كفروا السفلى.

فالدعوة إلى الإسلام، هي دعوة الذاكرين، كما أن الجهاد في سبيل الله، هو جهاد الذاكرين، الذين إن مكّن الله لهم في الأرض، ورأوا إقبال الناس على الدين الحق، ذكروا الله، وعظموه، وعلموا الناس أمور دينهم، وسعوا في منافعهم، ومصالحهم، وحكموا بينهم بالعدل، والإحسان، وأقاموا حضارة الذاكرين، وكانت نهضتم العمرانية، تجعل المساجد محوراً وقبلة.

ومن هنا، تنشأ الأمة الجليلة وتأخذ مكانها في الريادة، والعمل، والإنتاج، والتفوق العلمي، والثقافي، والحضاري، لأن الذكر والدعاء، يبعثان على العمل الصالح، ويزيدان المقامات الإيمانية.

ولذلك كان سلفنا، من أهل الصحبة، والإحسان، يتناصحون بذلك، مثل قولهم لبعض :(أجلس بنا نؤمن ساعة ).(1)

وهذه الروح، تحث على العمل، والإنتاج، الجيد، والجهاد، وبناء الدولة، وإصلاح المجتمع، بل إن الأذكار والأدعية المسنونة، أثناء هذه الأعمال والواجبات، دالة على أن أكثر الذكر، والدعاء، ما يكون أثناء الحركة والعمل.. والأعمال العظيمة تنشأ، والحضارة تنهض، وتزدهر، في ظل الإيمان، والاطمئنان بذكر الله ودعائه، واطمئنان القلوب، وانشراح الصدور، وتحقيق السلم، والأمن.

وهي حقيقة مقررة، وقد سجلها بعض المراقبين من الباحثين في تاريخ الحضارات (إن الحضارة تبدأ، حيث ينتهي الاضطراب والقلق، لأنه إذا ما أمن الإنسان من الخوف، تحررت في نفسه دوافع التطلع، وعوامل الإبداع، والإنشاء، وحينئذ لا تنفك الحوافز الطبيعية، تستنهضه، للمضي في طريقه، إلى فهم الحياة، وازدهارها ) (2).

والحكم بالشريعة، الذي يعتبر من أهم شروط صناعة المستقبل، لأنه يستحيل عقلاً وشرعاً، تصور مستقبل إسلامي، بعيداً عن تطبيق شرع الله، هو ثمرة الجهاد في سبيل الله، لإقامة العدل والإحسان بين الناس، وحماية المجتمع، بسيادة أحكام الشريعة الإسلامية، على سعة معاني الشريعة، في المعاملات المدنية، والقوانين الجنائية، والحدود جزء منها، ومميز للمسلمين، وسياج منيع لتحقيق الاستقرار، وإصلاح المجتمع، لأنه لا يكون في المجتمعات الإنسانية، إلا بما شرعه الخلاق العليم، الذي يعلم النجوى والسر وأخفى، يقول تعالى :(ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير ) ( الملك :14)..

فلا يحقق التناسق بين الكائنات كلها، إلا ما شرعه الله، وخلاف ذلك الجاهلية، قديمة كانت أو حديثة :(أفحكم الجاهلية يبغون ومن أحسن من الله حكماً لقوم يوقنون ) (المائدة :50).

وقد أمر الله بأداء الأمانات إلى أهلها، وإقامة العدل بين الناس كلهم، مؤمنهم و كافرهم، موافقهم ومخالفهم، وعلى اختلاف أصولهم ومللهم:(إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل ) (النساء :58).

ومع العدل، أمر بزيادة الإحسان :(إن الله يأمر بالعدل والإحسان ) (النحل :90)..

ثم أمر بالبر والقسط مع غير المسلمين، ما داموا مسالمين :(لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من ديركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم إن الله يحب المقسطين إنما ينهكم الله عن الذين قتلوكم في الدين وأخرجوكم من ديركم وظهروا على إخراجكم أن تولوهم ومن يتولهم فأولئك هم الظلمون ) (الممتحنة:8-9).

ومهما كانت قوة البطش، التي يملكها المخالفون أو المحاربون، فإن المسلمين يملكون أن يقدموا للمجتمع الإنساني، هذه الدعوة.. وهي بقوتها الذاتية، بالغة، وهادية، لمن شرح الله صدره للإسلام، أو رضى بمسالمة هذا الدين، ما دام حراً في اختياره، لا سلطان لأحد عليه، بلا إكراه :(لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغى ) (البقرة :256).. (أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين ) (يونس :99).

لهذا، فإن بالحوار والمجادلة بالحسنى، حيث وجد الدعاة سبيلاً إلى ذلك، يتحقق التحول السلمي للإسلام، في كثير من بقاع الأرض اليوم، تماماً كما حدث من قبل.

ولنجاح هذه المهمة، لابد من نماذج صالحة، متأسية بالنبي صلى الله عليه وسلم، يرى العالم أثر الهدي النبوي عليها، في تكامله، وشموله، وجماله، بحيث يشع رأفة، ورحمة. ولا يكون ذلك، إلا وهذه النماذج، توالي في الله، وتعادي في الله.

وهذا الكتاب، يُفتتح بحديث عن بشائر مستقبل الإسلام، في مواجهة التحديات الحضارية المعاصرة، وقفنا من خلاله على أبرز معالم الاختلاف، بين الحضارة الإسلامية، والحضارة الغربية، مع مناقشة موضوعية لدور مؤسساتنا الثقافية، في هذا الصراع الحضاري، وبيان عناصر الإيجاب والسلب، في تقييم الدور الذي تقوم به، ثم عرضنا لبعض بشائر القرآن النبوة، بأن المستقبل للإسلام.

ولما كان المستقبل للإسلام، يصنعه حملة رسالة الإسلام، وفي مقدمتهم المجاهدون، كان لابد من الحديث عن المجاهدين، وأهل الذكر، في ساحات الجهاد.. خاصة ونحن نرى صراع الإسلام مع أعدائه، متفجراً في شتى بقاع العالم … كما كان لابد من الحديث عن القنوت، لحاجة صناع المستقبل للقنوت إلى الله، والارتباط به، وخاصة في النوازل، مواجهة التحديات، التي يصارعونها، وهو يصنعون مستقبل الإسلام المشرق بإذن الله.

ومما يشكل الركن الأساس، في صياغة مستقيل الإسلام، تطبيق الشريعة الإسلامية، بل هو أهم ثمرات الجهود، التي تبذل في ميادين الجهاد وغيرها، ونحن اليوم في عالم اختلطت فيه المجتمعات، وتعددت فيه الملل والثقافات، حتى في كثير من مجتمعاتنا الإسلامية، فكان السؤال الذي لابد من بيان الجوانب المتعلقة به، وهو ما يتعلق بتطبيق أحكام الشريعة في المجتمعات، التي تتعدها فيها الملل والثقافات.

الدكتور أحمد علي الإمام

رمضان 1415هـ

==============

# بشائر مستقبل العالم الإسلامي في وجه التحديات الحضارية المعاصرة

منذ بزوغ فجر الرسالة، والإسلام يعيش في دورات من الصراع، والتداول الحضاري.. يواجه التحديات الثقافية والاجتماعية، ويتفاعل مع التجارب الإنسانية من حوله.

يدافع الكفر، ويدعو لتحرير العباد، وتنمية المجتمعات، ويجادل بالحسنى، متميزاً بعقيدته، وشموخ بنيانه الحضاري المتفرد.

والوقوف على التحديات، المعاصرة منها، المستقبلية، يقتضي وقفة مراجعة وتقويم، لمواقفنا، ومؤسساتنا الثقافية، فنبيّن عناصر الإيجاب، التي اكتسبتها، وننبه على أوجه السلب والقصور، التي لحقت بها، حتى يستقيم أمرها، وتعتدل في وجه التحديات الحضارية المعاصرة.

ولعل من عناصر الإيجاب في ثقافتنا، ذاك الاهتمام بالرصيد الهائل من المسلمين- علماً نظرياً، وعملاً تطبيقياً- في مجالات العلوم، والمعرفة، والثقافة، وما صاحب ذلك اجتهاد فقهي متجدد، يحيط بالواقع، ويسعى لمواجهة المشكلات المستجدة. وفي مقابل هذا الكسب الإيجابي، فإن واقعنا الثقافي اليوم، يعاني من مشكلات التبعية والتقليد، والفهم القاصر للذات، وجهود سلفنا العظام، فهماً لا يبلغ الشمول والتكامل، ولا يراعي الوحدة الموضوعية في شرح النصوص، ويهمل متغيرات الحاضر والعصر.. كما أن بعض المؤسسات الفكرية والثقافية، وبعض أفرادنا وجماعتنا، انحرفت وراء الغرب، تنادي بتجزيء الإسلام وتبعيضه، بين إسلام أصولي، وإسلام سياسي، وإسلام صوفي، وتفصل بين الدين والسياسة، وتخذل روح الجهاد، والاجتهاد، متناسية أن الدين كلمة شاملة، جامعة للمعاني العملية، التي تقيم الحياة الدنيا والآخرة.

وإذا كان المسلمون قد عانوا من الغفلة لقرون مضت، ثم انتبهوا، فإن الصحوة الراهنة، قد جلبت عليهم عداءً متصاعداً، وأدخلتهم في دائرة صراع جديد، شكلاً ومضموناً وقد يكون المطلوب هنا، أن نسعى لنقل هذا الصراع المتصاعد، إلى دائرة الحوار، وأن نبادر إلى فهم الغرب، وأساليبه، وأن نعد العدة.

والثقافة الإسلامية، وسيط اجتماعي فاعل، وحي، يسهم في تحقيق التنمية الشاملة، ويؤسس لنهضة جديدة للحضارة الإسلامية، التي هي حضارة أمة منتجة، عاملة...معتنية بالتنمية، والاعتماد على الذات.. حضارة أمة تعتقد جازمة، بما تواتر لديها من الأدلة، والنقول، والإرهاصات، أن لها المستقبل كله ظهوراً، وانتشاراً، وأن عاقبة أمرها النصر والتمكين.

تحديات .. وتميز

مقدمة في تعريف التحديات الحضارية المعاصرة وتميز الحضارة الإسلامية

1- مفهوم الحضارة:

الحضارة، في تعريف بعض الباحثين في علوم الحضارة، تعني العمران، والإنتاج الثقافي، والنظام الاجتماعي (1)، فهي كما عرفها ابن خلدون:(أحوال عادية، زائدة على الضروري من أحوال العمران)، زيادة تتفاوت بتفاوت الرفه، وتفاوت الأمم، في القلة والكثرة، تفاوتاً غير منحصر..) (2). أو كما عرفها ول ديورانت هي :نظام اجتماعي، يعين الإنسان على الزيادة من إنتاجه الثقافي(3). وقد درس الدكتور أبو زيد شلبي التعريفيين، واستخلص منهما أن الحضارة هي:

(مدى ما وصلت إليه أمة من الأمم، في نواحي نشاطها الفكري، والعقلي، من عمران، وعلوم، ومعارف، فنون، وما إلى ذلك، والترقي بها في مدارج الحياة ومسالكها، حتى تصل إلى الغاية التي تواتيها بها أحوالها، وإمكانياتها المختلفة) (4).

2- الحضارة الإسلامية:

والحضارة الإسلامية، ذات نسب عريق في الحضارات، سبقاً، ورسوخاً، وشمولاً، ومحتوى، لكونها بحكم نسبتها إلى الإسلام، متسمة بالخلود، ولا تزال آثارها المادية والمعنوية باقية، وإسهاماتها في الحضارة الكونية، والنهضة العلمية المعاصرة، ظاهرة (5).

وقد قامت الحضارة الإسلامية على ركن شديد من القيم الأصلية، الراسخة والحارسة، لأسباب الرقي البشري، والرعاية لكرامة الإنسان (6)، وحرماته، من التوحيد والعدل، والإحسان، والمساواة، والإصلاح، والصدق، والعفاف، والأمانة، والعلم، والرحمة، والرفق، وحسن الخلق، والإخلاص، والتجرد، والعمل الصالح.

ولا عجب، إذ هي وليدة التربية الإيمانية، فردية وجماعية، بين مكة والمدينة، فأقامت صوراً مشرقة، حيث أقامت الحضارة الفكرية، التي ظهرت في تأليف العلماء، المبثوثة في الأنحاء، وقد سبقت غيرها في أبحاث العلوم الشرعية، والاجتماعية والطبيعية، واللغوية، مع العناية بالعمران، والجمال التوحيدي، في المساجد، والجامعات، والمداس، والقصور في المدن الإسلامية العريقة، في مشارق العالم الإسلامي، ومغاربه، وأسست أركاناً، وقوائم راسيات للعلم التجريبي، اعتمدت عليها المؤسسات والجامعات الأوربية، وقامت عليها النهضة العلمية المعاصرة (7).

3- بين الحضارة الغربية المعاصرة والحضارة الإسلامية:

(أ) الحضارة الغربية في الأساس، حضارة صناعية تقنية، فاقدة للتقوى، توحلت إلى حضارة استكبارية باطشة، تركت الجدال بالحسنى، وجاءت للناس على متن المقاتلاتـ والمدرعات، تمشي بينهم بالتقتيل، والتشريد، والاضطهاد، والإبادة، ويشهد لذلك الحرب العالمية الأولى، والثانية، وأخيراً، النظام العالمي الجديد.

أما حضارة الإسلام، فتقوم على الجمع بين التقوى والتقانة، دون تعارض أو تنافر.

(ب) والحضارة الغربية، من ناحية أخرى، تقوم على تمجيد العقل، والاعتماد عليه وحده، بينما تقوم الحضارة الإسلامية على التوفيق بين العقل والوحي، فليس فيها خصام، أو فصام بين الدين، والعلم، كما كان في أوربا، بل يتواءم العلم والإيمان: الإيمان القائم على العلم.. والعلم المؤمن، الداعي للإيمان.

(جـ) الحضارة الإسلامية، تقوم على السلام العالمي، والأمن الداخلي(8)، كما في قوله تعالى : (وإن جنحوا للسلم فاجنح لها وتوكل على الله إنه هو السميع العليم) (الأنفال:61) (لا ينهكم الله عن الذين لم يقتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم إن الله يحب المقسطين ) (الممتحنة:8).

وفي الحديث النبوي :(المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده ) (9) و(… المؤمن من أمنه الناس على دمائهم وأموالهم ) (10).

بل تتجاوز حضارة الإسلام ذلك، إلى الاتساق، والانسجام، والتوافق، والتوازن، مع نظام الكون والحياة، والإنسان(11)، حيث أن الحقيقة الدينية في خلق الإنسان وتمام إسلامه: اعمار الكون، بالصلاح، والفلاح، بعد تسخيره له:(الله الذى سخر لكم البحر لتجرى الفلك فيه بأمره ولتبتغوا من فضله ولعلكم تشكرون * وسخر لكم ما في السماوات وما في الأرض جميعاً منه إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون ) (الجاثية :12-13).

(د) يتجلى هدى الإسلام، في تسخير الكون للإنسان، ليؤدي شكر النعمة، بينما تسعى الفلسفة المادية، لتسخير الإنسان، وتعبيده للكون، وظاهر الحياة الدنيا(12).

ومهما يكن من أمر، فإن الصراع بين حضارة الإسلام، وحضارات غيره، صراع مستمر، إلا أن الحقيقة، التي يجب أن تبقى ناصعة، واضحة، بينة، هي أن العاقبة لأهل التقوى، والبقاء للحق، والخير، والبر وما ينفع الناس :(فأما الزبد فيذهب جفاءً وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض ) (الرعد:17).

الخطر المخيف

خطر الصراع بين الحضارات الإسلامية والحضارات الأخرى، يكون محدوداً لو بقي المسلمون معتصمين بدينهم، متميزين بأصالتهم، ولكن فقدان هذا، هو النذير بالخطر، لأنه يعني فقدان الانتماء والإحساس بالذات.. والسلمون إنما يدركون ذاتهم من طريقين:

(أ) من طريق وحدتهم، التي تكونها المفاهيم، والتعاليم، والقيم المشتركة.

(ب) ومن طريق مخالفتهم للآخرين، والتي تنشأ عن المغايرة، والمفارقة في الاعتقاد، والعبادة، والإخلاص.

وهذا التمييز والتمايز، الذي يجب أن يبقى، هو الأمانة التي تلقاها كل جيل عمن قبله، ولابد أن يحملها إلى من يجيء بعده، ليبقى مستعراً، متقداً، يواجه كل التحديات، والحضارات، على مر الأزمان، إلى يوم تبديل الأرض غير الأرض والسموات(13).

فإن فقد هذا الإحساس، وزال هذا التمييز، واجهنا خطراً أكبر، يتهدد أصالتنا، ويهد أركان بقائنا(14). ذلك الخطر، يتمثل في تقليدنا، وتبعيتنا للملل، والحضارات الأخرى، وقد حذر رسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم من خطورة التقليد والتبعية لغيرنا، فقال :(لتتبعن سنن من كان قبلكم شبراً بشبر وذرعاً بذراع حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه )، وقد ورد هذا الحديث بروايتين، بإحداهما :قالوا: اليهود والنصارى؟ وفي الأخرى قالوا: الفرس والروم؟ فأقرهم..(15).

إذ حيث كان تقليدهم في العبادات، كانت الإشارة إلى اليهود والنصارى، وحيث كان تقليدهم في الحضارة، والثقافة، كانت الإشارة إلى الفرس والروم.

توجيه الصراع الحضاري

قدر الله أن نكون أمة الرسالة الخاتمة، ولذلك فإن أعدى من عادانا، في الماضي، هم أهل الكتاب، ومن والاهم على هذه المعاداة، ممن قادوا حملات الحروب الصليبية، من العواصم الأوربية، على المسلمين، وهكذا كانت بداية الغرب في اتصاله بالعالم الإسلامي، عن طريق المواجهات العسكرية أولاً، ثم الإدارة الاستعمارية، أو الاستخرابية ثانياً، فأصاب المسلمين من جراء ذلك غزو عسكري سياسي، واستغراب فكري ثقافي، واجتماعي، ونهب اقتصادي.

ثم لما نهض المسلمون، وبدأوا مسيرة العودة إلى الجذور، عاد خصومهم للحرب العدوانية، بأوهى الأسباب والحجج، وبمعايير مزدوجة في التعامل، خاصة بعد اختفاء التحدي الذي كان يمثله الاتحاد السوفيتي، في مواجهة أمريكا، زعيمة النظام الرأسمالي.

وقد صارت هذه القوة العسكرية، هي سبيل الحضارة الغربية الأوحد في إسكات صوت المسلمين، إن طلبوا رقياً، أو سعوا إلى الالتزام بشريعتهم، أو أرادوا إصلاح حالهم، أو تحرير قرارهم، أو تصحيح انتمائهم، وذلك بعد ما كانت من قبل تستخدم قوتها الاقتصادية، ومعوناتها، وقمحها، في فتنة المسلمين، وصدهم عن سبيل الله.

هذه العلاقة بيننا وبين الغرب، علاقة متخلفة في الحوار الفكري، والصراع الحضاري، لذلك قد يكون المطلوب: العمل على توجيه هذا الصراع، من صراع العسكر، وتحويله، إلى صراع الحوار.. نصرفهم عن علاقة الحمية والقتال، إلى علاقة التحاور، والجدال بالحسنى، فإن استطعنا ذلك، نكون قد حولنا صراع الحضارات، من التقاتل، والتحارب حول الموارد، ورغيف العيش، إلى صراع حول الثقافة والتحاور.

غير أن هذا التحويل، وهذا التوجيه، يتطلب منا أموراً عدة، لعل أهمها:

(أ) تحديد القضايا والموضوعات، التي يصب عليها، ويدور حولها، الحوار.

(ب) الاجتهاد في تجديد وتقويم الوسائل، التي نقيم بها الحجة عليهم.

(ج) أن نهتم بالمثال، والأنموذج الفعلي، لا أن نعتمد مجرد المقال.

(د) أن نكون عالمين بما لدى غيرنا، وخصوصاً الدين المقارن، وقد سن لنا الرسول صلى الله عليه وسلم هذه السنة، فيما أخرجه الإمام أحمد عن عدي بن خاتم قال:(دخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال:(يا عدي أسلم تسلم )، فقلت: إني من أهل دين، فقال:(أنا أعلم بدينك منك )، فقلت: أنت أعلم بديني مني؟ قال (نعم، ألست من الركوسية(16)، وأنت تأكل مرباع قومك ؟) قلت: بلى، قال : (هذا لا يحل لك في دينك ). قلت: نعم. فلم يعد بعد أن قالها، فتواضعت لها). الحديث(17)… وهو دال على أن العلماء المسلمين، ينبغي أن يكونوا أعلم بما عند المخالفين، وخاصة من ابتلى بهده المهمة.

(هـ) إعداد دعاة منا ممن عاش في الغرب، وعرف لغاتهم، ومصطلحاتهم، وطرائقهم في التفكير، ومداخلهم في التعامل، ليؤدوا مهمة الحوار، والتواصل الثقافي والحضاري.

(و) أهمية إعداد العدة، وامتلاك القوة، والتقدم العلمي، والتفرد الحضاري، والتمييز الأخلاقي، لنفرض على (الآخر) احترامنا، حتى يسمع كلامنا، بعد إزاحة العوائق التي يضعها بيننا وبينه، بل بيننا وبين قومنا.

عناصر الإيجاب والسلب في مواقفنا ومؤسساتنا الثقافية

حتى نقف على التحديات الحضارية، المعاصرة، والمستقبلية-كما أسلفنا- لابد من وقفة مراجعة، وتقويم لمواقفنا، ومؤسساتنا، الثقافية، نصحب مراكز الثقافة، وأدواتها، وقدراتها، وطاقتها، لمواجهة المتغيرات، فنبين عناصر الإيجاب، التي أكتسبها،وننبه على أوجه السلب، والقصور، وبيان أسبابها، في محاولة للخروج منها، وتصحيحها، وتقويمها، لتعتدل، وتستقيم في وجه التحديات الحضارية، المعاصرة، والمستقبلية.

أولاً: عناصر الإيجاب:

(أ) للمسلمين رصيد هائل- علماً نظرياً، وعملاً تطبيقياً- في مجالات العلم، والمعرفة، والثقافة، والحضارة.

(ب) المسلمون هم أول من أقام المكتبات، وأنشأ مراكز الترجمة، والمعاهد الأهلية، والشعبية، وكانوا رواداً في كل موضوعات العلوم، وقد بذلوا الجهود العلمية، والمعرفية، وعرفوا بالتسابق العلمي، وتقدير النابغين فيه، مهما كان اختلافهم، وإن كانوا من غير المسلمين، فقد احتوت كتب طبقات العلماء، على تراجم عدد من العلماء، من غير المسلمين، في العلوم الطبية، والهندسية.

(ج) كانت المحاضر، والجوامع الجامعية، في حواضر العالم الإسلامي، تعلم إلى جانب العلوم الشرعية، والعربية، العلوم الطبية، والهندسية، وكانت المحاضر الأندلسية، تستقبل الطلاب من أوربا وغيرها.

(د) لم يعرف المسلمون هذا الانفصال بين ما يسمى بالعلوم العصرية، والعلوم الدينية، إلا على آخر عهود السلاطين العثمانيين، وكان هذا الانفصال من أخطر ما أثر في تخلف المسلمين علمياً.

(هـ) ومن إيجابيات حضارتنا، أن العلماء، والفقهاء- على بعض الفترات انفتحوا للعصر، والحال، بفهم للواقع، وفقه للمرحلة التي يعيشونها، مع سعة أفق، وعمق إدراك، وصاروا يعالجون المشكلات المستجدة، والقضايا المتجددة، والحوادث العارضة.

(و) يطبقون الشريعة، وفق مقتضيات العصر والحال، مع التفريق بين الشريعة، والتطبيق الفقهي، ومراعاة ظروف المجتمع، ولهذا كان استخدام العرف.. ومن المعلوم عند أهل أصول الفقه، أنه لا ينكر تغير الأحكام والفتوى، لتغير الأزمنة، والأحوال، والعوائد، والنيات.. ومن طريف ما يذكر هنا، حكاية العلامة زروق الفاسي(ت899) في شرحه لرسالة بن أبي زيد القيرواني، أن الشيخ أبا محمد بن أبي زيد القيرواني(ت386)، صاحب الرسالة المشهورة في فقه المالكية، انهدم حائط بيته، وكان يخاف على نفسه من بعض الطوائف، فربط في موضعه كلباً، اتخذ للحراسة، فقيل له: إن مالكاً يكره ذلك فقال رحمه الله : لو أدرك مالك زمانك، لاتخذ أسداً ضارياً!؟ (18).

(ز) ولابد هنا من إشارة إلى الومضات، والإضاءات التجديدية، والاجتماعية، بين عدد من قادة الحركات، والمؤسسات الإسلامية، في عالمنا المعاصر، مما يبشر بمستقبل زاهر.

ثانياً: عناصر السلب:

إن كانت تلك هي بعض عناصر الإيجاب في مواقفنا، ومؤسساتنا الثقافية، في عصرنا، وعالمنا، فإن من أخطر عناصر السلب، ومظاهر القصور:

(أ) عدم استكمال جهود التأصيل، والتعريب، في مؤسساتنا العلمية، مع مضي هذه العقود من سنوات استقلالنا‍. مما يعني ضعف إرادة البناء، والتبعية الثقافية للغرب (19)

(ب) الاشتغال بدراسة اللغات الأوربية، في برامج التعليم العالي، على حساب حاجات أمتنا الفعلية، وأولوياتنا الحضارية.

(جـ) عدم التخطيط للمستقبل، بما يكافئ حجم الأخطار، التي تواجهها أمتنا، ومازال ما يسمى بالعالم الثالث، ونحن جزء منه، ينفق مالا يزيد عن 30% فقط مما ينفق، على الخطط، والبرامج المستقبلية (20).

(د) ومما يؤثر سلباً على علاقتنا الثقافية، ضعف التبادل التجاري، والمعاملات بين الدول الإسلامية، حيث لا تتجاوز نسبة 10% بينما تبلغ نسبة 90% مع الدول الغربية، مع ما عرفت به من احتكار، واستغلال لمنتجاتنا الإسلامية، فضلاً عن عدم قيام سوق إسلامية مشتركة، في مواجهة السوق الأوربية المشتركة، وغيرها من التكتلات الاقتصادية الأخرى.

(هـ) العلاقات الدبلوماسية، بصورتها القديمة، صارت متخلفة.. فالعلاقات بين الدول، حوار ثقافي في المقام الأول، حتى في العلاقات الاقتصادية، والتبادل التجاري، وهو حوار كامل، قد يعبر عنه المثقفون بصورة شاملة، تؤدي إلى حسن الفهم المشترك، والتواصل.

(و) التبعية الفكرية، والتقليد، والكتب المدرسية المذهبية، التي سادت في الفكر الإسلامي، وعطلت تجديد الفكر.

(ز) الاشتغال بالبحوث النظرية، النمطية دون أصالة، أو تجديد، أو اجتهاد، وهي بحوث آلية، لا تبعث روحاً، ولا تزيد عن كونها تمارين رياضية.. وشيء عجيب أن مؤسسات كثيرة في التعليم، العالي خاصة، تخرج حملة شهادات عليا، يترفعون، ويترقون في سلك الأستاذية، دون أن يقدموا إضافات علمية مقدرة، ولكن:

أما الديار فإنها كديارهم….. وأرى نساء الحي غير نسائه

(جـ) فهم بعض مؤسساتنا، وأفرادنا، وجماعتنا، للتراث، وجهود سلفنا العظام، فهماً، لا يبلغ الشمول، والتكامل، ولا يراعي الوحدة الموضوعية في فهم النصوص، ولا يراعي الحاضر، والعصر، الذي نحن فيه، بتدبر، وتبصر، وفقه.

(ط) استغلال الغرب لبعض المقصرين من أفراد، وجماعات، واستخدامهم لمصالحه، على حساب المسلمين، تعطيلاً لجهودهم، في العودة، وكسب الصراع، وإيقافاً لمسيرتهم، حتى ساقهم، بكثرة الطرق والإثارة، إلى مواطن الخلاف، يؤجج نار الفتنة بين المسلمين، لصرفهم عن طريق النصر، والعزة، والتمكين، بل ينعطف بهم عن هم التمكين، والتفاعل مع الواقع، والعصر، إلى الثرثرة، والجدل، والمراء.. وبسبب ذلك مازلنا نتناظر حول المتشابهات، ونتجادل حول غسل، أو مسح قدم، حتى صار بعضنا لا يملك من الأرض، موضع قدم!!

(ي) انحراف بعض المؤسسات الفكرية، والثقافية، وبعض أفرادنا وجماعاتنا، وراء الغرب، تنادي بتجزيء الإسلام، وتبعيضه بين إسلام أصولي، وإسلام سياسي، وإسلام صوفي، فصلاً، بين الدين والسياسة، وتخذيلاً لروح الجهاد، والاجتهاد، والتأصيل، بينما الدين كلمة شاملة، جامعة للمعاني، العلمية والعملية، التي تقيم الحياة الدنيا، والآخرة.

(ك) هجرة كثير من المؤسسات الثقافية، في العالم الإسلامي- خاصة تلك التي تدرس وتبث العلوم المدنية والطبيعية- للقرآن، مخاصمة له، مجافية إياه، مبعدة له عن تلك العلوم، والمعارف.. فتدرس هذه العلوم، كأن ليس للقرآن فيها دخل، أو علاقة، مع أنه أنزله رب العزة، تبياناً، لكل شيء.

وهجره القرآن في واقعنا المعاصر، اتخذ صوراً ثلاث:

الأولى :الفصل بين كتاب الله المقروء، وكتابه المنظور، أي الكون.

الثانية :الأمية، وأعني بها الأمية الحضارية، والثقافية، والدينية، وأمية الحرف.

الثالثة :القصور عن فهم عالمية الدعوة.

1- الفصل بين الكتاب المقروء والكتاب المنظور:

الفصل بين كتاب الله المقروء، وهو القرآن، وكتاب الله المنظور، وهو الكون، يشكل في خارطة همومنا اليوم، تحديا كبيراً.

ولابد من إنهاء هذا الفصام، وإزالة الخصام، بين المصحف والكون، في كثير من أرجاء العالم الإسلامي، حتى يكون الذي يتلو القرآن، ناظراً في الكون، يتأمل خلق السماوات والأرض، ويتدبر سر التوافق بين الأجرام، والتوازن بين الكواكب، ليهتف في الآخر مقراً موقناً :(صبغة الله ومن أحسن من الله صبغة ونحن له عابدون ) (البقرة :138)، (ما خلقت هذا بطلاً سبحنك ) (آل عمران:191)، ويدرك سر وجوده:(وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون ) (الذاريات:56).

لهذا ندب القرآن قارئيه، بالسير في الأرض، تنقيباً للخيرات، وطلباً للأرزاق، وأعمارا للكون، واعتباراً بسننه، وقوانينه، ونواميسه :(قل سيروا في الأرض فانظروا كيف بدأ الخلق ثم الله ينشئ النشأة الآخرة إن الله على كل شيء قدير ) (العنكبوت:20) (قد خلت من قبلكم سنن فسيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة المكذبين هذا بيان للناس وهدًى وموعظة للمتقين ) (آل عمران :137-138)، (لخلق السماوات والأرض أكبر من خلق الناس ولكن أكثر الناس لا يعلمون ) (غافر:57)، وهذا هو سبيلنا إن أردنا حقاً أن يكون القرآن دستورنا.

2- الأمية:

أن تبقى الأمية في العالم الإسلامي، إلى يوم الناس هذا، أمر لا ينبغي أن يكون، لأنه بدون محوها وإبعادها عنا تماماً، لا يمكننا إقامة أي صرح لحضارتنا، إذ أن حضارة الإسلام قام أساسها على :(اقرأ باسم ربك الذي خلق ) (العلق:1-2)، فكانت (اقرأ)، أو الأمر بالقراءة، أول كلمة تتنزل من السماء الدنيا، على قلب النبي محمد صلى الله عليه وسلم.

ولكن حقيقة الإشكال، ليست في الأمية الحرفية، بقدر ما هي في الأمية الثقافية، التي لا تعي الكتاب، وإن نظرت فيه، لا تتدبره، وإن قرأت آياته.. إنها الأمية التي تجعل أصحابها يقيمون حروف الكتاب، ويضيعون حدوده، وقد نعى الله تعالي هؤلاء فقال :(أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها ) (محمد :24)،(كتاب أنزلناه إليك مبارك ليدبروا آياته وليتذكر أولوا الألباب ) (ص:29)..هذه هي حقيقة الإشكال: الأمية التي لا تعي الكتاب، ولا تتدبره،ولا تتفاعل دينياً مع مشكلات العصر.

3- القصور عن فهم عالمية الرسالة:

إن القصور عن فهم عالمية الكتاب، يفضي إلى القصور في تبليغ الرسالة، ونشر الدعوة في العالمين، وقد قامت الأدلة على عالمية الرسالة منذ العهد الملكي في تنزيل القرآن العظيم:(وما هو إلا ذكر للعلمين ) (القلم :52) (إن هو إلا ذكر للعلمين ) (التكوير:27)، (تبارك الذي نزل الفرقان على عبده ليكون للعلمين نذيراً ) (الفرقان:1).

وكان الرسول صلى الله عليه وسلم تبعاً للكتاب الذي أنزل عليه، رسولاً للعالمين، ورسالته رسالة عالمية :(قل يا أيها الناس إنما أنا لكم نذير مبين ) (الحج:49)، (وما أرسلنك إلا كافة للناس بشيراً ونذيراً ) (سبأ:28)، (وما أرسلنك إلا رحمة للعالمين) (الأنبياء:107)، وأمته من ورائه أمة عالمية، همّها دولي، ودعوتها للبشرية، وما أخرجها الله إلا للناس، آمرة بالمعروف، ناهية عن المنكر:( كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله ) (آل عمران:110)، (وكذلك جعلناكم أمة وسطًا لتكونوا شهداء على الناس ) (البقرة:143).

دور التنمية الثقافية في التنمية الاجتماعية والاقتصادية الشاملة

ونتجاوز العناصر السلبية في مواقف بعض مؤسساتنا وجماعتنا، التي لا تلبث أن تزول بنهضة الأمة، نهضةً شاملة، بكل عناصر الحضارة، الثقافية، والاجتماعية، والاقتصادية، وهي جوانب يعزز بعضها بضعاً، ويقويها، لتسهم جميعاً في صياغة مستقبل الحضارة الإسلامية.

فالحضارة الإسلامية، هي حضارة أمة منتجة عاملة.. معتنية بالتنمية، والاعتماد على الذات، مع تفضيل للاستثمار الزراعي، لكونه أكثر بركة، ونفعاً، وأعظم تحقيقاً للأمن الغذائي، وحرية القرار، والاستقلال.. وفي تقدير العمل، وأهمية تداول المال، واستثماره، بلغ فقهاؤنا مبلغاً عظيماً، حتى إن بعضهم قال فيمن ضاع له مال، أن يبذل مثله إن لزم إيجاراً في استخراجه، حتى لا يعطل تداوله بين الناس.. ومن الفقه، قطع الصلاة حفاظاً على روح متقوم.

والتوجيهات النبوية، تحض على العمل والإنتاج، يقول صلى الله عليه وسلم :(إن قامت الساعة وفي يد أحدكم فسيلة، فإن استطاع أن لا تقوم حتى يغرسها، فليغرسها ) (21).

وقد سلكت بلادنا الإسلامية، مذاهب شتى في التنمية، ولكن فشلت كل محاولة في التنمية الاقتصادية، أو الاجتماعية، لكونها معزولة عن أصالة وتراث أمتنا..إذ لا سبيل إلى نهضة أمتنا، وسيادة حضارتنا، إلا بالتماس الهدى من شرع الله.

وما دامت هذه نظرة الحضارة الإسلامية، للتنمية والإنتاج، فإنها إذاً تقوم على أمور، هي:

أولاً :إن الإسلام يعارض جمع الثروات في يد واحدة، أو أيد معدودة، دون الناس، لذلك نادى القرآن بتوزيع الثروات، من الفيء، والغنيمة، والزكاة، والخراج، والعشور، والتركات بين أكبر عدد ممكن من أفراد المجتمع :(كى لا يكون دولة بين الأغنياء ) (الحشر:7).

ثانياً: الأرض لمن يحييها، لمحاربة الإقطاع، الذي كان يأخذ الأرض كلها، نظير ضرائب صغيرة.

ثالثاً: الملكية الحقيقية لله، كما في أكثر من عشرين، آية في القرآن، نذكر منها: قوله تعالى :(وأنفقوا مما جعلكم مستخلفين فيه ) (الحديد:7).

وقوله تعالى:(وأتوهم من مال الله الذي أتاكم ) (النور:33).

وقوله تعالى:(ومن قدر عليه رزقه فلينفق مما أتاه الله ) (الطلاق:7).

أما الحضارة الغربية، فإن نظرتها للثروة، والمال، تقوم على الرأسمالية، التي تعطي للمالك الحرية المطلقة، من حيث أنه هو المالك الحقيقي، الذي أوتي على علم عنده، ولا علاقة لله بماله.

أي مستقبل لثقافتنا في وجه التحديات المعاصرة والمستقبلية ؟

المستقبل للإسلام، ليس هو مجرد شعار نتبناه، محوطاً بالأمل والرجاء، إنما هو دين، وعقيدة..نؤمن يقيناً، ونوقن بجزم، أن المستقبل للإسلام، لأن المسلم بحكم إسلاميته، وتدينه، يؤمن بالمستقبل، وأن لكل مشكلة حلاً، ولكل مسألة جواباً، ولكل داء دواءاً، وقد قرر هذه الحقيقة كتابنا المحفوظ، وسنة نبينا المعصوم.

1- بشائر قرآنية:

فمن آيات النصر وبشائر المستقبل، في القرآن الكريم، وهي بغير حساب:

(أ ) قوله تعالى :(ولقد كتبنا في الزبور من بعد الذكر أن الأرض يرثها عباديَ الصالحون ) (الأنبياء:105)، فوراثة الأرض، مستقبل ينتظر الصالحين من عباد الله، الذين التزموا دينه، وأقاموا شرعته.

(ب ) ويتأكد ذلك بظهور الإسلام، وسيادته، وهيمنته على الأديان كلها، مصداق قوله تعالى:(هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولوكره المشركون ) (التوبة:33).

2- بشائر نبوية:

والسنن، جاءت تترى، تثبت هذه الحقيقة، وتقررها، وتنبه عليها:

(أ) روى مسلم وغيره، عن ثوبان، وشداد بن أوس، رضي الله عنهم، مرفوعاً :(إن الله زوى لي الأرض، فرأيت مشارقها، ومغربها، وإن أمتي سيبلغ ملكها ما زوي لي منها ) (22).

(ب) وروى ابن حبان في صحيحه :(ليبلغن هذا الأمر ما بلغ الليل والنهار، ولا يترك الله بيت مدر ولا وبر، إلا أدخله الله هذا الدين، بعز عزيز، أو بذل ذليل، عزاً يعز الله به الإسلام، وذلاً يذل به الكفر )( 23).

(ج) وأخرج أحمد، والدارمي، والحاكم، وغيرهم، عن أبيّ رضي الله عنه، قيل :قال:(كنا عند عبد الله بن عمرو بن العاص، وسئل أي المدينتين تفتح أولاً :القسطنطينية أو رومية ؟ فقال عبد الله: بينما نحن حول رسول الله صلى الله عليه وسلم نكتب، إذ سئل رسول الله صلى الله علية وسلم: أي المدينتين تفتح أولاً: القسطنطينية أو رومية ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:(مدينة هرقل تفتح أولا ً(يعني القسطنطينية) (24).

(د) وفي صحيح مسلم، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :(لا تقوم الساعة حتى تعود أرض العرب مروجاً وأنهاراً ) (25)، وقد أثبتت الدراسات العلمية الحديثة، أن أرض العرب، كانت مروجاً وأنهاراً، وأن دورة ستمر عليها، لتعود مروجاً وأنهاراً.

3- من إرهاصات المستقبل:

إن كثيراً من الإرهاصات، تنبئ بحقيقة أن المستقبل لحضارة الإسلام، منها:

(أ) القيم الروحية، والأخلاقية، والمعنوية، المميزة لحضارتنا.

(ب) امتلاك الأمة الإسلامية لمصادر الطاقة والحياة، مع كونها وسطاً جغرافياً وتاريخياً، يمثل سكانه خمس سكان العالم، وما يتيحه لها ذلك من إمكانيات.

(ج) اعتماد الأمة الإسلامية، فوق ذلك، على دينها الخاتم، المهيمن على الأديان..الدين القائم على العلم، وسيادة علومه، وحضارته.

(د) إفادة الأمة من حكم الآخرين وتجاربهم، وحضارتهم، مع تفريق بين ما هو مقبول، وما هو مردود، وبين ما هو إسلامي، وما هو جاهلي.

(هـ) وحدة الأمة، وإحياء روابط الأخوة الإيمانية، والقوة التي تنتج عن ذلك، وقد قال تعالى: (إنما المؤمنون أخوة ) (الحجرات:10)..وجعل النبي الكريم، علامة الإيمان، حب المؤمنين بعضهم بعضاً، وكان يمثلهم المهاجرون والأنصار، فقال صلى الله عليه وسلم:(آية الإيمان حب الأنصار، وآية النفاق بغض الأنصار ) (26).

(و) علاقات العدالة، والإحسان، ورعاية الحرمات، التي هي أوثق للدلالة، من كونها مجرد حقوق للإنسان، تواضع عليها قبيل من الناس (27).

فمقام الإحسان في الدين، في كل شيء :(إن الله يأمر بالعدل والإحسان ) (النحل :90).. وفي العبادة كلها يكون الإحسان، كما في حديث جبريل عليه السلام، الذي بين فيه الرسول صلى الله عليه وسلم مقام الإحسان، فقال:(أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك ) (28).. وفي المسند :(صلي صلاة مودع كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك ) ، وحتى في العادات والمعاملات كلها، فإن الإحسان، مأمور به المسلم :(إن الله كتب الإحسان على كل شيء، فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة، وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبح، وليحد أحدكم شفرته، وليرح ذبيحته ) (29).

(ز) صحوة الأمة، واستشعارها، ودعوتها إلى ضرورة التوجه الكلي نحو الدين، والالتزام به، والحصول على القوة، التي تحفظ كيان الأمة، والعمل على استقلالية الأمة، في كافة مجالات الحياة، مما يعني بدء زوال ظاهرة القابلية للاستخراب (للاستعمار)، التي بقيت ردحاً من الزمان عند المسلمين.

(ج) أن الأمة بتوحدها، بإيمانها، وجهادها بامتلاك القوة، والتقدم العلمي، تبلغ أوج الحضارة، وتنتصر على قوى التخلف في داخلها، وتواجه قوى الطغيان والاستكبار العالمي، لتنتصر عليها إن شاء الله.

الخلاصة:

إن التحديات الحضارية، هي الخطر الحقيقي، الذي يواجهنا نحن المسلمين اليوم، غير أن هذا الخطر كائناً ما بلغ، قد ردنا إلى الإيمان، وأحيا فينا آمال العودة، حتى ولو كان بعضنا أمياً، فيؤتيه الله علما.. والإيمان بالله، هو أصل العلم.

ومهما كان ضعفنا، وتفرقنا، اليوم، فإن الله يعيننا، ويؤلف بيننا، إذا استمسكنا بعروته الوثقى، وعدنا إلى الإيمان العاصم، فنملك بهذا العلم الإيماني، إمكانية أن نهدي العالمين إلى الصراط المستقيم. ثم إننا من أجل إقامة نهضة حضارية، وتفوق ثقافي، وتقدم علمي، لنكون قوة المستقبل، التي تحمي الحق، وتدافع عنه، لابد من عمل دائب، وجهاد في هذا السبيل، وإقامة للدين، بمعانيه الشاملة والكاملة، من أنه اعتقاد، وعمل، وعبادة، وأخلاق، وآداب، وسلوك، ومعاملات، وقوانين مدنية، وجنائية.. أو شعائر وشرائع، وأسلمة لشؤون الحياة كلها، في الفرد، والمجتمع، والدولة.

===============

# دور الذكر والجهاد في صناعة المستقبل

هذه دراسة في جهاد أهل الذكر، وبيان حالهم، في ساحات الجهاد، في سبيل الله، نشرح فيها معاني كلمة الذكر، في لغة القرآن الكريم، وصفات أهل الذكر، ومراتب الجهاد في سبيل الله، ومقام الجهاد في الدين، مع تقديم نماذج من جهاد أهل الذكر، من لدن عهد النبوة، والصحابة والتابعين لهم، لتكون أنموذجاً للاقتداء، حيث يقوم اليوم، طوائف من أهل الذكر، بأمر الدين، والجهاد في سبيل الله، يدورون مع الكتاب، حيث دار، ويهتدون بهدي السنة النبوية، ويجددون، أمر هذا الدين، يحيون شعائره، ويقيمون شرائعه، ويجمعون بين القرآن والسلطان، ويؤاخون بين السيف والقلم، وهم أهل البشرى، بشرنا الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم فقال :(لا يزال أهل الغرب، ظاهرين على الحق، حتى تقوم الساعة ) (1)، وهم أهل الحدة، والشوكة، والسلاح، أي الجهاد في سبيل الله، وهم أيضاً، امتداد المهاجرين والأنصار، ممن ساحوا في الأقطار، يرفعون لواء التوحيد، وذلك إلى كونهم أظهر جهة في اتجاه الغرب، وأقربها من جهة القبلة.

وهذه هي المعاني الجامعة لكلمة الغرب، كما جاءت في هذا الحديث (2)، وأنها الطائفة المنصورة إن شاء الله تعالى، تحقيقا لوعد ربنا :(ولقد سبقت كلمتنا لعبادنا المرسلين * إنهم لهم المنصورون * وإن جندنا لهم الغالبون ) (الصافات :171-173).

معاني الذكر في لغة القرآن الكريم

قد جاءت معاني الذكر في القرآن الكريم، على أوجه كثيرة، يجمع بينها أنها تعد كلها من صفات أهل الذكر، منها ما يعد صفة ملازمة لأهل الذكر، الذاكرين الله كثيراً:

(أ) فالذكر :بمعنى الوحي، كما في قوله تعالى :(أءلقى الذكر عليه من بيننا ) (القمر:25)، يعني الوحي.

(ب) والذكر: بمعنى القرآن، كما في قوله تعالى :(وهذا ذكر مبارك أنزلنه ) (الأنبياء :50)، يعني القرآن.

(ج) والذكر :بمعنى الحفظ، كما في قوله تعالى :(واذكروا ما فيه لعلكم تتقون ) (البقرة :63)، يعني احفظوا ما فيه.

(د) والذكر :بمعنى طاعة الله، التي لا يكون بدونها أحد ذاكراً، كما في قوله تعالى :(فاذكروني أذكركم ) (البقرة: 152).

(هـ) والذكر :أيضاً الشيء يجري على اللسان، كما في قوله تعالى: ( فإذا قضيتم الصلوات فاذكروا الله ) (النساء:103)، وقوله صلى الله عليه وسلم : (ما يزال لسانك رطباً من ذكر الله ) (3).

(و) والذكر بالقلب، كما في قوله تعالى :(والذين إذا فعلوا فاحشةً أو ظلموا أنفسهم ذكروا الله ) (آل عمران:135)، أي ذكروه في أنفسهم، وعلموا أنه سائلهم عما عملوا.

(ز) والذكر :بمعني التفكر، وذلك في وقوله تعالى :(إن هو إلا ذكر للعالمين ) (يوسف:104).

(ج) والذكر، والذكرى: بمعنى التذكير :(وذكر فإن الذكرى تنفع المؤمنين ) (الذاريات :55).

(ط) والذكر، والذكرى: نقيض النسيان :(وادكر بعد أمة ٍ) (يوسف:45)، أي تذكر بعد نسيان.

(ي) والذكر :بمعني الصلوات الخمس، وذلك في قوله تعالى :(رجال لاتلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله ) (النور:37)، يعني الصلوات الخمس.

(ك) والذكر: بمعني الدراسة، كما في قوله تعالى :(واذكروا ما فيه ) (الأعراف:171)، معناه: وادرسوا ما فيه.

(ل) والذكر: الصيت، والثناء، والشرف(ص والقرءان ذى الذكر ) (ص:1).

(م) والذكر: بمعنى الخبر، كما في قوله تعالى :(سأتلوا عليكم منه ذكرا ً) (الكهف:83)، يعني خبراً.

(ن) والذكر: بمعني البيان، كما في قوله تعالى :(أوعجبتم أن جاءكم ذكر من ربكم ) (الأعراف:63و69)، أي بيان من ربكم.

(س) والذكر :الكتاب الذي فيه تفصيل الدين، ومنه قوله تعالى : (إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون ) (الحجر :9).

(ع) الذكر: الصلاة، والتسبيح، والدعاء، والشكر، وتمجيد الله تعالى، وتهليله، والثناء على الله، بجميع محامده(4).

(ص) وقد أحسن صنعاً، الحكيم الترمذي، حين ذكر قي كتابه :(تحصيل نظائر القرآن)، أن من معاني الذكر: الجهاد. قال:(وإنما صار الذكر(الجهاد) في مكان آخر، لأنه إنما يجاهد عن لا إله إلا الله، ولإقامتها، وللذب عنها، فذلك الفعل هو ذكر) (5).

ويلزم أهل الذكر، ليكونوا من أهل الثناء، والشرف، والرفعة حقيقية، أن يكونوا أهل فكر، وعظة، واعتبار، وعمل صالح، كالصلاة، والجهاد، وذكر الله بالقلب، واللسان، وذكر الله بتلاوة القرآن، وحفظه، وتدبره، ومعرفة بيانه، وأخباره، وذكر الله بالدعاء والتسبيح، والشكر، والثناء على الله تعالى.

هذا، وذكر الله واسع سعة معاني الدين، وشموله لشؤون الحياة كلها، كما نجد في الهدي النبوي، الأنموذج، والقدوة الحسنة. وقد كانت حياته صلى الله عليه وسلم، كلها ذكراً، إذ كان يذكر الله في جميع أحيانه.

وهكذا كان فقه الصحابة..وهذه واحدة من الصحابيات الجليلات، كمثال على هذا الفقه: فعن أم الدرداء أنها قالت في تفسير قوله تعالى :(ولذكر الله أكبر ) (العنكبوت:45 ).

فإن صليت، فهو من ذكر الله.

وإن صمت، فهو من ذكر الله.

وكل خير تعمله، فهو من ذكر الله.

وكل شر تجتنبه، فهو من ذكر الله.

وأفضل الذكر، تسبيح الله (6).

صفات أهل الذكر

أهل الذكر هم المسبحون، الحامدون، التالون، المصلون، المقيمون لشعائر الله، وشرائعه، وهم المحبون لله تعالى، والمحبون لرسول الله صلى الله عليه وسلم، والذين يحبون إخوانهم في الدين، وهم المستجيبون لأمر ربهم، بالإكثار من ذكره تعالى.

قال تعالى :(يأيها الذين ءامنوا اذكروا الله ذكراً كثيراً * وسبحوه بكرة وأصيلا ً) (الأحزاب: 41-42)، وقد جاءت هذه الآية، في سياق إثبات ختم النبوة والرسالة، لخاتم الأنبياء والمرسلين :(ما كان محمدُُ أبا أحدٍ من رجالكم ولكن رسول الله وخاتم النبيين وكان الله بكل شيءٍ عليم اً) (الأحزاب :40).. وفي الذكر إشارة واضحة، إلى أن الذكر صفة ملازمة لنبينا صلى الله عليه وسلم، وأنه جاء بالذكر…. ذكراً، ومذكراً.

وفيها من لطائف الإشارات، أنها جاءت على رأس الأربعين آية من سورة الأحزاب، الموافقة لسن النبوة، عند نزول الوحي.

وقال تعالى :(والذاكرين الله كثيراً والذاكرات أعد الله لهم مغفرةً وأجراً عظيماً ) (الأحزاب:35).

وهذه الآية جاءت في سياق الأمر بذكر الله، وتلاوة كتابه، وإحسان الفقه في القرآن، علماً، وعملاً، مع إخلاص الإسلام، والإيمان، وصدق للدين، والصبر، والخشوع، والإنفاق، والتصدق، والصيام، والعفاف، قال تعالى :(واذكرن ما يتلى في بيوتكن من ءايت الله والحكمة إن الله كان لطيفاً خبيراً * إن المسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات والقانتين والقانتات والصادقين والصادقات والصابرين والصابرات والخاشعين والخاشعات والمتصدقين والمتصدقات والصائمين والصائمات والحافظين فروجهم والحافظات والذاكرين الله كثيراً والذاكرات أعد الله لهم مغفرةً وأجراً عظيماً ) (الأحزاب:34-35)، وقال تعالى :(اتل ما أوحي إليك من الكتاب وأقم الصلوة إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر ولذكر الله أكبر والله يعلم ما تصنعون ) (العنكبوت:45)، أي ذكر الله لكم بالثواب، والثناء عليكم، أكبر من ذكركم له في عبادتكم، وصلواتكم.. قال معناه ابن مسعود، وابن عباس، وأبو الدرداء، وأبو قرة، وسلمان، والحسن، وهو اختيار الطبري(7).. وثواب ذكر الله، هو أن يذكره الله تعالى، كما في الحديث القدسي:(من ذكرني في نفسه، ذكرته في نفسي، ومن ذكرني في ملأٍ ذكرته في ملأٍ خير منهم ) (8).

والذكر النافع، هو ما كان مع العلم، وإقبال القلب، وتفرغه إلا من الله، وأهل الذكر، قد باعوا لله أنفسهم، وزكوا أنفاسهم في سبيل مرضاته، فما يقعدهم عن الجهاد شيء.. كيف لا وهم المتحققون بالتوبة، والعبادة الخالصة لله، وهي العبادة الجامعة لأركان الإسلام، وسهامه، وشعائره، وشرائعه، بالتوحيد الخالص، والصلاة الخاشعة، والإحسان في إيتاء الزكاة، وصيام رمضان والحج، والجهاد في سبيل الله، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، والمحافظة على حدود الله تعالى، والدعوة إليه جل جلاله:(إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة يقاتلون في سبيل الله فيقتلون ويقتلون وعداً عليه حقاً في التوراة والإنجيل والقرءان ومن أوفى بعهده من الله فاستبشروا ببيعكم الذى بايعتم به وذلك هو الفوز العظيم * التائبون العابدون الحامدون السائحون الراكعون الساجدون الآءمرون بالمعروف والناهون عن المنكروالحفظون لحدود الله وبشر المؤمنين ) (التوبة:111-112)، وقد ورد وصف المؤمنين من أهل الذكر، في سياق الجهاد، في صدر سورة الأنفال التي تسمى أيضاً سورة الجهاد، وسورة بدر :(يسئلونك عن الأنفال قل الأنفال لله والرسول فاتقوا الله وأصلحوا ذات بينكم وأطيعوا الله ورسوله إن كنتم مؤمنين * إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم وإذا تليت عليهم ءاياته زادتهم إيامناً وعلى ربهم يتوكلون * الذين يقيمون الصلوة ومما رزقناهم ينفقون * أولئك هم المؤمنون حقاً لهم درجات عند ربهم ومغفرة ورزق كريم ) (الأنفال :1-4). وذلك ليطهروا نفوسهم، عن الاشتغال بالاختلاف حول المغانم، ولتتعلق هممهم بالفردوس الأعلى، وليتحققوا الإيمان الكامل.

الجهاد وصدق الإيمان:

ثم إنه لا يكون صدق الإيمان بالله ورسوله صلى الله عليه وسلم، والاستقامة على دين الله، وأمره، إلا بالجهاد في سبيله تعالى، بالمال، والنفس، مصدقاً لقوله تعالى :(إنما المؤمنون الذين ءامنوا بالله ورسوله ثم لم يرتابوا وجهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله أولئك هم الصدقون ) (الحجرات :15).

جهاد النفس:

ولا يكون جهادنا في ساحات القتال، إلا ونحن نجاهد أنفسنا جهاداً عظيماً، حتى نتخلى عن رغائب الدنيا، وجواذبها الأرضية، ومن لم يجاهد نفسه، لم ينتصر عليها، فيخرج مقاتلاً للعدو الخارجي :(كتب عليكم القتال وهو كره لكم وعسى أن تكرهوا شيئا ًوهو خيرُُ لكم وعسى أن تحبوا شيئاً وهو شرُُ لكم والله يعلم وأنتم لا تعلمون ) (البقرة:216)، وبجهاد النفس، يصير ما تكرهه حبيباً إليها، حتى القتال، ومبارزة العدو، وتعريض النفس للخطر، وحينئذ فالمجاهدون لا يفرغون من غزوة، إلا وأعدوا أنفسهم لما بعدها، ولولا هذه الروح الدافعة، والسر العظيم في الجهاد، ما بلغوا في وجيز من الزمان مشارق الأرض ومغاربها. وفي بيان المقام العظيم لجهاد النفس يقول صلى الله عليه وسلم :(المجاهد من جاهد نفسه في ذات الله عز وجل )(9).

الجهاد: المعنى .. والمراتب

معنى الجهاد:

وتفسير الجهاد، في لغة القرآن الكريم، على ثلاثة وجوه:

1- الجهاد بالقول، في ذلك كما في قوله تعالى :(وجاهدهم به جهاداً كبيراً ) (الفرقان :52).

2- القتال بالسلاح كما في قوله تعالى :(لا يستوى القاعدون من المؤمنين غير أولى الضرر والمجاهدون في سبيل الله ) (النساء:95).

3- الجهاد يعني العمل، فذلك قوله تعالى :(ومن جهاد فإنما يجاهد لنفسه ) (العنكبوت:6)، يعني :ومن عمل الخير، فإنما يعمل لنفسه، وله نفع ذلك (10).

والجهاد في سبيل الله باب واسع، فمنه جهاد النفس، وجهاد العلم، والحجة، واللسان، وجهاد المال، والبذل، والإنفاق، وجهاد العدو بالقتال والمبارزة.

وقد حقق بعض العارفين القول في الجهاد، ومراتبه، على نحو ما يرد موجزاً، في فيما يلي:

مراتب الجهاد:

الجهاد على أربع مراتب:

المرتبة الأولى :جهاد النفس، وهو أيضاً أربع مراتب:

أحدها :أن يجاهدها على تعلم الهدى.

الثانية :على العمل به بعد علمه.

الثالثة :على الدعوة إليه، وإلا كان من الذين يكتمون ما أنزل الله.

الرابعة : على الصبر على مشاق الدعوة، ويتحمل ذلك كله لله.

فإذا استكمل هذه الأربع، صار من الربانيين، فإن السلف مجمعون على أن العالم لا يكون ربانياً، حتى يعرف الحق، ويعمل به، ويعلمه.

المرتبة الثانية :جهاد الشيطان، وهو مرتبتان :إحداهما، جهاده على دفع ما يلقي من الشبهات، والثانية جهاده على دفع ما يلقي من الشهوات.

فالأولى بعدة اليقين، والثانية بعدة الصبر، قال تعالى :(وجعلنا منهم أئمةً يهدون بأمرنا لما صبروا وكانوا بأياتنا يوقنون ) (السجدة:24).

المرتبة الثالثة :جهاد الكفار والمنافقين، وهو أربع مراتب: بالقلب، واللسان، والمال والنفس.. وجهاد الكفار أخص باليد، وجهاد المنافقين أخص باللسان.

المرتبة الرابعة: جهاد أرباب الظلم، والمنكرات، والبدع، وهو ثلاث مراتب: باليد إذا قدر، فإن عجز انتقل إلى اللسان، فإن عجز جاهد بقلبه (11).

وقد كانت حياة السلف الصالح، قائمة على ذكر الله آناء الليل، وأطراف النهار، تلاوة للقرآن، مع الالتزام ْوردٍ فيه معلوم، بحسب مقام كل واحد منهم، مع التزام الجماعة، جماعة المسلمين، وجماعة الصلاة، وقيام الليل، وصيام التطوع، والسعي في مصالح المسلمين، وإيصال النفع، والخير لهم، مع الاستقامة على أمر الله، والقيام بواجبات الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، في رفق، وأناة، وحلم، حتى رضى الله عنهم، ورضوا عنه، وكانوا خير أمة أخرجت للناس، يوالي بعضهم بعضاً، ويذكرون الله بلسان حالهم، ومقالهم، على نحو ما قال معاذ بن جبل رضى الله عنه :(اجلس بنا نؤمن ساعة) (12).

وما أثر عن عمر رضي الله عنه، أنه كان يقول، وهو يأخذ بيد الرجل والرجلين أصحابه :(قم بنا نزدد إيماناً)، فيذكرون الله تعالى بعض الوقت(13) .

لقد كانوا حقاً رهباناً في الليل، فرساناً في النهار، وربما تقرحت بطون بعضهم، من التزام أكل قدر محدود من التمر كل يوم، كأهل الصفة الذين رحم حالهم حبيبهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، الموصوف بالرأفة، والرحمة، حتى إنه لم يجد شيئاً يطعمهم غير شعير ولبن، مع تطييب خاطرهم، بأنه لا يجد في بيته غير هذا(14).

وقد يسقط بعضهم من الإعياء، في طريقه إلى صلاة الجماعة، على قرب المكان، أو يربط على بطنه الحجر من الجوع، لكنه إذا نودي للجهاد، كان أسرع إجابة للنداء، ولربَّما قال بلسان حاله، أو مقاله: ما أحسن الآن لو سمعت منادياً ينادي: يا خيل الله اركبي(15). إن همهم الفردوس الأعلى.

وهذان مثلان لرجلين، من هؤلاء الرجال، فأحدهما وهو يصب ماء الضوء لنبي لله، فيطلبه أن يسأل ما يتمنى، فلا يكون جوابه إلا :(أسألك مرافقتك في الجنة)، قال له عليه الصلاة والسلام :(أو غير ذلك ) ؟ فأكد ما طلبه أولاً، فقال عليه الصلاة والسلام : ( فأعني على نفسك بكثرة السجود ) (16).

والمثل الثاني لعمير بن الحمام، وقد بلغ به الشوق مداه لدار الخلد، لما سمع النبي صلى الله عليه وسلم يحض على القتال، ويبشر الشهداء، فما كان منه إلا أن سارع إلى مبتغاه، وهو يلقي، بتمرات كن معه قائلاً:(لئن أنا عشت حتى آكلهن إنها لحياة طويلة) (17).

النبي صلى الله عليه وسلم أسوة المؤمنين في جميع أبواب البر:

وإن التأسي برسول الله صلى الله عليه وسلم، على قدر طاقتنا، وهو سيد الذاكرين، والشاكرين، والحامدين، والمصلين، والصائمين، والمنفقين، وهو سيد قراء القرآن، وهو قائد الغر المحجلين، وهو إمامنا في كل خير(18)

الجهاد ذروة سنام الإسلام:

والجهاد ذروة سنام الإسلام، وهو ركن من أركان الدين.. والنبي صلى الله عليه وسلم، أسوة المؤمنين، هو المعظم شأن الجهاد، الواصف له بأنه ذروة سنام الإسلام(19).

والجهاد ملحق بأركان الإسلام الخمسة، وقد وعدّ النبي صلى الله عليه وسلم، أسهم الإسلام الثمانية: الخمسة المعروفة، وأضاف إليها ثلاثة، هي: الجهاد في سبيل الله، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر(20).

النبي صلى الله عليه وسلم أسوة الذاكرين والمجاهدين:

وقد جاء ذكر الأسوة في القرآن، في ثلاثة مواضع، في سورتي الأحزاب، والممتحنة، المدنيتين، كلها في سياق الولاء، والبراء في الله تعالى، والجهاد في سبيله.. ففي موضعي سورة الممتحنة، دعاء إلى التأسي بأبي الأنبياء إبراهيم عليه وعلى نبينا، وعلى جميع المرسلين الصلاة والسلام، وموضوع الأسوة هنا، في الولاء في الله تعالى، لأوليائه، والبراءة من المشركين، ومقاطعة الذين يصدون عن سبيل الله، ويبغونها عوجاً.

قال تعالى :(قد كانت لكم أسوة حسنة في إبراهيم والذين معه إذ قالوا لقومهم إنا بُرءآؤا منكم ومما تعبدون من دون الله كفرنا بكم وبدا بيننا وبينكم العداوة والبغضاء أبداً حتى تؤمنوا بالله وحده إلا قول إبراهيم لأبيه لأستغفرن لك وما أملك لك من الله من شىءٍ ربنا عليك توكلنا وإليك أنبنا وإليك المصير * ربنا لا تجعلنا فتنة للذين كفروا واغفر لنا ربنا إنك أنت العزيز الحكيم * لقد كان لكم فيهم أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الأخر ومن يتول فإن الله هو الغني الحميد ) (الممتحنة: 4-6).

أما آية سورة الأحزاب، فقد جاءت في سياق الجهاد، تدعو للتأسي بسيد الذاكرين، وقائد الغر المحجلين، وخاتم الأنبياء والمرسلين، عليهم الصلاة والسلام، قال تعالى:(لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الأخر وذكر الله كثيراً * ولما رءا المؤمنون الأحزاب قالوا هذا ما وعدنا الله ورسوله وصدق الله ورسوله وما زادهم إلا إيماناً وتسليماً * من المؤمنين رجال صدقوا ماعاهدوا الله عليه فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر وما بدلوا تبديلا ً ) (الأحزاب: 21-23).

يقول ابن كثير في تفسيره : هذه الآية، أصل كبير في التأسي برسول صلى الله عليه وسلم، في أقواله وأفعاله، وأحواله، ولهذا أمر تبارك وتعالى الناس بالتأسي بالنبي صلى الله عليه وسلم في صبره، ومصابرته، ومرابطته، ومجاهداته، ولهذا قال تعالى للذين تضجروا، وتزلزوا، واضطربوا في أمرهم يوم الأحزاب :(لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة)، أي: هلا اقتديتم به، وتأسيتم، بشمائله صلى الله عليه وسلم، ولهذا قال تعالى :(لمن كان يرجو الله واليوم الآخر وذكر الله كثيراً ) (21).

وهذه الآية الأخيرة، قرأها رسول الله صلى الله عليه وسلم، يوم أحد، بين يدي جثمان المعلم الأول، ومقرئ القرآن بالمدينة، الصحابي الشهيد مصعب بن عمير، رضى الله عنه، ثم قال :(إن رسول الله يشهد أنكم الشهداء عند الله يوم القيامة).

وعن أنس بن مالك رضى الله عنه، أن هذه الآيات، نزلت في عمه أنس بن النضر رضي الله عنه :(من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه )… الآية (22).

ومن الصحابة، من أسعده الله، وشرفه بالشهادة النبوية، أنه ممن ينتظر، وما بدول تبديلاً.. فعن طلحة رضي الله عنه، قال: لما رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم، من أحد، صعد المنبر، فحمد الله، وأثنى عليه، وعزى المسلمين بما أصابهم، وأخبرهم بما لهم فيه من الأجر، والذخر، ثم قرأ هذه الآية :(من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر وما بدلوا تبديلا ً)، فقام إليه رجل من المسلمين، فقال: يا رسول الله، من هؤلاء ؟ فأقبلت وعليَّ ثوبان أخضران حضرميان فقال: (أيها السائل هذا منهم) (23).

المجاهدون وملازمة الذكر:

وذكر الله، يلازم المجاهدين في سبيل الله، وهم يستغيثون الله، ويدعونه، ويتضرعون إليه، في ساحات القتال، ويفتقرون إليه تعالى، ويخضعون له، ومع إعدادهم العدة اللازمة، فهم لا يعتمدون عليها، بل يفوضون أمرهم إلى الله، ويتوكلون عليه، أو كما وصف صاحب البردة صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم:

كأنهم في ظهور الخيل نبتُ ُربىً *** من شدة الحزم لا من شدة الحُزُمِ

ولكنهم معتمدون على عناية الله:

وقاية الله أغنت عن مضاعفة *** من الدروع وعن عال من الأطم

ودعوة هذا شأنها، وهؤلاء جنودها، فإنها منصورة بإذن الله، مهما كان أعداؤها:

ما حوربت قط إلا عاد من حرب *** أعدى الأعادي إليها ملقي السلم

وقد اقتدى بالنبي صلى الله عليه وسلم، رجال من الصحابة الكرام، وتبعهم بإحسان رجال ممن جاء بعدهم: (والذين جآءو من بعدهم يقولون ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان ولا تجعل في قلوبنا غلاً للذين ءامنوا ربنا إنك رءوف رحيم ) (الحشر :10).

لقد كان ذكر الله حالة غالبة عليهم، وجهاد النفس سمة تميزهم، وساحات الجهاد، سياحة لهم. والمؤمنون مأمورون بالإكثار من ذكر الله تعالى.

ثم إنه لو كان الله تعالى، مرخّصاً لأحد في ترك الذكر، لكتن ذلك مع زكريا عليه السلام حين سأله أن يجعل له آية :(رب اجعل لي ءايةً قال ءايتك ألا تكلم الناس ثلاثة أيامٍ إلا رمزاً واذكر ربك كثيراً وسبح بالعشى والإبكار ) (آل عمران:41)، ولكان ذلك أيضاً مع المجاهدين، وهم يقاتلون في ساحات الجهاد، فقد أُمروا بذكر الله كثيراً :(يأيها الذين ءامنوا إذا لقيتم فئة فاثبتوا واذكروا الله كثيراً لعلكم تفلحون ) (الأنفال:45).

أهل الذكر وساحات الجهاد:

وأهل الذكر، قلوبهم متعلقة بساحات الجهاد، لأنها مظنة استجابة الداء، ومدد الملائكة في الغزوات :(إذ تستغيثون ربكم فاستجاب لكم أنى ممدكم بألفٍ من الملائكة مردفين ) (الأنفال:9).. وقد بشرنا النبي صلى الله عليه وسلم، أن الدعاء يستجاب في ميدان القتال، حيث قال صلى الله عليه وسلم :(ثنتان لا تردان- الدعاء عند النداء، وعند البأس، حين يلجم بعضهم بعضاً ) (24)، كما روى الشافعي في كتابه (الأم)، بسند مرسل، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال:(اطلبوا استجابة الدعاء، عند التقاء الجيوش، وإقامة الصلاة، ونزول الغيث ) (25).

وأهل الذكر، هم المرابطون على ثغور الإسلام :(يأيها الذين ءامنوا اصبروا وصابروا ورابطوا واتقوا الله لعكلم تفلحون ) (آل عمران:200).

وعيون الخاشعين، الذاكرين الله كثيراً، مثل عيون المرابطين، يحرسون ثغور الإسلام، كتب الله لها النجاة: (عينان لا تمسهما النار، عين بكت من خشية الله، وعين باتت تحرس في سبيل الله ) (26).

الجهاد من أركان الدعوة إلى الإسلام:

وأهل الذكر، مجاهدون، دعاة إلى الله.. والجهاد من أركان الدعوة إلى الإسلام، وهو ذروة سنامه، وأقصر طريق إلى رضوان الله، وأقربه، فالجنة تحت ظلال السيوف، ثم إنه لا سبيل لإعلاء كلمة الله تعالى، بدون الجهاد، وإنه لحقاً أعظم العبادات، حتى إن المالكية يذكرون باب الجهاد، متصلاً بالعبادات، اعتباراً بنية المجاهد :(لتكون كلمة الله هي العليا) (27).

نماذج من مجاهدي الصحابة

لقد كان الصحابة، من المهاجرين والأنصار، على مراتبهم في الأولية، والسبق، والفضل، يتصدر التعريف بكل واحد منهم، بعد ذكر إسلامه، أنه شهد المشاهد، والغزوات كلها، مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو يذكر في ترجمته مقدار ما شهد من هذه المشاهد، وشارك في تلك الغزوات، مع ذكر جمعه للقرآن، أو ما حفظه منه، وذكر عبادته، وتهجده، وإنفاقه، وبذله.. وهكذا كانت سيرة الخلفاء الراشدين، إلى تمام العشرة المبشرة، وقد زادوا فوق ذلك، تحمل أعباء الخلافة، والإمارة، والقيادة (28).

وحيثما نظرت في تراجم هؤلاء الرجال، وجدتهم في المشهورين بالعلم، والزهد، والتعبد، والجهاد، ومن بينهم عدد وافر من الصحابيات العابدات، اللائي اشتركن في جملة من الغزوات، بما تيسر من مشاركة مناسبة، كالسقي، والتمريض، والنقل، والأعمال الإدارية، مع المشاركة الفعلية في القتال أحياناً (29)، وقد شاركت جملة من أمهات المؤمنين في بعض هذه الغزوات، بصحبة النبي صلى الله عليه وسلم، وفقاً لقسمهن، وسهمهن، في الخروج(30).

وهذه نماذج يسيرة، من هدي خير القرون، من جيل الصحابة، السابقين بالإحسان، من المعروفين بالقراء والعلماء، الذين كانوا من أهل التقوى، والمغفرة، والجهاد، والبذل في سبيل الله، والعبادة، والتهجد، والصوم، وسلامة الصدر، ولزوم الذكر:

1- مصعب بن عمير.. المقرئ:

أول من يهاجر إلى المدينة، داعية إلى الإسلام، يمضي شهيداً يوم أحد، وهو يتلو القرآن في الميدان:

لقد ظل مصعب بن عمير يعلِّم القرآن، ويدعو الناس للإسلام، واستشهد يوم أحد وهو يحمل الراية، وجعل يقرأ القرآن في الميدان، يثبت به المؤمنين، وكان آخر ما قرأ: (وما محمد إلا رسولُُ قد خلت من قبله الرسل أفإين مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم ومن ينقلب على عقبيه فلن يضر الله شيئاً وسيجزى الله الشكرين ) (آل عمران:144).

2- سالم مولى أبي حذيفة.. يحمل اللواء يوم القيامة، على درب مصعب بن عمير (31):

كما اعتنق سالم مولى أبي حذيفة، اللواء يوم اليمامة، وجعل يدعو الناس للاجتماع والقتال :(يا أهل سورة البقرة، يا أهل سورة آل عمران)، وأنكر على من ظن به أن الراية تسقط من يده فقال :(بئس حامل القرآن أنا إذاً). وقطعت يداه، والراية على صدره، بين يديه، وهو يقرأ بين يدي استشهاده، تماماً مثلما صنع مصعب ابن عمير، قرأ:(وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل. .) (آل عمران:14) (32).

3- معاذ بن جبل.. أنموذج فريد، في حب الله، ولقائه:

لقد حُبب لقاء الله إلى الصحابة، وهم سادة الذاكرين، إنهم كانوا يذكرون الله تعالى ذكراً كثيراً، فزكت نفوسهم، واشتاقوا للقاء الله، إن كانوا في ميدان الجهاد، فهم يرجون الشهادة، وإلا فحسن الختام، وهم في سبيل ذلك يلبون النداء، فيخرجون عن المدينة، التي يحبونها، ويحتملون ألم فراق سيد الصحابة، بل سيد الأنبياء والمرسلين، وقائد الغر المحجلين صلى الله عليه وسلم.

وإنه يمثل لنا هذا الأنموذج، معاذ بن جبل رضى الله عنه، وقد كان معلماً، داعية إلى الخير، مجاهداً. فعن عاصم بن حميد، عن معاذ بن جبل قال، لما بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم، إلى اليمن خرج معه رسول الله صلى الله عليه وسلم يوصيه، ومعاذ راكب، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يمشي تحت راحلته، فلما فرغ قال :(يا معاذ عسى أن لا تلقاني بعد عامي هذا، ولعلك تمر بمسجدي هذا، وقبري )، فبكى معاذ خشعاً لفراق رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم التفت، فأقبل بوجهه نحو المدينة، فقال :(إن أولى الناس بي، المتقون، من كانوا، حيث كانوا ) (33).

وقد أعد معاذ بن جبل، رضي الله عنه، نفسه للقاء الله، بل إن أهله كانوا مثله، فإنه لما أصاب ولديه الطاعون قبله، استبشر معهما بلقاء الله، قال لهما: كيف تجدانكما؟

قالا :يا أبانا(الحق من ربك فلا تكونن من الممترين ) (البقرة:147)، قال :وأنا ستجداني إن شاء الله من الصابرين (34).. ثم إن معاذ بن جبل استقبل الموت بحفاوة بالغة، وذلك في طاعون عمواس، بناحية الأردن، سنة ثمان عشرة من الهجرة، وله من العمر حينئذٍ ثلاث وثلاثون سنة. ولما شعر بدنو الأجل، هتف: مرحباً بالموت مرحباً، زائر مُغب، حبيب جاء على فاقة، اللهم إني كنت أخافك، وأنا اليوم أرجوك، إنك لتعلم أني لم أكن أحب الدنيا، وطول البقاء فيها، لكري، الأنهار، ولا لغرس الأشجار، ولكن لظمأ الهواجر، ومكابدة الساعات، ومزاحمة العلماء بالركب، عند حلق الذكر(35).

وقد خص الله تعالى معاذ بن جبل رضي الله عنه، بجملة فضائل، من السبق في الإسلام، والبيعة، والعلم، والعمل والزهد، والورع، والكرم، والجود، والتعبد، والاجتهاد. شهد بيعة العقبة، وبدراً، والمشاهد كلها مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأردفه وراءه، وبعثه إلى اليمن، بعد غزوة تبوك، وشيعه ماشياً في مخرجه، وهو راكب.

وهو مع ذلك، متواضع، يقول إذا قام يتهجد من الليل، يناجي ربه: اللهم قد نامت العيون، وغارت النجوم، وأنت حي قيوم، اللهم طلبي للجنة بطيء، وهربي من النار ضعيف، اللهم اجعل لي عندك هدى، ترده إلى القيامة، إنك لا تخلف المعياد (36).

4- أبو طلحة الأنصاري.. رجل كألف:

أبو طلحة زيد بن سهل بن الأسود الأنصاري، شهد العقبة مع السبعين، وبدراً، والمشاهد كلها مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان من الرماة المذكورين، يقي بصدره رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان قوي التأثير على العدو، حتى قال صلى الله عليه وسلم (لصوت أبي طلحة في الجيش خير من فئة ) (37)، وفي رواية أخرى :(لصوت أبي طلحة أشد على المشركين من فئة ).

وكان من أكثر الأنصار مالاً، ولما نزل قوله تعالى :(لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون ) (آل عمران: 92)، جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأوقف أمواله إليه، وجعلها صدقة في سبيل الله على الأقربين، وبني عمه (38) وعن أنس، أن أبا طلحة، ما أفطر بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، إلا في مرض، أو سفر، حتى لقي الله. وعنه: أن أبا طلحة، غزا البحر، فمات، فلم يوجد له جزيزة يدفن فيها، سبعة أيام، فلم يتغير(39).

5- عبدالله بن رواحة.. الفدائي المقدام والصوّام:

عبدالله بن رواحة بن ثعلبة بن امريء القيس، يكنى أبا محمد، أحد النقباء الاثني عشر، وشهد العقبة مع السبعين، وبدراً، وأحداً، والخندق، والحديبية، وخيبر، وعمرة القضاء. واستخلفه رسول الله صلى الله عليه وسلم، على المدينة في عزوة بدر الموعد (بدر الآخرة)، وبعثه في سرية في ثلاثين مجاهداً، إلى أسير بن رزام اليهودي، بخيبر، فقتله، وأرسله إلى خيبر خارصاً.

وعن أبي الدرداء قال :لقد رأيتنا مع النبي صلى الله عليه وسلم، في بعض أسفاره، في اليوم الحار، الشديد الحر، حتى إن الرجل ليضع يده على رأسه من شده الحر، وما في القوم صائم، إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعبدالله بن رواحة (40).

6- أبو دجانة.. يبايع على الموت:

أبو دجانة سماك بن خرشة، شهد بدراً، وأحداً، وثبت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، يومئذٍ، وبايعه على الموت، وقتل بعد اليمامة شهيداً.

كان سليم الصدر، يحفظ وقته ولسانه، فلا يتكلم فيما لا يعنيه، فعن زيد بن أسلم، قال :دُخل على أبي دجانة وهو مريض، وكان وجهه يتهلل، فقيل :ما لوجهك يتهلل ؟ فقال :ما من عملي شيء أوثق عندي من اثنين، أما أحدهما فكنت لا أتكلم فيما لا يعنيني، وأما الأخرى فكان قلبي للمسلمين سليماً (41).

7- خُبيب بن عدي.. أول شهيد سن صلاة ركعتين بين يدي القتل:

وهذا خبيب بن عدي بن مالك، شهداً أحداً مع النبي صلى الله عليه سلم، وكان فيمن بعثه مع بني لحيان، فأسروه هو وزيد بن الدثنة، فباعوهما من قريش، فقتلوهما، وصلبوهما بمكة، بالتنعيم. ولما خرجوا به من الحرم، ليقتلوه في الحل، قال لهم خبيب :دعوني أصلي ركعتين، فتركوه، فركع ركعتين، وقال :والله لولا أن تحسبوا أن ما بي من جزع، لزدت: (اللهم أحصهم عدداً، واقتلهم بدداً، ولا تبق منهم أحداً).

وقال:

ولست أبالي حين أقتل مسلماً *** على أي جنب كان في الله مصرعي

وذلك في ذات الإله وإن يشأ *** يبارك على أوصال شلوٍ ممزع

وكان خبيب، هو الذي سن هذه الصلاة لكل مسلم، ويستبشر بلقاء الله عز وجل، فيصلى بين يدي تقديمه للقتل، رحمه الله، وأحسن لقاءه (42).

نماذج من مجاهدي التابعين لهم بإحسان

1- صله بن أشيم العدوي.. شهيد من أهل الذكر والذاكرين:

وهذا نموذج لرجل من التابعين، وهو صلة بن أشيم العدوي، من كبار التابعين، من أهل البصرة، وكان ذا فضل وورع، وعبادة، وزهد، كان يصلي ما يستطيع أن يأتي الفراش إلا حبواً، وله مناقب كثيرة جداً. وكان يكثر من صلاة الليل في الغزوات، التي يشارك فيها، مقاتلاً مع الجيش، وقال رجل لصله :ادع الله لي.. فقال :( رغبك الله فيما يبقى، وزهدك فيما يفنى، ورزقك اليقين، الذي لا يرجى إلا إليه، ولا يعَّول في الدين إلا عليه).

وكان صله في غزاة، ومعه ابنه، فقال :أي بني، تقدم فقاتل، أحتسبك.. فحمل فقاتل حتى قتل، ثم قاتل صله، حتى قتل.

واجتمع النساء عند امرأته، معاذة العدوية، فقالت :إن كنتن لتهنيئنني، فمرحباً بكُن، وإن جئتن لتعزينني، فارجعن (43).

2- عبدالله بن المبارك.. فقيه محدث، من أهل الذكر والجهاد:

وهذا عبدالله بن المبارك، أحد أئمة المسلمين، أدرك جماعة من التابعين، وروى عن كبار الأئمة، رجل جمع الله له بين العلم الغزير، والعمل الوفير، والإحسان الجزيل، والجهاد المتصل، فكلما سمع صيحة، لبى النداء، وهو مع ذلك كثير النفع لعباد الله، بعلمه، وماله، ويعتني في ذلك بأهل العلم، ورفقة الحج، ويجتهد في إدخال السرور على المسلمين.

وابن المبارك، كثير الخشية، والمراقبة لله عزوجل، فإذا أدرك محل استجابة الدعاء، سأل الله أن ينجيه من ظمأ يوم القيامة.. وفي هذا المعنى، يقول سويد بن سعيد:

رأيت عبدالله بن المبارك بمكة، أتى زمزم، فاستقى منها، ثم استقبل الكعبة، فقال :اللهم إن ابن أبي الموالي، حدثنا عن محمد بن المنكدر، عن جابر، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال :(ماء زمزم لما شرب له )(44)، وهذا أشربه لعطش القيامة. ثم شربه.

ثم إن أطيب الناس عيشاً، وأسعدهم حالاً، من كان عارفاً بالله، وفي ذلك يقول ابن المبارك: أهل الدنيا خرجوا من الدنيا، قبل أن يتطعموا أطيب ما فيها. قيل له :وما أطيب ما فيها؟ قال :المعرفة بالله عزوجل.

وعن القاسم بن محمد، قال : كنا نسافر مع ابن المبارك، فكثيراً ما كان يخطر ببالي، فأقول في نفسي :بأي شيء فضل هذا الرجل علينا، حتى اشتهر في الناس، هذه الشهرة؟

لئن كان يصلى، إنا لنصلي، ولئن كان يصوم، إنا لنصوم، وإن كان يغزو، فإنا لنغزو، وإن كان يحج، إنا لنحج ! قال :فكنّا في بعض مسيرنا في طريق الشام، ليلة نتعشى في بيت، إذ طفيء السراج، فقام بعضنا، فأخذ السراج، وخرج يستصبح، فكمث هنيهة، ثم جاء بالسراج، فنظرت إلى وجه ابن المبارك، ولحيته قد ابتلت من الدموع. فقلت في نفسي :بهذه الخشية، فضل هذا الرجل علينا، ولعله حين فقد السراج، فصار إلى الظلمة، ذكر القيامة.

ولقد كان عبدالله بن المبارك، القدوة في الزهد، والقيام، والذكر.. كان كذلك الإمام المجاهد، بلسانه، وسنانه، حتى اصبح مثلاً يحتذى، وقدوة للمجاهدين… وهو الذي يرسل لصاحبه وأخيه الفضيل بن عياض، من ساحات الشهادة، هذه الأبيات، كما رواها الإمام الذهبي في السير، قال :روى عبدالله بن محمد، قاضي نصيبين، ثنا محمد بن إبراهيم بن أبي سكينة، قال أملى علي ابن المبارك سنة سبع وسبعين ومئة، وأنفذها معي إلى الفضيل بن عياض، من طرسوس:

يا عابد الحرمين لو أبصرتنا لعلمت أنك في العبادة تلعب

من كان يخضب جيده بدموعه فنحورنا بدمائنا تتخضب

أو كان يتعب خيله في باطل فخيولنا يوم الصبيحة تتعب

ريح العبير لكم ونحن عبيرنا رهج السنابك والغبار الأطيب

ولقد أتانا من مقال نبينا قول صحيح صادق لا يُكْذَب

لا يستوي وغبار خيل الله في أنف امرئ ودخان نار تلهب

هذا كتاب الله ينطق الله بيننا ليس الشهيد بميت لا يكذب

قال :فلقيت الفضيل بكتابه في الحرم، فقرأه، وبكى، ثم قال :صدق أبو عبدالرحمن ونصح (45).

لقد ظل ابن المبارك طيلة حياته، يحج عاماً، ويغزو عاماً، حتى توفي في (هيت) من نواحي العراق، وهو منصرف من الغزو، سنة إحدى وثمانين ومائة، وهو ابن ثلاث وستين سنة.

وعن محمد بن فضيل بن عياض، قال :رأيت عبدالله بن المبارك في المنام، فقلت :أي الأعمال وجدت أفضل ؟ قال :الأمر الذي كنت فيه. قلت :الرباط والجهاد ؟ قال :نعم.فقلت :فأي شيء صنع ربك ؟ قال :غفر لي مغفرة ما بعدها مغفرة، وكلمتني امرأة من أهل الجنة، أو امرأة من الحور العين (46).

وكما كان عبدالله بن المبارك رحمه الله، العالم الذي يذكرك الآخرة برؤيته، كذلك هو بعد مماته.. فهذا أحد الصالحين، يمر على قبر عبدالله بن المبارك، فيتذكر سيرته الزكية في العبادة، وفي الجهاد، فأنشأ يقول :

مررت بقبر ابن المبارك غدوة فأوسعني وعظاً وليس بناطق

وقد كنت بالعلم الذي في جوانحي غنياً وبالشيب الذي في مفارقي

ولكن أرى الذكرى تنبه عاقلاً إذا هي جاءت من رجال الحقائق(47).

3- إبراهيم بن أدهم.. الزاهد الأواه، يركب البحر غازياً في سبيل الله.

وهذا إبراهيم بن أدهم، ويكنى أبا إسحاق، ورى عن جماعة من التابعين.. نشأ في بيت شرف، وعز، ومال، وانصرف عنه إلي العبادة، والزهد، وانشرح صدره بما آتاه الله من فضله، وما ذاقه من لذة العبودية لله، والافتقار إليه، حتى قال :لو علم الملوك، وأبناء الملوك، وما نحن فيه من النعيم، والسرور، لجالدونا عليه بالسيوف، أيام الحياة.

إن هذا النعيم، يدركه أهل الذكر والجهاد، ومراقبة المولى عزوجل، وهكذا كان إبراهيم بن أدهم، فعن محمد بن الحسين، قال :ما انتبهت من الليل، إلا أصبت إبراهيم بن أدهم يذكر الله، فأغتم، ثم أتعزى بهذه الآية: (ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء ) (المائدة:45).

وعن عبدالملك بن سعد الدمشقي، قال :سمعت إبراهيم بن أدهم يقول :أعربنا الكلام فما نلحن، ولحنا في الأعمال فما نعرب.

وكان مستجاب الدعوة، حتى إنه ركب البحر، غازياً في سبيل الله، عصفت بهم ريح شديدة، فأشرفوا على الهلاك، فدعا ربه :(اللهم أريتنا قدرتك، فأرنا عفوك)، فسكن البحر، وصار كأنه قدح زيت.

وهكذا ظل إبراهيم بن أدهم، بين الذكر والجهاد، حتى قال عشية موته:

أوتروا لي قوسي، فأوتروه، فقبض عليه، فمات، وهو قابض عليه، يريد الرمي على العدو (48).

وحسبنا ما قدمنا من سيرة هؤلاء العشرة، وقد أكثرنا من ذكر الصحابة، لأنهم النماذج العملية في حسن التأسي، والاقتداء، بهدي النبي صلى الله عليه وسلم، ورضي الله عن الصحابة الكرام الذين رضي الله عنهم، ورضوا عنه :(فالذين ءامنوا به وعزروه ونصروه واتبعوا النور الذي أنزل معه أولئك هم المفلحون ) (الأعراف:157).

وجزى الله خيراً من اتبعهم بإحسان :(والذين جاءوا من بعدهم يقولون ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان ولا تجعل في قلوبنا غلاً للذين ءامنوا ربنا إنك رءوف رحيم ) (الحشر :109).

وكلهم يتسابق في التحقق بصفات الرجال المؤمنين، الصادقين، المجاهدين، والثابتين على الحق :(من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر وما بدلوا تبديلا ً) (الأحزاب :23).

الحركات الإسلامية المعاصرة.. تحاول الجمع بين الذكر والجهاد:

وهكذا كانت حركات الجهاد، والتحرر من الاستعمار، في بلادنا العربية، والإسلامية، فقد ظلت ساحات الجهاد، مجالاً لسياحة أهل الذكر، في أرجاء العالم الإسلامي.. وقد لا نحتاج إلى التفضيل، فكتائب الجهاد الإسلامية، لا يمكن أن تغمر أو تطمس، في السودان، والجزائر، وفلسطين، وسائر بلاد المسلمين.

وساحات الجهاد القائمة اليوم في عالمنا الإسلامي، لجنودها، في كل ركن أذان، وإقامة، وصلاة، وقيام ليل، وتهجد، وصيام، وتلاوة جماعية للقرآن، والتزام للذكر كثيراً، حتى أضاءت وجوه الذاكرين، فهي ناضرة بذكر الله، متعلقة بالفراديس العلى، وتتصل الأنوار من قبور شهدائها، بالسماء، ويفوح المسك من دم الشهداء، ويعظم الاحتمال والصبر، عند جرحى العلميات، ويكثر الذكر والتسبيح، من الممسكين بالزناد، في خط النار، وكلهم يتسابقون حول غايتهم في صدق ووفاء:

(من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر وما بدلوا تبديلاً ) (الأحزاب :23).

وأهل الذكر يجتهدون، حتى تنشرح صدورهم، وتطمئن قلوبهم بذكر الله : (ألا بذكر الله تطمئن القلوب. الذين ءامنوا وعملوا الصالحات طوبى لهم وحسن مآب ) (الرعد :28-29).

وأهل الذكر، في جهاد متصل الحلقات، في صلاة، وركوع، وسجود، وفعل الخير، وعبادة لله، وطاعة مع جهاد للعدو، وامتثال لجميع ما أمر الله به، وانتهاء عن كل ما نهى الله عنه، وجهاد في الطاعة، ورد النفس عن الهوى، وجهاد في رد وساوس الشيطان، ومدافعة لأهل الظلم والكفر(49).

وذلك كله امتثالاً لأمر الله جل جلاله :(يأيها الذين ءامنوا اركعوا واسجدوا واعبدوا ربكم وافعلوا الخير لعلكم تفلحون * وجاهدوا في الله حق جهاده هو اجتباكم وما جعل عليكم في الدين من حرج ملة أبيكم إبراهيم هو سماكم المسلمين من قبل وفي هذا ليكون الرسول شهيداً عليكم وتكونوا شهداء على الناس فأقيموا الصلوة وءاتوا الزكاة واعتصموا بالله هو مولاكم فنعم المولى ونعم النصير ) (الحج: 77-78). وقد يبلغون درجة الحبور، بذكر الله، حتى يعبر بعضهم عن هذه الحالة، فيقول :(إن في الدنيا جنة، من لم يدخلها، لايدخدل جنة الآخرة) (50). وإنها لمجاهدة متصلة، وتزكية للنفس، لبلوغ درجة الإحسان في العبادة : (أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فهو يراك ) (51). وصدق الله العظيم، القائل في محكم تنزيله :(والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا وإن الله لمع المحسنين) (العنكبوت :69).

=============

# القنوت.. دراسة موضوعية في ضوء الكتاب والسنة

ولا ريب في أن مستقبل الإسلام، يصنعه، أهل الذكر والجهاد.. ومن حيث هم أهل ذكر، فإنهم أهل قنوت، وطاعة، واتصال بالله، ولجوء إليه.. فالقنوت ديدنهم.. والوقوف على معالم القنوت، والأحكام المتعلقة به، أمر يحتاجه صناع مستقبل الإسلام، في مواجهة التحديات، التي لا يغنيهم فيها إعداد العدة الحربية، بل لا بد من العدة الإيمانية، والقوة الروحية، والطاقات المعنوية، ولهذا فإنهم يلتزمون القنوت، وخاصة قنوت النوازل، في مواجهة الحرب، والحصار والمقاطعة، والكيد، واستبداد قوى الطغيان والاستكبار.

ومن ثم هذه دراسة في القنوت، تشرح معناه في لغة القرآن الكريم، وتفسر الآيات التي جاء فيها ذكر القنوت، مع بيان مشروعية قنوت النوازل، وضرورته في عصرنا هذا، وتبين آداب القنوت، وأحكامه، ومذاهب الفقهاء في وقته، ومحله، وما يجزىء من القنوت، وألفاظه، وشرح غريبه، وسعة الهدى النبوي في ذلك.

وأهم شيء في القنوت، أن يتحقق من يدعو، بالمعاني الجامعة لكلمة القنوت: من الاشتغال بذكر الله، والخشوع في الصلاة، والقيام، وأن يدعوه سبحانه وتعالى، مقرين له بالعبودية، مخلصين له الدين :(وما أُمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين ) (البينة :5)، وحقاً :(إنما يتقبل الله من المتقين ) (المائدة :279)، ثم إنه:(لن ينال الله لحُومها ولا دماؤها ولكن يناله التقوى منكم ) (الحج:37)، والمؤمنون يعتمدون في أعمالهم كلها، على عناية الله، ويتوكلون عليه وحده :(قل هو الرحمن ءامنا به وعليه توكلنا ) (الملك :29).

ونحن مندوبون إلى سؤال الله تعالى، ودائه، مفتقرين إليه، منكسرين له، حتى نكون أقرب للإجابة، ونيل المطلوب، كما وجهنا نبينا صلى الله عليه وسلم :(إنما تنصرون، وترزقون بضعفائكم، بدعائهم، وصلاتهم، وإخلاصهم ) (1).

والله تعالى نسأله أن يجعلنا من عباده القانتين.

دواعي الكتابة عن القنوت:

وهي كثيرة، علمية، وعملية على نحو ما يلي:

1- دواعٍ علمية :لبسط العلم، ونشر سننه، وآدابه، وذلك لما يلي:

(أ) خفاء فقه القنوت.

(ب) تعدد الآراء الفقهية، وتباين مواقف العلماء.

(ج) التنازع حول مسألة القنوت.

(د) غفلة الأمة عن القنوت.

2- دواعٍ عملية :نواجهها في حياتنا، مع واقع المسلمين، اليوم، ومن ذلك:

(أ) الهجمة الشرسة من الكفار على المسلمين، بمختلف الأشكال، والأنواع، والصور.

(ب) ظلم بعض حكام المسلمين، للانفصام الحادث في مواقفهم، وأحكامهم، بين السلطان والقرآن، وبين السيف، والقلم، مع التبعية المخزية للكفار، وموالاة غير المؤمنين.

(ج) غفلة عامة المسلمين، عن هذا الواقع المرير، وإنه لمن النوازل حقاً، عدم اعتبارالمسلمين لذلك، وعدم انتباههم إلى أن ما حل بالمسلمين في مشارق الأرض، ومغاربها، يستدعي قراءة قنوت النوازل.

(د) حالة الضيق والتمزق، الذي قد يصيب بعض من نذر نفسه، أن يكون مصلحاً، فيواجه مكر الليل والنهار، وليس له إلا أن يخلص في دعائه، والتجائه إلى ربه.

(هـ) دعوة المسلمين كافة، للإكثار من القنوت، والتوسع فيه، وعدم التعرض لمن يقنت، لأن الأمر في فقه الدين، واسع.

(و) أهمية القنوت في تزكية النفوس، وإعلاء القيم الروحية، وتوثيق صلة العباد بربهم، والاهتمام بأمر المسلمين، وتنمية العلاقات الأخوية، والاجتماعية.

لأجل هذه الدواعي مجتمعة، كان هذا الفصل، ولنتقرب بذلك كله إلى ربنا جل جلاله، وهو قريب ممن دعاه :(وإذا سألك عبادي عني فإنى قريب أجيب دعوة الداع إذا دعان فليستجيبوا لي وليؤمنوا بى لعلهم يرشدون ) (البقرة :186). ونشرع في بيان المقصود، والله المستعان:

أولاً : معاني القنوت في اللغة

قنت* القنوت:

يرد القنوت في لسان العرب، على المعاني التالية:

1- الإمساك عن الكلام، والسكوت.

2- الدعاء والتسبيح.

3- الصلاة.

4- الدعاء في الصلاة.

5- الخشوع والإقرار بالعبودية.

6- القيام.

7-إطالة القيام.

8- القيام بالطاعة، التي ليس معها معصية.

فيصرف في كل واحد من هذه المعاني، إلى ما يحتمله اللفظ في سياقه، من آية، أو حديث، أو عبارة.

(أ) قال ابن سيده، فيما نقله عنه ابن منظور، في كتابه :(لسان العرب) :القنوت الطاعة، هذا هو الأصل، ومنه قوله تعالى :(والقانتين والقانتات ) (الأحزاب :35)، ثم سمى القيام في الصلاة قنوتاً، ومنه قنوت الوتر.. والقانت :المطيع.

القانت :الذاكر لله تعالى، كما قال عزوجل :(أمن هو قانت ءاناء الليل ساجداً وقائما ً) (الزمر :9).

وقيل: القانت :العابد.

والقانت في قوله عزوجل :(وكانت من القانتين ) (التحريم :12)، أي من العابدين.

والمشهور في اللغة، أن القنوت الدعاء. وحقيقة القانت أنه القائم بأمر الله، فالداعي إذا كان قائماً، خص بأن يقال له :قانت، لأنه ذاكر لله تعالى، وهو قائم على رجليه.. فحقيقة القنوت :العبادة، والدعاء لله عزوجل، في حال القيام، ويجوز أن يقع في سائر الطاعة، لأنه إن لم يكن قياماً بالرجلين، فهو قيام بالشئ بالنية.

قال ابن سيده :والقانت القائم بجميع أمر الله تعالى (2).

(ب) وجاء في مفردات الراغب الأصفهاني، في تفسير معنى القنوت، أنه:

لزوم الطاعة مع الخضوع، وفسر بكل واحد منهما في قوله:

1- (وقُومُوا لله قانتين ) (البقرة :238)، وقوله تعالى :(كل له قانتون ) (البقرة :116)، (الروم :26)، قيل: خاضعون، وقيل: طائعون.

2-وقيل :ساكتون، ولم يعن به كل السكوت، وإنما عنى به ما قاله عليه الصلاة والسلام :(إن هذه الصلاة لا يصح فيها شيء من كلام الآدميين، إنما هي قرآن وتسبيح )، وعلى هذا قيل :أي الصلاة أفضل ؟ فقال : (طول القنوت )، أي الاشتغال بالعبادة، ورفض كل ما سواه. وقال تعالى : (إنّ إبراهيم كان أمةً قانتا ً) (النحل :120)، (وكانت من القانتين ) (التحريم :12)، (أمن هو قنت ءانآء اليل ساجداً وقآئماً ) (الزمر :9)، (اقنتى لربك ) (آل عمران :43)، (ومن يقنت منكن لله ورسوله ) (الأحزاب :31)، (والقانتين والقانتات ) (الأحزاب :35)، (فالصالحات قانتات) (النساء :34) (3).

(ج) وفي زاد المعاد (4) :أن القنوت يطلق على القيام، والسكوت، ودوام العبادة، والدعاء، والتسبيح، والخشوع، كما قال تعالى :(وله من في السماوات والأرض كل له قانتون ) (الروم :26)، وقال تعالى :(أمن هو قانت ءانآء اليل ساجداً وقآئماً يحذر الأخرة ويرجوا رحمة ربه ) (الزمر :9).

وقال تعالى :(وصدقت بكلمات ربها وكتبه وكانت من القانتين ) (التحريم :12)، وقال صلى الله عليه وسلم :( أفضل الصلاة طول القنوت ) (5)، وقال زيد بن أرقم: (لما نزل قوله تعالى :(وقوموا لله قانتين ) (البقرة :238)، أمرنا بالسكوت، ونهينا عن الكلام (6)، وقد نظم الشيخ الحافظ زين الدين العراقي، معاني القنوت، على ما يلي(7):-

ولفظ القنوت أعدُد معانيه تجد مزيداً على عشر معاني مَرْضِيَّة

دعاءُُ، خشوع، والعبادة طاعة إقامتها إقرارُهُ بالعبودية

سكوتُُ، صلاة، والقيام، وطوله كذاك دوام الطاعة الرابح القنية

ثانياً :معاني القنوت في القرآن الكريم

لقد جاء ذكر القنوت، في القرآن الكريم، في ثمان سور، في اثني عشر موضعاً، وثلاثه مواضع منهن مكية، في النحل، والروم، والزمر، وبقيتهن مدنيات، في سور: البقرة، وآل عمران، والنساء، والتحريم، والأحزاب.

تدور معاني القنوت في هذه المواضع، على الطاعة، والاستجابة، والاستكانة، والخضوع، والخشوع، والإقرار بالعبودية، ثم تأتي بمعنى الطاعة عامة، والطاعة لله عزوجل، ولرسوله صلى الله عليه وسلم، والطاعة في سكون، والطاعة في خشوع، والخشوع في الصلاة، وطول الركوع في الصلاة.

وعليه، فالقانت هو الخاشع، المطيع لله ورسوله، العابد، الراكع، المستكين له، الخاضع لأمره، الخاشع في صلاته، الذي يطيل في صلاته، وركوعه.

والقنوت مرتبة عالية، لأنه يُذْكر بعد الإسلام، والإيمان، ولهذا فالإسلام بعده مرتبة يرتقى إليها، وهو الإيمان، ثم القنوت ناشيء عنهما.

وهذا بيان تفصيلي، للمواضع التي جاء فيها لفظ القنوت، مع تفسير موجز لمعنى القنوت، في كل موضع، مع تصنيف الآيات موضوعياً:

الكون كله قانت لله:

(وقالوا اتخذ الله ولداً سبحانه بل له ما في السماوات والأرض كل له قانتون ) (البقرة :116)، (وله من في السموت والأرض كل له قانتون ) (الروم :26). ومعنى (قانتون) في الموضعين :أي مقرون بالعبودية، مطيعون، خاشعون لله خاضعون.

القنوت صفة الأنبياء:

كما جاء في ذلك في وصف إبراهيم عليه الصلاة والسلام :(إن إبراهيم كان أمة قانتاً ) (النحل: 120)، وقانتاً هنا، تعني: الخاشع، المطيع.

فضل القانتين وأهل القيام والتهجد:

(أمّن هوقانت ءانآء اليل ساجداً وقآئماً يحذر الأخرة ويرجوا رحمة ربه ) (الزمر :9). وكلمة قانت هنا، تعني: الخشوع في الصلاة، والتهجد. (حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى وقوموا لله قانتين ) (البقرة :238).

الأمر بالقنوت خطاباً لمريم عليها السلام:

(يا مريم اقنتى لربك واسجدى واركعى مع الراكعين ) (آل عمران :43). والقنوت هنا، بمعنى :طول الركوع في الصلاة، امتثالاً لأمر الله تعالى. وفي خطاب القرآن لأمهات المؤمنين رضوان الله عليهن: (ومن يقنت منكن لله ورسوله وتعمل صالحاً نؤتهآ أجرها مرتين وأعتدنا لها رزقاً كريماً ) (الأحزاب :31).

أي :تطع الله، ورسوله، وتستجيب.

ثم جاء في ذكر القنوت، على أنه صفة ملازمة، للمؤمنين، والمؤمنات: (إن المسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات والقانتين والقانتات ) (الأحزاب :35). أي :المطعين، والمطيعات، في سكون. (الصابرين والصادقين والقانتين ) (آل عمران :17)، أي: الطائعين ، الخاضعين. (فالصالحت قانتات حافظات للغيب بما حفظ الله )(النساء :34)، أي :مطيعات لأزواجهن. (مسلمات مؤمناتٍ قانتت ٍ) (التحريم :5)، مطيعات.

(وصدقت بكلمات ربها وكتبه وكانت من القانتين ) (التحريم :12)، أي :من المطيعات.

ثالثاً: المعنى الاصطلاحي للقنوت

وقد ذهب ابن حجر العسقلاني إلى أن (القنوت يطلق على معان، والمراد به هنا الدعاء في الصلاة، في محل مخصوص من القيام) (8).

ومع أن المراد بالقنوت هنا، هو الدعاء في الصلاة، فإن هذا المعنى، يجمع المعاني الأخرى المرادة من القنوت، لأنه دعاء، في قيام، في صلاة، لا كلام فيها، إلا ذكر الله، في طاعة لله، وعبادة خالصة، خاشعة، وإقرار بالعبودية.

رابعاً :مشروعية القنوت، وخاصة قنوت النوازل، وضرورته في عصرنا هذا

والقنوت سنة نبوية، وخاصة عند النوازل الكثيرة، التي تحل بالأمة المسلمة، وهي تواجه الحرب، والحصار، والمقاطعة، والكيد، واستبداد قوى الطغيان، والاستكبار، من أعداء الله الظاهرين، والمستترين، ولا بد من بيان المقصود من النوازل، التي يشرع عندها القنوت.

النوازل في حياة المسلمين:

ومن يتأمل اليوم في حال المسلمين، ويهتم بأمرهم، ويتابع أخبارهم، ويسعى مع العاملين لإقامة الدين، يجد من النوازل ما يدعو المسلمين لدعاء القنوت، وهذا بيان ذلك:

(أ) حال المسلمين:

1- أغلبية، مغلوبة وأكثريات مقهورة.. وأقليات مهضومة.

2- العرب والمسلمون، مختلفون فيما بينهم، وبعضهم تبع للأجنبي، تماماً كما كان الغساسنة والمناذرة.. أو كما كان في اليرموك، يقاتل الروم المسلمين، بعدد مساوٍ لهم من العرب تبعاً..

3- بيت المقدس في أيدي اليهود، وأهل فلسطين مشردون، حرموا الأمن، حتى إنهم لُيقَتَّلون في مساجدهم.

4- المسلمون مستضعفون حيثما كانوا.. وقد اجتمعت كلمة الكفر على حربهم، واستلاب خيراتهم، وتداعت عليهم كما تتداعى الأكلة على قصعتها، مخافة أن تعود دولة الإسلام، وتنتشر دعوته في العالمين، وتسود حضارته، وتزدهر على ضفاف النيل، والرافدين، والبحر الأحمر، والبحر الأبيض، والبحر الأسود، والقرن الأفريقي، وقلب أفريقيا، فضلاً عن أوروبا، وأمريكا.

والمسلمون في البوسنة والهرسك، أُستبيحت نساؤهم، وشرد أطفالهم، وقتلوا تقتيلاً، على مرأى ومسمع من دول العالم. بل تآمرت دول الغرب، المدعين المسيحية، حتى تتم تصفيتهم، جسدياً وعرقياً، واستولى أعداء من الصرب والكروات، على معظم أراضيهم، ومنعهم مجلس الأمن الدولي، بقرار ظالم، من التسلح، ثم مُنع المسلمون من مساعدتهم، وأتيحت الفرصة لأعداهم الصرب والكروات، للقضاء عليهم نهائياً، حتى لا تقوم للإسلام قائمة في قلب أوروبا :(يريدون ليطفئوا نور الله بأفواهم والله متم نوره ولو كره الكافرون ) (الصف :8).

ثم كانت كارثة الشيشان، التي مكر فيها أعداء الله الروس بالمسلمين الشيشان، وسكت الغرب، وتآمرت جمعياته، المنسوبة للعفو، وحقوق الإنسان، وتواطأوا جميعاً، ومكروا مكراً كباراً، في محاولة منهم لتدمير تلك القوة الإسلامية، فأخلوا الطريق للروس، ليقوموا بتنفيذ خططهم في تدمير المباني والمعاني، وليس بالمسلمين اليوم، حيلة لنصرة إخوانهم، بل قد حيل بينهم وبين إخوانهم، بشتى العوائق، ومكر الليل والنهار. وما للمسلمين والحالة هذه، إلا أن يضرعوا إلى الله، قانتين في صلواتهم، ومناجاتهم لربهم، أسوة بنبينا صلى الله عليه وسلم.

والقنوت سبيلنا، لنصرة إخواننا المستضعفين، نصرهم الله، وأعلى لواءهم، وقهر أعداءهم.

5- المسلمون ممنوعون عن إقامة دينهم، والقيام بمقتضيات توحيد الله، والاتساق مع أنفسهم، في إقامة شعائر الله، وشرائعه:

(أ) في النظم التربوية، والتعليمية، والثقافية، والإعلامية، تبعاً وتقليداً للغرب، وتراثه الوثني، والمادي.

(ب) وشرع الله معطل، في المعاملات المالية.. فالربا المحرم، تقوم عليه مؤسسات، والغش، والغرر، والبيوع الفاسدة، تسود المعاملات المعاصرة.

(ج) والقوانين الجنائية، مستمدة من القوانين الوضعية، ذوات الأصول المادية، والمجوسية، والوثنية.

(د) وحدود الله معطلة.. ورغم مطالب المسلمين، فإن مؤسساتهم التشريعية مقهورة، بالعلمانية، والتدخلات الخارجية، حتى لا يتميز المسلمون في قوانينهم.

وليشوهوا صورة النظام الإسلامي، ويشوشوا عليه، يفترون على الله الكذب، ويقولون على الله مالا يعلمون، ويصفون الشريعة العادلة بما هي منه براء.

(ب) أهل الكفر مع المسلمين:

1- الكفار في تطاول، واستكبار، واستبداد، على خلق الله، واستضعاف، واستصغار، واستذلال للمسلمين..

2- جيوش الكفار، تعيث في الأرض الفساد..

3- وصنائعهم، وجيوبهم، مؤتمرة، تحارب بالسلاح جنود الرحمن..

4- ومن خلع رقبة الكفر عن عنقه، وطرح قوانينه، ونظمه، وعاد إلى الله، متوكلاً عليه، دارت عليه دوائر البغي، ومكروا عليه مكراً كباراً، وزوروا عليه، وافتروا الكذب، مستخدمين سيطرتهم على المؤسسات الدولية، والسياسية، والأمنية، والمالية، ومتخذين ستائر الرحمة، والإغاثة، والعدل، وحقوق الإنسان، لفرض الحصار الظالم، والمقاطعة الجائرة.

إن الظلم ظلمات يوم القيامة، وعلى المفترين الظلمة، خزي، وندامة.. ودعوة المظلوم، ليس بينها وبين الله حجاب.

وعلى دعاة الحق، أن يوجهوا عداءهم، وبغضهم، إلى هؤلاء الأعداء، ثم إن على الدعاة إلى الله، أن يكونوا مخلصين لله، في القنوت، والدعاء، أن يتولاهم بالتأييد، والتمكين لدينه، وينصرهم على عدوهم.

خامساً :أحكام القنوت

1- مشروعية القنوت:

القنوت، سنة مشروعة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد ذهب مالك إلى أن القنوت في صلاة الصبح، مستحب، بينما ذهب الشافعي إلى أنه سنة (9)، وقد أثبت الإمام البخاري، سنية القنوت، ومشروعيته في الصلاة، حين بَوَّب له في كتاب الوتر، من صحيحه، قال :(باب القنوت، قبل الركوع وبعده)، وقد علق على ذلك صاحب :(فتح الباري في شرح صحيح الإمام البخاري)، فقال :(أثبت بهذه الترجمة- أي عنوان الباب- مشروعية القنوت، إشارة إلى الرد على من روي عنه أنه بدعة، كابن عمر.. وفي الموطأ عنه، أنه كان لا يقنت في شيء من الصلوات، ووجه الرد عليه، ثبوته من فعل النبي صلى الله عليه وسلم، فهو مرتفع عن درجة المباح) (10).

2- وقت القنوت:

(أ) صلا الصبح، وهو مذهب مالك، والشافعي (11) للحديث الصحيح فيه، عن أنس رضي الله عنه :(أن النبي صلى الله عليه سلم، قنت شهراً يدعو عليهم، ثم ترك، فأما في الصبح، فلم يزل يقنت حتى فارق الدنيا)، وهو حديث صحيح، رواه جماعة من الحفاظ، وصححوه (12).

وقد احتج الشافعي على أن الصلاة الوسطى، الصبح، من حيث قرانها بالقنوت، في قوله تعالى :(حفظوا على الصلوات والصلاة الوسطى وقوموا لله قانتين ) (البقرة :238).

(ب) وذهب أبو حنيفة، وأحمد، إلى أن وقت القنوت، هو الوتر، في جميع السنة (13)، وقد نسب ابن قدامة هذا القول، لابن مسعود، وإبراهيم، وإسحاق، وأصحاب الرأي، وأنه رواية عن الحسن (14) ..وفي رواية عن أحمد، أن وقته الوتر، في النصف الأخير من رمضان، وقاله ابن قدامه. وعن أحمد في رواية أخرى، أنه لا يقنت إلا في النصف الأخير من رمضان، وروي ذلك عن علي، وأبي، وبه قال ابن سيرين، وسعيد بن أبي الحسن، والزهري، ويحيى بن ثابت، ومالك، والشافعي، واختاره أبوبكر الأثرم، لما روي عن الحسن :(أن عمر جمع الناس على أبي بن كعب، فكان يصلي لهم عشرين ركعة، ولا يقنت إلى في النصف الثاني) (15).

وعن ابن عمر :(أنه لا يقنت، إلا في النصف الأخير من رمضان). وعنه :لا يقنت في صلاة بحال (16).

3- مذاهب العلماء في القنوت في الصلوات الخمس:

(أ) في الصلوات الخمس، إن نزل بالمسلمين نازلة (وهو قول للشافعي) (17).

(ب) في الصلوات الخمس مطلقاً، كما قال قوم (18).

(ج) عدم القنوت مطلقاً، في غير صلاة الصبح (19).

والصحيح الذي قام عليه الدليل، من هدي النبوة، مشروعية قنوت النوازل، في الصلوات الخمس، ويكون الدعاء فيها جهراً، بعد الرفع من الركوع (20).

ويدل على القنوت، عند النوازل، في الصلوات الفرائض كلها، حديث ابن عباس، قال :(قنت الرسول صلى الله عليه وسلم، شهراً متتابعاً في الظهر، والعصر، والمغرب، والعشاء، والصبح، في دبر كل صلاة، إذا قال :سمع الله لمن حمده، من الركعة الأخيرة : يدعو عليهم، على حي من بني سُلَيْم، وعلى رِعْلٍ، وذكوان، وعُصيَّة، ويُؤَمن من خلفه) (21).

4- القنوت في شهر رمضان:

(أ) يستحب القنوت، في النصف الأخير من شهر رمضان، وقيل في النصف الأول منه، في الركعة الأخيرة من الوتر (22)، وهو مذهب الشافعية.

(ب) أو في جميع رمضان، على قولٍ للشافعية.. ونسبه الإمام النووي، إلى الإمام مالك (23).

5- محل القنوت في صلاة الصبح:

(أ) قبل الركوع، في الركعة الأخيرة، وهذا مذهب مالك، وقد ذكر الشيخ أبو الحسن، صاحب :كفاية الطالب الرباني، شرح رسالة ابن أبي زيد القيرواني، أن ظاهر كلام ابن أبى زيد القيرواني- أن القنوت- بعد الركوع أفضل، ونسب هذا القول إلى حبيب، وأن المشهور أن القنوت، قبل الركوع أفضل، لكونه أصح، وأضاف الشيخ علي الصعيدي، صاحب حاشية العدوي، أنه مع كونه أصح قبل الركوع، فلما فيه من الرفق بالمسبوق، ولأنه الذي استقر عليه عمر رضي الله عنه، بحضور الصحابة (24).

وروى محمد بن نصر، من طريق أخرى، عن حميد، عن أنس :(أول من فعل القنوت، قبل الركوع، أي دائماً، عثمان، لكي يدرك الناس الركعة).. وفي صحيح البخاري بلفظ :(سأل رجل أنساً، عن القنوت، بعد الركوع، أو عند الفراغ من القراءة؟ قال :لا، بل عند الفراغ من القراءة (25).

(ب) بعد الرفع من الركوع، وهو مذهب الشافعي (26).

وتحقيق المقال، في هذا الموضع، أن الأمر، واسع في كل القنوت، قبل الركوع، أم بعده، ويدل على ذلك، حديث ابن ماجه، عن أنس أنه سئل عن القنوت، فقال :(قبل الركوع، وبعده) (27) .. وقال ابن حجر العسقلاني :(إسناده قوي)- ومجموع ما جاء عن أنس بن مالك، في ذلك، يدل على أن القنوت، للحاجة، بعد الركوع، لا خلاف فيه عنه في ذلك، وأما لغير الحاجة، فالصحيح، أنه قبل الركوع. وقد اختلف عمل الصحابة، في ذلك، والظاهر، أنه من الاختلاف المباح (28).

6- محل القنوت في الوتر:

في موضع القنوت في الوتر، أوجه:

(أ) أنه قبل الركوع، أي بعد القراءة، وقبل التكبير.

(ب) الصحيح المشهور، أنه بعد الركوع، ونص عليه الإمام الشافعي.

(ج) يتخير بينهما (29).

وذهب بعض الفقهاء، إلى أنه لم يحفظ عنه صلى الله عليه وسلم، أنه قنت في الوتر، إلا في حديث ابن ماجه، عن أُبي بن كعب، أن رسول الله صلى الله عليه سلم، كان يوتر، ويقنت قبل الركوع (30).

7- محل القنوت في النوازل:

بعد الرفع من الركوع جهراً (31).

وفي بيان الحكمة، من جعل القنوت في النوازل، بعد الرفع من الركوع جهراً، يقول ابن حجر العسقلاني:

وظهر لي، أن الحكمة في جعل قنوت النازلة، في الاعتدال، دون السجود، مع أن السجود مظنة الإجابة، كما ثبت :(أقرب ما يكون العبد من ربه، وهو ساجد)، وثبوت الأمر بالدعاء فيه :أن المطلوب من قنوت النازلة، أن يشارك المأموم الإمام، في الدعاء، ولو بالتأمين، ومن ثم، اتفقوا على أنه يجهر به، خلاف القنوت، في الصبح، فاختلف في محله، وفي الجهر به (32).

سادساً :ألفاظ القنوت

اختلف الأئمة فيما يقنت به:

(أ) فاستحب مالك القنوت بـ : (اللهم إنا نستعينك، ونستغفرك، ونستهديك، ونتوب إليك، ونخنع لك، ونخلع ونترك من يكفرك. اللهم إياك نعبد، ولك نصلي، ونسجد، وإليك نسعى، ونحفد، ونرجو رحمتك، ونخاف عذابك، إن عذابك الجد بالكافرين ملحق).

(ب) وقال الشافعي، وإسحق، بل يقنت بـ : (اللهم اهدنا فيمن هديت، وعافنا فيمن عافيت، وقنا شر ما قضيت، إنك تقضي ولا يقضى عليك، تباركت ربنا، وتعاليت) (33)، وهذا يرويه الحسن بن علي، من طرق ثابتة، أن النبي عليه الصلاة والسلام، علمه هذا الدعاء، يقنت به في الصلاة (34).

(ج) قال النووي :فالاختيار، أن يقول فيه ما رويناه، في الحديث الصحيح :(اللهم إهدنا فيمن هديت...) قال أصحابنا :وإن قنت بما جاء، عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، كان حسناً، وهو أنه قنت في الصبح، بعد الركوع، فقال :(اللهم إنا نستعينك، ونستغفرك...) (35).

(د) وقال قوم :ليس في القنوت شيء، موقوت، لأنه دعاء، وأهم ما يراعى فيه، الإخلاص في الدعاء (36).

حكم الجمع بين أدعية القنوت:

ويجوز الجمع بين هذه الأدعية، الواردة في القنوت، وغيرها، مع اختيار جوامع الدعاء، والإخلاص، ومراعاة الاعتدال في الدعاء، ومناسبته، للمقام، وحال المصلين.

وقال النووي :ويجوز، بل يستحب، مع النشاط، الجمع بين أدعية القنوت (37).

ما يجزئ من القنوت:

والدعاء في القنوت، واسع، غير مقيد بنص معين، من أدعية القنوت الواردة، بل كل دعاء من أدعية القرآن، أو السنة، أو مطلق الدعاء، وافٍ بالمطلوب.

من أدعية القنوت:

وقد تعددت صيغ القنوت، في السنة النبوية، ومن ذلك:

1- الدعاء الأول:

(اللهم اهدني فيمن هديت، وعافني فيمن عافيت، وتولني فيمن توليت، وبارك لي فيما أعطيت، وقني شر ما قضيت، فإنك تقضي ولا يقضى عليك، وإنه لا يذل من واليت، وتباركت ربنا وتعاليت)، رواه الترمذي، وقال :حديث حسن.. ولا نعرف عن النبي صلى الله عليه وسلم، في القنوت شيئاً، أحسن من هذا.

وفي رواية ذكرها البيهقي، أن محمد بن الحنفية- وهو ابن علي بن أبي طالب رضي الله عنه- قال :إن هذا الدعاء الذي كان أبي يدعو به، في صلاة الفجر، في قنوته.

قال النووي(38) :ويستحب أن يقول، عقب هذا الدعاء :(اللهم صل على محمد وعلى آل محمد وسلم).. فقد جاءت رواية النسائي، في هذا الحديث، بإسناد حسن: (وصلى الله على النبي) (39).

2- الدعاء الثاني:

(اللهم، إنا نستعينك، ونستغفرك، ولا نكفرك، ونؤمن بك، ونخلع، ونترك من يفجرك، اللهم، إياك نعبد، ولك نصلي، ونسجد، وإليك نسعى، ونحفد، ونرجو رحمتك، ونخشى عذابك، إن عذابك الجد بالكفار ملحق. اللهم، عذّب الكفرة (40)، الذي يصدون عن سبيلك، ويكذبون رسلك، ويقاتلون أولياءك. اللهم، اغفر للمؤمنين والمؤمنات، والمسلمين والمسلمات، وأصلح ذات بينهم، وألف بين قلوبهم، واجعل في قلوبهم الإيمان، والحكمة، وثبتهم على ملة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأوزعهم أن يوفوا بعهدك، الذي عاهدتم عليه، وانصرهم على عدوك، وعدوهم، إله الحق، واجعلنا منهم (41).

3- الدعاء الثالث :دعاء قنوت النوازل.

وهذا أنموذج لما كان يدعو به النبي صلى الله عليه وسلم، في قنوت النوازل، يدعو فيها على أعدائه الذين يصدون عن سبيل الله، ويقاتلون أولياءه، أو يدعو للمستضعفين من المؤمنين، مع الدعاء على الكفار:

1- عن ابن عمر، رضي الله عنه، أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم، إذا رفع رأسه من الركوع، في الركعة الآخرة من الفجر، يقول :(اللهم، العن فلاناً وفلاناً، بعدما يقول : سمع الله لمن حمده، ربنا ولك الحمد) فأنزل الله تعالى :(ليس لك من الأمر شئ أو يتوب عليهم أو يعذبهم ) إلى قوله تعالى :(فإنهم ظلمون ) (آل عمران :128) (42). وفي الحديث، دليل مشروعية الجهر بالقنوت.

2- عن أبي هريرة، رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم، كان إذا أراد أن يدعو على أحد، أو يدعو لأحد، قنت بعد الركوع، فربما قال، إذا قال :سمع الله لمن حمده، ربنا ولك الحمد (اللهم انج الوليد بن الوليد، وسلمة بن هشام، وعياش بن أبي ربيعة، والمستضعفين من المؤمنين، اللهم اشدد وطأتك على مضر، واجعلها عليهم سنين كسنيّ يوسف)، قال يجهر بذلك ويقول في صلاة الفجر :(اللهم العن فلاناً وفلاناً)، حيين من أحياء العرب، حتى أنزل الله تعالى :(ليس لك من الأمر شيء ) (آل عمران :128) (43).

وفيه نص الراوي على أن النبي صلى الله عليه وسلم، قد جهر. ودلالة ذلك واضحة، في أنه لا يجوز أن يكون القنوت سباباً، أو لعناً، وخاصة إذا كان مع المخالفين في الرأي، من أهل القبلة. ولاشك، أن ذلك هدي كتاب ربنا تعالى، وسنة نبينا صلى الله عليه وسلم.

4- الدعاء الرابع :نموذج من جوامع الدعاء، في قنوت النوازل، ليختار منها، ما يوافق الحال، والنشاط.

* اللهم، إني أعوذ برضاك من سخطك، وأعوذ بمعافاتك من عقوبتك، وأعوذ بك منك، لا أُحصي ثناءً عليك، أنت كما أثنيت على نفسك.

* اللهم إنك عفو، تحب العفو، فاعف عنا.

* اللهم إنا نعوذ بك من الهم والحزن، ونعوذ بك من الجبن والبخل، ونعوذ بك من غلبة الدين، وقهر الرجال.

* اللهم اجعل عملنا كله صالحاً، واجعله لوجهك خالصاً، ولا تجعل لأحد فيه شيئاً.

* اللهم ارزقنا الإخلاص في العمل، والتوفيق لما ترضى، والقبول عندك.

* اللهم إنك عفو كريم، تحب العفو، فاعف عنا.

* اللهم اغفر للمؤمنين والمؤمنات، والمسلمين والمسلمات، وألف بين قلوبهم، وأصلح ذات بينهم، وانصرهم على عدوك وعدوهم.

* اللهم العن الكفرة، الذين يكذبون رسلك، ويصدون عن سبيلك، ويقاتلون أولياءك.

* اللهم خالف بين كلمتهم، وزلزل أقدامهم، وأنزل بهم بأسك، الذي لا يرد عن القوم المجرمين.

* ونج اللهم المستضعفين من المسلمين، وانصر المجاهدين، في مشارق الأرض ومغاربها.

* اللهم احفظنا، وانصرنا، ودعوتنا وأمتنا.. ومكن دينك الذي ارتضيت، وأيد اللهم جنودنا، وثبت أقدامهم، وسدد رميتهم، واشرح صدورهم، وأذهب غيظ قلوبهم، وانصرهم نصرك المؤزر المبين، على عدوك وعدوهم، واكفنا شر أعدائنا، من الساعين بالفتنة، والباغين للبرآء العيب، والمحادين الله، ورسوله، والمؤمنين.

* اللهم اكفنا شرهم بما شئت، وكيفما شئت، إنك على ما تشاء قدير.

* اللهم منزل الكتاب، ومجري السحاب، وهازم الأحزاب، اهزمهم، وانصرنا عليهم.

* اللهم أغننا بحلالك عن حرامك، وبطاعتك عن معصيتك، وبفضلك عمن سواك، وارفع عنا الغلاء، والوباء، وما لا يكشفه عنا غيرك.

* اللهم بارك لنا في زرعنا، وضرعنا، وأرضنا، واجعل سائر بلادنا سخاءً، رخاءً، وأماناً، وسلاماً، وارحم أمة محمد صلى الله عليه وسلم عامة، وارحم أمتنا رحمة من لدنك خاصة، وقها شر الفتن، ما ظهر منها وما بطن، واهد اللهم ولاة أمورنا إلى ما فيه خير العباد والبلاد، واهدهم إلى الحق، وإلى طريق مستقيم، وأعنهم في دينهم، ودنياهم، وآخرتهم، وقهم شر من حولهم، وارزقهم بطانة الخير، التي تأمرهم بالمعروف، وتحضهم عليه، وجنبهم بطانة السوء، وانشر اللهم في بلادنا لواء العدل والإحسان، وألف بين قلوب عبادك يا كريم.

سابعاً :آداب وأحكام

1- صيغة دعاء القنوت:

(أ) يستحب أن يدعو الإمام بصيغة الجماعة.

(ب) ويكره أن يخص نفسه بالدعاء، لما في سنن أبي داود، والترمذي، عن ثوبان رضي الله عنه، قال :قال رسول الله صلى اله عليه وسلم :(لا يؤم عبد قوماً، فيخص نفسه بدعوة دونهم، فإن فعل فقد خانهم ) (44).

2- رفع اليدين في دعاء القنوت:

يستجيب رفع اليدين في دعاء القنوت (45)، لما صح عن أنس، رضي الله عنه، في قصة القرَّاء، الذين قُتلوا رضي الله تعالى عنهم، قال :(لقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم، كلما صلى الغداة يرفع يديه، يدعو عليهم، يعني على الذين قتلوهم)، قال البيهقي :ولأن عدداً من الصحابة رضي الله تعالى عنهم، رفعوا أيديهم في القنوت. ثم روي عن أبي رافع، قال :(صليت خلف عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فقنت بعد الركوع، ورفع يديه، وجهر بالدعاء).

وفي مسح الوجه باليدين، قولان، ونسب النووي إلى البيهقي، أن الصحيح عدم المسح، لأنه لم يحفظ فيه شيء عن أحد من السلف، وإن كان يروى عن بعضهم في الدعاء خارج الصلاة، ، فأما في الصلاة فهو عمل لم يثبت فيه خبر، ولا أثر، ولا قياس (46).

3- تأمين المأمومين:

ويستحب للمأموم أن يؤمن على الدعاء، لما روى ابن عباس رضي الله عنهما، قال :(قنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان يؤمن من خلفه)، ويستحب له أن يشاركه في الثناء، لأنه لا يصح التأمين على ذلك، فكانت المشاركة أولى (47).

4- القنوت بين الإجهار والإسرار:

(أ) قال الشافعية :إن كان المصلي منفرداً، أسر به، وهكذا، إن كان مأموماً، ولم يجهر الإمام، قنت المأموم سراً، كسائر الدعوات، فإنه يوافق فيها الإمام سراً.

(ب) وإن كان إماماً، جهر، على المذهب الصحيح المختار، الذي ذهب إليه الأكثرون.

(ج) وقيل :يسر، كسائر الدعوات في الصلاة.

(د) إن جهر صلاة الإمام بالقنوت، فإن كان المأموم يسمعه، أمن على دعائه، وشاركه في الثناء في آخره، وإن كان لا يسمعه قنت سراً.

(هـ) في غير صلاة الصبح، إذا قنت، فالمغرب، والعشاء كالصبح.

(و) والجهر بالقنوت في جميع الصلوات، مسنود بسنة صحيحة، ففي صحيح البخاري في باب تفسير قول الله تعالى : (ليس لك من الأمر شئ ) (آل عمران :128)، عن أبي هريرة : (أن النبي صلى الله عليه وسلم، جهر بالقنوت في قنوت النازلة).

5- القنوت بين الترك والاستمرار:

ولا يعني ما ورد من تركه صلى الله عليه وسلم للقنوت، أكثر من ترك الدعاء، واللعن على الكفار، في قنوت النوازل، بعد، ما نزل قوله تعالى :(ليس لك من الأمر شئ ).

ويدل على ذلك ما صح عن النبي صلى الله عليه سلم، مما أخرجه الإمام البخاري عن أبي هريرة، أن رسول صلى الله عليه سلم، قنت في صلاة العتمة شهراً يقول في قنوته:

(اللهم انج الوليد بن الوليد)

(اللهم انج سلمة بن هشام)

(اللهم انج عياش بن ربيعة)

(اللهم انج المستضعفين من المؤمنين)

(اللهم اشدد وطأتك على مضر)

(اللهم اجعلها عليهم سنين كسنيّ يوسف).

قال أبو هريرة :وأصبح ذات يوم، فلم يدع لهم، فذكرت ذلك له، فقال :(أو ما تراهم قد قدموا) (48).

يقول الإمام النووي، في تأييد هذا المذهب :أما الجواب عن حديث أنس وأبي هريرة رضي الله عنهما، في قوله :(ثم تركه)، فالمراد ترك الدعاء على أولئك الكفار، ولعنتهم فقط، لا ترك جميع القنوت، أو ترك القنوت في غير الصبح.. وهذا التأويل متعين، لأن حديث أنس، في قوله :(لم يزل يقنت في الصبح حتى فارق الدنيا)، صحيح صريح، يجب الجمع بينهما. هذا الذي ذكرناه متعين للجمع، وقد روى البيهقي، بإسناده، عن عبدالرحمن بن مهدي الإمام، أنه قال :إنما ترك اللعن، ويوضح هذا التأويل، رواية أبي هريرة السابقة، وهي قوله:( ثم ترك الدعاء لهم).

والجواب عن حديث سعد بن طارق، أن رواية الذين أثبتوا القنوت، روي عنهم زيادة علم، وهم أكثر، فوجب، تقديمهم... (49).

6- رأي المنكرين استمرار القنوت، والتزامه في صلاة الصبح:

والمنكرون للقنوت في صلاة الصبح، على سبيل الالتزام المستمر، يذكرون أنه كان قنوت النوازل، أو يؤولونه بمعنى من معاني القنوت، وهو هنا، طول القيام بعد الركوع، ولم يكن طول القيام، مجرد سكوت، بل كان فيه الدعاء والثناء. والمراد بالدعاء هنا، مطلق الدعاء،لا دعاء القنوت المحفوظ. بل كان فيه الثناء على الله تعالى، وتمجيده والدعاء.. وقد انتصر لهذا الرأي، ابن قيم الجوزية، وتبعه الشوكاني، فأيده في عدم الاستمرار في قنوت الصبح، وأنه مختص بالنوازل في الصلوات كلها، دون تخصيص (50).

7- الإنصاف والاعتدال في التزام القنوت في صلاة الصبح:

ومع أن ابن القيم قد وقف مع المنكرين استمرار القنوت، والتزامه في صلاة الصبح، لكنه وقف موقف الاعتدال، والإنصاف، من مخالفيه في الرأي، حين لخص الهدي النبوي في القنوت فقال: (51)

والإنصاف الذي يرتضيه العالم المنصف، أنه صلى الله عليه وسلم، جهر، وأسر، وقنت، وترك، وكان إسراره أكثر من جهره. وتركه القنوت أكثر من فعله، فإنه إنما قنت عند النوازل، للدعاء لقوم، والدعاء على آخرين، ثم تركه لما قدم من دعا لهم، وتخلصوا من الأسر، وأسلم من دعا عليهم، وجاءوا تائبين، فكان قنوته لعارض، فلما زال ترك القنوت، ولم يختص بالفجر، بل كان يقنت في صلاة الفجر والمغرب، ذكره البخاري في صحيحه عن أنس (52).

ثم خلص في بيان الهدي النبوي في القنوت، حيث قال: وكان هديه، القنوت في النوازل خاصة، وتركه عند عدمها، ولم يكن يخصه بالفجر، بل كان أكثر قنوته فيها، لأجل ما شرع فيها من التطويل، ولاتصالها بصلاة الليل، وقربها من السحر وساعة الإجابة، وللتنزل الإلهي، ولأنها الصلاة المشهودة، التي شهدها الله وملائكته، أو ملائكة الليل والنهار (53).

8- سعة الهدي النبوي في القنوت، فعلاً وتركاً:

الأمر في القنوت، واسع أيضاً، التزاماً له في صلاة الفجر، أو الوتر، أو عند النوازل، كما سبق بيان ذلك في الأدلة، مع عرضنا لأقوال الفقهاء، والمجتهدين، وقد أحسن صاحب (زاد المعاد في هدي خير العباد)، حيث مدح الفقهاء من أهل الحديث، بأنهم أسعد بالهدي النبوي، من حيث أنهم يقنتون حيث قنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويتركونه حيث تركه، فيقتدون به في فعله وتركه.

ويقولون :فعله سنة، وتركه سنة، ومع هذا فلا ينكرون على من دوام عليه، ولا يكرهون فعله، ولا يرونه بدعة، ولا فاعله مخالفاً للسنة، كما لا ينكرون على ما أنكره عند النوازل، ولا يرون تركه بدعه، ولا تاركه مخالفاً للسنة، بل من قنت فقد أحسن، ومن تركه فقد أحسن (54).

ولعل هذا التسامح، هو الأقرب لسنة من وصفه ربه بالرأفة، والرحمة، في قوله تعالى :(لقد جآءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رءوف رحيم ) (التوبة :128)، من نجاه ربه، من أن يكون فظاً غليظ القلب، حاشاه، بل كان خلقه القرآن، يعفو، ويصفح، ويستغفر لأمته، ويشاورهم في الأمر، فإذا عزم على إمضائه، فإنه يتوكل على الله تعالى، قال تعالى :(ولو كنت فظاً غليظ القلب لانفضوا من حولك فاعف عنهم واستغفر لهم وشاورهم في الأمر فإذا عزمت فتوكل على الله إن الله يحب المتوكلين ) (آل عمران :159).

الخلاصة

* وهي إيجاز ما انتهت إليه هذه الدراسة، في القنوت، وأحكامه، وآدابه، وهو اختيارنا، ولا بد من الرجوع لما فصلته من أحكام قنوت النوازل، وخاصة ذكر دواعيه، في حياتنا المعاصرة اليوم، في وجه التحديات القائمة، والأخطار.. وإنه لمن النوازل حقاً، عدم اعتبار المسلمين لذلك، وعدم انتباههم، ومعرفتهم إلى أن ما حل بالمسلمين في مشارق الأرض، ومغاربها، يستدعي قراءة النوازل كما في فصل هذا الفصل.

* تدور معاني القنوت، على الطاعة، والاستجابة، والاستكانة، والخضوع، والخشوع، والإقرار بالعبودية، ثم تأتي بمعنى الطاعة عامة، والطاعة لله عزوجل، ولرسوله صلى الله عليه وسلم، والطاعة في سكون، والطاعة في خشوع، والخشوع في الصلاة، وطول الركوع في الصلاة.. وعليه، فالقانت هو الخاشع في صلاته، الذي يطيل في صلاته، وركوعه.

* والقنوت، سنة مشروعة، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد ذهب مالك إلى أن القنوت في صلاة الصبح مستحب، فيما ذهب الشافعي إلى أنه سنة. وقد أثبت الإمام البخاري سنية القنوت، ومشروعيه في الصلاة، حين بوب له في كتاب الوتر، من صحيحه، قال :(باب القنوت قبل الركوع، وبعده)، وقد علق على ذلك صاحب (فتح الباري) فقال :أثبت بهذه الترجمة- أي عنوان الباب- مشروعية القنوت، إشارة إلى الرد على من روي عنه، أنه بدعة كابن عمر.

* وقت القنوت:

في صلاة الصبح، وهو مذهب مالك، والشافعي، للحديث الصحيح عن أنس رضي الله عنه :(أن النبي صلى الله عليه وسلم، قنت شهراً، يدعو عليهم، ثم ترك، فأما في الصبح، فلم يزل يقنت، حتى فارق الدنيا).

وذهب أبو حنيفة، وأحمد، إلى أن وقت القنوت، هو الوتر في جميع السنة..وفي رواية عن أحمد، أن وقته الوتر، في النصف الأخير من رمضان.. والصحيح الذي قام عليه الدليل من هدى النبوة، مشروعية قنوت النوازل، في الصلوات الخمس، ويكون الدعاء فيه جهراً، بعد الرفع من الركوع.

* محل القنوت في صلاة الصبح:

قبل الركوع، في الركعة الأخيرة، وهذا مذهب مالك.. قال الشيخ على الصعيدي، صاحب حاشية العدوي :إنه مع كونه أصح قبل الركوع، لما فيه من الرفق بالمسبوق، لأنه الذي استقر عليه عمر رضي الله عنه، بحضور الصحابة، وماجاء عن أنس في ذلك، يدل على أن القنوت للحاجة بعد الركوع لا خلاف فيه عنه، وأما لغير الحاجة، فالصحيح أنه قبل الركوع، وقد اختلف عمل الصحابة في ذلك، والظاهر أنه من الاختلاف المباح.

* محل القنوت في النوازل:

بعد الرفع من الركوع، جهراً، وفي بيان الحكمة من جعل القنوت في النوازل بعد الرفع من الركوع جهراً، يقول ابن حجر العسقلاني :(وظهر لي أن الحكمة في جعل قنوت النازلة، في الاعتدال، دون السجود، مع أن السجود مظنة الإجابة، كما ثبت (اقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد)، وثبوت الأمر بالدعاء فيه، أن المطلوب من قنوت النازلة أن يشارك المأموم الإمام، ولو بالتأمين، ومن ثم اتفقوا على أن يجهر به، بخلاف القنوت في الصبح، فاختلف في محله، وفي الجهر به.

* يجوز الجمع بين الأدعية الواردة في القنوت، وغيرها، مع اختيار جوامع الدعاء، والإخلاص، ومراعاة الاعتدال في الدعاء، ومناسبته للقيام، وحال المصلين.

* يستحب رفع اليدين، في دعاء القنوت، ويستحب للمأموم أن يؤمن على الدعاء، لما روي أن ابن عباس رضي الله عنهما قال :(قنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان يؤمن من خلفه).

* لا يعني ما ورد من تركه صلى الله عليه وسلم للقنوت، أكثر من أنه ترك الدعاء على الكفار، ولعنهم في قنوت النوازل، لنزول قوله تعالى :(ليس لك من الأمر شئ )، كما نجد ذلك في نص الحديث.

* الإنصاف الذي يرتضيه العالم المنصف، أنه صلى الله عليه وسلم، جهر، وأسر، وترك، وقنت، وكان إسراره أكثر من جهره.

* الأمر في القنوت، واسع، التزاماً له في صلاة الفجر، أو الوتر، أو عند النوازل، كما سبق ذلك مع الأدلة، وبيان آراء الفقهاء.

نسأل الله تعالى أن يتقبلنا وقراء هذا الفصل، والمسلمين كافة، وأن يوفقنا أجمعين لما يحب، ويرضى، وأن يجعلنا من عباد الله المخلصين، القانتين، الخاشعين، المطيعين، العابدين، الراكعين، الساجدين، المسبحين، المفتقرين إليه جل جلاله، والمفوضين أمرنا كله إليه تعالى، كما نسأله تعالى أن يفقهنا في الدين، وأن يزيدنا علماً. سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا، إنك أنت العليم الحكيم.

وصلى الله تبارك وتعالى، وسلم تسليماً كثيراً، على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه. سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.

=============

# تطبيق الشريعة وأثره في إصلاح المجتمع

وتتناول هذه الدراسة، الشريعة، وأثر تطبيقها في استقرار المجتمع، وإصلاحه، فنبين أولاً، معنى الدين، وأنه يشمل جميع علاقات الحياة الدنيا، والآخرة، من العبودية لله تعالى وطاعته، والاستسلام لأمره، والتزام الصراط المستقيم، والاحتكام لشرع الله، وانفاذ أحكام القوانين الإسلامية، في شؤون الحياة، كلها، الأسرية، والمدنية، والجنائية، حتى يكون الدين كله لله تعالى،مع بيان معنى الشريعة، وأنها ما شرع الله لعباده من الدين، وشمولها للعقيدة، والشعائر، والشرائع- خلافاً للفهم المتأخر، من أنها القوانين، وربما الحدَّية منها خاصة- ثم نتناول معنى الحدود، لغة، واصطلاحاً، والتطور الدلالي لها، مع بيان أثر إقامة الحدود، وتطبيق الشريعة الإسلامية، عامة، في إصلاح المجتمع، عقيدياً، وأخلاقياً، واقتصادياً، وأمنياً،وبركة في الحياة، وتجاوباً شعبياً، وما يحققه انفاذ كل حد من مصالح للأفراد، والجماعات، وما يؤدي إليه ذلك، من إصلاح المجتمع، واستقراره..

كما تتناول أيضاً، أثر التوبة، في رفع الحدود، وإسقاط العقوبة، لفتح باب الأمل في رحمة الله للتوابين المتطهرين:(إن الله يحب التوابين ويحب المتطهرين ) (البقرة:222). وخُتمت الدراسة، ببيان خصائص الشريعة الإسلامية.

من معاني..(الدِّين)

الدَّيان:من صفات الله، عزوجل، ومعناها :الحكم القاضي.. والديان :القهار، وهو فعال، من دان الناس، أي قهرهم على الطاعة، يقال :دنتهم فدانوا :أي قهرهم فأطاعوا.

وفي حديث أبي طالب، قال له عليه الصلاة والسلام :(أريد منهم- أي من قريش- كلمة واحدة تدين لهم العرب) (1)، أي تطيعهم، وتخضع لهم.

الدين :الجزاء، والمكافأة، ويوم الدين، يوم الجزاء، وفي المثل :كما تدين تدان، أي كما تجازى، تُجازى. وقوله تعالى :(أءنا لمدينون ) (الصافات :53)، أي :لمجزيون، محاسبون، ومنه الدَّيان، في صفة الله عزوجل.

الدين :الحساب، ومنه قوله تعالى :(ملك يوم الدين ) (الفاتحة:3)، وقيل :معناه، مالك يوم الجزاء.

والدين :الطاعة، وقد دنته ودنت له، أي أطعته، يقال :دان بكذا، ديانة، وتدين به، فهو ديِّن، ومتدين.

والدين هو الإسلام، وقد دنت به.

والدين :العادة، والشأن، لقول العرب :ما زال ذلك ديني، وديدني، أي عادتي، وفي الحديث :(الكًيس من دان نفسه، وعمل لما بعد الموت، والأحمق من أتبع نفسه هواها، وتمنى على الله ) (2).

قال أبو عبيدة :(دان نفسه، أي أذلها، واستبعدها، وقبل حسابها)

وفي التنزيل العزيز :(ما كان ليأخذ أخاه في دين الملك ) (يوسف :76)، قال قتادة :في قضاء الملك، أي الأغراض.. دان الرجل، إذا عز.. ودان، إذا أطاع.. ودان إذا عصى.. ودان إذا اعتاد، خيراً أو شراً...ودان إذا أصابه الدين، وهو داء.

وقوله تعالى :(أَءِنَّا لَمَدِينُون َ) (الصافات :53) أي مملوكون. وقوله تعالى :(فلولا إن كنتم غير مدينين ترجعونها ) (الواقعة :86)، قال الفراء :غير مدينين، أي مملوكين، قال :سمعت غير مجزين.

ودنته، أدينه، ديناً :سسته.. ودنته، ملكته.. ودينته القوم :وليته سياستهم.

الدين :يتدين به الرجل.

الدين:السلطان.

الدين :الورع.

الدين :القهر.

الدين :المعصية.

الدين :الطاعة (3).

معاني الدين في لغة القرآن الكريم

ترد كلمة الدين، في آيات القرآن الكريم، على وجوه من المعاني المتعددة، تفهم بحسب ورودها، في سياق المعاني المرادة في مواضعها من تلك الآيات، وقد تناول الحكيم الترمذي هذه المعاني بالدراسة، والتحليل في كتابه :(تحصيل نظائر القرآن)، فقال :وأما قوله تعالى :(الدين) على كذا وجه :فالدين هو الخضوع، يقال :دان له، أي خضع له، مشتق من الدون، وكل شيء، دون شيء فهو له خاضع، فخلق الآدمي، والكبر فيه، وراثة من صلابة الأرض وقوتها، واقتضاهم أن يدينوا له، أي يخضعوا له، ويخضعوا لعظمته.

فالخضوع، والخشوع، مبتدأ من القلب إلى الأركان، حتى يظهر على الأركان بالائتمار بأمره، والتناهي عن نهيه، والقبول لأحكامه، والانقياد له.

1- شهادة ألا إله إلا الله :وإنما صار الدين في هذا المكان، شهادة ألا إله إلا الله (4)، لأن الموحد لا يشهد بهذه الشهادة، إلا بعد خضوعه لله، وسقوطه بين يديه تذللاً، وتسليماً لرقبته.

2- الحساب :وإنما صار الدين (الحساب) (5) في مكان آخر، لأنه إذا جاء الحساب، دان العبد، فلم يقدر أن يجحد، فإن جحد نطقت الجوارح، فالحساب من الله، مطالبته ما وجب له على العبد، فيما عهد إليه، وفيما قلده، وفيما ضمن العبد، فيطالبه بالوفاء لذلك.. فذاك كله خضوع، يحل بالعبد.

3- حكم الله وقضاؤه :وإنما صار الدين، حكم الله وقضاءه في مكان آخر :لأنه إذا حل بالعبد حكمه وقضاؤه، دان العبد له.

4- حكم الملك الذي حبس يوسف عليه السلام :وإنما صار الدين حكم الملك (6)، الذي حبس يوسف عليه السلام، لما وضحنا أن الدين :الخضوع عند الحكم.

5- الإخلاص، والإسلام، والإيمان :وإنما صار الدين الإخلاص، والإسلام، والإيمان (7)، :فإنما أسلم المسلم، وأشرك المشرك، خضوعاً لله، وللوثن، ليقربه إلى الله زلفى، لذلك وصف الله في تنزيله عز شأنه فقال :(ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى) (الزمر :3) وإنما سمي شرك المشرك، وكفره، ديناً، لأنه اتخذ إلها من دونه، فخضع له، فقال :(لكم دينكم ولي دين) (الكافرون :6)، أي لكم خضوعكم لمن خضعتم له، ولي خضوعي لمن خضعت له (8).

معنى الدين في الاصطلاح:

والدين بمعناه الاصطلاحي، شامل لمعانيه الواردة في لغة القرآن الكريم، من أنه الحساب، والجزاء، والمكافأة، وبمعنى الطاعة، والخضوع، والانقياد لأمر الله عزوجل، وبمعنى الحكم، والقضاء، والقانون الجنائي، والحدود خاصة، وهذا المعنى الأخير بحاجة إلى بيان، لكثرة الشبه، التي آثارها عليه الغزو الأجنبي، وما تبعه من نظم الحكم العلمانية.

وقد جاء بهذا المعنى في قوله تعالى :(ما كان ليأخذ أخاه في دين الملك ) (يوسف : 76)، أي في سطانه، وحكمه، وقضائه.. أما في سورة النور فقد جاءت الآية :(الزانية والزاني فاجلدوا كل منهما مائة جلدة ولا تأخذكم بهما رأفة في دين الله إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الأخر ) (النور :2)، في إشارة خاصة إلى الحدود، وهي جزء من أحكام القوانين الجنائية، التي يختص بالحكم فيها الحاكم، أو من أنابه عنه.

ويلزم من ذلك، وجوب إقامة الدولة الإسلامية، والحكم بالشريعة الإسلامية، مع ما يتبع ذلك من فقه سياسة الأمة، وسيادة الدولة.

معنى .. (الشريعة)

أولاً :معنى الشريعة في اللغة العربية:

الشِّرعة، والشريعة، في كلام العرب: مَشْرَعُة الماء، وهي موردُ الشاربة، التي يُشْرَعُها الناس، فيشربون منها، ويستقون.. والعرب لا تسميها شريعة، حتى يكون الماء عداً، لاانقطاع له، ويكون ظاهراً معيناً، لا يُسقى بالرَّشاء.. كما ترد كلمة (شرع) بمعنى أظهر، وشرع فلان، إذا أظهر الحق، وقمع الباطل.

والشريعة :العادة، وهذا شرعة ذلك، أي مثاله.. والشارع، الطريق الأعظم، الذي يَشْرَعُ فيه الناس عامة .وأشرع الشيء :رفعه جداً، وحيتانُُ شُرُوعُُ :رافعة رؤوسها (9).

ثانياً :معنى الشريعة كما وردت في القرآن الكريم:

(أ) يقول الله تعالى :(شرع لكم من الدين ما وصى به نوحاً الذي أوحينآ إليك وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى أن أقيموا الدين ولاتتفرقوا فيه ). (الشورى :13)، ويقول القرطبي في تفسير هذه الآية :شرع لكم من الدين، ما شرع لقوم نوح، وإبراهيم، وموسى، وعيسى، ثم بين ذلك بقوله تعالى :(أن أقيموا الدين )، وهو توحيد الله، وطاعته، والإيمان برسله، وكتبه، وبيوم الجزاء، وبسائر ما يكون الرجل بإقامته مسلماً.. ولم يرد المصالح، التي هي مصالح الأمم، على أحسن أحوالها، فإنها مختلفة، متفاوتة. قال تعالى :(لكل جعلنا منكم شرعةً ومنهاجاً ) (المائدة :48). ويتابع القرطبي تفسير هذه الآية، مسنداً ذلك إلى القاضي أبي بكر بن العربي، أنه قال :ثبت في الحديث الصحيح، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في حديث الشفاعة الكبير المشهور :(ولكن ائتوا نوحاً فإنه أول رسول بعثه الله تعالى إلى أهل الأرض…..) (10).

وهذا صحيح لا إشكال فيه، كما أن آدم أول نبي بغير إشكال، لأن آدم لم يكن معه إلا نبوة، ولم تفرض له الفرائض، ولا شرعت له المحارم، إنما كان نبياً على بعض الأمور، واقتصاراً على ضرورات المعاش، وأخذاً بوظائف الحياة، والبقاء، واستقر المدى، إلى نوح، فبعثه الله بتحريم الأمهات، والبنات، والأخوات، ووظف عليه الواجبات، وأوضح له الآداب في الديانات.. ولم يزل ذلك يتأكد بالرسل، ويتناصر بالأنبياء، صلوات الله عليهم، واحداً بعد واحداً، وشريعة إثر شريعة، حتى ختمها الله بخير الملل، ملتنا، على لسان أكرم الرسل، نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، فكان المعنى :أوحيناك يا محمد، ونوحاً، ديناً واحداً، يعني الأصول، التي لا تختلف فيها الشريعة، وهي :التوحيد، والصلاة، والزكاة، والحج، والتقرب إلى الله بصالح الأعمال، والزلف إليه بما يرد القلب، والجارحة إليه، والصدق، والوفاء بالعهد، وأداء الأمانة، وصلة الرحم، وتحريم الكفر، والقتل، والزنا، والأذية للخلق، كيفما تصرفت، والاعتداء على الحيوانات، كيفما دار، واقتحام الدناءات، وما يعود بخرم المروءات، فهذا كله مشروع، ديناً واحداً، وملة متحدة، لم تختلف على ألسنة الأنبياء، وإن اختلفت أعدادهم، وذكر قوله تعالى :(أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه ) (الشورى :13)، أي اجعلوه قائماً، يريد دائماً، مستمراً، محفوظاً، مستقراً، من غير خلاف فيه، ولا اضطراب، فمن الخلق من وفي بذلك، ومنهم من نكث :(فمن نكث فإنما ينكث على نفسه ) (الفتح :10) .. واختلف الشرائع وراء هذه، في معان حسبما أراده الله، فما اقتضت المصلحة، وأوجبت الحكمة، وَضَعَهُ في الأزمنة على الأمم (11).

(ب) (ثم جعلناك على شريعةٍ من الأمر فاتبعها ولا تتبع أهوآء الذين لا يعلمون ) (الجاثية :18)، فالشريعة، من شرع الله لعباده، من الدين، والجمع :الشرائع.. والشرائع في الدين، المذاهب، التي شرعها الله لخلقه. فمعنى :(جعلناك على شريعةٍ من الأمر )، أي على منهاج واضح من أمر الدين، يشرع بك إلى الحق.

قال ابن العربي :والأمر يرد في اللغة بمعنيين، أحدهما بمعنى الشأن، كقوله :(فاتبعوا أمر فرعون وما أمر فرعون برشيدٍ ) (هود:97).. والثاني أحد أقسام الكلام، الذي يقابله النهي، وكلاهما يصح أن يكون مراداً ها هنا، وتقديره :ثم جعلناك على طريقة من الدين، وهي ملة الإسلام، كما قال تعالى :(ثم أوحينا إليك أن اتبع ملة إبراهيم حنيفاً وما كان من المشركين ) (النحل :123). ولاخلاف في أن الله تعالى، لم يغاير بين الشرائع في التوحيد، والمكارم، والمصالح، وإنما خالف بينهما في الفروع، حسبما علمه سبحانه (12). قال ابن عباس :(على شريعة)، أي هدى من الأمر.

وقال قتادة :الشريعة :الأمر، والنهي، والحدود، والفرائض.

وقال مقاتل :البينة، لأنها طريق إلى الحق.

وقال الكلبي :السنة، لأنه يستند بطريقة من قبله من الأنبياء.

وقال ابن دريد :الدين، لأنه طريق النجاة.

ج- وفي تفسير قوله تعالى :(لكل جعلنا منكم شرعةً ومنهاجا ً) (المائدة :48) يذهب الإمام القرطبي، إلى دلالة هذه الآية :(على عدم التعليق بشرائع الأولين)، وأن (الشريعة، الطريقة الظاهرة، التي يتوصل بها إلى النجاة).. والمنهاج: الطريق المستمر، وهو المنهج.. والمنهج، أي البين، وروى ابن عباس، والحسن، وغيرهما :(شرعةً ومنهاجاً)، سنة، وسبيلاً.. ومعنى الآية :أنه جعل التوراة لأهلها، والإنجيل لأهله، والقرآن لأهله.

وهذا في الشرائع والعبادات.. والأصل، والتوحيد، لا اختلاف فيه. روي معنى ذلك عن قتادة. وقال مجاهد :الشرعة، والمنهاج، دين محمد عليه السلام، وقد نسخ به كل ما سواه (13).

الخلاصة في بيان معنى الشريعة:

والخلاصة، أن هذه الآيات، وما سبق في تفسيرها، تدل على شمول معنى الشريعة، لكل ما جاء به الدين، من مباحث الإيمان، وفقه أركان الإيمان، والإسلام، والأسرة، ووجوب الحكم بما شرع الله، حتى يهتدي الناس بذلك في شؤون حياتهم كلها، في الاعتقاد، والشعائر التعبدية، والشرائع، التي تنظم حياة المجتمع، في قوانين الأخلاق، والآداب، والمعاملات المدنية، والجنائية، التي تشمل الأحكام الحدية والتعزيرية. ثم أن الله قد أغنى المسلمين، بما شرعة في دين الإسلام، عن متابعة ما لدى الملل الأخرى، أو النظم الغربية، أو الشرقية.

وتطبيق أحكام الشريعة الإسلامية، يعني الحكم بما أنزل الله، وهو واجب ديناً، قال تعالى :(وأن احكم بينهم بمآ أنزل الله ولا تتبع أهوآءهم واحذرهم أن يفتنوك عن بعض ما أنزل الله إليك ) (المائدة :49).. (أفحكم الجاهلية يبغون ومن أحسن من الله حكماً لقومٍ يوقنون ) (المائدة :50).. (إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل ) (نساء:58).. (إن الله يأمر بالعدل والإحسان ...) (النحل :90).. (فلا وربك لايؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لايجدوا في أنفسهم حرجاً مما قضيت ويسلموا تسليما ً) (النساء:65).

وأخيراً، فإنه لا سبيل لتحقيق العدل، والإحسان، وأداء الأمانات، إلا بتحكيم الشريعة، والتسليم الكامل لذلك. ثم إنه لا خيار لمسلم، يؤمن بالله، واليوم الآخر، إلا في هذا الاحتكام لشرع الله، وطاعه الله، ورسوله :(وما كان لمؤمنٍ ولا مؤمنةٍ إذا قضى الله ورسوله أمراً أن يكون لهم الخيرة من أمرهم ) (الأحزاب :36).

الحد.. في اللغة.. والاصطلاح

أولاً :معنى كلمة (حد) في اللغة:

الحد مفرد، وجمعه حدود، وترد كلمة الحد، في اللغة العربية، على عدة معان:

1- بمعنى الفصل بين الشيئين :لئلا يختلط أحدهما بالآخر، أو لئلا يتعدى أحدهما على الآخر.. ومنتهى كل شيء حده، ومنه حدود الأرضين، وحدود الحرم.

2- بمعنى التمييز :وحَّددَه :ميزه، وحد كلٍّ، منتهاه، لأنه يرده، ويمنعه عن التمادي.

3- بمعنى المنع :وحد الرجل عن الأمر، يحده حداً :منعه، وحبسه، تقول :حددت فلاناً عن الشر، أي منعته.

4- بمعنى المخالفة، والمعادة، والمحادة :المعادة، والمخالفة، والمنازعة، وهو مفاعلة من الحد، كأن كل واحد منهما يجاوز حده إلى الآخر.

5- بمعنى الحلال، والحرام :

وحدود الله تعالى، التي بين تحريمها، وتحليلها، وأمر ألا يُتعدى شيء منها، فيتجاوز إلى غير ما أُمر فيها، أو نهي عنه منها، ومنع من مخالفتها، قال الأزهري :فحدود الله عزوجل ضربان:

ضرب منها :حدود حدها الناس، في مطاعمهم، ومشاربهم، ومناكحهم، وغيرها، مما أحل وحرم، وأمر بالانتهاء عما نهى عنه منها، ونهى عن تعديها.

والضرب الثاني :عقوبات، بأن جعلت لمن ارتكب ما نهي الله عنه، كحقد السرقة، وكحد القاذف، لأنها تحد، أي تمنع من إتيان ما جعلت عقوبات فيها.

وسميت الأولى حدوداً، لأنها نهايات، نهي الله عن تعديها.

قال ابن الأثير :فكأن حدود الشرع، فصلت بين الحلال، والحرام، فمنها ما لا يقرب، كالفواحش المحرمة، ومنه قوله تعالى :(تلك حدود الله فلا تقربوها ) (البقرة :187)، ومنها ما لا يتعدى، كالمواريث المعينة، وتزوج الأربع، ومنه قوله تعالى :(تلك حدود الله فلا تعتدوها ) (البقرة :229).

ومنها الحديث- في قول ماعز)- إني أصبت حداً فأقمه علي، أي أصبت ذنباً، أوجب علي حداً، أي عقوبة (14).

وفي حديث أبي العالية، أن اللمم- الوارد في الآية :(إلا اللمم ) (النجم :32) - ما بين الحدين، حد الدنيا، وحد الآخرة، يريد بحد الدنيا :ما تجب فيه الحدود المكتوبة، كالسرقة، والزنا، والقذف. ويريد بحد الآخرة :ما توعد الله تعالى عليه العذاب، كالقتل، وعقوق الوالدين، وأكل الربا.. فأراد أن اللمم من الذنوب، ما كان بين هذين، فيما لم يوجب عليه حداً في الدنيا، ولا تعذيباً في الآخرة.

ثانياً :معنى الحد في الاصطلاح:

الحد، عقوبة مقدرة لأجل حق الله، فيخرج التعزير، لعدم تقديره، أو القصاص، لأنه حق آدمي (15).

وسميت عقوبات المعاصي، حدوداً، لأنها تمنع العاصي، من العود إلى تلك المعصية، التي حد لأجلها، في الغالب (16).

قال ابن حجر العسقلاني :وقد حصر بعض العلماء، ما قيل بوجوب الحد به، في سبعة عشر شيئاً، فمن المتفق عليه :الردة، والحرابة- ولم يتب قبل القدرة عليه-، والزنا، والقذف، وشرب الخمر- سواء أسكر أم لا -والسرقة (17).

وقد ذهب ابن رشد، إلى إطلاق كلمة الحد، على كل العقوبات المقدرة، في الكتاب والسنة، حيث يقول :(الجنايات، التي لها حدود مشروعة، جنايات على الأبدان، والنفوس، والأعضاء، وهي المسماة، قتلاً، وجرماً.. وجنايات على الزوج، وهي المسماة، زنا، وسفاحاً، وجنايات على الأموال...) (18).

هذا، ويتبين مما سبق، أن الحدود كانت تطلق بتوسع، حتى بلغ بعض الفقهاء، بمعناها الاصطلاحي، ما أشار إليه ابن حجر العسقلاني، في قوله المتقدم.. أما جمهور الفقهاء، فقد اتفقوا على الحدود الخمسة التالية :السرقة، والحرابة، والزنا، والقذف، والخمر، واختلفوا فيما سواها.

العقوبات الحدية :

وهي سبع عقوبات:

1- الجلد، ودليله:

(أ) قوله تعالى :(الزانية والزاني فاجلدوا كل واحدٍ منهما مائة جلدة ٍ) (النور :2).

(ب) وقوله تعالى :(والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدةً ولا تقبلوا لهم شاهدةً أبداً وأولئك هم الفاسقون ) (النور :4).

(ج) لما صح في السنة، من جلد شارب الخمر، وهكذا فعل الخلفاء الراشدون.

2- القطع :

ودليله، قول الله تعالى :(والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما جزآء بما كسبا نكالاً من الله والله عزيز حكيم ) (المائدة :38).

3- القتل.

4- الصلب.

5- القطع من خلاف.

6- النفي.

ويدل على ذلك قوله تعالى :(إنما جزآؤا الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فساداً أن يُقتّلُوا أو يُصلّبُوا أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلافٍ أو ينفوا من الأرض ذلك لهم خزى فى الدنيا ولهم في الأخرة عذاب عظيم 33 إلا الذين تابوا من قبل أن تقدروا عليهم فاعلموا أن الله عفور رحيم ) (المائدة :33-34).

7- الرجم، وقد ثبت بالسنة النبوية الصحيحة.

أثر إقامة الحدود في إصلاح المجتمع

(أ) عقدياً :سلامة الاعتقاد، واتساق المسلم مع نفسه، بتحكيم الشريعة، وحفظ الدين، وصيانته في وجه المرتدين، الخارجين عليه، المحادين لله، ورسوله.

(ب) أخلاقياً :الاستقامة، والعفاف، والطهر، وحسن المظهر العام، وتعليم الأمة أفرداً، وجماعات، وتربيتها على حب الفضيلة، وكراهية الرذيلة، وبغض أهلها، وشهود ما يجري عليهم، من إقامة الحد :(وليشهد عذابهما طائفة من المؤمنين ) (النور :2)، مقارنة بما في العالم الغربي، من جرائم متكاثرة، ربما رأوها معيار حضارة، وتقدم، قياساً على مقدار ما يستهلكونه، من طاقة كهربائية.

يضاف إلى ذلك :استقرار الأسر، وحمايتها من التشرد، وحفظ الأعراض، وصيانة الأنساب، وطهارة المجتمع، وسد أبواب الفساد، والفحش، والبذاءة، والتبذير، وإفساد العقول، ورعاية مصلحة المجتمع في ذلك كله، وإن وقع الضرر في ذلك على أفراد معينين.

(ج) اقتصادياً :حفظ المال، وتنميته، وحماية الملكية، وإعلاء العمل، وحسن استثمار الوقت.

(د) أمنياً :الأمن على النفس، والعرض، وفي الممتلكات، لأن السرقة عدوان على الملكية، والحرز، وما يتحقق من أمن اجتماعي، بإقامة الشريعة.

(هـ) التجاوب الشعبي :لأن الشعب، يدرك بفطرته، أنه تتجلى آية كمال الإيمان، ومنتهى الصدق، في توجه الدولة إلى الله، بإقامة الحاكم لشرع الله، مع العناية بتنفيذ الحدود، لأن في ذلك مباينة تامة، ومفارقة كاملة، للقوانين الوضعية.. وفي سبيل ذلك، يبايع الحاكم، إماماً للمسلمين، وتبذل له الطاعة الخالصة، ويجاهد وراءه، ويتحمل الشعب المعاناه في المعاش، والحصار الاقتصادي.

(و) بركة الحياة :حيث تتنزل البركة على المجتمع، فينعم الفرد، والجماعة، بفضل الاستجابة لأمر الله تعالى، الاستقامة على شرع الله، بنزول الغيث، ونماء الزرع، وكثرة القوت، والأمن من فتنة الجدب، والجوع، واختلال الأمن، وانتشار الخوف، والرعب، يقول الله تعالى :(فليعبدوا رب هذا البيت * الذى أطعمهم من جوعٍ وءامنهم من خوف ) (قريش :3-4) :وقال تعالى :(ولو أن أهل القرى ءامنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركاتٍ من السماء والأرض ) (الأعراف :96).. ويقول سبحانه وتعالى :(وألو استقموا على الطريقة لأسقيناهم مآءً غدقاً ) (الجن :16).

أثر تطبيق حد الزنا في إصلاح المجتمع

الردع الحاسم، بعقوبة تكافئ جريمة مقيتة، حمل عليها سعار الشهوة البهيمية، دون مراعاة لكرامة الإنسان، المميز على غيره، أو احترام لنظام الشريعة، الذي وثق العلائق الزوجية، وصانها، فسن الرضا، والإيجاب، والقبول، والإشهاد، والإشهار، حتى امتن الله على عباده بهذه النعمة، وجعلها من علامات قدرته :(ومن ءاياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجاً لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودةً ورحمة إن فى ذلك لآياتٍ لقوم يتفكرون ) (الروم :21).

ولذلك كانت عقوبة المجاهرة بهذه الفاحشة، حتى شهد عليها، بصورتها المغلظة، أربعة شهود عدول، أو جاء الزاني مقراً على نفسه بالزنا، وجاء بكامل قواه العقلية، وطوعه، واختياره، مريداً تطهير نفسه، بإقامة الحد عليه.. وكانت حكمة الشريعة عظيمة في سن هذه العقوبة الرادعة للجاني، حتى لا يعاودها، والزاجرة لغيره، عن الاقتراب من هذه الفاحشة.. وتحقيقاً للزجر المراد، كان حد الزاني غير المحصن، كما أمر الله تعالى :(الزانية والزاني فاجلدوا كل منهما مائة جلدةٍ ولا تأخذكم بهما رأفة في دين الله إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الأخر وليشهد عذابهما طائفة من المؤمنين ) (النور :2)

ولأن هذه الجريمة، تنشأ عادةً من سعار الشهوة، وما يصاحبها من إغواء، وإغراء، بحيث لا يكف عن الاقتراب منها، صاحبها، ما لم يخوف، ويواجه بعقوبة مشددة، مع افتضاح أمره، وشهود الناس، والمجتمع عليه، يقام عليه الحد.. وبتنفيذ هذا الحد، تحفظ الأعراض، وتصان الأنساب، وتؤدى الحقوق، ويسلم المجتمع.

أثر تنفيذ حد القذف في إصلاح المجتمع

من ذلك:

1- كف السفهاء من تدنيس المجتمع، ورمي الأطهار، واتهامهم بالفواحش، وتخويفهم من عاقبة ذلك، حتى هددهم الله تعالى بالعقوبة الدنيوية، والأخروية.. قال تعالى :(إن الذين يحبون أن تشيع الفاحشة في الذين ءامنوا لهم عذاب أليم في الدنيا والأخرة ) (النور :19).. ثم فصلت الآية الكريمة، وهي الرابعة من سور النور، العقوبة الحدية للقذف، من الجلد، وإسقاط الشهادة، والاتصاف بالفسق :(والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدةً ولا تقبلوا لهم شهادةً أبداً وأولئك هم الفاسقون ) (النور :4).

2- حماية المجتمع من انتشار الفاحشة، وخدش حياء المحصنات، العفيفات الطاهرات.

3- حماية الأعراض، وشرف الأسر الكريمة، من المرجفين، والمستهزئين.

4- زجر الفساق، من الطعن في الأنساب الكريمة، التي هي أساس التواصل، والتعارف :(يأيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم إن الله عليم خبير ) (الحجرات :13).. ولقد وصف رسول الله صلى الله عليه وسلم من يسب إخوانه، بالفسق، حيث قال :(سباب المسلم فسوق، وقتاله كفر ) (19)، بل وصف عليه الصلاة والسلام، المسلم الحق بأنه :(من سلم المسلمون من لسانه ويده ) (20).

أثر تنفيذ حد الخمر في إصلاح المجتمع

من ذلك:

1- حماية العقول، وعدم تعطيلها.

2- حفظ الكيان الأسري، من التفكك، والانهيار، وضياع الأولاد.

3- حفظ المال، من إضاعته في شراء الخمر، ومن تبديده، وصرفه في غير وجه حق، بسبب غياب العقل.

4- حفظ الأمانات، وعدم إفشاء الأسرار، واستخدام الأعداء للمخمورين، في معرفة بعض الخبايا، والأسرار.

5- الكف عن جرائم عديدة، تقود إليه الخمر، فهي حقاً أُمّ الخبائث.

6- الحفاظ على الصحة النفسية، والجسمية، للأفراد، والجماعات.

7- عدم تبديد الوقت، وتضييعه.

8- مضاعفة الانتاج، بتوظيف الطاقات العاملة في المجتمع.

أثر حد السرقة في إصلاح المجتمع

من ذلك:

1- كف السارقين، وردعهم بعقوبة غليظة، وزجر من تسول له نفسه، أن يسرق، بقطع يده، وافتضاح أمره، وهوانه على الناس.

2- التنفير من أكل أموال الناس بالباطل، على وجه السرقة، بعقوبة حاسمة، ورادعة، وزاجرة، لتكون صورة السارق المحدود، باعثة على كراهية جريمة السرقة.

3- حفظ الملكية الخاصة، وأموال الناس، وقد اجتهدوا في جمع المال، وتنميته لمصلحة المجتمع.

4- إعلاء قيمة العمل، والإنتاج، والكسب الحلال، ليكون وسيلة للتملك، والاقتناء، من أداء حق الله فيه، نحو المجتمع، على وجه الوجوب، بالزكاة، والكفارات، أو على وجه الإحسان، صدقة، وبراً، وصلة.

5- تحقيق الأمن، والاطمئنان النفسي للفرد، وللمجتمع.

6- الرحمة بالناس، بإقامة حد السرقة، رعاية للحكمة المرادة، من ذلك، كما قال تعالى :(والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما جزاء بما كسبا نكالاً من الله والله عزيز حكيم * فمن تاب من بعد ظلمه وأصلح فإن الله يتوب عليه إن الله غفور رحيم ) (المائدة :38-39)، وذلك لأن في كف الناس عن السرقة، وزجرهم، عنها رحمة بهم، من تكفير عن السارق، وزجر للغير.. فالحدود زواجر وجوابر معاً، ومن رحمة الله بالمجتمع، في صيانة المال الذي هو قوام الحياة، وحماية الملكية الخاصة، وإعلاء قيمة العمل، والاعتماد على النفس في الكسب، والإنتاج.

وفيما تقدم، تحقيق لمعاني الرحمة، ولئن كانت فاصلة الآية السابقة، ببيان حد السرقة، تصفه سبحانه، بالعزة، والحكمة، فإن التالية لها تختم بالغفران، والرحمة، فسبحان الله تعالى المشرع، الحكيم، العادل، الموصوف بالرأفة، والرحمة، وهو تعالى القائل :(إن الله بالناس لرءوف رحيم ) (الحج :65)، وصلوات الله المباركات، وتسليماته الزاكيات، على رسوله الأمين، الذي أقام الشريعة، ونفذ الحدود، والذي وصفه ربه بالرأفة، والرحمة، وأنزل عليه في هذا الشأن، في أواخر ما نزل من القرآن :(لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رءوف رحيم ) (التوبة :128).

أثر تنفيذ حد الحرابة في إصلاح المجتمع

من ذلك:

1- حفظ المال، من أن يعتدى عليه بالقوة، والغلبة، فتتعطل مصالح الأفراد، والجماعات، وللوقاية من أن يستخدم المعتدون القوة، في أخذ أموال الناس، فكانت العقوبة مشددة، أكثر من عقوبة السرقة العادية.

2- حفظ الأعراض، من الانتهاك، باستخدام القوة، أو الإكراه على الفاحشة، يقول القرطبي :(إذا أراد إخافة الطريق، بإظهار السلاح، قصداً، للغلبة على الفروج، فهذا أفحش، وأقبح، من أخذ المال) (21)، ولذلك كانت شدة العقوبة بالقتل، دون تفرقة بين كون الزاني محصناً، أو غير محصن.

3- حفظ الأنفس، والآمنين، من إرهاب المحاربين، المحادين لله ورسوله، فلا عفو من أحد، ولو كان ولي الدم، أو الإمام، بل تتحتم العقوبة على المحاربين.

4- تأمين الطريق، والمجتمع، والمجتمع، ونشر الطمأنينة فيه، والاستقرار، وكف شر المحاربين، المعتدين على سلامة الأرواح، والدماء، والأعراض، والأموال.

5- استقرار الدولة، والمجتمع، وإخلاص الولاء لولاة الأمور، من الحكام المسلمين.

6- حرية الحركة، والتنقل، وما يؤدي إليه ذلك من نهضة اقتصادية.

أثر إقامة القصاص في إصلاح المجتمع

من ذلك:

1- كف المعتدين، من الجناية على الأنفس، والأرواح، والجوارح، والأعضاء، وحماية المجتمع من الاعتداء، بعضه على بعض، ومن التقاتل ثأراً، بعقوبة رادعة، وزاجرة، ومماثلة لما فعله الجاني بأخيه.. يقول تعالى في وجوب إقامة القصاص :(يأيها الذين ءامنوا كتب عليكم القصاص في القتلى ) (البقرة :178)، ويقول سبحانه وتعالى :(وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس والعين بالعين والأنف بالأنف والأذن بالأذن والسن بالسن والجروح قصاص ) (المائدة :45)، ويقول تعالى :(فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم ) (النحل :126) (ولكم في القصاص حياة ) (البقرة:179).

2- تأمين المجتمع، من انتشار الجرائم، والعدوان، بعضه على بعض، وتماسك المجتمع، واستقراره، بالقصاص، أو بالعفو عنه، ممن جعلت لهم الشريعة هذا الحق.. وفي إثبات حق أولياء الدم في العفو، ما يحقق رعاية هذا الأمر، ويحقق التسامح مع من وقع في الخطيئة، من غير أن يكون من معتادي الجرائم، مع مراعاة حق الإمام الحاكم، في أن يوقع بالجاني، عقوبة تعزيرية مناسبة.

التوبة وأثرها في رفع الحدود أو العقوبة

أولاً :سقوط عقوبة المرتد بالتوبة:

وهو رأي جمهور الفقهاء :أنه يجب أن يستتاب المرتد، فإن تاب، عفي عنه وأخلي سبيله (22).

ثانياً :سقوط عقوبة المحاربة بالتوبة:

إذا تاب المحارب، قبل المقدرة عليه، فإن العقوبة المقررة المنصوص عليها، تسقط.. يقول تعالى :(إنما جزآؤا الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فساداً أن يقتلوا أو يصلبوا أو تقطع أيدهم وأرجلهم من خلافٍ أو ينفوا من الأرض ذلك لهم خزى في الدنيا ولهم في الأخرة عذاب عظيم * إلا الذين تابوا من قبل أن تقدروا عليهم فاعلموا أن الله غفور رحيم ) (المائدة :33-34).

ثالثاً :سقوط عقوبة الزنا، والسرقة، وشرب الخمر، بالتوبة :

وهو رأي الحنابلة، وبعض الفقهاء، أن التوبة إذا حدثت قبل وصوله إلى الإمام، فإنها تسقط عنه الحد، ومستدلين بأن الآيات الموجبة للعقوبة، المنصوص عليها، تلتها آيات التوبة، والمغفرة، والرحمة، قال تعالى :(والذان يأتيانها منكم فأذوهما فإن تابا وأصلحا فأعرضوا عنهما إن الله كان تواباً رحيما ً) (النساء :16)، وقال أيضاً :(فمن تاب من بعد ظلمه وأصلح فإن الله يتوب عليه إن الله غفور رحيم ) (المائدة :39).

كما جاءت التوبة، بعد عقوبة الشرك، والقتل، كما في قوله تعالى :(والذين لا يدعون مع الله إلاهاً ءآخر ولا يقتلون النفس التي حرم الله إلا بالحق ولا يزنون ومن يفعل ذلك يلق أثاماً * يضاعف له العذاب يوم القيامة ويخلد فيه مهاناً * إلا من تاب وءامن وعمل عملاً صالحاً فأولئك يبدل الله سيئاتهم حسنات وكان الله غفوراً رحيماً ) (الفرقان :68-70).

ويستدلون، بأن إقامة النبي صلى الله عليه وسلم الحد على من جاء تائباً، أن ذلك خاص بهم، بأنهم طلبوا تطهيراً لأنفسهم (23).

والتوبة النصوح، باب عظيم في الأمل في رحمة الله، وفضله، ونيل محبته تعالى :(إن الله يحب التوابين ) (البقرة :222) .. وقد ندب الله تعالى إلى التوبة النصوح، فقال تعالى :(يأيها الذين ءامنوا توبوا إلى الله توبةً نصوحاً عسى ربكم أن يكفر عنكم سيئاتكم ويدخلكم جناتٍ تجري من تحتها الأنهار يوم لا يخزى الله النبي والذين ءامنوا معه نورهم يسعى بين أيديهم وبأيمانهم يقولون ربنا أتمم لنا نورنا واغفر لنا إنك على كل شىءٍ قدير ) (التحريم :8).

وعندما يحقق المؤمن التوبة، فإنه يحقق لنفسه الاستقرار النفسي، ويتخلص من العقد النفسية، التي تؤرقه، إلى جانب تكفير السيئات، وسقوط العقوبات، المترتبة على اقتراف تلك المخالفات.

رابعاً :سقوط حد القذف بالتوبة:

وفي أثر توبة القاذف، في سقوط الحد عنه، نقرأ قوله تعالى:(والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدةً ولا تقبلوا لهم شهادةً أبداً وأولئك هم الفاسقون * إلا الذين تابوا من بعد ذلك وأصلحوا فإن الله غفور رحيم ) (النور :4-5).

خصائص الشريعة الإسلامية

ومن أبرز خصائص الشريعة الإسلامية:

1- تحقيق العدالة، مع الإحسان في الحكم، والمساواة بين الناس كافة :(إن الله يأمركم أن تؤدوا الأماناتٍ إلى أهلها وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل ) (النساء :58)، ومن ذلك، النهي عن الشفاعة في الحدود، بعد بلوغها الإمام، وفيه حديث أسامة المشهور :(أتشفع في حد من حدود الله؟)(24)

2- إقامة الرقيب الداخلي :التزكية الإيمانية، على الطاعة، والاستقامة، كآداب الاستئذان، وغض البصر، والخلوة، والبعد عن الفواحش، وما يؤدي إليها، وبغضها، لأنها ليست من أخلاق المؤمنين، مع ما ورد من الزجر عنها، ووصف مقترفيها بالفسق، وتخويفهم بالخزي، والنكال في الدنيا، وغذاب الآخرة، الأمر الذي يجمع بين الديانة، والقضاء، وفي حديث صحيح (لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن ) (25).

3- رعاية مصلحة المجتمع، وسد باب الفساد، وإن، أوقع ذلك بعض الضرر، على أفراد معينين.

4- إحياء الرقيب الاجتماعي :الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، والرقابة الاجتماعية على المجتمع، بأداء واجب الحسبة، لإحداث الرقي الأخلاقي، في المجتمع.

5- تيسير أبواب الحلال، والطيبات، مع الحض عليه، فيما يغلق أبواباً من الشر، والمنكرات.

6- الطبيعة الحاسمة لأحكام الشريعة، في مقابل القوانين الأوربية الوضعية، التي تبالغ في العقوبات (الحبس والسجون)، وقد صار أثرها السيء واضحاً في تعليم الإجرام، وإفساد السجناء، بما يقترف في السجون، من منكرات، مع ما يؤدي إليه الحبس من كراهية المجتمع، وتعميق روح الانتقام، وضياع أسر السجناء.. زيادة على ذلك، فإن هذه السجون، عبء على الأمة، في إيواء المجرمين، وإعاشتهم.

7- كون هذه العقوبات، المقدرة في الشريعة :(نكلاً من الله والله عزيز حكيم ) (المائدة :38)، أي عبرة للآخرين، عن مصير المجرم المحدود، ليتجنبوا فعل ما أوجب تلك العقوبة، ممن شهدوا إقامة الحد عليه، أو رأوا أثره.

8- استقلال المسلمين، وتميزهم في الأمم، والحضارات المعاصرة، خاصة بهذه التشريعات، ولذلك فإن الغرب شديد العداء، والمقاومة لهذه التشريعات الإسلامية عامة، والحدية منها خاصة، لأنها تخص المسلمين، وتميزهم عن غيرهم، وتقطع أمل الأعداء في رد المسلمين عن دينهم :(اليوم يئس الذين كفروا من دينكم فلا تخشوهم واخشون ) (المائدة :3).

ومهما يكن من نفور الغرب، من بعض أحكام الشريعة، ووصفها بالقسوة، فإنه لاجئ إليها اضطراراً، كما رجعت مضطرة لإعادة عقوبة الإعدام. ومع أن الغرب لا يزال يستخدم اسم الإنسانية، وحقوق الإنسان، في تشويشه على التشريعات الإسلامية، حتى على عقوبة الجلد، فإن قانون العقوبات الإنجليزي، قد تضمن في مواده، عقوبة الجلد، وظل هذا القانون معمولاً به في بعض البلاد الإسلامية، مثل السودان، إلى وقت سن التشريعات الإسلامية.

ومهما يكن من عداء الغرب، وغيره، للشريعة، والدعاية الظالمة ضدها، فإنها دعوة منصورة، بإذن الله: (يأيها الذين ءامنوا إن تنصروا الله ينصركم ويثبت أقدامكم ) (محمد :7).. (ولينصرن الله من ينصره ) (الحج :40).. (وما النصر إلا من عند الله ) (آل عمران :126).. (ولقد سبقت كلمتنا لعبادنا المرسلين * إنهم لهم المنصورون * وإن جندنا لهم الغالبون ) (الصافات :171-173) .. (كتب الله لأغلبن أنا ورسلى ) (المجادلة:21) .. (والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون ) (يوسف :21).

==============

# تطبيق أحكام الشريعة الإسلامية في مجتمع تتعدد فيه الملل والثقافات

وتتناول هذه الدراسة، موضوع تطبق أحكام الشريعة الإسلامية، في مجتمع تتعدد فيه الملل والثقافات.

وبعابرة أخرى، تجيب عن أسئلةٍ، كثيراً ما تثار حول:

(أ) الأسس التي وضعها الإسلام، في مجال التعامل مع غير المسلمين، لتكون هادية للفرد، والمجتمع، والدولة، ولتكون ديانة يدين بها المسلمون، ويلتزمون أحكامها، طاعة لله، وعبادة، وتكون مع ذلك قضاءً، وقوانين حاكمة، للدولة والمجتمع.

(ب) التعامل مع المواطنين، من غير المسلمين، ممن يتمتعون بحقوق المواطنة الكاملة في الدولة، التي تحمي قوانينها حرمات المواطنين، وحقوقهم في الحياة، والتكريم، والحرية الاعتقادية، والفكرية.. وعن المساواة، والعدل، والتعليم، والعمل، والتملك، والتصرف فيه.

(جـ) التكامل في المجتمع، والوطن، حتى يسود المجتمع كله، خلق البر، والقسط، والتراحم، والمعاملة الحسنة.

ومن ثم فإن هذه الدراسة، تهدف إلى تحقيق مزيدٍ من التعاون بين جميع المواطنين، على اختلاف مللهم، وثقافاتهم في مجتمع الشريعة الإسلامية، حيث تتكافل جهودهم جميعاً، وتتفجر الطاقات من أجل نهضة البلاد وتقدمها، وسيادتها، على ضوء تلكم القواعد والأسس العادلة، التي تحقق التسامح الديني، والتآلف، والتواصل الاجتماعي، والفكري، بين جميع المواطنين.

وها هنا نذكر نذكر بشيء من البيان والتفصيل، ما أُجمل فيما سبق، فنتحدث وبشكل عام عن:وحدانية البشرية، والدين، وأصل الاختلاف، وأسس التعامل مع غير المسلمين.

منشأ البشرية

يرجع البشر كلهم إلى أصل واحد، تفرعوا عنه، ونفس واحدة، خلقوا منها :(يأيها الناس اتقوا ربكم الذى خلقكم من نفسٍ وحدةٍ وخلق منها زوجها وبث منهما رجالاً كثيراً ونساءً واتقوا الله الذى تسآءلون به والأرحام إن الله كان عليكم رقيباً ) (النساء :1).. والقرآن يذكرنا بهذا الأصل، الذي تفرعت عنه الشعوب والقبائل، ليتعارف الناس فيما بينهم، ويتواصلوا :(يأيها الناس إنا خلقناكم من ذكرٍ وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم إن الله عليم خبير ) (الحجرات :13) .. وتقريراً لهذا الأصل، قال عليه الصلاة والسلام، في خطبة الوداع :(يا أيها الناس إن أباكم واحد، كلكم لآدم، وآدم من تراب، لا فضل لعربي على عجمي، ولا لأحمر على أسود إلا بالتقوى ) (1).

وأصل الدين واحد، من عند الله جل جلاله، أنزل الكتب على رسله الكرام، الذين تعاقبوا مبشرين ومنذرين، يدعون إلى توحيد الله.. والإيمان بهم جميعاً، واجب، دون تفرقة بينهم، لقوله تعالى :(ءامن الرسول بما أنزل إليه من ربه والمؤمنون كل ءامن بالله وملائكته وكتبه ورسله لانفرق بين أحدٍ من رسله ) (البقرة :285)، ولقوله أيضاً:(قولو ءامنا بالله وما أنزل إلينا وما أنزل إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط وما أوتى موسى وعيسى وما أوتى النبيون من ربهم لا نفرق بين أحدٍ منهم ونحن له مسلمون ) (البقرة :136).

اختلاف الناس:

وقد قدر الله تعالى، أن يكون بين البشر، اختلاف في الدين :(ولو شاء ربك لجعل الناس أمةً واحدةً ولايزالون مختلفين إلا من رحم ربك ولذلك خلقهم ) (هو :118-119). وهذا ما يخبرنا به الخلاق العليم جل جلاله :(ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير ) (الملك :14).

وتبعاً لذلك، فللناس حرية الرأي، والفكر، والاختيار للعقيدة، التي يعتقدونها :(فمن شآء فليؤمن ومن شآء فليكفر ) (الكهف :29)، وليس لأحد، ولا قوة، أن تكره فرداً، أو جماعة، على دين، يقول تعالى: (لا إكراه في الدين ) (البقرة :256).

وهي مشيئة الله القاضية، أن يترك الناس واختيارهم الحر، وما يدينون: (ولو شآء ربك لأمن من في الأرض كلهم جميعاً أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين ) (يونس :99).

الإسلام والحرية الفكرية

والإسلام هو دين الحرية الفكرية، الذي تواترت فيه آيات الكتاب، الداعية إلى التفكر والنظر، ولا حجر على أحد في حرية الفكر، والتعبير عن آرائه، إلا إذا صار الأمر افتراءً محضاً، أو إثارة للفتنة. وما جاء في القرآن الكريم، وسيرة النبي صلى الله عليه وسلم، من ذكر أقوال المخالفين من غير المسلمين، على اختلاف مللهم، ومناقشة هذه الأقوال بالحجة، والبرهان، دليل واضح على هذه الحرية، كما هو دليل على امتداد بقاء غير المسلمين، وسماحة التعامل معهم.. وقد كانت هذه الحقيقة، واضحة في المواقف، التي وقفها كل داعية إلى الإسلام، وسيظل معلماً بارزاً لكل الأجيال، موقف الصحابي الجليل ربعي بن عامر، رضي الله عنه، حين أجاب على القائد الفارسي رستم :(إن الله ابتعثنا، لنخرج من شاء الله، من عبادة العباد، إلى عبادة الله وحده، ومن ضيق الدنيا إلى سعتها، ومن الأديان إلى عدل الإسلام) (2).

والواقع التاريخي، يثبت أنه على توالي القرون، في تاريخ الدعوة الإسلامية، لم يحدث أن أكره المسلمون غيرهم على الدين، وهذا ما شهد به كل منصف، ولو كان غير مسلم، مثل (السير توماس آرنولد) في كتابه :(الدعوة إلى الإسلام) الذي كتب فيه عن تاريخ نشر الدعوة الإسلامية، في أرجاء العالم، وكيف أن دعاة الإسلام، نشروا دعوتهم بين أقوام، عرفوا بالشدة، والخروج على كل نظام، أو قانون، حتى أسلموا، وصار دعاة يهدون غيرهم) (3).

ويمضي آرنولد في هذه الشهادة، ليقول :(لم نسمع عن آية محاولة مدبرة، لإرغام الطوائف من غير المسلمين على قبول الإسلام، أو عن أي اضطهاد منظم قصد منه استئصال الدين) (4)، ويزيد آرنولد في بيان تسامح المسلمين فيقول: (لا يسعنا إلا الاعتراف، بأن تاريخ الإسلام، في ظل الحكم الإسلامي، يمتاز ببعده بعداً تاماً، عن الاضطهاد الديني) (5).

وهذه شهادة منصفة أخرى، يؤديها (ول ديورنت)، في كتابه :(قصة الحضارة)، حيث يقول :(لقد كان أهل الذمة، المسيحيون، والزردشتيون، واليهود، والصابئون، يتمتعون في عهد الخلافة الأموية، بدرجة من التسامح، لا نجد لها نظيراً في البلاد المسيحية، في هذه الأيام، فلقد كانوا أحراراً في ممارسة شعائر دينهم، واحتفظوا بكنائسهم، ومعابدهم، ولم بفرض عليهم أكثر من أداء ضريبة عن كل شخص، تختلف باختلاف دخله) (6).

وهذه الحرية لغير المسلمين، تشمل التعبير عن معتقداتهم، بالتعليم والممارسة، وأداء شعائر دينهم، فردياً، وجماعياً.

أدب الدعوة والحوار مع غير المسلمين

وإذا كان ثم حوار، أو مجادلة، أو مناقشة، فالأدب القرآني يقضي أنه :(ولا تجدلوا أهل الكتاب إلا بالتى هي أحسن إلا الذين ظلموا منهم وقولوا ءامنا بالذى أنزل إلينا وأنزل إليكم وإلهانا وإلهكم واحد ونحن له مسلمون ) ( العنكبوت :46).

فهي دعوة إذاً تعتمد الأدب، والحجة، والبيان، لمن أراد من غير المسلمين الاستبصار في الدين، فيجادل بالتي هي أحسن، لتكون أنجح فيه كما قال تعالى :(ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة ) (النحل :125)، ولا تكون مواجهة بالقوة، إلا حين يختار الطرف الآخر ذلك، ويكون من أهل الحرب (7).

التطبيق العملي في عهد النبوة والخلافة الراشدة

والوثائق، والعهود، والأمثلة التالية، دليل قاطع على هذه الحرية الفكرية، والتسامح الديني:

1- وثيقة المدينة:

أول وثيقة تفصيلية، بين المسلمين وأهل الكتاب، ضمنت حرية الاعتقاد، والفكر، وحقوق المواطنة الكاملة، هي الوثيقة المعروفة بوثيقة المدنية (8) وهي تبدأ هكذا:

بسم الله الرحمن الرحيم، هذا كتاب محمد النبي، رسول الله بين المؤمنين، والمسلمين من قريش، وأهل يثرب، ومن تبعهم، ولحق بهم، وجاهد معهم، أنهم أمة واحدة، من دون الناس (9).

2- عهد النبي صلى الله عليه وسلم لأهل نجران:

وهو عهد ضمن لنصارى نجران، الأمان على أنفسهم، وأموالهم، وعشيرتهم، وأماكن عبادتهم، وألا يغير أسقف، ولا راهب، ولا كاهن (10).

3- عهد أبي بكر لأهل نجران:

ولما آلت الخلافة إلى أبي بكر رضي الله عنه، فإنه أكد في عهدٍ منه لأهل نجران، أنه أجارهم بجوار الله، وذمة النبي محمد رسول صلى الله عليه وسلم على أنفسهم، وأرضهم، وملتهم، وعبادتهم، وأساقفتهم، ورهبانهم، وفاءً لهم بكل ما ورد في العهد النبوي لنصارى نجران (11).

4- عهد عمر لأهل إيلياء:

وعلى ذات النهج، سار عمر رضي الله عنه، فأعطى لأهل إيلياء عهداً، وأماناً لأنفسهم، وأموالهم، ولكنائسهم، وصلبانهم، وسقيمهم، وبريئهم، وسائر ملتها، ألا تسكن كنائسهم، ولا تهدم، ولا ينتقص منها، ولا من حيزها، ولا من صلبهم، ولا من شيء من أموالهم، وألا يضار أحد، ولا يكره على الدين (12).

وقد التزمت مشروعات القوانين، المستمدة من نفس الشريعة الإسلامية، وخاصة في مسائل التعامل مع غير المسلمين، أعدل الأقوال، والآراء، وأوثقها، وأدومها، وأنسبها لتحقيق العدل والإحسان، مع رعاية لظروف المكان، والزمان..

وغير المسلمين، أشبه بأهل العهد، الذين حررت بشأنهم وثيقة المدينة، والعهد النبوي مع أهل نجران، ومما ينبغي أن يعلم بهذه المناسبة، أن اصطلاح أهل الذمة، في الفقه الإسلامي، ليس كما لم يحسن فهمه كثير من الناس. فالذمة في اللغة، بمعنى :الأمان، والعهد، والضمان، والكفالة (13).. وأهل الذمة هم المعاهدون من النصارى، واليهود، من أهل الكتاب، وغيرهم، ممن بقي في دار الإسلام (14).

وعليه، فالذمة هي العهد، أي العهد الذي يعهده الإمام، أو من ينوب عنه، مع غير المسلمين على السلم، ووضع الحرب.. وعقد الذمة، كما عبر عنه بعض الفقهاء المعاصرين، يشبه التجنس في الوقت الحاضر (15).

ويلحق بأهل الكتاب من اليهود والنصارى، غيرهم من جميع الملل، غير الإسلامية، كالمجوس، حيث ورد في الهدي النبوي، أنه أخذ الجزية من مجوس هجر (16). ويؤيده ما ورد في صحيح البخاري، عن عبدالرحمن بن عوف، رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه سلم أخذ الجزية من مجوس هجر(17).

وأيضاً، فقد روي مرسلاً عن النبي محمد صلى الله عليه وسلم أنه قال :(سنوا بهم سنة أخل الكتاب ) (18).

ويقول في ذلك، الإمام علي رضي الله عنه :(من كان له ذمتنا، فدمه كدمنا، ودَيْنُه كَدَيْنِنَا)، وأنهم (إنما بذلوا الجزية، لتكون دماؤهم كدمائنا، وأموالهم كأموالنا) (19).. وفي مصنف الإمام عبدالرزاق (20) أن رجلاً مسلماً، قتل آخر من أهل الذمة، في عهد عمر بن عبدالعزيز، فاقتص من المسلم بالذمي.

العدل والحقوق المتساوية لغير المسلمين

المساواة أمام القانون

ويتمتع كل مواطن بهذه المساواة أمام القانون، وهو أمر رباني لا يحتمل مساومة، يقول تعالى :(إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل ) (النساء :58).. وهذه الآية الكريمة، تأمر بأداء الأمانات إلى أهلها، مسلمين أو غير مسلمين، كما تقضي بأن يلتزم العدل في الحكم بين الناس كلهم، دون تمييز، بسبب اختلاف الدين، أو العنصر، أو الثقافة، أو الجنس، أو اللون. والمؤمنون مأمورون ديناً، أن يكونوا قوامين بالقسط في كل موقف، لقوله تعالى :(يأيها الذين ءامنوا كونوا قوامين لله شهداء بالقسط ولا يجر منكم شنئان قومٍ على ألا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى ) (المائدة :8).

وبموجب هذا العقد، يصير غير المسلمين كالمسلمين، في حرمة الدماء، والأموال، يقول صلى الله عليه وسلم :(من قتل معاهداً لم ير رائحة الجنة، وأن ريحها يوجد من مسيرة أربعين عاما ً) (21)، ويقول في حديث غيره :(ألا من ظلم معاهداً، أو انتقصه، أو كلفه فوق طاقته، أو أخذ شيئاً منه بغير طيب نفس، فأنا حجيجه يوم القيامة ) (22).

واستقر هذا الفقه يسود في العهد النبوي، وعهد الخلافة الراشدة، واستمر إلى زمن المماليك، والدولة الإسلامية. واتساقاً مع موقف المسلمين الثابت، في حماية غير المسلمين، من أهل ذمتهم، في دمائهم، وأموالهم، أنه لما أراد أحد سلاطين التتار أن يطلق سراح أسرى المسلمين، دون النصارى، اعترضه الإمام ابن تيمية، لأنه سرى في حقهم ما يسري في حق المسلمين، وأنه إن لم يطلق سراحهم، جاهد المسلمون، واستأنفوا القتال، لافتكاكهم .. ولابن تيمية رسالة مشهورة بهذا الخصوص، اسمها :(الرسالة القبرصية)(23).

الجزية وحق الدفاع:

وحكمة مشروعية عقد الذمة، هي أن يترك الحربي القتال، مع احتمال دخوله في الإسلام، عن طريق مخالطته للمسلمين، واطلاعه على شرائع الإسلام.

وليس المقصود من عقد الذمة، تحصيل المال (24)، وقد كان دفع الجزية واجباً على كل رجل بالغ، قادر، حسب طاقته، نظير الحماية والدفاع، حتى إن القادة المسلمين، كانوا يردون على غير المسلمين، ما دفعوا من جزية، إذا لم يقدروا على القيام بواجب الحماية والدفاع، بل كان بعض الخلفاء الراشدين- وهو عمر رضي الله عنه- يسقط دفع الجزية عن غير المسلمين الذين يشتركون مع الجيش، ويؤدون خدمات عسكرية، وهو ما نأخذ به في عصرنا هذا.

والتفسير الصحيح لكلمة الصغار في قوله تعالى :(حتى يعطوا الجزية عن يدٍ وهم صغرون ) (التوبة :29)، هو جريان أحكام الشريعة عليهم، وإعطاء الجزية، فإن التزام ذلك هو الصغار (25)، وفي ذلك يقول الشافعي: وسمعت عدداً من أهل العلم، يقولون :إن الصغار أن يجري عليهم حكم الإسلام (26)، وفي ذلك رد، على من زعم أن الصغار هو الإذلال.. وتأسيساً على ما تقدم، فليس يصح ما نسب لأمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه، من شروط سميت بالشروط العمرية (27)، وإسنادها ضعيف اتفاقاً، حتى إن ابن القيم، لم يجد سبيلاً لتأكيدها، إلا بأن قال :إن شهرة هذه الشروط، تغني عن إسنادها.

وقد أنكر محقق الكتاب، د. صبحي الصالح، هذه العلة، لأن الاستفاضة لم تكن دليلاً على الصحة في موضوع تاريخي، تشريعي كهذا، ثم وصف هذه الشروط بأنها متضاربة، ومتناقضة (28) والواقع أن هذه الشروط، تخالف ما صح من جملة العهود، والمواثيق النبوية، كوثيقة المدينة، وعهد النبي صلى الله عليه وسلم لأهل نجران، وعهد أبي بكر ضري الله عنه أيضاً لأهل نجران، وكانوا نصارى، كما أنها تخالف العهود العمرية، كعهد عمر رضي الله عنه لأهل إيليا، الذي نص على إعطاء الأمان للنصارى، على أنفسهم، وأموالهم، وكنائسهم، وصلبانهم، وأنهم لا يكرهون، ولا يضار أحد منهم (29).

حق التعليم:

ويدل على مكانة العلم في الإسلام، أن أول كلمة نزلت منه هي :(اقرأ باسم ربك الذى خلق ) (العلق :1)، وتوفير العلم بمختلف تخصصاته، وفنونه، واجب المجتمع، والدولة، وقد شهد الواقع العملي للمسلمين، ما كان يتمتع به غير المسلمين من امتلاك ناصية العلم، في كثير من التخصصات، التي لا غنى عنها في مجتمع، كالطب والهندسة. ويشمل هذا الحق، الرجل، والمرأة، على السواء.. ومن واجب الدولة، تنمية شخصية الإنسان، وتوسيع ثقافته.. وقد ذهب ابن حزم، إلى إلزامية التعليم، وأن الإمام يجبر النساء على التعليم (30) .. وفي الجانب التطبيقي، كان التعليم تاريخياً متاحاً للجميع، من أدنى المراحل التعليمية، إلى أعلى المراحل، والتخصصات.. وتوزيع الفرص الدراسية، محكوم بأسس عادلة، هي التميز العلمي.

عقوبة المرتد على الخيانة العظمى:

وقتل المرتد، ليس عقوبة على الفكر ذاته، لأن غير المسلمين، قد كفل لهم الإسلام، حرية العقيدة، وحمايتها، من غير إكراه، ولا تضييق، لكن هذه العقوبة على الجناية الكبرى، والمكيدة، التي ادعى بها المرتد اعتناق الإسلام، ثم أعلن الخروج منه، للطعن فيه، والإساءة إليه، وإلى ذلك يشير قوله تعالى :(وقالت طائفة من أهل الكتاب ءامنوا بالذى أنزل على الذين ءامنوا وجه النهار واكفروا ءاخره لعلهم يرجعون ) (آل عمران :72).

ولقد تحدث ابن قيم الجوزية في كتابه، زاد المعاد (31) عن الردة، وأثرها على الأمن الداخلي لدولة الإسلام، وأنها ليست مسألة فردية.

الشريعة الإسلامية وحقوق الشعوب والأقاليم

وفي ظل تطبيق أحكام الشريعة الإسلامية، تتحقق للشعوب حقوقها الجامعة .. وقد حكم القاضي المسلم لأهل سمرقند، بحق تقرير مصيرهم، لأنهم كانوا أُدخلوا في سلطان الدولة، بالقوة، دون اختيارهم، ودون مراعاة أحكام الشريعة، القاضية بالتخيير، والإعلام، والإنذار، لأن استخدام القوة الجهادية، ليس في الواقع، إلا لرفع الإكراه، على اعتناق دين، أو على المنع منه.

كما يكفل نظام الحكم الإسلامي، حق الحكم الذاتي، مع حق التمييز الثقافي للأقاليم، التي يكون فيها غير المسلمين متحيزين في مكان يخصهم، ويباشرون بأنفسهم إدارة شؤونهم، مع الاحتكام إلى محاكمهم، بما كان يجعلهم في حكم الأقاليم الآن، وهكذا كان الشأن مع نصارى نجران، الذين كانوا على عهد دولة المدينة، خارج حدودها، وجاءت اتفاقية المدينة تؤكد هذا المعنى (32).. وهذا الاستثناء، ليس استثناءً من الجريمة، بحيث يعد الفعل مباحاً، بل وضعت عقوبات تعزيرية لهذه الجرائم، عدا الخمر والردة.. ولم يقفل الطريق أمام المسلم القوي، المتثبت في دينه، أن يطلب تطبيق الحدود عليه، بل إن هذا الحق، من المطالبة بالطوع، والاختيار، ثابت لغير المسلم.

والتأصيل الفكري لمبدأ استثناء غير المسلمين، من تطبيق أحكام الحدود، يعتمد على نص الآية الكريمة:(فإن جآءوك فاحكم بينهم أو أعرض عنهم وإن تعرض عنهم فلن يضروك شيئاً وإن حكمت فاحكم بينهم بالقسط إن الله يحب المقسطين ) (المائدة :42).. وقد اختار الإمام الطبري هذا القول بالاستثناء، وأن الآية الكريمة محكمة (33).

الحقوق المدنية والسياسية:

في ظل تطبيق أحكام الشريعة الإسلامية، فإن الحقوق المدنية، والسياسية مكفولة لكل مواطن، فيحق لكل فرد أن يملك، ويرث، ويبيع، ويشتري، ويرهن، ويكفل، ويهب، ويوصي، ويقف، ويتصرف، وفقاً لمصلحته الشخصية.

حق العمل:

يضمن الإسلام لكل أفراد المجتمع، العدالة في ممارسة العمل الشريف، والأجر المناسب، لأن ذلك كله من أداء الأمانات، والوفاء بالحقوق، والقيام بالعدل والإحسان، كما في قوله تعالى :(إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها ) (النساء :58)، وقوله عزوجل :(إن الله يأمر بالعدل والإحسان ) (النحل :90)، ثم إن العمل في الفقه الإسلامي، ضروري، لسد حاجة المجتمع، وعمران الكون.. وفي حماية الشريعة الإسلامية للعاملين، وضمان الأجر العادل لهم، ورد قوله :صلى الله عليه وسلم (أعطوا الأجير أجره قبل أن يجف عرقه ) (34).

وتطبيقاً لذلك، فلغير المسلمين فرصة للعمل، وحرية التوظيف للوظائف العليا القيادية، في مناطقهم، والوسيطة، وغيرها، وقد بلغ بعض المؤرخين الغربيين، حد الإعجاب، في بيان ما لاحظه من كثرة العمال غير المسلمين في الدولة الإسلامية، حيث يقول :(من الأمور التي نعجب لها، كثرة العمال والمصرفين غير المسلمين، في الدولة الإسلامية) (35).

الضمان الاجتماعي:

يقوم المجتمع الإسلامي، على التكافل، والتراحم، بين الناس جميعاً، على مستوى الأسرة، والجيران، والحي، والمجتمع، يقول الله تعالى :(إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاءِ ذى القربى ) (النحل :90).. وفي التوجيهات النبوية في التراحم بين الناس كلهم :(الراحمون يرحمهم الرحمن، تبارك وتعالى، إرحموا من في الأرض، يرحمكم من في السماء) (36).

وفي حق الجيران، يقول صلى الله عليه وسلم :(ليس المؤمن، الذي يشبع، وجاره جائع ) (37).

وفي مسؤولية الجيران، وأهل الحي، نحو المحتاجين، يقول :(أيّما أهل عرصة، بات فيهم امرؤ جائع، فقد برئت منهم ذمة الله ورسوله ) (38) .. وقد كان بيت المال، في عهد الخلافة الراشدة، يفرض للمواليد القوت، ثم توسع الأمر، حتى شمل الكسوة (كما يذكر البلاذري) (39).

وتقوم الأوقاف الإسلامية، والمبرات الخيرية، والجمعيات الطوعية، بدور عظيم، يحقق التكافل، والترابط، والتراحم.

وأما الدولة، فلها الصناديق القومية للضمان الاجتماعي، والتكافل الاجتماعي لأرباب المعاشات، إلى جانب ديوان الزكاة، الذي يسع بمصارفه المتعددة، الأفراد، والمجتمع.

التعامل مع غير المسلمين: نماذج قرآنية

وهنا نقدم نماذج، من آيات القرآن الكريم، محكمة وحاكمة، في المعاملة، الحسنة، العادلة:

1- يقول تعالى :(لاينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من ديركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم إن الله يحب المقسطين ) (الممتحنة :8).

فهذه الآية، تقرر أسس التعامل مع غير المسلمين، أنها البر، والقسط إليهم، بكل ما يقتضيه معنى البر من الخير، والقسط من عدل، وفاصلة الآية :(إن الله يحب المقسطين )، تدعو كل مسلم، أن يسارع في تنفيذ ما يحبه الله.

ولاشك في أن هذا التعامل، يقود إلى السلام الحقيقي، وقد أحسن صاحب الظلال، في تعليقه على هذه الآية، حيث يقول: إن الإسلام دين سلام، وعقيدة حب، ونظام يستهدف أن يظلل العالم كله بظله، وأن يقيم فيه منهجه، وأن يجمع الناس تحت لواء الله، إخوة متعارفين، متحابين، وليس هنالك من عائق يحول دون اتجاهه هذا، إلا عدوان أعدائه عليه، وعلى أهله, فأما إذا سالموهم، فليس الإسلام براغب في الخصومة، ولا متطوع بها كذلك، وحتى هو في حالة الخصومة، يستبقي أسباب الولوج في النفوس، بنظافة السلوك، وعدالة المعاملة، انتظاراً لليوم الذي يقتنع فيه خصومه، بأن الخير أن ينضووا تحت لوائه الرفيع. ولا ييأس الإسلام من هذا اليوم، الذي تستقيم فيه النفوس، فتتجه هذا الاتجاه المستقيم.

ويمضي التعليق في الظلال، يبين أن الأصل في العلاقات، هو العدل، والسلام، فيقول :وتلك القاعدة في معاملة غير المسلمين، هي أعدل القواعد، التي تتفق مع طبيعة هذا الدين، ووجهته، ونظره إلى الحياة الإنسانية، بل نظرته الكلية لهذا الوجود، الصادر عن إله واحد، المتجه إلى إله واحد المتعاون في تصميمه اللدني، وتقديره الأزلي، من وراء كل اختلاف، وتنويع.. وهو أساس شريعته الدولية، التي تجعل حالة السلم بينه وبين الناس جميعاً، هو الحالة الثابتة، لا يغيرها إلا وقوع الاعتداء الحربي، وضرورة رده، أو خون الخيانة بعد المعاهدة، وهي تهديد بالاعتداء، أو الوقوف بالقوة، في وجه حرية الدعوة، وحرية الاعتقاد، وهو كذلك اعتداء، وفيما عدا هذا، فهي السلم، والمودة، والبر، والعدل للناس أجمعين (40).

2- يقول تعالى :(إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بما أراك الله ولا تكن للخائنين خصيما ً) (النساء :105)، فقد جاءت هذه الآية تأكيداً عملياً لما يأمر به القرآن، من الحكم بين الناس بالعدل، دون تفرقة بينهم، بأي سبب من الأسباب.

وهنا تبين الآية، أن الله تعالى قد أنزل كتابه القرآن الكريم، بالحق، على رسوله صلى الله عليه وسلم، ليحكم بين الناس، بما هداه إليه الله تعالى.. والآية تدعوه صلى الله عليه وسلم ألا يكون محامياً، ولا مدافعاً، عن الخائنين للأمانات، ممن يلوون ألسنتهم بالكذب، حتى يقضي لهم بظاهر شهاداتهم. وقد حذر النبي صلى الله عليه وسلم من ذلك، كما في الحديث التالي: روى الإمام أحمد في مسنده، عن أم سلمة رضي الله عنها، قالت :( جاء رجلان من الأنصار، يختصمون إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في موارث بينهما، قد درست، ليس عندهما بينة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إنكم تختصمون إليّ، وإنما أنا بشر، ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض، وإنما أقضي بينكم على نحو ما أسمع، فمن قضيت له من حق أخيه شيئاً، فلا يأخذه، فإنما أقطع له قطعة من النار، يأتي بها انتظاماً في عنقه يوم القيامة ).. فبكى الرجلان، وقال كل منهما :حقي لأخي، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :(أما إذا قلتما، فاذهبا، فاقتسما ثم توخيا الحق بينكما، ثم استهما، ثم ليحلل كل منكما صاحبه ) (41).

وفي أسباب النزول، إشارة إلى أن بعض الأنصار، رمى أحد اليهود بغير حق، بتهمة ظالمه، فجاءت هذه الآية وما بعدها، في براءته.. آيات تتلى أبد الدهر، تؤصل للعدالة، وتؤكدها بين الناس كلهم، دون تفرقة، بسبب اختلاف الدين، أو العنصر، أو القبائل، أو الشعوب. يقول تعالى:(وطعام الذين أوتوا الكتاب حلُُّ لكم وطعامكم حلُُّلهم والمحصنات من المؤمانت والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم إذا ءاتيتموهن أجورهن محصنين غير مسفاحين ولا متخذى أخدانٍ ) (المائدة :5).

يقول صاحب الظلال، في بيان معاني هذه الآية (42) :(وهنا نطلع على صفحات السماحة الإسلامية، في التعامل مع غير المسلمين، ممن يعيشون في المجتمع الإسلامي (في دار الإسلام)، وتربطهم به روابط الذمة، والعهد، من أهل الكتاب، أن الإسلام لا يكتفي بأن يترك لهم حريتهم الدينية، ثم يعتزلهم، فيصبحوا في المجتمع مجفوين، معزولين، أو منبوذين، إنما يشملهم بجو من المشاركة الاجتماعية، والمودة، والمجاملة، والخلطة، فيجعل طعامهم حلاً للمسلمين، وطعام المسلمين حلاً لهم كذلك، ليتم التزاور، والتضايف، والمؤاكلة، وليظل المجتمع كله في ظل المودة، والسماحة.. وكذلك يجعل العفيفات من نسائهم- وهنا المحصنات بمعنى العفيفات الحرائر- طيبات للمسلمين.. ويقرن ذكرهن، بذكر الحرائر العفيفات، من المسلمات، وهي سماحة لم يشعر بها إلا أتباع الإسلام، من بين سائر أتباع الديانات والنحل).

وواضح أن الإسلام، لم يبح زواج المسلمات بغير المسلمين، والسبب الظاهر في ذلك، هو أن القوامة في الزواج للرجال، والمسلم مؤتمن على رعاية حقوق زوجته الكتابية، لا يكرهها في الدين، ولا يمنعها من الكنيسة، بل يوصلها، ولا يمنعها ما هو مباح لها في دينها.

وفوق كل هذا، فهو مؤمن بأنبياء الله جميعاً، لا يفرق بين أحد من رسله، بينما غير المسلم، يكفر بالرسالة الخاتمة، ويخشى من فتنه المسلمة عن دينها.

وهذه المعاملة الحسنة، وخلق البر، والقسط، أصل ثابت مستقر، في توجيهات القرآن، والسنة، والتطبيق العملي في العهد النبوي، والخلافة الراشدة، وما اتصل بها من معاملات في العصور الإسلامية، وليست سياسة عارضة، أو مؤقتة.

ومثالاً على هذه المعاملة الحسنة، وخلق البر والقسط، مع غير المسلمين، وجدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يعود غلاماً يهودياً مريضاً، حتى إن والده لم يملك تقديراً لهذا الجميل، والصنيع الحسن، من الزيارة النبوية، إلا أن يشجع ولده على قبول الدعوة النبوية، واعتناق الإسلام (43).

وقد انتقل صلى الله عليه وسلم إلى الرفيق الأعلى، ودرعه مرهونة عند يهودي، وفي ذلك أعظم الدلالة على حسن التعامل .. وفعل ذلك مع وجود مسلمين أثرياء، في صحابته، الذين يفدونه بأرواحهم، وأموالهم (44).

وقد كان صلى الله عليه وسلم يستقبل الوفود من القبائل، والأمصار، ويحسن وفادتهم، وهكذا صنع حين زاره وفد نصارى نجران، وكان بمسجده في المدينة المنورة، مما هو معروف خبره في السيرة النبوية، وتاريخ الدعوة الإسلامية(45)، وسيظل هذا الهدي النبوي العظيم، هو نبراسنا في معاملاتنا المعاصرة، بإذن الله.

==============

# الخاتمة

الحمد لله الذي أكمل الدين، وأتم علينا النعمة، ورضي لنا الإسلام ديناً :(ومن يبتغ غير الإسلام ديناً فلن يقبل منه وهو في الأخرة من الخاسرين ) (آل عمران :85) .. ثم أما بعد:

فهذا غيض من فيض، وقطر من غيث، ينهمر من بشائر المستقبل للإسلام، بظهوره وانتشاره، وسيادة حضارته في العالمين، فكل أخبار القرآن صدق، وأحكامه عدل :(وتمت كلمت ربك صدقاً وعدلاً لا مبدل لكلماته وهو السميع العليم ) (الأنعام :115).. وفي تعاليم الإسلام والسنة، وفقه الشريعة الإسلامية، دلائل لا تستقصى، تبشر كلها بالمستقبل للإسلام :(ولتعلمن نبأه بعد حين ) (ص :88).. (والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون ) (يوسف :21).

ولا يزال في موضوع المستقبل للإسلام، كثير مما يحفز الدعاة إلى الله، للعمل على بصيرة، وفقنا الله ومن والانا، لتصويب النظر على قضايا المستقبل للإسلام، نجدد بحسن تقديمها أمر ديننا، ثم إننا نجدد دعوتنا إلى أمتنا، ونخص جيلنا المعاصر، وشبابنا، عدة المستقبل، أن يسارعوا إلى الاستجابة لداعي الحق: (يأيها الذين ءامنوا استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم ) (الأنفال :24) .. وأن يكونوا عند أمل أمتهم بهم، فيلتزموا ذكر الله، وساحات الجهاد، ما استطاعوا إلى ذلك سبيلاً، ويعتصموا بحبل الله المتين، ويلجأوا إليه، قانتين، في النوازل وغيرها، ليكونوا حملة لواء الشريعة، والدعوة إلى تطبيقها، وإحياء الشعائر، وإقامة الدين كله، مراعين واقع مجتمعاتهم، وأدب التدرج، والانتقال في المراحل، حاملين رسالة الرحمة والرأفة، مقتدين بإمامهم ونبيهم، عليه الصلاة والسلام، في رأفته ورحمته بالمسلمين، ومن يعيش في كنفهم، ليعيشوا السعادة الحقيقية مع المسلمين، في ظل التزامهم شريعة الإسلام، وإقامتها في شؤون حياتهم كلها. سائلين الله أن يهدي شباب الإسلام، صناع المستقبل، وقادة المسلمين، وأن يعزهم بالإسلام، ويعز الإسلام بهم، ليصنعوا مستقبل الإسلام المشرق، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.

=============

# المنظور الحضاري في التدوين التاريخي عند العرب

تقديم بقلم : عمر عبيد حسنه

الحمد لله الذي أوقف الأمة المسلمة على خط النهاية من المسيرة البشرية للأمم والحضارات والثقافات، واصطفاها لوراثة الكتاب، فقال تعالى : (ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا فمنهم ظالم لنفسه ومنهم مقتصد ومنهم سابق بالخيرات بإذن الله) (فاطر : 32)، وخصها بالنص السماوي الذي تعهد بحفظه، وعصمه عن التحريف والتبديل، بقوله : (إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون) (الحجر : 9)، وتحقق الحفظ من خلال عزمات البشر، ليكون ميزانا للحق، ومعيارا للتقويم، وهداية للطريق، ومنهاجا للسير، وتقوى -أي وقاية- لما يمكن أن يكون من إصابات.

وجعل الإسلام الدين الخاتم مكملا للدين، حيث انتهت إليه محصلة تجربة النبوة التاريخية، كما جعل الأمة المسلمة أمة معيارية شاهدة على الناس، بعد أن صوبت معرفة الوحي مسيرتها، ومنحتها القيم والموازين السوية، التي تمكنها من الحكم الصحيح، والوزن بالقسطاس المستقيم، قال تعالى : (وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا) (البقرة : 143)، فالرسول صلى الله عليه وسلم والوحي، يصوبان مسالك الأمة المسلمة .. والأمة المسلمة بما تمتلك من الوحي، تصوب مسالك الناس، وتميز الخطأ من الصواب، والحق من الباطل، والرشاد من الضلال، والمعروف من المنكر، ولا يعتبر ذلك حكرا على ناس بأعيانهم، أو زمن دون آخر، أو منطقة جغرافية، كما هو حال الدعوات العرقية ونظريات الشعب المختار، وإنما هو متاح لكل من آمن بهذه القيم، لأنه بإيمانه يصبح جزءا منها كافة، لأن الخطاب الإسلامي خطاب إنساني لا يخص قوما أو لونا أو جنسا.

والصلاة والسلام على النبي الخاتم (ما كان محمد أبا أحد من رجالكم ولكن رسول الله صلى الله عليه وسلم وخاتم النبيين) (الأحزاب : 40)، الذي بعث للناس كافة بشيرا ونذيرا، قال تعالى : (وما أرسلناك إلا كافة للناس بشيرا ونذيرا) (سبأ : 28)، فكانت رسالته إنسانية الخطاب، مستوعبة للزمن، منذ بدء الخلق وإلى أن ينشئ الله النشأة الآخرة، ومكملة لتاريخ النبوة الطويل، وجاء عطاؤها وإنتاجها إنسانيا، شاركت فيه كل الأمم والشعوب، وإليها انتهت أصول الرسالات السماوية جميعا .. فالمؤمن بها ليس حدثا زمانيا أو مكانيا عارضا، وإنما إيمانه متجذر في التاريخ، مستوعب للحاضر، ممتد إلى المستقبل، حتى يوم الدين .. فهو لبنة في بناء النبوة التاريخية الواحدة، تاريخها تاريخه، وما شرع الله لها من الدين شرعه له، وما لحقها من الإصابات، وتحقق لها من النهوض والإنجازات، جزء من تاريخه الممتد، الذي يشكل مصدر عبرته واستلهامه واقتدائه .. قال تعالى : (شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا والذي أوحينا إليك وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى) (الشورى : 13)، وقال تعالى : (إن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاعبدون) (الأنبياء : 92)، وقال : (أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده) (الأنعام : 90).

فالفرد المسلم ليس خلقا معزولا، ولا يعاني القطيعة والانفصال عن التاريخ الإنساني، بل هو جزء منه .. وهذا التاريخ، يشكل للمسلم منجما للخبرة، وثمرة لتجارب متعددة، وميدانا فسيحا للرؤية والعبرة والهداية والوقاية لحاضره ومستقبله، وبعد:

فهذا كتاب الأمة الستون .. (المنظور الحضاري في التدوين التاريخي عند العرب) للدكتور سالم أحمد محل، في سلسلة "كتاب الأمة"، التي يصدرها مركز البحوث والدراسات، بوزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية في دولة قطر، مساهمة في عملية استرداد شخصية المسلم الذي يفقه الدين ويفهم العصر، ومعاودة إخراج الأمة المسلمة؛ وتحقيق مدلول الإيمان والوحدانية بأبعاده المتعددة في النفوس، بعد أن لحق به الكثير من التأويلات والتفسيرات، التي أشاعها مناخ التخلف والاستخذاء الثقافي.

فالإيمان بالله الواحد هو السبيل الوحيد لتحقيق إنسانية الإنسان؛ وتخليصه من الرق والشرك الديني والثقافي والسياسي والاجتماعي والتربوي، والقضاء على التخاذل، الذي لحق بعالم المسلمين، وأورثه حالات من الخنوع والتواكل والإرجاء، وأخرجه من التاريخ والواقع.

إن حالة الإرجاء والتخاذل والانسحاب من الحياة، أدت إلى انطفاء الفاعلية، وانعدام الشعور بالمسؤولية، والتفكير في امتلاك القدرة على تأسيس الرؤية الثقافية المبنية على معرفة الوحي المعصوم، والتي تقتضي إحياء دور العقل في النظر، وبيان أهمية الاجتهاد الفقهي والفكري في التطور البشري، وتنزيل القيم الإسلامية على واقع الناس، والنظر لمشكلات الأمة وقضاياها المعاصرة في ضوء هدايات الوحي.

فالمسلم الحق يقوده إسلامه إلى استيعاب التاريخ البشري، والتعرف إلى وسائل النهوض والسقوط، وإدراك السنن والقوانين الكامنة وراء الفعل التاريخي، التي لم تتحول ولم تتبدل، ودور الإرادة البشرية في صنع التاريخ، وممارسة عملية التغيير، ومدافعة القدر بقدر أحب إلى الله ، والاستجابة لأمر الله سبحانه وتعالى الذي ناط عمليات التغيير وصنع التاريخ بإرادة الإنسان وقدرته، فقال تعالى : (إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم) (الرعد : 11).

فالله سبحانه وتعالى هو الذي أراد للإنسان أن يريد، وأكثر من ذلك إنه ربط حدوث التغيير بإرادة الإنسان، كقانون للفعل التاريخي، ولم يتركه هملا بدون دليل عملي، وإنما هداه إلى مفاتيح التغيير وسننه في الأنفس والآفاق، وبسط له مساحات كبيرة من تاريخ البشرية الطويل، وقدم له نماذج متعددة تستوعب مسيرة الحياة بجوانبها وأنشطتها المختلفة، لتكون دليله إلى الفعل الصائب، ومنهجه إلى العبرة والوقاية من كل الإصابات وانتقال علل الأمم السابقة.

ونستطيع أن نقول : إن الكتاب والسنة قدما مساحات تعبيرية هائلة عن تجارب الأمم السابقة ومسالكها، وعللا أسباب الإصابات التي لحقتها، والقوانين والسنن المجردة عن حدود الزمان والمكان التي حكمت ذلك، وألقيا الأضواء الكاشفة على جميع جوانب الحياة، على مستوى العقيدة والعبادة والمعاملة والمسالك .. ولم يقتصرا على ما كان، وإنما تجاوزا الماضي والحاضر، إلى إلقاء الأضواء على المستقبل، وما سوف يكون من الفتن، بما في ذلك علامات ومؤشرات اقتراب الساعة، ليستوعب المسلم موقفه تماما، ويأخذ حذره، ويمارس دوره، من خلال هذه النوافذ على الرؤية الشمولية لما كان وما سوف يكون.

ولعل القضية الأهم هنا، أن الوحي (الكتاب والسنة الصحيحة)، هو مصدر الوعي التاريخي للمسلمين بشكل خاص، فهو الذي أثار الرغبة في الاطلاع والتشوف إلى التعرف على أحوال الأمم السابقة، وسبب انقراضها، وسنن التداول الحضاري، حتى إنه لم يدع الإنسان أمام هذا الغيب المجهول، المحرم على حواسه، بل قدم له مساحات كبيرة لقصص السابقين، قبل اختراع الكتابة وتدوين التاريخ، غطى فيها جميع جوانب النشاط البشري، العبادي والفكري والسياسي والثقافي والاقتصادي والاجتماعي وحتى النفسي، بما يمكن أن نطلق عليه اليوم التاريخ الحضاري، وامتد إلى أنباء الغيب، والغيب هنا يعني الماضي الغائب عن ساحة المعرفة والشهود.

لقد امتد الوحي في رؤيته التاريخية إلى مرحلة بدء الفعل التاريخي، وحض على النظر في كيفية بدء الخلق، قال تعالى : (قل سيروا في الأرض فانظروا كيف بدأ الخلق) (العنكبوت : 20)، وغطى الكثير من المساحات المجهولة للإنسان، وعلى الأخص في مرحلة ما قبل الكتابة -كما أسلفنا- وامتد بملامح الرؤية التاريخية لتشمل الماضي والحاضر والمستقبل، إلى درجة يمكن القول معها إن القرآن والبيان النبوي، يعتبران بهذا المعنى الوثائقي (وليس الديني فقط)، أقدم وثيقة تاريخية وردت بطريق علمي صحيح، بمعايير البشر، عدا عما يؤمن به المؤمن من اليقين الإيماني بتعهد الله بالحفظ .. لذلك نرى أن القرآن والبيان النبوي يشكلان مصدرا تاريخيا للكثير من العقائد والأديان والأقوام والمواقع الجغرافية على خارطة الزمن الطويلة، حيث لا توجد وثائق معتمدة تغطي هذه الفترات التاريخية.

فالقرآن هو مصدر المعرفة التاريخية، ومصدر الوعي التاريخي في وقت واحد، خاصة وأنه طلب التوغل في التاريخ، ودعا إلى السير في الأرض، ولفت النظر إلى أهمية الاعتبار بأحوال الأمم السابقة، وأتى على نماذج منها، مما دفع الإنسان المسلم للبحث والتنقيب التاريخي، لمعرفة هذه الأحوال، والخروج من عهدة التكليف الشرعي بتحقيق العظة والعبرة والوقاية الحضارية، قال تعالى : (قد خلت من قبلكم سنن فسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة المكذبين هذا بيان للناس وهدى وموعظة للمتقين) (آل عمران : 137 -138)، وقال : (لقد كان في قصصهم عبرة لأولي الألباب) (يوسف : 111)، وقال : (وكلا نقص عليك من أنباء الرسل ما نثبت به فؤادك وجاءك في هذه الحق وموعظة وذكرى للمؤمنين) (هود : 120). حتى لقد جعلت المعرفة التاريخية ومسالك الأنبياء مع أقوامهم، مصدر تبين واهتداء ومنهج اقتداء للموحى إليه : (أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده) (الأنعام : 90). (فاصبر كما صبر أولو العزم من الرسل) (الأحقاف : 35) .. ولئن كانت هذه المحركات للنزوع التاريخي، بالنسبة للموحى إليه، المستغني عنها بالوحي، فهي بالنسبة للمسلم المسترشد بالوحي -بعد توقفه- أشد لزوما.

ولم يقتصر القرآن على ذكر الحدث التاريخي أو القصة التاريخية وتسجيلها كما وردت، وهذا يمثل نصف الطريق في البحث التاريخي، وإنما تجاوزها إلى التقويم والنقد، أو التفسير التاريخي في ضوء السنن الفاعلة في الحياة والقيم المعيارية الموحى بها، ليمتلك المسلم الأبجدية المطلوبة لقراءة التاريخ وتفسيره، فلا يضل ولا يشقى، فيذهب إلى التاريخ بلا معيار، ويعجز عن العودة للتعامل مع الحاضر.

ويمكن القول : إن عملية النقد والتقويم والمراجعة، كانت تسير في القرآن جنبا إلى جنب مع تسجيل الحدث التاريخي، مما يوحي بأن النقد والتقويم التاريخي يعتبر جزءا من صناعة التاريخ أو البناء التاريخي، الأمر الذي يؤكد ما يراه بعضهم من : أن النقد والتقويم يبقى دائما جزءا لا يتجزأ من عملية البناء الفكري والتربوي والأدبي والثقافي، وأن الناقد والمنتج شريكان في العمل.

وإن أسباب النزول للآيات والورود للأحاديث، التي تعتبر وسائل معينة لفهم الحدث، وإدراك سببه، والإحاطة به، هي في الحقيقة بما تقدمه من التعقيب والتعليق، والتحليل والتفنيد، والتوجيه وصياغة العبرة على أرض الحدث، إنما تؤكد أن هداية الوحي تنبثق عن رؤية وتفحص للتاريخ، فتجئ تلك الهداية في واقعيتها وصدقيتها في علم التاريخ، أشبه ما تكون بالتجربة المعملية في نطاق العلوم التجريبية.

لذلك كان من معطيات منهج القرآن والحديث في هذا المجال، البحث في سند الحدث التاريخي والتحقيق فيه لمعرفة صدقه، ومن ثم التفسير، والتقويم، والتعليل، والمراجعة لدوافع الحدث ونتائجه وعواقبه، الأمر الذي تبلور من خلاله وانتهى إليه علم التاريخ، الذي تقوم معادلته على أمرين : تحري الدقة للوصول إلى الحقيقة التاريخية، ومن ثم التفسير والتحليل والتعليل للحدث والتقويم له، للخلوص إلى العبرة التاريخية، أو إلى ما يسمى : "حكم التاريخ"، قال تعال : (وجاءك في هذه الحق -دقة المعلومة- وموعظة وذكرى للمؤمنين -تحقيق العبرة-) (هود : 120) .. وبهذا لا يكون التاريخ مجرد استعادة للماضي وإعادة تسجيل له على أوراق جديدة، وإنما تجريد الحدث التاريخي من قيود الزمان والمكان، ونقله وتعديته، ليتمكن الإنسان من الإفادة منه في التعامل مع الحاضر، ورؤية المستقبل من خلاله، وبمعنى آخر هو بعث للماضي، وإحياء له في وجدان الحاضر.

ومن هنا رأى ابن خلدون، أن التاريخ في ظاهره لا يزيد عن أخبار الأيام والدول والسوابق من القرون الأولى .. ولكنه في باطنه : "نظر وتحقيق وتعليل للكائنات ومبادئها دقيق، وعلم بكيفيات الوقائع وأسبابها عميق، فهو لذلك أصيل في الحكمة عريق، وجدير بأن يعد في علومها خليق".

ولذلك، لابد أن نشير هنا إلى أن ابن خلدون، الذي يعتبرونه مؤسس علم الاجتماع والعمران، وأول من تكلم في تفسير وفلسفة التاريخ، هو في الحقيقة لم يخرج عن المنهج القرآني الذي سبقه بسبعة قرون أو يزيد، وإنما انطلق من مرجعية القرآن والسنة ومنهج علماء التفسير والحديث، وعلم أسباب النزول والورود، ومناهج الجرح والتعديل، في نظرته التاريخية، وكيفية فحص الحدث والتعامل معه، والسعي للوصول إلى الأسباب الكامنة وراءه، والقوانين التي تحكم الحركة التاريخية .. ذلك أن التاريخ إذا انقلب ليصبح مجرد حروب ومعاهدات، وسير أشخاص، ومواريث حكم، بعيدا عن التاريخ الثقافي والحضاري واستكناه حقائقه وموجهاته، قد لا يستحق المعرفة والجهد، لأن ذلك لا يضيف شيئا يذكر، وقد يكون مضيعة للأجر والعمر معا.

ذلك أن الوعي بالتاريخ ليس حفظا للذاكرة وتسجيلا للحدث، وإنما إعمالا للتفكير، واستنتاجا للعبرة والعظة، وامتلاك المؤهل لاستيعاب الحاضر وتفسيره، والتنبؤ بتداعياته ومآلاته وعواقبه.

وهذا يمنحنا القناعة باستمرار، وكلما تلونا القصص القرآني أو قلبنا أوراق التاريخ أن أية عملية للإصلاح والتغيير واستشراف المستقبل، لابد أن تبدأ باستشراف التاريخ، وأن الوعي التاريخي هو من أهم الموارد الثقافية والمعرفية، لثقافة الحاضر، ورؤية المستقبل، وأن القطيعة التاريخية تجعل التعامل مع الحياة نوعا من الخبط الأعشى.

إضافة إلى بعد آخر، ليس بعيدا عما ذكرنا وهو : "أن الفضل الرئيس للتاريخ، هو أن يكون أداة للثقافة العقلية، فممارسة المنهج التاريخي في البحث، يفيد العقل صحة، ويشفيه من داء السذاجة في الاعتقاد" (انظر : ما هو التاريخ؟ ترجمة أحمد حمدي محمود).

ذلك أن من أبرز ميزات الثقافة التاريخية : أنها توسع اختبار الإنسان وتعمقه، وإن كانت فائدتها ليست عملية مباشرة، لأن التاريخ لا يعيد نفسه من كل وجه.

والثقافة التاريخية سبيل لإدراك الذات، أفرادا وأمة وإنسانية، وهذه الثقافة تبعث في النفس اعتزازا بالأجيال الماضية، من شأنها بناء الفرد والأمة، وتوطيد كيانهما، على أن تكون معرفة الذات المؤدية إلى احترام الذات وتقدير الماضي، هي أيضا نقد للذات وللماضي.

إن الثقافة التاريخية تنمي الحكمة، التي يولدها عمق الاختبار وسعته، والتي تلح على الإنسان في التساؤل حتى يصل إلى الأعماق والجذور .. "إن الإنسان الحي الفاعل صانع التاريخ، ليس مستقبليا مطلقا، سائحا في الرؤى والأحلام .. ولا حاضريا مطلقا، غارقا فيما حوله من مشكلات .. ولا تاريخيا مطلقا، يحن إلى الماضي ويبغي أن يرجعه كما كان .. وإنما هو يعيش في توتر دائم بين الحاضر والماضي والمستقبل، تتفاعل قواها وعناصرها في ذاته، بإدراك متزن صحيح، وشعور دقيق نافذ، فيكون من أثر هذا التفاعل العملي، تاريخي مبدع" (انظر : نحن والتاريخ، زريق).

لذلك اعتبر بعضهم التاريخ، هو المفتاح الكبير لمغاليق المشكلات المعقدة، والمدخل المأمون للقوانين والسنن التي تعين على حل تلك المشكلات (محمد مصطفى زيادة، مقال في التاريخ في الشرق الأوسط).

وحسبنا أن نشير إلى أن التاريخ، كما هو معلوم، هو الرحم الذي تخرجت منه العلوم الاجتماعية جميعا، واستقرئت قوانينها وفلسفتها ونظرتها الكلية التي تنتظم جميع الجزئيات، أو أنه كان السبيل إلى اكتشاف قانون الحركة الاجتماعية، لأنه المختبر الحقيقي للمبادئ والقيم والفلسفات، إلى درجة يمكن أن تقاس به وفيه مدى فاعليتها.

والتاريخ ليس حركة عبثية قائمة على المصادفة والعشوائية، وإنما ينتظمه قانون، وتحكم حركته سنن، وهو من أعمال وصناعة البشر، أصحاب القدرات والإرادات والمسؤوليات، ولو لم يكن للتاريخ هذا البعد والقانون الكلي، لما استحق أن يكون علما، ولما استحق أن يكون مصدرا للعبرة والتجربة للإنسان في كل زمان، ولما أمكن الإفادة منه لغير زمانه، ولما جاز أن يترتب على الفعل التاريخي أية مسؤولة، ولما استطاع أن يضيف عمرا يضاعف أعمارنا، وعبرا تغذي عقولنا .. أو بكلمة مختصرة : لم يكن لذكر القصص القرآني، أي معنى في صناعة الحاضر ورؤية المستقبل!

ذلك أنه من المعروف أن قوانين العلوم التجريبية، يمكن الوصول إليها واكتشافها من خلال الملاحظة والاختبار في التجارب المعملية، وضمن إطار زمني قصير نسبيا، لأن عناصرها مركبة من مواد صماء لا اختيار لها، ولا إرادة لحركتها، لذلك فمن السهولة بمكان إدراكها والوصول إلى نتائجها وقوانينها، بحيث كلما توفرت عناصرها تحققت نتائجها .. أما العلوم الاجتماعية والإنسانية فلا يمكن أن تخضع للقوانين نفسها، لا من حيث الزمن ولا من حيث المواصفات والخصائص، ولا من حيث النتائج، لأن موضوعها ومادتها وأداتها الإنسان نفسه، الذي يملك الحرية والإرادة والقدرة على الكمون والتشكل، لذلك تبقى عصية عن الضبط والتحكم، لأنها لا تخضع للنتائج القريبة، وإنما تخضع للعواقب والتداعيات المركبة والمعقدة بعيدة المدى، ولأن الإنسان بكل مكوناته هو موضوع العلم وهو وسيلته وأداة البحث فيه -كما أسلفنا- لذلك فإن اكتشاف سنن وقوانين الاجتماع والسقوط والنهوض والدورات الحضارية، يبقى عصيا عن الإدراك، من خلال جيل أو حاضر أو حدث، لأنه لا يمكن اختزال حياة الإنسان الخاضعة لأكثر من عامل في وقت واحد أو حدث واحد، فقد تستوعب مقدماته جيلا أو جيلين، إلى درجة قد يظن الإنسان معها أن الأمر لا ضابط له، حتى تظهر نتائجه أو عواقبه في الجيل الثالث أو الرابع.

لذلك يبقى التاريخ الطويل هو محل الرؤية والاستقراء والاستنتاج لمثل هذه القوانين، التي تحكم الحركة البشرية عموما، فكم من الأجيال سقطت فريسة للظلم والاستبداد السياسي وفتن الناس بها، وامتد زمانها، ريثما تحضرت القابليات للتغيير، والدلالة على أن الظلم مهما امتد فسوف يؤذن بخراب البلدان والعمران، وقد حكى الله قصة ذلك في قوله : (حتى إذا استيأس الرسل وظنوا أنهم قد كذبوا جاءهم نصرنا فنجي من نشاء ولا يرد بأسنا عن القوم المجرمين) (يوسف : 110).

ولعلنا نقول : إن فهم أية أمة، وكيفية التعامل معها، والنهوض بها، وتغيير واقعها، هو إلى حد بعيد رهين باستيعاب تاريخها الطويل، وطبيعة استجابتها للظروف المختلفة، الأمر الذي يمكن من اكتشاف عوامل وأدلة التحريك فيها، لذلك رأينا الاستعمار ركز أول ما ركز على دراسة التاريخ والعلوم الاجتماعية، ليكون ذلك مدخله الصحيح إلى التحكم والاستعمار، فالثقافة التاريخية والاجتماعية بشكل عام هي مفاتيح الشعوب، ودليل التعامل معها.

وقد نخلص إلى القول : إن سياسة الأمم، وأدلة التعامل معها، ورؤية مستقبلها، والتفكير بمشاريع الإصلاح والتغيير لواقعها، يكمن في ثلاثة معطيات تقريبا هي:

• الإحاطة بعقيدتها وقيمها (نظرتها للحياة).

• دراسة تاريخها، وتحديد نصيب هذا التاريخ من الاستجابة لعقيدتها، وقدرة الأمة على ترجمة القيم والمبادئ إلى برامج وأفعال بشرية، أي تنزيل القيم والعقيدة على الواقع، وتتبع الخط البياني لأقدار التدين هبوطا ونهوضا، ودراسة سبب ذلك، لأن التدين يزيد وينقص بحسب المؤثرات الخارجية، والتربية الذاتية، والاندفاعات التاريخية للنهوض.

• دراسة الحاضر بكل مكوناته وظروفه وأسبابه، ومن ثم التحديد الدقيق لموقع هذا الحاضر من متطلبات العقيدة ومن المسيرة التاريخية الطويلة، سواء كان ذلك على مستوى التاريخ الخاص للأمة، الذي لن يكون بحال من الأحوال منفصلا عن التاريخ العام، أو التاريخ العام للإنسانية من خلال القوانين والسنن التي تحكمه، والتي لا تحابي أحدا، مع أهمية الاحتفاظ بالخصوصية الثقافية التي تميز التاريخ الخاص عن العام، حتى لا يكون الخلط.

لذلك نقول : إذا تم إدراك هذه الأبعاد الثلاثة، أمكن بعد ذلك الدخول من الباب الصحيح لسياسة الأمة، وإحداث التغيير، واكتشاف سنن السقوط والنهوض، والوسائل التي تشكل مفاتيح العمل والتعامل مع هذه الأمة، وإن أي تجاهل لمعادلة الأمة الاجتماعية، والقفز من فوق تاريخها، في الريادة والقيادة والإصلاح والتغيير أو التحديث والنهوض، سوف يبوء أصحابه بالفشل كسائر المحاولات للمشروعات المستوردة التي شهدتها بلدان العالم الإسلامي، فأهدرت طاقاته، وعبثت واستغلت إمكاناته، وانتهت به إلى التخلف والفشل، لأن مدعي التحديث والنهوض قاسوا واقعه على تاريخ غيره، بعيدا عن معطيات عقيدته وتاريخه وخصوصيته الثقافية .. والغريب أنهم لايزالون مصرين على وضع المفاتيح في الجدران الصماء، بدل وضعها في الأبواب، إنهم يمارسون على الأمة غربة الزمان وغربة المكان، وغربة المبادئ والعقائد والقيم والأديان، لذلك يضطرون لحراسة طروحاتهم ومشاريعهم الثقافية والاجتماعية المفروضة بالحراب والاستبداد السياسي.

إن عملية استقراء تاريخ الأمم والشعوب اليوم، أصبح ميسورا إلى درجة تمكن من رؤية العالم بأكثر من حاسة.

وللحق نقول : إن المعاناة التي كان يعيشها الباحث في القديم، حتى يحصل على الأحداث المتفرقة والمعلومة التاريخية هنا وهناك، ويحاول أن يجمعها وينظر فيها ويكتشف النظرة الكلية التي تحكمها، اختزلت اليوم بثورة المعلومات والإعلام، لدرجة أصبح معها تاريخ العالم حلقات متصلة يؤثر بعضها ببعض إلى حد كبير.

وقد لا يكون مستغربا، بعد أن أشرنا إلى ملامح عامة لأهمية التاريخ وبعده الثقافي والحضاري ودور الإنسان في صناعته، أن يجعل القرآن -وهو وحي معصوم من خالق الإنسان صاحب الفعل- التاريخ مصدرا للمعرفة، التي تستوعب المعلومة، وتوسع الخبرة، وتصنع الحكمة، وتحقق الموعظة، وتكون العبرة، وتغني بالتجربة، وتؤكد اطراد السنن وفاعليتها، ويستنكر على من يقعدون عن السير في الأرض، والتوغل في التاريخ والاطلاع على الأحوال، ويتعرفون على أسباب التداول الحضاري، بقوله تعالى : (أولم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين كانوا من قبلهم) (الروم : 9).

ولم يرض القرآن للإنسان أن يكون مصورا للواقع، ومسجلا لأحداث التاريخ من الخارج، بل لفت نظره إلى أهمية النقد والتقويم التاريخي، كما لم يدعه يتيه في عملية النقد ويضل المنهج أو علم الطريق، وإنما منحه من معرفة الوحي المعيار، الذي بموجبه يقوم، والسراج الذي يستنير بضوئه، وقدم له نماذج عملية تدريبية من القصص القرآني في التعليل وبيان الأسباب، وما صارت إليه من النتائج أو من العواقب، ليكتسب المنهج في البحث، ويأخذ حذره .. فالإنسان الحر المختار هو الذي يصنع التاريخ، ويدرك الخطأ ويقومه، ويمكن أن يتشكل بالثقافة التاريخية، التي تعتبر من أهم موارد التشكيل الثقافي، لكنه لا يقع أسيرا لها، لما يملكه من معيار الخطأ والصواب، الذي تمنحه معرفة الوحي، والقصص القرآني بشكل خاص.

وقضية أخرى قد تكون جديرة بلفت النظر إليها في إطار المعطيات القرآنية للوعي التاريخي، واعتبار التاريخ مصدرا للمعرفة، والتأكد من صدقية السنن والقوانين التي تحكم الحركة التاريخية، في مقدماتها ونتائجها وعواقبها، وهي أنه من المعروف أن للإسلام رؤيته وفلسفته للكون والإنسان والحياة، أو هو دين انتظم قيم الحياة بكل أبعادها الثقافية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية …إلخ، لذلك نرى أن القصص القرآني والنماذج المطروحة من خلالها، أو مفهوم التاريخ بالمعنى القرآني، غطى المساحات والأنشطة الحياتية جميعها، وقدم نماذج في مجال الاستبداد السياسي، والظلم الاجتماعي، والانحراف السلوكي، والصراع الطبقي، والانحراف الفكري والثقافي، والتقليد الاجتماعي، والفساد الاقتصادي، والترف الحياتي، وقدم لذلك نماذج، وحكى قصتها، والعواقب التي انتهت إليها .. قدم نماذج لمسالك أفراد وأمم، وأقوام وأسر، وحكام ومحكومين، وحوارات متعددة بين الملك والجمهور، وبين الضعفاء والذين استكبروا، بحيث تمحورت حركة التاريخ على قضية الإيمان والكفر، ولو تعددت صورها واختلفت أشكالها.

وبذلك نقول : إن القرآن الكريم في مجال الإفادة من البعد التاريخي، قدم للمسلم خبرات وتجارب وعبر وثقافة تاريخية، في مجالات الحياة جميعها، بالقدر الذي يشكل له زادا كافيا، ودليلا هاديا، يمكنه من استيعاب الحاضر ورؤية المستقبل، في المجالات جميعا.

من هنا نقول : إن الفهم الإسلامي للتاريخ لا يقتصر على مجرد ذكر الأحداث السياسية، أو الاكتفاء بتسجيل تاريخ الحكام، أو تتبع تفاصيل المعارك العسكرية، أو الصراع على السلطة، وإنما يتجاوز ذلك إلى تغطية كل المساحات الحياتية بأنشطتها المختلفة، السياسية والثقافية والعلمية والاقتصادية والاجتماعية، أو بتعبير أشمل المجالات الحضارية، لأن التاريخ الحقيقي للأمم هو التاريخ الثقافي .. فالثقافة دائما تمثل الحقيقة، والسياسة تمثل الصورة .. وكثيرا ما وقع الانفصال في تاريخ الأمة بين التاريخ الثقافي والتاريخ السياسي، أو بتعبير أدق انفصل السلطان عن القرآن، فغاب واندثر تاريخ السلطان، واستمر عطاء تاريخ القرآن وحملته العلماء الأعلام.

ولعل مما يميز النظرة الإسلامية للتاريخ، أو للثقافة التاريخية المطلوبة لتربية الأجيال -حتى تحقق العملية التربوية والتعليمية بعدها المطلوب- أن المعيار الإسلامي في النقد والتقويم التاريخي أو في الصناعة التاريخية، توجه إلى تقدير الأعمال والإنتاج، ولم يركز على تقدير وتعظيم الأشخاص، وإعادة بناء الصنمية بشكل أو بآخر .. إنه يمجد البطولة كصفة لابد من التطلع والنزوع إليها من الناس جميعا، ولا يقدس البطل ويحصر البطولة في إطاره، ويجعلها حكرا عليه، لتصبح مطلبا شعبيا .. لذلك نرى في التاريخ الإسلامي، إذا ذكر أبو بكر رضي الله عنه، ذكر الصدق والشجاعة في الحق .. وإذا ذكر عمر بن الخطاب رضي الله عنه، ذكر العدل، والتواضع، والتزام الحق .. وإذا ذكر عثمان رضي الله عنه، ذكر الحياء .. وإذا ذكر علي رضي الله عنه، ذكر العلم والحكمة .. وإذا ذكر خالد رضي الله عنه، ذكرت الشجاعة والإقدام في سبيل الله … إلخ.

كما أن القرآن الكريم حاول إنقاذ المسلم من الوقوع في الأسر الثقافي للتاريخ، وخلصه مما يمكن أن يسمى "الآبائية" أو "المواريث الضالة"، ومنحه المعيار الدقيق للقبول والرد، وأن وجود الفعل التاريخي ووقوعه لا يعني بالضرورة صوابه وصدقه، فلابد من الاختبار للميراث التاريخي، وتحكيم القيم المعصومة في النظر إليه.

لذلك نعى الله سبحانه وتعالى على الذين يعطلون معايير النظر والتقويم، ويقعون أسرى للميراث الثقافي، ويقبلونه بدون نظر، بقوله : (وإذا قيل لهم تعالوا إلى ما أنزل الله وإلى الرسول قالوا حسبنا ما وجدنا عليه آباءنا أو لو كان آباؤهم لا يعلمون شيئا ولا يهتدون) (المائدة : 104).

وهكذا يتحول التاريخ والوعي التاريخي، أو إن شئت فقل : الثقافة التاريخية الخاضعة للنقد والتقويم، إلى مورد من أهم موارد التشكيل الثقافي والتربوي للأجيال.

وهنا قضية قد يكون من الأهمية بمكان معاودة التأكيد عليها، وهي أن التاريخ الإسلامي ليس هو الإسلام، ذلك أن الإسلام هو ما ورد في الكتاب والسنة والسيرة العملية، وإنما هو فعل بشري يجري عليه الخطأ والصواب، وتتعرض الأمة في مسيرتها التاريخية لحالات من السقوط والنهوض، والنصر والهزيمة، والصواب والخطأ، أو هو اجتهاد بشري في تنزيل القيم الإسلامية من الكتاب والسنة على واقع الناس، وهذا الاجتهاد أو التنزيل قد يصيب وقد يخطئ، وصوابه لعصر معين لا يعني بالضرورة صوابه لكل العصور، على تبدلها وتغيرها، ولا عصمة لفعل البشر الذي يشكل التاريخ.

لذلك يمكن القول : بأن التاريخ الإسلامي ليس مصدرا للتشريع، وإن كان مصدرا للعبرة والعظة والمعرفة، واكتشاف السنن، والتعرف على قوانين الحركة التاريخية، للإفادة من التجارب، وتحقيق الوقاية الحضارية، وقد حدد القرآن ذلك بقوله : (فسيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة المكذبين هذا بيان للناس وهدى وموعظة للمتقين) (آل عمران : 137 -138).

إنه الاهتداء إلى قوانين الاجتماع البشري، وأخذ العبرة مما أصاب الأمم السابقة، بما فيهم الأمة المسلمة، من خطأ وصواب، وسقوط ونهوض، وزيادة ونقصان في أقدار التدين، حتى لا تنتقل علل التدين والإصابات الحضارية إلينا، بما يمكن أن نسميه : تحقيق الوقاية الحضارية من السقوط، أو التقوى بالمصطلح القرآني .. وما يلحق الأمة من إصابات لا يتعارض مع الاعتزاز بالتاريخ، والتأكيد على أهمية الثقافة التاريخية في مجال التربية والتشكيل الثقافي، لأن اكتشاف الخطأ لا يقل أهمية في العملية التربوية عن إدراك الصواب، إلى درجة يمكن القول معها : إن التاريخ هو أبو العلوم الاجتماعية والإنسانية والتربوية -كما أسلفنا- لكن الانحياز الأعمى للتاريخ بكل ما فيه، يعطل الإفادة منه، ويحجزه عن عطاء الأجيال، وتربية ملكة النقد والتفكير عندها، وبذلك يتحول التاريخ إلى نموذج لتكريس التلقين، والإبقاء على حالة الركود والاستنقاع الحضاري، والاستمرار في تحكم عقدة الافتخار في الماضي، لتعويض السقوط والتخلف في الحاضر.

ومن هنا نقول : إن التاريخ الإسلامي بهذا الاعتبار الذي أشرنا إليه، غير السيرة النبوية، وإن كانت جزءا منه أو حلقة فيه من الناحية الزمانية، إلا أن السيرة تتميز عنه بأنها معصومة بتأييد الوحي وتسديده، وهي خالدة في عطائها، مجردة عن حدود الزمان والمكان، وهي أنموذج للاقتداء والتلقي، وبذلك فهي مصدر للتشريع أو للفقه العملي التطبيقي، وبهذا تفترق عن التاريخ من بعض الوجوه، ولا أبين في ذلك من قولة الإمام مالك رحمه الله : كل إنسان يؤخذ من كلامه ويرد، ويؤخذ من فعله واجتهاده ويرد، إلا صاحب هذا القبر عليه الصلاة والسلام.

ولعل من الخطورة بمكان أن تجعل السيرة من التاريخ الماضي، وأن يجعل التاريخ في منزلة السيرة، ومع شديد الأسف نجد أن الدراسات التاريخية، حتى في المناهج المدرسية والكتب التربوية، في الأدب واللغة والسياسة، تقوم في معظمها على هذا الاعتبار، فتاريخ صدر الإسلام يعني السيرة والخلافة الراشدة، وبعده التاريخ الأموي أو العصر الأموي، وبعده العصر العباسي وهكذا، دون التمييز بين التاريخ والسيرة، وما تمتاز به هذه الفترة من الخلود والأنموذجية، والفقه الميداني لتنزيل القيم الإسلامية على واقع الناس.

ولعلنا نقول : إن وجود أخطاء واجتهادات متنوعة ومتعددة حتى في مرحلة القدوة، هو من لوازم الطبيعة البشرية، وحتى تتحقق عملية الاقتداء والتعامل مع كل الحالات المتوقعة على الزمن، لأن مجتمع الصحابة الأنموذج والمثال مجتمع بشري، وليس مجتمع ملائكة، ولو كانوا ملائكة مسيرين بلا أخطاء، ما كانوا مؤهلين لإثارة الاقتداء.

لكن الفرق واضح بين فترة السيرة وما تلاها من تاريخ، لأن الخطأ الواقع ناله التصويب من الوحي، فما وقع في هذه الفترة إما صواب أقره الوحي بسكوته عنه، وإما خطأ صوبه لذلك فكل ما وردنا عن هذه الفترة هو صواب إذا توفرت له شروط النقل، وإلا كيف يمكن أن يكون قدوة للناس إذا لم يكن صوابا؟

وهنا قضية تجدر الإشارة إليها : وهي أنه على الرغم مما يقال عن المسلمين بأنهم ماضويون أو تاريخيون، وعلى الرغم من أهمية علم التاريخ في تحقيق الوعي بحركة الأمة ومكوناتها، ودور التاريخ في فهم الحاضر والتحضير للمستقبل، والتبصر بوسائل النهوض والتغيير لواقعها، فإن علم التاريخ بأبعاده المطلوبة لم يأخذ المدى المطلوب من تخصصاتنا ودراساتنا المنهجية .. والذين يدعون منا إدراك فلسفة التاريخ، هم نقلة يملؤون أوعيتهم الذهنية من إنتاج الآخرين، أما باقي المسلمين فهم يقتصرون على قراءة التاريخ الذي يكتب لهم، ويعجزون عن صناعته .. إنهم يقرأون تاريخهم بأبجديات وتقسيمات غيرهم.

وقد تكون المشكلة أن التاريخ في هذه الحالة، بدل أن يكون عامل نهوض وتغيير، يصبح سبيل ركود وتمزيق لنسيج الأمة الثقافي والاجتماعي.

لأن المشكلة تبقى دائما، وخاصة في دراسة التاريخ، بين الذات والموضوع بين الدراسة المنهجية والعصبية المذهبية، أو التركيز على جانب واحد في صناعة التاريخ وقراءته .. فالتاريخ دائما لا يكتب من الخارج، ولا يقرأ من الخارج.

لقد أصبح التوجه صوب التاريخ والتعامل معه كمعطى ثقافي، أو كمورد من أهم موارد التشكيل الثقافي، من الأهمية بمكان، لأنه يعتبر إلى حد بعيد من ضرورات الخصوصية الثقافية، وعلى الأخص في عصر العولمة، ومحاولات طمس الهوية وتذويب الخصوصيات، وفرض ثقافة وتاريخ الغالب باسم التطبيع أو نهاية التاريخ والنزوع إلى العالمية والإنسانية.

فالتاريخ هو ذاكرة الأمة ومخزون تراثها الثقافي، ومناخ عمليات التفكير وتحديد الوجهة، وحامل قسمات شخصيتها الحضارية، وهو من أهم عوامل الارتكاز الثقافي .. وهو مفتاح لكل نهوض أو إصلاح أو تغيير، في صفحاته تقرأ الأمم والشعوب، ويكتشف دليل التعامل معها .. ومن خلال استقرائه تعرف السنن الفاعلة في الحياة، والقوانين التي تحكم الفعل التاريخي، وتحقق العبرة التي تختزل لنا التجربة، وتطوي مسافة الزمان والمكان، وتمد أعمارنا إلى الماضي البعيد، وتوجه أبصارنا إلى أفق المستقبل وعالم الغد المديد، وتمنحنا الحكمة، وتزكي عقولنا، وتنمي معارفنا، وتمنحنا القدرة على الموازنة والمقارنة والفهم والتحليل والتعليل، وتحرضنا على التفكير في أسباب السقوط والنهوض، لذلك اعتبر القرآن التاريخ -كما أسلفنا- مصدرا للمعرفة، ودعا إلى السير في الأرض لاستيعابه، واستنكر الركود والاستنقاع وعدم الاكتشاف الحضاري، فقال : (أولم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم) (الروم : 9).

وحسبنا أن نقول : بأن الكثير من الموحى به، من أنباء الغيب، كان تاريخا، ومع ذلك فالمسلم اليوم يكاد يعيش خارج التاريخ وخارج الحاضر، الأمر الذي سوف يؤدي إلى إخراجه من المستقبل أيضا، لأن تاريخا ينتقى منه ويقرأ ويفسر لنا بأبجديات تصب في تحقيق أهداف أصحابها، يعني أن حاضرنا يصنع من غيرنا، ومستقبلنا -إذا كانت هذه هي مقدماته- فالله أعلم به .. لذلك فالمؤسسات التربوية والثقافية والإعلامية مدعوة جميعا إلى إدراك أهمية التاريخ، وموقعه من تشكيل الأمة الثقافي، والتفكير بكيفية تصويب الحال، وكيفية إحياء هذا الفرض الكفائي أو هذا الفرض الحضاري، بعيدا عن الضجيج والصخب، والخطب والحماس، وضرب الطبول، وارتفاع الأصوات، وسماكة الحناجر، والإثارة التي لا تؤدي إلا إلى الإحباط والحسرة.

وبعد :

فهذا الكتاب الذي نقدمه، يعتبر محاولة على قدر من الأهمية في تبيان دور القرآن في تحقيق النقلة الحضارية والثقافية، وإثارة وعي المسلمين بالبعد التاريخي ودوره في التشكيل الثقافي، وتحقيق العبرة، وإخراج العرب من النظرة الدهرية، وتنمية حسهم بالزمن كوعاء للفعل الحضاري، وما قدمه القرآن من منهج في تفسير التاريخ أو فلسفة التاريخ، وأثر منهج القرآن والحديث في التدوين والتحقيق التاريخي، ومحاولة تقديم مسح لملامح المكتبة التاريخية الإسلامية بتنوعاتها وخصائصها المتعددة، والجهود العلمية المتميزة وخصائصها في هذا المجال.

ذلك أن التاريخ هو وعاء الفعل الحضاري، وميدان تنزيل القيم على الواقع، وذاكرة الأمة ومحل تجربتها وعبرتها، وهو مخزون غني يورثه الآباء للأبناء والأحفاد، ونهر متدفق يتجه من الماضي، ويمر بالحاضر، ويصب بالمستقبل، لذلك لا غنى عنه لكل العاملين في مجال الثقافة والتربية والتعليم والإعلام، ولكل رواد الإصلاح لعالم الغد.

والله المستعان.

============

# المقدمة

قد يكون من المناسب أن نعطي فكرة عن مدلولات هذا المصطلح : (المنظور الحضاري في التدوين التاريخي عند العرب، حتى عصر ابن خلدون) ، كي نتجنب ما يمكن أن نقع فيه من الالتباس خلال معالجتنا لموضوع البحث.

ونود أن نشير في البداية أننا لسنا مبتدعين لهذا المصطلح، فقد أخذ يظهر في الكتابات المعاصرة وبأقلام أكاديميين متخصصين (1).

على أن ذلك لم يكف، فعدنا إلى بعض المعاجم العربية، لعل فيها ما يفيدنا في تحديد مصطلح المنظور، فوجدنا أن (المنظور) كلمة عربية، واشتقاقها من الفعل (نظر) .. و(النظر) و(النظران)، تأمل الشيء بالعين (2) .. ورجل منظور : .. معين .. وسيد منظور : يرجى فضله وترمقه الأبصار (3).

ومن هنا يظهر أن كلمة (منظور) هي كلمة عربية، إلا أن معانيها لا تطابق الاستخدامات التي وظفت لها في الكتابات المعاصرة.

لقد وجدنا أن كلمة المنظور في الإنكليزية، جاءت بمعنى : "مظهر الموضوع كما يتبدى للعقل من زاوية تاريخية معينة. أو هو : القدرة على رؤية الأشياء وفقا لعلاقاتها الصحيحة وأهميتها النسبية "(4) .. والمفهوم الأخير للمنظور كما يبدو، هو الذي أخذت به الكتابات المعاصرة، مما جعلنا نأخذ به في معالجة موضوعنا هذا.

فعندما نقول : منظور المسعودي في كتابه : "مروج الذهب ومعادن الجوهر"، فإننا نقصد بذلك ما رآه المسعودي ضروريا وحيويا من المعلومات التاريخية فدونها على صفحات كتابه.

أما الحضارة، فاشتقاقها في العربية من الفعل (ح ض ر) ، و(الحضر) خلاف البدو، و(الحاضر) ضد (البادي)، و(الحاضرة) ضد (البادية)، وهي المدن والقرى والريف، والبادية ضدها (5).

فالحاضرة هي المدينة أو القرية، وهي نقيض البادية . ويقال : فلان حضري، وفلان بدوي، فالحضارة هي الإقامة في الحضر (6).

على أن الحضارة قد تعدت هذا التخصيص المعجمي الضيق (حضري ضد بدوي)، أو (حاضرة ضد بادية) ، فاتسعت مدلولاتها لدى الباحثين المعاصرين، رغم عدم اتفاقهم على إعطاء تعريف موحد لها، لا في اللغة العربية ولا في اللغات الأوروبية المختلفة (7).

وقد وجدنا أن أقرب هذه التعاريف وأقلها التباسا، ذلك الذي يعتبر الحضارة (هي التقدم الروحي والمادي للأفراد والجماهير على السواء) (8).

وعلى ضوء هذا، يكون المنظور الحضاري للمؤرخ : هو ما يراه جديرا بالتسجيل أو التدوين من المعلومات، التي تتصل بالجوانب الحضارية أو ذات المنحى الحضاري، سواء كانت روحية أو ثقافية أو اجتماعية، أو اقتصادية أو عمرانية.

كذلك فقد وردت مصطلحات : (الحس التاريخي)، و(الوعي التاريخي)، و(الأمة)، في صفحات هذا الكتاب، أرتأينا من المناسب تحديدها وضبطها قدر الإمكان، بما ييسر تقنين مضامينها حينما وردت في مظان البحث.

(فالحس) والحسيس، هو الصوت الخفي . قال تعالى : "لا يسمعون حسيسها" (الأنبياء : 102) ، وأحس الشيء وجد حسه .. وأحس معناه : ظن ووجد (9).

فالحس التاريخي، كما استخدمناه في هذا البحث، هو إحساس جماعة أو أمة بقيمة الزمن، ولو بشكل نسبي، دون أن يترتب على ذلك أية ممارسة متقدمة في مجال المعرفة التاريخية أو التدوين التاريخي المنظم، القائم على ربط الأسباب بمسبباتها، وربط الحوادث في إطار علاقاتها الزمانية والمكانية.

أما الوعي التاريخي : فإن الوعي جاء من الحفظ، (وعى) الحديث يعيه (وعيا) حفظه .. وأذن (واعية) .. "والله أعلم بما يوعون" (الانشقاق : 23) . أي يضمرون في قلوبهم من التكذيب (10).

فالوعي هو الحفظ والإدراك، ولذا فإن الوعي التاريخي حالة متقدمة في مجال المعرفة التاريخية وامتلاك القدرة على ممارسة التدوين التاريخي فالوعي التاريخي هو حالة أكثر تقدما من الحس التاريخي لجماعة أو أمة من الأمم .. ونرى أن الكتابة التاريخية لا تتحقق قبل تحقق الوعي التاريخي عندأمة أو جماعة.

أما الأمة : فهي الجماعة .. والأمة الطريقة والدين .. يقال : فلان لا أمة له، أي لا دين له ولا نحلة .. وقوله تعالى : "كنتم خير أمة أخرجت للناس" (آل عمران : 110) ، يريد أهل أمة، أي كنتم خير أهل دين (11).

فالأمة هي الجماعة، بصفة الإطلاق، تتميز على غيرها من الجماعات .. وفي العصور الإسلامية تميزت على غيرها بدينها، فصارت الأمة في نظر العربي المسلم جميع الناس الذين يعتنقون الإسلام، فكان يرتحل من أقصى الشرق -في نظر العربي- من خراسان إلى العراق ومكة والمدينة، ويتجه إلى مصر والمغرب دون أن يحس بالوحشة والاغتراب .. وقد بقي هذا الشعور عند العرب والمسلمين حتى بعد ضعف الخلافة العباسية وقيام إمارات ودويلات سياسية مختلفة، إذ ظل الشعور بحقيقة الأمة الواحدة يسيطر على كيان العربي المسلم في تلك العصور.

كان اختياري لهذا الموضوع، قد جاء نتيجة لما يحيط بالدراسات التاريخية المعاصرة من توجهات هدفها دراسة الماضي البشري من وجهة نظر حضارية، أو بعبارة أكثر تحديدا دراسة التاريخ، وتفسير حوادثه على أساس حضاري.

لقد بدأ المنظور السياسي في التفسير التاريخي يتنحى عن مكانته إلى حد ما، تاركا المجال مفتوحا للنظرة الحضارية الجديدة وتفاسيرها التي بدت أقرب إلى الحقائق من التفاسير السياسية.

لقد شهد القرن الثامن عشر الميلادي، ميلاد هذه التوجهات الجديدة في أوربا، فقد وجد بعض الدارسين الأوربيين، أن التاريخ الأوربي في العصور الوسطى، لا يعدو أن يكون تواريخ لملوك أوربا وحروبهم ومنازعاتهم وتحالفاتهم ومعاهداتهم.

فلم يكن التاريخ الأوربي، استنادا إلى هذه المعطيات، ليؤرخ للأمة في مسيرتها الثقافية والاجتماعية والعلمية، وإنما أصبح التاريخ وكأنه قد وضع لتغطية أعمال الملوك فحسب، ولا تتعدى مهمته أبعد من ذلك .. وهكذا بدأت بعض الصيحات في أوربا في القرن الثامن عشر، تدعو إلى لفت الانتباه إلى المعطيات الحقيقية التي تستحق من المؤرخ الدراسة والبحث، وهي الجوانب الاجتماعية والثقافية والاقتصادية والفنية، وعدم الاقتصار على دراسة النواحي السياسية .. إذ أن الأخبار السياسية وأخبار الحروب في نظر أصحاب هذا الرأي، لا تفصح عن العقل الإنساني خلال العصور، يقول فولتير :

"ولكني بعد قراءة وصف ما بين ثلاثة آلاف وأربعة آلاف معركة، وبضع مئات من المعاهدات، لم أجد نفسي أكثر حكمة مما كنت قبلها، حيث لم أتعرف إلا على مجرد حوادث لا تستحق عناء المعرفة" (12).

لقد لقيت دعوة فولتير هذه، وهي كتابة التاريخ وفقا للمنهج الحضاري، ترحيبا من قبل بعض المؤرخين الغربيين ك (ماكولي) وغيره، وبدأت الدراسات وفق هذا المنظور تتزايد في الغرب، وبدأ المنظور السياسي يتنحى عن مكانته، التي ظل سيدها في أوربا طيلة العصور الوسطى وحتى القرن الثامن عشر.

على أن ما يصدق على التاريخ الأوربي في العصور الوسطى، لا يصدق على التاريخ العربي الإسلامي في العصور الإسلامية.

فلقد كانت توجهات أغلب المؤرخين العرب المسلمين توجهات حضارية، بمعنى أنها أرخت للأمة في كافة جوانب حياتها الدينية والعلمية والثقافية والاقتصادية والاجتماعية.

فقد أرخ المسلمون في السيرة النبوية الشريفة، فكتبوا عن كل ما يتصل بحياة الرسول صلى الله عليه وسلم بصفته الرسول والنبي وهادي البشرية، وأرخوا للصحابة رضوان الله عليهم، والمحدثين والفقهاء والنحاة والشعراء والأطباء والحكماء (الفلاسفة) والصوفية والأولياء .. وفي كتب الطبقات والتراجم ما يقف دليلا صادقا على ما نقول.

بل إن الصورة التي تظهر بها كتب التواريخ العالمية وكأنها قد عنيت فقط بالجوانب السياسية، لا تمثل كل الحقيقة . إذ نجد الكثير من المعلومات التي تتصل بالجوانب الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والفكرية، قد وجدت مكانها في كتب اليعقوبي، والدينوري، والطبري، والمسعودي، والمقدسي، ومسكويه، وابن الأثير، والذهبي.

كما أن مقدمة ابن خلدون التي كتبها في القرن الثامن الهجري، تعزز رأينا في اهتمام المؤرخين العرب المسلمين المبكر بالجوانب الحضارية.

فلم تكن هذه المقدمة التي جاءت لأول مرة في التاريخ بتفسير حضاري لأحداثه والعوامل الفاعلة فيه، سوى حصيلة ذلك التراث الثقافي الثر للأمة العربية الإسلامية.

لقد أوضح ابن خلدون أنه قرأ ذلك التراث، من خلال ثنائه على كبار المؤرخين العرب المسلمين، كالواقدي، والطبري، والمسعودي، والبكري .. كذلك فإنه أشار إلى الطرطوشي (ت : 450 هـ) ، وكتابه (سراج الملوك)، واعتبره سابقا له في الاقتراب والتحويم حول الموضوع الذي استلهمه ابن خلدون وهو (العمران البشري).

وهكذا فإن ابن خلدون مدين لتراث أمته في ما أبدعه، فمن ذلك التراث تبلورت نظريته في العمران البشري.

وعلى الرغم من هذه الحقيقة، فإنه لم يتصد أحد من المعاصرين لإبراز هذه الرؤية ومعالجتها بشكل شمولي.

============

# الفصل الأول : الوعي التاريخي عند العرب أ - مرحلة ما قبل الإسلام

أ - مرحلة ما قبل الإسلام

وبعيدا عما فصلنا القول فيه في أصل دراستنا (1) من تتبع لوجود وعي تاريخي في كل من وادي الرافدين ووادي النيل والعربية الجنوبية (بلاد اليمن) وتدمر والأنباط والمناذرة، فإن منطقة نجد والحجاز قد تأخر فيهما ميلاد مثل هذا الوعي أو ذاك الحس التاريخي.

وقد يكون السبب في ذلك أن البيئة الصحراوية القاسية لم تساعد على الاستقرار وقيام مجتمع متحضر (في نجد) خاصة، مما طبع النشاط الاقتصادي هنا بطابع الرعي، والحياة الاجتماعية بطابع البداوة والترحال، فأصبح النمط الثقافي السائد في هذه البيئة شفاهيا يقوم على الأيام والأنساب.

إضافة إلى ذلك فإن هنالك اعتقاد بأن غياب وعي تاريخي لدى عرب الشمال، إنما يعود إلى :

- عدم وجود دولة واحدة تضم العرب وتوحدهم قبل الإسلام.

- افتقاد العرب إلى دين عام يوحد توجهاتهم العقائدية، وبالتالي يخلق في نفوسهم أحد أهم أسس الوحدة السياسية، وهو الشيء الذي تحقق لهم بالإسلام فيما بعد.

- إضافة إلى هذا، فإن العربي كان يفتقد وجود تصور واضح للتاريخ، فقد تعامل مع الزمن بجانبيه، البداية والنهاية، من نظرة أحادية، ركزت على الجانب الثاني الذي هو النهاية أو الموت، فهو تعلق بنهاية التاريخ.

وكانت هذه النهاية أو المصير أو الموت، مثار قلق دائم بالنسبة للعربي قبل الإسلام، وقد ظهر مثل هذا القلق في شعر بعض الشعراء قبل الإسلام، يقول طرفة بن العبد (2) :

لعمرك ما أدري وإني لواجل أفي اليوم إقدام المنية أم غد؟

فإن تك خلفي لا يفتها سواديا وإن تك قدامي أجدها بمرصد

وكذلك ما يعبر عنه امرؤ القيس (3)،من حزن عندما تحل المنايا بقوم، فهي لا تفرق بين سيد وأحمق، وبين صغير وكبير :

تلك المنايا فما يبقين من أحد يأخذن حمقا وما يبقين أكياسا

وعلى هذا أصبح الزمان في نظر العربي قبل الإسلام يرمز للفناء، وبمرور الأيام تمضي حياة الناس إلى نهايتها المحتومة.

هذه أبرز عوامل تأخر ظهور وعي تاريخي قبل الإسلام .. فما هو أثر الإسلام في ظهور وعي تاريخي عند العرب المسلمين؟ هذا ما ستجيب عليه الفقرة التالية .

============

# ب- عصر الرسالة

أشرنا سابقا إلى أن مفهوم الزمان في نظر العربي المشرك قبل الإسلام قد تحدد في النهاية، أي نهاية الإنسان التي هي الموت، ولم يحدث أن تعدت هذه النظرة إلى البداية، إلى بداية خلقه ووجوده على سطح هذا الكوكب، وكيف خلق، ومم خلق، وما هي الغاية والهدف من خلقه، بل من وجوده على هذه الأرض؟

لقد كان هناك قصور تام في تصوره ورؤيته للحياة، عندما ألغى البداية وركز على النهاية.

لذا كان لابد من رسالة كونية شاملة تصحح للإنسان مساره ونظرته للكون والحياة، وتعيد له ثقته بنفسه، وتربطه بأمل يجد فيه كل معاني الخلود والسرمدية بعد الموت، بعد أن كان يجد فيه فناء مطلقا، لا حياة أخرى من بعده.

على أن في هذا القول ما يشير لأول وهلة إلى أنه يتناقض مع حقيقة وجود النصرانية واليهودية، وانتشار أتباعهما، وإن كان بشكل محدود، في جزيرة العرب، وهم أصحاب ديانتين سماويتين، تمتلكان رؤية واضحة للكون والوجود، والخليقة، والموت.

ويبدو أن هؤلاء العرب المتنصرين أو المتهودين لم يكونوا على وعي كامل ودقيق بحقائق دينهم، (فقد عرفوا الكنائس والبيع والرهبان والأساقفة والصوامع، ولكنهم ظلوا لا يتعمقون في هذا الدين الجديد، وظلوا يخلطونه بغير قليل من وثنيتهم) (4) ، فيكون بذلك فهمهم للدين فهما سطحيا، يهتم بالمظاهر الدينية أكثر من اهتمامهم بجوهر الدين، ولذا (فهم مسيحيون وثنيون في الوقت نفسه) (5).

أما الأحناف،فهم الذين خالفوا قومهم في عبادة الأصنام والأوثان، وحرموا على أنفسهم في فترة ما قبل الإسلام، الخمر والميسر والأزلام والميتة والذبائح التي تذبح على الأوثان، وراحوا يلتمسون الحقيقة وهي دين إبراهيم عليه السلام (6).

على أن الأحناف كانوا من القلة، بحيث لا يمكن أن ينتظر منهم عمل كبير وواسع، يغير من معتقدات إخوانهم المشركين، الذين يعيش الأحناف بين ظهرانيهم في مكة أو بين القبائل .. هذا من ناحية ومن ناحية أخرى يبدو أن فكرة (دين إبراهيم) لم تكن واضحة في أذهانهم، إذ لم يكن مثل هذا الدين محددا ومعروفا قبل الإسلام، ولذا نجد بعضهم قد تنصر، وبعضهم اعتزل قومه، وبعضهم ظل قلقا، وقد التبست عليه الأمور حتى جاء الإسلام فاعتنقه (7).

وإذا كان من معنى للحنيفية قبل ظهور الإسلام، فإنه يمثل حالة القلق عند بعض العرب، وإن ما هم عليه من شرك أصبح موضع اتهام .. كان العربي قبل ظهور الإسلام يفتقد وجود عقيدة كونية عامة أو دين عام، يربط بين الماضي والحاضر، ويعطي مغزى وغاية للحياة البشرية (8).

إن ظهور الإسلام يعد منعطفا خطيرا في حياة العرب، فقد غير مسار حياتهم وأسس تفكيرهم، واستبدل عقائدهم المنحرفة الضالة بعقيدة واضحة، فكون بذلك القاعدة الفكرية اللازمة لتوحدهم بعد حياة التبعثر والشتات التي كانوا يعيشونها في ظل القبلية، وما فرضته طبيعتها عليهم من مخاصمات وحروب ودماء.

وبقدر تعلق الأمر بالوعي التاريخي، فإن القرآن الكريم قد استفز العقل العربي في المحاور الأربعة التالية، والتي نرى في مجملها أنها كانت المشكاة التي أضاءت الطريق لمسيرة علم التاريخ العربي-الإسلامي :

1- فكرة المصير في القرآن الكريم، وأثرها في الوعي التاريخي.

2- البعد الحضاري في القرآن الكريم فكرة استخلاف الله تعالى للإنسان في الأرض ، وأثره في الوعي التاريخي.

3- أخبار الأمم الماضية في القرآن الكريم، وأثرها في الوعي التاريخي عند العرب المسلمين.

4- فكرة وحدة الرسالات السماوية في القرآن الكريم، وأثرها في الوعي التاريخي عند العرب المسلمين.

إن هذه المحاور الأربعة ستكون مدار حديثنا، لتشخيص ما تنطوي عليه من محفزات الوعي التاريخي عند العرب المسلمين في عصر الرسالة.

أولا : فكرة المصير في القرآن الكريم وأثرها في الوعي التاريخي :

الواقع أن الإسلام من خلال كتابه الكريم القرآن، لم يكن أول من جاء بفكرة المصير، أي نهاية الإنسان، وما سيؤول إليه بعد الموت.

لقد تناولت اليهودية والنصرانية هذه المشكلة، وقدمتا لها حلا يتلخص في أن الإنسان ليس وحيدا في هذا العالم، بل إنه يتمتع بمكانة ممتازة في مجرى التاريخ، فتاريخ الإنسان في منظورهما : "يبدأ ببداية العالم من قبل أن يخلق المرء بأمد طويل" (9) . كما أن هذا التاريخ للإنسان لا ينتهي بالنهاية المحزنة المأسوية التي يطويها العدم والفناء، وإنما تستمر في عالم آخر بعد الموت، حتى تحصى أعمال الإنسان، وكل ما جنت يداه في الحياة الدنيا، دون إغفال لأي منها، صغيرة كانت أو كبيرة (10).

ورغم انتشار اليهودية والنصرانية -المحدود- في الجزيرة العربية، فالظاهر أن فكرة (المصير التي جاء بها القرآن، بدت للمشركين العرب وكأنها فكرة جديدة لم يسمعوا بها من قبل).

كذلك فإن (الدين الإسلامي الذي بشر به الرسول صلى الله عليه وسلم كان يتميز بالوضوح والقدرة على تفهم أسس هذا الوجود بصورة واضحة جدا ومن غير تعسف) (11).

عالج القرآن الكريم مسألة الزمان بشكل واضح لا لبس فيه، فالوجود نوعان : وجود يرتبط بالزمن، فهو وجود متزمن، وهو هنا مخلوقات الله جميعا، ويأتي في مقدمتها الإنسان .. ووجود خارج عن إطار الزمان والمكان، فهو وجود غير مرتبط بزمن، وهو الله سبحانه وتعالى، وهو المطلق.

غير أن هذين الوجودين مرتبطان ارتباطا فلسفيا عميقا، يتجلى بصورة واضحة في العلاقة بين الخالق (اللامتزمن) وبين المخلوق الإنسان (المتزمن) .. وبين المطلق (الله) وبين النسبي (الإنسان) (12).

إن هذه العلاقة كانت الحلقة المفقودة في تصور العرب المشركين، فصار الزمان أو الدهر مصدر شقاء، لأنه يوردهم موارد الفناء والعدم، في حين نجد أن فكرة الزمان في التصور الإسلامي قد استبعدت كل معاني الخوف والألم والشقاء (13).

لقد ألغى القرآن الكريم فكرة العدم والفناء اللتين يمثلهم الموت، وأكد على حياة أخرى تجيء بعد يوم البعث أو القيامة، وسيحاسب الإنسان على جميع ما عمله في حياته الدنيا، فإن كانت أعماله صالحة فاز بالجنة، حيث الخلود والنعيم، وإن كانت أعماله سيئة أدخل النار، حيث العذاب الأليم.

يقول تعالى : "إنا نحن نحي الموتى ونكتب ما قدموا وآثارهم وكل شيء أحصيناه في إمام مبين" (يس : 12).

فالله تعالى يحيي الموتى، فانتفت بذلك فكرة الفناء، وفي حياة الناس في الدنيا قد كتبت جميع أعمالهم وآثارهم، وأحصيت هذه الأعمال من خير وشر في كتاب واضح مبين : "وكل إنسان ألزمناه طائره في عنقه ونخرج له يوم القيامة كتابا يلقاه منشورا اقرأ كتابك كفى بنفسك اليوم عليك حسيبا" (الإسراء : 13 -14).

فكل إنسان يلزمه الله ما قضى له أنه عامله، وهو صائر إليه بعمله من شقاء أو سعادة .. وقد فسر ابن عباس الآية الكريم : "وكل إنسان ألزمناه .." ، قال : عمله وما قدر عليه، وا يخرج له يوم القيامة كتاب عمله فيجده منشورا أمامه (14).

وهكذا لم تعد الأفعال التي قام بها الإنسان في الماضي منسية ضائعة بعد موت الإنسان، وإنما أصبح كل ما جناه في حياته الدنيا مسطرا ومكتوبا، ويكفي تقديم هذا السجل الكامل بأعمال الإنسان ووضعه بين يديه يوم القيامة، ليكون حكما على نفسه، حسيبا عليها.

وبهذا فقد أصبح للماضي قيمة كبيرة في نظر المؤمنين، وهذه القيمة للماضي الزماني، ترتبط في القرآن بفكرة (العبرة) والاتعاظ بأحداثه وتجاربه، تجارب الأمم والشعوب التي مضت، والوقوف والتأمل في ما فعلته في حياتها من خير، فكان سبب تقدمها وفوزها وسعادتها في الدنيا، أو بما ارتكبته من طغيان وتظالم وتقاعس عن فعل الخير فكان فيه هلاكها ودمارها.

والبحث في الماضي، وأخذ العبر والعظات من حوادثه، هو من صميم النظرة التاريخية، ومن هنا جاء الاستدلال على أثر فكرة (المصير) في القرآن الكريم، في تحفيز الوعي التاريخي عند العرب المسلمين، ولكي يعتبر المؤمنون بما حدث للطغاة والظالمين والمنحرفين عن السلوك الإنساني القويم، الذي أراده الله لعباده في الأرض، يقول تعالى : "فأخذه الله نكال الآخرة والأولى إن في ذلك لعبرة لمن يخشى" ( النازعات : 25 -26). جاء في تفسير هذه الآية الكريمة (15) : فعاقبه الله عقوبة الآخرة، وعقوبة الدنيا بإغراقه لفرعون.

وهكذا توثقت مكانة الزمان الماضي في حياة الإنسان، وهذا هو التاريخ بعينه، أوليس التاريخ هو : (السعي لإدراك الماضي البشري وإحيائه)، على حد تعبير أحد المؤرخين المعاصرين؟ (16).

لقد نفى القرآن الكريم نفيا قاطعا أي معنى للعبثية في وجود الإنسان، وهي الفكرة التي كانت سائدة عند عرب ما قبل الإسلام، يقول تعالى : "أفحسبتم أنما خلقناكم عبثا وأنكم إلينا لا ترجعون" (المؤمنون : 115).

بهذا تحدد الزمان في : خلق العالم بوصفه بدايته، وبيوم القيامة بوصفه نهايته، وبين البداية والنهاية تتم كافة الفعاليات التي يقوم بها الإنسان، لذلك أصبحت هذه المرحلة (أي مرحلة الإنسان الدنيا)، مرحلة اختبار دقيق لمحتوى أعماله، بانتظار تقويمها يوم القيامة، فينال بها الخلود والنعيم، (أو تكون سيئة فيدخل بها الجحيم) (17).

إن نظرة العربي المسلم إلى الماضي، كما جاء بها القرآن، وإلى المستقبل الذي امتد إلى ما بعد الموت، قد فتقت ذهنيته للإحاطة بالحركة التاريخية في كافة جوانبها، لأنه العنصر الفعال في هذه الحركة، وهو صانع أحداثها.

فلا غرو أن تصبح فكرة المصير في القرآن، أحد دوافع تبلور ونضوج الوعي التاريخي عند العرب المسلمين، فالذي يفكر بمفهوم التاريخ في هذا اليوم لابد (أنه يتساءل عن البداية والنهاية، عن الزمان، عن الوجدان الإنساني، وكل بحث عن أي من هذه المفاهيم يعتبر مساهمة في توضيح معنى التاريخ)(18).

ثانيا : البعد الحضاري في القرآن الكريم وأثره في الوعي التاريخي :

قص القرآن الكريم قصة خلق آدم، قال تعالى : "ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين" ( المؤمنون : 12) . وقال : "وإذ قال ربك للملائكة إني خالق بشرا من صلصال من حمأ مسنون" (الحجر : 12).

وفي آية أخرى ينص القرآن على الدور المنوط بهذا المخلوق وهو الإنسان، يقول عز وجل : "وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة" (البقرة : 30).

وإذا كان الهدف من هذه الدراسة ليس الخوض في التفاصيل المتعلقة بآدم عليه السلام، إلا بالقدر الذي يمس البحث مسا مباشرا، فإننا نقول إن الله تعالى كرم آدم لما أودع فيه من قدرات جعلته يرتقي فوق مصاف الملائكة، لذلك أمرهم بالسجود له، مما أثار حفيظة إبليس وحسده، فصار يمثل الشر، كما صار العدو اللدود لآدم عليه السلام وذريته حتى قيام الساعة.

لقد خلق الله تعالى مع آدم كافة المقومات العقلية والبدنية، التي تؤهله لأداء فكرة استخلاف الله له على الأرض.

وفكرة الاستخلاف هذه تقوم على دعامتين، هما الإيمان بالله والعمل الصالح، ونبذ وتجنب كل ما هو من شأنه الإفساد في الأرض (19) ، يقول تعالى : "وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم" ( النور : 55).

ولا شك أن العمل المخلص الصائب الجاد البعيد عن الهوى، والنشاط والتفاني اللذين يظهرهما الإنسان في أداء عمله، والإبداع الذي يسعى إلى تحقيقه بما فتق الله له ذهنه وعقله من طاقات وقدرات كبيرة قادرة على تسخير الأنهار لخدمته، والنار لحاجته، والأرض لزرعه ومسكنه، هي التي وضعت لبنات الحضارة الأولى التي بناها الإنسان.

ولكي لا تنهار هذه الحضارة بالفساد، الذي يسببه الظلم والطغيان، ظلم الناس وطغيانهم بعضهم على بعض، فإن الالتزام بمقتضيات الإيمان بالله فيما أمر ونهى، يعد العامل الأساس الثاني في ديمومة الحضارة واستمرارها.

لقد احتفظ القرآن الكريم (للعمل) بمكانة بارزة، وقرن دائما بينه وبين الإيمان بالله : "والعصر إن الإنسان لفي خسر إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر" (سورة العصر). فمما لا جدال فيه أنه بدون العمل الصالح المثابر الجاد لا يمكن أن يقوم عمران بشري أو حضارة، ولهذا ترد لفظة العمل في القرآن ثلاثمائة وخمسين مرة، مؤكدة سلبا أو إيجابا على أن العمل هو المحور الذي يقوم عليه الوجود البشري (20).

والآيات التي قرن الله تعالى فيها بين الإيمان والعمل كثيرة، منها : "لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم ثم رددناه أسفل سافلين إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات" (التين : 4 -5) ، "ومن أحسن قولا ممن دعا إلى الله وعمل صالحا" (فصلت : 33).

فالإيمان والعمل الصالح هما اللذان يبدعان الحضارة، وبهما تتحقق سعادة الإنسان على الأرض، وكلما أبدى الإنسان ضربا جديدا من الهمة والنشاط والإبداع، كلما ارتقى مدرجا جديدا من مدارج الحضارة التي يصنعها لنفسه ولبني جنسه من البشر والإيمان بالله ، وتلقي هدايته عن طريق رسله وأنبيائه، هو الكابح الذي ينظم المسيرة الحضارية، ويحفظ لها التوازن من الطيش والتعالي والتظالم والطغيان، مما يجعل حياة الجماعة البشرية أكثر سعادة ورخاء وأمنا.

إن الله تعالى عندما استخلف الإنسان في الأرض وأمره بإعمارها بحثه على العمل الصالح النافع له ولبني جنسه، أراد بذلك استمرار المسيرة البشرية نحو الخير والصلاح، كي ينعم المجتمع البشري بالرخاء والاطمئنان، ولذلك فإن القرآن الكريم يعتبر الأرض من نعم الله التي أنعم بها على المجتمع البشري : "ولقد مكناكم في الأرض وجعلنا لكم فيها معايش قليلا ما تشكرون" (الأعراف : 10) ، "وهو الذي مد الأرض وجعل فيها رواسي وأنهارا ومن كل الثمرات جعل فيها زوجين اثنين يغشي الليل النهار إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون" (الرعد : 3 ) ، "أولم يروا إلى الأرض كم أنبتنا فيها من كل زوج كريم" (الشعراء : 7).

وكثير من آيات القرآن الكريم الأخرى، تتحدث عما في الأرض من خير : الماء، والنبات، والحيوان، والمعادن، وكل هذه وضعت تحت تصرف الإنسان، وحث على استغلالها والتنعم بها، لتحقيق الكفاية في راحته وسعادته وضمان مستقبله .. بمعنى وجود كل المقومات والعناصر، التي تدخل وتساعد في البناء الحضاري للإنسان، قد يسرها الله تعالى على الأرض، فما على الإنسان إلا أن يجد ويسعى لصنع حضارته وبناء مستقبله، وتواصل جهوده بجهود الأجيال اللاحقة، لذلك فإن القرآن الكريم يحتفظ للأرض بمكانة كبيرة كونها مستقر الإنسان، ومصدر جميع عناصر الحياة التي تضمن بقاءه، كما تضمن تواصله مع الكون، على خلاف ما جاء في العهد القديم عنها، فنراه يلعن الأرض لعصيان آدم وهبوطه عليها وهو مثقل بالخطيئة (21).

وطبقا لفكرة وحدة الرسالات السماوية التي جاء الإسلام خاتما لها، فإن الآيات الكريمة في القرآن الكريم التي تتحدث عن الأرض وعن ما أودع الله فيها من ماء ونبات وحيوان ومعادن كي تصبح حياة الإنسان على ظهرها ليست ممكنة فحسب، وإنما مزدهرة ومتطورة متقدمة إن هو أحسن استغلالها، واستخدم تلك الطاقة الجبارة، التي أودعها الله فيه وهي عقله، وأطرافه وجسده، اللذان انطويا على قدرات هائلة لمواجهة متطلبات البناء والتعمير والتصنيع، التي بتلاقيها مع الإيمان بالله والتلقي للهداية عنه، تتحقق فكرة استخلاف الإنسان على الأرض وفق النواميس والسنن التي أرادها الله تعالى، كي ينعم المجتمع البشري بنعمة التقدم والسلام، اللذين أرادهما الله لبني البشر، أقول : فإنه وفقا لهذه الفكرة، فإن آيات القرآن كانت تتضمن لفت نظر الإنسان، ومنذ بدء الرسالات السماوية، إلى التفكر والتمعن فيما خلق الله من نعم على الأرض وفيها، وما أنزل الله من السماء من ماء فأخرج به من نبات الأرض، ما يكفل للإنسان بناء حضارته . قال تعالى : "والأرض مددناها وألقينا فيها رواسي وأنبتنا فيها من كل شيء موزون وجعلنا لكم فيها معايش ومن لستم له برازقين" (الحجر : 19 -20) ، ومعايش الإنسان في الأرض متنوعة ومتعددة، منها النبات والحيوان، ومنها المعادن بمختلف أشكالها للسلاح والآلة والزينة، قال تعالى : "أولم يروا إلى الأرض كم أنبتنا فيها من كل زوج كريم" ( الشعراء : 7) ، وقال جل شأنه : "وفي الأرض قطع متجاورات وجنات من أعناب وزرع ونخيل صنوان وغير صنوان يسقى بماء واحد ونفضل بعضها على بعض في الأكل" ( الرعد : 4) . وقال تعالى : "والأنعام خلقها لكم فيها دفء ومنافع ومنها تأكلون" ( النحل : 5) ، وقال : "وإن لكم في الأنعام لعبرة نسقيكم مما في بطونه من بين فرث ودم لبنا خالصا سائغا للشاربين" ( النحل : 66). وجعل من بعض هذه الأنعام وسائل للنقل بين الجماعات وتيسير الحاجات، عن طريق التجارة وبواسطة السفن التي يسر الله صنعها للإنسان، قال تعالى : "وجعل لكم الأنعام لتركبوا منها ومنها تأكلون ولكم فيها منافع ولتبلغوا عليها حاجة في صدوركم وعليها وعلى الفلك تحملون" (غافر : 79 -80) ، وقال : "وهو الذي سخر البحر لتأكلوا منه لحما طريا وتستخرجوا منه حلية حلية تلبسونها، وترى الفلك مواخر فيه ولتبتغوا من فضله ولعلكم تشكرون" (النحل : 14).

والقرآن يوجه أنظار الناس إلى ما خلق الله لهم من نعم وخيرات على سبيل المنة، أي على الناس أن يشكروا الله على نعمه التي أنعم بها عليهم .. وشكر الناس يكون بطاعته فيما أمر، والانتهاء عما نهى عنه، وهي جميعا وراء كل خير للمجتمع البشري، وتحقيق كل تقدم وتطور حضاري في الحياة الإنسانية، لذلك فإن القرآن يهاجم كل فعل أو قول من شأنه أن يؤدي إلى الفساد في الأرض، لأن هذا الفساد يعني هدم جميع المنجزات الحضارية التي شيدتها جماعة أو مجتمع ما أو البشرية جميعا (22) ، فترى القرآن يعيب أولئك الذين إن تولوا في الأرض سعوا إلى تدمير كل ما ينفع الإنسان أو المجتمع : "وإذا تولى سعى في الأرض ليفسد فيها ويهلك الحرث والنسل والله لا يحب الفساد" (البقرة : 205).

لذا فإن القرآن يسعى إلى حماية المنجزات الحضارية التي بناها الإنسان، ومنع العبث بها وتخريبها، بل إنه رفض أية محاولة من شأنها إعاقة المسيرة الحضارية للبشرية بجانبيها المادي والأخلاقي أو الروحي، لأن سلامة الجانب الأخلاقي وتنامي الجوانب الروحية في أية حضارة، هو الذي يضمن استمرار الحضارة وتقدمها في جوانبها المادية فعندما تضيع الأمانة والصدق في حضارة ما، وينعدم الإخلاص في العمل، وينتشر الغش، ويتسلط الولاة وأولي الأمر على الرعية، فإن ذلك يعد إيذانا بانهيار تلك الحضارة، لأن الفساد الخلقي والروحي من شأنهما حرمان الحضارة من نصف عناصر قوتها التي تضمن لها الحيوية والانتشار.

إن المجتمع البشري مأمور بعمران الأرض، وإقامة قواعد العدل والحق عليها، وليس له أن يتهاون في أداء هذا الجانب (23). وفي كل ذلك فإن البشرية محروسة بالعناية الإلهية، ومحمية بها، طالما ظلت أمينة على رسالتها في تحقيق العدل والسلام فيما بين أفرادها : "قل من يكلؤكم بالليل والنهار من الرحمن بل هم عن ذكر ربهم معرضون" (الأنبياء : 42) ، "كلوا من طيبات ما رزقناكم ولا تطغوا فيه فيحل عليكم غضبي ومن يحلل عليه غضبي فقد هوى" (طه : 81) ، "الذي جعل لكم الأرض مهدا وسلك لكم فيها سبلا وأنزل من السماء ماء فأخرجنا به أزواجا من نبات شتى كلوا وارعوا أنعاكم إن في ذلك لآيات لأولي النهى" (طه : 53-54) .

إن أصحاب العقول النيرة الواعية، هم أكثر الناس إدراكا لعظمة الله ، كما أنهم الأكثر قربا منه، والأكثر حرصا على استمرار وتنامي المسيرة الحضارية لقد لفت الله تعالى أنظار البشر لأعمال وآثار السالفين منهم، في دعوة منه للتأمل فيما ترك هؤلاء من مساكن وعمران، بمعنى تأمل فعل أولئك الأقوام على الأرض، أي تاريخهم، بقصد الاعتبار وتحقيق الكمال في بناء حياتهم الروحية والأخلاقية والاجتماعية والحضارية (24) ، لذلك أصبح التاريخ في القرآن الكريم مصدرا للعظة والعبرة التي يجب أن يتلمسها الإنسان في أخبار الأمم الماضية في تدبر وإمعان (25). يقول الله تعالى : " فكأين من قرية أهلكناها وهي ظالمة فهي خاوية على عروشها وبئر معطلة وقصر مشيد أفلم يسيروا في الأرض فتكون لهم قلوب يعقلون بها أو آذان يسمعون بها فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور" ( الحج45 -46).

ودعوة القرآن الكريم إلى التأمل والتفكر في آثار الأمم والحضارات، هي دعوة للمؤمنين بتجنب المصير ذاته، فإنه يضع سننا وقواعد في الحياة، بمراعاتها تستمر الحضارات وتزدهر المجتمعات، ويعيش الناس في أمن ودعة وسلام.

أما الانحراف والعزوف عنها وإهمالها أو تجاهلها، فسيؤدي إلى كارثة تحل بتلك الحضارات لا محالة.

ثالثا : أخبار الأمم الماضية في القرآن الكريم، وأثرها في الوعي التاريخي عند العرب المسلمين:

قص القرآن الكريم أخبار بعض الأمم التي سبقت الإسلام، فذكر قوم نوح وعاد وثمود ومدين، وقوم إبراهيم وموسى وعيسى ويونس، عليهم السلام، إضافة إلى إشارات مقتضبة عن (سبأ) وذي القرنين.

قال تعالى : "إنا أرسلنا نوحا إلى قومه أن أنذر قومك من قبل أن يأتيهم عذاب أليم" (نوح : 1) وقال عز وجل مخبرا عن إبراهيم عليه السلام وقومه : "واتل عليهم نبأ إبراهيم إذ قال لأبيه وقومه ما تعبدون قالوا نعبد أصناما فنظل لها عاكفين" (الشعراء :70 -71 ).

وعن موسى عليه السلام يقول تعالى : "ثم بعثنا من بعدهم موسى وهارون إلى فرعون وملأه بأياتنا فاستكبروا وكانوا قوما مجرمين" (يونس : 75) . ثم قص خبر قوم هود عليه السلام (وهم عاد) فقال تعالى : "وإلى عاد أخاهم هودا قال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره إن أنتم إلا مفترون" (هود50). وكذلك في خبر ثمود وهم قوم صالح، يقول سبحانه وتعالى :"وإلى ثمود أخاهم صالحا قال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره هو أنشأكم من الأرض واستعمركم فيها فاستغفروه ثم توبوا إليه إن ربي قريب مجيب" (هود : 61).

لقد لفت الله عز وجل أنظار البشر لأعمال وآثار الماضين منهم، بهدف التأمل والاتعاظ بما حل بتلك الأقوام من كوارث أصابتهم، وما نزل عليهم من العذاب، بسبب جحودهم وإعراضهم عن الإيمان بدعوات رسلهم الذين بعثوا فيهم، يدعونهم إلى توحيد الله ، ويمنعونهم من التظالم والتنازع، ويحثونهم على الصدق والأمانة والإخلاص في العمل، والإحسان إلى المستضعفين والفقراء.

إن هذا الحشد من القصص عن الأنبياء وأممهم في القرآن الكريم، جاء بهدف العظة والعبرة، التي يجب أن يتلمسها الإنسان في أخبار الأمم الماضية، وأن يتدبر ويتمعن في نتائجها (26) ، ولم تكن الغاية منها (المعرفة التاريخية بذاتها).. ولكنها من ناحية أخرى، حفزت الوعي التاريخي عند المسلمين، فلابد وأن أثارت هذه القصص في أذهان الصحابة أسئلة متعددة : من هم أصحاب النبي نوح أو إبراهيم أو موسى .. ؟ أين عاشوا؟ ومتى وجدوا؟ ومتى جاءهم الدمار؟.

إن هذه الأسئلة، نجد نماذج منها وجهت إلى بعض الصحابة، فقد استفسر أحد الصحابة عن موسى والرجل الصالح الذي قص القرآن قصته أهو النبي موسى أم موسى آخر غير النبي صاحب فرعون؟ فجاء الجواب من عبد الله بن عباس حيث روى عن أبي بن كعب حديثا عن الرسول صلى الله عليه وسلم ، جاء فيه أن المقصود بصاحب الرجل الصالح هو النبي موسى عليه السلام (27).

وعن أبي بكر بن عبد الله ، عن شهر بن حوشب، عن عمرو ابن خارجة، قال : قلنا له : حدثنا حديث ثم ود قال أحدثكم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ثمود : "كانت ثمود قوم صالح، عمرهم الله عز وجل في الدنيا .. فلما رأوا ذلك اتخذوا من الجبال بيوتا فارهين، فنحتوها وجابوها وجوفوها"(28).

وهذا يعني أن ورود أسماء مثل هذه الأمم في القرآن الكريم، كان مما يشغل الصحابة رضوان الله عليهم، ويدفعهم للسؤال عما ورد في القرآن بصددهم .. يسألون الرسول صلى الله عليه وسلم ويسأل بعضهم بعضا، ويسألون أهل الكتاب لعل في كتبهم الأولى خبر تلك الأقوام.

وفي غزوة تبوك (8 هـ) ، نزل الرسول صلى الله عليه وسلم الحجر فقال : "أيها الناس لا تسألوا نبيكم الآيات، هؤلاء قوم صالح سألوا نبيهم أن يبعث لهم آية، فبعث الله تعالى ذكره لهم الناقة آية .. "(29).

وخبر بلقيس وقصتها تأتي عن وهب بن منبه، قال : "لما رجعت الرسل إلى بلقيس بما قال سليمان، قالت : قد والله عرفت ما هذا بملك، وما لنا به من طاقة …" (30).

وعن أبي ذر الغفاري رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" أول أنبياء بني إسرائيل موسى وآخرهم عيسى"، قال : قلت يا رسول الله ! ما كان في صحف موسى؟ قال :" كانت عبرا كلها : عجبت لمن أيقن بالنار ثم يضحك، عجبت لمن أيقن بالموت ثم يفرح، عجبت لمن أيقن بالحساب غدا ثم لا يعمل" (31).

إن الآيات الكريمة التي أوردناها، والتي كانت مثار تساؤل المسلمين، وبعض النماذج التي أتينا بها أجوبة عن أسئلة، أو توضيحا لبعض الإشارات القرآنية، إنما تظهر أثر القرآن الكريم في تحفيز الوعي التاريخي وتنشيطه، وهو مما لا غنى عنه في أي عمل يتجه صوب التأليف التاريخي، وعليه فهذا يأتي في صميم النظرة التاريخية.

رابعا : وحدة الرسالات السماوية كما جاءت في القرآن الكريم، وأثرها في الوعي التاريخي :

الإسلام هو خاتم الأديان السماوية، ونبيه محمد صلى الله عليه وسلم هو خاتم الأنبياء والمرسلين، قال تعالى : "ما كان محمد أبا أحد من رجالكم ولكن رسول الله وخاتم النبيين وكان الله بكل شيء عليما" (الأحزاب :40) ، فلا نبي من بعد محمد صلى الله عليه وسلم.

ولكن ما هو موقف الإسلام من الأديان السماوية التي ظهرت قلبه؟ وما هي صلة الإسلام بها؟ هل يرتبط الإسلام بهذه الأديان من قريب أو بعيد؟ والجواب على هذه الأسئلة جميعا نجده في القرآن الكريم، وهو كلام الله المنزل على رسوله محمد صلى الله عليه وسلم ، يقول الله تبارك وتعالى في كتابه المجيد : "آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه والمؤمنون كل آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله لا نفرق بين أحد من رسله وقالوا سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير" (البقرة : 285).

فالرسول صلى الله عليه وسلم والمؤمنون كلهم، قد آمن بالله والملائكة والرسل والأنبياء السابقين، لا فرق بين أحد من رسل الله وأنبيائه، ومن هنا فإن كل دعوات الأنبياء السابقين، في أصل تنزيلها صحيحة، وتحمل نفس القداسة بالنسبة للمسلم، لأنها جميعا جاءت من عند لله تبارك وتعالى.

بل إن القرآن الكريم أشار إلى العمق التاريخي لرسالة الإسلام، التي جاء بها الرسول صلى الله عليه وسلم من عند ربه، وأنها امتداد لرسالات إبراهيم وموسى وعيسى عليهم السلام، وبقية الأنبياء، قال تعالى :"ملة أبيكم إبراهيم هو سماكم المسلمين من قبل وفي هذا ليكون الرسول شهيدا عليكم وتكونوا شهداء على الناس" (الحج : 78). وقال تعالى : "قل آمنا بالله وما أنزل علينا وما أنزل على إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط وما أوتي موسى وعيسى والنبيون من ربهم لا نفرق بين أحد منهم ونحن له مسلمون" (آل عمران : 48).

وهكذا يكون الإيمان والتصديق برسالات الأنبياء والرسل السابقين، من قواعد الإيمان في الإسلام، والتي لا يمكن اكتمال إيمان المسلم إذا جحدها أو تنكر لها.

ويبدو أن كلمة الإسلام ومسلم، وإن صارتا اليوم علما على أمة محمد صلى الله عليه وسلم ، إلا أنهما تعنيان الخضوع والاستسلام لله تبارك وتعالى، لأن أسلم تعني : أسلم أمره إلى الله ، و"أسلم" من الإسلام (32). وبهذا المعنى وردتا في القرآن الكريم على لسان إبراهيم عليه السلام، قال تعالى : "ومن يرغب عن ملة إبراهيم إلا من سفه نفسه ولقد اصطفيناه في الدنيا وهو في الآخرة من الصالحين إذ قال له ربه أسلم قال أسلمت لرب العالمين ووصى بها إبراهيم بنيه ويعقوب يا بني إن الله اصطفى لكم الدين فلا تموتن إلا وأنتم مسلمون" (البقرة :130 -132).

وعندما سأل يعقوب عليه السلام وهو على فراش الموت أبناءه ماذا سيعبدون من بعده أجابوا، كما جاء بقوله تعالى : "نعبد إلهك وإله آبائك إبراهيم وإسماعيل وإسحاق إلها واحدا ونحن له مسلمون" (البقرة : 133).

والمعاني التي يمكن استخلاصها من تلك الآيات الكريمة، أن جميع الرسالات السماوية هي واحدة ومتوحدة فيما دعت إليه من توحيد الله تعالى وتنزيهه.

فالعقيدة واحدة عند جميع الأنبياء والمرسلين، وهي الإيمان بالله تعالى إلها واحدا لا شريك له، أما التباين بين أولئك الأنبياء عليهم السلام فيكمن في الشرائع التي جاءوا بها من عند الله ، تبعا للظروف الزمانية والأحوال الاجتماعية والاقتصادية للجماعات أو الأمم التي بعثوا لهدايتها، ولذا فإن باحثا معاصرا يرى : "أنه لا توجد أديان سماوية متعددة، وإنما توجد شرائع سماوية متعددة نسخ اللاحق منها السابق، إلى أن استقرت الشريعة السماوية الأخيرة، التي قضت حكمة الله أن يكون مبلغها هو خاتم الأنبياء والرسل أجمعين" (33).

لقد كانت دعوة الإسلام خاتمة ومتممة لكافة الشرائع السماوية السابقة، وقد عبر الرسول صلى الله عليه وسلم عن هذه الصلة بين دعوته وبين دعوات إخوانه الأنبياء والرسل السابقين في الحديث التالي : قال عليه الصلاة والسلام : "إن مثلي ومثل الأنبياء من قبلي، كمثل رجل بنى بيتا فأحسنه وأجمله إلا موضع لبنة من زاوية، فجعل الناس يطوفون به ويعجبون له ويقولون هلا وضعت هذه اللبنة؟ قال فأنا اللبنة وأنا خاتم النبيين" (34).

ونعود الآن لنرى أثر فكرة (وحدة الرسالات)، التي جاء بها القرآن الكريم على الوعي التاريخي عند العرب المسلمين.

لقد كان لفكرة (وحدة الرسالات) أثر واضح وبين في الوعي التاريخي عند العرب المسلمين، فلقد جاء القرآن الكريم بنظرة عالمية إلى التاريخ، وقد تمثلت هذه النظرة في توالي النبوات، التي هي في أساسها تعد رسالة واحدة بشر بها أنبياء عديدون، كان الرسول صلى الله عليه وسلم خاتم هؤلاء الأنبياء والمرسلين .. ومن هنا، أي من العقيدة الإسلامية، بدأ الاهتمام والعناية بالتاريخ، وأعني (تاريخ الأنبياء والمرسلين).

وكان المسلمون في عصر الرسالة، على وعي تام بوحدة الرسالات السماوية، فعن مجاهد قال : سألت ابن عباس من أين سجدت؟ فقال أوما تقرأ : (ومن ذريته داود وسليمان أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده)، فكان داود ممن أمر نبيكم صلى الله عليه وسلم أن يقتدي به، فسجدها رسول الله صلى الله عليه وسلم (35).

كما أن صوم الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه يوم عاشوراء، بعد قدومه إلى المدينة، وكان اليهود يصومون عاشوراء لأنه يوم نجى الله فيه موسى عليه السلام وأغرق فرعون، فأمر الرسول صلى الله عليه وسلم بصيامه، وقال : "أنا أولى بموسى منهم، فصامه وأمر بصيامه"(36) .. كل ذلك فيه ما فيه من الدلائل على وعي المسلمين بفكرة وحدة الرسالات، أو بفكرة النظرة العالمية إلى التاريخ التي جاءهم بها القرآن.

كما أعطى الرسول صلى الله عليه وسلم لهذه الفكرة -أي وحدة الرسالات- امتداداتها التي تنتهي بالمسلمين، الذين يتبعون سنن من سبقوهم من أهل الأديان السابقة، فعن أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : "لتتبعن سنن من كان قبلكم شبرا بشبر، وذراعا بذراع، حتى لو دخلوا جحر ضب تبعتموهم، فقلنا : يا رسول الله ! اليهود والنصارى؟ فقال : فمن؟" (37).

إن هذه الفكرة قد دفعت المسلمين إلى سؤال أهل الكتاب عن بعض ما جاء في القرآن الكريم عن أديانهم وأنبيائهم، طالما اعترف القرآن بهذه الأديان وبأنبيائها عليهم السلام (38).

وقد تبلور هذا الوعي في مرحلة التدوين بدخول ما عرف بالإسرائيليات في التاريخ العربي الإسلامي.

فقد التفت المؤرخون المسلمون أو بعضهم إلى هذا التراث، وخاصة ما يتعلق بالخليقة، السموات والأرض، وآدم، ونوح وأبنائه، والطوفان وغير ذلك، فنقلوا عن الإسرائيليات (39).

ونجد من المنقول عن الإسرائيليات شيئا غير قليل في كتب اليعقوبي والدينوري والطبري وغيرهم، وخاصة في مواضيع (بدء الخليقة)، وآدم، ونوح والطوفان، وأبناء نوح الذين ينتسب إليهم العالم آنذاك.

وهكذا تبلورت النظرة العالمية التي جاء بها القرآن الكريم إلى تواريخ عالمية لم تقتصر في مادتها على التاريخ الإسلامي، وإنما تناولت أنبياء وأمما عديدة، كبني إسرائيل والفرس والروم، ثم السودان والصين وغيرهم من الأمم، مما يعكس فاعلية النظرة القرآنية وعمقها في الوعي التاريخي في عصر الرسالة من خلال فكرة وحدة الرسالات التي جاء بها القرآن الكريم.

وفي الختام، فإن عصر الرسالة كان فاتحة وعي تاريخي واضح المعالم، كان أحد عوامل تلك الاندفاعة الكبيرة في مجال التأليف التاريخي في القرون الثلاثة اللاحقة من الهجرة.

وكان القرآن الكريم هو الملهم لهذا الوعي في نفوس العرب المسلمين:

1- فمن خلال فكرة المصير أو النهاية، أعطى للماضي قيمة كبيرة لدى الإنسان، وذلك لما يترتب على هذا الماضي من مسؤولية الإنسان عما يفعله في الحياة الدنيا، ثم التقاط العبر مما حدث في الماضي البشري، وهما يقعان في صميم النظرة التاريخية.

2- ومن خلال قصة خلق آدم عليه السلام، التي بدأ بها الصراع بين الخير والشر .. الشر الذي تمثل في الدور الذي يقوم به إبليس، ابتداء برفضه السجود له، ثم بإغوائه في معصية ربه وإخراجه من الجنة، ثم بتعهده بمواصلة العمل من أجل تخريب وهدم كل ما بناه الإنسان وأنجزه من عمران، بمعنى تخريب حضارة الإنسان، والحيلولة بين الإنسان وبين فعل الخير، والسعي لإثارة الفتن والحروب بين الجماعة البشرية.

إن فكرة الصراع بين الخير والشر، التي ركز عليها القرآن الكريم، تعد إحدى محفزات الوعي التاريخي، لأنها تمتد في عمق التاريخ البشري، كما أنها تظل معاصرة للإنسان.

3- كذلك فإن ما يعرضه القرآن عن مصير بعض الأمم والأقوام، التي أسميناها (بالحضارات)، من نمو أو انهيار، فإنه يضع أسس نمو الحضارة، متمثلة بالإيمان بالله ثم العمل الصالح الجاد المخلص الذي يبذله الإنسان من أجل تحقيق الرقي والتقدم في حياته.

وبقدر ما يبقى الإنسان أمينا على هذين المبدأين، فإن إنجازاته الحضارية تبقى في تصاعد دائم، ومن جهة أخرى فإن إهماله أو تجاهله لأحد هذين المبدأين، سيكون إيذانا بتراجع يحصل لكافة إنجازاته الحضارية، حتى تذوى وتنهار ثم تزول.

وبقدر تعلق الأمر بالوعي التاريخي، فإن ما ذكره القرآن عن مصير بعض الأقوام وعوامل انهيارها، كان مدعاة للنابهين من العرب المسلمين في التساؤل عن هذه الأقوام : مكانها، وزمانها، وأحوالها، وأخيرا سبب انتكاساتها وانهيار إنجازاتها .. ولا يخفى أثر مثل هذه التساؤلات على الوعي التاريخي.

4- وأخيرا فإن (وحدة الرسالات السماوية) التي جاء بها القرآن الكريم، كانت قد لفتت أنظار العرب المسلمين لمعرفة تواريخ الأنبياء السابقين، والأقوام والأمم التي بعثوا إليها، باعتبار تواريخهم تمثل العمق التاريخي لرسالة الإسلام .. وأفرز هذا الاهتمام بعينه النظرة العالمية في التاريخ الإسلامي .. هذه النظرة، وضعت دعائمها في القرآن الكريم.

=============

# الفصل الثاني : نشأة التدوين التاريخي والمنظور الحضاري

ذكرنا في الفصل الأول أن هناك شيئا من الوعي والإحساس التاريخيين عند العرب في الجزيرة العربية وأطرافها في الشام والعراق، غير أنهما لم يكونا من النضج والوضوح بحيث يتمخض عنهما نتاج كبير في التأليف والتدوين التاريخيين.

كانت أكثر مظاهر هذا الوعي بادية للعيان في نجد والحجاز، وقد تمثلت في اتجاهين، هما (الأيام) و(الأنساب).

فبينما يكون (النسب) المحور الذي تقوم عليه القبيلة، كوحدة اجتماعية سياسية في نجد والحجاز، كانت (الأيام) التي فرضتها طبيعة الحياة العربية القبلية قبل الإسلام، الوعاء الذي تحفظ فيه القبيلة ذكريات غزواتها وملاحمها مع القبائل الأخرى، وتأتي المفاخرة والمباهاة بأبطالها وشجعانها، الذين قاتلوا ببسالة في الذود عن حمى القبيلة، لتضيف إلى القبيلة مجدا وعزا هي أحوج ما تكون إليه وسط بيئة لا يعيش فيها إلا الأقوياء.

لذا فقد جاءت (الأيام) و(الأنساب) استجابة حضارية فرضتهما طبيعة الحياة العربية، المتوثبة، والمتحفزة دوما لمواجهة التحدي الذي هو أحد إفرازات البيئة الصحراوية القاسية، فلا غرو أن أصبحت القبائل تولي أيامها وأنسابها منتهى الاهتمام، فتغرس في أطفالها ويافعيها، في مجالس السمر القبلية، حب هذا الإرث، والإخلاص له، والمحافظة عليه، وإضافة أمجاد جديدة عليه حين يشبوا.

وقد أفاد من هذا التراث بعد الإسلام، الكتاب المسلمون، واستمدوا الكثير من معلوماتهم عن حياة العرب قبل الإسلام، وخاصة تلك التي تتعلق بنجد والحجاز.

على أن ظهور الإسلام شغل العرب في بداية الدعوة الإسلامية وعصر الراشدين عن كل ما سواه، عن الأيام والأنساب، وأخبار اليهود والنصارى، والفرس والروم، والأحباش وأخبار ملوك اليمن فلما انتشر الإسلام على الشرك في الجزيرة العربية، وظللتها رايته، وأصبحت كل أرجائها تخضع لحكومته في المدينة، بدأ المسلمون عملية إعادة النظر فيما تضمنه القرآن الكريم من قصص لأنبياء ورسل، وأمم وشعوب وقبائل، وما أصاب المكذبين منهم من دمار وفناء، وما لاقى الصالحون من فلاح ونجاح.

إن هذه القصص جاءت في القرآن الكريم بقصد العبرة والاتعاظ، وقد حفز هذا المسلمين على التساؤل عن تلك الأمم ومواطنها وأزمانها وصلتها ببعضها أو بالعرب .. ولأن أكثرها كانت من العرب كعاد وثمود، وأصحاب شعيب .. إلخ، فقد كان القرآن المحفز لدراسة التاريخ العربي القديم، إلى جانب التاريخ العام، في حين كان الحديث النبوي الشريف المحفز للاهتمام بجمع وتدوين التاريخ الإسلامي.

ولأن رسالة ا إسلام كانت امتدادا تاريخيا لرسالات سابقة، نوح وإبراهيم وموسى عليهم السلام، ولأن الرسول صلى الله عليه وسلم خاتم الأنبياء والمرسلين، فقد أصبح للماضي -كما أسلفنا- قيمة كبيرة في نظر العرب المسلمين، لأنه يمثل العمق الذي تمتد فيه جذور رسالة الإسلام.

أصبح مفسرو القرآن الكريم بحاجة ماسة إلى المعلومات التاريخية، عند تفسيرهم للآيات القرآنية التي يرد فيها ذكر بعض الأنبياء وأقوامهم، فكان ذلك سبب اهتمامهم بالماضي (1).

وكانت حياة الرسول صلى الله عليه وسلم المحفز الآخر للاهتمام بالسيرة، فهو مثال المسلمين الأعلى في الحياة، وأقواله وأفعاله تعد الركن الثاني في التشريع الإسلامي الذي كان قانون الدولة، لذا بدأ الاهتمام مبكرا بجمع كل ما يتعلق بحياته فيما سمي بعد ذلك بـ(السيرة)، ثم اتسع نطاق هذه الدراسة لتشمل ما عرف بـ(المغازي)، والتي تغطي الجوانب السياسية والعسكرية من حياته (2)، حيث لم تعد الجوانب الاجتماعية، والتي رأيناها في السيرة مثار الاهتمام لوحدها، بل صار كفاحه وجهاده في سبيل نشر رسالته، بما في ذلك كفاحه المسلح، أي سراياه وغزواته، مثار المزيد من الاهتمام.

من هنا، فإن التاريخ الإسلامي قد ولد ونشأ وترعرع، ووصل درجة النضج والكمال في ظل الإسلام (القرآن والسنة) ، كذلك فإن غزارة التأليف والتدوين في حقل التاريخ من قبل العرب المسلمين، وصل حدا بحيث لا نكاد نجد أمة تتفوق عليهم (3).

وسوف نعود لأثر القرآن الكريم والسنة في نشأة علم التاريخ الإسلامي عند الحديث عن بدايات التدوين التاريخي، بعد الانتهاء من الوقوف على تعريف التاريخ، لغة، واصطلاحا، وأصالة، وزمن ظهوره في ثقافتنا العربية الإسلامية.

تعريف التاريخ

في البحث عن المعنى لأي مصطلح أو علم، لابد من الرجوع إلى اللغة التي ظهر فيها هذا المصطلح، كجزء من ثقافتها، فما هو تعريف التاريخ في لغتنا؟.

التاريخ لغة : يقول الرازي : ( "التاريخ" و"التوريخ"، تعريف الوقت. تقول : أرخ الكتاب بيوم كذا، و"ورخه" بمعنى واحد)(4).

ولا يعدو هذا الفرق الإملائي بين الكلمتين (تاريخ) و(توريخ)، أكثر من كونهما نطقا لمعنى واحد للهجتين عربيتين، لهجة بني تميم ولهجة قيس، فبنو تميم يقولون : "ورخت الكتاب توريخا"، وقيس تقول : "أرخته تأريخا" (5).

ويتفق الكافيجي والسخاوي مع الرازي في هذا التعريف، فالتاريخ عند الكافيجي هو (تعريف الوقت)(6)، وعند السخاوي هو (الإعلام بالوقت) (7).. والتاريخ والتوريخ : (تعريف الوقت)، عند الجوهري، ولكنه يلتمس له اشتقاقا فيقول : "وقيل اشتقاقه من الأرخ يعني بفتح الهمز وكسرها، وهو صغار الأنثى من بقر الوحش، لأنه شيء حدث كما يحدث الولد" (8).

غير أن هذا التعسف في اشتقاق الكلمة كان مثار اعتراض من قبل بعضهم، لعدم وجود صلة أو علة بين صغار بقر الوحش وبين التاريخ (9).

وقيل : إن أصل الكلمة (تاريخ) جاء من الكلمة السامية : (أرخو) التي تعني في الأكدية (القمر)، وفي العبرية (يرح) أو (ياريح)، التي تعني القمر أيضا (10).

إلا أن الشك يكتنف هذه الرواية، لعدم قيام أي دليل على استعمالها في اللغة العربية، إضافة إلى ذلك فإن احتمال استعارة اللغة العربية لهذه الكلمة من الأكدية مستبعد، كما أن وجود الحرف (ي) في الصورة العبرية والآرامية لهذه الكلمة، يجعل الافتراض ليس محتملا، باستعارة الكلمة من العبرية أو الآرامية (11).

وفي بحثه عن أصل كلمة تاريخ في العربية، يستبعد روزنثال أن تكون هذه الكلمة مأخوذة من الإثيوبية، إذ لو كانت كذلك لبقيت الكلمة في اللغة الإثيوبية لحد الآن ..كما أنه يستبعد أن تكون الكلمة قد استعملت أو كانت مستعملة في اللهجات العربية الشمالية قبل الإسلام، لعدم وجود مراكز ثقافية متقدمة في تلك الفترة، مما جعله يخلص إلى تغليب الظن باحتمال أن يكون أصلها من العربية الجنوبية (12).

ويرجح شاكر مصطفى أن يكون جذر الكلمة (ورخ) جذر سامي، ولكنه مأخوذ من لغة اليمن الجنوبية وليس من كلمة (يرح) أو (ياريح)، العبرية أو السريانية (13).

وهناك رأي آخر مفاده بأن الكلمة (التاريخ)، جاءت عن (ماه روز) الفارسية، والتي تعني حساب الشهور، ثم عربت فقالوا : (مورخ)، وجعلوا مصدرها (التاريخ) (14).

غير أن العديد من الباحثين، قد تنبه إلى خطل هذا الرأي كالشرقاوي (15) ، والعروي (16) ، وروزنثال (17).

يصر العروي على عروبة مصطلح التاريخ، فيقول : "إن تأليف التاريخ الإسلامي من إبداع العرب، لقد فشلت المحاولات للعثور على مؤثرات خارجية، يونانية أو فارسية، على غرار ما كشف عنه المنقبون من مؤثرات أجنبية في الفلسفة وعلم الكلام .. ليس التاريخ الإسلامي نقلا أو اقتباسا أو استعارة من الغير .. إن كلمة (تاريخ) كلمة عربية، والكلمة الأجنبية (اسطوريا) التي كان من الممكن استعارتها، استعملت فعلا، لكن في معنى آخر للتعبير عن القصص الخيالية والميثولوجية التي لا تخضع لقوانين المراقبة والفحص والتدقيق، كحوادث التاريخ القريبة أو البعيدة" (18).

ويستطرد العروي وبشيء من العاطفة لدعوة العرب في أن يفخروا "إنهم وحدهم شعب تاريخ، والشعوب الأخرى تملك نمطا فقط حكايات، لا يجد اليقين إليها سبيلا .. يحق لنا أن نضع التاريخ في مقام النحو، أي في ميدان أظهر فيه عرب القرون الأولى أصالة وقوة على الخلق والإبداع لا شك فيهما" (19).

ظهور المصطلح:

أما عن ظهور مصطلح التاريخ في ثقافتنا العربية الإسلامية، فقد نسب إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وضع التاريخ، فقد رفع إليه أبو موسى الأشعري : "أنه تأتينا من قبل أمير المؤمنين كتب لا ندري على أيها يعمل، قد قرأنا صكا محله شعبان، فما ندري أي الشعبانين، الماضي أم الآتي …" (20).

هذا النص يشير إلى أن التاريخ، بمعنى الوقت، كان معروفا ومعمولا به أيام عمر رضي الله عنه، ولكنه يقصر على الشهر دون السنة التي هي المعلم أو البداية في التاريخ، لعدم وجود بداية متفق عليها، فاقتصر التاريخ على الشهر فقط (شعبان)، كما ورد في رسالة أبي موسى لعمر رضي الله عنهما.

ويذكر السخاوي في موضوع وضع عمر للتاريخ : أن أبا يعلى ابن أمية هو أول من أرخ، وكان عاملا لعمر على اليمن، فكانت كتبه ترد إلى عمر في المدينة، فاستحسن عمر هذا واستشار أصحابه في وضع التاريخ، ولكن ينبغي الاتفاق على اختيار البداية أو المناسبة، فاقترح بعضهم مولد الرسول صلى الله عليه وسلم ، واقترح آخرون سنة وفاته، غير أن الآراء اجتمعت أخيرا على سنة هجرته، لما فتح الله على الرسول صلى الله عليه وسلم والمسلمين من خير، فقامت الدولة الإسلامية وأعز الله الإسلام وأهله، ودخلت الجزيرة العربية جميعا في الإسلام .. واستبعدت سنة مولده عليه السلام، لعدم وجود اتفاق على تحدد مولده بدقة، كما استبعدت سنة وفاته، لأنها مناسبة غير سارة في نفوس المسلمين (21).

من هذا يتبين لنا أن كلمة تاريخ، بدأت حياتها كتعبير فني، بعد ظهور التاريخ الهجري الذي وضعه عمر رضي الله عنه، أما قبل ذلك فاستخدموا العد في معنى التاريخ، فقد روى البخاري في صحيحه قول الصحابي سعد بن سهل في التقويم الهجري : "ما عدوا من بعث النبي ولا من وفاته .. ما عدوا إلا من مقدمه المدينة" (22).

مرت كلمة التاريخ بتطورات عديدة في ثقافتنا، فقد بدأت بمعنى التقويم والتوقيت في صدر الإسلام، واستعملت فترة بهذا المعنى، ثم صارت بمعنى آخر وهو تسجيل الأحداث على أساس الزمن، وكان الخبر يقوم مقامها في معنى هذه العملية التاريخية، ثم أخذت كلمة التاريخ تحل محل الخبر تدريجيا، وصارت تطلق على عملية التدوين التاريخي، وعلى حفظ الأخبار، بشكل متسلسل، متصل الزمن والموضوع، للدلالة على هذا النوع الجديد من التطور في الخبر والعملية الإخبارية، منذ منتصف القرن الثاني الهجري .. ومنذ ابتداء القرن الثالث الهجري، صارت كلمة التاريخ تطلق على العلم بأحداث التاريخ وأخباره، وأخبار الرجال، والكتب التي تحوي ذلك، وحلت كلمة التاريخ محل كلمة الخبر والأخباري، اللتين انحطت قيمتيهما العلمية قبل أن تختفيا من الاستعمال في القرن الرابع الهجري (23).

أصبحت كلمة (تاريخ في العربية)، تحمل خمسة معاني (24).

* سير الزمن والأحداث، أي التطور التاريخي، كالتاريخ الإسلامي، وتاريخ اليونان .. إلخ .. The History of .

* تاريخ الرجال ..The Biography.

* عملية التدوين التاريخي، أو التاريخ، مع وصف لعملية التطور وتحليله وتقابل : istoriography.

* علم التاريخ والمعرفة به، وكتب التاريخ، ويقابل :History.

* تحديد زمن الواقعة أو الحادثة، باليوم والشهر والسنة :Date.

والخلاصة، فإننا نتفق مع القائلين بأن كلمة تاريخ كلمة عربية، دخلت الثقافة الإسلامية من اليمن، للصلات الثقافية والحضارية والتاريخية بين اليمن والحجاز، ونستبعد صحة تلك الروايات التي ترجعها إلى أصول غير عربية، بحيث يبدو التعسف واضحا للعيان في محاولة اشتقاقها ثم في تعريبها بعد ذلك.

التاريخ اصطلاحا

أما التاريخ اصطلاحا فقد تنوعت تعاريفه وتعددت، بتنوع ثقافات ومشارب وأهواء وانتماءات ومذاهب الذين ولجوا موضوعه، فتراءت لهم تعاريفه من طبيعة مهمته، ومن دوره الذي يقوم به ضمن إطار الثقافة العربية الإسلامية، على ضوء المنظور الثقافي والفكري والمذهبي لكل مؤرخ .. فالتاريخ يعني (الوقت)، يقول خليفة بن خياط : "وبالتاريخ عرف الناس أمر حجهم وصومهم وانقضاء عدد نسائهم ومحل ديونهم، يقول الله تبارك وتعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم : (يسألونك عن الأهلة قل هي مواقيت للناس والحج) (البقرة : 189)"(25).

والكافيجي يعرفه بأنه : "هو تعيين الوقت لينسب إليه زمان مطلقا، سواء كان قد مضى أو كان حاضرا أو سيأتي .." (26) ، ثم يعطي الكافيجي بعدا حضاريا للتاريخ ضمن استطراده لتعريف التاريخ، فيقول : "وقيل: التاريخ تعريف الوقت بإسناده إلى أول حدوث أمر شائع، كظهور ملة، أو وقوع حادثة هائلة، من طوفان أو زلزلة عظيمة" (27).

وإذا كان في تعريف الكافيجي شيء من البعد الاجتماعي (كظهور ملة) ، فإن في تعريف السخاوي للتاريخ مسحة ثقافية واجتماعية واضحة، فهو يقول : "وفي الاصطلاح التعريف بالوقت الذي تضبط به الأحوال، من مولد الرواة والأئمة ووفاة وصحة، وعقل وبدن، ورحلة وحج، وحفظ وضبط، وتوثيق وتجريح، وما أشبه هذا مما مرجعه الفحص عن أحوالهم في ابتدائهم وحالهم واستقبالهم …) (28).

وتتسع هذه المسحة الثقافية والحضارية عند ابن خلدون، عندما يتحول التاريخ إلى الإخبار عن كل ما يتعلق بجيل من الأجيال، فيقول عن التاريخ بأنه : (ذكر الأخبار الخاصة بعصر أو جيل) (29).

ويبدو أنه كلما تقدمنا باتجاه الحاضر، فإن تعاريف التاريخ تقترب أكثر فأكثر من الجوانب الاجتماعية والحضارية، ففي تعريف حاجي خليفة (30) ، وطاش كبرى زاده (31) ، يكاد التاريخ يتحول إلى ما يمكن نعته (بالتاريخ الحضاري)، ويتبين هذا من خلال التعريف التالي لكليهما للتاريخ : (هو معرفة أحوال الطوائف وبلدانهم ورسومهم، وعاداتهم وصنائع أشخاصهم، وأنسابهم، ووفياتهم، إلى غير ذلك ..) أفليس تغطية الجوانب المتعلقة بالمجتمعات (الطوائف) ، وبلدانها وعاداتها ورسومها (نظمها) وصنائعها، إلا أبرز الجوانب التي يعكف على دراستها علماء تاريخ الحضارات؟

وفي تحديد موضوع التاريخ، فإن السخاوي يحدد الموضوع الذي يتناوله التاريخ، على أنه الإنسان والزمان (32) ، وبهذه الدقة والشمولية في تحديد موضوع التاريخ كما يراها السخاوي، فإن الحضارة هي الموضوع الرئيس للتاريخ، لأن الإنسان بفطرته التي فطره الله تعالى عليها كائن حضاري، مبدع، صانع، مفكر، متغير ومتحول، وهو بهذا تميز على الحيوان.

ولا يفوتنا الوقوف على تحديد طاش كبرى زاده لموضوع التاريخ، لأن موضوعه، من وجهة نظره، ينطق بالمفردات الحضارية من خلال العينات التي يحددها موضوعا للتاريخ، فيقول : "وموضوعه أحوال الأشخاص الماضية، من الأنبياء والأولياء والعلماء والحكماء والشعراء" (33).

هو إذن يدرس النبوات والأولياء والعلوم ورجالاتها، والفلاسفة في محاوراتهم ومطارحاتهم، والفنانين وفنونهم، والأدباء والشعراء، ونتاجهم، وليس تاريخ ملوك وساسة وقادة يلهون ويتحاربون، كما يشاع عند بعض الناس.

إن موضوع التاريخ كما نراه عند السخاوي وعند طاش كبرى زاده، هو تاريخ أمة أو مجتمع، بكل ما في الأمة من أفكار وعقائد وعلماء وفلاسفة وشعراء، فهو دراسة للعناصر الحركية في حياة المجتمع : النبي، والحكيم، والعالم، والفيلسوف، والشاعر، والصانع.

الخبر والتاريخ

"الخبر : واحد الأخبار … وخبر الأمر : علمه … والخبر بالضم وهو العلم بالشيء .. والخبير : العالم" (34).

والخبر كان أحد علوم العرب قبل الإسلام، مثل الفقه، والأيام، والأنساب، والشعر، فكانت للعرب أخبار في مرحلة ما قبل الإسلام (35).

كان الخبر وسيلة لمعرفة الحدث أو الشيء، ويعد التعبير عن فكرة التاريخ قبل الإسلام، أي أنه كان يعني مضمون التاريخ، لأن العرب لم يتداولوا التاريخ أو يؤلفوا فيه قبل الإسلام، مثلما تداولوه وألفوا فيه في الإسلام (36).

لذلك فإن الخبر أسبق من التاريخ عند العرب، وعرفوه قبل أن يعرفوا التاريخ بمدلوله الاصطلاحي.

ويتميز الخبر قبل الإسلام بارتباطه بالرواية الشفوية، بمعنى أنه لم يظهر بمظهر كتابي إلا في النقوش، وذلك يعود إلى قلة التدوين وشيوع الأمية في الحياة العربية، واعتماد العرب على الذاكرة في الحفظ، حتى لم تتوفر لأي شعب أو أمة ما كان لهم، وما عرفوا به من قوة الذاكرة (37).

فلما جاء الإسلام، أصبحت الأخبار ترتبط بالإسلام .. والظاهر أن رسالة الإسلام وخاصة في عصر الرسالة والراشدين، قد شغلت العرب عما كان لهم في جاهليتهم من أخبار، فصارت الأخبار في خدمة الإسلام، وخاصة فيما يتعلق بالحديث النبوي الشريف (38).

وبسبب قدم الخبر على الإسلام، أي على الحديث النبوي الشريف، فقد ظل للخبر كيان خاص به، حتى في أيام الأمويين والعباسيين، فظل يعرف بعلم الأخبار، وعرف رواة الأخبار ونقلتها بالإخباريين(39) ، حتى إن بعض المصنفات المبكرة في التدوين التاريخي أخذت عناوين ابتدأت بـ(الإخبار) أو (إخبار) مثل : (الأخبار الطوال لأبي حنيفة الدينوري (ت : 282 هـ) ، و(أخبار العلماء بأخبار الحكماء) لابن القفطي.

ظل الخبر في الثقافة العربية الإسلامية، يتمتع بأهمية كبيرة، على الرغم من أن التاريخ -بالمفهوم الذي تعنيه الكلمة الإنكليزية (Historiography) التي يقصد بها كتب التاريخ، أو التدوين التاريخي- قد حجب الخبر وحجمه إلى حد ما (40).

فها هو التاريخ في تعاريف بعض فحول مؤرخي الإسلام، عبارة عن خبر أو أخبار، رغم التطور الذي شهدته الكتابة التاريخية، فالمسعودي يعرف التاريخ بأنه : (علم من الأخبار) (41) ، وابن خلدون يعرفه بأنه : (ذكر الأخبار الخاصة بعصر أو جيل) (42)،

ولأحد الباحثين المعاصرين تصور دقيق عن فاعلية الخبر ودوره المتميز في الثقافة العربية الإسلامية، فالتاريخ على حد تعبيره، ليس علما للواقع بل معرفة بخبر عن الواقع، فكتابة التاريخ إخبار وإعلام عن الحادثات الماضية (43).

ولأن التاريخ خبر، فهو يشابه الفقه والحديث والشعر، لأنها هي الأخرى أخبار، غير أن الفرق بين التاريخ كونه خبرا، وبين الأطر الأخرى في الثقافة العربية الإسلامية باعتبارها أخبارا كالفقه والحديث والخراج، هو في (تعيين الوقت) لحادث من الحوادث .. فالخبر التاريخي يحدد أو يعين زمن وقوع حدث أو شيء بالنسبة لشيء حدث قبله ضمن إطار تقويمي معين (44).

وانطلاقا من اعتبار الخوارزمي علم الأخبار أحد العلوم العربية الستة وهي : علم الكلام، وأصول الفقه، والنحو، والشعر، والأخبار، والكتابة (45) ، فإن إدماج التاريخ في هذا الإطار الأوسع للخبر (أعني الفقه والحديث .. إلخ) ، يتمخض عنه (إدماج سوسيولوجي " اجتماعي" ثقافي للفاعلية التاريخية في الأطر الأوسع للثقافة العربية الإسلامية) (46).

وإذا كان التاريخ قد حجب الخبر إلى حد ما، فمن الممكن التمييز بين الاثنين، فالخبر يعد مادة ساذجة، فهو الحدث أو الواقعة، أو العلم المباشر بحدوث شيء، أما التاريخ فهو موضوع يتضمن عدة أخبار، مع ضرورة توفر الإحساس لدى المؤرخ وفهمه لتلك الأخبار، والتعاقب المرتبط بها .. إضافة إلى أن التاريخ عكس الخبر، (فإنه يستحسن ألا يكون التاريخ هو المعرفة المباشرة للنظر فيه) (47).

ولكن متى حل التاريخ محل الخبر؟

لا يستطيع المرء أن يعين تاريخا محددا دقيقا لظهور مصطلح التاريخ كبديل عن الخبر، أي عندما ظهرت كلمة التاريخ بمعنى (كتب التاريخ) ، ويرى (روزنثال) أن كلمة التاريخ (كانت راسخة الكيان بهذا المعنى منذ القرن الثاني الهجري) (48). وهذا يعني أن المصطلح قد جاء تبعا للتطور الذي مرت به الأمة خلال حقبتين : ما قبل الإسلام، والمرحلة الإسلامية .. فالخبر كان المعرفة السائدة عند العرب قبل الإسلام، ثم استمر حتى بعد ظهور الإسلام، وظهر بأجلى صوره في مدونات الإخباريين، كما مر معنا، غير أن الخبر تبعا لحالة التطور، أصبح لا يفي بالمتطلبات الثقافية والحضارية، الأمر الذي سوغ ظهور التاريخ واستخدامه في التدوين التاريخي بديلا عن الخبر، الذي أخذ بالتراجع منذ القرن الثاني الهجري.

ويستطيع المتتبع لنشأة التدوين التاريخي عند العرب المسلمين أن يلحظ بداية هذا التراجع للخبر منذ منتصف القرن الثاني الهجري، وبداية شيوع كلمة (التاريخ) كعناوين لمصنفات كتبها إخباريون أو مؤرخون فيما بعد، فلعوانة بن الحكم (ت : 147 هـ) كتاب اسمه : (كتابة التاريخ) .. و(التاريخ على السنين)، كان عنوانا لكتاب ألفه الهيثم ابن عدي (ت : 207 هـ) .. وكتاب (التاريخ الكبير) للواقدي (ت : 207).. وكتاب (التاريخ) لخليفة بن خياط (ت : 240 هـ).. إلخ.

على أن المصطلحين قد تعايشا فترة من الزمن، بعد ظهور مصطلح التاريخ، فنجد في مؤلفات بعض الإخباريين تأليفا في كلا المصطلحين : فالهيثم بن عدي (ت : 207 هـ) الذي ألف كتابا (في التاريخ على السنين) ولم يصلنا، ألف إلى جانبه كتابين هما : (أخبار الحسن ووفاته)، وكتاب (أخبار الفرس) (49).

كما كتب المدائني (ت : 225) (كتاب أخبار أبي طالب)، و(كتاب خبر الحكم بن أبي العاص)، وكتاب (أخبار الشعراء)، و(خبر الجسر)، و(خبر القادسية)، إلى جانب (كتاب تاريخ أعمار الخلفاء)، و(كتاب تاريخ الخلفاء) إلخ (50).

وقد لاحظ الباحث أن كثيرا من الكتاب الإخباريين قد استعملوا كلمة (كتاب) دون استخدام لكلمة (خبر) أو (تاريخ)، وكأن استخدام كلمة (كتاب) كانت تقوم مقام (الخبر) ومقام (التاريخ) في فترة أسبق.

فلعوانة بن الحكم (ت : 147 هـ) (كتاب سيرة معاوية وبني أمية) ولهشام بن الكلبي (ت : 206 هـ) كتب هي : "كتاب حلف عبد المطلب وخزاعة، كتاب حلف الفضول، كتاب ملوك اليمن من التبابعة، (كتاب اليمن)(51) . وللواقدي (ت: 207 هـ) كتاب أخبار مكة، كتاب فتوح الشام، كتاب فتوح العراق" إلخ (52).

ومثلها كتب للمدائني وغيرهم من الإخباريين، ممن ابتدأت العنوان بكلمة (كتاب) (53).

ولنا الآن أن ننتقل إلى الحديث عن البدايات في التدوين التاريخي، والتطورات التي مرت بها حركة التأليف هذه، وأثر الانطلاقة الحضارية الكبرى للأمة العربية الإسلامية على حركة التدوين التاريخي.

==============

# المنظور الحضاري في أنماط التدوين التاريخي حتى عصر ابن خلدون

أولا : التواريخ العامة أو تواريخ العالم.

ثانيا : الطبقات والتراجم.

ثالثا : التواريخ المحلية والإقليمية والمنظور الحضاري.

ابن خلدون وفلسفة التاريخ.

إن استقرار أنماط التدوين التاريخي عند العرب المسلمين، يفرض على الباحث تناولها بمنهجية تقوم دراستها على طريقتين : عمودية، وأفقية، مع التأكيد على تباين واختلاف المنظور الحضاري للمؤرخين في كلتا الطريقتين من ناحية، واختلاف المنظور الحضاري داخل الأطراف المعنية من المؤرخين ضمن الطريقة الواحدة من ناحية أخرى.

ويقصد بالطريقة العمودية هي أن المؤرخ يبتدئ التاريخ منذ الخليقة، أو الطوفان، أو منذ الميلاد، أو ظهور الإسلام، حتى ينتهي بعصره، وهي طريقة كما نرى لها بداية وتنتهي بنهاية، قد تكون عصر المؤرخ، أو يتوقف عند فترة قد تكون سابقة لعصره، على أن المهم فيها أنها طريقة تصاعدية في تناول حوادث التاريخ.

أما الطريقة الأفقية فهي التي تقوم دراستها بشكل يتوزع على المكان أكثر من توزعه على الزمان .. بعبارة أخرى، هي تدرس شرائح منتخبة من الناس موزعة على المجتمع العربي الإسلامي في امتداداته العرضية في ديار الإسلام.

يتمثل النمط العمودي في:

أولا : التواريخ العامة أو تواريخ العالم

يتميز هذا النمط من التدوين التاريخي، بأنه يركز على الفرد في التفسير الحضاري للتاريخ، بمعنى أن التاريخ أو الحضارة لأمة من الأمم هي من صنع (بطل)، سواء كان نبيا هذا البطل أو ملكا، أو قائدا عسكريا مظفرا، وهكذا فإن منظور المؤرخ في هذا النمط من التدوين قد تقمس أحد هذه الأشكال البطولية في تفسيره لحوادث التاريخ، أو للحضارات التي عني بدراستها (1).

ومن أوائل من مثل هذا النمط في التدوين التاريخي هم:

1- الدينوري، أبو حنيفة أحمد بن داود (ت : 282 هـ أو 290هـ).

ألف الدينوري كتاب الأخبار الطوال، وهو من بين عدة كتب ذكرها له ابن النديم (2).

والكتاب هو في التاريخ العام، قسم الكتاب إلى ثلاثة مباحث : الأول ويتناول الخليقة منذ آدم مرورا بكافة الأنبياء، والثاني يتناول فيه تاريخ الساسانيين والروم أما القسم الثالث فقد خصصه لحروب الفرس والعرب، والفتوحات، مع شحة في ذكر تاريخ الخلفاء الراشدين، ودون أن يتطرق إلى الأمويين.

منظور الدينوري منظور ديني، فهو لا يبتعد عن فكرة البطل في التاريخ، ولكن البطل عنده نبي وليس ملكا أو قائدا، وهذا ما يعطي لنظرته تلك القيمة الحضارية (3).

2- اليعقوبي، أحمد بن إسحاق بن جعفر بن وهب بن واضح ( ت : 284 هـ أو 292 هـ) ، ينتمي لطبقة الكتاب قامت شهرة اليعقوبي على أثرين من آثاره هما : (كتاب البلدان)، و(التاريخ) أو تاريخ اليعقوبي.

وتاريخه يعد نموذجا للتاريخ العالمي .. ابتدأ فيه منذ بداية الخليقة، ثم أرخ للأنبياء حسب تسلسلهم حتى الإسلام، بعد ذلك يؤرخ لعصر الرسالة والخلفاء الراشدين والأمويين .. والأنبياء كما يستشف من العناية بأخبارهم، هم صناع التاريخ والحضارات الحقيقيين، الذين ينبغي الاقتداء بهم في مواجهة تحديات الحياة، كما أن عنايته بالجوانب الحضارية كانت واضحة في كتابه، حيث وصف الأناجيل الأربعة، ثم بحث في كتب أرسطو وأبقراط، وفي الفترة الإسلامية ابتدأ ببعض الحكم في أهمية العلم والمعرفة (4).

3- الطبري، محمد بن جرير ( ت : 310 هـ) : يحتل الطبري مكانة بارزة بين المؤرخين العرب المسلمين، إذ بلغت -بتاريخه- الكتابة التاريخية النضج والاكتمال .. اشتهر الطبري بكتابه (تاريخ الرسل والملوك)، الذي قسمه إلى قسمين : القسم الأول تضمن مرحلة ما قبل الإسلام، وابتدأه بالزمن والذات الإلهية، ثم الخليقة، ثم يؤرخ للأنبياء حتى ظهور الإسلام أما القسم الثاني فخصصه للفترة الإسلامية، بدأه بالحديث عن نسب الرسول صلى الله عليه وسلم ، ثم الوحي والدعوة والهجرة والدولة الإسلامية التي بناها الرسول صلى الله عليه وسلم ، ثم يتناول بعد وفاته عليه السلام اجتماع السقيفة، والفترة الراشدة، والأموية، والعباسية، حتى سنة (302 هـ) (5).

اعتمد منهجه على الرواية، باعتباره محدثا، واستخدم الإسناد، وهي طريقة المحدثين، كما أنه اعتمد الترتيب الموضوعي لفترة ما قبل الإسلام، بينما اعتمد الترتيب الحولي في الفترة الإسلامية.

أصبح تاريخ الطبري رمزا لختام عصر من عصور التاريخ، فقد كفى الطبري من جاء بعده مهمة العناية بجمع وتحقيق المواد المتصلة بالتاريخ الإسلامي، وصار المؤرخون اللاحقون يلخصون عن الطبري.

5- المسعودي (ت : 346 هـ) : عرف أبو الحسن علي بن الحسين ابن علي بن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، بكثرة رحلاته وتنقلاته بين أطراف الدولة العربية الإسلامية، بل وتعداها إلى سيلان (6) ، مما أعطى لمعلوماته قيمة كبيرة باعتبارها حصيلة المشاهدة والمعاينة التي توفرت للمسعودي .. ترك المسعودي عدة كتب، أشهرها (مروج الذهب ومعادن الجوهر) .. ويمكن تلمس دور البطل في الحركة التاريخية لدى المسعودي، فقد يكون البطل نبيا، وبالتالي فإن سعيه لإقامة مجتمع يسود فيه العدل والرخاء، أو ملك متجبر طاغية .. فمنظور المسعودي ديني، يؤكد ويقوم على الجوانب الحضارية، فهو يحاول تعليل سبب سكنى العرب وبعض الأقوام الأخرى للبوادي، ويعطي أسبابا لهذه الظاهرة، أحدها هو الأنفة وطلب العزة (7) ، ثم يتكلم المسعودي عن حضارة أهل الهند، ويورد معلومات مهمة عن أديانهم وفلسفاتهم وعاداتهم وتقاليدهم، وكذلك في حديثه عن حضارة أهل الصين والترك (8) ، الأمر الذي يوضح اهتمام المؤرخين المسلمين المبكر بالجوانب الحضارية للشعوب، أكثر من مجرد العناية بملوكها.

ومن المؤرخين الذين ألفوا في التاريخ العام:

- حمزة الأصفهاني ( ت : 350 هـ) ، الذي ألف كتاب (تاريخ سني ملوك الأرض، والأنبياء عليهم الصلاة والسلام)، وقد قرن حمزة بين الملكية والنبوة في أن الحضارة لابد أن تكون صنيعة إحداهما (9) ، وقد أظهر حمزة اهتماما بالجوانب الثقافية ،كحرق الأسكندر لكتب الفرس، ونقله ما احتاج إليه من علوم الفرس إلى اللغة اليونانية، وبداية ظهور عبادة الأصنام والأوثان، مما يضفي على الكتاب مسحته الحضارية (10).

- المقدسي، المطهر بن طاهر ( ت :390 هـ) ، صاحب كتاب (البدء والتاريخ)، حيث قسمه إلى فترتين، الفترة السابقة للإسلام والفترة الإسلامية.

والمنظور الحضاري للمقدسي ينحصر أيضا في رؤيته لوحدة الرسالات السماوية، لهذا فهو يسرد تاريخا للنبوة يبتدئ بذكر آدم مرورا بنوح وإبراهيم عليهم الصلاة السلام، وينتهي بخاتم هؤلاء محمد صلى الله عليه وسلم .. كذلك فإن المقدسي في رؤيته للحضارة، يجدها من صنع الملوك والأنبياء، غير أن كلا منهم ينظر إليها بمنظار خاص، فبينما هي بمنظور الأنبياء تشاد بالتوحيد والتناهي عن الظلم والتسلط والجبروت، نجدها في رؤى الملوك في الأعم الأغلب تقوم على العبودية والتعسف واغتصاب حقوق الآخرين (11).

كذلك فهناك مؤرخون آخرون كتبوا في التاريخ العام مثل:

- مسكويه (ت :421 هـ) : وهو صاحب كتاب (تجارب الأمم وتعاقب الهمم) .. كان مسكويه قد اشتغل بالكيمياء، ودرس الفلسفة، الأمر الذي ظهر واضحا على دراساته للتاريخ، فقد أصبحت دراسة التاريخ في نظره تحوي فائدة مهمة، وهي فائدة العبرة والاتعاظ، وهذا ما سوغ تسمية مؤلفه ب (تجارب الأمم وتعاقب الهمم)، بمعنى أن التاريخ صار يمثل تجربة أممية عالمية (12).

لم يؤرخ مسكويه للأنبياء مطلقا، رغم أن كتابه من الناحية المنهجية مقسوم إلى قسمين، فترة ما قبل الإسلام والفترة الإسلامية (13) ، بل إنه حذف التاريخ الديني للرسول محمد صلى الله عليه وسلم ، واقتصر على تدوين التاريخ السياسي، وهذا أمر له مغزاه، فقد سبق وأن أشرنا إلى أن الأنبياء والملوك يتبادلان الدور في صنع الحضارات، ويبدو أن مسكويه أراد أن يجعل الملوك وحدهم أصحاب الدور القيادي في البناء الحضاري، وذلك كي يجعل التاريخ معينا للتجارب الإنسانية السياسية، التي يمكن أن يستفاد منها عبرا أخلاقية، لذا فإنه يقول : "وإني تصفحت أخبار الأمم وسير الملوك، وقرأت أخبار البلدان وكتب التواريخ، وجدت فيها ما يستفاد منه تجربة في أمور لاتزال يتكرر مثلها، وينتظر حدوث شبهها وشكلها، كذكر مبادئ الدول ونشئ الممالك، وذكر دخول الخلل فيها بعد ذلك، وتلافي من تلافاه وتداركه .. "(14).

وإذا كانت التجارب هي فعل بشري، يقع في حدود الطاقات والإمكانات البشرية على أرض الواقع، فإن أعمال الأنبياء لا يمكن أن تكون تجارب قابلة للخطأ والصواب، لأنها معجزات إلهية، ومسكويه الفيلسوف يخضع الفعل الإنساني للعقل .. أما المعجزات فهي خارج إطاره، ولهذا يقول : "ولهذا السبب بعينه لم نتعرض لذكر الأنبياء صلوات الله عليهم، وما تم لهم من السياسات بها، لأن أهل زماننا لا يستفيدون منها تجربة فيما يستقبلونه من أمورهم، اللهم إلا ما كان منها تدبيرا بشريا لا يقترن بالإعجاز " (15).

ومن هنا، فإن التاريخ بنظر مسكويه، مسرح للنشاط الإنساني، ومستودع لتجارب العقل البشري على مر الأزمان.

ومن المؤرخين المسلمين في حقل التاريخ العام:

- أبو منصور الثعالب: (ت : 429 هـ) : صاحب كتاب (تاريخ غرر السير، المعروف بكتاب غرر أخبار ملوك الفرس)، وهنا نجد المنظور الحضاري التاريخي للثعالبي يتمحور حول الملك صانع الحضارة، حيث يقول : "فإن الناس بالزمان، والزمان بالسلطان، والسلطان بعد الله للملوك الذين استرعاهم أمور عباده، وملكهم أزمة بلاده، فلا دين إلا بهم ولا دنيا إلا معهم" (16) . على أن الثعالبي لا يستبعد الأنبياء من تصدرهم في بعض الأحيان لقيادة المسيرة الحضارية لمجتمعاتهم، وهو هنا يشير إلى أن هناك ملوكا أنبياء كآدم ويوسف، وداود وسليمان وذي القرنين ومحمد صلوات الله عليهم (17).

ويبدي الثعالبي شيئا من الأصالة في القسم المتعلق بملوك الفرس، أما في القسم الإسلامي من تاريخه فهو عالة على الطبري (18).

على أن هذا الكتاب يعتبر إيذانا بتوقف تجربة التاريخ العالمي منذ بداية القرن الخامس الهجري ولمدة قرنين (19) ، إذ كان لضعف الخلافة العباسية، وتسلط القوى الأجنبية عليها، وانفصال بعض الولايات عنها، والاقتصار على الارتباط بها ارتباطا واهيا، أدى إلى ظهور وازدهار ما يعرف بالتواريخ المحلية، وبدأ الأمراء المستقلون يشجعون الفقهاء والعلماء وأهل الأخبار في مجالسهم، وأصبحت حواضرهم تكاد تكون صورة ربما مصغرة عن بغداد (20).

ومع ذلك فإننا نجد عودة لكتب التاريخ العالمي، تعود مرة أخرى منذ أواخر القرن السادس ومنتصف القرن الثامن ممثلة بـ:

(المنتظم) لابن الجوزي (ت : 517 هـ) : وهذا الكتاب لا يعطينا صورة دقيقة لمؤلف في التاريخ العام رغم ضخامته، وخاصة في نصفه الثاني المطبوع، إذ أنه أعطى التراجم حجما أوسع من الأحداث، كما أنه يفتقد الشمول فيمن تحدث عنهم، فلم يكد يتجاوز بغداد وأحداث رجال العراق الذين ترجم لهم (21).

أما المؤلف الثاني فهو:

(الكامل في التاريخ) لابن الأثير (ت : 630 هـ) : وهذا الكتاب يعتبر أكثر انسجاما مع الخط العام في التواريخ العالمية، وهو يسلك مسلك الطبري من حيث تقسيم الكتاب إلى قسمين : ما قبل الإسلام، والقسم الإسلامي، غير أنه اختلف عن منهج الطبري، وذلك بتجاوزه للإسناد الذي اتبعه الطبري في تاريخه (22).

ولا يختلف (مرآة الزمان) لسبط بن الجوزي (ت : 654 هـ) عن (الكامل في التاريخ)، إلا في أنه يضع في نهاية حوادث كل عام -عندما يتحول الحديث إلى الفترة الإسلامية- أسماء من توفي من الأعيان والأعلام (23).

وضمن هذا الخط، خط التاريخ العام، نلتقي أبا الفداء، الحافظ ابن كثير الدمشقي (ت : 774 هـ) ، وهو من المعاصرين لابن خلدون، وكتابه (البداية والنهاية) لا يختلف في منهجيته عن الذين سبقوه من المؤرخين المسلمين من حيث تقسيمه الكتاب إلى فترتين : ما قبل الإسلام، والفترة الإسلامية .. وهو منساق أيضا وراء فكرة (وحدة الرسالات)، وفكرة (البطل)، اللتين تعدان جوهر منظوره الحضاري (24).

لقد تميزت كتب التاريخ العام، التي ظهرت خلال الفترة المحصورة بين القرنين السابع والثامن عن سابقاتها من عيون كتب التاريخ العام، كاليعقوبي والطبري والمسعودي والمقدسي ومسكويه، بميزات منهجية فقط فقد أضافت مادة جديدة إلى موادها أخذتها من كتب التراجم، حتى ظهرت هذه وكأنها ذيل متمم لمادة القسم الإسلامي منها، كما وضعت في نهاية حوادث كل سنة بابا للوفيات، حيث دمج المؤرخون منذ أواخر القرن السادس تاريخ الرجال مع الأحداث فالتقى في مدوناتهم فرعا التاريخ الأحداث، والتراجم (25).

ثانيا : الطبقات والتراجم.

كانت السيرة النبوية التي عني بجمعها وتدوينها فقهاء ومحدثون كعروة بن الزبير وشرحبيل بن سعد وأبان بن عثمان، مثالا يحتذى لدى المؤرخين، نسجوا على منوالها سير الخلفاء فيما بعد، وإن كانت كتاباتهم قد تضمنت قيما ومثلا جديدة، كسيرة الخليفة العادل عمر ابن عبد العزيز .. كما كانت الحروب الصليبية والنجاحات التي تمخضت عنها، حافزا لكتابة سير بعض السلاطين والزعماء الذين تصدوا لهذا الخطر، فالذين كتبوا سير مودود وعماد الدين زنكي، ونور الدين محمود، وصلاح الدين الأيوبي، إنما انطلقوا من دور هؤلاء البارز في التصدي للعدوان الصليبي، ولهذا ظهرت ما يمكن تسميته (بالسير الملكية) (26) .. أما الطبقات والتراجم فقد ظهرت منذ زمن مبكر في الأدب العربي، وتعتبر من إبداعات الحضارة العربية الإسلامية، كما وتعد فنا فريدا من فنون التاريخ لا نجد لها شبيها في آداب أية أمة من الأمم الأخرى إلا في عصرنا الراهن (27) .. ظهر فن التأليف في الطبقات والتراجم، نتيجة لحاجة العلماء المعنيين بتدوين الحديث معرفة سير رجال الأسانيد أو رواة الحديث، بهدف التحقق من صدقهم طبقا لمنهج (الجرح والتعديل)، الذي اتبعه المحدثون، فظهرت في البداية طبقات المحدثين (28).

بعد ذلك تنبه بعض العلماء إلى وضع تراجم أخرى لطبقات الرجال الذين تتفق توجهاتهم وتخصصاتهم، فتتوحد في لون واحد من العلم، فظهرت كتب طبقات الصحابة، وطبقات المفسرين، وطبقات القراء، وطبقات النحاة، وطبقات الشعراء، وطبقات الأطباء، وغيرهم (29).

ولابد من الإشارة إلى اختلاف غايات أصحاب كتب الطبقات والتراجم، فبعضهم كما سنرى ألف تبعا لغاية دينية، وآخرون من وجهة نظر دنيوية، بينما نرى عند آخرين أن تآليفهم تجئ تحت إلحاح غايات مذهبية .. وأقدم كتب الطبقات هي:

كتاب "الطبقات" لخليفة بن خياط (ت :240 هـ) ، الذي وضع فيه ابن خياط الصحابي كبطل صانع لحوادث التاريخ، وهذا هو منطلق خليفة الحضاري (30) .. أما ابن سعد (ت : 230 هـ) ، فقد جعل السابقة في الإسلام أساس التمايز بين الصحابة، ففي كتابه (الطبقات الكبرى) جعل البدريين الطبقة الأولى، ومن له إسلام قديم وهاجر إلى الحبشة أو شهد أحدا، ومن أسلم قبل فتح مكة جعلهم الطبقة الثانية، وهكذا (31).

هذا وقد أصبحت طبقات خليفة بن خياط وطبقات ابن سعد، أنموذجا سار على منواله واعتمد عليه البخاري (ت : 256 هـ) في كتابه (التاريخ الكبير)، وابن عبد البر (ت : 463 هـ) في كتابه (الاستيعاب لمعرفة الأصحاب)، وأبو نعيم (ت : 430 هـ) في كتابه (حلية الأولياء)، وقد بقي هذا التقليد شائعا حتى منتصف القرن الثامن الهجري، حيث يمثل الذهبي (ت : 748 هـ) أبرز من اهتم بنظام الطبقات وخاصة في كتابه (المجرد في أسماء رجال كتاب ابن ماجه) (32).

كذلك فإن هذا التقليد في ترتيب الصحابة والمحدثين إلى طبقات قد امتد إلى كتب التراجم الأخرى، كطبقات الشعراء لمحمد بن سلام الجمحي (ت : 232 هـ) ، وطبقات القراء لخليفة بن خياط (ت : 240 هـ) ، وطبقات الصوفية لأبي عبد الرحمن السلمي (412 هـ) ، وطبقات الفقهاء لأبي إسحاق الشيرازي (ت :476 هـ) وغيرهم (33).

ومما تجدر ملاحظته أن المنظور الحضاري لمعظم مؤلفي كتب الطبقات والتراجم، قد انطلق من منطلقات دينية أو ثقافية.

فالسلمي (ت : 412 هـ) في كتابه (طبقات الصوفية) يعكس منظوره الحضاري النظرة الدينية، لأن المتصوفة في نظره هم (أرباب حقائق التوحيد) (34) ، كذلك نجد هذه النظرة الدينية في منظور أبي نعيم الأصبهاني (ت :430 هـ) في كتابه (حلية الأولياء وطبقات الأصفياء) (35).

ويستمر المنظور الحضاري في منطلقاته الدينية في بعض التراجم، التي قد تبدو لنا لأول وهلة أن صلتها بالناحية الدنيوية الاجتماعية أكثر من صلتها بالدين، كالأنساب مثلا، في حين نجد أنه حتى في مثل هذه التآليف، فإن منطلقات مؤلفيها دينية، فمثلا نلاحظ في كتاب (جمهرة أنساب العرب) أن ابن حزم (ت : 456 هـ) ، عني بالأنساب، لأنه يرى أن دراسة الأنساب فرض كفاية أيضا : (فأما الغرض من علم النسب، فهو أن يعلم المرء أن محمدا صلى الله عليه وسلم الذي بعثه الله تعالى إلى الجن والإنس بدين الإسلام، هو محمد بن عبد الله القرشي الهاشمي، الذي كان بمكة ورحل إلى المدينة) (36).

وهكذا يكتسب النسب في منظور ابن حزم قيمته الدينية التي تفوق قيمته الاجتماعية .. كذلك نجد هذا المنظور الديني واضحا لدى ابن عبد البر (ت : 463 هـ) ، في كتابه (الاستيعاب في معرفة الأصحاب) (37) ، حيث يعتبر الصحابة هم أولى الناس بالمعرفة، لأنهم هم الذين نقلوا سنة الرسول صلى الله عليه وسلم ، ووعوها، وهي الركن الثاني بعد كتاب الله في قيمتها التشريعية والدينية (38).

أما ياقوت الحموي (ت : 626 هـ) فعلى الرغم مما يوحي به كتابه (معجم الأدباء) (39)، من نزعة ثقافية دنيوية، فإن ياقوت يغوص في أبعاد العلم، ليجد فيه الجانب الديني قائما واضحا، فيقول عن كتابه إنه جمع فيه : "أخبار قوم عنهم أخذ علم القرآن المجيد، والحديث المفيد، وبصناعتهم تنال الإمارة .. وبعلمهم يتم الإسلام، وباستنباطهم يعرف الحلال من الحرام" (40).

وما وجدنا عند ياقوت وجدناه عند ابن أبي أصيبعة (ت : 868 هـ) في مصنفه عيون الأنباء في طبقات الأطباء (41) ، فهو أيضا أسير النظرة الدينية، فصناعة الطب في نظره (من أشرف الصنائع وأربح البضائع، وقد ورد تفصيلها في الكتب الإلهية والأوامر الشرعية، حتى جعل علم الأبدان قريبا لعلم الأديان) (42).

ويقدم ابن خلكان (ت : 681 هـ) رأيا آخر في عنايته بالسير، ولا يرجع ذلك إلى أية نظرة دينية، بل مرد اهتمامه بسير بعض المتقدمين هو ولعه الشخصي بالاطلاع على أخبار النابهين، فالنباهة والذكاء والفطنة التي تميز بها بعض الناس، هي التي جعلت ابن خلكان يضع مصنفه (وفيات الأعيان وأنباء أبناء الزمان) (43) .. كذلك تقوم نظرة السبكي (ت : 771 هـ) في كتابه (طبقات الشافعية الكبرى) (44) ، إذ أصبح العالم في نظره يحتل مكانة أرفع وأعلى من مكانة أصحاب التيجان.

وعلى منوال السبكي سار كل من محمد بن شاكر الكتبي (ت : 764 هـ) في كتابه فوات الوفيات، وصلاح الدين خليل بن أيبك الصفدي (ت : 764 هـ) في كتابه (الوافي بالوفيات) (45).

وإذا كان ابن خلكان قد ترجم للنابهين، وتابعه في ذلك إلى حد ما الكتبي، الذي أضاف على تراجم ابن خلكان بعض التراجم للخلفاء والمميزين الذي أغفلهم ابن خلكان، غير أن هذه النظرة الشمولية استمرت في تراجم بعض المؤلفين اللاحقين، كالسخاوي (46) والسيوطي (47) ، فصارت تشمل المشهورين من الناس إلى جانب آخرين لم يكونوا على حظ وافر من الشهرة في التاريخ، استنادا إلى حديث النبي صلى الله عليه وسلم : " أنزلوا الناس منازلهم" (48).

ثالثا : التواريخ المحلية والإقليمية والمنظور الحضاري

تعد التواريخ المحلية أو تواريخ المدن، والتواريخ الإقليمية، إحدى أنماط التدوين التاريخي العربي الإسلامي، ومنذ عهد مبكر ظهرت تواريخ لبعض المدن الإسلامية (التواريخ المحلية) ، كما ظهرت تواريخ إقليمية لبعض أقاليم ديار الإسلام، فقد ألف ابن زبالة كتابه : (أخبار المدينة) في حدود سنة (199 هـ) (49) ، كما ألف الأزرقي (ت : 244 هـ) كتابه : (أخبار مكة وما جاء فيها من الآثار)، وألف بحشل (ت :292 هـ) (تاريخ واسط)، وكتب أبو الشيخ الأنصاري (ت : 369 هـ) كتابه (طبقات المحدثين بأصبهان والواردين عليها) . وألف حمزة السهمي (ت : 427 هـ) كتابه تاريخ جرجان كذلك ألف أبو نعيم الأصبهاني (ت : 430 هـ) كتابه (ذكر أخبار أصبهان). كما ألف الخطيب البغدادي (ت : 463 هـ) (تاريخ بغداد) وألف ابن عساكر (ت : 557 هـ) كتابه (تاريخ دمشق). وفي الأندلس ألف الوزير لسان الدين بن الخطيب (ت : 776 هـ) كتابه (الإحاطة في أخبار غرناطة).كما ظهرت تآليف أخرى شملت إقليما بعينه، وهذا يعني أن الاهتمام تجاوز مدينة بعينها في ذلك الإقليم.

وفي هذا المجال فقد وصلنا لابن عبد الحكم (ت : 257 هـ) كتابه : (تاريخ فتوح مصر والمغرب والأندلس) . والهمداني (ت : 334 هـ) في كتابه (الإكليل) الذي وضعه في تاريخ اليمن وابن حيان القرطبي (ت : 469 هـ) في كتابه (المقتبس من أنباء أهل الأندلس)، وهناك غيرها كثير.

كان الدافع لتأليف تواريخ عن بعض المدن دافعا دينيا، فابن زبالة عندما يؤلف كتابا في (أخبار المدينة)، فلأنها مهاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وقاعدة دولته، ومسرح نشاطاته الدينية والعسكرية والسياسية.

كذلك فإن تأليف الأزرقي لكتابه أخبار مكة، فمن نفس المنظور الذي انطلق منه ابن زبالة، فمكة هي التي شهدت مولده ، وشبابه ودعوته كما أنها قبلة المسلمين وفيها المسجد الحرام، الأمر الذي يعطيها قيمة دينية كبيرة في نظر المسلمين، ولذا نجد الأزرقي يحشد الكثير من الروايات في فضائل مكة وقدسيتها (50).

ومما يجدر ذكره أن (أخبار المدينة)، و(أخبار مكة) لا يعنيان بتراجم المحدثين أو العلماء والفقهاء الذين سكنوا هاتين المدينتين، وخاصة أخبار مكة ولعل بحشل (ت : 292 هـ) في كتابه (تاريخ واسط) ، يعد أول من اهتم بذكر رجال وعلماء مدينته، مما جعل كتابه أنموذجا يحتذى من قبل أصحاب التواريخ المحلية (51).

وقد حاول بحشل لكي يضفي على مدينته شيئا من الأهمية، أن يضفي على موقعها شيئا من القداسة، بحيث كانت السبب وراء اختيار الحجاج لموقع واسط .. وهذه القدسية تتكرر عند معظم الذين كتبوا في التواريخ المحلية، إما بكونها مدينة أنبياء أو صحابة، أو أنها مباركة بدعوة نبي أو رسول، وهذا المنظور الديني الحضاري يضفي على النبي صلى الله عليه وسلم، والصحابي، والصوفي، والفقيه، قيمة ودورا في حياة الأمة، يتضاءل عندها دور الحاكم أو السياسي (52).

إن استمرار التأليف في تواريخ المدن، أو التواريخ المحلية، أظهر المدن باعتبارها وحدات حضارية فكرية .. ففي كتابه (طبقات المحدثين بأصبهان)، لأبي الشيخ الأنصاري (ت : 369 هـ) ، تحدث في المقدمة عن طوبوغرافية المدينة، ثم انتقل إلى الحديث عن فضائل أصبهان، ثم ذكر أعداد الصحابة الذين نزلوا بها وهم ثمانية عشر صحابيا، بينهم سلمان الفارسي رضي الله عنه، الذي أخذت ترجمته نصف ما خصص لبقية الصحابة (53).

ومن الجدير بالذكر أن التأليف في تواريخ المدن أو التواريخ المحلية، ربما يعكس تعصب المؤلف لمدينته.

فمثلا الخطيب البغدادي في تاريخ بغداد ينفي عنها ما روي فيها من حديث بذمها وتوعدها، وبالعكس فإنه يحشد عددا من الأقوال في فضائل بغ داد وخيرها وبركتها (54) ، كذلك نجد تشابها في المواقف لابن عساكر في فضائل مدينته دمشق، مع مواقف الخطيب البغدادي، على أن هذه العصبية للأمصار كانت ظاهرة إيجابية، لأنها حفظت للأجيال اللاحقة الشيء الكثير من جوانب الثقافة والفكر في الحضارة الإسلامية .. وهكذا فإذا اتجهنا نحو الأندلس، نجد العصبية واضحة في تأليف الوزير لسان الدين بن الخطيب لكتابه عن مدينته (الإحاطة في أخبار غرناطة)، بعدما يستعرض الكتب التي ألفت عن بعض الأمصار الإسلامية، يقول : "فداخلتني عصبية لا تقدح في دين ولا منصب، وحمية لا يذم في مثلها متعصب" (55).

وهكذا ظهرت هذه التواريخ، لتقدم خدمة جليلة للثقافة العربية الإسلامية .

التواريخ الإقليمية:

وهي تقع موقعا وسطا بين التواريخ المحلية أو تواريخ المدن وبين التواريخ العالمية، أما أسباب ظهورها فتتصل أيضا بأسباب ظهور التواريخ المحلية أو تواريخ المدن، وهي العصبية للأمصار، والعامل الديني، ويضاف إلى ذلك العامل السياسي لظهور التواريخ الأندلسية، بسبب عزلة هذه الجزيرة عن بقية ديار الإسلام، كما أننا يمكن أن نضيف عاملا آخر وهو أن أهل كل بلد أعرف بأحوال وأخبار بلدهم (56).

وأقدم التواريخ الإقليمية التي وصلتنا هي:

فتوح مصر وأخبارها، لأبي القاسم عبد الرحمن بن عبد الله ابن عبد الحكم (ت : 257 هـ) (57) : ولكي يضفي ابن عبد الحكم على مصر وأهلها شيئا من القيمة الدينية، فإنه ابتدأ في الصفحة الثانية من الكتاب بذكر وصية رسول الله صلى الله عليه وسلم بالقبط، ويذكر في هذا الصدد أحاديث نسبت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يتنبأ فيها بفتح المسلمين لمصر من بعده، ثم يوصيهم خيرا بأهلها (58) .. والتماس الأثر الديني واضح في تبريره لتأليف الكتاب، إضافة إلى أثر التعصب الإقليمي .. والذي يهمنا من هذا الكتاب، هو منظور ابن عبد الحكم، الذي ينطلق من اهتمامه بالصحابة الذين حلوا مصر، والذين رووا عنهم أهل مصر، وهو ما يبين عنايته برجال الثقافة والعلم في تلك الحقبة، الذين هم حملة حديث الرسول الأعظم صلى الله عليه وسلم .

أما في أقصى الزاوية الجنوبية الغربية من الجزيرة العربية، فنلتقي بمؤلف آخر من مؤلفي التواريخ الإقليمية، وهو لسان اليمن أبي محمد الحسن بن أحمد بن يعقوب الهمداني (ت : 334 هـ) ، وكتابه (الإكليل من أخبار اليمن وأنساب حمير )(59).

وهذا الكتاب يعكس منظور الهمداني الاجتماعي، إذ خصصه في سرد أنساب أهل اليمن منذ فترات بعيدة عن الإسلام وحتى عصره في القرن الرابع الهجري .. وإذا كانت المنطلقات الأساسية في التواريخ الإقليمية، التي مر ذكرها، منطلقات دينية مرصعة بشيء من العصبية للمصر المعني، فإن هذا المنظور يختفي في (الإكليل)، ولا نحس إلا بروح المباهاة والمفاخرة في سرد أنساب اليمن، لبيان ما كان لأهلها من ملك وسلطان قبل الإسلام، مقابل المجد والعز الذي ناله عرب الشمال وعلى رأسهم قريش في الإسلام.

وإذا يممنا شطر أقصى بلاد الغرب الإسلامي آنذاك، فإننا نلتقي بمؤرخ إقليمي أندلسي هو:

أبو حيان القرطبي (ت : 469 هـ) ، صاحب كتاب : (المقتبس من أنباء أهل الأندلس) (60).

يعتبر القرطبي أشهر مؤرخي الأندلس على الإطلاق، والشاهد على ذلك الدقة والضبط، اللتان تميز بهما عمله في (المقتبس).

لقد توزع منظور ابن حيان بين هموم بلده في مواجهة التحديات التي تفرضها عليه الممالك النصرانية في الشمال، والتحركات الداخلية في العدوة المغربية، وبين الاهتمام بالجوانب الثقافية والحضارية.

وهناك مؤرخ أندلسي آخر وهو:

ابن بسام (ت : 554 هـ) ، صاحب كتاب : (الذخيرة في محاسن أهل الجزيرة) (61) ، والعنوان يدل على تعصب ابن بسام لمصره الأندلس، وفي مقدمة الكتاب نجده يشيد ببراعة الأندلسيين في النثر والنظم : (… ومازال في أفقنا هذا الأندلس القصي إلى وقتنا هذا، من فرسان الفنين وأئمة النوعين، قوم هم ما هم، طيب مكاسر، وصفاء جواهر، وعذوبة موارد ومصادر) (62) ، ثم ينتقد أهل بلده الذين يروون الأدب والعلم عن أهل المشرق .. كذلك فإنه يبين انسياح العلماء والفقهاء بين ديار الإسلام دون قيود، فيذكر بعض الفقهاء والعلماء والكتاب المشارقة، الذين قدموا الأندلس مثل : أبو الفضل البغدادي، وأبو الفتح الجرجاني، والشريف الرضي، ومهيار الديلمي، وأبو القاسم المغربي، وابن رشيق، وأبو منصور الثعالبي (63) ، وهذا ما يدل على انفتاح المدينة العربية الإسلامية في تلك العصور، لاحتضان العلماء والكتاب والشعراء والفقهاء، دون أن تكون قلعة مغلقة.

ابن خلدون وفلسفة التاريخ

يبدو أن مهمة (علم العمران) كما تصورها ابن خلدون هي (تمحيص الأخبار)، على أن الدراسة المتأنية لعلم العمران الخلدوني، تخرج باستنتاجات عديدة عن هوية علم العمران فهل يمكن أن يعد (علم الاجتماع) أو (فلسفة التاريخ)، أو هو علم في المنهج، على غرار المنطق، أو هو فلسفة سياسية؟ (64).

إن دراسة ابن خلدون للظواهر الاجتماعية، يمكن أن ترتقي بعلمه الجديد (علم العمران)، إلى مصاف الدراسات التي تتصل في صميم فلسفة التاريخ، وبالتالي فإن ابن خلدون يمكن أن يكون أول فيلسوف للتاريخ، وأول من فلسفه، بل ويكون منشئ فلسفة التاريخ على صعيد الفكر الإنساني (65).

لقد استخدم فولتير مصطلح (فلسفة التاريخ)، لأول مرة في القرن الثامن عشر، في كتابه الموسوم (طبائع الأمم وفلسفة التاريخ)، الذي أصدره سنة (1756م) (66) ، لقد كان فولتير يعني به دراسة التاريخ الحضاري للأمم من وجهة نظر عقلية ناقدة، ثم توالت الدراسات في هذا الحقل، وأصبحت له مقومات معينة يقوم عليها هي :

1- الكلية : تهدف فلسفة التاريخ إلى البحث عن المعاني الكلية في أحداث التاريخ وتجميعها في مختلف العصور، بغية الوصول إلى قوانين كلية تفسر لنا التاريخ الإنساني.

2-العلية : هي اتجاه فلسفة التاريخ، تقوم على تجاوز العلل الجزئية التي يفسر بها المؤرخون الوقائع الفردية المحصورة في زمان ومكان محددين، إلى محاولة العثور على (علة عامة) أو أكثر، لتفسير مجمل حوادث التاريخ الإنساني.

وبهذا فإن مقولات التاريخ تختلف عن مقولات فلسفة التاريخ اختلافا جوهريا، فأصبحت النظرة الكلية بديلا عن النظرة الفردية، كما تجاوزت فلسفة التاريخ مقولتي الزمان والمكان إلى ما وراء الزمان والمكان (67).

لقد تنبه الكثير من الباحثين وخاصة في الغرب، إلى أن مقدمة ابن خلدون التي كتبت في القرن الثامن الهجري، والتي سبقت مؤلف فولتير آنف الذكر بأربعة قرون تقريبا، قد تضمنت (فلسفة للتاريخ)، وهذا برر إعلانهم عن أن ابن خلدون يعد المؤسس الحقيقي لفلسفة التاريخ، أو بعبارة أخرى هو رائد ومؤسس هذا النوع من الدراسة (68).

لقد حاول ابن خلدون أن يدرس تاريخ أوسع مساحة من العالم التي سنحت له فرص دراستها، فقد درس تاريخ شمال أفريقيا والأندلس، وتاريخ الدولة العربية الإسلامية في الشرق، إضافة إلى تواريخ الفرس والروم .. وقد حاول ابن خلدون أن يخرج بهذه الدراسة عن نظريات عامة عن العصبية والدولة والحضارة، والظاهرات الاجتماعية، مما يجعل من ابن خلدون رائدا لدراسة التاريخ على أساس حضاري (69).

وإذا كان بعض الباحثين انتقد ابن خلدون، لأن دراساته في نظرهم، تفتقد إلى (الصفة الكلية)، لأنه لم يقم باستقراء شامل لتاريخ العالم، حيث قصر دراسته على تاريخ العرب، بمشرقه ومغربه (70) ، فإن الدكتور الملاح يرى أن هذا الحكم فيه بعض المبالغة، إذ أن دراسة ابن خلدون تضمنت إضافة إلى التاريخ الإسلامي، تواريخ بعض الإمبراطوريات القديمة التي سبقت المسلمين أو عاصرتهم، كما أن تخلف المواصلات في العصور الوسطى تعطي العذر لابن خلدون في ضيق مجال دراساته (71).

العلية : أما بحث ابن خلدون في مقدمته عن العلة أو العلل في التاريخ، فقد أوضح أن التاريخ (هو في ظاهره لا يزيد على أخبار عن الأيام والدول والسوابق من القرون الأول) (72).

غير أنه يرى أن هذه الأخبار من التاريخ، تمثل الأمور الظاهرية، التي يتساوى في فهمها العلماء والجهال، بينما هو يتجاوز هذه المظاهر إلى البحث عن العلل والأسباب المحركة للأحداث .. يقول ابن خلدون في وصف مهمة التاريخ الرئيسة : (وفي باطنه نظر وتحقيق، وتحليل للكائنات ومبادئها دقيق، وعلم بكيفيات الوقائع وأسبابها عميق) (73).

وهكذا فإن ما يهم ابن خلدون من التاريخ، النظر في بواطنه، وليس في ظاهره، ولذا فقد توصل ابن خلدون إلى دراسة التاريخ وفقا لمنهج يمكن عده من ضمن الدراسات الفلسفية : (الحكمة) .. فالتاريخ طبقا لمنظور ابن خلدون، (أصيل في الحكمة عريق، وجدير بأن يعد في علومها وخليق) (74).

لقد كان ابن خلدون مدينا لتراث أمته في بلورة نظرية (علم العمران)، على أن ملكاته وقدراته ومواهبه وعبقريته، كان لها جميعا أكبر الأثر في النجاح الذي أحرزه في ميدان التفسير الحضاري للتاريخ.

ورغم مرور ما ينيف على ستة قرون على وفاة ابن خلدون، فإنه ما يزال يشغل أذهان الباحثين والمفكرين المعاصرين.

================

# نحن والحضارة والشهود (الجزء الأول)

تقديم بقلم: عمر عبيد حسنه

الحمد لله الذي أورثنا الكتاب واصطفانا لحمل الرسالة الخاتمة، جماع الرسالات السماوية، فقال تعالى:{ ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا }( فاطر:32)، وقال: {وأنزلنا إليك الكتاب بالحق مصدقًا لما بين يديه من الكتاب ومهيمنًا عليه... } (المائدة:48)، وجعل الرسالة الخاتمة رسالة إنسانية للعالمين، وجعل الغاية من النبوة إلحاق الرحمة بالعالمين فقال تعالى: { وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين } (الأنبياء:107).

والصلاة والسلام على من انتهت إليه رسالات الأنبياء، وتحققت فيه كمالات الرسل، فبرسالته تكامل الدين وكمل، واختُتمت النبوة، وتم البناء، فجاءت نبوته ورسالته على خط النهاية من الرسل، قال تعالى: {اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينًا }(المائدة:3) ، وقال: { ما كان محمد أبا أحد من رجالكم ولكن كان رسول الله وخاتم النبيين }(الأحزاب:40) ، وقال تعالى: {إنا أوحينا إليك كما أوحينا إلى نوح والنبيين من بعده }(النساء:163). وقال الرسول صلى الله عليه وسلم : [ إن مَثلي ومَثَلَ الأنبياء من قبلي، كمثل رجلٍ بنى بيتًا فأحْسَنهُ وأجْمَلَهُ، إلا موضعَ لبنةٍ من زاويةٍ، فجعلَ الناسُ يطوفونَ بهِ ويعجبون لَهُ، ويقولون: هلاّ وُضِعَتْ هذه اللبنةُ، قال: فأنا اللبنة وأنا خاتم النبيين ](أخرجه البخاري).

وبعد :

فهذا كتاب الأمة الثمانون: (نحن والحضارة والشهود ) للأستاذ الدكتور نعمان عبد الرزاق السامرائي، في سلسلة كتاب الأمة الذي يصدر عن مركز البحوث والدراسات في وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية في دولة قطر، مساهمة في التشكيل الثقافي، والوعي الحضاري، واسترداد دور الأمة المسلمة في الشهود الحضاري والحضور الإنساني، وإعادة تأهيلها لتكون محلاً لشهادة الرسول صلى الله عليه وسلم عليها، ومن ثم تتمتع بصفة المعيارية التي تجعلها مؤهلة لأن تكون شهيدة على الناس، تسهم بمعالجة أزمة الحضارة الإنسانية اليوم، مهتدية في ذلك بقيمها ومرجعيتها وتجربتها الإنسانية التاريخية، بعد هذا التيه من الغياب والشتات والتراجع الحضاري.

إن عملية التحضير لردم فجوة التخلف وعودة الشهود الحضاري والتأهيل لمعاودة الإقلاع واستئناف دور الأمة في البناء الحضاري وبناء رؤية مستقبلية، سوف لا يتحقق لها النجاح ما لم تأخذ في اعتبارها استيعاب الماضي، بكل معطياته، كما تقتضي الإحاطة بالحاضر، بكل مكوناته، كمقدمة للمستقبل، ومن ثم إبصار المستقبل وتوفير واكتساب أدوات بنائه واستكمالها.

ولعلنا لا نأتي بجديد إذا أكدنا أن أي انطلاق من جديد، أو أي إقلاع حضاري، لابد له من الإحاطة بمرحلة القدوة على وجه الخصوص، ذلك أن نهوض أي مجتمع أو معاودة توليده مرهون إلى حد كبير بإعادة استدعاء وتمثل ظروف وشروط ميلاده الأول، فلن يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها، أو كما يقول الإمام مالك رحمه الله.

ذلك أن استقراء الشهود الحضاري، أو استقراء النهوض الحضاري على مستوى الذات (والآخر ) بشكل موضوعي ومنهجي، يؤكد أن فترات التألق والنهوض والإبداع وامتلاك القدرة على التجاوز والإقلاع إنما تمت عند امتلاك القدرة على إعادة بناء المنطلقات، وتوفير الظروف والشروط الملائمة لامتدادها وتجسيدها في واقع الحال.. وفي تاريخنا الحضاري، على تقلباته المتعددة، وتضاريسه المختلفة نبصر هذه المعادلة، بما لا يدع مجالاً للشك.. إن فترات التألق والإبداع والنهوض إنما بدأت بتصويب المنطلقات وإصلاح الخلل.

فالعطاء الحضاري أو الإنجاز الحضاري، على الأصعدة المتعددة، إنما هو التجلي الكلي والأساس لثقافة الأمة ورؤيتها للكون والحياة.. أو بعبارة أخرى، إن عالم الأشياء مدين في وجوده وصموده وامتداده إلى التزود من عالم الأفكار، وإن نمو عالم الأفكار وسلامته وتقبله وانتشاره مشروط بقدرته على ترجمة القيم واستحضار المرجعيات وتجسيدها في واقع الناس، من خلال الإمكانات المتاحة والظروف المحيطة وامتلاك الخصوبة والقدرة على إبداع أوعية التعامل معها، وامتلاك القدرة على تجريدها من ظروف الزمان والمكان والأشخاص، والقدرة على توليدها في كل زمان ومكان وتجمع بشري، بحسب إمكاناته وظروفه.

ومن هنا نقول، وفي ضوء الاستقراء الحضاري للمعادلات الاجتماعية ومشاريع النهوض التاريخية على مستوى الذات والآخر: إنه لا يمكن بحال من الأحوال بناء حضارة أو إقامة ثقافة وبناء عالم أفكار على أصول ثقافية وحضارية لثقافة وحضارة أخرى، ولعل ذلك أصبح من المسلمات الثقافية، بعد رحلة الضلال الطويلة.. وهذا لا يعني الانغلاق والحيلولة دون التبادل المعرفي والمثاقفة والتلاقح (القبول بالآخر )، وإنما ينفي الارتماء وإلغاء الذات وفقدان المعايير.

إن ترجمة القيم والمبادئ إلى برامج، وإيجاد أوعية شرعية لحركة المجتمع، وتوفر المعارف والتخصصات والأدوات التي تمكن من التعامل معها، وتجريدها من ظروف الزمان والمكان والأشخاص، وإعادة توليدها في واقع الحياة، قضية تعتبر من أعلى أنواع الاجتهاد وأشقها.. وهي بطبيعتها خارجة عن نطاق الأماني والرغبات.. وهي بحاجة إلى الكثير من المدارسة والمراجعة والتقويم والتصويب والإفادة من التجربة التاريخية، على مستوى الذات و(الآخر ).

والاجتهاد المطلوب لتطوير الذات وإعادة بنائها، مطلوب بالقدر نفسه لكيفية التعامل مع (الآخر )، واكتشاف المواقع والمداخل التي تمكن من الشهود والمساهمة بالرحلة الحضارية الإنسانية، والمساهمة أيضًا بمعالجة أزمة الحضارة، ذلك أن الادعاء بالحضور والشهود الحضاري بدون الاجتهاد في إبداع الوسائل والأدوات والأوعية لتنزيل القيم على الواقع، واختبار هذا التنزيل، هو نوع من تكريس التخلف وفسح المجال لتمدد (الآخر )، وإجهاض للقيم، وفقدان الثقة بقدرتها على إعادة البناء واستئناف النهوض.

إن عملية الشهود الحضاري، والقيام بالدور المطلوب على مستوى الحضارة الإنسانية، وامتلاك القدرة على تنزيل القيم في الكتاب والسنة على واقع الناس، وتقويم سلوكهم ومجتمعاتهم بها، وإبداع البرامج والأوعية لحركة الحياة، من خلال منطلقات إسلامية، واستيعاب التجربة الحضارية التاريخية والإحاطة بعلم مرحلة السيرة وخير القرون، محل القدوة والتأسي، وتحديد الموقع المناسب لواقع الحياة اليوم من مسيرة السيرة، ليتم الاقتداء المناسب، ويؤتي ثماره بعيدًا عن الحماس والادعاء، يتطلب أول ما يتطلب الشهود على الذات، أو الشهادة على الذات، أو الوعي بالذات، وإعادة المعايرة لها، والشهادة عليها، وتقويمها بقيم الكتاب والسنة، وتحديد مواطن الإصابة والخلل الذي لحق بها، والتعرف على أسبابه والسنن الذي تحكمه، وعدم الاكتفاء بالشكوى والتبرم وملاحظة الأثر والعرض، ومن ثم تحديد الاستطاعة أو تحديد الممكن أو المستطاع، بالمصطلح الشرعي، في هذه المرحلة.

وذلك لأن تجاهل الاستطاعة المتاحة والظروف المحيطة يؤدي إلى خلل في أدوات البحث والمعالجة نفسها، وينزل القيم في الكتاب والسنة على غير محالها، ويقود إلى سوء التقدير، فتحدث الفوضى والإرباك، ويستمر الوهن والإنهاك الحضاري، وتفتقد الثقة بالقيم نفسها، ويحدث نوع من التطاول وأحلام اليقظة، أو (الطوباوية ) إن صح التعبير.

إن سوء التقدير للاستطاعة ومعرفة التكليف في ضوء ذلك، لا يتحقق معه استقامة، ولا يفيد من الاستطاعة المتاحة، وتفعيلها، والبناء عليها لبنة بعد أخرى، وإنما يكون سبيلاً إلى تبديد الاستطاعة المتاحة نفسها، وتضييع الحاضر والمستقبل معًا، وترك ما نملكه، والتطلع إلى ما يملكنا، وبذلك يستمر العجز والتخاذل الثقافي والحضاري، فنلجأ إلى التاريخ لنحتمي به، لا لنعتبر به ونغترف منه ونبصر قوانينه وسننه.. نلجأ إلى التاريخ لنغطي مركب النقص، فنعيش غربة الزمان والمكان، ونحاصر القيم الإسلامية، ونكرس شُبه الأعداء بتاريخيتها وعدم خلودها وقدرتها على الإنتاج في كل زمان ومكان.

وقد يكون الوجه الآخر لسوء تقدير الاستطاعة والظروف المحيطة، التي تعتبر جزءًا من تقديرها، وإدراك حدود التكليف في ضوء ذلك - الأمر الذي أدى ولا يزال إلى القيام بمجازفات غير محسوبة، والتطلع إلى تكاليف فوق الطاقة، بحيث تضيع الطاقة، ويضيع ما فوقها، ونعود بالخسران المبين على الذات - قد يكون الوجه الآخر للإشكالية كامنًا أيضًا في سوء التخطيط لدور الاستطاعة نفسها، والعجز عن حسن توظيفها وإدارتها، واغتنامها، ووضعها في الموقع المناسب والفاعل.

إن سوء التخطيط يؤدي إلى التحرك تحت رايات عُمِّيّة، وذلك عندما يمتلك (الآخر ) أو العدو القدرة على تحريك استطاعاتنا وتوظيفها واستغلالها في معاركه وتصفية حساباته في الأوقات المناسبة، والإفادة منها لصالحه، بحيث نتحول مع استطاعاتنا إلى أدوات مسخرة (للآخر ) ورصيد جاهز لدخول معاركه، دون أن تكون لنا القدرة والإرادة والبصيرة على الإفادة من استطاعاتنا والتخطيط لها لتحقيق الأهداف الإسلامية الممكنة التي تقع في حدود تكليفنا.

وكم من الطاقات الإسلامية والتضحيات الإسلامية هدرت ووظفت لصالح العدو في أكثر من موقع، وكانت عواقبها وآثارها خطيرة على أصحابها، الذين صاروا أولى ضحاياها، فتحولوا من رموز للتضحيات المقدورة إلى أشلاء من الضحايا المحزنة التي تعاني من المطاردة والإحباط.

وما أمر تجربة الجهاد الإسلامي في أفغانستان، والصورة التي بدأ فيها والحال التي انتهى إليها، ومن قبله معظم ثورات التحرير التي بدأت إسلامية جهادية ومن ثم انتهت تطارد الإسلام ثقافة وحضارة وحركة، وتشكل رصيدًا لصالح العدو، عنا ببعيد.

كما أنه ليس بعيدًا عنا أيضًا استدعاء الإسلام في فترات الأزمات ليقدم التضحية ويشكل السلاح الفاعل والدرع الواقي في المواجهة، فإذا ما انتهت الأزمة عاد الإسلام ليكون أول الضحايا!

ونعاود القول: إن الانكفاء التاريخي سوف لا يحقق إلا مجرد الإبقاء على النسب الحضاري والتراثي لهذه الأمة، ذلك أن الالتجاء السليم إلى التاريخ يزود الأمة بالطاقة والبصيرة والعبرة، والاهتداء إلى قوانين الحركة التاريخية أو السنن التي تحكم الحياة والأحياء، وتمكن للعودة المكينة، واستئناف الشهود، بأدوات دقيقة وسليمة ومختبرة تاريخيًا.

وقد يُقابل هذا الانكفاء على الذات والالتجاء السلبي إلى التاريخ لمعالجة مركب النقص، أو الحيلولة دون الاقتلاع، عندما لم ينتج شيئًا ولم يغير ساكنًا ولم يحدث حراكًا ثقافيًا واجتماعيًا، قد يُقابل بلون من الانتحار الحضاري وذلك بالارتماء على (الآخر )، وإعدام الذات، وتجاوز السنن الحضارية والمعادلات الاجتماعية، والتوهم أن نهوض حضارة أو نهوض مجتمع يمكن أن يقوم على أصول حضارية ومعادلات اجتماعية غريبة عنه.

إن الوعي بالذات، والعكوف عليها، وتحديد إصاباتها، ووضع البرامج والخطط لانتشالها، وإعادة إخراجها لمعاودة الشهود واستئناف الدور للانتقال من الشهود الذاتي إلى الشهود الإنساني في ضوء قيم ومعايير الكتاب والسنة، هو الخطوة الأولى على طريق الشهود الحضاري والقيام بأمانة الاستخلاف والعمران وإلحاق الرحمة بالعالمين، الغاية التي من أجلها جاءت الشريعة.

وما لم نتحقق بالشهود على الذات، حقيقة لا ادعاءً، فسوف نستمر في طحن الماء والحراثة في البحر، والمراوحة في أمكنتنا، وإجهاد أنفسنا بلا طائل.

وكون وسائلنا ومشاريعنا وشعاراتنا ورياداتنا وادعاءاتنا السائدة والشائعة لم تنتج إنجازًا، فإن ذلك يعني أن هناك خللاً، وأن باطلاً يصارع باطلاً، أو أننا نتعامل بوسائل معطوبة، أو مناهج قاصرة، أو رؤى حالمة، أو إخلاصًا يفتقر إلى الصواب على أحسن الأحوال.. إن ذلك يقتضي إعادة النظر، وإعادة الفحص والاختبار، مهما تذرعنا بالظروف وشراسة العدو، وحتى في حالات الهروب الكاملة التي تنتابنا في إلقاء التبعية على القدر، لأن ذلك يعني، على أحسن الأحوال، أننا دون سوية المرحلة والتعامل مع الظروف وحسن توظيف الاستطاعات، فنلغي ذاتنا دون أن ندري.

وعندما نلقي بالتبعة على القدر ونتحول إلى جبريين، بمعنى الانتهاء إلى قناعة سلب الإرادة والعجز عن الاختيار، فإن إيماننا وتعاملنا مع قيمنا في الكتاب والسنة وفترة التجسيد في واقع الناس، فيه الكثير من المجافاة للحق والواقع والسيرة والتاريخ وخصائص خير القرون.. فليس المؤمن، في الرؤية الإسلامية، هو الذي يستسلم للقدر، وإنما المؤمن الحق هو الذي يغالب القدر بقدرٍ أحبّ إلى الله، فالأقدار هي السنن التي شرعها الله.. وتعبدنا في هذه الحياة بمدافعة قدر بقدر.

إن المنهج الإسلامي أو المنهج القرآني هو منهج تقويم وتصويب وشهود على الذات قبل (الآخر )، في كل الحالات والأحوال، حتى حالات بناء الأنموذج، التي مثلها كرام الخلق من الصحابة رضوان الله عليهم.. ففي بدر مثلاً، وهي معركة الفرقان، والبدريون، وهم خلاصة الخلق المؤمن - (إن الله عز وجل اطلع على أهل بدر فقال: افعلوا ما شئتم فقد غفرت لكم ) (أخرجه أبو داود)- عندما اختلفوا كبشر في قسمة الغنائم، وفسدت ذات بينهم، وكادت تسوء أخلاقهم، نزع الله أمر قسمتها منهم، وأعاد بناء ذات البين، وبناء الخصائص والصفات التي يجب أن يتحلى بها المؤمن، فقال تعالى: {إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم } (الأنفال:2).. وعندما توهموا أن النصر كان بسبب إقدامهم وشجاعتهم قال الله تعالى: {فلم تقتلوهم ولكن الله قتلهم } (الأنفال:17)، {وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى } (الأنفال:17)، {وما النصر إلا من عند الله } (الأنفال:10) .

لقد أعاد القرآن بناء الذات وتصويب الشهادة عليها، لتكون مؤهلة لحمل الأمانة وتحقيق الشهود الحضاري المستقبلي.

وعندما هُزم المسلمون في أحد، وعلا الكفر واهتزت النفوس، وتشكك بعض المسلمين - وهم من الصحابة- وعندما أُشيع خبر وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم فانقلب بعضهم على أعقابه، جاء القرآن بمساحات تعبيرية هائلة لبيان الخلل، وتحديد الإصابة، والدخول إلى بواطن النفس، ونشر ما داخلها، واختبار النوايا، وبيان أن بعضهم كان يريد الدنيا: {ولقد صدقكم الله وعده إذ تحسونهم بإذنه، حتى إذا فشلتم وتنازعتم في الأمر وعصيتم من بعد ما أراكم ما تحبون منكم من يريد الدنيا ومنكم من يريد الآخرة } (آل عمران:152)... والآيات في ذلك كثيره لا يتسع المجال لإيرادها.

لقد جاء القرآن ليعيد بناء الإخلاص (النية ) وتنقيته من الشوائب، ويعيد بناء الصواب (الفعل ) وتخليصه من المجازفة والارتجال.

وكان لابد من إعادة بناء الذات بجرأة وشجاعة، والشهود عليها، وتقويمها بقيم الكتاب والسنة، لتكون مؤهلة للشهود على (الآخر ).

وفي تقديري أن إشكالات أو إشكاليات بناء الذات، وإعادة تقويمها ومراجعة واقعها، ونقد الحال التي هي عليها، ونقض الباطل، والاجتهاد في تحديد الإصابات ومواطن الخلل والأسباب، تعود إلى حد بعيد إلى اضطراب فهم القيم وكيفية التعامل معها، والتلبس والخلط بين الذات والقيمة، بين نصوص الدين الإلهي المعصوم وصور التدين البشري التي يجري عليها الخطأ والصواب.

ذلك أن التلبس بين قيم الدين المنزل المعصوم وبين صور التدين البشري التي يجري عليها الخطأ والصواب والنقص، يعتبر إشكالية خطيرة من إشكاليات الوعي بالذات وإعادة البناء، وتقويمها بقيم الدين، والانطلاق بعمليات النقد والتقويم والمراجعة.. وقد تقود صور التدين أو علل التدين إلى ممارسة أشكال من عمليات التحريف والمغالاة والانتحال باسم الدين، فيصبح التدين والفهم البشري والاجتهاد هو الدين المعصوم، وبالتالي تحاط صور التدين بأقدار من القدسية، وادعاء العصمة، وتحاط بنماذج من الإرهاب الفكري الديني تشل الفاعلية وتطارد عمليات التقويم والمراجعة والمثاقفة والنقد والنقض، وتتوضع الأخطاء التي هي من طبيعة البشر، وتختل الموازين والمعايير، ويصبح الرجال وصور تدينهم واجتهاداتهم هم المعيار للحق ولمعرفته، ويصبح أي نقد لهم ولممارساتهم واجتهاداتهم، الذي هو في الأصل لصالح الدين ونصوصه المعصومة، نقدًا لقيم الدين نفسه، فتتكرس الأخطاء، وتتعطل الملكات، ويُقتل الإبداع، ويغيب الشهود على الذات، وتختلط الأمور، وتُحاصر قيم الدين، ويُحال دون قدرتها على الإبداع والإنتاج لكل عصر، بحسب مشكلاته، ويصبح الإنسان هو المعيار وهو محل المعايرة في الوقت نفسه.

ولقد حذر القرآن من علل التدين وصور التدين المغشوش حتى لا تتسرب لأمة الرسالة الخاتمة، وذلك عندما تتحول العصمة من القيم إلى الذات، وتتلبس الذات بالقيم والقيم بالذات، وتؤّل النصوص لتسوغ الممارسة، ويصبح لكل إنسان كتاب وسنة.

ولقد حذر تعالى من علل تدين الأمم السابقة، لتكون الأمة المسلمة متحققة بالشهود الحضاري التاريخي فقال: {اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابًا من دون الله } (التوبة:31)، وقال: {إن كثيرًا من الأحبار والرهبان ليأكلون أموال الناس بالباطل } (التوبة:34).

ولعل من الأمور المطلوبة لوعي الذات وإعادة بنائها وتحققها بمؤهلات الشهود أو ممارسة شهود الرسول صلى الله عليه وسلم عليها لتصبح مؤهلة للشهادة على الناس، {لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا ً} (البقرة:143)، أن نتجاوز الرؤية النصفية من الاقتصار في بذل الجهود على إثبات النص وما يتطلب ذلك من الجهود الفكرية والتوثيق وضبط مناهج النقل ومعايير الجرح والتعديل، وأنشطة التحقيق العلمية في المعاهد والجامعات، وما استدعى ذلك من الكلام عن صحة النص وعظمته وخلوده، إلى استكمال الرؤية في الاجتهاد وبذل الجهد، ووضع المناهج والضوابط، لكيفية إعمال النص وتنزيله على الواقع.

صحيح بأن بذل الجهود في حفظ النص ونقله تبقى على غاية من الأهمية، لأنها تحتفظ بالإمكان الحضاري، وتشكل المحور الأساس لحركة الحياة، لكن الاقتصار على ذلك دون التفكير بكيفيات التنزيل وتقويم المجتمع بقيم النص أو بالنص يفقد النص قيمته العملية، ويعطل وظيفته، ويصبح الحفظ والنقل عملية سلبية خارج حركة الحياة.

لقد تحدثنا كثيرًا ولا نزال عن عظمة الإسلام، وصوابية النص وخلوده، وتجربته التاريخية، ومرونته، وتميزه، وقدرته على معالجة مشكلات الحياة في كل زمان ومكان، وقابليته للتطبيق، حتى يكاد ذلك يستغرق أدبيات العمل الإسلامي، أما البحث والدرس والاجتهاد وتقديم البحوث والرسائل الجامعية وتوجيه جهود الباحثين إلى كيفية التنزيل على الواقع، ونصيب الواقع الإسلامي من هذا النص، ومعاودة تقويم واقع المجتمعات بقيم الكتاب والسنة، بحيث ينظر إلى القيم من خلال الواقع، وينظر إلى الواقع من خلال القيم، فواقع محزن.

ولن يتغير هذا الواقع المحزن مالم نجتهد في إيجاد الأدوات الصحيحة لاختبار صور التدين، وإعادة معايرتها، وممارسة الاجتهاد والتجديد، أو بمعنى آخر التحول بالأقدار الكافية من الكلام عن عظمة الإسلام إلى دراسة واقع المسلمين وأسباب عدم تحققهم بهذه العظمة، ووضع المناهج والبرامج والأوعية لبناء صور للتدين تكون في مستوى الدين والعصر، وإتاحة الفرصة لنقد الواقع وصور التدين التي هو عليها، والاجتهاد في اختبار صور التدين وتحديد أسباب الخلل بين عظمة الدين وخيبة المسلمين، وبذلك يتحقق الوعي بالذات، وتصوب مسيرتها في ضوء قيم الدين الخالدة، وتتأهل بعد تصويب الشهادة عليها من الكتاب والسنة لتكون شهيدة على الناس.

ولعل من آثار ذلك ومظاهره أيضًا المباهاة بإنجاز القرن الأول، المشهود له بالخيرية من الرسول بقوله: (خير الناس قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم... ) (أخرجه البخاري).. تلك الخيرية المفترض لها أن تحقق المقاربة، وأن تثير الاقتداء، وتغري به، على الأصعدة المتعددة، فقول الرسول: (خير الناس... ) يعني فيما يعني -إضافة إلى الشهادة النبوية لفهم خير القرون وتنزيلها على الواقع- أن هذا الفهم للقيم من الأمور المرجعية.

وحتى يتحقق الاقتداء بالشكل المناسب، فإن الأمر يتطلب، بالنسبة للأجيال المسلمة في كل عصر، الاجتهاد في محاولة تحديد مجموعة الخصائص والصفات التي بها كانت تلك الخيرية، ووضع المناهج التربوية والإعلامية والثقافية التي تمكن من التحلي بها، والمقاربة منها ولها.

إن قول الرسول صلى الله عليه وسلم -فيما نرى- لا يحمل الإخبار فقط عن ذلك، فالإخبار على أهميته بشهادة الرسول صلى الله عليه وسلم لهذا الجيل، إلا أنه يبقى عن جيل ماض لا سبيل للوصول إليه والانسلاك في إطاره من حيث الزمان والمكان، وإنما يحمل كلام الرسول صلى الله عليه وسلم أيضًا أبعادًا تكليفية لابد من التفكير بكيفية تحقيقها أو مقاربتها على مدى الأجيال، وذلك بتجريد تلك الصفات من قيد الزمان والمكان والأشخاص، ومحاولة توليدها في كل زمان ومكان عن طريق وسائل التربية والتعليم، والتوجيه، والإرشاد، والإعلام، والتثقيف، وتأطير الفهم بعطاء المشهود لهم بتلك الخيرية والهدى من المعصوم.

أما الاقتصار في القراءة لسيرة خير القرون لمجرد الاحتماء بها ومعالجة مركب النقص وتغطية العجز دون القدرة على التحلي والتمثل ودراسة مدى تحقيق هذه الخيرية في الأجيال المستمرة، فتلك المعادلة التي ما تزال بانتظار الحل.. فالجيل عظيم، وصاحب إنجاز متألق وإبداع وبناء حضاري، وأنموذج متفرد... وهذا قد لا يحتاج منا للشهادة له بعد شهادة المعصوم بالخيرية والهداية من الله، وإنما نحن الذين نحتاج للتأهل بخصائص وصفات ذلك الجيل، حتى نتحقق بالشهود على الذات، وتصويب خطواتها، وترميم إصاباتها، وتقويمها بتلك الخصائص والصفات، لتصبح في مستوى الشهادة على نفسها، وقادرة على الشهادة على الناس: {لتكونوا شهداء على الناس } (البقرة:143).

فطالما نحن مفتقرون للشهادة على الذات ومعايرتها بالقيم في الكتاب والسنة وخصائص خير القرون، فسنبقى عاجزين عن الشهادة الحضارية على الناس.

وقد يكون من البدهيات القول: بأن إعادة بناء الذات، وتأهيلها، باسترداد مقومات الشهادة على الذات لتصبح قادرة وقائمة بالشهادة على (الآخر )، أو ممارسة مهمة الشهود الحضاري، لا يتحقق بالرغبات والأمنيات وبمزيد من الحماس والتوثب والحشد والخطب، وإنما لابد له من توفير التخصصات في المجالات المعرفية المتنوعة والمتعددة، وإبداع المناهج والبرامج الدقيقة، واختيار أدوات البحث، وتقويم النتائج وقياسها، واكتشاف مواطن الخلل ومعالجتها بجرأة وشجاعة.

ذلك أن عمليات النقد والتقويم والمراجعة من المهام الوظيفية الكبرى لتحقيق الشهادة على الذات وسلامة مسيرتها، والقيام بواجبات الشهود الحضاري، فأهل الذكر في كل قضية هم المتخصصون بها، المحيطون بعلمها: {فاسأل به خبيرًا } (الفرقان:59)، وأن غير المتخصص عاجز عن تقديم الشهادة وإدراك أبعادها ورؤية متطلباتها، عاجز عن تحملها، عاجر عن أدائها معًا. وأهل الحل والعقد هم أهل الاختصاص الذين يمتلكون الرؤية الشرعية، أو المرجعية الشرعية، التي تفيد من الاختصاص وتوجهه صوب أهدافه.

فلا نستطيع تحقيق الشهود الحضاري، لا على أنفسنا ولا على (الآخر )، إذا كان الكثير من شعب المعرفة التي يتطلبها بناء المجتمع وشهوده، وتقتضيها وظائفه غائبة ومؤذنة بتمدد (الآخر ).

وفي اعتقادي أن الإصابة في هذا الموضوع بالغة ومتجذرة وخطيرة، وتحتاج إلى جهود لفك الأطواق من التقاليد المحكمة على الرقبة، والعزم على اقتحام هذه العقبة، حيث المتحمسون وغير المتخصصين بين المتدينين يفتون بما لا يحيطون بعلمه، ويقتحمون مجالات لا خبرة ولا اختصاص ولا همَّ لهم بها.. والمتخصصون من كثير من المسلمين في بعض شعب المعرفة ما يزالون عاجزين عن إدراك الرؤية الإسلامية للاختصاص وأهمية تكامل الاختصاصات في تحقيق الشهود على الذات، فيغادرون مساحات ومجالات الاختصاص إلى منابر الوعظ والإرشاد، فيدعون ما يحسنون إلى ما لا يحسنون، ونفصل بذلك الدين عن مجالات الحياة عمليًا، أو نفصل الحياة عن قيم الدين، رغم أننا ندعي غير ذلك، وتستمر حالة الاستنقاع الحضاري، ويستمر تمدد (الآخر ) في المجالات والوظائف التي يتطلبها المجتمع المدني، وبعد ذلك ندعي بأننا الشهداء على الناس، رغم الافتقار لمقتضيات الشهادة: { لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيداً } (البقرة:143).

وقد تكون المشكلة التي تكمن وراء الكثير من المجازفات والمفارقات، عدم الإدراك الكامل لحدود التكليف في كل مرحلة وحالة، وإمكانيته، الأمر الذي يؤدي إلى العبث بالأحكام والتكاليف الشرعية، وتنزيلها على غير محالها.

والسبب الأساس في ذلك -في نظري على الأقل- هو الاقتصار بالاجتهاد على فهم النص، وغياب الاجتهاد في محل التنزيل، وإلى أي مدى تتوفر الشروط المطلوبة في المحل أو الاستطاعة المطلوبة لتنزيل الحكم، والله يقول: {لا يكلف الله نفسًا إلا وسعها } (البقرة:286)، ويقول: {وفاتقوا الله ما استطعتم }(التغابن:16)، حتى يكون التكليف في حدود الاستطاعة، وهو ما اصطلحنا على تسميته (فقه الواقع )، الذي هو فقه المحل، وعدم الاقتصار على فقه النص.. وهذه الثنائية بين فقه النص وفقه الواقع، أو المحل، هي في واقع الحال ثنائية فنية لتسهيل الإدراك للموضوع، ذلك أن الحقيقة أن من مقتضيات فقه النص فقه المحل ولافقه لنص دون فقهٍ لمحله.

إن التكليف إذا انعدمت الاستطاعة المطلوبة له، لا يَرِد على الإنسان ابتداءً، وهذا طبيعي في شرع الخالق. فإذا توافرت درجات أعلى من الاستطاعة علا التكليف، وإذا ضعفت أو تراجعت اقتضت من التكليف ما يناسبها.

إن عدم إدراك هذه الحقيقة البدهية التي أدركها الكثير من فقهائنا الأعلام يعتبر من الإشكاليات الكبيرة التي أعاقت ولا تزال تطبيق الشريعة حتى اعتبر أن غير المستطيع غير مكلف، ولا ترد التكاليف في حقه أصلاً.

ومن هنا ندرك أن التخلف، كعملية متراكبة ومتداخلة، لا يقتصر على أن يضعنا دون سوية عصرنا ويؤدي إلى عجزنا عن الشهود الحضاري، وإنما يضعنا أيضًا دون سوية ميراثنا الثقافي والفقهي.

إن العبث بالأحكام الشرعية وتنزيلها على غير محالها تحت شعارات الحماس والحرص على تطبيق الشريعة، لا شك أنه يؤدي إلى إهدار الطاقات، والقيام بمجازفات، والإقدام على أعمال غير محسوبة بدقة، ويعود في النهاية أو المحصلة النهائية، على إجهاض أداء القيم، والتوهم بأن الأزمة أزمة قيم وتجربة حضارية وأطر مرجعية، والحقيقة أن الأزمة أزمة تعامل، وفقه تنزيل، وغياب اختصاص، وفقدان مقومات الشهود.

وهذا العبث بالأحكام الشرعية وتنزيلها على غير محالها، وعدم فقه المحل، وتوفير الاستطاعات لتتوازى مع التكاليف، وتوفير الاطمئنان النفسي،أدى إلى كثير من القلق والاضطراب والتطاول إلى ما لا نستطيع على حساب ما نستطيع، ذلك أن المسلم إذا استفرغ وسعه وبذل استطاعته في التكاليف الشرعية المناسبة لها، فقد طبق الإسلام المكلف به في حاله التي هو عليها ولو لم يستكمل جميع تكاليف الشريعة.

إن غياب فقه الاستطاعة، أو غياب فقه المحل، وعدم إدراك مواصفات الخطاب القرآني بحسب محاله، أدى إلى لون من العجز عن التعامل مع القرآن، والفوضى في إدراك خطابه، ذلك أن من المعروف أن الخطاب القرآني متنوع الأغراض، متعدد المجالات، ولكل حالة ومجال خطابه الملائم له: فخطاب المعركة غير خطاب الحوار، وخطاب الدعوة غير خطاب الدولة، وخطاب النصر غير خطاب الهزيمة، وخطاب العقيدة غير خطاب المعاملة الاجتماعية.

لذلك نقول: إن الفوضى في التنزيل، وقراءة الخطاب القرآني والاستشهاد به في غير محاله، أدى إلى الكثير من الضياع والبلبلة الفكرية، والكوارث الاجتماعية، والإحباطات والأزمات النفسية، كما أدى إلى العجز عن الشهود الذاتي والشهود على (الآخر )، أو الشهود الحضاري بشكل عام.

وعلى الجملة يمكن القول: بأن الإشكالية الأساس في تحقيق الشهود على الذات، الذي يؤهل للشهود على (الآخر )، هي تلبس الذات بالقيم، والخلط بين الدين والتدين، والتجريم والتأثيم والإرهاب الفكري لكل من ينتقد صور التدين، على اعتبار أن هذا النقد وهذه المراجعة والتقويم إنما تنال من قيم الدين المعصوم (!) فاستمر التشوه، وتكرس الكثير من التدين المغشوش، وحلت اجتهادات البشر محل قيم الدين المعصومة الخالدة.

ولعل من مقومات الشهود ومستلزماته، إلى جانب الوعي بالذات وتحقيق الشهود الذاتي وتقويم ذلك بقيم الكتاب والسنة، الوعي (بالآخر )، محل الشهود، والشريك في الشهود والبناء الحضاري.

وفي تقديرنا، أن الوعي (بالآخر ) يتطلب فيما يتطلب المعرفة بعقيدته، وعالم أفكاره، كما يتطلب المعرفة بتاريخه الطويل، أو نصيب هذا التاريخ والفعل البشري من عقيدته وعالم أفكاره، ومن ثم إدراك حاضره وموقع هذا الحاضر من عقيدته وتاريخه، حيث لابد من هذا الوعي لتحديد القواسم المشتركة، وتحديد المداخل الحقيقية لكيفية التعامل معه على بصيرة، وتحقيق الشهود الحضاري المطلوب.

ونحب أن نؤكد هنا أمرًا ما يزال غائبًا عن كثير من العاملين في المجال الإسلامي: أن (الآخر ) موجود من الناحية العملية والواقعية، وأنه محل الدعوة، وأحد أطراف الحوار والجدال، وأحد ميادين سنن المدافعة، واستمرار التاريخ البشري، ولذلك خلقنا الله: {ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة ولا يزالون مختلفين، إلا من رحم ربك ولذلك خلقهم } (هود:118-119) .

إن الاعتراف (بالآخر ) ومعرفته لا يعني إقراره على ماهو عليه، وهذه إشكالية بعض الذهنيات الإسلامية، حيث يقع الخلط بين الاعتراف (بالآخر ) وبين الإقرار بصحة عقيدته ودينه، ذلك أن الله لم يخلق الخلق نسخًا مكررة عن بعضهم، ولو كان ذلك كذلك لانتهى التاريخ، وتوقفت سنن المدافعة، التي تأذن بامتداد الحياة واستمرار الضرب بين الحق والباطل: {كذلك يضرب الله الحق والباطل } (الرعد:17).

وقد لا نكون بحاجة إلى التأكيد على أن القرآن أفرد مساحات تعبيرية هائلة للحديث عن (الآخر )، عقيدته، وعباداته، وعاداته، وتاريخه، وعلل تدينه، وأسباب سقوطه، إلى درجة يمكن أن نقول معها: إن القرآن يمكن أن يعتبر من بعض الوجوه كتابًا في التاريخ الحضاري، أو في الشهود الحضاري الإنساني، حيث عرض للحضارات الإنسانية كمختبر للفعل الإنساني، والسنن والقوانين الاجتماعية التي حكمت سقوطها، وتحديد أسباب السقوط، واستخدم ذلك وسيلة إيضاح لبيان أسباب السقوط والنهوض، لتكون الأمة المسلمة، أمّ الرسالة الخاتمة الشاهدة على الناس، على بينة من الأمر، فلا تنتقل إليها علل التدين وأسباب السقوط، يقول تعالى: {قد خلت من قبلكم سنن فسيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة المكذبين، هذا بيان للناس وهدى وموعظة للمتقين }

(آل عمران:137-138).

وقال تعالى: { وسكنتم في مساكن الذين ظلموا أنفسهم وتبين لكم كيف فعلنا بهم وضربنا لكم الأمثال } (إبراهيم:45)

إن هذا المسح الحضاري، وهذا الشهود التاريخي الحضاري، الذي يقدمه القرآن للأمة الشاهدة على الناس، وهذا الوعي (بالآخر )، ومعرفة الخارطة الحضارية والفكرية والأنماط الحياتية التي لابد أن يبصرها المسلم ليؤدي دوره في الشهادة والقيادة وإلحاق الرحمة بالناس على بصيرة، هو جزء لا يتجزأ من بناء الوعي بالذات.

إن الوعي بالذات، والشهادة عليها، وتأهيلها لشهادة الرسول صلى الله عليه وسلم عليها لا يكتمل إلا بالوعي (بالآخر ): { لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدًا } (البقرة:143)

والوعي (بالآخر ) يمكِّن -كما أسلفنا- من تحديد المشترك الإنساني، ويبيِّن مواطن الخلل، ويحدد المداخل التي تمكِّن من الشهادة عليه، وإيصال الخير له، وتجنب الإصابات التي لحقت به.

والشهود الحضاري سواء أكان على الذات أو على (الآخر )، يتطلب قيمًا ومبادئ ومعايير ثابتة، واضحة ومنضبطة وواقعية، بعيدة عن الهوى وجموح الخيال، وليست من وضع الإنسان حتى لا يصبح الإنسان المعيار ومحل المعايرة في الوقت نفسه، وخالدة مجردة عن حدود الزمان والمكان، مرنة، قادرة على التنزل والتوليد والمعايرة في كل زمان ومكان.

وغني عن البيان القول: بأن القرآن معيار وشاهد على الكتب السابقة، على (الآخر )، لأن أصول الكتب والرسالات انتهت إليه، فجاء مهيمنًا عليها، قال تعالى: {وأنزلنا إليك الكتاب بالحق مصدقًا لما بين يديه من الكتاب ومهيمنًا عليه } (المائدة:48).

والهيمنة هي الرقابة والشهادة المبيِّنة لما هو الصواب في الأصل، وما ناله التحريف والتبديل.. والشهادة هي الإمكانية والقدرة، ومعيار النظر، والبيان للعلل والإصابات.. والرسول شاهد بما نيط به من البيان والتصويب.. والأمة المسلمة شاهدة على الناس بما تحمل من قيم معيارية وحضارية تمثل منهاج التوسط والاعتدال، تمكنها من الحكم على الذات وعلى (الآخر ).

فالقرآن معيار، والسنة بيان القرآن معيار، والسيرة التطبيقية معيار، والأمة المسلمة معيار، والحضارة الوسط معيار.

فقيم الكتاب والسنة هما معايير الشهود.. والشريعة المستنبطة منهما معيار الشرائع.. والأمة المتمثلة بهما معيار الأمم.. والحضارة الناتجة عنهما معيار الحضارات.. وهكذا يتحقق الشهود، بوعي الذات وتصويب مسيرتها، ووعي (الآخر ) وشهوده الحضاري، فضلاً عن وعي معايير الشهود في الكتاب والسنة والسيرة العملية.. أما إذا فُقد المعيار، فإن الأمة تتحول من حال الشاهد إلى واقع المشهود.

وبعد:

فالكتاب الذي نقدمه، بما اضطلع به من محاولة جادة لمسح الفكر الحضاري، يساهم إلى حد بعيد بتقديم رؤية للملف الحضاري، ذلك أن الملف الحضاري، أو ملف الشهود الحضاري، التاريخي والمعاصر بشكل عام، أصبح يشكل أولوية في مجال الدراسات الإنسانية والحضارية، وعلى الأخص عصر العولمة وتحوّل المواجهات من الميدان العسكري إلى الميادين الحضارية والثقافية، والتحول من قوة العضلة والساعد إلى قوة العقل والمعلومة التي تحاول اليوم احتواء العالم.

إن ملف الشهود الحضاري هو الملف المفتوح باستمرار، على مستوى الذات وعلى مستوى (الآخر )، على حد سواء، بعد تحقق الوعي بأن الركائز الحضارية المؤهلة للحياة والاستمرار هي عالم الأفكار، ذلك أن عالم الأشياء بكل أبعاده لا يخرج عن أن يكون تجليًا لعالم الأفكار وناقلاً ومجسدًا له.

فالغياب الحضاري، الذي يتولد عن عدم وعي الذات ووعي (الآخر ) والتحقق بمعايير الشهود الحضاري، يعني الموت والخروج من ساحة الشهود.. كما أن فقدان معايير الشهود يعني السقوط والارتماء الحضاري، أو العمى الحضاري.. إضافة إلى أن عدم وعي (الآخر ) يعطل مهمة الشهود وإلحاق الرحمة بالعالمين.

والكتاب، إلى جانب ما يقدمه من مسح للمكتبة الحضارية على مستوى الذات (والآخر ) نوعًا ما، يعتبر محاولة لاستقراء عالم الأفكار لمعرفة الذات (والآخر )، يمكن أن تساهم بتشكيل ثقافة حضارية، ويضع لبنة على طريق استرداد الشهود الحضاري للأمة المسلمة، والتدليل على أن الأمة المسلمة، التي هي خلاصة تجارب الأمم الحضارية، بما تمتلك من شهود تاريخي، وشهود الخاتمية، وشهود الوسط، ومعايير خارجة عن وضع الإنسان، مؤهلة لإنقاذ الحضارة الإنسانية اليوم وإلحاق الرحمة بالعالمين.

والحمد لله رب العالمين

=============

# المقدمة

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على النبي الأمين وآله الطيبين وصحابته المجاهدين..

وبعد:

فإن أمتنا تعيش أزمة، والواجب على كل مفكر غيور ومثقف نزيه مخلص أن يدلنا على مكامن الخطأ والتقصير.. فهل هي أزمة سياسية، أم أزمة ثقافية فكرية، أم أزمة قيم وأخلاق، أم أزمة تربية وتعليم، أم هي خليط من كل ذلك؟ وكيف المخرج؟ ابتداءً، لقد مرت أمتنا من العصر الجاهلي إلى اليوم بعدة أحوال ومراحل:

1- مرحلة ما قبل الإسلام، قبائل لا تجمعها دولة ولا نظام، يحارب بعضها بعضًا، ويغِير بعضها على بعض، ويتسابق حصان وفرس (داحس والغبراء ) فتختلف أيهما سبق، فيكلف ذلك حربًا، تستمر عقودًا من السنين.

2- جاء الإسلام فوحد الأمة، ودفعها نحو القيادة والريادة، ونشر الإسلام في العالم، فصرنا بفضل الله قادة العالم وسادته، لعدة قرون، لا يستطيع أحد أن يتجاهلنا، ولا يتخطانا، ثم أقمنا صرحًا حضاريًا، لا تزال معالمه ماثلة للعيان، وأنتجنا ثقافة ما زلنا نعتاش عليها.

3- ثم بدأ العد التنازلي، والبعد عن أساس نهضتنا، فتجمد فكرنا، وتحولنا من المضمون إلى الشكل، ومن القيم والأفكار إلى الأشياء، ففقدنا القيادة، بل ضيعنا السيادة في بلادنا، فاجتاحنا الكثير من برابرة العالم، ابتداءً من الصليبين الهمج، إلى المغول البدو، وأخيرًا جاء الغرب الاستعماري بأساطيله وجنوده وثقافته، فكانت أكبر ضربة تتلقاها الأمة في حياتها.

وقبل أن يجلو الاستعمار عن الأرض والعقول والقلوب، زرع لغمًا كبيرًا هو إسرائيل، ومدها بكل وسائل الاستمرار والتفوق، وما يزال يمدها حتى اليوم.

وهنا أستذكر قضيتين، واحدة قديمة وأخرى جديدة:

1- القضية الأولى: تقود للعصر العباسي، حيث أوصى المأمون أن يكون الخليفة من بعده (المعتصم )، وليس ولده، ولما كان المعتصم لم يتعلم جيدًا، فقد أحاط نفسه بمجموعة من المستشارين على رأسهم (ابن أبي الربيع)، الذي كتب للمعتصم كتاب (سلوك المالك في تدبير الممالك ) (1)، وكان الشخص الثاني (إسحاق بن إبراهيم المصعبي )، وقد طلب إليه المعتصم أن يجيب: لماذا نجح المأمون في تعاملاته وخلافته، بينما لم ينجح المعتصم؟

لقد خاف المستشار المصعبي من غضب المعتصم، إن هو صارحه السبب، فطلب أن يعفيه من ذلك، لكن المعتصم أصر على رغبته بالحصول على جواب سليم مقنع. هنا قال المصعبي: هل أنا آمن من غضبك؟ فرد المعتصم بالإيجاب.

قال المصعبي بإيجاز: لقد نظر أخوك إلى (أصول) فاستعملها فأنجبت، واستعمل أمير المؤمنين (فروعًا ) فلم تنجب شيئاً.. وهنا قال المعتصم: ويحك يا مصعبي، والله إن ما أعانيه أيسر عليّ من جوابك هذا!

هذه (المشورة ) عمرها أكثر من ألف عام، مفادها: أن المأمون اعتمد أصولاً لسياسته فأثمرت، والمعتصم اعتمد فروعًا فلم تنتج ولم تنجب.

2- القضية الثانية: خلال الحرب الكونية الثانية تحالف الألمان واليابان والإيطاليون ضد الغرب بما في ذلك أمريكا، وكانت حربًا قذرة بمعنى الكلمة، خلت من كل رحمة، فدكت المدن، وأزهقت أرواح أكثر من خمسين مليونًا من البشر، وجاع وتشرد الملايين من البشر، ونهبت بلاد ومصانع، وفرضت غرامات، وضربت هيروشيما وناكزاكي بقنابل نووية لأول مرة في التاريخ، وانتهت هذه الحرب بصورة من الدمار لم تعرفه البشرية.

وخلال سنوات حصلت مفارقة غريبة، فقد تقدم المغلوب على غالبه، وتجاوز المهزوم هزيمته ومن هزمه، فما السر وراء ذلك ؟

أحسب أن عالم (الأشياء ) دمر ونهب، ولكن الإنسان وفكره بقي، فأقام كيانه مجددًا، وتخطى من هزمه. ولعل من تتمة هذا، الإشارة إلى ما حققته الدول الاشتراكية من إرسال صاروخ إلى الفضاء، قبل أمريكا والغرب، فقامت أمريكا ولم تقعد لهذا السبق، لذا أعادت النظر في مناهج التعليم، من رياض الأطفال وحتى الجامعات، كما فتحت أبوابها لهجرة العلماء، من كل بقاع الأرض، ولم يهدأ لها بال، ولم تسترح حتى أرسلت صاروخًا إلى الفضاء، وكان ذلك عيدًا وأي عيد!

والآن أود أن أتساءل: هل الفكر هو العقل، أم العلم، أم الثقافة، أم هو الأحكام والمبادئ، أم حصيلة جمع ذلك كله ؟

إن الأفكار هي الضابط لسير المجتمع، والمانع من تراكم الأخطاء، والتآكل والصدأ.

العالم الصناعي اليوم ينشئ مراكز البحث، ويمدها بكل ما تحتاج(1)، فأين مراكز البحث عندنا ؟

أخيرًا: هل أزمتنا أزمة قيم، أم أزمة فكر ؟

إن شخصية الفرد المسلم تعيش أزمة، ليست بنت اليوم، لكنها تطاول عليها الزمن فأفرزت إفرازات ضارة، وربما قاتلة.

لقد افتقدت شخصية المسلم منهجيتها، وتراجع شهودها الحضاري، فنتج عجز عن التقويم والمراجعة ومعرفة أسباب التقصير والقصور، وكذلك تحديد أماكن الخلل والخطل، لقد خرجنا بعيدًا عن الفعل والفاعلية، وصار التحضر ليس من همومنا، كل ذلك ليس بسبب فقر القيم، ولا المرجعية السليمة، فما زال كتاب الله يتلى، وما زالت سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم تدرس، وما زال إيمان جمهور الأمة بالإسلام كبير.

ليست مشكلتنا مشكلة قيم، ولا أزمة قيم -كما يحلو لبعض أبنائنا، وكل أعدائنا أن يصورها- وإنما المشكلة -في تصوري المتواضع- في العجز عن التعامل مع القيم، وفرضها على الواقع، أو الملاءمة بين هذه القيم والواقع الحياتي، وهذه مهمة الفكر، ووظيفة الفكر.

هناك جهات داخلية وخارجية، تريد أن تقنعنا بأن أزمتنا في قيمنا ذاتها، وتريد أن تهيل التراب على الإسلام، عقيدة وشريعة وحضارة وثقافة وتراثًا، فإن تعذر، فليكن عقيدة بلا شريعة، وعبادة بلا تشريع. إن انحسارنا الحضاري والثقافي، كان وما يزال أزمة فكر، فقد توقف النسق الفكري للحضارة والثقافة الإسلامية منذ قرون، وصار المعتقد: (لم يترك الأوائل للأواخر شيئًا ).

والمطلوب حاليًا أن نحاول بكل جد وإخلاص تحديد الأزمة، ومعرفة آثارها، ثم تحديد مواطن الخطأ والصواب، وكل ذلك وفق منهج يستلهم القيم، لا أن يقفز فوقها أو يهيل التراب عليها، ويستبدل بها قيمًا خارجية لا تمت إلينا بصلة.

هناك قيم عامة للبشر، وهناك قيم لكل حضارة وكل أمة.. قد تعيش الأمة بدون حضارة، لكنها لا تعيش بدون ثقافة وقيم.

ولم يسجل التاريخ اسم أمة نزعت ثقافتها مرة واحدة، كما يخلع الإنسان ملابسه ويغيرها.

الثقافة صانعة الهوية، ومانحة الولاء، والذين يحتقرون ثقافتهم أولئك انسخلوا من الأمة، ولم يبق لهم بها صلة غير (المكان ).

وكم في العالم من بشر جسمه في وطنه، وقلبه وعقله يطوف حول أصنام لندن أو باريس أو واشنطن.. جسده هنا، أما عقله وقلبه فهناك، إنه مأزوم مهزوم، حتى سويداء القلب، ونخاع العظم.

ويقول (فرانك أنلو ): (راقب أفكارك فإنها تتحول إلى كلمات.. راقب كلماتك فإنها تصبح أفعالاً.. راقب أفعالك فإنها تتحول إلى عادات.. راقب عاداتك فإنها تصبح طباعًا.. راقب طباعك فإنها ظلال مصيرك... )

والله الموفق والمعين

===============

# تمهيد

هناك مفاهيم تطرح هنا وهناك، تبدأ عادة يلفها غموض، ثم مع الأيام تتضح وتتبين، وأحيانًا يصاغ لها الغموض ويراد.

وأحيانًا يدخل التحريف لسبب ما.

فالمفهوم يمكن وصفه أو توصيفه بأنه شيء معرفي جامع، صاحب هوية، وربما تاريخ ميلاد، وشيء من تطور في دلالته، يوسع في دائرته أو يضيق فيها.

والأمر الذي يلمحه المتابع أن دائرة المفاهيم هي ميدان للصراع الفكري الثقافي، قديمًا وحديثًا، ساهمت فيه الأديان والمعارف البشرية.

والصدمات الحضارية، تصيب أول ما تصيب المفاهيم الثقافية، أما الأمراض التي تضربها فتتراوح بين الغموض والميوعة والتيبس.

والأمة -أي أمة- قد تستعير مفاهيم من حضارة أو ثقافة أخرى لتتداولها، ناسية خصوصيتها، خالطة بين المعارف الإنسانية العامة المشتركة كالرياضيات والفيزياء والفلك وعلوم النبات، والعلوم (المِلّية ) الخاصة، فهنا يتسرب الغموض، ويحدث الارتباك، وتتعدد المصطلحات والتعابير الدالة على معان واحدة -ظاهريًا- وليست كذلك في الحقيقة، وكأنها مترادفات.

والذين يتابعون الحوار في المؤتمرات، وعلى شبكات التلفزة، يشعرون أكثر من غيرهم بذلك.

فالذين يتحدثون عن الديمقراطية أو العلمانية أو الحداثة، أو ما بعد الحداثة، وحتى الوجودية والماسونية، يستمع لهم المتابع ليجد مصطلحات واحدة وتفسيرًا مختلفًا كل الاختلاف، لذا يجب تحديد المصطلحات والمفاهيم أولاً قبل الخوض في الحوار والنقاش.

إن الحوار يفقد معناه، إن لم تحدد المفاهيم بدقة وموضوعية، وأحيانًا يصعب النقد إن لم يصبح مستحيلاً، دون تحديد المفاهيم.

وقد يصير عالم (الأفكار ) فاقداً المضمون، دون تحديد للمفاهيم، ويتبع ذلك أن الأمة تصاب بنوع من التشوش، فتتحول من عالم الأفكار إلى عالم الأشياء، وبدلاً من معرفة الرجال عن طريق الحقيقة، يصار إلى معرفة الحقيقة عن طريق الرجال، كما أشار إلى ذلك أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه.

العالم، قديمه وحديثه، يشهد تصادمًا ثقافيًا، فضاؤه الأكبر حول المفاهيم، من هنا يمكنني فهم قول الحق سبحانه وتعالى، وهو يتحدث عن الاستخلاف في الأرض وجدارة الإنسان له: (وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك قال إني أعلم ما لا تعلمون ) (البقرة:30).

والقضية ملفتة للنظر، فالله يقول للشيء: (كن فيكون )، لا راد لأمره، ولا معقب لكلامه، وهو هنا يعرض على الملائكة أمر الاستخلاف في الأرض، فإذا كشفوا عن تصورهم بأحقيتهم بذلك الاستخلاف، كاشفين عن عيب في هذا المستخلف، أجملوه أولاً بأنه مفسد، ثم أوضحوا: بأنه يسفك الدماء، ثم يأتي الجواب فيه نوع غرابة، إذ لم ينف الحق عن هذا المستخلف هذه التهمة، لكنه بدلاً من ذلك كشف عن مزية، وهي القابلية العالية للتعلم، على حين لا تملك الملائكة هذه القابلية، فينجح آدم في الاختبار.

والأمر الآخر الذي أريد التفكر فيه هو تعليم الله تعالى الأسماء لآدم عليه السلام، وهذا يعني أن هناك معارف قدمها الله تعالى للإنسان، وأخرى تركها ليصل إليها بجده واجتهاده.

وإذن فليس من العقل ولا من المنطق، ولا من المصلحة، أن يترك الإنسان ما قدمه له خالقه، ليشتغل به بعقله المجرد.. وتاريخ الفلسفة قديمًا وحديثًا يخبرنا بذلك التخبط البشري، خصوصًا في الجانب (الميتافيزيقي )، فما يقوله فيلسوف، ينقضه تلميذه، وما تتبناه فلسفة، تنقضه غيرها.

فتعليم الله جدير بأن يُعضّ عليه بالنواجذ، ففي العقائد والعبادة، وفي ذات الله تعالى وصفاته، وما يحدث في اليوم الآخر، لا يجوز بحال أن نستبدل معارف بشرية ناقصة بما قدمه الله تعالى لنا.. وسوف أضرب بعض الأمثلة:

أولها: إن الله تعالى تحدث عن العائلة، فجعلها مشروعة وفق عقد رضائي بين رجل وامرأة، بشروط معينة، إذ بيّن لنا ما يجوز بينهما -الرجل والمرأة- من زواج وما لايجوز، فإذا جرى العقد وشهد بذلك شهود، ليحفظوا حقوق الكل، وينفوا حصول الزنى، قامت العائلة، هذا في الإسلام.. جاء الغرب اليوم (ليتلاعب ) بالعائلة وليقول: لا حاجة للعقد، ولا لإشهار الزواج، ويمكن للرجل والمرأة أن يتعاشرا دون عقد، وينجبا الأولاد، فإن شاء الرجل اعترف بالأولاد، فحملوا اسمه، ونُسبوا إليه، وإلا نسبوا إلى أمهم، وصاروا أولادًا غير شرعيين. ولم يقف الغرب عند هذا الحد، بل أتاح الزواج المثلي كأن يتزوج الرجل رجلاً أيضًا، ورسم لذلك (قسسًا ) ينجزون العقد، وهناك مطالبة من قوم (لوط ) من اليهود، أن يكون لهم (حاخام ) أيضًا.

ومن يدري ، فقد يطلع علينا الغرب غدًا بتشريع يسمح بأن يتزوج رجل من كلبة، وتتزوج امرأة من كلب أو قرد، أو بغل!!!

هذا التلاعب، خطر وعبث وقد نشرت بعض الصحف الغربية قضية وناقشتها، ملخصها: أن رجلين من قوم ((لوط )) خلطا (منيهما ) وأخذا بيضة من امرأة، ثم جرى تلقيحها لتزرع في رحم امرأة أخرى، فإذا جاء المولود (المبارك ) فلمن سيكون؟؟ إنه استنساخ جديد أو استمساخ جديد، وعبث يصعب تصوره، أو فهم الهدف منه!!!

قضية أخرى: اليهود يتلاعبون بكل شيء، ومن ذلك كلام الله، فكانوا يتلاعبون بمقولة: (راعنا ليجعلوها من الرعونة )، فأنزل الله قوله: (يا أيها الذين آمنوا لا تقولوا راعنا وقولوا انظرنا ) (البقرة:104). فمن أجل قطع الطريق على المتلاعبين جاء الأمر بترك (راعنا )، علمًا بأنه لا يوجد فرق كبير بين {راعنا } و{انظرنا }.

ولعل من الأمثلة التي لمستها، أن الشخص الماسوني الغربي لكونه لا يخاف فإنه يذكر أن الماسونية لا دينية، وأنها تعمل لإعادة بناء هيكل سليمان، أما أخوه الماسوني الشرقي فينفي ذلك كليًا(1).

قضية العلمانية: في الغرب تعني تقاسم السلطة بين الكنيسة والدولة، الكنيسة مسؤولة عن العقيدة والعبادة وإقامة القداسات والوصايا، وما سوى ذلك للدولة، ولا أحد يتدخل في اختصاصات الطرف الآخر. فلما نُقلت إلى الشرق الإسلامي، صار معنى العلمانية الإلحاد، ورفض الإسلام شريعة، ومحاربته دون سواه من الأديان، وتدخل الدولة في كل صغيرة وكبيرة من أمور الإسلام.

وقل مثل ذلك في الديمقراطية والوجودية والحداثة وما بعد الحداثة والبنيوية وأمثال ذلك.

فالمصطلحات أو المفاهيم هذه وأمثالها تنقل وهي (محملة ) بخلفيات ثقافية، ومرتبطة بأصول ومرجعيات، وحين تنقل إلينا يحدث الكثير من الخبط والخلط.. و(الدين ) خير مثال، فالإنسان المسلم يفهم الدين أو الإسلام على أنه منهج حياة، ليس من حق الحاكم ولا المحكوم أن يتجاوزه، إذ لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق. أما (الدين ) في المنهج الغربي فهو علاقة بين الإنسان وربه، أي عقيدة وعبادة ليس إلا.

وحين باشرنا الترجمة عن الأمم والثقافات الأخرى، ابتدأنا بعلوم اليونان، فلسفة ومنطق ورياضيات وطب، وتركنا الآداب مع جمالها، لأنها وثنية تؤمن بتعدد الآلهة.. وكان الذين ترجموا أولاً عن اللغة اللاتينية، من اليهود والنصارى، لذا لم يكن ثمة تعليق أو بيان للخطأ والصواب، ومن هنا دخل ثقافتنا الكثير من المفاهيم والمصطلحات، مثل: واجب الوجود بنفسه وبغيره، والجوهر والعرض، والمادة والهيولى، والجوهر الفرد، والجزء الذي لا يتجزأ، وأن الله قديم، والكلام حديث، فالله ليس محلاً للحوادث، وإذن فلم يتكلم، مع أنه تعالى يقول: (وكلم الله موسى تكليمًا ) (النساء:164 )، إلى أشياء كثيرة، حتى اضطررنا لإنشاء علم يرد على ذلك كله، أسميناه: (علم الكلام )، انتهى باختراع شبهات، والرد عليها، لقد تحول علماء الكلام إلى (دون كشوتيه ) يحاربون شبهات، قد لا تكون موجودة أساسًا.

أريد أن أصل إلى القول: بأن أزمتنا الطاحنة اليوم، من أكبر أسبابها الاحتكاك غير المنضبط بالغرب، حضارة وثقافة، وكسر كافة الحواجز، بيننا وبينه.

ومعلوم حين تصطدم حضارتان أو ثقافتان فإن الأقوى تطرد الأضعف وتحجمها، ثم يتبع ذلك فقدان الثقة بها من قبل أهلها، وتتوقف عن التعامل مع الواقع، لتحاول أن تتكيف مع العالم، ولتفسح له المجال لفرض مفاهيمه ومصطلحاته.

من هنا رحنا ومنذ أكثر من قرن، نقابل بين الأصالة والمعاصرة، بين التراث والحداثة، بين التقليد والتجديد، فإما هذا أو ذاك.

وهكذا شغلنا بمعارك، ما تزال تستنزف المبتقي من طاقاتنا، ثم لم نحقق شيئًا، لاحققنا تقدمًا في المعرفة، هدمنا القديم، ولم نبن جديدًا.

المفاهيم الجديدة صارت وسيلة تشرذم وتشتت، بدل أن تكون أداة علم ومعرفة وإيضاح، لقد حصل تداخل وتشابك عجيب، بين الموروث المعرفي الثقافي القديم، والوافد الجديد، فحصل تخلخل في الإجماع الذي تبخر، ففي بلد عربي نسمع بأن نظامه إسلامي أكثر من اللازم، هذا ما يقوله المغتربون، وفي نفس الوقت نسمع بأن هذا النظام إسلامي شكلاً فقط، وهذا ما يقوله التراثيون، ولا يوجد نظام في العالم يمكن أن يصدق فيه الوصفان معًا!!!

لقد ضاع الإجماع الثقافي، فتكرست الاختلافات داخل الأمة، حتى صارت المفاهيم الجديدة الوافدة هدفًا ومقصدًا لبعض الأطراف، تريد فرضه بالقوة على الأمة، رضيت أم سخطت، وعُوملت الأمة وكأنها مخلوق قاصر تقتضي المصلحة على أن يجبر على قبول بعض المفاهيم والقيم، شاء أم أبى.

وأريد هنا أن أسجل بعض ما قاله المستشرق البرتغالي (أرنولد شوبرت )(1) قد حضر في القاهرة مؤتمرًا، وأجرى مندوب مجلة الدعوة السعودية معه حوارًا صريحًا، تحدث فيه عن اللغة العربية وعبقريتها، وعن أسباب تخلف المسلمين، وعن صورة الإسلام في الغرب، وسبب الهجمة الشرسة عليه، وأخيرًا عن الحداثة وبعض الحداثيين عندنا.

فعن تخلف المسلمين يرى أنه عقوبة مستحقة على المسلمين، لتخليهم عن دينهم، وليس لتمسكهم به. ويزيد: أن الأديان عمومًا لم تكن مسؤولة عن الكوارث ولا المجاعات.

وعن سبب نظرة الغرب للإسلام وأهله، يقول: بأن صورة الإسلام في الغرب قاتمة، بسبب الموقف العدائي للغرب ضد الإسلام، منذ العصور الوسطى، وما تبعها من احتلال الغرب لبلاد العرب، وإذلالهم ماديًا ومعنويًا، واليوم تساهم الصهيونية في تشويه الصورة، وتدمغ الإسلام بأنه دين (إرهابي دموي )، من أجل تخويف الغرب منه، ومن انتشاره، وبهدف وقف زحفه.

وعن موقف الإسلام من الإبداع والابتكار، وعن موقفه من المرأة يقول (أرنولد ): إن الإسلام لم يظلم المرأة، بل أنصفها وكرمها وحافظ عليها، بما لا تعرف الشرائع والفلسفات الشرقية أو الغربية له مثيلاً في تاريخها.

كما أن الإسلام لا يقف في وجه الإبداع والابتكار، والتفكر في الأنفس والآفاق، وهو لا يحجر على العقول، بل يدعو دومًا إلى إعمال العقول.

وحول المجال الثقافي للمسلمين، يرى بأنهم لم يقتصروا على فن دون فن، ولا علم معين دون سواه، والقرآن أورد كل ما ينفع الناس من علم وهداية، وتشريع وفقه وعبادة، ودين ودنيا. وقد أقبل المسلمون على سائر العلوم والفنون يتعلمونها، حتى تفوقوا فيها، لذا تنوعت معارفهم، فلم يتركوا علمًا إلا درسوه، وقد أدهشت نهضتهم العلمية السريعة الدنيا، وهم يجمعون بين العلم والحكمة والأدب، وأوروبا اليوم تشهد كلها أن المسلمين كانوا وراء نهضتها.

وعن الحداثة تكلم (أرنولد ) بكل وضوح حين سأله مندوب المجلة قائلاً: رأيناك تهاجم الحداثة في المؤتمر، مع أن هذه النظرية روّج لها الغرب، وصدرها إلى العالم، فما خطورتها؟ أجاب (أرنولد ): أوروبا تكاد تنسى هذه النظرية، بعدما فشلت، فلاقت هجومًا عنيفًا من دعاة الأصالة، لكن المثقفين العرب لا يزالون ينظرون إليها ويقبلونها، وقد سرت فيهم إلى حد غير معقول.

لقد اعترفت أوروبا بكونها موجة خاطئة، مليئة بالفوضى والعبث، وهكذا جاءت ردود فعل عنيفة ضدها من مفكري الغرب، قائلين بأنها تسبب الاضطراب في صفوف الأمة، وتفسد ذوقها، وتشوه إحساسها بالجمال، فضلاً عن نشر التفكك في التراكيب اللغوية، ولذا فقد عجبت أشد العجب عندما رأيت من يدافع عنها في المؤتمر، بعدما تخلى الغرب عنها وتنكروا لها.

إن هذه (التقاليع ) وليدة بيئات الفراغ والترف.. وأنا أدعو الجميع، ليقفوا صفًا في وجه التيارات والمذاهب التي تهب عليكم من كل جانب، كي تحافظوا على شخصيتكم.

بعد هذا أود أن يقرأ أبناؤنا من عشاق الحداثة ما تقدم، وأضيف إليه نصًا للدكتور عبد الوهاب المسيري، حيث يقول(1): (ببساطة لقد اكتشفنا أن (الحداثة) المنفصلة عن القيم، أي عن الإنسان، لم تُودِ بالله تعالى فحسب، بل أودت بالإنسان ثم بالطبيعة.. والتحدي الأكبر، الذي يواجهنا في عالمنا العربي والإسلامي، بل العالم بأسره هو: كيف نتوصل إلى حداثة جديدة، تسخر السلع والعلم لخدمة الإنسان، ولا تسخر الإنسان لخدمة السلع والعلم.. حداثة لا تضع أمامنا الاختيار الساذج، بين مستقبل بدون ماضٍ ولا هوية، أو ماضٍ وهوية ولكن بدون مستقبل.. حداثة نحقق من خلالها التقدم، دون أن نفقد توازننا مع أنفسنا، أو مع بيئتنا الطبيعية.. حداثة غير منفصلة عن القيم ).

نعم وبكل العزم، نريد حداثة لا تجعل منا تابعًا ندور في فلك (الغير) ، بل جرمًا مستقلاً له كيانه وهويته وذاتيته، وله قيمه وثقافته ومشروعه الحضاري.

من الحق أن نقول: (بأن نخبنا الثقافية قد خدعت برنين الألفاظ وبريقها،ثم غفلت أو تغافلت عن كون هذه المفاهيم تحمل معاني وقيمًا يصعب قبولها ونقلها، ذلك أن البناء الثقافي والحضاري لا يمكن أن يركب تركيبًا، ولا يفرض بقرار سياسي، فإن لم يوجد في الأمة عقول مبدعة، تستطيع أن تصك ) مفاهيم، فإن الأمر يبقى تقليدًا جامدًا ومراوحة في المكان.

يحلو (للبعض ) أن يقارن بيننا وبين اليابان بالنسبة للغرب وثقافته، فيقول: كانت اليابان تتلمذ على الغرب مدة، ثم شبت وبلغت فتجاوزت الأستاذ، أما نحن فقد كنا مجرد (زبائن )، والزبون تهمه البضاعة، يأخذها ولا يسأل عن أمر آخر.

التلميذ يكبر، فيصبح أستاذاً، والزبون إذا كبر صار مثل (جهنم ) يصرخ دومًا: (هل من مزيد ) (ق:30)؟!

لقد مضى على زبونيتنا للغرب أكثر من قرنين، فما ازددنا إلا تابعية، وإلا ضعفًا فوق ضعف.. إن الحادي الذي يريد تحريك الأمة، لن يكون من خارجها، ومن عدوها، ولن يكون بما يخالف ويصادم ويناقض قيمها ومفاهيمها.

لا بد أن يتنامى وعينا ذاتيًا، وتنطلق طاقاتنا، قناعة لا قصرًا، وعلاج أوجه التقصير كافة، وإزاحة العوائق، كي نتحرك كأمة، كما تحركنا بعد انتشار الإسلام، أما أن نتحول إلى شراذم، يحارب بعضنا بعضًا، ويكيد بعضنا لبعض، ويستقوي بعضنا بالعدو على أهله، فلن نصل إلى شيء، إنها لعبة شد الحبل وكفى.

لقد صرنا حقًلا تجريبيًا، لكل المفاهيم والأنظمة، وجربت فينا ما يناسب وما لا يناسب من الأنظمة والمفاهيم، وكانت النتيجة قبض الريح، والحراثة في البحر!!!

ويعجبي ما كتبه د.برهان غليون -الأستاذ بجامعة السربون- في كتابه: (اغتيال العقل )، وطرحه القضية الثقافية والحداثة بقوة وشجاعة.

يقول د. غليون(1): التنافس الثقافي عامل أساسي في تقرير مستقبل الأمم، والشعوب والجماعات ومصيرها، ولا تتخلى جماعة عن ثقافتها أو تمايزها الثقافي، مهما كانت درجة هذه الثقافة من الضعف، إلا إذا قررت الانتحار الذاتي، والاندماج في غيرها من الجماعات، وحل جميع الثقافات وإدماجها في ثقافة عالمية واحدة يعني قتل إمكانية إخصاب الحضارة مستقبلاً...اهـ .

وحين تتمدد ثقافة -كالثقافة الغربية اليوم- فهي تحاصر الثقافات الأخرى، وتطردها بعيدًا، بحيث تظهر الثقافة المتمددة وكأنها الوحيدة الحية الفاعلة، وما عداها قد عفا عليه الزمن(2). وهذا ما يدفع الجماعات المحلية إلى النظر بسلبية إلى ثقافتها الخاصة، والاعتقاد بأنها خاوية وجامدة، ولا حياة فيها، ومفتقدة لكل القيم الإنسانية الحية، العقلية منها والروحية والإبداعية، فكل تجاوز حضاري يؤدي إلى تقييم أكبر للثقافة المرتبطة به، وإلى الانتقاص من قيمة الثقافة التي لم تلعب دورًا، أو كان دورها ضئيلاً في هذا التجاوز الحضاري.

ويظهر هذا الانتقاص في تخلي أصحاب هذه الثقافة عنها، فتنتشر الحضارة الصاعدة، خارج وطنها، ولتصبح ثقافة الشعوب (المتبناة )، بعد أن كانت وسيلة لغزوها وإخضاعها، عندئذ لا تستطيع هذه الشعوب أن تفكر بذاتها ولا بوضعها، إلا من خلال (المفاهيم ) التي تفرضها الثقافة السائدة، والرؤية العامة الروحية والتاريخية، التي تنشرها وتعممها، فيكون وعيها -أي هذه الأمم- لذاتها هو وعي بغيرها، فلا يقوم إلا به.

ومن لا يصدق ذلك، فلينظر إلى تبني أبناء المستعمرات لثقافة المحتل، حتى بعد رحيله.

وأختم هذ التمهيد -الذي طال واستطال- بما تصوره د. غليون مما تريده الثقافة الغربية من باقي الثقافات. يقول د.غليون(1): إن الثقافة الغربية لا تكتفي -كالثقافات الكلاسيكية- بإلحاق ثقافات متعددة بها، والسماح لها بالحياة داخل (مدينة) واحدة، تسيطر عليها، وتتحكم فيها القيم، إنها تطلب (حل) جميع الثقافات الأخرى، ثم استبدالها بثقافة واحدة، شكلاً ومضمونًا، ومن هنا يتأتى إخفاق هذه الحضارة في تكوين إمبراطورية عالمية أولاً، وفي تسعيرها للنزعات القومية، بشكل لا سابق له، وهي وإن وصفت نفسها بثقافة (الحرية)، فهي ترفض كل استقلالية للآخر، وتتحول إلى ثقافة (شمولية)، لا تعترف من بعيد بالعلاقات الاجتماعية العديدة، المعقولة والممكنة، التي تؤسس للشخص البشري، إلا بعلاقة الفرد بالدولة، وتعكس تناقضاتها التاريخية، كثقافة عالمية، مناقضة لكافة الثقافات الأخرى... إنها تقبل وبحماس فكرة (الإمبراطورية الاستعمارية)، حيث لا يبقى للشعوب الأخرى الخاضعة إلا الاختيار بين (الفناء الكامل أو الاندماج والذوبان) ومن موقع الدونية واللامساواة...اهـ

وعن ترجمة المفاهيم والمصطلحات يقول د.غليون(1): (ففي ثقافة متدهورة ومتراجعة، تضعف قدرة اللغة على التعبير الدقيق، وتنمية المصطلحات بصورة مواكبة لتطور المعاني والمفاهيم المستقاة من ثقافة أخرى مهيمنة، كما تضعف القدرة على ضبط المعاني وتنظيم المفاهيم، بقدر ما تنفصل هذه المعاني والمفاهيم عن صيرورة مستقلة وذاتية، للبحث والإنتاج العلمي.. وعندما يرتبط وجود هذه المفاهيم بمصدرها الخارجي، وتعجز النظم اللغوية والعلمية عن استيعابها وضبطها من ذاتها، هنا يحصل شرخ في اللغة، وفي النظم العلمية ذاتها، فتبطل فاعليتها الإبداعية، عندئذ تضطر الثقافة التابعة إلى (استيراد) المفاهيم والمصطلحات معًا، وفي فترة لاحقة المعارف العلمية الجاهزة، والتي يعجز عن إنجازها وإنجابها النظام المعرفي. وهذا ما نلاحظه اليوم في ثقافتنا، حيث تدخل المصطلحات دون ضابط، فتثور مشكلة كبيرة في توحيدها وضبطها، مما يفقد اللغة دقتها ومرونتها، بل يدفعها إلى التفكك والركاكة، كما تبدو إجراءات (التعريب) قاصرة عن استيعاب هذه العملية، وهنا يترك للصحافة اليومية الحرية الكاملة، لتدخل ما تشاء من المفردات الأجنبية...اهـ ).

يعود لتوضيح القضية بعد صفحات فيقول(1): ... أكثر ما يميز (الثقافة التابعة) الاستخدام الاعتباطي للمفاهيم، وغياب الروح المنهجية والعلمية. إن استيعاب المعاني الجديدة وتوطينها، لا يمكن أن يتم إلا في إطار توسيع قاعدة البحث العلمي، ونشوء علوم وإشكاليات مستقاة من الواقع القائم، مستجيبة لمشكلاته.

إن الثقافة (التابعة) تطرح على نفسها باستمرار مشكلات ليست مطروحة على مجتمعها، ولكن مستوحاة مما تطرحه على نفسها الثقافة الأصل، وهي تجيب على هذه الإشكالات من أفق -أو افتراض- مُماثلة الشرق والغرب، فتظل على هامش المسألة، وقد لا تكون بالضرورة كاذبة، وليست صادقة، ولكنها خارجة عن الموضوع، وهذا هو مصدر عدم فاعلية الثقافة التابعة وتخبطها، واجترارها الدائم لنفس المسائل، خلال عقود، ولذات الموضوعات، ودون قدرة على بلورة حلول أو حركة مكتسبات علمية، وهذا أساس غياب الإبداع والتقدم الفكري -أي تطور الوعي- وهذا يتجاوز مشكلة سيطرة الأيدولوجيات المادية أو المثالية، والعقائد الوضعية العلمانية، أو اللاهوتية.

فالإبداع مرتبط بآليات عمل الثقافة ككل، وعلاقاتها بالمجتمع والبيئة التي تعيش فيها.

وضعفها أو تفككها ليسا في الحقيقة إلا مظهرًا لتعثر الجماعة في بناء أداة تواصلها، ووسائل تفكيرها وفهمها الخاصة والمستقلة، وذلك نتيجة لما أصابها من تهميش واستبعاد عن مصادر الحضارة والغلبة...اهـ.

وهنا استذكر ما كتبه د. هشام صالح -تلميذ د. أركون- من أن من وصل إلى الغرب أيام انتشار الوجودية، صار وجوديًا، ومن وصلها أيام الماركسية صار ماركسيًا، ومثل ذلك البنيوية. وهؤلاء يبحثون قضايا ومشاكل لا توجد في بلدهم، ويعتقد جل هؤلاء أنه متى نقل هذه المفاهيم فقد أدى كل شيء(1).

=============

# الحضارة والعوامل المؤثرة في التحضر

قبل الدخول في تعريف الحضارة هناك قضيتان:

1- أجد في بعض التعاريف نوعًا من الرغبة في الإكثار والتعدد، لدرجة غريبة، فالدولة مثلاً، وهي مؤسسة قد يزيد اليوم عمرها على سبعة آلاف عام، نجد لها أكثر من (145) تعريفًا، وفي الحضارة نجد أكثر من (165) تعريفًا، وهذه الكثرة الكاثرة أمر بات معروفًا يصعب قبوله.

2- لدينا في اللغة العربية عدة مصطلحات متقاربة مثل:

حضارة، وثقافة، ومدنية، يقابلها في الإنجليزية على سبيل المثال (Civilization,Culture ) والذين اشتغلوا بالترجمة لم يلتزموا نمطًا واحدًا، فمرة ترجموا ( Culture ) بالثقافة ومرة بالحضارة، وفعلوا ذات الشي في ( Civilization ) فمرة ترجمت بالثقافة ومرة بالحضارة، وهكذا.

وهذه العملية تربك المتحدث والكاتب لأن عليه أن يحدد ما يعنيه من تلك المصطلحات، تحديدًا دقيقًا، وإلا حصل خلط واختلاط مضر. والآن ما هي الحضارة لغة واصطلاحًا ؟

1- الحضارة لغة واصطلاحًا:

الحضارة في اللغة: تأتي الحضارة على عدة معانٍ(1):

أ- يقال: حَضَر يحْضَر حُضورًا وحضارة: ضد الغياب.

ب- يقال: حكّمت فلانًا بحضرة فلان: أي بوجوده، كما يقال: كنا بحضرة ماء: أي عنده.

جـ- يشيع اليوم لفلان حضور متميز: أي وجود متميز.

كما يقال: رجل حاضر وقوم حضور وحُضر: ضد الغياب.

د- الحَضَارة: الإقامة في الحَضَر أي المدن. وقد أنشد (القطامي ):

فمن تكن الحضارة أعجبته فأي رجال بادية ترانا

كما أنشد أبو الطيب:

حسن الحضارة مجلوب بتطرية

وفي البداوة حسن غير مجلوب

الحضارة ( Civilization) اصطلاحًا:

يعود أصلها الغربي إلى المدينة، وهنا يطابق الأصل العربي (الحاضرة ) بمعنى المدينة، والمتحضر ساكن الحاضرة، وشاع في العربية: سكان الحواضر، وأهل الحواضر، في مقابل البادية وأهل البادية، لكن الاستعمال الغربي للحضارة لم يتبلور قبل القرن الثامن عشر(1). وسوف استعرض بعض هذه التعاريف:

1) تعريف (ديورنت ): إنها نظام اجتماعي يُعين الإنسان على الزيادة في إنتاجه الثقافي، وتتألف من أربعة عناصر: الموارد الاقتصادية، والنظم السياسية، والتقاليد الخلقية، ومتابعة العلوم والفنون، وهي تبدأ حيث ينتهي الاضطراب والقلق، لأنه إذا ما أمن الإنسان من الخوف، تحررت في نفسه دوافع التطلع، وعوامل الإبداع والإنشاء، وبعدئذ لا تنفك الحوافز الطبيعية تستنهضه، للمضي في طريقه إلى فهم الحياة وازدهارها

(1).

يلاحظ أن التعريف جاء جامعًا، ومعه شرحه، علمًا بأن ديورنت خير من اعتنى بالحضارة، وكتابه (قصة الحضارة ) خير شاهد.

2) يركز المفكرون الألمان على الأبعاد المادية من حياة الإنسان، بينما يركز المفكرون الفرنسيون على البعدين المادي والفكري من أبعاد التقدم(2).

3) يعرفها (جورج باستيد ) الفرنسي: بأنها التدخل الإنساني الإيجابي، لمواجهة ضرورات الطبيعة، تجاوبًا مع إرادة التمرد في الإنسان، وتحقيقًا لمزيد من اليسر في إرضاء حاجاته، ولإنقاص العناء البشري(3). والتعريف ينصب على الهدف من الحضارة بالدرجة الأولى.

4) يعرفها (تايلر ) بأنها ذلك الكيان المعقد الذي يضم المعرفة والمعتقدات، والفنون والآداب، والقوانين والعادات، وجميع القدرات، والتقاليد الأخرى، التي يكسبها الإنسان، بصفته عضوًا في المجتمع(4). التعريف يركز على مشتملات الحضارة، بشكل عام.

5) يعرفها د.قسطنطين زريق: بأنها حياة المجتمع المتمثلة في نظمه ومؤسساته ومكاسبه وإنجازاته، وفي القيم والمعاني التي تنطوي هذه الحياة عليها(1).

وهذا التعريف قريب جدًا من تعريف تايلر، وكأنه مأخوذ منه، أو هو اختصار له.

6) د. برهان غليون يحاول أن يقارن بين الحضارة والمدنية فيقول: (إذا كانت الحضارة هي النمو المطرد، في المنظومات المادية، والعقلية والروحية، التي تنقل المجتمع من البدائية إلى التحضر، وتجعله يتجاوز -كما ذكر ابن خلدون- إنتاج الحاجيات إلى الكماليات، أو تطوير نوعية إرضاء الحاجات، فإن المدنية هي المبادئ التي تقوم عليها هذه المنظومات، أو التي تشكل نواتها الأولى. وإذا كانت الحضارة مرتبطة أساسًا بتنظيم علاقة الإنسان بالطبيعة، ودرجة سيطرته عليها، وأنماط إنتاجه المادي والروحي، فالمدنية ترتبط بتنظيم علاقات الإنسان الاجتماعية، وبدرجة تحول هذه العلاقات إلى علاقات مبنية على التواصل والتبادل السلمي، لا على العنف والإكراه، وعكسها )(البربرية) .

إن المدنية ثمرة الثقافة، لكنها ليست نتيجة تلقائية لها(2). الحضارة إذن النمو في الماديات والعقليات والروحيات، أما المدنية فهي المبادئ التي تقوم عليها الحضارة، والتي تنظم علاقات الإنسان الاجتماعية.

7) د. نصر عارف يرى أن المترجمين العرب لمصطلح ( Civilization ) قد انقسموا قسمين(1):

أ- القسم الأول: ترجمها (حضارة )، وقد بدأ ذلك في أوائل القرن التاسع عشر، فقد ظهرت في كتابات (رفاعة الطهطاوي ) -المشرف على البعثات المصرية إلى أوروبا- فهو حين يتحدث عن التمدن يقول: إن للتمدن أصلين: معنوي وهو التمدن الأخلاقي، وفي العوائد والآداب، ويعني التمدن في الدين والشريعة، وبهذا القسم قوام الملة المتمدنة، التي تسعى باسم دينها وجنسها للتميز عن غيرها.

والقسم الثاني تمدن مادي، وهو التقدم في المنافع العمومية.. وقد استمر هذا الفهم للتمدن، حتى أوائل القرن العشرين، وابتداء من الربع الثاني للقرن العشرين، شاع هذا الاستعمال كثيرًا، أي ترجمة ( Civilization ) إلى حضارة.

يعلق د. نصر على ما تقدم، فيرى: أن الترجمة إلى الحضارة بدت صحيحة في ضوء أحد معاني (الحضارة )، لكن تطور المفهوم العربي، وتلبسه بالدلالات الغربية، قد أخرج مفهوم الحضارة عن نطاقه ومحتواه(2). كما يرى أن ثمة إجماعًا في القواميس والمعاجم، على اعتبار الحضارة هي جملة الظواهر الاجتماعية ذات الطابع المادي والعلمي والفني والتقني، الموجودة في المجتمع، و التي تمثل مرحلة راقية في التطور الإنساني(1).

أسباب الاختلاف:

من أسباب الاختلاف والارتباك عندنا، أن الغرب الذي ننقل عنه المصطلحات عنده مصطلحان: ((Civilization ، Culture ))، يقابلهما في لغتنا أربعة مصطلحات هي: حضارة، ثقافة، مدنية، تقنية. من هنا جاء الارتباك والاختلاف والتداخل.

ومن البدهيات أن أي مصطلح يبدأ غامضًا وغير محدد بدقة، ولكن مع مضي الوقت، وكثرة الاستعمال، يذهب الغموض، ويتحدد المصطلح، ولما كان الغرب يختلف، بل يتوسع في الاختلاف، بحيث يضع للثقافة أكثر من (165) تعريفًا، ومثلها الدولة والحضارة، جاء الاختلاف عندنا وشاع، كما هو شائع في الغرب.

إن التناول الغربي لمصطلحي ((Civilization ، Culture ))، يجعل منهما مترادفين -كما لدى تايلور- وهناك من جعل ( Civilization ) قاصرًا على التقدم المادي مثل الألمان.. وهناك من يجعله شاملاً لكل أبعاد التقدم، مثل الفرنسيين.. فريق ثالث يحصر التقدم بما هو خاص بالفرد، ورابع يجعله شاملاً للفرد والجماعة.. وهناك فريق خامس، حاول أن يجعل من مصطلح ( Civilization )مفهومًا عالميًا، أي هناك حضارة واحدة، تساهم المجتمعات فيها كل بنصيب، أما الثقافة فهي خاصة بكل شعب.. وهناك فريق سادس يعكس القضية فيجعل الثقافة عامة، والحضارة خاصة(1).

هذا الاختلاف يصل إلينا، ونحن ما زلنا في دور المتلقي المترجم، ولسنا في دور المنتج المبدع. لذا وجدنا الاضطراب يسود كتاباتنا، فمن ترجم (Culture ) إلى ثقافة، جعل

( Civilization )حضارة، ومن ترجم ( Culture ) إلى حضارة، جعل (Civilization )مدنية. وهناك من يعتبر الثقافة هي الجانب الفكري، ولذا يكثر الحديث عن الثقافات الخاصة، وأن كل أمة لها ثقافتها، وقد لا تكون لها حضارة، أما الحضارة فتشمل الجانب المادي(2)، وقد ينعكس الأمر، لتكون المدنية تمثل الجانب المادي، والحضارة تمثل الجانب المعنوي.

ويعتقد د. محمد حسين هيكل، ومثله محمد عزيز الحبابي، أن العالم تسوده حضارة واحدة، ساهم فيها الكل، وهي ملك للكل.

يقول د. هيكل: إن الحضارة تراث عالمي، لا يجوز شطره جزئين منفصلين، فلا وجود لحضارة شرقية، ولا حضارة غربية، وإنما هناك حضارة عالمية واحدة، يجب الإيمان بها، والإخلاص لها (3).

ويقول الحبابي: ... والحضارة تراث مشترك يجمع بين جميع الشعوب، قديمها وحديثها، وإنها إرث إنساني، في نمو لا ينقطع، مثل بحر زاخر بالمياه والأمواج، وله روافد عديدة تصب فيه على الدوام، تلك الروافد هي الثقافات القومية (1).

والذي لا شك فيه أن الحضارة حين تعطي كل ما لديها، تم تجف منابعها تسقط، فترثها حضارة أخرى تالية، لتبدأ من حيث انتهت سابقتها، وليس من الصفر، ولذا فهناك دومًا (إرث حضاري )، لكن الحضارة التالية تضيف وتحذف، تستبعد أشياء، وتستحدث أشياء، ومن هنا يأتي تميز الحضارات.

فإذا نظرنا للإرث، فهي واحدة، وإذا نظرنا للمستجدات فهي متعددة، وإن كان الغرب يريد أن ينكر هذه الحقيقة، خصوصًا على الحضارة الإسلامية، فلا يعترف لها بفضل، لكن يلاحظ أن أمثال شبنجلر وتوينبي يرفض ذلك، كما تتعالى اليوم أصوات ترفض هذه النظرة العنصرية وإنكار أي أثر للحضارات السابقة.

الحضارة في المدلول الإسلامي:

لقد وجدت د. نصر محمد عارف، يبحث عن الجذر اللغوي لكلمة حضارة، واستعمالاتها اللغوية، فيعد سبعة معان، ثم يبين الأكثر دورانًا واستعمالاً، فيقول(2):

1- الحضور نقيض المغيب والغيبة.

2- بمعنى عنده: كنا بحضرة ماء، ورجل حاضر.

3- قرب الشيء: الحضرة، كنت بحضرة الدار.

4- جاء أو أتى: حضرت الصلاة، أو حضر القاضي.

5- الحضر خلاف البدو، والحضارة الإقامة في الحضر.

6- الحاضرة: الحي العظيم.

7- الحاضر: ضد المسافر.

وتأتي حضر بمعنى شهد، كقوله : {إذا حضر أحدكم الموت } (البقرة:180)، وقوله تعالى: (اذا حضر القسمة أولو القربى ) (النساء:8).

كما تأتي (شهد ) معنى حضر، كقوله تعالى: (فمن شهد منكم الشهر فليصمه ) (البقرة:185).

وقد اعتدت في مثل هذه الموضوعات، أن أعود للفيروزآبادي، فهو خير من يتابع المصطلح في كتاب الله، وألخص ما قال(1) في مصطلح الشهادة:

1- الشهود والشهادة: الحضور مع المشاهدة، إما بالبصر أو البصيرة، يقال: شهدت كذا أي حضرته، كما يقال شهدت على كذا. قال تعالى: (ما شهدنا مهلك أهله ) (النمل:49)، أي ما حضرنا.

2- الشهادة: قول صادر عن علم، حصل بمشاهدة بصر أو بصيرة، قال تعالى: {ستكتب شهادتهم ويسألون } (الزخرف:19)، تنبيهًا إلى أن الشهادة لا بد أن تكون عن شهود.

3- الشهادة بمعنى العلم، قال تعالى: (لم تكفرون بآيات الله وأنتم تشهدون )

(آل عمران:70)، وقوله: (ما أشهدتهم خلق اسموات والأرض ) (الكهف:51)، أي ما أطلعتهم..

والشهادة تأتي على نوعين:

أ- أشهد بكذا: أعلم بكذا، ولا تقبل إلا بهذا اللفظ.

ب- أشهد: يجري مجرى القسم، فيقال: أشهد بالله أن فلانًا كذا.

4- شهادة الله بمعنى إيجاد، مثل قوله: (شهد الله أنه لا إله إلا هو ) (آل عمران:18)، فشهادته تعالى بوحدانيته، تكون بإيجاد ما يدل على وحدانيته في العالم وفي نفوسنا.

5- الشهيد: يطلق على المشاهد والشاهد، يقول تعالى: ( وجاءت نفس معها سائق وشهيد ) (ق:21)، والشهيد من قتل في سبيل الله.

6- الشهداء: جمع شهيد، وتأتي بمعنى من يشهد وبمعنى الأعوان، قال تعالى:(وادعوا شهداءك ) (البقرة:23) أي أعوانكم، أو من يشهدون لكم، وتكون على الغير قال تعالى: (وكذلك جعلناكم أمة وسطًا لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدًا ) (البقرة:143).

7- الشهادة، أي شهادة التوحيد: لا إله إلا الله محمد رسول الله.

وقد وجدت د. نصر يولي الشهادة في القرآن الكريم عناية طيبة، فيرى أن لها أربع دلالات متكاملة، تؤدي معنى الحضارة، أو الشهادة في الفهم الإسلامي، وهي لا يمكن أن تتجزأ، وإلا فقدت مضمونها، وكل دلالة تمثل جزءًا من بناء مفهوم الحضارة، ولا بد من توافرها جميعًا، في نسق واحد، وهذه الدلالات هي(1):

1) الشهادة بمعنى التوحيد والإقرار بالعبودية لله، والاعتراف بتفرده سبحانه بالألوهية والربوبية، وهي محور العقيدة الإسلامية، وعليها يتحدد التزام الإنسان بمنهج الله، أو الخروج عنه.

2) الشهادة بمعنى قول الحق، وسلوك طريق العدل، أو الإظهار والتبيين، أو الإخبار المقرون بالعلم، أو الملاحظة والمراقبة، وتعد مدخلاً من مداخل العلم، ووسيلة من وسائل تحصيل المعرفة.

3) الشهادة بمعنى التضحية والفداء، وتقديم النفس في سبيل الله حفاظًا على العقيدة، ودفاعًا عن تحرير الإنسان من عبادة العباد، وإخراجه إلى عبادة الله وحده.

4) الشهادة كوظيفة لهذه الأمة: (وكذلك جعلناكم أمة وسطًا لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدًا ) (البقرة:143).

وينصرف معناها إلى الشهادة في الدنيا والآخرة، ذلك أن واجب الشهادة لا تقوم به إلا الأمة الوسط، الخيرة المتميزة.

(وطبقًا لهذه المعاني الأربعة، فإن الحضارة هي الحضور والشهادة بجميع معانيها، التي ينتج عنها نموذج إنساني، يستبطن قيم التوحيد والربوبية، وينطلق منها كبعد غيبي، يتعلق بوحدانية خالق الكون، وواضع نواميسه وسننه، والمتحكم في تسييره، ومن ثم فإن دور الإنسان ورسالته هي في تحقيق الخلافة عن خالق هذا الكون في تعمير أرضه وتحسينها، وتزجية معاش الناس فيها، وتحقيق تمام التمكين عليها، والانتفاع بميزاتها، وحسن التعامل مع المسخّرات في الكون، وبناء علاقة سلام معها، لأنها مخلوقات تسبح الله، أو رزق لا بد من حفظه وصيانته. كذلك إقامة علاقة مع بني الإنسان، في كل مكان على ظهر الأرض، أساسها الأخوة والألفة، وحب الخير والدعوة إلى سعادة الدنيا والآخرة )(1).

الموقف من الحضارات الأخرى:

يبقى سؤال يفرض نفسه: كيف يمكن النظر للخبرات الحضارية خارج إطار الإسلام، هل نتجاهلها، كما يفعل الغرب مع الحضارة الإسلامية؟ هل نعترف بها ونفيد منها ؟

ابتداءً نجد القرآن الكريم يفرد لحضارات الأمم السابقة ثلثه للحديث عنها، في جوانبها الإيجابية والسلبية.

وورد أن أبا بكر رضي الله عنه نظر إلى وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وقال: أراك شبت يا رسول الله، فرد عليه صاحب الرسالة: (شيبتني هود وأخواتها ) (1). والذي يقرأ سورة هود يجدها تتحدث عن (ست ) حضارات، مضى عليها ألوف السنين، وكل واحدة أصابها (مرض قاتل )، فمن تلاعب بالموازين، إلى عبث بالأمن وإخافة للناس، إلى شذوذ جنسي، وتعاط للزنى علنًا ... إلخ. وكانت الثمرة أن كل أمة من هذه الأمم، أصابتها عقوبة موجعة، وضربة ربانية قاتلة.

ومعلوم أن بين هذه الأمم وبين عصر الرسالة ألوف السنين، ولكن الكتاب الكريم -وهو كتاب هداية بالدرجة الأولى- سرد أخبار هذه الحضارات وغيرها بتفصيل ليوجه رسالة للأمة الإسلامية، مفادها: من استقام على أمر الله فله السعادة في الدنيا والآخرة، ومن تنكب عن شرائع الله وهجرها، فمن السنن أن يناله العقاب في الدنيا -مع كونها ليست دار حساب وعقاب- وله مثل ذلك في الآخرة، لا فرق بين البشر، ومن هنا جاء تخوف صاحب الرسالة، أن تسقط أمته، وهي المنوط بها الشهادة على العالم، أن تسقط فيما سقط فيه غيرها، فيحل فيها ما حل فيهم.

أما تصور (البعض ) أنهم شعب الله (المختار ) فتلك من الأماني -والتمني رأس مال المفلس- فالله لا يحابي أحدًا، وعدالته تأبى ذلك.

حرب الروم والفرس:

قضية أخرى يسجلها القرآن النازل في مكة، ويفرد لها سورة باسم (الروم ).. وفي ستين آية، تتحدث السورة عن صراع الفرس والروم، فيقول تعالى: (ألم، غلبت الروم، في أدنى الأرض وهم من بعد غلبهم سيغلبون، في بضع سنين، لله الأمر من قبل ومن بعد ويومئذ يفرح المؤمنون بنصر الله، ينصر من يشاء وهو العزيز الرحيم، وعد الله لا يخلف الله وعده ولكن أكثر الناس لا يعلمون ) (الروم:1-6).

فالمسلمون المحاصرون بمكة، والواقعون تحت الإرهاق والتعذيب، ينزل عليهم قرآن يتلى' إلى يوم القيامة، يتعلق باحتكاك مسلح بين أمتين على أطراف الجزيرة، واحدة صاحبة كتاب (الروم )، وأخرى مُشْرِكة (الفرس )، تكون الغلبة والانتصار من نصيب الفرس، فيحزن لذلك المسلمون وتفرح قريش وتباهي بهذا النصر، ثم لتتخذ منه عبرة فتقول: كما انتصر الفرس وهم مثلنا، على الروم وهم مثلكم، فكذلك سننتصر عليكم، فيأتي وعد من الله بأن النصر سيكون من نصيب الروم، وذلك في (بضع سنين ). ويلاحظ أن القرآن غير سالك مثل التوراة في ذكر الأسماء والسنين، وحتى عدد الجنود والمقاتلين، ومع ذلك خرج على سنته، وحدد لفوز الروم بضع سنوات، وعقب على ذلك تعقيبًا، وهو الأهم، إذ قال: (ويومئذ يفرح المؤمنون بنصر الله ) (الروم:4-5). وهذا درس للأمة إلى قيام الساعة، كي لا تقف موقفًا سلبيًا لا مبالاة فيه مما يجري في الكون، والشهادة تقتضي ذلك.. وسوف أؤجل بعض الحديث إلى بحث الأهداف الكبرى من خلق الإنسان.

ومما له صلة بالموضوع أن نجد صاحب الرسالة صلى الله عليه وسلم يأمر المسلمين المضطهدين بمكة أن يهاجروا للحبشة، لأن فيها ملكًا لا يظلم الناس عنده، وتتكرر الهجرة، كما تحاول قريش استرداد المسلمين من هناك، فيرفض النجاشي ذلك ويمنحهم حماية كانوا بأمس الحاجة لها.

الحديث عن مصير الفرس والروم:

ليس من أهداف الإسلام الحديث عن الأمم -كما فعلت التوراة- لكنا وجدنا صاحب الرسالة صلى الله عليه وسلم يتحدث عن أمتين مجاورتين: الفرس والروم، فيصف مصيرهما، كما يصف بدقة علاقة المسلمين بهما، يقول عليه الصلاة والسلام: (فارس نطحة أو نطحتان، ثم لا فارس بعد هذا، والروم ذات القرون، كلما هلك قرن، خلفه قرن، أهل صبر، وأهله أهل لآخر الدهر، هم أصحابكم، ما دام في العيش خير )(1).

وفي مسند الإمام أحمد حديث لصاحب الرسالة صلى الله عليه وسلم يقول: (أشد الناس عليكم الروم، وإنما هلكتهم مع الساعة )(1).

وما حصل بالفعل أن جيوشنا هزمت الفرس في القادسية ونهاوند، فقضت على الإمبراطورية الفارسية نهائيًا. أما الروم فقد قذفنا بهم خلف البحر، ويقول أحد مؤرخي الغرب، بأننا اصطدمنا مع الروم (الغرب ) بـ (3700 ) معركة كبيرة، وما زالت المعارك حتى اليوم مستمرة.

ولعل من تمام البحث أن نذكر حديثًا سمعه عمرو بن العاص رضي الله عنه عن الروم، فعلق عليه تعليقًا يدل على مدى فهم العرب لجيرانهم الروم، ولمقدار إنصافهم.

فقد روى موسى بن علي عن أبيه قال(2): قال المستورد القرشي، عند عمرو بن العاص، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (تقوم الساعة والروم أكثر الناس )، فقال له عمرو: أبصر ما تقول، قال: أقول ما سمعت من رسول الله، قال عمرو: لئن قلت ذلك إن فيهم لخصالاً أربعًا: إنهم لأحلم الناس عند فتنة، وأسرعهم إفاقة بعد مصيبة، وأوشكهم كرة بعد فرة، وخيرهم لمسكين ويتيم وضعيف، وخامسة حسنة جميلة: أمنعهم من ظلم الملوك.

لا نعلم هل قال هذا -داهية العرب- من عنده، أم هو قبس من نور النبوة، وفي كل الأحوال، فهو ينبئ عن معرفة دقيقة أولاً، وعن إنصاف كبير للقوم.

وعد فريد:

أريد أن استطرد لذكر وعد فريد، يخص النصارى، جاء في كتاب الله، والقرآن الكريم ليس دأبه ذلك، يقول تعالى: (إذ قال الله يا عيسى إني متوفيك ورافعك إلي ومطهرك من الذين كفروا وجاعل الذين اتبعوك فوق الذين كفروا إلى يوم ) (آل عمران:55). في الآية الكريمة قضيتان: الأولى بقاء النصارى إلى يوم القيامة، والثانية أن يكونوا فوق الكفار كذلك.

البعض يجادل بأن النصارى حرفوا وبدلوا، فهم ليسوا أتباعًا للسيد المسيح، بينما الوعد للذين اتبعوه. ومعلوم أن لا جديد في عقائد النصارى، إلا قلة قليلة جدًا، والباقون كلهم يؤمنون بالتثليث والصليب...إلخ، ولا جديد عندهم، اللهم إلا ما تحاول اسرائيل من رفع نصوص في الأناجيل، ومن بعض الصلوات، ومن الدعاء على اليهود، وأما ما سوى ذلك فلا جديد فيه.

الموقف من حضارة الغرب:

لا يخفى أن كل متكلم عن الحضارة، إذا أطلق (الحضارة )، فهو يقصد الحضارة الغربية.

وابتداءً، فإن الغرب يحتقر كافة الحضارات -باستثناء اليونانية والرومانية- ولا يقيم لها وزنًا، ويدرب أفراده على التعالي والتكبر، بل هو يتطرف فيصم كل معتز بحضارته بأنه يعادي الغرب وحضارته، ولذا سأستشهد بنصوص لبعض الرموز الإسلامية وغيرهم:

أولاً: شهادة سيد قطب(1):

يقول سيد قطب يرحمه الله:

(لقد غابت أمتنا المسلمة عن الوجود والشهود، دهرًا طويلاً، وقد تولت قيادة البشرية أمم أخرى، وتصورات أخرى، وأوضاع أخرى، وقد أبدعت العبقرية الأوروبية في هذه الفترة رصيدًا ضخمًا من العلم والثقافة والأنظمة والإنتاج المادي، وهو رصيد ضخم تقف البشرية على قمته، غير مستعدة للتفريط فيه، ولا فيمن يمثله، وخاصة أن العالم الإسلامي يكاد يكون عاطلاً عن كل هذه الزينة ).

إن هذه الأمة لا تملك أن تقدم للبشرية تفوقًا خارقًا في الإبداع المادي، تحنى له الرقاب، ويفرض قيادتها العالمية.. من هذه الزاوية، فالعبقرية الأوروبية قد سبقتها في هذا المضمار، سبقًا واسعًا، وليس من المنتظر خلال قرون على الأقل، التفوق المادي عليها، فلا بد من مؤهل آخر، مؤهل تفتقده هذه الحضارة.

وهذا لا يعني أن نهمل الإبداع المادي، فمن واجبنا أن نحاول فيه جهدنا، ولكن ليس بوصفه المؤهل الذي نتقدم به قيادة العالم، في المرحلة الراهنة، وإنما بوصفه ضرورة ذاتية لوجودنا، وكذلك بوصفه واجبًا يفرضه علينا التصور الإسلامي الذي ينوط بالإنسان خلافة الأرض، ويجعلها تحت شروط معينة عبادة لله تعالى، وتحقيقًا لغاية الوجود الإنساني..

لا بد إذن من مؤهل آخر لقيادة البشرية غير الإبداع المادي، ولن يكون سوى (العقيدة ) والمنهج، الذي يسمح للبشرية أن تحتفظ بنتاج عبقريتها المادية، تحت إشراف العقيدة والمنهج، من تجمع إنساني، أي في مجتمع مسلم). وأحسب أنها شهادة واضحة متوازنة منصفة.

2- شهادة د. رشدي فكار:

د. فكار يرحمه الله، ابتدأ تعليمه في الأزهر وانتهى في الجامعات الغربية، فهو ابن الحضارة الغربية، وثمرة من ثمراتها، وراصد جيد لها ولما تموج به..عرف إيجابياتها، كما يعرف سلبياتها.

وهو يقول(1): لن نستطيع أن نقدم للعالم طائرات أسرع، ولا طرقًا أنعم، ولا سيارات أجود، ولا صناعات أفضل، لكن بإمكان الإسلام أن يقول: سأعطيكم إنسانًا أكثر توازنًا واعتدالاً، أكثر برًا وإحسانًا، إنسانًا يرتبط بمبادئه، يهاب ويخشى خالقه، إنسان يحترم الإنسان، ويعمل لإسعاده، لا الارتقاء بناطحات السحاب، واستنزاف الخيرات، في إطار من التحايل والمكر، والدهاء والكيد.

بمعنى آخر: صياغة وبناء الإنسان ليبني كل ما دمر... إن صياغة الإنسان ما تزال الأصعب، الإنسان صنع (الكمبيوتر ) ، وقد راح الأخير يصمم ويصنع العجائب، صنع الإنسان المركبات وأرسلها إلى أعماق الفلك، صنع الطائرات التي فاقت سرعتها سرعة الصوت، صنع الصواريخ عابرة القارات، لكنه يفشل في تربية طفل داخل البيت.

إن التربية المتوازنة لإنسان متوازن ما زالت هي الأصعب، المطلوب إنسان تتوزان أشواقه الروحية ونزعته العقلية، وعواطفه وغرائزه، مع توجهاته الدنيوية، وأشواقه الروحية، وتتصالح هذه التوجهات ولا تتحارب، هذا الإنسان هو المطلوب اليوم وغداً، والحاجة له تفوق حاجتنا لصواريخ ذكية أو غبية، قبل أن يفلت الزمام، فتتحول الأرض كرة لهب، أو فرن ذري يشوي الكل.

3- مالك بن نبي:

تحوي الحضارة أفكارًا وتشريعات، كما تحمل قيمًا ومنتجات مادية، والمقتبس بالدرجة الأولى، هي المنتجات المادية، فالعالم اليوم كله يستعمل المنتجات الغربية فهل تحضَّر؟

يقول مالك بن نبي يرحمه الله(1): لكل حضارة منتجاتها التي تتولد عنها، ولكن لا يمكن صنع حضارة بمجرد تبني منتجات حضارة ما، فشراء ما تنتجه الحضارة الغربية، من قبل كافة دول العالم، لم يجعلها تكسب حضارة أو قيمًا، إذ الحضارة ليست تكديس منتجات، بل هي فكر ومثل وقيم، لا بد من كسبها أو إنتاجها.

إذن فكل من يشتري منتجات حضارة، فهو مستهلك حضارة، وليس منتج حضارة.

ويحلو للبعض أن يقارن بيننا وبين اليابان، في الموقف من الحضارة، فيقول: كانت اليابان تلميذًا نجيبًا للغرب وحضارته، والتلميذ قد يتفوق على أستاذه ويتجاوزه، أما نحن فكنا مجرد زبائن، وما زلنا كذلك، فالزبون يأخذ البضاعة وينصرف، ويكرر ذلك كلما احتاج.

4- المستشرق الفرنسي (جاك بيرك):

يتحدث بيرك عن أخذ الحضارة الغربية كلية -كما ينادي البعض- فيتساءل(2): هل النموذج الغربي ضروري وحتمي، بالنسبة لكافة الشعوب ؟

ويجيب: ليس بضروري ولا حتمي، بل يؤدي في أحيان كثيرة إلى أنواع من الفشل والقلق والتمرد.

5- د. رفيق حبيب:

د. رفيق نصراني مصري، يردد كثيرًا بأنه: نصراني ديانة، مسلم ثقافة وحضارة.. له عدة كتب منها (تفكيك الديمقراطية )، يظهر منهجه الفكري وما يؤمن به، والكتاب يستحق القراءة بل والدراسة، وسألخص بعض ما جاء فيه، بحسب ما يسمح البحث.

لقد عنونه (حكم الأقلية )، موضحًا أن الحضارة العربية الإسلامية أصابها (الوهن )، مع نهاية القرن الثامن عشر، حيث حصل انقطاع تاريخي(1)، ونعني به انقطاعات عن قيمنا ومبادئنا ومقدساتنا، وهو انقطاع عن التطور، وأيضًا عن السيادة والسلطة...

أما قبل ذلك فكان للأمة كبوات تنهض بعدها، ولكن مع نهاية القرن الـ 18 كان السقوط الأكبر، وهنا ظهر الغرب بكل قوته وإنجازاته وسطوته.. وأمام هذا التحدي (الحضاري ) لم تكن الأمة قادرة على الصمود، فاجتمع على الأمة التحدي الخارجي والضعف الداخلي.

فراح الغرب يفرض قيمه، وفي نفس الوقت يهمش قيم الأمة، ووجدت مجموعة فرصتها لتصل إلى الحكم، محمولة على أسنة رماح الغرب، فراحت تميل لقيم مخالفة لقيم الأمة.

(إن التدهور الحضاري -الذي عشناه- أخرج القيم المتنحية.. والقوة الغربية المهيمنة، حولت أصحاب هذه القيم إلى مساحة للوكالة عن الحضارة الغربية، وهكذا توحد الهامش الداخلي، مع الوافد المستورد، والمفروض من الخارج، ليصنعا (جماعة هامشية، ومجتمع أقلية)، تسوده قيم غريبة ووافدة وهامشية... لهذا فوكلاء الغرب الثقافيون، أصبحوا نخبة لا تبدع للأمة ولأجلها، بل أصبحوا قوة ناقلة لقيم الغرب، مؤكدة للقيم المتنحية من حضارتنا، مما أفقد الأمة الكثير من الفرص كي تنهض مرة أخرى )(1).

إذن هناك جدول أعمال (لتفكيك الأمة ) في نظر د. رفيق، يتمثل في فرض قيم وطرد قيم، فرض قيم مخالفة للأمة، وزرع قيم أخرى، لتصبح مع مرور الزمن قيمًا ثابتة، وليصبح وجود الأقلية وحكمها حالة مطلوبة ومستمرة، وليمدها الغرب بكل ما يملك من سند وإسناد.. ثم يطرح بعض النتائج فيقول(2):

1- إن صح تصورنا السابق، فالجاري الآن -في قلب أمة العرب والمسلمين- هو حكم أقلية، بنموذج قيم وافدة، وهو مفضٍ في النهاية إلى إرساء قواعد مغايرة تمامًا لنا.

2- ما يحدث هو فرض لقيم ليست من الأمة، وبالتالي لا تحقق إشباعًا لها، كما لا تحقق لها اتفاقًا ولا إجماعًا.

3- ما يفرض هو قيم يؤكد الشاهد التاريخي أنها غير محققة للتقدم والازدهار في أوطاننا، وإن كانت محققة لهما في أوطان أخرى.

4- إن حكم (قيم الأقلية ) في حد ذاته، يعني سيطرة قيم (مرفوضة ) على قيم (مرغوبة )، وهو ما يعني اغتصابًا للسلطة من الأمة، ونزع قيمها من حياتها.

5- إن قلب منظومة (القيم ) بهذا الشكل، يؤدي إلى تفكيك الأمة، وإدخالها في صراع حول القيم بين (مرفوض ومرغوب ) .

وهو يكرر التخوف من ذلك، بل يراه عملاً منظمًا (لتفكيك الأمة )، كما يصبح (الانقطاع التاريخي ) عملاً مقصودًا ومخططًا، وليس مجرد نتيجة لحالة تدهور تمر بها الأمة.

بعد ذلك يضع عنوانًا: (حكم الأقلية الحضارية ).

فيرى: أن الأمة تقع تحت حكم (الأقلية الحضارية )، ويفسر ذلك بأنه الوقوع تحت حكم (قيم حضارية مغايرة )، وفي تسبيب ذلك يذكر الاستعمار -بكل أشكاله- والسبب الثاني هو: ضعف الأمة، وتدهور حالها. والسببان يتفاعلان، مثل الضعف والمرض، فالضعف في الجسم يسهل المرض، والمرض يضعف الجسم.. إن الاستعمار يتأكد بالقابلية له، والهيمنة الحضارية تعضدها القابلية للاستعمار.

والإشكالية الراهنة جاءت من سيادة النموذج الغربي، بدرجة جعلته الحاكم وصاحب السلطة، والمؤيد بالقانون، وعلى الرغم من أنه غريب ولا يعبر عن الأمة، لكنه صاحب السيادة، والخروج منه صار أمرًا معقدًا، لذا فإن تفكيكه والخروج من أسره، سيكون عملاً نهضويًا وثوريًا في آن واحد (1).

والتحدي الحقيقي أمام الأمة يكمن في قدرتها على (إنهاض نمط حياتها الخاصة )، إلا أن العوائق كثيرة ومتشابكة، فتدفع بهذا التحدي للوصول إلى درجة خطيرة، كما يدفع بقوى الأمة إلى إعلان غضبها وتمردها، فحكم الأقلية الحضارية يعني -فيما يعنيه- أن أصحاب القيم الغريبة والمعارف غير السائدة في الأمة، هم أصحاب القرار، وهم الذين يحتلون موقع النخبة هذا الوضع نوع من عنصرية جديدة، يمكن تسميتها بـ (العنصرية الاستعمارية ) فهذه القيم الغريبة وأصحابها يحتلون مكانة أهم بكثير من قيم الأمة الأصلية، وهذه عنصرية لا شك فيها.

وهنا يقوم ويتحقق نوع جديد من (الاستيطان )، استيطان أفكار غريبة وافدة، مستقرة في عقول (وكلاء محليين )، وكل ذلك مما يجعل الصراع(2) (فتنة بين أبناء الأمة ).

وهي فتنة بحجم إحساس الأمة (وطليعتها الحقيقية ) بأن القيم الغريبة لها تلك المكانة، بينما القيم الأصلية مهمشة، وهذا ما يولد شعورًا بالغبن، ويدفع بالتالي إلى الغضب أو اليأس.

هذا ويتحقق حكم الأقلية الحضارية، من خلال آليات كثيرة، تم زرعها في جسم الأمة، وما زال يزرع غيرها، كي تبقى (الأقلية الحضارية ) قوية فاعلة مسيطرة، بفعل وسائل منظمة، تنتج وتكسب أعضاءً جددًا لهذه الأقلية، كي تتجدد أولاً، ولكي يضمن استمرارها.

إن هذه (الآليات ) تمثل المشكلة الرئيسة، والتي تجعل الصراع بين (الموروث و الوافد ) يتمدد من المجال الحضاري إلى السياسي، حتى يصل إلى حياتنا اليومية.

وأكبر ميدان تثيره آليات (الأقلية الحضارية ) هو التعليم، فهو غربي الروح، يروج للغرب، على كافة المستويات، (وهو يقدم رؤى معرفية ضمنية متحيزة للحضارة الغربية، كما تنتج تحيزات لحكم الأقلية الحضارية، بدلاً من أن تنتج طلائع لنهضة الأمة )(1).

ثم يستدرك فيقول: ليس بالضرورة أن يكون كل متعلم متغربًا، أو وكيلاً للغرب، ولكن -على الأقل- معرضون للتشوه الثقافي، والتداخل المعرفي. ويرى د. رفيق أن مشكلاتنا تتفاقم تحت مظلة (العلم)، إذ تتحول كل طاقاتنا العلمية باتجاه (إعادة إنتاج النمط الغربي) فيتأسس علمنا على الاقتباس، على حساب الإبداع، خاصة الإبداع الأصيل، النابع من ثقافة الأمة، وهكذا تتحول (آلة إنتاج المعرفة) إلى منتجة، ولكن بصورة مزيفة عن الأمة، صورة من شروطها تأهيل الأمة (لعملية التغريب)، يواكبها تشويه الصورة الأصلية للأمة.

هذه بعض طروحات د. رفيق في (تفكيك الديمقراطية )، وهي طروحات لا نعلم أنه سُبق إليها، وهو يحمل من الشجاعة ما نحن بحاجة إليه.

6- د. برهان غليون:

د. غليون سوري الأصل، فرنسي الجنسية، يعمل أستاذًا لعلم الاجتماع في السوربون، له أكثر من عشرة مؤلفات.

يدرس قضية النقل الحضاري، حيث يصورها (البعض ) أو يبسطها غاية التبسيط فيرى أن بإمكاننا أن نقلد الغرب لنكون مثله، فيرد د. غليون(1): (إن هذا المأزق يتمثل بالاعتقاد بأننا لو أخذنا نفس مبادئ الأوروبيين لتقدمنا. إننا بهذا الاعتقاد ألغينا التاريخ، وألغينا العلاقات التاريخية، بيننا وبين الغرب، وألغينا أيضًا كل صيرورة المسلسل التاريخي والاجتماعي، الذي أدى في أوروبا إلى ظهور الثورة الصناعية والثورة السياسية ).

هذا المعنى يكرره في كتبه، فالأمر معقد وإلا لأخذت أمم الأرض بذلك وتقدمت بيسر وسهولة.

القضية الثانية التي يكررها د. غليون خصوصًا في كتابيه (حوارات من عصر الحرب الأهلية )، و(اغتيال العقل ).. فهو يكرر كثيرًا جدًا أن الحاجة ملحة إلى إحياء التراث، والأخذ من الحضارة الغربية، ويشترط عدم الاكتفاء بعنصر واحد.

يقول د. غليون(1): (من الوهم أن تعتقد جماعة أنها تستطيع أن تندمج في الحضارة من دون أن تحيي تراثها، إن بالتغاضي أو بالتخلي عنه، فالنتيجة لن تكون إلا انتقامًا أكبر للماضي من الحاضر، وتهديدًا أعظم، لأي جهد تجديدي، كما أنه من الوهم أن تعتقد جماعة أيضًا أن تراثها بمفرده -مهما كانت عظمته- يمكن أن يحفظ لها استقلالها وحريتها، ونجاعتها التاريخية ).

إن اكتساب التراث الحضاري الجديد، لا يشكل شرطًا أساسيًا لدخول التاريخ المعاصر فحسب، ولكنه شرط أساسي أيضًا، لإعادة الفاعلية والقيمة الجادة للتراث القديم.

إن مصير الأمم مرهون بمقدرتها على أن تجعل من تراثها -أي من ثمرة أجيالها الماضية وتراكماتها- رأس مال قابلاً للتوظيف في عمليات التجديد والتحضر الكبرى.

يمكن الزعم بأن الأمة يمكن أن تطير بجناحين: التراث والتحضر. إن د. غليون يعاود الفكرة مرارًا ويقلبها على عدة أوجه، فيقول: هناك مشكلة مفادها(2): (الاعتقاد بأن مجتمعنا لم يستطع أن يستوعبالحضارة الحديثة ) لأن ثقافته وتراثه تقليديان، وهذا ينفي عن عملية الحضارة والتحضر كل طابعها الاجتماعي والتاريخي الصراعي. فهل لو طبقنا في بلادنا القوانين (اللبرالية) مثلاً، أصبح لدينا بالضرورة صناعة حديثة؟

نحن نقول بالعكس، لو طبقنا نفس الحلول، التي طبقتها المجتمعات الغربية، دون النظر إلى تغير الظروف التاريخية، وأهمها بالضبط تحول الغرب إلى (مركز للحضارة ) يتحكم بآلياتها ووسائلها، ويصارع ليبقى المحتكر الأول لها، لوصلنا إلى ما وصلنا إليه اليوم.. أي زيادة التأخر والتبعية...

لا يعني هذا رفض (التحديث ) وإنما يعني ربطه بمعيار واضح، اجتماعي وقيمي أو أخلاقي. باختصار، لا لتدمير الهوية، لا لفصل العرب عن العالم، ولا لأي سياسة أو خطة تطمس أحد قطبي التناقض، لصالح القطب الآخر.

القضية أحسبها واضحة، فهناك في مجتمعنا من هو زاهد في التراث، بل يرى فيه عقبة كبرى، ويسخر من الهوية، فالعالم صار قرية واحدة، ولا معنى للتشبث بالهوية الخاصة، ولذا فالحل في نظره سهل ميسور، نتجاهل التراث، ونهمل الهوية، ونندمج في حضارة اليوم.

وقد وجدت د. غليون يطرح أسئلة فيقول(1): (ماذا نريد من الحضارة، وماذا نريده كمجتمع، وما هي أهدافنا ؟ )

هل نحن نسعى إلى أن يكون لمجتمعنا (واجهة حديثة شكلية ) ، تجعله يبدو مشابهًا لغيره من المجتمعات الحديثة، أم نريد أن يكون له وظائف إبداعية وإنتاجية مشابهة -وليست مماثلة- لما لدى هذه الأخيرة ؟

أي هل المقصود تحديث القائم والتراث أو هل أن تحديث التراث، يقدم حلولاً مفيدة، أم أن الحلول قائمة خارجه، وعلينا نحن أن نبدعها؟.. أسئلة جيدة، تستحق التفكير.

د. غليون لا يمل طرح القضية، ومن زوايا متعددة، فهو يقول مثلاً: إن التحديث العقلي لا يحل لنا مشكلة، لأنه يحذف الوعي، ويشرح ذلك فيقول(2): (إنه يقوم على الاعتقاد بأنه إذا نجحنا في تبني مؤسسات مشابهة للمؤسسات العلمية والثقافية الغربية، وفي أن نصبغ أفكارنا وقيمنا وطريقة بحثنا بالصبغة العلمية، وصلنا إلى الحضارة، ودخلنا في المعاصرة، أي أصبح لدينا قيم وفكر وعلم مماثل لعلم الغرب وقيمه، وأصبحنا بالتالي متحضرين أو أصحاب حضارة، وخرجنا من دائرة الهامشية وانعدام الفعل. )

ليست هذه إلا مسألة (مصطنعة ) في نظرنا، وشكلية ولا قيمة لها، إذ النهضة الثقافية والفكرية، ليست مرتبطة بمماثلة أو مشاكلة الغرب، ولا تعني التوصل إلى تحقيق نفس الوظائف الاجتماعية أو الثقافية، بل نحن نعتقد أن هذه (المماثلة ) هي السبب في إخفاق العقل العربي الحديث، وفشل النهضة الثقافية.

يتحدث بعد ذلك عما يسميه الثقافة الحية والثقافة الميتة، الثقافة الحية تكون -عادة- قادرة على إيجاد وإبداع حلول جديدة لكل وضع جديد.

أما الثقافة التي تعجز عن ذلك فهي ميتة أو (تكرارية )، تشتغل بمشاكل غيرها، وتعجز عن القيام بواجباتها، فتضطر لتركها إلى غيرها.. وينهي موضوعه قائلاً(1): (وكلما تماثلت البنيات الثقافية العربية مع البنيات الثقافية الغربية وحاكتها، أصبحت -بالضرورة- أقل قدرة على إدراك خصوصيات مجتمعها، وفقدت بالتالي قدراتها الإبداعية، ومبرر وجودها ). فهل يُقنع هذا متغربينا؟

المرجعية ونوعية النقل:

د. غليون مغرم بتحديد نوعية الشيء المطلوب نقله، عن حضارة الغرب، كما قاده ذلك للحديث بحرارة عن (المرجعية ).

فعن نوعية الشيء المطلوب استيراده يكرر(1): (من السهل استيراد الآلات والأجهزة والمنتجات المادية وغير المادية، لكن ليس من السهل ولا من الممكن استيراد (الفاعلية الثقافية)، لأن الثقافة هي التعبير الأساسي عن وجود الجماعة كجماعة موحدة، والشرط الأساسي لتحقيق استمرارها وتميزها وتاريخها، أي لإعطائها ذاتية مستقلة ).

فالثقافة هي مانحة الهوية، وهي أيضًا صانعة الولاء، والأمة -أي أمة- قد لا تكون متحضرة، لكنها لا تعيش بدون ثقافة، واستقلالية الأمة رهن باستقلال الثقافة، فمن لا استقلال له ثقافيًا، فكيف تتحقق له الاستقلالية؟!

أما المرجعية، فالناس في المجتمع الواحد يختلفون، فإذا حصل ذلك فلا بد من مرجعية يرجعون إليها لضبط الاختلاف، وفي ذلك يقول د. غليون(2): (لا تستطيع أمة أن تتمتع بإرادة ذاتية وقوة معنوية ورؤية نظرية وقاعدة معيارية، إلا بقدر ما تنجح في تأسيس (مرجعية ثابتة) عميقة الجذور، مرتبطة بتاريخها أو بتجربتها التاريخية، ولا تستطيع جماعة أن تبني نشاطها، أو تؤسس وجودها على (مرجعية خارجية) مستمدة من تاريخ آخر، ومستقاة من ثقافة أخرى، أي لا تستطيع أن تجعل من (رمز استبعادها وتهميشها) مرجعًا لنهضتها الجديدة وتغلبها ).

أعتقد أن المرجعية أمر أساسي، وليس من الترف.. ومن لا يجد مرجعية، سوف يضربه الاختلاف، حتى يجعل من الأمة هيئة أمم. يقول الله: {اعتصموا بحبل الله جميعًا ولا تفرقوا }(آل عمران:103)، ويقول: {ولا تكونوا من المشركين، من الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعًا } (الروم:32)، ويقول: {ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم البينا } (آل عمران:105).

ويمكن القول: بأن المرجعية هي السلك الذي يجمع حبات الأمة، فلا يجعلها تنفرط، فإذا سقطت المرجعية، فما الذي يجمع الأمة ؟

قضية أخرى (كبيرة ) تضبطها (المرجعية )، كلما شاهدت الاختلاف في الفضائيات العربية، يقفز إلى ذهني: أين المرجعية، ولمن ينبغي أن نعود، وما معيار الخطأ والصواب ؟

لقد وجدت د.غليون يطرح القضية طرحًا دقيقًا، فيقول(1): (ما هو مصدر معلوماتنا الصحيحة؟؟ أي ما معيار التمييز بين الحق والباطل؟ ومن الذي يكفل صحة معارفنا وأحكامنا العقلية وصلاحيتها ؟ ونستطيع طرح الموضوع بطريقة أبسط، فنقول: كيف يكون الواقع ما هو، أي مطابقًا لذاته، أي متسقًا، ومن ثم معقولاً ومقبولاً؟ ليس هناك مجتمع يمكن أن ينشأ أو يعيش دون أن يحدد لنفسه أسس (المعرفة اليقينية)، وشروط نمو هذه المعرفة، والتي هي أساس نشوء العلم وتطوره، وسبب ومبرر وجوده.. وعن هذه الأسئلة يصدر السؤال الأعم، الذي يتعلق بنا مباشرة، وهو: لماذا لم يتطور العلم الحديث في المجتمعات العربية المعاصرة، وكيف يمكن تجاوز العقبات، التي تقف أمام هذا التطور؟ )

قد يقول إنسان: المرجع هو العقل، ولكنه يختلف، بل ما أكثر ما يختلف، فهل نرجع لعقلي أم عقلك، أم ماذا؟

قد يقول آخر: لنرجع إلى العلم، فهو مرجعنا، وهو الآخر مختلف أيضًا، وقد تولى د. غليون الرد والمناقشة فقال(1): إن الحداثة تفترض أن الواقع (المطابق لذاته) هو الواقع الحديث، أو المساير للحداثة، أما مظاهر الحياة التقليدية وأنماطها فكلها ليست واقعًا، ولا تحمل انسجامًا .

إن الواقع التقليدي ليس له أي قوام حقيقي، وليس مبررًا، ووجوده عبارة عن مظهر من مظاهر اللاعقلانية والانحطاط والشذوذ، وإذن فـ (الحداثة ) هي (معيار العقلانية والصحة )، فلا يمكن للمعرفة أن تكون صحيحة ويقينية إلا عندما يكون نموذجها هو (الواقع المطابق لذاته )، أي الواقع المعاصر، ولما كان العلم أحد منتجات هذه (المعاصرة ) فهو إذن معيار صحة أفكارنا عن الواقع، وبقدر ما تكون الأفكار مطابقة للعلم، تكون يقينية.

هذا الكلام يبدو -لأول وهلة- معقولاً مقبولاً، كما يبدو وكأنه يستعمل (المنطق الأرسطي) بما يحمل من صحة ومغالطة.

وأترك الجواب للدكتور غليون فهو يرى أن(1): (العقلانية العربية هدفها ومطلبها، نقل العلم، والنظرة العلمية، إلى ثقافة تعتبرها من الأساس فاقدة له، وغير قادرة على إنتاجه. إذن مطابقة أفكارنا للعلم، هي قاعدة الموضوعية والعلم، كما هي مجسدة في نظم معرفية جاهزة، تضمن صحة هذه الأفكار ويقينيتها ).

ونلاحظ هنا، كيف تصادر هذه المحاكمة - بالمعنى المنطقي- على المسألة الأساسية، التي ما كان من الممكن للعلم أن ينشأ بدونها، وهي التساؤل عن مصدر يقينية المعرفة العلمية نفسها، وهو التساؤل الذي قاد إلى تطور العلم، كثمرة لفلسفة ما قبل (علمية مؤسسة العلم ذاته كمفهوم ).

إن هذه (المحاكمة ) تقول عمليًا: إن أصل المعرفة اليقينية (العلم ) نفسه، وبذلك فهي لا تحرم نفسها فقط من التفكير في هذا العلم، والتحقق من المسعى العلمي، في كل مرة يسعى فيها الباحث إلى إدراك الواقع وتحليله، وإنما تضفي أيضًا على المعرفة العلمية صفة الحقيقة (المطلقة )، والمنزلة التي تشكل في ذاتها المبتدأ والمنتهى...

إنها تجعل من العلم معرفة (لاهوتية مقدسة ) مفصولة عن الواقع الذي استمدت منه، وعن المجتمع الذي ظهرت فيه، وعن الذات التي أنشأته، وعن المطلب الذي وضع له.

مرجعية العلم:

إن الغرب مكتشف العلم، لم يعد يعتبره حقيقة يقينية، ولو اعتبره فنحن نبحث عن مرجع نعود إليه حين نختلف، فإذا كان العلم مما يختلف فيه، فكيف يكون مرجعًا ؟

لقد هربنا من يقينية الأديان، فسقطنا في يقينية العلم، كما فعلت الماركسية، حين شطبت الأديان، ثم ما لبثت أن صارت دينًا، أكثر تشنجًا وتعصبًا، حتى حرمت قراءة الكتب المخالفة، وصادرت حرية المعارض كليًا، وهكذا تحولت إلى دين له طقوسه ورموزه، وحتى أنبياؤه، وصار قبر المعلم (لينين ) مزارًا، وعلى زائره أن يقف باحترام، فلا يسمح له مثلاً وضع النظارات على رأسه، ولا التحدث ...إلخ.

لقد هربت الحداثة وأهلها من الأديان لتجعل من العلم دينًا جديدًا، له سدنته وطقوسه!

إنها تكفّر كل من لا يقبل (يقينية العلم ) وصحة وسلامة الحداثة، وتُقْصيه بعيدًا، وتتهمه بالرجعية والظلامية والعودة للقرون الوسطى، إنها جماعة (تكفير ) جديدة، تكفر (وطنيًا )، وتبعد وتقصي كل من لا يشاركها الرأي والمعتقد، أنهم مكفرون جدد!

وأخيرًا أجد من النافع المفيد أن نتساءل: هل نحن ننشئ علمًا، أم نقتبس ونستهلك فقط؟ وهل نحن ننشئ حضارة أم نستهلك منتجات حضارة فقط ؟

وأخيرًا هل نحن بحاجة إلى مرجعية، نرجع إليها عندما نختلف أم لا؟ والسؤال الرابع والأخير: هل يمكن حل مشاكلنا بخلق عداء بين العقلية العلمية والعقلية الدينية ؟

يقول د. غليون(1): (إن مشكلة العلم لا تحل بخلق (عداء مطلق) بين وجود العقلية العلمية، والعقلية الدينية أو التقليدية، لأن معنى هذا أنه علينا أن ننتظر القضاء الكامل على الثقافة التقليدية، حتى نصل إلى اكتساب العقلية العلمية وهذا مناف للواقع، واقع العلم والثقافة في الغرب ذاته، فليس هناك ما يمنع تعايش الثقافة العلمية والدينية والأدبية، في كافة المجتمعات، القديمة والحديثة، على حد سواء، ويكفي في ذلك إلقاء نظرة على الحركات الدينية المتجددة في أمريكا ).

الذي يمكن تصوره أن هناك حقيقة روحية، وحقيقة علمية، ولا تناقض بين الاثنين، إلا إذا أسيء فهم إحداهما أو كلاهما.

رأي شيخ الإسلام في التعارض:

لقد وجدت شيخ الإسلام ابن تيمية يرحمه الله، يدرس قضية التعارض بين القضايا العقلية والنقلية، ثم يضع ميزانًا لذلك(1) إذ يرى أن الحقائق منها ما هو شرعي (نقلي )، ومنها ما هو عقلي، وكل منهما فيه القطعي والظني، وهناك ثلاث قواعد تضبط ذلك:

1- إن القطعيين لا يتعارضان.

2- إذا تعارض قطعي وظني يقدم القطعي، أيّاً كان مصدره.

3- إذا تعارض ظنيان فعلى العقل أن يسعى للمفاضلة بينهما، وأن يأخذ بالأرجح.. منهج متوازن لا شطط فيه، أعتقد أنه مقبول لدى كل منصف.

ختامًا لقد وجدت الرئيس البوسني (علي عزت بكوفتش ) يعمل مقارنة لطيفة بين الحضارة والثقافة، من حيث الأهداف والوظائف فيرى(2):

أن الثقافة تحتل تأثير الدين على الإنسان.. أما الحضارة فتمثل تأثير الذكاء على الطبيعة.. الثقافة تعني الفن، وأما الحضارة فتعني صناعة الأشياء.. الثقافة صنع مستمر للذات، والحضارة تغيير مستمر للعالم.. الثقافة استمرار للتقدم الإنساني، والحضارة استمرار للتقدم التقني.

الثقافة تقدم مستمر للذات، والحضارة اضطرار للاعتماد على المادة، وفرض لها على الإنسان.. الثقافة تستهدف التقليل من حاجات الإنسان، والتوسع في آفاق الحرية.. حامل الثقافة هو الإنسان، وحامل الحضارة هو المجتمع.

الثقافة تحتل القوة الذاتية، والحضارة تمثل قوة على الطبيعة.

الدين والقيم والفكر والآداب، من مكونات الثقافة. والعلم والتكنولوجيا والمدن والدول كلها تنتمي للحضارة..

وأخيرًا: فالحضارة ليست خيرًا بنفسها ولا شرًا، لذا فالمتحضر يمكن أن يكون مستعمِرًا ومستعبِدًا لأخيه، سارقًا لأقوات الشعوب الفقيرة، محطمًا لها، مشعلاً للحروب، مستغلاً تقدمه في تحطيم الآخرين، ومنعهم من التقدم، كي يظلوا سوقًا له ولبضائعه.

فالحضارة ومثلها التقدم، وصف وليس بحكم، فالمتحضر يمكن أن يكون ملكًا رحيمًا، كما يمكن أن يكون شيطانًا رجيمًا، وكذلك التقدم، يمكن أن يكون باتجاه الخير والسلام، ومعاونة الشعوب الفقيرة، والأخذ بيدها، كما يمكن أن يكون وسيلة استعلاء ونهب وسلب، وإشعالٍ للحروب، وفرض لتجارة مثل تجارة الأفيون.

إن أوروبا الناهضة المتقدمة استعمرت كافة القارات، وخاضت من أجل ذلك في أنهار من الدم، وفعلت في المستعمرات ما يفعله الذئب في فريسته، وكان سلاحها تقدمها وملكَها أسباب القوة وتخلفَ الآخرين.

فليس التحضر أو التقدم بنفسه خيرًا أو شرًا، ولكن بما يحمل، وبما يحسن أو يسيء من تصرف.

والمتقدم والمتحضر -اليوم- هو من يلوث البيئة، بعشرات الأضعاف مما يفعله المتخلف.. فالمتقدم ليس ملكًا، والمتخلف ليس شيطانًا.

==============

# الأهداف الكبرى لخلق الإنسان

لو تساءلنا عن الأهداف الكبرى التي خُلق من أجلها الإنسان، ماهي؟ يمكننا جمعها في هدفين كبيرين: عبادة الله، وعمارة الأرض.

أولاً: عبادة الله تعالى:

يقول سبحانه وتعالى: {وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون } (الذاريات:56).. والعبادة لغة: الانقياد والذل والخضوع(1).

يقول الفيروزأبادي(2): (العبادة: الطاعة، وهي أبلغ من العبودية، لأنها غاية التذلل، لا يستحقها إلا من له غاية الإفضال، وهو الله تعالى.. العبادة ضربان: ضرب بالتسخير، وضرب بالاختيار، وهو النطق، وهو المأمور به في قوله تعالى: {اعبدوا ربكم } (البقرة:21)، وقد ورد العبد والعبادة في القرآن على ثلاثين وجهًا... )

والمعنى الاصطلاحي للعبادة، لا يخرج عن المعنى اللغوي، وقد جعلها شيخ الإسلام ابن تيمية، اسمًا جامعًا لكل ما يحبه الله تعالى ويرضاه، فصارت تشمل العبادات البدنية والمالية والقلبية.

والعبادة تطلق -عادة- على معنيين اثنين هما:

أ- معنى واسع: يشمل كل عمل مباح يفعله المسلم، يبتغي به وجه الله تعالى، وقد نُقل إلينا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان جالسًا في نفر من الصحابة، فمر بهم رجل، فذكر بعضهم نشاطه وهمته في العمل، وقالوا: يارسول الله لو كان هذا في سبيل الله! فقال صلى الله عله وسلم: (إن كان خرج يسعى على ولده صغارًا فهو في سبيل الله، وإن كان خرج يسعى على أبوين شيخين كبيرين فهو في سبيل الله، وإن كان خرج يسعى على نفسه يعفها فهو في سبيل الله، وإن كان خرج يسعى رياء ومفاخرة، فهو في سبيل الشيطان )(1). فالعبرة لحسن النية، وصدق التوجه.

وقد اشتكى بعض الصحابة من فقرهم، وأن الأغنياء يشاركونهم العبادة، ويزيدون عليهم بالصدقة. فقد أخرج مسلم في صحيحه: قال بعض الصحابة: (يا رسول الله، ذهب أهل الدثور بالأجور، يصلون كما نصلي، ويصومون كما نصوم، ويتصدقون بفضل أموالهم، فقال صلى الله عليه وسلم: أليس قد جعل الله لكم ما تصدقون به؟ إن بكل تسبيحة صدقة، وكل تكبيرة صدقة، وكل تحميدة صدقة، وكل تهليلة صدقة، وأمر بالمعروف صدقة، ونهي عن المنكر صدقة، وفي بضع أحدكم صدقة، قالوا: يا رسول الله، أيأتي أحدنا شهوته، ويكون له فيها أجر؟! قال: أرأيتم لو وضعها في حرام، أكان عليه وزر؟ فكذلك إذا وضعها في الحلال، كان له أجر )(2).

فالحديث يخبر بأنواع من الصدقات.. كما في المسألة أبعد من ذلك، وهي قرب الرجل أهله، يكون له في ذلك أجر، لأنه يعف نفسه ويعف أهله.

فالعمل العادي المباح يمكن أن يصبح عبادة، ومن ثم يحصل صاحبه على أجر، ويمكن العكس بأن يقوم المسلم بعبادة، ويكون فيها مرائيًا منافقًا، فيحصل على الإثم.

وقد وجدت (محمد أسد ) يتحدث عن شمول العبادة فيقول(1): (العبادة في الإسلام ليست محصورة في أعمال من الخشوع الخالص، كالصلاة والصيام مثلاً، ولكنها تتناول كل حياة الإنسان العملية أيضًا، وإذا كانت الغاية من حياتنا -على العموم- عبادة الله تعالى، فيلزمنا حينئذ ضرورة أن ننظر إلى هذه الحياة في مجموع مظاهرها كلها، على أنها تبعة أدبية، متعددة النواحي، وعبادة الله في أوسع معانيها تؤلف في الإسلام معنى الحياة.. هذا الإدراك وحده يرينا أحكام بلوغ الإنسان الكمال، في إطار حياته الدنيوية الفردية، ومن بين سائر النظم الدينية، نرى الإسلام وحده يعلن: أن الكمال الفردي ممكن في الحياة الدنيا ).

إن الإسلام لا يؤجل هذا الكمال إلى مابعد إدانته الشهوات الجسدية، ولا هو يعدنا بسلسلة متلاحقة من (تناسخ الأرواح ) على مراتب متدرجة -كما هو الحال في الهندوكية- ولا يوافق البوذية التي تقول بأن الكمال والنجاة لا يتمان إلا بعد انعدام النفس الجزئية، وانفصام علاقتهما الشعورية من العالم، كلا إن الإسلام يؤكد في إعلانه: أن الإنسان يستطيع بلوغ الكمال في حياته الدنيا الفردية، وذلك بأن يستفيد استفادة تامة من وجود الإمكان الدنيوي في حياته.

تصور جيد وشامل للعبادة في الإسلام.. وقد وجدت د.ماجد الكيلاني يحصي ثلاثة اتجاهات في العبادة: اتجاه ديني.. اتجاه اجتماعي.. اتجاه كوني(1).

والاتجاه الديني يتمثل في ممارسة الشعائر الدينية، بينما يتمثل الاتجاه الاجتماعي في علاقة الفرد بغيره، وضبط شبكة العلاقات الاجتماعية، أما الاتجاه الكوني فينظم علاقة الإنسان بالكون، ويتطلب معرفة جيدة به.. ويرى د. الكيلاني وجوب تكامل وتساند هذه الاتجاهات كلها، كي لا يصاب التدين بنوع من القصور.

أما إذا حصل انفصال بين هذه الاتجاهات، فحُصر مثلاً مفهوم العبادة بأداء الشعائر فقط، فهنا سينتج عن ذلك بعض الآثار السلبية، منها:

1- عدم الاهتمام بالاتجاهين: الاجتماعي والكوني، وعندها تنحسر العلوم الاجتماعية والكونية، أو تنحرف عن مسارها الصحيح، فيعمل كل واحد ضد الآخر.

2- يفرز الفصل بين الاتجاهين الديني وغيره، فريقًا من المتعلمين، بعضه يكون متدينًا، لكنه يتصف بالسلبية والمسكنة (كما هو حال أهل التصوف )، وفريقًا من الاجتماعيين، يتصف بالانفلات.

3- إن الفصل يمكن أن يخرج نماذج من المتدينين، تتصف بالتواكل والكسل والجبرية، على حين تتصف مجموعة من المهنيين بالمادية الاستهلاكية (وهذا بعض ما نعانيه اليوم ).

4- لقد أفرز الفصل بعض العاملين في الحقلين الاجتماعي والكوني، بحيث صاروا متمردين على القيم والأخلاق، وهذا مما يشعل الصراع والتطاحن داخل المجتمعات الإسلامية، فتتولد انقسامات كثيرة، بحيث ينشغل أفراد المجتمع بذلك، (وجل مجتمعاتنا اليوم تعاني من ذلك ).

5- إن الفصل يعطل رسالة الدين في الإصلاح الاجتماعي، ويعيقه عن محاربة الشر والفساد، بل قد يدفع بالدين ورموزه ليصبحوا عامل دعم للفساد، ومن هذا المنطلق نجد (المترفين ) يفصلون بين الدين، وتأثيره في الحياة، ويريدونه طقوسًا بلا روح، يقول سبحانه وتعالى: {ليس البر أن تولوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب، ولكن البر من آمن بالله واليوم الآخر والملائكة والكتاب والنبيين، وآتى المال على حبه ذوي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل والسائلين وفي الرقاب، وأقام الصلاة، وآتى الزكاة، والموفون بعهدهم إذا عاهدوا، والصابرين في البأساء والضراء وحين البأس، أولئك الذين صدقوا واولئك هم المتقون } (البقرة:177).

فمن أجل أن يكون المسلم من أهل البر، فلا تكفي الصلاة، بل ينبغي توفر الإيمان ودفع الأموال، إضافة لكافة العبادات، والالتزام بالوفاء بالعهود..الخ.

ومما يوضح هذا (الفهم ) أن أحد الصحابة، جاء لرسول الله مبايعًا، وقد وصف حاله قائلاً(1): أتيت رسول الله لأبايعه، فاشترط علي شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا عبده ورسوله، وأن أقيم الصلاة، وأن أؤدي الزكاة، وأن أصبح، حجة الإسلام -أي الأولى- وأن أصوم رمضان، وأن أجاهد في سبيل الله، فقلت يا رسول الله: أما اثنتان فوالله ما أطيقهما: الجهاد والصدقة، فإنهم زعموا أن من ولى الدبر -هرب من المعركة- فقد باء بغضب من الله، فأخاف إن حضرت تلك، جشعت نفسي وكرهت الموت. والصدقة، فوالله مالي إلا غنيمة وعشر ذود -أي غنم قليلة وعشر من الإبل- هن رسل أهلي وحمولتهم، فقبض رسول الله يده، ثم حرك يده، ثم قال: لا جهاد ولا صدقة، فبم تدخل الجنة؟! قال: قلت: يا رسول الله أنا أبايعك، قال فبايعت عليهن كلهن .

فالرسول صلى الله عليه وسلم يرفض بيعة الرجل لأنه أراد التنصل من الزكاة، لقلة الأموال، ومن الجهاد، لأنه يخاف إن اشترك في الحرب أن يهرب، فيحق عليه غضب الله، لكن صاحب الرسالة صلى الله عليه وسلم يشترط بوضوح تام، إما البيعة الكاملة أو عدمها، فالقضية لا تقبل المساومة ولا التجزئة.. وهذا الفهم الشامل المتوازن كان واضحًا كل الوضوح لدى جمهور الصحابة، وقد يكون ترجيح العبادة -بمعناها الضيق- والتوسع فيها جاء في عهد التابعين، ومن جاء بعدهم.

ب- معنى ضيق: الشق الثاني لإطلاق(العبادة ) يقصرها على الصلاة والصيام والحج والزكاة، وهذا المعنى هو المتبادر إلى الذهن. والأصل في هذا المعنى هو النص الصحيح، ذلك أن العبادة غير معللة.

وقد نقل عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قوله: (لو كان الدين -أي العبادة- بالعقل، لكان مسح باطن القدم أولى من ظاهره ).

ومعلوم أن العبادة مبنية على الحظر أي المنع، فلا يجوز أن نزيد أو ننقص فيها، وقد جاء نفر من الصحابة إلى بيت رسول الله يسألون عن عبادته، فلما أخبروا كأنهم رأوها قليلة، فقال بعضهم: أصوم ولا أفطر، وقال آخر أقوم الليل ولا أنام، وقال ثالث: إنه سيعتزل النساء، فلما سمع رسول الله بذلك قال لهم: (أنا رسول الله، أعرفكم بالله، وأتقاكم له، أصوم وأفطر، وأقوم الليل وأنام، وأقرب النساء، فمن خالف سنتي فليس مني )(1).

فالعبادة أساسها النص الصحيح، وهي تقوم على الاتباع دون الابتداع.. أما الحضارة فتقوم على الإبداع دون التقليد، لكنا عكسنا الأمر فصرنا مبتدعين في العبادة، مقلدين في الحضارة، فلا سلمت لنا العبادة، ولا أبدعنا شيئًا في الحضارة.

ثانيًا: عمارة الأرض:

إن الهدف الثاني لخلق الإنسان أن يعمر الأرض، كما قال تعالى: {هو أنشأكم من الأرض واستعمركم فيها } (هود:61).

وعمارة الأرض تتطلب معرفة جيدة بعلوم (الحياة )، بل آخر ما توصل إليه الإنسان في هذه العلوم، التي تتطور يومًا بعد يوم.

وقد قسم الفقهاء (الفروض ) إلى قسمين: فروض أعيان وفروض كفاية.. وفروض العين مثل الصلاة والصوم.. وأما فروض الكفاية فهي فروض عامة، فإذا قام بها البعض سقطت عن الأمة، لكن إن أهملها الكل أثموا.. فكل علم نافع، أو صناعة مفيدة، فلابد أن يوجد من المسلمين من يحسن أداءها، وإلا حصل الإثم للجميع، لكن إذا جرى تعيين فرد لها، صارت بالنسبة له من فروض العين. ومن العلماء من يقدم فروض "الكفاية " على العين، لأهميتها بالنسبة للأمة.

وعلى ذلك، فعلى كل من يهتم بعمارة الأرض، أن يواكب تطور العلوم والصناعات، كي يستطيع فعلاً أن يعمر. وللأسف فإن ما أطلق عليه ابن خلدون (علم العمران ) ذهب معه، ولم نجد من يهتم به.

لقد تحولنا إلى مستهلكي حضارة، ولم نكن من صناعها، فمن السهولة بمكان أن يكون الإنسان (زبونًا ) يأخذ من منتجات الحضارة ما يحب، ويدفع الثمن، ولكن من الصعوبة أن ينتج حضارة أو يساهم في إنتاجها بجدية أو فعالية.

إن عمارة الأرض أو صنع حضارة، يتطلب الكد والكدح، والسهر المتواصل، والأخذ بناصية العلوم والصناعات، ومن لا يحسن ذلك فهو يعيش على (الهامش ).

لو قمنا بفحص لهذه المليارات من البشر، التي تدب على وجه الأرض، فماذا نجد بمقياس العبادة الصحيحة، والعمارة المفيدة النافعة؟

1- سنجد ملايين قليلة جدًا تعبد الله تعالى كما أراد وأمر، وأقل منها تشتغل في عمارة الأرض.

2- سنجد ملايين كثيرة في الغرب واليابان مثلاً لا تعرف الله، وإن عرفته لا تعبده كما أمر، لكنها تفني عمرها في عمارة الأرض، وقد تشتغل في خرابها، بما تنشر من معدات القتل الجماعي، وأسلحة ذرية وهيدروجينية وغيرها.

3- ألوف الملايين من البشر لا تعبد الله، كما أمر، ولا تشتغل بعمارة الأرض، والكثير منها تطلب الطعام والدواء من غيرها، فلا الله عبدت ولا عمارة للأرض أشادت، ولم تحقق شيئًا مما خلقت له، وللأسف فهي تبلغ مليارات من البشر، ومن هنا جاءت متاعب البشرية، أو بعض متاعبها.

أبو حامد الغزالي ونظريته في العلم:

أبو حامد من فوارس العلم والثقافة (1051 - 1111م) ، له نظرية في العلم، نشرها في ثلاثة من كتبه، متى جمعت إلى بعضها كونت فكرة واضحة عن العلم الشرعي والدنيوي، وعلاقة أحدهما بالآخر.

أ- في كتابه (إحياء علوم الدين )، قسم العلوم إلى شرعية، وهي ما استفيد من الأنبياء عليهم السلام، وغير شرعية، وهي ما أرشد إليهم العقل، كالطب والرياضيات وأمثالها. وغير الشرعية هي من فروض الكفاية، فإذا خلا منها بلد سارع إليه الهلاك(1).

ب- في (أيها الولد ) يتم فكرته قائلاً: من يقتصر علمه على العلوم الدنيوية، دون الشرعية، فعمره يضيع فيما لا ينفع في الآخرة (2).

جـ- في كتابه (ميزان العمل ) يقول:... من يقتصر على علوم الدين وحدها، فإنه لا يفهم من الدين إلا قشوره، بل خيالاته وأمثلته، دون لبابه وحقيقته(1)، إذ لا تدرك العلوم الشرعية إلا بالعلوم العقلية، فإن العقلية كالأدوية للصحة، والشرعية كالغذاء(2) .

من يتطلع لدور في الحضارة، فلا بد أن يكون له حضور متميز، كما ينبغي أن تكون لديه فكرة واضحة تجاه الكون وخالقه والحياة.

ويطرح (اشفيتسر ) في كتابه (فلسفة الحضارة )(3): (إذا أنتج المفكرون في عصر من العصور نظرية في الكون ثمينة، فإنها تتداول بين الناس تداولاً يؤدي إلى ضمان التقدم، وإن عجزوا عن ذلك، بدأ الانحلال يدب على نحو أو آخر، فكل نظرية في الكون، تجر وراءها نتائجها التاريخية ).

والقرآن الكريم يربط بين عمارة الأرض والأخذ بهدي الأنبياء، عليهم السلام، كما أن البعد عن هذا الهدي السماوي يجلب فيما يجلب التعاسة والحروب، وسقوط الحضارة.

يقول تعالى: {وضرب الله مثلاً قرية كانت آمنة مطمئنة يأتيها رزقها رغدًا من كل مكان، فكفرت بأنعم الله، فأذاقها الله لباس الجوع والخوف بما كانوا يصنعون } (النمل:112). إن قصص القرآن في مجمله يكشف: كيف تقدمت الأمم، وتوسعت الحضارات، حين أخذت الأمم بهدي السماء، وماذا أصابها من تأخر وفساد وسقوط للحضارة حين تركت شرع الله، وفضلت عليه شرائع وضعية.

==============

# التغيير في الحضارة

المتابع للحضارات الإنسانية يجد حضارة تقوم وتزدهر، ثم تشيخ وتموت، مفسحة الطريق لغيرها، وقد عد المؤرخ توينبي ستًا وعشرين حضارة، كان هذا شأنها.

والسؤال: هل يمكن معرفة قوانين التغيير، التي تحكم سير الحضارة؟ وهل يمكن التنبؤ بما يمكن أن يحصل للحضارة من ارتفاع أو سقوط؟

والسؤال الثالث: ما هو واجب المؤرخ ومفسر التاريخ؟

لا نجد أجوبة متفقًا عليها، فمؤرخ مثل (فيشر ) يرى أن الحوادث تتعاقب، وكل طارئ يتبعه طارئ، كما تتبع الموجة موجة أخرى، لذا فهو لا يرى جدوى من البحث عن نظام التغيير(1).

وهناك من يرى أن مهمة المؤرخ تنحصر في سرد الوقائع وتسجيلها، بعد التحقق من صحتها، دون حاجة للبحث عن النظم التي تربطها، وهؤلاء يقولون عادة: قد توجد للتغييرات الحضارية صور جامعة، تربط بعضها ببعض، ولكن محاولة كشفها ثم تعليلها ليس من واجب المؤرخ، فقد يقوم بذلك عالم الاجتماع أو الفيلسوف. وهؤلاء لا يرضيهم من يشتغل بتفسير التاريخ، ورصد حركة الحضارة، من أمثال شبنجلر وتوينبي وثورنثروب، وأمثالهم، ويذهبون لأبعد من ذلك حين يستخفون بالنتائج التي توصلوا إليها.

والذي لا جدال فيه، فإن عالم الاجتماع يحسن التعليل للوقائع والمتغيرات الحضارية، لكن ذلك لا يفقد المؤرخ هذه القدرة والقابلية، مادام يدرس التاريخ وحركته، ويتتبع تحولات الحضارة، إذن ليقل عالم الاجتماع ما عنده، وليقل المؤرخ ما عنده، دون أن يحجر أحد على أحد، فالميدان فيه فسحة للاثنين ولغيرهما.

والسؤال: هل يمكن أن نربط بين وقائع التاريخ والنتائج ارتباطًا (كليًا ) بكل ما تتضمنه هذه الفكرة(1)؟

هناك من يجزم بإمكانية ذلك، وأن ما يحدث يمكن توقعه، بعد مراعاة الظروف التي أحاطت به، وهنا يفترض التسليم بوجود (قوانين ) عامة، تحكم حركة الحضارة والتاريخ، فإذا عرفت هذه القوانين، عندها يمكن، أو لنقل يسهل التنبؤ بالمستقبل.. وأصحاب هذه التوجه يلحون على اكتشاف (حركة المجتمع )، كما يطالبون المؤرخين بذلك.

أما (إشبنجلر )(2)فهو يؤمن بالفصل بين الحقائق التاريخية والحقائق الطبيعية، ومن ثم فإن المنهج الطبيعي سيقصر عن فهم وتفسير التاريخ البشري، ولذا فالمنهج الوحيد الذي يوقفنا على حقائق التاريخ الإنساني، هو المنهج التاريخي(1). وقد تلقف الماركسيون (المنهج الطبيعي )، وطبقوه في (المادية التاريخية ) ، التي اعتبروها علم الاجتماع الخاص بهم، وبناء على ذلك فقد فسروا التاريخ بأنه (صراع للطبقات ) من بعد الشيوعية الأولى، وحتى الشيوعية الثانية.

ومما قالوه، ونادوا به(2): (إذا عرفنا الأسباب، وأثرنا عليها، أمكننا خلق الظواهر، التي يريدها المجتمع، أو عرقلة نشوء الظواهر الضارة، أو غير المرغوب بها، والنضال ضدها... ).

إلا أن الفكرة قوبلت بهجوم شديد، من قبل بعض مفسري التاريخ، على اعتبار أن لكل حدث تاريخي خصوصيته وفرديته، إذ التاريخ لا يعيد نفسه.

كما قرروا أن الأحداث والوقائع التاريخية متشابكة ومعقدة، بحيث يصعب استخدام العلاقات الثابتة بين مجموع منها -كما هو الحال في العلوم الطبيعية- فحوادث التاريخ غير متشابهة، ولا متكررة حرفيًا.

أما (المثاليون ) فردوا الفكرة، بحجة أن التاريخ يتصل اتصالاً وثيقًا بالإنسان، وهو حر ولا يخضع لمنطق الحتميات.

ويمكننا القول: بأن المنهج الطبيعي، القائم على رصد الظواهر واستنباط قانون يشملها، هذا المنهج يصعب تطبيقه على الإنسان وحضارته، فالأمم في تقدمها وتخلفها، لا تخضع لقانون واحد صارم، ولا تحكمها نظرية واحدة، لذا رأينا تفسير التاريخ يعتمد إما أحكامًا عامة أو نظرية فردية.

لكن العمل في هذا الميدان نبه الأذهان إلى ضرورة الربط بين الحوادث، متى تشابهت، بهدف الإفادة من الماضي، لمعرفة ما يحدث في المستقبل. فقيام الحضارات وسقوطها، لابد أن يحمل أسبابًا متشابهة على الأقل، وبذا يفيد من هذا الجانب.

هناك أمر من المفيد ذكره، أن الذين اشتغلوا في تفسير التاريخ وحركة الحضارة، اعتمدوا (الواقع التاريخي للغرب )، ثم حاولوا فرضه على العالم -كما فعلت الماركسية مثلاً- فهي وليدة البيئة الغربية، وقد تأثرت بما فعلته الرأسمالية، فصاغت نظريتها، ثم عممتها على العالم، وفي كل العصور، وعلى كافة الأقطار، وزادت بأن تصورت أن (حتمية ) تحكم العالم كله في سيره الحضاري، وهنا كان المقتل!!!

ليس كل ما حدث في أوروبا يجب أن يحدث في العالم، ولكن من المشهود له والمسلم به أن الماركسية أجادت في نقد الرأسمالية أكبر وأعظم إجادة، بل يمكن القول: بأنه النقد الأفضل.. وإن سقطت الماركسية -لأي سبب- فإن نقدها للرأسمالية لم يسقط، وعلى رجال الفكر الرأسمالي أن يفيدوا من ذلك النقد، ولا يمنعهم سقوط الماركسية من ذلك، فالممارسة شيء، والنقد للرأسمالية شيء آخر.

وقبل أن أختم الموضوع لا بد من الإشارة إلى وجود (اتجاه تطوري تاريخي )(1)، يرى أصحابه أن السير الرتيب للإنسانية وحضاراتها، لا يمكن أن يكون اعتباطيًا، أو خاضعًا للمشيئة الفردية، أو الأهواء والصدف، بل يقع في مراحل متعاقبة، يضبطها وينظمها قانون، يجمع في ثناياه وسطوره كل تاريخ الإنسانية. هذا الاتجاه ظهر في القرن التاسع عشر.

والإنسان يتمنى ذلك، كما يتمنى عدم تكرار السقطات.. فلو أمكن تحديد أسباب سقوط الحضارات بدقة، وأمكن من ثم تجنبها أو بعضها، فسيكون نافعًا ومفيدًا، أما أن تسقط حضارة في مشكلة، ثم تأتي حضارة فتسقط في ذات الإشكال، فهذا هو المطلوب الهروب منه، وعدم الوقوع فيه.

بالمثل فما تنتجه حضارة من فكر جيد، أو فن رفيع، أو تنظيم حسن، فكل ذلك وأمثاله ينبغي الإشادة به أولاً، والإفادة منه بعد ذلك، وبدون حساسية.

=============

# أهم العوامل المؤثرة في التحضر

ابتداءً أود الإشارة إلى أن (التحضر ) وصف وليس قيمة، فالتحضر بنفسه لا يحمل كل الخير، بل يمكن أن تكون الشعوب المتحضرة وبالاً على البشرية، حين يصير التحضر وسيلة استعمار واستعباد ونهب لثروات الشعوب، وتقييد لحريتها.. كما علمتنا الأيام أن المتحضرين هم من أشعلوا الحروب، وخاضوا بالدماء حتى (الركب )، ومازالوا يتلاعبون بشعوب العالم الفقيرة، يهبطون بثرواتها وسلعها إلى أسفل سافلين، ويرفعون بضائعهم يوميًا، حتى استحوذ 20% من سكان العالم على 80% من ثرواته، ومازال النهب والسلب على قدم وساق، حتى ازداد الأغنياء غنى، كما ازداد الفقراء فقرًا. وديون العالم الثالث خير شاهد، فهي اليوم عاجزة حتى عن دفع الفوائد.

وتلويث البيئة -اليوم- من نصيب المتحضر، بأكثر من الفقير ألوف المرات. لذا أود أن أكرر بأن التحضر وصف وليس قيمة. وقد حاولت جمع العناصر المؤثرة في التحضر، فجمعت أكثر من عشرة عناصر مثل: عامل الجنس (العرق )، العامل الاقتصادي، العامل الجغرافي، عامل العقيدة، عامل المعرفة، الفتوحات العسكرية، الفرد البطل أم المجتمع، شبكة العلاقات الاجتماعية، عامل الثقافة والفكر، الرغبة في التحضر، البيئة الطبيعية للتحضر. وسوف أستعرض هذه العوامل، بما يسمح به البحث من الاختصار والإطالة والمناقشة، ثم أتحول بعد ذلك إلى حركة التحضر ومساراتها، بإذن الله تعالى.

اتجاهات التفسير:

لعل من المفيد أن أشير لوجود مدرستين في تفسير التاريخ، وضبط حركة التحضر: مدرسة تريد مزيدًا من العوامل مترادفة متعاونة، يكمل بعضها بعضًا، ومدرسة تكتفي بعامل أساس واحد، لتفسر به التاريخ، وتضبط به مسار الحضارة. ولكن أتباع هذه المدرسة، لم يتفقوا على عامل واحد، بل كل اختار عاملاً، وجعله قطب رحاه، لذا سأمر عليها بشيء من الاختصار غير المخل.

أولاً: عامل الجنس (العرق):

لا يجادل أحد أن البشرية تتكون من أجناس مختلفة، يتميز بعضهم عن بعض، وأنها خاضت حروبًا وصراعات ضد بعضها، كما حارب أبناء الجنس، بل أبناء الأمة بعضهم بعضًا.

فهم يتفاوتون في الرضى والإبداع، في الفكر والقناعات، وكل جنس واتته فرصة أقام حضارة تناسبه، وتناسب عصره. وقد شاع في القرنين السابع عشر والثامن عشر فكرة اختلاف الأجناس، وأن بعضها أرقى وأفضل من بعض، لكن الذي يصعب قبوله أن ينادي شعب بأنه المؤهل الوحيد لبناء حضارة، وأن شعبًا آخر لا يستطيع ذلك، ولو واتته كل الفرص.

وسأستعرض بعض الأقوال، مع بعض التصورات الغريبة التي تتصاعد منها أبخرة العنصرية، والنرجسية الغليظة.

لقد كتب الفرنسي (جوبينو ) (1) المتوفى عام (1882م ) رسالة حول عدم تساوي (الأجناس )، وأن الآريين وحدهم بناة الحضارة، والمحافظون عليها (وهو ماكانت النازية والفاشية، تبشر به ليل نهار ).

أما (كريستيان لامس ) (2) فيرى أن الآريين يتفوقون على الساميين في عقولهم وخواصهم.

أما (جوزيف آرثر، وهوستن ) (3) فيرون أن بعض الشعوب من الأجناس (الراقية ) تتقدم، على حين تظل أجناس أخرى محكومة اجتماعيًا وثقافيًا بميراثها العنصري. وقد انتهوا -كالعادة- إلى أن كافة الحضارات من عمل الآريين. أما النازية فقد تكون أقوى مَنْ طرح فكرة (النقاء العنصري )، معتبرة الاختلاط بين العناصر والأجناس المختلفة سببًا للقضاء على الحضارة وإفسادها.

وكل من يتحدث عن تفوق جنس على غيره، لابد أن يذكر اليهود، فهم معجبون بأنفسهم إلى أبعد الحدود، ويعيشون وهمًا مخيفًا حين يعتقدون أن الله تعالى قد اختارهم من بين كافة الشعوب، وأنهم الأذكى والأقدر، ولولاهم لحل بالعالم كارثة، حتى دماءهم تختلف عن دماء البشر.

يقول (مارتن بوير ) -وهو مدير جامعة، ورجل اجتماع-(1): (إن الإسرائيليين شعب فريد، يختلف عن بقية الشعوب الأخرى، فهو الشعب الوحيد الذي يعتبر شعبًا، وفي الوقت نفسه يعتبر مجتمعًا دينيًا، وكل من يقطع العلاقة بين هذين العنصرين، يقطع حياة إسرائيل نفسها ).. والسؤال: ما الدليل على صحة هذا؟

وهل يهود روسيا وأوروبا والفلاشة من أثيوبيا، ويهود الهند وسيرلانكا واليمن، يشكلون شعبًا واحدًا؟

ويقول (آحاد هعام ) وهو اسم مستعار للكاتب الروسي (أشرغنزبرغ )(2): (من الطبيعي أن نسلم بحقيقة وجود درجات كثيرة في سلم الخليقة مرورًا بظهور الكائن غير العضوي، فالنباتات، والمخلوقات القادرة على النطق، يتقدمها جميعًا الجنس اليهودي ).

ما الدليل العلمي على ذلك؟

وأختم هذه (النقول ) بنص للكاتب الصهيوني (يوسف حييم بريبر ) يتساءل عن هذه (النرجسية ) الغريبة، فيقول(3): (من أين أتى هذا الاحتقار من جانب اليهود للأغيار، والشعور بالسمو عليهم؟ هل كان اليهودي عديم الشعور حقًا؟ وميتًا إلى درجة لم يشعر معها أن حياة الأغيار -أي غير اليهود- أكثر غنى، وأكثر جمالاً من حياته؟ إن هذا مستحيل، ولا نستطيع أن نصدق هذا، فإذا كان هناك احتقار للأغيار، فلم يكن ذلك سوى حسد طبيعي، يشعر به الفقراء تجاه الأغنياء، والرهبان تجاه الفرسان، والعاجز تجاه القادر، إن هذا الاحتقار لم يكن سوى استسلام لنصيبنا في الدنيا، وأحيانًا نوع من العزاء لآمالنا في العالم الآخر، يتلوه صرير أسنان، وغضب داخلي، عن وعي أو دون وعي ).

تسويق العنصرية وتبرير الاستعمار:

حاول بعض العنصريين أن يسوق نظريته في العالم، ويغطيها أو يحجبها ببعض المغالطات، ثم ليفلسف استعمار الإنسان لأخيه الإنسان.. تقول النظرية(1) ما يلي:

1- العروق مختلفة متباينة، ولكل صفاته المحددة، التي تميزه عن غيره.

2- هناك ارتباط وثيق بين الصفات الجسدية والروحية والعقلية، بحيث يمكن الاستدلال من الصفات الجسمية، على الصفات الأخرى.

3- العروق ليست مختلفة فقط، بل متفاوتة، أفضلها وأرقاها وأنقاها العرق (الآري ) (الفرع النورديكي )، وأدناها وأحطها الأفارقة السود.

ولي على هذه النظرية أكثر من تحفظ:

أولاً: العروق اختلطت لأكثر من سبب، والبحث عن عرق لم يختلط شبه مستحيل.

ثانيًا: الارتباط أو الربط بين الصفات البدنية والروحية والعقلية، لا أساس له، فالإنسان يتأثر بالبيئة، ويكتسب الكثير من العلوم والمعارف، فيختلف ذكاؤه الفطري بثقافته، حتى يصعب الفصل بينهما، فليس كل أبيض ذكي، ولا كل أسود بليد، تلك قضية يستحيل إثباتها أو تصديقها.

ثالثًا: اختلاف الأعراق قضية، وكون العرق الآري أرقاها وأنقاها، قضية أخرى يصعب التسليم بها، والأبيض الآري لو عاش الظروف التي يعيشها الأفريقي بفقره وأميته لكان أسوأ منه.

ولو عاش الأسود في مجال آخر، بعيدًا عن الفقر والأمية والتخلف، لتجاوز الأبيض، وتفوق عليه، وطلاب البعثات في الغرب يثبتون ذلك يوميًا.

تسويق العنصرية لدى تلاميذ (دارون):

تلاميذ دارون درسوا النظريات العنصرية، لكنهم زادوا في الطنبور نفخًا -كما يقال- وقد طرحوا نظريتهم على الوجه التالي(1):

1- البشر مختلفون، كما تثبت ذلك سماتهم البدنية والعقلية.

2- إن (البعض ) منهم أصلح بالطبع، ولذا فهم أرقى وأرفع شأنًا.

3- بعض الأجناس والأمم أصلح بالطبع، ولذا فهم أرقى وأرفع.

4- إن الطبيعة والتطور صنعا البشر، على هذه الشاكلة، ولذا فإن بعض العناصر والأمم يجب أن تسود، و(البعض ) يجب أن تكون مسودة وخادمة.

الطبيعة العمياء لم تصنع بشرًا ولا فأرًا ولا ضفدعة، والتطور لم يصنع ذلك، هكذا يعتقد جميع أصحاب وأتباع الديانات السماوية.

أما الفقرة الأخيرة فأشم منها روائح الاستعمار العفنة، والتي تزكم الأنوف، وكان بالإمكان أن تكون العبارة هكذا (... لذا من واجب الأمم المتقدمة والمتحضرة، أن تساعد وتعاون الأمم الثانية، وتأخذ بيدها ) لا أن تستعبد وتنهب خيراتها ومواردها.

القضية الأخرى: لا نصدق أن هناك أممًا أرقى وأصلح بالطبع، إذ لا دليل على ذلك، وكل جنس -وكل أمة- واتته فرصة تحضر اهتبلها وتقدم، ولو درست حضارات العالم قديمها وحديثها، لوجد مصداق ذلك.

كذلك لا نسلم ولا نصدق بوجود أعراق شريفة وأخرى وضيعة، إذ لا مقياس للشرف والوضاعة، وكل أمة يمكن أن تصف نفسها بالشرف، وعدوها بالوضاعة. فما مقياس الشرف والوضاعة، لدى تلاميذ المعلم (دارون )؟

ثانياً: العامل الجغرافي:

الإنسان قديمًا كان يسكن ويعيش قريبًا من الماء، ليتزود منه ويسقي حيواناته وزرعه، أما اليوم فلديه آلات تدفع بالماء بعيدًا، ويبدو أن الواقع القديم حمل البعض من مفسري التاريخ، ومن الراصدين للتحضر، للربط بين التحضر والموقع الجغرافي، فجل الحضارات القديمة قامت في أحواض الأنهر، فجاء من يعتبر العامل الجغرافي ذا أثر بالغ في التحضر، ومن هنا راح يدرس الأرض وتضاريسها، والموارد وحجمها. ثم عرج البعض على المناخ، ليصل في النهاية إلى أن هذه العوامل تشق لأصحابها طريق التحضر، وسبل التمدن، وهي تفرض على أهل القطر السير في مقدمة القافلة أو مؤخرتها، وبفضل هذا العامل اختلفت الحضارات.

ولما كانت طبيعة الصحراء مثلاً تختلف عن السهول، لذا فحضارتها تختلف كذلك.. وهكذا تختلف البلاد الجبلية عن الأرض السهلة فتختلف حضارتهما، كذلك تساهم وفرة المياه وشحها، حرارة الأرض وبرودتها، جفافها ورطوبتها...إلخ.

لقد ركزوا على العامل الجغرافي، لكنهم عادوا فاختلفوا، فمنهم من قدم المناخ، فجعله العامل الأول، ومنهم من قدم الأرض وجدبها وخصبها، ليأتي من يتعلق بالطرق والمسالك...

ولا يمكن إنكار أثر العامل الجغرافي في تكوين وتلوين الحضارة، لكن العيب الكبير يتمثل هنا بتجاهل الإنسان، وهو صانع الحضارة، فالحضارة أولاً جهد بشري، يستخدم فيه الإنسان المواد المتوفرة، لذا لم تقم الحضارة في جميع أحواض الأنهر، بل في بعضها دون بعض، كذلك نجد بلادًا كثيرة الأمطار، غنية الموارد، الشمس مشرقة فيها طوال العام، ومع ذلك مازالت تنتظر دورها في الحضارة، والذي قد يطول قرونًا.

هذه اليابان مساحتها بقدر مساحة بعض البلاد العربية، ثلاثة أرباع أرضها جبلية، مناخها قاري، حار صيفًا، بارد شتاءً، مواردها شحيحة، يعيش فيها أكثر من (125 ) مليون من البشر.. وبفضل الإنسان الياباني، فقد تخطى كل المصاعب، فكان هذا البلد مثالاً للإنسان الجاد المنتج المتغلب على المصاعب.

لقد عوض الإنسان الياباني كل نقص في موارد بلده، وهناك شعوب تملك كل الموارد، وتعيش تحت خط الفقر.. فالإنسان قبل الأرض، وقبل المناخ، لأن الحضارة صناعة بشرية، قبل أن تكون شيئًا آخر.

ثالثًا: العامل الاقتصادي:

يعتقد الماركسيون أن العامل الاقتصادي، هو المؤثر والموجه للأحداث، ومنها التحضر، فكل العلاقات الاجتماعية والتشريعات والنظم والدين، كلها تتأثر بالعامل الاقتصادي، نشوءًا وتطورًا، وهو (الباعث ) لكل مكونات المجتمع، الفكرية والمادية، وكل عامل آخر فهو ثانوي.

فالعلاقات الاقتصادية التي تتمثل بها أساليب الإنتاج هي الأساس، وكل تغير في أشكال الحضارة فهو عائد في أصله إلى تبدل في وسائل الإنتاج، وليس لشيء آخر.

وقد كتب (ماركس ) رسالة إلى (ف.أنتكوف ) عام 1846م تصور خلاصة فكره، وما توصل إليه بشأن الإنسان وحريته واختياره، لقوى الإنتاج فقال(1): (... ما المجتمع أيًا كان شكله؟ إنه وليد النشاط المتبادل الذي يقوم به الناس ).

وهل لهم حرية اختيار هذا الشكل أو ذاك من المجتمع لأنفسهم؟ لا، بكل تأكيد.. إذا فرضت وجود حالة معينة من التطور في (قوى الإنتاج ) كان لديك شكل معين من أشكال التجارة والاستهلاك، يطابقه نظام اجتماعي، وتنظيم للأسرة والطبقات، وبعبارة موجزة، كان لديك مجتمع مدني، يتفق وهذا الشكل... ومن العبث أن نضيف أن الناس غير أحرار في اختيار قواهم (الإنتاجية ) وهي الأساس الذي يقوم عليه (تاريخهم ) كله، لأن كل قوة إنتاجية هي قوة مكتسبة، أي هي ثمرة فعل ونشاط سابق....

إن وسائل الإنتاج هي العامل المؤثر، وإليها -تحديدًا - تعود كافة التغيرات من اجتماعية وسياسية وتشريعية وفكرية. وفيها ينبغي البحث(1)(لا في أدمغة البشر، ولا في تحسن إدراك الإنسان للحق الأزلي وللعدل، بل في (أساليب الإنتاج) والتبادل، يجب أن يبحث عنها في اقتصاديات كل عصر، لا في فلسفته ).

وبقراءة هذا (النص ) يمكن أن يخرج القارئ بما يلي:

أ- إن المجتمع البشري، يرسم وجهته ويشكله النشاط الاقتصادي.

ب- ليس للإنسان حرية اختيار شكل مجتمعه، بل ذلك متروك لقوى الإنتاج، فهي وحدها تستطيع ذلك.

جـ- كافة الأنظمة الاجتماعية، ومنها الدين، ونظام الأسرة، ونظام الطبقات، والنظام المدني والسياسي، كلها لا يختارها الإنسان، وإنما تصوغها (قوى الإنتاج ).

د- قوى الإنتاج إله جديد جبار!!!

هـ- قوى الإنتاج لا يختارها الإنسان بنفسه، لأنه لا يملك ذلك، إذ هي ثمرة نشاط سابق. لكنه نشاط إنساني، فلم الهرب من ذلك؟

والسؤال: إذا كان الإنسان لا يملك وسائل الإنتاج ولا يختارها، فما دور الإنسان في رسم صورة مجتمعه؟ وما حريته في ذلك؟

يجيب (ماركس )(1): (في الإنتاج الاجتماعي، الذي يزاوله الناس، نراهم يقيمون علاقات محدودة، لا غنى عنها، وهي مستقلة عن إراداتهم، وعلاقات الإنتاج هنا تطابق مرحلة محددة من تطور قواهم المادية في الإنتاج، والمجموع الكلي لهذه العلاقات يؤلف البناء الاقتصادي للمجتمع، وهو الأساس الحقيقي الذي تقوم عليه النظم القانونية والسياسية، والتي تطابقها أشكال محددة من الشعور الاجتماعي. فأسلوب الإنتاج في الحياة المادية، يعين الصفة العامة للعمليات الاجتماعية والسياسية والروحية في الحياة، وليس شعورهم هو الذي يعين وجودهم، بل إن وجودهم هو الذي يعين شعورهم.. ).

ألا تشبه هذه العلاقات (الجدلية ) علاقة البيضة والدجاجة، وأيهما الأصل، وأيهما الفرع؟ إذا كانت (وسائل الإنتاج ) هي التي تصوغ نظم المجتمع كافة ومنها (الدين )، فكيف نفسر وجود أكثر من دين في كل بلد، بل داخل الأسرة الواحدة؟

في الهند وحدها يوجد أكثر من ثلاثمائة دين، وإله الخير في الشمال، هو إله الشر في الجنوب -كما تقول إحصائية لهيئة الأمم- ووسائل الإنتاج واحدة؟

أليس من الأنسب أن نقول بأن العامل الاقتصادي مهم جدًا في التحضر، دون أن نجعل منه إلهًا، يملي على البشر ما يريد، في جبرية مطلقة لا مثيل لها؟

رابعًا: العوامل الاجتماعية غير الاقتصادية:

إذا جرى التركيز على العامل الاقتصادي -كما فعلت الماركسية- فهناك من يرى أن العوامل الاجتماعية -غير الاقتصادية- هي الأجدر بالعناية في فهم التاريخ ومعرفة خط سير التحضر.. وهؤلاء اختلفوا، فمنهم من جعل النزعة الإنسانية في إثبات الذات والسيطرة هي الأصل، معتبرًا (تنازع البقاء ) هو المحرك للتاريخ، والصانع لأحداثه، مرتكزًا إلى آراء (دارون ) بهذا الخصوص.

ثم قام فريق ليعكس الأمر، وليركز على توجه البشر للتعاون، خصوصًا وأن المواصلات والاتصالات، تجاوزت البعد المكاني، بينما كان العالم قديمًا يبدو كجزر في محيط كبير، يحيط بها الماء من كل مكان، ويفصلها عن غيرها.

ويجادل بعضهم قائلاً: حين مات نابليون في منفاه، لم تعلم فرنسا بموته إلا بعد ستة أشهر، واليوم لا يقع حدث في مكان حتى نسمع به ونرى صورته في ساعات. ويمكن أن يضاف أن (العولمة ) في بعدها، ستكسر الحدود، وتجعل العالم قرية واحدة، يؤثر فيه ويتأثر كل من فيه.

خامسًا: عامل العقيدة:

إذا أمكن إقناع إنسان بعقيدة ما، فإنه سينزل عند متطلباتها، دون معارضة قوية، من هنا يعتبر (البعض ) عامل العقيدة مهمًا وفاعلاً في التحضر، لأن الإنسان يتأثر تأثيرًا كبيرًا بدينه ومعتقده.

وحين فاخر أهل قريش بخدماتهم للحجاج، رد الله عليهم ذلك بأنه أمر لا يمكن مقارنته بصحة وسلامة الاعتقاد، فقال تعالى: {أجعلتم سقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام، كمن آمن بالله واليوم الآخر، وجاهد في سبيل الله، لا يستوون عند الله، والله لا يهدي القوم الظالمين، الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم أعظم } (التوبة:19-20).

فتغير عقيدة الإنسان يعقبه تغير تام في نظرته للحياة وسلوكه كذلك، من هنا لا يجادل أحد في عامل العقيدة، وأمتنا العربية خير دليل، فقد انتقلت من الانقسام إلى الوحدة، ومن حرب (داحس والغبراء ) إلى مصارعة أكبر إمبراطوريتين (الفارسية والبيزنطية )، ولو بقيت على إيمانها بالأصنام لعاشت خارج التاريخ، كما تعيش أمم كثيرة.

وفي هذا الميدان وجدت الناقد البريطاني (كولن ولسن ) يقول(1): إن الإنسان ليس كاملاً بدون دين، فإذا أريد للحياة أن تتقدم خطوات أسمى من (القرد)، ومن الإنسان العادي، وحتى من الفنان، فلن يكون ذلك إلا عن طريق تطوير قوة الفهم، وهذا الشوق لتركيز أعظم من الخيال يتمثل في (الشهية الدينية). إن الدين مقياس البطولة، ورمز حاجة الإنسان في الكفاح من أجل الفهم، وفشل الدين والحروب العالمية أمران متلازمان. ثم يصف (الدين) بأنه العمود الفقري للحضارة، معتبرًا الحضارة السليمة، ما كانت تؤمن بالدين.

العقيدة أو الدين هو ما يميز الإنسان عن الحيوان، وكافة الحضارات والإمبراطوريات كان لها دين تعتز به، وتستمد التشريع منه، وتاريخ الإنسان خير دليل. ولم يكن (الإلحاد ) معتقدًا رسميًا، إلا في العصر الحاضر.

الفيلسوف البريطاني (برناردشو ) يذهب بعيدًا، فيقول(1): (كنت أعرف دائمًا أن (الحضارة) تحتاج إلى دين، كما أن حياتها أو موتها يتوقفان على ذلك ).

ثم يزيد قائلاً(2):( إن الحضارة تسقط في اللحظة التي تكون قوة الإنسان أشد وأكبر من قوة الدين ).

قيمة العقيدة أنها منظم وضابط لسلوك الإنسان، فإذا (انفلت ) الإنسان، بحيث لم يعد يضبطه دين ولا عقيدة، فسوف يفعل ما يحلو له، ومن هنا قد يتحول إلى عنصر هدم وفساد.. فالانضباط الديني، يشكل صمام أمان، لا تفرط فيه أمة عاقلة.

لكن من الحق أن نقول: إن العقائد لا تعمل بنفسها، ولو عملت بنفسها، لوجدنا أتباع المعتقد الواحد على حالة واحدة، وحضارة متقاربة، وهذا ما لا نجده، فالإنكليز والألمان والأمريكان، نصارى بروتستانت، وكثير من الأفارقة، وكذلك نصارى الهند وسيرلانكا مثلاً، فهل جعلت العقيدة الواحدة جماهيرها في مستوى واحد؟

ويهود الفلاشا ويهود اليمن وأمريكا، هل جعلت العقيدة الواحدة منهم جميعًا على مستوى حضاري واحد؟

إن العقيدة تعمل من خلال الإنسان وثقافته، وهو قد يجعل منها قوة دافعة محركة، أو باردة لا حياة فيها، وذلك بحسب وعيه وموقعه الحضاري، وثقافته، وحسن إدراكه.

مرة أخرى، العقيدة عامل مهم كبير، متى كان صاحبها فاعلاً واعيًا، وهي ذات أثر ضعيف جدًا حين تكون خاملة، أو يكون صاحبها متخلفًا.

لكنها يمكن عدها من أقوى العوامل المؤثرة، إذا أحسن تحريك الإنسان من خلالها.

ويمكن أن أشير إلى ثلاث مراحل متميزة، في حياة أمتنا:

أ- حالها قبل انتشار الإسلام.

ب- حالها في القرون الأولى لانتشار الإسلام، وصدق الالتزام به.

جـ- حالها بعد التكاسل في الالتزام بالإسلام.

سادسًا: عامل المعرفة:

لا يجادل أحد في قيمة العلم والمعرفة في تحضر الأمة، وخروجها من دائرة التخلف والسقوط.

من هنا وجدنا من يعد هذا العامل كمحرك وموجه للحضارة -وقد تقدم- أن عمارة الأرض تقوم أساسًا على العلم والمعرفة، بل على آخر ما توصلت إليه العلوم والمعارف، ولكن (العلم والمعرفة ) هما دومًا من نصيب القلة في الشعوب، أما الجمهور فاكتسابه للعلم والمعرفة ومثلها الفلسفة، يقل كثيراً .

وهذه الهند والصين، وعدد شعوبها يصل إلى مليارين، أين نجد نصيب ذلك في شعبيهما؟ لا شك إنه في النخب القليلة جدًا، هذه واحدة.

وأما الثانية، فقد وجدنا معرفة (نظرية )، لم تعرف طريقها للحياة، فالمسلمون عرفوا الدورة الدموية، ومثلها كروية الأرض وحركتها، وابن خلدون كشف الكثير من قواعد علم (العمران )، لكن لم يستفد أحد من ذلك.. ورجال الفلسفة وعلم الكلام كانوا يناقشون: هل تنقسم المادة إلى ما له نهاية، أم إلى ما لا نهاية له؟ ثم وقفوا عند ذلك ولم يتعدوه. قد يقول إنسان: هذا ما تسمح به ثقافة ذلك الزمان، لكني أجيب أن المسلمين زمن (المأمون) مثلاً درسوا الفلك، كما درسوا محيط الأرض وحركتها، والغلاف الجوي وارتفاعه، ووصلوا إلى نتائج محترمة، لكنهم في ميادين أخرى بقوا يدورون في دائرة الفكر النظري ولم يتجاوزوه .

وحين وصل الناس إلى أمريكا، رفض اليهود ذلك كليًا، بحجة أن المعارف عندهم ترفض وجود قارة جديدة. كما رفضت الكنيسة الكاثوليكية وجود الجراثيم، وغيرها كثير.

إن العلوم والمعارف كانت دائمًا من نصيب نخبة قليلة، لكنها اليوم تتسع دائرتها يومًا بعد يوم، ولن يجادل أحد في قيمة هذا العامل في التحضر، والخروج من دائرة التخلف.

سابعًا: من يصنع التحضر.. الفرد أم المجتمع؟

لا خلاف أن التحضر صناعة إنسانية، والسؤال من يصنع ذلك، الفرد المبدع أم المجتمع؟

قضية قديمة، فهناك من يعتقد أن الفرد المبدع، ومنهم القادة العظام هم الذين يصوغون التحضر، ويصنعون التاريخ، ويتركون بصماتهم عليه، وهناك من يرى أن المجتمع هو من يصنع ذلك كله، ولولاه لما عرفت البشرية طريقها للتحضر.

الغرب يؤمن بالفرد وجهوده، لذا نراه يترجم لهؤلاء الكبار، كما يوصي بأن التحضر كان أولاً وأخيرًا من صنع عبقريتهم، وقوة إبداعهم، ولولاهم لما عرفت البشرية التحضر، ولبقيت حيث هي.

وهذا (أنشتاين) يقول بوضوح(1): (إن جميع الخيرات المادية والعقلية والأخلاقية -على مر العصور- كان مصدرها الأفراد الخلاقون... ).. وربما كان (توماس كاريل ) الأكثر حماسًا، فهو يكرر دون ملل دور الأبطال، وعبادة البطولة(2).

وهناك من يذهب في الاتجاه المعاكس، فيرى الفاعلية للجماهير، فهي صاحبة الأثر الأعظم في التحضر، وكذلك في التغيير.

فالماركسية مثلاً، تنكر أي دور للفرد، وقد نقل عن (ماركس) أغرب تعريف للفرد إذ يقول(3): (الفرد مجموع علاقاته الاجتماعية )، ويشرح ذلك فيقول(4): (ونضيف إلى هذا أن الفرد -تاريخيًا- لا يعني نفسه أبدًا إلا في إطار حضارة، أي في قلب جماعة ).

من هذه المنطلقات رأينا الغرب يؤله الفرد، ويعتبره الكل في الكل، بينما تعتبر الماركسية المجتمع هو كل شيء، ولا قيمة للفرد، إلا باعتباره ذرة صغيرة في مجتمع كبير.

وفي الإسلام موازنة بين الفرد والمجتمع، فلا يؤله الفرد، ولا يذوب ويختفي في المجتمع، فالفرد كائن مستقل، إلا أنه يعيش ويموت في المجتمع. وقد تحدث القرآن عن فرعون القائد، وهامان الوزير وجنودهم: {إن فرعون وهامان وجنودهما كانوا خاطئين } (القصص:28).

فلم ينسب ما حصل للقيادة وحدها، أو للجنود وحدهم، بل جمع الكل.

وقد درس المؤرخ البريطاني المسألة، فرفض التوجهين معًا فقال(1): إن المجتمع هو علاقة بين أفراده، وهذه العلاقة تقوم على اتفاق مجالات أعمالهم، اتفاقًا يجمعها على صعيد مشترك، هو ما نسميه بالمجتمع .

ويمثل لنظريته هذه بالفلاح، يبذر البذر في الحقل، فإذا نبت، تكون لكل بذرة جذور وساق وأوراق، وهي تأخذ نصيبها من الغذاء والهواء (مثل الفرد )، وهذا الحقل زرع من قبل فلاح، بهدف الحصول على حصاد متجانس (وهذا مثل المجتمع ). وهو مثال جيد، فكل نبتة في الحقل تمثل فردًا، وكل مافي الحقل يمثل المجتمع.

قضية أخيرة: البطل لا يعمل لوحده، وكذلك المبدع، وخير مثال لذلك (الجيش )، فهو قيادة وجنود، فالقائد يطبق خططه في جنوده، والجنود لا يستغنون عن قيادتهم، وكسب أي معركة يتطلب قيادة واعية مبدعة، وجنودًا مطيعين، يطبقون بدقة خطط قيادتهم، وهكذا يكون العمل، ما لم يكن فرديًا في التخطيط والتفنيذ.

ثامنًا: الحضارة والكائن العضوي(1):

هناك من يعتقد بأن الحضارة والمجتمعات الإنسانية كيانات (عضوية )، ومن هذا المنطلق يرون أن التبدل والتغير، نشوءًا واكتمالاً وزوالاً، تحكمه عوامل حتمية، كتلك التي تفعل في الكائنات العضوية. ويضربون مثلاً بالإنسان فهو يولد طفلاً، ثم يصير صبيًا فشابًا فرجلاً، ثم يشيخ ويهرم ويموت، والحضارة كذلك.

ولعل (أوزولد اشبنجلر ) أشهر المؤمنين بذلك، لكنه أحيانًا يعدل عن هذا التصور، فيشبه الحضارة بفصول السنة، ويرى ذلك من (الحتميات ) التي لا تشذ عنها حضارة، فهو يقول(2): (إن لكل حضارة ربيعها المتسم بالفاعلية الروحية، يعقب ذلك صيف تنضج فيه، ثم خريف حيث يسودها التحليل العقلي، وشتاء تكون فيه قد استنفذت جميع إمكاناتها الداخلية، فتتحول إلى الاحتمالات المادية، والفتوحات الخارجية، وعندها تكون قد شارفت على الانحلال والانهيار ).

الحتمية واضحة جدًا، ولكن الحضارة -في أصلها- ليست كذلك، فهي خليط من ماديات وأفكار وعقائد وآداب وفنون، ومنشآت مادية، كل هذا الكم يجتمع في زمان ومكان، مكونًا حضارة معينة.

وهذا لا يشبه الإنسان أو الكائن العضوي المتماسك المترابط، والذي ما أن تؤثر على جزء فيه حتى يتأثر الباقي.

الحضارة قد تقع في أخطاء قاتلة، فتنجح في تجاوزها ومعالجتها، فتجدد حياتها وديمومتها، لكن الإنسان يعجز عن تجديد شبابه.

وبالجملة، فإن تصور الحضارة وكأنها كائن عضوي، أمر يصعب قبوله، وإن كان بعض مكوناتها يتأثر ببعض، فالعقيدة يمكن أن تؤثر تأثيرًا كبيرًا في الآداب، لكن تأثيرها على الصناعة مثلاً، سيكون أقل.

بهذا الخصوص يمكن أن أذكر أن العرب حين باشروا الترجمة عن معارف اليونان، اختاروا الفلسفة والمنطق، لكنهم لم يترجموا الآداب اليونانية -مع جمالها- لأنها كانت وثنية، تعتقد بتعدد الآلهة، وهذا زهّد المسلمين بها، وجعلهم يتحاشون ترجمتها.

تاسعًا: الاجتياحات العسكرية:

الدول والنظم تسقطها وتقلبها الاجتياحات العسكرية، فهل تسقط الحضارة باجتياح عسكري، مثل حملات التتار، والمغول، والحملات الصليبية؟ ماذا كان سيحدث لو فتح العثمانيون أوروبا كلها؟

ماذا سيكون تاريخ العرب والمنطقة، لو أن ثوار (الردة ) أسقطوا النظام الإسلامي، فلم تقم للإسلام دولة؟ للدكتور (أنور عبد الملك ) المصري الجنسية وأستاذ جامعي في اليابان، فكرة ملخصها(1): أن أوروبا صعدت وتقدمت، بينما اضمحلت المراكز الكبرى في المشرق، منذ القرن الخامس عشر، وحصل ذلك بسبب الغزو الأوروبي للشرق، ابتداء من الحروب الصليبية، وانتهاء بالاستعمار الغربي، وزرع إسرائيل كإسفين في قلب البلاد العربية. فأوروبا بغزوها الاستعماري حطمت مراكز القوة في المشرق، واستنزفتها اقتصاديًا، وكذلك اجتماعيًا وسياسيًا وثقافيًا، ولم تترك للمشرق حرية التحرك والنهوض.

لكن المؤرخ (توينبي ) يرفض ذلك، ويرى أن العجز عن صد الاعتداءات الخارجية، على كيان حضارة، ليس هو السبب في السقوط، ولكن ثمة انهيار سابق قد حصل في قلب الحضارة نفسها.. واستشهد لذلك بسقوط الإمبراطورية الرومانية.

فإذا انتقلنا فكريًا إلى العباسيين، قبل وصول التتار إليهم، سلمنا لنظرية توينبي، فحال العباسيين -دولة وحضارة-كانت في النزع الأخير، وكشف هجوم التتار ذلك فقط. ولما وصل هذا الزحف إلى مصر، صد الهجوم وانتهى الأمر.

والذي يظهر: كما أن الدولة تشيخ، وتستوفي مبررات وجودها، فلا يبقى لديها ما تعطيه، فكذلك الحضارة تشيخ، بعد أن تعطي كل ما لديها، فلا يبقى لديها ما تعطيه، وإذن فلا بد من إفساح الطريق لحضارة قادمة، أكثر قوة وشبابية، تبني على الموجود ، وتزيد في البناء، وتجدد في نظم الحياة. وحين تسير القافلة طويلاً، فكل من يتعب أو يمرض، يتحول -دون جدل- من أول القافلة إلى ذيلها ونهايتها، ومن قيادتها إلى مجرد تابع.. هذا هو القانون.

عاشرًا: فساد شبكة العلاقات:

المفكر الإسلامي (مالك بن نبي ) يرحمه الله، يطرح فكرة ملخصها: أن الحضارة تبقى وتعيش وتستمر ما دامت شبكة العلاقات الاجتماعية سليمة قوية، فإذا فسدت تدهورت الحضارة وسقطت.. يكرر هذه النظرية في جل كتبه.

ففي (ميلاد مجتمع ) كتب قائلاً(1): .. عندما يرتخي التوتر في خيوط (شبكة العلاقات)، فتصبح عاجزة عن القيام بالنشاط المشترك، وبصورة فعالة، فذلك أمارة على أن المجتمع (مريض) وأنه ماضٍ إلى نهايته .

أما إذا تفككت الشبكة نهائيًا، فذلك إيذان بهلاك المجتمع، وحينئذ لا يبقى منه غير ذكرى، مدفونة في كتب التاريخ.

وقد تحين هذه النهاية، والمجتمع متخم بالأشخاص والأفكار والأشياء، كما كان المجتمع الإسلامي في المشرق، في نهاية العصر العباسي، وفي المغرب، في نهاية عصر الموحدين.

وربما كانت هذه الحالة -من التحلل والتمزق في المجتمع الإسلامي- حين أصبح عاجزًا عن أي نشاط مشترك، هي التي أشار إليها قول رسول الله صلى الله عليه وسلم(1): (يوشك أن تداعى الأمم عليكم كما تداعى الأكلة إلى قصعتها، قالوا: أو من قلة نحن يومئذ يارسول الله؟ قال: لا، بل أنتم كثير، ولكنكم غثاء كغثاء السيل، ولينزعن الله من قلوب أعدائكم المهابة منكم، وليقذفن في قلوبكم الوهن، قيل: وما الوهن يارسول الله؟ قال: حب الدنيا، وكراهية الموت ).

ومالك يرحمه الله يولي هذه القضية عناية كبيرة، شرحًا وتفصيلاً، فيقول(2): (... فقبل أن يتحلل المجتمع تحللاً كليًا، فإن المرض يحتل جسده الاجتماعي، في هيئة انفصالات في شبكته الاجتماعية، للأسباب التي ذكرناها، كمًا وكيفًا، وهذه الحالة المرضية قد تستمر قليلاً أو كثيرًا قبل أن تبلغ نهايتها، في صورة انحلال تام، وتلك هي مرحلة التحلل البطيء الذي يسري في الجسد الاجتماعي. بيد أن جميع أسباب هذا التحلل كامنة في شبكة العلاقات... ).

وللمؤرخ توينبي فكرة عن انحلال الحضارة، فبعد رفضه الاجتياح العسكري، يرى(1)أن انحلال الحضارة يزامنه فساد كبير، يدب في أرواح الناس، وتغير جذري يطرأ على سلوكهم ومشاعرهم وحياتهم كلها، فيحل مكان الصفات الجيدة، والقوى المبدعة، التي كانوا يتحلون بها، في دور النمو لحضارتهم، يحل مكانها (ثنائية ) من النزعات والمواقف العقيمة المتناقضة، وهنا ينكشف ويتعرى الفساد الروحي، كاشفًا عن فوضوية، تعم الأخلاق والعادات، وانحطاط يشمل الآداب والفنون، ثم قد تسعى (الأقلية المسيطرة ) إلى فرض فلسفة خاصة، أو دين جديد، مستعملة في ذلك القوة، ولكن دون جدوى ولا فائدة...

تصور جيد، ومن يطبق هذه النظرية على الحضارة الإسلامية في الأندلس، أو العباسية في المشرق، وحتى العثمانية، فسيجد الكثير من الشواهد على صحة هذه النظرية.

الحادي عشر: عامل الثقافة والفكر:

ثقافة كل أمة هو رأسمالها الكبير، من هنا لا نجد أمة دون ثقافة وفكر، لكن قد نجدها بدون حضارة، وفي عالمنا المعاصر، نجد ملايين من البشر في آسيا وأفريقيا وأمريكا الجنوبية، لهم ثقافتهم وفكرهم، لكنهم يعيشون خارج (فضاء ) الحضارة، وإن استعملوا واستهلكوا بعض منتجاتها(1).

1- أعتبر ما تقدم مسلمة، لا تحتاج لجدل كبير، كما أعتبرها القضية الأولى.

2- الثقافة تصنع الولاء أولاً، وتمنحه طواعية، دون إكراه.

3- الثقافة تموت أو تذبل، ومثلها الفكر، إذا حصل انفصال بين الوعي والواقع.

4- هناك قوانين في الحياة، يصعب تجاوزها أو تجاهلها، فالاستبداد في الحكم يفضي عادة إلى تخلف العقل، والتخلف يؤدي إلى تخلف التربية، وتخلف التربية يقود إلى نقد التراث الديني، وهكذا يحصل دوران في حلقة مفرغة، إذ يجري التنقل من المشاكل الثقافية إلى السياسية إلى التاريخية، دون حسم مشكلة من هذه المشاكل.

5- العالم -قديمه وحديثه- يشهد صراعات ثقافية، وغير ثقافية، فإذا وُجِد تدفق ثقافي أو (قصف إعلامي)، وعلى أكثر من جبهة، وعجزت الثقافة المحلية عن المقاومة والاستيعاب، فهنا احتمالان:

أ- أن تتفكك الثقافة الأضعف.

ب- أن تعدل من آلياتها، وتكيف نفسها.

6- كل ثقافة وفكر لا بد له من (مرجعية )، فالعقل البشري يصعب عليه العمل دون مرجعية، تمنحه أسسًا كي يستند إليها، وإلا حصل انقسام، وتحولت الأمة إلى أمم.

7- هل يمكن حل كافة الثقافات، ودمجها في ثقافة واحدة؟

إن التاريخ لم يسجل أن أمة تخلت عن ثقافتها كليًا، واندمجت في ثقافة غيرها، إلا إذا غيرت دينها وكافة معتقداتها، وغيرت لغتها.

8- مهمة الإنسان المثقف العمل لحل مشاكل أمته، فإن تحول إلى مجرد (سمسار ) لثقافة أخرى، فهو يخون بلده وأمته، كما يخون أمانة العلم والثقافة.

إن بعض مثقفي العالم الثالث، اتخذ من العلم والثقافة سلمًا لتحسين وضعه، والحيازة على أكبر قدر من المغانم، متحالفًا مع السلطة، مانحًا ظهره لشعبه وأمته.

9- سلوك الإنسان يجري منبثقًا عن فكر وثقافة، والأمة تقيم حضارة كثمرة لعقيدة وثقافة، وكلما كانت العقيدة والثقافة حية، كان التحضر أسرع وأنجز، فإذا تحول الفكر إلى مجرد أحلام، وصارت الثقافة مجرد عرف أو صف كلام، فإن العد التنازلي للحضارة يبدأ ويستمر، حتى تسقط الحضارة، أو تتحول إلى جسد لا روح فيه.

10- يقول (فرانك أنلو )(1) (راقب أفكارك فإنها تتحول إلى كلمات.. راقب كلماتك فإنها تصبح أفعالاً.. راقب أفعالك فإنها تتحول إلى عادات.. راقب عاداتك فإنها تصبح طباعًا.. راقب طباعك فإنها ظلال مصيرك ).

إذا كان هذا يصدق على الفرد، فهو يصدق على الأمة، فالتاريخ لم يسجل نهضة ولا تحضرًا جاء صدفة، دون تخطيط وتصميم، وعمل جاد، يشارك فيه الحاكم والمحكوم على حد سواء.

11- المقصود بالثقافة والفكر: تكوين رؤية شاملة للحياة والوجود والهدف من ذلك، لأن التحضر سلوك جماعي، يتجمع في وحدة ثقافية جامعة، تدفع بالأفراد نحو محصلة مشتركة في العمران المعنوي والمادي، وكل هذا يتطلب نوعًا من التجانس يمكن تسميته بـ (الإجماع الثقافي )، وهو ما توفره في العادة العقيدة الواحدة، أما الإجماع السياسي، فتوفره قيادة (كارزمية )، ذات مواصفات عالية، وأهداف سياسية مشتركة.

ويمكن أن أقول: إن الأفكار هي (وقود ) التحضر، وبدونها يصعب قيام تحضر مفيد.

12- الثقافة والفكر قد تكون دينية، متأتية من مصدر سماوي غيبي، حقيقي أو أسطوري، أو فكر بشري، وهنا سنجد أن (الدين ) هو الأكثر دوامًا والأقوى، لذا وجدنا الحضارات الكبرى كلها كانت تقوم في أساسها على (دين )، أو متطورة عنه، فإن لم تكن كذلك فربما سقطت الحضارة، ومثلها الدولة، دون عدوان خارجي -كما سقط الاتحاد السوفياتي- وفي مدة قصيرة نسبيًا.

وأخيرًا، الثقافة والفكر مقدمة أو شرط للتحضر، لكن ليس كل ثقافة أو فكر بإمكانها أن تنتج حضارة، إلا أنه لا حضارة بدون ثقافة أو فكر، وأمثل لذلك بأن صحة الصلاة تتوقف على وجود طهارة (وضوء ) سابق، ولكن ليس كل من يتوضأ يصلي.. ويحلو لي أن أذكر (طلبتي ) بأن نهر الحياة يجري، وعلى جانبه الحضارة، وعلى الجانب الآخر الفكر والثقافة، ويربط بين الضفتين قنطرة هي (القيم ).

الثاني عشر: الدافع الحضاري:

قد تتوفر للإنسان إمكانات كبيرة، لكنه لا يتحرك ولا يستغل هذه الإمكانات، وقد تكون الفرص قليلة، والإمكانات كذلك، ولكن قوة في نفس الإنسان تدفعه للعمل والتشبث، وقل مثل هذا في الشعوب والأمم، وقد توهم بعضهم فقال: إن التحضر هو من نصيب شعوب بعينها، وثمة شعوب أخرى غير مستعدة لذلك، وإن وافتها الفرص، إلا أن التاريخ يشهد بغير ذلك، فكل من واتته فرصة اهتبلها وأقام حضارة.

وما يصدق على الأفراد، يصدق على الشعوب والأمم، وهذه اليابان، قد تجاوزت شح البلاد، وقلة الخيرات، لأنها كانت مصممة على صعود سلم التحضر، وبأسرع وقت ممكن، بينما نجد بلادًا فيها الكثير الكثير من الخيرات، وهي تراوح مكانها، أو تسير ولكن إلى الخلف، وإلى مؤخرة القافلة.

إن الأفكار حين تحل في النفوس حلولاً إيمانيًا، يكون حلولها دافعًا نفسياً قويًا للتحضر، والتغلب على المصاعب.

إن الأفكار قد تسيطر على نفوس أصحابها، فتدفع بهم إلى العمل الموحد، مع شيء من إنكار الذات، والزهد في المغنم.

وهنا أتذكر ما يكرره (مالك بن نبي ) يرحمه الله من أن الحضارة تبدأ روحية نشطة، يعمل أصحابها بجد وإخلاص، ونكران ذات، فتحقق إنجازات كبيرة، ثم يعقب ذلك مرحلة عقلانية، تفلسف المرحلة السابقة، يلي ذلك مرحلة ثالثة، تثور فيها الغرائز، فتتفسخ الحضارة وتسقط(1).

وهذا التوصيف ينطبق انطباقًا عاليًا على الحضارة الإسلامية.

وإذا نظرنا لرواد الحضارة الغربية، وجدناهم في منتهى الجد والتفاني، فإذا نظرنا اليوم إلى مجتمعات (الإنشورنس )(1)نجدها تفتقد كل تلك الصفات الجيدة.

إن همها الأول اليوم أن تكسب، ولو بالتهرب من العمل، للحصول على (الضمان ).. وفضائح الفساد تتوالى، من الكبار والصغار معًا، لقد ذهب الرواد، وذهبت معهم التضحيات، ونكران الذات.

وكل حضارة تعرف جيدًا الفرق الكبير بين الرواد المؤسسين وذلك النفر البائس المتكاسل، الذي يشهد سقوط الحضارة، وفي الأندلس عبرة لكل معتبر.

دخلناها بـ (000،12) مقاتل، وحكمناها قرونًا، وأقمنا أروع حضارة، وخسرناها ونحن أكثر من أربعة ملايين مأزوم مهزوم، فلم تضرنا القلة، ولا رفعت عنا الكارثة الكثرة، لقد صرنا (غثاء )، والسيل متى جاء حمل معه ما خف وزنه، وقل نفعه، أما النافع فيبقى في أرضه، ولا يفلح السيل في جرفه.

وأوجه للقارئ الكريم سؤالاً: هل يزعجك ويغضبك تخلف أمتك، وهل لديك مشروع للتحضر والنهوض؟ أم شعارك: نفسي نفسي، ثم ليكن الطوفان؟!

الثالث عشر: البيئة الطبيعية:

الحضارة تقوم في أمة وأرض.. أما الأمة، فإذا كانت مغلوبة على أمرها متخلفة، وكانت الأمية من نصيب أغلب شعبها، والفقر يضربها بسيوفه، والأمراض تستوطنها بشكل دائم، مرة تموت عطشًا، ومرة تدمر مدنها وقراها الفيضانات، فهذه الأمة لن تفكر بالتحضر، وإن فكرت فعلى حد قول الشاعر:

أتمنى أن أراه حُلمًا والتمني رأسمال المفلس

فلا بد أن يكون للأمة (كفاية ) حتى تفكر في التحضر.

ولا بد أن تكون الأرض سخية ولو إلى حد، ولذا فقد جعل توينبي للتحضر شرطين، بعد أن ربط التحضر بوجود (تحد ٍ)، لا يكون قويًا فيُقعد الإنسان، ولا سهلاً فلا يثيره، ويضرب لنظريته أمثلة من كلا النوعين(1).

فيمثل للتحدي الصعب بالصحراء وبلاد الإسكيمو، ففي الصحراء حيث الحرارة العالية والمياه الشحيحة، يصعب إقامة حضارة، أو نجاح مشروع حضاري، على نطاق واسع، ومثل ذلك بلاد (الأسكيمو ) حيث يصارع الإنسان البرد من أجل أن لا يفتك به، لذا فلن يفكر بمشروع حضاري وهو يصارع من أجل البقاء حيًا.

أما التحدي السهل، فيمثل له بالمناطق الاستوائية، حيث الجو المعتدل، والشمس المشرقة، والأمطار الغزيرة، فلا يخاف الإنسان الموت جوعًا أو عطشًا أو بردًا.

إن الإنسان صانع الحضارة، لكنه يحتاج للعوامل التي تعينه وتساعده، من البشر والطبيعة. ونحن نرى اليوم أممًا تجاهد للتغلب على العوائق، فهناك تحلية مياه البحر، واستخراج المياه الجوفية، والزراعة في بيوت محمية، وتحسين المنتوجات الحيوانية والنباتية، وإقامة السدود لجمع المياه، وتسميد الأراضي الزراعية لمضاعفة المنتوج، هذا في الحقل الزراعي، وفي الحقل الصناعي حصل تقدم أكبر، مما جعل التحكم في البيئة أفضل من قبل، وإن كان لكل شيء ثمن.

وأختم ما تقدم بقول (ديورانت )(1): إن العوامل الجغرافية، على الرغم من أنها يستحيل أن تخلق المدنية خلقًا، إلا أنها تستطيع أن تبتسم في وجهها، وتهيء سبل ازدهارها.

إن الأرض لا تضيق بأهلها، ولكن النفوس الشحيحة (الكزة )، هي التي تضيق. وأحب أن أكرر مع الشاعر:

كلما أنبت الزمان قناة ركب المرء في القناة سنانا

الأغنياء ونسبتهم في العالم عشرة بالمائة، يسيطرون من خيرات العالم على تسعين بالمائة، ولا يعفون عن سرقة ونهب الفقراء، فيزداد الأغنياء غنى، ويزداد الفقراء فقرًا.

الفقير بحاجة إلى محراث وحاصدة وجرار، ودواء، وطعام، وماء نقي، لكن الغني يفضل أن يبيعه دبابة وصواريخ، أو أدوات زينة وتجميل، أو سيارات فخمة، أو مشروبات غازية، فكيف نحل هذه المعادلة؟.

===========

# حركة التحضر ومساراتها

التحضر مستمر، والتاريخ يتحرك، ولكن في أي اتجاه؟

هناك خمس مدارس تتوزع الموضوع:

أ- التقدم الصاعد.

ب- التأخر والنكوص.

جـ- دورات الحضارة

د- عدم التزام خط واحد.

هـ - الانقطاع التاريخي.

وسأحاول بحث كل اتجاه، بالحدود التي تسمح بها طبيعة البحث.

أولاً: التقدم الصاعد:

لعل أقدم من آمن بذلك بعض فلاسفة اليونان، ثم جاء بعدهم كل من بيكون وديكارت، فتبنوها.

وقد راجت الفكرة في أواخر القرن (17)، حيث قام جدل كبير بين أنصار القديم والحديث، فراح أنصار (الحديث ) دفاعًا عن موقفهم يرددون: أن أنصار القديم يقعون في وهم حين يقولون بأن من سبقهم كانوا أرجح عقلاً، بينما الإنسان كلما كبر ازداد حكمة ونضجًا وأصالة، وكذلك الإنسانية، فهي تسير دومًا نحو (التقدم )، وإذا كان للقديم فضل السبق، فإن اللاحق له فضل الكمال.

ابتدأت الفكرة (بالأدب )، إلا أنها ما لبثت أن تحولت إلى السياسة، وعلم الاجتماع، والفنون والفلسفة والتاريخ.

هذا التوجه هو الذي مهد وروج لفكرة (التطور )، والتي آمن بها (هيغل )، وعنه أخذها (ماركس وأنجلز ).

وقد منحت التطورات العلمية دفعة قوية لهذا التوجه، فقد استقر في النفوس أن (العلم ) سيحل جميع المشاكل، حتى لا يبقى في الحياة سر، ونادى البعض أن كل مشكلة لها في العلم حل، وإلا فهي مشكلة زائفة وميتافيزيقية.

وقد واجهت الفكرة الكثير من النقد والتجريح، بعضه يتعلق بالمنهج، والآخر يتعلق بالقيم، التي صدر عنها المؤمنون بها.

كذلك يلاحظ أنهم نقدوا مثلاً (العصور الوسطى ) وفق معايير حديثة معاصرة، ابتدأوا حملتهم أولاً على رجال الكنيسة، لكن سرعان ما تجاوزوا ذلك للهجوم على الدين نفسه، نافين أن يكون له دور في الحضارة، تكوينًا وتقدمًا.

المهم أن البداية كانت من (الأدب )، لتنتقل منه إلى سائر العلوم والمعارف، كما بدأت بنقد رجال الكنيسة، لتنتهي بالدين ذاته.

والإنسان يتمنى من كل قلبه أن تكون حركة التحضر تسير قدمًا، ولكن الحضارة ليست جسمًا عضويًا، إما أن يتقدم كله، أو يتأخر كله، فهي خليط من معارف وعقائد وتشريعات وآداب وفنون، ومنشآت مادية، يجمعها وعاء زماني مكاني، لذا ليس شرطًا أن تسير بخط واحد، فقد تتقدم الآداب مثلاً دون التشريع، وقد تتقدم بعض العلوم دون بعض، فالقول بأن حركة الحضارة تسير وفق خط واحد، وباتجاه واحد، يصعب قبوله، لأن الشواهد لا تساعد على ذلك. والحياة والكون ما يزالان مملوءان بالأسرار، والعلم لم يكشف الكثير من أسرارها، والحماس للعلم قد خف، ولم يكن كالقرون التي مضت، وقد صار العلماء أكثر تواضعًا، وأقل ادعاء.

ثانيًا: حركة النكوص:

المؤمنون بهذا التوجه يشعرون بغلبة الشرور، وتدهور القيم الأخلاقية، وكذلك الجمالية، وفوق ذلك وبعده، الحروب المدمرة، وضياع السلام والاستقرار، وشيوع الفساد والإرهاب، والتكالب على المادة، ويساهم في هذا الاتجاه علماء الدين، ويشاركهم بعض العلماء، الذين يتذمرون من عجز الإنسانية عن التقدم الحقيقي، فهذا (جيته ) الألماني يقول(1): لقد صار الإنسان أكثر ذكاء ووعيًا، ولكنه لم يصبح أكثر سعادة، أو أنبل خلقًا). وهي حقيقة موجعة مؤلمة .

أما (توينبي ) فقد تصور أن العالم عقد صفقة مقايضة غريبة، فقال(2): (لقد أغرت فنون الصناعة ضحايا، وجعلتهم يسلمون قياد أنفسهم، وذلك ببيعها المصابيح الجديدة لهم، مقابل المصابيح القديمة، لقد أغوتهم فباعوها أرواحهم، وأخذوا بدلاً عنها (السينما والراديو) ، وكانت نتيجة هذا الدمار الحضاري، الذي سببته تلك الصفقة، اقفرارًا روحيًا، وصفه أفلاطون بأنه (مجتمع خنازير). هذه الصفقة لم يسلم منها بلد، كما يبدو.

أما (أدوارد كربنتر ) فيعتبر (المدنية ) مرض جميع الأجناس(3). وقد كان الفيلسوف (برنارد شو ) يسخر من المدنية وتقدمها، بل يعلن أن البشرية ستعود إلى وثنية وبدائية يومًا ما، ولا يتوقع أن تحقق الإنسانية تقدمًا أكثر مما عرفت(4).

إن فكرة (التقدم ) لدى أصحاب (النكوص )، تبدو كوهم كاذب، وهم يستعملون مصطلحات (مبهمة ) مثل سيطرة العقل، وحرية الشعوب، والسيطرة على الطبيعة، والسلام الدائم، وهم يتصورون أن البشرية تسير نحو غاية معلومة، ولم يكن ذلك عن طريق البرهان العلمي، ولكن عن طريق الأماني، ومن هنا راحوا يخترعون المصطلحات، وكأنها شيء حقيقي موجود، ولها كيان في الخارج(1).

ولعل خير من يعبر عن هذا الاتجاه (ألبرت شفيتز )، فهو يقول(2): الخاصية المروعة لحضارتنا أن تقدمها المادي أكبر بكثير جدًا من تقدمها الروحي، وقد اختل توازنها، فجعلت اكتشافات قوى الطبيعة تحت تصرفنا، محدثة ثورة في العلاقات بين الأفراد والجماعات، وبين الدول.. زادت معارفنا، فازدادت قوتنا، وصارت أحوالنا المعيشية أفضل، ولكن ممارستنا للتقدم والقوة جعلتنا نتصور الحضارة تصورًا ناقصًا معيبًا، فنحن نغالي في تقدير الإنجازات المادية، ولا نقدر العنصر الروحي حق قدره.

إن الحضارة التي تنمو ماديًا، ولا يواكب ذلك نمو متكافئ روحيًا، تكون كسفينة اختلت قيادتها، فزادت سرعتها، وأوشكت على كارثة. إن جوهر الحضارة لا يتحدد بإنجازاتها المادية فقط، بل باحتفاظ الأفراد بالمثل العليا لكمال الإنسان، وتحسين أحواله كلها، فإذا عمل الأفراد كقوى روحية مؤثرة على ذواتها، عندئذٍ يمكن حل المشاكل، والوصول إلى تقدم جدير بالتقدير من كل ناحية.

إن مصير الحضارة يتوقف على كون (الفكر ) يسيطر على الأحداث أو لا يسيطر.. والقدرة في أسباب الحياة بين الأفراد والشعوب، وهي تساير موكب التقدم في الماديات، تقتضي مطالب أسمى عند الجماعة المتحضرة، في اتجاه حضارة رفيعة. إن زيادة سرعة السفينة تتطلب -فيما تتطلب- زيادة المتانة في جهاز القيادة والتوجيه.

إن الإنجازات المادية للحضارة تجعل الناس غير أحرار، ففلاح الأمس صار مجرد أجير في مصنع، والعمال اليدويون والتجار المستقلون صاروا مجرد مستخدمين، وهكذا يفقدون الحرية، التي كان يتمتع بها الإنسان، الذي يملك منزله، ويتصل مباشرة بالأرض.

إن التقدم الخارجي للحضارة، يوصل إلى هذه النتيجة: إن الأفراد رغم حصولهم على مزايا، يضارون من نواحي مادية وروحية في طاقاتهم، فالإنجازات المادية لا تصبح حضارة، إلا بمقدار ما تستطيع عقلية الشعوب المتمدنة أن توجهها وجهة (كمال الفرد والجماعة ).

لقد تزعزع تركيب العالم والحياة عندنا، فلم يعد الرجل العصري يشعر بدافع قوي للتفكير في المثل العليا للتقدم، بل قد كيّف نفسه، إلى حد بعيد، مع النزعة الواقعية.

إنه أكثر استسلامًا مما يعترف، لكنه يتشاءم، ولم يعد يؤمن بأن التقدم الروحي والأخلاقي هو العنصر الجوهري في الحضارة، وهذا سببه نظرتنا الكونية منذ القرن التاسع عشر(1).

وبودي أن أضيف ملاحظة ذكية للناقد البريطاني (كولن ولسون )(1)(فهو يرى أن حضارة اليوم فيها (صخب شديد)، فلا تدع مجالاً للدعة والتأمل، وهكذا يبدأ الإنسان بفقدان السكينة الداخلية، كما يفقد الهدف الجيد، الذي يجعله أكثر وأكبر من مجرد (خنزير) يحمل كفاءة ). .

وأحسب أن وجود الصخب وفقدان السكينة مما لا جدال فيه.

وأختم بقول الشرقاوي(2): (إن الباحث المنصف لا يملك القول بتحديد مسار معين للحضارات، تقدمًا صاعدًا، أو نكوصًا هابطًا، إذ أن كل حضارة يعرض لها هذا وذاك، فلا يدل ماضيها على مستقبلها، ولا تبشر سيطرتها العقلية على الطبيعة، ضرورة بتقدمها الشامل، في كل حال ).

ثالثاً: دورات التحضر:

هناك من يعتقد أن الحضارة لها دورة، بعضهم مثل ابن خلدون يتصورها مغلقة، وغيره يراها مفتوحة.. البعض يتصورها كطالع الجبل، بينما يرى آخرون أنها أشبه ما تكون بعجلة تدور حول محور ثابت، بينما يتصورها آخرون أشبه ما تكون بعملية نسج القماش والسجاد.. ولأن كل صورة لها من يؤمن بها، لذا سأستعرض بعض هذه الرموز، والطريقة التي يرون بها حركة التحضر. أبدأ بابن خلدون، وفيكو، واشبنجلر، وتوينبي، وأختم بمالك بن نبي.

1- عبد الرحمن بن خلدون:

سأقتصر هنا على رأيه في دورة الحضارة أو التحضر فقط، ثم أعود لدراسته فيما بعد.

يرى ابن خلدون أن دورة الحضارة تبتدئ بالبداوة، يعقب ذلك التحضر ثم الترف فالتدهور(1).. وهو يرى أن البداوة تتسم بالخشونة، وتظهر في أهلها الشجاعة والنجدة والبسالة، كما يظهر فيهم الترابط والعصبية، بعد ذلك يأتي دور التحضر والترقي، حتى يسقط الناس في الترف الذي يقود إلى التدهور والسقوط.

ثم نقل الفكرة إلى رئاسة الدولة، فجعلها في أربعة أجيال: باني الدولة، ثم ابنه المقلد لأبيه، ثم الثالث الذي يكون مقتفيًا ومقلداً لمن تقدمه، ثم الرابع المقصر عنهم والمضيع لصفاتهم، ثم تسقط الدولة.

كما حاول أن يرسم ذلك في القبائل والإمارات، وكافة أهل العصبيات(2). ويعتقد ابن خلدون بأن الحضارة هي غاية العمران، وهي من جهة ثانية نهايته، وكل حضارة تصل إلى هذ الحلقة، فإنها لا تلبث أن تبدأ دورة جديدة، لتنتهي بالبداوة، وهكذا.

2- فيكو(1):

عالم اجتماع وتاريخ عاش في إيطاليا في أواخر القرن السابع عشر.. يعتقد (فيكو ) أن المجتمعات البشرية تمر عادة بمراحل معينة من (النمو والتطور والفناء )، فالناس ينتقلون عادة من البربرية إلى المدنية بفضل (العناية الإلهية )، التي تشمل الوجود برعايتها.. والحضارة تقوم على نوع من التناسق بين مكوناتها، فإذا ساد اتجاه فني معين مثلاً، أو مذهب ديني في مجتمع، فإنه تسود معه أنماط معينة من النظم السياسية والاقتصادية والتشريعية وغيرها.

كما يرى أن دورات التحضر يفضي بعضها إلى بعض، ثم تعود، وإن كان التاريخ لا يعيد نفسه، لأنه ليس للتاريخ (عجلة ) تدور حول نفسها، لذا لا يتمكن مفسر التاريخ من التنبؤ بالمستقبل. بل الحركة تكون بشكل (لولبي )، صاعدة متجددة، تشبه حركة (صاعد الجبل )، الذي يدور حوله، ثم يرتفع، حتى يصل إلى قمة الجبل، فكل دورة له تعلو سابقتها، كما تزداد اتساعًا وشمولاً.

وهكذا تمر المجتمعات بمراحل من التطور والنمو، لتنتهي بالبربرية، ثم لتبدأ من جديد دورة جديدة، أعلى من سابقتها، لتنتهي بالانحلال، وهكذا تتشابك حلقات الحركة، في صعود دائم.

وواضح أن (فيكو ) يؤمن بالتقدم والصعود، لكنه لا يتصوره مستقيمًا -كما يراه غيره- وفيكو يرى أن حركة التاريخ مرت بثلاث مراحل متميزة:

أ- مرحلة اللاهوت.

ب- مرحلة البطولة.

جـ- مرحلة الإنسانية.

والمرحلة التالية تكون أعلى من سابقتها، وهو يفيض في شرح هذه المراحل.. وواضح أن هذه المراحل ليست متعاقبة، بل قد تكون متداخلة، وقائمة في المجتمع الواحد.

ويشير أكثر من ناقد إلى تأثر (فيكو ) بالتوراة إلى حد كبير.

3- أزولد اشبنجلر:

صاحب كتاب (تدهور الحضارة )، وهو من المؤمنين بدورة الحضارة، مرة يشبهها بالإنسان في نموه حتى وفاته، ومرة يشبهها بالفصول الأربعة، ويذهب إلى حتمية (السقوط )، ومن هنا جاء الهجوم عليه، خصوصًا وهو يتنبأ بسقوط الحضارة الغربية.

يقول مترجم كتابه الأستاذ أحمد الشيباني(1): يرى اشبنجلر أن الحضارة تولد في اللحظة التي تستيقظ فيها روح كبيرة، وتنفصل هذه الروح الأولية للطفولة الإنسانية الأبدية، كما تنفصل الصورة عما ليس بصورة...

ويرى أيضًا أن الحضارة تولد وتنمو في تربة بيئة يمكن تحديدها تحديدًا دقيقًا، وأن الحضارة، ككل كائن، لها (طفولتها وشبابها ونضوجها وشيخوختها )، وأنها تموت عندما تحقق روحها جميع إمكاناتها الباطنية، على هيئة شعوب ولغات ومذاهب دينية، وفنون وعلوم ودول، وهي عندما تحقق ذلك، وتستنزف إمكانات روحها في تجسيد هذه الإمكانات، فإنها تتخشب، وتتحول إلى (مدنية )، وأخيرًا تتجاوز المدنية إلى الانحلال والفناء .

إنه يشبه الحضارة بالإنسان، تنتقل من طور لآخر حتى تشيخ، ثم يعود ليشبهها بفصول العام، فيقول(1): (للحضارة ربيعها المتسم بالفاعلية الروحية، وصيفها الذي تنضج فيها، وخريفها الذي يسوده التحليل العقلي، وشتاؤها الذي تكون فيه قد استنفذت جميع إمكاناتها الداخلية، فتنصرف إلى الاهتمامات المادية، وإلى الفتوح الخارجية، ويكون هذا مقدمة لانحلالها وانهيارها ).

وقد هوجم (اشبنجلر ) على تصوراته هذه، وخصوصًا تشبيه الحضارة بالإنسان، لأن الحضارة قد تفلح في علاج ما يعترضها من مشاكل، فتطيل في عمرها، ولن يستطيع الإنسان ذلك.

وهو يقسم الحضارة إلى ثلاث حقب:

1- الدور السابق للحضارة.

2- دور الحضارة الفعالة، ويقسمه إلى: عهد متقدم، وآخر متأخر.

3- دور الحضارة المستنفذة، المؤدي إلى الانحلال.

وهذا التقسيم النظري سهل ميسور، لكن يصعب عند التطبيق.. فمتى تنتهي المرحلة الأولى مثلاً، ومتى تبدأ الثانية أو الثالثة؟

إن التداخل بين المراحل يمنع من ذلك.. وهذا النقد وُجِّه (لتوينبي ) أيضًا، حين راح يقسم المراحل كذلك.. أشياء كثيرة تبدو جميلة ورائعة نظريًا، وعند التطبيق تبدو ليس كذلك.

مما هوجم فيه أو عليه (اشبنجلر ) قوله: إن حضارة الغرب الحالية قد وصلت إلى دور الانحلال، وهي صائرة إليه (حتمًا )، وعلى أصحابها أن يجابهوا هذا المصير، بوعي وشجاعة(1).

ويرى (اشبنجلر ) أن كل حضارة ستمر بنفس الأدوار التي مرت بها غيرها، كما تظهر إبداعاتها في ذات الأوقات أيضًا.

إنه جزم يصعب قبوله، فبعض الحضارات استنفذت قرونًا حتى نضجت وأبدعت، بينما لم يحتج غيرها لكل ذلك.

كما أن القول بتجدد الدورات الحضارية، لا يستلزم ذات الوقت للإبداع والنضج، بل لا دليل على ذلك، ومن الغرائب أن (اشبنجلر ) لا يرى جدوى من دراسة مصادر الحضارات، والعوامل المؤثرة فيها، وفي تطورها، وحجته في ذلك أنه لا يمكن تفسير حضارة خارج نطاقها، والمتشابه من الحضارات لا يتجاوز (الصور والأوضاع والمظهر الخارجي فقط )(1).

لأن لكل حضارة شخصيتها المستقلة، كما لها لغتها الخاصة.

والسؤال: هل يمنع ذلك من دراسة العوامل المؤثرة، وتطور الحضارة؟

ومن آرائه أن الحضارات لا تنتهي، تقدم منها الكثير، وبقي مثل ذلك، وما الحضارة الغربية إلا واحدة، ولكن أهلها قد استغرقهم حب الذات فتوهموا أنها مركز لكل الحضارات(2).. ولو قالوا وارثة حضارات لما اعترض أحد.

ولعل من المفيد أن أنقل تصور (اشبنجلر ) للحضارة وتعريفه لها إذ يقول(3): (إنها انبعاث روحي لجماعة من الناس، يربطهم مفهوم متقارب للوجود، فينعكس ذلك على ألوان النشاط المختلف لديهم: في الفن والدين والفلسفة والسياسة والاقتصاد والحرب ).

4- أرنولد توينبي:

توينبي يعتقد بدورة الحضارة، لكنه يشبهها بدوران العجلة حول محور ثابت، فتتكرر العملية، وبفضل ذلك تسير العجلة -كما هو الحال في السيارة- وهو يرى أن للحضارة حركة شاملة، ناتجة عن حركة دورية جزئية. ويضرب أمثلة لهذا التناسق بين حركتين: حركة تقدمية كبرى، محمولة على أجنحة حركة صغرى متكررة، وهكذا تتكرر فصول السنة.

لكنه يختار مثالاً آخر، إذ يشبه حركة الحضارة بحركة (مكوك ) الناسج، فهو مستمر في الحركة ذهاباً وعودة، وعلى وتيرة واحدة، وبفضل ذلك يتم النسيج المطلوب، وهكذا تنسج الأيام نسيج التاريخ، من خلال تكرر الأحداث، تكرارًا مستمرًا.

وبذا يجمع توينبي بين حركتين: واحدة متجهة إلى غاية -أمامية أو خلفية- وحركة أخرى تدور حول نفسها، وتعود إلى ما كانت عليه (المكوك )(1).. إن توينبي مات في السبعينيات، ولذا فقد تحامى كل نقد موجه لأسلافه، مثل اشبنجلر، كما ابتلي بمعاداة الصهيونية، وربما أثر كل ذلك على صياغة أفكاره.

5- مالك بن نبي:

يعتقد مالك بن نبي أن حركة الحضارة أو التحضر، تكون بشكل دائري -مثل ابن خلدون واشبنجلر- تبتدئ روحية ثم عقلية، ثم تهيج الغرائز فتسقط الحضارة.

يقول مالك يرحمه الله(1): ...والمراحل الثلاث في هذه الدورة، تعبر عن الأدوار الثلاثة، التي يمر بها المجتمع: الحالة الكاملة، حيث تكون جميع الخصائص والملكات تحت سيطرة (الروح)، ومتصلة بالاعتبارات ذات الطابع الميتافيزيقي .

والمرحلة التالية هي التي تكون فيها جميع الخصائص والملكات تحت سيطرة (العقل ) بخاصة، ومتجهة نحو المشكلات المادية .

أما المرحلة الثالثة، فتصور نهاية تحللها تحت سلطان (الغرائز ) المتحررة من وصاية الروح والعقل، وفيها يصبح النشاط المشترك مستحيلاً، ضاربًا بأطنابه في أغوار الفوضى والاضطراب، وهو مانجده في حالة المجتمع الإسلامي بالأندلس، في العصر المشؤوم، المسمى بعصر ملوك الطوائف .

هذا الطرح يشاركه فيه بعض مفكري الغرب أيضًا، لكنه يبدو منتزعًا من الحضارة الإسلامية في الأندلس والمشرق، كما أن التداخل في المراحل قائم.

رابعًا: عدم التزام حركة التحضر خطًا معينًا:

هؤلاء لا يرون في حركة التحضر سنة ظاهرة، ولا شكلاً محددًا، بل أحداثًا تتتابع وتتشابه مرة، وتختلف أخرى، لكنها تبقى فريدة طارئة، لا يجمعها قانون، ولا تتكرر، فالتاريخ لا يعيد نفسه، ولكل واقعة أو حدث خصوصيته. ولذا فإن محاولة استنباط قانون يحكم الحركة، من الصعوبة بمكان. والتحضر وحركة التاريخ من صناعة الإنسان، وهو صاحب فكر وإرادة، ومن الصعب أن تحكمه حتمية جامدة(1).

وقد وجدت الدكتور قسطنطين زريق يعترف بصعوبة الجزم في المسألة، لقلة العلم(2):(ليس بين أيدينا العلم المطلوب في هذا الميدان، الذي يأخذ على عاتقه تنسيق المعلومات المتصلة بالحضارة، والمستمدة من التاريخ والعلوم الاجتماعية والفلسفية، وربطها واستخراج مبادئها وقواعدها، بحيث يتيح لنا أن نتخذ في هذا الموضوع، الواسع المتشابك، مواقف يقينية ثابتة ). تصور جيد للمسألة وأبعادها، يخلو من الادعاء، ويتسم بالتواضع والموضوعية.

خامسًا: الانقطاع التاريخي:

يتحدث البعض عن الانقطاع التاريخي، ويعني ما يصيب حركة التحضر من انقطاع، وإلا فإن التاريخ لا ينقطع، حتى تقوم الساعة.. إن نهر الحياة جار، وسيبقى حتى ينتهي هذا الكون.

وقد وجدت د. رفيق حبيب في كتابه القيم (تفكيك الديموقراطية ) يضع عنوانًا عامًا: (الحداثة.. موت أمة )، ثم يضع عنوانًا أصغر: (التاريخ لا ينقطع )، يقول فيه(1):

(إن مقولة الانقطاع التاريخي، ليست مقولة مادية، لأن التاريخ لا ينقطع، فهو فعل مستمر دائم، يتحرك إلى الأمام ولكننا نصفه بصفات رمزية، فنقول: إنه انقطع، أو إنه يعود إلى الوراء، أو إنه ساكن لا يتحرك ولا يتقدم، وكلها أوصاف لحالة الأمة، وموقفها الحضاري، وليست وصفًا للتاريخ، باعتباره (التسجيل الزمني لحياة الأمم) .

فالانقطاع إذن ليس تاريخيًا في جوهره بل هو حضاري، فحركة الحضارة هي التي أصابها الانقطاع، ويعني ذلك أن المنظومة الحاكمة للحضارة، وجملة المبادئ والقيم الأساسية فيها، قد أصابها الانقطاع فلم تعد سائدة ومؤثرة ومسيطرة، بل تراجعت، وظهر بدلاً منها منظومة أخرى قدر لها أن تحوز قدرًا هامًا من السيادة والسيطرة على مصير الأمة.

ولكن هذا التصور يحتاج لأبعاد أخرى تجعله واقعيًا وتاريخيًا، فليس صحيحًا أن الشعوب تعيش في ظل قيم يمكن أن نضعها أو نخرجها أو نغيرها، فالوقائع العلمية تؤكد أن تركيب الأمم أكثر تعقيدًا من أي فعل مقصود.

ولذلك فإن ما يحدث في أي أمة يتبع قوانين وسننًا، تحدد الممكن والمستحيل، فإذا كانت قيمنا الحضرية قد انقطعت وحلت محلها قيم أخرى، فكيف حدث هذا، وما معناه الحقيقي، في التركيبة الاجتماعية؟!

إن لكل أمة ملامحها الخاصة، التي تشكلت عبر قرون طويلة، وهي بوصفها المميز للأمة، تمثل إفراز الأمة المحقق لتقدمها، وكذلك المحدث لحالة الرضا الداخلي، والقناعة الجمعية. وعبر تاريخ أي أمة يمكن أن نلحظ ما يميزها، وكوامنها الداخلية، وميولها الفطرية، واختياراتها الجمعية، وتفضيلاتها الطبيعية، وكلها تمثل في النهاية الأمة نفسها.

أي أن ملامحها وخصائصها هي ما شاع وساد تلقائيًا، محققًا الاختيار الحر الملائم، الذي تميل له الأمة، فيحقق سعادتها.

ملامح الأمة -بهذا المعنى- هي تلك القسمات البارزة والواضحة والشائعة، فليس صحيحًا أن الأمة -أي أمة- هي سديم متجانس، إلى حد التطابق، ليس فقط بين أفرادها، بل أيضًا بين جماعاتها. وملامح أي أمة، هناك السائد، وهو ما شاع واكتسب عمقًا واستمرارًا، وهناك غير الشائع والنادر، وغير المتكرر، والذي يتميز بأنه غير أصيل، وهناك ملامح هامشية ليس لها نفس الوجود، سواء في قوتها أو انتشارها، وهذه لا تعبر عن الميل الفطري التلقائي للأمة، بل هي بمثابة الاستثناء الذي يثبت القاعدة، وهي كل ما ظهر دون أن يحوز إقبالاً أو إجماعًا من الأمة، وهذه هي السمات التي لم تحقق نجاحًا في الأمة، ولم تحقق الأمة بها أي ازدهار أو تقدم... )

بعد ذلك يتحدث د. حبيب عن السمات السائدة والمتنحية.. فالسائدة هي الشائعة حتمًا، أما المتنحية فهي غير الشائعة، فما شاع في الأمة يصبح سائدًا، ويتنحى ما لم يشع.

(والأمة في ازدهارها تشحذ قيمها ومبادئها وعوامل نهضتها وتقدمها وازدهارها حضاريًا، أي أنها حققت ما تريده وتفضله وتميل إليه، لذلك فالازدهار يرتبط بالقيم السائدة والأفكار الغالبة، والمقدسات محل اعتراف الجميع، بذلك يرتبط الازدهار -في فهمنا- بالملامح السائدة للأمة، محققًا بذلك التواصل مع الماضي بثوابته وملامحه، ومحققًا أيضًا للتطور التاريخي، المعبر عن كيان الأمة وصعودها، وبهذا المعنى يرتبط التقدم بحالة تحقق قيم الأمة في الواقع المعاش، فتصبح هذه القيم هي نظام الحياة بجوانبه السياسية والأهلية والقانونية والأخلاقية... )(1).

لكن الأمة قد تمر بحالة تدهور، فهنا تفقد القيم قدرتها الوظيفية، وتصاب بعطب وظيفي، فيختل تماسك الأمة، وتضعف قدرتها على الصمود أو تنهار، تضعف عن مواجهة التحديات داخليًا وخارجيًا، وعندها يرتبط وجود الأمة باستمرار السيطرة السياسية والعسكرية.

وبتدهور حالة الأمة تصير غير راضية عن نفسها ولا عن ثقافتها أو لغتها أو آدابها، وهنا يحصل صدام بين الأمة وقيمها، وكأن الأمة أصبحت عدوًا لنفسها، أما القيم الأصلية فتضعف، وأما القيم المتنحية فيصبح ظهورها أقوى، وهنا تزداد الأمة ضعفًا، ويباشر بتوظيف القيم الأصلية توظيفًا سلبيًا، وربما يجري ارتكاب الأخطاء والمفاسد في حق الأمة، باسم الأمة، وقد يفرض عليها حكمًا ظالمًا يفسد حياتها ويسممها.

والانقطاع التاريخي يكون هنا بمعنى دورة طبيعية، حيث يفسد النظام الإيجابي للأمة، ويتم تنحيته لمصلحة نظام هامشي تفرض سلطته اغتصابًا، وهنا يكون الانقطاع عبارة عن انقطاع سيادة قيم الأمة عن الأمة ومصيرها، وتقوم عليه أقلية تنتمي لهذا النمط الهامشي، وتفرض سيطرتها على الأغلبية، وعلى نمط الحياة وقيمها، وشيئًا فشيئًا تفقد الشرعية، وتسوء الحالة يومًا بعد يوم.

حاولت جهد الإمكان التلخيص مع المحافظة على المعلومة، وأنصح بقراءة ودراسة (تفكيك الديموقراطية ).

==============

# مع أشهر المفسرين لحركة التحضر

كافة الأفكار والمدارس والمذاهب قامت في أفراد، نادوا بها، وعنهم أخذت ونقلت.

والمهتمون بتفسير حركة التحضر كثير، بعضهم ذهب، والبعض ما زال حيًا، وهؤلاء من الأفضل الانتظار حتى تستقر اجتهاداتهم، لأن الإنسان يمكن أن يغير قناعاته، كما يمكن أن يستفيد من النقد الذي يوجه له، أو لأمثاله.

1- عبد الرحمن بن خلدون:

ولد ابن خلدون(1) (732هـ/1332م) في مدينة تونس، وتوفي عام (1406م) من أسرة عربية من حضرموت، تعلم العلوم العربية والإسلامية، وقد تتلمذ على ابن رشد الفيلسوف. وقد قام بكثير من الأسفار، ما بين الأندلس والمغرب ومصر والحجاز والشام وسمرقند.

اشتغل في بداية حياته بالتدريس والخطابة والقضاء، كما اشتغل بالسياسة حتى وصل إلى وظيفة (حاجب )، كما مارس البحث والتأليف، وخاض في بحور السياسة، فتقاذفته أمواجها بين نفي وأسر، وأوشك أن يدفع حياته ثمنًا لذلك. كما قام بمفاوضة التتار، وقد أعجبوا بكفاءته كثيرًا، وبعد أكثر من عقدين من العمل السياسي، صعد خلالها إلى القمة وهبط إلى السجن، بعدها اعتزل السياسة ليتفرغ لكتابة التاريخ، ثم ليحاول الانتقال إلى مفسر له، راصد لحركة التحضر، واضعًا نظرية في علم العمران.

يقول عنه توينبي(1): (إنه في مقدمته التي وضعها لكتابه في التاريخ، بلا ريب أعظم عمل من نوعه ابتكره أي عقل، في أي عصر، في أي بلد ).

وقد وصفه (جمبلوفتش ) وصفًا رائعًا، فقال(2): (لقد أردنا أن ندلل على أنه قبل أوجست كونت، بل قبل فيكو ،جاء مسلم تقي، فدرس الظواهر الاجتماعية بعقل متزن، وأتى في هذا الموضوع بآراء عميقة، وأن ما كتبه هو ما نسميه اليوم: علم الاجتماع ).

ويعتبره د. قسطنطين زريق(3) أبرز باحث في الحضارة، في اللغة العربية، بل أول من عالج شؤون الحضارة بصورة منظمة، في أي لغة من اللغات، لذا فقد استحق أن يعتبر المؤسس لعلم الحضارات، أو كما دعاه (علم العمران البشري والاجتماع الإنساني ).

ويصفه د. معن زيادة بأنه جمع بين رجل التاريخ والفكر(4): (كان ابن خلدون، قبل أن يكون مؤرخًا، مفكرًا من مفكري عصره، بل مفكرًا من القلائل، الذين يشعرون بالمسؤولية التاريخية، أمام أحداث عصرهم، وكان إلى جانب ذلك رجلاً من رجال السياسة، من أولئك الذين برزوا إلى الميدان، وجربوا مسؤوليات الحكم وخيبته، في أشد الأوضاع تعقدًا، وفي فترة حاسمة من فترات الحضارة العربية الإسلامية.

لقد أثبت ابن خلدون مقدرة ملحوظة في ميدان العلوم الفلسفية والعقلية عمومًا، كما أثبت كفاءة نادرة ومهارة ما بعدها مهارة في السياسة، وقد وصل إلى أهم المناصب، وبلغ أعلى السلم صعودًا، قبل أن ينسحب انسحابًا منظمًا ليتفرغ لكتابة المقدمة والتاريخ.. لقد وصل إلى التاريخ عن طريقين: طريق التأمل العقلي، وطريق التجربة السياسية الفنية، ولعل الطريق الثانية هي التي قادته إلى الأولى ).

في رحلته الطويلة، وبعد خوض السياسة، توجه إلى الخلوة في (قلعة سلامة ) ليتفرغ إلى كتابة التاريخ وعلم العمران، وقد بقي معتكفًا في القلعة حتى عام (776هـ/1374م) . وقد استخدم تجربته السياسية، مازجًا ذلك بمعارفه الواسعة، ومن الاثنين رسم علم العمران.

وإذا كان كل إنسان تشغله تجاربه الخاصة، فثراء حياة ابن خلدون العلمي واشتغاله بالسياسة جعله يشعر بوجود (فراغ سياسي) ، وأن أمته تدور في حلقة مفرغة من الحروب والفتن، كما شاهد تشرذم الإمارات في الأندلس، وسقوطها الواحدة تلو الأخرى بأيدي الإسبان. ثم تحول إلى الشمال الإفريقي، ليجد فتنة جديدة، حيث وصل بدو بني سليم وبني هلال، فعاثوا في المنطقة فسادًا، وأسقطوا إمارات منها إمارة (بجاية) ، والذي كان ابن خلدون يشغل وظيفة (حاجب) فيها، وهو أعلى منصب بعد الأمير، وقد انتدب لمفاوضة هؤلاء البدو، وأوشك أن يقتل على أيديهم، ومن هنا جاءت نقمته على البدو والأعراب بشكل عام.

فإذا أضفنا لذلك رحلاته وما رأى في العالم الإسلامي، ومفاوضاته للتتار، والذي يبدو لي أن ما رآه حمله أن يبحث له عن تفسير في التاريخ، الذي قاده إلى كتابة (المقدمة) ، التي هي أثمن من التاريخ بكثير.

إن مفكرًا كابن خلدون تتاح له فرصة التجول في العالم الإسلامي، ليرى على الواقع ما وصلت إليه أمور الأمة، لا شك سيدفعه للتفكير الجاد: لماذا يحدث كل هذا، وأين الحل؟

إن خلوة ابن خلدون مدة زادت على أربع سنوات في قلعة (سلامة) ، مكنته من كتابة تاريخ، جعل عنوانه: (العبر وديوان المبتدأ والخبر في أيام العرب والعجم والبربر، ومن عاصرهم من ذوي السلطان الأكبر ).

والكتاب لا جديد فيه، لكن الجديد في تلك المقدمة الطويلة، وربما وجد لأول مرة، مقدمة أهم من الكتاب بكثير. فقد بسط كل ما لديه من علم ومعرفة في هذه المقدمة، فجاءت شيئًا ثمينًا، بل متقدمة جدًا على العصر الذي كتبت فيه، وهي تحوي على ستة فصول(1).

ما حوته المقدمة:

1- في العمران البشري: وهي تقابل (علم الاجتماع العام )، وقد درس ابن خلدون ظواهر المجتمع البشري، والقواعد التي تسير عليها المجتمعات.

2- في العمران البدوي، وقد درس الاجتماع البدوي، كاشفًا أهم خصائصه المميزة، وأنه أصل الاجتماع الحضري وسابق عليه.

3- في الدولة والخلافة والملك: وهو يقابل (علم الاجتماع السياسي )، وقد درس قواعد الحكم والنظم الدينية وغيرها.

4- في العمران الحضري: وهو ما يقابل (علم الاجتماع الحضري )، وقد شرح كافة الظواهر المتصلة بالحضر، وأصول المدنية، وأن التحضر هو غاية التمدن.

5- في الصنائع والمعاش والكسب: وهو ما يقابل (علم الاجتماع الاقتصادي )، وقد درس تأثير الظروف الاقتصادية على أحوال المجتمع.

6- في العلوم واكتسابها: وهو ما يقابل (علم الاجتماع التربوي )، وقد درس الظواهر التربوية، وطرق التعلم وتصنيف العلوم.

كما درس الاجتماع الديني والقانوني، رابطًا بين السياسة والأخلاق. لقد استودع ابن خلدون (مقدمته ) كل خبراته المعرفية والسياسية، ولأن البيئة لم تكن مهيئة، لم يستفد أحد من كل ذلك.

الإنسان والتمدن:

يعتقد ابن خلدون بأن الإنسان مدني بطبعه، ولذا فهو ميال للاجتماع ببني جنسه، يدفعه في ذلك أكثر من دافع(1):

1- الضرورة: ولها جانب اقتصادي ودفاعي، فالإنسان لا يحصل على حاجاته إلا بمعونة من الآخرين، والصراع بين البشر والحيوان يدفع بالإنسان إلى الاحتماء بالآخرين، والتعاون معهم لهذا الغرض.

2- الشعور الفطري: فالإنسان يميل فطريًا للاجتماع بأخيه الإنسان، يأنس به ويسر للقائه.

3- ميل الإنسان لتحقيق فكرة الجمعية وذاك بإرادته.

الإنسان والحكومة:

يرى ابن خلدون أن الإنسان حين وجد العدوان من أخيه عليه، حمله ذلك على اصطناع الحكومة، من أجل كبح العدوان البشري.. ومن إدراكاته الجيدة رسم العلاقة بين الدولة والمجتمع، فهو يرى أن بينهما نوعًا من (التلازم ) فالدولة تتسم بالقهر والغلبة، وبلون من ألوان الإكراه، والذي هدفه المصلحة العامة.

ويكرر ضرورة الربط بين السياسة والأخلاق، معتبرًا الأخيرة الموجه والهادي إلى السياسة، وأن الأخلاق تكسب الدولة قوة واحترامًا. كما أن الدعوة (الدينية ) تزيد في قوة الدولة.. ويعتبر الحروب ظاهرة اجتماعية قديمة، سببها انتقام بعض الناس من بعض.. ولو عاش ابن خلدون اليوم، لوجد للحروب أسبابًا جديدة، كل الجدة، وربما كانت لتجريب سلاح، أو بيعه، أو للضغط على حاكم أو نظام مكروه مشاكس.

أما أسباب (الانتقام ) في نظره، فهي كثيرة،كالمنافسة أو العدوان، أو غضب لله ودينه، أو غضب الحاكم لنفسه.. عن الكسب والاكتساب يرى أنه يكون بالسعي والقصد والتحصيل. وفي العلم والتعلم يرى تميز الإنسان عن كافة المخلوقات (بالفكر ) الذي نشأت عنه سائر العلوم والصناعات، وهو من هموم البشر.

التاريخ وشروط المؤرخ:

تقدم أن ابن خلدون اعتكف في قلعة (سلامة ) فكتب مؤلفه في التاريخ ومقدمته المشهورة، لذا من الطبيعي أن يتحدث عن الشروط الواجب توفرها في كتابة التاريخ، وهي تصور منهج الرجل وفهمه.

يقول في التاريخ(1): (هو في ظاهره لا يزيد على إخبار عن الأيام والدول، والسوابق من القرون الأول، تنمو فيه الأقوال، وتضرب فيه الأمثال، وتطرف به الأندية، إذا غصها الاحتفال، وتؤدي لنا شأن الخليقة، كيف تقلبت بها الأحوال، واتسع للدول فيها النطاق والمجال، وعمروا الأرض حتى نادى بهم الارتحال... إن في باطن التاريخ نظرًا وتحقيقًا، وتعليلاً للكائنات ومباديها دقيقًا، وعلمًا بكيفيات الوقائع وأسبابها عميقًا...

إن أحوال العالم والأمم وعوائدهم ونحلهم لا تدوم على وتيرة واحدة، ومنهاج مستقر، إنما هو اختلاف على الأيام والأزمنة، والانتقال من حال إلى حال، وكما يكون في الأشخاص والأوقات والأمصار، فكذلك يقع في الآفاق والأقطار، سنة الله التي قد خلت في عباده ).

ولولا هذا السجع والذي لم نألفه في كتابات ابن خلدون، لكان الفكر التاريخي غاية في الروعة، ففي التاريخ عبر، نعم، ولم يفرد الله تعالى ثلث كتابه للحديث عن الأمم الماضية، وبيننا وبينها ألوف السنين، إلا للعبرة في ذلك، وإلا لم يحفل القرآن بكل ذلك.

ولعل من الإدراكات الجيدة القول: بأن أحوال العالم في تغير، وهي لا تسير على منهاج واحد، بل الانتقال المتواصل من حال إلى حال، يستوي في ذلك المؤمن والكافر.

إن عناية ابن خلدون بالتاريخ، ورغبته في الحصول على تفسير جيد لدوراته، لم يجعله يقبل كل خبر مسطر، ولو كان المؤرخ ثقة، لأنه في العادة ينقل عمن تقدمه، وذلك المتقدم قد يكون غافلاً أو كاذبًا أو متحزبًا أو صاحب مصلحة، وكل ذلك يجعل المؤرخ على حذر فيما ينقل.

لقد وجد كتب التاريخ مشحونة بالمبالغات والأغلاط، لذا فقد تطلع إلى وضع منهج جديد يمنع من السقوط، وقد وضع سبع قواعد جيدة، بل رائعة، لعمل المؤرخ(1):

1- تجنب التشيع للآراء والمذاهب، ومعلوم أن التشيع لطرف هو عدو الموضوعية، ولا يتصور اجتماعهما في شخص واحد.

فالتشيع يدعو للقبول أو الرفض دون محاكمة، فإذا كان الإنسان محايدًا أو على حال (الاعتدال في قبول الخبر ) فإنه يعطيه حقه من التمحيص والنظر، كي يتبين صدقه من كذبه، فإن خامر النفس تشيع لرأي أو نحلة، فالإنسان يقبل ما يوافق هواه من الأخبار، حتى يكون ذلك التشيع غطاء على عين بصيرة النفس، فتقع في قبول الكذب ونقله.

2- تمحيص الروايات، وعدم الثقة بالناقلين، وذلك عن طريق البحث والنقد، (فلا يرجع -أي المؤرخ- إلى تعديل الرواة، حتى يعلم أن ذلك الخبر في نفسه ممكن أو ممتنع، وأما إذا كان مستحيلاً، فلا فائدة للنظر في التعديل والجرح ).. وهذا منهج جيد، يبدأ المؤرخ بالخبر وليس براويه.

3- معرفة جيدة بالمقاصد: فالذهول عنها يجعل المؤرخ ينقل الخبر على حسب ظنه وتخمينه، فيقع في الكذب دون أن يعلم ذلك.

4- إن منح الثقة لمؤرخ سابق، يجعل اللاحق يتوهم صدقه فيما نقل، وليس من تلازم بين ثقة المؤرخ وسحب هذه الثقة على كافة نقوله، فثقة المؤرخ بالناقل قد تجعله يتوهم صدق ما نقل، فيقع في الخطأ.

5- ينبغي العمل على كشف الخداع والتلبيس والكذب في الأخبار، فالمؤرخ قد يكون على حال من (الجهل بتطبيق الأحوال على الوقائع، لأجل ما يداخلها من التلبيس والتصنيع، فينقل الخبر على غير الحق ).

6- ينبغي للمؤرخ أن يبتعد عن محاولة الكسب، من خلال تقربه لأصحاب السلطة، فالنفوس مولعة بحب الثناء، والناس متطلعون إلى الدنيا وأسبابها من جاه أو ثروة.

والمشكلة كبيرة، فإذا كتب التاريخ في عهد أصحابه، برزت الحسنات، وضاعت وذابت السيئات، فإذا كتب فيما بعد، وعلى زمن وفترة معادية، برزت السيئات واختفت الحسنات، وما شاهدناه من إعادة كتابة التاريخ بعد سقوط نظام خير دليل على ذلك.

7- ينبغي أن يكون المؤرخ عارفًا بطبيعة الحوادث والأخبار، فإن (الجهل بطبائع الأحوال في العمران، إذ لكل حادث من الحوادث ذاتًا أو فعلاً طبيعة تخصه في ذاته، وفيما يعرض له من أحواله، فإذا كان السامع عارفًا بطبائع الحوادث والأحوال في الوجود ومقتضياتها، أعانه ذلك في تمحيص الخبر، على التمييز بين الصدق والكذب، وهذا أبلغ في التمحيص من كل وجه ).

أذكر وأنا أقرأ (التوراة ) أنها تذكر معارك بين اليهود وأهل المنطقة، فتذكر أرقامًا كبيرة جدًا، لا يتصور وجودها قبل ألوف السنين، فتذكر أن طرفًا شارك بـ (600) ألف مقاتل، والطرف الثاني بـ (400) ألف مقاتل، وهذا مستحيل عقلاً، ولذا راحوا يحذفون صفرًا فيصبح العدد (60، 40) ألفًا، ليتحول العدد أخيرًا إلى (6، 4) آلاف فقط.

لقد تنبه ابن خلدون إلى وجود تاريخ للحضارة يتمثل في تقدمها العلمي والعمراني أو تخلفهما، إلى جانب تاريخ سياسي للأمة والحضارة، قد يسيران جنبًالجنب، وقد يفترقان، فيتقدم واحد دون الآخر، كما لم يبالغ في استخلاص النتائج من دراساته التاريخية، كما يفعل بعض القائلين بـ (الحتميات) ، كما لم يسقط في الفروض والتخمينات، ولكن تأثر إلى حد كبير بما رآه وعاشه، في الأندلس والشمال الإفريقي وسائر البلاد التي زارها.

منهج ابن خلدون في البحث:

يرى د. حسين رشوان أن ابن خلدون يتبع في بحثه (المنهج العضوي) (1) فالدولة في نظره كائن عضوي حي، يولد ويموت، لها بداية ونهاية، تخضع لعوامل النمو والفناء، وقد قدر عمرها بثلاثة أجيال، في حدود (120) سنة. ومعلوم أن هناك دولاً عاشت أضعاف ذلك، مثل العباسية والعثمانية، وغيرهما كثير. ونتيجة لسياحته في العالم الإسلامي، فقد وجد اختلافًا بين المجتمعات، لذا راح يقرر أن أحوال المجتمع لا تسير على وتيرة واحدة، بل تتغير وتتبدل.

عوامل التغيير:

يعزو ابن خلدون عوامل التغيير إلى أكثر من عامل واحد، مثل عدالة الحكم، واتساع رقعة الدولة وسلطانها، والعوامل الاقتصادية.

نظرية ابن خلدون في العمران:

يلخص د. الشكعة نظرية ابن خلدون في العمران كما يلي(1):

1- التاريخ خبر عن الاجتماع الإنساني، أي العمران البشري، لذا يجب تنقيته من الزيف، وتصويب أخطائه، وهذا هو المنطلق الأول لتصور العمران البشري.

2- الملك المنظم ضرورة للعمران، من أجل الحفاظ على المجتمع، وتنظيم شؤونه، وحماية الثغور، وجباية الأموال، ودفع الظلم، وتحقيق العدل، وعمران الأرض، وإسعاد الناس في دنياهم، وتهيئة الأسباب للسعادة في أخراهم، وذلك بحملهم على اتباع الشريعة، وضبط أمورهم.

3- يقوم بنظام الحكم (خليفة ) أو إمام، يحكم وفق الشريعة الإلهية.

4- العلم والتعلم عنصران أساسيان للعمران، فكلما ازدهر العمران صارت سوق العلم نافقة، وتقدم المجتمع، والعكس بالعكس.

5- لا يتم العمران إلا بوجود صنائع، مثل الفلاحة والصناعة والتجارة، فعليها يتوقف رفاه المجتمع وانتعاشه.

6- للدول أعمار مثل الأشخاص، تبدأ قوية بقيادة منشئها، فإذا انتهى الجيل الثالث تشرف على الزوال، أما الازدهار فيقع على الجيل الثاني.

7- العصبية تؤدي للغلبة والقوة، وتتطلع للرئاسة، والرئاسة تتطلع للملك، ولذا فالملك لا يقوم إلا بالعصبية، ويظل قويًا بقوتها، ويضعف بضعفها.

8- البداوة أصل الحضارة، والعمران البدوي أصل الحضري، ولكل عاداته وسلوكه، والمجتمع الحضري أكثر قابلية للتبدل، وتبدله يصل لقمة العمران، ثم يبدأ بالتقلص والانحسار، في حقب زمنية تشبه القانون.

الدولة والتشريع:

ينظر ابن خلدون للتشريع كشرط لبقاء الدولة، فالدولة متى خلت من تشريع يستهدف حماية الناس، فإن الأمر لا يستتب لها، كما لا تتم سيطرتها على الأمور، وكل هذا من سنن الله في عباده.

وهذه التشريعات إما أن تكون إلهية المصدر، فتكون سياسة دينية، وإما أن تكون مفروضة من العقلاء وأكابر الدولة وأهل النظر فيها، فهي سياسة عقلية.. إن التشريعات الإلهية تكون نافعة في الدنيا والآخرة، ذلك أن الخلق ليس المقصود دنياهم فقط، لأنها لهو وزينة، وغايتها ونهايتها الموت، والله تعالى يقول: {أفحسبتم أنما خلقناكم عبثًا وأنكم إلينا لا ترجعون } (المؤمنون:115).

فالمقصود إنما هو دينهم، المفضي إلى سعادتهم في آخرتهم، فجاءت الشرائع بحملهم على ذلك، في جميع أحوالهم، من عبادة ومعاملة، وحتى في الملك الذي هو طبيعي للاجتماع الإنساني، فأجْرته على منهاج الدين، ليكون الكل محوطًا بنظر الشارع(1).

إن ابن خلدون يرى نوعين من الحكومة: واحدة تعتمد التشريع الإلهي، وأخرى تعتمد التشريع الوضعي. وهو ينص على وجوب نصب (خليفة ) ليقوم بأمر الدين والدنيا معًا. وقد كتب فصلاً كاملاً في (المقدمة ) تحت عنوان (العمران البشري لا بد له من سياسة ينتظم بها أمره )، لينتهي إلى ضرورة الاستناد إلى شرع منزل متى وجد.

ابن خلدون والمدرسة الحيوية:

يرى د.حسين رشوان أن ابن خلدون من أنصار المدرسة الحيوية(1)، فقد اعتمد في دراسته للمجتمع على دراسة الفرد، ومن ثم قال بأنه يولد مثل الفرد، ويمر بأطوار الطفولة والشباب والرجولة والشيخوخة، كما أنه يمارس السياسة وكتابة التاريخ، متخذًا من تجاربه الخاصة مادة للكتابة، ويتضح ذلك جليًا من موقفه من البدو، الذين شن عليهم أكبر حملة، لأنهم جاءوا للشمال الإفريقي من مصر، وعاثوا في الأرض فسادًا، وأسقطوا أمير بجاية وابن عمه كذلك.

2- هيجل والتفسير المثالي:

هيجل فيلسوف ألماني عاش ما بين (1770-1831م) ، صاحب اتجاه في (وحدة الوجود )، من المتأثرين بكل من (كانت وفخته وشبلنج )، وقد كان له تأثير كبير على الفكر الألماني، صاغ أفكاره بأسلوب صعب، بحيث يحتمل أكثر من تفسير، وقد ظهر ذلك جليًا في استشهاد تلاميذه -على اختلاف توجهاتهم- بما كتبه، فالمؤمنون منهم والملحدون يجدون لهم شواهد فيما كتبه هيغل، تؤيد دعواهم.

وقد طور الجدل (الديالكتيك ) ليجعل منه طريقة خاصة بالبحث، وأسلوبًا في المناظرة(1): (أصبح طريقة لتفسير الواقع، وقانونًا كونيًا عامًا، ينطبق على مختلف الحقائق، وألوان الوجود، فالتناقض ليس بين الآراء ووجهات النظر فحسب، بل هو ثابت في صميم كل واقع وحقيقة، فما من قضية إلا وهي تنطوي في ذاتها على نقيضها ونفيها. وكان هيغل أول من أشاد منطقًا كاملاً على هذا الأساس... لقد أنشأ فلسفته المثالية كلها على أساس هذا (الديالكتيك)، وجعله تفسيرًا كافيًا للمجتمع والتاريخ والدولة، وكل مظاهر الحياة، وقد تبناه بعده (ماركس) فوضع فلسفته المادية في تصميم ديالكتيكي خالص.

فالجدل الجديد -في نظر أصحابه- قانون للفكر والواقع على السواء، فهو طريقة تفكير، ومبدأ يرتكز عليه الواقع في وجوده وتطوره ).

يتصور هيجل أن التاريخ عبارة عن صراع للمتناقضات(2): (فكل قضية في الكون تعتبر إثباتًا وتثير نفيها في نفس الوقت، ويأتلف من الإثبات والنفي إثبات جديد، فالمنهج المتناقض للديالكتيك أو الجدل الذي يحكم العالم يتضمن ثلاث مراحل، تدعى: الأطروحة والطباق والتركيب.. وفي تعبير آخر: الإثبات والنفي ونفي النفي.. وبحكم هذا المنهج الجدلي، يكون كل شيء مجتمع مع نقيضه، فهو ثابت ومنفي، وموجود ومعدوم في وقت واحد ).

حركة التحضر عند هيجل:

لهيجل تصور خاص في حركة التحضر، فهو يفسرها أو يتصورها، كصراع بين متناقضات، ويطرحها على الوجه التالي، باختصار(1):

1- كل فترة في تاريخ الحضارة، تمثل وحدة مستقلة، وإنَّ ملامحها السياسية والاقتصادية والأخلاقية والاجتماعية والدينية والفنية، كلها جوانب (للمجموع الحي )، ومنها جميعًا يتكون كيان متجانس.

2- كل فترة أساسية تنمي فكرتها الرئيسة إلى الحد الأقصى، ثم تولد أضدادها أو نقائضها، ويستمر الصراع هكذا، حتى تتحد المتناقضات في وحدة عليا (الموحد أو الجامع )، فتكون أفضل من الفكرة ونقيضها، ثم ينحل هذا (الجامع ) ليتولد عنه فكرة جديدة ونقيض، وهكذا يستمر الحال، كل فكرة تصارع نقيضها، لتنتج جامعًا، وكل جامع أو موحد يفرز نقيضًا، ويستمر الصراع حتى تصل الفكرة إلى (المطلق ) الذي يخلو من التناقض والصراع(2).

ولتقريب الفكرة، أذكر مثالاً ضربه هيجل:

أ- عهود السلطة المطلقة في الحكم (فكرة ).

ب- يعقبها عهود فوضى (نقيض ).

جـ- منها يأتي عهد دستوري، هو خير من الاثنين.

3- إن جوهر التطور لدى هيجل هو ما يفرزه وينتجه (صراع المتناقضات )، حيث تحمل كل فكرة تناقضًا داخليًا، يدفعها إلى الإمام، ثم لا تلبث أن تتحطم لتتحول إلى شيء جديد، أفضل من الفكرة والنقيض، وهو يحمل التناقض، وبفعل الصراع يكوّن فكرة جديدة ونقيض، وهكذا.

4- تبنى هيجل، وتابعه الماركسيون، أن كل عهد من عهود الحضارة يأتي يكون أرقى وأفضل من سابقه، على اعتبار أن (الجامع أو الموحد ) يكون دومًا أفضل من الفكرة ونقيضها، وهذا يشكل خطوة للإمام، والحضارة اللامعة تكون أفضل من سابقتها كذلك. ولم يقفوا عند هذا الحد، ولكن قالوا: إن الحضارة في رقي دائم، لا سبيل إلى مقاومته(1). وأصل الفكرة نادى بها بعض فلاسفة اليونان، ثم جاء هيجل ليفسر بها حركة التاريخ، وعنه أخذها الماركسيون.

والإنسان يتمنى حقًا أن تكون الحضارة كذلك، لكن الذي نشاهده أن الحضارة قد تتقدم بعض مكوناتها دون بعض، فهي ليست كائنًا عضويًا، أما أن تتقدم كافة مكوناته أو تتأخر، فالحضارة -كما تقدم- خليط من أفكار ومعتقدات وتشريع وآداب وفنون ومنشآت مادية، جمعت في زمان ومكان، لذا فإن بعضها قد يتقدم والبعض الآخر قد يتوقف، على حين تتأخر مكونات أخرى. ولو كانت الحضارة في تقدم تام، لا سبيل لإيقافه، فكيف تنحل وتسقط؟

5- يطرح هيجل معادلة فيقول: كل ما هو معقول فهو حقيقي، وكل ما هو حقيقي فهو معقول.

والمطلوب أن يحدد لنا هيجل وكذلك تلاميذه، معنى المعقول والحقيقي، لكن الذي وجدناه لدى تلاميذ هيجل غريب، فالمتدين يقول: الدين معقول فهو حقيقي، والتملك معقول فهو حقيقي، بينما يقول تلميذ لهيجل ملحد: إن الدين غير معقول، ولذا فهو غير حقيقي، وهكذا، وهذا ثمن الغموض في الصياغة.

تعقيب ومناقشة:

نسلم أن الصراع بين الميول والاتجاهات المتقاربة حقيقة من حقائق الحياة، وقد نجد أكثر من آية في كتاب الله تشير لذلك، منها: {ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لهدمت صوامع وبيع وصلوات } (الحج:40).

وقوله: {ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض } (البقرة:251)، فالتدافع بين البشر حقيقة من حقائق الحياة، وسنة من سننها، قديمًا وحديثًا، على مستوى الأفراد والأنظمة والدول والثقافات والحضارات.

كذلك فإن أي نظام -على مستوى القطر أو الحضارة- يحقق أغراضه، ويستوفي مبررات وجوده، فهو لا يلبث أن ينحل ويسقط، ليقوم نظام جديد مكانه يهدم الأول، ليبني على أنقاضه، وهكذا.

وكل نظام وكل نسق حضاري يريد أن يستمر، ويجاهد في ذلك، لكنه متى ما فسد وتعفن، واستوفى مبررات وجوده، فليس أمامه إلا السقوط. والشجرة إذا ماتت لن ينفعها كثرة الري، بل ستتعفن جذورها، لتسقط في أقرب وقت.

ويبدو أن هيجل توسع في قضية (الصراع ) حتى جعله كل شيء، وجاء تلاميذه من الماركسيين ليعلنوا بقوة: أن تاريخ البشرية ما هو إلا صراع بين طبقات المجتمع، من أجل المادة وبسببها.

ولو أمكن أن أعدل في هذا الطرح (الهيجلي ) لقلت: إن الفكرة تحرك نقيضها، لكنها لا تلد ذلك النقيض، هذه قضية، والقضية الثانية أن مصطلح (النقيض ) الذي يستعمله هيجل ليس هو النقيض المعروف لدى علماء المنطق، فهناك تميز ونقيض، وجل أمثلة هيجل من النوع الأول (التميز ) وليس من النقيض.

وهناك أمثلة أخرى يضربها هيجل لا علاقة لها بالتناقض، فهو يقول مثلاً: زهرة الرمان (فكرة ) والكأس (نقيض) ، ومن الاثنين تأتي ثمرة (الرمان ) وهي أفضل من الزهرة والكأس، أقول هذا ليس تناقضًا.

كذلك لا يجد الدارس لما كتبه هيجل عن الفكرة والنقيض فصلاً، بل يجد امتزاجًا أو اشتراكًا، لكنه لا يجد نقيضًا.

القضية الأخيرة لرسم العلاقة بين المعقول والحقيقي غير واضحة، واستعمال تلاميذه لها خير دليل.

ومع ذلك فهل يعتبر هيجل النصر في الحرب هو الحقيقة أو المعقولية؟ إن كان كذلك فقد ينتصر مبطل، وقد ينهزم محق، فليس كل منتصر يمثل الحق، ولا كل منهزم يمثل الباطل، بل القوة لا تنشئ حقًا، ولكنها قد تستعمل في حمايته وحراسته.

3- أزولد اشبنجلر(1):

عرف أزولد اشبنجلر بمؤلفه (تدهور الحضارة )، فقد كان قويًا في طرحه، جريئًا في أفكاره، غير حذر ولامتحفظ، لذا رأينا مفكرًا ومؤرخًا مثل (توينبي ) يصرح بمخالفاته لاشبنجلر ومؤلفاته، فلقد شن عليه هجومًا كبيرًا، وقد استفاد من ذلك كل من جاء بعده.

وقد تقدم إيمانه بدورة الحضارة، وتقسيمها إلى دور سابق، ودور الحضارة الفاعلة، ودور الحضارة المستنفذة.

وهو يكرر في كتابه (تدهور الحضارة ) أن حضارة اليوم وصلت إلى الدور الأخير، وهي سائرة إلى الانحلال، ومن هنا جرى الهجوم الشديد عليه، وعلى رأيه في هذه الحتمية، فصنف بأنه يؤمن بالجبر، وقد راح (توينبي ) يعيد ويكرر أنه لا يشارك اشنبجلر آراءه في الجبر، بل يؤمن بالاختيار. كما هوجم تشبيهه الحضارة بالإنسان على نحو الفصول الأربعة في دورانها، وهوجم كذلك قوله بأن كل الحضارات تظهر وتكتمل وتموت في أوقات معاصرة، وأن كل حضارة تمر بنفس الأدوار، التي مر بها من سبقها، وكذلك اكتمالها وظهور الإبداع فيها. بعض الذين هاجموا اشبنجلر يرون أنه سقط في أخطاء تاريخية كذلك. وكل هذا النقد الشديد أفاد منه من جاء بعده فراح يتبرأ من ذلك.

والذي أعتقده أن الإنسان العاقل لا يمكن أن يكون كل ما يطرحه خطأ، وإلا فليس بعاقل، ولا يمكن أن يكون كل ما يطرحه صوابًا، لأنه يجب أن يكون معصومًا من الخطأ، ولا معصوم سوى الأنبياء، وفيما يبلغون عن الله تعالى، وخارج هذه الدائرة لا معصومية، ومن يتصورون وجود معصوم -غير نبي- فأدلتهم هزيلة، وتناقضاتهم كثيرة.

4- أرنولد توينبي(1):

مؤرخ إنجليزي ،ولد في لندن، وتخرج في جامعة أكسفورد المعروفة، واشتغل بالتدريس فيها حتى عام 1915م، والتحق بقسم الاستخبارات السياسية، ثم أستاذًا للتاريخ واللغة الإغريقية بجامعة لندن، ثم أستاذًا وباحثًا ومديرًا للدراسات بالمعهد الملكي للشؤون الدولية.. ألف كتابه (تاريخ العالم )، وكان موقفه من اليهود عمومًا والصهيونية شديدًا، لذا شنوا عليه أكبر حملة، واتهموه بالجهل حتى باللغة الإنجليزية(1).

تبنى في منهجه الدراسي أن يدرس الحضارات، وليس الدول القومية، أو الجماعات السياسية. وحين يعدد الحضارات يعد منها: المصرية، السومرية، البابلية، الهلينية، الإيرانية، الهندوكية...إلخ، ويعد الحضارتين البدوية والعثمانية من الحضارات التي توقفت عن النمو.

نشوء الحضارة:

يطرح توينبي سؤالاً يتعلق بالعامل الذي أخرج الإنسان من الدور البدائي ودفعه إلى أجواء التحضر، وهنا يستعرض ما قاله المعنيون وذكروه من عوامل، فيتحفظ على أكثرها.. ثم يسجل أن الحضارات وجدت وقامت في أحواض الأنهر، لكنه يستدرك إذ لا يجد ذلك عامًا، فكم هي كثيرة أحواض الأنهر التي لم تعرف حضارة؟!

وتفسير ذلك سهل، فالإنسان والحيوان والنبات بحاجة للماء، ولذا كان يسكن قريبًا من الأنهار، ليستقي منها ويزرع، وليقيم حضارته أو تحضره، لكن ليس النهر هو السبب الأول، بل هو الإنسان، فوجود النهر عامل مساعد.. وقد يوجد أكثر من نهر، ولا تقوم الحضارة، لكن قيامها قديمًا بعيدًا عن الأنهر يجعلها في غاية الصعوبة.

نظرية التحدي والاستجابة:

يرفض توينبي تفسير التحضر أو حصره بعامل واحد، لذا نراه يقول(1): (ليس السبب في نشوء الحضارات بسيطًا، ولكنه متعدد، وليس وحدة مستقلة، ولكنه علاقة مشتركة ).. وقد طرح نظريته في (التحدي والاستجابة ) معتبرًا ذلك محركًا للإنسان بشروط، فالإنسان يستجيب للتحدي متى كان في حدود قدراته، وإلا عجز.

لذا راح يبحث عن صور التحدي، فحصرها مثلاً بتحدي الإنسان لأخيه، أو تحدي الطبيعة للإنسان. ثم راح يبحث في التراث الإنساني عن شواهد، فذكر ما حدث بين آدم عليه السلام والشيطان، والسيد المسيح عليه السلام والشيطان. وعن تحدي الطبيعة للإنسان، يذكر أن الجفاف الذي أصاب شمال إفريقيا، استجاب له الناس هناك على نوعين: نوع هاجر إلى وادي النيل، ليقيم حضارة هناك، وفريق بقي في مكانه، فبقي بدويًا في عيشه وقيمه.

ثم يذكر عوامل مماثلة، دفعت الإنسان في بلاد الرافدين، دجلة والفرات، ليقيم حضارة مبكرة. ثم يذكر أن حوض النهر الأصفر في الصين، كان يموج بالأدغال والغابات والوحوش والفيضانات والأملاح، فدفع ذلك التحدي الشعب الصيني إلى مكافحة هذه الآفات كلها، ثم ليقيم حضارته في حوض ذلك النهر.

أما تحدي الإنسان للإنسان فيرى:

أ- فئة مسيطرة في مدنية منهارة، تتحداها فئة مستقلة ومنفصلة عنها.

ب- فئة خارجية على حدود المواطن الحضرية، تتحفز لتقويض سيطرة الأولى، فتقوم بتقويض سيطرتها المتداعية، ومن ثم تقيم حضارة جديدة.

ومن هذه النظرة يفسر قيام الحضارة الغربية من الحضارة الهيلينية، بل سائر الحضارات اللاحقة للحضارات السابقة.

شروط التحدي:

يرى توينبي أن التحدي المفيد المنتج ينبغي أن يتوفر فيه:

أ- أن لا يكون صعبًا، بحيث يعجز الإنسان عن التعامل معه، بأن يكون فوق طاقاته وقدراته، فهذا التحدي لا يحرك الإنسان، بل يقعده، ويضرب مثالين لذلك:

مناطق الأسكيمو حيث البرد والثلج، فمثل هذا المناخ لا يمكن الإنسان من أن يقيم حضارة، ويظل كل همه منحصرًا في الكفاح، كي لا يموت من الجوع أو البرد.

وأما المثال الآخر فالمناطق الصحراوية حيث الحرارة المرتفعة، والماء القليل، فالإنسان لا يستطيع إقامة حضارة، بل يكافح ليبقى حيًا.

ب- أن لا يكون التحدي سهلاً، بحيث لا يثير في الإنسان دوافعه للتحضر، ويضرب لذلك أمثلة بالجماعات التي تعيش في المناطق الاستوائية، حيث الشمس والمطر والجو المعتدل، فتلك الجماعات بقيت بدائية ولم تتحضر.

وغني عن القول: إن صعوبة التحدي وسهولته أمر نسبي، فما تعتبره أمة صعبًا قد لا تعتبره أمة أخرى كذلك.

أما تحدي البيئة للإنسان، فقد عد تونبي خمسة دوافع يمكن أن تستثير فاعلية الإنسان وجهده، من ذلك:

دافع الأرض الصعبة.. دافع الأرض البكر.. دافع النكبات.. دافع الضغط.. دافع العقوبات.

هذه الدوافع تستثير الإنسان، فتأتي الاستجابة المناسبة(1). ثم يحاول الإكثار من الأمثلة على التحدي والاستجابة، ولأنه درس تاريخ العالم، فلا يصعب عليه العثور على الأمثلة التي تشهد لنظريته، من ذلك:

1- أن الزنوج في أمريكا كانوا يعانون الرق، ومن التفرقة العنصرية، وبعد إلغاء نظام الرق عام (1860م) رسميًا، بقيت التفرقة العنصرية، فكيف استجابوا لهذا التحدي؟ يرى توينبي أن (الأسود ) بعد أن وجد الموازين راجحة ضده في الدنيا، راح يتطلع إلى الآخرة، كما راح يكيف نفسه مع البيئة، وذلك عن طريق استكشاف طائفة من المعاني والقيم الطريفة في المسيحية، بعد أن تجاهلها أهلها، مثل: أن المسيح عليه السلام جاء ليعلي من شأن المستضعفين، وليس ليعزز مركز الأقوياء.

ويرتب توينبي على ذلك: أن يوفق الأفارقة السود، في إشعال النار في رماد المسيحية الخامدة، عساها تنبض بالحياة مرة ثانية، لكن الواقع لا يشجع على هذا الاستنتاج، فالسود راحوا ينفصلون عن البيض كليًا، ويبتعدون عنهم، بعد أن كان الأبيض هو الذي يفعل ذلك.

القضية الأهم: أن الإنسان الأبيض، المعجب بنفسه إلى حد الغرور، لن يقبل من الأسود شيئًا، ولا حتى من الملونين، ولا أبناء العالم الثالث، فكل هؤلاء لا يحترمهم ولا ينظر إليهم بعين الرضا أو التقدير.

أما كيف وصل توينبي لهذا التصور، فهو يقارن بما حصل للعبيد في إيطاليا، حيث اعتنقوا المسيحية، فأقاموا ديانة جديدة حية قامت مقام ديانة لا حياة فيها.. وهذا القياس من الصعوبة قبوله، فإيطاليا الأمس ليس أمريكا اليوم، والظروف اختلفت كليًا.

2- يذكر توينبي أن منطقة (الشرق الأوسط ) تعرضت لتأثيرات حضارية، تنافي طبيعتها، وذلك حين تسربت إشعاعات ثقافية يونانية ورومانية للمنطقة، فشكلت قضية تحد، أما الاستجابة فكانت (اعتناق الإسلام ).

ثم اندفع المسلمون لاسترداد مجد الشرق الأوسط، وترتب على ذلك أن استردوا للشرق الأوسط شخصيته، تلك الشخصية التي أهدرها العدوان الثقافي الهيليني مدة طويلة من الزمن، وهكذا أصبحت المدن الإسلامية مراكز حضارة مزدهرة(1).

إن هذا التفسير للإسلام يتعذر قبوله، فإذا كانت بلاد الشام عرفت الروماني فاتحًا ومستعمرًا، فلم تعرف عنه حامل ثقافة، أو ناقل ثقافة، لقد كان فاتحًا مستعمرًا وكفى.

أما الجزيرة ففيها قلة يهودية، ومثلها قلة نصرانية في اليمن وما حولها، ولم يكن لديها شيء تقدمه أكثر من شرب الخمور. وهؤلاء وأولئك عاشوا مع العرب، دون أن يشعر بهم أحد، ولذا فلم يشكلوا تحديًا لجمهور العرب الوثني، وحين حاربت قريش المسلمين في المدينة، تحالف اليهود معها، ضد المسلمين، الذين تربطهم بهم معاهدة، والذين يؤمنون بالله تعالى وكتبه ورسله.

لذا فتفسير ظهور الإسلام كاستجابة يصعب أو يتعذر قبوله، لكني أوافق بقوة على أن الإسلام رد للشرق الأوسط شخصيته، بل ما زال يملك ذلك، وربما كان الوحيد المالك، فمنذ سقوط الدولة العثمانية وحتى هذ اللحظة ما زال الإسلام هو الأقوى والأقدر على إنقاذ المنطقة ورد العافية إليها، وتجربة ثلاثة أرباع قرن تكفي لبيان ذلك، وعلى الذين يجادلون وينكرون ذلك أن يأتوا بالأدلة والشواهد، وقديمًا قال الشاعر:

وليس يصح في الأذهان شيء إذا احتاج النهار إلى دليل

3- يعتقد توينبي أن تشتت اليهود كان من التحديات، وأن تجمعهم في فلسطين سيقضي على هذا التحدي، كما أن تجمعهم في فلسطين سيشكل تحديًا لأهلها أولاً، ولأهل المنطقة كلهم، وستكون الاستجابة تشتيتًا جديدًا لليهود.

كما أن احتقارهم لكل الغرباء، واعتقادهم بأنهم شعب الله المختار، سيثير عليهم العالم(1)، (وذلك باعتبارهم جماعة شاذة، ما انفكت تتعمد عزل نفسها عن بقية الجنس البشري، وإن اقتضاهم ذلك مشقة وعنادًا بالغين، وعرضهم لاضطهاد العالم ونقمته المتواصلة عليهم ).

إن هذا النقد لا يطيق اليهود سماعه من أحد، لذا شنوا على توينبي أكبر حملة، واستخدموا كل ما لديهم من قوة، واتهموه بالتعصب للمسيحية، وأنه يتحدث كنبي، حتى وصل بهم الأمر أن اتهموه بالجهل حتى بلغته الإنجليزية، كما اتهموه بالسذاجة والسطحية وضيق الأفق، ووصفوا منهجه بالتخبط والتعالم والتكاثر بالمراجع، ليخدع القارئ. وزاد من نقمتهم عليه مناصرته للشعب الفلسطيني، ونفي أي حق لليهود، قائلاً: إذا كان الغرب اضطهدهم فليس على الشعب الفلسطيني أن يدفع الثمن. وكل هذا لم يعد أحد في الغرب يجرأ على قوله، وإن كان الكثير يسلم به ويعترف!!!

كيف تنمو الحضارة:

يدرس توينبي كافة النظريات في تفسير نمو الحضارة، فيراها تركز على الكم دون الكيف، فهي تسجل الانتصارات، وعلى رأسها العسكرية، بينما يرى توينبي أن التوسع العسكري قد يحصل مع هبوط الحضارة، وكثير من الدول كانت تلجأ للحروب الخارجية، هربًا من مشاكل داخلية وانقسامات في صف الأمة.. كما يرى أن التقدم العلمي والصناعي قد يحصل دون تقدم الحضارة، وقد يتلازمان.

وأخيرًا فهو يرى أنه ليس من الضروري أن تنمو كل حضارة ناشئة حتى يكتمل نموها، وتصل إلى القمة، فقد تتوقف في مرحلة، بسبب عجزها عن التغلب على تحديات تواجهها، ويعد من الحضارات المتوقفة العثمانية والإسبارطية والبدوية.

من جهة أخرى يرى توينبي أن التغلب على تحد معين لا يكفي، بل لا بد من وجود قدرة على مواصلة الاستجابة للتحديات(1).

من قضايا النمو الحضاري:

ما هي المسائل الأساسية في قضايا النمو الحضاري؟

يستعرض توينبي جملة قضايا يقيس بها نمو الحضارة، منها(2):

1- في مجال نمو الذات:

يرى توينبي أن تطور العلوم والفنون والصناعة، يسير نحو التبسيط، ففي الآلات مثلاً ابتدأ الإنسان بالأدوات البخارية، لينتقل إلى الآلات التي تشتغل بالوقود.. وفي مجال النقل البري، ابتدأ الإنسان بالقاطرات التي تسير على قضبان ثابتة، لينتقل إلى الحافلات والسيارات، التي لا تحتاج إلى قضبان.. وفي الاتصالات ابتدأ الإنسان بالتلغراف لينتهي باللاسلكي، وكل هذا التطور يساير رغبة في نفس الإنسان، كي يتحرر من العوائق.

2- الفرد والمجتمع:

هل المجتمع هو الحقيقة، والفرد ذرة من ذراته فقط، أم أن الفرد هو الحقيقة، والمجتمع هو مجموع تلك الذرات؟

يرفض توينبي النظرتين معًا، ويرى(1) (أن المجتمع هو علاقة بين الأفراد، وهذه العلاقة تقوم على اتفاق في مجالات أعمالهم، اتفاقًا يجمعها على صعيد مشترك، وهو ما نسميه بالمجتمع )، وبناء على ذلك يكون المجتمع مجال عمل مشترك بين مجموعة من الناس، وأما الأفراد فهم ينبوع العمل، والنمو الحضاري أو التحضر يحصل عادة عن طريق المبدعين من الأفراد، وعن طريق الفئة الصغيرة من القادة الملهمين.

ويضرب لذلك مثلاً جيدًا بالفلاح يحرث الأرض ويزرعها، فكل نبتة لها كيانها المستقل، لها ساقها وأوراقها، وهي تأخذ نصيبها من الغذاء والماء والشمس، ولكن هذا الحقل بمجموعه، يعود لفلاح زرعه للحصول على محصول واحد، فكل نبتة تمثل فردًا، والحقل يمثل المجتمع، وهو تمثيل جيد -وقد تقدم هذا- وهو قريب جدًا من التصور الإسلامي.

3- الاعتكاف والعودة:

عرف عن الفرد إنه قد يعتكف في مكان، مدة من الزمن ثم يعود إلى مجتمعه، وكتب السيرة تذكر أن الرسول كان يعتكف في غار حراء يتعبد، ثم يعود لأهله ومجتمعه، وتقدم أن ابن خلدون اعتكف سنوات في قلعة (سلامة ) يكتب ويؤلف ثم عاد إلى مجتمعه وأهله.

هذه الظاهرة الفردية حاول تونيبي أن ينقلها إلى مجتمع أو دولة، معتقدًا أن الأعمال الرائعة للإنسان تتم بحركة مزدوجة من الاعتكاف والعودة، بهدف تحقيق نوع من الصفاء للذات، واستلهام الحق، وتكون العودة من أجل هداية الأتباع، وتتضح الظاهرة في حياة عدد من الأنبياء.

لكن توينبي نقل هذا العمل من ميدان الفرد إلى المجتمع والدولة، فيرى أن إيطاليا فعلت ذلك قبل النهضة، وإنجلترا في العصور الوسطى، ثم عادتا لتساهما في نمو الحضارة الغربية. ويمكن أن أضيف هنا (اليابان )، فقد عاشت زمنًا في عزلة عن جيرانها وكانت سنوات هدوء وسلام، ولم تغز اليابان بلدًا، ولم يغزها أحد، ثم لتنطلق بعد ذلك(1).

4- التنوع داخل الوحدة خلال فترة النمو:

يرى توينبي أن الحضارة النامية تشكل وحدة متماسكة، وحركة منتظمة، إلا أن تجارب الفئات المتعددة ليست متماثلة، إنها تختلف باختلاف الكيفية التي يستجيب بها الفرد أو الأقلية المبدعة أو المجتمع كله للتحديات المتتابعة، ومن هنا وجدت الفروق بين المجتمعات الصغيرة، في الحضارة الواحدة، وهنا تبرز الخصائص المميزة للحضارات المختلفة، فهذه جمالية، وتلك دينية، وهذه علمية، وهكذا. إلا أن ناقديه رفضوا هذا التصنيف، فهم يرون في كل حضارة قدرًا من الجمال، ودينًا تتبعه الأكثرية، وقدرًا من العلم والمعرفة.

كيف تنحل وتسقط الحضارة:

كل متابع لحركة التحضر يراها كصاعد الجبل، يرتقي ويتسلق، حتى إذا وصل القمة -في رحلة تطول أو تقصر- راح يهبط إلى قاعدة الجبل، لم تشذ حضارة عن ذلك، وتتفاوت بطول البقاء وسعة السقوط، فكيف يفسر ذلك المهتمون بحركة التحضر؟

(اشبنجلر ) يرى سقوط الحضارة حتميًا، لم تنج منه حضارة، والدور الآن على الحضارة الغربية.. ابن خلدون يراها دورة كاملة -كما تقدم- فكيف ينظر لها توينبي؟

إنه يرفض الحتميات كلها، وهو يستعرضها على الوجه التالي(1):

1- القول بأن الكون صائر إلى الشيخوخة والزوال، ذلك لا يكون في القريب العاجل، من هنا فتأثيره على سقوط الحضارة بعيد.

2- يرفض تشبيه الحضارة بالكائن الحي، فالحضارة تولد ثم تنمو ثم تشيخ وتموت، هذا لا يسلّم به، ذلك أن المجتمعات ليست كائنات عضوية، والمجتمع يمكن أن يجدد شبابه، أما الإنسان فلا.

3- يرفض فكرة أن الحضارة لها دورة كاملة، كما يقول ابن خلدون، ويرى أن الدولاب الذي يحمل عربة التحضر، يدور على نفسه، وعندها تندفع العربة نحو الغاية الكبرى، في حركة تقدمية مستمرة.

4- إن العجز عن صد الاعتداءات الخارجية على الحضارة، ليست سببًا لسقوطها، بل دليل على وجود انهيار سابق، كشف العدوان الخارجي عنه، ويمثل لذلك بسقوط الحضارة الرومانية، والأندلسية.

5- يرى توينبي أن النقص في الميادين العلمية والتقنية، ليس علة في سقوط الحضارة، ولكنه مجرد عرض لا أكثر.

بعد هذا الاستعراض يذكر توينبي تصوره الخاص بسقوط الحضارة وأسبابه، ويردها إلى ثلاثة أسباب:

1- ضعف القوة المبدعة في القيادة، وتحولها إلى مجرد سلطة متعسفة.

فهذه الأقلية التي كانت نشطة أكبر نشاط في مرحلة النمو، لم تعد قادرة على القيام بالرد على التحديات التي تواجهها، ولعجزها عن ذلك، تنقلب إلى أقلية مسيطرة، تسعى بكل قواها للحفاظ على مركز قيادتها، والذي لم تعد أهلاً له، وهنا يحصل انفصال بين الأكثرية من الشعب والأمة، وبين الأقلية، وهنا يبدأ زمن الاضطرابات والفتن المحلية، أو الحروب داخل المجتمع، ومع المجتمعات المجاورة.. ويمكن أن نمثل له بما حصل في الأندلس، فلكل مدينة أمير، يقاتل أخاه أو ابن عمه، ولا يرى بأسًا بالتحالف مع عدوه وعدو أمته، ثم تتساقط المدن، وتنتهي الحضارة بسقوط مريع، يقذف بالكل خارج أسبانيا.

ويرى توينبي أن قيام الاضطرابات يحفز الأقلية لإحكام السيطرة، واستعمال القوة، وهكذا تزداد الشقة والهوة بين الأقلية والأكثرية.

2- تخلي الأكثرية عن موالاة الأقلية المسيطرة، ثم الكف عن محاكاتها.

ففي زمن النمو تتابع الأكثرية الأقلية المبدعة، وتسير بقناعة خلفها، وبعد تحولها إلى قلة مسيطرة فاقدة للإبداع متحكمة في الأكثرية دون استحقاق، هنا تتخلى الأكثرية عن الأقلية، ثم يعقب ذلك الانشقاق.

3- الانشقاق وضياع الوحدة، حيث تقف الأكثرية ضد الأقلية المسيطرة.. وهكذا تسقط الحضارة.

إن سقوط الحضارة يسبقه، ويقدم له، انحلال الحضارة.. فكيف يتصور توينبي ذلك؟

انحلال الحضارة:

يعرض توينبي نظريته في انحلال الحضارة بشكل واضح، وأستطيع ابتداءً القول: بأنه أقرب ما يكون للتصور الإسلامي، فهو يرى أن انحلال الحضارة يزامنه ويرافقه فساد يدب في أرواح الناس أولاً، وتغير جذري في سلوكهم، وحتى مشاعرهم، وفي كل جوانب حياتهم، فيقوم مكان الصفات الجيدة والقوى المبدعة، التي كانت تفيض بها نفوسهم -في دور النمو- يحل مكانها (ثنائية ) من النزعات والمواقف العقيمة والمتناقضة.. وهنا يتعرى الفساد الروحي، ويكشف عن فوضوية تشمل الأخلاق والعادات، وانحطاط يسود الآداب والفنون، مع محاولات عقيمة للتوفيق بين المذاهب والأديان المختلفة. وهنا قد تسعى الأقلية المسيطرة في بعض الحالات إلى فرض فلسفة بالقوة، أو دينًا مختارًا، لكنها تفشل في كل ذلك.

ويذكر استثناء واحدًا -غير سليم- وهو انتشار الإسلام بين الأمم المغلوبة عن طريق القوة أو التساهل.. لقد دخلنا الأندلس بـ (12) ألف مقاتل وخرجنا منها مأزومين مهزومين، وعددنا أكثر من ثلاثة ملايين.. إن خرافة انتشار الإسلام بالقوة خرافة روج لها الاستعمار ورجاله، كي يبرر غزو القارات كلها ونهبها وسلبها، بل واستمرار السلب حتى اليوم، وليسوِّد وجه الإسلام.

وفي الختام أرى من النافع أن أنقل نصًا للدكتور الشرقاوي يلخص نظرية توينبي في الحضارة صعودًا وسقوطًا، فيقول(1): (ذلك هو تصور توينبي للدورات الحضارية، فالتاريخ عنده كأنه تجربة واحدة تمت على مراحل أو دورات، وكل الحضارات التي يدرسها مرت بأطوار متشابهة في النمو واستمرار التقدم، وزيادة القوة، ثم تنشأ بعد ذلك عقبات من الداخل أو الخارج، أمام هذه الحضارات، تمثل ألوانًا من التحدي، قد تعجز الحضارات عن الاستجابة لها بنجاح، فيكون التفكك والانهيار، وقد تنجح في مجابهتها فيكون التقدم والاستمرار إلى حين. على أن انهيار الحضارات في النهاية لا يمثل شرًا مطلقًا، فكل تجارب الحضارات السالفة تتمثل في الحضارات الجديدة، بصورة أو بأخرى، ومن هنا فإن التاريخ لا يعرف حضارة زالت تمامًا، وإنما الذي يحدث -في غالب الأمر- أن الحضارة بعد أن تتم دورتها، على يد أمة أو أمم، تقوم بعد ذلك حضارة أو حضارات جديدة ).

تعقيب ومناقشة:

إذا استثنينا الهجوم اليهودي على توينبي، فإن النقد الموضوعي جاء من د.عفت الشرقاوي، وجاردنر، وسوركن.

وأهم بنود هذ النقد أن توينبي يؤمن نظريًا بحرية الاختيار، لكن نظريته تسير في اتجاه الجبر، وقد شبهه بعض ناقديه بأنه مثل عالم الكلام الإسلامي، الذي يقيم الدليل على الجبر، ولأسباب نفسية يؤمن بالاختيار. كذلك نُقدت نظريته بالنسبة للحضارة الغربية، فهو يصورها وكأنها تجتاز مرحلة عظيمة في التقدم، وهي على حافة الهاوية والانحلال، وفي ذات الوقت لا يريد الاعتراف بهذه النتيجة، والحكم على حضارة اليوم بالزوال، فيتحدث عن احتمال (إرجاء إلهي ) تنجو بفضله الحضارة من هذا المصير.

يرى د. الشرقاوي (1) أن توينبي لديه قلق شخصي بالنسبة لمصير حضارة اليوم. كذلك وجه له نقد حول تقسيمه الأدوار الحضارية، من النشوء إلى الانحلال والسقوط، أساسًا لفلسفته وتفسيره للتحضر، ويرفض أمثال سوركن ذلك لأن هذه النظرية تعني أن هذه الأدوار كيانات حقيقية، لا مجرد تجمع لظواهر اجتماعية وثقافية، جمعها الزمان والمكان، دون أن يكون بينها ترابط سببي موحد.

ويستشهد سوركن لافتراضه بأنه(2) (و صح افتراضه أن الحضارات كيانات حقيقية، إذن للزم التغيير في أحد مقوماتها، لزم تغيرًا في مجموع المقومات الأخرى ). وهذا غير واقع ولا حاصل.

كذلك ينتقد سوركن ما يطلق عليه توينبي بأنه وحدة حضارية، فيرى بأنه ليس أكثر من مجال ثقافي، توجد فيه العديد من الأنظمة، والتكتلات الاجتماعية والثقافية، إلى جانب بعضها، وقد تكون منسجمة أو غير منسجمة. ثم يزيد سوركن -وهو ماركسي قديم منشق(3)- (كل ما ليس في أصله بنية حية لا يمكن أن يولد وينمو ويموت ). ومن هذا المنطلق لا يعتبر سوركن تفسير توينبي نظرية في التطور الحضاري، بقدر ما هي نظرات تقويمية لأغراض التقدم أو التأخر الحضاري.

كذلك سجل سوركن أن توينبي قال بأنه يدرس حضارات ولا يدرس دولاً، لكن أغلب شواهده جاء من الدول القومية، علمًا بأنه لا يعتبرها -أي توينبي- وحدات أساسية للدراسة التاريخية، وكان الأولى والأجدر به أن يأخذها من تاريخ الحضارات، إذا صح وجودها كوحدات مستقلة.. ويأخذ عليه الإطالة في كتابة (تاريخ العالم )، الذي جاء بـ (12) جزءًا، وذكر قضايا كثيرة حسمها من سبقه.

ومع ذلك يعترف سوركن بأن توينبي في دراسته للتاريخ جاء بأعظم الآثار الفكرية في هذا المجال.

ولعل من أفضل ما نقد به توينبي أنه -كمؤرخ- راح يأخذ الحوادث من إطارها الحضاري وظروفها التاريخية، ليبرهن بها على صحة نظريته في التحدي والاستجابة، ويفسرها ويوجهها كما يحب، فالعبيد في إيطاليا مثلاً، وعلى عهد الرومان، لا يشبهون السود في أمريكا، وليست ظروفهما واحدة. والاعتكاف للفرد شيء، ونقله لمحيط شعب أو أمة شيء آخر.

وأختم بما كتبه عن اليهود، وسبب عدائهم القاتل له(1):

(.. أما بالنسبة لادعائهم بأنهم أصحاب حق في المطالبة بتعويضات عن الجرائم التي اقترفها الألمان بحقهم، فإن لهذا الادعاء ما يبرره، ولكن ادعاءهم بأن ما اقترفته النازية بحقهم من جرائم تقضي بإعطائهم وطنًا خاصًا بهم، فهو ادعاء مردود من أساسه، وإذا وجد لهذا ما يبرره فإن هذا الوطن الخاص، يجب أن يمنح لهم في الأرض الألمانية، لا في الأرض العربية، التي يملكها أهلها منذ أكثر من ثلاثة عشر قرنًا ).

وإذا كان اليهود ما زالوا (يحلبون ) من الألمان ويبتزون، فضحايا دير ياسين، وتلاميذ مدرسة حوض وذبح أهل (قانا ) بلبنان، وضرب المفاعل النووي العراقي، وكهرباء لبنان، وتعويض كل لاجئ فلسطيني مما فقد، وكل أرض صادرتها إسرائيل، وكل بستان نهبته، حتى المقابر التي حولتها إلى فنادق، والمساجد التي حولتها إلى بقالات وحظائر للبهائم... كل ذلك يجب أن يدفع كاملاً، ومن أموال اليهود وليس من أموال العرب أو غيرهم.

5- مالك بن نبي(1):

هو مالك بن الحاج عمر بن الخضر بن مصطفى بن نبي يرحمه الله، ولد في مدينة قسنطينة في الجزائر عام (1323هـ/1905م) .

درس الابتدائية في تبسة، وفي المرحلة المتوسطة انتقل إلى قسنطينة، وهناك تعرف على مجموعة من تلامذة الشيخ عبد الحميد بن باديس، والذين كانوا ينافحون عن الإسلام، وكان يحرص على حضور الاجتماعات ليناقش في الموضوعات العلمية والدينية.

عام 1343هـ/1925م تخرج في المدرسة، وصار يبحث عن عمل، وقد سافر إلى فرنسا لكنه لم يفلح في الحصول على عمل، كما لم يحصل على فرصة عمل في الجزائر، مما اضطره للتقدم بطلب عمل، ولو بدون أجر، في محكمة تبسة، فقبل ذلك على أمل أن يتحول إلى موظف، وقد حصل له ذلك في محكمة آفلو.

لكن السفر إلى فرنسا والدراسة هناك كان من أحلامه، وقد وفق لذلك، وسجل في معهد الدراسات الشرقية، بشرط أن يؤدي امتحانًا، ولما أخفق تحول إلى مدرسة اللاسلكي، ثم إلى مدرسة الكهرباء والميكانيك، لكنه حرم من الشهادة لأسباب استعمارية كما يقول، ودرس المساحة، وإلى جانب ذلك كله كان يشارك بعض الطلبة الجزائريين دراسة خاصة -سرية- في الشعر والبلاغة والأدب.

وعاد إلى الجزائر عام 1932م للزيارة، وقد عزم على الهجرة للسعودية، لكنه لم يوفق، كما حاول الهجرة إلى مصر وأفغانستان وألبانيا، ولم يفلح. وفي عام 1375هـ/1956م، قدم إلى مصر وعاش فيها حتى استقلت الجزائر، فرجع إليها عام 1382هـ/1963م، حتى وافته المنية عام 1393هـ/1973م، في منزله بالجزائر.

مالك وقوس التحضر:

تقدم أن مالكًا يرحمه الله، من القائلين بدورة الحضارة، فهي عنده تمر بثلاثة أطوار(1):

أ- طور الروح (النهضة أو الميلاد )، ويبدأ من الصفر، وهو يتفق مع لحظة وجود أو ظهور دين في المجتمع، وبداية تركيب الحضارة، ويتميز هذ الطور بترويض الغرائز، بحيث تسلك في نظام خاص، يكبح جماحها، فالروح هي المسيطرة في هذا الطور على تطور المجتمع، والمسيرة له.. ويبرز ذلك في القدرة العالية على تكييف الطاقة الحيوية للمجتمع، بحيث يتأهل لأداء وظيفته التاريخية، ويظهر أثرها في إبراز المجتمع إلى عالم الواقع، أو تجسيد المبادئ من خلال المجتمع، وتكامل بنائه، في ضوء المبدأ الجديد. وهذا التكوين تنشأ معه الأسباب التي تؤدي بالمجتمع الوليد إلى الانتقال للطور الثاني من أطوار حضارته، فبقدر إشعاع الدين الجديد في العالم، تنشأ المشكلات المحسوسة لهذا المجتمع الوليد، نتيجة توسعه، كما تتولد ضرورات جديدة نتيجة اكتماله.

ب- وصول الحضارة إلى هذا الحد، يؤذن بانتقالها إلى الطور الثاني، وهو طور (العقل ).. ودخول الحضارة لهذا الطور يحدث بسبب توسع المجتمع واكتماله، فلكي تستطيع الحضارة تلبية الضرورات المستجدة تسلك منعطفًا جديدًا، وهو منعطف العقل، وهو يختلف عن سابقه، إذ أن العقل لا يملك سيطرة الروح على الغرائز، فتشرع حينئذ في التحرر من قيودها، بحيث تفقد الروح نفوذها على الغرائز تدريجيًا، كما أن المجتمع يكف عن ممارسة ضغطه على الفرد، ومن المسلم به أن الغرائز لا تنطلق دفعة واحدة، وإنما بقدر ما تضعف سلطة الروح.

ومن السمات المميزة لهذا الطور، اتجاه الأفكار لتكييف المادة، أو الناحية التقنية، بدل التوجه لتكييف الطاقة الحيوية، كما هي سمة الطور الأول... فالمجتمع يميل إلى إبطال صفة القداسة في مبادئه، بمقدار تقدمه في الطور الثاني، أي في طور المشكلات التقنية ومشكلات التوسع، بحيث يمكن تفسير هذه الظاهرة بطريقتين، فهي (تقدم ) من وجهة نظر الاقتصاديين، و(تخلف ) من وجهة نظر فلاسفة التاريخ، إذ هي بداية الانحراف أو الشيخوخة للمجتمع.

جـ- وهكذا يبدأ خط الانحراف في سير الحضارة، وما يزال يتسع إلى أن تصل الحضارة إلى الطور الثالث من أطوارها، وهو طور الغريزة (الأفول ).. وحينما يصل المجتمع إلى هذا الطور تكون الغرائز قد بلغت قمة تحررها، وأضحت هي المسيطرة على المجتمع، فتفقد الروح قدرتها على الهيمنة، وبذلك تتم دورة الحضارة، ويصل المجتمع إلى المرحلة الثالثة من مراحل التاريخ، أي مرحلة ما بعد التحضر.

سمات المراحل:

ولكل مرحلة من المراحل سمتها الخاصة، بحيث تتميز عن الأخرى سواء أكانت سابقة لها أم لاحقة، فيختلف وضع المجتمع من حيث التقدم أو التخلف أو التدهور حسب مرحلته التاريخية.

هذا العرض أو الاستعراض يناسب الحضارة الإسلامية، حيث بدأت مع انتشار الإسلام، وكانت قوية في صدر الإسلام، روحية مفعمة بطاقات الروح، حتى إذا وصلت إلى العصر العباسي، وبدأ تدوين العلوم والمعارف والترجمة، صار الطابع الغالب (العقل )، وفي أواخر العهد العباسي تحول المجتمع إلى مجتمع مترف، حيث امتلأت البيوت بالجواري الحسان والغلمان، فانفلتت الغرائز، حتى جاء الاجتياح التتري وسقوط بغداد.

ويمكن رصد مثل هذا (الخط ) في الأندلس، حيث وقعت الفاجعة، ورحل من رحل، وأحرقت الكتب في الساحات العامة، وهدمت الحمامات، وأقفرت المدارس والمساجد.

والجديد عند مالك هو ما يتعلق بحضارة اليوم، فكأنه يشارك توينبي أنها سائرة نحو السقوط، ولكنه يبحث عن (إرجاء إلهي ) يمنعها من السقوط.

أما مالك فوجد حلاً آخر -غير الإرجاء الإلهي- فحضارة(1)اليوم صارت حضارة العالم، لكثرة المشاركين فيها من كل أرجاء العالم، فانتقلت من حضارة مجتمع خاص إلى حضارة أوسع، ومن كونها ثمرة عبقرية معينة، إلى نطاق أعم وهكذا، ولذا فهو يرى أن قانون التغيير حدث فيه تعديل.

فالأحداث الحاضرة تدل على تغير طارئ في قانون الحضارة.. فالتطور الطارئ مع الحضارة الغربية، من الناحية الصناعية، وانتشارها من ناحية أخرى بفعل الاستعمار، نقل الحضارة من كونها في إطار مجتمع معين، أو ثمرة عبقرية معينة إلى نطاق عالمي، بحيث أصبحت العبقريات كلها تشارك في صنع الحضارة واستمرارها. وقد أحدث هذا التوسع تحولاً في طبيعتها التاريخية، فلم تعد خاضعة لقانون الدورات، فهي إنما كانت تخضع لهذا القانون حينما كانت في نطاق مجتمع معين، وعبقرية معينة، لا تلبث بعد مدة من الزمن أن تفقد إبداعها، فتأفل حضارتها.. أما في هذا العصر فليس هناك مجال بتوقع الأفول، لأن صنع الحضارة واستمرارها أصبح من شأن الشعوب الإنسانية كلها، فإذا تضاءلت الحضارة في مكان، فإنها تنمو في مكان آخر، وهذا الأمر يؤكد أن نهاية الحضارة الإنسانية -بعد هذالتطور- سيكون بالكسوف الكلي النهائي.

وقد ظهر أثر -هذا الامتداد- في اتجاه العالم نحو تحقيق وحدته المعنوية أو الحضارية، بعد تحقيق الوحدة من الناحية التقنية المادية، فما لبث العالم يقترب من تحقيق هذه الوحدة، وإن كانت أصول الاتجاه لهذه الوحدة تمتد في أعماق تطور النشاط البشري، فإنها أخذت في التجلي بشكل واضح منذ منتصف القرن العشرين. ومن مظاهرها، في المجال السياسي ظهور هيئة الأمم، وفي مجال المواصلات ظهور البريد العالمي، وفي الثقافة منظمة اليونسكو، إلى غير ذلك من المنظمات والاتحادات التي تظهر اتجاه العالم نحو تحقيق وحدته.

من ناحية أخرى، فهذ التطور يبرز حاجة البشرية إلى منهج رشيد يحقق وحدتها، في عهد حضارتها العالمية.. ومن خلال استقراء الأحداث الحاضرة يلمح مالك بن نبي دور الإسلام، باعتباره المرشح الوحيد القادر على تركيب الحضارة الإنسانية في عهدها العالمي.

نهاية حضارة اليوم:

والذي أتصوره أن الحضارة الإسلامية قد شارك فيها أمم وشعوب مسلمة وغير مسلمة، ولم يمنعها ذلك من السقوط، ولكن يمكنني القول: بأن حضارة اليوم وبفضل النمو الهائل في العلوم والمعارف، صارت قادرة على معالجة ما يواجهها من مشاكل بطرق علمية سليمة ستطيل من عمرها.

لكنها بما حققته من صناعات حربية، ومن أسلحة فتاكة، فمتى ما اشتعلت حرب كونية، كالحرب العالمية الأولى أو الثانية، فإن نهاية هذه الحضارة ستقع، وفي مدة قصيرة جدًا، تتناسب مع فتك الأسلحة الجديدة والصوايخ عابرة القارات وغيرها.

وإن ما حدث في (شارنوبل ) ومفاعلها أكبر تحذير، فهناك أربع مفاعلات، تعطل واحد منها وراح يسرب إشعاعات قاتلة، ولولا رحمة الله سبحانه وتعالى، ثم الإمكانات الكبرى، لأمكن أن يستمر الإشعاع، وقد يتبعه مفاعل آخر، وهكذا..

ولو حصلت الحرب واستعملت كافة أنواع الأسلحة الفتاكة، فإن الحياة ستنتهي على الأرض خلال ساعات. علماؤنا يقولون: من حرك ساكنًا لزمه، وقد حركت حضارة اليوم مليون ساكن، والويل للعالم إذا تحركت كل السواكن، وتفجرت كل الأسلحة، فهنا يصدق قول الحق: {وإذا البحار سجرت } (التكوير:6).

وتسجير البحار اشتعالها، ولن يشتعل الماء إلا بفعل مادة كيماوية تجعله كذلك، وعلينا أن نتصور اشتعال المياه كافة، فستتحول الأرض إلى جهنم حمراء، فتموت جميع الأحياء، صغيرها وكبيرها، وخلال مدة وجيزة، وقد تكون نهاية عالمنا، وبداية الحياة الثانية.

وقد يكون قول الله تعالى: {قل هو القادر على أن يبعث عكم عذابًا من فوقكم أو من تحت أرجلكم أو يلبسكم شيعًا ويذيق بعضكم بأس بعض } (الأنعام:65)، قد تكون صورة قريبة، حيث ينصب العذاب على الرؤوس، وتتفجر الأرض، وقد تنقسم الأمم والشعوب إلى جماعات متناحرة، يضرب بعضها بعضًا، فلا تكون حياة ولا نجاة، ليس للإنسان فقط، ولكن لجميع الأحياء.

إن حضارة زودت إنسانها بكل وسائل الدمار الشامل، التي لا تبقي ولا تذر، والتي لا ترحم إنسانًا ولا حيوانًا ولا نباتًا، لا تترك فيلاً ولا بعوضة.

ويصور الله جلَّ وعلا نهاية الحضارة، فيقول: { حتى إذا الأرض زخرفها وازينت وظن أهلها أنهم قادرون عليها أتاها أمرنا ليلاً أو نهارًا فجعلناها حصيدًا كأن لم تغن بالأمس كذلك نفصل الآيات لقوم يتفكرون } (يونس:24).

قد يعترض معترض فيقول: أين علامات الساعة؟

فأسارع للقول: أنا أتحد ث عن نهاية حضارة اليوم، وليس نهاية العالم، فقد يتم تدمير هذه الحضارة بمنجزاتها، فيعود العالم قرونًا إلى الوراء، وهذا ما أقصده وأعنيه.

=============

# نحن والحضارة والشهود (الجزء الثاني)

تقديم بقلم: عمر عبيد حسنه

الحمد لله الذي جعل القرآن شاهدًا على الكتب السماوية السابقة، وجماع رسالاتها، ومحققًا الاكتمال والكمال لتاريخ النبوة، ومؤكدًا لوحدتها، مصوبًا لمسيرتها، ومبينًا علل التدين التي لحقت بأصحابها وكانت سبب سقوطهم، ليكون ذلك يبانًا وهدى وموعظة وتقوى للأمة الخاتمة التي لا يتحقق شهودها ما لم تتعرف على قوانين الحركة التاريخية وسنن السقوط والنهوض الحضاري.

كما جعل الرسول صلى الله عليه وسلم شاهدًا على الأمة المسلمة والأمم السابقة بما نيط به من البيان للهيمنة والشهود القرآني.

وجعل الأمة المسلمة، بما تؤمن به من قيم القرآن والبيان النبوي وتتمثل بهما، شاهدة على الأمم، شهودًا تاريخيًا من خلال عطاء القصص القرآني، وشهودًا واقعيًا من خلال تقويمها للحاضر بقيم القرآن والبيان النبوي، وشهودًا مستقبليًا من خلال بيان معالم طريق النجاة والصراط المستقيم ووضع الضوابط التي تحمي السائر من السقوط حتى لا يضل ولا يشقى.

والصلاة والسلام على النبي الخاتم، الذي جاء بمقومات الشهود التاريخي والمستقبلي، فورث النبوة والكتاب، وتوقف تاريخ النبوة عند بعثته وجُعلت معايير ومقومات الشهود التي جاء بها خالدة مجردة عن حدود الزمان والمكان والأشخاص.. وبعد:

فهذا ( كتاب الآمة ) الحادي والثمانون: (الجزء الثاني ) من كتاب ( نحن والحضارة والشهود )، للدكتور نعمان عبد الرزاق السامرائي، في سلسلة الكتب التي يصدرها مركز البحوث والدراسات في وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية في دولة قطر، في محاولة لمعاودة إخراج الأمة المسلمة، وإحياء رسالتها الإنسانية، والمساهمة في استرداد الدور المنوط بها من الوعي بذاتها والشهود على نفسها، والوعي ( بالآخر )، محل الشهود والدعوة، والوعي بمعايير ومقومات الشهود، والعودة بالأمة إلى موقع الوسطية بكل مدلولاته وأبعاده الإيجابية غير المنحازة، التي تعيد التوازن وضبط النسب وتحمل ميزان الاعتدال، استجابة لقوله تعالى: (وكذلك جعلناكم أُمةً وسطًا لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدًا ) (البقرة :143).

فهذا الجعل من الله، أو هذا الموقع الحضاري والثقافي الوسط، وهذه النبوات التاريخية التي توحدت بالرسالة الخاتمة: (وإنَّ هذه أُمتكم أُمةً واحدة وأنا ربكم فاتقون ) (المؤمنون:52)، التي أكدت وتمحورت حول الوحدانية لله عز وجل، التي ألغت الآلهة المزيفة، وأوقفت تسلط الإنسان على الإنسان، منبع الشر والفساد الحضاري…

هذا الجعل الوسط، بكل آفاقه وأبعاده ومقتضياته، هيأ الأمة المسلمة لأهلية تحمل الشهادة على الناس، ـ وأهلية أدائها لهم، ليستقيم أمرهم. ذلك أن النكوص عن هذا التحمل، والقعود عن هذا الأداء، يترتب عليه مسؤوليات جسام، ويكون سبيلاً لإشاعة الفساد في الأرض، والخراب الحضاري، وظهور الآلهة المزيفة والأنبياء الكذبة، وعودة أصول الشر الكامن في تسلط الإنسان على الإنسان، وإهدار إنسانية الإنسان وكرامته، قال تعالى: (والذين كفروا بعضهم أولياءُ بعض إلا تفعلوه تكن فتنةٌ في الأرض وفسادٌ كبير ) (الأنفاق:73).

إن الكفر في حقيقته، هو عدول عن الإيمان بالله والتلقي عنه إلى آلهة أخرى.. فإذا لم يحقق المسلمون الشهود الذاتي بكل مقتضياته، من موالاة لله تعالى، ورسوله صلى الله عليه وسلم وموالاة للذين آمنوا، ونكلوا عن الحمل، كان ذلك إيذانًا بفتح باب الشر والفساد والسقوط الحضاري (إلا تفعلوه تكن فتنةٌ في الأرض وفسادٌ كبير ) (الأنفال:73).

ذلك أن درء الفتنة عن الأرض، والحيلولة دون الفساد الكبير، يقتضي بروز قوامة العدل، وشهادة العدل، وأمة العدل، وهذا منوط إلى حد بعيد بوعي الأمة المسلمة لذاتها، ووعيها لرسالتها، وأبعاد مستلزمات شهادة الرسول صلى الله عليه وسلم عليها، لتصويب طريقها وتأهيلها للشهادة الإنسانية، ووعيها بالناس الذين كُلفت بالشهادة عليهم، يقول تعالى: (يا أيها الذين أمنوا كونوا قوامين لله شُهداء بالقسط ولا يجرمنكم شنئانٌ قومٍ على ألا تعدلوا، اعدلوا هو أقربُ للتقوى واتقوا الله ) (المائدة: 8)، ويقول سبحانه: (يا أيها الذين أمنوا كونوا قوامين بالقسط شهداء لله ولو على أنفسكم أو الوالدين والأقربين ) (النساء :135).

إن أعباء هذا الجعل الوسط ومسؤولياته وما يتطلبه من القوامة المستمرة على حماية قيم الأمن والحق والعدل، واحترام حقوق الإنسان، وتحقيق كرامته، لمجرد كونه إنسانًا مهما كانت عقيدته، استجابة لقوله تعالى: (ولقد كرَّمنا بني أدم وحملناهم في البر والبحر ورزقناهم من الطيبات وفضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلا ) (الإسراء: 70)، والاضطلاع بأعباء هذا الجعل الوسط غير المنحاز عن قيم الحق والعدل، وحسن القيام بأعباء الاستخلاف الإنساني، أو بتعبير آخر: تجسيد قيم النبوة واعتماد معاييرها في التعامل مع الذات و (والآخر )، هو الذي يؤهل الأمة لهذه الوسطية وهذه الشهادة والقيادة والحراسة لتلك القيم الإنسانية.

وقد يكون المطلوب باستمرار تحرير معايير الشهود الحضاري، وإبصار مقوماته، والاجتهاد في وضع البرامج والآليات لحسن ممارسته وفك احتمال تلبسه بالأشخاص والأجناس والأقوام… إلخ، بحيث تبقى هذه المعايير قيمًا مجردة منفتحة على بني الإنسان جميعًا، يمكن التحلي بها والتعامل معها واختيارها من قبل الجميع، لأنها في حقيقة الأمر ليست حكرًا على أحد، وبالتالي تصبح من حق الجميع ابتداءً، ومن واجب الجميع حراستها من الانتحال والانحراف أو التأويل الباطل في نهاية المطاف.

إذ لا يمكن أن نتصور بحال من الأحوال أن يكون الإنسان، بأنشطته المتعددة ورغباته ونزواته وتطور إمكاناته المستمر، وما يعرض له من السقوط والنهوض، هو المعيار والشاهد على نفسه وعلى الآخرين، لأنه بذلك يصبح المعيار وموضوع المعايرة في الوقت نفسه، إضافة إلى أن الله قد خلق الخلق كلهم وكأنهم يعيشون على مائدة مستديرة، متساوين في الحقوق والواجبات الإنسانية، لا يرى أحدهم فضلاً لأحد على آخر.. فكيف يمكن لإنسان أن يقبل وضع القيم المعيارية لسلوكه ونشاطه من قبل إنسان آخر يماثله؟ وما هي الضمانات ألا تكون تلك القيم وسيلة للتسلط والاستبداد؟

فإذا كان الإنسان عاجزًا عن وضع المعايير لنفسه، التي تتقلب في الرغبات والرهبات والنزوات والإمكانات والظروف المحيطة والضغوط المختلفة، الأمر الذي يضطره إلى تغيير أحكامه ومعاييره والحكم بقصورها أحيانًا ونقضها في أحيان أخرى، فأنى له أن يضع معايير لغيره؟

يضاف إلى ذلك أن منبع الشر في التاريخ البشري كان كامنًا في تسلط الإنسان على الإنسان، حيث أخذ هذا التسلط أشكالاً متعددة، من اللون والقوم والطبقة والجنس والدين (رجال الدين في الحكم الثيوقراطي ) والحزب والقبيلة.. إلخ .. وأن هذا التسلط كان ولا يزال هو سبب البلاء والوباء الحضاري، وأن إنسانية الإنسان لا يمكن أن تتحقق وتسترد ما لم يوقف هذا التسلط، وتصبح المعايير الحاكمة والقيم المقومة للسلوك تستمد من جهة أخرى، خارجة عن سيطرته ووضعه أصلاً.

لذلك نقول: بأن عملية الشهود الحضاري على الذات و(الآخر ) تتطلب قيمًا ومبادىء ومعايير مستمدة من مصدر آخر، يتساوى الناس أمامه، ولا يملك أحد الحق فيها دون آخر إلا من يؤمن بها ويعمل لها، والإيمان بها متاح للجميع.. إنها قيم النبوة الخالدة، الثابتة، المستمدة من خالق الإنسان، الذي يعلم خصائصه وطاقاته وغرائزه وحاجاته وما ينفعه وما يضره، قال تعالى: (ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير ) (الملك: 14).

فالعلم بالإنسان والخبرة به، لا يحيط بها إلا خالق هذا الإنسان، ونصيب الإنسان من هذا العلم لا يؤهله لوضع المعايير.

لذلك نعتقد أن التحقق بهذا الجعل الوسط، الذي يؤهل للشهادة على الذات و(الآخر )، بحاجة دائمًا للتقويم والمراجعة للمحافظة على سلامة المعيار، وعدم تلبسه بالأشخاص، واكتشاف الخلل، وتحديد أسبابه، وتصويب المسار، وهذه هي الشهادة على الذات التي تؤهل للشهادة على (الآخر ).

والمعروف أن الشاهد من حيث الخصائص والصفات، أو أهلية الشهادة المعتمدة، وصفاتها هو كالقاضي، سواءً بسواء.. فالشاهد في بعض أبعاد الشهادة هو قاض، بكل ما يتطلب القضاء من خصائص وصفات في القاضي، وما يتطلب من معرفة بالمعايير القانونية التي تحكم على الحادثة بأنها جريمة وخروج غير مشروع، أو هي تقع ضمن العمل المشروع، فإذا سقطت العدالة أو خرمت الكفاءة سقطت أهلية الشهادة، فأصبح غير مؤهل لتحمل الشهادة ولا لأدائها.

وفي تقديري، أن الأمة المسلمة، باعتبارها أمة الفكرة أو أمة العقيدة، حيث إن كل من يؤمن بهذه العقيدة ويتحقق بهذا الخيار فهو مسلك في الأمة الوسط الشهيدة، مهما كان جنسه أو لونه أو قومه أو جغرافيته، بعيدًا عن الانغلاق والتعصب والتميز، مؤهلة بهذا الاعتبار، وهذا الخيار، وهذه الموازين للكرامة والتأهيل، لحمل الشهادة وأدائها.

نعود إلى التأكيد، أن القيم والمعايير، المستمدة من خالق الإنسان، العالم بكينونته وحاجاته ونزواته وشهواته وأهوائه، المجسدة في سيرة النبوة وبيانها، بعيدًا عن وضع الإنسان وعبث الإنسان، واستغلال الإنسان، مؤهلة لأن تكون معايير الشهود على الذات، و(الآخر ). لذلك فالقيم المستمدة من النبوة لا يمكن إلا أن تكون واقعية، قابلة للتطبيق، حيث تعتبر مناط التكليف هو استطاعة الإنسان وفطرته واستعداداته.

إن قيم الشهادة والشهود والتجربة التاريخية، التي تجسدت في حياة الناس، بمختلف أحوالهم وأوضاعهم وأجناسهم، فأنتجت حضارة لبني الإنسان جميعًا، هي قيم ومعايير واقعية غير خيالية أو طوباوية مثالية غير قابلة للتطبيق، لذلك فهي باستمرار مؤهلة للشهود والشهادة على الناس.

فالقيم التي تعتبر الخيار وعدم الإكراه مرادفًا لإنسانية الإنسان وكرامته، هي قيم مؤهلة للحكم والشهادة والقيادة للناس.

والقيم التي استوعبت الحركة الحضارية التاريخية، وقدمت قوانين وأسبابًا وسننًا لسقوطها ونهوضها، وانتهت إليها أصول النبوات السابقة، واستصحبت الصواب من تاريخ الإنسانية وتجاربها، وحددت مواطن الخلل، وحررت المعايير في الانحياز، مؤهلة للشهادة على الذات و (الآخر ).

وحسبنا أن نقول : بأن المساواة والعدالة، وحرية الاختيار، والشورى في اختيار الحاكم وإدارة شؤون الحكم، وإيقاف تسلط الإنسان على الإنسان، وإقامة حراسة بإيقاظ الوازع من داخل النفس، ووضع تشريع ملزم من خارج النفس لضبط المسيرة، هي قيم جديرة بالشهادة على الذات و (الآخر ).

من هنا نقول : إن مصدرية هذه القيم وخصائصها، هو الذي مكنها من البقاء والاستمرار والقدرة على الإنتاج في عصور متعددة وشعوب متعددة وجغرافيا متعددة، بحيث لا تستطيع أمة أن تدعي لنفسها هذه القيم إلا بمقدار ما تلتزم بها وتحملها (للآخر ) لإنقاذه من أزماته، واسترداد إنسانيته.

إن من المسلمات التاريخية أن الحضارات والأمم بقيمها وأفكارها القادرة على الإنتاج في كل الظروف والإمكانات، وليست بعالم الأشياء المادية، وأن عالم الأفكار إذا بقي سليمًا معافى ومحفوظًا، يؤهل الأمة التي تحتفظ بتلك القيم باستمرار لإمكانية معاودة النهوض، ولا أدل على ذلك من القيم الإسلامية الحضارية التي استطاعت باستمرار أن تنتشل الأمة، وتحميها من الموت، وتدفعها إلى معاودة النهوض والإقلاع الحضاري.

ولعل من الملفت أن سنن التداول الحضاري، أو الدورات الحضارية، التي حكمت الحضارات جميعًا، سقوطًا، ونهوضًا، وهي سنن ثابتة لا تتغير ولا تتبدل: (فلن تجد لسنت الله تبديلاً ولن تجد لسنت الله تحويلا ) (فاطر: 43)، لم تنج منها الحضارة الإسلامية، لأنها قانون الحركة التاريخية، الذي أكده القرآن، كتاب الأمة المسلمة . في شهوده التاريخي.. إلا أن القيم الإسلامية، أو عالم الأفكار المستمدة من النبوة، كانت شاهدة على الأمة المسلمة، فمكنتها من اكتشاف الخلل ومعاودة النهوض حال السقوط، وكانت شاهدة ودافعة للشهادة على (الآخر ).

لقد حقت سنة التداول الحضاري بعالم الأشياء في الأمة المسلمة، كغيرها من الأمم، عندما غابت شهادتها على نفسها، ولكنها لم تصب عالم الأفكار والقيم، لأنها ليست من وضعها، وليست ملكًا لها، وبقي الإمكان الحضاري كامنًا في عالم أفكارها، في قيمها.

وبمجرد أن تتمكن الأمة المسلمة من إعادة التعامل مع عالم أفكارها، وتقويم واقعها بقيم الكتاب والسنة، وتحديد مواطن الخلل وأسبابه، لا تلبث أن تعاود النهوض، الأمر الذي لم يتحقق لسائر الحضارات البشرية التي سادت ثم بادت وتحولت من شاهد إلى مشهود.

والحقيقة التي لا بد من التذكير بها هنا، هي أن الكلام عن القيم وعظمتها وخلودها، وبعدها عن وضع الإنسان وعبثه، واستجابتها لحقائق الحياة والحاجات الإنسانية الأصلية، ومراعاتها للفطرة وعدلها، وما إلى ذلك، لم يدع استزادة لمستزيد في الأدبيات الإسلامية المعاصرة، وكأن ذلك في بعض مراحله أصبح نوعًا من التعويض والاحتماء، بينما يجب أن يتحول الكلام - في تقديرنا - في معظمه إلى كيفية الشهادة على الذات التي تؤهل للنهوض والشهادة على (الآخر ).

إن تحديد مواطن الخلل، وإعادة تقويم الذات بقيم الإسلام، ووضع البرامج والآليات لذلك، أصبح ضرورة حضارية، ذلك أن عظمة هذه القيم لا تتناسب مع خيبة واقع الأمة التي تُنسب إلى هذه القيم.

إن عدم الشهادة على الذات، وإعادة تقويمها بقيم الإٍسلام، نوع من الخيانة الحضارية للذات و(الآخر )، ومحاصرة للقيم نفسها، وعزلها عن الحضارة والشهود الحضاري.

وقد لا نحتاج إلى التأكيد أن قيم الإسلام بعد هذه الرحلة الحضارية والتجربة التاريخية والإنجاز الحضاري، لم تعد بحاجة إلى شهادتنا عليها، وإنما نحن بحاجة لشهادتها علينا.

إن خيانة الحضارة الإنسانية، فتح للباب أمام الفساد الكبير والفتنة في الأرض، ووقوع في المسؤولية الكبرى، وعطالة حضارية في عدم الاستجابة لقوله تعالى: (والذين كفروا بعضهم أولياء بعض، إلا تفعلوه تكن فتنةٌ في الأرض وفسادٌ كبير ) (الأنفاق : 73).

إن غيبة الشهادة على الذات، التي تقود إلى الشهادة على (الآخر )، تؤدي إلى مسؤولية كبرى.. فإذا كان من خصائص الأمة المسلمة الشهادة على الناس، فإن النكوص والغياب عن هذه الشهادة إضاعة للحق والعدل والأمن، وإيذان بالسقوط الحضاري البشري.

وفي هذا الجزء الثاني من الكتاب، الذي يعتبر استكمالاً للجزء الأول، الذي حاول الباحث فيه أن يعرض لقصة الحضارة والعوامل المؤثرة في التحضر، ويرصد مسارات حركة التحضر، ويقدم نبذًا عن الرؤى المتعددة والرئيسة لدورات التحضر، على المستوى الإسلامي والمستوى العالمي، وأشهر المذاهب والتفسيرات لحركة الحضارة والفعل الاجتماعي، مما يكاد يشكل مسحًا للمكتبة الحضارية إلى حد بعيد، يمكن أن يكون أحيانًا تجاوز فيه الاقتصار على الإحالة إلى المراجع إلى إثبات الكثير من المساحات المقتبسة منها، ولعله أراد بذلك التقدم بخطوات أكثر باتجاه القارىء، حيث قد يُرى أنه لا بد أن يترك لجهده وتفكيره استكمال بعض الجوانب ليكون القارىء شريكًا في العملية الثقافية.

لقد حاول الباحث في هذا الجزء - ما أمكن - الإحاطة بالرؤية الإسلامية، والتوقف عند بعض خصائصها وأبعادها المتفردة، التي أهلتها للشهود الحضاري على الذات و(الآخر ).

ولعل من الأهمية بمكان أن نوضح، أن ملف الشهود الحضاري ملف مفتوح ومستمر استمرار التاريخ على الأرض، بكل ابتلاءاته، وهو محتاج بطبيعته لاستكمال شعبه المعرفية وأدوات بحثه واستصحاب قيم الوحي لهداية العقل.. وسوف لا يغلق، ولا تتوقف الشهادة والمسؤولية الحضارية، حتى تتوقف الحياة، بكل مناشطها وتضاريسها وسقوطها ونهوضها.. وستبقى قيم النبوة الخالدة الثابتة البعيدة عن وضع البشر وعبثهم وأهوائهم، هي الشاهد على البشر جميعًا، سواء في ذلك أمة الاستجابة أم أمة الدعوة.

والحمد لله رب العالمين

=============

# الله تعالى، الكون، الإنسان، الشهادة على الناس أولاً: الله تعالى وصفاته

إذا نظر الإنسان فيما حوله، فماذا سيجد؟ نفسه والكون "الطبيعة " من حوله.. فإذا تساءل: من خلق الكون وما فيه؟

أنا خلقت نفسي وما حولي؟! الكون خلقني وما حولي؟! من نظم الكون، من جعله يسير وفق سنن تضبط حركته، وتمنع خرابه؟ لا يتصور عاقل أنه خلق نفسه ولا غيره ولا الكون.

إذن لا بد أن يكون الخالق "قوة" ثالثة، حية مريدة عاقلة مسيطرة، وهي الله تعالى.

قد يعترض إنسان فيقول: هذه ليست طريقة علمية في الإثبات أو الاستدلال. نعم إن العلوم لا تثبت ولا تنفي العالم الروحي، رغم أنها تعالج وتفسر الكثير من الظواهر، التي تحدث في الطبيعة والكون، والتي تكون مبنية على أساس فلسفي بحت.

من هنا علينا أن نلتزم بالجانب العلمي، مع الاستدلال المنطقي الصرف، حيث يكون ما نتوصل إليه سليمًا وصحيحًا، من ناحية الاطمئنان العقلي في المفاهيم اللامرئية. فعندما يكشف لنا العلم بأن هناك عشرات من الحقائق لا تخضع إلى أي تفسير مادي صرف، فالمطلوب هو الاستدلال المنطقي لتلك الحقائق، ونختزل منها:

1- إن سلوك أي جزء في المادة، هو سلوك منتظم دقيق، ولا يمكن أن يكون في تخبط عشوائي قط.

2- جميع الكواكب والنجوم والأجرام الأخرى، موزعة توزيعًا في غاية الدقة، وغاية الانتظام الصارم الجميل، في سائر الكون.

3- محال أن يكون نشوء الخلية من المادة ذاتها، لأن الجزىء البروتيني الواحد يحتوي على (40.000 ) ذرة، وعدد العناصر الكيماوية في الطبيعة هي (92 ) فقط، إذن يتطلب ذلك زمنًا خياليًا، بغية نشوء جزىء بروتيني واحد يكون أكبر من عمر الكون، بملايين المرات.

لذا يتوجب علينا أن نتخذ الاستدلال المنطقي، في التحليل العقلي، لأية محصلة يصل إليها العلم، ومن تلك المحصلات ندرك بأن هناك "خالقًا عظيمًا " قدر كل شيء فأحسن تقديره، وعلينا أن لا نضع رؤوسنا في الرمال، ونتوحل في المادة، تحت رداء علمي، حصيلته النهائية ليست فيه.

إنه يتوجب علينا أيضًا أن نسلم بوجود خالق حكيم، دبر كل شيء، وقبل تسليمنا بحقائق العلم، والاستدلال المنطقي، نكون قد وفقنا بالحفاظ على العلم والفلسفة، وبالتالي لا يوجد هناك تناقض ما في نفي حقيقة ما، بل إن كل الحقائق تشهد على حقيقة الحقائق، ألا وهو الله الخالق.

إن التطور العلمي تجاه الكون، قد برهن بصورة قاطعة وجلية على وجود الله الواحد الخالق (1).

لقد افتتح الروس معهدًا في موسكو، كان يستهدف تصنيع خلية حية، وبعد جهود متواصلة جاوزت نصف قرن، لم يستطع العاملون بالمعهد، سوى شطر خلية إلى نصفين.

كان الإلحاد عملاً فرديًا، لكن الشيوعيين جعلوه هدفًا، وسخروا كافة إمكانات الدولة لذلك، هذا أمر جديد على العالم.. لقد كان الإلحاد موقفًا شخصيًا، فصار موقفًا رسميًا ، تسخر له ميزانية دولة ، بكافة قدراتها.. وبعد ما يقارب ثلاثة أرباع القرن، انتهى كل ذلك، وتبخر خلال سنوات قليلة (2).

وبينما راحت الأديان السماوية تصف الله تعالى بأنه "أزلي ليست له بداية ، لم يولد من أحد، ولم يستحل أو يتطور من موجود آخر، إنه أبدي ليست له نهاية، لا يموت ولا يفنى مطلقًا، ولا ينقص شيء من إرادته وقدرته، وهو منزه عن المادة، أي إنه فوق مستوى حواسنا القاصرة الفانية، لا تدركه الأبصار، ولا تصل إليه الأيدي، ولا تستطيع حاسة أن تدركه أو تبلغه، ثم إنه منزه عن الزمان والمكان، وهو قادر مطلق، وكل شيء يدخل تحت هذه القدرة والإرادة المطلقة، دون حاجز أو مانع.. وهو يتصف بكل صفات الخير والكمال والجمال، والعلم والعدالة والرحمة…إلخ.

وهذه الذات الإلهية خلقت السماوات والأرض والملائكة أولاً، ثم خلقت النباتات والحيوانات على سطح الأرض… "(3).

هذه الصورة لله تعالى ترسمها الأديان السماوية، فكيف يرسم كهان العلمية، صورة الكون بدون إله؟!

"والحقيقة أن المادية، التي تسمي نفسها بـ (المادية العلمية )، لا تعتقد بوجود الله القادر المطلق، وإنما تقيم مكان هذه العقيدة قوانين الصدفة والسببية " (4).

إن الأديان السماوية - خاصة الإسلام- تعتبر القوانين الطبيعية قوانين إلهية، وضعها الله وفق خطة معينة ، ولغاية محددة، بينما يقول الماديون: إن هذه القوانين لم يضعها أحد، وإنما جاءت نتيجة صدفة، وتأسست من نفسها، دون تدخل من أحد، وكل ما في الكون من موجودات، أساسها مادة أزلية، لا تفنى ولا يمكن أن تُستحدث، وليس لوجودها بداية ولا نهاية، وغير قابلة للفناء، ولكنها في استحالة دائمة، يتغير شكلها باستمرار.

وهذا يسري على الإنسان، وكذلك الحياة، فليس كلها من صنع خالق. وما هذه الحياة إلا وليدة "الصدفة"، قد تكونت بنفسها، دون تدخل من أحد، ثم ارتقت من طور إلى طور.

وهم ينكرون كافة العقائد السماوية، ويصفونها بأنها من العصور الغابرة، وكل من يدعو لدين، فهو يريد رد المجتمع إلى العصور القديمة.

العلم والدين:

يقول بعض هؤلاء: إن الأديان كانت مفيدة في عهود الجهل، وبما أنها لا تستند إلى أي أساس علمي، فإن الأمم بعد أن تستضيء بضياء العلم، سوف تزول منها الأديان في وقت قريب…

والذي يصعب فهمه وقبوله، أن من يقول بأن هذا الكون بما يحويه، هو من صنع عالم مريد، خلقه وفق تصور سابق، يقال له: هذا كلام غير علمي وغير مقبول.

والذي يقول: بأن العالم والحياة وجد بالصدفة، تكون مقولته علمية وفلسفته كذلك!

إن العلم الذي يلوكونه ليل نهار، عاجز عن إثبات أو نفي كثير من قضايا الدين، بسبب اختلاف المنهج والهدف، يقول باشكيل(5): "إن العالم غير المحسوس والعالم اللامادي يبقى خارج إطار العلم، فهو لا يستطيع أن يصدر أي حكم سواء أكان نفيًا أو إيجابًا، إنكارًا أو تصديقًا ، في المسائل التي لا تدخل المختبر، ولا تجري عليها الأقيسة.. إن العلم يستطيع أن يقول شيئًا واحدًا فقط: لا أدري.

إن المواضيع الدينية، كعقيدة الله واليوم الآخر، والمسائل التي تتعلق بهذه العقائد، هي حقائق تعود إلى العالم اللامادي، وإن إصدار أي حكم باسم العلم، وإنكار هذه الحقائق، إنما هو افتراء على العلم، واستغلال أثيم له، لأن هذه العقائد خارجة عن تناول البحث العلمي.. وتجارب الحياة وحدها، هي التي تستطيع أن تبين لنا قيمة هذه العقائد.. فالإنسان كلما سار وتقدم في درب هذه الحياة، اتضح له أن فراغ القلب من الإيمان لا يعوضه ولا يملؤه المنصب ولا الجاه ولا الثروة ولا أي عرض من أعراض هذه الدنيا.

إن المواضيع الخارجة عن نطاق العلم، لا تقتصر على العقائد الدينية وحدها، فكنه المادة والقوة، ومنشأ الشعور والإحساس وحركته، وماهية العقل والإرادة، ومدى حرية هذه الإرادة، كلها من الأمور غير المادية. وكذلك الخير والشر، العدالة والظلم، الفضيلة والرذيلة، وأشباهها من قواعد الأخلاق، كلها تبقى خارج حدود ونطاق العلم، بل إننا نستطيع القول: بأن المواضيع الخارجة عن ساحة العلم، بالنسبة إلى المواضيع الداخلة في ساحته، بمثابة البحر الواسع إلى قطرة ماء، وإن نسبة ما يعلمه الإنسان إلى ما يجهله، كذرة في فلاة مترامية ".

إذن لكل من الدين والعلم مجالات تخصه، ولكل منهجه، فالعلم يصف، والدين يبين الغاية، والعلم يجيب عن كيف؟ والدين يجيب عن لماذا؟

العلم والمرجعية:

يطرح د. برهان غليون سؤالاً هامًا عن مصدر معلوماتنا ومرجعيتها، فيقول(6): ما هو مصدر معلوماتنا الصحيحة، أي ما معيار التمييز بين الحق والباطل؟ ومن ثم ما الذي يكفل صحة معارفنا وأحكامنا العقلية وصلاحيتها؟ ونستطيع أن نطرح الموضوع بطريقة أبسط فنقول: كيف يكون الواقع مطابقًا لذاته؟ أي متسقًا ومن ثم معقولاً ومقبولاً؟

ليس هناك مجتمع يمكن أن ينشأ أو يعيش دون أن يحدد لنفسه أسس المعرفة "اليقينية"، وشروط نمو هذه المعرفة، التي هي أساس نشوء العلم وتطوره، وسبب ومبرر وجوده. ومن هذه الأسئلة يصدر السؤال الأعم، الذي يتعلق بنا مباشرة، وهو: لماذا لم يتطور العلم الحديث في المجتمعات العربية المعاصرة؟ وكيف يمكن تجاوز العقبات التي تقف أمام هذا التطور؟

تفترض أيديلوجية "الحداثة " مسبقًا أن الواقع المطابق لذاته هو الواقع الحديث المساير للحداثة، وأن كل مظاهر الحياة التقليدية وأنماطها، ليست إلا واقعًا "مفوّتًا " لا انسجام فيه، أي ليس له أي قوام حقيقي ولا مبرر.

إن وجوده هو مظهر من مظاهر اللاعقلانية والانحطاط، أي هو شذوذ.. "فالحداثة ": هي معيار العقلانية والصحة، ولا يمكن للمعرفة أن تكون صحيحة ويقينية إلا عندما يكون نموذجًا هو الواقع المطابق لذاته، والمتسق في ذاته، أي الواقع الحديث المعاصر. والعلم بوصفه أحد منتجات هذه المعاصرة الكبرى، يشكل إذن بالضرورة، معيار صحة أفكارنا عن الواقع الذي نعيش فيه، فبقدر ما تكون هذه الأفكار مطابقة للعلم، تكون يقينية… إن مطابقة أفكارنا للعلم هي إذن قاعدة الموضوعية، والعلم كما هو مجسد في نظم معرفية جاهزة، هو ضامن صحة هذه الأفكار ويقينيتها.. إن هذه المحاكمة تقول عمليًا: إن أصل المعرفة اليقينية - أي العلم - هو العلم نفسه (7)…

وإنما تضفي على المعرفة العلمية صفة الحقيقة المطلقة، والمنزلة التي تشكل في ذاتها المبتدأ والمنتهى، وهي لذلك تعجز عن أن تفسر نشأة العلم، وأقل من ذلك، تطوير التجربة العلمية، وتضع نفسها في وضع المترجم الدائم، والناقل للعلوم، أي تخرج من المسعى العلمي، في الوقت الذي تقدس فيه العلم كثمرة وكنتاج جاهز للعقل. إنها تجعل من العلم معرفة "لا هوتية مقدسة " مفصولة عن الواقع الذي استحدث منه، وعن المجتمع الذي ظهرت فيه، وعن الذات التي أنشأته، وعن المطلب الذي وضع له… إنها اكتفت بالاستهلاك العلمي، بدل أن تمارس الإنتاج العلمي الحقيقي… لقد أصبح الموقف السائد: العلم موجود إنه قائم هناك، جاهز ومتطور، وليس علينا إلا أن نأتي به، أن ندخله عندنا، أن نفسح له المجال ونرعاه، وبذلك حرمنا أنفسنا من كل قدرة على مناقشته أو الإضافة إليه.

إن البعض عندنا يهرب من الميتافيزيقية الدينية، ليسقط في ميتافيزيقية علمية، يهرب من حقائق الدين، ليسقط في حقائق العلم، هكذا تبدو العملية (8).

إن أهل الحداثة يرون - باسم العلم ومن أجل اكتسابه - أن علينا التخلي عن كل الثوابث،: "وعندئذ فإن المنطق لا بد أن يؤدي إلى نتيجة واحدة، هي أن شرط اكتسابنا للعلوم والعقل، هو التخلي عن تاريخنا وثقافتنا التي هي أصل الفساد والخطأ، وننهل ما أمكننا من العلم الغربي، دون إدراك أن هذا النهل هو بطبيعته مخالف للعلم، وللمسعى العلمي الصحيح، ولو كان خطوة أولى ضرورية… إن مسعاهم العلمي ليس كما قلنا إلا صبغ مسبقاتهم الأيدلوجية بالصبغة الحديثة "(9). يعود في نهاية البحث للقول: بأن العقلية العلمية لا تطرد الدين من المجتمع، ولا تجعل هذا شرطًا للتقدم العلمي، ويضرب مثلاً بأمريكا وإسرائيل.

والناظر في خارطة العالم اليوم يجد أن التوجه للتصالح وليس للاحتراب، ولكن البعض يعتقد أنه يكون قريبًا من الغرب كلما أعلن عن عداء للإسلام، دون أن يدرك أن ذلك يقطع صلته بشعبه وأمته، حتى لينظر إليه وكأنه غريب كل الغرابة. البعض بدافع التخفف من الالتزامات الإسلامية يعلن إنكار الدين أو معاداة الإسلام تحديدًا، لكن مجرد التمرد والخروج، لا يعني أن صاحبه صار علميًا أو تقدميًا، لكنه صار غريبًا في وطنه.

الإنسان والعلوم:

يمكن القول: بأن ثمة علومًا مصدرها النص، وأخرى الكون، فكل ما يتعلق بالله تعالى وصفاته وكتبه ورسله، واليوم الآخر وما يحدث فيه، وكل ما يتعلق بالعالم غير المرئي مثل الملائكة، والعبادة وكيف تؤدى، كل ذلك تفضل الله به على العباد، فجلاه تجلية تامة.. وأما علوم الحياة، مثل الزراعة والكيمياء والفيزياء والهندسة والطب والفلك، فقد ترك أمرها للإنسان ليعمل فيها فكرة، وعن طريق التجربة والخطأ كشف الإنسان الكثير من العلوم.

وإذن فهناك دائرتان، والخلط بينهما يوقع الإنسان في مشاكل هو في غنى عنها، فإلإنسان بعقله المجرد لا يمكن أن يعرف ذات الله تعالى ولا صفاته، ولا ما أنزل من كتب وبعث من رسل، ولا ماذا سيحدث بعد الموت، كما لا يعرف كيف يعبد الله تعالى عبادة صحيحة، يرضى عنها الله تعالى، ويأجره على فعلها.. لكنه كشف أو استطاع أن يكشف الكثير من قوانين وسنن الكون.

وقد سقطت الكنيسة الكاثوليكية في خطأ قاتل، حين خلطت بين الدائرتين، فنسبت بعض علوم الحياة لله تعالى، واعتبرت كل من يخالفها مهرطقاً:، وعرضته على محاكم التفتيش السيئة السمعة والصيت، حتى كره الناس الدين وألحدوا.

فقضية مثل "كروية الأرض " من علم الفلك، ولا صلة لها بالدين وعلومه، لكن الكنيسة بقيت قرونًا ترفض كروية الأرض وحركتها.. وليس في نصوص الدين شيء يقول بذلك، وإن وجد فمشكوك بصحته، كما رفضت وجود الجراثيم. وقد ذكرت الكاتبة الألمانية "زغريد هونكه " أمثلة من عقائد الكنيسة، مثل(10): "ملعون من يقتنع أو يقبل تفسيرًا علميًا لحوادث الطبيعة، خارجًا عن طاعة الرب، ومن يشرح أسبابًا طبيعية لبزوغ كوكب أو فيضان نهر، بل لمن يعلل علميًا شفاء قدم مكسور أو إجهاض امرأة، فتلك كلها عقوبات من الله، أو من الشيطان، أو معجزات أكبر من أن ندرك كنهها ".

والأب (ملشوار ) يعلن(11): "إن القول بحركة الأرض أسف من كل ضروب الهرطقة، وأكبرها إثمًا، وأشدها قدحًا في الدين… وأقذعها قذفًا، وإن ثبات الأرض معتقد مقدس!

وإن البرهنة على فناء النفوس الإنسانية، وعدم خلودها، وإنكار وجود الله، وامتناع التجسيد، أشياء يمكن أن يتسامح فيها، قبل أن يتسامح في البرهنة على أن الأرض تتحرك ".

وقد صنع رئيس بلدية في ألمانيا (مصباحًا ) يعمل بغار الاستصباح، فقضت الكنيسة بكفره، محتجة بأن الله تعالى خلق الليل مظلمًا، والنهار منيراً، وهذا المصباح ينير الليل، ويغير في مشيئة الخالق، حيث يحول الليل إلى نهار(12).

إن التعسف والخلط واضح جدًا، ونسبة علوم بشرية لله تعالى، دون وجه حق، كل هذا أشعل صراعًا بين الكنيسة ورجال العلم، انتهى بهزيمة الكنيسة، فقبلت فصل الدين عن الدولة. ومن المفيد القول: بأن ما يعتبره البعض تصادمًا بين النص والعلم، ليس كذلك، وإنما السبب في تعميم نظرية وتحويلها إلى حقيقة علمية مطلقة، أو سوء فهم للنص ليس أكثر. فإن تصادمًا، أخذنا بالقطعي منهما وأولنا الآخر، كما هو رأي شيخ الإسلام ابن تيمية.

وأخيرًا لقد كان أفلاطون عقلية كبيرة، وصاحب علم متقدم في عصره، ومثله اليوم ملايين، وقد استطاع بعقله وعلمه التوصل إلى وجود الله تعالى، وساق الأدلة على ذلك، لكنه لم يصبح نبيًا، ولا متدينًا.. لم ينقص أفلاطون وأمثاله العقل والعلم، ولكن ينقصه الوحي، لقد غاب عنه النص الصحيح.. وفي مقابل ذلك جاء عربي بكتاب ودين ومعارف، عجز ويعجز فطاحل العلماء عن مثلها.

============

# ثانيًا: الكون

وهو ما سوى الله تعالى، خلقه الخالق كما أراد وفق قدر مسبق، ولذا فهو مخلوق "فكري " بالدرجة الأولى، مادي بالدرجة الثانية، وهذا ما توصل إليه علماء الفلك أخيرًا، أمثال "السير أرثر " البريطاني، الذي يكرر أن مادة الكون عقلية.

ومثله "جيمس جنز " الذي يرى بأن الكون كون فكري، ولم يعد يقبل التفسير المادي، في ضوء علم الطبيعة الجديد، وحتى التفسير المادي قد صار أخيرًا "فكرة ذهنية " وينتهي للقول: "وإذا كان الكون كونًا فكريًا، فلا بد أن يكون خلقه كان عملاً فكريًا ". ويشاركهم "ج.و.ن. سوليفان " هذا الاعتقاد (13).

إذن فالإنسان والكون مخلوقان لله تعالى، ولم يتطورا عن شيء، بل خلقا ابتداءً، وفق تصور سابق وقدر قاهر.. أما ضبط حركة الكون، فجاء وفق سنن ونواميس إلهية، يحلو للبعض أن يطلق عليها "قوانين الطبيعة".

وقد سخر الله الكون للإنسان، كما سلطه ومكنه من كشف سننه وقوانينه، وذلك عن طريق الملاحظة والتجربة، وقد كشف الإنسان الكثير من هذه القوانين، وما بقي قد يكون أكثر من ذلك.

وقد سقطت الكنيسة الكاثوليكية في وهم قاتل، حين اعتبرت كل كشف وكأنه لإرادة الله، وليس هو كذلك.. فمعرفة قوانين الفلك، وحركة الذرة، وقوانين الفيزياء والكيمياء، ومثل ذلك علم الحيوان والنبات، كل هذه العلوم والمعارف مما يسر الله للبشر الكشف عنها، وكما يقول علماء الكلام: فإن دقة الصنعة تدل على عظمة صانعها، فالكون كتاب مفتوح، المطلوب أن يكون وسيلة للتعرف على خالقه والإيمان به.

وكما أن صانع الآلة يعلم جيدًا مهمة كل قطعة فيها، وهو أفضل من يحسن صيانتها، فكذلك خالق الكون هو الأعلم بما يصلحه.. ولأن دور الإنسان دور المنتفع فعليه أن لا يتجاوز ذلك، فيتصرف وكأنه المالك المطلق اليد، يعبث في الكون ويخرب فيه، فيفسد البيئة، يقطع أشجار الغابات، أو ينشر التلوث، أو يملأ الأرض بالمبيدات الضارة والصناعات القاتلة.

إن فهم الكون اختلط أحيانًا بالأساطير، أو بالربط بين حركة الإنسان والنجوم، فجاء الإسلام يرفض ذلك كله، فمن يتردد على كاهن أن عراف، ثم يؤمن بما يقوله، فقد يوصله ذلك إلى الكفر. وحين مات إبراهيم، ابن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وصادف كسوف الشمس، فربط الناس بين الحدثين، سارع صاحب الرسالة لنفي هذا الربط، معلنًا أن الشمس ومثلها القمر آيتان من آيات الله، لا تخسفان ولا تكسفان لموت أحد.

كما حرم الإسلام الشعوذة بأنواعها، والدجل بأنواعه، وحرم تعاطي السحر، وجعل عقوبة متعاطيه القتل، بل حرم تعاطي المسكرات لأنها تفسد العقل.

وأختم البحث برأي لعالم الاجتماع الأمريكي "إريل فروم " يتحدث فيه عن أن علاقة الإنسان بالطبيعة، راحت تتسم بالعداء والاحتقار معًا (14): "إن علاقة الإنسان بالطبيعة، اتسمت بالعداء الألد… ظروف وجودنا تجعلنا جزءًا منها، وموهبة العقل تجعلنا نتفوق ونعلو عليها، ومن ثم فقد حاولنا أن نحل معضلة وجودنا بنبذ رؤية الخلاص، المتمثلة في الانسجام بين الجنس البشري والطبيعة، واتجهنا نحو إخضاعها وقهرها، وتحويلها لخدمة أغراضنا، حتى أصبح هذا القهر مرادفًا لتدمير الطبيعة.

إن روح العداء والإخضاع أعمتنا عن حقيقة أن للموارد الطبيعية حدودًا يمكن أن تستنفد، وأنه سيأتي الوقت الذي سترد فيه الطبيعة على جشع الإنسان.

إن المجتمع الصناعي يحتقر الطبيعة، ويحتقر كل ما ليس من صنع الآلة، ويحتقر الشعوب التي لا تصنع الآلات، فالناس اليوم ينجذبون لكل ما هو ميكانيكي آلي، ولما لا حياة فيه، وينجذبون يومًا بعد يوم للتدمير ".

إن التلويث للبيئة يقوم به الإنسان الأكثر ترفًا، فالفرد الأمريكي يعادل ألف هندي أو أفريقي، في هذا الميدان.

في بلد عربي أراد إقامة مصنع نسيج كبير، فوضعه على حافة نهر صغير، وبعد مدة، ونتيجة لإلقاء المخلفات الصناعية والأصباغ والزيوت، والمواد الكيماوية، تلوث ماء النهر فلم يعد صالحًا لشرب الإنسان أو الحيوان، حتى الأسماك لم يعد بمقدورها العيش، وهكذا يفسد الإنسان الطبيعة! وقد سجل شاعر ذكي مثل هذا الفساد، فقال:

كلما أنبت الزمان قناة ركب المرء في القناة سنانًا

ينبت النبات، فيحول الإنسان بعضه إلى أداة قتل، وخلق الله الحديد، وجعل فيه بأسًا، فصنع الإنسان منه الدبابة والمدفع والقنبلة، وكان بإمكانه أن يصنع محراثًا أو آلة للحصاد، أو وسيلة لنقل الماء.

ولعل الأقبح من كل ذلك ما ينشره الإنسان من فساد في الكون وإفساد، ومن عبث، ربما كان الاستنساخ من أواخر نماذجه.

هناك اليوم ملايين من البشر بحاجة إلى الطعام والدواء واللباس، وهناك ملايين الحيوانات تموت جوعًا وعطشًا، على حين ينفق المترفون المليارات على تدخين السجاير، أو حرب النجوم، أو إرسال مركبات فضائية تكلفة الواحدة تكفي لإطعام مليون جائع، وألف مستوصف.

إن ثمن دبابة قاتلة يبني أكثر من مدرسة، ويوفر الطعام والدواء لألوف الجياع، فلماذا يجنح "المترفون " للشر والعبث؟!

لماذا تتصاعد الغازات بهذه الكثرة حتى تحدث ثقبًا في طبقة الأوزون عمرها ملايين السنين؟

الإنسان المترف صار العدو الأول للطبيعة، يعبث فيها عبثًا مخيفًا فالغابات -على سبيل المثال- تعيش مرحلة الفناء التدريجي، ذلك أن ثلث الأشجار التي كانت موجودة عام 1882م، ومساحتها حوالي ملياران من الهكتارات، قد أُزيلت حتى عام 1952م. والإتلاف مستمر وآخذ بالاتساع، كل دقيقة يُتلف الإنسان عشرين هكتارًا من الغابات في العالم.

إن كمية الورق اللازم لعدد "الأحد " من صحيفة نيويورك تايمز، والذي يحتوي على ثمانين بالمائة من الإعلانات الدعائية، يتطلب قطع (15) هكتارًا من الغابات الكندية، كما يتطلب العدد اليومي (6) هكتارات، فاجتثاث الإحراج الجاري بلا روية ولا تبصر من أطراف الهملايا، يحدث اليوم فيضانات مدمرة في بنغلاديش، كما تولد الزراعة الموروثة عن الاستعمار ألوان الجفاف في الساحل" (15).

وأخيرًا: لماذا يصر هذا المترف على القول: بأنه يقهر الطبيعية؟! ألا يكفيه قهر البشر، حتى توجه إلى الطبيعة ليقهرها؟!

وأختم بقول الحق: (أم تروا أن الله سخر لكم ما في السماوات وما في الأرض وأسبغ عليكم نعمهُ ظاهرةَ وباطنة ) (لقمان: 20).

وقوله: (ألم ترَ أنَّ الله سَخَّرَ لكم ما في الأرضِ والفُلكَ تجري في البحر بأمره ويُمسكَ السماء أن تقع على الأرض إلا بإذن إن الله بالناس لرؤوف رحيم ) (الحج: 65).

=============

# ثالثاً: الإنسان

الإنسان مخلوق فريد، صاحب عقل جوال، وإرادة قوية، وقابلية عظيمة للتعلم والارتفاع، والجهل والسقوط، يرتفع إلى مستوى الملائكة، ويهبط إلى مستوى الشيطان، دائم التذبذب، مشبوب العاطفة، يملك روحًا تشده إلى خالقه، وجسمًا وشهوات تهبط به إلى الأرض.. صانع الحضارة، القادر على هدمها وتدميرها.. يولد ولا علم له، ثم لا يموت حتى يكدس جبالاً من العلم والمعرفة.. انتدبه خالقه لعمارة الأرض، وعبادة الخالق.

كرّمه وقدمه على سائر المخلوقات.. حمّله الأمانة، وأمره أن يكون صالحًا مصلحًا، وان لا يفسد في الأرض، وأن لا ينازع الخالق ربوبيته، وأن لا ينصب نفسه معبودًا من دون الله سبحانه.

هذا الإنسان المخلوق الفريد له مكونات يشاركه بها غيره - من المخلوقات - ومكونات ينفرد بها.. فما هي مكوناته؟

1- مكونات الإنسان:

يتكون الإنسان من جسد، وعقل، وروح، وعواطف.. الجسم يتكون من عناصر معروفة، فإذا مات تحلل جسمه.. والجسم السليم ما غُذيَ بالحلال، وأعطى قسطه من النمو السليم الصحيح، والراحة المناسبة.. وقد حرم الإسلام كل ما يؤذي الجسم، كما منع تكلف المشاق، وكل ما يرهق البدن، خادم العقل والروح.

أما الروح فلا نعلم عنها شيئًا، سوى أن الميت يفتقدها، ولا يقول متفلسف: إذا كنا لا نعلم حقيقتها، فكيف نسلم بها؟

في الكون ألوف القضايا نسلم بها، دون أن نعلم حقيقتها - وقد تقدم هذا في مبحث العلم - ومهمة الروح الاتصال بالخالق.

إن مخ المجنون يماثل مخ العاقل، فلماذا يختلفان في العمل مثلاً؟ أما العقل فهو القوة المفكرة والتي يفتقدها المجنون.. وأشبه العقل بالكهرباء في البطارية، فساعة تكون مملوءة، وساعة تكون فارغة من تلك القوة، بينما تكون مكونات البطارية موجودة، من أحماض وكربون ورصاص وغيرها، لكن الشحنة الكهربائية لا توجد.

أما الغرائز فيشارك الإنسان فيها الحيوان، فغرائزهما متماثلة، لكن الإنسان يتميز بعواطفه، يحزن ويسر، ويتألم ويستريح، يحب ويكره، دون الحيوان.

والإنسان السوي، هو الذي نمت كافة مكوناته نموًا متوازيًا.. وفي عالم اليوم، نجد من يهتم بالجسم أولاً ، وأخيرًا، ومن يريد أن يجور عليه لتنشط روحه، ويطهر قلبه، ومن يُعنى ويهتم بعقله وتحسين قدراته العقلية، ولا يهمه ما وراء ذلك.

وإذا كان الجسم ينمو بالرياضة والغذاء الحلال، فإن الروح تنشط بفعل الخيرات، وعبادة الله، كما أنها تدل على الخير والشر.

والعواطف تسمو وتهبط، حسب سلوك الإنسان وتوجهاته، فإذا توجه لخدمة الآخرين ومساعدتهم، سيحبهم ويحبونه، وإن عاش أنانيًا نرجسيًا، يعشق نفسه، ويرى سعادتها على حساب الآخرين، فستكون عواطفه سائرة في هذا الاتجاه، تعشق الربح الشخصي، والمنفعة الخاصة، وهو على استعداد لمحاربة الكل، ليظفر بما يريد.

وإذا كان الإنسان السوي من نمت كافة مكوناته نموًا متوازيًا، فالحضارة كذلك لها مكوناتها الروحية والعقلية والعاطفية والمادية، ولا بد من نمو متوازن وإلا جنحت سفينة الحضارة وغرقت.

ختامًا يمكن أن أقول: الجسم وعاء، والروح حارس، والعقل دليل.. الروح تضبط علاقتنا بالله تعالى، والعقل يخبرنا ويدلنا على أن هذا نافع وذاك ضار، لكن الإنسان قد يعمد للضار فيستعمله وإلى النافع فيهمله، وهنا يكون من مهمات الروح منعه من ذلك، فهي الحارس الأمين، لكن الحارس قد يغفل، والروح قد تضعف، فيفقد الإنسان "الرقابة " كلاً أو بعضًا.

2- استخلاف الإنسان:

قال عزوجل: (وإذ قالَ ربُكَ للملائكة إني جاعلٌ في الأرضِ خليفةً قالوا أتجعل فيها من يُفسد فيها ويسفكُ الدماء ونحن نُسبحُ بحمدك ونُقدس لك ، قال إني أعلم ما لا تعلمون، وعلم أدم الأسماءَ كلها ثم عرضهم على الملائكةِ فقال أنبئوني بأسماء هؤلاء إن كنت صادقين، قالوا سبحانك لا علمَ لنا إلا ما علمتنا، إنك أنت العليم الحكيم، قال يا أدمُ أنبئهم بأسمائهم، فلما أنبأهم بأسمائهم قال ألم أقُل لكم إني أعلمُ غيبَ السماوات والأرض وأعلم ما تُبدون وما كنتم تكتمون ) (البقرة: 30 - 33).

يستوقفني في الآيات الكريمة جملة أمور، منها:

أ- نسبت الملائكة لآدم عليه السلام تهمة عامة هي الإفساد، وفسرتها بسفك الدماء.

ب- إن آدم عليه السلام لم يسبق له سفك دم أحد.

ج- إن الله تعالى لم ينفِ التهمة عن آدم وذريته، بل ألمح إلى قدرات أخرى معينة، هي العلم والاستذكار.

د- طرح الله تعالى "الأسماء " دون تحديد، فهل كانت مسميات الأشياء أم اللغات؟

هـ- من أين جاءت الملائكة بتهمة "الفساد " ؟ هل ذلك لكونها استقرأت حال آدم كمخلوق مختار، فقدرت أنه من كان هذا حاله فإنه يمكن أن يسفك الدماء؟

و- لقد دلل الله تعالى على ما يتمتع به آدم من العلم والاستذكار، بطرح أسماء فاستطاع آدم استذكار تلك الأسماء.

ز- نمط العرض يوحي بأن الاستخلاف يرتبط بما وهبه الله لآدم من القدرات على التعلم والحفظ.

ح- إذن فالاستخلاف يرتبط بهذه القدرات، فمن تعلم ووظف قدراته فقد استحق الاستخلاف، ومن لا يتعلم يخسر ذلك.

بعد هذه الملاحظات أنتقل إلى فارس هذا الميدان "سيد قطب "(16)، يرحمه الله، فهو يرى أن الله تعالى يريد أن يسلم للمخلوق الجديد آدم عليه السلام، زمام هذه الأرض، وإطلاق يده فيها، يبدع فيها عن طريق التكوين والتحليل، والتركيب والتحوير والتبديل، وكشف طاقات وكنوز هذه الأرض، وتسخير كل ذلك في المهمة الملقاة على آدم وذريته.

إن هذا المخلوق، قد وُهب طاقات واستعدادات توازي وتعادل ما في هذه الأرض من طاقات وكنوز وخامات.. إن منزلة الإنسان في الوجود منزلة عظيمة.. والسؤال: من أين علم الملائكة بأن آدم سيفسد في الأرض ويسفك الدماء، ولم يفعل شيئًا بعد؟

ويجيب سيد قطب: ربما كان لديهم من شواهد الحال، أو من تجارب سابقة في الأرض، أو من الإلهام، ما كشفوا عن شيء من فطرة آدم وذريته، ثم هم بفطرتهم البريئة، التي لا تعرف إلا الخير المطلق، والسلام الشامل، يرون أن التسبيح والتقديس لله تعالى هو الغاية الكلية للوجود، وعلة الخلق، وهذا متحقق بوجودهم، لا بوجود آدم وذريته.

لقد خفيت عليهم الحكمة العليا في عمارة الأرض، وتنمية الحياة وتنويعها، وتطويرها وترقيتها، وكل ذلك يكون على يد من يستخلفه الله تعالى في أرضه، فهو المرشح لذلك، وإن كان يفسد أحيانًا، ويسفك الدماء أحيانًا، فإن خلف هذا الفساد والشر خير كثير أكمل وأشمل، حيث النمو الدائم والرقي المستمر، حث الحركة التي تهدم لتبني، والتطلع الذي لا يقف، ومحاولة التغيير.. وقد جاء الرد ليس بنفي الفساد بل بالقول: (إِني أعلمُ ما لا تعلمونَ ) ( البقرة: 30).

وبعد عرض أسماء الأشياء ، وأعاد آدم عليه السلام المعلومة فنجح بالاختبار، ويعلق سيد قطب على ذلك قائلاً (17): "ها نحن أولاء نشهد طرفًا من ذلك السر الإلهي العظيم، الذي أودعه الله هذا الكائن البشري، وهو يسلمه مقاليد الخلافة، سر القدرة على الرمز بالأسماء للحسيات، سر القدرة على تسمية الأشخاص والأشياء بأسماء يجعلها، وهي ألفاظ منطوقة، رموزًا لتلك الأشخاص والأشياء المحسوسة، هي قدرة ذات قيمة كبرى في حياة الإنسان على الأرض، (وإذ قُلنا للملائكةِ اسجدوا لأدم فسجدوا ) ( البقرة: 34).. إنه التكريم في أعلى صوره، لهذا المخلوق الذي يفسد في الأرض، ويسفك الدماء، ولكنه وهبه من الأسرار ما يرفعه على الملائكة.. لقد وهب سر المعرفة، وهب سر الإرادة المستقلة التي تختار الطريق.. إن ازدواج طبيعته وقدرته على تحكيم إرادته، في شق طريقه، واضطلاعه بأمانة الهداية إلى الله، بمحاولته الخاصة، إن هذا كله بعض أسرار تكريمه… "

إن الإنسان -وإن كان يفسد ويسفك الدماء- إلا أنه يمتاز بقدرات فائقة على "التعلم والتعليم".. وهذه القدرات على اكتساب المعارف وتنميتها واستثمارها، هي من مرشحات الخلافة في الأرض، لأنه خير من يعمرها ويقيم الحضارة فيها، أما الملائكة فتجيد التسبيح لله تعالى، تحسن وتجيد العبادة، تطيع ولا تعصي، لكن متطلبات التحضر والعمران هي العلم المتطور المتجدد دائمًا، وهذا ما يحسنه الإنسان، ولا تحسنه الملائكة، ومن هنا وقع الاختيار على الإنسان دون الملائكة.

وكل من لا يكسب علمًا، على مستوى الفرد والأمة، فقد أخل بشروط الاستخلاف الأساسية، والله تعالى لا يحابي أمة، ولا يعطيها إلا ما تستحق، فليس للإنسان إلا سعيه وكده.

وأخلص إلى أن الإنسان صاحب مواهب وقدرات، فإذا وضع في شروط مناسبة، ومكان مناسب، وعومل معاملة كريمة، بعيدًا عن التأليه أو التحقير، فإنه يعمر ويتقدم، يقيم حضارة ويرعاها.

أما إذا أُهين واحتقر، وحوصر وخوّف، فَقَد معنى الحياة، وماتت قدراته، وانتهت إبداعاته، وربما تحول إلى أداة هدم وتخريب، يشعل الحروب ويتاجر بالأسلحة الفتاكة والمخدرات، ووسيلة دمار.

وعتاة المستعمرين - قديمًا وحديثًا - ورجال المافيا من كل لون، وفراعنة السلطة، ودهاقين الرشوة والفساد، كل أولئك وأمثالهم أدلة حية على ما يمكن أن يصل إليه الإنسان الشرير الأناني، الفاسد المفسد، ولو كان على رأس القيادة في العالم.

إن من يبحث عن دليل فدونه قول الله سبحانه: (أفنجعل المسلمين كالمجرمين، ما لكم كيف تَحكُمونَ ) ( القلم: 35-36).

3- تكريم الإنسان:

الإنسان مخلوق كرّمه خالقه، صغيرًا كان أم كبيرًا، عالمًا أم جاهلاً، إلا أنه لا يصير مكلفًا حتى يجمع صفتين: العقل والبلوغ، لكنه مكرم قبل التكليف وبعده، حيًا أم ميتًا.

يقول الله تعالى: (ولقد كرّّمنا بني أدم وحملناهم في البر والبحر ورزقناهم من الطيبات وفضلناهم على كثيرٍ ممن خلقنا تفضيلاً ) ( الإسراء: 70).

فالتكريم مرتبط بصفته من بني آدم، وقد اتخذ صورًا كثيرة، منها:

أ - اتخاذ الرسل، وهم صفوة الخلق من البشر، وهي مهمة سامية لا تدانيها منزلة ولا وظيفة، وقد عرفت الإنسانية منهم أعدادًا كبيرة، ذكر الله في كتابه منهم مجموعة، لكنه ذكر أيضًا أنه بفضله وعدله لم يترك أمة دون أن يبعث فيها ولها نبي أو رسول.

وإلى جانب الأنبياء وقريبًا منهم الشهداء، فهم الأقرب درجة، والأشبه سلوكًا.

ب - تسخير الكون للإنسان: ( الله الذي سخَّر لكم البحر لتجري الفُلكَ فيه بأمره ولتبتغون من فضله ولعلكم تشكرون ) ( الجاثية: 12)، وقوله: (ألم تَروا أن الله سخَّر لكم ما في السماوات وما في الأرض ) (لقمان: 20). وبفضل هذا التسخير يعيش الإنسان سيدًا في هذا الكون الواسع.

ج- سجود الملائكة: أمر الله تعالى الملائكة أن تسجد لآدم عليه السلام، سجود تقدير واحترام، لا سجود عبادة طبعًا، يقول الحق: (ولقد خلقناكم ثم صورناكم ثم قلنا للملائكة اسجدوا لأدم ) ( الأعراف: 11). وقد استجابت الملائكة فسجدت: (وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لأدم فسجدوا إلا إبليس ) (البقرة: 34).

د- استخلاف آدم في الأرض، يقول الحق: (وإذ قال ربُكَ للملائكة إني جاعلٌ في الأرض خليفة ً) (البقرة: 30) هذه المهمة الكبيرة نيطت بالإنسان كي يعمر الأرض، وينشر العدل، ويسير فهيا كما أمره من استخلفه، فلا يكون عنصر هدم أو تخريب.

هـ- خلق الإنسان على صورة جميلة، يقول الله تعالى: (لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم ) ( التين: 4)، ويقول سبحانه: (ولقد خلقناكم ثم صورناكم ثم قلنا للملائكة اسجدوا لأدم ) (الأعراف: 11).

والإنسان بشكل عام جميل الصورة، حسن المنظر، ولا يخرم القاعدة، وجود قلة ليس كذلك، إذ الحكم للأعم وليس للقلة، كما قد تشاركه -في هذه الصفة- مخلوقات أخرى، ولكن تبقى صورة الإنسان جميلة بشكل عام.

و- منع الاعتداء على الإنسان بالهمز أو اللمز أو الإهانة أو الضرب، حتى يسقط في اعتداء على غيره فيقتص منه، فهو برىء حتى تثبت إدانته، ولا يسمح بمعاقبته بأكثر من جرمه.

ز- لقد جعل الله للإنسان عقلاً وإرادة، فهو يفكر ويدبر، ثم يتخذ القرار، فإن كان صوباً فله أجره، وإن كان خطأ فعليه وزره، فإذا كان الفعل غير إرادي فلا مسؤولية ولا عقاب، على حين تتحرك كائنات ومخلوقات أكبر من الإنسان، وفق سنن وقوانين، فلا تملك عشر حرية الإنسان.

إن الإنسان -عن طريق العقل- يستطيع أن يميز بين الحق والباطل، بين الحقيقة والوهم، وبفضل إرادته يمكنه أن يختار الخير أو الشر، وعن طرق "النطق " ثم الاتصال بين الألوهية والإنسان، وحيًا وبلاغًا من جهة، ودعاء وعبادة من جهة ثانية.

وهكذا يحصل الإنسان من التكريم ما يفوق غيره، فميزه خالقه بالعلم، حيث يولد ولا علم لديه، فلا يموت حتى يجمع جبالاً من العلم.. كما منحه قوة في الفهم، وحرية في التحرك، فليس هو حيوان تتحكم به غرائزه، ولا مخلوقًا مسيرًا في كل شيء، تضبط حركته سنن عامة، وكل ذلك ليؤدي رسالته على هذا الكوكب، فيعبد الله تعالى كما أمر، ويعمر الأرض، ويشيع فيها الخير والعدل والسلام.. ولا يتحقق كل هذا وغيره إلا بالإيمان بالله تعالى والعمل الصالح، فإن التزم بهما، وحافظ على مرجعية "الوحي"، فسيظل وفيًا لخالقه، جديرًا بصفة "الخليفة المكرم " وإن ابتعد عن ذلك، وأدار ظهره لخالقه، وأهمل المنهج الذي أهدى له، ترك لحاله، وانتظر حتى يأتي على ربه يوم الحساب، فإما جنة أو نار.

إن الإنسان الرافض لمرجعية الوحي، المتمرد على خالقه، الضارب بأوامره ونواهيه عرض الحائط، سيترك في الدنيا لحاله، ولكن الحساب سيكون هناك، ومن ثم فقد يتقدم هذا "المتمرد " وقد يتسلم قيادة البشرية، لكن ذلك ليس بفضل كفره وتمرده، بل لإجادته التعامل مع الحياة، ومعرفة قوانينها، والتصارع والتدافع بقوة وجدارة، لذا سيتقدم غيره ولو كان مؤمنًا، لأن المؤمن تخلف عن معرفة قوانين التحضر والتقدم، أو عرفها نظريًا، لكنه لم يستعملها بصورة صحيحة.. فالكفر ليس هو سبب التقدم، والدليل أن هناك ملايين البشر لا يعرفون الله تعالى، ولا يعبدونه ولا يطيعونه، وهم في ذيل قافلة التقدم، بل يعيشون عالة على غيرهم، فالكفر ليس آلة للتقدم.. فكما قال "الغزالي" فإن الكافر المتقدم، عرف جيدًا علوم الحياة، واستعملها الاستعمال الجيد، لكنه لا يعرف قوانين الآخرة، وليس له نصيب فيها.

والخير كل الخير، أن يعرف الإنسان قوانين الدنيا، وقواعد التحضر، ثم يعبد الله تعالى كما أمر، وللأسف فهذا النفر اليوم قلة قليلة، أما الكثرة الغامرة، فلا تعرف الله تعالى، ولا علوم الحياة "التحضر".. وهناك قلة تعرف جيدًا علوم الحياة، لكنها لا تعرف الله تعالى حق المعرفة، ولا تعبده كما أمر.

والمطلوب، قديمًا وحديثًا ومستقبلاً، أن يعلم الإنسان علوم الحياة والتحضر، وأن يعبد الله كما أمر ، وهذا ما يُفتقد اليوم.

الحاجة إلى دليل:

قد يكون الإنسان من أكبر علماء الفلك، أو الفيزياء أو الطب أو النبات، لكنه إذا أراد السفر، فقد يحتاج إلى دليل، ليس عنده إلا المعرفة الجيدة بالأرض والطرق.. والإنسان كذلك قد يكون من اكبر العلماء، لكنه يحتاج إلى دليل يدله إلى الله تعالى، وأكبر وأعظم الأدلاء هم الأنبياء، وأكبر وأعظم كتب الهداية ما جاء عن الله تعالى، وحفظه خالقه من العبث والتحريف والضياع.

4- حرية الإنسان واختياره:

يعيش الإنسان في دائرتين، دائرة لا حرية له فيها، وأخرى يملك التحرك فيها بحرية.. والقضية قديمة، فالإنسان يتساءل: هل هو مجبر أو مخير؟ والموضوع على قدمه كثر فيه الخائضون والخابطون، وبدلاً من اتضاح القضية ظل يشوبها الغموض، نظرًا لكثرة الخائضين. فإذا نظر الإنسان إلى ما حوله، فسيجد دائرة هو فيها مجبر غير مخير، فالإنسان يولد لأبوين لا خيار له فيهما، ويولد في بلد لم يكن له في خيار كذلك، كذلك لا خيار له في جماله وقبحه، ولا في كونه عصبيًا أو هادئًا، مريضًا أو معافى، إلى كثير من أمثال ذلك.

وإلى جانب ذلك هناك دائرة أخرى، تخضع لتدبير الإنسان وتفكيره وقراره، وهي واسعة كبيرة.

الدائرة الأولى لا ثواب عليها ولا عقاب، لأن الإنسان لا دخل له في ذلك، والدائرة الثانية يثاب ويعاقب فيها، لأنه حر يختار ما يريد، فإذا فعل الخير جوزي بالثواب، وإذا فعل الشر جوزي بالعقاب، متى كان عاقلاً مختارًا غير مكره.

يقول سبحانه وتعالى: (ولو أن أهل القُرى أمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركاتٍ من السماء والأرض ولكن كذبوا فأخذناهم بما كانوا يكسبون ) ( الأعراف: 96)، ويقول: (ذلك بأن الله لم يكُ مُغيرًا نعمةً أنعمها على قومٍ حتى يُغيروا ما بأنفسهم وأن الله سميعٌ عليم )

(الأنفال: 53)، ويقول تعالى: (فلما زاغوا أزاغ الله قُلوبهم ) ( الصف: 5).

إن الإنسان يعمل وفق حريته وإرادته، وفي حدود خبراته وقدراته، ثم يرتب الله تعالى نتيجة منسجمة مع طبيعة عمل الإنسان.. ومثل ذلك الأمة، فمن يفعل خيرًا يجز به، والأمة التي تعمل بجد وإخلاص تتقدم - ولو كانت كافرة - والأمة التي تهمل وتتكاسل تتأخر ولو كانت مؤمنة، فالله تعالى لا يُحابي أحدًا، ولا يداري أحدًا، ومن يعتقد انه من شعب الله المختار، فهو في الحقيقة من شعب الله (المختال المخدوع ).

إن الإنسان يملك حرية التخطيط والتنفيذ، كما يملك التصرف بالنتائج، وكذلك الأمة.

لكن هناك سننًا عامة لا يملك الإنسان مغالبتها ولا القفز فوقها، وكذلك الأمم.. ومن هنا يجب معرفة تلك السنن، لأن من يجهلها قد يصطدم معها، وقد يحاول القفز فوقها، فلا يفلح.

وقد طرح (آلبان ) وهو من مفسري التاريخ، موقف القرآن الكريم من الجبر والاختيار، فقال(18): "يدور جدل كثير حول مذهب الاختيار، وهل هو مما يعلمه القرآن أم لا يعلمه.. ينبغي أن لا يغيب عن أذهاننا أن القرآن كتاب دين، وليس كتابًا يجمع مباحث نظرية فلسفية خاصة، فهو يحتوى على الاعتراف بكل من سيطرة الله، وحرية الاختيار عند البشر، ولكنه لا يبحث بطريقة تأملية: كيف يمكن الجمع فكريًا بين هذين الآمرين؟

فهو يؤكد أن الله تعالى مسيطر على كل شيء، وقد نفخ في الروح سجيتها: (ونفسٍ وما سوَّاها، فألهمها فُجُورها وتقواها ) (الشمس: 7-8).. والقرآن من أوله إلى لآخره يؤكد استخدام "الاختيار "، تأكيدًا كبيرًا، فليس الله بظلام للمذنبين ولكن أنفسهم يظلمون: (وَلتُجزى كلُ نفسٍ بما كسبتْ وُهم لا يُظلمون ) (الجاثية: 22).

والقرآن يشير في مواضع كثيرة إلى القرى التي ازدهرت أو هلكت، بما قدمت يداها من طاعة أو عصيان، للسنن الخلقية التي يعبر عنها القرآن ".

ومعلوم أن وصف عمل ما بأنه خير أو شر، يتوقف على حرية الإنسان في العمل، فإن كان مجبرًا فلا خير ولا شر، هذا مثل ذاك ولا فرق بينهما، بعيدًا عن الحرية.. كذلك يفقد الحساب والعقاب معناه، إذا كان الإنسان مجبرًا، ويفهم جيدًا مع الاختيار.

فالمسؤولية تابعة للحرية، فإذا فُقدت الحرية فلا مسؤولية، وإذا صار الإنسان آلة بيد غيره ثم قام بجناية فالمسؤولية على من أمره ، وليس على المنفذ ، كما يرى الفقهاء.. ومنذ أن استقر الإنسان على كوكب الأرض، راحت الرسل تترى، ومهمتهم جميعًا دعوة البشر، والعمل من أجل هدايتهم، فلو كان الناس مجبرين غير مخيرين، فما جدوى بعث الرسل؟ وما قيمة ما يبذلونه من جهد ووقت؟

من أين يأتي الجبر؟

الله تعالى له علم محيط، كما له إرادة نافذة، علمه لا يخطىء، وإرادته لا ترد، فإذا وصف إنسانًا بأنه "شقي " فلن يعيش سعيدًا.. أما علم الإنسان فمحدود، وكذا إرادته، فإذا قال أستاذ: إن هذا الطالب سينجح، فقد ينجح أو يفشل، وإذا أراد شيئًا فقد يستطيع إنفاذه وقد لا يستطيع.. والإنسان يتحرك في الحياة، وهو لا يعرف علم الله عز وجل ولا إرادته، لكنه مهما تحرك فلن يخرج عنها مطلقًا، والمثال الجيد "الرزق "، فالإنسان لا ينال منه إلا ما كتب له، لا يزيد فيه ولا ينقص منه، ولا يعرف مقداره، كذلك الأجل.

والسؤال الكبير: كيف يعمل الإنسان منسجمًا ومتوافقًا مع إرادة الله عز وجل؟

سيد قطب والمشيئة:

يقول سيد قطب يرحمه الله (19): " الإسلام يثبت المشيئة الإلهية المطلقة ، ويثبت لها الفاعلية، التي لا فاعلية سواها ولا معها ،ـ في الوقت ذاته يثبت للمشيئة الإنسانية الإيجابية، ويجعل للإنسان الدور الأول في الأرض وخلافتها، وهو دور ضخم، يعطي الإنسان مركزًا مختارًا في نظام الكون كله، ويمنحه مجالاً هائلاً للعمل والفاعلية والتأثير، ولكن في توازن تام، مع الاعتقاد بطلاقة المشيئة، وتفردها بالفاعلية الحقيقة، من وراء الأسباب الظاهرة، وذلك باعتبار أن وجود الإنسان إبتداءًا، وإرادته وحركته ونشاطه، داخل المشيئة الطليقة المحيطة بهذا الوجود، وما فيه ومن فيه، ويقرأ الإنسان في القرآن الكريم: (قل لن يُصيبنا إلا ما كَتَبَ الله لنا هُو مولانا وعلى الله فليتوكل المؤمنون ) (التوبة: 51).

لقد ضربت الفلسفات والعقائد المنحرفة في التيه، في هذه القضية، ولم تعد إلا بالحيرة والتخبط والتخليط.

في التصور الإسلامي ليست هناك مشكلة في الحقيقة، حين يواجه الأمر بمفهوم هذا التصور وإيحائه. إن قدر الله في الناس هو الذي ينشىء ويخلق كل ما ينشىء، وما يخلق من الأحداث والأشياء والأحياء، وهو الذي يصرّف حياة الناس ويكفيها، شأنهم في هذا شأن هذا الوجود كله، كل شيء مخلوق فيه بقدر، وكل حركة تتم فيه بقدر، ولكن قدر الله تعالى في الناس يتحقق من خلال إرادة الناس وعملهم في ذات أنفسهم، وما يحدثونه فيها من تغييرات: (إنَّ اللهَ لا يُغيّرُ ما بقومٍ حتىٍ يُغيّروا ما بأَنفسِهم ) ( الرعد: 11).

إن كيفيات فعل الله كلها، وكيفيات اتصال مشيئته بإرادة خلقه، وإنشائه كلها، ليس بمقدور العقل البشري إدراكها.. والتصور الإسلامي يشير بتركها للعلم المطلق، والتدبير المطلق، مع الطمأنينة إلى تقدير الله وعدله، ورحمته وفضله.. فالتفكير البشري المحدود الزماني والمكان، وبالتأثيرات الوقتية والذاتية، ليس هو الذي يدرك مثل هذه النسب، وهذه الكيفيات، وليس هو الذي يحكم في العلاقات والارتباطات بين المشيئة الإلهية والنشاط الإنساني، إنما هذا كله متروك للإرادة المدبرة المحيطة. والعلم المطلق الكامل، متروك لله الذي يعلم حقيقة الإنسان، وتركيب كينونته، وطاقات فطرته، وعمله الحقيقي، ومدى ما فيه من الاختيار، في نطاق المشيئة المحيطة، ومدى ما يترتب على هذا القدر من الاختيار من جزاء ".

الشيخ الكيلاني والقدر:

لقد وجدت آراء جريئة في القدر للشيخ عبد القادر الكيلاني، شيخ الحنابلة والصوفية ببغداد في القرن السادس الهجري، يقول فيها (20): "إن كثيرًا من الرجال إذا وصلوا إلى القضاء والقدر أمسكوا، إلا أنا، وصلت إليه، وفتح لي منه " روزنة "فأولجت فيها، ونازعت أقدار الحق بالحق للحق، فالرجل هو المنازع للقدر، لا الموافق له ".

ويعلق د. ماجد الكيلاني على فهم الشيخ للقدر قائلاً(21): استهدفت عقيدة القضاء والقدر - كما صاغها الشيخ الكيلاني - أن تكون حافزًا لنصرة الخير، ومقارعة الشر، فإذا عظمت التضحيات، وطال أمد الجهاد، كانت هذه العقيدة سندًا في لحظات اليأس وانسداد أبواب الحيلة، ومانعًا من مهاوي القنوط والانهيار.

وانطلاقًا من هذا الهدف، تحدد مفهوم القضاء والقدر فيما يلي: إن جميع الحوادث، خيرها وشرها، كائنة من الله، ولكن المؤمن مأمور أن يدفع ما يقدر من الشر، بما قدر من الخير، فيزيل الكفر بالإيمان، والبدعة بالسنة، والمعصية بالطاعة، والمرض بالدواء، والجهل بالمعرفة، والعدوان بالجهاد، والفقر بالعمل، وهكذا.

إن من الخطأ أن ينظر الناس للأقدار نظرة جزئية، فإذا رأوا الشر ظنوا وجوب الاستسلام إليه، وعدم الحيلة لدفعه.. ولو أنهم نظروا في الأمر نظرة شاملة، لأدركوا أن الله سبحانه وتعالى يلقي بالخير والشر في ساحة الحياة، ثم يترك للعبد ثلاثة اختيارات:

أن يأخذ الشر.. أن يستسلم للشر.. أن يتناول الخير ليدفع به الشر.

والأخير هو المقصود، وهو الذي امتحنت به إرادة الإنسان…

إن لكل حالة من أحوال الحياة، سعادة كانت أم شقاء، زمنًا تحل فيه، وآخر تنتهي عنده، وأزمانها هذه لا تتقدم ولا تتأخر، ولذلك فالمطلوب من الإنسان أن يعالج هذه الأحوال بالوسائل المشروعة، مع الانتظار حتى تسفر الحالة عن ضدها، بمرور زمنها، وانقضاء أجلها، كما ينقضي الشتاء، فيسفر عن الصيف، وينقضي الليل فيسفر عن النهار، فمن طلب ضوء النهار بين العشائين، فلن يحصل عليه، بل إن ظلمة الليل تزاد حتى تبلغ نهايتها، ثم يطلع الفجر، ويحل النهار، ولو طلب إعادة الليل بعد حلول النهار لم تجب دعوته، لأنه طلب الشيء في غير وقته، فيبقى ساخطًا.. ومن شأن هذا القلق والسخط، أن يقضي به إلى سوء الظن بالله تعالى، والتخبط في معالجة الأقدار، وهكذا تفضي الحالة السيئة، إلى ما هو أسوأ ".

طرح جريء قد نجد بعضه لدى الحسن البصري.

وقد وجدت سائلاً يتوجه إلى شيخ الإسلام ابن تيمية فيسأله رأيه فيما قاله الشيخ الكيلاني في القدر.

رأي شيخ الإسلام فيما ذكره الشيخ الكيلاني:

لقد كتب الشيخ مقدمة ألخصها أولاً، لأنتقل بعدها إلى رأيه الصريح فيما قاله الشيخ الكيلاني.. يرى شيخ الإسلام أن جميع الحوادث هي بقضاء الله وقدره، وقد أمر الله تعالى أن نزيل الشر بالخير، والكفر بالإيمان، والبدعة بالسنة، والمعصية بالطاعة، وكل من كفر أو عصى فعليه أن يتوب، وعلى الإنسان عدم ترك السعي فيما ينفعه الله به، متكلاً ومحتجًا بالقدر، كما عليه مدافعة الأعداء وجهادهم ومقاتلتهم.. ثم يقول بعد ذلك(22): "فالذي ذكره الشيخ رحمه الله، هو الذي أمر الله به ورسوله.

والمقصود من ذلك: أن كثيرًا من أهل السلوك والإرادة يشهدون ربوبية الرب، وما قدره من الأمور التي ينهى عنها، فيقفون عند شهود هذه الحقيقة الكونية، ويظنون أن هذا من باب الرضا بالقضاء والتسليم، وهذا جهل وضلال، قد يؤدي إلى الكفر والانسلاخ من الدين، فإن الله لم يأمرنا أن نرضى بما يقع من الكفر والفسوق والعصيان، بل أمرنا أن نكره ذلك وندفعه بحسب الإمكان، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: "من رأى منكم منكرًا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان "(23) .

فالمؤمن إذا كان صبورًا شكورًا، يكون ما يقضى عليه من المصائب خيرًا له، وإذا كان آمرًا بالمعروف، ناهيًا عن المنكر، مجاهدًا في سبيله، كان ما قدر له من كفر، سببًا للخير في حقه، وكذلك إذا دعاه الشيطان والهوى، كان ذلك سببًا لما حصل له من الخير، فيكون ما يقدر من الشر - إذا نازعه ودافعه، كما أمره الله ورسوله - سببًا لما يحصل له من البر والتقوى، وحصول الخير والثواب وارتفاع الدرجات…. "

مفارقة في القدر:

ثمة مفارقة في الموقف، فالإنسان إذا قام بمشروع فنجح يقول: خططت وفعلت وفعلت، فإذا أخفق أو فشل قال: هذا قدري.. وقد لا يكون كذلك، بل نتيجة تخطيط سيء، وتدبير فاشل.

وأقرّب المسألة بمثال: فالطالب الذي تهرّب من الدراسة ولا يذاكر كما ينبغي فإذا فشل في الامتحان فذلك ثمرة سلوكه، لكنه إذا استمر في حضوره، وذاكر أولاً بأول، ثم حدث حادث في الطريق إلى الامتحان جعله يتخلف، فإذا اعتذر بالقدر قُبل ذلك منه.. لكن الإنسان يحب أن ينسب لنفسه كل خير ونجاح، وكل فشل يرميه على القدر، وهنا المفارقة.

5- تحمل الإنسان للأمانة:

يمكن وصف الإنسان بأنه باحث عن الأمانة، فإذا كان فقيرًا جد واجتهد بكل طاقته ليحصل على المال، والمال أمانة، وفيه حقوق، وإذا مرض فعل كل شيء ليسترد عافيته، والصحة والعافية أمانة، وإذا تزوج فلم ينجب أطفالاً، فعل كل ما في وسعه لينجب أطفالاً، والأطفال أمانة، وإذا طلب العلم حاول أن يجمع منه الكثير، والعلم أمانة.

فالإنسان بشكل عام باحث عن الأمانة، وقد تحدث القرآن الكريم عن الأمانة فقال: (إنا عرضنا الأمانة على السماوات والأرض والجبال فأَبين أن يحملنها وأشفقن منها وحملها الإنسانُ إنه كان ظلومًا جهولاً ) (الأحزاب: 72).

وقد نقل ابن كثير عن مقاتل قوله (24): "إن الله تعالى عرض الأمانة على السماوات والأرض والجبال، فاعتذرت عن حملها وقالت: ليس بنا قوة، ولكنا مطيعون، ولا نعصيك في شيء أمرتنا به، ثم توجه تعالى لآدم، فقال: أتحمل هذه الأمانة وترعاها حق رعايتها؟ فقال آدم: مالي عندك؟ قال يا آدم، إن أحسنت وأطعت ورعيت الأمانة، فلك عندي الكرامة والفضل، وحسن الثواب في الجنة، وإن عصيت ولم ترعها حق رعايتها وأسأت فإني معذبك، وأنزلك النار، قال: رضيت يا رب وتحملها ".

سيد قطب والأمانة

تعرض سيد قطب للموضوع وأفاض فيه، يقول :(25) "إن السماوات والأرض والجبال، هذه الخلائق الضخمة الهائلة، التي يعيش الإنسان فيها، أو حيالها، فيبدو شيئًا صغيرًا ضئيلاً، هذه الخلائق تعرف بارئها بلا محاولة، وتهتدي إلى ناموسه الذي يحكمها بخلقتها وتكوينها ونظامها، وتطيع ناموس الخالق طاعة مباشرة، بلا تردد ولا تدبر ولا واسطة… كلها تمضي لشأنها بإذن ربها، وتعرف بارئها، وتخضع لمشيئته بلا جهد منها ولا كد ولا محاولة.. لقد أشفقت من أمانة التبعة، أمانة الإرادة، أمانة المعرفة الذاتية، أمانة الله بإدراكه وشعوره، يهتدي إلى ناموسه بتدبره وبصره، ويعمل وفق هذا الناموس بمحاولته وجهده، يطيع الله بإرادته وحمله لنفسه، ومقاومة انحرافاته ونزعاته، ومجاهدة ميوله وشهواته، وهو في كل خطوة من هذه الخطوات مريد مدرك، يختار طريقه، وهو عارف إلى أين يؤدي به هذا الطريق، إنها أمانة ضخمة، حملها هذا المخلوق الصغير الحجم، القليل القوة، الضعيف الحول، الذي تناوشه الشهوات والنزعات والميول والأطماع. "

إنها المخاطرة أن يأخذ الإنسان على عاتقه هذه التبعة الثقيلة، ومن ثم (كَانَ ظَلُومًا ) لنفسه

(جَهُولاً ) لطاقته، هذا بالقياس إلى ضخامة ما زج بنفسه لحمله، فأما حين ينهض بالتبعة، حين يصل إلى المعرفة الواصلة إلى بارئه، والاهتداء المباشر لناموسه، والطاعة الكاملة لإرادة ربه، والاهتداء والطاعة التي تصل في طبيعتها وفي آثارها إلى مثل ما وصلت إليه من سهولة ويسر وكمال، في السماوات والأرض والجبال، الخلائق التي تعرف مباشرة، وتهتدي مباشرة وتطيع مباشرة، ولا تحول بينها وبين بارئها وناموسه وإرادته الحوائل، ولا تقعد بها المثبطات عن الانقياد والطاعة والأداء.

حين يصل الإنسان إلى هذه الدرجة، وهو واع مدرك مريد، فإنه يصل حقًا إلى مقام كريم، ومكان بين خلق الله فريد، إنها الإرادة والإدراك والمحاولة، وحمل التبعة، وهي ميزة هذا الإنسان على كثير من خلق الله، وهي مناط التكريم، الذي أعلنه الله في الملأ الأعلى، وهو يُسْجِد الملائكة لآدم.

وأعلنه تعالى في قرآنه، وهو يقول: (وَلَقَدْ كَرَّمنا بني أدم ) (الإسراء: 70)، فليعرف الإنسان مناط تكريمه عند الله، ولينهض بالأمانة التي اختارها، والتي عرضت على السماوات والأرض والجبال، فأبين أن يحملنها وأشفقن منها.. فاختصاص الإنسان بحمل الأمانة، وأخذه على عاتقه أن يعرف نفسه، ويهتدي بنفسه، ويعمل بنفسه، ويصل بنفسه.. هذا كان ليحتمل عاقبة اختياره، وليكون جزاؤه من عمله، وليحق العذاب على المنافقين والمنافقات، والمشركين والمشركات، وليمد الله يد العون للمؤمنين والمؤمنات، فيتوب عليهم مما يقعون فيه، تحت ضغط ما ركب فيهم من نقص وضعف، وما يقف في طريقهم من حواجز وموانع، وما يشدهم من جواذب وأثقال، فذلك فضل الله وعونه، وهو أقرب إلى المغفرة والرحمة بعباده.. حاولت نقل النص، بهدف نقل الفكرة كاملة.

والخلاصة: إن الإنسان حامل أو متحمل أمانة، وهو يطلبها ويشتد في طلبها، ويبقى السؤال: ما هي هذه الأمانة؟

فمن قائل: إنها المسؤولية، ومن قائل: إنها الحرية.. والذي أعتقده وأتصوره أنها كل ما يؤتمن عليه الإنسان من قول أو فعل، وإنها المسؤولية.. فمن يجحد ما وضع عنده فقد خان الأمانة، ومن سمع كلامًا فحرفه فقد خان الأمانة، ومن كان لديه علم فتلاعب به فقد خان الأمانة، ومن نافق لحاكم ظالم فقد خان الأمانة، وكل حاكم أو رئيس يسند منصبًا لغير كفء فقد خان الأمانة، وكل مستشار يداري ويجامل فقد خان الأمانة، وكل مدرس لا يؤدي واجبه فقد خان الأمانة، وكل موظف يتهرب من العمل فقد خان الأمانة، وكل أب أو أم يقصر تجاه تربية أولاده فقد خان الأمانة، وكل تاجر يبيع بضاعة فاسدة أو مغشوشة فقد خان الأمانة، وكل سياسي يداهن في قضايا الأمة فقد خان الأمانة، وكل إعلامي يتلاعب بالخبر، فقد خان الأمانة…إلخ.

ومن هنا يمكن فهم ما ورد في الأثر: إذا فقدت الأمانة فانتظروا الساعة، ومن علاماتها أيضًا ضياع الأمانة.. ومن علامات الساعة: أن تتخذ الأمانة مغنمًا. ومن علامات المنافق: إذا أؤتمن خان.

6. قوة الإنسان وضعفه:

يملك الإنسان قدرات كبيرة للارتفاع بنفسه إلى مصاف الملائكة، كما يملك قدرات مماثلة للهبوط بنفسه إلى درك سحيق، وهو في كل ذلك تتنازعه نوازع للارتفاع والهبوط، فيعيش متذبذبًا لا يقر له قرار، فهو ليس بالقوي أبدًا ولا بالضعيف دائمًا، والشعوب والأمم كذلك.. فهي بين ضعيف يتقوى مع الأيام، وقوي يضعف.. ضعيف ينهزم ويتأخر، وقوي ينتصر ويتقدم، فالقوة ليست أبدية، والضعف ليس سرمديًا، ومن سنن الحضارة التداول: (وَتِلكَ الأيامُ نُداولها بن الناس ) (آل عمران: 140).

لقد سجّل القرآن الكريم هذه الحقيقة مرارًا، يقول الله سبحانه وتعالى: (يُريدُ اللهُ أن يُخففَ عنكم وخُلقَ الإنسانَ ضعيفا ً) (النساء: 28)، ويقول: (إنَّ الإنسانَ خُلقَ هَلوعًا، إذا مَسهُ الشرُ جزوعا، وإذا مسَّهُ الخير منوعًا ) ( المعارج: 19-21).

ثم يبين الحق كيف ينتقل الإنسان من قوة إلى ضعف، وبالعكس: (اللهُ الذي خلقكم من ضعفٍ ثم جَعَلَ من بعد ضعفٍ قُوةً ثم جعل من بعد قُوةً ضعفًا وشيبة يخلق ما يشاء وهو العليم القدير ) (الروم: 54). والله تعالى يكشف هذه الحقائق للإنسان ليعرف نفسه، فلا يطغى في فترة قوته، وكذلك الأمة، ولا يستكين ويستخذي في فترة ضعفه،' وكذلك الأمة. كما يخبره أن استمرار الحال أبدًا، من المحال.. فالأقوياء لا يبقون ضعفاء أبدًا، ولا الضعفاء يعيشون كذلك أبدًا، بل الحياة رحلة بين القوة والضعف، يستوي في ذلك الفرد والأمة والحضارة، والكافر والمؤمن والمنافق.

إن الإنسان يولد ضعيفاً، وربما كانت طفولته أضعف من سائر الحيوانات، ففرخ الدجاج يستطيع تناول غذائه بعد ساعات من خروجه من البيضة، ومثله الخروف والعجل، أما طفولة الإنسان فهي الأطول، ولو ترك لحاله لمات لضعفه وعجزه.

وكثير من الحيوانات تبلغ خلال عام، ويمكن أن تحمل وتلد، إلا الإنسان فيحتاج مدة تقارب العشرين عامًا.

يقول سيد قطب(26): "… ولكن هذا الإنسان في التصور الإسلامي - كما هو في الحقيقة - على كل ما استودعه الله من أمانة الخلافة الكبرى، على هذا الملك العريض، وعلى كل ما سخر له من القوى والطاقات والأشياء والأحياء، وعلى كل ما أودعه من طاقات المعرفة والاستعداد، لإدراك الجوانب اللازمة له في الخلافة، من النواميس الكونية، على كل هذا هو مخلوق ضعيف، تغلبه شهواته أحيانًا، ويحكمه هواه أحيانًا، ويقعد به ضعفه أحيانًا، ويلازمه جهله بنفسه في كل حين، ومن ثم لم يترك أمر نفسه ومنهجه في الحياة لشهواته وهواه وضعفه وجهله، ولكن أكمل الله عليه نعمته ورعايته، فتولى عنه هذا الجانب، الذي يعلم سبحانه أنه لا يقدر عليه قدرته على المادة، ولا يعلم بمقتضياته علمه بقوانين المادة ".

الله تعالى يعلم طبيعة الإنسان وحبه لنفسه، كما علم أنه لو تركه يشرِّع لسعى جادًا لحفظ مصلحته، على حساب مصالح الآخرين، لذا جعل التشيع حقًا لنفسه تعالى، ومنح الإنسان حق التنظيم فقط، ولكن الإنسان يأبى إلا أن ينتزع هذا الحق انتزاعًا.

وعن تذبذب الإنسان، ارتفاعًا إلى الأعلى، وهبوطًا إلى الأسفل، يقول د. سيد حسين نصر

(27) : "إن الإنسان قادر على الارتفاع فوق مستوى الملائكة، والهبوط حتى يكون بمستوى الشيطان ". ومعلوم أن الأحياء - غير الإنسان - مشدودة إلى مستوى معين من الحياة لا يغير، إلا الإنسان فهو يرتفع حينًا ويهبط حينًا آخر.

وهذه القدرة، أو حرية الاختيار، هي مكمن الخطر، فالإنسان بفضل هذه الحرية يملك أن يعبد الله تعالى ويعمر الأرض، كما هو قادر أن يكون ملحدًا كافرًا، وعنصرًا هادمًا مخربًا.

من هنا وجدنا تاريخ البشرية تدافعًا بين الحق والباطل، بين الخير والشر، بين الإنسان والشيطان.. وليس صحيحًا أن تاريخ الإنسانية هو مجرد صراع بين طبقات الناس بسبب المادة ومن أجلها‍ فالإنسان أكبر من أن يكون (دابةً ) همها العلف، وقد كرمه خالقه، وجعله خليفة في الأرض، ليس ليتصارع حول العلف، ولكن لمعاني أكبر من ذلك كثيرًا.. وإن كان الصراع واحدًا من حقائق الحياة.

والدنيا فطرها الله وخلقها لتكون للبشر كافة، مؤمنهم وكافرهم، وكل يأخذ حقه وقسطه، لا يمنع الكافر من أخذ نصيبه، بسبب كفره، ولا يداري المؤمن لإيمانه، فالله تعالى يعطي المؤمن والكافر، المؤيد والمعارض، وليس كما يفعل بعض الناس، فيمنحون المؤيد ما يريد، ويمنعون المعرض من أي حق يريد. يقول الحق: (كُلاً نُمدُّ هؤلاء وهؤلاء من عطاء ربك، وما كان عطاء ربك محظورا ) (الإسراء: 20).

7- الإنسان والمجتمع:

ما موقع الفرد من المجتمع؟ هل الفرد ذرة والمجتمع مجموع ذرات، أم الفرد أصل والمجتمع مجموعة أفراد لا غير؟ هل الفرد حقيقة واقعة ينبغي أن تدرك بذاتها، أم أن المجمع هو الحقيقة، كلٌ قائم بذاته، وأن الفرد ليس إلا جزءًا من هذا الكل؟ وأن هذا الجزء لا يفهم له وجود إلا في الكل؟ لكل وجهة نظر، ناصر ومؤيد.

يولي توينبي المسألة عناية خاصة، فيتحدث عن المجتمع قائلاً: (28) " إنه نظام العلاقات بين الكائنات البشرية، ولا تقتصر تلك الكائنات على مجرد كونها أفرادًا، فإنها كذلك حيوانات اجتماعية بمعنى أنها تعجز عن البقاء على الإطلاق إن افتقرت إلى وجود هذه العلاقة بين بعضها بعضًا… وبالتالي فإن المجتمع هو حصيلة العلاقات بين الأفراد، وتبرز هذه العلاقات من بين ثنايا تطابق أفعالهم الشخصية، ويوجد هذا التطابق في الميادين الشخصية، في نطاق أرضية مشتركة، وهذه الأرضية المشتركة هي ما ندعوه بالمجتمع.

إن ارتضينا هذا التعريف انبثقت عنه نتيجة هام، تمتاز بالوضوح: إن المجتمع هو ميدان الفعل، أن مصدر الفعل بأسره، مرجعه الأفراد، الذين يتكون منهم المجتمع… ".

والسؤال المهم: ما طبيعة العلاقة بين الفرد والمجتمع؟

يعتقد الكثير أنها علاقة صراع، يريد الفرد أن يوسع في دائرة حريته، فلا يسمح له المجتمع بذلك، فيشعر أن مجتمعه يضغط عليه، ويحول أحيانًا دون تحقيق طموحاته، فيسعى لتحطيم القيود التي تفرض عليه.. وقد يحصل أن يعتدي على الفرد، وتصادر بعض حقوقه باسم المجتمع، عندها يكره الفرد مجتمعه، ويعمل ضده.

خارج هذه الدائرة (الصراعية ) تكون العلاقة أفضل وأسلم، فلا يستغني الفرد عن مجتمعه، ولا المجتمع عن الفرد.

والإنسان يحمل في نفسه نزعتين: فردية وجماعية، وهو محب لفرديته، يريد أن يستقل، ليحقق لنفسه أموراً كثيرة، وفي ذات الوقت هو محب لبني جنسه، يتطلع للعيش معهم بسلام، والاجتماع بهم.. وهو متذبذب بين النزعتين لا يستقر على واحدة، لكن يوجد أفراد تغلب فرديتهم على جماعيتهم وبالعكس.

والإسلام يمنح الفرد حقوقًا واضحة، ويوجب عليه واجبات تجاه مجتمعه، فالمسؤولية فردية ولا يؤاخذ إنسان بجرم ارتكبه أبوه أو أخوه مثلاً ، وليس من حق أحد أن يعتدي على إنسان، أو يتجسس على خصوصياته.. كما منح الإسلام حرية التملك، ومنع الاعتداء على الأموال، فهي مصونة، وشرط على الفرد أن لا يضر بمجتمعه، إذ "لا ضرر ولا ضرار "، و"الضرر يزال ".. وقد شجع الإسلام على الأخوة ومحبة الآخرين، فـ "خير الناس أنفعهم للناس "(29).

وقد أمن الإسلام للفرد حريته الدينية والمدنية والسياسية، وفي المقابل ألزمه بواجبات، فجعل الكل مسؤولاً عمن استرعاه، ممن هم تحت يده.. ويصور الله تعالى العلاقة الاجتماعية، فيقول: (والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياءُ بعضن يأمرون بالمعروف وينهون عن المنُكر ويقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة ويُطيعون الله ورسوله ) ( التوبة: 71).

فالعلاقة حميمة، والأمر بالمعروف سلطة منحها الله للمجتمع، ليراقب الفرد، فيمنع اعوجاجه.. والصلاة رابطة اجتماعية، والزكاة كفالة مالية، والكل يتحرك ضمن طاعة الله وطاعة رسوله، فنظامهم واحد، وتوجههم واحد، وتكافلهم واحد،ـ وعبادتهم واحدة.

إن الإسلام يولي عنايته للفرد والمجتمع على حد سواء، فهو يتحدث عن الأنبياء مثلاً، ثم يعقبه بما فعلت الشعوب والأمم.. إنه يذكر الأفراد الجيدين من الأنبياء والصديقين والشهداء، كما يذكر السيئين.. كما يذكر الشعوب وماذا فعلت، لكنه يختلف عن التوراة مثلاً، فلا يذكر القرآن الوقائع التاريخية بتفاصيلها إلا نادرًا، كما لا يذكر أبناء الأنبياء إلا إذا كان لذكرهم مبرر.

أما التوراة فتذكر كل شيء، فهي سرد للتاريخ، تذكر الأنبياء ونساءهم وأولادهم، وعمر كل، فتقع بسبب ذلك بأخطاء قاتلة، فقد نجد في أخبار المعارك أن جيشًا قوامه 600 ألف مقاتل، قاتل جيشًا قوامه 400 ألف، ولأن هذا مستحيل تصوره قديمًا، فقد وجدنا الأرقام صارت (6) آلاف ضد (4) آلاف.. وفي ذكر تاريخ الميلاد، قد وجدنا الابن مولودًا قبل أبيه، وخلاف: هل (س) زوجة النبي أم أمه؟ كما نجد أن نبيًا مثل موسى عليه السلام له أولاد، رواية تذكر أنهم ثلاثة وثانية تجعلهم سبعة، وهكذا.

إن منحى التوراة تاريخي، بينما اتجاه القرآن نحو تفسير التاريخ، وأخذ العبرة، لذا لا نجد في القرآن التفصيلات التي نجدها في التوراة.

في القرآن التركيز الأول نحو نقل الحوار بين الأنبياء وشعوبهم، وماذا حدث حين آمنوا أو لم يؤمنوا.. التوراة تركز على التفاصيل، فتذكر عدد المقاتلين في المعارك، وعدد القتلى، وعدد الغنائم، وإن ذكرت بعض الحوارات قدمت لها بتفاصيل لا يهتم بها أحد اليوم(30).

إن التاريخ صناعة مشتركة بين البطل والأمة، النبي وأنصاره، ولم يبخل القرآن عن ذكر البعض، ولو كان كافرًا، قال الله تعالى: (إنَّ فرعون وهامان وَجُنودهما كانوا خاطئين ) (القصص: 8)، (واستكبر هو وجنوده في الأرض بغير الحق وظنوا أنهم إلينا لا يُرجعون ) (القصص: 39)، (هو الذي أيدك بنصره وبالمؤمنين (62) وأَلَّفَ بين قُلُوبهم )

(الأنفال: 63).

وإذا كان المبدع هو حادي الأمة، فإن الجمهور هو الصانع الفاعل، قائد الجيش يخطط، وجنوده تنفذ، والنصر ليس من فعل وتخطيط القائد فقط، ولا من عمل الجنود فقط، ولكن النصر يتأتى من الخطة الجيدة، والتنفيذ الحسن، فالجنود بحاجة لقيادة جيدة، والقائد بحاجة لجند مطيع وشجاع.. وفي هذا الصدد كتب د. عماد الدين خليل: … وبينما تنحرف المفاهيم الوضعية باتجاه الفردية، حتى تصل بالفرد إلى مرتبة الألوهية، تاركة الجماهير تحت رحمة الطغيان الفردي هذا، أو باتجاه الجماعية حيث تصل بالطبقة إلى مرحلة الألوهية، تاركة الفرد كوحدة ذاتية متميزة مستقلة، تحت رحمة الطغيان الجماعي، نجد الإسلام يحفظ التوازن ويحميه، عبر سلسلة طويلة من التوجيهات والتشريعات والآداب والممارسات الأخلاقية، التي لا مجال لذكرها هنا…

أما القرآن فإنه يتجاوز هذا كله، لكي يعطي الدور لطرفي المسألة، ويعلق المسؤولية الكاملة في صياغة الواقع على الفرد وعلى الجماعة: (تلك أُمة قد خلت لها ما كسبت ولكم ما كسبتم ولا تُسئلون عما كانوا يعملون ) (البقرة: 134).

فلا ينفرد الفرد بصناعة التاريخ، ولا يستقل بذلك المجتمع، بل هو نتاج هذا وذاك(31).

وأختم البحث بكلمة(لآلبان)، حيث يقول(32): "… ورعاية الإسلام للفرد واهتمامه به بالقدر الوافي، شيء واضح تمامًا، وهو يصر أيضًا على الاهتمام بالجماعة بوصفها ذاك.

والله تعالى يصدر حكمه على الأمم، ويشير القرآن في مواضع كثيرة إلى القرى التي ازدهرت أو أهلكت، بما قدمت يداها من طاعة أو عصيان، للسنن الخلقية ".

============

# رابعًا: المسلم والشهادة على الناس

الإنسان صانع الحضارة برقيه ترقى وتزدهر، وبتأخره تتأخر وتتدهور، والتحضر عمل شاق، يتطلب جهدًا خارقًا، تصميمًا قويًا، كما يتطلب توفر إمكانات، وله شروط ينبغي أن تكون مواتية، لذا لم يعرف العالم حضارة قامت بقرار سياسي، أو سقطت بقرار سياسي، بل لا بد من تجمع أسباب، وتوفر عزم وتصميم، وقد كرم الله تعالى أمتنا فجعلها شاهدة على الأمم، وجعل رسولنا عليه الصلاة والسلام شاهدًا على أمته، يقول الحق: (وفي هذا ليكون الرسولُ شهيدًا عليكم وتكونوا شهداء على الناس فأقيموا الصلاة وءاتوا الزكاة واعتصموا بالله هو مولاكم فَنِعْمَ المولى وَنِعمً النصير) ( الحج: 78).

يقول سيد قطب يرحمه الله 33: "فالرسول عليه الصلاة والسلام يشهد على هذه الأمة، ويحدد منهجها واتجاهها، ويقرر صوابها وخطأها، وهي تشهد على الناس بمثل هذا، فهي القوامة على البشرية بعد نبيها، وهي الوصية على الناس، بموازين شريعتها وتربيتها، وفكرتها عن الكون والحياة، ولن تكون كذلك إلا وهي أمينة على منهجها العريق، المتصل الوشائج، المختار من الله تعالى.

ولقد ظلت هذه الأمة وصية على البشر، طالما استمسكت بذلك المنهج الإلهي، وطبقته في حياتها الواقعية، حتى إذا انحرفت عنه، وتخلت عن تكاليفه، ردها الله عن مكان القيادة إلى مكان التابع، في ذيل القافلة، ولا تزال كذلك حتى تعود إلى هذا الأمر الذي اجتباها له الله عز وجل.

وهذا الأمر يقتضي الاحتشاد له والاستعداد، ثم يأمرها القرآن بإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة والاعتصام بالله… بهذه العدة تملك الأمة المسلمة أن تنهض بتكاليف الوصية على البشرية، التي اجتباها لها الله، وتملك الانتفاع بالموارد والطاقات، التي تعارف الناس على أنها مصادر القوة في الأرض. والقرآن الكريم لا يغفل من شأنها، بل يدعو إلى إعدادها، ولكن مع حشد القوى والطاقات والزاد الذي لا ينفذ، والذي لا يملكه إلا المؤمنون بالله، فيوجهوه به الحياة إلى الخير والصلاح والاستعلاء.. إن قيمة المنهج الإلهي للبشرية أنه يمضي بها قدمًا إلى الكمال المقرر لها في هذه الأرض، ولا تكتفي بأن تقودها اللذائذ والمتاع وحدهما، كما تقاد الأنعام.

إن القيم الإنسانية العليا لتعتمد على كفاية الحياة المادية، لكنها لا تقف عند هذه المدارج الأولى، وكذلك يريدها الإسلام في كنف الوصاية الرشيدة المستقيمة على منهج الله تعالى".

مستلزمات الشهادة:

إن هذه الشهادة شيء كبير، وشرف عظيم، لذا فهي تتطلب شروطًا لا تتحقق بالكسل أو التخلف.

فالشهادة والريادة، في عالم اليوم، تتطلب عقيدة سليمة، وثقافة حية، والتزامًا صارمًا بمنهج الله تعالى، لذا جاء الأمر في الآية بإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة والاعتصام بالله. وقد ظلت أمتنا قرونًا كثيرة، تقوم بهذه الريادة والشهادة ثم بدأ "العد التنازلي"، فتركت القيادة لتصبح في ذيل القافلة.

إن الشهادة والريادة ليسا مما تورث، وقيادة العالم اليوم هي للغرب الصناعي، وعلى من يتطلع لدور حضاري أن يكون لديه شيء يقدمه، فإن كان حافيًا خليًا فمكانه في المؤخرة، وليس في القيادة، أو الريادة، وإذا كان بعض "الحالمين" يغالط نفسه بادعاء أن الله تعالى اختاره وفضله على كل البشر، وأنه يرث ذلك عن أجداده، فتلك أسطورة عفا عليها الزمن، وتنكرها سائر الأمم.

ونحن - بحمد الله - لا نعيش على أوهام أو أساطير، ونحن نقرأ صباح مساء قول الحق: (وأن ليسَ للإنسان إلا ما سعى، وأنَّ سعيهُ سوفَ يُرى، ثُمَّ يجزاه الجزاءَ الأوفى)

(النجم: 39 - 41).

إن الغرب يمسك بقيادة العالم فكريًا وسياسيًا وصناعيًا وإعلاميًا، ولن نستطيع مزاحمته في أكثر هذه الميادين، لكننا نملك عقيدة وفكرًا، لا يملكها الغرب، ونملك آخر الأديان السماوية ولدينا كتاب رباني هو آخر الكتب السماوية، وقد تعهد الله بحفظه، ولدينا سنة تردفه، وتبين ما في هذا الكتاب، فإذا التزمنا شريعة الله، وأحسنا عرضها، وصدقنا في التطبيق، فبإمكاننا أن نقدم للعالم شيئًا يحتاجه، لكننا لا نغالط أنفسنا، ولا نعيش على وهم كاذب، بأن تكون لنا صناعة، في القريب العاجل ، أفضل من صناعة الغرب، ولا زراعة أفضل مما لدى الغرب ولا إعلام…إلخ.

بضاعتنا الوحيدة بضاعة ربانية، تكفل السعادة للإنسان في دنياه وآخرته، جربناها قرونًا، ونعمل جاهدين للعودة إليها بصدق وإخلاص موضوعية، وأملنا أن يمدنا الله بقوته، ويسدد خطانا، وسندنا في ذلك قوله تعالى: (والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سُبلنا وإن الله لمع المحسنين) (العنكبوت: 69).

إن شهادتنا على العالم شهادة علم ومعرفة وهداية، وحين سقطنا في الجهل ذهبت أهلية تلك الشهادة، بل صرنا مشهودًا علينا، وإن صارت شهادة "زور" ، وعوملنا - وما نزال - أسوأ معاملة. كل حسن لدينا فهو مأخوذ من (الغير)، وكل قبيح يشنع به علينا.

القنابل تنفجر، والسيارات المفخخة تنفجر في إيرلندا أسبوعيًا، ومنذ نصف قرن تقريبًا، لكن لا أحد يقول هذا إرهاب كاثوليكي أو بروتستانتي.. فإذا استعمل السلاح فرد مسلم غير منضبط، صرخ الإعلام: إرهابي مسلم، وإذا قام طبيب يستعمل سلاحًا حكوميًا، ورش الناس وهم يصلون في الخليل، وهم في حالة سجود يقال لنا هذا رجل "مختل"!

لقد صار الإرهاب حكرًا على المسلم، في الإعلام الغربي، وحيثما أطلقت رصاصة، يسند الفعل لمسلم، قبل أن يعرف الفاعل، إنها شهادة مزورة تتعالى منها رائحة العنصرية النتنة!

إن الشهادة على الناس في حقيقتها، إظهار للحق، وتبيينه وتبليغه للناس(34). وطبيعي أن تقوم على معرفة الحق، الذي يراد بيانه وتبليغه، ومعرفة الحق "العلم"، وإذن فينبغي أن تكون الشهادة قائمة في أصلها وأساسها على "العلم"، فشهادة العلم هي الشهادة المطلوبة.. وبهذه المناسبة أجد من المفيد أن أستطرد، بهدف إيضاح قضية، قد يكون فيها نوع من الغموض، فالعلم متى كان وصفًا موضوعيًا، وجوابًا عن "كيف"، فلا اعتراض، ولكن الاعتراض على فلسفة العلم فقط، وهذا يشاركهم فيه بعض علماء الغرب مثل "يهوم ومل".

يقول د. الموصلي(35): "من الواضح أن الأصوليين لا يرفضون العلوم بحد ذاتها، بل فلسفتها، فالعلوم عندهم وسيلة وأداة، وهذا مشابه لما دعا إليه "ستيورت مل" في قوله: إن العلم هو وصف وظائفي لحقائق ناتجة عن الملاحة والتجربة.

فآراء الأصوليين كآراء (مل وهيوم) وهي ضد هذا التنظير الفكري، لأنها تشك في قدرة الإنسان على التوصل للحقيقية، سواء أكان ذلك عن طريق الفلسفة أم العلوم، أم فلسفة العلوم".

إن فلسفة العلوم قد تحولت إلى دين، لكنه ليس دينًا جديدًا فقط، بل فوق الأديان كلها.

وصار البعض يعتقد أن العلم قد اكتشف أسرار الكون، وهو قادر على حل كل المشاكل، وكل قضية لا يحلها العلم، فهي مشكلة "ميتافيزيقية" زائفة، وهنا مكمن الخطر، ومن هنا يأتي الاعتراض على "كهنة العلم".

شهادة المعرفة:

إن الشهادة تتطلب معرفة، ولا تقبل شهادة من غير معرفة، وإذا شك الشاهد في شهادته سقطت، فكيف إذا لم يكن له علم ولا معرفة؟!

ولكن السؤال: هناك اليوم علوم ومعارف أكثر من أن تعد وتحصى، فما المقصود بالمعرفة هنا؟

"تعنى شهادة العلم في سياق جعل الأمة الإسلامية شاهدة على الناس، أن تكون هذه الأمة قائمة في عقيدتها وفي عملها على السعي الدائم للعلم بالحقائق، وتأسيس الحياة عليها، بعيدًا عن كل منزع خرافي أو وهمي أو أسطوري، في تصور "الوجود والحياة"، وذلك ما يفسر تلك الدعوة الدؤوب إلى العلم، التي جاءت مبثوثة في تعاليم الدين، بشكل لا يوجد له نظير في أي دين آخر، حتى جاءت قيمة العلم في المذهبية الإسلامية، تتبوأ الدرجة الأولى في سلم القيم، وتنبني عليها كل القيم الأخرى" (36).

واستذكر ما سبق نقله عن حجة الإسلام الغزالي، بأن ثمة تلازمًا قويًا بين علوم الدين وعلوم الدنيا، فمن تعلم علمًا واحدًا فلا يكفي. من تعلم علوم الحياة فقط فلا نصيب له في الآخرة، ومن تعلم علوم الدين وجهل علوم الحياة فإن فهمه للدين سيكون ناقصًا.. وإذن فلا بد من العلمين معًا.

كما لا بد أن يكون العلم شاملاً كي تصل الأمة الإسلامية إلى موقع تشع فيه على البشرية الخير، وهنا لا بد من معرفة جيدة بالتحضر، والكيفية المناسبة له، وهذا يتطلب معرفة جيدة بالدين، والكون والبشر، وبدون هذه المعرفة الشاملة ستتعذر الشهادة، ففاقد الشيء لا يعطيه، ولن يجني من الشوك العنب.

2- المعرفة بالدين:

منطلق المسلم دينه، فمعرفته جيدة سليمة، تسهل الانطلاق.. والإسلام دين سهل، يخلو من التعقيد، ولذا كان الصحابي يدركه بيسر وسهولة، كما يدرك أهدافه وأبعاده.

لقد أرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم معاذ بن جبل رضي الله عنه لليمن لجمع الزكاة، فطلب إلى أهل اليمن أن يعطوه قماشًا بدلاً من الزكاة العينية، وعلل ذلك بقوله (37): "إنه أهون عليكم، وخير للمهاجرين بالمدينة".. وحين فتحت العراق على عهد الخليفة الراشد عمر رضي الله عنه، رفض توزيع الأرض على المجاهدين، وبقي ستة أشهر يناقش كبار الصحابة، وكانت حجته أنه يريدها موردًا لبيت المال أولاً، وكي لا يتحول المجاهدون إلى مزارعين، ويتركوا الجهاد.

وروي أن على بن أبي طالب رضي الله عنه سئل عن قوله صلى الله عليه وسلم: "غيّروا الشيب ولا تشبهوا باليهود" فقال: إنما قال عليه الصلاة والسلام ذلك والدين قُلّ - أي المسلمون قلة - فأما الآن وقد اتسع نطاقه وضرب بجرانه، فأمرؤ وما اختار (38).. والشواهد كثيرة.

إن الإسلام نصوص من كتاب الله وسنة رسوله، والأخذ منها مباشرة سهل ميسور، متى علم الإنسان العربية، مفردات ودلالات وعلم أسباب النزول وكليات الشريعة.

إذن ليس المقصود بالعلم بالدين، العلم المتخصص، فذلك من نصيب نخبة من علماء الشريعة، ولكن المقصود قدر مشترك من المعرفة الصحيحة، تشتمل على أصول العقيدة، ومتطلبات العبادة الصحيحة، والأخلاق الإسلامية، بعيدًا عن التأويلات الباطنية، والتي ترفضها اللغة.

وأيضًا فليس المطلوب علمًا نظريًا، لا يكون له في السلوك نصيب، فيكون التنظير بواد والعمل والفعل بواد آخر، واستذكر هنا أن اليابان حين عزمت على النهوض، توجهت إلى الصناعة وعلومها، ولم تتوجه للدراسات النظرية، وما زال هذا التوجه حتى اليوم، وكافة البعثات التي أرسلتها إلى الغرب، لم تجعل من أهدافها دراسة الفلسفة أو علم الاجتماع أو القانون، على حين كان العربي المبتعث يغلب على دراسته العلوم النظرية والآداب والقانون، ولم يعدَّل التوجه إلا خيرًا.

وحين انشغل المسلمون بالفلسفة وعلم الكلام، واشتغل الفقهاء بالفقه الافتراضي، صار العلم يعالج قضايا لا وجود لها في المجتمع على حساب قضايا موجودة، لا تجد من يعالجها.. والذين هاجموا علم الكلام، من علماء الأمة، كانوا يرون فيه (ترفًا فكريًاً) يخترع المتكلم مشكلة، أو يطرح إشكالاً، ثم يحاول حله، وقد يفلح أو لا يفلح.. من هنا رأينا عالمًا مثل الشاطبي، كان همه الأول التعرف والتعريف بمقاصد الشريعة، يقول (39): "كل مسألة لا ينبني عليها عمل، فالخوض فيها خوض فيما لم يدل على استحسانه دليل شرعي، وأعني بالعمل عمل القلب وعمل الجوارح، من حيث هو مطلوب شرعًا".

والعلم حين يشيع في الأمة، يتنافس في الحصول عليه الكل، وبهذا نفسر انتشار المدارس والكتب في العالم الإسلامي، حتى قال "ديورنت" في كتابه الرائع "قصة الحضارة": إن مكتبة الصاحب ابن عباد الشخصية، كانت تحوي من الكتب أكثر مما تحويه كافة المكتبات العامة في أوروبا كلها.

كذلك فإن الإسلام انتشر في شرق إفريقيا وجنوب شرق آسيا عن طريق التجار، الذين لفتوا الانتباه بجودة سلوكهم، فكانوا دعاة للإسلام بالفعل لا بالقول، واليوم يسجل الطلبة المبتعثون، والدارسون في الغرب، نجاحًا في الدعوة رغم قلة العلم، ولكن حسن السلوك هو "الجاذب" الأكبر.

من السهل أن يكون الإنسان "منظرً"، ولكن الأنفع أن تكون حياته وسلوكه صورة لما يؤمن به، ويدعو له.

إن الإسلام يواجه اليوم أكبر حملة إعلامية ظالمة ضده، ومع ذلك فهو يسجل الانتصار بعد الانتصار، وإذا كان البعض يكسب بعض الفقراء لتقديمه المال والطعام، فالإسلام يكسب من رجال الفكر والعلم.. والغريب أن أكبر حملة ضده في الغرب تتركز حول المرأة، ثم نجد الإسلام ينتصر وينتصر في صفوف النساء.. إنه دين يشق الطريق بقوته وليس بفضل الأموال التي تنفق، ولا الكنائس الفخمة التي تشاد، ثم لا تجد من يزورها.. وقد صدق من قال: النصرانية دعوة بلا دين، والإسلام دين بلا دعوة.

إن العالم الإسلامي يشهد صحوة لم يعرفها منذ زمن بعيد، ومعرفة المسلم بدينه تزداد يوميًا، والالتزام به يكبر يوميًا، رضي الأعداء أم سخطوا، اتهموا المسلمين بالإرهاب أم لم يتهموا، فقد وعد الله تعالى بنصر دينه حيث قال: (سَنُريهم أياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق أو لم يَكفِ بربكَ أنه على كل شيء شهيد) (فصلت: 53).

3- المعرفة بالكون:

سبق في بداية هذا الكتاب، أن تحدثت عن الكون، وموقف المسلم منه، وأريد هنا التركيز على الجانب المعرفي للكون، فهو كتاب مفتوح، وأثر عظيم من آثار الله تعالى المنظورة والمحسوسة.. أما الوحي فهو الكتاب المقروء والمعجز، ولذا فلدينا كتابان: منظور مشاهد، ومتلو مبارك.

والدارس لكتاب الله يكسب العلم بالدين، والمتأمل في الكون يتحصل على علم عظيم، فدقة صنع الكون وعظمته، تدل على عظمة خالقه، وهو من آيات "الآفاق"، ودراسته ومعرفة السنن التي تضبط حركته توصل إلى الإيمان العميق بالله، وعظيم قدرته.

إن الكون توصل إلى الإيمان وسخره للإنسان، قال تعالى: (ألم ترواْ أن الله سخَّر لكم ما في السماوات وما في الأرض وأسبغ عليكم نعمه ظاهرةً وباطنة) (لقمان: 20).

وهذا التسخير كي يكون على الوجه الأكمل، فلا بد من معرفة جيدة بالكون وسننه، والقوانين التي تضبطه، لينتقل الإنسان من العلم بأوجه التطبيق والترابط، إلى النواميس التي تحكم الكون، كي يستثمره الاستثمار الأفضل والأنفع، وكي تتقى المضار والأخطار والكوارث الطبيعية، وكذلك تنمية الثروات الكونية على الأرض والبحار والجو، وإيقاف الاستنزاف لتلك الثروات.

إن الغرب يقف من الكون موقفًا معاديًا، وعبارة قهر الطبيعة تتردد كثيرًا، وكذلك فإن الاحترام للصناعة وأهلها، وكل ما هو غير صناعي فلا يستحق الاحترام، وقد تقدم هذا في بحث الكون، وما قاله عالم الاجتماع أريك فروم.

ولعل من الثمار المرة لهذه النظرة تلوث البيئة، وحصول ثقب الأوزون، وارتفاع حرارة الأرض والمحيطات، وربما سنكتشف أن رش المبيدات هو المسبب للكثير من أمراض السرطان، وربما كان للتفجيرات النووية وأمثالها، التأثير الكبير على ثوران البراكين، أو كثرة الزلازل.

إن الإنسان في الغرب يلوث البيئة، ويستهلك خيراتها، بأضعاف ما يفعله الإنسان في الهند مثلاً.

وقد وجدت الشيخ سعيد النورسي يرحمه الله، يتحدث عن الطبيعة، فيصفها بأوصاف جميلة، حتى كأنه شاعر صوفي (40): "الطبيعة صنعة إلهية وليست بصانع، كتاب رباني وليست بكاتب، نقش ولا يمكن أن يكون نقاشًا، دفتر وليست (دفتردار) قانون وليست قدرة".

يعود مرة أخرى للطبيعة، فيقول(41): "إن الطبيعة ليست طابعًا بل مطبعة، وليست نقاشًا بل نقشًا، وليست فاعلة بل قابلة، وليس مصدرًا بل قانونًا، إن الطبيعة شريعة إلهية"، الطبيعة شريعة إلهية، تدل على خالقها، هذا صنع الله فأروني ماذا صنع الذين كفروا؟

معرفة البشر:

5- لكي يكون الإنسان أهلاً للشهادة على غيره، يجب أن يعرف ذلك (الغير)، معرفة دقيقة جيدة، وإلا فليس أهلاً للشهادة.. والملاحظ أن علوم الحياة تتقدم بخطى ثابتة، بل تقفز قفزات كبيرة، ربما لم يشهد العالم لها مثيلاً من قبل.

لكن علم الاجتماع وعلم النفس والتربية ما زالت تحبو، وخط سيرها متعرج، وجل أمورها ظني تخميني، وما تثبته مدرسة تنقضه أخرى وتهدمه.

ومن عجب أن الإنسان يسير المركبات ، لمعرفة الكواكب القريبة والبعيدة، وهو لم يكشف نفسه.

نعم إن رجال التربية والاجتماع والنفس، ما زالوا يبذلون جهودًا لفهم الإنسان، ومحاولة معرفة كل ما لديه، ولكن يمكن القول: بأنهم ما زالوا في بداية الطريق.

إن الطريق ذلك المخلوق المكرم، المعتز بنفسه، يملك شخصية فذة، هي نسيج عجيب معقد، فيه موروثات نفسية وبدنية، وثقافة عامة يكسبها من بيئته ومحيطه، وعلم ومعرفة يتلقاها ويكتسبها، ظروف اجتماعية تحيط به، وتؤثر على سلوكه ونفسيته، إضافة إلى عوامل أخرى تعمل متشابكة متداخلة لتكون شخصية متميزة.

إن علوم الإنسان ما زال جلها "فرضيات"، لم تمحص ولم تصل حد النظريات، ولا الحقائق العلمية المقطوع بها، لا فرق في ذلك بين علم التربية وعلم النفس والاجتماع والفلسفة.

والإنسان يتساءل: لماذا يفلح الإنسان في كافة ميادين العلم والمعرفة والتقنية، ثم يفشل في فهم ذاته؟

وفي الإجابة يمكن القول: بأن كل علم ومعرفة له "مرجعية"، أي إطار توجيهي، أو لنقل قواعد أساسية تمنحه بعض الخطوط العريضة، أو الكليات التي مهمتها أن تعصم من يأخذ بها من الوقوع في التيه أو التخبط.

وقد كان كل ذلك متوفرًا في "الوحي" وما جاء به الأنبياء، وآخرهم نبينا عليه السلام، فلما ابتعد الغرب عن الله وهديه، تخبط الإنسان وما زال يتخبط.

إن الإنسان جسم وعقل وروح وعواطف وأشواق، فإذا جرت العناية بالجسم فقط حصلنا على مصارع أو ملاكم أو عداء مثلاً، وإذا جرى اهتمامنا بالعقل فقط حصلنا على فلاسفة وعلماء، وقد تكون نهاية العالم على أيديهم، فيما يخترعون ويصنعون.

فإذا اهتممنا بالروح فقط فيمكن أن نحصل على جيش من الرهبان، وإذا اهتممنا بالعواطف والأشواق فقط فقد نحصل على شعراء أو فنانين.

فإذا اهتممنا بكل مكونات الإنسان، وبشكل متوازن، حصلنا على إنسان سليم متوازن، ومن ثم حصلنا على حضارة متوازنة تخلو من الانحراف.

إن الذي يصعب جحوده، هو ما قام به الغرب من جهود جادة لدراسة الإنسان وفهمه، ولكن العلة - في نظري - كانت متمثلة في فقدان المرجعية.. فالكل يبحث كما يشاء ليصل إلى ما يشاء، ثم ليناقض الكل الكل، ويهدم عالم الاجتماع وما يقوله عالم النفس وبالعكس.. أما المسلمون ولديهم المرجعية والمقدمات الأساسية لفهم الإنسان، فقد أهملوا ذلك، كما أهملوا الاشتغال بعمارة الأرض، وإقامة الحضارة، مع أن ذلك هو واجبهم، بعد عبادة الله تعالى.

وحتى لا نتهم بنكران الجميل، فإن الذين اشتغلوا بعلوم الإنسان وعلوم الحضارة كانوا في معظمهم ممن يقتنع بالمنهج الغربي، ويتولونه، ويثقون به تمام الثقة، وهم بذلك من الغرب وإليه، وإن كانوا منا دينًا ولغة ووطنية.

وبالمثل، فإن اليهودي والنصراني والمجوسي، الذي كان يكتب ويبحث - أيام كانت حضارتنا سائدة - كانوا أجزاء منها، لأنهم كانوا يخدمونها، وهي تخدمهم بما تقدم لهم من وسائل.. وكذلك - يمكنني الادعاء - بأن العربي والمسلم، الذي يشتغل باحثًا ومؤلفًا ومخترعًا في الغرب، هو جزء من حضارة الغرب وليس جزءًا منا.

إنه يستعمل المنهج الغربي، والعلم والتقنية الغربية، وحتى اللغة، ويعمل - وهذا المهم - لحل المشكلات التي تواجه المجتمع الغربي، وإن درس مشكلة من مشاكلنا فيدرسها منهجًا واستثمارًا للغرب، لا أقول هذا بهدف اللوم، ولكن تقريرًا للواقع، كما يظهر لي على الأقل.

وختامًا، أدعو للتمسك بالمرجعية في فهم الإنسان، والتعامل معه، وأريد أن تكون دراستنا مؤطرة بذلك كي نفهم الإنسان المسلم أولاً، ونستطيع النهوض به ثانيًا، فإذا تركنا هذه المرجعية فأي مرجعية نعتمد (42).

إن فهم الناس عمومًا يتطلب معرفة بتاريخهم وجغرافيتهم وتركيبتهم السكانية، والمشاكل التي يعانون منها، وبدون ذلك فإن التعامل لن يكون ناجحًا.

في إفريقيا، حيث الفقر يضرب القارة السوداء ضربًا مخيفًا، تجعل الإفريقي يقدم أولاده إلى كوبا لتأخذهم وتعلمهم الماركسية وحرب العصابات، كما كان يقدم أولاده للدراسة في جامعة الكادحين في روسيا، دون معرفة بالنتائج ولا ما يدرس ولده.

في اليابان البلد الصناعي الفني، إذا قدمت كتابًا لشخص يحرص على دفع ثمنه، ولا يفهم سببًا لكون الكتاب بلا ثمن، ويرفض ذلك.

وإذا جَرّبْتَ مخاطبة الياباني باسم المشرق والعادات الشرقية، يقبل عليك، ولو طلبت منه أن يشهد أن لا إله إلا الله، ولا مانع لديه، ولكن الإنسان الغربي يرفض ذلك بنوع من التعالي، ويقول: إنه نصراني.

===============

# خامسا: الإنسان بين التقدم والتخلف

اعتادت بعض الأنظمة أن تصنف العالم إلى متقدمين ومتخلفين، وطبعًا اختارت لنفسها التقدم، ودمغت غيرها بالتخلف، وكان أبطال هذا التصنيف من أصحاب النظم الشمولية، ومن يقلدها في المشرق العربي.. ومعلوم أن الأنظمة الشمولية هي الأسوأ في العالم، قديمًا وحديثًا، وقد قدرت المصادر الغربية وأيدتها المصادر الشيوعية أن "ستالين" تسبب في معاناة خمسين مليونًا من شعبه بين قتيل وسجين ومشرد ومهجر.. وهذا العدد الهائل لم يعرفه العالم خلال قرون، ومع ذلك صنفت الشيوعية كنظام تقدمي، وصنفت جميع الأديان بأنها مورفين الشعوب.

في حوار مع أستاذ غربي يعمل في جامعة خليجية، قيل له: لقد دخلنا الأندلس باثني عشر ألف مقاتل، وخرجنا بثلاثة ملايين، وبعد أن أقمنا حضارة كانت ملء السمع والبصر، وبعد إقامة دامت سبعة قرون، ثم قمتم بحملة بربرية قتلتم الألوف ونصرَّتم بالقوة ألوفًا، وحين حاول السلطان العثماني سليم القانوني إجبار النصارى على الإسلام أو الرحيل، وقف الفقهاء في وجهه، ومنعوه من ذلك.

وحدث حين دخلتم القدس، وضعتم السيف في رقاب المسلمين حتى سالت القدس بالدماء، وحملتم من جماجم المسلمين الألوف وأرسلتموها "هدية"، فلما استرجع صلاح الدين القدس سمح لكم بالخروج ومعكم الأموال، فكيف تفسر ذلك؟

الجواب:

كل هذا صحيح لا جدال فيه، أما تفسيري فبسيط للغاية، فالإسلام يختلف عن النصرانية، وسلوك المسلمين يختلف بالتالي عن سلوك النصارى، ومن هنا جاء الاختلال، ولا بد من عودة للوراء، فحين راحت النصرانية تنتشر، وقف الرومان منها موقفًا معاديًا.. مدة ثلاثة قرون وربع، كانت العلاقة بين الدولة الرومانية والنصرانية في غاية التوتر، فكثر القتل والمطاردة والسجن. وفي عام (325م) حدث أن والدة الإمبراطور قسطنطين راحت تحثه ليتنصر وينصِّر الدولة، وقد باشر ذلك، فتوقفت عمليات القتل والمطاردة للنصارى، وشيئًا فشيئًا راحت الدولة تطلى بالنصرانية، لكن شيئًا لم يتغير من سياسة الدولة أو التشريع.

فقد جاء "الدين" متأخرًا جدًا، وكان يطلب الشرعية من الدولة، ولما حدث الصراع مع الكنيسة وانتصرت الدولة، طرحت العلمانية كحل وسط.. هذا من حيث التاريخ، أما التشريع فالإسلام عقيدة وشريعة، دين ودولة، ولم تكن النصرانية كذلك، فهي عقيدة وعبادة بدون شريعة.

الأمر الآخر جدًا، أن الإسلام كدين، سابق ومتقدم على الدولة، وقد أقام الدولة كما يريد، ولذا فالشرعية للدولة تطلب من الإسلام، وشرعية النصرانية تطلب من الدولة.

الحاكم فوق الكنيسة، والحاكم المسلم هو خليفة عن الرسول صلى الله عليه وسلم ليس أكثر، ولذا فهو شرعي ما رضي عنه الإسلام، فإن ابتعد سقطت شرعيته. الدولة في الإسلام خادمة للدين وليس العكس.

تبقى قضية النزاع في المجتمعات النصرانية، فقد كان ضد الكنيسة وتجاوزات رجالها، وأما النزاع في المجتمعات المسلمة، فضد الدولة وتجاوزاتها.. الدولة في الإسلام مدنية، محكومة بشريعة الإسلام، وفي النصرانية الأولى كانت كهنوتية، تستمد السلطة من الله، ولا يوجد من يحاسبها إلا الله.

ونظرًا لكل ما تقدم، وبعد إقامة في بعض الدول العربي قاربت عشر سنوات، خلصت إلى نتيجة: إن كثيرًا من سلوكيات المسلم، لا يرضى عنها الإسلام أولاً، وأن أقصر طريق لتقدم المسلمين هو الأخذ بالإسلام عقيدة وشريعة، وبطريقة جادة بعيدة عن الشكليات والطقوس الخارجية.

أما عن سبب اختلاف النصارى والمسلمين قديمًا، فقد كان يعود لأن الإسلام عقيدة وشريعة، وكان الفرد المسلم حريصًا لدرجة عالية علا الالتزام بأوامر الإسلام، أما النصراني فليس لديه شريعة، وما عنده من أوامر تتعلق بالمحبة والتسامح فلا وجود لها في ميدان التطبيق، لذا كثرت الحروب بين النصارى، وكل فريق تمكن من آخر سامه سوء العذاب، وما زالت المطاحنات في إيرلندا بين الكاثوليك والبروتستانت تذكرنا بانعدام التسامح وفقدان المحبة، مع ذكرهما في كل صلاة تقريبًا.

يدرس د. برهان غليون الفارق بين استناد الأخلاق للوحي وانفصالها عنه، فيقول(43): لقد أدى إسناد القيم الاجتماعية إلى الوحي - بعد أن كانت تستند إلى سلطة أرضية ملكية مقدسة - إلى تطور كبير لمفاهيم الإنسانية والعدالة والكرامة والمساواة والحرية، بينما أثار انفصالها عن الدين، في مرحلة لاحقة… مخاوف وشكوكًا متعددة، وقد أتاح هذا الانفصال أيضًا تمييزًا أفضل لحقل الأخلاق عن حق القانون، وفي الحالتين، أدى تبدل الإطار المرجعي إلى ثورة حقيقية جديدة في ميدان الأخلاق.

ففي الحالة الأولى، أصبحت قدسية النفس الإنسانية، وكرامتها جزءًا من القدسية الإلهية، واستقلت عن أهواء السلطة لتصبح أساسًا للمساواة في الإنسانية، إذ أصبح جميع الناس أبناء الله، وأصبحت عبودية الجميع له شرطًا لمساواتهم أمامه، وبذلك ضمنت الأخلاق لنفسها القوة والديمومة، وصار من الممكن للاجتماع البشري أن يتجاوز الممالك الصغيرة إلى الإمبراطوريات العالمية الكبرى التي طبعت تاريخ آسيا والشرق جميعًا بطابعها المنفتح والإنساني والتعددي، وشكلت من جميع الوجوه ثورة في مفهوم الإنسان ونظرته إلى نفسه وإلى رسالته.

ومع ما أصاب هذه الأخلاق الدينية من تراجع وضعف مع تطور الحضارة ونفاد الجذوة الأولى الروحية، دعت الحاجة إلى إعادة بناء هذه القيم الإنسانية على أسس جديدة، فنشأت فلسفة أخلاقية حديثة، جعلت من العقل السند الأساس لها، باعتباره ملكة مشتركة للحكم عند جميع الناس، وخلف حدود الأديان والأجناس، وقد ترافقت هذه الثورة العقلية في مجال الأخلاق بنمو مفهوم الإنسان كعضو في مجتمع، وبنمو مفهوم الجماعة القائمة على تعاون الأعضاء، من أجل سعادتهم، وتدبير شؤونهم، ومضاعفة قدراتهم وحرياتهم، وهو مفهوم جديد بالمقارنة مع ما كان سائدًا من تمحور كيان الجماعة حول زعيم ملهم أو مقدس، أو فكرة مقدسة رسالية.

وما حصل في هذه الثورة التي بدأت تختمر في المجتمعات الغربية، منذ نهاية القرون الوسطى، وبسبب ما شهدته هذه القرون من عسف وتفريط بالقيم الدينية، لمن يكن يعني إلغاء الأخلاق بقدر ما هو تحقيق الفصل بينها وبين الدين، أو بالأحرى تأسيسها على مصادر جديدة، وجعلها أخلاقًا مدنية.. ولذلك فإن الأخلاق العقلية التي أسست نفسها على فكرة الواجب، كما عبر عنها الفيلسوف الألماني "كنت" لم تلغ المبادىء القديمة، التي تحرم القتل والسرقة والكذب والغش…إلخ.

ولكنها أبرزت أن الحفاظ على هذه القيم والمبادىء لم يعد ممكنًا إلا إذا استند على اقتناع عقلي، ولمن يكن هذا التطور في الواقع إلا أحد مظاهر حركة "العقلنة" العامة، التي شهدها المجتمع الغربي في القرون الماضية، كمحاولة لرأب الصدع، الذي خلقه تحلل الأيدلوجية الدينية وفسادها، وما كان لها مع ذلك أن تنشأ، لو لم تتحقق من قبل وحدة الإنسان وقدسيته في الأديان السماوية أو المقدسة.

أزمة من أزماتنا:

يتحدث د. غليون (44) عن أزمة يعيشها المجتمع العربي، تتمثل في عجز "التحديث" عن تقديم مشروع لأخلاق عقلية، على حين يقوم "التحديث" بتدمير الارتباط بين الأخلاق والدين، فلم نبقِ على الارتباط القديم، ولا أفلحنا بإنشاء ارتباط جديد. وهذا نموذج محزن لهدم وفشل في البناء شمل أكثر من قضية.

يتحول غليون بعد ذلك لنجاح الإسلام في أن يوحد ما بين الدين - كمصدر لأخلاق فردية - وبين الشريعة كمصدر لنظام اجتماعي سياسي مدني: "إن مضمون التجربة الإسلامية الأساسي هو نجاح الإسلام إلى وقت قريب في التوفيق بين مقتضيات الدين والدنيا، أي تطوير المسائل الأخلاقية والسياسية والقانونية، التي تواجه الجماعة المدنيةـ على قاعدة من السند الديني، ولم يضطر من أجل حفاظه على الدنيا، وتحقيق مكتسباته المدنية إلى التخلص من الدين، أو شن حرب شاملة عليه، كما حصل في المجتمع الأوروبي، ولهذا لم تظهر العلمانية كمطلب أساسي في أيدلوجية التقدم الحديث الأولى، بل بالعكس، فقد اعتبر المسلمون الأوائل أن تدعيم الشعور الديني وتنقيته، هو الوسيلة الأساسية لتدعيم الشعور الأخلاقي، وتقوية الشعور بالواجب، والالتزام بقضايا الجماعة والتضحية في سبيله" (45).

واليوم تشتعل معركة حامية بين الإسلاميين والعلمانيين، وسيكون من نتائجها التي تشبه لعبة شد الحبل، عدم تطور المجتمع، والانشغال بالحرب الكلامية، ثم الوقوف عندها وعدم تجاوزها.

1- الإيمان بالله تقدم:

الدين عقيدة ينبثق عنها سلوك وتصور معرفي، وقد يكون ثمة تشريع أو لا يكون.. وبهذا المعنى، فكل عقيدة هي دين، فالشيوعي دينه الشيوعية، والعلماني دينه العلمانية، والوجودي دينه الوجودية، وهكذا… وهناك اليوم ملايين من المسلمين والنصارى مثلاً، لا يعرف من الدين سوى أنهم مسلم أو نصراني، لأنه ولد كذلك، لكنه لم يدخل مسجدًا أو كنيسة، ولا صلى ولا صام، ولا كف عن المحرمات، ولا فعل شيئًا من الواجبات.

ويوجد إلى جانبه التزام صارم بالماركسية أو العلمانية، حتى ليمتنع عن قراءة كتاب، لأنه مخالف لعقيدته.. وأستذكر هنا مقولة "سارتر": بأن كل من يعادي الشيوعية فهو كلب، وأنه يعلن تمسكه بها. وأيام الثورة الثقافية في الصين، حفلت الصين بكل أنواع التعدي والإرهاب لكل من لا يؤمن بالشيوعية الماوية.

إن الأديان عمومًا والسماوية على وجه الخصوص لا تعترف بعبودية إلا الله تعالى، ومن ثم فهي تحرر الإنسان من عبودية الزعيم الأوحد، أو الحزب الطليعي الأوحد، وحتى الشهوات…

وحين طلب الإمبراطور الفارسي من المسلمين أن يقابله أحد، جاء ربعي بن عامر رضي الله عنه، فلما سأله: ما الذي أخرجكم من بلادكم؟ قال ربعي: جئنا لنخرج العباد من عبادة العباد إلى عبادة الله، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام.

ومن هنا وجدنا كافة الفراعنة قديمًا وحديثًا تحارب الدين، لأنه يمنع البشر أن يكونوا عبيدًا لأحد سوى الخالق.

وكافة الفضائل يأمر بها الدين، فهو يأمر بالعدل، وينهى عن الظلم، ويمنع كل أنواع العدوان، ويأمر بكل خير، وينهى عن كل شر، يحترم الإنسان ويعتبره المستخلف في الأرض، ويكرمه بكل صور التكريم، حتى ليمنع كل ما يؤذيه من همز أو لمز أو لقب قبيح يكرهه.. يحافظ على حقوقه، ويمنع عن الاعتداء عليها، في نفسه ومشاعره، وأمواله وأولاده وعرضه، وكل محبوب لديه.

الدين بشكل عام عدو للعنصرية، عدو للمستبدين المتفرعنين، عدو للظالمين، عدو للفاسدين المفسدين.. الحضارة تحتاج إلى دين يضبط حركة أهلها، ويكون هاديًا وموجهًا لها، حتى ليقول الفيلسوف "برناردشو" (46) إنه يعرف جيدًا أن الحضارة بحاجة إلى دين، وأن حياتها أو موتها يتوقفان على ذلك.

أما الناقد البريطاني "كولن ولسن" فيقول (47): "الإنسان ليس كاملاً بدون دين، فإذا أرادت الحياة أن تتقدم خطوات أخرى أسمى من القرد، أو من الإنسان العادي، وحتى من الفنان، فلن يكون ذلك إلا عن طريق قوة الفهم، وهذا الشوق لتركيز أعظم من الخيال، يتمثل في الشهية الدينية… إن الدين مقياس البطولة ورمز حاجة الإنسان في الكفاح… وفشل الدين والحروب العالمية، أمران متلازمان حتمًا".

جاء في كتاب القبائل: (48)

"لقد سيطرت النظرية المتطلعة إلى بشرية متحررة من الضوابط الدينية والقبلية، وعالم بلا قبائل عالمية، على خيال مفكرين من ماركس إلى أوغست كومتي، إلى إتش جي ويلز، وحسب مفهوم "العلمنة" الذي رافق تطوير العلوم الاجتماعية في القرن العشرين، فإن عملية التصنيع والتحديث ستتغلب في النهاية على الدين وعلى الهوية العرقية في الدول المتقدمة. وقد أصر عالم الاجتماع المعاصر "دانيال بل" على ان الانهيار المتواصل للهوية العربية والدينية مسألة حتمية".

والسؤال: هل صدقت النبوءات؟

وختامًا، إن الإيمان بالله تعالى وحده لا شريك له، ليحرر الإنسان من عبادة الزعماء أو الأحزاب، أو الشهوات والغرائز، أو السقوط في العنصرية واحتقار الآخرين، أو التطهير العرقي، أو سلب ونهب الشعوب وخيراتها، او إشعال الحروب واستعباد الأمم.

تبقى قضية مهمة، إن الدين نصوص يفهمها الإنسان، وإن الإيمان بالله عقيدة معرفية، فالإنسان قد يفهم النص فهمًا غير سليم، وقد يفسره ويسوقه لهدف لم يوضع له، وإن الإيمان بالله تعالى قد يبرد، فيصبح مجرد معرفة لا علاقة لها بالسلوك، ومن ثم فاللوم ينبغي أن يوجه للإنسان، وليس للدين والإيمان.

وكم من نصوص يلوكها الإنسان بلسانه، ويخرج عليها بسلوكه.. كم من نصراني يقرأ في الأناجيل: "من يلطمك على خدك الأيمن فأدر له خدك الأيسر".. ثم هو يمارس اللطم ليل نهار، ويشعل الحروب، وهو يتحدث عن "المحبة ودين المحبة".

وكم من مسلم يتحدث ليل نهار عن التوحيد الخالص، وهو يعتقد أن "البشر" هو الضار النافع فينافق له، وكم من مسلم يتحدث عن "الأخوة" وهو يترفع على كل الخلق، مسلمهم وكافرهم، ويحتقرهم، ويعاملهم أسوأ معاملة.

العيب لي في الدين ولا في الإيمان بالله، ولكن العيب في الإنسان، الذي لا رابط بين عقيدته وسلوكه. وهذا الأمر ليس خاصًا بأهل الدين، فالكل اليوم سواء، يستوي في ذلك المؤمن والكافر.

ولنقرأ هذه الشهادة للدكتور برهان غليون: (49)

"إن بين الرافعين لشعارات القومية، عتاة الانفصالية والقُطرية، وبين المتحدثين بالعلمانية حماة العشائرية والطائفية"!

فالانفصال بين القول والعمل، بين المعتقد والسلوك، بات اليوم ظاهرة عامة كبيرة، بل طامة كبرى!

إن الإنسان وهو يجاهد في الحياة ويصارع، بحاجة إلى قوة كبيرة تمده بالعون، وتقول له: بأن تضحياته محفوظة ولن تضيع، ومقدرة ولن تبخس، وكل ذلك يجده عند الإيمان بالله ربًا.. فالإيمان بالله كان وما يزال يمثل قمة التقدم، بشرط أن يكون حارًا لا باردًا كليالي الشتاء: (والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سُبلنا وإنَّ الله لمع المحسنين) (العنكبوت: 69).. هذا تعهد عظيم من الخالق بهداية المجاهدين، وهو مع المتقين يسدد خطاهم، ويقمع عدوه وعدوهم، وفي الآخرة يرفعهم إلى مصاف النبيين والشهداء، وحسن أولئك رفيقًا.

إن وصف الأديان بأنها رجعية جاء من قبل سدنة المادة، وعبيد الدنيا، وتجار بضاعة الشمولية الفاسدة، وتعس عبد الدينار وتعس عبد الدرهم، وتعس وخاب عبيد الدنيا والشهوات.

يقول سيد قطب (50): "الإيمان تصديق القلب بالله وبرسوله، التصديق الذي لا يرد عليه شك ولا ارتياب، التصديق المطمئن الثابت المستيقن، الذي لا يتزعزع، ولا يضطرب، ولا تهمس فيه الهواجس، ولا يتلجلج فيه القلب والشعور، والذي ينبثق عنه الجهاد بالمال والنفس في سبيل الله، فالقلب متى تذوق حلاوة هذا الإيمان واطمأن إليه وثبت عليه، لا بد مندفع لتحقيق حقيقته خارج القلب، في واقع الحياة في دنيا الناس، وهو يريد أن يوحد بين ما يستشعره في باطنه، من حقيقة الإيمان وما يحيط به في ظاهرة من مجريات الأمور وواقع الحياة…".

التحرر تقدم:

الإنسان دون سائر الأحياء، له حاجات كثيرة بدنية وعقلية وقلبية، عاطفية وروحية، وكلما كبر كبرت حاجاته.. الطفل الصغير تهديه لعبة صغيرة فيفرح لها أعظم الفرح، وتعطيه الدرهم أو الريال، فكأنما ملك الدنيا كلها، فإذا كبر كبرت حاجاته. فالشاب لا يقبل بالدرهم والدينار، لا يرضى إلا بالسيارة الفارهة، والملبس الجيد الجديد، والمدرسة الراقية، فإذا أنهى الدراسة تطلع للوظيفة الجيدة والراتب الكبير، وبعد مدة يطالب بالزواج والبيت الجيد وهكذا، كلما كبر كبرت حاجاته وتعاظمت حتى: "لو كان لابن آدم وادٍ من ذهب، أحب أن له واديًا آخر، ولا يملأ فاه إلا التراب، والله يتوب على ما تاب" (51).. فإذا سار في هذا الاتجاه صار عبدًا لحاجاته.

وساعد على هذا التوجه أن حضارة اليوم مادية حتى النخاع، وسويداء القلب، ويستوقفني في ذلك شعار "آدم سميث"(52): "اجمعوا واجمعوا تلك هي الشريعة والأنبياء"، أي اجمعوا المال، فمتى حصل ذلك فهو كل شيء، هو الدين والدنيا معًا.

وقد علق الفيلسوف "نيتشه" على ما تقدم قائلاً (53):

(على قاعدة هذه الشريعة، يتحول النقد –المال- إلى إرادة من نوع آخر، إرادة رأس المال، التي لا تلغي الإنسان مباشرة، ولكنهما تعطيه الشعور بالقوة الأكثر علوا، والعي الأفضل).

ويعلق د. علي الشامي على ما تقدم قائلا (54):

"لقد أعمى المال بصيرة الغرب، ولم تعد الحياة بالنسبة إليه أكثر من مجرد مسعى حثيث لإغراقها في مادية لا نهاية لها، ولم يعد "رأس المال" مجرد حالة عابرة أو خاصة، فقد طبع كل شيء بطابعه، وصار هناك رأس مال للفرد والطبقة والدولة… وبات كل شيء رهين إرادته، وأصبحت هذه - وفق هذا التحليل - الرأسمالية نقطة ارتكاز في مسيرة الغرب نحو الخارج.. فهي لم تكتف بأن أفلتت النمو الداخلي، وأوصلته إلى أزمة عبرت عن نفسها بزيادة الإنتاج على الحاجات، وبعجز تطويع هذه الأخيرة لصالح السلعة، بل تعدت ذلك إلى نشر رغباتها في بلاد الآخرين، كحل مؤقت لأزمتها، وكإصرار على عدم تجاوز منطقها الاقتصادي نحو الأفضل، لها ولغيرها، لذا لم تتردد "إرادة رأس المال" في تبرير الاستعمار، ومكنت الإنسان الغربي، الذي سرعان ما وجد نفسه مندفعًا نحو الخارج، ليمارس هذا التنافس والقتل والنهب والسيطرة، أثناء بحثه عن أرباح اقتنع بأنها وسعادته شيء واحد، كما ترسخ في وعيه اعتبار "زيادة الأرباح" زيادة في السعادة والرفاهية".

إن الغرب جعل حضارته مادية أولاً وقبل كل شيء، وهو اليوم بفضل العولمة والشركات الكبرى، متعددة الجنسية، يقتل المنافسة، ويحول العالم - على سعته - إلى سوبر ماركت غربي، تغمره الدول الصناعية بفائض صناعي وزراعي، تزيد في ثمن البضائع، على حين تهبط كافة السلع في دول الجنوب الفقيرة، ومن غير حرج ولا حياء يقف رئيس أغنى دولة يصرح بأنه لن يسمح بارتفاع أثمان البترول، ليطالب بخفضها، لأنه غني قوي، وليضمن الرفاه لشعبه، وليمت غيرهم جوعًا، ثم لا يجد من يقول له: لا!

إنها شريعة الغاب، للقوي كل شيء ولا شيء للضعيف! وقد أجاد "نيتشه" وصف هذه الحالة قائلاً(55): "امتلاك، قمع، إخضاع كل ما هو غريب وضعيف، ظلم، قساوة، فرض لأشكاله الخاصة، دمج، وعلى الأقل: استغلال".

إن حضارة الغرب بتركيزها على الجانب المادي للحياة، وتهميشها واستبعادها لكل ما هو غير مادي، قد تخلت عن الحد الأدنى من الروحانية النصرانية، وتخلت عن كافة الحلول الإلهية، وأطلقت العنان لشهوات الإنسان كلها، وصاغت نظامًا أخلاقيًا يتمحور حول الفردية والأنانية والحيوانية، بحيث يغدو "الشوق إلى الرفاهية والدعة أقوى بكثير من السعي وراء تحقيق حاجات الروح، وبحيث يصبح الفرد الغربي من أجل ذلك أكثر استعدادًا لممارسة العنف ضد الذات، وضد الآخر…"(56).

أليس من المطلوب سريعًا أن يتحرر الإنسان الغربي من كثير من مسلماته الحضارية أولاً، وأن يكف عن إرهاب الآخرين بحجة أنهم يعادون حضارة اليوم؟

في الزيارة الأولى لوفد رئاسي أمريكي للصين، لفت انتباه الكل وفرة وكثرة استعمال الدراجة، فطرحوا أكثر من تفسير لذلك، ولكن الرئيس الصيني رفض كافة التفسيرات ليقول: اخترنا هذه الآلة البسيطة كي لا نحتاج سياراتكم، ولا قطع الغيار لها.

إن العالم بحاجة إلى ثورة ترده إلى البساطة، وتحجزه من هذا الهجوم على الترف، والغرق فيه، وإنعاش الروح قبل أن يختنق.

إن حضارة اليوم تدرب انسانها على مزيد من الأنانية، والمزيد من التنافس، والغرق في الشهوات، ونتيجة كل هذا الغرق في حروب محلية وعالمية، لا تبقي ولا تذر، وقد تحرف كوكبنا الجميل، أو ترد البشرية إلى بدائية قاتلة.. إن حضارة اليوم التي رفعت شعار إسعاد الإنسان، تساهم اليوم بشقائه، وتسببت وما تزال بالكثير من أمراضه، وقد أفقدته الهدوء والسكينة، وحولته إلى آلة تدور؛ والأنكى من كل ذلك أنها تخونه وتستبعده باسم الرفاهية.

"هذه الحضارة التي أرادت لنفسها "إنسانية" تؤدي إلى نظام يحتقر الإنسان ويخونه في نفس الوقت، لكي تدمره في آخر الأمر، إنها تحتقره لأنها تختزله في الوظائف المادية والكمية للمنتج البسيط والمستهلك، وتخونه لأنها جعلته يصدق أنه بفضل التقدم والتكور للعلم، وبنظام اجتماعي أفضل، ومتحرر من آخر الأحكام السابقة، وأشكال القهر الموروثة عن الماضي، يستطيع أن يبلغ السعادة وينتصر على الألم، والتي هي غالبًا ملازمة للوضع البشري، وأخيرًا تدمره بإفساده وتحطيمه وحرمانه حياته من المعنى والأمل، كما يقول باسكيه في كتابه (انتشار الإسلام)" (57).

ألا تؤمن أخي، بأن التحرر مما تقدم هو عين؟! ألا تؤمن بأن الهرولة وراء الأهداف تستعبد الإنسان في النهاية، وتجعل منه دابة "متقدمة" همها العلف وقضاء الشهوة؟ ألا تعتقد بأن حضارة اليوم أسرفت في الماديات على حساب الروح والعواطف الخيرة؟ ألا تحتاج البشرية إلى ثورة تحررها قبل أن تدمر كل ما صنعت؟

3- التقدم الصناعي:

عاش الإنسان ألوف السنين معتمدًا على الزراعة، تمده وحيواناته ونباتاته بالغذاء ثم راحت بعض المجتمعات تتحول إلى الصناعة، وكان الهدف الأول التغلب على الصعوبات، وجعل الحياة أكثر يسرًا.

كان الإنسان يعاني من الفيضانات وصعوبة الحركة، وعدم الحرية في نقل البضائع، فلما اخترع العجلة سهلت له حركته، فلما عرف البخار كان ثورة كبيرة، فلما عرف الكهرباء كانت ثورة أكبر وأعظم، فلما استعمل النفط كان ثورة جديدة، لذا نراه يعمل جهده لتيسير حياته على الأرض فيهتم أكبر اهتمام بالمواصلات، حتى قفز من الحيوانات إلى العربات ومنها إلى الآلات التي تسير بالبخار، ثم البترول، ثم الطاقة النووية، وهكذا.

ولا يجادل أحد أن حياة الإنسان اليوم أيسر، وأن حركته أسرع، وأن سيطرته على الكوارث الطبيعية تتحسن، ولكنه لم يقف عند هذا لحد، بل راح يصنع ما فيه الدمار الشامل للطبيعة، وما فيها، ولنتصور أن حربًا كونية حصلت، واستعمل الكل مخزنه الجهنمي من السلاح، فماذا سيكون مصير العالم؟ إن الإنسان يصنع ما يحتاج وما لا يحتاج، ما فيه خيره ورفاهه وما فيه قتله ودماره.

وإذا كانت الزراعة قد أنتجت - فيما أنتجت- الإقطاع ونظامه، فإن الصناعة قد أنتجت - فيما أنتجت - الرأسمالية التي راحت تبحث عن أسواق داخلية وخارجية، لتصريف منتجاتها.. من هنا جاء الاستعمار ليضمن الهيمنة والأسواق الواسعة.. لقد اعتمدت الصناعة وما زالت على العلم، الذي أنتج الآلة، وبفضلهما نشأ رأس المال الوافر، فإذا حاول الإنسان رسم العلاقة بين العلم ورأس المال والاستعمار، فلن يجدها مجرد تولد عفوي "إنها لم تكن تولدات منطقية بقدر ما كانت إرادة وضع غايات معينة للعلم، انحصرت بشكل أساسي في الاقتصاد والسيطرة، وبالتالي لا يجوز الاكتفاء باعتبار العلم الغربي "سلاحًا حضاريًا" رغم قفزاته النوعية، بل ينبغي وضعه في سياق مسار عام، حدد للغرب رؤية ذاتية، للعالم والطبيعة والإنسان والإلهي، كما أمده بعناصر القوة التي تخدمه في تحقيق مصالحه الاستراتيجية.. وبذلك ينتج العلم الحديث نسقًا حضاريًا وتقنية للسيطرة، وكل ما عدا هذا ليس سوى اهتمامات هامشية.. بمعنى آخر، فقد أسس العلم انتماءً ماديًا للإنسان الغربي، عملت الرأسمالية على تحويله إلى ضرورة وجودية، وبنية حضارية، فألغت بعملها هذا بعدًا مهمًا من أبعاد الإنسان، وأعني بذلك انتماءه الروحي وعلاقته بالإلهي، التي تستطيع وحدها أن تعطي للعلم غاية أكثر سموًا وإنسانيةً.. وبينما يعطي العلم نزعة السيطرة أدوات هائلة جعلته يتحول بشكل مذهل إلى أهم وسيلة للسيطرة على الشعوب، وبغياب الحضور الإلهي عن مسار الحضارة التي قامت جوهريًا على العلم، لا يبقى شيء أمام العلم كي يمنعه من أن يتحول إلى علم تدمير رفيع المستوى…"

(58).

وحتى لا يقوم متغرب فيتهمني بمعاداة الغرب وحضارته، والحقد على الغرب وتسلطه، مع إيماني الجازم بأن من استثير فلم يتحرك فهو مشكوك في آدميته أو لنقل في كرامته، فهذا "نيتشه": ابن الحضارة الغربية، ومع ذلك فهو يقول (59) : "إن ما أقصه عليكم الآن هو تاريخ القرنين التاليين، فأنا أصف ما هو آتٍ وما لا يكن إلا أن يأتي، وأعني به ظهور العدمية، ويمكن أن أقص هذا التاريخ منذ الآن، لأن الضرورة نفسها، تفرض ذلك، وهذا المستقبل يتحدث عن نفسه في مئات من الدلائل والعلامات، وهذا المصير يعلن عن نفسه في كل مكان، وكل الآذان قد أصبحت مرهفة السمع، لموسيقى المستقبل هذه، إن حضارتنا الأوروبية كلها تتحرك منذ وقت طويل في انتظار "معذب" ينمو من خمسية (60) إلى أخرى، ويؤدي إلى مأساة قلقة عنيفة لاهثة، إنها نهر يريد الوصول إلى منتهاه، إنها لم تعد تفكر إطلاقًا، بل إنها تخاف من التفكير".

صورة مظلمة لمستقبل الحضارة يرسمه "نيتشه"، ويشاركه آخرون مثل اسبنجلر وولسون، ويتحاشى توينبي أن يصرح به بوضوح.

المهم أن التقدم الصناعي كان ثورة كبرى، سهلت على الإنسان أمورًا لا حصر لها، لكن ككل الثورات لن تكون مأمونة العواقب أو النتائج، وتحتاج إلى ناقد شجاع يميز الخطأ من الصواب، وما هو في مصلحة الإنسانية حقًا، وما هو بعيد عن ذلك.

كذلك لا يكفي أن تخدم قلة بشرية على حساب كثرة ما زالت تكافح من أجل لقمة الطعام وعلبة الدواء، أليس من العيب أن يعيش ثلث العالم دون خط الفقر؟

أليس من العيب القاتال أن يستولى 20% على ثروة العالم، ويديرونها كما يشاءون ويتمتع الباقون بنعمة التفرج؟ أليس من العار أن تدفع دولة غنية مثل أمريكا مساعدات للفلاحين كي يكفوا عن زراعة المزيد من الحبوب، من أجل أن لا تهبط أسعارها؟

وأخيرًا، أليس من العار أن تشعل الدول الصناعة حروبًا محلية لتجربة أسلحتها، أو لتأديب الخارجين على بيت الطاعة؟

كتب محمد عابد الجابري (61): أن تقريرًا لمنظمة العمل العربية قدر الأرباح المتوقعة من اتفاقية "الجات" بـ (200) مليار دولار، نصيب العرب كلهم 1%، أي مليارين فقط، بينما يبلغ نصيب المجموعة الأوروبية (32.6) مليار دولار، والولايات المتحدة وحدها ستحصل على

(36) مليارًا، وروسيا وتوابعها (31) مليارًا، وتحصل اليابان على (27) مليارًا.. وما تبقى تتقاسمه دول العالم، أي (73.4) مليارًا، فأي عدل هذا ؟!

الالتزام الخلقي:

أود ابتداءً طرح عدة أسئلة منها: هل يوجد إنسان عديم الأخلاق؟ هل هناك شعب قديمًا أو حديثًا ليس له نظام خلقي؟ هل توجد أمة لا تلتزم نظامًا خلقيًا؟ وأخيرًا: هل توجد حضارة دون أي نظام خلقي؟ وما هي الأخلاق لغة واصطلاحًا؟

الأخلاق لغة: الخُلْق: العادة والسجية والطبع والمروءة والدين (62).

واصطلاحًا: ملكة تصدر بها عن النفس الأفعال بسهولة ويسر، من غير تقدم فكر وروية وتكلف(63).. ويعرفه الفيروزأبادي (64) بأنه: بذل الجميل وكف القبيح، أو التخلي عن الرذائل والتحلي بالفضائل.. وعدّّ له أربعة أركان: الصبر، والعفة، والشجاعة، والعدل.

وهنا الحديث عن السلوك، ويطلق عليه بعض العلماء "علم السلوك".. أما الأخلاق كعلم، فيعرف بأنه: (65) "علم يبحث في الأحكام العملية التي تعرف بها الفضائل لتقتنى، والرذائل لتجتنب، بهدف تزكية النفس".

وقد تحدث المصلح الديني "مارتن لوثر" عن أثر الأخلاق في الأمم فقال (66): "ما سعادة الأمم بكثرة أموالها ولا بقوة استحكاماتها، ولا بجمال مبانيها، وإنما سعادتها بأبنائها الذين تثقفت عقولهم، وبرجالها الذين حسنت تربيتهم واستنارت بصائرهم، واستقامت أخلاقهم، في هؤلاء سعادتها الحقة، وهم قوتها وعظمتها الجوهرية".

ماهية الأخلاق ومركزها:

هل الأخلاق هي مكارم القيم، وأصول السلوك الحسن، والبعد عن السلوك السيىء؟ أم الأخلاق هي مجموع القيم، والمبادىء الموجهة للسلوك، والمساعدة على تكوين اختيارات عامة، تؤدي إلى تكوين صورة عن المدنية؟

يفضل د. برهان غليون الطرح الثاني (67)، لأنه يضم كافة الخصال التي تشجع على احترامها حضارة ما، أو تستند إليها في إلهام الناس وحثهم على الممارسة.

أما مركز الأخلاق فيظهر من سلوك البشر، وتضارب المصالح، وتناقضها أحيانًا، مما لا يستطيع الفرد أو الأفراد تحقيقها معًا، هنا يقوم الإنسان بتنظيم سلوكه ليتوجه نحو الأهداف والغايات.

ومهمة الأخلاق تبني هذه الغايات أولاً، ثم تحديد القيم التي تساعد الفرد على القيام من نفسه بالاختيار بين المصالح والرغبات.

والنظام الأخلاقي من مهماته الأساسية تحديد الغايات الكبرى أولاً، والوسائل الموصلة لذلك.

ولولا ذلك لضاع الفرد، لأنه لا مقياس لديه، فيخضع للواقع، مهما كان، وقد يتخلى عن إرادته الشخصية، فيصير مجرد آلة بيد من هو أقوى منه، بل قد يفقد حريته كليًا أو جزئيًا بسبب ذلك.

وهنا تبرز قاعدة معروفة: إن القيم الكبرى لا يضحي بها من أجل قيم أقل، وكذا يعتبر دفع المفسدة مقدمًا على جلب المصلحة، والمصلحة العامة تقدم على المصلحة الخاصة.

وهذا التحديد تقوم به الثقافة، فهي الحاكم.. فمتى كانت حية قوية فاعلة، سلم لا الكل، فإذا ضعف نظام القيم والأخلاق، وذبلت الثقافة، يصير قاعدة السلوك هو "تحقيق الرغبات الشخصية"، دون اعتبار للجماعة وسلامتها، بل دون مراعاة للمستقبل.

إن كل مجتمع مدني سليم يتطلع عادة للانخراط في مشروع جماعي، ويتطلب عادة نوعًا من التضحية ونكران الذات، وهنا نستذكر مقولة "مالك بن نبي": إن قوس الحضارة يبدأ روحيًا قويًا، يعمل الأفراد بقوة وتضحية، يعقب ذلك مرحلة تتسم بالنشاط العقل، تفلسف الأولى، وفي المرحلة الثالثة، تهيج الغرائز، فتنحل الحضارة وتسقط، لأن "الأنا" تكون هي الصوت العالي، بل الأعلى.

إن النظام الخلقي يقوم على وسيلة ضبط لسلوك الفرد داخليًا، كما يكون الخضوع للقيم إراديًا دون إكراه، وهكذا تساهم القيم الخلقية بقيام نوع من الاستقرار الاجتماعي، فإذا ضعف الالتزام الخلقي، بدأت القلاقل والمتاعب، وبدأ الشك بالقيم والثقافة المحلية كذلك.. عند ذلك يصبح تحقيق الذات وحيازة الاعتراف الاجتماعي متعارضين مع احترام القواعد الأخلاقية السائرة، وعندها يكون تأثير القيم والضبط الاجتماعي قد ضعفا كثيرًا، ومن ثم لم يعد ضبط سلوك الأفراد هينًا بل عسيرًا.

وهذا ما نشكو منه، فالأخلاق والقيم الإسلامية، التي كانت تتوجه نحو الجنة والسعادة في الآخرة، لم تعد تصلح في نظر البعض، لتحقيق التقدم ومواكبة حضارة اليوم.. وهكذا شكل التحرر عندنا ثورة ضد القيم والنظام الأخلاقي، وضد

التقاليد، كل التقاليد، وجرى تصوير الماضي بكل ما فيه وكأنه العقبة الكبرى ضد التقدم، وبالمثل وحّد هذا "البعض" بين المستقبل والعلم|، واعتقد أن الماضي قيد بكل ما يحمل، وبذا وصم بالرجعية والظلامية، فصار التقدم والحرية ثورة ضد الأخلاق والقيم.

وقد كانت المحصلة هدمًا للقيم دون بناء جديد، ويذكرنا هذا بما حصل "للغراب" فقد أعجبته مشية الحمامة ورشاقتها، ولما رأى خفة حركة العصفور وقفزاته الجميلة، أراد تقليد الاثنين معًا، فجاء بأقبح مشية.

إن الحداثة اصطدمت بالقيم والأخلاق، وأرادت اقتلاعها من جذورها فلم تفلح، ولم تسلم لنا القيم، ولا استطاعت زرع قيم جديدة، فكانت مشية الغراب، لا جديد جيد ولا قديم قائم.

الحداثة والعلم:

إن الحداثة ادعت أنها تبني نشاطها ووجودها على العلم، وكل ما لا يعترف به العلم فلا وجنود له، وكل قضية يحلها العلم، فإن لم تحل فهي قضية "ميتافيزيقية" زائفة.. لقد صورت الحداثة وكأنها انعتاق من كل القيم والأخلاق، واستسلام للعلم ومعطياته.

واستشهد رجال الحداثة بالغرب، وحياة الإنسان هناك، فهو يحقق رغباته دون قيد، كما صورت الحرية الفردية وكأنها تعني - فيما تعنيه - سقوط الضوابط الاجتماعية. واندفع البعض للقول: بأن تقدم الغرب جاء ثمرة لتخليه عن القيم والنظم الخلقية، وهذا يشبه القول: بأن الغرب ألحد فتقدم، وما كان الإلحاد هو السبب، ولكن كانت هناك أسباب للتقدم، جرى الأخذ بها، وإلا لوجب أن يتقدم كل الملحدين في العالم، وأن يتأخر كل المتدينين.

أين تقع قضية المرأة؟

ويمكن وضع قضية المرأة عندنا في هذا المربع، فالبعض يرى في تحررها الجنسي وتعريها، واختلاطها ودفعها الرجال بالمناكب، يرى في ذلك أعظم تحرر، بل رمزًا لتحدي القيم والأخلاق، والغرب اليوم يدفع بكل قوة في هذا الاتجاه المشبوه.

ومطلوب من كل عاشق للشهرة وثائر، أن يدعي الحرص على قضية المرأة، وأنه رمز من رموز الدفاع عنها.. ومن مستلزمات النجومية أن يهاجم الإسلام وعقائده، والمسلمين وأصوليتهم، وأن يهاجم المحرمات ويتجاوز المقدسات، وصار كل من يؤمن بالأخلاق والقيم متهمًا وعدوًا للتحضر، يُكفّر وطنيًا، ويُهمّش بحجة أن نياته غير سليمة، ويجري التحريض ضده على مختلف المستويات، وقد تكون كل جريمته أنه يؤمن بالقيم، ويتمسك بها، ويدعو لها.

وكما يستأسد البعض، كذلك يفعل بعض أصحاب السلطان، فهم يبيحون لأنفسهم كل ما ينكروه على غيرهم، ويستعملون القوة ويفرطون فيها - من غير حاجة أحيانًا - يخرقون القانون، على حين يطالبون الكل باحترامه!

إن الكثير من الدول تمارس العنف والضغط والإكراه بكل ما تمتلك من قوة، في ذات الوقت الذي تتهم جماعات بفعل ذلك "إن جوهر العدمية الأخلاقية - أي مضمونها - واحد في الدولة والمجتمع، إنه إلغاء لفكرة الواجب، وهو المبدأ الذي يتجاوز المصلحة المباشرة والفردية، ليعكس تسامي الإنسان، أو قدرته على الالتزام تجاه "الغير" والتضحية في سبيلهم، وما الشعور بالواجب إلا ثمرة للشعور بشرف الانتماء إلى الجماعة وبالرغبة في التماهي معها فإذا عجز الإنسان عن الالتزام الجماعي أباح لنفسه كل ما استطاع أن يحرمه على غيره، ولا شك أن المجتمع القائم على المصالح والأنانية، لا يمكن أن يعرف الواجب والمسؤولية والتضحية"

(68).

فإذا سقط الواجب والتضحية فلا بد أن يسود المجتمع شريعة الغاب، حيث الحق للقوة، ولا مكان للضعيف، وحيث لا يشعر المنتصر القوي بأي حرج من السيطرة على الثروة، وحرمان الآخرين.

إذا فقدت القيم:

هنا يجأر النسا بالشكوى من غياب الأخلاق وفقدان القيم، فينفجر النزاع ويتصاعد العنف فيتشقق المجتمع، وتفقد الحياة معناها وطعمها، وإذن "لا يمكن للمجتمع المدني أن يقوم بدون نظام أخلاقي لكن ما هو أصل ومصدر الفكرة المترسخة في الوعي العربي الحديث، حول نسخ العلم والحضارة العلمية عامة للأخلاق، كمنظومة اجتماعية؟

كيف جرت عقلنة هذا النسخ حتى أصبح انعدام الأخلاق يعني التقدم؟

في اعتقادنا أن مصدر هذه الفكرة، هي الفلسفة الوضعية والسوقية، التي ترى في العلم هدفًا لكل تقدم، وأنه النمط الأعلى، أو المرحلة الأخيرة لتطور الوعي البشري، وأن هذا التطور قد قضى على كل أشكال الوعي الأخرى، أو حل محلها، فأصبح في الوقت نفسه علمًا وأخلاقًا وأدبًا، فكل ما ليس بعلمي أو لا يمت إلى العلم بصلة، فهو من بقايا الماضي، ومن مخلفات الفكر اللاهوتي والميتافيزيقي والأيدلوجي والفلسفي، ولذا لا بد أن يزول لأنه رمز التخلف وعقبة أمام انتصار الإنسانية النهائي، فالعلم قد جب ما قبله، ولذا فإنه من المنطقي أن تصبح إزالة الأخلاق رمزًا للتقدم" (69).

إن الحكم على زوال الأخلاق بجرة قلم تشبه إلى حد موقف اليهود حين اكتشفت القارة الأمريكية، فقد سارعوا للقول: لا توجد قارة جديدة، لأن التوراة تنفي ذلك!

إن العقلية العربية "الحداثية" تبدو معجبة حتى العظم بهذا التوجه، ومسرورة له أعظم السرور.. "لقد جذبت هذه الفكرة بقوة الوعي العربي، لأنها كانت تقدم له - في الحقيقة - مبررًا وحجة عقلية مقبولة، للاندفاع في تدمير المدنية العربية، التي أصبحت غريبة على التاريخ الحديث، وذلك بهدف الاندماح في الحضارة، وليس هذا التدمير إلا استجابة تلقائية لنظام "الغلبة الصاعد"، وتأكيدًا على توسع نفوذه" (70).

وأحسب أن تطور العلم والمعرفة، لا يلغي حاجة المجتمع لنظام القيم والأخلاق، بل يستدعيها ويطلبها، لتضبط حركته ولا تسمح بالتفكك والتشرذم.

مسيرتنا الحضارية:

حين بدأنا مسيرتنا في التحضر، حتى صرنا قادة العالم، سارت خطانا في مسارين: الأول التمسك بما عندنا من قيم وأخلاق، والمسار الثاني كان الاغتراف من معارف الأمم السابقة ثم هضمه وانتاج معارف جديدة، وقد بقينا أوفياء حتى ضربنا الاستعمار الحديث، فهز قناعاتنا هزًا عنيفًا، فتخلى بعض أبنائنا عن عقائدنا وقيمنا وهرول خلف العدو الزاحف، معتقدًا أنه سيلحق به، إذا أخذ ما عنده! يذكرني ذلك بالسلطان العثماني الذي كان يسمع عن تقدم الغرب وتخلف بلاده، فأراد أن يذهب للغرب بنفسه ليكشف السبب، ذهب وعاد ليقول: وجدتها! إن الغرب يحلق لحاه ولا يلبس الطربوش ونحن لا نفعل ذلك، ونساؤهم تعيش مختلطة متكشفة، ونساؤنا ليس كذلك، والكل قد ابتعد عن الدين تقريبًا، ونحن لسنا كذلك.. وأشهد أن جل أهل الحداثة لا يختلفون عن السلطان العثماني، وهذا الشاعر ضياء ألب التركي يصرخ بأعلى صوته: نريد أن نقتبس كل ما لدى الغرب، حتى الجراثيم التي في بطونهم؟

درس من إفريقيا:

لقد أتيحت لي فرصة التجول في غربي وشرقي وجنوبي إفريقية، فلم أرَ من الحضارة الغربية سوى الحانات تزدحم بشاربي الخمور، ومرضى الإيدز يملئون المستشفيات، ورأيت شوارع بعض العواصم تجري فيها المياه القذرة، في سواقي غير مغطاة، ورأيت الشوارع الفرعية دون سفلتة ولا كهرباء.

وقد استعمرت فرنسا جزر القمر (160) سنة، فلما رحل الاستعمار لم يخلف مستشفى ولا مدرسة ولا جهازًا لتوليد الكهرباء، وهناك من يحن للاستعمار، ويعتبره من أنعم الله التي لا تجحد! إن الإنسان يمكن أن يمسخ بحيث يصبح عدو نفسه ودينه، ووطنه وأمته، لأن لوثة عقلية أصابته.

إلى كافة المتغربة:

يموج العالم بملايين متغربة تعيش أجسامها في مكان، وتحوم أرواحها وتتجه أبصارها صوب الغرب، فإلى هؤلاء - وفيهم الكثير من أبنائنا - أسوق شهادة لرجل تعلم في الغرب واستقر هناك، ويعمل في إحدى الجامعات، فقد كتب يقول(71): "إن ازدهار الوعي والإنتاج الديني والفلسفي والأدبي والفني، وقيم التواصل عمومًا، لم يكن في أية حقبة ماضية أعظم مما هو عليه اليوم في "المجتمع الغربي"، مجتمع الإبداع العلمي والروحي معًا، دون منازع، والنمو الأخلاقي يتماشى دائمًا مع النمة الحضاري، ولا يتنافى معه، لأن الحضارة تخلق فائضًا في الوعي، لا تعبر عنه القيم النفعية والتبادلية، ولا تستوعبه، وما الانحطاط والبربرية إلا تقلص النشاطات الفكرية المتعددة والمتنوعة.. إن الأخلاق المدنية من فضيلة التضحية والمجانية والكرم، وإن أخلاق البربربة تقوم على المنفعة المباشرة، التي تستجيب إلى الصراع الذين لا يرحم، من أجل البقاء، وتستخدم الدين والعلم كوسيلة لهذا الصراع".

إن الفرق بين الإنسان والحيوان، وجود قيم وأخلاق لدى الإنسان وخلو الحيوان منها، فالأسد متى جاع يفترس أي حيوان يجده أمامه، فإذا تجرد الإنسان من القيم والأخلاق فسيكون حيوانًا يمشي على رجلين، يستعمل عقله وذكاءه للإيقاع بفريسته وان يفعل بها ما يشاء، وكلما تقدم الإنسان صار "وحشًا كبيرًا"، الحق عنده القوة، لذا من حقه أن يسلب الفقير الجائع لقمة طعامه.. لذلك فإن الأخلاق والقيم، ضرورية للمجتمع البشري، المتقدم منه والمتخلف، والسؤال: ما مصدر هذه القيم أولاً؟ وكيف يكتسبها المجتمع؟

مصدرية القيم وكيف تكتسب:

لا يوجد مجتمع بلا ثقافة، ولا مجتمع بدون قيم، فالقيم يتوارثها أفراد المجتمع، وهي نابعة من خبرة المجتمع الطويلة.. أصول القيم تعود للدين والعقيدة، وبعضها يعود للعادات، وبفضل التربية يتكون الشعور الأخلاقي.

لقد ساهمت الأديان بشكل عام، والسماوية بوجه خاص، في تطوير المفاهيم الكبرى، مثل الأخوة، والعدالة، والمساواة، وحقوق الإنسان، وحتى الحيوان، لكن المجتمعات الوضعية باشرت بوضع قيم جديدة، ومع مرور الزمن جرى التحرر من القيم القديمة، وهكذا تبدل الإطار المرجعي للأخلاق والقيم.

حين كانت الأديان هي المرجع صار جميع الناس لآدم، كلهم عباد الله، مؤمنهم وكافرهم، وصارت العبودية لله وحده، ليس لأحد سواه، وصار الناس سواسية كأسنان المشط، وأن الأفضل هو الأتقى، وهكذا تجاوز الإنسان حدود الدولة، فقامت بفضل الأديان إمبراطوريات كبيرة، وقُبل التعدد العرقي والديني كحقيقة واقعة، وهكذا قامت ثورة في مفهوم الإنسان لنفسه ولغيره، وفي معنى الحياة والهدف منها، ورسم العلاقة الاجتماعية والإنسانية بعناية ووضوح.

ورغم ما أصاب القيم الأخلاقية من ضعف، بسبب ضعف الحماس الديني، فإن الحاجة ظلت تدعو لإعادة بناء هذه القيم، بناءً جديدًا، فنشأت فلسفة أخلاقية حديثة، تحاول جعل العقل والعلم هما السند الأساسي للأخلاق، ونظرًا للتفريط الذي حصل في الغرب بالنسبة للقيم الدينية وغيرها، فإن الغرب "لم يكن يعني إلغاء الأخلاق، بقدر ما هو تحقيق للفصل بينها وبين الدين، أو بالأحرى تأسيسها على مصادر جديدة، وجعلها أخلاقًا مدنية، ولذلك فإن الأخلاق العقلية التي أسست نفسها على فكرة "الواجب"، كما عبر عنها الفيلسوف الألماني "كانت" لم تلغ القيم القديمة، التي تحرم القتل والسرقة والكذب والغش..إلخ، ولكنها أبرزت أن الحفاظ على هذه القيم والمبادىء لم يعد ممكنًا، إلا إذا استند امتناع عقلي، ولم يكن هذا التصور في الواقع إلا أحد مظهر حركة العقلنة العامة، التي شهدها "المجتمع الغربي" في القرون الماضية، كمحاولة لرأب الصدع الذي خلقه تحلل الأيدلوجية الدينية وفسادها، وما كان لها مع ذلك أن تنشأ، لو لم تتحقق من قبل وحدة الإنسان وقدسيته في الأديان السماوية أو المقدسة"(72).

لقد عبر هذا التطور قيام مفهوم جديد لسيادة الفرد، وهو دليل على المساواة الأخلاقية، وهي انعكاس لسيادة المجتمع، وهكذا صارت (حرية الفرد) مصدرًا لحرية الأمة وسيادتها، وبالمثل صارت سيادة الأمة وحريتها، هي الضمان لحرية الفرد وسيادته، ومع مرور الزمن راح يستقر في نفس الإنسان، الذي يعيش وفق هذه القيم، ويتأثر بها، أن التحرر من الدين وقيمه يؤدي لتحرر الإنسان.

من جهة أخرى، راح تعميق الحرية وتوسعها يصبح الأساس للشعور بالالتزام الخلقي، فإذا خمد هذا الشعور أو فسد فإن الشعور الأخلاقي، أو الالتزام الأخلاقي، سيفتح الباب للعودة القوية للأخلاق الدينية، باعتبارها السند والمرجع للمجتمع، وهذا ما نشاهده اليوم. فثمة أصولية دينية هندوسية، وأخرى أكثر عنفًا وتطرفًا، يهودية، ونصرانية، ومسلمة.. والمجتمع الأمريكي مثلاً، يموج بعشرات الألوف لجماعات متطرفة، لها مليشيات تبلغ أكثر من (360) ألفًا، كما ذكر الرئيس ""كلينتون".. والانتحارات الجماعية خير شاهد ودليل.

من أزمتنا: تدمير القديم.. ولا جديد:

إذا كان المجتمع قادرًا على هدم القديم، أي قديم، وبناء جديد مكانه، فتلك سنة الحياة، أن يتنحى القديم ليوسع للجديد، ولكن أن تهدم شيئًا ثم تعجز عن بناء جديد مكانه، فذلك فشل، بل نكبة.

يقول د. غلبون (73): "إن فهم الأزمة الأخلاقية التي يعيشها المجتمع العربي، والتي تتجسد بنظرنا في عجز التحديث عن تقديم إمكانية لنشوء "أخلاق عقلية"، في الوقت الذي يدمر فيه بانتظام السند الديني للأخلاق، يرجع ذلك إلى أسباب نابعة من طبيعة الحداثة نفسها، وإلى أسباب أخرى نابعة من الثقافة العربية ومن العلاقة الخاصة التي تربط بين الدين والمجتمع.

فبعكس ما حصل في الغرب، فقد نجح الإسلام منذ أيامه الأولى، في أن يوحد بين الدين كمصدر لأخلاق فردية خاصة، وبين الشريعة كمصدر لنظام اجتماعي سياسي مدني، ولعل ذلك راجع إلى أن الإسلام استطاع منذ البداية أن يوفق بين حاجات الحرية الشخصية، وحاجات بناء السلطة، ولم يضطر إلى إحداث القطيعة بينهما، وهكذا تطورت وبشكل مواز، ودون تناقض يذكر، النزعات الروحية والصوفية مع المنظومة الفقهية التي حاولت أن تستوعب التغييرات الاجتماعية وتفتح باب التأويل والتفسير، والاجتهاد العقلي.

وباختيار، لم يحصل في هذه التجربة ما يدعو للفصل العميق، بين الجهد العقلي الإنساني الروحي والوحي الإلهي، بل اعتبر هذا الجهد، متممًا للآخر، وموافقًا له، ون هنا استنتج المسلمون إن الإسلام "دين ودنيا".

والواقع أن الأديان لا تختلف فيما بينها حول اهتمامها بالروحي والمادي، بالفردي والعام معًا، ولكن مضمون التجربة الإسلامية الأساس، هو نجاح الإسلام إلى وقت قريب، في التوفيق بين مقتضيات الدين والدنيا، أي في تطوير المسائل الأخلاقية والسياسية والقانونية التي تواجه الجماعة المدنية، على قاعدة من السند الديني، ولم يضطر من أجل حفاظه على الدنيا، وتحقيق مكتسباته المدنية، إلى التخلص من الدين، أو شن حرب شاملة عليه، كما حصل في المجتمع الأوروبي، ولهذا لم تظهر العلمانية كمطلب أساسي في إيديولوجية التقدم الحديث الأولى…".

وينبغي التذكر جيدًا أن حداثتنا العقلية تتلمذت على الغرب، لكنها جاءت مسخًا، بل نسخة مزورة، فحداثة الغرب ثورة روحية عقلية،ـ وحداثتنا ثورة على الإسلامي تحديدًا، وهروب من الأخلاقي إلى المحرم، ومصارعة "دونكتشيه" ينقصها المبرر.. خاض الغرب معركة شرسة ضد الكنيسة، أما نحن فليس لدينا كنيسة ولا معركة معها.. فما طبيعة معركتنا، وطبيعة معركة الغرب؟

معركتنا ومعركة الغرب:

في الغرب تجسدت النصرانية - وهي عقيدة بلا شريعة - بالكنيسة، ومع تقدم الأيام أصيبت الكنيسة بالتيبس والجمود، فحين اخترع شخص ألماني مصباحًا يعمل بالكاز، حكمت الكنيسة بكفره، لأنه خالف إرادة الرب، بجعل الليل المظلم منورًا.. وحين قال العلماء بكروية الأرض ثارت الكنيسة وعرضتهم على محاكم التفتيش الدينية، التي راحت تحكم بقتلهم، وقدر عدد من عرض على هذه المحاكم السيئة أكثر من (350) ألف إنسان بينهم الكثير من مسلمي الأندلس، وهنا حصلت ثورة ضد الكنيسة انتهت بهزيمتها، وكان من أسوأ مفرزاتها إلحاد العلماء، ورفع شعار: "العالم لا يكون متدينًا، والمتدين لا يكون عالمًا".

الإسلام ليس لديه كنيسة ولا رجال دين، ولا معصوم - كما هو حال البابا - والفقهاء رجال علم، قيمة ما يقولون يتأتى من قوة الدليل وصحته، وليس من مركز "المعصومية" التي لا تخطىء.. وحين أراد الخليفة الراشد عمر منع المغالات في المهور، تصدت له امرأة - على رؤوس الأشهاد - وساقت الدليل الشرعي، فلم يزد الخليفة على أن قال: أخطأ عمر وأصابت امرأة.

وقال له صحابي يومًا وهو على المنبر: لو نعلم فيك اعوجاجًا لقومناه بسيوفنا.. فلم يزد أن قال: الحمد لله أن وُجدَ في أمة محمد صلى الله عليه وسلم من يقوّم اعوجاج عمر.

أما معركتنا فكانت ضد الدولة، التي جاء بها الإسلام، ونظم حقوق وواجبات الحاكم والمحكوم.

إن المجتمع الشرقي عمومًا، والإسلامي على وجه الخصوص، يتخذ من الدين والقيم الدينية ملاذه، بل مصدر قوته، وهو يصارع الدولة، التي تحلم بالتوسع دائمًا، وبالغلبة أبدًا، وأن يكون الولاء لها أولاً وآخرًا.. إن معركتنا الأولى ضد الدولة التي لا تخضع لسوى قانون القوة، والتي تنتج القوة.

والمطلوب من الدين لجم سلطة القوة، وإخضاعها لمبادىء الشريعة وأحكامها، من هنا كان الإسلام وما زال قريبًا من المجتمع، وكانت الكنيسة ضد المجتمع، وضد العلم تحديدًا.

إن شرعية الدين في الغرب بيد الدولة، فهي التي تعترف بالكنيسة أو لا تعترف.. أما شرعية الدولة - عندنا - فهي بيد الإسلام، فالدولة التي لا يرضى عنها الإسلام لا شرعية لها.

إلى أن المسير؟

تحديث الدولة هدف الإنسان، وكذا النظام السياسي، في عالمنا العربي والإسلامي، وكان الأمل أن يتم ذلك دون خسائر ولكن الذي حدث أننا فرطنا بالقيم الإسلامية، والتحديث لم يأتِ كما يرادـ فلم تصبح الدولة عقلانية، ولا تقلص استبدادها، بل صارت غولاً يخيف الناس.. لقد "ظهرت العقلنة العربية كوسيلة لاستبعاد الجماعة عن السلطة، وأداة لتحديث وتقنية الدولة الاستبدادية، وقتل الروح الجماعية، والتفريط بالقيم الروحية والإنسانية.

وبقدر ما أصبحت الدولة عقلانية، وتمكنت من فرض التبعية المطلقة على الجماعة، جعلت من سيادتها محصلة لفقدان جميع الأفراد سيادتهم وحريتهم، لذا بدل أن يحصل هنا تقدم باتجاه استقلال الأخلاق عن الدين، واستنادها للعقل، حصل في الواقع انتكاس، من نموذج الأخلاق الدينية إلى نموذج الأخلاق البدائية التي تتجسد من خلال التماهي مع زعيم قائد ملهم، يشكل الولاء له، والإيمان به، مصدر كل سيادة، ومنبع الحق والأخلاق، كما أصبح صنع القائد المقدس، الذي يملأ على الناس حياتهم، وينيرها بكل الشموس، هو محور الفعل الأخلاقي وجوهره.

باختصار لم تعن العقلنة عندنا تجديد ميتافيزيقيا الأخلاق وإحياءها بقدر ما عنت التضحية بها لصالح ما اتفق على أنه التقدم العلمي، وما ظهر فيما بعد على أنه السلطة الجديدة.. ولعل هذا ما يفسر المصير المأساوي الذي لاقته فكرة العلمانية ذاتها، فبعد أن كانت تقضي بالفصل بين الدولة والكنيسة، وتحرير السلطة من العقيدة التي تحرمها من ممارسة العدالة والمساواة، تجاه جميع أعضاء الجماعة، أصبحت العلمانية تعني تمسك الدولة بالسلطة بدين أو بمذهب سياسي، وحرمان المجتمع من أي دين…"(74).

أراد البعض عندنا أن يهرب من الدين وقيمه ومحرماته، فسقط في أحضان الظلم والطغيان.

الإسلام.. جبل النجاة أم سبب التخلف؟

في مجلس جمع بعض المثقفين وأساتذة في إحدى الجامعات العربية، وبعد أن شرّق الحديث وغرّب، جاءوا على ذكر نظام عربي، فقال بعضهم: إنه إسلامي أكثر من اللازم، ومتزمت أكثر من المعقول، وجاء الرد، بل هو إسلامي "قشرًا" وغير مقبول فعلاً.. هذه المفارقة في وصف نظام معين، بأنه إسلامي أكثر من اللازم، وأنه في نظر آخرين ليس إسلاميًا بما فيه الكفاية، يذكرني بانقسام بعض مجتمعاتنا انقسامًا عموديًا حادًا. منذ سنوات قامت شركة خليجية بشراء قطعة أرض كبيرة لبناء مساكن أساتذة جامعيين بناء على طلب من الأساتذة، وبعد الشراء وتقسيم الأرض، رفض أساتذة إحدى الجامعات أن يسكنوا قريبًا من الأساتذة الآخرين، وانتهى المشروع كليًا إلى الفشل، وعرضت الأرض للبيع.

هذه صورة أخرى لانقسام داخل مجتمعنا، لا يبشر بخير، ولن يتحرك مجتمعنا، والبعض ضد الآخر بهذه الصورة.. "ولعل هذا ما يفسر الموقف الانفعالي للعرب مع الإسلام، وانقسامهم بين التمسك بكل ما يمت إليه بصلة حتى لو لم يكن من صلب الدين، وبين الوقوف ضد كل ما يشير إليه دون تمييز! والأصل في ذلك أنه مازال المصدر الأول للأخلاق، في الوقت الذي تتحول فيه الأخلاق إلى الملجأ الأخير لإنسانية عربية، خانها التاريخ، وانحدرت بها المؤسسات القانونية والسياسية والاقتصادية.. فهو بالنسبة للبعض " خشبة الخلاص الوحيدة"، وهو بالنسبة للبعض الآخر العائق الرئيس، أمام الانعتاق والتحرر من كل قيد، ومن كل التزام جماعي.

ويعكس الموقف الانفعالي أزمة التربية العربية ومأزقها، ويطرح سؤالاً أساسًا وخطيرًا: من أين يأتي الإطار المرجعي لمنظومة القيم التي تنظم سلوك الناس، وتحدد ولاءهم في مجتمع معين؟ وهل من الممكن اختيار هذا المرجع، او هل هو مسألة اختيار، أم هو ثمرة لتطور موضوعي وتاريخي للثقافة القومية ذاتها، وأحد إبداعاتها؟ هل يكفي مثلاً أن ينادي مسؤول أو مثقف بأهمية هذه القيمة الفكرية والاجتماعية أو تلك، حتى تصبح مقدسة؟ وهل يمكن إسناد المنظومة الأخلاقية إلى إرادة حاكم أو مشرع، أو إلى الإرادة بشكل عام؟

إن ما يحصل في المجتمعات النامية من تبديد في الأرواح والثروات، واختلاس وتلاعب بالمصالح العامة، وبحصر الجماعات وحياتها|، يبين إلى أي حد يؤدي انحلال السند الروحي للأخلاق إلى فقدان الرادع الذاتي"(75).

الولاء والشعور الأخلاقي:

ومن المعروف أن الشعور الأخلاقي مثل الولاء، لا يمنح عن طريق الأوامر، ولا عن طريق استعمال القوة، وإنما هو يتطور مع الزمن، ويعكس علاقات الأخوة والتضامن والتوادد، والدين هنا يعتبر أكبر عامل ومنبع للأخلاق، ولكن ذلك ليس تلقائيًا، إذ لا بد من وجود عقيدة جامعة تجمع الكل، وإطار للتعاون والتضامن، فإذا صار الدين عقيدة باردة وصارت الأخوة مجرد كلام تلوكه الألسن، كما يحدث اليوم ببعض البلاد العربية والإسلامية، وصار التضامن مجرد عواطف، فإن الشعور الأخلاقي يمكن أن ينحدر وينام.

من الأمور المنغرسة في فطرة الإنسان، ميله لأخيه الإنسان، وحبه للتعرف عليه: (يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكرٍ وأنثى وجعلناكم شُعوبًا وقبائل لتعارفوا) (الحجرات: 13).. وإذا خلق الله الشعوب مختلفة لتتعارف، فإن النظم الاستبدادية جعلتها تتعارك وتتصارع، وبعض الدول تعجز عن إطعام شعبها وتطلب المعونات، وفي ذات الوقت تنفق الملايين على حروب طاحنة لا تبقي ولا تذر، متوخمة أن ذلك يحقق المجد الشخصي لها.

إن النظام الاجتماعي قد يعمل على تنمية العلاقات والشعور الأخلاقي، لكنه قد يفعل العكس، فيغتال ذلك، حين يكون النفخ في فئة أو جماعة، فتشعر أنها شعب الله المختار، وأن من سواها ليسوا أكثر من بهائم أو أنجاس، إن هذا النفخ وهو اليوم قائم بأكثر من بلد وشعب يقتل الشعور الأخلاقي، ويغطي على التضامن والمحبة، ويؤدي إلى تقسيم المجتمع إلى طبقات متصارعة، فتغتال المواطنة، كما يقتل الولاء.. إن منابع ومصادر الأخلاق في الأمم يستحيل تغييرها متى نشاء، وكما نشاء، لأنه يجب أن يتبدل بنياننا الثقافي، وهذا صعب للغاية.. الإنسان يبدل ملابسه بسهولة، ويغير بيته وأثاثه، وحتى جنسيته، لكنه لا يستطيع أن يغير أخلاقه بنفس السهولة، وعلى تجار الحداثة أن يعلموا ذلك جيدًا، ليكفوا علن وهم قلع الأمة من جذورها، ونقلها إلى ثقافة أخرى، وخلق جديد، وقيم جديدة.. إن قلع الجبال أيسر من تحويل ولاء الإنسان، وأيسر من تغيير قناعاته الأخلاقية، والتنازل عن قيمه الأساسة.

شبابنا والفراغ الروحي:

في أحاديثي مع طلبتي في الجامعة، أشكو من قلة الاهتمام بالحضور، ومن قلة الاهتمام بالدراسة، حتى المذكرات والكبت أراها متروكة في الأرض، فلماذا كل ذلك؟

يرد الطلبة: نحن ندرس ونسهر الليالي في الثانوية كي نحصل على درجات تؤهلنا لدخول الجامعات، فإذا نجحنا وجدنا الألوف تتزاحم على بضع مئات من المقاعد، ومن قُبل فهو يعلم سلفًا أن لا توظيف فعد التخرج، ومن كان أهله أغنياء، تزوج وشق طريقه في الحياة، ومن كان فقيرًا فعليه الانتظار.

الخلاصة، نخشى أن يصبح الشباب بدون أمل ولا عمل.. فمن أين تتوفر لديه الرغبة في الحضور والمذاكرة؟

تعرفت على طالب في بدل عربي، فأخبرني أنه نجح في امتحان الثانوية العام، لكن معدله كان ضعيفًا، فراح يعيد الامتحان على مدى أربع سنوات متوالية، ليحصل على مقعد في الجامعة، في الوقت الذي تخرج فيه زملاؤه.

هذه نماذج لمعاناة شبابنا، ولك ذلك يصيبهم بنوع من الإحباط واللامبالاة وفقدان السند الأخلاقي والفراغ الروحي، ويكّون صورة مظلمة للمستقبل "ولعل نظرة سريعة على حياة الأجيال الجديدة، في بلاد العالم الثالث، تلك الأجيال التي فقدت سندها الأخلاقي، كافية لرؤية الفراغ الروحي، الذي تعيش فيه، وانعدام الأفق والأمل والإيمان بشيء ، سوى المشاركة الوهمية والسرابية بحضارة استهلاكية ليس لهم منها سوى القشور، ولا يخفف من شعورهم بالحرمان إلا قناعتهم بالدونية والسقوط، وغربتهم في عالم لا يعرفونه ولا سلطة لهم عليه.. وهكذا تظهر الحداثة كانخلاع للإنسان من كل إطار اجتماعي ومعنوي، وإنتاج موسع لحشود من المشردين الذين ينظرون على أبواب المجتمع الاستهلاكي، في حضارة الصوت والصورة، المصبوغتين بالعنف والدم.. ضد هذا الانخلاع والتشريد، وضد هذا المصير الحزين، تستجمع بعض الجماعات قواها المعنوية ومنابع قيمها التاريخية، في حركة بائسة لحفظ مدنيتها

المهد…" (76).

إن هذا الشباب سيظل يبحث لأزمته عن مخرج، إما بالهرب والهرولة نحو الغرب ليعمل خادمًا في مطعم، وليتعلم غسل الصحون، وهي مهنة حضارية عظيمة! أو ينعطف نحو الدين وقيمه، وليتحول إلى مجاهد مستعد للقتال ولو بأظافره، أو يشتغل في المخدرات، مروجًا أو متعاطيًا، أو كليهما، أو يكّون عصابات لسرقة السيارات أو البيوت.. كل هذا وارد وعلى من يعنيهم الأمر أن لا يعولوا على "العصا" فقط.. فالشباب المحبط الذي لا يجد له مقعدًا للدراسة، والمتخرج الذي لا يجد فرصة كسب وعمل، تمكنه من الزواج، لا تخيفه العصا، وربما صارت عقيدته: من يغلق الأبواب بوجهي فهو عدوي، وعلىّ أن أحطمه.. وويلٌ لمن يقف في وجه شاب ثائر يعيش بلا حلم ولا أمل ولا عمل.

قبل قرون صرح ابن حزم، فقيه الأندلس الكبير: عجبت لمن لا يجد طعام يومه كيف لا يخرج حاملاً سيفه! وأقول: عجبت لمن لا يجد مقعدًا دراسيًا، ولا وظيفة، ولا فرصة عمل، ألا يصير ثوريًا ويقاتل حتى ظله!

مفارقة:

كان أمل أهل الحداثة إقصاء الدين والثقافة الدينية والأخلاق المستندة للدين، وتحديث البلاد والعباد، ولكنهم وبعد عشرات السنين، ما زادوا أن صاروا سدنة للاستبداد السياسي والعمالة الثقافية، وأعداء الداء لكل تغيير لأنهم الكاسب الكبر من الأوضاع المعوجة، والحليف لأي سلطة، مهما كانت، ومن أي نوع كانت.

على حين صارت "الثقافة التقليدية" هي التربة الخصبة لازدهار القيم الحديثة والدفاع عنها، قيم الحرية والعزة الوطنية، والاستقلال السياسي، والكرامة الإنسانية والعدل الشامل.. فالدين والثقافة التقليدية هي التي تغذي المقاومة ضد السيطرة الأجنبية، والتصدي لكل اعوجاج، وهي التي تحفظ للجماعة الحد الأدنى من التوازن، وتمنح الأمل، وتخفف ضغوط الحياة المادية، وتصد أو تمنع تحكيم البنية الاجتماعية، وهي التي صارت تمتص الكثير من مفرزات الفشل في شتى الميادين.

إنها اليوم تحيي التكافل وتحرم التبذير، وتدعو للعيش وفق نمط استهلاكي غير مكلف، إنها ما زالت تشكل الرأسمال الاجتماعي، وربما المعنوي الذي تعيش منه وعليه الجماعة القومي، وتقي نفسها به من السقوط في الوحشية البربرية (77).

لقد كانت الحداثة حتى الأمس القريب تصف الدين والأخلاق الدينية بأنهما مسكنان مخدران، ثم فجأة راحت تصفهما بالثورة والتحريض.

بينما صار الحداثي المنتفع الأول من الفساد، مدافعًا عن أي نظام ولو كان نقيض طروحاته وما يدعيه من قيم.. لقد تحول إلى مسوق ومروج للسلطان، مهما كان ومهما كانت طبيعته، إنه اليوم يشعر بأكبر قدر من الحسد والغيرة، ولذا صار همه الأول أن يستعدي السلطان ضد أخيه، بل يستعدي الأجنبي ضد بلده ومواطنيه. إنها مفارقة كبيرة، وما أكثر المفارقات هذه الأيام؟!

صورة المجتمع:

سأرسم صورة المجتمع كفر بالأخلاق الدينية، فالناس فيه، أو لنقل جلهم، يتعاطى الكذب، ويمارس الغش، ويتجسس على أخيه ووطنه، يسرق الأموال والأعراض، يعتبر الرشوة من الحقوق المكتسبة، والسلب والنهب شجاعة، يهجم على المحرمات دون خوف ولا حياء، يرفع شعار (الحلال ما حل باليد)، يجوّد ويحسّن في مظهره، بينما باطنه خراب في خراب، يقتل بالأجرة، ويشهد كذبًا وزورًا، ينافق للقوي، ويستأسد على الضعيف، ثقافته كلمات يلوكها، وعلمه يدور كله حول المنفعة، وأخلاقه كلها تدور حول خدمة نفسه، إنه بذلك يتحول إلى مجتمع "خنازيري" متقدم جدًا جدًا!

وأختم هذه الصورة بقول الشاعر:

لولا المشقة ساد الناس كلهمو الجود يفقر والإقدام قتال

فإذا كانت الأخلاق تقوم على المنفعة، فإن "الأنا" ستكون كل شيء، وستصير الحياة أكثر صعوبة ومشقة، ويشتد الصراع ويعظم، فلا يكون للفقير ولا للضعيف مكان.

إن الأديان تعلم الناس الإحسان، كما تعلمهم العطف، حتى على الحيوان، وكلما ضعف الدين قوي الإنسان واستأسد، وحل السلطان محل الله تعالى، وأراد من الناس السمع والطاعة وكفى.

فاللهم سدد خطانا، وألهمنا الصبر والصواب، ومحبة الخلق، وعشق الحق، وكره الظلم والظالمين، والاستبداد والمستبدين، والنفاق والمنافقين، والكذب والكذابين، والزور والمزورين.. اللهم اجعلنا هداة مهتدين، ولا تجعلنا ضالين مضلين، يا رب العالمين..

وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.

==============

# البعد الحضاري لهجرة الكفاءات

تقديم بقلم : عمر عبيد حسنه »

الحمد لله الذي شرع الهجرة وجعلها مجاهدة وجهاداً لتغيير الواقع، وتحقيق الهدف، وتجاوز حالة الضعف والركود، والاستنقاع الحضاري، والركون إلى الذين ظلموا، فهي وسيلة لمراغمة الأعداء والمتربصين بالخير وأهله، المتحكمين بالعباد والبلاد، وتفويت أغراضهم؛ كما جعلها سبيلاً للخلاص من حالة الضعف والعطالة، واسترداد الفاعلية، لمعاودة الإقلاع من جديد، فقال تعالى: (( الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَئِكَةُ ظَالِمِى أَنفُسِهِمْ قَالُواْ فِيمَ كُنتُمْ قَالُواْ كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِى الاْرْضِ قَالْواْ أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ واسِعَةً فَتُهَاجِرُواْ فِيهَا)) (النساء:97).

والصلاة والسلام على الرسول المهاجر، الذي كانت هجرته وما تحقق بها ولها من النتائج الإيجابية ومراغمة الأعداء أنموذجاً يحتذى، الذي أذن لأصحابه بالهجرة إلى الحبشة لكسر الحصار وتجاوز الضعف والتحكم من الكافرين.. واختيار الحبشة كمهجر أول جاء لعدة اعتبارات لا مجال لاستقصائها، لكن كان في مقدمتها أن فيها ملكاً لا يظلم الناس عنده، قال صلى الله عليه وسلم لأصحابه عندما طلب إليهم الهجرة إليها: «إن بأرض الحبشة ملكًا لا يُظلم أحد عنده، فألحقوا ببلاده حتى يجعل الله لكم فرجًا ومخرجًا مما أنتم فيه»، فكان من نتائجها -إلى جانب حماية بعض أجنة الإسلام الأولى- أن أسلم النجاشي، ملك الحبشة، وفاضت عيناه من الدمع عندما سمع شيئاً من القرآن، ونزل في إسلامه قرآن خالد مجرد عن حدود الزمان والمكان والإنسان، ما يزال يتلى ليؤكد في كل الأحوال المعاني الكبيرة والأهداف الممكنة، التي يمكن أن تتحقق من الهجرة في كل زمان ومكان، إضافة إلى ما فيها من السعة في الرزق والأمن ومراغمة العدو وتوفير إمكانية الانتصار عليه.

ولعل هذا المعنى، أو هذه المعاني جميعاً، تجلت وتجسدت بكل أبعادها في هجرة الرسول صلى الله عليه وسلم مع أصحابه إلى المدينة المنورة، بعد ثلاثة عشر عاماً من الصبر والتحمل والمعاناة والمقاطعة، بعد أن استعصت أرض مكة في تلك الظروف والأحوال، لأمر يريده الله، عن الاستجابة وقبول الخير العام، على الرغم من أنها تاريخياً مكان البيت الأول للتوحيد، الذي وضع للناس، قال تعالى: (( إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِى بِبَكَّةَ مُبَارَكاً وَهُدًى لّلْعَالَمِينَ (96) فِيهِ ءايَاتٌ بَيّنَاتٌ مَّقَامُ إِبْراهِيمَ وَمَن دَخَلَهُ كَانَ ءامِناً )) (آل عمران:96-97)، وقال: (( وَإِذْ بَوَّأْنَا لإِبْراهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَن لاَّ تُشْرِكْ بِى شَيْئاً وَطَهّرْ بَيْتِىَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ)) (الحج:26)، وموطن ومهجر أبي الأنبياء إبراهيم عليه السلام: ((رَّبَّنَا إِنَّى أَسْكَنتُ مِن ذُرّيَّتِى بِوَادٍ غَيْرِ ذِى زَرْعٍ عِندَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ)) (إبراهيم:37).

ومع ذلك كانت الهجرة إلى المدينة، معقل يهود ومحل سيطرتهم وتحكمهم، فرجاً ومخرجاً، فمن ذا الذي كان يظن أن المهجر المدينة، وليس الموطن مكة، يمكن أن يكون مكان الانطلاق للدولة والأمة والمجتمع الإسلامي وحمل الخير إلى مكة نفسها والعالم، إضافة إلى ما حصل بسبب الهجرة من سعة الرزق ونعمة الأمن وإرغام أنوف كفار مكة الذين آذوا المسلمين أذى شديداً.

لذلك اعتبرت الهجرة في بعض أحوالها وأزمانها جهاداً، بل من أعلى أنواع الجهاد، واعتبر التقاعس عنها سقوطاً في حالة التربص والانتظار والخذلان وفقدان الإرادة ومدعاة لسخط الله ومجلبة للعذاب، قال تعالى: (( قُلْ إِن كَانَ ءابَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوانُكُمْ وَأَزْواجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُواْ حَتَّى يَأْتِىَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ )) (التوبة:24).

والناظر في الهجرة بكل أبعادها الشرعية وتطبيقاتها العملية في عصر النبوة وخير القرون، يبصر أنها ليست ظاهرة سلبية هروبية انسحابية انهزامية وتولٍ عن الزحف وخروج من المعركة، وإنما هي حركة إيجابية قاصدة، وخطة محكمة، وعمل محكوم بنيَّة واضحة الأهداف، وهي أشبه ما تكون بتحرف لقتال، أو تحيز إلى فئة، للخروج من حالة الذل والعطالة، لاكتساب الفاعلية وتحقيق كسب أكبر للقضية الإسلامية.

من هنا نقول: إنَّ الأعمال تَشْرُفُ بشرف مقاصدها، وإخلاص أهلها، وقدرتهم على تحقيق تلك المقاصد بصواب التخطيط لها، وإبصار تداعياتها، وتقدير عواقبها؛ لذلك قال الرسول صلى الله عليه وسلم: «...فمن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها أو امرأة ينكحها فهجرته إلى ما هاجر إليه» (أخرجه البخاري)، وهو الحديث الذي تبدأ فيه معظم كتب العلم والثقافة عندنا.. فالنيَّة، إلى جانب ما تحمله من ركيزة الإخلاص والتنقية والاستعداد والتطهر النفسي من كل الدوافع لغير الله، هي إبصار كامل للحركة، وأهدافها، وتداعياتها، ومتطلباتها، وأهمية تصويب وسائلها لتحقق الهدف وتثبيت الأجر.

لذلك؛ فالمتأمل في أبعاد نيَّة الرسول صلى الله عليه وسلم الهجرة إلى المدينة المنورة، وما سبقها من إعداد واستعداد، من بيعة العقبة الأولى والثانية، وما أعد لها من الوسائل والخطط والاحتياطات في كل جزئية من حركتها يكاد يتوهم وكأن الذي يتخذ كل هذا التحوط ويستوفي كل هذه الأسباب لا علاقة له بالسماء؛ والمتأمل فيما كان من التوكل على الله والاطمئنان لنصره والالتجاء إليه في أحلك الظروف يكاد يتوهم وكأن صاحبها لا صلة له بالأرض وتعاطى الأسباب؛ وهذا هو الفهم الإسلامي السليم.

فالهجرة الإسلامية أنموذج للإيجابية والإحياء واسترداد الفاعلية والمجاهدة وحسن التعامل مع سنة التدافع البشري، وقبل ذلك وبعده إلغاء للثنائية التي كانت سبباً في تمزيق الإنسان وتشطير شخصيته بين تعاطي الأسباب والتوكل على الله؛ ذلك أن تعاطي الأسباب في الرؤية الإسلامية من لوازم التوكل، والتوكل من لوازم تفعيل الأسباب وتجاوز حالات القلق واليأس ومحاولات الإحباط والتضييق لأرض الله الواسعة، والانحباس ضمن دوائر يزيدية محكمة، نرسمها بأيدينا وندعي بأن الشيطان حبسنا فيها، وما هي في الحقيقة إلا من صنع الإنسان، وتسويغ وتبرير لحالة الذل والاستسلام والهوان.

وللهجرة والهَجْر بعد تربوي عظيم لو أمكن إدراكه واستخدامه ضمن سياقه، والتزم به ضمن المساحة المشروعة والمؤثرة، وهو توظيف الهجرة كعامل فاعل من عوامل الضبط الاجتماعي، وهجر أصحاب الفجور والمعاصي والمقصرين، لحملهم على العود إلى طريق الاستقامة والصلاح والفاعلية على أن يكون هذا الهجر مدروساً وبالنسب المحددة.

ذلك أن هجر أصحاب المعاصي من أقوى الأسباب العملية للضبط الاجتماعي.

ولعل التأمل في قصة الثلاثة الذين تخلفوا، من الصحابة رضي الله عنهم، عن الرسول صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك، والتي أنزل الله سبحانه وتعالى فيها قرآناً يتلى على الزمن، فقال تعالى: (( وَعَلَى الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ خُلّفُواْ حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الارْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنفُسُهُمْ وَظَنُّواْ أَن لاَّ مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلاَّ إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُواْ إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ)) (التوبة: 118)، وما كان من تعامل المجتمع الإسلامي معهم، وهجرهم حتى من قِبَل زوجاتهم وأقاربهم، والتعرف إلى أسباب نزول الآية بدقة - فأسباب النزول تشكل وسائل الإيضاح المعينة على كيفية تنزيل النص على الواقع، وكل واقع مماثل، في كل زمان ومكان، كما تلقي الضوء على كيفية توظيف الهجرة بالأقدار المحددة والمشروعة- يمكن أن يحقق الكثير من الضبط الاجتماعي والعطاء التربوي لبناء السلوك البشري القويم بالنسبة لمن وقع في الخطأ والتقصير، كما يحقق العبرة والعظة والتقوى للمجتمع المسلم بشكل عام، أفراداً وجماعات.

وبعد:

فهذا كتاب الأمة التاسع والثمانون : « البعد الحضاري لهجرة الكفاءات» لمجموعة من الباحثين، في سلسلة «كتاب الأمة»، الذي يصدر عن مركز البحوث والدراسات في وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية في دولة قطر، مساهمة في إعادة تشكيل العقل المسلم في ضوء مرجعية معرفة الوحي، في الكتاب والسنة وتطبيقات مرحلة السيرة النبوية، التي تجلت فيها هذه المعرفة ونضحت عطاءها في شعب الحياة جميعاً، وتجسدت في حياة الناس، في الفكر والدعوة والحركة، كمرحلة اقتداء معصومة برعاية النبوة وتسديد وتأييد الوحي السماوي، إضافة إلى المقاربة مع ما تمتع به خير القرون من الخصائص والصفات المهمة في ترشيد المسلم المعاصر.

إن التحقق بامتلاك الأدوات المناسبة لاكتشاف مواطن الخلل التي أدت بالأمة المسلمة، والفرد المسلم قبل ذلك، إلى هذا التراجع والتقهقر والتخلف على غاية من الأهمية، وهو شرط لا مندوحة عنه في محاولتنا الخروج من غرف وحالات الانتظار، وماتورثه من تواكل وذل وعجز وخذلان، إلى أرض الله الواسعة، وإعادة التقويم للإمكانات والاستطاعات، والتفكير بكيفيات توظيفها، والخروج بها إلى الموقع المجدي، وإحياء وإشاعة ثقافة السنن والقوانين التي تحكم حركة الحياة والأحياء، واكتشافها، وحسن التعامل معها، ومدافعة قدر بقدر.

إن عدم توفر الأدوات، بسبب غياب التخصصات العلمية بشعب المعرفة جميعاً، أدى إلى الكثير من سوء التقدير للأمور وكيفية التعامل معها، ودفع إلى الكثير من الهياج والغوغائية ودفقات الحماس، أو ومضات الحماس، والتحرك الأعشى تحت رايات عُمِّيَّة، التبس أمرها وقرئت بأبجديات مغلوطة، فكانت سبباً في هدر الإمكانات وبذل التضحيات الكبيرة في المعارك الخطأ، التي ما نزال نُستدعى إليها لتصفية الحسابات بدمائنا، دون أن يكون لنا أي نصيب - إلا أن نُحاسب على نوايانا- هذا إضافة إلى ما يكون بعدها من التجريم والمطاردة والملاحقة وانكشاف المواقع؛ وقد يستوي في ذلك المهاجر من الوطن والمهاجر في الوطن.

وفي تقديرنا، أننا ما نزال نمارس الكثير من الهجرة الخطأ (بالمفهوم العام للهجرة) في حياتنا وحركتنا، وتوظيف إمكاناتنا، وتوجيه طاقتنا، سواء كان ذلك في الوطن، بالمفهوم الجغرافي، أو في الهجرة إلى خارج الوطن (والدنيا كلها وطن للمسلم)، ومع ذلك نتطلع إلى نتائج الهجرة وثوابها.

إن التعرف على السنن التي تحكم الحياة والأحياء - بحيث تأتي الهجرة حركةً منسلكة ضمن منظومتها- لا يمكن أن تتحقق ما لم تتم النفرة أو الهجرة لاستكمال شعب المعرفة جميعاً وتوفير الاختصاصات العلمية والتجارب العملية التي تتطلبها الحياة؛ لأن هذه الاختصاصات هي بمثابة الحواس المتنوعة المطلوبة لتشكيل العقل المسلم المعاصر.

فكما أن الذوق واللمس والشم والسمع والبصر كلها حواس ونوافذ للعقل يطل منها على العالم الخارجي، ومصادر للمعرفة تمكِّن العقل من بناء القرار والتزام السلوك في الحركة وإبصار الأهداف والهجرة إليها، فكذلك الحال بالنسبة إلى الاختصاصات في شعب المعرفة المختلفة، وأهميتها بالنسبة للتعامل مع الحياة، والارتحال المبصر إلى أنشطتها، واستكمال وظائف المجتمع ومتطلباته، وإحياء فروض الكفاية، بعيداً عن الارتجال والارتحال الغلط، أو الهجرات العُمِّيَّة التي تمارس في كثير من جوانب الحياة الإسلامية اليوم.

ولعل الأمر المفزع والمنذر بسوء النتائج والمزيد من التقهقر والتخلف، أن الكثير ممن أفنوا أعمارهم في تحصيل بعض تلك الاختصاصات العلمية والمعرفية وتأهلوا وهاجروا إليها ليكونوا في خدمة أمتهم ومجتمعاتهم الإسلامية في استيفاء وظائف المجتمع، وتحقيق الاكتفاء الذاتي، والحيلولة دون هجرة (الآخر) إلينا لملء الفراغات، وما يحمله ذلك (الآخر) من التأثير الثقافي والفتن العقدية والسلوك المنحرف، إذا بهم يهجرون اختصاصاتهم، ويعجزون عن وضعها في خدمة عقيدتهم وأمتهم، وحسن توظيفها منابر فاعلة مؤثرة في المجتمع، يهجرونها إلى منابر الوعظ والإرشاد وصناعة المشيخة، ليكون الناس في خدمتهم، ويقدمون على أعمال لا يمتلكون أبسط أدواتها ولا مقوماتها.

وقد يدلل هؤلاء بذلك على أن المجتمع المسلم هو مجتمع فوضى واضطراب وعبث، وأن الإسلام محصور بمساحات جغرافية وثقافية محدودة، ولا مانع عند الكثير منهم أن يدعو من على أعلى المنابر أن الإسلام دين ودنيا، إيمان وعلم، أخلاق وتربية، شريعة وعقيدة، مسجد ومعمل، جامع وجامعة... وكأن هذا الكلام أصبح مادة للخطب والاستهلاك الجماهيري وليس للتمثل والالتزام... وهكذا يشيع فينا القول السائر: «اقرأ تفرح، جرب تحزن»... ويستمر الخلل في الهجرات في مراحل التخلف، وفهم التخلف للنصوص، وكأن حديث الهجرة إنما جاء لغير المسلمين(!) فحديث الهجرة وغيره من الأحاديث والآيات لمن يفيد منها ويحسن التعامل معها، وليس تميمة تعلق على المنابر، وبعيداً عن واقع الأمة ومتطلباتها.

إن العجز عن فهم آفاق الدعوة إلى الله سبحانه وتعالى، والعجز عن تمثلها وتجسيدها في كل المواقع، وتقديم الأنموذج الذي يثير الاقتداء في جميع أنشطة الحياة وتخصصاتها، وامتلاك القدرة على توليد رؤى إسلامية متميزة في المجالات المتعددة، والاستمرار في محاصرة أنفسنا بالضخ الكلامي والتحشيد الحماسي والوعظ والخطب والإرشاد، بعيداً عن تنزيل ذلك في ميادين الحياة المختلفة، لتتحول الحياة والتخصصات إلى حياة إسلامية متميزة تثير الاقتداء، بحيث ندعو الناس بسلوكنا وتصرفنا وتخصصنا، ونحسن جعل العمل والتخصص في خدمة الدعوة، فسوف ينتهي بنا إلى الخلل في معادلة الهجرة الشرعية.

إن الخلل في إدراك ثقافة الهجرة وفقهها -إن صح التعبير- سوف يؤدي إلى نوع من الحركة العبث بحيث تهاجر الطاقات إلى غير مواقعها ومواطنها، سواء في ذلك الهجرة في الوطن أو الهجرة إلى خارج الوطن؛ لأن ثقافة الهجرة وإدراك أبعادها ما تزال غير نضيجة في رؤيتنا للحياة، وإمكانية القدرة على التوليد والإنبات في كل الظروف والأحوال والمواقع.

فالهجرة في أبسط مفهوماتها هي إخلاص القلب، وعزيمته على فعل مستقبلي، برؤية واضحة المعالم وفقه كامل للتداعيات: «...فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها أو امرأة ينكحها فهجرته إلى ما هاجر إليه» (أخرجه البخاري).

نعود إلى القول: إن الهجرة حركة إيجابية، وخطة استراتيجية، ورؤية مستقبلية، واختيار للموقع الفاعل، وتحول إلى الفعل المجدي، وتجاوز لحالات الحصار والعطالة والعقم؛ فهي حركة دعوية، وعمل جهادي قد يرقى إلى مستوى التضحية بالروابط الأسرية أو القبلية أو الوطنية، ولو بشكل مؤقت؛ وهي تحرف لقتال، وتحيز إلى فئة، وليست هروباً من المعركة وتولٍ عن الزحف؛ لأن فيها مراغمة للأعداء، وتعالٍ عن جميع الروابط القسرية، والارتقاء إلى الروابط الاختيارية، التي تتحقق بها إنسانية الإنسان وكرامته وانعتاقه من العبودية لغير الله.

والمسلم بشكل خاص لا يعاني من أزمة الاغتراب؛ لأنه يعتقد أن الأرض كلها لله، يورثها من يشاء من عباده، وأن من السنن الماضية في هذه الحياة ما ورد في قوله تعالى: (( وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِى الزَّبُورِ مِن بَعْدِ الذّكْرِ أَنَّ الاْرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِىَ الصَّالِحُونَ)) (الأنبياء:105)، فالوراثة الحضارية والأحقية في الأرض منوطة بامتلاك صفات وخصائص ومؤهلات الصلاح، إضافة إلى أن المسلم يحمل رسالة ذات خطاب عالمي، رسالته عالمية، وأن من مسؤوليته إيصال هذه الرسالة إلى أنحاء الأرض كافة، إيصالاً للخير للعالمين، استجابة لقوله تعالى: ((وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لّلْعَالَمِينَ)) (الأنبياء:107).

فالهجرة هي نوع من الامتداد بالرسالة الإسلامية بغية إيصالها للناس جميعاً، استجابة لخبر الصادق الصدوق صلى الله عليه وسلم أنه: لا تقوم الساعة حتى يصل الإسلام إلى كل بيت من حجر ووبر، بعز عزيز أو بذل ذليل: «لَيَبْلُغَنَّ هَذَا الأَمْرُ مَا بَلَغَ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ، وَلا يَتْرُكُ اللَّهُ بَيْتَ مَدَرٍ وَلا وَبَرٍ إِلا أَدْخَلَهُ اللَّهُ هَذَا الدِّينَ بِعِزِّ عَزِيزٍ أَوْ بِذُلِّ ذَلِيلٍ، عِزًّا يُعِزُّ اللَّهُ بِهِ الإِسْلامَ وَذُلاً يُذِلُّ اللَّهُ بِهِ الْكُفْرَ» (أخرجه أحمد)، وأن هذا الوصول سوف لا يتحقق إلا بعزمات البشر وفعلهم وانتقالهم صوب (الآخر) لإيصال الخير إليه.

يضاف إلى ذلك أن الهجرة هي تعال عن الواقع، وتجاوز للظروف، وفك للقيد، وخروج على حالة الاستضعاف والذل، والاستضعاف الذي يمارسه الطغاة، لذلك اعتُبر المستكين للذل، المستسلم للظلم، ظالماً لنفسه، فاقداً للحيلة والفاعلية؛ لأن أرض الله واسعة، والهجرة هي المخرج، لأنها تحول من العجز والتخاذل إلى الفاعلية والعطاء وحرية العقيدة والعبادة، قال تعالى: (( ياعِبَادِىَ الَّذِينَ ءامَنُواْ إِنَّ أَرْضِى وَاسِعَةٌ فَإِيَّاىَ فَاعْبُدُونِ)) (العنكبوت:56).

وهذه المعاني، التي أشرنا إلى بعضها، ليست نظرية أو مجردة عن الواقع، فالتاريخ، وهو المختبر الإنساني الحقيقي لفعل السنن الاجتماعية والتدليل على اطرادها، يشهد ويؤكد أن الهجرة حققت نشر الرسالة، وتحصيل القوة، ومراغمة الأعداء، والخلوص من حالة الركود والاستنقاع، والخروج من حالة الاستضعاف والضيم، وأن جيل الصحابة انطلق في الأرض بمختلف تضاريسها ومناخاتها لنشر الإسلام وإيصاله للناس، حتى أننا لنرى اليوم أن أكثر من أربعة أخماس العالم الإسلامي إنما تحقق له الإسلام بوساطة الهجرات، بل إن بعض المناطق في إفريقيا لم يستقر الإسلام فيها ويستمر فتحاً، وإنما كان لابد لاستقراره واستمراره من الهجرة والإقامة والتزاوج، وبذلك استقر واستمر، وما الواقع الإسلامي على خارطة العالم اليوم إلا مصداق ذلك.

وتبقى مرحلة السيرة، فترة معصومة في تاريخنا، تشكِّل مصدراً للتشريع والثقافة والخلود، الذي يعني التجرد عن حدود الزمان والمكان والإنسان، تبقى دليلاً خالداً على أن الهجرة إلى المدينة، الأنموذج المحتذى، كانت إيذاناً بقيام الدولة وتشكيل الأمة وبناء المجتمع، وكانت أعلى أنواع الجهاد، وأن الهجرة إلى الحبشة كانت عبرة وسبباً في إيمان ملكها حتى فاضت عيناه من الدمع عندما سمع ما نزل على الرسول صلى الله عليه وسلم لما عرف من الحق.. ويبقى ذلك قرآناً يتلى، وبصيرة للمسلم، وعبرة للحاضر والمستقبل معاً.

وإذا كانت الهجرة جهاداً، بل قد تكون -كما أسلفنا- من أعلى أنواع الجهاد، وأن القصور عنها خروج عن الطاعة ومدعاة لغضب الله ووعيده وإنزال عقابه: (( فَتَرَبَّصُواْ حَتَّى يَأْتِىَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لاَ يَهْدِى الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ )) (التوبة:24)، وأنها معركة بكل معنى الكلمة، تقتضي امتلاك شوكتها، والتخطيط الكامل لها من التحرف لقتال، أو التحيز إلى فئة، وأن القعود عنها عند الحاجة إليها أشبه بالتولي يوم الزحف، فإن التفكير والتخطيط والاختيار والموازنة، واتخاذ الأسباب، ودراسة الظروف، وتقدير التداعيات، واختيار الزمان والمكان، وإبصار البعد المستقبلي كاملاً، يعتبر من مقتضيات الهجرة؛ لأنها ليست حركة انتقال عشوائي، وإنما هي أمر شرعي تكليفي: «... فمن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها أو امرأة ينكحها فهجرته إلى ما هاجر إليه» (أخرجه البخاري).

وما حديث الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم بعد فتح مكة ونهيه عن الهجرة، والدعوة إلى البقاء أو التثبت في الأرض، والتحمل، والمجاهدة، إلا دليلاً على أن الهجرة بظروفها وأحكامها رؤية رسالية مبصرة، يقول صلى الله عليه وسلم: «لا هجرة بعد الفتح ولكن جهاد ونيَّة» (أخرجه البخاري).. فكثيرة هي الهجرات المعاصرة، التي جاءت في الزمان والمكان الخطأ، حيث تم ترك الأرض وإخلاؤها للعدو، فكانت من الكوارث؛ وكثيرة هي الهجرات التي حققت الإنجاز والتجاوز لحالة الركود والاستضعاف وكانت سبباً في السعة وإرغام العدو الذي كان يمارس الظلم: (( وَمَن يُهَاجِرْ فِى سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِى الاْرْضِ مُرَاغَماً كَثِيراً وَسَعَةً )) (النساء:100).

من هنا نقول : لابد من إعادة النظر في أحكام الهجرة، أو بتعبير أدق: في فقه الهجرة، وطبيعة الظروف المحيطة، وطبيعة الظلم، كما لابد من إعادة النظر فيما يسمى «الفقه السياسي التاريخي»، الذي كان يشكل نقطة الارتكاز للهجرة، بشكل خاص، وتقسيم العالم إلى دار كفر ودار إسلام، كأمر جغرافي واقعي، وخطورة الاستمرار في حفظ الأحكام الفقهية ونقلها دون التبصر بمحالها وظروفها وشروط تنزيلها، والذي من مقتضياته أن ترك دار الإسلام والهجرة إلى دار الكفر والعيش فيها لا يجوز(!) فأين دار الإسلام بكل شروطها المطلوبة لتُحدد على أساسها دار الكفر؟ وأين العدل والحرية المتميزة وتطبيق الأحكام الشرعية في كثير من بلاد المسلمين لنطلق الأحكام بعدم جواز الهجرة؟

إن الإنسان المسلم كثيراً ما يتمتع بأقدار من الحرية والحق الإنساني والقدرة على تحصيل العلم والمعرفة، وتتاح له مجالات الحوار الفكري والدعوة إلى الله في ما يسمى (دار الكفر) بما لا يتمتع به في ما يسمونه (دار الإسلام): «إن بأرض الحبشة ملكًا لا يُظلم أحد عنده، فألحقوا ببلاده ...».. وهذا ليس حدثاً تاريخياً انتهى في زمانه بل سنَّة هجرة ممتدة، أو قانون هجرة ممتد، خالد خلود الإسلام ورسالته، فقد يستطيع الإنسان أن يقول في الشارع أحياناً فيما يسمى دار الكفر ما لا يستطيع قول بعضه في بعض بلاد المسلمين اليوم.

لذلك نقول: لابد من إعادة النظر في فقه الهجرة، والنظر في أبعاد الحالة من كل الوجوه .. ولو افترضنا أن هذه الأحكام صماء جامدة فاقدة للحكمة والمرونة وشرائط التنزيل، فكيف يصل الإسلام إلى (الآخر) ويستقر في تلك البلاد ويستمر عطاؤه؟ هذا إضافة إلى أن الأمر في عصر القرية الإعلامية لم تعد تحكمه الجغرافيا، بكل معنى الكلمة، فلم يعد هناك دار متمحضة للكفر وإنما أصبح الوجود الإسلامي قائماً ومتميزاً في أكثر بلدان الدنيا، وأصبح له مراكز ومؤسسات، ولم يعد طارئاً أو عارضاً وإنما مستقراً ومستمراً.

وهذه القضية تقتضي تفكيراً في كيفية التعامل مع الظروف والملابسات، واختيار وسائل الدعوة المناسبة (للآخر) الذي اعتبره بعض الفقهاء يمثل أمة الدعوة، بينما يمثل المسلمون أمة الإجابة، بعيداً عن التقسيمات الجغرافية الأرضية والتحول إلى الجغرافيا الثقافية، إن صح التعبير.

وليس من قبيل التكرار أن نؤكد أن المسلم لا يعاني من عقدة الاغتراب؛ لأنه يعتقد أن الأرض لله يورثها من يشاء من عباده، وأن وطن المسلم عقيدته، وجنسيته ثقافته، وهويته قيمه وأفكاره، وأن الإسلام ليس حكراً على أرض أو قوم أو لون أو جنس، وبذلك فإن المسلم الملتزم بقيم الإسلام وأخلاقه وتسامحه وإنسانيته لا يشكل استفزازاً في مهجره، لونياً أو عنصرياً أو قومياً، بل يمتلك الكثير من أدوات التواصل والانسجام والاندماج والوسائل المقنعة في دعوة (الآخر)، الذي لا يلبث أن يصبح من أمة الإسلام ويساهم بمستلزمات أخوة الإيمان.

من هنا نقول: إن المسلمين في المهجر ليسوا جسماً غريباً أو جزراً منفصلة؛ لأن الكثير من أبناء البلاد الأصليين اعتنقوا الإسلام؛ ولأن الإسلام يمثل سقفاً عالمياً يظل الجميع، ومشتركاً إنسانياً يستوعب عطاء الجميع، وليس عقيدة مقفلة متعصبة على جنس أو لون أو فئة أو طائفة أو قوم.. لذلك نجد الكثير من المقدمات الفكرية الخاطئة تؤدي إلى نتائج وأحكام خاطئة.

فالإسلام لا يقابل الغرب، ففي الغرب إسلام وفي الغربيين مسلمين، والإسلام لا يقابل الرجل الأبيض أو الأسود أو المرأة أو الأغنياء أو الفقراء، ففي الإسلام الأبيض والأسود والمرأة والرجل والغني والفقير، والإسلام ليس حكراً على المهاجرين من دون الآخرين، وإنما هو مجتمع مفتوح للجميع .

من هنا ندرك أهمية البعد الرسالي للهجرة، وندرك مدى إمكانية التكيف والقدرة على إجهاض النزعات العنصرية المتطرفة والمغلقة ضد الإسلام والمسلمين، فالهجرة من أهم وسائل الدعوة والحركة والنصرة والعطاء وإيصال هذا الدين إلى كل بيت حجر أو وبر ليعود أهله مسلمين، لذلك فالهجرة جهاد بلا شوكة، بل هي من أعلى أنواع الجهاد، فإذا كانت ساحة الجهاد العسكري ميدان معركة محدودة بأرض وعدو وزمن، فإن ميدان الجهاد بالهجرة هو الحياة بكل آفاقها وأمدائها.

والهجرة محكومة بمصلحة الدعوة إلى الله وحمل الخير للعالم، فهي في مرحلة لابد أن تعلو على جميع روابط النسب والأرض والعلاقات الاجتماعية واللذائذ الدنيوية وحظوظ النفس، وأن عدم الاستجابة لها محل لسخط الله وتهديده ووعيده، قال تعالى: (( قُلْ إِن كَانَ ءابَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوانُكُمْ وَأَزْواجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُواْ حَتَّى يَأْتِىَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ)) (التوبة:24)، لكنها في حالة أخرى، بعد الفتح، منهي عنها، وممارستها مخالفة لأمر الله؛ لأن مصلحة الدعوة هي في التثبت في الأرض والدفاع عنها وعدم إخلائها للعدو، وهي عندي أشبه بالمعركة ذات الشوكة التي يحكمها قوله تعالى: (( يَأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُواْ زَحْفاً فَلاَ تُوَلُّوهُمُ الادْبَار (15)وَمَن يُوَلّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلاَّ مُتَحَرّفاً لّقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيّزاً إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاء بِغَضَبٍ)) (الأنفال:15-16).

فأحكام الهجرة، كما أسلفنا، ليست جامدة مغلقة، وإنما هي محكومة بالمصلحة الإسلامية، محكومة بعلتها، ومحكومة بتوافر الشروط لتنزيلها على الواقع. لذلك فتعميم الأحكام على كل الحالات هو نوع من العامية الذي يقود إلى عمى الألوان وعدم التمييز . فقد تكون فرضاً مأموراً به، وقد تكون أمراً منهياً عنه، ويبقى السير في الأرض واستيعاب العالم وتجاربه وتاريخه وحاضره وفهم واقعه سبيلاً لتحقيق عالمية الدعوة، وتوصيل الخير إلى جنبات الأرض، لذلك فالنظر لموضوع الهجرة من خلال البعد السلبي الذي يعني الهروب والانسحاب والانجذاب (للآخر) وجعل ثرواتنا وطاقتنا في خدمته وخدمة حضارته، هو نظر كليل ساذج لظاهرة الهجرة، وخروج بها عن أبعادها ومقاصدها.

ونحن هنا لا نقلل من خطورة الظواهر السلبية للهجرة والأسباب التي أدت إلى طرد الكفاءات من عالم المسلمين، من الاستبداد السياسي، والظلم الاجتماعي، وانعدام الحرية وتكافؤ الفرص، وتقديم أهل الثقة وطرد أهل الخبرة، والنزف الكبير العشوائي وغير المخطط أو المبرمج، الذي ترتب على الهجرات إلى (الآخر)، وكيف استطاع (الآخر) الإفادة منها، لكننا نقول: إن هذه الهجرات، أو هذا الرصيد من السواعد والكفاءات، أو الأدمغة والتخصصات العلمية، بقدر ما يشكل ظواهر سلبية أفرزتها حالات التخلف والاستبداد السياسي في العالم الإسلامي بقدر ما يشكل رصيداً حضارياً، ومخزوناً علمياً تخصصياً، وإمكاناً ثقافياً، وثقلاً بشرياً، ووزناً سياسياً، لو أعاد قراءة ذاته وأدرك رسالته الإنسانية وقدرتها على العطاء، واستلهم قيمه وتجربته التاريخية، لتحول إلى مواقع قوة وتأثير وعطاء لموطنه ولمهاجره على حد سواء.

وفي ضوء ذلك وبعض تداعياته:

أليس من الممكن اليوم اعتبار خروج بعض الأصوات الجديدة في أوروبا عامة لنصرة القضايا العربية والإسلامية العادلة، والتفهم الصحيح للمشكلة الفلسطينية والمقاومة المشروعة، هي بعض بشائر معطيات الوجود العربي الإسلامي في الغرب؟

فالهجرة تبقى محكومة في نهاية المطاف بثقافة الإنسان وفاعليته واستشعاره بمسؤوليته وتحقيق هدفه، فالإنسان «الكَلْ» هو وسيلة استهلاك (للآخر)، والإنسان «العَدْل» هو وسيلة إنتاج قادرة على الإنبات في كل المواقع، سواء هاجر من الوطن أو هاجر داخل الوطن، والمهاجر من هجر ما نهى الله عنه.

إن هذا الرصيد الثقافي والحضاري للمهاجرين، وما تحقق له من الانتشار بين أبناء المهجر أنفسهم، والاستقرار والاستمرار، مؤهل لتوهين عصا الظلم، منسأة الاستبداد، التي يتكئ عليها الطغاة، ومعالجة أزمة الحضارة بقيم الإسلام، دين الإنسان.. فالهجرة سعة وتحرر وتجاوز لحالة الضعف والذل، وسير في الأرض، واستيعاب للعالم والسنن الاجتماعية، والتعرف على كيفية توصيل الخير إلى الآخرين، ولعل من أبرز أهدافها أو نتائجها هي مراغمة الأعداء المتربصين بالأمة وقيمها ونشر الخير في العالم، وإيقاف عمليات الإكراه والإجبار وإهدار كرامة الإنسان وإلغاء إنسانيته تحت شعار: ((وَالْفِتْنَةُ (الإكراه) أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ )) (البقرة:191)، لأنه لا قيمة للإنسان بلا خيار.. فهل يكون المهاجر رسولاً لهذه القيم؟

ونقول: إنه لمن المؤسف حقاً - ولعل هذا من ثمرات التخلف أو القراءة المتخلفة للظواهر الاجتماعية- أن لا نرى من الهجرة إلاّ الوجه السلبي، ونرصد ظواهرها، ونتألم لآثارها على بلادها، دون أن نبصر أسبابها الحقيقية، وأبعادها الإيجابية، ونتائجها الممكنة، ورسالتها الحضارية، ومردودها على بلدها ومهجرها، وكيفية تحويلها من نقمة عند من لا يرى إلا الوجه المظلم إلى نعمة، بما تمتلك من رصيد علمي ومعرفي وتخصصي وخبراتي، ذلك أن التحركات البشرية وموجات الهجرة من سنن الاجتماع.

إن فقه الهجرة وكيفية تنزيل أحكامها على واقع الناس، والوعي بظروفها وتداعياتها، ووضوح البعد الرسالي للمهاجر في وطنه وفي بلد المهجر على سواء، ليس بالأمر الهين، وقرارها ليس بالأمر السهل. وقد أتينا على أنموذجين من السيرة، في الأول توعد ووعيد للمتخلفين عن الهجرة، واعتبار ذلك مدعاة لسخط الله وعذابه: ((فَتَرَبَّصُواْ حَتَّى يَأْتِىَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ ))؛ لأن في الهجرة جهاد ونصرة وسعة ومراغمة للعدو، وفي الثاني نهي عن الهجرة، واعتبار البقاء والمجاهدة والبناء والمدافعة جهاد: «فلا هجرة بعد الفتح ولكن جهاد ونية»، وفي كلا الأمرين كان التأكيد على النيَّة، التي تمثل البعد الرسالي، واضحاً وحائلاً دون الحركة العشوائية أو ذات المنفعة القريبة.

ذلك أنه في كثير من الأحيان قد تكون الهجرة هي نوع من الجذب والاستدعاء من (الآخر) ومحاولة لاحتياز جميع الخبرات والكفاءات في إطار النزوع صوب التفوق والتحكم في لعبة الصراع الحضاري، وبذلك تفتح المجالات وتمنح العطاءات الكبيرة والحقوق الكثيرة، وتقتصر على اختيار المهاجرين من أصحاب المواهب والكفاءات والاختصاصات والشهادات العليا المتميزة وحرمان بلادهم منهم، التي أنفقت عليهم الملايين الكثيرة، لتبقى بلادهم متخلفة وفي إطار التسول والتلقي الحضاري والثقافي.

وقد تكون الإشكالية هنا مركبة ومعقدة من بعض الوجوه، ذلك أن اليد التي تستدعي وتجذب وتتيح الفرص وتمنح الحرية والعطاء، وتراعي حقوق الإنسان في بلادها، هي اليد نفسها التي تساهم بقيام أنظمة الاستبداد السياسي، التي تكرس التخلف بطبيعتها، وتخنق الحريات، وتعدم تكافؤ الفرص، وتهدر كرامة الإنسان، وتطارد الكفاءات، وتتوهم أنها تشكل خطورة على هذا النوع من الأنظمة الشمولية الإرهابية، فلا يبقى مناص من الهجرة، سواء داخل الوطن أو من الوطن صوب (الآخر).

وقد يكون من المفيد ونحن في إطار الحديث عن الخلل في هذه المعادلة الحضارية وغياب البعد الرسالي للهجرات، أن نأتي على بعض الإحصاءات لنرى هول النزف وحجم الخسارة وسبب التخلف، والإمكان الحضاري والثقافي لهذه الكفاءات المهاجرة؛ فالعلماء والخبراء والكفاءات هم خلاصة رحلة التفوق والمنافسة وممارسة الغلبة الحضارية وما يبذل فيها من الجهد والوقت والمال.

ففي عام 1228 كان المطّلع على حالة الناس في أوربا يرى مشهداً غريباً، حيث شكل هذا العام منعطفاً تاريخياً إلى حد بعيد.

فقد حزم معظم علماء جامعة باريس أمتعتهم وغادروا إلى إنجلترا بلا رجعة، في هجرة جماعية، وكان يقف وراء هذه الهجرة الملك هنري الثالث ملك إنجلترا، الذي أدرك في ذلك الوقت المبكر مكمن القوة الحقيقي.

لقد كان هذا الملك هو مركز الجذب المغناطيسي لهؤلاء العلماء الذين تربوا في باريس وأثمروا في أكسفورد، وهكذا تاريخياً تمتص الدول الواعية والذكية الخبرات أينما كانت، وتجتذبها وتمنحها امتيازات خاصة.. والتي لم تستطع احتيازها وضمان هجرتها إليها توظفها من مواقعها وأوطانها.

لقد فتحت أمريكا، على سبيل المثال، بصدور قانون الهجرة عام 1965م، الأبواب بكل إمكاناتها لعناصر التفوق في العالم، الأمر الذي أدى إلى تضاعف قوتها العلمية والبحثية، ومن ثم قوتها الاقتصادية والعسكرية.. ولقد كان هذا القانون الجديد للهجرة من أذكى القوانين، فقد استند إلى إكساب الجنسية على أساس المهارات وإتقانها بدلاً من الجلود وألوانها (مجلة المعرفة السعودية، مارس 2002م)، ذلك أن المعلومة والمهارة هي قوة المستقبل، هي القوة المرنة والسلاح الأمضى في المعركة الحضارية .

لقد كشفت بعض الإحصاءات التي توفرت في السنوات الأخيرة أن عدد المصريين المهاجرين للخارج بلغوا 3 ملايين و418 ألفاً. هذا ماكشفه رئيس أكاديمية البحث العلمي والتكنولوجي في مصر الدكتور علي حبيش، واعتبر أن ذلك يمثل خسارة فادحة للاقتصاد، وأن 450 ألفاً من بين هؤلاء من حملة المؤهلات العلمية العالية كالماجستير والدكتوراه، حيث استقر معظم هؤلاء في البلاد المتقدمة: الولايات المتحدة، وإنكلترا، وكندا، وأستراليا، رغم ما تتحمله الدولة من نفقات لبناء هذه المؤهلات قد تصل إلى 100 ألف دولار على الفرد.. فمصر وحدها تخسر 50 مليار دولار بسبب هجرة كفاءاتها (صحيفة الشرق الأوسط، 1/9/1994م).

وأنموذج آخر من هجرة الكفاءات:

«لقد بلغ الأمر خلال النصف الأول من السبعينيات في الولايات المتحدة الأمريكية على سبيل المثال، أن الأطباء والجراحين القادمين من الدول النامية يمثلون 50%، والمهندسين 26%، وأن ثلاثاً من دول الشمال، الولايات المتحدة وكندا وبريطانيا، تستأثر بـ75% من جملة التدفق في الكفاءات المهاجرة» (الشرق الأوسط، 1/8/1989م).

وهناك دراسة أعدتها كلية الاقتصاد والعلوم السياسية بجامعة القاهرة تشير إلى وجود 4102 عالم إسلامي في مختلف علوم المعرفة في مؤسسات ومراكز أبحاث غربية (جريدة الندوة السعودية، 25/2/1993م).

ولعل قراءة الوجه المقابل للإشكالية قد يعلل بعض الأسباب:

فقد «أظهر تقرير نشر حديثاً أن الدول العربية تنفق دولاراً واحداً على الفرد في مجال البحث العلمي، بينما تنفق الولايات المتحدة 700 دولار لكل مواطن، والدول الأوربية حوالي 600 دولار.. وجاء في التقرير أن كل مليون عربي يقابلهم 318 باحثاً علمياً، بينما النسبة تصل في العالم الغربي إلى 4500 باحث لكل مليون شخص.. ويكشف التقرير أن 8% من مجموع القوة العاملة العربية هاجرت، وأن 20% من مجموع الأطباء هم الآن خارج المنطقة، وأن 25% من المهندسين يعملون في بلدان أجنبية، وأن 15% من خريجي الأقسام العلمية استسلموا للهجرة الدائمة، وأن 30% من الطلاب بقوا حيث هم، وأن 27 ألف عربي يحملون درجة الدكتوراه غادروا بلدانهم إلى أوربا وأمريكا عام 1980، وأن هذا الرقم وصل إلى 32 ألف عام 2000» (جريدة الوطن القطرية، 18/3/2002م) .

هذه الإحصاءات غير المستقصية تمثل رصيداً حضارياً وعلمياً هائلاً لو أدركت البعد الرسالي للهجرة، والمهمة الحضارية للمهاجرين كطلائع في داخل (الآخر).

وليس أقل خطراً وخسارة من ذلك ما يلاحظ من ممارسة الضغط والتضييق للتخلص من الخصوم واضطرارهم للهجرة، على مستوى السياسة والثقافة، وذلك بفتح منافذ الخروج، وقد يحدث ذلك بالتفاهم المشترك مع (الآخر) الذي يستقبل المهجرين.. لذلك فأمر الهجرة والنظر في تداعياتها وإبصار النتائج ووضوح الرسالة من الأمور المهمة، فعمليات الطرد والإخلاء والإغراء بالخروج خطط مدبرة، ليتمكن العدو من الاحتلال والاستيطان والتخلص من السكان الأصليين، تنتهي بالهجرة إلى نوع من الشتات والتقطيع في الأرض أمماً: (( وَقَطَّعْنَاهُمْ فِي الاْرْضِ أُمَمًا... )) (الأعراف:168)، ونوع من التيه والضياع بدون رؤية أو هدف أو رسالة، وبذلك تتحول الهجرة إلى نوع من الخروج من المعركة بشكل أو بآخر، وما الواقع في فلسطين وغيرها من بلاد المسلمين عنا ببعيد.

لذلك، فالتبسيط وإنزال الأحكام بدون وعي لكل هذه الظروف قد يحدث كوارث سياسية وثقافية واجتماعية ويحوِّل النعم إلى نقم.

ولعل من الهجرات الأخطر، تلك الهجرات الفاقدة للرسالة والثقافة، وهي الهجرة داخل الوطن، الهجرة إلى ثقافة وحضارة (الآخر)، والافتتان بها، وممارسة العمالة الثقافية أو الخيانة الثقافية للتاريخ والحضارة والأمة، أو الهجرة إلى معاهده ومؤسساته الثقافية دون مرجعية ومعايير سليمة، وبذلك يصبح الإنسان غريباً في وطنه أو مسكوناً بثقافة (الآخر) ومن المهاجرين إليها، ولو كان ساكناً في بلده، فليست العبرة بالمكان بقدر ما هي بالإنسان.

وما يحمله عقد العولمة، أو حقبة العولمة، من (الإكراه) الثقافي والتنميط الاجتماعي والهجرة الحضارية القسرية، وما يترافق مع ذلك من الهجرات إلى (الآخر)، يتطلب المزيد من الوعي الكامل لكيفية التعامل، وإبراز البعد الرسالي للهجرة في الوطن، والهجرة إلى خارج الوطن.

واليوم في حقبة العولمة وثورة المعلومات، حيث أصبحت الكرة الأرضية قرية واحدة بما انتهت إليه التطورات الهائلة في وسائل الاتصال، حيث اختزل الزمان وطوي المكان وتقاربت المسافات، يمكن النظر إلى الطاقات المهاجرة من وجه مختلف، حيث أصبح الناس وكأنهم يعيشون في غرفة واحدة وليس في غرف متجاورة، وفكرة التكديس البشري أصبحت إلى حد بعيد نوعاً من التخلف والبدائية، حيث يمكن الإفادة من الخبرات العلمية والبحثية من مواقعها وكأنها في الوطن، في كل المجالات، إضافة إلى ما تمتلك من مخزون ثقافي وتجربة حضارية وقيم إنسانية تمكنها أن تحسن اغتنام مواقعها، لتقديم نماذج تثير الاقتداء وتغري بالاعتناق لهذا الدين والعيش في رحاب رحماته، بعيداً عن التعصب والغلو والعنصرية، التي بدأت تجتاح العالم من خلال تجديد النظرة إلى الأغيار وتشييع فكرة العلو العرقي أو الشعب المختار، هذا إضافة إلى ما يمكن أن تعطيه لمواطنها الأصلية.

ونعود إلى القول: إنه بعد حقبة العولمة وثورة المعلومات وهذا التطور السريع في وسائل الاتصال، حيث أصبح الإنسان يرى العالم ويحاكيه من وراء مكتبه أو من بيته ودائرته ومختبره ومستشفاه، حتى من غرف العمليات الجراحية، لا بد من إعادة النظر والتقويم والمراجعة لظاهرة الهجرة وهذا الرصيد المهاجر من السواعد والأدمغة، الذي يعيش في إطار (الآخر)، وإعادة التفكير في كيفية استرداد دوره الرسالي؛ لأن التكنولوجيا الحديثة قضت على أسباب وآثار الاغتراب، وأمكنها تحقيق الكثير من الارتكاز الحضاري والتواصل الثقافي وحمل الهم الوطني، لا أقول عن بُعْدٍ، حيث لم يبق بعداً.

فإلى أي مدى يمكن الإفادة من هذه الثروات، أو هذا الرصيد المهاجر من الكفاءات، في الارتقاء بالواقع الإسلامي على المستويات جميعاً، واعتبار تلك المواقع العلمية والعملية هناك ميادين خبرة ودراية وتخصص تصب نواتجها في العالم الإسلامي، وتساهم بنهضته، وتحقق حضوراً عملياً واستشارياً ومعلوماتياً في عالمها؟

فالسؤال المطروح اليوم: كيف نستفيد من هذا الكفاءات ونوظفها من مواقعها؟

وكيف لها أن تمنحنا بعداً حوارياً ثقافياً وحضارياً ووسائل دعوة بين الإسلام والمسلمين و(الآخر)؟

وكيف يمكن من خلال التواصل والتثاقف أن تشكل طلائع متقدمة للأنموذج الإسلامي الذي يثير الاقتداء ويغري بالاتباع؟

وكيف يمكنها تصويب الصور المشوهة، واستلال الأحقاد التاريخية، والانتصار لقضايا الحق والعدل؟

إن المهاجرين هم الجسر الحضاري ووسائل الاتصال أو طرق المواصلات لحمل الإسلام وتجسيده في واقع الحضارات والثقافات الأخرى بعيداً عن المواجهة والاستفزاز، حتى تكون الهجرة لله ورسوله، وتتحقق بالبعد الرسالي وتتحول من ظواهر نزيف سلبية إلى فعل إيجابي يحمل الخير لبلدها الأصلي، بلدها الأم، وموطنها المختار المهجر، وتضيف بعداً غائباً بأن الهجرة جهاد بلا شوكة سلاح، فهي ليست جهاد عضلة وساعد وإنما جهاد فكرة ومعرفة ومعلومة، التي سوف تشكل قوة المستقبل -كما أسلفنا- وأن مراغمة الأعداء ليست بالانتصار العضلي عليهم وإنما بمنافستهم في ميدان السبق العلمي والمعرفي والالتزام الخلقي والسلوكي، الذي يحمي مسيرة العلم من البغي والفساد والتسلط، تبصراً بالعواقب والمآلات البعيدة وليس بالنتائج القريبة التي قد يجول فيها الباطل جولة.

وبعد:

فهذا الكتاب يشكل محاولة جادة لإعادة طرح ظاهرة هجرة الكفاءات وتداعياتها السلبية، على مستوى الذات، وما تشكله من خسارات مادية ونزيف يساهم في إنهاك مواطنها الأصلية وتكريس التراجع والتخلف فيها، في الوقت الذي تعتبر إحدى المكونات والمقومات المهمة في حضارة (الآخر) وتأهيله للغلبة الحضارية، الأمر الذي شكل هماً لكثير من المفكرين والباحثين الذين استشعروا الخطر وأدركوا النتائج.

وقد حاول الكتاب إعادة فتح ملف الهجرة، على كثرة ما كتب فيه وما قدم من معالجات ورؤى، لينظر إليها من وجه مختلف، أو من الوجه الآخر، الوجه الثقافي، أو ما ارتأينا أن يكون عنوانه: «البعد الحضاري لظاهرة الهجرة»، على اعتبار أن الهجرة ليست ظاهرة سلبية هروبية انسحابية، وإن تضمنت بعض الهجرات شيئاً من هذا، وإنما هي حركة إيجابية ذات أهداف رسالية ووسيلة دعوية متميزة لإلحاق الرحمة بالعالمين.

فالهجرة إلى المدينة هي سبب ولادة الأمة والمجتمع والدولة، والهجرة إلى الحبشة كانت السبب في نقل الإسلام وإيمان ملكها، ومراغمة الأعداء، وإنهاء لحالة الذل والمحاصرة والاستضعاف والركود والاستنقاع الحضاري.. والهجرات هي التي نقلت القيم الإسلامية إلى العالم.

فالهجرة فعل حضاري له أبعاده ورسالته وأحكامه وشروطه، فقد تكون جهاداً من أعلى أنواع الجهاد، والترفع عن الروابط القسرية، والقعود عنها مدعاة لوعيد الله، وقد تكون منهياً عنها إذا كانت تفريغاً للموقع وسبيلاً لاستيطان (الآخر) وامتداده: «فلا هجرة بعد الفتح ولكن جهاد ونية».

والذي نريد أن نؤكده أن ما قدمناه في هذا الكتاب من رؤى بَصُر أصحابها المهجر، وأدركوا الرسالة المنوطة بالمسلم بشكل عام، والمسلم المهاجر بشكل خاص، لا ندعي له، أو نزعم، أنه الرؤية الشاملة لجوانب الموضوع، وإنما هي نوافذ تستدعي الاستمرار في فتح الملف والنظرات الاجتهادية الفكرية في أبعاده وتداعياته، وعلى الأخص في هذا الوقت بالذات، حيث يتحول العالم إلى وطن واحد، تلغى فيه الحدود والسدود، وتختزل المسافات والأزمنة، وتفرض فيه الأنماط الثقافية والاقتصادية والاستهلاكية والاجتماعية للدول الأقوى، ويترافق مع ذلك استيقاظ النزعات العنصرية الهمجية البدائية لما يسمى باليمين المتطرف، التي تنطلق من عقدة الشعب المختار، التي وزعت على العالم بأقدار ثقافية متعددة..

ولله الأمر من قبل ومن بعد.

=============

# الكفاءات المهاجرة طلائع لحضارة الإسلام

د. محمد الغمقي

إنّ هجرة العقول المسلمة ليست بمعزل عن واقع أوطان الهجرة. وإذا كان «البعض» قد اختار الهجرة للتحصيل العلمي، فإنّ هجرته في حقيقة الأمر اضطرارية، لأنها تعبّر عن عدم ارتقاء هذه الأوطان إلى اكتفاء ذاتي على مستوى البحث العلمي، والحال أنها تنتمي إلى أمة نزلت فيها كلمة ((اقْرَأْ)) ([1])، كما تعبّر عن ضعف حركة التعاون العلمي وتبادل الكفاءات العلمية بين هذه الأوطان المنتمية للمنظومة الحضارية نفسها رغم ما لهذا التبادل من أهمية، والحاجة إليه في ظل وجود نسبة من خريجي الجامعات في البطالة، فتضطر هذه العقول إلى الهجرة إلى بلاد تنتمي إلى منظومة حضارية أخرى.

وكثيراً ما تُواجَه الكفاءات التي \"اختارت\" الهجرة بانتقادات مثل أنّها ضعيفة أمام الإغراءات المادية في بلاد الغرب..لكن المسألة أكثر تعقيداً من مجرّد الحصول على امتيازات مادية في مستوى الجهود العلمية المبذولة. فهناك عوامل نفسية عميقة لدى الباحث منها الرغبة في التجديد والاكتشاف، خاصة ونحن في عصر العولمة وفي زمن العالم-القرية وتقارب الشعوب والثقافات. فلا يمكن حصر الكفاءات في رقعة صغيرة ومنعها من السير في الأرض لتوسيع آفاقها، وهذه سنّة التدافع الحضاري.

إذ «يعد حراك الطلبة وتنقلهم فيما بين البلدان عنصراً من عناصر التدويل المتزايد لكافة أنواع العلاقات بين الشعوب. وحركة الطلبة عبر المناطق والبلدان هي في جانب منها استجابة النشء لوعيهم المتنامي بما يجري من تطورات عبر العالم ولمصلحتهم في تهيئة أنفسهم للحياة في عالم متكافل. وفي الوقت نفسه، تدرك الحكومات وأرباب العمل أنه إذا أريد ضمان الرخاء الإقليمي والفردي، فسيجب أن تتألف القوى العاملة في المستقبل من أناس أجيد تدريبهم ونما وعيهم بما يدور في العالم من حولهم»([2]).

والأهمّ من ذلك- وهنا جوهر المشكل-أنّ هذه الكفاءات تبحث عن الفضاء الذي تجد فيه أقداراً من الاحترام لعلمها وضمان كرامتها والاعتراف بجميلها. وهو ما يصعب توفّره في أوطان المهجر، حيث يشعر أصحاب هذه الكفاءات في كثير من الحالات بالغربة داخل الوطن، وهو شعور أشدّ على النفس من وقع الحسام، ولسان حالهم يقول:

«هل سيتمّ الاكتفاء بالشعارات البرّاقة حول الدولة الحديثة مع تشغيل فئات دون المستوى اللائق أو الممكن؟ أم ستشرّع الأبواب على مصراعيها لاستضافة \"الخبراء الأجانب\" بكلفتهم الباهظة وافتقارهم إلى قيم الولاء للأمة أو روح التضحية والمثابرة من أجلها..زيادة على احتمالية عدم تمتّعهم بالفهم المتكامل لاحتياجات الأمة وظروفها؟..وهل التخلّص من نير التخلف الحضاري الذي يلفّ أمتنا سيكون ممكناً مع الرضى بحالات العزلة القسرية التي يجد المبدعون المسلمون فيها ذواتهم؟»([3]).

وتتطوّر هذه الغربة من أزمة شعورية إلى قطيعة في حال تأزّم العلاقة بين السلطة والمثقفين الرافضين، في حال وجود استبداد سياسي.

لكن هناك إشكال يتمثّل في التركيز على الجوانب السلبية والخسارة التي تلحق العالم العربي والإسلامي جرّاء هجرة هذه الكفاءات واستقرار نسبة منها في بلاد المهجر. ولا شك أنَّ كل نزيف في العقول له وجه سلبي، بالنظر إلى نوعية هذه الهجرة التي تأخذ معها طاقات إبداعية يستفيد منها المجتمع الأم.

ولكن إذا أمعنّا النظر، فإنّ هذه الهجرة لها أوجه إيجابية إذا نظرنا إليها من جانب الدور الحضاري الذي تقوم به هذه الكفاءات، والذي ترجع فوائده على الأقليات المسلمة، بل على كل من العالم الغربي والعالم الإسلامي.

أولاً: إيجابيات الهجرة في الفضاء الغربي

فلقد صاحبت هجرة اليد العاملة من البلاد المسلمة إلى البلاد الغربية هجرة من صنف آخر، تتمثل في هجرة العقول أو ما يسمّى بالكفاءات العلمية والفكرية. وفيهم نسبة من المهاجرين لأسباب سياسية. ويُلاحظ أن الهجرة إلى العالم اللاتيني الجرماني (فرنسا وألمانيا خصوصاً) يغلب عليها الطابع الاقتصادي، وأنّ الهجرة إلى العالم الأنجلوساكسوني (بريطانيا والولايات المتحدة وكندا) يغلب عليها الطابع العلمي. أما الهجرة السياسية فهي منشرة في كل البلاد الغربية، بقدر تأزّم وضع حقوق الإنسان في البلاد العربية-الإسلامية.

والمتأمل في الهجرة السياسية من بلاد المشرق والمغرب يجد أنّها وفّرت كفاءات متمرسة في العمل النضالي الاجتماعي والنقابي والسياسي في البلاد المضيفة، مع الإشارة إلى التحوّل الأيديولوجي الذي شهدته هذه العقول من التيار العلماني اليساري والقومي إلى التيار الإسلامي، خاصة في الثمانينيات والتسعينيات، بعد الحملة على الإسلاميين في بلاد مغاربية ومشرقية.

ومن فوائد الهجرة السياسية أيضاً نموّ فكرة العمل \"الجبهوي\"، أي في إطار جبهة واحدة، بين التيارات العلمانية والإسلامية، التي كانت تعيش في أجواء الصراع بل الصدام أحياناً في البلاد العربية والإسلامية. وبوجودها وتلاقيها في أجواء جديدة من الحريات، اضطرت إلى إيجاد أقدار من العمل السياسي والحقوقي المشترك بينها حول معارضة كل أشكال الاستبداد في بلادها، والدفاع عن الحريات وحقوق الإنسان.

ومن الانعكاسات الإيجابية على التيارات الإسلامية المهاجرة، قيامها بعملية نقد ذاتي ومراجعة مسارها الفكري والسياسي، بما يؤهلها لدور حضاري لا تستفيد منه الجاليات المسلمة فحسب، بل تتعداه إلى المجتمعات الإسلامية والمجتمعات الغربية والبشرية جمعاء.

فكما هو معلوم، فإنّ هذه التيارات صحبت معها تجاربها في العمل والنضال من زوايا فكرية وعملية مختلفة، رغم الاتفاق العام حول المرجعية الدينية الإسلامية. وسُجلت خلافات بين العاملين في الحقل الإسلامي بقيت آثارها إلى اليوم، والتي تُلمس في الحساسيات القائمة بين المؤسسات الإسلامية التي يشرف عليها قدماء النشطين الإسلاميين.

ولكن بعد تلاقح التجربتين المغاربية والمشرقية في بلاد الغرب، وتحت ضغط التحوّلات في تركيبة الجاليات المسلمة وتطور اهتماماتها من الحفاظ على الهوية إلى المواطنة، حصلت الكثير من المراجعات وعمليات التقييم أو التقويم الداخلي على المستوى الفكري والسياسي نحو مزيد من الواقعية في التعامل مع الواقع المحلّي والعالمي.

ومن أهمّ القضايا التي حصل حولها حوار ونقاش مسألة التغيير وأساليبه ومقتضياته. وبناء عليه، تمّ السعي إلى التقريب بين مختلف الحساسيات، ومحاولة تجاوز العقلية الحزبية التي كانت مسيطرة لسنوات عدّة. وانطلقت الجهود نحو تجميع الكفاءات السياسية والعلمية المهاجرة من أجل البناء المستقبلي والنهوض الحضاري، وترسّخت القناعة أنّ مستقبل الحضور الإسلامي في الغرب مرتبط بدور الكفاءات الإسلامية المهاجرة، تضاف إليها طاقات جديدة.

البعد الحضاري لهجرة العقول المسلمة:

يتجلى البعد الحضاري لهجرة العقول المسلمة في ثلاث توجّهات: توجّه تصحيحي لمفاهيم وتصوّرات خاطئة عن الإسلام والمسلمين، ودفاعي عن قضاياهم وحقوقهم؛ وتوجّه ثان ترشيدي تأطيري لأبناء الجاليات المسلمة؛ وتوجّه ثالث دعوي رسالي ينفتح على بقية المجتمع.

التوجه الأول: التوجّه التصحيحي والدفاعي:

إنّ الحديث عن عملية تصحيح مفاهيم وتصوّرات ينطلق من اعتبار الإشكال في جوهره ثقافياً، ويتعلق بالعقليات وبالتحديد بالتصورات وبالنظرة للإسلام والمسلمين. ولا شك أنّ هذه النظرة محمّلة بمخلفات تاريخ العلاقة بين العالم الإسلامي والعالم النصراني التي تأرجحت بين التفاهم والصراع. ولكن العقل الغربي يختزل هذه العلاقة في الصراع والصدام، أيام الحروب الصليبية والاستعمار، ويغفل عن الصفحات المشرقة في هذه العلاقة أو ما يمكن التعبير عنه بالعلاقات العادية التي لا ترقى بالضرورة لتكون ودّية. وتوارثت مختلف الأجيال، أباً عن جَدّ، هذه الصورة السلبية التي تم تلقينها منذ الصغر وكرّستها مناهج التعليم، التي امتدّت إلى أيامنا بسبب عوامل جديدة.

فمع وجود المسلمين واستقرارهم في أوروبا والبلاد الغربية عموماً، بدأت تطفو على السطح مظاهر العنصرية والخوف من الإسلام وكراهية المسلمين، أو ما يطلق عليه مصطلح «إسلاموفوبيا»، التي يمكن تفسيرها بمحاولة تحميل المسلمين مسؤولية أزمات الحاضر من البطالة وانتشار العنف والجريمة.. من ناحية، والتخوّف من ناحية ثانية من تحوّل جذري في هوية المجتمعات الغربية في اتجاه الأسلمة المتدرّجة بالكلمة والسلوك، بالنظر إلى ما تمتلك الفكرة الإسلامية من جاذبية، وما يمتلك المسلمون من مقومات حضارية وقوة كامنة للفعل والتأثير، إضافة إلى العامل الديمغرافي الذي يسير في صالحهم، بحكم اتجاه المجتمعات الغربية نحو الشيخوخة، والمسلمون بصدد المساهمة في تجدّد هذه المجتمعات.

ويرى د. زكي بدوي رئيس منتدى ضد «الإسلاموفوبيا» والعنصرية «FAIR» في بريطانيا، أنّ من أسباب كراهية الإسلام في الغرب وجود «عدد من المهاجرين ينتمون إلى ثقافة ودين مختلفين عما هو سائد في البلاد الغربية، بل إلى دين يُنظر له بشيء من العداوة.. واعتبر أن هناك خوفاً حقيقياً من الطرفين (خوف المسلمين من الغرب، وخوف الغربيين من الإسلام، خاصة عندما كان في أوج قوّته)، وهناك خوف مَرَضي، وهو ما يعبّر عنه بالإسلاموفوبيا، ويظهر من خلال بعض المواقف والتصريحات لجهات إعلامية أو شخصيات سياسية معروفة، والتي تتمحور حول اعتبار الإسلام دخيلاً على المجتمعات الغربية، والمسلمين ليست لهم قابلية الاندماج في هذه المجتمعات»([4]).

من هنا تأتي الحاجة إلى الكفاءات لتغيير الصورة السلبية عن الإسلام، والتذكير بالعطاء الحضاري للإسلام تاريخياً، وإقامة حوار حضاري مع النخبة المثقفة، والطبقة السياسية، والجهات الإعلامية، والجهات الدينية. ويمكن التوقف عند كل فئة لمعرفة خطورة دور العقول والكفاءات المهاجرة في الحوار الحضاري المنشود.

1- محاورة المثقفين.. صانعي الأفكار:

النخبة المثقفة يقصد بها هنا المفكرون والجامعيون والباحثون المستقلون أو العاملون في مراكز الدراسات والبحوث. ومعلوم أن العديد من هذه المراكز هي عبارة عن مخابر لصنع الأفكار وإعداد التقارير التي يعتمد عليها أصحاب القرار في اتخاذ قرارهم. وينظم القائمون على هذه المراكز ندوات ومحاضرات ويدعون إليها مختصين في هذا المجال أو ذاك. ويلاحظ تزايد الندوات التي تتناول القضايا المتعلقة بالإسلام والمسلمين وبالجاليات المسلمة.

وهي إحدى المداخل المهمة لربط العلاقة مع الباحثين الغربيين ومحاولة إقناعهم بوجهة نظر الإسلام في العديد من المسائل. كما يمكن أن تساهم الكفاءات المهاجرة في إصدارات هذه المراكز. وتزداد أهمية هذا البعد خاصة في ظل المتغيرات والأحداث الطارئة، التي وضعت جهود سنوات طويلة من الحوار ومحاولة تصحيح الرؤى والتصورات في الميزان.

ويتصل بالنخبة المثقفة عموم المثقفين الذين يقدّمون للآخرين علماً وفكراً وتصورات، مثل الأساتذة والمعلّمين الذين هم باتصال دائم بالتلامذة والطلبة وأجيال الغد الذين سيقودون سفينة مجتمعاتهم إما إلى النجاة أو إلى الغرق. وصناعة الفكر والتصورات تبدأ من الصغر في البيت وفي المدرسة.

وهناك ظاهرة جديدة جديرة بالاهتمام تتمثل في وجود عدد من المعلّمين والأساتذة من أصول إسلامية في المدارس والمعاهد الغربية، بالنظر إلى النقص في الكوادر التعليمية من أصول غربية، بسبب تراجع نسبة الولادات في هذه المجتمعات. ومثل هذا الوجود ضمن الطاقم التعليمي الغربي مدخل مهمّ لتصحيح عدّة تصوّرات ومفاهيم بشرط أن تكون هذه الكفاءات مستوعبة للتصوّر الإسلامي. فكما هو معلوم، فإنّ العلوم، سواء ما يتعلّق منها بالإنسان أو بالطبيعة، بقيت حبيسة التصوّرات الوضعية المهيمنة التي تبعدها عن هذه الروح التكاملية بين السّماء والأرض، والتي تشربّتها أجيال وأجيال، وظهرت نتائجها السلبية، بل أخطارها، في الواقع اليومي المعيش.

وهنا يأتي دور المثقفين المسلمين في السعي إلى وضع قطار الأفكار والرؤى والتصورات على سكته الصحيحة. ويتمثّل دورهم أيضاً في الدفع نحو إعادة النظر أو على الأقل مراجعة البرامج التعليمية التي تقدمّ الإسلام والمسلمين بنظرة احتقارية وسلبية، أو التي تتضمّن تحريفاً وتشويهاً للحقائق، خاصة في مادة التاريخ.

2- محاورة الإعلاميين.. مصادر التأثير:

إنّ الإعلام سلاح ذو حدين، وأداة مهمّة للتأثير في الرأي العام. ولأهميته، فإنّ التوجّه إلى الجهات الإعلامية لتصحيح نظرتها عن الإسلام والمسلمين يتطلّب معرفة بخصوصيات السّاحة الإعلامية الغربية. فلو أخذنا على سبيل المثال الساحة الإعلامية الأوروبية، فإنها تقوم من حيث الهيكلية على عمل مؤسسي متطور، وعلى تكتلات لمواجهة المنافسة الأمريكية والآسيوية.

وتستمدّ مصادرها من وكالات أنباء قوية مثل الوكالة الفرنسية للأنباء، ورويتر...؛ ومن صانعي القرار في العالم، باعتبار أوروبا الغربية مركزاً مهماً للحركة الدبلوماسية، حيث إنّ أغلب هؤلاء، أو من يمثّلهم، يمرّون عبر باريس ولندن وبرلين في طريقهم إلى الولايات المتحدة؛ وكذلك من عشرات الندوات والملتقيات السياسية والاقتصادية والعلمية والثقافية المنعقدة في أوروبا؛ ومن عشرات المنظمات الإقليمية والدولية في أوروبا (الحلف الأطلسي، اليونسكو..)؛ ومن مئات المنظمات والجمعيات الأهلية في أوروبا الممثلة لمكوّنات الطيف الاجتماعي والعرقي والديني في شكل نموذج مصغّر لما يوجد في العالم.

ويتضح من خلال هذا الزخم الإعلامي مدى اتساع وتنوّع اهتمامات الساحة الإعلامية الأوروبية. ويفترض أنّ كل ما يطرح في وسائل الإعلام الأوروبية يهمّ المسلمين، سواء كانوا مواطنين أو مقيمين. ويمكن التركيز على بعض القضايا الحساسة لتكون المدخل للحوار مع الإعلاميين، مثل قضية الشرق الأوسط، بأبعادها الاقتصادية والعسكرية والأيديولوجية، والموقف من السياسة الأمريكية بخلفياتها وتعقيداتها، والجدل بشأن العولمة والخصوصية الأوروبية، والصحوة الإسلامية في البلاد الإسلامية التي تعالج عادة من منظور سلبي (\"الإرهاب\"، \"الأصولية\"..)، ويتم ربطها بما يجري في المناطق الأوروبية ذات الأغلبية المسلمة (البلقان مثلاً) أو الانحرافات السّلوكية لدى شباب ينتمي إلى مسلمي أوروبا.

والمتحاور مع الإعلاميين حول هذه القضايا يجب أن يكون مستوعباً للعوامل الفكرية التي أثّرت وتؤثّر في الإعلامي الغربي وهو يصنع الخبر أو التحليل المتعلّق بالإسلام، مثل الثقافة التي تلقاها في حياته الدراسية، والعقلية الغربية المتأثرة بالتصورات الفكرية والأيديولوجية المسيحية أساساً، والعلمانية، والرصيد التاريخي، ومخلفات ثقافة الاستشراق، والصّورة السلبية الناتجة عن الانحرافات السلوكية والفكرية لبعض المسلمين.

3- الدفاع عن حقوق المسلمين لدى السياسيين:

إذا كان الاتصال بالإعلام، الذي يوصف بالسلطة الرابعة، يكتسي أهمية كبرى، فإنه من المهمّ أيضاً التدخل لدى أصحاب القرار للدفاع عن حقوق المسلمين الذين يتحوّلون تدريجياً إلى جزء من كيان المجتمعات الغربية، ومحاولة إقناع السياسيين بضرورة ضمان تساوي الفرص كشرط لتحقيق المواطنة، وذلك على المستوى الاجتماعي بإيجاد الظروف الضامنة للكرامة الإنسانية، خاصة في مجالات العمل والسكن والتعليم، وتجنّب كلّ أشكال الإقصاء في العمل بسبب الانتماء إلى أصل أجنبي، ومظاهر حشر المسلمين في أحياء سكنية غير لائقة، كما حصل للمسلمين في فرنسا خلال الستينيات، مما فاقم ظاهرة العنف في ضواحي المدن الكبرى.

وعلى المستوى الثقافي، يتطلب تساوي الفرص احترام الخصوصيات الثقافية والدينية، والتصدي للعقليات المثيرة للنعرات العرقية والعنصرية، وظاهرة «الإسلاموفوبيا» في وسائل الإعلام ودوائر صناعة الفكر والقرار، وإعطاء حق الرد على تشويه صورة الإسلام والمسلمين.

وعلى المستوى السياسي، تطرح مسألة المساعدة على المواطنة الإيجابية، عن طريق المشاركة السياسية، وفتح باب الترشح في وجه المواطنين من أصل أجنبي، وباب الانتخاب للجميع، على الأقل في الانتخابات البلدية، باعتبار أن تحقيق المساواة في الفرص والحصول على حقوق المواطنة كاملة من شأنه أن يجعل من مسلمي أوروبا والغرب عموماً جسراً حضارياً بين العالم الإسلامي والعالم الغربي.

4- مجادلة أهل الكتاب:

منذ أن بدأت مؤشرات تحوّل الأقليات المسلمة من الهجرة إلى الاستقرار في المجتمعات الغربية، ارتفعت بعض الأصوات التي تؤكد أنّ هذه المجتمعات ذات انتماء مسيحي- يهودي، بقصد إقصاء الوجود الإسلامي في هذه الديار، أو على الأقل تهميشه حتى لا يكون فاعلاً. ولم يمنع ذلك من عقد ندوات واجتماعات بين المسلمين واتباع الديانة المسيحية فيما يسمّى بالحوار الإسلامي المسيحي الذي بقي يراوح مكانه. لكنّ أحداث سبتمبر وتداعياتها دفعت مسؤولي المؤسسات الدينية إلى إعادة التفكير في ضرورة التقارب والحوار من جديد، من أجل رفع الكثير من سوء التفاهم، ومنع الفكر المتشدد لدى الجانبين من هدم جسور التواصل. فقد تبيّن من خلال تجارب حوارية سابقة أنّ هناك فضاءً كبيراً للالتقاء حول اهتمامات ومشاغل مشتركة، مثل التصدّي للتسيّب الخلقي، ولفرض النمط العلماني الإلحادي، وللأفكار الداعية إلى صدام الحضارات...

وهنا أيضاً ينتظر الكفاءات الإسلامية دور هامّ في مجادلة أهل الكتاب بالتي أحسن، وبالخطاب الذي يفهمونه. ولا يخفى ما للتبشير المسيحي من دور في تشويه صورة الإسلام والمسلمين في مختلف أنحاء العالم، حيث تنطلق معظم البعثات التبشيرية من أوروبا والغرب عموماً. وهذا الأمر يذكّرنا بالحملات التبشيرية التي مهّدت للاستعمار في البلاد الإسلامية.

وبدون شك، فإنّ كلّ نجاح يسجّل في التقارب بين الأديان ونزع فتيلة الكراهية والعداء ستكون له انعكاساته الإيجابية المباشرة وغير المباشرة على العلاقات بين العالم الإسلامي والعالم المسيحي. بل إنّ فوائده تتعداه إلى الأقليات الإسلامية في الغرب، وذلك بالحدّ من ظاهرة تصيّد نقاط الضعف لدى المسلمين وتوظيفها بطرق ملتوية لأغراض خاصة، حيث تستغلّ مؤسسات تبشيرية - تعمل تحت غطاء اجتماعي إنساني - ثغرات في سلوكيات بعض أبناء وبنات الجاليات المسلمة وفي ثقافتهم الاجتماعية والدينية لاحتضانهم ومحاولة تنصيرهم.

فقد يلجأ بعض الأولياء إلى طرد أبنائهم المتمرّدين عليهم نتيجة الإدمان على المخدرات والخمر أو الجنس، أو بسبب إصرار البنت المسلمة على الزواج من شاب غير مسلم، فتكون القطيعة مع الوالدين والأسرة والسقوط في أيدي المتربّصين.

وفي حقيقة الأمر، فإنّ مثل هذه المسائل يتحمّل المسلمون مسؤوليتها بالدرجة الأولى. وبناء عليه، فإنّ الكفاءات الإسلامية في خط المواجهة لرفع هذه التحديات، وهذا يقودنا إلى أهمية العمل التأطيري والترشيدي في صفوف الأقليات المسلمة.

التوجه الثاني: العمل الترشيدي التأطيري:

يُقصد به تأطير الأجيال المسلمة الصاعدة عن طريق بث روح الوعي الاجتماعي والثقافي والسياسي لدى الجاليات العربية المسلمة المقيمة في الغرب، التي تتحول يوماً بعد يوم إلى جزء من النسيج الاجتماعي للمجتمعات الغربية.

وبالنّظر إلى التراكمات الثقافية التي صحبها المهاجرون معهم من بلادهم الأصلية، فإنّه من الواضح أن عملية التأهيل هذه معقّدة وتحتاج إلى طول نفس. وهي أكثر تعقيداً في الفضاء الغربي خارج الدائرة الأنجلوساكسونية، حيث الهجرة الاقتصادية هي السائدة في صفوف الأقليات المسلمة التي تغلب عليها محدودية الثقافة الاجتماعية والدينية.

ويتطلّب هذا المعطى من أصحاب الكفاءات وضع استراتيجية تتضمّن أولويات تأخذ بالاعتبار التحوّلات الداخلية في تركيبة أبناء الجاليات وفي تصوّراتهم وعقلياتهم، وتراعي حاجيات مختلف الأجيال من الأجداد إلى الأحفاد. فهناك العديد من القضايا الملحّة المطروحة على الأقليات المسلمة، التي لا يمكن أن يتصدّى لها إلا الفاهمون والمستوعبون للواقع الذي يتحرّكون فيه، الذين يحملون ثقافة تؤهلهم لرفع التحديات الكثيرة. والخطورة أن يتصدّى لهذه المهام من يتبنّون فكراً على طرفي نقيض من طبيعة الفكر الإسلامي الوسطي والواقعي والمعتدل.

فهناك من يتبنى خطاباً وتصورات علمانية تعامل الدين الإسلامي بالنظرة نفسها للدين السائدة في الغرب، وهناك أصحاب الفكر المتشدد أو القراءات السطحية للواقع الغربي. والإشكال ليس في التعدد ولكن في إحداث اضطراب في الرؤية لدى الطرف الغربي المقابل إزاء خطاب مزدوج لدى فئة العقول المهاجرة المنتمية للمنظومة الدينية نفسها.

وإذا كان يسهل محاجّة أصحاب الفكر العلماني من المسلمين، بحكم المفارقات بين المنظومتين الفكريتين العلمانية والإسلامية، فإنّ الفكر المتشدد داخل الصف الإسلامي من شأنه أن «يشوّش، بل يضرّ بالإسلام وأهله، ويجهض عقوداً من الجهود التي بذلها مسلمون مخلصون داخل العالم الإسلامي، وفي البلاد الغربية من أجل توضيح خصائص الإسلام القائمة على الاعتدال والواقعية بما يتماشى والفطرة الإنسانية، بالإضافة إلى إجهاض جهود التواصل والحوار مع العديد من رجال الفكر والسياسة الغربيين الذين يوجد من بينهم المنصفون في حكمهم على الإسلام وسلوك المسلمين، من خلال معايشتهم للحضور الإسلامي في الغرب».

وتزداد خطورة المسألة «عندما يتعلق الأمر بالشريحة الأساس في بناء المجتمعات ألا وهي الشباب، ذلك أن حاملي هذا الفكر المتشدد أغلبهم من الشباب الذين وجدوا في هذا الفكر ملجأ للتعبير عن رفضهم للمادية السائدة، وعن سخطهم على سلسلة الإهانات التي تعيشها الأمة الإسلامية على كل المستويات، واعتمدوا على اجتهادات ينقصها العمق في فهم النصوص والواقع، وتبنّوا منهجاً في التغيير يقوم على التشددّ، بَلْ يصل أحياناً إلى العنف. ويرتبط بتداعيات هذا الفكر المتشدد محاولة تقديم الإسلام من منظور أحادي في الفهم والتصوّر، والتشكيك بل تكفير مبدأ التعددية والمعارضة وحرية الفكر من داخل المنظومة الإسلامية»([5]).

ولكل هذه الأسباب، يتعيّن على الكفاءات الإسلامية الواعية أن ترشّد فكر الأجيال الصاعدة، وتجتهد في إقناعهم بوسطية الإسلام، وذلك باعتماد خطاب يفهمه هؤلاء الشباب، ويتماشى مع عقليتهم، ويأخذ بالاعتبار مؤثرات البيئة التي يعيشون فيها. ويتطلّب هذا الأمر من المتصدّي لهذه المهمّة معرفة دقيقة بلغة البلد الأوروبي- الغربي وثقافته، وبنفسية الشاب أو الفتاة، بالإضافة إلى فهم مقاصد الإسلام وطبيعته ومنهجه في التعامل مع الآخر، من أجل كسب ثقة من سيقوم على كاهلهم بناء مستقبل الحضور الإسلامي في الغرب.

فقد أثبتت التجربة أنّ وجود خلل في أحد هذه الشروط يترتب عليه فشل العملية التربوية والتأهيلية عموماً. إذ لا يغني حثّ الشباب المسلم على الاهتمام بلغة القرآن - قراءة وحفظاً وكتابة- عن التحدث إليهم بلغة بلدهم الحاملين لجنسيته والمقيمين فيه بصفة دائمة، حيث يعسر عليهم في مراحل التكوين الأولى استيعاب معاني اللغة العربية الفصحى عندما يتعلّق الأمر بالمواضيع التي تتطلب شرحاً وتحليلاً ونقداً، ومن ثم يكون من الأفضل تبليغ هذه المعاني بلغة البلد التي تساعد على الفهم وسرعة الاستيعاب.

وليس في هذا الأمر -كما يرى بعضهم- خطراً على مستقبل لغة القرآن لدى الأقليات المسلمة في الغرب، حيث يُلاحظ إقبال الشباب المسلم على المساجد التي تقدّم خطبة الجمعة باللغتين العربية والمحلية. ولنا أن نقارن حجم الإفادة من هذا اللقاء الأسبوعي بين أن تكون الخطبة بالعربية فحسب وأن تكون باللغتين، خاصة إذا نجح الإمام الكفء في تبليغ رسالة الإسلام بمنهجه الوسطي.

ويدعو هذا الأمر إلى تأهيل كوادر الأئمة والدعاة، وتطوير العملية التربوية والتعليمية، من خلال تطوير مناهج تعليم العربية والقرآن والدين الإسلامي في المدارس الخاصة أو في الجمعيات الإسلامية المنتشرة، بعقلية منفتحة على المجتمع.

ولكي يكون البناء التربوي الديني صلباً، فإنّ المطلوب هو التفكير في عملية بناء تصاعدية للفرد في كل مراحل حياته، منذ أن يكون طفلاً إلى الشيخوخة؛ على عكس ما حصل في تاريخ وجود الجاليات المسلمة في الغرب، حيث تم الاهتمام بالحفاظ على هوية الجيل الأول ببناء المساجد، ثم التفكير في المدارس لتعليم العربية والإسلام للجيل الثاني من الشباب، الذين لم يسعفهم الحظ في تلقي تكوين إسلامي محْكم منذ الصغر، فكانت النتيجة أن تركت هذه الثغرة بصمات على سلوكهم وتصوراتهم. وبوجود الجيل الثالث والرابع، بدأ التفكير في الطفولة، مثل تكوين رياض إسلامية للأطفال، وقصص وبرامج على الكمبيوتر في مستوى الطفل.

والمطلوب أيضاً دمج التأهيل التربوي الديني بالتأهيل الثقافي الفكري السياسي، من أجل الحفاظ على التوازن في بناء الفرد والمجموعة. فتعليم الأجيال الصاعدة اللغة العربية ومبادئ الإسلام لا يكفي لذاته إذا لم تصحبه متابعة ملف موضوع بالغ الأهمية يتعلّق بتمثيل المسلمين لدى السلطات، والذي يحتاج إلى الكفاءات العارفة بمتطلبات هذا الملف.. وملفا التعليم والتمثيل لا يُغنيا بدورهما عن الدور السياسي.

وفي هذا الصدد، يوجد اتجاهان متناقضان لدى أبناء الاقليات المسلمة في التعامل مع الملف السياسي. فمن ناحية، يُلاحظ نوع من الزهد في ممارسة حقهم الانتخابي الذي يمرّ عبر الترسم في القوائم الانتخابية في البلديات من أجل الحصول على البطاقة الانتخابية. ويفسّر هذا الزهد بأسباب عديدة منها ما يعود إلى الفهم الخاطئ في تأويل مصادر التشريع الإسلامي بدون علم بفقه الواقع، وربط الانتخاب بمسألة الولاء الديني والحديث عن عدم جواز ترشيح أو اختيار غير المسلمين، إلى جانب ضعف الثقافة السياسية لدى الأجيال الأولى؛ ومنها ما يعود إلى ظاهرة عدم الاكتراث بالحياة السياسية لدى نسبة من الرأي العام الغربي.

ويتأكد دور المثقفين في مثل هذه المواقف في حث هؤلاء الشباب على عدم التساهل في هذا الحق، لما له من فوائد وإيجابيات على الوجود العربي الإسلامي في الغرب. وشهدت السنوات الأخيرة اهتمام المسؤولين السياسيين والحزبيين ورؤساء البلديات والمرشحين في القوائم الانتخابية بالعرب والمسلمين في البلاد الغربية، من أجل كسب تعاطفهم وأصواتهم، مع اقتراب كل موعد انتخابي، وذلك لأن الصّوت العربي المسلم أصبح يُحسب له ألف حساب. ويعتبر المسلمون في الولايات المتحدة الأمريكية أكثر تقدماً في هذا الشأن مقارنة بالبلاد الأوروبية.

في المقابل، نلاحظ قيام تجمّعات شبابية مسلمة تسعى إلى الإسراع بتشكيل لوبي إسلامي«Lobbying» بخلفيات سياسية مع اقتراب موعد الانتخابات الرئاسية والتشريعية. والفكرة جيّدة في حدّ ذاتها، ولكن هل تمت دراسة مقتضياتها ومآلاتها ومراحلها؟ أم هي مجرّد ردّ فعل على حالة التهميش التي يعيشها الشباب المسلم المقيم في الغرب عموماً وفي البلاد الأوروبية على وجه الخصوص؟ وهل ستكون ذات طابع شبابي أم ستتمّ الاستعانة بذوي الخبرة من الجيل الأول وإشراك\"أهل الحلّ والعقد\" كما يقال؟

أسئلة كثيرة تحتاج إلى تأمل وتفكير ودراسة عميقة وفقهٍ بمتطلبات الواقع، والدمج بين \"حماس الشباب وتجربة الكبار\". وهذه المسألة الأخيرة جدّ مهمّة في مسألة التأهيل عموماً، وفي اتخاذ المواقف الحساسة مثل النشاط السياسي، لأنّ واقع الأقليات يطغى عليه نوع من الانفصام بين الطرفين.

وترتبط عملية التأهيل أيضاً بترشيد عملية بناء المؤسسات الإسلامية، للقيام بمشاريع تربوية وثقافية وفكرية ودينية وسياسية وإعلامية واقتصادية. وقد اقترن الحضور الإسلامي في الغرب بقيام مؤسسات لتنظيم هذا الحضور ورعايته والارتقاء بدوره. وتكتسي هذه المؤسسات أهمية خاصة من حيث وظيفتها الإسلامية في الحفاظ على هوية الأقليات المسلمة بكلّ شرائحها، وفي كل القطاعات والمجالات، خاصة مع اتساع الحاجة من الاجتماعي التربوي إلى قضايا التوطين وما يرتبط بها من هموم المشاركة السياسية والانخراط في الحياة اليومية ومقتضياتها.

وبدون شك، فإنّ المؤسسات الإسلامية أصبحت المحضن الذي يستأنس به مسلمو الغرب في جميع أحوالهم، ومصدر مرجعيتهم الدينية والشرعية في التفاعل مع البيئة غير الإسلامية. ولكن العمل المؤسسي الإسلامي في حاجة إلى عملية تقويمية من حيث توفّر الإمكانات المادية والبشرية الضرورية، وذلك بعد تعثّر عدد من المؤسسات بسبب الانطلاقة غير المدروسة، ومن حيث ترتيب الأولويات، والحال أنّ جلّ الجهود تصبّ في إقامة المؤسسات الدينية مثل المساجد، والمؤسسات التعليمية مثل المدارس، على حساب مؤسسات أخرى ذات تأثير كبير مثل المؤسسات الإعلامية والبحثية والفقهية التأصيلية.

ومن الحلول التي توصّل إليها القائمون على مؤسسات إسلامية بالاستعانة بالخبراء المسلمين، إنشاء وقف خاص بها من أجل تجاوز العائق المالي الذي يعترض الكثير من المشاريع الإسلامية. كما لا تخفى أهمية عامل الاستثمار في النهوض بواقع الأقليات المسلمة. وتكفي المقارنة بين الوجود العربي الإسلامي في بريطانيا والواقع الاقتصادي. وهذا البعد لا يستهان به ولا يقل أهمية عن البعد الثقافي والفكري. فإقامة مشاريع تجارية ومؤسسات استثمارية مدخل مهمّ لاقتحام الدورة الاقتصادية الغربية وفهم آليات عملها والقوى المؤثرة فيها، وأهمّ من ذلك تكوين جماعة ضغط «لوبي» اقتصادي مالي ضروري لضمان حقوق الجاليات العربية المسلمة.

وبفضل قيام «كوادر» إسلامية متخصصة بتقديم دورات تدريبية في التسيير والاتصال، بدأ يشهد العمل المؤسسي الإسلامي عملية تطوير في وسائله وأهدافه، حيث ترسّخت القناعة بضرورة انفتاح المؤسسات الإسلامية على الواقع الغربي بخلفية رسالية دعوية، في إطار معادلة مدروسة بين التأثرّ والتأثير، خاصة أن الهدف المنشود هو الانتقال من «المواطنة» إلى التوطين.

التوجه الثالث: توجّه دعوي رسالي:

فإلى جانب التوجّهين الأولين، هناك توجّه آخر لا يقلّ أهميّة عنهما، ويتطلب من العقول الإسلامية جهوداً كبيرة في اتجاه دعوي رسالي منفتح على المجتمعات الغربية، وذلك من خلال المشاركة بأطروحاتهم وآرائهم في القضايا التي تهم العالم ومصير المجتمعات الغربية التي يقيم بها المسلمون، وتوضيح قدرة الإسلام على معالجة قضايا العصر.

ومن أهمّ القضايا: العلاقة بين العلم والإيمان، وربط هذا الأمر بالمسألة الخلقية «Ethic» بتصوّر يختلف عن الدعوة إلى «أخلاقية» بالمفهوم العلماني. ويمكن في هذا الصدد تقديم التصوّر الإسلامي ذي البعد الإنساني للمعرفة والعلم، من خلال مقاربات إسلامية للعلوم الإنسانية والعلوم الصحيحة، وتصحيح المسار الذي تسير فيه البشرية، وخاصة الغرب، في مجال سباق التسلّح، والتسيب الخلقي، وغياب الهدفية في الحياة، واختلال التوازن البيئي، وفرض نمط من السلوك والتفكير والتعامل باسم العولمة.

فبفضل ما يمتلك الباحثون ذوو الالتزام الديني من تصوّرات وثقافة ذات طابع ديني، يمكنهم المساهمة بأقدار كبيرة في قضايا حيوية مثل الحفاظ على البيئة، وهذه قضية جدّ خطيرة، يدل على ذلك بروز أحزاب في البلاد الغربية تسمى بالخُضْر، تزداد شعبيتها يوماً بعد يوم في ظلّ الأخطار التي أصبحت تحدق بحياة الإنسان ومحيطه جرّاء انتشار العقلية الربحية القائمة على الاحتكار والأنانية.

ويمكن للطرح الإسلامي -إذا حسن تقديمه- أن يساهم في دعم الوعي البيئي المتزايد لدى الرأي العام الغربي، بما يساهم في كبح جشع المؤسسات متعددة الجنسيات والأطراف المحتكرة للثروات الطبيعية. وقد أشار القرآن الكريم إلى ذلك في قوله تعالى: ((ظَهَرَ الْفَسَادُ فِى الْبَرّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِى النَّاسِ)) (الروم:41)، بما يتماشى وفلسفة الإسلام للإنسان والكون والطبيعة، والتناغم بين الإنسان ومحيطه، بالنظر إلى وحدة الخَلق وتسخير الكون للإنسان، ذي المهمّة الاستخلافية في هذه الأرض التي عليه تعميرها وليس تخريبها.

أما على المستوى الاقتصادي، فيمكن الانطلاق مما توصل إليه الناقدون الغربيون أنفسهم من نقد للأبعاد الاقتصادية لكل من الاشتراكية والليبرالية، والنتائج المترتّبة على تطبيق مثل هذه المبادئ في الواقع. ومن بين السلبيات التي تم التركيز عليها انتشار العقلية الاحتكارية الربحية الجشعة التي تكون تارة سمة السلطة المركزية ومؤسساتها في الاشتراكية، وأخرى سمة الشركات الرأسمالية الكبرى في الأنظمة الليبرالية. ولعل مرض \"جنون البقر\" صورة من هذه الصور البشعة لهذه العقلية، حيث ثبت علمياً أن السبب الرئيس لهذا المرض يعود إلى تقديم دقيق الحيوانات الميتة المطحون كطعام للبقر الذي يصاب فيما بعد بالجنون.

ويكفي هذا المثال للدلالة على أنّ النجاح الاقتصادي لا يتوقف على حسن التخطيط والتسيير والإمكانات المادية والبشرية فحسب، وإنما هو مرهون أيضاً بالمنظومة الخلقية التي تُبنى عليها العملية الاقتصادية.

وعلى الكفاءات الإسلامية المتخصصة في المجال الاقتصادي أن تبرهن على سموّ التصوّر الاقتصادي في الإسلام، الذي يأمر بالقسط والعدل دون أن يكون ذلك على حساب الملكية الفردية، اعتماداً على مبدأ «كل حسب جهده وبلائه وحاجته»، والتأكيد على قيمة العمل وكراهية العبد البطال، وعلى الروح التضامنية، من خلال اعتبار المال أمانة في أيدينا، للفقير والمحتاج حق فيها عن طريق الزكاة والصدقة، وهذا ما يقودنا إلى البعد الاجتماعي المهم.

وعلى المستوى الاجتماعي، ينتظرُ المثقفين المسلمين دورٌ كبير فيما يتعلقّ بموضوع الأسرة، والتعامل بين مختلف الأجيال، والعلاقة بين الرجل والمرأة، وهو موضوع بالغ الأهمية لما له من تأثير في بقاء المجتمع وسلامته. وليس خافياً على أحد ما وصلت إليه هذه العلاقات من انسداد وتأزّم بسبب غياب المرجعية الدينية أو فتورها، وطغيان المادية والفردية، وأزمة القيم، إلى حدّ أن الإنسان في الغرب لم يعد يشعر بالسعادة رغم ما يمتلك من أموال وثروات ووسائل ترفيهية وتقدّم عمراني، الأمر الذي يفسّر ارتفاع نسبة الجريمة ولجوء عدد من الشباب في ريعان العمر إما إلى الإدمان على المخدرات والخمر هروباً من الواقع، أو إلى الانتحار لوضع حدّ لحياتهم التي لم يعد لها أي هدف، وهو ما يعدّ خسارة كبرى لطاقات وموارد بشرية تمثلّ عدّة الغد للمجتمعات الغربية.

وانطلاقاً من أن الدين الإسلامي رحمة للعالمين، فإنّ الواجب الديني-الإنساني يقتضي المساهمة، قدر المستطاع، في إرجاع الثقة والأمل إلى نفوس الناس، وخاصة إلى الشريحة الشبابية التي يتأثر بها أبناء المسلمين. ذلك أنّ الخلفية التي يجب أن تصاحب المسلم الداعية وهو يرشد الناس إلى الخير، تُبنى على النظرة المشفقة على البشر وليس على رغبة في الانتقام والتشفّي.

وبهذه النفسية، يكون الدخول من الباب نفسه الذي ينفذون منه عادة للتهجم على الإسلام، وهو موضوع المرأة، وذلك عبر شرح وتحليل وتفكيك وضع المرأة الغربية الذي لا تحسد عليه، بهدف إجلاء حقيقة الفخّ الذي نُصب لها بتخطيط محكم حتى تتحوّل إلى بضاعة للإغراء، وإعادة الاعتبار للمرأة الإنسان التي كرّمها الله سبحانه وتعالى في جميع الأحوال، وهي بنت وزوجة وأمّ وعجوز.

وإذا نجحت الكفاءات الإسلامية في توجيه الرأي العام الغربي نحو هذا الهدف الأخير فحسب، تكون قد قدمت خدمة حضارية عظيمة للبشرية وللفكرة الإسلامية، ذلك أنّ تصحيح وضع المرأة يعني إنقاذ المجتمع بأسره، لأنه كما هو معلوم، تمثّل المرأة نصف كلّ مجتمع، ويتربّى النصف الآخر على يديها. وهذه المسألة من التحديات الكبرى التي تطرحها العولمة الثقافية ذات النمط الغربي (الأوروبي-الأمريكي) السائد، أمام العقول الإسلامية.

ويرتبط بموضوع المرأة قضية التفكك الأسري الذي تعاني منه المجتمعات الغربية، وتقلّص قيمة قدسيّة الحياة الزوجية. وبدون شكّ فإنّ الطرح الإسلامي الذي يؤمن بقدسية الحياة الزوجية المبنية على عنصري المودّة والرحمة، وما يعني ذلك من غرس قيم الحبّ والتواصل والاحترام في نفوس الأجيال الصاعدة، يمكنه أن يعالج أزمة القيم فيما يتعلق بالعلاقة بين الرجل والمرأة، وتقديم حلول لقضايا المجتمع المرتبطة أساساً بالمفهوم الشائع الخاطئ للحرية. ويبرز ذلك في معضلتين تعاني منهما المجتمعات الغربية والمجتمعات المقلّدة لنمط الحياة الغربية:

المعضلة الأولى: ظاهرة تزايد الجريمة والعنف. وبحجة عدم التعدّي على حرّية الفرد ومراعاة الظروف القصوى النفسية وغيرها للمجرم، أصبح بإمكان هذا الأخير التعدي على حقوق المجتمع، لأنه يعلم أنّ العقاب الذي ينتظره لا يتجاوز السجن ولو لفترة طويلة. فانشرت ظاهرة المجرمين الذين اعتادوا على الجريمة، لأنّهم اعتادوا على السجن. بل إنّ من المعضلات الاجتماعية في الغرب اليوم، قضية الاعتداء الجنسي على الفتيات والأطفال، المصحوب أحياناً بالقتل العمد الذي لا يمكن وضع حدّ له إلا بالحزم. وقد ارتفعت أصوات عديدة تطالب بإعدام مرتكبي هذه الجرائم، والجدل قائم حول مفهوم القصاص وعلاقته بحرية الفرد.

والتصوّر الإسلامي واضح في هذه المسألة: (( وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حياةٌ)) (البقرة:179)، واعتبار ذلك شرطاً لاستقرار المجتمع وأمنه: (( الَّذِى أَطْعَمَهُم مّن جُوعٍ وَءامَنَهُم مّنْ خوْفٍ)) (قريش:4). والمسلمون بإمكانهم المساهمة في معالجة الانحراف الذي شاب مفهوم القصاص، عن طريق تصحيح مبدأ الحرية، المرتبط في جوهره بالمسألة العقائدية الإيمانية واستشعار الرقابة الدائمة من القوّة المتصرّفة في هذا الكون.

المعضلة الثانية: تتمثل في انتشار ظاهرة الإباحية والفوضى الجنسية، وفي الوقت نفسه العمل على تطبيع المجتمعات الغربية مع الشذوذ والزواج بين الشواذ، حيث لم يكتف هؤلاء بالمطالبة بحقوقهم والاعتراف بهم مثل المتزوجين العاديين، بل إنّهم ينظمون المظاهرات الاحتجاجية على محاكمة الشواذ في البلاد العربية - الإسلامية مثلما حصل في مصر. ويبدو من خلال العديد من المؤشرات أنّ التيار المحافظ السائد لدى الرأي العام الغربي مستاء من ظاهرة الشذوذ.

ويمكن للمسلمين المقيمين في الغرب التحالف مع هذا التيار بهدف غرس القيم التي تتفق والفطرة البشرية، والإقناع أنّ ظاهرة الشذوذ مرتبطة بالانحراف في فهم مبدأ الحرية وحدودها. ذلك أنّ التعريف المتداول هو أنّ حدود الحرية شعارها: «حريتك تقف عندما تبدأ حرية الآخرين». وهذا الشعار يتضمّن معنى مطاطياً قابلاً للتأويل، كلّ حسب هواه.

وبناء عليه، ظهر في هذه المجتمعات من يدعو إلى الإباحية باسم الحرّية، فيقول : «أنا حرّ في بدني أتصرّف فيه كيف أشاء». فانتشرت الفوضى الجنسية، وظهرت أمراض جديدة مثل (السيدا بالفرنسية/ الأيدز بالإنجليزية)، الأمر الذي يتطلّب تصحيحاً مفهومياً لمبدأ الحرية، وضبطاً للحقوق والواجبات والحدود، علماً بأنّ القوانين الوضعية نفسها تعطي الحق للدولة أو السلطة التي تمثلها للتدخّل من أجل منع الفرد من التصرّف بالشكل الذي يكون خطراً على نفسه وعلى المجموعة.

والمسلمون قادرون - من خلال مفكريهم وباحثيهم ومؤسساتهم- أن يدعموا ما يتماشى من القوانين الصادرة عن البرلمانات الغربية مع فلسفة الإسلام في احترام كيان الفرد وحفظ المجتمع وبثّ قيم الخير والعدل. ويسجل في حالات عديدة مصادقة نواب برلمان هذا البلد الغربي أو ذاك على قانون مثل منع شرب الخمر عند السياقة، أو منع ضرب النساء من طرف أزواجهن، والتحرّش الجنسي في العمل، أو احترام الخصوصيات الثقافية للأقليات... وغيرها من القوانين والإجراءات التي تخدم الفكرة الإسلامية بصورة غير مباشرة، وتلتقي مع التصوّر الإسلامي للكون والإنسان والحياة.

ومما ييسّر هذا التفاعل طبيعة هذا الدين وخصائصه، والتي من بينها الواقعية والشمولية والإنسانية.

وفي المقابل، يمكن أن يشكل المسلمون عنصر ضغط لمنع الإجراءات والقوانين الوضعية عندما تكون خاضعة للأهواء ولموازين قوى سياسية وأيديولوجية، والتي تستهدف القيم الإنسانية، بالتعاون مع الأطراف الجادّة الدينية والمثقفة.

وعلى المستوى الثقافي، فإن المجتمعات الغربية تعطي أهمية كبيرة للناحية الفنية الجمالية والتعبير عنها بأساليب وفنون عدّة مثل المسرح والسينما والموسيقى والأدب..وفي غياب وضوح الرؤية والمرجعية الفكرية المحدّدة، اتسمت بعض المحتويات المقدّمة بسطحية في الموضوع وفي منهجية تقديمه عبر إثارة الغرائز الحيوانية أو العدوانية لدى الإنسان، مثل النعرات العرقية- العنصرية، وكراهية (الآخر)، واستعمال وسائل الصخب والتهريج للتعويض عن الخواء الروحي، وتفشت ظاهرة «النجومية» التي تتعلّق بها الأجيال الصاعدة إلى حدّ التقديس، خاصة في مجالي الرياضة والموسيقى.

والباب مفتوح أمام المسلمين لتقديم بدائل في المجال الفنّي تساهم في الارتقاء بوعي الإنسان، وترسيخ قيم الخير والاستقامة لدى الفرد والمجتمع. وليس بالضرورة أن تحمل كل هذه البدائل لافتة إسلامية، والأهمّ هو التعبير عن الفكرة الإسلامية والقيم الإنسانية التي تتضمّنها، والخروج من النّظرة الضيقة التي تحصر المجال الفني الجمالي في دائرة الحرام والحلال.

فقد بقي الخلاف قائماً إلى يومنا بين المسلمين حول هذا الموضوع، واستغلت التيارات العلمانية الحاقدة على مشروع النهوض الإسلامي هذا الفراغ، فقامت بتسريب سمومها إلى الشباب، ووجدت الدعم من جهات غربية حريصة على انتشار هذا الصنف من الفنّ في صفوف أبناء المهاجرين، بل إن صداها وصل إلى البلاد الإسلامية.

و ما تزال المحاولات الفنية الإسلامية في حاجة إلى تطوير بترشيد فقهي تأصيلي، حتى تكون في مستوى تطلّعات الأجيال الجديدة التي تهوى الفنون بجميع أشكالها ( القصة، الرواية، السينما، المسرح، الموسيقى..).

وبفضل ما يملك المسلمون من تراث فني عريق (خاصة في المجال المعماري كما تشهد على ذلك الأندلس، والخط العربي الذي يجد اهتماماً عالمياً)، يمكن أن تطوّر الكفاءات المسلمة العطاء الفني الإسلامي ذي البعد الإنساني العالمي، من خلال استراتيجية واضحة تقوم على نظافة الغاية ونظافة الوسيلة.

أما على المستوى السياسي، فإن الكثير من المحللين يتّفق على أنّ الديمقراطية على الطريقة الغربية ليست النظام السياسي المثالي لكل البشر. فقد تكون صالحة للمجتمعات الغربية ولكنّها ليست بالضرورة صالحة لمجتمعات أخرى؛ لأنّها ثمرة تفاعلات وصراعات وفلسفات من رحم المجتمع الغربي بخصوصياته. ثمّ إنّ الواقع أثبت وجود العديد من الثغرات والسلبيات في تطبيق هذا النظام في البيئة التي نشأ فيها، خاصة في المسائل المتعلّقة بالتمثيل النسبي واحترام حقوق الإنسان والأقليات، والأخلاقية السياسية والنظام الحزبي.

وبناء عليه، فإنّ الطرح الإسلامي يقدّم تصوّرات بإمكانها أن تُخرج الديمقراطية على الطريقة الغربية من السلبيات التي تتسبّب في إعاقة النشاط السياسي، وزهد نسبة من الرأي العام الغربي في الحياة السياسية. «فإنّ علاقة الحاكم بالرعية يحكمها في الإسلام مبدأ الشورى، ولا تخضع لأية علاقة بالمعنى الثيوقراطي، أي أن الحاكم ظل الله في الأرض، وغيرها من التصورات التي لا يقرّ بها الإسلام. والشورى ليست شعاراً يُرفع، وإنما مبدأ للتطبيق على أرض الواقع، بما يعنيه من حق الاختلاف في الرأي والمعارضة وواجب الالتزام برأي الجماعة أو الأغلبية، دون أن تُنتهك حقوق الأقلية. أما الشكل الذي تتم به الشورى فليس فيه نص واضح، ومتروك للاجتهاد لترجيح ما يلائم كل عصر»([6]). ويحتاج مبدأ الشورى إلى مزيد من التوضيح والتعميق والتأصيل ليكون مقبولاً من المجتمعات الغربية.

ثمّ إنّه يلاحظ تزايد دور المجتمع المدني في المجتمعات الغربية من جمعيات ومنظمات ونقابات تهتمّ بالشأن العام خارج المؤسسة السياسية الرسمية. والتراث السياسي الإسلامي يزخر بهذا الدور نفسه فيما يسمّى بـ\"المجتمع الأهلي\".

كما أنّ العلاقات الدولية تحتكم في التصوّر الإسلامي إلى مبادئ وقيم ثابتة في إطار احترام التعددّ الثقافي والسياسي، وتقارب الشعوب وتعارفها: (( يأَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مّن ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُواْ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عَندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ)) (الحجرات:13).

من خلال ما تقدّم، يتأكّد ما قاله بعض الملاحظين الغربيين: إنَّ الإسلام من حظه أن يتفاعل مع الفضاء الغربي، ومن حظّ الغرب أن يوجد فيه الإسلام لكي يكون باباً للخير، بما يوفّره من قيم ورسالة حضارية؛ وإن الكفاءات المسلمة هي كالغيث النافع، حيث يمكنها أن تكون مفتاحاً للخير حيثما كانت.

ثانياً: فوائد الهجرة في الفضاء الإسلامي

فكل هذه التصوّرات المستقبلية للعطاء الحضاري الإسلامي في مجالات شتى، التي تساهم في بلورتها وتقديمها كفاءات إسلامية مهاجرة، من شأنها أن تكون باباً للدعوة لرسالة الإسلام في كل مناطق العالم التي توجد بها أقليات مسلمة، وإضافة نوعية لمجهودات العلماء والمفكرين في العالم الإسلامي من أجل تحقيق مشروع النهضة الإسلامية.

ومعلوم أن هذا المشروع يحتاج إلى اجتهاد وفهم دقيق للواقع الذي يتنزّل فيه. وحتى يكون هذا الفهم دقيقاً وشاملاً، فإنّ الكفاءات المسلمة المهاجرة يمكنها أن تساهم في تجديد الفكر الإسلامي، وفي تقديم قراءة عميقة للتراث الإسلامي، وفي النهضة العلمية والاقتصادية والثقافية والاجتماعية والسياسية في العالم الإسلامي، بفضل ما استفادت من خلاصة التجربة الغربية الحديثة القائمة على ثقافة التعددية، التي تختلف عن ثقافة الأحادية السائدة في كثير من البلاد الإسلامية، وبفضل ما تمتلكه من قدرة على دمج الأدوات المنهجية الإسلامية والغربية في البحث بعد تمحيصها ونقدها.

من جانب آخر، إذا علمنا أنّ تحقيق التقارب الثقافي والحوار الحضاري بين العالمين الإسلامي والغربي يعتبر من مقومات النهضة الحضارية العالمية حالياً وفي المستقبل، فإنّ الطليعة المسلمة المثقفة تمثّل جسر علاقة العالم العربي الإسلامي بالعالم الغربي، والمحرّك الأوّل الدافع إلى التصالح بين الثقافتين والحضارتين، والعامل الأساس في نزع فتيل الصراع الحضاري، الذي تتمناه العديد من الدوائر السياسية والفكرية، وتسعى إلى تحقّقه بكل ما أوتيت من جهد. ويكون ذلك بالاجتهاد في مساعدة الأقليات المسلمة في الغرب على أن تكون في مستوى رسالة الإسلام الإنسانية العالمية، وتقليص أسباب التوتّر وسوء التفاهم بين العالمين الإسلامي والغربي.

ولا يشك أحد في أنّ عملية تصحيح الصورة المشوهة عن الإسلام والمسلمين لدى الغرب ستكون لها انعكاسات جدّ إيجابية على العالم الإسلامي، من حيث المساهمة في كسر جدار الخوف من \"الغول الإسلامي\"، ودفع الغرب نحو التعامل بندّية مع سدس سكان المعمورة.

وبقدر ما تُلقى المسؤولية على الكفاءات المسلمة في الغرب من أجل تصحيح صورة الإسلام والمسلمين هناك، بقدر ما تكون مهمّتها ومسؤوليتها كبيرة في تحسيس الطرف الإسلامي بضرورة مراجعة موقفه من الغرب عبر تقديم فهم أعمق للفكر والواقع الغربيين. فالنظرة السائدة في العالم الإسلامي أن الغرب شرّ كلّه، والخطاب يسوده التهجّم والعقلية الصدامية، والحال أنّ المسلمين جزء من هذا الغرب الذي يلعنه مسلمون آخرون صباح مساء، والمواطنة تقتضي وحدة الهموم والمصير.

ولا يمكن تحقيق تقارب بين العالمَين في ظل خطاب مزدوج من طرف المسلمين بين لاعن ومادح، وبين قادح للغرب والغربيين جملة وتفصيلاً داخل العالم الإسلامي وداع إلى التوطين والمواطنة في الغرب. فهذا الموضوع الدقيق يحتاج إلى معالجة حكيمة وإلى مراجعات عميقة بهدف التوصّل إلى تقارب بين المسلمين في النظرة للغرب، وتجنّب التعميم، وإعطاء كلّ ذي حقّ حقّه؛ لأنّ ديننا الحنيف يدعونا إلى القسط: (( يَأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ للَّهِ شُهَدَاء بِالْقِسْطِ وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَانُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُواْ اعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُواْ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ)) (المائدة:8) وذلك من خلال التفريق بين مواقف أصحاب القرار ومواقف الشعوب، والتمييز بين المعادي والمنصف، وبين من يكنّ العداء الدفين للمسلمين وبين من هو ضحية حملات تشويهية لصورة الإسلام والمسلمين.

فليس كل الغربيين مورّطين في استعمار الشعوب، ونهب ثرواتها، واستغلال طاقاتها، وفرض أنظمة متسلطة على بعضها.. وليس كل الغربيين مشاركين في إقامة دولة إسرائيلية على أرض فلسطين، وفي دعم هذا الكيان بكل الوسائل لكسر شوكة الانتفاضة، وليس كل الغربيين عنصريين.. الخ.

وبهذه الرؤية العادلة، تتمّ محاصرة الدعاة إلى حتمية الصراع الحضاري بين الطرفين.

ويجدر التنبيه إلى أن الدور الحضاري المنشود للعقول المسلمة المهاجرة يحتاج -إلى جانب الكفاءات البشرية- إلى آليات ووسائل في مستوى التحديات المطروحة، ومن بينها الوسائل الإعلامية التقليدية (مثل الصحف والمجلات والإذاعات والتلفزيون) والمعاصرة (مثل الإنترنت والفضائيات) ومراكز البحوث والدراسات، ودُور النشر. وإلى جانب قيامها بالأدوار المشار إليها أعلاه، يمكن أن تكون هذه المؤسسات محضناً لهذه الكفاءات، بتجميعها وتشجيعها على الانخراط في النهوض الحضاري، الذي تستفيد منه البشرية جمعاء.

--------------------------------------------------------------------------------

([1]) جاء في وثيقة عمل بعنوان\"عرض إحصائي لأوضاع التعليم العالي في العالم: 1980-1995 \" (ص10) نوقشت في المؤتمر العالمي للتعليم العالي بمنظمة اليونسكو بباريس 5-9 أكتوبر /تشرين الأول 1998م حول \"التعليم العالي في القرن الحادي والعشرين، الرؤية والعمل\"، أنّ مستوى المشاركة في التعليم العالي في المناطق \"النامية\" التي تشمل حسب الوثيقة الدول العربية ومعها أمريكا اللاتينية والكاراييب يبلغ 1000 طالب لكل 100.000 من السكان، مقارنة بـ\"بلدان المرحلة الانتقالية \" التي تتألف من بلدان أوروبا الوسطى وأوروبا الشرقية وبلدان الاتحاد السوفياتي السابق (2602 من الطلبة لكل 100.000 من السكان )، والمناطق الأكثر تقدماً –أوروبا وأمريكا الشمالية وشرق أسيا، حيث يبلغ المتوسط العام فيها 4110 طلبة لكل 100.000 من السكان.

([2]) المرجع نفسه، ص 28.

([3]) حسام شاكر: \"متطلبات أساسية للنهضة الحضارية\"، سلسلة رسائل الأمة 1، آفاق، الطبعة الأولى 1998م، ص 24.

([4]) مداخلة د. زكي بدوي في ندوة بعنوان \"الإسلام والإسلاموفوبيا\"، نظمها المعهد العالمي للفكر الإسلامي، مكتب فرنسا، يوم 11 /5/2001م بباريس.

([5]) د. محمد الغمقي: \"مصداقية الدعوة الغربية إلى النقد الذاتي داخل المسلمين\"، مجلّة رؤى، العدد13، خريف 2001م، ص43-44.

([6]) نفس المصدر.

=============

# البعد الرسالي في هجرة العقول المسلمة إلى الغرب

أ.د. عبد المجيد النجار

1- تمهيد:

هجرة الإنسان من موقع إلى موقع على وجه الأرض، ومن بيئة اجتماعية إلى بيئة اجتماعية أخرى ظاهرة فردية وجماعية عرفت في التاريخ القديم والحديث، وستظلّ ظاهرة سارية ما وُجد الإنسان؛ وذلك بما هي سنّة من سنن الاجتماع البشري، وقانون من قوانينه لا يتخلّف مهما تغايرت الأسباب وتعدّدت الدوافع، بل لعلّها بما هي ظاهرة مندرجة ضمن قانون كوني عامّ يتمثّل في الحركة الدائبة التي تشمل كلّ ما في الكون، فتنتقل بها الموجودات باطّراد من مواقعها حتى لتبدو أنّها على غير قرار ثابت.

وبالنسبة إلى الإنسان ذي الإلف والحساسية، قد يبدو في هجرته الفردية أو الجماعية ضرب من المعاناة متمثّلة في آلام الفرقة ومشاكل الاغتراب، سواء بالنسبة إلى البيئة الطبيعية أو بالنسبة إلى البيئة الاجتماعية، وهو ما حفلت بتصاويره وأوصافه آداب الشعوب وفنونها على مرّ الزمن، إلاّ أنّ الهجرة مع ذلك لعلّها تعتبر أحد العوامل الهامّة في التقدّم الإنساني العامّ، وفي التطوّر الحضاري بمختلف وجوهه؛ ذلك أنّها تمثّل عاملاً مهمّاً من عوامل التلاقح الفكري بين الناس، وسبيلاً من سبل تفاعل الخبرات والتجارب بينهم، وهو أحد أهمّ أسباب النموّ في الحضارة الإنسانية بوجه عامّ.

وللهجرة في التاريخ الإسلامي معنى خاصّ وآثار متميّزة، بحيث اتّخذت فيه وضعاً لم يكن لها في أيّ دين أو مذهب آخر، فقد جاءت النصوص الدينية تبارك الهجرة في سبيل الدين، وتحثّ عليها، وتعتبرها إحدى وسائل النضال من أجله، والجهاد في سبيله، ومن ذلك قوله تعالى: (( قَالْواْ أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ واسِعَةً فَتُهَاجِرُواْ فِيهَا)) (النساء:97)، وكانت هجرة النبيّ صلى الله عليه وسلم من مكّة إلى المدينة عاملاً حاسماً في انتصار الإسلام ورسوخ قدمه، كما كانت بعد ذلك هجرات المسلمين إلى أصقاع الأرض سبباً في انتشاره بين الناس، وسبباً في تلاقح حضاري اعتبر أحد الأسباب المهمّة في نشأة الحضارة الغربية الراهنة.

ومن هذا الوضع المتميّز للهجرة في الإسلام وتاريخه أصبح في المخزون الثقافي للمسلمين ما يمكن أن يسمّى بثقافة الهجرة، وهي ثقافة أصبح بها المسلم يعتبر أنّ الهجرة لئن كان فيها من الشدّة والمعاناة ما يلقاه عموم الناس منها إلاّ أنّها بالنسبة إليه تعتبر وسيلة من وسائل الدعوة إلى الدين، وضرباً من ضروب الجهاد في سبيل الله، فاكتست بذلك في نفس المسلم بعداً رسالياً اختلفت به عن موقعها في نفوس غير المسلمين من سائر أهل المذاهب والأديان الأخرى.

وإذا كان هذا البعد الرسالي للهجرة المترسّب في ثقافة المسلم قد يخفت أحياناً في نفوس بعض الأفراد أو الجماعات في ظروف معيّنة، أو في أحقاب زمنية محدّدة، لسبب أو لآخر من الأسباب، إلاّ أنّ التأصّل العميق لثقافة الهجرة في النفسية الإسلامية يظلّ محافظاً على ذلك البعد الرسالي فيها مهما أتى عليه من عوامل الخفوت، وهو ما يبدو فيما يلحظ من استفاقة ذلك البعد وفعاليته بأقلّ جهود تبذل في إحيائه واستنهاضه، وذلك ما يعتبر رصيداً بالغ الأهمّية من أرصدة الدعوة التي يمكن استثمارها في سبيل التعريف بالإسلام ونشره بين الناس.

وقد شهد نصف القرن الأخير هجرة أعداد كبيرة من المسلمين إلى العالم الغربي لأسباب متعدّدة اقتصادية وسياسية واجتماعية، حتى أصبح عدد المهاجرين فيه يعدّ بالملايين، ولئن كان البعد الرسالي في هذه الهجرة خافتاً عند أكثر المهاجرين، لأسباب يعود بعضها إليهم متعلّقة بضعف وعيهم الثقافي العامّ، ويعود بعضها إلى المناخ الحضاري الذي هاجروا إليه متمثّلة في السطوة الحضارية الغالبة في الحضارة الغربية، إلاّ أنّ التطوّرات التي حدثت في نوعية المسلمين المهاجرين وفي مجمل الوجود الإسلامي بالديار الغربية، مضافاً إليه ذلك الرصيد من البعد الرسالي المخزون مستكنّاً في النفسية الإسلامية يمكن أن يكونا عاملين مهمّين من العوامل التي يمكن استثمارها في الدفع بالهجرة الإسلامية إلى الديار الغربية إلى آفاق رسالية واسعة يمكن أن تكون لها آثار نوعية في الدعوة الإسلامية.

وفي هذا الإطار يتنزّل ما يثار اليوم من حجاج واسع في هجرة العقول من البلاد الإسلامية إلى الديار الغربية، فقد كثرت حول هذه الهجرة التساؤلات فيما إذا كانت تمثّل عاملاً سلبياً بالنسبة إلى المسلمين يضعف من أسباب نهضتهم وتقدّمهم، أو هي تنطوي على عناصر من القوّة بالنسبة لمجمل الوضع الإسلامي العامّ في جانبه الدعوي على وجه الخصوص، وكيف يمكن لتلك العناصر، من القوّة، إذا ثبتت أن تفعّل لتحدث آثارها المطلوبة فيربو ما تنطوي عليه من خير على ما يمكن أن تكون منطوية عليه من ضرر؟

وسنحاول فيما يلي المشاركة في الإجابة على هذه التساؤلات، متّخذين منطلقاً لهذه المشاركة ما رسمناه آنفاً من إطار لموقع الهجرة في الثقافة الإسلامية، وما ينطوي عليه ذلك الموقع من بعد رسالي أثبتته النصوص الدينية عقدياً، ورسّخته التجربة التاريخية على مدى زمن طويل، فهل في هجرة العقول من البلاد الإسلامية إلى ديار الغرب ما يمكن أن يعتبر خيراً للإسلام والمسلمين، أم هي ظاهرة سلبية محض؟ وإذا كانت تنطوي على خير ففيم تبدو عناصر ذلك الخير؟ وكيف يمكن تفعيلها لتؤتي ثمارها في خدمة الإسلام والمسلمين؟

2- هجرة العقول المسلمة بين السلب والإيجاب:

منذ بعض العقود تكثّفت هجرة أعداد كبيرة من العلماء والمفكّرين المسلمين من بلادهم بالمشرق إلى أوروبا وأمريكا حتى أصبح عددهم اليوم يقدّر بعشرات الآلآف إن لم يكن بالمئات، ومنهم من بلغ في الريادة العلمية الدرجة الأولى من بين علماء العالم ومفكّريه، وهم يساهمون إسهاماً فاعلاً في تقدّم الحركة الحضارية في جميع وجوهها. وبقطع النظر عن الأسباب التي أدّت إلى تفشّي هذه الظاهرة وتناميها بمرور الزمن، والتي ليس هذا محلّ بحثها، فإنّها ظاهرة ذات تأثير بالغ على كلّ من طرفي البلاد، المهاجر منها والمهاجر إليها، على حدّ سواء، إلاّ أنّه تأثير يختلف في طبيعته بعض الاختلاف بين الطرفين.

أمّا بالنسبة إلى البلاد المهاجر إليها، فإنّ هذه العقول المهاجرة تعتبر رصيداً إضافياً في مجال الريادة العلمية والفكرية، تساهم إسهاماً فاعلاً في التقدّم الصناعي والتكنولوجي، وتسرّع من حركة التنمية الشاملة فيها، وهو أمر مشهود به من قبل أهل تلك البلاد أنفسهم، كما يدلّ عليه حصول بعض العلماء المسلمين المهاجرين على جائزة نوبل، وهي الشهادة العالمية العليا على الريادة والعطاء في المناشط العلمية على اختلافها.

وأمّا بالنسبة إلى البلاد المهاجر منها، فإنّ تأثير هجرة العقول يبدو في طرفه القريب تأثيراً سلبياً عليها، إذ هجرة العقول منها يعتبر نقصاناً من رصيدها الذي به تتحرّك نحو نهضتها، وذلك بما ينقص بتلك الهجرة من إمكانيات الابتكارات والكشوف العلمية والفكرية التي من شأنها أن تطوّر الحياة وتنمّيها، وإن كان بعض الباحثين يشكّك في أن يكون لتلك العقول المهاجرة تأثير إيجابي في البلاد التي هاجرت منها فيما لو بقيت فيها، إذ هي حينئذ سيكون مآلها الانكماش والعطالة كالعقول التي لم تهاجر، وذلك بحسبان أنّ المناخ العامّ في تلك البلاد غير مساعد على الانطلاق في سبيل الريادة والابتكار والعطاء، وهو ما كان أحد أسباب هجرتها إلى بلاد يتوفّر فيها ذلك المناخ.

ولكن قد نظفر بنتائج أخرى لظاهرة هجرة العقول الإسلامية مخالفة للنتائج الآنفة البيان لو وسّعنا زاوية النظر إليها، بحيث تتجاوز في التقدير حدود الربح والخسارة، بميزان التنمية المادّية، لتمتدّ إلى مساحات تشمل مستقبل الدعوة الإسلامية فيما يمكن أن يكون لها من انتشار بتلك الهجرة في ديار الغرب من شأنه أن يثمر من النتائج ما يعود بنفع حضاري عامّ، مادّي ومعنوي، لكلّ من طرفي الهجرة، المهاجر منه والمهاجر إليه، على حدّ سواء، ونحن نعني هنا ما أشرنا إليه آنفاً من البعد الرسالي في هجرة العقول الإسلامية إلى بلاد الغرب.

إنّ العقول الإسلامية المهاجرة إلى الغرب هي من صميم الأمّة فيما ترسّب في مخزونها الثقافي من بعد رسالي ظلّ ثابتاً فيه مهما أتت عليه من أحوال النشاط والخفوت، بل إنّ هذه العقول بما هي من صفوة الأمّة في قدراتها العقلية وفي درجاتها العلمية وفي مستوياتها الفكرية لعلّ ذلك البعد الرسالي المترسّب في ثقافتها يكون أقوى عندها منه عند غيرها من سائر أفراد الأمّة وجماعاتها، وهي قوّة ربّما ظهرت عند بعضهم في حال نشاط فاعل، وربّما كانت عند بعضهم الآخر في حال كمون، لكنّها لا تلبث عند الأكثرين منهم أن تنهض إلى حال النشاط إذا توفّرت لها العوامل المناسبة.

وإذا ما استُنهض هذا البعد الرسالي في العقول الإسلامية المهاجرة ليصبح نشيطاً فاعلاً فإنّه سيمتدّ بالدعوة الإسلامية بما تتضمّنه من قيم إيمانية وخُلقية واجتماعية إلى بلاد المهجر الغربي، وستتكوّن من ذلك حركة تفاعل حضارية بالغة الأهمّية تتلاقح فيها تلك القيم الإسلامية ذات البعد الإنساني بما يتوفّر عليه الغرب من كسوب العلوم الكونية والأنظمة الإدارية، وتكون تلك العقول المهاجرة واسطة تبليغ إيجابي تنقل الحسنات من كلّ طرف إلى الآخر، فإذا التقدّم المادّي بالبلاد الغربية يتعزّز بالقيم الإسلامية في أبعادها الإنسانية، وإذا بتلك القيم عند المسلمين تتعزّز بكسوب الغرب من العلم الكوني وأنظمة الإدارة، وإذا بذلك كلّه يفضي إلى مدخل مهمّ من مداخل التلاقح الحضاري الذي يبلّغ فيه خير الإسلام إلى الناس، ويستفيد فيه المسلمون ممّا عند هؤلاء الناس.

يتبيّن إذن أنّ ظاهرة هجرة العقول المسلمة إلى الغرب هي ظاهرة تنطوي من مكوّنات الخير والمنفعة للأمّة الإسلامية وللإنسانية عامّة على ما يمكن أن يذهب بما قدّر فيها من الوجوه السلبية، ممّا أشرنا إليه آنفاً، وذلك حينما ينظر إليها من زاوية أرحب تجعل البعد الرسالي وما ينجرّ عنه من تفاعل حضاري مثمر المحور الأساس في التقدير، والمحور الأساس في معالجة هذه الظاهرة وتوجيهها.

وحينما يكون النظر إلى هجرة العقول المسلمة على النحو الذي وصفنا فإنّ ما يثور اليوم في محافل الحجاج في هذه القضية من لجاجة تنحو في تيّارها العامّ منحى تشاؤمياً، جرّاء الاقتصار في تقدير الظاهرة على جوانبها السلبية، يمكن أن ينعدل بما يتّجه إليه البحث فيها من تقدير شامل تكون تلك الجوانب عنصراً من عناصره فحسب، وتكون الجوانب الإيجابية متمحورة على البعد الرسالي فيها، العنصر الأكبر في ذلك التقدير، فيحظى بمزيد من البحث والتحليل والتوجيه، وذلك ما يستلزم بالأخصّ البحث العميق في ثلاثة من جوانب ذلك العنصر: محتوى البعد الرسالي في ظاهرة هجرة العقول المسلمة، والمؤهّلات الرسالية في ذلك البعد، وسبل استنهاضه ودفعه للفاعلية والعطاء.

3- محتوى البعد الرسالي في هجرة العقول المسلمة:

الإسلام دين عالمي، على معنى أنّه موجّه للناس كافّة، والمسلمون جماعة مكلّفون بتبليغه في كلّ زمان ومكان، وكلّ فرد من أفراد المسلمين مكلّف أيضاً بهذا التبليغ على قدر طاقته، وهو مدلول قوله تعالى: ((قُلْ هَاذِهِ سَبِيلِى أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَاْ وَمَنِ اتَّبَعَنِى)) (يوسف:108)، وكلّما توفّرت إمكانيات التبليغ المادّية والمعنوية بأقدار أكبر أصبح واجب الدعوة آكد وأثقل، سواء بالنسبة إلى مجموع الأمّة أو بالنسبة إلى أفراد المسلمين على حدّ سواء.

والمسلمون في مقابل ذلك التبليغ وفي سبيل إتقانه وإحسانه أيضاً مدعوّون بحكم الدين إلى أن يتحرّوا الحقّ أينما كان، وأن يأخذوا به ويتّبعوه ويعملوا وفقه.. وإذا كان الحقّ في شرح أحوال الوجود وفي توجيه الحياة يجدونه في دينهم تامّاً غير منقوص، فإنّه في الشؤون الكونية المادّية، وفي الشؤون التقنية والإدارية المدبّرة للحياة، قد يجدونه في الكسب الإنساني العامّ، فيكونون مدعوّين ديناً إلى أن يطلبوه من ذلك الكسب، وفقاً في ذلك للمأثور الإسلامي من أنّ «الحكمة ضالّة المؤمن فحيث وجدها فهو أحقّ بها»([1]).. وقد كانت التجربة الحضارية الإسلامية في ذلك تجربة ثريّة غنية، حيث استفاد المسلمون في بناء حضارتهم استفادة كبيرة من حضارات الأوائل وعلومهم الكونية كما هو معلوم.

من هذا المنطلق ذي الوجهين: عالمية الدين المقتضية للتبليغ، وواجب الاستفادة من الحقّ الذي يتضمّنه الكسب الإنساني العامّ، يمكن أن ترتسم الملامح الأساسية لمحتوى البعد الرسالي في هجرة العقول المسلمة إلى الغرب، إذ يكون هو أيضاً محتوى ذا اتّجاهين متكاملين: ينحو في الأوّل منحى العطاء بتبليغ الإسلام إلى أهل الغرب، وينحو في الثاني منحى طلب الحقيقة من كسوبهم العلمية الكونية والتقنية والإدارية لإفادة الإسلام والمسلمين بها، فتكون إذن رسالة مزدوجة النفع: عطاء لما هو موجود من حقائق الإسلام وقيمه، وأخذ لما هو مفقود من حقائق العلم الكوني والتقني والإداري.

أ- رسالة التبليغ:

تعني هذه الرسالة تبليغ الدين لأهل الغرب، وهو تبليغ لرسالة إيمانية حضارية شاملة، تتعلّق بالمعتقد المفسّر للوجود وللكون وللحياة، كما تتعلّق بالقيم الخُلقية والإنسانية العامّة، وبالقوانين المنظّمة للحياة في جميع وجوهها، توخّياً في ذلك كلّه لسبل مختلفة متعدّدة، تلتقي جميعها عند الحسنى في طريقة التبليغ، وتفترق بعد ذلك من حيث الكيفية، بحسب أحوال المخاطبين بالدعوة، وبحسب الظروف المحيطة بها.

والعقول الإسلامية المهاجرة إلى الغرب هي عقول تنتمي إلى الإسلام وأهله، معتقداً وحضارة وتاريخاً، وهي وإن كان بعضها لا يلتزم بالإسلام التزام دعوة وتبليغ أو التزام تطبيق شامل لمقتضياته، فإنّها جميعها أو معظمها تحمل رؤيته العقدية الفلسفية المفسّرة للوجود، كما تحمل قيمه الإنسانية والحضارية العامّة، وهي لذلك تعتبر بهجرتها إلى ديار الغرب نقلة لأنموذج ثقافي حضاري من مناخه الإسلامي إلى مناخ غربي ذي ثقافة وحضارة مغايرة، وذلك ما يوفّر فرصة لدور رسالي يمكن أن تقوم به هذه العقول في مهجرها الجديد. ويتمثّل هذا الدور الرسالي بمجمله في تبليغ الإسلام إلى أهل الغرب تبليغاً يشمل جوانبه المختلفة، ويتمّ بأساليب متنوّعة بحسب المقامات والأوضاع.

ومن هذا التبليغ تبليغ عقدي، يتمثّل في عرض دعوي للإسلام في تفسيره للوجود وفي تنظيمه للحياة، وفق ما تسمح به الظروف والمقامات، وذلك على اعتبار أنّه رؤية أخرى غير الرؤية السائدة عند الناس في بلاد الغرب، وعلى اعتبار أنّ تلك الرؤية تحمل من الحقّ والخير للإنسانيّة ما تكون به حلاًّ لما تعانيه من المشاكل المختلفة الوجوه، بحيث تكتسب في عقول المخاطبين مصداقية تجعلها جديرة بالاهتمام والنظر والتأمّل. وهذا الضرب من التبليغ ينحو المنحى النظري، وساحته في الغالب هي ساحة الحوار الفكري والتدافع الفلسفي بين المفاهيم والنظريات والمذاهب.

ومنه تبليغ قيمي، يتمثّل في عرض دعوي أيضاً للقيم الإسلامية ذات الطابع الخُلقي والإنساني منها على وجه الخصوص، وهو عرض لمنظومة من القيم المتكاملة التي تحدّد المبادئ الكبرى الحاكمة للعلاقات بين بني الإنسان سواء على المستوى الإنسانيّ العامّ، أو على مستوى الجماعات والفرق، أو على مستوى الأسر، أو على مستوى الأفراد.

وإذا كان هذا التبليغ القيمي يمكن أن يكون عرضاً نظرياً حوارياً، فإنّ الجانب الأهمّ فيه هو العرض الفعلي العملي متمثّلاً في التحلّي بتلك القيم في التعامل مع الآخرين على جميع مستويات التعامل، سياسياً واقتصادياً واجتماعياً وإنسانياً، بحيث تقدّم تلك المنظومة القيمية للناس أنموذجاً عملياً يعيشها أهل الغرب واقعاً في تعاملهم مع العقول المهاجرة، ويشاهدونها أنموذجاً تطبيقياً في حياتهم.

ومنه تبليغ حضاري تعميري، يتمثّل في عرض الأنموذج الإسلامي من جهة التعمير في الأرض، وذلك فيما يتعلّق على سبيل المثال بالاهتمام بالعلم الكوني والجدّ فيه بالبحث والابتكار، والاهتمام بالتكنولوجيا والجدّ فيها بالاختراعات والتصنيع، والعناية بالعمل كلّه والإتقان فيه، والإحسان في التعامل البيئي في كلّ اتّجاهاته ومستوياته، والإنتاج الفنّي المميّز في المجال المعماري خصوصاً وفي غيره من المجالات عموماً، والنحو في ذلك كلّه نحواً ثقافياً إسلامياً يبدو في مختلف تلك التصرّفات، إن بصفة مباشرة أو غير مباشرة، بحيث يرتبط في ذهن المتعامل معها والراصد لها ظاهرها المشهود بخلفيتها المرجعية الثقافية الإسلامية.

ومن البيّن أنّ هذا العرض الدعوي الحضاري هو بالأساس عرض عملي تطبيقي، وإن كان فيه من دورٍ للمناظرة والحوار فهو دور تابع للتطبيق والعمل.

ب- رسالة الانتفاع:

لا شكّ أنّ البلاد الغربية حقّقت أقداراً كبيرة من التقدّم في العلوم الكونية وتطبيقاتها التكنولوجية، وفي التنظيم الإداري والسياسي للحياة الاجتماعية.. والعقول الإسلامية المهاجرة، بما تنطوي عليه من قوّة، قادرة على أن تستوعب ذلك التقدّم بكفاءة عالية، بل هي قادرة على أن تساهم فيه بالإنتاج كما أثبتت ذلك التجربة الواقعية متمثّلة في تحقيق الكثير منها لإنجازات اختراعية معتبرة وصلت بها إلى أعلى مراتب الجوائز العالمية.

وبما أنّ هذه العقول المهاجرة، وإن كانت قد انتقلت من بلادها الإسلامية إلى البلاد الغربية، فإنّ ذلك لا يعني انبتاتها عن البلاد التي هاجرت منها، بل هي حتى وإن هاجرت الهجرة الدائمة فتكون بالمعنى السياسي منتمية إلى مهاجرها، فإنّها تبقى باعتبارها مسلمة منتمية إلى دائرة الأمّة الإسلامية، بالمعنى العقدي والثقافي والحضاري، وهذا الانتماء يقتضي منها أن تقوم بدور رسالي تجاه الأمّة التي تنتمي إليها، ولكنّه دور رسالي في اتّجاه معاكس للدور السابق، إذ هو يتّجه من بلاد المهجر نحو البلاد الإسلامية.

ويتمثّل هذا الدور في إفادة البلاد الإسلامية بما يتيسّر الإفادة به ممّا توصّلت إليه الحضارة الغربية من العلوم الكونية والاختراعات التقنية والنظم الإدارية، وذلك بنقل تلك المكاسب إلى المسلمين، وتيسير سبل استفادتهم منها، وإدخالها إلى حركة الحياة، ويمكن أن يشتمل هذا الدور على عدّة عناصر مختلفة ولكنّها متكاملة.

ومن تلك العناصر: تمثّل مكاسب الحضارة الغربية تمثّلاً صحيحاً، سواء تعلّق ذلك بالعلوم الكونية أو بالعلوم الإنسانية، بحيث تكون العقول المهاجرة مستوعبة لتلك المكاسب على حقيقتها كما هي عند أهلها دون تأويل لما يقبل منها التأويل، استيعاباً يشمل مفردات العلوم كما يشمل منازلها في الشبكة المعرفية العامّة، عمودياً في التاريخ، وأفقياً في المشهد المعرفي الشامل، فيكون علمهم فيها لا يقلّ عن علم مخترعيها بها، تحصيلاً للموجود المتراكم، ومتابعة للحادث الجديد، وذلك على نحو ما كان من صنيع الإمام الغزالي حينما درس، الفلسفة اليونانية فاستوعبها بدقّة فاقت أحياناً علم أهلها بها، كما يبدو فيما دوّنه في كتابه الشهير «مقاصد الفلاسفة».

ومنها تبيّن الخلفيات الثقافية والأسس المرجعية لكلّ ما يقع استيعابه من تلك العلوم، سواء ما كان منها كونياً أو تكنولوجياً أو إنسانياً، فإنّه لا شيء منها إلاّ وهو ناشئ في منشأ ثقافي فلسفي ذي صفات خاصّة، فيكون متأثّراً بذلك المنشأ، إن قليلاً أو كثيراً، وإن بصفة مباشرة أو غير مباشرة، فيكون استيعاب العقول المهاجرة لتلك المكاسب العلمية استيعاباً لذاتها، واستيعاباً أيضاً لعللها وأسبابها، ومراجعها وموجّهاتها، وأهدافها ونهاياتها، بحيث يكون العلم بها غير مقتصر على صورها، وإنّما يكون شاملاً لأبعادها المختلفة، فنّية وثقافية وفلسفية، مهما بدا في بعضها من تمحّض فنّي مثل بعض العلوم الكونية والتكنولوجية.

ومنها العمل على نشر تلك المكاسب العلمية في أوساط الأمّة الإسلامية وترويجها فيها، وذلك بتيسير وصولها إليها في مؤلّفات توجّه بحيث تناسب أوضاعها، أو بالتعليم المباشر في مؤسّساتها حينما تسنح الفرصة لذلك، أو بمساعدة مؤسّساتها العلمية بأيّ وجه من وجوه المساعدة على الحصول عليها ونشرها ضمن برامجها، أو بمساعدة أبناء الأمّة من البعثات الدراسية العلمية على استيعاب أكبر الأقدار منها، أو بأيّ وجه آخر من الوجوه الميسّرة لانتقال تلك المكاسب العلمية المختلفة الوجوه إلى الأمّة الإسلامية.

ومنها تهيّئة المكاسب الحضارية الغربية في وجوهها التطبيقية، بحيث تتلاءم مع الوضع الثقافي للأمّة الإسلامية، وتسهم في تنميتها من خلال تلك الثقافة، لتنحو في وجهتها الحضارية وجهة متميّزة تتلافى فيها النواقص والمنزلقات التي وقعت فيها الحضارة الغربية، وتنسجم مع المقاصد التي يحدّدها دينها الذي هو منبع ثقافتها ومرشد مسيرتها، وذلك بما يكون من ملحظ في التعامل معها لمناشئها الثقافية ومرجعياتها الفلسفية التي تؤثّر فيها صياغة وغاية وتطبيقاً، فيفصل فيها ما هو حقائق مجرّدة عمّا هو مستصحبات ثقافية فلسفية، وتقدّم من قبل العقول المهاجرة للأمّة على هيئة من ذلك الفصل، وعلى تنبيهات إلى تلك المستصحبات، لتكون ملائمة لوضعها الثقافي ومقاصدها الدينية.

إنّ هذا المحتوى للبعد الرسالي في هجرة العقول المسلمة، في طرفي الأخذ والعطاء، من شأنه أن يغيّر طبيعة تلك الهجرة من مجرّد حركة انتقال آلي تحوّلت به تلك العقول من ضفّة حضارية إلى أخرى، ومن نمط اجتماعي إلى آخر، عابرة ما بينهما من هوّة في سبيل تحقيق مآرب فردية ضيّقة، مثل العيش في رفاهية من الحياة، أو الاطمئنان بالأمن، أو إشباع الطموح العلمي، مع بقاء تلك الهوّة الفاصلة على حالها، إلى انتقال يحمل معه مخزوناً ثقافياً قيمياً حضارياً يبلّغه إلى أهل الغرب، ويشارك به في حركة الحوار الحضاري من أجل المصلحة الإنسانية العامّة.

ومن شأن ذلك أن يغيّر من طبيعة تلك الهجرة لتكون هجرة واصلة بين حضارتين، تحمل من كلّ منهما إلى الأخرى ما هي في حاجة إليه من الحقّ النظري والعملي، لينمو الخير فيها وتضيق مساحة القصور، فتضيق إذن تلك الهوّة الفاصلة، وتقترب الأمّة الإسلامية من أمم الغرب بما تقدّم إليهم من القيم الخُلقية والدينية، وبما تأخذ من الكسوب المادّية والإدارية، وفي ذلك خير الإنسانية، وفيه على وجه الخصوص خير الإسلام والمسلمين.. وإنّ العقول الإسلامية المهاجرة لمَؤهّلة للقيام بهذا الدور الرسالي في هجرتها.

4- مؤهّلات العقول المهاجرة للدور الرسالي:

إنّ العقول الإسلامية المهاجرة إلى الغرب تتوفّر على مؤهّلات كثيرة للقيام في هجرتها بالدور الرسالي الذي شرحنا محتواه، سواء في طرف العطاء أو في طرف الأخذ، وهو ما يمكّنها من القيام بذلك الدور على وجه فاعل لو قدّرت تلك المؤهّلات التقدير الصحيح ثمّ استثمرت الاستثمار الأمثل ضمن خطّة متكاملة واعية. وتبدو تلك المؤهّلات في مؤهّلات ذاتية تتعلّق بإمكانيات تلك العقول وقدراتها، وفي مؤهّلات موضوعية تتعلّق بالوضع الذي هي عليه، والمناخ الثقافي والاجتماعي العامّ الذي تعيش فيه.

أ- المؤهّلات الذاتية :

لا شكّ أنّ العقول الإسلامية المهاجرة هي من صفوة عقول الأمّة في قدراتها الذاتية: ذكاء وقدرة على التحصيل والاستيعاب والتحليل، فأغلب تلك العقول ذهبت إلى الغرب ضمن بعثات علمية يُتخيّر فيها الأفضل فالأفضل من الخرّيجين، وكثير منها هاجر به طموحه إلى الأعلى في سلّم العلم، وهو ما يكون ناشئاً في الغالب عن استشعار لقدرات التحصيل المعرفي، وقد يكون هو بدوره منمّياً لتلك القدرات إلى أعلى المستويات، وبذلك يتوفّر في تلك العقول شرط أساس هو الكفاءة العقلية للقيام بالأدوار المهمّة مثل هذا الدور الرسالي الذي نحن بصدد الحديث عنه.

وقد تعزّزت في العقول المهاجرة تلك القدرات الذاتية بالمحصول العلمي الذي تحقّقت به خلال ممارستها العلمية في بلاد الغرب، إذ هي عقول في أغلبها ممارسة للعلم النظري أو التطبيقي، بالغة فيه درجات عالية، كما يتبيّن من حصول بعضها على أعلى الجوائز العالمية، وذلك ما يعتبر رصيداً مهمّاً في مؤهّلاتها الذاتية، حيث تفتح الحصيلة العلمية للعقل آفاقاً بعيدة في النظر، وتنقله من ضيق الذاتية، شخصيّة وعرقية وإقليمية، إلى رحابة الإنسانية في أبعادها المختلفة، إذ العلم على اختلاف فروعه هو إنتاج متراكم للإنسانية، فالتحقّق به يفتح الأبواب على أفق الإنسانية، ويكون معواناً على السعي في الحوار والتفاعل الإيجابي، نفعاً وانتفاعاً، وهو ما يقتضيه الدور الرسالي، كما تقدّم بيانه.

ومن المؤهّلات الذاتية لهذه العقول الإسلامية المهاجرة أيضاً: ما توفّرت عليه من اطّلاع واسع على الأوضاع الواقعية للعالم الغربي، في أبعاده الثقافية والاجتماعية والسياسية والاقتصادية، فهي بالإضافة إلى قدراتها العقلية ومحصولها العلمي الممكّنة من الاستنتاج النظري تمارس العيش في تلك الأوضاع، وتقف على مكوّناتها الظاهرة والخفيّة، وهو ما يمكّنها من فهم أعمق للواقع الغربي بفهم أسبابه وعوامله وخلفياته، إضافة إلى فهم ظواهره وأحداثه، وذلك أمر مهمّ في التعامل معه تعامل حوار فاعل مثمر.. ومن أهمّ المؤهّلات الرّسالية في أيّة علاقة دعوية فهم الواقع مناط الدعوة، الفهم الصحيح العميق.

ويضاف إلى تلك المؤهّلات الذاتية ما تتوفّر عليه العقول المهاجرة من تحقّق بالثقافة الإسلامية، إن لم يكن على مستوى الالتزام الفعلي فعلى مستوى الوجود بالقوّة، إذ هي عقول نشأت في أغلبها في بيئات إسلامية تشرّبت منها القيم العامّة التي تقوم عليها تلك الثقافة، فهي إن لم تكن ملتزمة بالفعل بثقافة أمّتها فإنّها تحمل استعداداً للالتزام بها. وإذا ما أُضيف ذلك التحقّق بالثقافة الإسلامية، فعلاً أو استعداداً، إلى الفهم العميق للواقع الثقافي الغربي حصل من هذا التحقّق المزدوج مؤهّل مهمّ للوساطة الحوارية بين الطرفين، ممّا يفضي إلى قدرة على القيام بالدور الرسالي الذي نحن بصدد بحثه.

بمجموع هذه المؤهّلات الذاتية للعقول المهاجرة، ما كان منها فطرياً وما كان مكتسباً بالسعي أو مكتسباً بالمناخ المعيش، يمكن أن تتمكّن هذه العقول من القيام بدور رسالي في هجرتها إلى البلاد الغربية، إذ هي بتلك المؤهّلات تكون منطوية على قابلية كبيرة للوعي بذلك الدور، وهو أولى المراحل اللازمة فيه، كما تكون بها قادرة على المضيّ في إنجازه حينما تستثار تلك المؤهّلات وتوظّف التوظيف الأمثل لأجل ذلك الإنجاز، خاصّة وأنّ تلك المؤهّلات الذاتية تجد لها تعزيزاً في مؤهّلات أخرى موضوعية من واقع المناخ الحضاري الذي تعيش فيه العقول المهاجرة.

ب- المؤهّلات الموضوعية:

بالإضافة إلى تلك المؤهّلات الذاتية المتحقّقة في العقول الإسلامية المهاجرة للقيام بدورها الرسالي، فإنّها تتوفّر أيضاً على مؤهّلات للقيام بهذا الدور من حيث البيئة الغربية التي هي مسرح وجودها ونشاطها.. فهذه البيئة بالرغم من كونها بيئة مغايرة في جذورها الفلسفية وفي تشكيلها الثقافي للرسالة الإسلامية إلى حدّ التعارض في كثير من العناصر، إلاّ أنّها تنطوي على جملة مهمّة من المعطيات المؤهّلة لدور رسالي تقوم به العقول الإسلامية المهاجرة، وذلك سواء بالنظر إلى المناخ الروحي النفسي الذي يسود تلك البيئة، أو بالنظر إلى الوسائل المتاحة للحوار والتبليغ.

فالمجتمع الغربي يعاني معاناة مضنية من الإرهاق المادّي جرّاء المذاهب الفلسفية المادّية التي صاغت حياته فأفضت به إلى فقر روحي مدقع، ظهر في مستوى المشاعر الفردية وفي مستوى العلاقات الأسرية والاجتماعية على حدّ سواء، وأفضى إلى جملة من المشاكل النفسية والاجتماعية من مثل الاكتئاب والإجرام والمخدّرات والاضطراب الأسري.

وبما أنّ هذا الوضع نشأ من خلل في الفلسفة التي بنيت عليها الحياة، إذ هي فلسفة تعتدي على الفطرة الإنسانية ذات البعدين المادّي والروحي، بإفراطها في الأوّل وإجحافها في حقّ الثاني، فقد ظهرت بوادر كثيرة فردية وجماعية تعبّر عن الرّفض لهذا الاعتداء على الفطرة الإنسانية المزدوجة، وباتت تطلب تعديل الميزان بالبحث عن مذاهب ذات بعد روحي تجد فيها النفوس تحقيق أشواقها الروحية، وهو ما بدا في انتماء الكثيرين من أهل الغرب إلى أديان ونحل شرقية روحانية، وسقوط أخرى في ضروب من التهويمات والأساطير ذات الطابع الروحي، فما ذلك إلاّ تعبير عن الحاجة إلى مذهب جديد يحقّق الفطرة التي تعرّضت إلى الإجحاف.

ولو عرض الإسلام في هذا المناخ المتعطّش للروحانية عرضاً رشيداً لكان رسالة تتلقّاها نفوس أهل الغرب المرهقة بالمادّة لما تجد فيه من توازن تشبع فيه أشواق الروح وتلبّى مطالب الجسم، إذ هي مؤهّلة بحكم الوضع الذي آلت إليه لتلقّي تلك الرسالة.

وبما أنّ أهل الغرب بصفة عامّة قد قامت حياتهم على احترام العلم والعلماء، واحتلّ التميّز والرّيادة والمتميّزون والروّاد في سلّم قيمهم درجات عالية، فإنّ ذلك سيحدّد موقفهم النفسي والفكري من العقول الإسلامية المهاجرة، وقد اتّصفت في أكثرها بالتميّز والجدّية والريادة، لتحتلّ هذه العقول في نفوسهم وعقولهم مكانة عالية من الاحترام والتقدير لتميّزها وريادتها.

وحينما يمارس أصحاب هذه العقول مهمّة رسالية بما يبلّغون من قيم حضارية، تبليغاً قولياً أو فعلياً، وبما يرغبون فيه من الفوائد العلمية لتمثّلها أو تبليغها لمن وراءهم من أهل أوطانهم الأصلية، فإنّ ذلك يقوم مقام الاقتران الشرطي مع ما وقر في النفوس من الاحترام والتقدير، فتنفتح تلك النفوس للتفاعل الإيجابي، وتستعدّ للاستجابة بتقبّل الرسالة في اتّجاهي العطاء والأخذ، وهو ما يعتبر مؤهّلاً موضوعياً من المؤهّلات الرسالية للعقول المهاجرة.

ويضاف إلى ذلك من المؤهّلات الموضوعية ما تتوفّر عليه الحياة في الغرب من المناخات الميسّرة للتواصل، ومن الوسائل المساعدة عليه. فالحرّية التي هي شرط أساس من شروط التبليغ قائمة السوق في تلك الديار بأقدار كبيرة، وهو ما يمكّن من استحداث مختلف القنوات التنظيمية والإجرائية للاتّصال بمختلف فصائل الناس، والتحاور معهم في مختلف الشؤون، وتبليغ الرسالة إليهم.. والوسائل التقنية الميسّرة للاتّصال، والمقرّبة للمسافات، والعابرة للحواجز، هي أيضاً سوقها قائمة، ممّا يمكّن من التعريف الواسع بما يراد التعريف به من القيم الثقافية والحضارية الإسلامية.. كما يمكّن أيضاً من يسر الحصول على المستجدّات من العلوم والمخترعات، وتبليغها في الإبّان، ليستفيد منها العالم الإسلامي الاستفادة المثلى.

وبإضافة هذه المؤهّلات إلى بعضها، الذاتية منها والموضوعية، يتبيّن أنّ العقول الإسلامية المهاجرة إلى الغرب تتوفّر على قدر من المؤهّلات للتبليغ الرسالي لا تتوفّر على كثير من عناصره العقول الإسلامية التي تعيش داخل العالم الإسلامي، وهو ما يقوّي من واجب الالتفات إلى هذه العقول، وتوجيهها إلى أن تقوم بدورها الرسالي الذي هيّأها القدر لتقوم به، وهيّأ شروطه ومستلزماته، لتتحوّل تلك الصورة السلبية لهجرة هذه العقول، باعتبارها نزيفاً من رصيد الأمّة لصالح غيرها، فيُرى منها أيضاً وجه آخر إيجابي، بل هو على قدر كبير من الإيجابية، وليقع العمل على تشخيص ذلك الوجه وتوضيحه، ثمّ على تفعيله ليصير نفعه واقعاً ملموساً، وليأخذ طريقه في الإثمار.

5- تفعيل البعد الرسالي لهجرة العقول المسلمة:

إذا كان في هجرة العقول المسلمة إلى الغرب ذلك البعد الرسالي، وإذا كانت تلك العقول مؤهّلة على النحو الذي وصفنا للقيام بدور رسالي، فهل هي قائمة فعلاً بذلك الدور؟ وإذا لم تكن قائمة به فما السبيل إلى القيام به لتؤتي تلك الهجرة ثمرتها الإيجابية، وتعوّض ما خسرته الأمّة من تميّزها وريادتها بنزوحها عنها، وذلك بما تؤدّيه من عمل بعيد المدى في التفاعل الحضاري المنتج بين ديار الإسلام وديار الغرب؟

لا شكّ أنّ العقول الإسلامية المهاجرة إلى الغرب قامت وتقوم ببعض الأعمال الرسالية منذ عقدين أو ثلاثة من الزمن، وهو ما يتمثّل بالأخصّ في ذلك النشاط الدعوي الإسلامي الذي لا يخلو منه بلد من البلاد الغربية، مهما يكن قويّاً أو ضعيفاً، والذي تشارك فيه بعض العقول المهاجرة وإن لم تكن هي المحرّك الأساس فيه في بعض الأحوال.. كما يتمثّل في بعض ما يقام من الحوار الثقافي والحضاري بين المسلمين وبين أهل الغرب، عبر بوادر فردية أو عن طريق مؤسّسات ثقافية فكرية.

ولكنّ ذلك كلّه لا يرقى إلى ما هو دور رسالي مأمول من هذه الهجرة للعقول الإسلامية، لا من حيث الحجم ولا من حيث الكيف، وهو ما يستلزم بذل جهود تفعيلية من أجل استنهاض تلك المؤهّلات التي تتوفّر عليها العقول المهاجرة، وتوجيهها نحو القيام بالدور الرسالي على النحو الذي وصفنا آنفاً.

ولعلّ من أهمّ وسائل التفعيل الذي يمكن أن يثمر الثمرة المرجوّة ما يلي:

أ- استكشاف العقول المهاجرة وحصرها:

إذا كانت العقول الإسلامية المهاجرة إلى الغرب معلومة في جملتها، وتتردّد إحصائيّات تقريبية في شأنها بين الحين والحين، فإنّ حقيقتها الكاملة غير محدّدة ولا معلومة، وهو ما يستلزم في سبيل تفعيل دورها الرسالي أن تُعلم أوّلاً بأكثر ما يمكن من وجوه العلم، وأن تتّضح صورتها الجملية والتفصيلية؛ وذلك لينطلق العمل التفعيلي من منطلق معلوم، ويمارس نشاطه على أرض بيّنة المعالم، وهو ما يندرج ضمن القاعدة الأساسية التي تفرض في سبيل الجدوى أن يكون تفعيل أيّ مادّة مبنياً على العلم بطبيعتها.

ويمكن أن يقوم بهذا العمل الإحصائي الممهّد للتفعيل رابطةٌ عالمية تتأسّس لهذا الغرض، فتجمع العقول المهاجرة في العالم الغربي، وتقيم لها فروعاً في المراكز الكبرى من ذلك العالم، ثمّ تقوم بعمل إحصائي شامل لتلك العقول على وجوه عدّة.

ومن تلك الوجوه الإحصائيّة: حصر أعداد هذه العقول بأكبر قدر ممكن، وحصر تنوّعها في توزّعها الجغرافي، وفي اختصاصاتها العلمية، وفي توجّهاتها الثقافية، وفي مكانتها الريادية، وفي مقاماتها الوظيفية، وفي استعداداتها المختلفة للعطاء، ليقع الانتهاء من كلّ ذلك إلى صورة متكاملة عن العقول الإسلامية المهاجرة من حيث ذات الأفراد بأكبر قدر ممكن، ومن حيث الهيئة الجماعية التي تتكوّن من أولئك الأفراد، فإذا خارطة العقول المهاجرة التي ستكون مسرح الحركة التفعيلية لدورها الرسالي واضحة المسالك، بيّنة المواقع.

ب- التوعية بالهدف الرسالي:

مهما يكن من وجود أعداد من العقول المهاجرة تتمثّل دورها الرسالي من هجرتها بمفهوم مّا من المفاهيم، فإنّ الأكثر منها ليست على وعي كاف بهذا الدور، أو ليست على أيّ وعي به أصلاً؛ فالذين هاجروا إلى الغرب من أصحاب هذه العقول كانت هجرتهم لأسباب أخرى غير السبب الرسالي، وقد أخذت هذه الأسباب معظمهم لتزجّ بهم في زحام مشاهد أخرى من مشاهد الحياة انشغلوا به فغفلوا عن المشهد الرسالي، وذلك ما يستدعي أن تقوم في أوساط هذه العقول المهاجرة حركة توعية بالبعد الرسالي في هجرتها ليكون ذلك أساساً للانطلاق في إحياء ذلك البعد وتفعيله.

وقد يسهّل هذه التوعية الرسالية ما أشرنا إليه آنفاً من بعد دعوي مستكنّ في ضمائر المسلمين عموماً وفي ضمائر النخبة المثقّفة منهم خصوصاً؛ فالخلفية الثقافية للمسلم تحمل معاني التفاعل بين المسلمين وبين بني الإنسان عامّة، في طرفي العطاء والأخذ لما هو حقّ وخير، وهو ما ترسّب في المخزون المرجعي للمسلم جرّاء تعاليم الدين وجرّاء مسيرة التاريخ، وخاصّة فيما يتعلّق بهما من أمر الهجرة وآدابها.

فهذا الرصيد المخزون سواء كان مشعوراً به أو غير مشعور، يمكن استثماره في حركة التوعية بالمهمّة الرسالية للهجرة في أوساط العقول المهاجرة، إذ من الميسور أن يُستدعى ذلك المخزون الثقافي، ويُستنهض في سبيل إحداث وعي عامّ في تلك العقول بأنّ هجرتها ينبغي أن تكون هجرة هادفة على غرار هجرة الأنبياء والمصلحين التي كانت غايتها، التي لا تعلو عليها غاية، تبليغ الخير للناس مهما يكن في طريق تلك الغاية العليا من غايات مرحلية.

ولعلّ من أهمّ ما يُستنهض به هذا المخزون الثقافي تعهّد مفهوم الانتماء للأمّة الإسلامية والولاء لها لدى العقول المهاجرة بالتجلية والتصحيح والتقوية، وذلك ليأخذ وضعه الحقيقي في المنظومة العقدية، حيث يحتلّ هذا العنصر فيها موقعاً أساسياً؛ فهذا المفهوم ربّما اعترته بعض الغشاوات عند بعض تلك العقول، وذلك بسبب بعد الشقّة بينها وبين أمّتها، أو بسبب انخراط بعضها في الولاء الوطني للبلاد التي تقيم فيها.

فتجلية هذا المفهوم وتقويته، وإزالة ما يمكن أن يكون اعتراه من اضطراب جرّاء مزاحمة الولاء الوطني له، وتبيين الحدود بين الطرفين من شأنه كلّه أن يهيّئ العقول المهاجرة للوعي العميق بالدور الرسالي الذي تقتضيه هجرتها إلى بلاد الغرب كأساس من أسس التفعيل لذلك الدور.

ج- البناء المؤسّسي:

إنّ المهمّة الرسالية للعقول المهاجرة، كما شرحناها آنفاً، لا يمكن أن يقوم بها أفراد بصفاتهم الفردية؛ ذلك لأنّها مهمّة ذات طبيعة جماعية باعتبار أعبائها الثقيلة التي ينوء بها الأفراد، ولأنّها من جهة أخرى تمارس على مسرحٍ المنهجُ الغالب على الأعمال فيه هو المنهج الجماعي، والتفاعل بالاستجابة يتمّ فيه على مقتضى ذلك المنهج الغالب، وذلك كلّه يقتضي أن يكون تفعيل المهمّة الرسالية آخذاً بعين الاعتبار هذه الخاصّية الجماعية في طبيعة المهمّة وفي مسرح حركتها.

ومن أظهر المقتضيات في هذا الشأن العمل على بناء مؤسّسات متعدّدة المظاهر ومختلفة الأنواع تتحمّل القيام بهذه المهمّة الرسالية، وذلك من مثل المراكز البحثية، والمنظّمات العلمية، والجمعيات الدعوية، والمؤسّسات التعليمية، وما شابهها من التشكيلات الجماعية ذات الطبيعة المؤسّسية.

فهذه التشكيلات المؤسّسية ذات الطبيعة الجماعية تنخرط فيها العقول المهاجرة بحسب تخصّصاتها واهتماماتها لتكون محضناً للحوار في العمل الرسالي بوجوهه المتعدّدة، وفيها تضبط الخطط والمشاريع في هذا الشأن، ومنها ينطلق الأفراد في الممارسة العملية للمهمّة الرسالية.

إنّ هذه المحاضن المؤسّسية لمن شأنها أن تفعّل الدور الرسالي للعقول المهاجرة؛ إذ هي بالإضافة إلى كونها محضناً لتجميع الجهود وتوجيهها الوجهة الصحيحة، فهي تعتبر عاملاً من عوامل التحشيد النفسي والإرادي للعزم على تحمّل الرسالة الحضارية المنوطة بعهدة تلك العقول، كما تعتبر أيضاً عاملاً من عوامل الصيانة للولاء للأمّة والانتماء إليها، إذ هي صورة مصغّرة منها، والولاء للجزء مرحلة ممهّدة للولاء للكلّ.

كما تكتسب هذه المحاضن المؤسسية من المصداقية في عيون أهل الغرب وفي نفوسهم وعقولهم، وتكتسب من المكانة لديهم في مخاطبتهم والتعامل معهم ما لا تكتسبه العقول المهاجرة فرادى، وذلك من طبيعة ما بُني عليه المجتمع الغربي من القواعد في التعامل، فينبغي أخذه بعين الاعتبار في تفعيل الدور الرسالي لهجرة العقول.

د - التوجيه العملي:

إنّ ذلك المحتوى في الدور الرسالي للعقول المهاجرة، كما بيّناه آنفاً، وتلك المؤهّلات التي تتوفّر عليها للقيام بذلك الدور ليس من شأنها جميعاً أن تثمر الثمرة المرجوّة منها إذا ما وقع تفعيلها إلاّ إذا واكبها تفعيل للأساليب التي يقع بها القيام بذلك الدور في كلّ من اتّجاهي الأخذ والعطاء؛ ذلك لأنّ أساليب التبليغ هي من أكثر ما يجب فيها التفعيل لتطلّبها التعهّد بالتعديل والتغيير المستمرّين تناسباً مع تغيّر أحوال المتلقّين في طرائق تقبّلهم للخطاب واقتناعهم به واستفادتهم منه.

وقد كانت العقول المهاجرة، التي قامت ببعض من المهامّ الرسالية في مراحل سابقة، تعتمد في خطابها التبليغي لأهل الغرب على الأساليب ذاتها التي يمارس بها التبليغ في العالم الإسلامي، أو على ما هو شبيه بها، وكانت أيضاً تعتمد في خطابها للعالم الإسلامي بتجربتها في الهجرة على الخطاب الصوري الذي يكتفي بنقل مشاهد التجربة دون جهود توظيفيّة لها بما يناسب المخاطبين من المسلمين، وكلّ من هذا وذاك قد لا يكون ملائماً للدّور الرسالي المطلوب من هذه العقول في المرحلة المقبلة، وهو ما يستدعي تفعيلاً جديداً يتمثّل في توجيه المناشط الرسالية التي تقوم بها العقول المهاجرة توجيهاً عملياً.

والمقصود بالتوجيه العملي لتلك المناشط أن يتحرّى تبليغ المضمون الحضاري الإسلامي إلى الغرب، وكذلك المضمون الحضاري الغربي إلى المسلمين، منحى البيان العملي الذي يقدّم ذلك المضمون في الاتّجاهين بمواصفات واقعية مهيّأة للقبول بحسب ما تقتضيه الحاجة الواقعية في كلا الطرفين، وبحسب ما تستجيب له البنية الثقافية العامّة في مكوّناتها الفعلية في كلّ منهما.

إنّ أهل الغرب على وجه العموم بُنيت ثقافتهم بناءً عملياً واقعياً، وذلك جرّاء ما ترسّخ فيهم من نزعة ذرائعيّة زرعتها فيهم الفلسفة النفعية، ورعاها ونمّاها حبّ المتعة المادّية الذي طبع الحياة الغربية بصفة عامّة.. فبتلك النزعة أصبح أهل الغرب لا يتفاعلون على وجه العموم إلاّ مع الخطاب الذي يمسّ بصفة مباشرة حياتهم العملية، ويجعلهم ينتظرون من ورائه نفعاً ناجزاً يتمثّل في حلّ لمشكلة من مشاكل حياتهم الفردية أو الاجتماعية، أو في سبب من أسباب الرّفاه المادّي، أو في مسلك من مسالك الأمن النفسي أو الجماعي، وأمّا ما عدا ذلك ممّا طابعه نظري صوري بحت فإنّ التفاعل معه يكون محدوداً في كمّه من حيث عدد المتفاعلين، وفي كيفه من حيث درجة قبوله والاقتناع به.

واعتباراً لهذه النزعة العملية لدى أهل الغرب، فإنّ تفعيل الدور الرسالي للعقول المهاجرة إلى الغرب لا بدّ ليكون ناجعاً أن يوجّه الخطاب فيه هذه الوجهة العملية ليواطئ عقولاً تتقبّله وتقتنع به، إذ يلبّي مطلبها في تحقيق النفع العملي.

ويمكن أن يكون ذلك التفعيل العملي سالكاً أحد مسلكين:

المسلك الأوّل: أن يكون الخطاب الإسلامي سالكاً مسلك الأنموذج العملي، بحيث تظهر القيم الإسلامية، فردية وأسرية واجتماعية، في الممارسة العملية للحياة على اختلاف وجوهها، وخاصّة ما يتعلّق منها بما فيه علاقة مباشرة بالمجتمع، إذ ذلك هو الأظهر للعيان، والأقرب للملاحظة، وإن كان الشأن الشخصي أو الأسري ملحوظاً هو أيضاً للناس، قائماً لديهم مقام الشهادة المؤثّرة في النفوس، فهذا الضّرب من الخطاب العملي المجسّم للقيم الإسلامية الجماعية والفردية يعتبر حجّة بالغة التأثير في نفوس أهل الغرب وعقولهم، لما يرون فيها من حلول واقعية لبعض ما يعانون من المشاكل النفسية والأسرية الاجتماعية، فتسري إليهم القيم الدينية من خلالها، ويكون ذلك تهيئة لقبول ما بعدها من الحقائق الإيمانية العليا.

المسلك الثاني: أن يكون ذلك الخطاب سالكاً مسلك التهيئة العملية في بيانه للناس وشرحه لهم وتبليغه إليهم، على معنى أن ترتبط في ذلك الخطاب كلّ قيمة نظرية ببيان مغازيها العملية، وآثارها النفعية في الحياة مهما كانت درجتها من التجريد النظري، وأن تُبيّن الطرق والأساليب العملية التي يمكن بها أن تأخذ تلك القيم طريقها للتطبيق الواقعي المنتج لتلك المنفعة العملية، دون أن يُكتفى في التبليغ بالبيان النظري، المجرّد الذي قد يبقى في الأذهان ذات الثقافة العملية عصيّاً عن الفهم، أو غير مثير للاهتمام، فلا تتحرّك العقول لتقبّله واستيعابه والتكيّف به جرّاء تلك الثقافة العملية.

وكما يكون هذا التفعيل في الدور الرسالي للعقول المهاجرة، بأسلوبيه، صالحاً في طرف العطاء من طرفي ذلك الدور، كما بيّنّا، فإنّه يكون صالحاً في طرف الانتفاع منه أيضاً.

فحينما تعمد تلك العقول إلى نقل بعض القيم الحضارية والحقائق العلمية والتكنولوجية من البلاد الغربية إلى البلاد الإسلامية، فإنّ ذلك قد لا يكون فاعلاً إلاّ إذا وقعت صياغته صياغة عملية متمثّلة في إقامة نماذج عملية تجسّم تلك القيم كالمؤسّسات البحثية، والمنشآت الإدارية، والمشاريع الصناعية، التي تقوم جميعاً على قيم الدقّة والنظام والكفاءة الإدارية والمداولة الشورية وما إليها من القيم، ومتمثّلة أيضاً في تقديم بيانات وشروح لمكتسبات أهل الغرب من التحضّر موجّهة توجيهاً عملياً نفعياً بما يتلاءم مع الواقع الإسلامي ثقافياً واجتماعياً لتثمر فيه المنفعة العملية، إذ نقل تلك المكتسبات على الوجه الذي هي عليه في الغرب قد لا تحصل به منفعة في العالم الإسلامي، لاختلاف في المناخ بين الطرفين يفضي إلى اختلاف في أسلوب الانتفاع بينهما، فإذا لم يؤخذ ذلك بعين الاعتبار كان سبباً في تعطيل قسم مهمّ من الدور الرسالي للعقول المهاجرة.

----------

([1]) أخرجه الترمذي.

================

# الخطاب المستقبلي للهجرة الإسلامية

د. محمد المستيري

يقول الله تعالى في كتابه الكريم:

(( لاَّ يَسْتَوِى الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُوْلِى الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِى سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلاًّ وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْراً عَظِيماً (95) دَرَجَاتٍ مّنْهُ وَمَغْفِرَةً وَرَحْمَةً وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَّحِيماً (96) إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَئِكَةُ ظَالِمِى أَنفُسِهِمْ قَالُواْ فِيمَ كُنتُمْ قَالُواْ كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِى الاْرْضِ قَالْواْ أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ واسِعَةً فَتُهَاجِرُواْ فِيهَا فَأُوْلَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءتْ مَصِيراً (97) إِلاَّ الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرّجَالِ وَالنّسَاء وَالْوِلْدانِ لاَ يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلاَ يَهْتَدُونَ سَبِيلاً (98) فَأُوْلَئِكَ عَسَى اللَّهُ أَن يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَفُوّاً غَفُوراً (99) وَمَن يُهَاجِرْ فِى سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِى الاْرْضِ مُرَاغَماً كَثِيراً وَسَعَةً وَمَن يَخْرُجْ مِن بَيْتِهِ مُهَاجِراً إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلىَ اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَّحِيماً)) (النساء:95-100).

في فلسفة الهجرة القرآنية والتاريخية:

لم ترد الهجرة في الاستعمال القرآني بمعان سلبية إلا فيما كان يحملها محمل اجتناب الباطل ونبذ الفرقة، أو كان ينسبها إلى جحود الكفار ونكرانهم للقرآن، وذلك في موضع واحد فقط في قوله: ((وَقَالَ الرَّسُولُ يارَبّ إِنَّ قَوْمِى اتَّخَذُواْ هَاذَا الْقُرْءاَنَ مَهْجُوراً )) (الفرقان:30)، فالهجرة هي خروج في سبيل الله وسعي لتحقيق رسالته في وحدة العبودية ورفعة قيم الدين. من هنا يصبح المهاجر مرادفاً للمجاهد، والمعنى العكسي للقاعد والمتخاذل في أداء الرسالة، تصديقاً لحديث الرسول صلى الله عليه وسلم : «تَضَمَّنَ اللَّهُ لِمَنْ خَرَجَ فِي سَبِيلِهِ لا يُخْرِجُهُ إِلاَّ جِهَادًا فِي سَبِيلِي وَإِيمَانًا بِي وَتَصْدِيقًا بِرُسُلِي، فَهُوَ عَلَيَّ ضَامِنٌ أَنْ أُدْخِلَهُ الْجَنَّةَ أَوْ أَرْجِعَهُ إِلَى مَسْكَنِهِ الَّذِي خَرَجَ مِنْهُ نَائِلاً مَا نَالَ مِنْ أَجْرٍ أَوْ غَنِيمَةٍ .. وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ مَا مِنْ كَلْمٍ (أي جرح) يُكْلَمُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ إِلاَّ جَاءَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَهَيْئَتِهِ حِينَ كُلِمَ، لَوْنُهُ لَوْنُ دَمٍ وَرِيحُهُ مِسْكٌ»([1]).

إن وصل الهجرة بالجهاد يتنزل ضمن فلسفة الإسلام لمسؤولية الإنسان الكونية في الشهادة على الناس جميعاً وحمل أمانة القيمة وخلافة النبوة في الأرض. فالهجرة أصل في تحقيق غائية وجود الإنسان وتنزيل الدين. وقد يهاجر المرء مستضعفاً، ولكن لا يهاجر ضعيفاً؛ لأن قرار الهجرة من سنن الله العظيمة التي تشترط قوة في الإرادة وثباتاً في المبدأ. لقد مثلت الهجرة دائماً نقطة تحول في تاريخ البشرية، ولحظة حاسمة في رقي الحضارات أو سقوطها.

فهجرة الأنبياء كانت السبيل لنشر رسالتهم وإنقاذ أتباعها من قهر المتجبرين، وتأسيس قوائمها على أسس من العمران الآمن، بمثل ما آلت إليه هجرة سيدنا إبراهيم عليه السلام مع زوجته هاجر وابنه إسماعيل من بناء مجتمع مكة، الذي أصبح له شأن كبير في تاريخ الإسلام لاحقاً، أو هجرة العصبة من مستضعفي المسلمين الأوائل بمكة القهرية للحبشة، التي قادت إلى كسب أول نصرة خارجية رسمية لرسالة الإسلام، أو كذلك هجرة المسلمين من مكة إلى المدينة، التي أرّخت لأول دولة ومجتمع إسلاميين، ولأصول العلاقات ضمنهما.

وليست أشكال الفتح الإسلامي المتعددة، التي رسخت انتشار الإسلام في أرجاء الأرض كلها سوى نمط من الهجرة الإسلامية، التي اقتضتها بداية نشر الدعوة ومرجعية الخاتمية لرسالتها ولزوم العموم في نشرها، حتى لا تنحصر في قومية وإثنية معينة.

لقد كان الخطاب الإسلامي يفيض دوافع وحوافز في اتجاه تعلم لغات الشعوب والاستفادة من علومها وحكمتها وتجربتها، ولَّد ذلك أنماطاً من الهجرة الثقافية والفكرية ساهمت في تأسيس المدارس الإسلامية في الفلسفة والكلام والتربية والعمران والطب والرياضيات وغيرها، وجعلت من هذا التاريخ منارة للبشرية على مدار الأزمنة التي تلته، وخاصة منذ أن دخل الإفرنج في الاستفادة من معارف المسلمين، من العصر الوسيط نحو عصر الأنوار وإلى زماننا المعاصر.

إن اكتشاف الرجل الأوروبي لأمريكا، وقبلها اكتشافه لعلوم وفلسفات وفنون العالم الإسلامي في الفترة الوسيطة، شكَّل بداية الهيمنة الغربية على مقدرات العالم. فالمجتمع الأمريكي المعاصر هو أنموذج حي للهجرة، لا يأبه كثيراً بالأصول بقدر ما يقوم الانتماء إليه على أساس الإنتاج. إنه انتصار لهجرة الأوروبيين الأولى، وإن كانت المنافسة السياسية والاقتصادية، هي التي تطبع العلاقة اليوم بين الأمريكيين والأوروبيين ضمن رغبة « الرجل الأبيض» في تقاسم النفوذ على العالم.

ولئن رافق تهجير السود نحو أوروبا، وخاصة أمريكا، جميع أشكال الاستعباد والقهر، إلا أنه تحول إلى هجرة إيجابية بعد كفاح طويل ومستمر من أجل إلغاء قوانين العبودية وفرض مبدأ المساواة العرقي، والنجاح في الارتقاء بصورة الرجل الأسود من القابلية للعبودية إلى القدرة الكاملة على الإنتاج الحر والمنافسة.

في هجرة الغرب الحديثة:

تأسست أنماط الاكتساح الغربي على مقدرات الجنوب عامة والعالم الإسلامي خاصة، على فكرة الهجرة من خلال فرض استراتيجيات الاستعمار والتبعية وسلطة الصهيونية ونمطية العولمة. فاستوطن الغرب في العالم الإسلامي عبر مؤسساته الاستثمارية، وآلته العسكرية والمخابراتية، وأجهزته الإعلامية، ومراكز مراقبته السياسية والاقتصادية والاجتماعية. ونجح بذلك في فرض نمط من الهجرة القهرية على العالم الإسلامي، وسيكون التحدي المستقبلي له مواجهة مطلب الشعوب في التحرر وفي حق الاعتراف بهويتها الجماعية، بكل ما يميزها من خصوصيات ثقافية ودينية. لقد هاجرت إلى العالم الإسلامي قيم الديموقراطية وحقوق الإنسان وتحرير المرأة، ولكن هاجرت معها بنيتها الأساسية القائمة على تحرير المجتمع من قيمه الأصيلة، وتحرير السياسة من وحدة قرارها، وتحرير الاقتصاد من موازين الرقابة والعدل، وتجذير نسق العلمانية القطائعي في علاقة سلطة الدين بسلطة السياسة.

لقد مثلت فلسفة التغريب الثقافي والفكري منذ القرن التاسع عشر أساس هجرة النفوذ الغربي إلى العالم الإسلامي، وحاولت ترويج قيم التحضر الغربي المعاصر ضمن وهم صورة التعددية، غير أنه منذ بداية التسعينيات بدأت مقولة العولمة في وجهها الثقافي تكشف عن حقيقة نمطية «التعددية» الغربية. وبدت العولمة تستعيض عن التغريب، لتتجاوز فكرة ضرورة إلحاق العالم الإسلامي بالغرب، نحو الفكرة القائلة بحتمية وحدة النمط الذي يسود العالم، وحتمية أن تذاب جميع الخصوصيات الثقافية فيه، وهو منطق العولمة.

وليس هذا المنطق وليد التسعينيات، وإن كان مصطلح العولمة يؤرخ له بهذه الفترة، فهو المسكوت عنه في رؤية الغرب للعالم منذ أن بدأ هجرته الأولى نحو أمريكا سنة 1492م.

إن نمطية الهجرة الغربية إلى العالم الإسلامي من خلال فرض توجه أحادي في فهم الحداثة والتحضر يتأسس على مبدأي العلمانية والليبرالية، رغم تعارضهما مع كثير من مقومات المجتمع الإسلامي، إنما فشلت في تصدير قيم التعددية والحرية والتسامح وفرضت على نماذجها التي أقامتها في أنحاء من العالم الإسلامي مشروطية التبعية الكاملة، فحولت أنساقها وأنظمتها إلى نماذج من العنف المقنن. فليس العنف نتيجة لغياب الديموقراطية، كما يتوهم كثيرون، وإنما نتيجة عنف نمطية الديموقراطية التي حاولت الهجرة الغربية إخضاع العالم الإسلامي لها.

إن قيمة التعددية المشروطة بفلسفة تحرير الإنسان من سلطة الغيب والأخلاق إنما أنتجتها الحداثة الغربية لمجتمعاتها، ونجحت إلى حد كبير في ترويض هيئاتها المدنية الثقافية والأخلاقية وحتى الدينية على وتيرتها. إنه الدين المدني الجديد بتعبير «روسو» الذي حلَّ محل الدين السماوي، ولكنه دين استعصى إدماجه ضمن ثقافة مجتمعاتنا؛ لأنه كان مصادماً لهويتها، حيث لا انفصال بين الروحي والعقلاني، وبين السماوي والأرضي، فالقيمة وحدة مقدسة، ومن حرمات الوجود البشري.

إن مشروع التعددية الذي استهلكته مجتمعات الحداثة الغربية داخل مؤسساتها الديموقراطية هو غير مشروع التعددية الذي هاجر إلى العالم الإسلامي. فالتعددية الغربية المصدرة «لإنتاج» العالم الإسلامي تقصي عن ديموقراطيتها سلفاً أعداء الديموقراطية الغربية، أي من لا يخضع كلياً لمشروطية الحداثة مرجعاً ومنهجاً في التفكير ومن يتخذ من الهوية الإسلامية منطلقاً في الوجود أو التعبير.

لقد مثلت هجرة المسلمين إلى الأندلس العصر الذهبي للفكر الصوفي اليهودي والفلسفة اليهودية التي من أبرز أعلامها «ابن ميمون»، كما عرفت الفلسفة المسيحية أوجها من خلال مثال «توما الأكويني». واستطاع العصر الذهبي للإسلام أن يشع بعلومه ومعارفه على تاريخ التقدم البشري من خلال الأنوار والنهضة الصناعية والعلوم الحديثة. لم تكن قطبية الإبداع الإسلامي مهيمنة وقاهرة ونافية للاختلاف بمثل ما آلت إليه قطبية الحضارة الغربية المعاصرة. فبين هجرة «الفتح» المحررة للطاقات من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد، وهجرة «التغريب» المكرِّسة لهيمنة الفكر المادي وسلطة الرجل الأبيض، يكمن الفارق المعياري الكبير بين حضارة الإسلام والغرب في تصور إنسانية الإنسان واحترام وجوده المختلف.

ففي حين يستند التصور الإسلامي إلى مبدأ أن الاختلاف أصل في الوجود: (( وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُواْ)) (الحجرات:13)، بل وحكمةٌ في علم الغيب: ((وَلَوْ شَاء رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً)) (هود:118 )، ثم وفضلٌ في الارتقاء بالحياة الإنسانية: ((وَفِى ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ)) (المطففين:26)، ينتهي أرقى التصور الغربي في إدارة الاختلاف إلى مبدأ التسامح، الذي لا يعني في جوهره إيماناً بوحدة الاختلاف، إنما تساهلاً ظرفياً ونسبياً في قبول وجود الطرف المخالف، على أساس قابلية هذا الطرف للانصهار ضمن الأنموذج الغربي الواحدي. فهو مبدأ هلامي وزئبقي يصعب تعيين حدوده، لا يرتقي إلى الاعتراف بهوية المخالف الفرد فضلاً عن الاعتراف بهوية الجماعة المخالفة.

إن هجرة الهيمنة والاكتساح، التي رسخها الغرب في علاقته بالحضارات والأمم التي رافقت نهضته الحديثة، صنعت فاصلاً وبوناً شاسعاً بين العالم الأوروأمريكي، الذي لا يتجاوز سكنياً عشرين بالمائة وينفرد بأكثر من ثمانين بالمائة من مدخرات العالم، وبين عالم الجنوب الذي يرزح تحت ويلات الفقر والظلم والمديونية.

لقد استهلكت أمريكا لوحدها من مدخرات الأرض خلال القرن الذي مضى ما يعادل ما استهلكته البشرية طيلة تاريخها الطويل. لقد قوض الغرب من إيجابية ماهية هجرة القوي نحو الضعيف، وأقام نسقاً من العلاقة احتكارياً شاملاً تحت نظام العولمة، بسط فيه نفوذه على جميع سلط القرار التي تضمن له الانفراد بالقوة. فلم تعد الهيمنة الاقتصادية ولا السياسية ولا الثقافية بكافية لضمان شمولية هذا النفوذ، بل تدخل المُعْطى المعلوماتي والإعلامي، الذي بوساطته يُصنع الرأي العام المحدد في توجيه الشعوب كما في اتخاذ القرارات. فأوروبا وأمريكا تنفردان لوحدهما بحوالي 85 % من مدخرات البنوك المعلوماتية الدولية، في حين لا يملك العالم الثالث بأكمله أكثر من 1 %. ثم إن «جايت» «وموردوش» و«تورنر» «وكونراد» و«لجارديار»، من أقطاب رؤوس الأموال الغربية في الاتصال، يحتكرون مجمل دور النشر الكبرى ودور الإذاعة والتلفزيون العالمية. ومن يملك المعلومات وسبل الاتصال السريع إنما يملك مفاتيح تغيير العقول وتوجيه الأذواق بل وتربية الأجيال.

في النمط الجديد للهجرة نحو الغرب:

إن الاختلال الكامل في التوازن بين عالم الجنوب والشمال أعطى لهجرة الجنوب نحو الشمال صورة دونية، دافعها الأساس ليس البحث عن الحقيقة بقدر ما هو البحث عن خلاص معيشي من خطر البطالة والفقر والجوع الذي يتهدد أهلها.

إن صورة الهجرة الإسلامية لدى الإعلام والرأي العام الدولي يغلب عليها معنى هجرة الهامش من اليد العاملة غير المتخصصة، والكوادر العاطلة، والعقول الحرة المهجرة اليائسة. وهي صورة تقترب من حقيقة الحال ولكنها تندرج ضمن خطة الغرب في التحجيم من القيمة المستقبلية للهجرة الإسلامية، وتحويل وجهتها الاستراتيجية البنائية والتوطينية نحو إدارة أزمات الوجود اليومي في الغرب، داخل دوامة الاعتراف وضمان الشغل والسكن والأمن تجاه أخطار الاتجاهات النازية الحديثة المتنامية. إن الغرب وهو يعمق مصاعب إمكانات الوجود الاستراتيجي الفاعل للمسلمين في دياره، رغم شعاراته التمويهية عن الاندماج والمواطنة المتعددة الثقافات، التي يخدم بها غاياته الانتخابية المؤقتة وغاياته الاقتصادية الدائمة، إنما يزيد في ترسيخ سياسات هجرته العولمية المهيمنة على أوطاننا.

إن الغرب يدرك القيمة الحضارية للهجرة، وحتمية أن تنهض أمة الإسلام من جديد بطريق الهجرة، من خلال دراستها ونقدها لتجربته وتهيئتها للمخزون الروحي والثقافي والحضاري لعالم الإسلام، وهو منهج الاستيعاب والتجاوز الإسلامي، الذي لا يتبنى الثورة ولا المسايرة، وإنما الإصلاح البناء المتوكل على الله في كل أمره: ((إِنْ أُرِيدُ إِلاَّ الإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِى إِلاَّ بِاللَّهِ)) (هود:88).

وكثيراً ما ترفع عناوين الحوار الحضاري والتقارب بين الشعوب وعولمة الثقافة ليست لغايات تحرير الأمم المغلوبة من قبضة الغرب الغالب، إنما لتعميق صهر إراداتها ضمن نمطية الغرب، وشل قواها عن الإبداع. فهو منهج يقوم على امتصاص طاقات المقاومة لتيار التغريب داخل الأمم المغلوبة وإفراغ مخيلتها ومخزونها الثقافي من الإيمان بذاتها والاعتزاز بهويتها ومقوماتها الحضارية.

إن ظاهرة تنامي مجتمعات الهجرة والتعدد العرقي والديني تسير ضد تيار نمطية العولمة، التي عملت على طمس الهويات الجمعية وإذابتها ضمن الهوية الغربية الواحدة ادعاءً بنهاية زمن الأمم وبداية وحدة الهوية العالمية تحت خيمة رأس المال وسلطة اقتصاد السوق. ليست هذه الظاهرة إذاً نتيجة إرادية ومدروسة، لا من قبل الغرب ولا من قبل باقي الأمم والثقافات المعاصرة. ولا تعبر هذه الظاهرة عن وحدة مجتمعية أو أنموذج في التعددية الثقافية، إنما هي عبارة عن تداخل وتراكم عرقي وثقافي فرضه تطور الحاجة إلى التبادل بين الأمم، حاجة إلى التوسع وبسط النفوذ من جهة الغرب، وحاجة إلى اللجوء إلى الأمن والكفاف من جهة باقي شعوب العالم.

إن غياب الفكرة الموجهة أو القادرة على استيعاب هذه الظاهرة وتحويلها إلى أنموذج في الاعتراف بالهويات الجماعية الأقلية، أمام مصادمة الغرب لهذا المطلب الجديد الذي يعم أرجاء العالم وليس عالمه فحسب، يجعل منها ظاهرة حساسة قابلة للاستعمال المصلحي من الغرب أو التصدع في مواجهة أبسط الاختبارات في تقنين التعايش بين الجماعات المختلفة.

فعلى الرغم من أن تطور الهجرة الفردية إلى الغرب نحو تشكل وحدات جماعية عرقية وثقافية بل وحتى دينية، يمثل إكراهاً جديداً وتحدياً خطيراً على الحداثة الغربية الأحادية، غير أن طبيعتها القهرية غير الإرادية تجعلها سهلة الاستعمال من الغرب ذاته، لحجب نمطيته وتنميق صورته التعددية في العالم، التي باسمها وباسم وحدة شعوب العالم يستزيد ويضاعف من إمكاناته على التحكم في مقدرات العالم. كما أنه ليس من قبيل المفارقة أن يرافق هذا التنامي لمطلب الاعتراف بالهجرة الجماعية تنامي في ظاهرة التطهير العرقي والديني، أو نزعات الاستعلاء العنصري سواء داخل الغرب أو خارجه.

فتعدد الهويات الجماعية ليس وليد تطور فكري، وبلوغ نضج إنساني، وقد يكون أحياناً من مصلحة الغرب ذاته تغذية انحرافاته وتفجراته لتيسير ترويج أسلحته وتجربة نجاعتها، أو للبرهنة على ضرورة الالتفاف حوله لإنقاذ مصير العالم من الدمار. ثم إن الفراغ الكبير في التداول الفكري لقضية الاعتراف بالهوية الجماعية للهجرة بين المؤمنين بها لا يساعد في بلورة المناهج والنظريات المستقبلية البديلة عن نظم الحداثة المعرفية والمؤسسية الغربية العاجزة عن استيعاب مثل هذا التطور في نمط الهجرة.

«إن نمط التعايش السلمي في أزمة»([2])، هكذا عبر الفيلسوف الأمريكي «فالزير» عن مخاوف المفكر الغربي تجاه مستقبل مبدأ التسامح بين الشعوب الذي تعتبره الحداثة الغربية «الإطار الأنسب لنمو التعددية الدينية والعرقية»([3]).. كما أن مجتمع ما بعد الحداثة سيكون – كما يرى الفيلسوف الإنجليزي لوك - مجتمع الاعتراف بالفرد فقط، فما هو فردي هو إنساني. والعالم سيكون تجمعاً للغرباء، حيث لا هوية حتى للفرد، حسب استشراف الفيلسوف وعالم السياسة الكندي «تايلور»([4]).

لا نتصور في واقع الأمر أن هناك أزمة في التعايش بين الشعوب ومؤسسات مجتمعاتها المدنية، فموجات مناهضة تغول أجهزة عولمة السوق من أجل كبح جماح أولوية الرأسمال الاقتصادي على الرأسمال البشري، تحمل إجماعاً داخل الشعوب يتخطى جميع الفوارق المرجعية الثقافية والدينية. إن أنظمة الربح التي تقود مصير العالم اليوم هي التي تواجه مأزقاً حقيقياً في قبول تطور المجتمعات الإنسانية من مجتمعات الهوية القومية الواحدة إلى مجتمعات الهوية المتعددة الثقافات، هوية مجتمعات الهجرة المتنامية داخل الغرب وفي أرجاء كثيرة أخرى من العالم.

إن غاية أنظمة العولمة من وراء خرق الحدود والتحجيم من المسافات والتسهيل في الاتصال لم تكن وحدة الشعوب والتقريب بين مطالبها والاتساق في طموحاتها، إنما عكس ذلك تماماً. فالرأسمال البشري كان وما يزال أداة لتحقيق الربح المادي وليس غاية ولا معيارية في تصور القيمة.. وتسهيل التواصل داخل الرأسمال البشري غاياته سهولة تناقل السلع وليس القيم.

لقد شكلت المثل الإنسانية في الديموقراطية وحقوق الإنسان التي نصبها الغرب على مدخل مدينته للمهاجرين من أطراف العالم المتعددة، مجرد آليات تضمن نمطية النموذج الغربي في تحرير القيم والاقتصاد، بهدف فرض هذا الأنموذج على العالم كله. فكلما ارتفع صوت معارض أو مشكك في صلاحية الأنموذج الغربي إلا وقوبل بالإقصاء باسم «لا ديموقراطية لأعداء الديموقراطية»، و«مقاومة الإرهاب»، و«معركة العالم المتحضر ضد العالم الهمجي».

وتحت هذه اللافتات قامت «أنوار» الثورة الفرنسية على الإبادة الجماعية لرجال الدين؛ ومن وراء حجاب التسامح خطت الحملات الصليبية مآثر مجازرها في العالم الإسلامي؛ ومن تحت مظلة الغفران تمرر المشروع الصهيوني في القدس الشريف؛ وباسم التقدم واللحاق بركب الحضارة فرضت مناهج التغريب على الوافدين من بلدان الجنوب والمتطلعين إلى دراسة الحضارة الغربية، وأحكمت قبضة التبعية على أنساق مجتمعاتهم الأصلية.

فحضارة الغرب المعاصرة غير مهيأة فكرياً واستراتيجياً لاستقبال ظاهرة مجتمعات الهجرة الخارجية داخلها، فهي حضارة قامت أساساً في وجهيها الأمريكي والأوروبي على الهجرة الداخلية الغربية/الغربية، وفرضت على الهجرة من خارجها، الإسلامية والإفريقية والآسيوية، ضوابط مرجعيتها من خلال آليات قوانينها ومؤسساتها «الديموقراطية».. ولكنها الديموقراطية التي لا تكفل سوى حقوق الفرد داخل نمط المجتمع الواحد، وليس من مشمولاتها ضمان حق الجماعات التي تستند إلى مرجعيات مختلفة وربما متناقضة حيال مرجعية الغرب في فهم التعدد والحرية.

من ثم فإن مشكلة التعايش بين الجماعات المهاجرة داخل الغرب، وحتى خارجه - إذا اعتبرنا العالم قرية صغيرة بمنظور العولمة الغربية، يسودها نظام عالمي غربي واحد - ليست مشكلة تواصل بين الشعوب يمكن أن تعالج بوضع آليات للحوار بين الأديان أو بين الثقافات، بل هي مشكلة عجز عن إنتاج فكر إنساني تعددي جديد يجيب عن تحديات مجتمعات ما بعد الحداثة، المتعددة الثقافات.

فالحوار ليس مجرد آلية في التواصل، بل هو ذهنية حضارية شاملة تعبر عن وعي وحس وتقاليد مشتركة بين أطراف الحوار. ولا تكفي في إنجازه العزائم الصادقة، أو يتوقف على اتخاذ القرار الحاسم، فهو مرحلة من الوعي الجمعي بقيمة اختلاف الهويات الثقافية في كينونة الحضارة وصيرورتها، بلغها الإنسان مع أوج الحضارة الإسلامية، في حين يقف الغرب اليوم وهو يتخذ منعرجاً خطيراً في تاريخ حداثته، مرتعش اليدين، مذهولاً أمام سؤال موت الإنسان ونهاية التاريخ.

فلا معنى لحوار حضاري دون مضمون لهذا الحوار، ودون أطراف متوازنة داخله، وإلا تحول إلى مسرحية تكرر زمن وهم القيمة الغربية الواحدة وعلو حضارتها. ولا وجود فعلي ضمن هذه الصورة لا لحالة حوار، ولا لحالة صراع بين عالم الغرب وعالم الهجرة إليه، للانفصال الكامل في طبيعة عالميهما رغم انتسابهما لوهم القرية الكونية؛ ولأن الغرب ما يزال مصراً على الهيمنة الكاملة التي تقضي على أي هامش للاختلاف الذي هو قاعدة الحوار أو الصراع.

في هجرة العقول الإسلامية:

يسود الخطاب الإسلامي في تقييم الهجرة عامة وهجرة العقول الإسلامية خاصة نزعة رثائية، تحوم حول فكرة ضياع هذه الطاقات عن خدمة المسلمين، والتساؤل عن تدارك هذه الخسارة من خلال مد الجسور بينها وبين العالم الإسلامي. وهو خطاب يحمل الهجرة محملاً ضعيفاً ولا ينظر إلى أبعادها الحضارية، فضلاً عن كونه لا يستند إلى مرجعية إسلامية واضحة في تحديد مفهوم الانتساب للأمة الإسلامية، الذي يتجاوز حسب منطوق هذا الخطاب، الحدود التي وضعها الفكر السياسي الغربي لمصطلح العالم الإسلامي الجغراسياسي.

إن عالم الإسلام لا تضيقه الحدود المصطنعة، فـ ((فَأَيْنَمَا تُوَلُّواْ فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ))، و«جعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً» (حديث قدسي). ومقتضى التكليف الإنساني هو عمارة الأرض كلها، شهادة على الناس وخلافة لله. وأمة الإسلام هي أمة دين الفطرة، أي أمة الإنسانية جمعاء. ومن ثم كانت خيريتها مشروطة بخروجها للناس ودعوتها فيهم، قال تعالى: ((كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ)) (آل عمران:110).فهي أمة خارجة، أي تحمل الخصائص الإنسانية الجامعة، وليست أمة قومية محدودة جغرافياً وسياسياً، ولا حتى فكرياً، بالمعنى المتداول في الفكر الغربي. إن رابطة الأمة في المرجعية الإسلامية هي العقيدة، إيماناً بعلوية القيم الإلهية وبمسؤولية الإنسان الكونية، فهي رابطة واعية لا تخشى الذوبان أو التصدع، ولا تلجأ إلى التحوط بنصرة العامل القومي والمصلحي.

إن مأزق الغرب في الاعتراف بالهويات الجماعية مرجعه حدود رابطته الضيقة وغير الواعية. فهي تقوم على الانتساب إلى الأرض ونظم تحقيق المصلحة التي تعبر عنها المؤسسات والقوانين والأعراف. من هنا كان تقسيمه للعالم ولخارطة الحلفاء والأعداء، وعلى هذه الخلفية الفلسفية ظهرت مصطلحات الدولة القومية، ودولة القانون، إلى بروز دولة العولمة التي لا تترجم عن مشروع عالمي منفتح بل تكرس خضوع رابطة الدولة لرغبات السوق. فهي دولة الانفتاح على السوق لا على الشعوب.

إن المعادلة الصعبة في تضمين الهجرة الإسلامية أصولها وفلسفتها المتميزة هي في تحويل هجرة السوق التي صممها الغرب الحديث إلى هجرة الرسالة المستنبطة من التصور الإسلامي لمستلزمات الرابطة الإنسانية، وفي الانتقال من هجرة/تهجير الفقر والظلم إلى هجرة الإرادة والدعوة، دون أن يمس هذا التحول من مشروعية الهجرة الحديثة ويفضي إلى قطيعة مع الغرب وثقافته، أو يجنح بالتصور الإسلامي إلى عالم المثل الذي لا قابلية له بالتحقق.

إن تحرير السؤال عن كيفية استفادة العالم الإسلامي من عقوله المهاجرة، من خلفيات ضيق الانتماء لهذا العالم وهيمنته، إلى سعة الانتساب لأمة الدعوة والرسالة، يقود إلى الوعي بأن ديار الغرب بالمفهوم الجغراسياسي هي نقطة مركزية في توجيه مستقبل للنهوض لأمة الإسلام، بالنظر إلى احتكارها لأدوات التحكم، وبالنظر كذلك لتنامي الوجود الإسلامي، كماً وكيفاً، في هذه الديار.

لقد نجح الغرب في استقطاب الطاقات الفكرية للعالم كله. فهو يشرف بعلومه ومناهجه ومؤسساته على تكوين وتأطير وتوجيه أغلب طاقات دول الجنوب، داخل فضاء البلدان الأكثر تصنيعاً. فحوالي90% من العقول المهاجرة في العالم تختار الغرب وجهة للاستقرار.

وتمثل هجرة العقول الإسلامية أضخم هجرة متأتية من دول الجنوب. فعلى صعيد العالم، تأتي هجرة الطلبة من المغرب في المرتبة الثانية بعد الصين، وفي فرنسا مثلا يشكل الطلبة المهاجرون من أصل بلدان المغرب العربي أكثر من نصف مجموع الطلبة الأجانب. وتستوعب مؤسسات الغرب البحثية حوالي70% من الباحثين ذوي الأصول الجنوبية، خاصة بعد انهيار الاتحاد السوفيتي وانفراد كتلة الغرب الليبرالي بالموارد البشرية النوعية في العالم([5]).

وضمن اقتسام مناطق النفوذ، تتجه أمريكا إلى استيعاب الطلبة والباحثين القادمين من آسيا والشرق الأوسط، في حين تواجه فرنسا بدرجة أكبر خصوصيات القادمين من العالم العربي وخاصة بلدان المغرب العربي وسوريا ولبنان، وتكاد تنفرد ألمانيا بالتعامل مع العقول الإسلامية التركية إضافة إلى مناطق عديدة من أوروبا الشرقية.

وقد يتوقع أن يكون في المستقبل أغلب الباحثين الفيزيائيين والمهندسين المستقرين في ديار الغرب من أصل مناطق الجنوب، على الرغم من أنه مع دخول أوروبا تجربة وحدتها الاقتصادية والنقدية، وفتح حدودها الجمركية بينها، بدأ الاهتمام يتجه نحو تشجيع تبادل الخبرات بينها، ومعادلة الشهادات والتنسيق في المقررات بين جامعاتها ومؤسساتها التعليمية العليا.

قد تحمل العقول الإسلامية المهاجرة معها خلفية حضارية شاملة ولكنها تتكبد ثقل مسؤوليتين، الأولى تجاه أوطانها الأصلية وتجاه مستقبل نهضة أمتها الإسلامية، والثانية تجاه الوجود الإسلامي في الغرب. تضاف إلى ذلك عوائق الاندماج في المؤسسات الغربية، التي تعود في معظمها إلى إرادة هذه المؤسسات في فرض مشروطية من جنس ثقافي تصادم بها الهوية الإسلامية، وربما تصادر بعض تجلياتها التي يمكن أن تربك مبادئ العلمانية الغربية من مثل أداء الصلاة وارتداء الحجاب وصوم رمضان. إن توزع معركة المثقف المسلم في الغرب بين هذه الجبهات الثلاث: تخلف عالم الإسلام، وهامشية الوجود الإسلامي في الغرب، والضغوطات التي يواجهها من قبل مؤسسات الغرب، يفرض عليه عدم التوقف عند امتلاك الخلفية الإسلامية فحسب، فهي تستلزم مشروعاً حضارياً شاملاً ورؤية استراتيجية عميقة لأولويات النهوض الحضاري للأمة، ولدور الوجود الإسلامي في هذا النهوض، وإسهام المثقف فيه.

ولعل نمو سرعة وسائل الاتصال ودقتها، مع زمن العولمة المعلوماتية سيمهد السبيل أكثر أمام العقول الإسلامية المهاجرة للقيام بدور الناقل الوسيط لأوطانها، ولفرض توجهات حقوقية وتنموية أكثر قسطاً ونجاعة في العالم الإسلامي. كما سيسمح لها باتساع أفق أكبر في الاستفادة من التجربة الغربية وفي تعميق منهج المقارنة في تصور مدارس الغرب ومحصولاته.

إن وزن أمة ما إنما يقاس بصفاء عقيدتها، وعمق عقلانيتها، وشمول مشروعها في الوجود. وإن المخزون البشري العلمي هو منطلق التجلي الحضاري لهذا الوزن، فمن غير الوعي بقيمة دوره الريادي لن يتحقق للهجرة تقدم نوعي.

إن وتيرة جفاء مستمرة تحكم علاقة نخبة الوجود الإسلامي في الغرب بقاعدته، شبيهة بصورة الفراق والتوتر السلبي الذي يقود مجمل علاقة هذه النخبة بأنظمة أوطانها الأصلية وأنساقها. ولئن بدا لنا الميل إلى تفسير ذلك بضعف في الوعي العام بأهمية الاستفادة من العقول المهاجرة وضعف في وعي هذه النخبة بجدوى الإفادة من معارفها وتجربتها، فإن المستفيد الوحيد من هذه العلاقة المرضية هو الغرب ومؤسساته التغريبية التي من مهامها الأساسية ملاحقة ضعف حس الانتماء للهوية لدى العقول المهاجرة الإسلامية، قصد التأثير على إرادتها في الانخراط في قضايا الأمة وعلى مناهج تفكيرها وتصورها للقيمة.

إن المسؤولية كبيرة في تحويل الزخم الهائل من الطاقات العلمية والفكرية الإسلامية في الغرب إلى مؤسسات متخصصة، بالمعنى الجديد للتخصص المتعدد المقاربات، وفي إيجاد المؤسسات البحثية الوسيطة لخدمة المؤسسات التنموية الإسلامية العامة، سواء داخل ديار الغرب أو في أوطاننا الإسلامية الأصلية.

لقد تطورت رؤية الغرب لدور المثقف، من موقع الفيلسوف المنظِّر من وحي صورة فلاسفة الأنوار، والعالم المخبري من وحي نماذج النهضة العلمية والتقنية مثل «باستور» و«اينشتاين»، إلى المثقف العضوي «لغرامشي» من خلال دور جماعات الضغط ومراكز التفكير (Think Tanks). ولعلها المفارقة أن يتواصل السؤال داخل المجتمع الإسلامي حول مشروعية دور المثقف، ونحن ننتمي لأمة العلم، عقيدة وتاريخاً، وكان لنا شأن كبير في ترسيخ تقاليد السفر والترحال العلمي بين شعوب العالم، بكل أديانه وطوائفه، في ظل القرون الطويلة من إشراقة نهضة المسلمين على العالم.

لقد اعتاد الخطاب الإسلامي مناشدة نهضة عامة المسلمين، دون الالتفات الكبير إلى خاصتهم، على اعتبار أنها المعنية بريادة هذه النهضة والأكثر تأهلاً لها، ولكن هذا الفهم هو عكس منطق الأشياء؛ لأن مشكلات تشتت طاقات الأمة تعود بالأساس إلى طبيعة عقولها المفكرة، التي يفترض أن تقود تربية الأجيال وتغيير نمط التفكير ونسق الحياة الباليين. إن الوعي بخطورة وحساسية العقول الإسلامية المهاجرة في ترشيد الساحة الفكرية الإسلامية، هو بداية إسهام حضاري فعلي للمفكر المسلم في معركة التغيير.

من الهجرة إلى المواطنة:

انتقال هجرة المسلمين نحو الغرب إلى مواطنة، وعلاقة هذه المواطنة الجديدة بمشاعر الوطنية تجاه العالم الإسلامي، وعلاقتها بالهوية، وتداخل وضع المواطنتين، كل هذه زوبعة من نماذج لأسئلة حساسة تمر بها تجربة توطين الهجرة الإسلامية في الغرب، وتطبع خطابها وخياراتها. هناك إجماع لدى المحللين والدارسين حول تصاعد الخط البياني للمهاجرين المسلمين الحاصلين على الجنسيات الأوروأمريكية. ففي فرنسا مثلاً حوالي 40 % من الجالية المغاربية يحصلون على الجنسية سنوياً، في حين يفوق الذين هم دون سن الرابع عشر من هذه الجالية 40 %، وذلك يعني أن مستقبل المواطنة الفرنسية من أصول إسلامية واعد، رغم ما يمكن أن يوحي به تصاعد النزعات العنصرية من ضعف الوجود الإسلامي وتراجع ميزان قواه.

لقد تطورت هجرة المسلمين إلى الغرب من هجرة مؤقتة إلى هجرة دائمة، ثم إلى مواطنة، ولا يمكن أن نعزو ذلك إلى إرادة ذاتية فحسب، فتهاوي نسبة النمو السكاني من الغربيين الأصليين دفعت نحو سياسة تسهيل عملية التوطين. كما لا يمكن أن تحجب معاينة هذا الاتجاه التوطيني عمق الهواجس النفسية والفكرية التي تعتمل جوارح المسلمين بالغرب، والتي تدور في فلك السؤال عن التعايش بين هويتي المواطنة الأصلية والغربية. فليس مبعث الحرج الذي أخر الكثيرين عن التوطين هو خيال المجازر الدامية التي صمم لها الحضور الغربي الاستعماري ونفذها في ديار الإسلام فحسب، بل هي مشكلة فكرية حضارية شاملة تتصل بمفهوم الانتماء والمواطنة والوطنية، التي ساهمت كثيراً في غياب تصور استراتيجي لتوطين الإسلام في الغرب.

لقد واجه التصور الإسلامي المعاصر إشكالية المعادلة بين الانتماء لعالمية الإسلام والولاء المطلق له، وبين العصبية أو الحمية القومية التي نطلق عليها وطنية، بالمصطلح المعاصر. فحين عرف أبو الأعلى المودودي مهمة المسلمين المعاصرة بأنها «مهمة عالمية، خلاصتها العمل بكافة الطاقات الأخلاقية والذهنية والمادية لتنفيذ قانون الفكر والعمل، الذي أسنده الله إلى محمد عليه الصلاة والسلام»([6])، كان لسيد قطب فهماً إطلاقياً لها، فهدف الإسلام في تصوره «لم يكن تحقيق القومية العربية، ولا العدالة الاجتماعية، ولا سيادة الأخلاق، ولو كان الأمر كذلك لحققه الله في طرفة عين، ولكن الهدف هو إقامة مجتمع الإسلام الذي تطبق فيه أحكام القرآن تطبيقاً حرفياً، وأول هذه الأحكام أن يكون الحكم نفسه لله»([7]).

إن مثل هذه المنطلقات المثالية في تصور الولاء لله ورسوله، التي تصادر في مدلولها ضمناً الولاء لعشيرة وأهل وموطن، إنما صنعت منهجاً صدامياً بين الانتساب للأمة والانتساب للوطن، أدخل تجربة الإصلاح الإسلامي المعاصر في معارك وهمية وجدل عقيم أخرجها من سنن التاريخ لفترات طويلة. فلقد فهمت المعركة الحضارية الإسلامية المعاصرة منذ فكر النهضة فهماً شمولياً، إذ تحرير الأمة من تخلفها يقتضي تحرير أوطانها من هيمنة المستعمر وقبضة تبعيته.

غير أن تنامي مقولات القومية العربية بالمعنى الشعوبي، والقوميات \\\"القطرية\\\" و\\\"الإقليمية\\\"، وحتى العرقية الضيقة التي تعتمد في معظمها العلمانية الغربية مرجعية وإطاراً للتفكير، والتي يفترض مصادمتها لثوابت الدين في وجوه مختلفة، كل ذلك أدخل مجالاً متمدداً في الفكر الإسلامي في جدل «العالمي» و«الوطني» ألهاه كثيراً عن إدراك تطور وتعقد مهمة التغيير الحضاري في أرجاء أوطاننا أمام تغول العالمية الفعلية للغرب. فمن قبيل المفارقة مواجهة عالمية التحكم الغربي بعالمية الأماني التي سادت الخطاب الإسلامي.

إن بسط النفوذ العالمي للغرب هو مرحلة متقدمة بعد مرحلة البناء الداخلي الوطني الذي رسخه من خلال إقامة أنظمته الديموقراطية وإنجاز تجاربه العلمية والتكنولوجية وتهيئة اقتصادياته المحلية للاضطلاع بدور دولي. لقد أدرك جمال الدين الأفغاني قيمة المعادلة الوطنية لمواجهة التغريب، «فلا جامعة لقوم لا لسان لهم، ولا لسان لقوم لا آداب لهم، ولا عز لقوم لا تاريخ لهم، ولا تاريخ لقوم إذا لم يقم منهم أساطين تحمي وتحيي آثار تاريخها فتعمل عملهم، وتنسج على منوالهم. وهذا كله يتوقف على تعليم وطني، تكون بدايته الوطن، ووسطه الوطن، وغايته الوطن»([8]).

إن الفهم الإسلامي للوطنية يقوم على رابطة روحية عميقة، عنوانها العقيدة، وفلسفتها الاستخلاف، فتطبيقاته سواء ضمن جغرافية الغرب أو جغرافية العالم الإسلامي تتنزل ضمن مرجعية واحدة للجغرافية، وهي أن الأرض كلها لله. من هذا المنطلق تحرر تيار «الوطنية الإسلامية» الذي ساد فكر النهضة من عقدة الخوف من الروابط القومية «فواجب أن يعمل الإنسان لوطنه، وأن يقدمه في العمل على سواه.. وواجب أن نعمل لإحياء الوحدة العربية وتأييدها ومناصرتها..باعتبارها الثانية في النهوض..وواجب أن نعمل للجامعة الإسلامية، باعتبارها السيادة للوطن الإسلامي العام..ولا تعارض بين هذه الوحدات بهذا الاعتبار، كل منها يشد أزر الأخرى ويحقق الغاية منها»([9]).

حين سئل الرسول صلى الله عليه وسلم أن «يا رسول الله : أمن العصبية أن يحب الرجل قومه؟، أجاب: لا، ولكن من العصبية أن ينصر الرجل قومه على الظلم»([10]). فليست العصبية منبوذة بذاتها، وإنما هي مشروطة بصلاحها وعدلها وخيريتها الإسلامية، بل وقد تصبح بهذه المعيارية من صفات الأفاضل الأخيار استناداً إلى الحديث الشريف : «خيركم المدافع عن عشيرته ما لم يأثم»([11]). إن ارتباط المسلم المهاجر بالمواطنة الغربية قد تحركه دوافع الغيرة على حقوق جماعته المسلمة، ولكنه لن يكون له وزن وتأثير ما لم يرتكز على البعد الإنساني للهوية الإسلامية: «الناس بنو آدم، وآدم من تراب.....»([12]).

فخلفية رباط الأخوة الإنسانية هي التي يجب أن تقود الرغبة في تقديم الأنموذج الإسلامي الرائد في أخلاق المواطنة، فهي خلفية الدعوة إلى الإسلام، دين الفطرة وخطاب التوحيد الذي أجمعت عليه دعوات الرسل: (( وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِى كُلّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ اعْبُدُواْ اللَّهَ وَاجْتَنِبُواْ الْطَّاغُوتَ )) (النحل:36).

إن رسالة مواطنة المسلم في الغرب هي رسالة عالمية الإسلام وإنسانيته. ففي عقد المواطنة الذي يصله بالغرب صورة حية وعميقة لعالمية رسالة الإسلام، التي لا تؤمن بغير حدود الله وضوابطه في التعامل مع الحدود العرقية والثقافية والجغرافية المصطنعة، التي وضعها الإنسان.

ولا تعارض بين أن يذود المسلم عن حرمات موطنه الأصلي ووطنه الجديد طالما في فعله نية في الصلاح وفكرة في الإصلاح الإنساني، تنبني على فهم حضاري إنساني للانتماء الوطني. إن حالة التمزق التي يمكن أن تعتري الهجرة الإسلامية في الغرب بين الالتزام بمشكلات العالم الإسلامي، والإسهام بالأنموذج الإسلامي، والنهوض والارتقاء بمكانة الإسلام في الحياة الغربية، يعود إلى خلل في تصور وحدة الانتماء لحضارة الإسلام.

فالانتماء لدائرة الإسلام في لحظة تاريخية معينة، ليس هو انتماءً بسيطاً وسطحياً لدائرة جماعة فرقية أو قومية شعوبية وعرقية، أو حتى جزء جغرافي من العالم اصطلح عليه الغرب بعالم الإسلام أو العالم الإسلامي، إنما هو انتماء لدائرة الأمة المركبة، أمة الرسالة، أي أمة المسلمين، وأمة الدعوة، أي باقي الإنسانية التي ندعوها إلى الإسلام، والتي نعتقد في سلامة فطرتها وجبلتها الإسلامية. فالهجرة هي مرحلة ضرورية في الدعوة من أجل أن يتسع أفق أمة المسلمين نحو أمة الإسلام، أمة البشرية جمعاء.

نحو خطاب حضاري بديل : ملاحظات ختامية

لم تكن دوافع الهجرة الإسلامية نحو الغرب ومنطلقاتها اختيارية في عمومها ، فهي وليدة إكراهات عدة محلية ودولية، بحثاً عن الرزق والأمن والرفاهية، وتلبية لحاجات الغرب في دعم موارده البشرية وتغطية عجز نموه السكاني. أما الوجه الاختياري في هذه الهجرة فمدخله الأساس ومقتضاه هو السنة التاريخية، التي أشار إليها «ابن خلدون» في مقدمته حول ولع المغلوب في الاقتداء بالغالب، وهو ولع يتنزل في عالمنا اليوم ضمن حضارة الغرب، طلباً للمعرفة والعلم، أو استفادة من التجربة التقنية والمؤسسية، أو انبهاراً بالتجليات الشكلية في العادات والذوق.

والوجه الإرادي في مشهد الاختيار هذا ضعيف، لكونه يفتقر إلى رؤية ذاتية في تصور الهجرة تحصنه من مزالق الذوبان والانصياع لإرادة الغالب. فبمثل ما هاجر إلينا الغرب «مستشرقاً»، دارساً لحكمة تراثنا الإسلامي، فإن عالم الإسلام اليوم يمتلك الطاقات البشرية الكاملة للهجرة العلمية الدراسية للغرب، ضمن مناهج يستنبطها في نقد العلوم الاجتماعية، أو النقد التاريخي، أو الأدبي، أو الأديان المقارنة، أو ضمن إطار ما يعرف «بالاستغراب» في مقابل «الاستشراق».

قد لا يكون مجدياً مقابلة استغراب \\\"إسلامي\\\" باستشراق \\\"غربي\\\"، لاختلاف المنطلقات الفلسفية والأخلاقية الإسلامية عن الغربية، وإلا فسنحدث نمطاً تغريبياً جديداً في دراسة الغرب. ولن تكون محاولاتنا في نقد الغرب سوى إنتاجاً لنسق تقليدي جديد، فضلاً عن أن منهج الاستشراق، المزيج بين التاريخي والإنثروبولوجي والثيولوجي، لم يعد يفي بحاجة مناهج البحث الحديثة التي تعتمد الدقة في المقاربة، وتتبنى مناهج العلوم الاجتماعية في دراسة تراث الإسلام، وهو ما يفسر تنامي علماء الاجتماعيات المتخصصين في دراسة الإسلام، من مثل «بورجا» و«آتيان» و«سيزاري» وغيرهم.

وليس الغرب كوماً من الأيديولوجيات والمواقف يسهل دحضها بتصورات فكرية بديلة، فهو معنى حضاري يحوي فلسفات وعلوم وأنساق من التفكير مركبة، لا يمكن أن يُواجَه إلا بمشروع حضاري متكامل ومركب كذلك، ينظر إلى الأبعاد المختلفة في تأسيس الحضارة، النفسية والعقلية والروحية، ويجعل الهدف الأسمى له بناء الأجيال قبل بناء الأبطال، وبناء المدنية في أوسع وأدق مؤسساتها قبل النماذج المثالية التجريبية المصغرة، التي برعت الحركات الإصلاحية المعاصرة في الترجمة لها.

إن البشرية وهي تمر بمنعرج مقولات \\\"موت الإنسان\\\" و\\\"نهاية التاريخ\\\" لفي أمس الحاجة إلى بديل حضاري قابل للدراسة بلغة العصر، وقابل للفهم بمناهجه وأدواته، يستطيع أن يوازن بين حاجات الروح وإبداع العقل ومتطلبات الواقع. وإن الفكر الإسلامي بما يمتلكه من ميراث ومحصول حضاريين هائلين قادر أن يتطور من فكر جماعي ومذهبي وفرقي ضيق نحو فكر يخاطب الإنسانية جمعاء، يتجاوز عقد الخوف من الغرب ومن حداثته، أو عقد التعالي عليه والتحقير من شأنه، نحو إدماج قضاياه ضمن القضايا الرئيسة التي تستلزم ردوداً عميقة. فالخطاب الإسلامي لا يزال يتكبد وقع الصدمة الحضارية التي خلفها الاكتساح الغربي الشامل، التي ألزمته مراوحة ذاته طيلة القرون الثلاث الأخيرة لنهضة الغرب الحديثة.

ثم لا بد أن ندرك أن لا سبيل لخطاب دعوي معاصر فاعل داخل الحدود الجغرافية للغرب أو خارجها لا يستطيع أن يكون حجاجياً ومجادلاً بالتي هي أحسن، بالمعنى القرآني، إن هو لم يجب عن تحديات الحداثة ولم ينخرط في تساؤلات ما بعد الحداثة. فالجمهور الإسلامي والغربي على حد السواء لا يمكن أن يقنع مستقبلاً بخطاب الطمأنة المتداول بكون الإسلام يمتلك الحل، كل الحل، وأن الحضارة الغربية هي حضارة \\\"المسيح الدجال\\\"، وهي تنذر بعلامات اقتراب الساعة واقتراب أفولها. لقد تأسست جميع مدارس الفكر الأصولي والكلامي والفلسفي والتربوي والعمراني على مناهج المحاججة، التي تفترض صلاحية الفكر الإسلامي للجميع، ولزوم أن يكون خطابه عالمياً مقنعاً، لدى المسلم وغير المسلم، فيكون حينئذ تعبيراً عن فكر ناقد لمذاهب ونحل العصر، ومقارن لها، ومنافح عن الدين ضد أخطارها.

إن زمن العولمة يفرض أكثر من أي زمن غربي مضى تحديات خطيرة على وحدة هوية الخطاب الإسلامي. فالغرب يدرك أن هوية الخطاب الإسلامي الحضاري المتوازن والإنساني قادر على إحراج مقولات حضارته المنهكة قيمياً. ولم تكن نظرية «هنتنغتون» في ترشيح الإسلام لمواجهة مستقبلية مع الغرب ضمن مستقبل التوازنات الحضارية الدولية، مجرد زلة لسان أو افتراض مجنون، بل هو يعبر به عن مخاوف الغرب الحقيقية في أن يحل «شرق» عالم الإسلام محل «شرق» عالم الشيوعية لإحداث مستقبل المعادلة معه، رغم ما يبدو على عالم المسلمين اليوم من وهن تاريخي كامل.

إن زمن العولمة وهو يبسط نفوذه الكامل على جميع أنظمة وشعوب العالم المستهلك والأقل إنتاجاً، ويشل تدريجياً من وحدة مرجعياته الثقافية والدينية، إنما يستهدف أساساً الإسلام؛ لأنه الأقدر على الثبات في وجه تحديات ومحاولات الإذابة والانصهار، وعلى الاستفادة من الضربات، حتى في أقسى تعبيراتها.

فقد يكون الفكر الإسلامي هو المستفيد الأكبر من تحول نمط المجتمع القومي الواحد إلى نمط المجتمع المتعدد الثقافات، باعتبار أن هذا النمط الجديد يتسق تماماً مع فلسفة الاجتماع الإنساني في الإسلام، وييسر مهمة الدعوة ونشر الرسالة، كما أنه الإطار الأمثل لبلورة التصور الإسلامي الحضاري. ولئن كانت غاية عولمة الاتصال هي تسهيل تنقل الرأسمال المادي وتبادله، فإن نتائجه من جهة الشعوب أفضت إلى مزيد من التقارب وتبادل المعلومات والمعارف بينها. فالرأسمال البشري ينافس الرأسمال المادي في احتكار المعلومة، وهذا يمثل خطراً كبيراً على أنظمة العولمة لما نعلمه عن القيمة الاستراتيجية لبنوك المعلومات الدولية التي تحتكرها.

إن فكرة المواجهة بين عولمة الشعوب وعولمة رأس المال إنما تؤكد كذلك مصداقية المقاربة الإسلامية في الإيمان بأولوية أمانة الإنسان الأخلاقية على اعتبار المصلحة المادية ومراعاة مستحقيها والمستفيدين منها. فالقسط بين الناس هو ميزان أخلاقي سماوي، لا غنى عنه في ضبط الحقوق المالية بين الناس.

وكلما اتسع أمام الخطاب الإسلامي المستقبلي أفق الدراسة المقارنة للغرب، اتسع فضاء الثقة بالذات ومستوى القدرة على التعامل مع التراث وإمكانات استشراف غد رائد لأمة الإسلام. فإذا كانت الهجرة الإسلامية المعاصرة قد سبقت الوعي بقيمة «خطاب الهجرة» الضابط لفلسفتها وحكمتها، فإن معركة المواطنة التي تخوضها داخل الغرب تفرض عليها التسلح بالفكر وبعد النظر لانتزاع الحقوق وشرح الأنموذج الإسلامي الجديد، الذي قد تشرق شمسه على العالم كله وعلى عالم الشرق الإسلامي من داخل ديار الغرب.

--------------------------------------------------------------------------------

([1])أخرجه مسلم.

(1) . Michael Walzer, Traité sur la tolérance, Ed. Gallimard, 1998,p.240

(2)Taylor Charles, Multicultiralisme: Différence et démocratie, Ed Flammarion , 1997, p. 130.

(3) المصدر نفسه، 16.

([5]) انظر كتاب \\\"مهجري المعرفة\\\"

Les exilés du savoir, Charles Halary, Ed. L’Harmattan, Paris, 1994

([6]) أبو الأعلى المودودي، الحكومة الإسلامية، ديوان المطبوعات، الجزائر،1986م، ص311.

([7]) سيد قطب، معالم في الطريق، دار الشروق، القاهرة، 1982م، ص188.

([8]) جمال الدين الأفغاني، العربية لسان الإسلام والمسلمين، مجلة الحوار،ع2، فيينا، ص187.

([9]) حسن البنا، مجموعة الرسائل، القاهرة، دار الشهاب، بدون تاريخ، ص88.

([10]) أخرجه ابن ماجه وأحمد.

([11]) أخرجه أبو داود.

([12]) أخرجه الترمذي.

=================

# الظاهرة الغربية في الوعي الحضاري **أنموذج مالك بن نبي

تقديم عمر عبيد حسنه

الحمد لله الذي جعل الفهم والمعرفة للأمور، وحسن الإدراك والتبصر بالمقاصد، والتقدير للعواقب، من بشائر الخيرية وسبل النهوض والارتقاء، وجعل النفرة للفقه في الدين واكتساب المعرفة الميدانية، واكتشاف السنن الفاعلة في الحياة والأحياء، وتوعية المجتمع بقوانين الحركة الاجتماعية والتاريخية، مصدر العبرة والعظة وتحقيق الحذر والوقاية الحضارية، فقال تعالى: (... فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذر ون ) (التوبة:122).

والصلاة والسلام على الرسول المعلم، الذي بيّن أن مناط خيرية الإنسان عند الله الفقه في الدين، فقال: (من يُرِد الله به خيرًا يفقِّهْه في الدين ) (متفق عليه)، ذلك أن الفقه في الدين كسب من الإنسان وتوفيق واصطفاء من الله.

وكان من دعائه المأثور واللافت لعبد الله بن عباس رضي الله عنهما: (اللهم فقِّهه في الدين وعلمه التأويل ) (حديث صحيح، أخرجه أحمد)، فكان ابن عباس ببركة هذا الدعاء، حبر الأمة وعالمها، وأحد منارات فقه الصحابة العظيم.

وبعد:

فهذا كتاب الأمة الثاني والسبعون: (تكوين الملكة الفقهية)، للأستاذ الدكتور محمد عثمان شبير، في سلسلة (كتاب الأمة) التي يصدرها مركز البحوث والدراسات في دولة قطر، مساهمة في تحقيق الوعي الحضاري والوقاية الثقافية، ومحاولة إخراج الأمة المسلمة من جديد، اهتداءً بظروف وشروط الميلاد الأول، لأن نهوض أي مجتمع ومعاودة إخراجه منوط إلى حدٍ بعيد بتوفير ظروف وشروط ميلاده الأول، والتدليل على أن سبب التخلف والسقوط الحضاري إنما أصاب عالم المسلمين بسبب الانسلاخ عن القيم الإسلامية وانكماش الفقه في الدين، لا بسبب الاستمساك بها.

والشاهد التاريخي قائم على أن فترات التألق والإنجاز كانت مترافقة مع الالتزام بشريعة هذا الدين والإيمان بعقيدته التوحيدية والانتماء إلى الأمة المسلمة، وأن الإشكالية الثقافية والحضارية اليوم بالنسبة لعالم المسلمين هي في محاولات دراسة الواقع الإسلامي وما لحق به من إصاباتٍ في ضوء أصول وقيم ومسيرة تاريخية حضارية غريبة عنه، أو بتعبير آخر عن هذا الخلل: قياس واقع مجتمع بأصول وقيم حضارة مجتمع آخر، علمًا بأن الفعل الاجتماعي لا يتكرر، ذلك أن القطيعة الثقافية والتاريخية مع معرفة الوحي، وعدم القدرة على تجريد القيم الإسلامية من قيد التاريخ والجغرافيا، أو من قيد الزمان والمكان، وتوليدها في كل زمان ومكان، هي الإشكالية الحقيقية، وهي سبب المعاناة.

ولعل الفقه الحقيقي هو في امتلاك القدرة على تحقيق المناط -بالمصطلح الفقهي- أو القدرة على تجريد النص من قيد الزمان والمكان، والاجتهاد في تنزيله على واقع الناس، ومعالجته لمشكلاتهم، واستشرافه لمستقبلهم، فقد باتت قولة الإمام مالك رحمه الله المبكرة: (لا يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها )، بعد رحلة التجربة المرة، تكاد تكون مسلمة حضارية.

لكن يبقى السؤال الكبير، الذي ما يزال مطروحًا على مدارس الإصلاح ومناهج المصلحين: لماذا تراجعنا ? وكيف نحقق النهوض ونتحقق بالوراثة الحضارية ? ذلك أننا جميعًا أصبحنا نعبر عن قناعتنا من على منابر متعددة أن الإشكالية هي في الانسلاخ عن الإسلام، فلماذا كان الانسلاخ ? وكيف نضع منهج العودة، ونترسم سبيل الخروج أو الإخراج من جديد؟

أما أن سبب التراجع والسقوط هو في الانسلاخ عن القيم الإسلامية، وأن سبيل الخروج هو في العودة إلى الالتزام بالإسلام، فهو شعار ما يزال يتولى طرحه الخطباء والوعاظ من على منابرهم، فإذا نزلوا عن المنابر عاد كثير منهم مع الأمة إلى مألوفهم ومعروفهم، وكأنهم بطرح هذا الشعار خرجوا من عهدة التكليف.

أما بيان كيفية العودة للالتزام بقيم الدين ورسم الطريق، ووضع المنهج، والاجتهاد في فهم الواقع واستطاعاته، وتحديد موقعه بدقة من مسيرة النبوة وقيام المجتمع الأول المشهود له بالخيرية، والتعرف إلى الأسباب والسنن التي كانت تحكمه، والتبصر بآلية السقوط والنهوض، والاجتهاد في محل تنزيل النص، ومدى توفر الإمكانية المطلوبة لتنزيله وحصول التكليف به، والنظر في المقاصد والمآلات والعواقب والتداعيات لتحقيق الخير في الحاضر، وحسن العاقبة في المستقبل، استجابة لقوله تعالى: (ذلك خير وأحسن تأويلا ً) (النساء:59)، فيبقى مهمة الفقهاء الخبراء والمفكرين والمستبصرين المتمكنين من معارف الوحي ومدارك العقل.

ولعل في بعض الآثار الواردة عن حال تخلف الأمة عندما يكثر الخطباء ويقل الفقهاء، يفسر الكثير من الحال التي نحن عليها اليوم.. فلا أعتقد أن أية أمة تمتلك من المنابر والمحاريب والجمهور المتلقي عن طواعية واختيار، والذي يمكن اعتباره من أعلى درجات الإمكان الحضاري، ما تمتلكه الأمة المسلمة.. لكن تبقى النتائج محزنة، وما ذلك -في رأينا- إلا بسبب غياب الفقهاء والحكماء والمفكرين والباحثين الدارسين القادرين على تحديد مواطن الخلل، ومن ثم وضع منهج الخروج، في ضوء النصوص المعصومة من معارف الوحي.

فالخطيب قد يلهب المشاعر ويثير الحماس ويهيئ الأمة، وذلك قد يكون مطلوبًا في بعض الحالات للتعبئة، لكن الفقيه هو الذي يقوم بدور المعلم الذي يربي العقل ويبصر بالطريق، ويضع الأوعية الشرعية لحركة الأمة، في ضوء الإمكانات المتاحة والظروف المحيطة، ويمتلك دقة النظر في محل تنزيل النص على الواقع.

وقد لا نكون مغالين إذا قلنا: بأنه يصعب علينا في كثير من الأحيان، إذا تجاوزنا تاريخ الزمان وجغرافية المكان، أن نحدد زمان ومكان الكثير من الخطب وأهدافها وجدواها! إضافة إلى أن قضايا الأمة ومشكلاتها لا تعالج بالحماس وارتفاع المنابر فقط، وإنما تعالج بفقه الأسباب ومعرفة السنن، وإدراك علل السقوط والنهوض. واستيعاب الحاضر وتحديد موقعه من مسيرة النبوة لتحقيق الاقتداء الصحيح، وذلك باستشراف الماضي وعبرته، واستبصار المستقبل واحتمالاته وتداعياته.. فليس الفقه الذي نقصده هنا هو في حفظ كتاب وسرعة استذكار مسائل، مع استمرار العجز عن توليد مثال غير مثال الأقدمين، الذي ما يزال يتداول وينقل من كتاب إلى آخر مع تغيير الطباعة ونوعية الورق، وقد يكون هذا متوفرًا للكثير من حملة الفقه اليوم.

لذلك فقد تتحول بعض الخطب والحالة هذه، من تقديم حلٍ إلى صناعة مشكلة، لأنها قد تعبئ الشباب وتجمع الجمهور وتوجههم صوب أهداف كبرى، ومن ثم يغيب الفقهاء عن وضع الأوعية الشرعية والمشروعة لحركة الأمة، وإيجاد المناهج والبرامج والخطط لمسيرتها، فيتحرك جمهور الشباب المتحمس على غير بصيرة وبمجازفات تقودهم إلى تقديم التضحيات الكبيرة التي لا تتناسب مع الإنجازات الهزيلة، أو الهزائم الموقعة في إحباطات قد تؤدي في كثير من الأحيان، وغالبًا عند الذين لا يستطيعون التفريق بين الصورة والحقيقة، إلى شكوك في جدوى القيم الإسلامية وقدرتها على انتشال الأمة، لذلك قد يسهل على أعداء الإسلام استخدامهم كرصيد جاهز للتضحية لتصفية الحسابات بدمائهم، في ذات الوقت الذي قد يتحول فيه الكثير من الخطباء لطرح قضايا جديدة تجمع الأمة وتلهب المشاعر، دون أن نفكر في دراسة أسباب الفشل وعدم بلوغ النتائج لمحاولة استدراكها في مستقبل الأمة.. ويبقى هذا هو عمل الفقيه أو الفقه الغائب.

ولعل من القضايا المهمة والجديرة بالطرح والاستدعاء والمناقشة وتوسيع دائرة الرأي حولها، هي في وضوح أو إيضاح الأهداف التي لا بد أن يُؤهل الفقيه القادر على تحقيقها، وطبيعة المعادلات الاجتماعية الإقليمية والدولية التي لا بد من استيعابها، وما هي الشروط والمناهج المطلوبة للإعداد ? ذلك أن الإنتاج الحالي فيما يلاحظ عليه من تكرار الأنماط الواحدة التي قد لا تخرج في عمومها عن أن تكون نسخًا متحركة من الكتب المتوفرة في المكتبة، أو هي على أحسن الأحوال طبعات جديدة لكتب قديمة، بل لعل الكتب القديمة أكثر حفظًا ودقة نظر.

ونحن هنا لا نرمي هنا إلى وضع الخطباء في مقابل الفقهاء الخبراء، إنما ندعو إلى تكامل الأداء الإسلامي، حيث لا يغني جانب عن آخر، ذلك أن المشكلة كل المشكلة في متحمسين لا فقه لهم ولا خبرة لديهم، وأن الكثير منهم يعيش في عزلة عن واقع الحياة ومعاناة الناس، وقد يعاني من تعطيل الطاقات، أو هو خارج المجتمع.

ولو أدركنا أبعاد العمل الإسلامي المتكامل بشكل سليم ومتوازن، لأبصرنا مواقع الخطباء ودورهم في التحفيز والتحضير، ومجالات الفقهاء ومهامهم في قيادة رشيدة لجماهير الأمة.

وهنا قضية قد يكون من المفيد طرحها والتوقف عندها بما يسمح به المجال، وهي أن من الأمور التي تكاد تكون محسومة على مستوى الفكر والعقيدة والفعل والممارسة، أن الإسلام دين شامل لجميع جوانب الحياة، وأن تشريعه ومنهجه ينتظم الحياة جميعًا، فهو نظام للحياة بكل مجالاتها، هذا على الأقل عند المؤمنين به، وأصحاب النظرة الموضوعية ممن لا يؤمنون به، قال تعالى: (...ما فرطنا في الكتاب من شيء ... )(الأنعام:38)، الأمر الذي يقتضي أن يوجد الاجتهاد ويتولد الفقه الذي ينير الطريق ويبين حكم الله ورؤية الإسلام في شعب المعرفة جميعًا، وفي التطبيقات العملية والفعل البشري، وعدم الاقتصار على الفقه التشريعي القانوني، إن صح التعبير.

ذلك أن غياب الرؤية الإسلامية أو الفقه الإسلامي الشامل عن أي موقع وعدم امتداده يعني وجود الفراغ الذي يسمح بدخول (الآخر)، أو يؤذن باستدعاء (الآخر) ليصنع للناس رؤيتهم، ويضع لهم أوعية ومناهج لحركتهم، وفلسفات لمعارفهم، في مجال التربية والتعليم والاجتماع والنفس والاقتصاد وسائر المعارف الإنسانية. وهذا لا يعني، ولا يجوز أن يعني، خروج الفقه التشريعي من دائرة العلوم الإنسانية، لأنه يقع في الصميم منها، لكنه يبقى' يغطي بعض جوانب نظام الحياة لا كلها.

لذلك نرى أنه لابد من إعادة طرح مفهوم الفقه من جديد والخروج به عن المعنى الاصطلاحي أو المدلول الاصطلاحي، والعودة به إلى مفهومه الشامل، إلى مدلول الفقه الحضاري، الذي يشمل الأبعاد الحضارية بكل فضاءاتها، فيكون هناك مناهج استنباط، أو علوم أصول فقه: تربوي، ومجتمعي، وسياسي، واجتماعي، واقتصادي، ومعرفي بشكل عام، ليغطي جميع شعب المعرفة وجوانب الحياة، ولا يقتصر على الجانب التشريعي فقط.

وعليه يمكن القول: إن آيات القرآن الكريم كلها آيات أحكام، أحكام تربوية، وأحكام اجتماعية، وأحكام سياسية وتشريعية، وأحكام أخلاقية، وليس آيات الأحكام في الحقيقة مقتصرة على ما يستنبط منها الحكم التشريعي.

وبالإمكان القول: إن نمو الفقه التشريعي، والتبحر فيه، وإنتاج هذه الثروة الضخمة التي تفتقدها الأمم الأخرى، وما حققه من الحماية والمناعة التشريعية والعطاء القانوني، يعتبر من المفاخر الثقافية والتشريعية والقانونية والاجتهادية، وأنه إنما جاء وامتد وتولد كثمرة للوجود الواقعي الإسلامي، وأن الدولة والأمة المسلمة في عصورها الزاهرة كانت تتوفر في ظل الإسلام واستقرار نظامه وأحكامه على وظائف المعارف الأخرى عمليًا في المجالات جميعًا ولو لم تفرد بتعاريف ومصطلحات ، لأن وظيفة هذه المصطلحات كانت متوفرة وقائمة، حيث كان المسلمون في موضع العطاء، لذلك لم تكن الحاجة قائمة لفقه مؤسس في المجالات الأخرى.

فوظيفة المصطلح ومدلوله موجودة، وإن غاب المصطلح نفسه. ولعل الإشكالية أصبحت اليوم بوجود المصطلح والجدل حول مفهومه في الحضارة المعاصرة على حساب مدلوله ووجوده العملي.

والحقيقة العملية التي لا بد من تسجيلها أن الفقه التشريعي الذي أنتجه المسلمون من نصوص الوحي، شكَّل ولا يزال الترسانة القانونية والتشريعية أمام الفكر القانوني الوافد المؤيد بالقوة والسطوة والطغيان، ولم يمكن تجاهله في الأنشطة القانونية المختلفة على الرغم من ضعف الأمة المسلمة وتقهقرها، بل نستطيع القول: بأنه كان من أهم مرتكزات الحماية والمناعة الحضارية للأمة.

لذلك نرى اليوم، على الرغم من محاولات تغييب الشريعة عن واقع الأمة، لأسباب وذرائع واهية، من عدم تحضير المجتمع وتوفر مؤهلاته، فإن الفقه التشريعي ما يزال يفرض وجوده وعطاءه واستمراره بقوته الذاتية.

وفي تقديرنا أن دعاء الرسول صلى الله عليه و سلم لعبد الله بن عباس رضي الله عنهما بأن يفقهه الله في الدين ويعلمه التأويل، فأصبح ببركة دعائه صلى الله عليه و سلم وتوجيهه حبر الأمة وفقيه الصحابة، ليكون ذلك قدوة ووجهة لكل مسلم. فإن الفقه في الدين، فيما نلمحه من هذا الدعاء، يعني الفقه الشامل لكل جوانب الحياة شمول الدين نفسه، وأن الجزء الثاني من الدعاء: (وعلمه التأويل)، ليس المقصود بالتأويل هنا التفسير والبيان والاستنباط فقط، وإنما الفقه الاجتماعي والحضاري الذي يدرك السنن الفاعلة في الحياة وتحولاتها الاجتماعية وقانون الحركة الاجتماعية والتاريخية، ويبصر بالمآلات والعواقب والنتائج، التي توصل إليها المقدمات: (وعلمه التأويل).

فالحياة ليست عبثًا، وإنما هي خاضعة لسنن لا بد من إدراكها ومعرفة مدى إمكانية الإنسان المداخلة فيها، ومدافعة سنة بسنة.. والذي لا يدرك السنن ولا يقدر التداعيات ولا يبصر العواقب والتأويل (المآل)، فمن أين له الفقه، ولو حفظ جميع المتون، فإنه لا يخرج عن أن يكون أحد الكتب أو الموسوعات، أو (الكاسيتات) بالتعبير المعاصر.

إن العلم بالعواقب والمآلات وتقدير التداعيات واستيعاب السنن الفاعلة، هو الفقه الحقيقي الغائب اليوم بالأقدار المطلوبة عن حياة المسلمين الفكرية والثقافية، أو ما يمكن أن نطلق عليه بالفقه الحضاري أو الفكر الاستراتيجي.

إن اقتصار مفهوم الفقه على المدلول الاصطلاحي (الفقه التشريعي)، أدى إلى اختزال آيات القرآن والاقتصار على آيات وأحاديث الأحكام، دون سواها من سائر القرآن، وكأن بقية الآيات إنما تنزلت للتبرك ولا أحكام فيها، وبذلك غابت الكثير من الجوانب الحياتية عن مجال الفقه، أو غاب الفقه عنها، ومن أخطرها الفقه الاجتماعي والتربوي، أو فقه السقوط والنهوض، أو ما يمكن نطلق عليه: فقه السنن.

لذلك نرى غلبة المدلول الاصطلاحي على الاستدلال في بعض الآيات القرآنية التي يمكن أن تكون واضحة الدلالة والسياق في المجال الاجتماعي، مثل قوله تعالى: (...فاعتبروا يا أولي الأبصار )(الحشر:2). فقد وردت الآية لتحكي قصة يهود بني النضير في سورة الحشر، وأن ما حل بهم من الإخراج والتشريد كان بسبب ما فعلوه، وخاطب الله المؤمنين بقوله: (فاعتبروا يا أولي الأبصار )، ليكون المسلمون على حذر وعبرة، فلا تنتقل إليهم علل الأمم السابقة، فيحل بهم ما حل بها. ومع ذلك اقتصر الاجتهاد في هذه الآية على استنباط دليل الفقه التشريعي، فكانت أحد أدلة القياس عند علماء أصول الفقه، علمًا بأن دليل القياس التشريعي يعتبر أحد مدلولاتها وليس غاية مقصدها.. فالقضية واضحة أشد الوضوح في أنها دليل أو أصل في الفقه الاجتماعي والسياسي والحضاري، ومع ذلك نجد أن الاستدلال بها ذهب إلى مجال الفقه التشريعي!

ولعل في الإطار نفسه يمكن أن ننظر إلى قوله تعالى: (... فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون )(التوبة:122)، فالفقه في الدين بعمومه وشموله لا يقتصر على الفقه التشريعي، وإنما له شموليته التي يقتضيها شمول مفهوم الدين في الإسلام، وهو ما أطلقنا عليه مصطلح: الفقه الحضاري.. والفقه التشريعي كيان من كياناته.. والتعبير بالنفرة والتعبير بالحذر: (لعلهم يحذرون ) قد يكون أقرب للفقه الميداني والاجتماعي والسياسي والحياتي، الذي يحقق المعرفة من دراسة الواقع وينذر من العواقب ويحذر منها، منه إلى الاقتصار على حفظ النصوص الذي سوف يؤدي إلى فقه الكتب والأوراق، إذا لم يترافق مع النفرة الميدانية الواقعية، خاصة إذا علمنا أن مصطلح النفرة غالبًا ما يستعمل للدلالة على سرعة الاستجابة لداعي الجهاد ودخول الميدان.

كما أن الآية في بعض أبعادها تدعو إلى النفرة للتخصص، والتفقه بكل شعب المعرفة، وربط الإيمان بالعالم: (وما كان المؤمنون لينفروا كافة )، وربط الإخلاص والإيمان بالاختصاص والخبرة، فكل مؤمن عليم وخبير بتخصص من المعرفة هو فقيه ومستنفر لتحقيق الكفاية للمسلمين، وتأمين الحذر لأمته، والتبصير للمسلمين من التخلف والسقوط والوقوع في علل تدين الأمم السابقة التي أدت إلى هلاكها وانقراضها.

وفي ضوء هذا المفهوم الشامل لمصطلح الفقه في الدين -والفقه بالمعنى الاصطلاحي جزء منه- لا بد من إعادة النظر بمناهجنا المدرسية، وكلياتنا الشرعية، وموضوعات رسائلنا الجامعية، وأنظمتنا التعليمية، ومعاهدنا الشرعية، والشروط المطلوب توفرها، والمعارف المطلوبة لتكوين الملكة الفقهية القادرة على إنتاج الفكر والفقه الحضاري، أو العقلية الفقهية، والتقدم صوب شعب المعرفة جميعًا بأصول فقهية معرفية إسلامية في المجالات جميعًا، القادرة على تنزيل معرفة الوحي على واقع الناس، وتقويم هذا الواقع بها، المستبصرة للمستقبل في ضوء المنهج السنني، فسنة الله لا تتبدل ولا تتحول، وهي ماضية في الأمم والأزمان والأماكن جميعًا -حيث لا يخرج الماضي عن أن يكون مقدمة لنتائج وعواقب في المستقبل- فالتأثير في المستقبل وصناعته رهين بكيفية تقويم الحاضر والتعامل معه، ومدافعة قدر بقدر أحب إلى الله.. فالذي لا يفقه السنن لا يتمكن من المداخلة وحسن التقدير المستقبلي.

وليس من قبيل المصادفة -ولا مكان للمصادفة والعبثية في هذا الكون- أن يطلق مصطلح السنة، التي تعني الطريقة المطردة والقانون الناظم الذي يحكم الحياة والأحياء، على ما ورد عن الرسول صلى الله عليه و سلم من قول أوفعل أو تقرير، فالسنة منهج حياة كامل.. لذلك فإن فقه تقويم الحاضر بقيم الدين في ضوء الظروف المحيطة والإمكانات المتاحة يتطلب إدراك السنة أوالمنهج السنني، فلكل شيء سنة، ومن ثم القدرة على وضع الحاضر في موقعه المناسب من مسيرة السنة (السيرة النبوية) للاهتداء إلى كيفية التعامل معه في ضوء هدايات الوحي.

وهذا الإدراك المطلوب لفضاء مصطلح الفقه هو الذي يعيد للحياة انسجامها وتوازنها وضبط نسبها، وللمعرفة تكاملها، ولمعرفة الوحي مكانتها في هداية العقل، ويعيد الوئام بين الدين والعلم، ويحول دون الانشطار الثقافي والمعرفي بين العلم الديني والعلم المدني.

هذا الانشطار الثقافي أوالتعليمي أوالمعرفي -إن صح التعبير- هو الذي حوّل الأوهام والظنون والخيالات وردود الفعل في بعض صور التدين إلى حقائق، فحاصر العقل وعطله، باسم الانتصار للوحي أولمعرفة الوحي، دون إدراك أن العقل مناط التكليف ووسيلة فهم الوحي، وآلية الوحي في الاجتهاد والامتداد والتنزيل.. وهو الذي أخرج معرفة الوحي اليقينية المعصومة بالمقابل من دائرة العلم، فأدى ذلك إلى ضلال العقل وتعطيل عطاء الوحي.

لذلك نرى أن من أبجديات الفقه والاجتهاد إيقاظ العقل مناط التكليف والنظر، واسترداد عقلية الاجتهاد، والتحقق بفقه الوحي وضوابطه، وإدراك مكانته وموقعه من العقل بدقة.

ولعل من الأمور المطلوب التأكيد عليها باستمرار، لتبقى حاضرة في الذهنية الإسلامية، لتمثل الجذوة المتقدة، والهاجس الدائم، الباعث على النمو والارتقاء، ومسوغ التقويم والمراجعة والتصويب، ومحرك التجديد والاجتهاد والتأهيل لحمل أمانة المسؤولية، ما يكاد يعتبر مسلمة من المسلمات المحسومة على مستوى الوحي، مصدر المعرفة المعصومة والعقل معًا، هي أن الرسالة الإسلامية خاتمة الرسالات السماوية، يقول تعالى: (ما كان محمد أبا أحدٍ من رجالكم ولكن رسول الله وخاتم النبيين... )(الأحزاب:40)، وهذه السمة (الخاتمية)، التي تعني فيما تعني توقف خطاب السماء إلى البشر، يترتب على استيعابها والإيمان بها عدة قضايا، تأتي في مقدمتها قضية فقه الخطاب الإلهي -الوحي في الكتاب والسنة- والاجتهاد في تنزيله على واقع الناس المستمر، وتقويم هذا الواقع بقيمه، والامتداد به، لأن النصوص تتناهى والحوادث لا تتناهى، فالاجتهاد والامتداد والاستمرارية من لوازم الخاتمية.

كما أن من مقتضيات الخاتمية وتوقف التصويب والتقويم لمسيرة الحياة من السماء، أن يتم التجديد والعودة إلى الينابيع الأولى في الكتاب والسنة، ونفي نوابت السوء من التقاليد والبدع والمنكرات، وإعادة معايرة الواقع بمعايير الوحي -وهو من عمل العقل المجتهد الذي يتحمل مسؤولية التجديد والتصويب والمعايرة- وعدم التقديم بين يدي الله ورسوله، والقدرة على تجريد النص من حدود الزمان والمكان وتوليده للأحكام في كل زمان ومكان.. وتحديد هذه المهمة والمسؤولية وتحملها ليس اجتهادًا وإنما نصًا يحمل إخبارًا وتكليفًا معًا.

فقول الرسول صلى الله عليه و سلم: (إن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدد لها دينها )(أخرجه أبو داود في الملاحم)، يحمل في طياته الإخبار بالحماية وامتداد العطاء السليم للخطاب الإلهي، حيث لا يصح عقلاً ولا شرعًا مخاطبة الناس وتكليفهم بنصوص منحولة وغير صحيحة، ومن ثم محاسبتهم على ذلك، لأنه من مقتضى المسؤولية سلامة التكليف وضمان حفظه.. كما يقتضي تكليفًا بمداومة التقويم، والمراجعة، والفحص، والاختبار للواقع، ومعايرته بالقيم المحفوظة: (إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحفظون )(الحجر:9)، والتطبيق المعصوم بتصويب وتسديد الوحي -فترة النبوة (القدوة)- حتى لا تحل التقاليد الاجتماعية والعادات محل التعاليم والقيم الشرعية.

وهذا التكليف يقتضي استشعار مسؤولية التجديد والاجتهاد، كما يقتضي استشعار مسؤولية التأهيل لممارسة الاجتهاد والتجديد بصفة دائمة، حتى لا يكون التوقف والاستنقاع الثقافي والحضاري.

ومن مقتضيات الخاتمية أيضًا ولوازمها الخلود.. والخلود -يعني فيما يعني- أن الرسالة الإسلامية خالدة مجردة عن قيود الزمان والمكان، وتمتلك إمكانية الهداية والإصلاح لكل زمان ومكان وإنسان.

وبعبارة أخرى: الخلود يعني أن الرسالة الإسلامية قادرة على إنتاج النماذج القائمة على الحق في المجالات المتعددة، المجسدة لقيم الوحي على مختلف المستويات، القادرة على تقديم الحلول والأحكام الشرعية لكل المشكلات الإنسانية، ورسم المسار السليم في كل زمان ومكان لحركة الإنسان، فردًا كان أو جماعة.. وتحقيق هذا الخلود والامتداد وتوليد الأحكام للحوادث والمشكلات المستجدة، لا يكون إلا بالاجتهاد، الذي يعني إعمال العقل في نصوص الوحي لاستنباط الأحكام، لذلك يمكن القول: بأن التوقف عن الاجتهاد والعطاء وتوليد الأحكام يعني محاصرة الخلود، وتعطيل الشريعة، والسماح بامتداد (الآخر) لمعالجة مشكلاتنا، والحكم بتاريخية الرسالة الإسلامية وعدم خاتميتها وخلودها.

لذلك نرى أن توقف الاجتهاد، أو قفل باب الاجتهاد، على الرغم من أنه اجتهاد غير ملزم، فإنه مناقض لخاتمية الشريعة وخلودها وتجديد فهمها في ضوء معطيات العصر، وتخاذل عن حمل أمانة المسؤولية، والمساهمة السلبية بفصلها عن الحياة من حيث الواقع، مهما كانت دعاوانا عريضة بأن الشريعة خالدة وصالحة لكل زمان ومكان، على مستوى الشعارات، لأننا عمليًا بإغلاقنا باب الاجتهاد مهدنا للوقوع في شرك أعداء الإسلام، وحكمنا بتاريخية الإسلام، وأنه إنما جاء لمعالجة مشكلات عصر معين، انقضى ذلك العصر وانقضت معه الحلول ووسائل العلاج التي لم تعد تصلح، وأن الحياة المعاصرة تقتضي علاجًا آخر مناسبًا لها.

وأعتقد أن مسوغات إغلاق باب الاجتهاد عند من اجتهد في ذلك، سدًا للذرائع بحجة فساد الزمان وانعدام الأهلية، والخوف من دخول الساحة من يحسن ومن لا يحسن، ومن يملك المؤهل والشروط ومن لا يملكها، هو فوق كونه اجتهادًا يلغي اجتهادًا، فإنه محل نظر من الناحية الشرعية، وحكم مسبق على الأمة المعصومة، التي أخبر عنها الصادق المصدوق أنها لا تجتمع على خطأ، بالعقم والعجز، وتعطيل للخلود -كما أسلفنا- وإلغاء للشريعة من مواقع متعددة، وكأن الله الذي أنزل الشريعة الخاتمة الخالدة، وجعل الاجتهاد من مصادر تشريعها ومن لوازم خاتميتها وخصائص خلودها، لا يعرف تقلب الزمان والمكان وفساد العصور -والعياذ بالله!!- وكأننا هنا بإغلاق باب الاجتهاد نساهم بشكل سلبي في إلغاء الخاتمية ومحاصرة الخلود باجتهاد ظني، وقد قال تعالى: (وخاتم النبيين )، ونوقف عمليات التجديد والتصويب، ونؤذن بعودة الجاهلية، ودخلوها الساحة من جديد بخروجنا منها، بذرائع غير مقنعة وحالات استثنائية نعممها على الزمان والمكان.

أما ذريعة أن فتح باب الاجتهاد سوف يسمح بممارسة الاجتهاد لمن يحسنه ومن لا يحسنه -وهذا أمر طبيعي في كل المجالات- فالقضية محل نظر، حيث لا يستطيع أحد أن يملك توقيف عقول الناس وحجرها ومنعها من النظر والاجتهاد الفقهي والفكري ،لأن العقل سوف يواجه مشكلات لا بد أن يتعامل معها بصورة من صور التعامل.

ومن ناحية أخرى، فإن إغلاق باب الاجتهاد منعًا لذريعة الفساد والعبث، لم يمنع من الاجتهاد وتوليد الأحكام وخاصة في مجال الفتاوى السياسية، أو فقه السلطان، وتفصيلها على الأحوال السياسية المتناقضة والرغبات والأهواء المتقلبة، حتى أصبحت أشبه بما يسمى: (فتاوى تحت الطلب)، بحيث أصبح الكثير ممن يمارس مثل هذا النوع من الاجتهاد والفتوى، يحاول أن يتعرف قبل أن يتورط عن رغبة السلطان، ليتم تفصيل الفتوى على المقاس المطلوب.. هذا من جانب، ومن جانب آخر فإنه في نهاية المطاف لا يصح إلا الصحيح.

إن مجال الاجتهاد مثل سائر المجالات يدخله الغث والسمين، والمؤهل ومدعي التأهيل، لكن الكثير من الاجتهادات سوف تطرد من الساحة ولا يكتب لها الصمود والبقاء والتطبيق لتهافتها وسقوطها.. فوعي الأمة وعصمتها كفيل بإسقاط كل فتوى واجتهاد لا تصيب الصواب ولا يتحقق صاحبها بالعلم والصلاح.. ولا تتلقى الأمة إلا عن أهل الثقة والخبرة، فكم من العبث تاريخيًا مورس على الأحكام الإسلامية ولم يكتب له الحياة والاستمرار.. فالله يحمي دينه ويحفظه، ويهيئ من يدفع عنه، ويوفق ويكتب القبول لمن ينصره.

لذلك أعتقد أن الخوف من دخول ساحة الاجتهاد من لا يحسن ذلك مبالغ فيه جدًا، ولا يجوز أن ينتهي إلى الحكم بإغلاق باب الاجتهاد، لأن الحق والصواب قادر على هزيمة الباطل.. والشر من لوازم الخير.. والتدافع بين الحق والباطل من سنن الحياة.. ولا يصح إلا الصحيح.

فليجتهد الناس بحسب إمكاناتهم.. وإذا كان الإنسان غير مؤهل للنظر والاجتهاد فسوف يكون مرفوضًا من أهل العلم والخبرة والمجتمع بعامة، لأنه يحمل عملة رديئة مزيفة لا تشتري شيئًا.. فوعي الأمة كفيل بمحاصرة الخروج والانحراف.

والإسلام دين حياة كامل.. والمسلم معرض بقدر علمه واستطاعته لقدر من النظر في الحل والحرمة لممارساته، بعيدًا عن الكهانات الدينية، فالقضية قضية علم يحاصر الجهل مهما ادعى الجاهل أنه عالم. ونحن هنا لا ندعو لأن يدخل الساحة من يحسن ومن لا يحسن، وإنما نقول: بأن الذي لا يحسن سوف يخرج عمليًا من الساحة لأن بضاعته مزجاة.. وبعض ما يمكن أن يترب على دخوله من مخاطر وإصابات، قد تكون مطلوبة ليأخذ الناس حذرهم، وهذه الإصابات لا يمكن أن تعادل المفاسد والإصابات الكبرى التي تترتب على إقفال باب الاجتهاد.

وناحية أخرى لا بد من التوقف عندها في هذا المجال، وهي ما تواضع عليه العلماء من أدوات الاجتهاد وشروطه المطلوب توافرها فيمن يقدم على عملية الاجتهاد.

وفي ضوء أن هذه الشروط في معظمها اجتهادية، شأنها شأن الكثير من القواعد الأصولية، وحيث إنه لم يتوفر لها إجماع يمنحها قدرًا من القطعية، لذلك تبقى باستمرار محلاً للنظر والاجتهاد، حيثما تطورت أدوات البحث.. ذلك أن بعض الشروط التي قد تبدو ضرورية في عصر له أدواته العلمية والمعرفية، قد تتراجع أهميتها وقيمتها في عصر آخر، إضافة إلى أن الأمة جميعها مخاطبة ببذل الجهد والاجتهاد لإقامة الأحكام الشرعية والتعبد لله، كل بقدر استطاعته العلمية والجسمية والمالية، وأن التشاور والحوار والمناقشة والمثاقفة والمجادلة كفيلة إلى حدٍ بعيد بتصفية الاجتهادات الواهية والمغرضة والمنحازة والمذهبية والطائفية، وهكذا، وسوف لا يمكث في الأرض إلا الصالح الذي ينفع الناس.

ونحن هنا لا نقول بإطلاق الحبل على الغارب، وإشاعة الفوضى، وإلغاء قيمة التخصص التي نلح دائمًا على توفرها، وإنما نرى أن فتح المجال للفكر والاجتهاد المحكوم بقيم الكتاب والسنة، وعصمة عموم الأمة وغيرتها وحرصها على دينها، ومدافعة العلماء العاملين مصداقًا لقول الرسول صلى الله عليه و سلم: (يحمل هذا العلم من كل خلف عدوله ينفون عنه تحريف الغالين وانتحال المبطلين وتأويل الجاهلين ) (أخرجه البيهقي، وصححه الإمام أحمد والعلائي)، يشكل سدًا أمام العابثين، وسوف لا يحمل من المخاطر ما يحمله إغلاق باب الاجتهاد، حيث لم يغلق عمليًا إلا على أهل التقوى والصلاح والخوف، أما أولئك الذين احترفوا كسر الحواجز وتوهين القيم والعبث بتراث الأمة، وتحريف الكلم عن مواضعه والتأويل الفاسد، فلم يمنعهم شيء من علم أو دين. والواقع شاهد على ذلك، وقد تكون المشكلة أننا نرفض الكهانات في الإسلام ويمارسها بعضنا عمليًا.

ولسنا بحاجة إلى معاودة القول: بأن إغلاق باب الاجتهاد يلغي عقل الأمة ويحد من مسيرتها، ويحاصر خلود الشريعة من الامتداد بأحكامها، ويفسح المجال لامتداد (الآخر)، ويشيع من الرعب الفكري ما يشل الحركة الذهنية بشكل عام، علمًا بأن إغلاق الباب أيضًا لم يحل دون التحريف والانحراف، الذي ما كان ليكون لو ملئت الساحة بالخير والصواب، فتغييب الخير يعني الإيذان بحضور الشر.

وقد يكون من المطلوب اليوم، أكثر من أي وقت مضى، وقد حصل من التقدم في مجال الاتصالات ووسائلها ما لم يخطر على البال حتى في عصر الخيال العلمي، لدرجة أن الإنسان أصبح يرى ويسمع العالم من مكانه، كما حصلت ثورة معلوماتية هائلة وتطور في أدوات ووسائل الحصول على المعلومة وحفظها واسترجاعها، إضافة إلى عمليات التصنيف والأرشفة التي تجعل الإنسان في الصورة المحيطة لكل ما يريد، قد يكون المطلوب إعادة النظر في شروط الاجتهاد، التي اجتهد العلماء في وضعها في عصور معينة في ضوء رؤيتهم، وظروف عصرهم، وأدواتهم المعرفية، ودرجة تدوين العلوم، ووسائلهم في الحفظ، وما كان من أهمية الاعتماد على الذاكرة.

وأعتقد أن الوضع قد يكون تغير كليًا اليوم، فاللغة مدونة بمفرداتها ومعانيها ومجازاتها وقواعدها، فمعاجمها ومصطلحاتها موجودة ومسهلة لدرجة كبيرة، وأية مسألة من مسائلها ومفردة من مفرداتها يمكن الحصول عليها والوصول إليها بسهولة، والقرآن محفوظ بالصدور والسطور، وأشكال الحفظ والاستدعاء لا تحصى، وهي ما تزال تتطور يوميًا، ومؤلفات الناسخ والمنسوخ، والمحكم والمتشابه، وأسباب النزول، وما إلى ذلك من العلوم كلها متوفرة أمام الباحث، لدرجة أنها أصبحت مكشوفة وميسرة لعموم المتعلمين، والحديث استقر ومُيّز صحيحه من ضعيفه وموضوعه; وحسنه ومتواتره، والبحوث في هذا المجال استوفت التوثيق من حيث الرواية ودرجة الحديث، وبالإمكان اليوم بضغطة (زر) الحصول على نص الحديث ودرجة صحته ومصدره في الكتب المعتمدة (كتب الصحاح)، وما على الباحث إلا النظر والدراية، وهكذا الكثير من الشروط الاجتهادية المطلوبة للاجتهاد، أفلا يقتضي ذلك كله إعادة النظر بهذه الشروط التاريخية، التي جاءت ثمرة لرؤية خاصة، في عصر معين له أدواته المعرفية وظروفه الفكرية ؟!

وبالإمكان القول: إن هذه الشروط التي تكاد تكون مستحيلة التوفر، وإن بدا أنها تسدد الطريق إلى الصواب، فإنها ساهمت بغلق باب الاجتهاد، ولم تؤد إلى تذليل طريقه، فهي أقرب للاستحالة، والحكم على عقل الأمة بالعطالة والإلغاء منها إلى المساعدة على النمو والامتداد.

ويمكن أن نقول: بأن الإسلام أصيب ولا يزال على يد أبنائه والمنتسبين إليه أكثر من إصابته من الخارج أو من (الآخر)، بل لعلنا نحن الذين ساهمنا بسذاجة بتقوية أعداء الإسلام وتقويض الكيان الإسلامي، وحال المخلصين منا شبيه بحال الأم التي تحول بين الطبيب وابنها المريض حتى لا يتألم من تناول الدواء، فيؤدي الأمر إلى موته أو إلى استمرار مرضه.

وقضية أخرى في هذا السياق; وهي: أن التشعب المعرفي حتى في المجال والموضوع الواحد، وشيوع الاختصاص الذي أصبح سمة العصر، لم يعد يسمح، ولا يمكن معه لأي إنسان بالغًا من الذكاء ما بلغ، بالغًا من العمر ما بلغ، أن يدعي الإحاطة بكل شيء، والإجابة عن كل شيء، والاجتهاد في كل شيء.. والذي يدعي معرفة كل شيء والإجابة عن كل شيء نخشى أن نقول: (لا يعرف شيئًا)! والذي لم يؤدبه الإسلام فلتؤدبه المعرفة وأخلاقها، حتى لا يقفو ما ليس له به علم.

لذلك فإن قضية المجتهد المطلق والرجل الملحمة ولى عهدهما، وبالتالي لا بد من إعادة النظر بالشروط العامة، والتحول إلى الشروط الخاصة والمطلوبة لكل شعبة من شعب العلوم والمعارف. إضافة إلى أن إمكانية النظر الفردي تبقى' قاصرة وغير محيطة; حيث لا بد من الاجتهاد الجماعي الذي يجتمع له الخبراء المتخصصون والفقهاء المتمرسون بمعرفة الوحي، ويغيب عنه المتحمسون غير المتخصصين، لأن مجالهم آخر.

وقد تكون الإشكالية الذهنية أو الثقافية -إن صح التعبير- أن بعض الذين يدافعون عن شروط الاجتهاد التعجيزية، ويصرون على عدم إعادة النظر فيها، بالرغم من تطور أدوات الاجتهاد، هم أنفسهم يرضون لأنفسهم أن يتطاولوا على قضايا ليست من اختصاصهم ولا حتى من اهتمامهم، ولا تتوفر فيهم أدنى شروطها، بل لعل الكثير منهم يغادر اختصاصه النوعي، من طب وصيدلة وهندسة وعلوم، الذي يمكن أن يكون في خدمة الفقه -بالمعنى العام- ليتحول إلى واعظ أو باحث أو خطيب متحمس في قضايا قد لا يختلف فيها كثيرًا عن المتلقين، الأمر الذي أثمر العجز والتخاذل والمراوحة في الموقع الواحد، والاجترار والإعادة للقضايا لأكثر من نصف قرن دون أي قدرة على المراجعة وا لتقويم، وحتى الإفادة من التجربة الذاتية.

وبالإمكان القول: إن الفقه التشريعي والفقه العبادي وكل ما يتعلق بقضايا الحلال والحرام قد استبحر وأُنْضج وقُورن وَرُجِّح وأصِّل، حتى إنه لم يدع استزادة لمستزيد، وأنه استقر واستمر.. وهذا الفقه التشريعي والعبادي هو الذي يشكل المحور الأساس للتدين والسلوك، أما فيما وراء ذلك من الفقه التربوي والسياسي والاجتماعي والدولي فيما يسمى بالعلوم الاجتماعية والإنسانية، أو المعرفي بشكل عام، فهو أقرب إلى الفقه الفكري أو الرؤية الفكرية التي تكاد تتطور يوميًا بإيقاع سريع في ضوء المعطيات المعاصرة والمشكلات الاجتماعية والتربوية وإلغاء الحدود وكمية التبادل المعرفي الذي يرتكز على التجارب الميدانية التي تتعاظم وتتسع فيها معارف العقل المستهدي بالوحي، فلا نعتقد أنها بحاجة للضوابط والشروط الاجتهادية نفسها.

لذلك ففتح باب الاجتهاد على مصراعيه اليوم، بات لا يشكل خطورة على قيم الشرع، وإنما يساهم بإطلاق العقل من قيوده الموهومة باتجاه تحقيق الرؤية الإسلامية في العلوم الاجتماعية، واستشعار أهمية التخصصات في شعب المعرفة جميعًا، وأن تحصيل هذه التخصصات التي تعتبر من الفروض الكفائية الغائبة هو دين واجتهاد فكري مثاب عليه صاحبه، وبذلك يعود الارتباط المفقود بين العلم والدين، وتنضبط المسيرة العلمية بضوابط الوحي وأهدافه، ويقبل المسلم على اكتساب المعارف، والاجتهاد في توليد الرؤى الشرعية بدافع الثواب ووازع العقيدة والدين، ويصبح خطابه في مجال اختصاصه مقنعًا ومسموعًا.

في ضوء هذه الرؤية لقضية الاجتهاد، ومجالاته، وأبعاده، وأهدافه التي تقتضي إعادة النظر في الشروط الاجتهادية والأدوات المطلوبة، التي قدمها العلم للمجتهد، يمكن إعادة النظر أيضًا في مناهج وشروط بناء الملكة الفقهية، أو ملكة الاجتهاد، حيث لا بد أن يسبق الفكرُ الفعلَ، والنيةُ العملَ. فما هي المجالات التي سوف نرتادها ونجتهد فيها، وما هي الأهداف التي نريد تحقيقها، وما هي الكيفية التي نتوصل بها إلى تحقيق الأهداف، وما الشروط والمعارف المطلوب توفيرها للفقيه المفكر في كل اختصاص، إلى جانب الشروط العامة المطلوبة لشعب المعرفة جميعًا ؟؟

ذلك أنه من المؤلم والمحزن حقًا أن الدراسات الفقهية والشرعية بشكل عام تعاني، لأنها تخرج حفظة وحملة فقه في الأعم الغالب، ولا تخرج فقهاء.. تخرج نقلة يمارسون عملية الشحن والتفريغ والتلقين، ولا تخرج مفكرين ومجتهدين يربون العقل وينمون التفكير.. تخرج من لا يستطيعون تجاوز المثال الذي أتى به الأقدمون، إلى تنزيل القاعدة على واقع جديد، أو توليد حتى مثال معاصر غير القديم.

وليست الدراسات العليا في معظمها -والأصل فيها أنها قائمة على البحث والدراسة والمقارنة والتقويم والترجيح- بأحسن حالاً، لأنها امتداد لعقلية النقل والشحن والتفريغ، بعيدًا عن الإبداع والتفكير والابتكار.

فالناظر إلى الكثير من رسائل وبحوث الماجستير والدكتوراة في الجامعات الشرعية الإسلامية بشكل عام، يجد أطنانًا من الورق، يعظم كمها ويتضاءل كيفها، لم تحرك ساكنًا، ولم تحقق رؤية تغير من واقع الأمة، وإن كانت ترتقي بالمواقع المادية وأحيانًا الاجتماعية لأصحابها، الذين أصبحوا حملة الألقاب العلمية! هذا إن لم تكن في بعض الأحيان وسيلة توبيخ مستمرة لحملتها.. ويكفي استعراض الكثير من العناوين والمضامين لهذه الرسائل التي قد تبلغ عشرات الألوف للدلالة على عقل الأمة وحالها.. فإذا كنا لا نستطيع تجاوز المثال بعد، ولا نمتلك إمكانية التقويم الثقافي والفقهي، فكيف تبني مؤسساتنا ومناهجنا ملكات فقهية ?! وهذا لا يعني بالطبع عدم وجود إبداعات أو إضاءات وفتاوى أنارت للأمة الطريق واحتفظت بالأمل.

لذلك فمشكلة المعاهد الشرعية، ودورها في تخريج الفقهاء والعلماء، والمساهمة في تنمية وبناء الملكة الفقهية، ذات أبعاد متعددة ومثيرة ليس أقلها ما تعانيه من غربة الزمان والمكان، وذلك على أهمية دورها التاريخي في حفظ العلم الشرعي ونقله، والحفاظ على الهوية والأصالة، بكل مقوماتها، والاحتفاظ بالأمة، والآمال المعقودة عليها.

فقد انتهت إلى حالة لم تستطع معها أن تفكر في تطوير مناهجها وخططها لتواكب مستجدات العصر، بحيث تستطيع أن تؤهل الطالب للتعامل والاجتهاد في قضايا عصره، من خلال رؤىة ومرجعية شرعية متينة، بل بقيت مقتصرة على الطريقة القديمة ذاتها بمناهجها وموادها التعليمية، وقد تستهلك وقت الطالب وعقله في شرح المختصرات واختصار الشروح والمطولات، وحفظ الأراجيز، وبذل الجهد الذهني الكبير في فك رموز العبارات ومستغلقاتها، وصرف الجهود على قضايا لم تبق لها سوى القيمة التاريخية إن بقيت، وعدم ملاحظة -أثناء العملية التعليمية- نمو مدارك الطالب وتطور ملكاته وتوافق المعلومة مع إمكاناته العقلية وحاجاته العملية، واعتماد طريق التلقين والتلقي بعيدًا عن التفكير والمشاركة، بل لعل المنافسة والمشاركة والمقارنة الفقهية تشكل سببًا في نبذ الطالب وتأنيبه.

وعلى العموم، فقد بقيت طرائق التعليم وأساليبه ومعلوماته تدور في هوامش عقل المؤلف أو الشيخ، ونظراته الفقهية ومذهبه، أي أن الحركة التعليمية كل مدارها عقل آخر لا يجوز أن يُخرج عنه، لذلك فهي في أحسن الأحوال تنتج نسخًا مكررة مقلدة يمكن أن تغني عنها النسخ الأصلية.. وغالبًا ما يسود العملية التعليمية في معاهد التعليم الشرعي الاستغراق في الفروع والمسائل الجزئية، بعيدًا عن تكوين المنهج وتشكيل النظرة الكلية وبناء الملكة الفقهية القادرة على النظر، على الرغم من أن بعض أسماء هذه المعاهد: (كليات)، لكنها تفتقر إلى النظرة الكلية والرؤية المنهجية.

إضافة إلى أن بعض الدارسين في هذه المعاهد يعاني من غربة المكان، فأقل ما يمكن أن يقال: إنه لم يؤهل لعصره، ولم يسلم مفاتيح التعامل مع الواقع من الناحية الشرعية.. فقد يحمل الفقه المكتوب ويحفظ متونه، لكنه لا يفقه شيئًا عن الواقع، فهو خارج المجتمع الذي يعيش فيه.. وجهله لمشكلاته وقضاياه ومداخله وثقافته قد يجعل مداخلته ساذجة وسطحية في كثير من الأحيان، ويجعل خطابه (صيحة في واد).. حتى العلوم الاجتماعية والإنسانية التي تشكل الرؤية المطلوبة ودليل العمل للوصول إلى الأمة وتوصيل رسالة الإسلام لها، قد لا تشعر بعض المعاهد بأهميتها! ذلك أن أمر استيعابها وتدريسها قد يحتاج إلى جهود، وترافقه احتمالات الخطأ، وهذه مشكلات لا تحتاجها عمليات التعليم القائمة على الشحن من كتب السابقين والتفريغ على رؤوس المعاصرين.

وقد أدت هذه الغربة عمليًا إلى لون من الانشطار الثقافي، وخروج بعض معاهد العلم الشرعي من قلب المجتمعات لتعيش على هوامشها غير الفاعلة، وساهم إلى حدٍ بعيد بتدعيم مؤسسات التعليم الذي يصطلح على تسميته بالتعليم المدني، الذي أبصر المجتمع وخطط لاحتلاله، وهيأ الطالب لوظائفه ومسؤولياته، الأمر الذي انعكس بدوره أيضًا على مدخلات المعاهد الشرعية، حيث أصبح لا يُقبِل عليها في غالب الحال إلا أصحاب المعدلات المتدنية، الذين لم يجدوا مكانًا لهم في مؤسسات التعليم المدني، إلا من رحم الله من المتميزين القادرين على اجتياز العقبة وإدراك أهمية الفقه في الدين، وإبصار عاقبة الأمور، على الرغم من أنه قد يصاب هؤلاء مع الأسف ببعض النماذج من القائمين على أمر التعليم الشرعي دون مؤهلات صحيحة فيسيئون إلى تطلعاتهم، ويحبطون عقولهم، ويقتلون طموحهم، ويساهمون بعجزهم وتفتيت معارفهم، وبعثرة قدراتهم، والقضاء على ملكاتهم. وبذلك تصبح مخرجات المعاهد الشرعية (ضغثًا على إباله)، كما يقول المثل.

وهذا الكتاب، يتناول موضوعًا، أو يطرح قضية على غاية من الأهمية، ويفتح ملفها، ويستدعيها للبحث والمناقشة والدرس بعد أن كادت تغيب عن الذهنية الإسلامية المعاصرة بشكل عام، ومعاهد التعليم الشرعي الإسلامي -محاضنها الطبيعية- بشكل خاص، في هذه الحقبة الثقافية التي بدأ يكثر فيها المتحمسون ويقل فيها الفقهاء والخبراء المتخصصون.

وهو محاولة، استعرضت وجهات النظر المتعددة، منهجيًا ومذهبيًا، ولغويًا واصطلاحيًا، في تعريف الملكة الفقهية، وكيفية تنميتها، ورعايتها، وإعادة بنائها.. ولعل الإشكالية أنه على الرغم من الانفجار المعرفي والثورة المعلوماتية، وتدفق المعلومة وسرعة الحصول عليها وحفظها واسترجاعها، والتقدم بأدوات ومناهج البحث، فإن استقراء الواقع العلمي والعملي لا يشير إلى أن الإنتاج الفقهي والظهور كان بمستوى تلك الأدوات ولا بموازاتها، الأمر الذي يشكل إدانة لوسائلنا ومؤسساتنا التعليمية، ويؤكد الخلل في مناهجنا وطرائقنا التربوية.

لذلك فإن هذه القضية التي أعاد الباحث -جزاه الله خيرًا- فتح ملفها، ما تزال تستدعي مزيدًا من التوسع والنظر والنقد والتقويم لشروط الاجتهاد وأدواته، بعد هذا التطور الرهيب في تصنيف العلوم بحسب موضوعاتها، وتقدم وسائل الحفظ والاسترجاع، لإحياء قدرات الأمة وشحذ فاعليتها وبعث روح التفكير والاجتهاد، والتدريب عليه، ليصبح مناخًا ثقافيًا يعيد حراك الأمة، وينفخ فيها روح الحياة، ويحقق المعاصرة لمؤسساتها، ويسترد العطاء العلمي الإسلامي، الذي يطلق العقل للاجتهاد والنظر في ضوء هدايات ومعارف الوحي، ويفك قيود العزلة، ويلغي حواجز الاغتراب، ويعيد للفقه مفهومه الشمولي لشعب المعرفة جميعًا، ويساهم في بناء الملكة القادرة على النظر في العواقب والمآلات، استجابة لدعاء الرسول صلى الله عليه و سلم لابن عباس الذي يشكل حافزًا لكل مسلم: (اللهم فقهه في الدين وعلمه التأويل ) (أخرجه أحمد)، ونزوعًا إلى استرداد خيرية الأمة التي تكتسبها بسبب فقهها في الدين: (من يرد الله به خيرًا يفقهه في الدين ) (أخرجه البخاري)، واستنفارها لتحصيل الاختصاص، وإشاعة إحياء الفروض الكفائية، وربط مسيرة العلم وضبط وجهته بالإيمان، لتقلع الأمة من جديد.

والله المستعان.

=============

# المقدمة

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وبعد;

فلقد مثلت العلاقة بالغرب في خطاب التجديد الإسلامي محورًا مهمًا، ويكاد الغرب يكون عاملاً حاضرًا في كل الخطابات الإسلامية منذ الغزو الاستعماري للعالم الإسلامي في القرن التاسع عشر، وكانت الدراسات الإسلامية (للظاهرة الغربية ) لم تتجاوز في أغلبها النظرة الحدية التي اتسمت بها ثقافة رجل ما بعد الموحدين(1)، فالغرب إما طاهر مقدس، وإما دنس حقير. كما لم تتجاوز في معظمها خطاب التحذير والتعبئة.. وتناول كثير من المفكرين الظواهر المصاحبة للهيمنة الغربية على العالم بشيء من الاجتزاء والقصور.

غير أن هناك بعض المحاولات المبكرة في الفكر الإسلامي المعاصر، حاولت أن تؤسس لخطاب علمي يتجه إلى البحث في عمق الظاهرة، وتتبع جذورها وصيرورتها، وآثارها وانعكاساتها على الواقع الإسلامي، كما اتجهت إلى دراسة التجربة الحضارية الغربية في خصائصها، ومدى إسهاماتها في الحضارة الإنسانية وآثارها عليها، مما أفرز توجهات ومؤسسات أكاديمية إسلامية كثيرة، تحاول أن تجعل من دراسة الغرب في حضارته وثقافته حقلاً معرفيًا، تدرس من خلاله التطور التاريخي للحضارة الغربية، وكيفية تشكل المفاهيم الغربية في ارتباطها مع الوعي الغربي، وانضوائها في نسق معرفي وحضاري عام للحضارة الغربية، وذلك من منظور حضاري إسلامي يحيط بالمشكلة ويحللها ويدرسها، ثم يقدم التصورات والحلول العلمية والعملية لمسألة التخلف الحضاري في العالم الإسلامي، باعتبار غياب الحضارة الإسلامية الفاعلة هي المشكلة المركزية التي يتخبط فيها العالم الإسلامي.

ومهمة مثل هذه تحتاج إلى تراكم الخبرات المعرفية، سواء عن طريق البحث في جوانب من الظاهرة الحضارية الغربية في صلتها بالمشكلة الإسلامية، أو في نقد الرؤى والتصورات والأطروحات التي قام بها رواد الفكر الإسلامي في هذا المجال، وذلك لضمان التواصل العلمي، وتأسيس تقاليد علمية تتجاوز نطاق التجارب الفردية المعزولة عن بعضها، وتتحول إلى حقل معرفي للدراسات المتخصصة التي تركز بحثها في الغرب، لفهمه، وفهم أنساقه الثقافية والمعرفية، وأنماط حياته، وتقديم خلاصة علمية للاستفادة منها في تحقيق الخروج من حالة التخلف والتراوح والتبطل التي تعاني منها أمتنا الإسلامية.

وفي هذا الإطار نحاول أن ندرس أحد النماذج الإسلامية فيما يتعلق بدراسة الظاهرة الحضارية عمومًا، والظاهرة الغربية بوجه خاص، ومدى صلتها بالوعي الإسلامي، وصلتها بالمشكلة الحضارية في العالم الإسلامي.

ولهذا اخترنا (مالك بن نبي ) رحمه الله، باعتباره إحدى العينات التي تعطينا من خلال دراستها مدى التطور الذي بلغه الفكر الإسلامي في معالجة مثل هذه المسائل.. والغاية من ذلك هي تعميق الوعي، وتأسيسه على قواعد بيّنة، وإعطاؤه مداه الواسع، لنتمكن من تحديد موقع الظاهرة الحضارية الغربية في مشروعنا التجديدي، في سبيل تحقيق العودة إلى التاريخ وبناء الحضارة الإسلامية من جديد لتمارس أمتنا دورها في القيادة والشهادة.

والله من وراء القصد، وهو الهادي إلى سواء السبيل.

==============

# الفصل الأول المنظور الفكري لمالك بن نبي رحمه الله

موقع المسألة الحضارية في فكر مالك بن نبي رحمه الله » الفصل الأول المنظور الفكري لمالك بن نبي رحمه الله موقع المسألة الحضارية في فكر مالك بن نبي رحمه الله

يهدف هذا الفصل إلى التعرف على المنظور الفكري لمالك بن نبي، وذلك من خلال البحث في موقع المسألة الحضارية في فكره، وما هي المشكلة الأساس التي شغلت فكره، ثم كيفية دراسته للحضارة الغربية، هل هو منطلق دفاعي، فيه رد فعل، أو من خلاله فكر الرد والنقض، أو فكر التقريب والتركيب، وهذا يدعونا إلى النظر في المنظور الذي درس من خلاله (ابن نبي ) الحضارة الغربية، والذي أسميناه المنظور الحضاري، حيث نتناول مفهوم الدورة الحضارية الذي درس من خلاله (ابن نبي ) الغرب، ثم موقفه من العلاقة بالغرب، ومدى الحاجة إلى معرفته.

موقع المسألة الحضارية في فكر مالك بن نبي رحمه الله

إن المتأمل في أعمال (ابن نبي ) الفكرية، يجدها تعالج مسألة واحدة تدور حول محور واحد، هو مشكلة الحضارة، باعتبار أن الحضارة هي الإطار الذي ينظم كل هذه الأجزاء التي نسميها في مكان ما مشكلة سياسية، وفي مكان آخر مشكلة اقتصادية، وفي مكان ثالث مشكلة أخلاقية.

والعالم الإسلامي في بحثه عن صياغة بناء حضاري جديد، عليه أن يبحث أولاً في أسباب الغياب الحضاري الذي دام مدة طويلة كان خلالها خارج التاريخ، كأن لم يكن له هدف(1). ولهذا يعتبر (ابن نبي ) أن العالم الإسلامي أضاع وقتًا طويلاً، وجهدًا كبيرًا، بسبب عدم التحليل المنهجي للمرض، الذي يتألم منه منذ قرون طويلة(2)، فذهب يتلمس الحلول الجزئية، ونظر إلى القضية في صورها التجزيئية، فاختلفت الأطروحات; من الطرح السياسي إلى الطرح الاقتصادي إلى الطرح الأخلاقي... وهكذا.

فهناك من رأى أن الأزمة سياسية تحتاج حلاً سياسيًا، فركز كل جهوده في التغيير والإصلاح السياسي، وانتقاد فساد الحكم، ومحاولة تغيير أنظمة الحكم في البلاد الإسلامية.

وهناك من رأى أنها أزمة أخلاقية تستلزم حلاً أخلاقيًا، فذهب إلى أن الحل يكمن في الالتزام بالخلق الإسلامي الرفيع، والإقلاع عن المعاصي بمعناها الفقهي فقط(3)، وبالتالي راح يتذمر من الفساد الأخلاقي، واعتبره مكمن الداء.

وهناك من رأى أنها أزمة عقدية تستلزم إصلاح العقيدة، وأن لا حل إلا بتخليص العقيدة من الكلام والفلسفة، وإعادة تعليم الناس عقائد الإسلام، وإقناعهم بأن الله هو الخالق وهو المعبود الحقيقي، وأن الالتزام بعقيدة التوحيد هو الحل، فتوجه إلى صياغة علم العقيدة من جديد بأسلوب آخر.

ولهذا فهو ينتقد كلا الفريقين (التحديثين والإصلاحيين )(4)، بأنهم لم يحددوا بدقة مكمن الأزمة، فاتجه كل إلى عرض من أعراضها، في حين أن الأزمة أعمق من هذه الأعراض كلها، إذ أن المسلم لم يفقد إيمانه بالله في أي لحظة من لحظات التاريخ، حتى مسلم ما بعد الموحدين، كما أن الالتزام بالخلق الإسلامي لم ينعدم بين المسلمين، لكن عقيدته تجردت من فاعليتها(5).

ولهذا أيضًا ينبغي البحث في جوهر الأزمة وحقيقة المرض، وعدم الاكتفاء بمعالجة الأعراض أو المظاهر الجزئية التي تطفو هنا وهناك في صورة أو أخرى.. كما أن كل هذه الأعراض تحتاج إلى إطار من خلاله نرى كل الجوانب المتعلقة بالأزمة، ولا نغيِّب أحدها، وهذا الإطار يكمن في إرجاع الأزمة إلى جوهرها; الذي هو مشكلة غياب حضارة المسلم، وغيابه عن صنع التاريخ، وهو إطار ينبغي أن ينظم كل الجهود الإصلاحية، لنحقق النهضة التي طال العمل لها في العالم الإسلامي(6).

وفي هذا يقول (ابن نبي رحمه الله ): (فرأي رجل سياسي كجمال الدين الأفغاني أن المشكلة سياسية تحل بوسائل السياسة، بينما رأي رجل دين(7)كالشيخ محمد عبده أن المشكلة لا تحل إلا بإصلاح العقيدة والوعظ.. على حين أن كل هذا التشخيص لا يتناول في الحقيقة المرض، بل يتحدث عن أعراضه )(8). وقد نتج عن هذا أننا منذ عقود من الزمن لا نعالج المرض، وإنما نعالج الأعراض(9).

فالمرض كامن في نفس المسلم، وفي ثقافته الموروثة، كما هو كامن في سلوك المسلم وتصرفاته اليومية، وفي قلبه وعقله.. والأزمة تكمن في الأدران العالقة بالمسلم من تراث الانحطاط عبر القرون، أكثر ما هي بسبب خارجي وافد. فالأمر لا يتعلق بنقص في الوسائل حتى نستوردها ونكدسها، بل يتعلق بأزمة في الأفكار(10)، وفي كيفية البحث عن حلول موضوعية لها. ولهذا يرفض تسطيح وتجزيء المشكلة، ويعتبر أن هذا يؤدي إلى استفحال التخلف، في حين الجهود تتجه لمعالجة مظاهره وليس جوهره، هذا الجوهر يكمن في الإمساك بالمشكلة المركزية التي تنتظمه، وهي الارتقاء إلى مستوى أرحب في التحليل، من خلال النظر إلى الأزمة بنظرة شمولية.

ولهذا يقول: (إن مشكلة كل شعب هي في جوهرها مشكلة حضارته، ولا يمكن لشعب أن يفهم أو يحل مشكلته ما لم يرتفع بفكرته إلى الأحداث الإنسانية، وما لم يتعمق في فهم العوامل التي تبني الحضارات أو تهدمها )(11)، فكانت كل جهوده وأعماله الفكرية تنصب على البحث عن حل مشكلة الحضارة في العالم الإسلامي، ومحاولة البحث عن مدخل منهجي مناسب لإعادة بناء حضارته من جديد.

وهو ما أكّده صراحة بقوله: (أعتقد أن المشكلة التي استقطبت تفكيري واهتمامي منذ أكثر من ربع قرن وحتى الآن، هي مشكلة الحضارة، وكيفية إيجاد الحلول الواقعية لها وإزالة التناقض بين النجاح المادي والتخلف المعنوي، أعني تخلف القيم وإهمالها )(12). ولهذا فمشكلة العقيدة وتصحيحها أو مشكلة الدولة أو الاقتصاد أو غيرها، هي قضايا ينبغي ربطها بالمشكلة المركزية، مشكلة حضارة المسلم.. فالمسلم، حتى مسلم (ما بعد الموحدين )، لم يفقد إيمانه وصلته بالله(13)، كما أن الدولة إفراز اجتماعي لا تصلح إذا كان المجتمع غائبًا عن صنع التاريخ.

فالأزمة في جوهرها -كما يؤكّد (ابن نبي )- أزمة حضارية، ولن نتمكن من القدرة على حلها إلا إذا أمسكنا بقوانينها، ونظرنا إليها بعين التحليل، وبحثنا عن سنة الله فيها(14). كما أن الحضارة تقوم على قانون البناء لا على التكديس، فلكي نبني حضارة لا يكون ذلك بتكديس منتجاتها، وإنما بأن نحل مشكلاتها الأساسية(15). وهذه المشكلات الأساسية هي العناصر الأولية التي نحصل عليها من خلال تحليل أي ناتج حضاري، فكل ناتج حضاري تنطبق عليه الصيغة التحليلية الآتية:

ناتج حضاري= إنسان + تراب(16) + وقت.

وإذا استخدمنا طريقة الجمع الحسابي، فإننا نصل إلى أن هناك ثلاثة أعمدة ذات علاقة وظيفية: حضارة= إنسان + تراب + وقت(17). فأزمة الحضارة تنحل إلى هذه المشكلات الأولية الثلاث; مشكلة الإنسان، ومشكلة التراب، ومشكلة الوقت. ونحن حينما نحاول التخطيط لحضارة، فليس علينا أن نفكر في منتجاتها وإنما في أشياء ثلاثة، في الإنسان والتراب والوقت. فحينما تحل المشاكل الثلاث حلاً علميًا، ببناء الإنسان المتكامل والاعتناء بالتراب (الإمكانات الطبيعية )، والزمن، لتتفاعل معًا ضمن ما توفره الفكرة الدينية المركِّبة للقيم الاجتماعية من شرارة روحية، فقد تم حل مشكلة الحضارة، التي هي الإطار الذي فيه تتم للفرد سعادته(18).

ورجل الفطرة، والتراب، والوقت، ذلك هو الرصيد الذي تضعه العناية الإلهية بين يدي أي مجتمع يريد النهوض(19). ويبقى الإنسان هو الشرط الأساس لكل حضارة، فهو محور الفاعلية في حركة الحضارة، وهو الذي يعطي ويحدد القيمة الاجتماعية لهذه المعادلة-السابقة الذكر- لأن التراب والوقت -إذا اقتصر عليهما فحسب- لا يقومان بأي تحويل اجتماعي(20).

وإذا جئنا إلى الإنسان، فإننا نجده يؤثر في حركة المجتمع بثلاثة مؤثرات: بفكره، وبيده (عمله )، وبماله، ومن هنا فإننا بإزاء ثلاث مسائل متعلقة بالإنسان، هي الحاجة إلى العناية بفكر الإنسان (ثقافته )، والعناية بتوجيه عمله ليحقق الفعالية القصوى، والعناية بماله ليدخل في استثمار اجتماعي منتج(21). فالمجتمع الذي يتمكن من بناء عالم ثقافي منسجم مع سنن الآفاق والأنفس والهداية، ويحسن استثمار إمكاناته البشرية والمادية على ضوء ذلك، يضطرد نموه، وتتضاعف إنتاجيته الحضارية، ويمتلك في نهاية المطاف القدرة على الإشعاع والامتداد في التاريخ(22)، ويستطيع القيام بإنجاز تركيب للحضارة.

==============

# منظور دراسة (ابن نبي) رحمه الله للظاهرة الحضارية الغربية

1- الدورة الحضارية:

تشكل نظرية الدورة الحضارية، المدخل الذي يمكِّن من فهم المنظور الذي درس من خلاله (ابن نبي ) الحضارة الغربية.. فالدورة الحضارية، باعتبارها من أهم أدواته التحليلية في دراسة وتحليل الحضارة، ترتكز على المبدأ الذي وضعه (ابن نبي )، ويتلخص في أن الحضارة يحكمها قانون الهجرة أو الدورة، والذي في حقيقته يعني استمرار الحضارة وتنقلها من مكان نفدت فيه عناصرها (شروطها ) الأولية إلى مكان آخر توفرت فيه هذه الشروط، لتنطلق منها في دورة جديدة تواصل به سيرها إلى أن ينتهي التكليف وتنقضي سنة الحضارة والعمران البشري.. فسنة التداول الحضاري نقطة مهمة في فهم المنطلق الذي من خلاله درس (ابن نبي ) الحضارة الغربية، وأفرد لها جانبًا مهمًا في معظم كتاباته، وفي نظريته في البناء الحضاري.

وفي دراسته لـ (الظاهرة الدورية )(1)، يصدر الفصل بقوله تعالى: (وتلك الأيام نداولها بين الناس )(آل عمران:140)، ليؤسس عليها قانونه في الدورة الحضارية، أو بتعبير آخر قانون التداول الحضاري. فيرى (ابن نبي ) -رحمه الله- أن دراسة التاريخ لها جوانب متعددة; منها الجانب الفردي بالقياس إلى الفرد وبالتالي هو دراسة نفسية، ومنها الجانب الاجتماعي وبالتالي فالتاريخ من هذا الجانب دراسة اجتماعية، إذ يكون دراسة لشرائط نمو مجتمع معين. وهو إذ يعتبر ابن خلدون أول من اكتشف منطق التاريخ، من خلال نظريته في أعمار الدولة، ودور العصبية في تحقيق سنة التداول، فإنه ينتقد ابن خلدون في ضيق مفهومه لدراسة أعمار الدولة، وضيق مفهومه عن العصبية والدولة، على الرغم من أن ابن خلدون أول من اكتشف الظاهرة الدورية التي طورها (ابن نبي ) رحمه الله وجعلها أساس نظريته في دورة الحضارة. وكذلك ينتقد (أرنولد توينبي ) في نظرية المجال الجغرافي(2)، إذ أن (نمو مجتمع معين لا يقوم على حقائق الجنس أو عوامل السياسة، بقدر ما يخضع لخصائصه الأخلاقية والجمالية والصناعية المتوافرة في رقعة تلك الحضارة )(3).

على أن نمو المجتمع المرتبط بتوفر مجموعة من الخصائص في رقعة حضارته، لا يجعله ينعزل عن العالم، بل إن تطوره مشروط ببعض الصلات الضرورية مع بقية المجموعة الإنسانية. فالاكتفاء بـ (مجال الدراسة ) بمفهوم (توينبي )، يعزل الجانب الغيبي (الميتافيزيقي ) للتاريخ، الذي يتطلب التجاوز بالدراسة إلى ما وراء السببية التاريخية، لكي نلم بالظواهر في غايتها، فهناك خلف الأسباب القريبة أسباب بعيدة، تخلع على تفسير التاريخ طابعًا كونيًا(4). فهذه الأبعاد الكونية لحركة التاريخ، ونمو الحضارة، يجعلها (ابن نبي ) مبررًا لكي (ندرس التطور الحديث في العالم الإسلامي، آخذين بعين الاعتبار علاقات هذا التطور القائمة أو الممكنة مع الحركة العامة في التاريخ الإنساني )(5).

وإذا كان من الصعوبة بمكان أن نحدد ونعرف جذور هذه الحركة بدقة في الزمان والمكان، حيث إن أبعادها التاريخية تتحرك في رقعة غير ثابتة، من خلال التعاقب بين الحضارات، فإننا أمام جانبين جوهريين للحضارة; (الجانب الميتافيزيقي أو الكوني )، وهو جانب ذو هدف وغاية، والجانب (التاريخي ) الاجتماعي، وهو جانب مرتبط بسلسلة من الأسباب)(6). وهذا الأخير، تتمثل فيه الحضارة كأنها مجموعة عددية تتتابع في وحدات متشابهة، ولكنها غير متماثلة، وهكذا تتجلى لأفهامنا حقيقة جوهرية في التاريخ هي: (دورة الحضارة )(7).

فالمجموعات العددية المتتابعة هي الحضارات المتعاقبة، تتشابه في أنها تمثل كلها حلقات متصلة في الملحمة الإنسانية الخالدة، وتختلف عن بعضها من حيث إن (كل دورة محددة بشروط نفسية زمنية خاصة بمجتمع معين )(8). فإذا توفرت هذه الشروط كانت حضارة، ثم إنها تهاجر إذا ما اختل تركيبها إلى موطن آخر، لتتحول معه إلى حضارة أخرى، وفق التركيب الخاص للإنسان والتراب والوقت.

ومن هنا فإن (ابن نبي ) ينتقد الذين ينظرون إلى مشكلة العالم الإسلامي بسطحية ومعزل عن التيار العام للإنسانية، والقانون الذي يضبط انتقال الحضارة في شروطها النفسية والاجتماعية، ويقول: (هذه الملاحظات تدفعنا إلى أن ننتقد مسلك بعض الباحثين حين ينظرون إلى ظاهرة (الحضارة) منفصلة عن ظاهرة (الانحطاط); وإن العالم الإسلامي لفي مسيس الحاجة في هذه النقطة إلى أفكار واضحة تهدي سعيه نحو النهضة، ولهذا فإن مما يهمنا في المقام الأول أن نتأمل الأسباب البعيدة التي حتمت تقهقره وانحطاطه )(9).

وفي دراسته لانحطاط العالم الإسلامي، والسبيل إلى تحقيق النهضة، يدعو إلى تأمل دورة التاريخ وتسلسله، لتحقيق إدراك واع (بمكاننا من دورة التاريخ، وأن ندرك أوضاعنا، وما يعتورنا من عوامل الانحطاط، وما ننطوي عليه من أسباب التقدم. فإذا ما حددنا مكاننا من دورة التاريخ، سهل علينا أن نعرف عوامل النهضة أو السقوط في حياتنا )(10).

فتحديد المكان الذي نوجد فيه يسهِّل علينا كثيرًا معرفة إمكانياتنا، كما يساهم في تحقيق وعي بأسباب التخلف وعوامل النهوض الكامنة في ذاتنا، وإذا ما غاب هذا التحديد، فإننا قد ننهمك في حل إشكالات ليست حقيقية، أو أن صلتها بأزمتنا الحضارية صلة واهية أو معدومة، إذ من الواضح أن (الفرق شاسع بين مشاكل ندرسها في إطار الدورة الزمنية الغربية، ومشاكل أخرى تولدت في نطاق الدورة الإسلامية )(11). فهناك فرق في الطور بين مشاكل مجتمع يعمل على التخلص من ركام التخلف والدخول في دورة حضارية جديدة، وبين مشاكل مجتمع في قمة حضارته.

ولعل من أعظم ملامح زيغنا وتنكبنا عن طريق التاريخ، أننا نجهل النطقة التي منها نبدأ تاريخنا، مما جعلنا نراوح المكان، بين أن نحتمي بالتاريخ، أو نطفر إلى الإمام طفرة عمياء في حركتنا نحو الغرب(12)، ولهذا يؤكد (ابن نبي ) أنه: (لا يجوز لأحد أن يضع الحلول والمناهج، مغفلاً مكان أمته ومركزها، بل يجب عليه أن تنسجم أفكاره، وعواطفه، وأقواله، وخطواته مع ما تقتضيه المرحلة التي فيها أمته، أما أن يستورد حلولاً من الشرق أو الغرب، فإن ذلك تضييعًا للجهد، ومضاعفة للداء، إذ كل تقليد في هذا الميدان جهل وانتحار )(13).

غير أن هذا لا يدفع إلى الانعزال عن بقية الإنسانية والتعلم من التجارب التي يتم إنجازها، وبخاصة في عالم يشهد انحسار الحدود، وتقريب المسافات بين الشعوب والأمم والحضارات، مما يدفعنا إلى تحديد مكاننا من منطلق واقع اجتماعي معيش.

ومن هذه الرؤية الواقعية ينطلق (ابن نبي )، باعتبار أن العالم يتجه نحو التوحد، ولا يمكن للعالم الإسلامي أن يعيش في عزلة.. وعلى الرغم من أن حلول العالم الإسلامي لا تأتي من خارج حدوده، فإنه مطالب أن يتعلم من التجارب الإنسانية، ومنها التجربة الغربية، التي شهدت إنجازات كبرى كما شهدت إخفاقات كبرى في جوانب أخرى تتصل من قريب أو من بعيد بالمشكلة الإسلامية في بعض جوانبها.

2- الحاجة إلى معرفة الغرب:

يقول (ابن نبي )، وهو يتحدث عن صلة الغرب بالمشكلة الحضارية في العالم الإسلامي: (ولا شك أن هذا الإشعاع العالمي الشامل الذي تتمتع به ثقافة الغرب، هو الذي يجعل من فوضاه الحالية مشكلة عالمية، ينبغي أن نحللها وأن نتفهمها في صلاتها بالمشكلة الإنسانية عامة، وبالتالي بالمشكلة الإسلامية )(14).

وهذا لا يجعل العالم الإسلامي تابعًا في حلوله للغرب، وإنما يتطلب منه أن يعرف التجارب حتى يتحقق من مدى نسبيتها ومدى قابليتها للنقل والاستفادة، فإذا ما أدرك العالم الإسلامي أن صدق الظواهر الأوروبية مسألة نسبية، فسيكون من السهل عليه أن يعرف أوجه النقص فيها، كما سيعرف عظمتها الحقيقية، وبهذا تصبح الصلات مع العالم الغربي أكثر خصوبة، ويسمح ذلك للنخبة المسلمة أن تمتلك نموذجها الخاص، تنسج عليه فكرها ونشاطها. فالأمر يتعلق بكيفية تنظيم العلاقة وعدم الوقوع في الاضطراب كلما تعلق الأمر بالغرب.

فالعالم الإسلامي منذ بداية الجهود التجديدية الحديثة يضطرب، كلما تعلق الأمر بالغرب، غير أن هذا الأخير لم يعد له ما كان يتمتع به من تأثير ساحر، وجاذبية ظفر بها على عهد أتاتورك.. فالعالم الغربي صار حافلاً بالفوضى، ولا يجد فيه المسلم الباحث عن (النظام ) نموذجًا يحتذيه، بقدر ما يجد فيه نتائج تجربة هائلة ذات قيمة لا تقدر، على الرغم مما تحتوى من أخطاء، بل بسبب ما بها من أخطاء(15).

فالغرب تجربة تعد درسًا خطيرًا لفهم مصائر الشعوب والحضارات، فهي تجربة مفيدة لبناء الفكر الإسلامي، وتحقيق الوعي السنني، الذي ينسجم مع البعد الكوني لحركة التاريخ، ذلك البعد الذي يسبغ على حركة انتقال الحضارة قانونًا أزليًا أشار إليه القرآن في الآية السابقة الذكر(16).

فالتأمل في هذه التجربة التي (صادفت أعظم ما تصادفه عبقرية الإنسان من نجاح، وأخطر ما باءت به من إخفاق، وإدراك الأحداث من الوجهين كليهما، ضرورة ملحة للعالم الإسلامي في وقفته الحالية، إذ هو يحاول أن يفهم مشكلاته فهمًا واقعيًا، وأن يقوم أسباب نهضته كما يقوّم أسباب فوضاه تقويمًا موضوعيًا )(17).

وحتى تنظم هذه العلاقات، ويستفاد من هذه التجربة البشرية، ويدرك مغزى التاريخ، لا بد من فهم هذا الغرب في عمقه، وتحديد خصائصه، ومعرفة ما يتميز به من إيجابيات وسلبيات، حتى لا تكون معرفتنا به سطحية مبتسرة، وأفكارنا عنه عامة وغير نابعة من إطلاع متأمل، وبالتالي يكون وعينا به مشوهًا أو جزئيًا. ولهذا ينتقد (ابن نبي ) الطلبة والباحثين المسلمين في صلتهم بأوروبا، بأنها صلة تجارية أو وظيفية، بدل أن تكون صلة تأمل وإدراك لسر حركة التاريخ في أوروبا.. ويقول: (نرى' أن الطالب المسلم لم يجرب حياة أوروبا، بل اكتفى بقراءتها، أي أنه تعلمها دون أن يتذوقها. فإذا أضفنا إلى ذلك أنه ما زال يجهل تاريخ حضارتها، أدركنا أنه لن يستطيع أن يعرف كيف تكونت، وكيف أنها في طريق التحلل والزوال لما اشتملت عليه من ألوان التناقض، وضروب التعارض مع القوانين الإنسانية )(18).

وإذا كان القرن العشرين قد تميز -كما أسلفنا- بتقريب المسافات، واتجاه البشرية نحو التوحد، في مصيرها، وفي علاقاتها، فإن المثقف المسلم نفسه ملزم بأن ينظر إلى الأشياء من زاويتها الإنسانية الرحبة، ويرتقي إلى إطار الحضور العالمي، وعيًا وإنجازًا، حتى يدرك دوره الخاص ودور ثقافته في هذا الإطار العالمي(19)، إذ لا يمكن أن نطرح مشاكلنا في زمن (العالمية)(20)، دون أن نأخذ في الاعتبار كل المعطيات السياسية والجغرافية(21).

وتحديد الصلة بالغرب وبغيره من الكيانات الحضارية، يعطينا تحديدين مهمين في إنجاز مشروعنا التجديدي:

التحديد الأول; هو التحديد السلبي، من خلال إدراك نسبية الظواهر الغربية، ومعرفة أوجه النقص فيها وأوجه العظمة الحقيقية.

والتحديد الثاني; هو التحديد الإيجابي، من خلال تحديد ما يمكن أن نسهم به في ترشيد الحضارة الإنسانية وهدايتها.

وهذا في حد ذاته ينضج ثقافتنا ويعطيها توجهًا عالمىًا، فمن (المفيد قطعًا أن ننظر إلى مشكلة الثقافة من زاوية عالمية... فإذا ما أدرك المثقف العربي المسلم(22)مشكلة الثقافة من هذه الزاوية، فسوف يمكنه أن يدرك حقيقة الدور الذي يناط به في حضارة القرن العشرين )(23).

ولهذا نجد (ابن نبي ) يؤكد على أن هناك وحدة في المشكلة الإنسانية تنبثق عن المصير المشترك(24).

كما نجده يؤكد على فكرة وحدة التاريخ الإنساني -في القرن العشرين- بقوله: (فوحدة التاريخ تتأكد في القرن العشرين بطريقة لا تدع مجالاً لفكرة (الوحدات التاريخية) المستقلة، التي تفهم فيها كل وحدة في حدودها; فلقد دخلت الإنسانية مرحلة لم يعد ممكنًا فيها تحديد مجال الدراسة الخاص على طريقة (توينبي). ولعله للمرة الأولى ينبغي على التاريخ أن يضع مشكلته وضعًا منهجيًا في المصطلحات الميتافيزيقية )(25).

كما يولي (ابن نبي ) رحمه الله عناية خاصة بأهمية الرؤية المتوازنة للأشياء، ولذلك نجده ينتقد موقف المثقفين المسلمين من الغرب، الذين يتخذون مواقفهم بشكل حدي مطبوع بطابع ثقافة (ما بعد الموحدين )، التي ترى أن الشيء إما طاهر مقدس وإما دنس حقير. ويرى أن عددًا كبيرًا من المسلمين، لم يرحل في طلب العلم بالغرب، ودراسته في جوهره. فالحركة الحديثة(26) لا تعدو على هذا مستوىً يتخبط فيه مجتمع فقد توازنه التقليدي، إذ هي مكونة في جوهرها من عناصر خالية من المعنى، مأخوذة عن المدرسة الاستعمارية، ثم يضاف إلى هذه العناصر، بعض العناصر الأخرى التي التقطتها اتفاقًا الشبيبة الجامعية، التي نشأت في طبقة متوسطة، وأقامت في أوروبا إقامة قصيرة لم تهدف من خلالها إلى معرفة الحضارة الغربية(27).

ومن ثم وجدنا المسلم يحكم على النظام الأوروبي الذي يحيط به أو الذي يستشعر وجوده في مطالعاته المبتورة، فأفكاره عن الحضارة الأوروبية تصدر عن ذلك الحكم المبتسر، وعن تلك العلاقة السطحية -الوظيفية أو التجارية- بينه وبينها. وهذا مرض متجذر في ذاتنا منذ قرون مضت، حينما صار الفكر الإسلامي عاجزًا عن إدراك حقيقة الظواهر، فلم يعد يرى منها سوى قشرتها; وأصبح عاجزًا عن فهم القرآن، فاكتفى باستظهاره، حتى إذا انهالت منتجات الحضارة الأوروبية على بلاده اكتفى بمعرفة فائدتها إجمالاً، دون أن يفكر في نقدها، وتفهمها، وغاب عن وعيه أنه إذا كانت الأشياء قابلة للاستعمال، فإن قيم هذه الأشياء قابلة للمناقشة(28).

ومن ثم وجدنا أنفسنا لا نكترث بمعرفة كيف تم إبداع الأشياء، بل نقنع بمعرفة طرق الحصول عليها، فاستحكم فينا ذهان السهولة، وهكذا كانت المرحلة الأولى من مراحل تجديد العالم الإسلامي، مرحلة تقتني أشكالاً دون أن تلم بروحها(29)، فأدى هذا الوضع إلى تطور في الكم، زاد في كمية الحاجات دون أن يعمل على زيادة وسائل تحقيقها، فانتشر الغرام بكل ما هو مستحدث(30)، وكان الأولى التفريق بين عمق الحضارة ومظاهرها السطحية.

============

# الفصل الثاني المنظور الحضاري المنظور الحضاري.. إطار كلي تفسيري

إذا كانت أزمة كل أمة وكل مجتمع هي في جوهرها -كما يؤكّد ابن نبي (رحمه الله)- أزمة حضارته، وهو إطار يراه أكثر شمولاً من المنظورات الجزئية التي تختصر الأزمة في مظاهرها، فهذا يدعونا إلى التساؤل عن كيفية إرجاع (ابن نبي ) لكل التحليلات التي طرحت للأزمة إلى أمر واحد هو الأزمة الحضارية ؟ ألا يعتبر هذا اختزالاً للأزمة أي اختزالها في طرح ذي مفاهيم كلية تتجاهل القضايا الجزئية ؟

المتأمل في كتابات (مالك بن نبي ) يجده ينفي التناقض، وينزع الشك، فهو يعتبر كل هذه الأزمات، السياسية والأخلاقية والعقدية والاقتصادية، ترجع إلى إطار واحد يجمعها، هو مشكلة أو أزمة الحضارة، التي هي في حقيقتها مجموع كل هذه الأزمات مجتمعة، ومحكومة بقانون واحد هو مشكلة الحضارة وما تخضع له من سنن. أي أن الحضارة على المستوى الكلي يحكمها قانون ينبغي البحث عنه واستخراجه والتعامل معه بمنهجية علمية.. ويؤكد ابن نبي أن هذا القانون يحكم الحضارة في بدايتها وفي سيرها وفي أفولها. أي أن التصدي لبناء حضارة ينبغي أن يتوجه إلى البحث في سنن (شروط ) قيامها وسقوطها، ومثلما هو الحال في الحضارة الإسلامية فإن الأمر يقتضي البحث في كيفية قيامها أول مرة، وأسباب انهيارها، وما هي الشروط الموضوعية لبعثها من جديد بعثًا في إطار التاريخ .

لكن السؤال هو: هل هذا القانون يحكم الظاهرة في أصلها وجذرها فقط أم يتعدى إلى جزئيات المشكلة الحضارية ؟

في منظور ابن نبي، أن المسألة الحضارية ينبغي أن تؤخذ بالتحليل، للوصول إلى البحث في الوحدات الأساسية للمشكلة الكلية، ولهذا فهو ينطلق من الزاوية التحليلية في صيغة أولية مجردة تأخذ العناصر الأولية الأساسية التي تشكل الظاهرة الحضارية. إذ يرى أننا لو أخذنا أي منتوج حضاري مهما كان، وقمنا بتحليله، فإننا نصل إلى المعادلة التالية:

ناتج حضاري = الإنسان + التراب + الوقت.

وهذا يقودنا إلى أن مجموع منتجات الحضارة هي مجموع الأشخاص، ومجموع ضروب التراب (الثروة الطبيعية )، ومجموع الزمن الذي هو اطراد اجتماعي ضروري لإنجاز أي تركيب حضاري.

ونفهم من هذا أن الحضارة هي نتاج لتفاعل عناصرها الأولية (الإنسان، والتراب، والوقت )، ونحن هنا أمام مشكلة كلية هي (مشكلة الحضارة )، وحلها يمر عبر حل المشكلات المتصلة بالعناصر الأولية للحضارة، أي أن حل المشكلة الكلية (مشكلة الحضارة )، يمر حتمًا عبر حل مشكلات هذه العناصر الثلاثة التي تشكل الرأسمال الأولي لأي حضارة، ويتعين حينها مواجهة المشكلات في إطارها الجزئي ارتباطًا مع الإطار الذي ينظمها.. ولهذا فتناول مشكلات الإنسان ومشكلات التراب ومشكلات الوقت، تكون ارتباطًا مع حل المشكلة الكلية التي هي مشكلة الحضارة. يقول ابن نبي: (إن مشكلة الحضارة تنحل إلى ثلاث مشكلات أولية: مشكلة الإنسان، ومشكلة التراب، ومشكلة الوقت. فلكي نقيم بناء حضارة لا يكون ذلك بأن نكدس المنتجات، وإنما بأن نحل المشكلات الثلاث من أساسها )(1).

فالمنظور الحضاري، في رأي ابن نبي هو السنة التي تحكم حركة الحضارة، وتؤطر كل الحلول الجزئية اللازمة.. ولتأكيد هذا المفهوم وتحديده، فإنه يعتمد طريقتي التحليل والتركيب، باعتبارهما آليتين مهمتين تشكلان بعدًا مهمًا في تحديد المنظور الحضاري لتناول مشكلة الحضارة.. فبالتحليل نبحث في المركبات الأولية التي تقوم عليها الحضارة، وبالتالي ما يكتنفها من مشكلات على مستواها الجزئي، وبالتركيب نصل إلى تحديد كيفية تكامل هذه العناصر لتركب الحضارة، وما يصحبها من مشكلات نجملها في الإطار الذي يجمعها وهو مشكلة الحضارة.

فهناك مستويان لتناول مشكلات الحضارة في المنظور الحضاري:

المستوى الأول، هو البحث في الإطار الذي ينظم كل هذه المسائل، أي السنة التي تتحكم في قيام وسقوط الحضارة بشكل كلي تجريدي، وهذا ينبغي البحث من خلاله في سنن الله في التاريخ، التي تجعل من عملية الحضارة قانونًا صارمًا يهدي إليه التحليل ويكشف عن سننيته، ولهذا يقول ابن نبي: (يجب التأمل في سنن التاريخ التي لا تغيير لها، كما أشار إليها القرآن الكريم: (سنة الله التي قد خلت من قبل ولن تجد لسنة الله تبديلا ً) (الفتح:23). من أجل هذا رأيت من واجبي أن أعيد دراسة هذه المشكلة (الحضارة )... لا على أنها سلسلة من الأحداث يعطينا التاريخ قصتها، بل كـ (ظاهرة ) يرشدنا التحليل إلى جوهرها، وربما يهدينا إلى (قانونها )، أي سنة الله فيها )(2).

أما المستوى الثاني، فهو معالجة المشكلات الجزئية التي هي مشكلات الرأسمال الأولي للحضارة، أي مشكلات الإنسان، والتراب، والوقت، ارتباطًا بالإطار الكلي والفكرة الجوهرية، حتى لا نؤدي إلى تفكيك المسألة إلى أكثر من مشكلة، وهذا ما انتقده ابن نبي في جهود التجديد في العالم الإسلامي، الذي تاهت به الجزئيات، وأدى به تجزيء المشكلات إلى أن يعالج أعراض المرض دون البحث في سببه الحقيقي، فكان العالم الإسلامي دهرًا طويلاً يخوض معارك وهمية.

ويفرق ابن نبي بين التجزيء وبين معالجة المشكلات الجزئية في إطار كلي ينظمها، فالتجزيء يؤدي إلى خلل في الرؤية، وابتسار في التعامل مع المشكلات، وقصور في التناول، مما يؤدي بالتالي إلى التفكيك وعدم القدرة على ربط المشكلات ببعضها، فتبقى المشكلات معزولة عن بعضها في إطار التاريخ ولا رابط بينها(3). فهناك فرق في نظر ابن نبي بين تجزيء المشكلة، وتحليل المشكلة إلى عناصرها الأولية، لإعطاء بعد منهجي وعملي في البحث عن حلول لها.

وكما سبق القول، فإن ابن نبي يقدم إطاره التحليلي لدراسة الحضارة، مضمنًا إياه جملة من الآليات والأدوات التي تحدد منظوره الحضاري بالمرجعية الأساسية وهي الوحي والنموذج النبوي، ولهذا فهو يؤكد أن من أهم المرتكزات لعلاج مشكلات الحضارة في العالم الإسلامي، الرجوع إلى الإسلام في صورته التي كان عليها على عهد الرسولصلى الله عليه و سلم والصحابة رضي الله عنهم والسلف الصالح، باعتبار الإسلام هو الأساس لإعادة بناء حضارتنا(4).. كما أن ابن نبي يعطي أهمية بالغة للفكرة الدينية في قيام الحضارة، ويعتبرها المركب الضروري للقيم الحضارية، الذي بفضله يحصل تركيب العناصر (الشروط ) الأولية للحضارة(5)، ويعتبر أن أي عملية بناء حضاري ينبغي أن تقوم على أساس من تمثل تجربة الجيل القرآني الأول، وفق قاعدة (لا يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها )، هذه القاعدة التي اتخذها ابن نبي إطارًا كان يتبناه حتى أيام دراسته في فرنسا عندما كان يرفع لواء الدعوة إلى السلفية والإصلاح(6).

ومن خلال تحليله لمشكلات الحضارة إلى: مشكلة الإنسان، ومشكلة التراب، ومشكلة الوقت، يجد المرء أن هذه العناصر الثلاثة يمكن الخروج منها بأبعاد تشكل المنظور الحضاري لمالك بن نبي، وذلك من خلال حديثه عن أن الإنسان هو محور هذه المعادلة، ودون حركة الإنسان فإن التراب والزمن يذهبان هباءً.. فالإنسان يؤثر بفكره وبيده وبماله، أما التراب والزمن فهما المجال الذي يؤثر فيه.. وإذا واصلنا التحليل، فإننا نصل إلى أن الإنسان يمكن أن يؤثر تأثيرًا فاعلاً في التاريخ إذا استطعنا أن نحل مشكلة أفكاره، ومشكلة عمله، ومشكلة ماله، وهذا -خاضع حسب ابن نبي- إلى الثقافة التي تكون المجال الاجتماعي الذي يمارس فيه الإنسان تأثيره، وهذا يقتضي منا تحديد دستورٍ للثقافة التي تجعل الإنسان محركًا لقوى التاريخ.

ويحدد ابن نبي دستور الثقافة بالمبدأ الأخلاقي، والمنطق العملي، والنزوع الجمالي، والصناعة بالتعبير الخلدوني (العلم ). وبعبارة أخرى، فإن مكونات منظوره الحضاري هي: المرجعية الدينية، التي هي الإسلام بالنسبة للمسلم، ثم الفعالية التي هي نتاج للمنطق العملي والنزوع الجمالي والعلم، بالإضافة إلى ما سبق وأن تناولناه بالتحليل وهو السننية.

فالمنظور الحضاري الذي يقدمه ابن نبي يقوم على مبادئ أو أبعاد خمسة هي: السننية، والوحي، والجمال، والفعالية، والعلم. وهو إطار تفسيري يقوم على أساسيات الإسلام، والحقيقة الموضوعية التي بث الله سننها في الآفاق، والأنفس، والتاريخ، والفعالية الاجتماعية، والعلم باعتباره تراكمًا في الخبرة البشرية وتفاعلاً مع الوحي، والذوق الجمالي باعتباره إطارًا لوجهة الحضارة وعنوانًا على اتساقها مع سنة الإحسان. فهو كما قال الدكتور سليمان الخطيب: (يركز على الجوانب الموضوعية في معالجته لمشكلة الحضارة.. هذا مع تأكيده على الدفعة القرآنية الحية، ودور الفكرة الدينية من المسار الحضاري )(7).

==============

# مفردات المنظور الحضاري

وتوظيفًا لهذا المنظور الحضاري كإطار للتحليل والتفسير، فإن ابن نبي ضمَّن هذا المنظور أدوات تحليلية متعددة، هي أدوات منهجية، وظفها في كل أعماله، فسّر بها حركة التغيير على مستوى الفرد والمجتمع والحضارة في إطار التاريخ، كما أنه وظفها ضمن نسق متكامل بأدواته التي سبق وأن أشرنا إليها بإيجاز، ونحاول هنا مناقشة اثنين منها لارتباطهما بدراسة الظاهرة الغربية في تكوينها وصيرورتها التاريخية.

1- قانون الدورة الحضارية:

يرى ابن نبي أن الحضارة في حركة دورية مستمرة (تداول مستمر ) في سيرها التاريخي.. وإذا رجعنا إلى الكتب التي تناولت التغيير الاجتماعي وحركة الحضارة، فإننا نجد أن هناك اختلافًا كبيرًا بين فلاسفة الحضارة في شكل مسار الحضارة، فهل هي في تطور مستمر أم هي في حالة تراجع مستمر أم هل هي في تناوب أو تداول مستمر .

فمن بين النظريات التي حاولت تفسير حركة الحضارة: النظرية الدورية التي يعد ابن خلدون رائدها بلا منازع، وتقوم على أساس أن التاريخ هو حركة مستمرة من الصعود والهبوط في العمران البشري في المجتمعات.. وكذلك (توينبي )، و(سوروكين )(1).. كما نجد أيضًا من القائلين بها الفيلسوف الألماني (أزوالد اشبنجلر ). ومضمون هذه النظرية: أن الحضارة تمر بمراحل متعددة، هي الميلاد والتوسع والأفول، ثم تهاجر إلى مكان آخر، وهكذا في هجرتها المستمرة مع الزمن(2).

وابن نبي نفسه من القائلين بالظاهرة الدورية، التي تعتبر أداة أساسية في منظوره الحضاري، يستعملها في تفسير حركة الحضارة، ويبدو الأثر الخلدوني واضحًا في نظريته في الدورة الحضارية، فهو يقول: (من الملاحظات الاجتماعية أن للتاريخ دورة وتسلسلاً، فهو تارة يسجل للأمة مآثر عظيمة ومفاخر كريمة، وهو تارة أخرى يلقي عليها دثارها، ليسلمها إلى نومها العميق... ومن الوجهة الكونية فإننا نرى الحضارة تسير كما تسير الشمس، فكأنها تدور حول الأرض مشرقة في أفق هذا الشعب ثم متحولة إلى أفق شعب آخر )(3)، هذه الدورة تمر بمراحل ثلاث; هي مرحلة الروح، ومرحلة العقل، ومرحلة الغريزة، ومجموع (المراحل الثلاث في هذه الدورة تعبر عن الأدوار الثلاثة التي يمر بها المجتمع: الحالة الكاملة، فيها تكون جميع الخصائص والملكات تحت سيطرة (الروح)... والمرحلة التالية هي المرحلة التي تكون فيها جميع الخصائص والملكات تحت سيطرة (العقل)... أما المرحلة الثالثة فتصور نهاية تحللها تحت سلطان (الغرائز) المتحررة من وصاية الروح والعقل، فيها يصبح النشاط المشترك مستحيلاً) (4).

هذا القانون الذي يحكم حركة الحضارة ويجعلها في حالة تداول وتعاقب، يرى ابن نبي أنه قانون يحكم حركة التاريخ، وأن أول من تنبه لذلك هو ابن خلدون عندما اكتشف منطق التاريخ وخضوعه لأسباب تقوده في حركته وتقلبه.

وإذا كان (ابن خلدون ) صاحب أول كشف لهذا القانون، فإنه قسَّم مراحل الحضارة إلى: طور البداوة، وطور التغلب والاستبداد، ثم طور الضعف والترف والتدهور(5). أما (ابن نبي ) فقد قسمها إلى: طور ما قبل الحضارة (الروح )، وطور الحضارة (العقل )، وطور ما بعد الحضارة (الغريزة ).

وكما سيتضح فيما يأتي من صفحات، فإنه يبدو وكأن ابن خلدون يرى في الأطوار التي تتقلب فيها الدولة أنها أطوار خارجية تلبس لبوسها الدول في حالة ميلاد وتوسع ونضج ثم يعقبه فناء ونهاية محتومة، أما ابن نبي فقد رأى الحضارة كأنها كائن إنساني مجرد يتقلب في هذه الأطوار الثلاثة، وقد استعمل للتعبير عن ذلك لغة التحليل النفسي باعتباره الإنسان جوهر العملية الحضارية، فاستعمل مصطلحات (الروح، والعقل، والغريزة )، وهي ذات صلة وطيدة بعلم النفس والتحليل النفسي، تنسجم مع النسق الذي استعمله ابن نبي في التركيز على الشروط النفسية للحضارة، وللإنسان الذي يبنيها.

لكن ما يثير التساؤل في قانون الدورة الذي بنى عليه ابن نبي تحليله وتفسيره لحركة الحضارة في التاريخ، هو أنه مرة يجعل هذا القانون أبديًا وسنة ثابتة تحكم حركة التغيير الحضاري، ومرة أخرى يذكر أن قانون الدورة هذا قد انتهى مع بعثة النبي صلى الله عليه و سلم. وهذا ما يجعلنا نتساءل عن وجه الاختلاف بين الأمرين ؟ وهل لدى ابن نبي تفسير لهذا الذي يبدو اضطرابًا في موقفه ? أم أن الأمر يتعلق بمستويات مختلفة يقدمها ابن نبي وتحتاج إلى فك الارتباط بينها، حتى لا يقع سوء الفهم لهذا القانون وتطبيقه على كل الأعمال التي يقدمها، مثلما وقع من بعض الكتاب(6).

ولكن إذا نظرنا إلى ما قاله ابن نبي نجد أنه يقول: (ويبدو أن عصرنا عصر التحول الإنساني الكبير، فهو العصر الذي يتحتم على الإنسانية فيه، وقد سبق لها أن اجتازت مع العهد الحجري الجديد المرحلة الأولى في تاريخها، بانتقالها إلى مستوى (الحضارات)، يتحتم عليها الآن أن تجتاز المرحلة الثانية التي تسمو بها إلى مستوى حضارة الرجل العالمي )(7). فالإنسانية التي تجاوزت المرحلة التاريخية الأولى، أي مرحلة ما قبل الحضارة، إلى مرحلة الحضارة، فإنها تسير الآن لتصير حضارة المجتمع العالمي، بدل حضارة الوحدات التاريخية. ولهذا فابن نبي يعتبر أن هذا الذي يحدث كان بسبب عاملين اثنين، على المستوى المعرفي، وعلى المستوى الاجتماعي التاريخي.

فأما المستوى المعرفي فكان مع ميلاد الرسالة الخاتمة، رسالة الإسلام مع بعثة النبي صلى الله عليه و سلم، إذ كانت ظاهرة ختم النبوة ميلاد عهد جديد في التاريخ الإنساني، وميلاد القيم العالمية، والمرجعية الممتدة إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، ودليل على أن الإنسانية قد بلغت الرشد، أو بتعبير العلامة محمد إقبال أن: (مولد الإسلام.. هو مولد العقل الاستدلالي )(8). هذا العقل الاستدلالي الذي زُوِّد برسالة عالمية في قيمها ومبادئها، قال تعالى: (وما أرسلناك إلا كافة للناس بشيرًا ونذيرًا )(سبأ:28).

وفي نظر ابن نبي أن الحضارة في التاريخ كانت عملاً من إنجاز اللاشعور(9) (كانت عملاً غير قصدي )، ولم يُنتبه إلى أن الحضارة تخضع لسنن وقوانين تحكم حركتها في التاريخ إلا مع العلامة ابن خلدون، غير أن الحضارة الغربية حققت على المستوى الاجتماعي التاريخي امتداد الحضارة، لتشمل كل النطاق البشري، بغض النظر عن إصدار أحكام قيمية حول هذا الامتداد أكان نافعًا للبشرية أم لا، أو أن الحضارة الغربية ذات قيم عالمية أم لا.

ومن الوجهة الموضوعية، فإن الغرب بتحقيقه لهذا الامتداد للحضارة، بفضل قوته الصناعية، أحدث تحولاً في طبيعتها التاريخية(10)، بعد أن كان الإسلام وميلاد الرسالة الخاتمة قد حققت التحول الحقيقي في طبيعتها المعرفية بفضل تعاليم الوحي. ومن هنا يمكن القول: إن الحضارة على المستوى المعرفي حققت عالمية قانونها مع النبوة(11)، وحققت عالميتها على المستوى التاريخي وعلى المستوى الاجتماعي مع الامتداد الحضاري الغربي المعاصر، الذي امتد ليشمل كل الإنسانية، وتتأثر به من قريب أو من بعيد، سلبًا أو إيجابًا.

ولهذا يرى ابن نبي أن قانون الدورات الذي كان يراه ابن خلدون بحتميته، كما يراه (اشبنجلر ) بحتميته أيضًا، يبدو أنه حدث فيه تغير على ضوء أحداث الحرب العالمية الأولى وما بعدها، وكذا العامل الاستعماري الذي وحد مصير الإنسانية من خلال توحيدها في آلامها(12).

فالغرب في رأي ابن نبي ليس مستثنى من قانون الدورة، وإنما الحضارة الغربية ذاتها كاطراد تاريخي، تأتي كعامل ثانٍ في مقابل قانون ختم النبوة على المستوى المعرفي، واتساقًا مع منطق التاريخ الذي يتوجه سائرًا مع القدر إلى تحقيق اكتمال دلالات عالمية رسالة النبوة، وفق قوله تعالى: (ليظهره على الدين كله ) (التوبة:33).. فالموجة الأوروبية ليست خلودًا، كما ظن من رأى أن ابن نبي يستثنيها من القانون، وإنما المرحلة العالمية هي في ذاتها قانون يخلف قانونًا آخر كان يعمل ضمن إطار محدد من تطور حركة الحضارة الإنسانية، عندما كانت الحضارة قائمة على نظام الوحدات المستقلة.

وتمشيًا مع منطق التاريخ الذي يقود البشرية نحو المصير المشترك، فإن التاريخ يسجل قانونًا آفاقيًا آخر يجعل من عملية الأفول على مستوى الحضارة أمرًا مستبعدًا، هذا القانون هو قانون المقاصة، أي أنه كلما ظهر هناك ذبول أو ضعف في جانب من جوانب الحضارة فإنه يؤدي إلى تعويضه من قبل جهة أخرى في نطاق حضارة المصير المشترك التي تحتاج إلى إنقاذ(13).

ومما سبق يمكن استنتاج أن ابن نبي يربط انتهاء قانون الدورة بحركة الحضارة، وما وصلت إليه من امتداد في العالم، كنتيجة لاطراد القوة الصناعية الغربية من جهة، ونضج الوعي الإنساني من جهة أخرى بفعل الدفعة التي أعطتها الرسالة الإسلامية، كما أشار إقبال. أي أن المرحلة العالمية كانت منطلقًا للتاريخ، ومصبًا لعمل سنن التاريخ، لتسلم الحضارة إلى سنة أخرى تحكمها في العهد العالمي.

2- الفكرة الدينية المُرَكِّبة:

من الأدوات التحليلية أيضًا التي تميز المنظور الحضاري عند ابن نبي، والتي وظفها في تحليل حركة الحضارة، والتغير الاجتماعي، ما أسماه بـ (الفكرة الدينية ).. والفكرة الدينية في نظره، هي الفكرة المركِّبة، التي تعمل على التفاعل بين العناصر الأساسية (الشروط الأولية ) للحضارة. فابن نبي عندما جاء إلى تعريف الحضارة، طبق عليها آليتين أو منهجين متكاملين:

أولاً: المنهج التحليلي، إذ حلل الحضار إلى عناصرها الأولية التي تعتبر الرأسمال الأولي، وصاغها في شكل معادلة رياضية ذات متغيرات ثلاثة هي الإنسان والتراب والوقت، وقوامها: إنسان+ تراب + وقت = حضارة.

ثانيًا: المنهج التركيبي، الذي من خلاله أراد أن يكتشف القانون الذي تخضع له الحضارة في بنائها، وتحديد المنهج الذي تخضع له الحضارة باعتبارها بناءً، وهو ما أسماه بقانون التفاعل، إذ العناصر الأولية تبقى ساكنة ما لم تتدخل الفكرة المركِّبة، محدثة الشرارة الروحية التي تجعل من العناصر الأولية ديناميكية متحركة في إطار التاريخ.. هذه الفكرة المركبة التي تحدث الشرارة هي الدين، أو الفكرة الدينية.

والملاحظ أن روح البحث عن القانون الذي يحكم الحضارة كظاهرة اجتماعية تاريخية، جعلت من ابن نبي يحاول أن يضبطها في إطار مجرد على شكل معادلة رياضية، ويبدو أثر خلفيته التعليمية بارزًا، في تشبيهه لمعادلة تركيب الحضارة بمعادلة تكوين الماء بالصيغة الكيميائية، رغم إدراكه لصعوبة التحديد في العلوم الاجتماعية، لتعقد الظواهر الاجتماعية وعدم وصول العلم إلى الدقة فيها مثل دقة العلوم الطبيعية، ولم يتم التوصل إلى تحديد مصطلحاتها بعد كما حدث للعلوم الطبيعية(14).

ويبدو ابن نبي مستحضرًا لهذا الوعي من جهة ومستلهمًا دقة العلوم الطبيعية من جهة أخرى، وهو يحاول تحديد دور الفكرة الدينية في تحريك العناصر الأولية للحضارة، وإدخالها في إطار ديناميكية تاريخية، ودون هذا المركب فإنها لا تحدث أثرًا في التاريخ. فالدين هو المفعِّل للشروط الأولية للحضارة، والمكوِّن للدافع النفسي الأساسي الذي يخرج الحضارة إلى مسرح التاريخ.

وقبل مواصلة تحليل الدور الذي يقوم به الدين في بناء الحضارة كما يراه (ابن نبي )، نتساءل أولاً عن مفهوم الدين عمومًا، في التحديد اللغوي والقرآني وفي العرف العلمي عند المسلمين وعند الغربيين، للوصول إلى تحديد مفهوم الفكرة الدينية التي تحدث عنها ابن نبي وأعطاها دورًا مهمًا في بناء الحضارة، ومدى انطباق مفهومه للدين على مختلف الأفكار التي صاغت الحضارات الإنسانية، كما نحدد موقع الدين والإسلام خصوصًا في مفهوم ابن نبي.

ويمكن القول إجمالاً: إن الدين في الوضع اللغوي له عدة إطلاقات تتضمن إلزامًا والتزامًا، وملتزمًا به، أو بعبارة أخرى علاقة بين طرفين تتضمن عهدًا ومبدأ يلتزم به، فالإلزام من قبل المُلزِم يقابله خضوع والتزام، وهي حالة نفسية وعملية، تسمى عملية التدين، ثم المبدأ الملتزم به، وهي الحقيقة الخارجية -بتعبير الشيخ دراز- وهي جملة المبادئ التي تدين بها أمة من الأمم، اعتقادًا وعملاً(15).

أما في الاستعمال القرآني فيرد مصطلح الدين بمعنيين، معنى المعتقد والمنهج الذي يتخذه الإنسان في هذه الحياة، يفسر به الوجود، ويشكل به نظرة وتصورًا عن الخالق والكون والحياة، وهذا ينظر إليه من ناحيته الإنسانية العملية، أي تلك الممارسة العملية (التدين )، سواء كان هذا الدين إنكارًا أو إقرارًا بوجود الخالق وتحقق وعده أم لا. أما المعنى الثاني فهو بالنظر إلى حقيقة هذا المنهج، وواضعه، وفي هذا يصير هناك دينان فقط; دين الحق ودين الضلالة، أو بعبارة أخرى دين الله الإسلام، وغيره من الاعتقادات التي تخالفه مهما كانت.

ونفهم مما سبق أن القرآن يعتبر ما يُتخذ من أفكار أو معتقدات أو خرافات منهجًا للحياة دينًا بالمعنى العام، وإن كانت غير مقبولة عند الله، وذلك أنها تتوفر فيها تلك الجوانب الثلاثة التي أشرنا إليها سلفًا، وهي الخضوع والاعتقاد والمعتقد نفسه.

فهناك إذن جانبان للدين; باعتباره وضعًا إلهيًا، فإنه لا دين غير الإسلام، وباعتبار الواقع الإنساني فإن الدين هو كل منهج يتوفر فيه الجانب النفسي الذي يحمل الناس على التقيد به بما يحمله من وعود وتصورات، وبما يتوفر فيه من تعاليم، هذا إذا نظرنا إلى الدين كمنهج للحياة وتشريع يلتزمه الناس.

غير أن هناك بعدًا آخر ينبغي الالتفات إليه، وهو ما بينته الآية: (فأقم وجهك للدين حنيفًا فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم ولكن أكثر الناس لا يعلمون ) (الروم:30)، وهذا يدلنا على أن الدين مكون أساسي من مكونات فطرة الإنسان، فإذا نقص فإن هذه الفطرة ينقص منها بعد أساسي، وهذا ما أشار إليه (باقر الصد ر) عند حديثه عن أنواع السنن التاريخية في القرآن، فالقرآن الكريم يعرض الدين، ليس على أنه تشريع فقط، بل هو سنة موضوعية من سنن التاريخ، وقانون داخل في صميم تركيب الإنسان وفطرته، بل هو فطرة الله التي فطر الناس عليها، لا يمكن تبديلها، ولا يمكن أن تنتزع من الإنسان لأنها جزء من أجزائه التي تقومه، فالدين ليس مقولة حضارية مكتسبة يمكن إعطاؤها ويمكن الاستغناء عنها، فهو لا يمكن أن ينفك عن خلق الله ما دام الإنسان إنسانًا، فالدين يعتبر سنة لهذا الإنسان(16).

لكن هذه السنة سنة مفتوحة تقبل التحدي على المدى القصير، لكن على المدى البعيد هي سنة صارمة لا تقبل التحدي، أي أن الدين قد يقع فيه التحريف، والانحراف، والتبديل، ولكن يبقى الدين مستمرًا.. إن جوهر التدين لا يمكن أن يتخلى عنه الإنسان(17)، ولو استعاض عنه ببدائل لا دينية تحل محل الدين، غير أن الأمر في الأخير يؤول إلى الدين الحق، وهذا ما نجد القرآن يؤكده، يقول الله تعالى: (... وإن من أمة إلا خلا فيها نذير) (فاطر:24)، باعتبار أن هذا النذير يأتي للمحافظة على استقامة هذه السنة الكونية، ثم في الأخير يبين القرآن بأن هذه السنة هي التي ستنتصر، يقول الله تعالى: (ليظهره على الدين كله وكفى بالله شهيدًا) (الفتح:28)، فإن هذه السنة ستظهر بالرغم من أنواع التحدي والانحراف التي ظهرت خلال التاريخ، وبالرغم من الصور الزائفة لهذه السنة.

والخلاصة مما سبق، أن الدين يقصد به معنيان، فهو تشريع إلهي وقانون للحياة، كما أنه من جهة أخرى يمثل ظاهرة إنسانية صاحبت الإنسان منذ خلقه، وهي من صميم الوجود الإنساني المتميز بالوعي والإدراك وحرية الاختيار. ولو نظرنا إلى الدين بمفهومه الذي يدرس في العلوم الاجتماعية وتاريخ الأديان، فإننا نجد أنه يقصد به ظاهرة اجتماعية لها جانبان، هما: جانب نفسي (حالة التدين )، وجانب موضوعي خارجي، وهذا يتضمن العادات والشعائر والمباني والمعابد والروايات المأثورة والمعتقدات والمبادئ التي تدين بها أمة أو شعب أو مجتمع ما(18). وهذا يقود إلى محاولة التعرف على المفهوم الغربي للدين وبخاصة من الوجهة السوسيولوجية، باعتبار أن البحث يحاول انتقاد وتقويم مفهوم ابن نبي للدين من الوجهة الاجتماعية أكثر من أي وجهة أخرى، ودوره في بناء الحضارة.

ففي اللغات الأوروبية، فإن الدين Religion يرجع إلى أصله اللاتيني، الذي يتكون من مقطعين Re الذي يفيد الإعادة والتكرار، و ligion الذي أصله Legere ومعناها الجمع والربط(19). فالدين في أصله اللاتيني الذي ترجع إليه اللغات الأوروبية يفيد معنى الربط والجمع المتكرر مرة بعد مرة، وكأن اللغة اللاتينية تشير إلى أن مهمة الدين تكون في تحقيق الربط والجمع بين أتباعه. وسنرى ظلال هذا المعنى اللغوي تخيم على تعريفات العلماء الغربيين، الذين يجنحون إلى التركيز على وظيفة الدين أكثر من التركيز على حقيقة الدين ذاته.

فـ (شيشرون ) يعرف الدين بأنه الرباط الذي يصل الإنسان بالله.. أما (كانت ) فيعرفه بأنه الشعور بواجباتنا من حيث كونها قائمة على أوامر إلهية.. ويعرفه (تايلور ) بأنه الاعتقاد بوجود أرواح.. كما يعرفه (سبنسر ) بأنه الإيمان بقوة لا يمكن تصور نهايتها الزمانية ولا المكانية.. أما (دور كايم ) فيعرف الدين بأنه مجموعة متساندة من الاعتقادات والأعمال المتعلقة بالأشياء المقدسة (أي المعزولة المحرمة )، اعتقادات وأعمال تضم أتباعها في وحدة معنوية(20).. وأما (كرين برينتون ) فإن الدين عنده عبارة عن نسق ميتافيزيقي متكامل سواء كان سماويًا أو عقلانيًا(21).

والملاحظ هنا، أن الغربيين يهتمون بالدين باعتباره معطىً اجتماعيًا، مهما كان مصدره، فالتركيز على الوظيفة الاجتماعية للدين التي هي الربط حول مجموعة من المفاهيم، تشكل نسقًا مقدسًا أو نسقًا غيبيًا يجيب عن التساؤلات الإنسانية

==============

# الدين في مفهوم ابن نبي رحمه الله

يرى ابن نبي أننا حينما نتأمل القرآن (يبدو الدين ظاهرة كونية تحكم فكر الإنسان وحضارته، كما تحكم الجاذبيةُ المادةَ، وتتحكم في تطورها. والدين على هذا يبدو وكأنه مطبوع في النظام الكوني، قانونًا خاصًا بالفكر، الذي يطوف في مدارات مختلفة، من الإسلام الموحِّد إلى أحط الوثنيات البدائية )(1). فهو قانون من قوانين الله عز وجل التي فُطرت عليها النفس الإنسانية.. وهو (فضلاً عن أنه يغذي الجذور النفسية العامة، فإنه يتدخل مباشرة في العناصر الشخصية التي تكوِّن الأنا الواعية في الفرد، وفي تنظيم الطاقة الحيوية التي تصنعها الغرائز في خدمة هذا الأنا )(2).

ثم يرجع ابن نبي إلى التاريخ باعتباره السجل الأمين للتحولات التي شهدتها البشرية، فيجد التاريخ يشهد أن الدين ثابت من ثوابت الشخصية الإنسانية، ليس هذا فحسب، بل إن الدين كان من وراء كل المنجزات البشرية، ولهذا فابن نبي ينتقد نظرية (توينبي ) في التحدي والاستجابة، لأنها وإن كانت تفسر قيام بعض الحضارات فإنها لا تفسر لنا قيام بعضها الآخر، كما ينتقد ما ذهب إليه (ماركس ) ومدرسة المادية التاريخية، إذ أن من الحضارات ما لا يمكن أن نفسر قيامها بالعامل المادي، مثل الحضارة الإسلامية، وحتى الحضارة الغربية نفسها، كما يتنقد ما ذهب إليه دعاة التفوق العرقي، وقيام الحضارات على أساس العرق، ويقدم الدين بديلاً تفسيريًا لقيام الحضارات ومنجزاتها عبر التاريخ. يقول ابن نبي: (كلما أوغل المرء في الماضي التاريخي، في الأحقاب الزاهرة لحضارته، أو المراحل البدائية، وجد سطورًا من الفكرة الدينية. ولقد أظهر علم الآثار دائمًا -من بين الأطلال التي كشف عنها- بقايا آثار خصصها الإنسان القديم لشعائره الدينية، أيًا كانت تلك الشعائر )(3)، ليس هذا فحسب، بل إن الحضارات ما أشرقت إلا من أمثال الكعبة أو معبد سليمان، ومن هناك كانت تشرق هذه الحضارات لكي تنير العالم. ولهذا يقرر أن (الدين الذي هو التعبير التاريخي والاجتماعي عن هذه التجارب المتكررة خلال القرون، يعد في منطق الطبيعة أساس جميع التغيرات الإنسانية الكبرى، وإذًا فلن نستطيع أن نتناول الواقع الإنساني من زاوية المادة فحسب )(4).

فابن نبي لا يرى الفكرة الدينية نسقًا من الأفكار الغيبية فقط، ولا يقصرها على الدين السماوي فقط، بل هي قانون يحكم فكر الإنسان، ويوجه بصره نحو أفق أوسع، ويروض الطاقة الحيوية للإنسان، ويجعلها مخصصة للحضارة(5)، وهي في نظره كل فكرة تقدم معبودًا غيبيًا ووعدًا أعلى، ابتداء من الإسلام الموحد إلى أحط الوثنيات. ولهذا فهو يعقد فصولاً، خاصة في كتابه (شروط النهضة )، لتحليل دورتين من دورات الحضارة; هما الحضارة الإسلامية والحضارة المسيحية لاستخراج السر الذي دفع بكلتا الحضارتين إلى مسرح التاريخ، وتحديد الموقع الذي يمثله الدين في حركة الحضارة. وهو بتحليله لهذين الدورين ينتهي إلى تأكيد أن السر الكوني الذي يركِّب العناصر الثلاثة الأساسية للحضارة; الإنسان والتراب والوقت، ويبعثها قوة فاعلة في التاريخ هو الدين.

فكلتا الحضارتين تنطلقان (من الفكرة الدينية التي تطبع الفرد بطابعها الخاص، وتوجهه نحو غايات سامية )(6). بل أن ابن نبي يرى أن هذا القانون الدافع للحضارة لا نجده في الحضارتين: الإسلامية والغربية فحسب، بل يتعداه إلى بقية الحضارات التي سجلها تاريخ الإنسانية، كالديانة البوذية في الحضارة البوذية، والبرهمية في الحضارة البرهمية. أي أن كل حضارة في أساسها ذات مبعث ديني. ولا يمكن للحضارة أن تظهر في نظر ابن نبي إلا (في صورة وحي يهبط من السماء يكون للناس شرعة ومنهاجًا، أو هي -على الأقل- تقوم أسسها في توجيه الناس نحو معبود غيبي بالمعنى العام )(7).

ومن هنا فالحضارة تبدأ عندما يمتد نظر الإنسان إلى أفق أعلى من يومه وعن حقبته التي يعيشها، ومن هنا ينبغي علينا أن نتتبع تأثير الدين من خلال تركيبه بين العبقرية الإنسانية والشروط الأولية للحضارة، أي تتبع ذلك (الاطراد بين الفرد والفكرة الدينية التي تبعث الحركة والنشاط)(8).

الوظيفة الاجتماعية للدين:

إن الدين في ضوء القرآن له غايتان، فإن قوله تعالى: (وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون )(الذاريات:56)، يبين أن الدين غايته أن يربط الأرض بالسماء، وهو حين ينشئ الشبكة الروحية التي تربط الفرد والمجتمع بالله، فإنه في الوقت نفسه يبني شبكة العلاقات الاجتماعية التي تتيح لهذا المجتمع أن يضطلع بمهمته الأرضية، وأن يؤدي نشاطه المشترك، وهو بذلك يربط أهداف السماء بضرورات الأرض.. فهذا القانون الذي بينته الآية، لم يرد أن يفصل الناس عن الأرض، ولكن أراد أن يفتح لهم طريقًا أعظم خيرًا ليضطلعوا بعملهم الأرضي(9).

من هذه الوجهة ينظر ابن نبي إلى الدين باعتبار أن له وظيفة الربط بالله عن طريق هذا الوضع الإلهي، كما أن له أن يفتح آفاقًا أوسع للإنسان حينما يربطه بأبعاد السماء، ويرفع بصره إلى ما بعد حياته الأرضية. فهناك غايتان للدين; ربط الصلة بالله، وبناء شبكة العلاقات الاجتماعية التي تدخل بالمجتمع دائرة الحضارة.

وباعتباره يبحث عن القوانين التي تحكم التغيير الاجتماعي، وينظر في شروط البناء الحضاري، فإن ابن نبي يركز على الوظيفة الاجتماعية للدين، معتمدًا في ذلك على الاعتبارات النفسية الاجتماعية بالإضافة إلى الاعتبارات التاريخية(10)، فهو يختبر هذه الوظيفة من ناحيتين; من ناحية تسجيل الفكرة الدينية في النفوس، ومن ناحية تسجيل الفكرة الدينية في التاريخ، وهو ما بينه في كتابه (شروط النهضة )(11)، وهذا الاختبار لعمل الفكرة الدينية، جعله يختار دراستها في إطار دورتين حضاريتين مختلفتين، هما; دورة الحضارة الإسلامية، ودورة الحضارة الغربية.

فمن الجانب التاريخي، يتتبع ابن نبي كيفية عمل الفكرة الدينية، من خلال الحقائق التاريخية المنقولة، أما من الناحية النفسية الاجتماعية، فإنه يتتبع بالتحليل والتركيب كيفية دخول الفكرة الدينية في بناء الشخصية الإنسانية، وكيفية دخولها في تركيب ثقافي معين، وكيفية إحداثها للتغيير الاجتماعي، ثم كيف تصبغ تجربة معينة من خلال إعطائها المبررات المتمثلة في المثل الأعلى. وما دام الموضوع متعلقًا بالحضارة الغربية، فإن تركيز البحث سيكون حول المسيحية وبديلاتها الدينية واللادينية في الحضارة الغربية.

و لهذا فهو يقرن ميلاد الحضارة الغربية بتسجيل الفكرة المسيحية في النفوس، يقول: (إن الفكرة المسيحية قد أخرجت أوروبا إلى مسرح التاريخ. ولقد بنت عالمها الفكري انطلاقًا من ذلك. ومع عصر النهضة استعادت اكتشافها العالم الإغريقي فتعرفت على (سقراط) باعث الأفكار، و(أفلاطون) المؤرخ لتلك الأفكار، و(أرسطو) مشرعها. غير أن هذا العالم الذي التقت به ثانية وهي تقتفي أثر الحضارة الإسلامية قد اكتسى منذ (توماس الأكويني) صبغة مسيحية )(12).

فالمسيحية تُعتبر في نظر ابن نبي دافعًا أساسيًا في تشكيل أوروبا ككيان حضاري، بالرغم مما أضيف إليها من بعد إغريقي. كما يؤكد ذلك (توينبي ) نفسه، بأن المسيحية كانت مركبًا مهمًا من مركبات الحضارة الغربية، واعتبرها من الأديان الكبرى التي ارتبطت بحضارات تاريخية، فإذا كانت البوذية ارتبطت بالصين والهندوسية بالهند والإسلام بالحضارة الإسلامية، فإن المسيحية ارتبطت بالحضارة الغربية(13). وابن نبي نفسه يحيلنا إلى الغربيين بقوله: (هكذا يجب أن نلتفت نحن إلى مختبر التاريخ ليدلنا على المركب الذي تدخل في تركيب العناصر الثلاثة: الرجل، والتراب، والوقت، كيما يكونها حضارة. ولا أريد هنا إطالة الكلام على تأثير الدين كعامل مركب للحضارة، فمن درس تاريخ الحضارة الغربية، (توينبي) أو (ماسيس)، يرى أثر الفكرة المسيحية في تركيبها )(14).

وهذا (برنال ) في كتابه (العلم في التاريخ ) عندما يتحدث عن حركة الإصلاح البروتستانتي يقول: (كانت الحركات التي قضت على الإقطاع والنفوذ الكنسي هي نفسها التي قضت على العبودية والأنظمة المتخلفة المتوارثة، وكما في السياسة كذلك في العلم حدثت ثورة على التقاليد، التي حررت عقل وإبداع الإنسان وأخرجته من الدائرة الضيقة التي كان مسجونًا فيها )(15)، وهذا هو الدور الذي كان ابن نبي ينظر إليه بقوله: إن (الفكرة المسيحية شكلت أنا الأوروبي أو ذاته، كما صاغت منظر أوروبا الذي نشهده في منتصف هذا القرن )(16).

وبما أن الفكرة الدينية تشكل الأنا، الفردي والجماعي، فإن هذه الفكرة المسيحية كانت المشكِّل الأول للفردية الأوروبية، والأنا المتفوق الذي كان يشعر به الغربي في بداية حملة التوسع الاستعماري الغربي في العالم، يقول (هانتنجتون ): (المسيحية الغربية -الكاثوليكية أولاً ثم البروتستانتية- هي المميز التاريخي الوحيد الأكثر أهمية في الحضارة الغربية. وفي الحقيقة، خلال الألفية الأولى -ما صار يعرف اليوم بالحضارة الغربية- كان يسمى الغربي المسيحي. وهناك شعور مسيحي مشترك بين الغربيين يجعلهم يحسون بروابط بينهم تميزهم عن الترك والبيزنطيين وغيرهم )(17).

بل إن المسيحية كانت الفكرة الوحيدة، والدافع الأخلاقي الذي وظفته أوروبا -كما سبق- لغزو العالم، يقول ابن نبي: (في هذا المجتمع ذي الفضائل الجذبية الأثرة -التي سنت التعاون وجهلت سنة الضيافة- أودعت المسيحية (خميرة) التوسع الأخلاقي، الذي استخدم فيما بعد ذريعة للحروب الصليبية، وللمشاريع الاستعمارية )(18). بل كما يرى (هانتنجتون ) أن الغربيين في القرن السادس عشر لما انطلقوا في غزوهم للعالم، كان ذلك من أجل الله ومن أجل الذهب أيضًا(19). ويستشهد ابن نبي بالتفسير الذي ذهب إليه (كسرلنج ) الذي يرى الحضارة الغربية الأوروبية باعتبارها تركيبًا مكونًا من روح المسيحية وتقاليد الجرمانية. ومن قبله المؤرخ الفرنسي (جيزو ) الذي كان ينظر إلى الأشياء من هذه الزاوية نفسها قبل (كسرلنج ) بقرن كامل(20).

كل هذا التأكيد من ابن نبي على أن المسيحية كانت المفعِّل الأول لشروط الحضارة الأولية في الغرب، يدفعنا إلى التساؤل عن موقع اللادينية، أو بتعبير أصح ما موقع الماركسية ؟ وما موقع المادية من تفسيره لدور الدين ? أين الدين في التجربة الماركسية، بل وفي أوروبا الحداثة وما بعد الحداثة ؟

يرى ابن نبي أن المسيحية التي شكلت الغرب، ليست هي مسيحية عيسى عليه السلام والحواريين، وإنما هي المسيحية التي نمت في أوروبا وسجلت وجودها النفسي في الغرب بعد ثلاثة قرون من تسجيلها في التاريخ، وخضعت خلال ذلك كله إلى تشكيل خاص أدخل في تكوينها البعد الأغريقي واليهودي، مما يمكن أن نسميها الفكرة الإغريقية اليهودية المسيحية، وصارت تشكل الإطار النفسي الذي تتشكل فيه الخميرة الأخلاقية، وينمو فيه الأنا الغربي، فرديًا كان أو جماعيًا.. وبما أن الدين سنة مرتبطة بالوجود الإنساني كما سلف، وهو سنة مفتوحة كما أشار (باقر الصدر ) من قبل، فإن الفكرة الدينية تبقى تعمل، (وتقوم بدورها الاجتماعي ما بقيت متمسكة بقيمتها الغيبية... أي بقدر ما تكون معبرة عن نظرتنا إلى ما بعد الأشياء الأرضية )(21)، وعندما تفقد هذه القيمة الغيبية، فإنها تترك مكانها، أو تعمل بواسطة بديلاتها اللادينية نفسها(22)، وهذا ما حدث في الغرب، عندما كانت المسيحية لا تملك بعدًا غيبيًا متماسكًا، فإنها بقيت إطارًا أو بنية تحتية أنتجت الماركسية، التي هي في حقيقتها دين بمفهومها العام بما تقدمه من تفسير للنظرة الكونية، وبما تقدمه من وعود، وبما قامت به من ربط ودفع نفسي لمعتنقيها. فالمادية إذًا مفهومية دينية في حقيقتها حينما تطرح نفسها بديلاً للدين(23).

وخلاصة الحديث عن الفكرة الدينية، أن ابن نبي يستعمل مفهوم الدين باعتباره تلك السنة التي فطر الله عليها الإنسان، وأن الدين وحده هو المركب الحقيقي للقيم الحضارية، وهو يعطي شرارة الانطلاق لتدخل الحضارة في التاريخ، وتتحقق في عالم الإنجاز

=============

# أهم خصائص الظاهرة الحضارية الغربية الخاصية الأولى: العالمية المركزية

في هذا الفصل نحاول تفحص أهم المفاتيح التي قدمها ابن نبي (رحمه الله) لدراسة وفهم الظاهرة الحضارية الغربية، إذ بعد تعرفنا على منظوره الفكري بوجه عام، وموقع المسألة الحضارية في فكره، ثم المنظور الحضاري بإطاره التفسيري وأدواته التحليلية، نحاول أن ننظر كيف طبق ابن نبي منظوره وأدواته في تقديم تصور عن الحضارة الغربية المعاصرة.

يرى ابن نبي (رحمه الله) أن أهم ما يميز الحضارة الغربية المعاصرة هي إشعاعها العالمي (عالميتها المركزية )، ومحاولة بسط هيمنتها ونفوذها على العالم، وماديتها التي تشكل رؤيتها إلى الكون والتكوين والتاريخ، وكذا فعاليتها الإنجازية على المستوى الاجتماعي والمادي، ثم نزعتها الجمالية التي ترجع إلى الجذر اليوناني وإلى عصر النهضة وتتحكم في تنظميها الاجتماعي. وخلال ذلك ندرس أهم نتائج هذه المميزات، التي تمنح لنا رؤية للاقتراب من الغرب على بصيرة بما هو ظاهر في هذه الحضارة وما هو مستبطن.

الخاصية الأولى: العالمية المركزية

مفهوم العالمية المركزية:

يرى ابن نبي (رحمه الله) أن الظاهرة الواضحة للعيان، والتي لا تحتاج إلى كبير تأمل; هي ظاهرة عالمية الحضارة الغربية. وإذا كان في تحليله لدورة الحضارة -كما سبق- يؤكد أن كل حضارة لها مجالها الحيوي، وقيمها المميزة لها، المحددة لمسارها في التاريخ، فإنه يؤكد بما لا يدع مجالاً للشك بأن ظاهرة القرن العشرين هي عالمية الحضارة الغربية، إذ يقول: (فالظاهرة هي عالمية الحضارة الغربية التي تطَّرِد بدافع من قوتها الخاصة، ومن تطور الشعوب التي تعيش على المحور الآخر )(1). فما مقصوده عندما يقول: إن الحضارة الغربية حضارة عالمية ؟ وما مفهوم العالمية الذي يعطيه لها كخاصية ؟ وكيف تكون عالمية مركزية ؟ وما صلة هذا المفهوم ببقية المفاهيم، مثل الاستعمار، والتحيز، والقوة، والمركزية الغربية، والعنصرية، وغيرها ? وما هو مسار تشكل هذه العالمية ؟ وهل مرت بمراحل مختلفة ؟ وما هي مستوياتها؟

للوصول إلى إجابة عن هذه الأسئلة المتعددة، فإن ابن نبي (رحمه الله) يدعونا إلى البحث في جذور الحضارة الغربية، ومآلاتها، وواقعها الحالي، وما أضافته من إنجاز إلى التراث البشري، وما أحدثته من فوضى في العالم، كما أنه يدعونا إلى التفريق بين مستويين من التحليل، المستوى الأول يرتبط بإعطاء حكم قيمي، وأما الثاني فيهمه أن يرصد الظاهرة في حركتها على مسرح التاريخ، وميدان التغيير الاجتماعي، أي كما هي في الواقع. ومن هذا المستوى الأخير يمكن أن نلحظ مظاهر الهيمنة الغربية على العالم، وانتشار منتجاتها الحضارية في كل مكان، وتحكمها في مسيرة الإنسانية خلال القرنين الأخيرين على الأقل.

ومن هذه الوجهة فإن الحضارة الغربية تعتبر عالمية، من خلال توحيدها للمشكلة الإنسانية، إذ (حققت العبقرية الغربية هذا التوحيد حين أوصلت مقدرة الإنسان إلى المستوى العالمي، وهو يتجلى' في حياة كل شعب وفي تشكيلاته السياسية، وفي ألوان نشاطه العقلي والفني والاجتماعي )(2)، هذه العبقرية المتركزة أساسًا في العامل التكنولوجي، الذي بواسطته استطاعت الحضارة الغربية أن تنتشر في العالم، وتنشر أفكارها ومواقفها، وطرق تفكيرها، فأعطت صبغة مشتركة للحضارة العالمية في هذا العصر(3).

وخلال منتصف القرن الأخير، كانت أهم مظاهر انتشار الغرب متمثلة في انتشار الطرق الحديثة على النمط الغربي، وخطوط السكك الحديدية في بقية العالم كما هي تمامًا في أوروبا وأمريكا، وظهور المصانع والمعامل الميكانيكية، والراديو، والتلفزيون، وطرق الإعلام الغربية، وكذلك التبني المباشر لطريقة الأكل واللباس والتعليم والحكم على الطريقة الغربية، ثم التبني المتحمس للتكنولوجيا الغربية في كل دول العالم(4).

وهذا ما حدا بابن نبي (رحمه الله) أن يسجل في مذكراته، بأن العالم بدأ يتأمرك، وذلك من خلال انتشار الأفلام الأمريكية ورواجها(5)، وإقبال الناس على تقمص الشخصية الأوروبية حتى في المأكل والمشرب، من خلال ظاهرة انتشار ثقافة (البيبسي كولا) و(الكوكا كولا) و(الهمبورغر) ، وغيرها من أنماط نموذج الحياة الاستهلاكية.. وإذا تعلق الأمر بالعالم الإسلامي فإن السائح الغربي يجد النبيذ والخنزير، والإباحية والعري، واليانصيب القومي، والقروض الحكومية ذات الفوائد، ويجد التقويم المسيحي، وإجازة السبت والأحد(6).

أما في الميدان الفكري، فإن الحضارة الغربية قد فرضت نفسها منذ القرن التاسع عشر وحتى اليوم على العالم كله، وقد تبنت معظم الشعوب نموذج أوروبا إما كليًا أو معدَّلاً، فسادت مفاهيم الغرب ونظرياته المختلفة، في العلم والمعرفة والمناهج العلمية والتفسيرات العلمية، وفي السياسة والاقتصاد وغيرها، وهيمنت على سائر الرؤى' الأخرى بحيث صارت وكأنها قانون العصر الذي لا محيد عنه(7)..

وهذا الانتشار قد ينظر إليه باعتباره نوعًا من هيمنة الحضارة الغربية، وهذا صحيح. غير أن ابن نبي، بالإضافة إلى تأكيده على الطابع الذي تتميز به الحضارة الغربية من محاولة تصدير نموذجها وجعله مرجعًا ومثالاً، فإنه ينظر إلى الموضوع من زاويته الاجتماعية (السوسيولوجية ) التاريخية، إذ أن الإنسانية مع الحضارة الغربية اقتربت بينها المسافات، وتوحدت مشاكلها وآمالها، بشكل جعل المصير الإنساني مشتركًا وموحدًا، ولا يمكن لبلد أن يبني مشروعًا اجتماعيًا أو التفكير في تغيير حضاري، دون الأخذ بالحسبان العامل الخارجي، أي الإنساني.

كما نجد ابن نبي ينبه إلى مسألة الوعي الاجتماعي، وهي مسألة مهمة ينبغي اعتبارها، إذ صار وعي الفرد والجماعة يشمل دوائر أوسع مما كان عليه من قبل، ويرتبط هذا الوعي أيضًا بهموم الإنسانية كلها، ولذا فهو يرى واقعيًا أن الوعي الاجتماعي الذي كان يتكون منذ حين في دائرة محدودة أمام منظر محدد عمومًا، بنطاق بلاد معينة هي الوطن، قد أصبح يتكون اليوم في إطار أكثر امتدادًا بدرجة لا تضارع، وفي منظر أكثر انفساحًا كذلك. وللأسباب نفسها يحصل امتداد المستوى الشخصي للفرد; امتداد حضوره إلى مدى أبعد من مقره، فوسطه، فبلاده. وهذا التوسع في مستواه الشخصي، يكون مقياسًا مباشرًا لدرجة تحضر هذا الوسط، حيث لا يحيا الفرد مع أهله ومواطنيه فحسب ولكن مع عدد أكبر من الآدميين(8).

إذن، فالمبررات التي جعلت ابن نبي (رحمه الله) يؤمن بعالمية الحضارة الغربية، هي مبررات واقعية من منظور اجتماعي يرصد الظاهرة في حركتها وتأثيرها في التاريخ.. ولعل من المبررات التي جعلته يتبنى هذا التحليل السوسيولوجي عدة مظاهر تدعو إلى النظر إلى الحضارة الغربية من زاوية حضورها العالمي، وذلك من حيث انتشار المفاهيم الغربية في العالم كله، وتبني معظم الناس لها كليًا أو جزئيًا، والذي لم يتبنها جعلته يتخذ منها موقفًا ويستحضرها انتقادًا أو رفضًا عند صياغته لمفاهيمه الخاصة، كما أن تبني معظم شعوب العالم كثيرًا من الأنظمة وأنماط الحياة التي أبدعها الغرب، وانتشار النموذج الاستهلاكي الغربي للحياة في كل المجتمعات المعاصرة، هو أحد صور هذه العالمية، ومن جهة أخرى -والذي يبدو أن لا مفر منه- انتشار التكنولوجيا والإنتاج الصناعي الغربي في العالم كله، والذي أصبح يشكل أحد سمات هذا الحضور الغربي في كل بيت في العالم، وليس كل مجتمع فقط.

هذا، بالإضافة إلى الاستعمار الغربي الذي شمل الإنسانية كلها خلال القرن التاسع عشر والنصف الأول من القرن العشرين، هذا الاستعمار الغربي الذي استنزف العالم كله وشمل كل قطر، مما وحّد هموم الإنسانية وجعلها كلها تتعرض لهيمنة النموذج الغربي نفسه، مما جعلها أقرب إلى النظرة المشتركة في كثير من قضاياها المرتبطة بمرحلتي الاستعمار وما بعد الاستعمار، فكان الغرب عالميًا على مستوى الوعي الإنساني، من خلال فرضه لنفسه على هذا الوعي أن يستحضره بفعل ما خلف من مشكلات تؤرق وتدعو إلى التفكير في حلها وعزلها عن المعامل الغربي.

إن أوروبا لم ترد تمدين العالم، ولكنها وضعته على طريق الحضارة حين جعلت تحت تصرفه الوسائل المادية ليتبع هذا الطريق، وحين أمدته بإرادة للسير فيه.. والموجة الأوروبية لم تأت للعالم بغمرة الرفاه المادي فحسب -مثل المنتجات الإلكترونية والصناعية وغيرها- بل إنها قد أتته أيضًا بثروات روحية لا جدال فيها(9).

وقد يتساءل أحدنا عن هذه الثروات الروحية التي أتت بها أوروبا، ويرى أنه من عدم الدقة الحديث عن ثروة روحية من أوروبا إلى العالم، ويجيبنا ابن نبي (رحمه الله) أن أوروبا أودعت في (لا شعور ) الشعوب التي استعمرتها، وفي ذاتيتها عناصر تتجلى في سلوكها الاجتماعي الجديد، في فنها وفي أسلوبها وفي تنظيمها وفي نشاطها.. وهذا لا يعني أن هذه الثروة الروحية ذات قيمة إيجابية، فالأمر لا يتعلق بحكم قيمي، بقدر ما يتعلق بتسجيل التأثير الغربي على شعوب العالم. ولو تأملنا وقمنا بتحليل أي نشاط على محور (طنجة-جاكرتا ) اليوم، فإننا نجد طرازه في الغرب، فالبرلمانات أيًا كانت، هي صورة طبق الأصل من البرلمان الإنجليزي أو الفرنسي أو الأمريكي، وأي مشروع لوضع دستور ديموقراطي إنما يرجع إلى الطراز الغربي، وعندما يتحدث المسلم مثلاً عن الديموقراطية(10) فإنه يستعير بداهة مفهومًا غربيًا(11).

إن العالمية التي تتميز بها الحضارة الغربية تكمن في أنها -ولو عن غير قصد- وضعت على طريق التاريخ شعوبًا أقصيت عنه بسيرها في دروب الخرافات والأساطير، وبثت فيها إرادة السير في هذا السبيل، عندما نزعت عنها ما بقي لها من حجب التبطل، وأزالت ما كانت تعيش عليه هذه الشعوب من أوهام ورثتها عن أجداد أسسوا حضارتهم ذات يوم، مثلما كان الأمر مع القدوم الأوروبي إلى العالم الإسلامي، إذ كان للأوروبي دور الديناميت المفجر، الذي أزاح عن مسلم ما بعد الموحدين غشاوة نومه، ومنحه إلهامًا جديدًا لقيمته الاجتماعية، حين نسف وضعه الاجتماعي الذي كان يعيش فيه راضيًا بالدون، فوجد نفسه في وضع لم تصنعه يداه، واضطر إلى أن يعمل شيئًا ليحفظ كرامته التي غرسها الإسلام في وجدانه، وليجد له مكانًا في عالم تغير عما كان عليه(12).

وهذا الإطار العالمي الذي ارتفعت إليه البشرية مع العامل الصناعي والفني (التقني )، جعل دائرة الوعي تتسع، فالعامل الصناعي الذي كان له أثره في إحداث التفرقة والتنويع مدة طويلة، مما أتاح للشعوب المتقدمة المتطورة وضعًا ممتازًا بفضل تفوقها الاقتصادي والسياسي، فإن هذا العامل يتدرج بالإنسانية شيئًا فشيئًا نحو الانسجام والوحدة، محتمًا عليها بذلك مصيرًا مشتركًا. وبعد أن كانت عوامل التوحيد في النطاق الميتافيزيقي، أي وراء العوامل التاريخية، أصبح تأثيرها واضحًا في مجال التاريخ(13)، وابن نبي يعطي أهمية خاصة لتاريخ القرن العشرين الذي تميز عن القرون الأخرى كلها، لأنه القرن الذي تحققت فيه تغيرات جذرية، بدت وكأنها ترسم للإنسانية نقطة اللارجوع على محور الزمن، فهو القرن الذي هبت فيه أكبر عواصف التاريخ على مصير الإنسانية، وهو القرن الذي سجل الأحداث الكبرى، سواء في مجال العلم، أو في المجال النفسي، أو في المجال الأخلاقي والديني، ففي كل هذه المجالات هبت عواصف كبرى يبدو أنها غيرت معالم الطريق(14).

وهذا التوجه الإنساني نحو العالمية بفعل اضطراد التاريخ وتقدم الإنسانية، والذي كانت العالمية الغربية أهم أسبابه، لا يعني أن هذه العالمية الأوروبية، عالمية موضوعية، إذ يرى ابن نبي أن أوروبا التي كانت تبتغي امتلاك العالم، انقلب عليها سحرها، وقيدتها قوتها، فأوروبا (الغرب ) التي تقدمت بفعل اطراد عملها وضميرها، يبدو أنها تعاني من فصام بين هذين العاملين، فالعلم يدفعها نحو التوحد مع الإنسانية، بينما ضميرها متخلف عن تقدمها العلمي، مما جعلها تحاول أن تجعل من إشعاعها العالمي نوعًا من الهيمنة التي تؤكد التمركز الغربي على حساب الشعوب والأمم الأخرى(15).

ولكن هذا التمركز حول الذات الغربية لا ينسينا أن الحضارة قد أصبحت مع الثقافة الغربية هدفًا مقصودًا -كما سبق القول- وعملاً شعوريًا ووظيفة اجتماعية للإنسان تتطلب ذكاءه وإرادته وكل قدراته، وصارت الحضارة غاية مبتغاة.. فالحضارة الغربية وسعت أولاً من حقل الحضارة نفسها، حين مدته من النطاق القومي والعنصري، إلى النطاق العالمي والإنساني. ولكن الغرب حين حقق امتداد الحضارة في المكان بفعل القوة الصناعية، قد أحدث تحولاً في الطبيعة التاريخية للحضارة، فلم تعد فيما يبدو خاضعة لقانون (الدورات ) كما هو في المفهوم الخلدوني، أو في مفهوم (شبنجلر )، وإنما أصبحت عالمية، أي في نطاق عالمي يتجاوز حدود الوحدات التاريخية في مفهوم (توينبي )(16).

وإذا كان الامتداد العالمي للحضارة الغربية سمة مميزة للقرن العشرين، ويبدو فيه امتدادها قانونًا تاريخيًا لعصرنا، حيث لوتأمل أحدنا الأشياء المحيطة به، أو في حجرة المكتب مثلاً، فإن معظم الأشياء غربية إن لم تكن كلها(17)، فإن هذه الخاصية التاريخية المرتبطة بمجريات الواقع، أنتجت -كما يرى ابن نبي- همًا عالميًا، وطبعت أحداث القرن العشرين بطابع العالمية، وهي في واقعها المادي نتاج رائع لمقدرة الإنسان، وللمستوى الجديد الذي رفعت إليه هذه المقدرة ألوان نشاطه، حتى أصبحت العالمية غريزة القرن العشرين ومعناه، بل إنها تصريح لعصرنا وغاية محتومة لتطورنا الراهن، وضرورة تفرضها الظروف الصناعية والنفسية التي بلغها العالم مع اطراد التقدم على محور طنجة-جاكرتا، ومحور موسكو-واشنطن، وهذه الاعتبارات ترد مشكلة الحضارة إلى المستوى العالمي(18).

وإذا تساءلنا عن مدى صدق هذه النتائج، فإن ابن نبي يوجهنا إلى تأمل الحركة التاريخية للحضارة الغربية وإفرازاتها، فأوروبا من جهة جعلت من الحضارة عملاً قصديًا، ووحدت من الهم الإنساني، ودفعت بفعل عاملها التكنولوجي إلى الربط بين أطراف المجتمع الإنساني، فإنها من جهة أخرى جعلت العالم يعيش مثقلاً بالعلم وبثقافة الإمبراطورية، مليء يضج بروح الحرب وبوسائل الحرب، ولكن هناك فراغًا كبيرًا من الضمير ينبغي له أن يمتلئ، فأوروبا تعيش في عالم كوّنه علمها، غير أن ضميرها لا يعلمه تمامًا، لأنها تجهل فيه مسألة رئيسة، تجهل الإنسان الذي اعتادت أن تنظر إليه بروح القرن التاسع عشر حتى الآن على أنه من أبناء المستعمرات(19).

وهذا ما يجعل عالمية الحضارة الغربية ينقصها البعد الإنساني الحقيقي، ذلك أن فيها فصامًا بين علمها وروحها، فهي من جهة العوامل الفنية تدفع بالإنسانية -ولو من غير قصد- إلى التوجه العالمي، أما من جهة روحها وضميرها، فإنه مثقل بثقافة الإمبراطورية، أي ثقافة السيطرة، المتجذرة في اللاشعور الغربي.. وهذه الروح جعلت من الحضارة تهمل إنسانية الإنسان لما بقيت النفسية تتعامل مع الإنسان غير الغربي باعتباره هامشًا، وملحقًا بالمركز الغربي لأنه ابن المستعمرات، أو المستعمرات السابقة. ولهذا فمن مقتضى النظر المنهجي تتبع المسار الذي تشكلت فيه هذه (العالمية المركزية ) للحضارة الغربية، لنكون على وعي بالنتائج التي أوصلت الإنسانية إليها.

مسار التأسيس (للعالمية المركزية):

يعطي ابن نبي (رحمه الله ) أهمية خاصة للقرنين التاسع عشر والعشرين، باعتبار أن القرن الماضي شهد توسعًا غربيًا شمل كل قارات العالم، وخضع العالم بدوره للسيطرة المباشرة للغرب من خلال الاستعمار، ثم مع مجيء القرن الحالي انحسر الاستعمار المباشر، ولكنه شهد انتشارًا للغرب من نوع آخر، كان هذا الانتشار والتوسع عن طريق العامل الصناعي الفني، والقوة التكنولوجية. إذ استطاع العهد التكنولوجي أن يقرب المسافات، ويتجاوز الحدود التقليدية، ويجعل من العالم قرية صغيرة متشابكة المصالح، وأصبح التعايش بين الحضارات ضرورة حتمية مع العهد الذري ونتائج النمو الصناعي، ومع الفتوحات العلمية الرهيبة التي أتاحت للطاقة الإنسانية أن تتحكم في كثير من السنن الطبيعية وتطوِّعها، كما مكنت الإنسان من السيطرة شبه التامة على الكرة الأرضية(20)، وفرضت التكنولوجيا على كل مجتمع أن يضع في حسابه وجود الآخرين(21).

وفي تحليله للنفسية التي كان عليها الغربي وهو يبسط وجوده في العالم خلال القرنين التاسع عشر والعشرين، يقول ابن نبي: (وفي هذا الجو المفعم بالشعور بالتفوق نشأت النفسية الأوروبية، وظهرت كتابات تنظر إلى تاريخ البشرية وكأنه بدأ مع الإغريق والرومان، ثم حدث فيه تقطع أو جمود، ثم عاد للظهور في باريس ولندن من جديد )(22).

والسبب في ذلك كما يرى، أن أوروبا التي ورثت التقاليد الرومانية من عصر النهضة قد أصبحت رهينة ثقافة إمبراطورية، تلك الثقافة التي تنحو إلى السيطرة، والتي أنتجت الاستعمار والعنصرية، فقد تغذى ضميرها بما أثار القرن التاسع عشر من قضايا، وهو القرن الذي شهد ازدهار فكرة (جوبينو ) العنصرية، ذلك الكاتب الذي طبق أفكار (دارون ) عن أصل الأنواع على مجال الإنسان، فخلّف بهذا القرن العشرين تراثًا روحيًا ضارًا ثقيلاً أنتج أمثال (هتلر ) والدكتور (مالون )(23).

وفي نظر ابن نبي (رحمه الله)، أن الاستعمار سبب ونتيجة في الوقت نفسه، فهو من جهة نتيجة لثقافة الإمبراطورية المتأصلة في النفسية الأوروبية، والتي يعبر عنها كاتب مثل (توسيديد ) عندما يقوم ببتر المفهوم التاريخي حين أبطل ماضي الإنسانية كله بقوله: (إن حدثًا مهمًا لم يقع في العالم قبل عصره )، فمثل هذه الأقوال التي تخلق ثقافة الإمبراطورية، تلك الثقافة التي تقوم على أساطير السيادة العنصرية والاستعمار(24). والاستعمار من جهة أخرى سبب للكبرياء والتعالي والنرجسية، إذ أن الغربي الذي يولد في الجو الاستعماري، يتربى في جو يعلمه النظر إلى الإنسانية بتعالٍ وكبرياء، ويعلمه ازدواجية النظرة إلى الأشياء، فهو يرى بصورة طبيعية مشاكل الغرب، أما حين ينظر إلى مشاكل الشعوب الأخرى، فإنه يضع نظارة على عينيه، ويرى الصور بشكل مختلف(25).

وخلاصة الكلام فيما يتعلق بالعالمية المركزية، أن أوروبا التي أخضعت العالم لسيطرتها الأخلاقية والسياسية منذ قرنين من الزمان، أدخلت الإنسانية في مأساة وحدت همومها.. كما أنها بفعل ما أنتجته من تقدم تكنولوجي وصناعي قد رفعت من القدرة المادية للإنسانية، وأحدثت فيها تأثيرًا نفسيًا وتاريخيًا، عندما قربت المسافات، ومنحت البشرية إمكانات لم تكن تحلم بها من قبل، وأدخلت البشرية في حروب ومشاكل نتجت عن هذه السيطرة الأوروبية العليا على الشؤون الإنسانية.. كما أنها بفعل اطراد قوتها، جعلت في حياة الشعوب التي تواجه في القرن العشرين مشكلات خاصة بكيانها، مشكلات أخرى مشتركة تعبر عن امتداد كيانها وحضورها في عالم الآخرين(26). ولقد تجاوز هذا الحضور أولاً الحقل المحلي في القرية ثم في المدينة، ثم وصل بعد ذلك إلى المستوى القومي، ثم امتد شعاعه مع النمو الصناعي، فأصبح دوليًا، وأخيرًا عبر جميع الحدود فأصبح عالميًا(27).

هذه العالمية من وجهة الاجتماع والتاريخ، لا تجعلنا ننكر أنها عالمية متمركزة أساسًا حول ذاتها، تتعامل مع العالم على أنه هامش أو أطراف، وهي محور الحركة ومركز هذا العالم، ولهذا يمكن أن نسميها عالمية من وجهة التاريخ والاجتماع، ومركزية من وجهة القيم والإطار الحضاري القيمي الذي يحكمها، فهي عالمية مركزية.

==============

# الخاصية الثانية: المادية

يعتبر ابن نبي (رحمه الله) (المادية ) من أهم خصائص الحضارة الغربية.. وفي تناوله لهذه الحضارة في كتاباته، فإنه يسجل ملحوظاته، ويركز في تحليله على هذا البعد -المادية- في الحضارة الغربية، وذلك ضمن مستويات مختلفة; سواء في الميدان العلمي، أو في الحياة الاجتماعية التي يظهر فيها سلوك الفرد الغربي، أو في التعبير السياسي، أو حتى في سياق التعامل الحضاري مع بقية الحضارات. كما أن هذه الخاصية تكاد تنظم كل الخصائص الأخرى، حيث تشكل أحد أهم الجوانب في كل خاصية من خصائص الحضارة الغربية.

ففيما يتعلق بالرؤية التصورية، أو ما أسماه ابن نبي: (الإجابة على الفراغ الكوني )، أي السؤال الوجودي، فإنه يأخذ نموذجًا يستخلص منه محور الثقافة والحضارة الغربية.. فمن خلال محاولته لتتبع التفسير الذي يقدمه كل من المسلم والغربي للفراغ الكوني، يضرب مثالاً من قصة (روبنسون كروزو )، التي تصف الشخص الأوروبي في عزلته، وكيفية إجابته عن أسئلته، يقول ابن نبي: (إذ يعتزل الإنسان وحيدًا، ينتابه شعور بالفراغ الكوني. لكن طريقته في ملء هذا الفراغ، هي التي تحدد طرز ثقافته وحضارته; أي سائر الخصائص الداخلية والخارجية لوظيفته التاريخية. وهناك أساسًا طريقتان لملء الفراغ، إما أن ينظر المرء حول قدميه، أي نحو الأرض، وإما أن يرفع بصره نحو السماء )(1).

والنظر إلى الأرض يجعل الإنسان يتعلق بالأشياء وبالمادة(2)، وتتشكل عنده ثقافة مرتبطة بعالم الأشياء، (فالطريقة الأولى تملأ وحدته بالأشياء حيث يجمح بصرُهُ المتسلّط لامتلاكها، (وبالتالي) تنشأ عنها ثقافة سيطرة ذات جذور تقنية )(3).

وقد اختار ابن نبي هذه القضية للتمثيل بها، لأن(الأدب الشعبي كاشف في هذا المجال. بل الأدب في عمومه حتى المتكلف منه، يحمل مع ذلك تلك الخاصية الشعبية في طبيعة موضوعه. وليس كالقصة تُجلِّي عمق تلك الجذور )(4). ثم إنه يقدم تحليلاً لما تحمله هذه القصة من أبعاد بعد أن يعرضها، مركزًا على العناصر التي تبرز البعد المادي الكامن في الشخصية الغربية.

وكما يلخصها ابن نبي، فقصة (روبنسون كروزو ) ينطلق بها (دانيال ديفو ) من محوٍ كامل للوسائل (أي الأشياء ) حينما يبدأ بطل قصته المغامرة. وإذا تأملنا طريقة استخدام الزمن ليوم واحد في حياة بطل القصة على الجزيرة التي نجا بنفسه إليها بعد غرق سفينته، فإننا نجد بطل القصة بدأ ينظم وقت عمله وخروجه، ووقت راحته ونزهاته. فكان يخرج في الصباح، ومعه بندقيته لمدة ساعتين أو ثلاث، ثم يعمل بعد ذلك إلى ما يقارب الساعة الحادية عشرة ثم يأكل ما كان يستطيع الحصول عليه، وكان ينام من الظهر حتى الساعة الثانية، وفي المساء كان يستأنف العمل، وفي اليوم التالي صنع طاولة، وهكذا...

ويعلق ابن نبي بعد ذلك بأن الوقت منذ البداية لدى (روبنسون كروزو ) يجري في وقائع محسوسة: أكل، نوم، عمل. وهي وقائع تكمن في طبيعة خاصة، تضع ثواني الزمن في خدمة اقتصاد شخصيٍّ نفعيٍ بحت. فـ (روبنسون ) يتغلب على كآبة الوحدة بالعمل، فعالم أفكاره كله يتركز حول (شيء ): إنها الطاولة التي يريد صنعها لنفسه، وكأن الزمن في الإطار الغربي لا اعتبار له إلا في عالم الأشياء. والحياة نفسها لا معنى لها إلا حينما تنساب لحظاتها في طاولة (روبنسون ) على سبيل المثال(5).

هذا التمحور حول الأشياء يرى ابن نبي أنه يتشكل منذ (لوكريتس ) إلى (ماكس بلانك) ، وبعده مع تجذر الفكر الكمّي ووضعية (أوجست كونت ) ومادية (ماركس )(6). فترسخ مفهوم الكم في الوعي الأوروبي حتى صار خاصية تطبعه. هذا التمحور على الأشياء والدوران على الوزن والكم له عدة مظاهر، ويتجلى في اتجاهات فلسفية، وأنماط اجتماعية تبدو متباينة، ولكنها في جوهرها ترتكز على التصور المادي. يقول ابن نبي (رحمه الله): (فالفكر الغربي يجنح على' ما يبدو أساسًا إلى الدوران حول مفهوم الوزن والكم، وهو عندما ينحرف نحو المغالاة يصل حتمًا إلى المادية في شكليها: الشكل البورجوازي للمجتمع الاستهلاكي، والشكل الجدلي للمجتمع السوفياتي )(7).

وقد تضافرت على تشكيل هذه الرؤية المادية أقطاب أربعة، كان لها نصيبها مجتمعة في صياغة حضارة الآلة والاستهلاك، هذه الأقطاب هي: المسيحية البروتستانتية (الإصلاح الديني )، والرأسمالية، والماركسية، والعنصرية.. هذه الأفكار نشأت في تربة الغرب ولها أصل واحد، رغم أنها تبدو أنها سارت في مسارات مختلفة. فالمسيحية اللوثرية كيّفت الإنسان الأوروبي وأعطته الصبغة والأخلاق التي تلائم البرجوازية(8).. أما الرأسمالية فتوجهت به إلى تمركز المادة من خلال التشريع لفلسفة الحرية والفردية والكسب المادي، والتوجه الاستهلاكي.. وأما الماركسية فإنها هي الأخرى أعطت التفسير الاقتصادي لحركة الإنسان في التاريخ، وجعلت من النظام الاقتصادي القطب الذي يدور حوله الصراع والتغير، وركزت حركة المجتمع على الصراع الطبقي بين (البروليتاريا ) و(البرجوازيين )، هذا الصراع الطبقي الذي هو في العمق صراع مادي لأنه يتعلق بامتلاك وسائل الإنتاج.. أما العنصرية فإنها أنتجت الهتلرية والفاشية(9)، كما أنتجت الاستعمار والتعالي الغربي على العالم، وذلك بفعل عقدة (ماراتون ) التي تحكمه تجاه الأمم غير الغربية(10).

ولقد تشكل قطبا المادية بفعل الصراع الذي احتدم حينًا من الدهر، وبخاصة بين الاقتصاديين الجدليين وعلى رأسهم ماركس وأنجلز، وبين الاقتصاديين العمليين التقليديين وعلى رأسهم آدم سميث وريكاردو، وكان يغذي هذا الاتجاه المادي عاملان أساسيان كان لهما وزن كبير في توجه أوروبا نحو المادية، هما: سرعة النمو العلمي، والتوسع الاستعماري، فالنزعة العلمية والنزعة الاستعمارية انزلقا بأوروبا إلى حمأة المادية، ومع الفكر الديكارتي(11) -الذي انقلب نزعة عقلية خطرة- استسلمت أوروبا للآلة تقودها، وصارت الحياة أرقامًا، وأضحت السعادة مقيسة بما لديها من وحدات حرارية وهرمونات، وصار العصر عصر (كم) يخضع فيه الضمير للنزعة الكمية، والعقل الوضعي الذي يشبه عقل الآلة، لم يعد يفهم شيئًا وراء التصورات النسبية للمادة(12).

نتائج المادية على الحضارة:

والمادية كمذهب فلسفي يقدم تفسيرًا للكون والتكوين، هذا المذهب -كما يرى ابن نبي (رحمه الله)- يضع المادة من حيث المبدأ هي العلة الأولى لذاتها، وهي أيضًا نقطة البدء في ظواهر الطبيعة، والخاصية الوحيدة للمادة في مبدأ الأمر هي أنها كانت (كمًا) معينًا أو كتلة(13). وبذا أتلفت قداسة(14)الوجود في النفوس والضمائر، وفي الثقافة.. ولقد أتلفت القداسة حينما اعتبرتها شيئًا تافهًا، بسبب منشأ ثقافتها التي يطلق عليها اليوم العلمية، والتي أخضعت كل شيء إلى مقاييس الكم، فصارت تتنفس تحت ثقل ركام الأشياء المتراكمة، وذبلت نفحات الروح واضمحلت القاعدة الأخلاقية التي تتحمل عبء الأثقال الاجتماعية والمادية، وبقيت أوروبا ترزح تحت الأشياء التي تنتجها تكنولوجيتها(15).

وبتتبعه لجذور الثقافة الغربية فإن ابن نبي يعتبر أن الحضارة الغربية انجرّت إلى إتلاف قداسة الوجود بسبب منشأ ثقافتها التي يطلق عليها اليوم (العلمية )، والتي أخضعت كل شيء وكل فكرة إلى مقاييس الكم منذ عهد ديكارت حين حدث التمزق الأول في الثقافة(16)باعتبار أن ديكارت بمذهبه العقلاني أنتج فلسفة تعطي دورًا ثانويًا للغيب، وليس للخالق إلا دور ابتدائي، ولا شأن له بعد ذلك بتفاصيل الحياة، فلا شأن له بعالم الطبيعة، وليس له دور إلا إعطاء سند للعقل باعتباره مرتكزًا ينطلق منه، ليصير هو نفسه أصل كل شيء ومحركه وموجهه.

ولقد حاولت أوروبا ونجحت، كما يقول ابن نبي، ونجاحها قد يفسر لنا اليوم على المدى البعيد مسألة فقدان المبررات.. لقد نجحت في إخضاع كل شيء لمقاييس الكم، وهذا يفسر الأزمة التي تعيشها من خلال إتلافها قداسة الوجود، الذي كان في حياة الحشرات مقدسًا، وفي حياة الإنسان كان أكثر قداسة، حتى الأشياء التي تلقى في الشوارع كانت هناك تفاصيل توحي بقداستها.. كان المار في الشارع إذا التقى بفتات خبز، ينحني ويلتقط هذا الفتات ثم يقبله ويضعه في مكان طاهر، لأنه كان يشعر بقداسة هذه الأشياء، ففي احترامها تقديس لمصدر النعمة; الله تعالى. أما الغربي فلا يهمه هذا الفتات من الخبز أو أي شيء آخر حقير في نظره، لماذا ؟ لأنه لا قيمة له في نظره الكمي، إذ لا ثمن له، أما الأجر الأخروي فهو شيء فوق أرضي، وميتافيزيقي، لا يجلب له نفعًا ولا ربحًا، ولا يزيد رصيده في البنك، ولا يزيد من مكانته الاجتماعية أو سمعته، ولا يحسن من صورته التجارية، لذا يلقى مع الأشياء الأخرى في سلة المهملات(17).

ومع مرور الوقت ترك الغرب كل قداسة الأشياء، ومن ثم كل القيم المقدسة، ولم يبق في ذهن الإنسان الغربي مفهوم التكريم الذي وضعه الله عز وجل في الإنسان، فأفقدت الحضارة الغربية الإنسان إنسانيته، فأصبح إما وحشًا مفترسًا ينقض على كل ما يستطيع امتلاكه، أو يصبح حيوانًا تائهًا في المتاهات التي تفتح له باب المخدرات، والفساد، والشذوذ عن الفطرة، والانتحار، وغيرها(18).

بل وصارت الحضارة الغربية من فرط ماديتها تقيس التقدم الاجتماعي وسعادة البشر بمقدار ما يملكون من أشياء. وحسب الدخل الفردي تُصْدِر الهيئات حكمها وتقييمها بتقدم هذا المجتمع وتأخر الآخر. وصار العالم الاقتصادي هو مرتكز التفكير، ولقد نمت هذه الروح في القرن العشرين، فتأكدت فيه مراكز التفكير الاقتصادي، حتى أنه يمكن تعريف هذا القرن بأنه يخضع لقانون التوسع الاقتصادي والتقييم الاقتصادي أيضًا، كما كان القرن السابق يخضع لقانون التوسع الاستعماري، وصار الاقتصاد ميزة ومقياسًا تقاس به الأشياء ويحكم به على تقدم أو تخلف بلد ما(19).

ويضاف إلى تركز المقياس الاقتصادي، أن الإطار الثقافي الغربي خال من الدفعة الروحية التي تصاحب عبقريته الصناعية، فسكنه الوهم الميكانيكي، وصار النجاح الصناعي هو النجاح المادي ولا شيء بعده. ومن الصعوبة بمكان أن يتخلص الغربي من هذا الوهم الميكانيكي الوثيق الصلة بنظامه الثقافي. هذا الأخير جعل الغرب يطبق نتائج العبقرية الصناعية على المجال الأخلاقي، فصار النجاح المادي هو الفضيلة الخلقية الوحيدة(20).

وينتقد ابن نبي (رحمه الله) النظرة السطحية للحضارة الغربية، وينبه إلى ضرورة النظرة المتوازنة، التي ترى الجانب السلبي والإيجابي في هذه الحضارة، ومن الجوانب السلبية، ذلك الجانب الرهيب من تلك الحضارة التي أدمجت الناس في سلسلة إنتاج، تتولاهم خلالها الآلة فتنهكهم، وتستنزف دماءهم، وتحيلهم أجهزة من لحم ودم، فأفقدت الإنسان كرامته، فترى المرأة الأوروبية التي تغادر مسكنها لتكسب بعرقها كسرة الخبز، في جو يهدر كرامتها فيحرمها أنوثتها، كما يحرم الرجل رجولته، إنه الجانب المفزع من الحضارة الغربية التي فقدت معنى الإنسان(21).

فالعبقرية الغربية التي أبدعت الآلات لم تستطيع السيطرة عليها، حيث قادتها بعقل آلي فصارت الحياة أرقامًا، بل إن أوروبا النازعة إلى الكم وإلى النسبية، قد قتلت عددًا كبيرًا من المفاهيم الأخلاقية، حين جردتها من معانيها النبيلة، وأحالتها ضروبًا من الكلمات المنبوذة في اللغة، طريدة الاستعمال من الضمير، وقد زاد خطر النزعة المادية بفعل العامل الفني الصناعي، الذي ضاعف من شهية الإنسان إلى المادة، وأصبح الرقم سلطانًا في المجتمع الأوروبي منذ القرن التاسع عشر(22).

وهذا الشغف بالآلة والرقم، والتركز حول الشيء، ونفسية الإخلاد إلى الأرض، جعل التربة الغربية خصبة لتزرع فيها نبتة خبيثة، هي العلمانية; التي هي في حقيقتها ليست فصل الدين عن الدولة فحسب، وإنما هي انفصال الضمير عن العلم. وبلغ الانفصال غايته عندما زعم العلم بعد اكتشافاته المبهرة في ميدان البخار ثم ميدان الكهرباء في القرن التاسع عشر، أنه وحده يستطيع الاضطلاع بسائر المسؤوليات في العالم. هذا إضافة إلى المجرى العلماني الذي قادها إليه (أوجست كونت ) بوضعيته، ثم المادية الجدلية التي تمخض عنها (ماركس ). وكانت هذه الفلسفة تقود إلى تجزئة الإنسانية إلى شطرين، من خلال تحطيم وحدة الإنسان إلى جزأين: واحد يسمى الكائن المعنوي، والآخر الكائن الموضوعي(23).

=============

# الخاصية الثالثة: الفعالية

ما هي الفعالية؟

يرى' ابن نبي (رحمه الله) أن الفعالية تعد إحدى خصائص العقل الغربي، وأن العقل الغربي يخضع لمبدأ الفعالية(1).. هذه الخاصية اكتسبها الغربي على المستويين الفردي والاجتماعي، وصارت تصبغ كل أفعاله وإنجازاته في إطار التاريخ.. وهو -الغربي- اكتسب هذه الفعالية من التحديد الإيجابي لثقافته، الذي قام به (ديكارت ) ومن أتى بعده في بداية حركة النهضة الحضارية الأوروبية. كما يرى أن الفعالية على المستوى الاجتماعي هي القدرة على توليد ديناميكا اجتماعية، من خلال وضع المعادلة الاجتماعية في الحسبان، ومعرفتها بدقة، وبالتالي الدخول في تخطيط منهجي لا يحتوي خليطًا من الأفكار المتناقضة(2).

وبالنسبة للغرب، فإن المعادلة الاجتماعية تمت صياغتها على أسس الثقافة الغربية بدستورها ذي الفصول الأربعة: المبدأ الأخلاقي، والنزعة الجمالية، والمنطق العملي، والفن التطبيقي الموائم لكل نوع من أنواع المجتمع (الصناعة بالتعبير الخلدوني )(3). واتجهت اتجاهًا ماديًا، كما سبق القول عند الحديث عن المادية.

ويبدو أنه اعتمادًا على اعتباره للمادية مذهبًا فلسفيًا يتخذه الغرب في تفسير الكون والتاريخ والأحداث، فإن ابن نبي يرى الفعالية في المفهوم الغربي هي الحسم، أي حسم المشاكل الإنسانية على أية حال، كما نجده ينظر إليها باعتبارها ظاهرة اجتماعية تميز الغرب، وأنها تعني في المجتمع الغربي: القدرة على كفالة الضمانات الاجتماعية للفرد(4).

فالغرب في رأيه يعتبر الفعالية من وجهة اجتماعية عملية، أي محققة في الواقع في صورة ضمانات اجتماعية يقدمها المجتمع للفرد في أطوار حياته المختلفة. وخاصة بعدما جاء ديكارت، كما يقول ابن نبي (رحمه الله): (وأتى ديكارت بالتحديد الإيجابي، الذي رسم للثقافة الغربية طريقها الموضوعي، الطريق الذي بني على المنهج التجريبي، والذي هو في الواقع السبب المباشر في تقدم الحضارة الغربية الحديثة تقدمها المادي )(5).

ولهذا فإن ما يفصل المجتمعات في هذا القرن هو مدى فعاليتها، حيث يوجد في القرن العشرين تشابه واختلاف بين المجتمعات، والاختلاف اللافت للنظر يكمن في ما يطبع نشاط أي مجتمع من فعالية تتفاوت درجتها من مجتمع إلى آخر، هذا العنصر الذي أصبح أساسيًا في فلسفة العصر، التي تعنى بتقدير الكم، فتجعله فوق القيم الأخرى، وهو يختلف باختلاف المجتمعات حتى يمكن أن نتخذه مقياسًا خاصًا لقياس المستوى التاريخي لهذه المجتمعات(6).

ولهذا نجد أن أوروبا رجحت قيم الفعالية على قيم الأصالة، أي أن المبدأ الأخلاقي (المسيحية ) الذي أخرج أوروبا إلى الوجود وأدخلها التاريخ، ومنحها القوة الدافعة، قد اضمحل لحساب النهج الاستعماري (النفسية الاستعمارية )، وصار لعالمها الثقافي وجهان; وجه يلتفت إلى ذاتها بأخلاقيته الخاصة، ووجه يتلفت نحو العالم، وهمه الوحيد الفعالية(7).

فالفعالية، كما يرى ابن نبي، ليست شيئًا فطريًا مركبًا في فطرة الرجل الغربي، أوالمجتمع الغربي، وإنما هي نتاج لتركيب ثقافي معين متحرك في إطار التاريخ، ومرتبط بالوضعية التي يقفها المجتمع من دورة الحضارة.

العامل النفسي للفعالية:

يرى ابن نبي (رحمه الله) أن العامل النفسي هو الذي يناط به توجيه النشاط والطاقات الاجتماعية.. والطاقات الاجتماعية يُبحث عن مفهومها في حقيقة الواقع الاجتماعي، وإذا حُللت إلى عناصرها الأولية فإنها تنحصر في ثلاثة: اليد، والقلب، والعقل، (لأن كل الطاقات الاجتماعية تنطلق منها، و العملية الاجتماعية نفسها لا تخرج عن هذه العناصر; فكل طاقة اجتماعية تصدر حتمًا من دوافع القلب، ومن مبررات وتوجهات العقل، ومن حركات الأعضاء، فكل نشاط اجتماعي مركب من هذه العناصر، والفعالية تكون أقوى في الوسط الذي ينتج أقوى الدوافع، وأقوم التوجيهات، وأنشط الحركات )(8).

هذ العامل النفسي، هو ما يسميه (التوتر )، والفعالية نتاج حالة خاصة من التوتر، توتر في الضمير، أي توتر أخلاقي واقتصادي وعلمي ونفسي... وهو حالة نفسية اجتماعية دلّ التاريخ على أنها تنشأ في ظروف معينة، تكون فيها المبررات التي تكوِّن الدوافع الإنسانية التي تدفع النشاط إلى أعلى قمته(9)، وكانت المسيحية أكبر منتج للفعالية في المجتمع الغربي، الذي منحته الدفعة الروحية، ورفعت من طموحاته. ونظرة إلى واقعنا لنرى الرجل الغربي والرجل المسلم; أيهما ذو نشاط وعزم وحركة دائبة ؟ ليس هو المسلم بكل أسف، وهو الذي يأمره القرآن بالقصد والانضباط: (ولا تمش في الأرض مرحاً ) (لقمان:18)، (وأقصد في مشيك )(لقمان:19)، وليس ذلك ضربًا من الافتراض بل هو شهادة الواقع(10).

ويرى ابن نبي أن الأمر لا يتعلق بصحة الفكرة المسيحية أو زيفها، بقدر ما يتعلق الأمر بقانون اجتماعي وسنة من سنن التاريخ، وهي تسجيل الفكرة في النفوس، وخاصة في هذا العصر، ففي منطق هذا العصر لا يكون إثبات صحة الأفكار بالمستوى الفلسفي أو الأخلاقي، بل بالمستوى العملي. فالأفكار صحيحة إذا هي ضمنت النجاح(11).

ولا يعني هذا أن ابن نبي يقصد عدم فائدة صحة الفكرة وأصالتها، في تقدير فعاليتها، ولكنه لما كان ينظر إلى الفكرة في التاريخ وفي علاقتها بالمعطى الاجتماعي، فإنه يحاول إخراج الضمير المسلم من المناقشات البيزنطية، التي تتحدث عن صلاحية الإسلام لكل زمان ومكان، في حين أن الإسلام غائب عن قيادة الحياة. فهو ينظر إلى الحقيقة الموضوعية، وما تسجله الفكرة في الإطار الاجتماعي من تغيير وصياغة للنفوس وما تحدثه من أثر في التاريخ.. ومن هذه الجهة، فإن ابن نبي محق عندما دعا إلى العمل على تأكيد الصلاحية للفكرة وليس أصالتها، من خلال ربطها بالواقع، فهو يرى أن الفكرة الإسلامية لا يمكن مقارنتها بالفكرة المسيحية على مستوى الأصالة الذاتية من أي وجه من الأوجه، في قيمتها أو مصدرها أو في شموليتها. لكن الأمر يتعلق بالمسلم الذي انفصل واقعه الاجتماعي عن تأثير الفكرة الإسلامية وإن لم يفقد إيمانه بالله يومًا من الأيام(12).

ولهذا فإنه يرى أن الفكرة الإسلامية لا تحتاج أن نبرهن على صدقها نظريًا، وإنما من خلال صياغة الحياة بها كما كان يفعل السلف، وإظهار فعاليتها في الواقع.. وكما يرى ببساطة، ينبغي العودة إلى روح الإسلام نفسها(13).

فالتجربة الإسلامية الأولى التي صاغها النبي صلى الله عليه و سلم -كما يرى ابن نبي- غيرت المعادلة الاجتماعية للعرب، وأخرجت إنسانًا جديدًا غيَّر مجرى التاريخ وشاد حضارة خلال نصف قرن، وأنتج أشخاصًا أمثال عمار بن ياسر وبلال وربعي وعمر رضي الله عنهم أجمعين. فعمار بن ياسر كانت روحه المتناغمة مع نداء الفكرة الإسلامية وحرارتها الإيمانية، كانت هذه الروح تدفعه إلى أن ينقل حجرين بدل حجر واحد عند بناء المسجد النبوي، وبلال الذي ينادي: أَحَدٌ أَحَد، إنما كانت روحه أقوى من تلك الصخرة التي على صدره، إذ كانت تتطلع بفعل التوتر الذي أحدثه الإسلام فيها إلى حياة أسمى من ذلك العذاب الذي كان يلاقيه فلا يحس به.

وإذا تم البحث عن عامل التوتر في التجربة الماركسية في روسيا بعد 1917م، فإننا نجد الوعود والآمال التي تأسس عليها المجتمع الماركسي تدفع (استاخانوف ) إلى أن ينتج عشرة أطنان من الفحم في الوقت الذي كان زملاؤه ينتجون خمسة فقط.. وكذا ألمانيا بعد الحرب العالمية الثانية فإنها نهضت من العدم وذلك بفعل التوتر الذي كان يشعر به الألماني تجاه بلاده، وما كان يحمله من ثقافة جعلت من الصعب أن تغير النكبة التي تعرضت لها ألمانيا من معادلته الاجتماعية(14). فكان للفكرة وما أحدثته من توتر دور رائد في تحقيق الفعالية، من خلال المبررات التي تأتي بها الفكرة، فتطبع في النفوس توترًا يخرجها من حالة الفتور، إلى حالة التوتر الاجتماعي الذي يدفع الإنتاج بقوة وحرارة، عندما تتوفر المبررات الدافعة لليد والعقل والقلب لكي تحقق متساندة حضارة ذات إشعاع(15).

مظاهر الفعالية:

يرى ابن نبي (رحمه الله) أن الفعالية يمكن التأكد منها في الواقع في روابطها بواقع الحياة مباشرة، وهي أكبر ما يميز المجتمعات في القرن العشرين، كما سبق القول، حتى أن التقدم أو التأخر الحضاري يمكن أن يلاحظه الإنسان من خلال ملاحظة عامل الفعالية، إذ يجده يقسم العالم إلى شطرين، أحدهما يتميز بالفعالية ويطبع بها كل جهوده وسلوكه، والآخر يتميز باللافعالية والتسيب في كل مظاهر حياته. ويمكن ملاحظة ذلك من خلال مشاهدة النسيج الاجتماعي، والمؤسسات الاجتماعية التي توجد في كلا الإطارين الحضاريين(16).

بعبارة أخرى، يمكن رؤية نموذجين اجتماعيين مختلفين، أحدهما النموذج الغربي يطبعه التنظيم والديناميكا، أي تنتظمه الفعالية في واقع حياته، والآخر النموذج المتخلف، تنتظمه ضروب من التسيب واللافعالية. وهذا كله في إطار التاريخ، إذ لو رجعنا قرنين أو ثلاثة إلى الوراء -كما يرى ابن نبي- لوجدنا الصورة معكوسة تمامًا، إذ أن هذا المستكشف يجد الصورتين معكوستين، فكل ضروب النشاط والفعالية يجدها على محور طنجة-جاكرتا، وكل ضروب التسيب واللافعالية يجدها على المحور الغربي.

فمسألة الفعالية في حقيقتها تتعلق بالمرحلة الحضارية التي تعيشها الحضارة، كما تتعلق بنمط الثقافة التي هي إما دستور لقيام حضارة، وإما شبكة من النفايات والأفكار القاتلة والميتة التي تطبع إنسان ما بعد الحضارة (خارج إطار الحضارة )، مثل إنسان ومجتمع (ما بعد الموحدين ) في العالم الإسلامي(17).

أهمية النموذج في تحقيق الفعالية:

يرى ابن نبي أن اختيار (النموذج ) يحدد المنهج، وهذا بدوره يجعل عملية بناء الحضارة عملية قصدية، تتحقق في إطار زمني منضبط.. فكل حضارة يتكون لها نموذجها ومثلها الذي تجعله نصب عينيها، سواء كان هذا النموذج مستمدًا من الحاضر أو الماضي أو كليهما، أو شيئًا آخر، ولكن لا بد من نموذج ومثال يحتذى. واختيار النموذج يحدد المنهج إلى حد ما، فهناك ارتباط بين النموذج والمنهج، في إطاره تتحقق صور التنظيم والديناميكا; أي الفعالية.

ويضرب ابن نبي مثالاً بالغرب واليابان كامتداد لمحور واشنطن-موسكو-طوكيو، حيث النموذج واضح في كل من الغرب واليابان الذي التحق بمحور القوة، لما توجه به الفكر المحافظ من العهد (الميجي ) والعقل الصناعي إلى تركيب حضاري، يبدو أنه اتجه نحو مشاكل الإمبراطورية أكثر مما اتجه نحو مشاكل الإنسان، أي نحو مشاكل (القوة )، غير أن نجاح التجربة كان واضحًا، إذ حينما قادها العقل المنهجي، وحين قادها منطق التأثير الفعال منذ العهد (الميجي )، فإن اليابان اجتاز في نصف قرن المرحلة التي تفصل محور طنجة-جاكرتا عن محور واشنطن-موسكو(18). فارتقى إلى المستوى الاجتماعي للحضارة(19)، وحققت له الرؤية الواضحة لنموذجه منهجًا أنجز به التركيب التاريخي التكويني للإنسان والتراب والوقت، وهو اختار النموذج الغربي، وانتهج منهج (القوة )، وهو يعلم ما هو جوهري في اختياره، أي أنه كان ينجز حضارته بفعل قصدي مهما كانت اختياراته، بينما كانت المشكلة في العالم الإسلامي تتجه لأن تُحلَّ من تلقاء نفسها، بقوة الأشياء لا بحكم الفكر. أما المجتمع الغربي فإن نموذجه الذي اختاره نما مع القرون التي امتدت منذ عصر النهضة، وشكلت له تقاليد حضارية، زادتها الفنية الديكارتية فعالية في تحقيق نتائجها على مستوى التاريخ(20).

وغياب الفعالية في المجتمع الإسلامي يعزوه ابن نبي (رحمه الله) إلى أن العالم الإسلامي لم يختر حتى الآن نموذجه، الذي يعطيه تحديدًا لمنهجه، وبقيت النهضة تنمو تحت تأثير نموذج غامض لم تختره، بل فُرض عليها تلقائيًا من أذواق القوم.. وما يبدو أنه اختيار للنموذج الغربي في العالم الإسلامي، هو في حقيقته من قبيل (وضع الثور قبل المحراث )، وتكديس لمنتجات الحضارة الغربية، وهذا التكديس قد تم في تنكر كامل تقريبًا للنموذج ولفضائله الواقعية ولقيمه العامة، وكان انجرارًا وتقليدًا للجانب السافل منه(21).

من هنا يمكن أن نؤكد أن الفعالية من وجهة اجتماعية (سوسيولوجية )، تنتج من خلال التركيب التاريخي للعناصر الأولية للحضارة، والتي هي الإنسان والوقت والتراب، على ضوء هداية منهج مكيف طبقًا للنموذج الذي اختاره المجتمع.

فالفعالية في جوهرها منهج فكري، بمعنى أنها (مسألة أفكار ومناهج وليست مسألة وسائل )(22)، كما اعتقد العالم الإسلامي حين اتجه إلى البحث عن الوسائل المادية، بينما الأمر يتعلق بنمط الثقافة وما تحدده من مناهج، وما توفره من أفكار وجو فكري، يفعِّل الأداء الاجتماعي للفرد والمجموع.. ولهذا فابن نبي (رحمه الله) حين يتحدث عن النموذج والمنهج، فهو في الحقيقة يتحدث عن ترجمتهما في صورة مشروع ثقافي، يكتل الجهود، ويشكل دستور الحياة، من خلال ما تحويه الثقافة من عناصر الفكر والأخلاق والعمل والجمال(23)، وحينما ينعدم الإطار الثقافي بعناصره هذه، فإن الأفكار تتجه إلى الدوران حول التقليد، وتفقد اتصالها بنموذجها الثقافي الذي تكونت فيه أصالة، ويضمن لها الدور الفعال في التاريخ، وتتحول إلى معوقات إن لم تكن أمراضًا تقضي على بوادر النمو.

ولذا فإن ابن نبي يجعل انعدام الفعالية يكمن في انفصال الأفكار عن نموذجها في عالمها الثقافي الأصيل، فتصبح هذه الأفكار حينئذ الجراثيم التي تنقل الأمراض الاجتماعية، سواء الموروثة عن عهود التخلف، أو الأفكار المميتة القادمة من عالم ثقافي آخر انفصلت عنه(24).

الثقافة والفعالية:

كما سبق القول، فإن الفعالية في مفهوم ابن نبي (رحمه الله) لا يمكن الحديث عنها منفصلة عن نظريته في الثقافة، ذلك أن الثقافة تشكل الإطار الذي ينظم سلوك الفرد في محيطه الاجتماعي، ويمنحه الوجهة التي يسير وفقها. وأساس كل ثقافة هو تركيب تفاعلي بين عناصر الوجود الاجتماعي; الأشخاص والأشياء والأفكار.. وضمن هذا التركيب تتوجه الثقافة إلى أن تكون إطارًا لتحقيق الفعالية أو الركود(25).

ونموذج الثقافة، كما يؤكد ابن نبي، يحدد الفعالية.. فالثقافة إذا ما تكونت في مجتمعٍ، نشأت فيه تلقائيًا شبكة الصلات الثقافية، وتحددت فيه فعالية الفرد، إذ الثقافة ليست مجرد علم يتعلمه الإنسان في المدارس ويطالعه في الكتب، إنها ذلك الجو المتكون من عادات وتقاليد وأذواق، أي الجو العام الذي يطبع أسلوب الحياة في مجتمع معين وسلوك الفرد فيه بطابع خاص يختلف عن الطابع الذي نجده في حياة مجتمع آخر(26). ومن هنا فنمط الثقافة مهم جدًا في تحديد القيم الفعالة، إذ الثقافة إما أن تكون زادًا ومحيطًا يحرك إرادة الفرد ويحرر طاقاته في المجتمع، أو أنها تكون عائقًا إذا كانت ثقافة تحمل دستورًا للعطالة والتسيب واللامبالاة الفردية والاجتماعية.

فأمر الفعالية، في مفهوم ابن نبي، متعلق بإطار الثقافة الذي يجعل من المبدأ الأخلاقي منتجًا للفعالية، ذلك أن فعالية المجتمعات تزيد أو تنقص بقدر ما يزيد فيها تأثير المبدأ الأخلاقي أو ينقص، فإن مواقفها إزاء المشكلات محددة بذلك المبدأ الذي يكوّن الشرط الأساسي لأفعالها، حيث ينظم فيها علاقات الأشخاص تنظيمًا يناسب المصلحة العامة(27). فأول شرط لتكون الثقافة إطارًا للفعالية هو وجود المبدأ الأخلاقي، وجودًا اجتماعيًا يؤثر ويوجه حركة التاريخ، وينشئ الصلات الاجتماعية، ويبني النسيج الاجتماعي.

وتبعًا لنظريته في موقع الفكرة الدافعة في حركة التاريخ وبناء الحضارة وتشكيل نمط الثقافة، فإن ابن نبي يرى أن الثقافة لا تستطيع أن تُكوِّن أسلوب الحياة في مجتمع معين، إلا إذا اشتملت على عنصر يجعل كل فرد مرتبطًا بهذا الأسلوب، فلا يحدث فيه نشوزًا بسلوكه الخاص، وهذا لا بد أن يكون خلقيًا، أي المبدأ الأخلاقي، وهو فيما يتصل بالغرب الفكرة المسيحية وما طرأ عليها من تطور وتغير خلال حركتها في التاريخ(28).

ويورد ابن نبي (رحمه الله) مثالاً لارتباط الفعالية بالمجال الثقافي الذي تشكله الفكرة الدافعة بما وقع للمسيحيين على يدي الرومان في بداية تسجيل المسيحية في النفوس بعد قرون ثلاثة من بعثة المسيح عليه السلام، ويؤكّد أن البنية التحتية التي أنشأت الحضارة الغربية كانت المسيحية(29)، وأن المبدأ الأخلاقي المسيحي يشكل لحمة الصلات الاجتماعية التي تربط بين مظاهر التنوع في الغرب.

ويعزو أكبر مصادر خطئنا في تقدير المدنية الغربية إلى أننا ننظر إلى منتجاتها وكأنها نتيجة علوم وفنون وصناعات، وننسى أن هذه العلوم والصناعات ما كان لها أن توجد لولا صلات اجتماعية خاصة لا تُتَصوّر هذه الصناعات والفنون بدونها، فهي الأساس الخلقي الذي قام عليه صرح المدنية الغربية في علومه وفنونه... فلو تناولنا جهاز الراديو مثلاً لرأينا فيه مجهودات علمية وفنية مختلفة دون أن يخطر ببالنا أثر القيم المسيحية في بنائه، بينما هو في الواقع آثار تلك العلاقات الاجتماعية التي وحدت جهودًا مختلفة لـ (هرتز ) الألماني، و(بوبوف ) الروسي، و(برانلي ) الفرنسي، و(ماركوني ) الإيطالي، و(فليمن ) الأمريكي، فكان الراديو نتيجة هذه الجهود جميعًا(30).

ويتساءل ابن نبي (رحمه الله): وهل هذه العلاقات الخاصة في أصلها سوى الرابطة المسيحية التي أنتجت الحضارة الغربية منذ عهد شارلمان ? ولهذا يرى أننا سوف نصل في النهاية -إذا ما تتبعنا كل مدني من مظاهر الحضارة الغربية- إلى الروابط الدينية الأولى التي بعثت الحضارة، وهذه حقيقة كل عصر وكل حضارة، وليست خاصة بالحضارة الغربية فقط(31).

لكن ابن نبي لا يغيب عنه ما طرأ على هذا المبدأ الأخلاقي من تطور وتبدل، ولهذا ينبه إلى أن الحضارة الغربية قد قامت في بدايتها على هيكل أخلاقي مسيحي، أتاح لها التماسك والوثبة الضرورية لازدهارها، لكن تطورها قد غير هذا الأساس العقدي شيئًا فشيئًا، إلى أن صار هيكلاً مختلطًا يتمثل فيه التفكير الكاثوليكي والبروتستانتي، وما يسمى بالتفكير الحر، والتفكير اليهودي، وعليه فلا مجال لأن نبحث عن التماسك والتوافق في تلفيق ديني مصطنع، وهذا يعطينا تفسيرًا لبداية خفوت الروح الدافعة التي تعاني منها الحضارة الغربية اليوم(32).

وأما الشرط الثاني لتكون الثقافة إطارًا للفعالية فهو الجمال، ويرى ابن نبي أن: (ذوق الجمال هو الذي يطبع الصلات الاجتماعية بطابع خاص. فهو يضفي على الأشياء الصورة التي تتفق مع الحساسية والذوق العام من حيث الألوان والأشكال. فإذا كان المبدأ الأخلاقي يقرر الاتجاه العام للمجتمع بتحديد الدوافع والغايات، فإن ذوق الجمال هو الذي يصوغ صورته )(33)، ومن هنا ينبه ابن نبي إلى وجه آخر للفرق بين العلم والثقافة، فإن الأول تنتهي عمليته عند إنشاء الأشياء وفهمها، بينما الثانية تستمر في تجميل الأشياء وتحسينها.

ومن هذه الناحية يعتبر ذوق الجمال من أهم العناصر الديناميكية في الثقافة، لأنه يحرك الهمم إلى أبعد من مجرد المصلحة. وهو في الوقت نفسه يحقق شرطًا من أهم شروط الفعالية، حيث يضيف إلى الواقع الأخلاقي عند الفرد دوافع إيجابية أخرى من شأنها أحيانًا أن تعدل من بعض الدوافع السلبية التي ربما يخلقها المبدأ الأخلاقي الجاف في سلوك الفرد(34).

فالجمال شرط مهم من شروط الفعالية في الفرد وفي المجتمع. غير أن المبدأ الأخلاقي والذوق الجمالي، لا يشكلان دافعًا قويًا إذا لم تكن هناك الوسائل العملية لتنفيذهما في الواقع، ولذا نجد ابن نبي يضيف شرطًا ثالثًا; وهو المنطق العملي، أي استخراج أقصى ما يمكن من الفائدة من وسائل معينة(35). وهو الذي يترجم الشرطين السابقين إلى نشاط وحركة في الواقع.. والتاريخ نفسه -كما يرى ابن نبي- ليس إلا قائمة إحصائية لعدد معين من الحركات والأفكار، والمجتمع الذي يسجل يوميًا أكبر عدد ممكن من الحركات والأفكار يكِّون لنفسه محصولاً اجتماعيًا أكبر.. وهذه الاعتبارات هي التي أدت إلى تحديد فكرة (تايلور ) فيما يخص الإنتاج الصناعي، القائم على المنطق العملي. وتطبيق هذا يتضمن فكرة الوقت والوسائل، وبالتالي لا يمكن تصور حياة الإنسان دون جانبها المادي، كما لا نتصور شيئًا لا يصدر عن فكرة معينة تتصل بطبيعتها بعالم المفاهيم، وهذا -كما يرى ابن نبي- يفرض أن نحدد عنصرًا رابعًا في الثقافة، وهو العلم (الصناعة بالتعبير الخلدوني )(36).

فعناصر الثقافة تشكل مجتمعة شروط الفعالية، وكما يؤكد ابن نبي، فإن الثقافة تشتمل على أربعة عناصر: عنصر أخلاق، وعنصر جمال، وعنصر منطق عملي، وعنصر علم. فالمبدأ الأخلاقي وذوق الجمال والمنطق العملي لا تكون وحدها شيئًا من الأشياء إن لم تكن في أيدينا وسائل معينة لتكوينه. والعلم هو الذي يعطينا تلك الوسائل، فالعلم -أو الصناعة حسب تعبير ابن خلدون- يكون عنصرًا هامًا في الثقافة لا يتم بدونه تركيبها ومعناها، فهو إذن عنصرها الرابع(37).

ومن خلال ما سبق، يمكن ملاحظة أن ابن نبي (رحمه الله) يربط الفعالية بإطارها الثقافي، وأن الفعالية معناها اكتمال شروط الثقافة; من مبدأ أخلاقي، وذوق جمالي، ومنطق عملي، وصناعة (العلم )، فإذا اختل دستور الثقافة في أحد شروطه اختلت شروط الفعالية في إطار التاريخ، كما أن اتجاه الفعالية مرتبط بجهاز المفاهيم الذي تقوم عليه الثقافة.

=============

# الخاصية الرابعة: النزعة الجمالية

ما هي النزعة الجمالية؟

يولي ابن نبي عناية خاصة للذوق الجمالي، وما يؤديه في صياغة الثقافة، وتحديد ذاتيتها، كما يبين أهمية النزعة الجمالية في تحديد اتجاه الحضارة في التاريخ. ويركز في دراسته للحضارة على أن النزعة الجمالية والذوق الجمالي ينعكسان على سلوك الفرد والمجتمع، ويظهر هذا في الأفكار، والأعمال، وكل المساعي، أي أن عنصر الجمال مهم لتكوين الذوق العام. كما يرى أن الجمال في صورته النفسية هو (الإحسان )(1).

ومن وجهة لغة الاجتماع، يرى ابن نبي: (أن الأفكار -بصفتها روح الأعمال التي تعبر عنها أو تسير بوحيها- إنما تتولد من الصور المحسة، الموجودة في الإطار الاجتماعي، والتي تنعكس في نفس من يعيش فيه، وهنا تصبح صورًا معنوية يصدر عنها تفكيره، فالجمال الموجود في الإطار الذي يشتمل على ألوان وأصوات وروائح وحركات وأشكال، يوحي للإنسان بأفكاره ويطبعها بطابعه الخاص من الذوق الجميل أو السماجة المستهجنة )(2).

فابن نبي ينظر إلى الجمال من الوجهة النفسية والاجتماعية، أي إلى ذلك الجانب النفسي المستوحى من منظر أو شكل أو رائحة أو صوت أو لون. هذه الحركات أو الأشكال إما تؤدي إلى إحساس بالقيمة الجمالية، أو إلى سماجة في السلوك إذا كان ما توحي به مستقبحًا. وهذا يؤدي بالإنسان إلى سلوك عملي يتوخى فيه الإحسان والدقة والإتقان، كما يتوخى كل سلوك محبب إلى النفس وكريم في العادات. فالجمال عند ابن نبي بما يوحيه في المجتمع من ثراء في الذوق، وما يمثله من نبع، تصدر منه الأفكار وتصدر عنه بواسطة هذه الأفكار أعمال الفرد في المجتمع(3 ).

بعبارة أخرى، أن الجمال يشكل فصلاً مهمًا من فصول الثقافة، التي تشكل المحيط الاجتماعي، وتكوِّن شبكة العلاقات الاجتماعية(4)، بل إن الجمال هو الإطار الذي تتكون فيه أية حضارة.. والإطار الحضاري بكل محتوياته متصل بذوق الجمال(5). والقرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة أوليا عناية كبيرة للبعد الجمالي في شخصية الفرد والمجتمع والأمة، ويظهر ذلك جليًا من خلال التأكيد على جانب الطهارة في النفس والجسم والمحيط، حتى اعتبر الإسلام إماطة الأذى عن الطريق من شعب الإيمان، وصدقة يؤجر عليها فاعلها(6).

غير أن ابن نبي لا يهتم بإعطاء تعريف دقيق للجمال من وجهة لغوية، بقدر ما يهتم بهذه النزعة من وجهة دخولها في تركيب الثقافة، وتأثيرها على الإطار الاجتماعي. ومن هنا يمكن القول: إن تركيز ابن نبي كان على التحديد الاجتماعي والحضاري للقيمة الجمالية، أكثر من عنايته بالمصطلح ذاته من ناحية النشوء اللغوي، رغم أنه يشير إلى بداياته مع حركة النهضة الأوروبية، ومع بداية الاتجاه الكلاسيكي والرومانسي في الأدب والفن في إيطاليا. ويشير إلى ما لاحظه (تولستوي ) في كتابه (ما هو الفن ) حيث يرى أن فكرة الجمال بدأت تحتل المكان الأول في عصر النهضة. وأنها استولت نهائيًا على الشعور الغربي حوالي منتصف القرن الثامن عشر عند ظهور دراسات (وينجهمان ) التي تشير إلى أن المبدأ الأخلاقي قد اضمحل في الفن وسلم مكانه للجمال(7).

وكما يشير ابن نبي، فإن الجمال ينتشر في المجال الطبيعي في صورة أصوات وألوان وحركات وأضواء وظلال، وفي المجال الاجتماعي تنتظم ألوان الحياة وصورها في قوالب وأشكال وأنماط متعددة، وكل هذه وتلك في المجالين معًا يتمثلهما الإنسان في ذاتيته شعوريًا ولا شعوريًا فتؤثر عليه وعلى سلوكه وتدخل في تشكيل ذوقه ودوافعه سلبًا وإيجابًا. فالانفعال الجمالي بالأشياء يمنح حركة العمل دافعًا وإبداعًا ويحدث التغيرات العديدة في السلوك والحياة(8). أي أن الجانب التربوي هو المهم في الجمال، وهو الذي يوليه ابن نبي عناية كبيرة، وهذا اتساقًا مع نظريته في فصول الثقافة التي يعد الذوق الجمالي أحد أبعادها الأربعة.

والذوق الجمالي كقيمة حضارية، له تأثير عام يمس كل دقيقة من دقائق الحياة، كذوقنا مثلاً في الملابس والعادات وأساليب الضحك، وكطريقة تنظيم بيوتنا، وتمشيط أولادنا، ومسح أحذيتنا، وتنظيف أرجلنا. كما يرى ابن نبي أننا في العالم الإسلامي اليوم لا نملك هذه القيمة، ولو كانت عندنا لوظفناها في حل مشكلاتنا باعتبارها أحد فصول الثقافة مثلها مثل المبدأ الأخلاقي، والمنطق العملي، وجانب الفن الصناعي، فيقول: (ولعل من الواضح لكل إنسان أننا أصبحنا اليوم نفقد ذوق الجمال، ولو أنه كان موجودًا في ثقافتنا، إذن لسخرناه لحل مشكلات جزئية، تكون في مجموعها جانبًا من حياة الإنسان )(9).

الجمال واتجاه الحضارة:

في تحديده لدستور الثقافة، في فصولها الأربعة: المبدأ الأخلاقي، والذوق الجمالي، والمنطق العملي، والفن الصناعي، يرى ابن نبي أن هناك علاقة خاصة بين الفصلين الأولين; المبدأ الأخلاقي والذوق الجمالي. كما يلاحظ أن هناك علاقة صلة خاصة بينهما، تكون في الواقع علاقة عضوية ذات أهمية اجتماعية كبيرة. حيث إن هذه العلاقة تحدد طابع الثقافة كله، كما أنها ترسم اتجاه الحضارة، حينما تضع هذا الطابع الخاص على أسلوب الحياة في المجتمع وعلى سلوك الأفراد فيه(10).

فالنموذج الاجتماعي إما أن يقوم على الدوافع الأخلاقية وإما أن يقوم على الدوافع الجمالية، ومن هنا نكون أمام نموذجين من المجتمع; تبعًا للدوافع التي تحرك نشاطاته.. وحسب ابن نبي، فإن هذا الاختلاف ليس اختلافًا شكليًا، أو مظهريًا، بل هو اختلاف عميق يؤدي إلى نتائج تاريخية ذات أهمية كبرى. إذ كل من المجتمعين يتطور تاريخيًا في اتجاه يختلف تمامًا عن اتجاه الآخر، بل قد يتناقضا في كثير من المواضع، إذ أن ما يمتنع مجتمع عن فعله بدافع خلقي، يعمل الآخر على تحقيقه بدافع جمالي.

إضافة إلى أن السلوك والأذواق والمناظر، واللباس، وكل النسيج الاجتماعي، والعمراني، يخضع في تشكيله إلى العلاقة بين المبدأ الأخلاقي والذوق الجمالي. فالمجتمع الغربي مثلاً اشتهر بفن التصوير، وتصوير المرأة العارية على الخصوص بسبب الدافع الجمالي، بينما المجتمع الإسلامي -كما يرى ابن نبي- لا نجد فيه أن للفن الإسلامي آثارًا في التصوير، مثل ذلك الذي نشاهده في متاحف الحضارة الغربية، وفي آثارها المتبقية مع الزمن. وما ذلك إلا لأن المبدأ الأخلاقي في المجتمع الإسلامي لا يطلق العنان للفنان أن يعبر عن كل أنواع الجمال وعلى الخصوص المرأة العارية(11).

فالمعيار الذي تقيس به الحضارة الغربية هو معيار الجمال، أما معيار الحكم على الأشياء في الحضارة الإسلامية فهو معيار القيمة الأخلاقية. وهذا في نظر ابن نبي (رحمه الله) ليس معناه افتقاد الحضارة الإسلامية عنصر الجمال، وإنما موضعه يأتي متأخرًا عن القيمة الأخلاقية في سلم ترتيب القيم(12).

فالمسألة في وضعية إحدى هاتين القيمتين: الأخلاق، أو الجمال، باعتبار إحدى القيمتين محورًا، والأخرى تابعة.. وهذه المحورية ترجع إلى أصول كل ثقافة وما تركبت منه في بداياتها، وإلى جذورها الأولى، فإذا كانت الحضارة الإسلامية نتاج خط النبوة وتعاليم الوحي، مما جعل (الحقيقة ) محورها، فإن الحضارة الغربية تعود في أصول ثقافتها إلى ذوق الجمال الموروث من التراث اليوناني الروماني; الذي كان شغوفًا بالتماثيل والرسوم، مما جعل الثقافة الأوروبية تركب في مضمونها مزيجًا من الأشياء والأشكال، أي من التقنية والجمالية(13).

وإذا كان القرآن الكريم والسنة النبوية، قد وضعا دستور الجمال المؤسس على المبدأ الأخلاقي، فذلك يبين موقع الجمال في المنظور الإسلامي، الذي يعد قيمة غير قابلة للانفصال عن القيم الأخلاقية.. ولهذا فإن مسألة اللباس فيما يخص المرأة، منضبط بقيم الحياء والستر، وغض البصر، وعدم التبرج، وإخفاء المفاتن. أما الجمال في المنظور الغربي، وباعتبار أن الحضارة الغربية تتمحور حول الذوق الجمالي، فإن هذا أنتج موجات الموضة والأزياء التي لا تراعي قيم الحشمة والستر والحياء، وتعتبرها لا قيمة لها قياسًا إلى المنظر الجمالي. وليس هذا في مجال الأدب والزي فقط، بل إن العلاقة: (مبدأ أخلاقي-ذوق جمالي )، تدل دلالة واضحة على عبقرية أي مجتمع، وتحدد اتجاهه في التاريخ.

نتائج النزعة الجمالية:

وما يمكن ملاحظته أن ابن نبي يعتبر أن هذا الاختيار، الذي انتهت إليه الحضارة الغربية، أي تقديمها للذوق الجمالي على المبدأ الأخلاقي في سلم ترتيب القيم، أحدث في الثقافة الغربية انفصالاً عن الثقافة الإنسانية، كما أحدث خللاً منهجيًا أدى إلى قلب القيم، وإلى نتائج خطيرة على مصير الحضارة الغربية نفسها، وعلى الإنسانية عمومًا. فأدت النزعة الجمالية إلى الاستعمار، والإباحية والعبثية، وتفكيك الروابط التي تحفظ المجتمع من الانحلال، وإلى تمركز الإنسان. ويضرب ابن نبي مثلاً بظاهرة الاستعمار باعتباره (ظاهر ثقافية ) تعبر عن نمط ثقافة معينة قائمة على السيطرة، فالعقل الأوروبي المحكوم بإطار ثقافي قدم الجمال على المبدأ الأخلاقي في ترتيب القيم، فإن هذا الترتيب أثر في علاقة الغربي بالإنسانية(14).

ويضيف ابن نبي (رحمه الله) أننا لو تتبعنا الاعتبارات هذه، إلى أبعد مدى، لرأينا كيف أن الثقافة التي تمنح الأولوية لذوق الجمال، تغذي حضارة تنتهي إلى فضيحة حمراء، وذلك لأنها تسيطر عليها دوافع الأنوثة(15).

============

# خصائص المنهج أولاً: السننية

ينطلق ابن نبي (رحمه الله) من قوله تعالى: (إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بانفسهم )(الرعد:11)، ويجعلها أساس كل إنجازه الفكري، ويتخذ منها قانونًا للتغيير بكل مستوياته، ويبحث في وقائع التاريخ ليؤكد للعقل المسلم أن الله تعالى يعلمنا بهذه الآية وآيات القرآن كلها، أن التغيير يخضع لسننٍ علينا أن نكتشفها ونوظفها في بنائنا الحضاري بكل مستوياته.. ونلاحظ أن ابن نبي لم يتوجه إلى تفسير القرآن والسنة، وإنما اتجه إلى محاولة دراسة السنن التي ينبه إليها الوحي، ويستخرجها من حركة التاريخ، ومن تجارب الإنسانية.

فهو (مدرسة في الفكر الإسلامي الحديث، لم ينصب فكره على النص الإسلامي، وإنما على مناط تطبيقه على المجتمع، من أجل بناء الحقيقة الموضوعية في نظر العقل المسلم، بالكشف عن سنن البناء الحضاري وتطوره في اتجاه القوة والضعف... فمالك يرى أن الحضارة ليست نظرية في الفلسفة وفي المعرفة عامة، مهما كانت جميلة ومتناسقة، حتى ولو كان الإسلام ذاته، وإنما الحضارة إنجاز في عالم الزمان والمكان، ثمة تفاعل فكرة مع واقع بحسب شروط موضوعية لا تتخلف )(1). فهو قد اتجه إلى كيفية إعمال هذا الوحي واستخراج سنن البناء والسقوط الحضاري، ويقدمها كأدوات عملية في أيدي المسلم الباحث عن طريق للعودة إلى صناعة التاريخ.

وبتأمل أدواته التحليلية التي ابتكرها; مثل الدورة الحضارية، أو الفكرة الدينية، أو دستور الثقافة، أو المراحل الثلاثة للمجتمع، وغيرها، فإننا نجد روح البحث عن القانون الذي يحكم الظاهرة هي التي تقوده، كما أن تأكيده المتكرر على الارتفاع إلى مستوى الحوادث الإنسانية، والتأمل في السنن التي تبني الحضارات وتهدمها(2)، كان الغرض منه إخراج المسلم من الحتمية التي وقع فيها منذ عصر (ما بعد الموحدين )، واستسلم لعوامل التخلف، ليدخل في دورة إنجازية قائمة على أسس ثابتة. وحتى قانون الدورة الذي كثيرًا ما اعتمد عليه ابن نبي، فإنه لا يراه حتمية، بل هو قانون يمكن التعامل معه بقانون آخر. إذ يؤكد على هذا الأمر بقوله: (إن كل قانون يفرض على العقل نوعًا من الحتمية تقيد تصرفه في حدود القانون، فالجاذبية قانون طالما قيد العقل بحتمية التنقل برًا أو بحرًا. ولم يتخلص الإنسان من هذه الحتمية بإلغاء القانون، ولكن بالتصرف مع شروطه الأزلية بوسائل جديدة تجعله يعبر القارات والفضاء... إن القانون في الطبيعة لا يَنصِب أمام الإنسان الدائب استحالة مطلقة، وإنما يواجهه بنوع من التحدي يفرض عليه اجتهادًا جديدًا للتخلص من سببية ضيقة النطاق )( 3 ).. وهذا القانون الذي في الطبيعة، يمكن الاستفادة منه في ميدان التاريخ، فنخلّص (مفهوم التغيير الاجتماعي من قيود السببية المقيِّدة، كما تربطه بها النظرة الشائعة عند المؤرخين أمثال (توينبي)، الذين يرون الأشياء في التاريخ تسير طبقًا لسببية مرحلية. والأشياء تسير فعلاً كذلك إن تركت لشأنها )(4).

وزيادة على ما قاله ابن نبي، فإن الأمر لا يتعلق بـ (توينبي ) فقط، بل بكثير من رواد حركات التغيير من بين المسلمين، الذين رأوا في الهيمنة الغربية قانونًا صارمًا لا يقبل التغيير. وهي فعلاً صارت قانون العصر، لكنها تقبل التغيير والتحدي، إذا علمنا أن الظاهرة الأوروبية نسبية وليست الحقيقة المطلقة، ومن هنا يمكن التعامل معها(5).

كما أن ابن نبي يفرق بين نوعين من السنن; فهناك ما يقبل التغيير والتحدي -مثل ما سبق الحديث عنه من نسبية الحقائق الأوروبية- وهناك سنن لا تتغير ولا تتبدل، وهذه الأخيرة ينبغي التأمل فيها، وهي السنن التي تبني الحضارات وتهدمها، وتحكم التغيير الاجتماعي، وتوجه التاريخ، وقد أشار إليها القرآن الكريم في قوله تعالى: (سنة الله التي قد خلت من قبل ولن تجد لسنة الله تبديلا ً) (الفتح:23)(6). وهذه الأخيرة أيضًا هي التي دفعته إلى دراسة ظاهرة الحضارة الغربية والبحث في خصائصها، وتأثير هذه الخصائص في مسيرة الحضارة الغربية، والنتائج التي قادتها إليها، وهويدرس في الوقت نفسه الحضارة الإسلامية -واقع المسلمين المتخلف في حقيقة الأمر- ليستخرج القانون العام الذي يحكم ظاهرة تنقل الحضارة، وميلادها، وأفولها، وكذا قوانين تحولها من أمة إلى أخرى، كما يستخرج القوانين الخاصة التي تحكم كل حضارة، وهو ما أسماه بنسبية الظواهر عندما تحدث عن الظواهر الأوروبية كما سبق الذكر.

فالسننية في استعمال ابن نبي (رحمه الله) تُفهم في إطار محدد من خلال تقسيمها إلى مستويين; سنن عامة تحكم الظواهر في إطارها الإنساني، وسنن خاصة تحكم ظواهر جزئية ومحددة.. كما أن السننية في مفهومه مرتبطة بمفهوم آخر هو التسخير، وبالتالي فإن السنة باعتبارها قانونًا، لا تقيد الجهد الإنساني، وهي تمارس حتمية في إطار مدى عمل السنة ذاتها، وليست لها طابع الجبرية المقيد لحركة الإنسان، وبخاصة فيما يتعلق بحركة التاريخ، بل هي جزء من التكليف المنوط بحرية التصرف.. وبتعبير آخر، أن (السنن في النفس والآفاق... قدر من قدر الله سبحانه وتعالى، فهو الذي شرعها وسنّها وناط تكليف الإنسان بها، وربط جزاءه وقيمة إنجازه بمقدار ما يكشف منها، ويلتزم بها... والتعرف عليها والانضباط بمقتضياتها، هو حقيقة التكليف، وحقيقة الإيمان والتوكل، وهي مظهر من مظاهر العدل الإلهي المطلق )(7).

وهذه الأقدار بعضها يدفع ببعض، فإذا أردنا توظيف سنة معينة علينا أن نوظفها ونتحكم فيها بسنة أخرى أكبر منها، أو نتجاوزها من حيث الهيمنة والتوجيه، وهذا هو التسخير. فإن الله عز وجل سخر هذا الكون للإنسان عن طريق توظيف هذه السنن، وتتبع حركتها، وملاحظة كيفية عملها وتعاقبها فيما بينها، لتحقيق مستوى استخلافي أرقى في كل مرة يتجاوز الإنسان سنة تاريخية أو كونية إلى سنة أخرى.

فابن نبي يحرص على تأكيد سننية حركة التاريخ، وحركة الحضارة، وضرورة تنبه العقل المسلم لهذا الأمر، حتى لا يقع له الذهول عن المقاصد، أويقع في ذهاني الاستحالة أو السهولة. يرى الأستاذ عمر عبيد حسنه: أن فهم (قضية السنن، بمعنى القوانين المطردة والثابتة، التي تحكم حركة الحياة والأحياء، وتحكم حركة التاريخ، وتتحكم بالدورات الحضارية، بما يمكن أن نسميه سنن التداول الحضاري، استيحاء من قوله تعالى: (وتلك الأيام نداولها بين الناس )(آل عمران:140)، والتي تعتبر معرفتها شرطًا أساسيًا للتبصر بالعواقب، وتؤهل معرفتها إلى تسخيرها والتمكن من الإنجاز والإبداع الحضاري، لا يتأتى إلا من السير في الأرض، الذي فرضه الله على المسلم بقوله: (قل سيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة الذين من قبل )(الروم:42)(8). فالسير في الأرض من خلال الارتفاع بالوعي إلى المدى العالمي، يدفع إلى أكبر قدر من الخبرة العلمية والعملية بالأحداث التي ترسم مسار التاريخ وتشكله، وتترك من ورائها آثارًا للناظر المكتشف لقوانين التاريخ.

ولهذا فابن نبي في دراسته للحضارة الغربية وخصائصها، كان يهدف من وراء ذلك إلى البحث عن حل سنني لمشكلات العالم الإسلامي، يضعه في إطاره الإنساني، ولا يغفل الحقيقة الموضوعية التي يسير بها منطق التاريخ، الذي صار من أهم ميزاته في أواخر القرن العشرين أن الإنسانية موحدة في مصيرها، ومتشابكة في علاقاتها، مما يحتم علينا البحث في عمق الظاهرة الحضارية في حركتها في التاريخ، دون عزل يقصي الأبعاد المتشابكة لها.

ولتأكيد أهمية النظر السنني للوقائع والأحداث، ولأي إنجاز بشري، فإن ابن نبي ينطلق من استقراء الواقع الاجتماعي والتاريخي، وبمختلف دوائره; الدائرة الإسلامية والدائرة الإنسانية، ذلك أن الكشف عن السنن التي تحكم الحركة الاجتماعية لا يتأتى إلا من السير في الأرض، واستقراء التاريخ، والتعرف على القوانين التي حكمت حركة البشر، للإفادة منها للحاضر والمستقبل(9). وينطلق في ذلك (من عدة ملاحظات تاريخية واجتماعية ومنهجية طبعت تفكيره بالدقة والعمق، وبالقدرة على التأمل والتدبر.. فجاءت أطروحاته متسمة بالنضج في التفكير، وبالعمق في التحليل )(10). وهو وإن كان يهدف من دراساته التي قدمها إلى البحث عن حل لأزمة العالم الإسلامي، وبناء منهج لنهضته، فإنه أراد إعطاء أكبر مصداقية لتحليله، من خلال البحث في مستوى السنن التي تحكم حركة التغيير، وهي لا شك سنن تؤطر أي جهد بشري، دون النظر إليه أكان مسلمًا أو غير ذلك، ولهذا نراه ينزع في دراساته منزعًا إنسانيًا يتجاوز الدائرة الخاصة بمشكلات العالم الإسلامي -رغم تأكيده على محوريتها- إلى آفاق الإنسانية، التي وصلت إلى مصب تاريخي تحتاج فيه البشرية إلى بديل حضاري سنني قائم على هدي سنن الله في الكتاب والآفاق والأنفس.

ومن هنا يمكن فهم ما لاحظه الأستاذ إبراهيم زين، من أن (مالك بن نبي كان يعنى في المقام الأول بمشاكل الإنسانية جمعاء، وكان يحاول وضع مشكلات الأمة الإسلامية في إطار مشكلة الإنسانية قاطبة )(11)، أو ما سماه ابن نبي نفسه بالارتقاء إلى مستوى الأحداث الإنسانية، والغرض من ذلك هو الكشف عن سنة الله فيها.

ويمكن التعبير عن الجانب السنني مما قدمه ابن نبي بالمنهج، أي أنه قدم منهجًا قائمًا على أدوات محددة -كما سبق ذكره- وإطار تصوري قائم على المنظور الحضاري الذي صاغه، أو بتعبير الأستاذ إبراهيم زين (فقد كان يرى الأشياء بتلك البصيرة الحضارية التوحيدية النافذة التي تجلت في محاضرة (دور المسلم ورسالته في الثلث الأخير من القرن العشرين )(12)، وفي كتبه الأخرى كلها.

وهذا هو المهم من ابن نبي; المنهج وليس الجزئيات، فقد تكون الأحداث التي انعكست في كتابات ابن نبي قد تجاوزها الزمن، وقد تكون المرحلة التي عاشها قد ولت بكل تفاصيلها، ولم يعد لها معنى، غير أن الذي يهم من فكره وفكر غيره هو الجانب المنهجي، وروح البحث عن القانون(13).

كما يمكن القول: إن أهم ما يمكن الانتهاء إليه والإفادة منه في منهج ابن نبي فيما يتعلق بهذه النقطة، أن ابن نبي درس الحضارة الغربية في ضوء القانون العام الذي يحكم حركة الحضارة، وقدمها لنا بصيغة منهجية يمكن من خلالها التأمل في الظاهرة الغربية ومعرفة مآلاتها ونتائجها، كما يمكن الاستفادة منها باعتبارها تجربة منجزة في إطار الزمان والمكان، وتخضع بدورها لسنن دقيقة، وليست ظاهرة مستثناة في التاريخ، أو أنها جاءت فجأة ودون عمل سنني وكفاح مستمر منذ فجر النهضة الأوروبية في القرن الخامس عشر الميلادي، إلى المآلات التي نعيشها اليوم، في عالم صارت تصاغ مفرداته ويومياته من قبل منظور هذه الحضارة الغربية، ويخضع لإفرازات خصائصها سواء في منظورها المادي الاستهلاكي، أو في عقلانيتها الديكارتية ذات الجوهر المادي والمآلات العلمانية، أو في جماليتها التي تصبغ بها الأذواق، أو في فعاليتها التي أوصلت الإنسان إلى غايات كبرى على مستوى القدرة التسخيرية للإنسان في الكون. وهو في ذلك كله يعمل على تصحيح النظرة إلى عمل السنن، وكيفية التعامل مع الظاهرة في جوهرها وفي مظهرها، و(قد أبدع مالك رحمه الله في تحليل أسباب أزمتنا الحضارية، من خلال رؤية متميزة للسنن التي تحكمها، فساهم بذلك في تصحيح النظرة للأزمة، حيث قدمها للناس بصيغة قوانين قابلة للفهم، ومن ثمّ قابلة للتسخير في حل هذه الأزمة )(14).

===========

# ثانيًا: الأصالة

المقصود بالأصالة هنا، ما يتميز به منهج ابن نبي من حيث المرجعية الفكرية والروحية، وما يمتلكه من منهج ومصطلحات. ولعل أول ملاحظة يمكن تسجيلها هي الحضور الخلدوني القوي في كل إنتاجه الفكري، فهناك شبه واضح بين رؤية ابن نبي (رحمه الله) للتطور الاجتماعي وبين رؤية ابن خلدون، غير أن ابن نبي لا يعتبر تلميذًا نبيهاً لابن خلدون فقط، بل استفاد بطريقة ذكية من التطورات الأخيرة التي وصلت إليها العلوم الاجتماعية. وبالرغم من أن ابن نبي يبدو قارئًا ومتأثرًا بابن خلدون( 1 )من خلال المقدمة، فإن تأملاته الفلسفية ورؤيته للحضارة تذهب إلى أبعد من التراث الخلدوني(2). وما لمسناه في تأمله في سنن التاريخ، وقيام الحضارة وحتى تفسير حركة الحضارة، فإن ابن خلدون يبدو المرجع الفكري الأول لابن نبي دون منازع.

وإذا كان كل مفكر أو كاتب أو باحث ذي منهج ورسالة عميقة يريد تبليغها، فإنه يقدمها بإبداع مصطلحات ومفاهيم ومضامين جديدة، فإن ابن نبي غير مستثنى من هذا. فعلى الرغم من أنه وظف التراث الفكري السابق له، خاصة من ابن خلدون، وعلماء الاجتماع، فإن أطروحته جديدة وأصيلة، على مستوى المصطلحات والمفاهيم والمنهج، وما لاحظناه في الفصول السابقة من أدوات تحليلية تبدو متميزة، وفي نسق مترابط، بحيث إنها أدوات مترابطة تشكل المنظور الحضاري، وإن صح التعبير (المنهج البنابي )(3)في التحليل وتفسير ظاهرة الحضارة، ومنهجية بنائها. وليس معنى هذا أن أفكار ابن نبي لم يسبقه إليها أحد، وإنما ما يمكن قوله: إن هذه الأفكار موجودة قبله ولكن في صورة أفكار جزئية، ولا تشكل نسقًا متكاملاً، أو منهجًا قائمًا بذاته.

ولم يسبق في علم الباحث أن وجد عند أي عالم اجتماع أو مؤرخ من مؤرخي الحضارات، توظيفًا مترابطًا يشكل إطارًا متكاملاً لكل من الأعمار الثلاثة للمجتمع، والمراحل الثلاث للحضارة، والدورة الحضارية، والعوالم الثلاثة (الأفكار، والأشخاص، والأشياء )، وشبكة العلاقات الاجتماعية، والفكرة الدينية المركِّبة، في نسق تحليلي تفسيري لكيفية عمل القوانين التاريخية والنفسية والاجتماعية وتأثيرها في حركة المجتمع والحضارة.

إضافة إلى أن أصالة ابن نبي تكمن في وعيه بموقع الإسلام من عملية التغيير التي تنشدها الأمة في بنائها الحضاري، وأهمية الاستفادة من الخبرة الإنسانية مهما كانت، ولهذا لم يقع فيما وقع فيه الكثير من المفكرين من جلد للذات، أو تحامل على التراث، كما أنه لم يقع في ما أسماه هو نفسه بحالة إخلاص مفرط تدفعه إلى الدفاع غير الواعي عن واقع المسلمين المريض، مما يحجبه عن رؤية الحقيقة الموضوعية. ولهذا لما رأى من المسلمين من وقع في هذه الحالة، حاول التفريق بين الإسلام وصلاحيته لكل زمان ومكان من حيث هو رسالة الله الخاتمة إلى الناس أجمعين، وبين الحقيقة الموضوعية التي تجعل من المسلمين مثل بقية الأمم الأخرى تسري عليهم سنن الضعف والقوة، ارتباطًا بما يقدمونه من جهد بشري في إطار سنن الله في الآفاق والأنفس والتاريخ.

كما أنه فيما يخص التعامل مع الحضارة الغربية عاب على المفكرين المسلمين -كما سبق في الفصل الأول- المواقف الحدية بين من يرى أن الغرب خير كله، وبين من يرى أن الغرب شيطان وشر كله، واعتبر هذه الحالة من مخلفات ثقافة مسلم (ما بعد الموحدين ) المتسمة بالحدية، والتي ترى في الشيء إما أنه طاهر مقدس وإما دنس حقير. ودعا إلى دراسة الحضارة الغربية باعتبارها ظاهرة خاضعة للدراسة، ولكن في إطار أسمى من الدراسات المقارنة أو المقاربة أو الجدالية، وذلك في إطار دراسة القوانين التي تحكم ظاهرة الحضارة نفسها.

ولهذا يمكن القول: إن ابن نبي على الرغم من أصالة وتميز منهجه، فإنه كان منفتحًا على التراث الإنساني في جميع مستوياته.. وعلى الرغم من توظيفه لكثير من مصطلحات علم النفس وعلم الاجتماع والعلوم الطبيعية، والفلسفة، وفلسفة التاريخ، وهي علوم أغلبها تطور في الغرب، فإنه استطاع تطويعها، وتوظيفها ضمن سياق آخر، جعل منها لبنة أصيلة في بنائه الفكري، ومنظوره الحضاري. فهو بهذا الوعي، لا يمكن أن نتهمه بالوقوع في إطار المصطلحات الغربية(4).

ومن جوانب الأصالة في المنهج، أنه يهتم بالأبعاد الاجتماعية الثقافية للظواهر التي يدرسها، فلا ينحو منحى تجريديًا بقدر ما يهدف إلى علاج مشكلات ملحة تتصل بالواقع الذي يؤرق المسلمين ويحد من انطلاقهم في تجديد الحياة الإسلامية، ففي (كثير من كتبه، يبدو ابن نبي أنه يدرس معظم القضايا ارتباطًا بالوضعية التي تعيشها الأمة، وذلك من وجهتين كعالم اجتماع وكفيلسوف )(5).

ولعل هذا المنهج التكاملي بين العقل والجسم، بين العلوم الإنسانية ومعطيات الوحي، بين التراث الخلدوني والخبرة الإنسانية المعاصرة، وتوظيف التكامل بين علوم الطبيعة والعلوم الإنسانية، يبدو أنه أعطى له قدرة فكرية كبيرة على تركيب منظومة فكرية واسعة، من كلا الجانبين التاريخي والمعاصر(6). كما أعطاه قدرة على التحليل والبناء المنهجي الهادف بالدرجة الأولى إلى البحث عن حلول لأزمة الحضارة، أكثر من الغوص في الجوانب الفلسفية والأبعاد المعرفية التي رغم أهميتها، ورغم وجودها في فكر ابن نبي، فإنه لم يولها الجانب الأكبر، وهو بسبيل البحث عن القوانين التي تحكم عملية التغيير في الواقع ليقدمها للمسلمين، ليفهموا أن التغيير مهما كان مستواه فإنه يخضع لسنن صارمة، ينبغي التعامل معها، وفقهها، وإلا فإن جهودنا ستبقى تراوح مكانها وتعالج المظاهر دون أن تصل إلى لب المشكلة.

=============

# ثالثاً: الموضوعية

في الحقيقة، يبدو من الصعوبة بمكان الحديث عن الموضوعية بمفهوم متفق عليه بين الجميع، غير أن هذا لا يحول دون محاولة إعطاء محددات ولو إجرائية تمكن من النظر إلى مدى موضوعية ابن نبي في دراسته للظاهرة الحضارية الغربية، ولذا فإن الموضوعية في استعمال هذ البحث تمتد إلى النظر إلى ما قدمه ابن نبي (رحمه الله) -فيما يتصل بدراسة الحضارة- في ثلاثة مستويات; من حيث الرجوع إلى المصادر الأصلية المعتمدة في دراسة ونقد الحضارة الغربية، ومن حيث النظر إلى الحقيقة التاريخية وتسجيل أثر الفكرة في التاريخ وتوجيهها للواقع التاريخي، ومن حيث نقد الأفكار في نسقها الداخلي، ثم من حيث المنهج المعتمد في تحليل الظاهرة وتركيبها، لمعرفة عناصرها الأساسية وكيفية تكونها وأدائها لدورها كوحدة مركبة.

ولقد تبين من خلال البحث أن ابن نبي قد رجع إلى كثير من المراجع الأساسية المعتمدة عند الباحثين الغربيين أنفسهم، وإن لم يقم بتتبع كلي لكل من كتب عن الحضارة الغربية من الغربيين، إلا أننا نجد أعمدة الدراسات الحضارية، ورواد الحضارة الغربية حاضرة ضمن تحليلاته، وهو كثيرًا ما يحيلنا إليهم، أو يوظف مصطلحاتهم إذا تعلق الأمر بالحاجة إلى حضورهم كحجج علمية من داخل النسق الغربي معرفيًا وحضاريًا. كما أنه مارس دور الشاهد والمراقب من الداخل، من خلال الإقامة الطويلة في أوروبا، وانخراطه في كثير من النشاطات العلمية والاجتماعية، ومتابعته لتطور الأفكار وتأثيرها في توجيه التاريخ الغربي.

وملاحظة ابن نبي (رحمه الله) عن دور المسيحية في قيام الحضارة الغربية في غاية الأهمية، إذ يرى أن المسيحية مرت بتحولات جذرية منها تشكلت الفكرة التي صاغت نظرة الغربي للعالم ومنحته الدفعة الأولى.

لقد كانت المسيحية تمثل الدافع الروحي والمبدأ الأخلاقي الذي كان الغربي يتحرك وفقه وهو يبسط هيمنته على العالم، باسم الذهب حينًا وباسم المسيح أحيانًا أخرى، يقول ابن نبي: (لقد أودعت المسيحية (خميرة) التوسع الأخلاقي، الذي استُخدم فيما بعد ذريعة للحروب الصليبية، وللمشاريع الاستعمارية)(1). كما أن ابن نبي عندما أتى إلى دراسة تأثير المسيحية في نشأة الحضارة الغربية رجع إلى كل من (كيسرلنج)، و(جيزو)، و(توينبي)، و(توسيديد)، وغيرهم ممن أرّخوا لنشأة الحضارة الغربية .

أما المادية فإنه أعطاها موقع النظرة الكلية والإطار التصوري الذي يحكم الحضارة الغربية، كما أن لها أبعادها الاجتماعية والنفسية، من خلال الطابع الاستهلاكي للحياة الغربية، والتوجه نحو تنميط الحياة على أساس الاقتصاد والدخل الفردي، والتمركز حول القوة باعتبارها نفسية ذات جذر مادي. هذه المادية لها صلتها بالعالمية الغربية التي تحاول إصباغ نموذجها على العالم، كما لها صلتها بالعقلانية الغربية التي تعتبر في جوهرها تمحور حول المادة ونفي عملي للغيب.. والمادية متصلة بنموذج الفعالية الغربية التي تنحو في أغلبها إلى الجانب الكمي، وتتجه نحو منطق الحسم بأية وسيلة، مما ينزع عنها الجانب الأخلاقي الملتزم بالقيم إلى حساب تحقيق أكبر كمية من النفع والتنظيم وإشباع الحاجة، التي هي في غالبها اقتصادية.

وفي الحقيقة، كما رأى ابن نبي من قبل، فإن (اغروس وستانسيو ) يؤكدان أن (لكل حضارة من الحضارات تصور كوني للعالم، أي نظرة يفهم وفقًا لها كل شيء ويقيم. والتصور السائد في حضارة ما هو الذي يحدد معالمها، ويشكل اللحمة بين عناصر معارفها، ويملي منهجيتها، ويوجه تربيتها )( 2 ). فإذا كانت الرؤية الكونية للحضارة الإسلامية تقوم على أساس التوحيد، وتجمع بين عالمي الغيب والشهادة، وتتكامل فيها المادة وما وراء المادة، فإن (الحضارة الغربية ما برحت، منذ عصر النهضة، تخضع لسلطان العلم التجريبي.

بيد أن النظرة الكونية التي تولدت إبان عصر النهضة تواجه في الوقت الراهن تحديًا من علم القرن العشرين، الأمر الذي يفضي إلى وجود نظريتين علميتين متنافستين... النظرة القديمة والنظرة الجديدة )(3). هذا الذي يسميه ابن نبي الصراع الحادث بين علم أوروبا وضميرها، ذلك أن التقدم التكنولوجي والاطراد التاريخي يقود الحضارة الغربية إلى التقدم والتقرب نحو الإنسانية في مصيرها المشترك، وتطلعاتها نحو الوحدة، غير أن ضميرها المتخلف، وريث عصر الفتوحات الجغرافية والاستعمار، يكبح أوروبا والغرب عمومًا من أن تتوحد في نظرتها مع الإنسانية، وذلك بفعل النظرة القديمة هذه، أي النظرة المادية التي أسست الغرب الحديث، وما زالت تهيمن على مناهج العلم، وتوجهات الفلسفة، ويوميات الحياة الغربية.

هذه النظرة المادية، وثيقة الصلة بالخصائص الأخرى التي رأيناها في الحضارة الغربية، فالعقلانية الديكارتية، وإن لم يكن (ديكارت ) ماديًا بالمعنى الإلحادي، فإن فلسفته العقلانية كانت الأساس لكل التوجهات الفلسفية الحديثة في الحضارة الغربية من خلال تركيزه على المنهج، والفلسفة النقدية، وتأكيده على دور العقل على حساب الجسم، كما يقول (برتراند راسل ): (هناك مسألة رئيسية أخرى كانت تشغل مفكري ما بعد عصر النهضة، هي أهمية المنهج، وهي مسألة لاحظناها من قبل في حالة (بيكن) و(هوبز). ولقد امتزج هذان العاملان عند (رينيه ديكارت) ليؤلفا مذهبًا فلسفيًا جديدًا... ومن هنا كان يعد، عن حق، مؤسس الفلسفة الحديثة )(4).

وكما أشار ابن نبي فإن التحديد الإيجابي الذي قام به (ديكارت ) والمدرسة العقلانية في الثقافة الغربية يكمن في أن (ديكارت ) اهتدى إلى أربع قواعد، هي منهجه في التفكير كما يرى (راسل ); (الأولى هي ألا نقبل أي شيء إلا الأفكار الواضحة والمتميزة. والثانية هي أن نقسم كل مشكلة إلى أي عدد من الأجزاء يلزم لحلها. والثالثة هي أن نسير في تفكيرنا من البسيط إلى المركب... أما القاعدة الرابعة فتدعونا إلى أن نقوم دائمًا بمراجعات دقيقة كيما نتأكد من أننا لم نغفل شيئًا.. هذا هو المنهج الذي استخدمه ديكارت )(5).

وعلى الرغم من أن (ديكارت ) قام بهذا التحديد الإيجابي، الذي أخرج العقل الغربي من أوهام الخرافة والتفسير الخرافي، وهيمنة التفسير الكنسي للعالم والتاريخ والوجود، فإنه اعتمد مبدأ كان مآله العلمانية التي تعيشها الحضارة الغربية، إذ أن (ديكارت )، كما يقول (برنال ): (صاغ بدقة أكثر ممن سبقوه تقسيم الكون كما نراه إلى جزء مادي وآخر معنوي... وبالنسبة لديكارت أصبح هذا التقسيم منطقيًا وجزءًا أساسيًا في الفلسفة ونتيجة بدهية للتقليل من الخبرات الحسية والاتجاه أولاً نحو الميكانيكا ثم إلى الهندسة. ويرى أن الانتشار والحركة هما الحقيقتان الماديتان التي يعتبرهما الخواص الأساسية، أما المظاهر الأخرى كاللون والطعم والرائحة فيعتبرها خواص ثانوية.. وبجانب هذا تمتد منطقة ثالثة ربما لا يصل إليها علم الفيزياء، وهي الانفعالات والعواطف كعاطفة الحب والإرادة والإيمان... وليس للعلم صلة بالمجموعة الثالثة حيث إنها تقع في محيط الرؤىة والإلها م)(6).

وهذا الذي أحدث الصراع بين العلم (بمفهومه الغربي ) والضمير الذي يرتكز على الإيمان ويتعلق بالغيب.. وبما أن الإيمان -وفقًا لهذا المفهوم الغربي- لا صلة له بالعلم ولا يمكن إجراء التجربة عليه، فإنه من قبيل الشؤون الذاتية التي لا يقام عليها البرهان، ولا تتدخل في الحياة العامة ولا في توجيه التاريخ، لبعدها عن العلم، فالعلم وحده المؤهل لقيادة العالم. وهكذا كما يقول (راسل ) أيضًا: (فإن الفلسفة الديكارتية تؤكد الأفكار بوصفها نقاط البداية التي لا يتطرق إليها شك، وقد كان تأثيره على الفلسفة الأوروبية منذ ذلك الحين، سواء في اتجاهها العقلي أم في اتجاهها التجريبي )(7).

وكما أنتجت الحضارة الغربية فصام العلم والضمير، فإنها أنتجت الخواء الروحي بفعل تضافر المادية والعقلانية المبعدة للغيب عن التاريخ، يقول (اشفيتس ر): (والحقيقة الرهيبة -وهي أن تنمية الحضارة الحقيقية قد أصبح أشدًا عسرًا من جراء تقدم التاريخ وتطوير الاقتصاد في العالم -هذه الحقيقة لم تجد من يعلنها )(8).. كما يؤكد أمر المآل الرهيب الذي آلت إليه الحضارة الغربية بفعل تمركز المادة، وما أنتجته من آثار فيقول: (والخاصية المروعة في حضارتنا هي أن تقدمها المادي أكبر بكثير جدًا من تقدمها الروحي. لقد اختل توازنها... فإننا نغالي في تقدير إنجازاتها المادية، ولا نقدر أهمية العنصر الروحي في الحياة حق قدره... إن الحضارة التي لا تنمو فيها إلا النواحي المادية دون أن يواكب ذلك نمو متكافئ في ميدان الروح هي أشبه ما يكون بسفينة اختلت قيادتها ومضت بسرعة متزايدة نحو الكارثة التي ستقضي عليها )(10).

وهذا ما لاحظه ابن نبي عند تسجيله لنتائج الإفراط في الكمية والاعتماد على لغة الأرقام في تقدير السعادة الإنسانية، مما أدى إلى إلغاء كثير من القيم لأنها لا تدخل ربحًا ماديًا، وهذا نتج عنه إتلاف الكرامة الإنسانية والمفهوم التسخيري للكون، أو بتعبير ابن نبي: أن الحضارة الغربية أتلفت قداسة الوجود. وهذه العقلانية ذات الجوهر المادي أنتجت صراع الأخلاق والسياسة، كما تبين ذلك في الإنتاج العلمي الذي خلّفه (ميكيافلي ) الذي يشارك العقلانيين رأيهم في الرفض التام لأي خارق للطبيعة، وينكر معهم تدخل الله (سبحانه وتعالى) في شؤون الحياة اليومية للبشر، من خلال فصله التام بين الأخلاق وممارسة السياسة، ورفضه لوجود قيمة عليا أو مصدر أعلى خارج الإرادة البشرية، ويتدخل في السياسة والحكم(11).

وحتى خاصية الفعالية، التي تعتبر من أهم الميزات الإيجابية للحضارة الغربية حسب ابن نبي، فإنها وارتباطًا مع نمط الثقافة الغربية القائم على تصور مادي للحياة، لا تنفك في صلتها مع الخصائص الأخرى من أن تصير كابحًا للتوجهات الروحية، ومجمدًا لنوازع تطلعات الروح، بفعل الإفراط في التنظيم، والخضوع للمؤسسات بشكل يقضي على إنسانية الإنسان، ويجعل منه رقمًا يضاف إلى بقية الأرقام الأخرى من الآلات والوسائل، وهذا الذي نبه إليه (اشفيتسر )(12).

أما حديث ابن نبي عن العالمية الغربية باعتبارها قرينة للعامل الصناعي، فإن ذلك يُفهم منه أن الصناعة والتطور التكنولوجي هي أكبر جوانب التقدم الغربي، والعنصر الأكثر عالمية في الحضارة الغربية، التي في حقيقة أمرها، كما يذكر (هانتجتون )(13)، أنها غير عالمية بالمعنى الذي يحمله مفهوم العالمية بشكل مجرد. ولهذا فإن ابن نبي ينظر إلى هذه العالمية كنتيجة للاطراد التاريخي لحركة الحضارة الإنسانية، التي تقودها الحضارة الغربية منذ القرن الثامن عشر على الأقل، وهي من جهة أخرى مصبوغة بنظرة الغرب للعالم باعتباره دار نفوذ، ومسرح السيطرة الأوروبية التي غذاها الاستعمار والعنصرية، ونشأت نفسيتها في ظل الاكتشافات الجغرافية في أواخر القرن الخامس عشر وبدايات القرن السادس عشر، ووجدت تأسيسًا لها في جهود حركة النهضة الأوروبية، وروادها الأوائل (ميكافلي ) و(ديكارت ) وغيرهما، ثم (هيجل ) والفلاسفة الألمان، ثم ماركس(14)، كلهم كانوا من -جهة أو أخرى- يشرِّعون لسيادة أوروبا على العالم(15)، ومن منطلق التفوق الأوروبي.

فهي عالمية، تهدف إلى تأكيد المركز الأوروبي الغربي للعالم، وطرفية الآخرين، وبخاصة أن أوروبا التي ركبت في ثقافتها مزيجًا من المادية والفعالية -كما يقول ابن نبي- تحسب موقع العالم بما يؤثر به في حركة التاريخ. ولهذا لما كتب (فرانسيس فوكوياما ) كتابه (نهاية التاريخ ) اعتبر دول محور طنجة-جاكرتا عالمًا هامشيًا، وليس له موقع مركزي في مستقبل الإنسانية، وعلل ذلك بأن الذي يحكم تصنيفه هو مقدار تأثير كل أمة في توجيه التاريخ المعاصر(16).

وفي الحقيقة، إن عصرنا هذا يشهد فعل عوامل عديدة ذات إمكانات عظيمة لتحقيق وحدة الإنسانية والحضارة، ومن هذه العوامل، عاملان اثنان:

أولهما: تقدم العلم المتسارع، نظرًا وتطبيقًا، واتساع مدى تطبيقاته في العالم أجمع. هذا العلم قرّب المسافات والأبعاد، وأنشأ روابط مادية وفكرية توصل بين الأمم والشعوب. ومن هذه الجهة يمكن الحديث عن عالمية الحضارة الغربية، في وجهها السطحي التقني، وانتشار منتجاتها وسلعها، ووسائلها وآثارها في أساليب العيش وطرق التنظيم، وأذواق الناس في الملبس والمأكل والمشرب، وطريقة العيش، وهذا هو العامل الموحِّد.

وثانيهما: انتشار الوعي بين الشعوب، وتجاوز وعيها للحدود التقليدية، بفعل العامل الصناعي.. ورغم ما يحمله الضمير الأوروبي من مركزية وتخلف يميل إلى القهر والتحكم والاستغلال(17)، فإن الاطراد التاريخي للنمو التكنولوجي وتوسع طرق توظيف التكنولوجيا، وانتشار مراكزها في العالم، كل هذا سرّع من نضج الإنسانية ووعيها لكثير من سبل التقارب وارتباط المصير طوعًا أو كرهاً.

وخلاصة الكلام فيما يتعلق بجانب الموضوعية، أن ابن نبي كان يحلل ويتتبع هذه الخصائص في اتصالها ببعضها، وفي مآلاتها في الواقع، وفي أثرها في اتجاه الحضارة الغربية، كما أنه يتفق مع أكثر مؤرخي الأفكار ودارسي الحضارة الغربية من الغربيين أنفسهم، وهو في دراسته هذه مرتبط بإطاره التحليلي في معالجة الظاهرة ومدى تأثيرها في شبكة العلاقات الاجتماعية الغربية، التي هي ميدان الكشف عن مدى تأثير فكرة ما في سير المجتمع وتطوره.

================

# آفاق الاستفادة نحو علم اجتماع خاص بالعالم الإسلامي

المقصود بهذه الوقفة هو النظر في بعض جوانب فكر ابن نبي (رحمه الله) فيما يتعلق بدراسته للحضارة عمومًا، ودراسته للحضارة الغربية خصوصًا فيما يحتاج إلى تطوير ومزيد من الدراسة، إذ تبين أن ابن نبي في عموم أطروحته الحضارية كان يملك منظورًا ومنهجًا وأدوات متميزة، يمكن أن نطلق عليها المنظور الحضاري.. ورأينا أهم خصائص منهجه من حيث الأصالة والموضوعية والسننية.

غير أن ابن نبي وفيما يتعلق بالحضارة الغربية، كانت له مجموعة من الأفكار تحتاج إلى وضوح وتطوير أكثر، وذلك راجع إما إلى جِدَّة هذه الأفكار، وبالتالي عدم تبين الصلة بينها وبين الإطار العام للمنظور الحضاري الذي وظفه ابن نبي وطوّره، وإما إلى المنهج الذي اعتمد عليه في التوظيف التكاملي لمختلف العلوم، وبالتالي من الصعوبة بمكان تقدير عمق المصطلحات التي استمدها من هذه العلوم وأدخلها في نسقه العام ووظفها في دراسته وفق أدواته في التحليل ومنظوره الحضاري، ووفق منهجه الثقافي.

ولعل من أهم ما خرج به ابن نبي من دراسته للظاهرة الحضارية الغربية هي الدعوة إلى علم اجتماع خاص بالعالم الإسلامي، باعتبار أن الظواهر الأوروبية (الغربية ) ظواهر نسبية تحتاج منا إلى دراسة وفحص، ومن هذه الظواهر علم الاجتماع الغربي المرتبط بالحالة الغربية والإطار الجغرافي التاريخي والحضاري الغربي، وبالتالي لا يمكن تطبيقه على الظواهر التي تنشأ في مجال حضاري مختلف، مع مراعاة ما تسير إليه الإنسانية من الاقتراب بفعل العامل التكنولوجي الغربي خصوصًا، ومن التوحد في مصيرها من جراء العالمية المركزية الغربية التي تهيمن على العالم، وتحاول تنميطه وفق الرؤية المادية الغربية. كما أنه قدم مصطلحات تحتاج إلى مناقشة بما تثيره من أسئلة من حيث امتداداتها الدلالية، أو من حيث أصالتها.

نحو علم اجتماع خاص بالعالم الإسلامي:

كما سبق القول، فإن ابن نبي (رحمه الله) في نقده لجهود التجديد في العالم الإسلامي، يرى أن المعالجة أو النظرة الحدية التي يتميز بها الفكر الإسلامي إذا تعلق الأمر بأوروبا والغرب، ترجع إلى عدم الإحاطة بالظاهرة الأوروبية ومدى نسبيتها(1)، ومن هنا فهو يدعو إلى دراسة الحالة الأوروبية في جذورها التاريخية وتطورها، ولهذا نجد الوعي التاريخي حاضرًا عنده(2)، ويركز عليه كثيرًا لتتبع تطور الحضارة الغربية ونشأة العلوم فيها وارتباطها بالمستوى الحضارى الذي تعيشه الحضارة الغربية نفسها، كما ترتبط إلى حدٍ ما بالرؤىة الغربية ذات المرتكز المادي، والطامحة للهيمنة على العالم.

ومن بين الأمور النسبية في الغرب نشأة العلوم، فهذه العلوم التي تطورت في الإطار الحضاري الغربي، وارتبطت بالتحديدات العقلانية التي صاغها (ديكارت )، كما ارتبطت بتجريبيته وتجريبية (بيكون ) ووضعية (أوجست كونت )، ونمت في إطار التطور التاريخي للغرب، وتركزت أساسًا في علاج مشكلاته، هذه العلوم لا شك أنها تحمل نوعًا من التحيز سواء في نظرياتها أو في أبعادها الفلسفية، أو في تطبيقاتها العملية واستخلاصاتها التي توصلت إليها وصارت في شكل قوانين علمية يحاول الغرب تعميمها وجعلها نماذج موحدة للدراسة والتحليل.

وإذا كانت العلوم الطبيعية أقل تحيزًا، وإن لم تخل من هذا التحيز ( 3 ) ، فإن العلوم الاجتماعية والإنسانية تبدو أكثر تأثرًا بالخلفيات الفلسفية والنظرية لمؤسسيها(4)، وتتجلى فيها الخصوصية بشكل واضح، ذلك أنها تدرس الإنسان كفرد أو في جماعة، ومعلوم أن دراسة الإنسان والعلاقات الإنسانية لا تخلو من تدخل التصورات التي يحملها الإنسان عن الكون وعن الحياة، وعن الإنسان ذاته ورسالته في هذا الوجود، وصلته بخالقه، وارتباطه بمثله الأعلى ومآله الأخروي.

هذا من جهة، ومن جهة أخرى فإن العلوم الاجتماعية تجيب في حقيقتها عن أسئلة الإنسان، وتحاول تفسير وتحليل أسباب مشكلاته، وتعمل على تطوير أدائه ارتباطًا مع شبكة العلاقات الاجتماعية التي يتصل بها هذا الإنسان.. كما أن هذه العلوم التي تطورت في الغرب، تدرس علائق الإنسان الغربي ارتباطًا بالمرحلة الحضارية التي يعيشها الإنسان الغربي، وعلى الرغم من أن هذا لا ينفي وجود الجانب المشترك من المعرفة الإنسانية التي اشتركت فيها أجيال الإنسانية وتطورت بمشاركة كل الأمم، فإن الأمر كما يطرحه ابن نبي يأتي من جانبين:

الأول: الجانب العلمي; من حيث إن الرؤية الغربية المرتكزة أساسًا على المادة تستبعد الجانب الغيبي من الاعتبار العلمي، كما أنها برؤيتها العالمية المركزية ترى نفسها وعلومها نموذجًا عالميًا وحيدًا(5)، وعن طريق فعاليتها الحضارية ذات المرتكز المادي فإنها تدرس الظواهر وتقدم الحقائق ارتباطًا بمنطق الفعالية الذي يعني في العرف الغربي الحسم بأية وسيلة، وهي تستبعد الجانب الأخلاقي من خلال تقديمها لذوق الجمال على حساب الجانب القيمي الروحي.

والثاني: الجانب العملي; من جهة اتصاله بجهود النهضة في العالم الإسلامي والتي تحتاج إلى علوم خاصة بدراسة الحالة التي تعيشها الأمة الإسلامية وفق المرحلة التي تعيش فيها الأمة حضاريًا، وتعمل على تحليل أسباب التخلف الكامنة في الذات الإسلامية طيلة قرون، والعمل على تفكيك خيوط شبكة (الأفكار الميتة والمميتة )(6)المتصلة بالحقيقة الموضوعية الموجودة في العالم الإسلامي.

ولهذا فإنه اقترح تأسيس علم اجتماع خاص بالعالم الإسلامي، يدرس مشكلاته المتصلة بمرحلة الاستقلال السياسي، وهي المرحلة التي أعقبت الاستعمار المباشر، يقول ابن نبي: (ينبغي أن ينشأ علم اجتماع خاص بمرحلة الاستقلال )(7). ومع أن ابن نبي لم يكن صاحب اختصاص في علم الاجتماع، من الناحية الأكاديمية العلمية، فإن اتصاله بعلم الاجتماع يبدو في نظر خبراء الاجتماع يتجاوز الاطلاع العام إلى امتلاك رؤية تحليلية اجتماعية(8). وكما سبق أن ذكرنا، فإن هذه الدعوة لا تنطلق من دافع التميز الحضاري فقط، وإنما من الناحية الموضوعية أيضًا، باعتبار أن المجتمع الإسلامي يختلف في نشأته وتطوره عن المجتمع الغربي، وإن هذا العلم الاجتماعي تطور بشكل كبير في أحضان أرضية المجتمع الغربي، ثم إن علم الاجتماع الحديث من حيث نظرياته ومفاهيمه ومناهجه ومقولاته نشأ في واقع اجتماعي يختلف في طبيعته وتكوينه وتطوره اختلافًا جذريًا عن الواقع الإسلامي.

وتطبيقًا لهذه الدعوة، فإن ابن نبي (رحمه الله) قدم نموذجًا للدراسة الاجتماعية من منظور علم اجتماع إسلامي، يعتمد على الوحي في منطلقاته، وتتمثل هذه المحاولة في دراسته التي صدرت في كتاب (ميلاد مجتمع -شبكة العلاقات الاجتماعية )، الذي درس فيه تعريف المجتمع من وجهة سوسيولوجية إسلامية، وقدم فيه نظريته الاجتماعية، مرتكزًا على الأبعاد النفسية والتاريخية، منتقدًا منهج علم الاجتماع الحديث في بعض تحديداته.

وإذا كانت قضية -أسلمة العلوم الاجتماعية- من القضايا التي اهتم بها المعنيون في حقل المعرفة الإسلامية في حقبة الثمانينيات، فلا بد أن نسجل هنا أن ابن نبي كان رائدًا في إثارة هذه القضية، بل في الإسهام في التنظير لها، ومعالجتها)(9). وهي خطوة تعتبر رائدة من حيث تقديم بديل نظري وتطبيقي لعلم الاجتماع الحديث باتجاهاته الماركسية أو الليبيرالية. وهذه الخطوة جاءت بعدها كثير من الدراسات الطموحة إلى تأسيس علم اجتماع إسلامي، متميز في موضوعه بدراسته لمشكلات العالم الإسلامي، ومتميز في منهجه من خلال تحريره من الإحالات الفلسفية المادية المتمركزة على الذات الغربية(10).

كما أن ابن نبي قدم محاولة أولية في تحديد موضوع علم الاجتماع الخاص بالعالم الإسلامي، وهي دراسة المشكلات المتصلة بالمرحلة الحضارية التي يعيشها العالم الإسلامي بعد الاستقلال.. كما أنه قدم محاولة أخرى تتعلق بتحديد منهج هذا العلم، وذلك بقوله: (ينبغي أن يكون هذا المنهج شاملاً، أي أن يتناول الإحصاء والتفسير، أو بعبارة أخرى ينبغي أن يعنى بالكشف عن الحالة الشاذة من ناحية، وأن يدرس مصدرها أوتاريخها من ناحية أخرى )(11). هذا الاقتراح أو المحاولة التي تقدم بها ابن نبي، تعد أولية تحتاج إلى جهود تنضجها، وتحولها إلى خط علمي واضح المعالم، وهو ما تقوم به اتجاهات الأسلمة منذ السبعينيات، حيث حولت هذه الدعوة التي تقدم بها ابن نبي إلى همٍ فكري ومعرفي يقوم على تحقيقه الكثير من الباحثين والعلماء المسلمين، وبعض المنظمات العلمية الإسلامية.

شبكة المفاهيم الجديدة:

يرى الأستاذ محمد المبارك رحمه الله، أن ابن نبي لم يكن باحثًا أكاديميًا نظريًا، منكبًا على أوراق بحثه في مكتب منعزل عن الحقيقة التي فيها أمته، بل إنه شعر في عمق ذاته بالمأزق الذي تعيشه، فراح يبحث لها عن حل عملي يخرجها مما هي فيه(12). ولهذا لا يمكن عده من الناحية الأكاديمية متخصصًا في واحدة من العلوم الاجتماعية بقدر ما هو باحث عن حلول لأمته، جعلته يوظف كل العلوم المتاحة لديه ويأخذ منها بعض مصطلحاتها وأدواتها، ولكنه يطوعها لمنظوره وإطاره التحليلي، ويوظفها داخل نسقه الخاص بعد تخليصها من صلتها بالعلم الذي أخذت منه، وهذا ما يمكن أن نسميه التوظيف التكاملي للعلوم من أجل خدمة هدف محدد.

غير أن السؤال الذي يبقى مطروحًا أمام الباحثين في فكر ابن نبي هو مدى قدرة هذه المصطلحات على أن تصير مصطلحات مفتوحة أمام الباحثين وسهلة التعامل، ومقبولة من قبل العرف العلمي المشترك ؟ كما أن هناك من المصطلحات -كمصطلح القداسة مثلاً- التي قد تثير بعض الجدل في مدى أصالتها واتصالها بحقل المعرفة الإسلامية، وذلك على الرغم من حرص ابن نبي على انتقاء مصطلحاته.. وفي هذا تقول الباحثة (فوزية بريون ): (وبالرغم من بعض المصطلحات اللغوية والفنية التي حجزت كتبه عن الوصول إلى القارئ العادي، فإن أفكار ابن نبي وتأملاته مثيرة للنفوس، كما أن مؤهلاته العلمية واضحة في الميدان الفكري، وهو معروف جيدًا بعنايته الفائقة في تحديد مصطلحاته، وترتيب مقدماته، والوصول إلى نتيجته) (13).

لكن يمكن القول: إن ابن نبي من الوعي بحيث في كل مرة يستعمل مصطلحًا ذا دلالات سلبية يحاول إرفاقه بتفسير خاص من عنده، مثلما أورد قصة بلال رضي الله عنه وصبره أمام التعذيب، إذ يتحرر الفرد جزئيًا من قانون الطبيعة المفطور في جسده، ويخضع وجوده في كليته إلى المقتضيات الروحية التي طبعتها الفكرة الدينية في نفسه، (بحيث يمارس حياته في هذه الحالة الجديدة حسب قانون الروح الذي كان يحكم بلالاً حينما كان تحت سوط العذاب يرفع سبابته ولا يفتر عن تكرار قولته (أحدٌ.. أَحَد..)، إذ من الواضح أن هذه القولة لا تمثل صيحة الغريزة، فصوت الغريزة قد صمت، ولكنه لا يمكن أن يكون قد ألغي بواسطة التعذيب )(14).

وإذا كان هذا مقبولاً في حالة ابن نبي، الذي كان في مرحلة تاريخية كانت السيادة فيها للمفاهيم الغربية في العلم والمعرفة، فإن دور الباحثين المسلمين اليوم هو التخلص من هذه الهيمنة في المصطلحات والمفاهيم الغربية ذات المحتوى السلبي، والانتقال إلى مرحلة صياغة المصطلح الإسلامي الذي يحمل دلالات تنسجم وحقل المعرفة الإسلامية وارتباطه بالعقيدة والتصور الإسلاميين.

ولعل من الأمور التي تحتاج إلى تطوير وإنضاج أيضًا فيما ترك لنا ابن نبي من تراث، وخاصة فيما يتعلق بالحضارة الغربية ودراستها، ما ذكره ابن نبي فيما يتعلق بالاستشراق، إذ يرى أن الاستشراق حقل معرفي غربي أنشأه الغرب لفهم الشرق عمومًا والعالم الإسلامي بشكل خاص، ولا يمكن دراسته بمعزل عن التطور التاريخي الغربي في صلته بالعالم الإسلامي، كما أن الاستشراق له ارتباط بكثير من حقول المعرفة التي أنشأها الغرب خصوصًا، لتوجيه الشعوب إلى خدمة أهداف العالم الغربي والحضارة الغربية، وتحقيق بسط الهيمنة والنفوذ على العالم والوصول إلى عالمية الحضارة الغربية وجعلها النموذج المقتدى من قبل الجميع(15).

ولما تحدث ابن نبي عن الموقف الحدِّي للمسلمين من الحضارة الغربية، انتقد كلا الموقفين; الموقف الذي يرى في الغرب النموذج والمثال المقتدى، والموقف الذي يرى في الغرب أنه مصدر كل شر، ورأى -بدل الموقفين السابقين- أن الأمر يتعلق بتنظيم العلاقة مع هذا الغرب، وذلك بجعل العلاقة بيننا وبينه قائمة على العلم، أي بمعرفة أن الظاهرة الغربية في عمومها، والظواهر الغربية الجزئية مسألة نسبية قابلة للدراسة، عند ذلك يمكن فهم الغرب والتعامل معه بإيجابية. ومن هذه الجهة يدعو إلى ما يمكن أن يطلق عليه علم الاستغراب(16)، لفهم الغرب ومعرفة تاريخ تطوره، وكيفية سير أنظمته الفكرية والحضارية. وهي دعوة نادى بها ابن نبي في ظرف كان التعامل مع الاستشراق تعاملاً تجزيئيًا وتناولاً في إطار الجزئيات دون وجود رؤية كلية تجعل الاستشراق في سياقه العلمي والتاريخي والحضاري، كأحد الأدوات المعرفية الغربية التي تربط بالحضارة الغربية في تعاملها مع الآخر الشرقي، أي الإسلامي بالأخص.

وفي الختام نلاحظ أن هناك الكثير من الأفكار الجنينية التي كانت حاضرة في فكر ابن نبي الحضاري عمومًا، وفيما يتصل بدراسة الظاهرة الحضارية الغربية خاصة، تحتاج إلى أن ترتبط بها جهود أخرى لتدفع بها إلى النضج على المستوى العلمي والعملي، لتكون جهود ابن نبي مهمة من حلقات التجديد الفكري والحضاري، تمثل في جانب منها مرحلة نضج في التفكير والطرح على مستوى الرؤية والمنهج، وتمثل في الجانب الأاخر مقدمات أولية تحتاج إلى من يدفع بها إلى أن تتعمق وتتأسس.

=============

# خاتمة ونتائج

وبعد; فهذه جولة في فكر مالك ابن نبي (رحمه الله)، تتبعنا خلالها أحد نماذج الوعي بالظاهرة الحضارية الغربية في الفكر الإسلامي المعاصر، حيث عرفنا المنظور الفكري لابن نبي، وموقع الحضارة الغربية في فكره، ثم كيفية تحليله ودراسته لهذه الظاهرة، وما قام به من تقديم لبعض المفاتيح التي تفتح أمامنا الطريق لدراسة الظاهرة في عمقها، والتجاوز بعلاقتنا معها حدود المشاهدة والتقليد إلى آفاق التدبر والفحص والاستفادة، والنقد والتجاوز أيضًا، فكان من أهم هذه المفاتيح، والتي هي أهم خصائص الروح الحضارية الغربية المعاصرة: العالمية المركزية والمادية وكذلك الفعالية والنزوع الجمالي، مستعملاً في ذلك منهجًا يستند على المنظور الحضاري القائم -في نظري- على السننية والأصالة والموضوعية، فقدم بذلك رؤى وتحليلات لا بد من الإفادة منها، والعبور بها إلى فهم أعمق يناسب المرحلة الحضارية التي نحن فيها، وقد تكون مما لم يدركه ابن نبي ولم يتح له إدراكه، فنفيد من تجربته ونبني على ما كان منها علميًا، ونطرح ما كان متعلقًا بظروفه التاريخية والاجتماعية.. ولعل هذا يكون بالإفادة من المنهج والمفاهيم والرؤية أكثر من الإفادة بالتطبيقات والجزئيات التي سرعان ما تتغير وتتبدل.

ولعل من أهم ما يمكن تسجيله من خلال هذه الدراسة من نتائج ما يلي:

أولاً: يتخذ ابن نبي من الحضارة الوحدة الأساسية لدراسة الحركة التاريخية للمجتمعات، فالحضارة بالنسبة له تعتبر الوحدة الأهم في التحليل، والتي تمكننا من الإحاطة بأكبر قدر ممكن من المتغيرات العمرانية (السوسيولوجية ) والتاريخية التي يجتازها مجتمع معين في إطار حركته التاريخية.. وبالتالي وحتى نتمكن من فهم السنن التاريخية التي تحكم سير الحركة الاجتماعية، علينا أن نرتفع إلى أفق الأحداث الإنسانية، وإلى توسيع دائرة الاهتمام والدراسة، إلى الحد الذي يمكننا من الإحاطة بالقوانين التي تحكم نهوض وسقوط الحضارات، أي القوانين التي تتحكم في انتقال الحضارة، باعتبار أن مشكلة كل أمة في جوهرها هي مشكلة حضارتها، وكيفية قيامها وتطورها، أو سقوطها.

ثانيًا: يمكن النظر إلى الغرب من زاويتين: من الوجهة الجغرافية السياسية، حيث إن الغرب له إطار محدد هو أوروبا وأمريكا الشمالية، وهو من هذه الزاوية كيان متميز يختلف عن بقية الكيانات الجغرافية والسياسية الأخرى في إفريقيا وآسيا. أما من الوجهة المفهومية، فإن الغرب إطار حضاري، وبعبارة أخرى هو مفهوم يتضمن ثلاثة أبعاد أساسية: البعد الأول يتمثل في النموذج الغربي في الحياة، والثاني هو الرموز الثقافية الغربية التي نشأت في إطار الوعي الغربي والتطور التاريخي للغرب، والبعد الثالث هو مظاهر الوجود الغربي، من انتشار لسلعه وأنماطه الحياتية ونظمه السياسية والاجتماعية والاقتصادية في العالم. فمن هذه الوجهة المفهومية، فإن الغرب مفهوم يتجاوز حدود إطاره التاريخي والجغرافي.

ثالثًا: يرى ابن نبي أن دراسة التجارب الحضارية أمر مهم، في سبيل البحث عن حل للأزمة الحضارية للعالم الإسلامي، وأن أهم الدوافع إلى ذلك هو أننا بدراستنا لهذه التجارب الحضارية نتمكن من اكتشاف السر الذي يحكم الظواهر، والتمكن من معرفة القانون أو السنة الإلهية التي تنتظمها، وبالتالي، نتمكن من تحديد نقطة البداية للتعامل مع الظاهرة باعتبارها قابلة للدراسة والتطويع والتحكم من خلال معرفة قوانينها.. وكذلك فإن دراسة التجارب الحضارية الأخرى تساهم في تحديد موقعنا في التاريخ، ومن تطور الحضارة، ومن سلم التقدم. إذ لا يمكن من الناحية الواقعية العيش في عزلة عن حركة الحضارة في العالم، بعد الأحداث التي شهدها القرن العشرين -والثلث الأخير منه بالذات- حيث دخل العالم مرحلة تغيرات كبرى على صعيد التكنولوجيا والتطور الصناعي، والمعلوماتية، وطرق الاتصال الحديثة، والتي من شأنها تقريب المسافات بين الاهتمامات الحضارية للأمم في العالم.

رابعًا: تعتبر الصلة بيننا نحن المسلمين وبين الغرب من أهم المسائل التي واجهت جهود التجديد في العالم الإسلامي منذ وقت مبكر، والتي يقع الفكر الإسلامي بسببها في اضطراب عندما يتعلق الأمر بها، ومن المهم تحديد طبيعة العلاقة مع الكيان الحضاري الغربي، للتمكن من صياغة حلول للمشكلة الإسلامية من منطلق الوعي بالمتغيرات التي تشهدها البشرية، ومن منظور يتجاوز التناول الاجتزائي لمسألة التجديد، من خلال المنظور الحضاري الذي يقترحه ابن نبي لحل المشكلات الحضارية للعالم الإسلامي.

خامسًا: هناك مستويان للعالمية في منظور ابن نبي، أحدهما العالمية من حيث تعلقها بالمستوى القيمي; وتتمثل في القيم المفتوحة والمستوعبة للتطلعات الإنسانية، والمتجاوزة للأطر العرقية والأيديولوجية واللغوية، وكل المحليات أو النماذج الجزئية.. وهذه نجدها تتحقق في القيم التي جاء بها القرآن، وأعلنت عنها الرسالة الخاتمة مع بعثة النبي صلى الله عليه و سلم، وهي ما يمكن تسميتها UNIVERSALITY باللغة الإنجليزية. حيث إن القيم القرآنية قيم موضوعية ومفتوحة وقادرة على استيعاب كل تطلعات الإنسان، والاستجابة لكل آفاقه والإحاطة بها، دون اختصاص بعرق معين أو لغة معينة أو جهة معينة.

أما المستوى الآخر فهو العالمية من حيث تعلقها بهيمنة النموذج الغربي خلال القرنين الأخيرين -والقرن العشرين بالأخص- وذلك من خلال انتشار أنماط الحياة الغربية، والصناعات، وأساليب الاتصال والإنتاج الغربية في العالم، وهي عملية تقوم بها الحضارة الغربية من خلال التشريع للقيم والنماذج والمنتجات الغربية لجعلها محط أنظار العالم، وكذا من خلال التنكر لتاريخ الشعوب والحضارات الأخرى، والضغط الغربي على هذه الحضارات لتتبنى نتائج الرؤية الغربية المتمركزة حول ذاتها، ذات المرتكز والأصالة المادية، لتجعل منه النمط الأوحد الغالب والسائد في العالم، وهي عملية قصدية كان أهم أدواتها الاستعمار والعنصرية وفلسفة النهضة، والرؤية المتحيزة ضد غير الغربي. وهي ما يمكن تسميتها اليوم العالمية المركزية أو العولمة GLOBALIZATION

سادسًا: من أهم نتائج العالمية الغربية المتمركزة أنها كانت لها -ربما دون قصد من الغرب- نتائج إيجابية لصالح البشرية، إذ أنها ارتفعت بالبشرية مع العامل الصناعي التقني إلى مستوى عالمي، فكان أن اتسعت دائرة الوعي لتشمل العالم ككل، ووحّدت الحضارة الغربية مع مصائر الشعوب من خلال إشعاعها العالمي، وبالتالي إشعاع فوضاها وأمراضها على العالم ككل، من مثل الاستعمار الذي وحّد بين الشعوب الإفريقية الآسيوية بسبب وحدة المشكلة الغربية التي تواجهها هذه الشعوب.. فهذا الإشعاع ولو كان سلبياً في عمقه، فإنه اصطحب معه دون قصد نتائج على البشرية التي عانت من سطوة الغرب وحضارته، فكان أن توحدت البشرية (الشعوب الإفريقية الآسيوية بخاصة ) أمام التحدي المشترك. وبسبب التفوق التقني للحضارة الغربية فإنها أعطت للتاريخ الإنساني دفعًا، جعل البشرية تتجاوز الوحدات التاريخية المنعزلة، إلى التفكير في بناء التاريخ الإنساني المشترك الذي تساهم فيه الشعوب كلها.

سابعًا: تمثل المادية محورًا مهمًا للحضارة الغربية، وخاصية أصيلة ومركزية لا يمكن تجاهلها لدارس الحضارة الغربية، فهي تنظم الميدان العلمي، وتشكل الرؤية التصورية للحياة والعالم والتاريخ، أي أنها مذهب فلسفي يقدم تفسيرًا للكون والتكوين، كما أنها تصبغ الحياة الاجتماعية، والتعبير السياسي، وتتحكم في العلاقة بين الحضارة الغربية والحضارات الأخرى.. هذه الخاصية تشكلت بفعل عوامل متعددة أهمها: المسيحية البروتستانتية، والرأسمالية، والماركسية، والعنصرية، والعقلانية.

وكان من أهم نتائج هذه الخاصية على الحضارة أنها فصلت بين الضمير والعلم، وتجاهلت البعد الإنساني للإنسان، فصار التعامل معه مثل التعامل مع سلعة، بعيدًا عن التكريم الذي ينبغي أن يحظى به مُسْتَخْلَفًا في هذا الكون.

وبالتالي حدث استبعاد للقيم الأخلاقية، لأنها لا يمكن قياسها بالكم والرقم، ولا تدخل نفعًا ولا ربحًا، لذا لا مانع من بيع أي شيء حتى الإنسان نفسه أو أعضاءه أو عرضه من أجل تحقيق ربح أكثر. كما أن التقدم الاجتماعي صار -بفعل النظرة المادية- يقاس بالكم، وبمقدار ما يملك الفرد أو المجتمع من أشياء، وتحسب السعادة الاجتماعية بالدخل الفردي والدخل الوطني، ولا تدخل في ذلك معايير أخرى غير خاضعة للكم والرقم. ولهذا فإن الخصائص الأخرى ترجع في أساسها إلى أصالة المادة منطلقًا وتصورًا، كما تدور على محور المادة سواء على المستوى المعرفي أو المنهجي. فكل حديث عن العالمية أو الجمالية أو الفعالية أو غيرها، فإنه ينبغي فيه مراعاة المحور المركزي لهذه الخصائص، أو ما يمكن تسميته بالخاصية الأم، وهي المادية.

ثامنًا: الخصائص الحضارية الغربية خصائص مترابطة ومتشابكة ونمت في إطار زمني وتاريخي غربي، ولها من الخصوصيات ما يجعل منها قاصرة عن أن تكون مفتوحة ومقبولة من غير الغربيين، كما أنها مرتبطة بالرؤية الغربية للكون والتكوين والحياة، وناتجة عن دستور الغرب الثقافي الذي تتكامل فيه كل أبعاد الثقافة الغربية.. هذه الثقافة التي تشكلت عبر التطور الحضاري الغربي، كان من أهم مكوناتها: الجذور الإغريقية اللاتينية، والمسيحية الغربية بتمظهراتها المختلفة، وكذا تقاليد الشعوب الأوروبية خاصة منذ عصر النهضة، ثم تطلعات وروح القرن التاسع عشر (قرن الروح الاستعمارية ) وروح القرن العشرين (قرن الثورة التقنية وانتشار التصنيع والتكنولوجيا ).

فالفعالية الغربية مثلاً، لا يمكن النظر إليها بمعزل عن المرحلة الحضارية التي يعيشها الغرب، ولا يمكن فصلها عن إطارها الديناميكي، فهي خاصية ناتجة عن نمط الثقافة الغربية التي ترتكز على القوة ومنطق الحسم، كما أنها نتاج معادلة اجتماعية تجعل من حركة الإنسان في التاريخ ومدى تحقيقه لأكثر النتائج على المستوى المادي هي المقياس الحقيقي للفعالية. وهي رغم ارتباطها بالمادية الغربية كتصور، فإنها من أهم إضافات الحضارة الغربية إلى العالم، فقد جعلت منها خاصية مهمة، وصبغت بها كل أعمالها وإنجازاتها، ارتباطًا مع جهاز مفاهيمها وإطارها الثقافي.

تاسعًا: النزوع الجمالي قيمة حضارية مهمة تساهم في ضبط الأذواق، والرفع من فعالية الفرد والمجتمع، وهي إلى جانب القيمة الأخلاقية، تمثلان أهم ما يحدد اتجاه الحضارة في التاريخ، فإذا كانت القيمة الأخلاقية في الصدارة فإن الحضارة تتحكم فيها القيم الأخلاقية، وإذا كانت الصدارة للقيمة الجمالية فإن الحضارة تتحكم فيها القيم الجمالية، ولكل اتجاه من هذين نتائجه الخطيرة إما سلبًا أو إيجابًا.. والتطرف في إحدى القيمتين يؤدي إما إلى الاتكالية والغنوصية والتصوف السلبي، في حالة طغيان القيم الأخلاقية، وإما يؤدي إلى الإباحية والعري والتفسخ الأخلاقي إذا طغت القيمة الجمالية، ويمكن ملاحظة هذين المشهدين في الحضارة الإسلامية والحضارة الغربية، وذلك عندما يختل التوازن بين القيمتين.

وفي كلتا الحالتين يحتاج الأمر إلى إعادة التوازن لدستور الثقافة، فهو الإطار الذي تتشكل فيه هذه القيم، وهو الذي يحفظ توازنها، ويوجهها لتصنع التاريخ.

عاشرًا: من أهم الإضافات التي قدمها ابن نبي فيما يخص دراسة الحضارة، أنه جعل من الحضارة الوحدة التحليلية والتفسيرية الأساس، متجاوزًا بذلك الوحدات التحليلية الجزئية في إطار مجتمعي أو جهوي معين، ذلك أن الحضارة تمثل الكيان الأوسع، الذي يمكن من خلال دراسته أن نتمكن من الإمساك بجوهر المشكلات التي تتمظهر على المستوى المذهبي أو السياسي أو الاقتصادي أو الاجتماعي، وإرجاعها إلى الوحدة التي تجمعها في إطار كلي دون الإخلال بالجوانب الجزئية للمشكلة.

ولهذا فالمنظور الحضاري إطار كلي وتفسيري، يبحث في القانون العام الذي يحكم الظاهرة، دون الإخلال بالقضايا الجزئية، بل يجعلها تحت المنظور الكلي الذي تدرس وتحل في إطاره.. هذا المنظور يقوم عند ابن نبي على خمسة أبعاد هي: مرجعية الوحي، والسننية، والفعالية، والجمال، والعلم.

وبعبارة أخرى، فإن المنظور الحضاري يقوم على أساس الرؤية الإسلامية للكون والتكوين، والحقيقة الموضوعية التي بث الله سننها في الآفاق والأنفس والتاريخ، والفعالية الاجتماعية التي تحقق الأفكار في واقع التاريخ، والعلم باعتباره تراكمًا للخبرة البشرية وتفاعلاً مع الوحي، ثم الذوق الجمالي الذي هو الإطار الذي يحدد وجه الحضارة، وعنوان اتساقها مع سنة الإحسان.

الحادي عشر: ومن أهم ما يمكن الحديث عنه في دراسة ابن نبي للظاهرة الحضارية الغربية، أن ابن نبي في دراسته لهذه الحضارة كان من جهة يدرس المشكلة الحضارية الإسلامية بشكل أساس، ولكن في مستوى أوسع جعل الحضارة وحدته الدراسية، وبالتالي فإنه درس التجربة الحضارية في هذا الإطار. كما أنه من جهة أخرى كان يدرس الدور الذي يقوم به الدين في تحريك الطاقات الاجتماعية والدفع الإنساني إلى القيام بأعمال تاريخية، وكان في كل ذلك -وخاصة فيما يتعلق بالإسلام- يبحث في كيفية استرجاع حيوية الوظيفة الاجتماعية للإسلام، أكثر من البحث في أصالته باعتبار أن الأصالة مسألة مفروغ منها، وأن المسلم، حتى (مسلم ما بعد الموحدين )، لم يفقد إيمانه بالله يومًا ما.

وانطلاقًا من اعتباره أن العلاقة الاجتماعية هي ظل العلاقة بالغيب في الواقع، فإن ابن نبي ركّز في دراسته لدور الدين على التنبيه إلى أن مهمة الدين ربط الصلة بالله، وبناء شبكة العلاقات الاجتماعية التي تدخل بالمجتمع دائرة الحضارة، مثلما كان الأمر بين المهاجرين والأنصار الذين التحموا بسبب الفكرة الدينية (المؤاخاة ).

الثاني عشر: يتضح أن ابن نبي كان صاحب منهج، وله أدواته التحليلية الخاصة به، كما أن له مصطلحاته الخاصة التي أبدعها. وعلى الرغم من أنه وظف كثيرًا من المصطلحات التي نمت في حقل علم الاجتماع، وعلم النفس، وعلم التاريخ، والفلسفة، والأنثروبولوجيا، وعلم الاجتماع الديني، فإنه حاول تخليص هذه المصطلحات من خلفياتها الفلسفية، وفك الارتباط بينها وبين مجالها الدلالي الغربي، وإعطاءها مجالاً دلاليًا يرتبط بمنظوره الحضاري ومرجعيته الإسلامية.

ونظرًا لحداثة التجربة التي كان ابن بني يخوضها منذ الثلاثينيات من هذا القرن، فإن التراث العلمي الذي تركه كان فيه بعض القصور الذي يحتاج إلى نقد وتطوير فيما يخص توظيف المصطلحات الغربية ذات الظلال التي قد تتعارض مع المرجعية الإسلامية والتصور التوحيدي، إلا أن أهم ما قدمه ابن نبي في إطار دراسة الحضارة هو المنهج الذي درس من خلاله الحضارة.

وكما مر معنا، فإن ابن نبي كان يركز على الحقيقة الموضوعية للظاهرة الحضارية وبقية الظواهر الاجتماعية، والتأكيد على خضوعها لسنن إلهية قابلة للاكتشاف والفهم، وبالتالي لأن يطوعها الإنسان لصالحه. كما كان في كثير من أطروحاته ذا أصالة; سواء من حيث العمق الخلدوني لأفكاره وإطاره العام، أو من حيث تطويره لبعض الأدوات التحليلية والمفاهيم والمصطلحات الخاصة بدراسة الحضارة، أو من حيث وعيه بموقع الإسلام من العملية التغييرية، وأهمية الاستفادة من التجربة الحضارية الغربية باعتبارها تجربة شهدت أكبر الإنجازات وأكبر الإخفاقات.

وما يمكن أن يختم به الموضوع، أن ابن نبي كان يوظف المنهج التكاملي بين العقل والجسم، بين معطيات الوحي وبين العلوم المعاصرة، بين التراث الخلدوني والخبرة الإنسانية المعاصرة، وبين علوم الطبيعة والعلوم الإنسانية.. ويبدو أن هذا أعطاه قدرة فكرية كبيرة على تركيب منظومة فكرية مفتوحة، كما أعطاه قدرة على التحليل والبناء المنهجي.

وفي الأخير نتساءل كما تساءل آخرون -بعد الجهد الذي قدمه ابن نبي في التنبيه على أهمية الأفكار ودورها في تقدم الفعل الحضاري- إلى أي مدى نعترف بدور الأفكار في صناعة التاريخ ؟ وهل غرست فينا رسالة ابن نبي الإحساس بالسننية والأصالة والموضوعية لنرتقي إلى أفق الأحداث الكبرى، وإلى مستوى السنن التي تحكم حركة التاريخ ؟ وإلى أي مدى استفدنا من دراسة ابن نبي للحضارة الغربية ؟

ولله الحمد من قبل ومن بعد، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم; وأمرنا لنسلم لرب العالمين.

==============

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

الفهرس العام

 

الباب الثامن   1

دراسات أصيلة عن الحضارة الإسلامية  1

# المذهبية الإسلامية والتغيير الحضاري 1

# تحديد المصطلح   5

# المذهبية الإسلامية بين الوحي والفكر 8

# المذهبية الإسلامية ونمطها الخاص 18

# مذهبية شاملة  26

# المذهبية الإسلامية ودور الإنسان في التغيير   30

# المذهبية الإسلامية والنظرة الشمولية للإنسان 34

# المذهبية الإسلامية وجوهر الإنسان 37

# المذهبية الإسلامية وجوهر الإنسان 41

# المذهبية الإسلامية والمجال الغيبي 44

# المذهبية الإسلامية وقضية المستضعفين    48

# المذهبية والمصطلح الحضاري  53

# المذهبية الإسلامية والقومية  60

# المذهبية الإسلامية وأزمة المثقفين 68

# الحرمان والتخلف في ديار المسلمين   74

# الصبح .. موعدنا 81

# الفقر  82

# الجوع - والمجاعة في ديار المسلمين    106

# الحالة المرضية في الشرق الأوسط المسلم    121

# بعض الأمراض الخطيرة في ديار المسلمين    130

# الأولويات في العمل الصحي   140

# الخاتمة  150

#محنة المسلم مع حضارة عصره  152

# المقدمة  164

# هندسة الضغط الحضاري المعاصر  168

# محنة المسلم مع حضارة عصره 183

#هل إلى خروج من سبيل؟   193

# استنبات التقنية وتنميتها   208

#منهج الخروج من المحنة   232

# أزمتنا الحضارية في ضوء سنّة الله في الخلق    249

# المقدمة  265

# مدخل ( الفكرة . العمل . السُّنة ) 269

# ( سنة الله في الخلق ) دواعي اهتمامنا بسنة الله في الخلق  274

#سنة الله في الخلق ) تعريف وخصائص    285

# كشف سنن الله في الخلق   308

# خوارق سنة الله في الخلق 319

# ( مفاهيم في ضوء سنة الله في الخلق ) 1- – الحرية   325

#2 - – العلم  330

#3- – علم الغيب    336

# 4 - – الخير والشر  341

#5 - – الدعاء   344

# 6 –- الابتلاء والمحنة  346

#7- – العبادة 349

# 8- – الاجتهاد في الشريعة الإسلامية    351

# 9- – التغيير الاجتماعي    359

# واقعنا المعاصر .. معالم في طريق الحل    372

# معالم في طريق الحل 378

# الإسلام و صراع الحضارات  379

# المقدمة  405

# أين موقعنا من صراع الحضارات؟  411

# التاريخ الأكبر والتاريخ الأصغر  419

# الفتنة ونشأة الفكر السياسي الإسلامي    428

# هل أعدت حضارتنا ما استطاعت من قوة؟    435

# الاقتصاد الإسلامي يؤسس على الفضائل    444

# الاستخلاف والأمانة  457

# قل اللهم مالك الملك  463

# من الخلافة الراشدة إلى الخلافة العثمانية    470

# الخلاصة 475

# المنهج النبوي و التغيير الحضاري 479

# تمهيد 504

# الإطار العام لدراسة المنهج النبوي أهمية النظر الكلي في قضايا السنة  507

# معالم منهجية الرسول صلي الله عليه و سلم في البلاغ المبين   510

# أولاً : البعد المقاصدي للمنهج النبوي    511

# ثانياً : البعد البلاغي للمنهج النبوي 515

# دروس من الفقه النبوي    524

# المنهج النبوي والتغيير في العصر العالمي وظيفة السنة النبوية في البناء الحضاري:    525

# من سنن البناء الحضاري  528

# خصائص الواقع العالمي الراهن 529

# المنهج النبوي وقدرته على البناء   539

# من أجل قراءة أخرى للسنة   541

# المنهج النبوي يحدد المأزق العالمي الراهن    543

# منطقية السنة النبوية في التعامل مع الظواهر الاجتماعية 548

# السنة النبوية مصدر للثقافة الإسلامية    552

# المنهج النبوي ومفهوم التغيير الحضاري    554

# التغيير الحضاري في ضوء وعي المنهج النبوي   556

# المنهج النبوي كمركب حضاري مشكلة توجيه العملية التغييرية:  557

# المغزى الثقافي لميلاد الجماعة التغييرية    561

# المنهج النبوي والنظرة الكلية للمشكلة    563

# المنهج النبوي في بناء الحضارة العالمية    568

# المحاور الثلاثة للمنهج النبوي   569

# المنهج النبوي وبناء إنسان الاستخلاف    588

# خاتمة 595

# المستقبل للإسلام 596

# المقدمة  616

# بشائر مستقبل العالم الإسلامي في وجه التحديات الحضارية المعاصرة   621

# دور الذكر والجهاد في صناعة المستقبل    636

# القنوت.. دراسة موضوعية في ضوء الكتاب والسنة 657

# تطبيق الشريعة وأثره في إصلاح المجتمع    678

# تطبيق أحكام الشريعة الإسلامية في مجتمع تتعدد فيه الملل والثقافات  696

# الخاتمة  709

# المنظور الحضاري في التدوين التاريخي عند العرب 710

# المقدمة  727

# الفصل الأول : الوعي التاريخي عند العرب أ - مرحلة ما قبل الإسلام  731

# ب- عصر الرسالة    732

# الفصل الثاني : نشأة التدوين التاريخي والمنظور الحضاري 749

# المنظور الحضاري في أنماط التدوين التاريخي حتى عصر ابن خلدون 760

# نحن والحضارة والشهود (الجزء الأول)    776

# المقدمة  793

# تمهيد 797

# الحضارة والعوامل المؤثرة في التحضر    807

# الأهداف الكبرى لخلق الإنسان   831

# التغيير في الحضارة 838

# أهم العوامل المؤثرة في التحضر 841

# حركة التحضر ومساراتها 861

# مع أشهر المفسرين لحركة التحضر 873

# نحن والحضارة والشهود (الجزء الثاني)    903

# الله تعالى، الكون، الإنسان، الشهادة على الناس أولاً: الله تعالى وصفاته   911

# ثانيًا: الكون 918

# ثالثاً: الإنسان  922

# رابعًا: المسلم والشهادة على الناس 943

# خامسا: الإنسان بين التقدم والتخلف    954

# البعد الحضاري لهجرة الكفاءات 983

# الكفاءات المهاجرة طلائع لحضارة الإسلام    1003

# البعد الرسالي في هجرة العقول المسلمة إلى الغرب  1027

# الخطاب المستقبلي للهجرة الإسلامية    1047

# الظاهرة الغربية في الوعي الحضاري **أنموذج مالك بن نبي   1068

# المقدمة  1089

# الفصل الأول المنظور الفكري لمالك بن نبي رحمه الله   1090

# منظور دراسة (ابن نبي) رحمه الله للظاهرة الحضارية الغربية    1094

# الفصل الثاني المنظور الحضاري المنظور الحضاري.. إطار كلي تفسيري  1101

# مفردات المنظور الحضاري   1105

# الدين في مفهوم ابن نبي رحمه الله 1113

# أهم خصائص الظاهرة الحضارية الغربية الخاصية الأولى: العالمية المركزية 1119

# الخاصية الثانية: المادية    1128

# الخاصية الثالثة: الفعالية   1133

# الخاصية الرابعة: النزعة الجمالية  1143

# خصائص المنهج أولاً: السننية   1147

# ثانيًا: الأصالة  1153

# ثالثاً: الموضوعية 1155

# آفاق الاستفادة نحو علم اجتماع خاص بالعالم الإسلامي  1161

# خاتمة ونتائج   .1168 . 

 

 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

حمل القران بصغتيه

 حمل القران الكريم وورد وPDF.