حمل القران

 حمل القران وورد وPDF.

القرآن الكريم وورد word doc icon تحميل سورة العاديات مكتوبة pdf

الأحد، 2 أكتوبر 2022

ج8.الحضارة الإسلامية بين أصالة الماضي وآمال المستقبل(8)الباب السابع الحضارة الإسلامية وأسباب سقوطها وعوامل النهوض بها جمع وإعداد الباحث في القرآن والسنة علي بن نايف الشحود

 الحضارة الإسلامية بين أصالة الماضي وآمال المستقبل

(8)

الباب السابع

الحضارة الإسلامية  وأسباب سقوطها وعوامل النهوض بها (4) جمع وإعداد

الباحث في القرآن والسنة علي بن نايف الشحود 

الباب السابع

الحضارة الإسلامية  وأسباب سقوطها وعوامل النهوض بها (4) 

#هويتنا والعولمة كتاب يدعو إلى تحديث الأصالة وتأصيل الحداثة

الأحد23 ربيع الثاني 1427هـ – 21 مايو 2006م

الصفحة الرئيسة

مفكرة الإسلام: صدر حديثا في المغرب كتاب للدكتور عباس الجراري بعنوان هويتنا والعولمة وفيه يؤكد أن هويتنا العربية الإسلامية ليست عامل تضييق وانغلاق وانزواء، ولكنها عامل توسيع وانفتاح وتحاور والتقاء، موضحا أن التمسك بها يعني نبذ الشعور بالاغتراب، ويعطي الحق في التميز، ويمكن اتخاذها مجالا للحوار والتواصل.

و يلاحظ الدكتور عباس الجراري أن العرب والمسلمين يتحركون فرادى وبانفعالات ذاتية، في حين أن العالم يريد أن يتعامل مع دول مجتمعة وموحدة، أي مع تجمعات وليس مع دول متفرقة.

يقول المؤلف: إن هذا البعد الجماعي هو ما نفتقده، أو بالأحرى تفتقده النخبة الباحثة عن سبيل الخروج من مأزق التخلف، أو هي في الحقيقة تستبعده، غافلة عن قوة رصيده ومدى ما له من فاعلية وتأثير ويدعو كذلك إلى أن نحدّث الأصالة ونؤصل الحداثة، في غير تزمت يؤدي إلى الانطواء، وفي غير انبهار يفضي إلى الاستلاب.

يشير الجراري في مقدمة كتابه إلى أن إثارة قضية هويتنا والعولمة تنطلق من السعي إلى إيجاد مكان لهذه الهوية، حتى تستمر قادرة على الحياة، وحتى نكون مؤهلين لمواصلة المسير وإمكان العيش.

ويذكر بالحقيقة المؤلمة التالية : إن الواقع الذي يعانيه العالم ـ والعربي والإسلامي منه على الخصوص ـ يبرز مدى التمزق الذي تعمقه وتوسع خروقه القوى الكبرى، العاملة بكل الوسائل ـ مهما تكن غير مشروعة ـ على أن تبقى هي وحدها المتحكمة في المنظومة الدولية، بغرور وطغيان، ومن خلال قطبية لا تنافس ولا تنازع، ولو على حساب حاجات الشعوب المستضعفة ورغبتها في التعايش والتواصل والتعاون بأمن وسلام.

ويتابع قوله إن مواجهة تلك الهيمنة بالنسبة لهذه الشعوب، سوف لا تستند إلى القوة العسكرية أو حتى الاقتصادية ـ على أهميتها ـ، ولكنها ستعتمد بالدرجة الأولى على العنصر الحضاري والثقافي، متمثلا في هوية تلك الشعوب، بكل المكونات التي تشكل هذه الهوية، بدءا من العقيدة واللغة والتراث.

ويشدد على أن الإلحاح على مقوم العقيدة ينطلق من الحالة الراهنة التي يعيشها الإسلام، باعتباره قوة تزعج خصومه، وباعتباره هدفا لهم، على حد ما تكشف الحرب الصليبية الجديدة التي لم يخفف من حدتها زعم الحوار ودعوى التعايش.

وبعدما يعرض منظور الإسلام للهوية من خلال توجيهات القرآن الكريم والحديث النبوي الشريف وما يعززهما من حكم التراث وما يملأه من أدبيات إرشادية، ينتقل للحديث عن العولمة من حيث كونها نظاما يسعى إلى فرض خططه المالية والاقتصادية والتسويقية، ومن خلال ذلك فرض أفكاره ومناهجه، ثم قيمه وأنماط سلوكه، ليصل في النهاية إلى فرض هيمنته وسيادته.

ويبرز القطبية الأحادية التي تمثلها الولايات المتحدة الأمريكية في هذا الصدد، بما تمثله من تقدم تكنولوجي، تتجسد قوته في الثورة التي تشهدها المعلومات، والتي أحدثت تغييرا في المفاهيم والمسارات التابعة لها، بدءا من الاقتصاد العالمي وإمكانات توجيهه والسيطرة عليه وهو وضع ـ يضيف المؤلف ـ تواكبه المجموعة الأوربية أو تسير في ركابه، علما بأن الدول الآسيوية تزاحم فيه وتنافس بمهارة واقتدار.

ويستدرك بالقول إن تأثير هذه الثورة يضعف حين يتعلق الأمر بالثقافة التي يبدو أنها لن تنقاد ـ كما انقاد الاقتصاد ـ سواء بالنسبة لأوربا أو آسيا فتمسك الأوربيين بهويتهم أو هوياتهم الثقافية واضح، ومثله تمسك الآسيويين، إن لم يكن هؤلاء أكثر تشبثا وإيمانا بثقافتهم.

والسبب كامن في ما لهؤلاء وأولئك [الآسيويين والأوروبيين] من إرث ثقافي غني يشكل هوياتهم بثوابت راسخة، تتمثل ـ على الخصوص ـ في اللغة وما يرتبط بها من فكر وأدب وقيم تجعلهم بها يصمدون، غير قابلين للاندماج في السياق الثقافي الذي تحاول فرضه تلك الثورة.

وهم، بهذا الرفض موقنون أن حرصهم على ثقافتهم لا يحول، بل لم يحل دون التنافس في عالم الاقتصاد والتبريز في هذا الميدان.

ويتوقع الكاتب أن يحمل تيار العولمة للشعوب أنماطا من التحرر والانفتاح، إلا أنها ـ كما يقول ـ لن تستفيد منها إلا فئة معينة من هذه الشعوب، طالما أن معظمها ما زال يرزح تحت وطأة الفقر والأمية والحياة التقليدية، بعيدا عن وسائل الحضارة الحديثة.

وهذا لا شك عائق يمنع اندماجها في التيار، بل ربما ستزيدها العولمة تهميشا وتخلفا سيفرضان عليها المزيد من القهر والاضطهاد، ليس من قبل العولمة مباشرة، ولكن من قبل الفئة المحلية المستفيدة منها، أي من قبل النخبة المؤهلة التي قد تواجه ـ على المدى القريب أو المتوسط ـ صراعا داخليا، أو صداما مع الفئات غير المستفيدة ثم يدعو الجراري إلى الانخراط الواعي والفعال في العولمة، إذ يقول: 'حتى لا نكون متطفلين أو عالة أو مجرد مستهلكين أو أدوات استهلاك، فإن علينا أن ندخل في سياق العولمة بهويتنا الإسلامية، وقبل ذلك علينا أن نتخلص من عقد الماضي وما رسخه واقع التخلف في النفوس، مما يحتم أن نراجع ذاتنا من خلال مفهوم صحيح لهذه الهوية، من شأنه أن يرد الاعتبار للشعوب الإسلامية، ويمنحها مكانتها الحق، ويجعلها ليس فقط قادرة على التكيف مع العولمة والإسهام فيها أو الاندماج، ولكن يجعلها أيضا مؤهلة لإيجاد التوازن اللازم بين القوى الحالية أو المتوقعة'.

ويدعو إلى النظر إلى الخصوصيات التي يتميز بها كل قطر من الأقطار العربية والإسلامية، ليس باعتبارها عناصر تفريق وتفقير لكيان الأمة، ولكن باعتبارها عناصر تقوية لتجميعها وإخصابها، واستثمارها لإغناء تراكمي وإبداعي كذلك لحضارة العرب والمسلمين وثقافتهم، وبالتالي لهويتهم المشتركة، وجعلهم قادرين بها على مواكبة العولمة والمساهمة فيها بفعالية وإيجاب.

ويختم المؤلف كتابه بالقول : إن من شأن هذا الانخراط في العولمة أن يجعلنا قادرين على تعديلها لتكون معتدلة ومتوازنة، ولتكون في النهاية بشرية وإنسانية، بما يقتضي مراعاة الجوانب البشرية والإنسانية للمجتمعات، ولاسيما ما تبرزه الثقافات المختلفة لهذه المجتمعات، والنامية منها على وجه الخصوص، وفي طليعتها العربية والإسلامية، في تمسك بقيمها ونسقها الفكري وسياقها الخلقي، بعيدا عن أي تنميط مفروض ومرفوض في الوقت نفسه.

=============

#ل ندع الغد يصنع بدوننا؟

الأحد23 ربيع الثاني 1427هـ – 21 مايو 2006م

الصفحة الرئيسة

محمد سيد بركة

مفكرة الإسلام: وسنوات القرن الحادي والعشرين تتوالى مسرعة لايزال العالم العربي والإسلامي، من خلال مثقفيه، يطرح على نفسه التساؤلات عينها التي كانت مطروحة في الربع الأخير من القرن التاسع عشر الميلادي.

العالم العربي الذي كان مع محيطه الإسلامي الأوسع مركز الحضارة والأكثر تقدما في القرون الأربعة التي تلت الفتح الإسلامي، بدأ يتأخر في بطء حتى القرن السابع عشر ثم في سرعة حتى أصبح هامشيا بالنسبة إلى تطور الحضارة العالمية ماديا وفكريا .

أسلافنا و العصر الذهبي

لقد شهدت الحضارة الإسلامية عصرا ذهبيا كان فيه للمسلمين قوة لا تقف في وجهها قوة، كان فيه العالم العربي الإسلامي وريثا للحضارات السابقة ومطوراً لها. فقد كانت الرياضيات فيه، في الغالب الأعم، عربية والطب عربيا، وكذلك علم الفلك، وعلم الفيزياء، وعلم الكيمياء، ومعظم الفلسفة ... حتى أن البيروني - أحد عباقرة المسلمين في القرن العاشر الميلادي والذي وصفه المستشرق الألماني سخاو بعد إطلاعه على مؤلفاته بأنه أعظم عقلية عرفها التاريخ – كان هذا العبقري يقول : إن الهجو بالعربية أحب إلي من المدح بالفارسية.

ذلك العصر الذهبي أوجد لدى المسلمين شعورا مشروعا بالانتماء إلى تراث غاب كليا منذ أكثر من ثلاثة قرون وصار إنتاج المسلمين في مجالات العلم والتقنية، وحتى في مجال الفكر، محدودا إن لم نقل معدوما.

ومع بداية الاحتكاك بالغرب في بداية القرن التاسع عشر بدا واضحا أن العالم العربي والإسلامي صار هامشيا في مجالات شتى اللهم إلا بعض الأسماء النادرة، والتي برزت في الغرب ومن خلال مؤسساته وهيئاته العلمية. والعلم وتطبيقاته الفنية [التقنية] واحدا من هذه المجالات التي أصبح العالم العربي الإسلامي فيها هامشيا ..

لقد كان أسلافنا سابقين في ميادين العلوم المختلفة فقد نقلوا المعارف والعلوم المختلفة عن غيرهم من الأمم وأخضعوها لمقاييس عقيدتهم بعقل متفتح وقلب بصير وهم بذلك لم يكونوا مجرد ناقلين منقادين بل استخدموا عقولهم وحكموا منطقهم وخاضوا غمار التجربة فآثروا المعرفة الإنسانية ومهدوا السبيل لتقدم العلوم وازدهار الحضارة.

يقول الدكتور علي عبد الله الدفاع في كتابه 'إسهام علماء المسلمين في الرياضيات' :

وجه المسلمون عنايتهم للأنشطة الذهنية منذ الأيام الأولى للإسلام بادئين بالعلوم العلمية كالرياضيات والفلك.

ولقد كان هناك أساس ديني لحاجة المسلمين للرياضيات والفلك، فبالوسائل الهندسية يمكن تحديد اتجاه القبلة التي يولون وجوههم شطرها في صلواتهم اليومية، كما أن المسلمين كانوا في حاجة إلى علمي الحساب والجبر لحساب المواريث والفرائض، وليعلموا عدد الأيام والسنين، وبالفلك يمكن للمسلمين تحديد غرة شهر رمضان المعظم شهر الصيام، وكذلك تحديد الأيام الهامة الأخرى ذات الصبغة الدينية.

من هذا المنطلق برز أسلافنا في علوم الفلك والرياضيات والطب والكيمياء والفيزياء وما حققوه من انجازات في هذه المجالات كانت هي الأساس الذي قام عليه التقدم العظيم الذي عرفته هذه العلوم في أوربا ثم في أمريكا.

لقد وجه أسلافنا عنايتهم إلى إعادة دراسة الكتب العلمية القديمة لدى الشعوب المختلفة وعملوا على تصحيح الكثير منها وتنقيحه وإضافة مكتشفاتهم الخاصة.

محنة العلم في بلادنا

من المتعارف عليه بين مؤرخي الفترة الحديثة أن النهضة العلمية في العالم العربي والإسلامي تعود إلى أوائل القرن التاسع عشر، وأن أجلى مظاهر هذه النهضة تلتمس في حركات الإصلاح في الأزهر وفي التعديلات الأساسية التي أدخلت على النظام التعليمي في أواسط القرن قبل الماضي تحت تأثير موجة التغريب وتأسيس المدارس التبشيرية الأجنبية.

وقد أنشئت مجالس ومراكز للبحث العلمي تحول بعضها إلى مؤسسات وهيئات مما يشير إلى أن النهضة العلمية الحديثة في العالم العربي الإسلامي عريقة، على الأقل من حيث تاريخ بدايتها.

ومؤخرا أصدرت منظمة العمل العربية تقريرا متميزا وفريدا بعنوان البحث العلمي بين العرب والكيان الصهيوني وهجرة الكفاءات العربية.

كشف التقرير حقائق مذهلة ومرعبة عن الفجوة التكنولوجية والعلمية بين العرب والكيان الصهيوني والتي تجسد تفوقا علميا وتكنولوجيا صهيونياً ساحقا إلى درجة أن التقرير العربي أوصى بضرورة زيادة المخصصات المالية العربية لأغراض البحث والتطوير العلمي إلى 11 ضعفا عن موازناتها الراهنة حتى يمكن للعرب الاقتراب من سد الفجوة العلمية مع الكيان الصهيوني.

ومن أبرز الحقائق التي كشف عنها تقرير منظمة العمل العربية عن الفجوة العلمية والتكنولوجية بين العرب والكيان الصهيوني ما يلي:

ـ معدل الإنفاق العربي على البحث العلمي لا يزيد عن اثنين في الألف سنويا من الدخل القومي، في حين أنه يبلغ في الكيان الصهيوني 1.8في المائة.

ـ نصيب المواطن العربي من الإنفاق على التعليم لا يتجاوز 340 دولارا سنويا، في حين يصل في الكيان الصهيوني إلى 2500 دولار سنويا.

ـ في حين يأتي الكيان الصهيوني في المرتبة رقم 23 في دليل التنمية البشرية على مستوى العالم والذي يقيس مستويات الدخل والتعليم والصحة، فإن مصر تحتل المرتبة رقم 199 [طبقا لتقرير عام 2002]، وسوريا تحتل المرتبة 111 والأردن المرتبة 92 ولبنان المرتبة 82 وهي الدول العربية المحيطة بالكيان الصهيوني [أو دول الطوق].

ـ أما في استخدام الحاسب الآلي ففي حين يوجد في الكيان الصهيوني 217 جهاز حاسب آلي لكل ألف شخص، يوجد في مصر 9 أجهزة فقط لكل ألف شخص، وفي الأردن 52 جهازا و39 جهازا في لبنان.

وكشف التقرير أن مصر وحدها فقدت 450 ألف عالم وباحث ومتخصص من أفضل الكفاءات العلمية بهجرتهم إلى الغرب، وأن نسبة العقول العربية تزيد بين العلماء والتكنولوجيين في أميركا وكندا على 2 %.

وفي تقديرنا، فإن هذه الفجوة العلمية والتكنولوجية بين العرب والكيان الصهيوني هي التي أدت إلى هذا الخلل الاستراتيجي الخطير في موازين القوى في المنطقة لمصلحة الصهاينة، وجعلها قادرة على تحدي العرب كافة وجعلهم في موقع الهزيمة وهو ما يفسر في أحد جوانبه عجز العرب عن دحر عدوهم على مدى أكثر من نصف قرن بسبب استمرار حالة التخلف العلمي العربي، التي جعلت الكثرة العددية العربية غير قادرة على تحقيق التفوق للعرب في صراعهم مع الكيان الصهيوني ، وجعل الكيان الصهيوني يتفوق رغم القلة العددية السكانية في مواجهة العرب، لامتلاكه تفوقا نوعيا في القدرات البشرية والإمكانات العلمية انعكست تفوقا استراتيجيا في القدرات العسكرية والصناعية والتكنولوجية.

وفي تقديرنا، فإن هذا التفوق العلمي والتكنولوجي الصهيوني النوعي المدعوم أميركيا يوفر للكيان الصهيوني فرصا متعاظمة لفرض هيمنته الإقليمية على منطقة الشرق الأوسط، كما يساعدها على التشدد في مفاوضات التسوية مع العرب، ويدفعه إلى التطلع دائما لفرض تسويات سياسية بالشروط والإملاءات التي يريدها.

إن فشل العرب في معارك التنمية والنهضة العلمية والتكنولوجية على مدى أكثر من نصف قرن كان عاملا مركزيا وراء سلسلة الانكسارات والاحباطات العربية في الصراع مع الكيان الصهيوني. وفي المستقبل المنظور، لا توجد إمكانية لتعديل هذا الخلل الاستراتيجي في غياب جهود عربية حقيقية ومتسارعة لسد هذه الفجوة العلمية والتكنولوجية أمام الكيان الصهيوني. فإحدى أكبر المشكلات التي تواجه المستقبل العربي وتهدده باستمرار هي أوضاع التخلف والعجز والتدهور التنموي والاقتصادي والإخفاق العلمي والتكنولوجي، واستمرار ظاهرة نزيف الأدمغة، أو هجرة العلماء العرب إلى الخارج وخاصة إلى الغرب الأوروبي والأميركي.

أسباب تخلفنا العلمي والتقني

ولكن ثمة سؤال يفرض نفسه هو: لماذا لم تثمر حتى اليوم هذه النهضة العلمية في مؤسساتنا وهيئاتنا ثمرتها المرجوة برغم ما يزيد على القرنين على هذه النهضة؟

هل السبب موقف ديننا الإسلامي من العلم؟ أم هو نظامنا التربوي والتعليمي؟ أم هو الضياع والقلق الذي يشل الإبداع والتفكير العلمي؟

لنحاول مناقشة هذه التساؤلات لنتبين ماهو السبب الحقيقي في تخلفنا العلمي والتقني؟

ولنبدأ بموقف الإسلام من العلم والعلماء.

لقد بات من المسلم به لدى مفكري الشرق والغرب على السواء أن الحضارة العربية الإسلامية والتي قامت دعائمها على أسس من الدين الإسلامي قد أولت العلم اهتماما وشأنا لا ينازعه أي نشاط آخر في المجتمع الإسلامي، وليس من نافلة الحديث القول إن العلم احتل مكانة في الحضارة الإسلامية تعادل مكانة العبادات.

فالعلم صفة من صفات الله تعالى، وطلب العلم عبادة، والعلماء ورثة الأنبياء، والعلم جهاد، والانصراف للعلم فضيلة لا أعظم ولا أشرف منها، وأهل العلم أعلى شأنا من أصحاب السلطان، وأثرهم أبعد منهم في توجيه الجماعة.

إن القرآن الكريم والأحاديث النبوية، وما أثر عن السلف، وما يروى من الوقائع، كلها تشير إلى ما للعلم وأهله من مكانة مرموقة في المجتمع الإسلامي، منذ نشأة هذا المجتمع نفسه، والشواهد التاريخية على ذلك تكاد لا تحصى وقد شهد بذلك أساطين الفكر الغربي والفكر الشرقي على السواء... فهل نحن اليوم أوفياء لموقف ديننا الإسلامي من العلم والعلماء؟

والواقع إن نظرة المجتمع العربي الإسلامي الحديث للعلم والعلماء نظرة تقدير وإجلال ولكنها نظرة ما تزال فردية لا جماعية، فالأفراد يبذلون في سخاء من أجل تعليم أولادهم، غير أنهم لا ينفقون بمثل هذا السخاء على المؤسسات والهيئات العلمية والمشاريع البحثية مما يدل على أن الوعي العلمي في مجتمعنا الإسلامي ما يزال سطحيا لا يتعدى حدود المصالحة الفردية، بل إن الاتجاه السائد في مجتمعنا هو أن إنشاء الجامعات والهيئات العلمية من شئون الدولة فهي التي ترعاها وتوجه سياستها مما يجعلها لا تتمتع بالاستقلال التام والحرية وما يعرقل مسارها من نظم بيروقراطية تسيطر على مجتمعنا العربي الإسلامي.

فكان يجب علينا أن نحصر دور الدولة في تقديم الأوقاف والهبات لهذه المؤسسات دون التدخل في توجيهها. وما تاريخ الأزهر عنا ببعيد يوم أن كانت له أوقافه وممتلكاته مما يجعل لبعض شيوخه الحق في عزل الحاكم أو توليته.

أما عن مؤسساتنا العلمية والتربوية فالدارس لتاريخنا الحديث والمعاصر يرى أن النظريات العلمية والفلسفات التربوية مأخوذة بلا تبديل أو تحوير يذكر من الفكر الغربي.

فمن المحزن أن نقول إنه لا يوجد لدينا حتى الآن نظريات علمية أوتربوية نابعة من تراثنا وفكرنا. إن البحث العلمي في المنطقة العربية الإسلامية يعاني من مشاكل عديدة تعود إلى عدد من العوامل أدت بالنهاية إلى نتاج فكري منخفض إن لم يكن منعدما وهذه العوامل منها ما هو عام كالعوامل السياسية والاجتماعية والثقافية والاقتصادية، ومنها ما هو خاص كضعف التكوين العلمي والثقافي للباحث، أو سيطرة الاعتبارات الشخصية على علا قات البحث العلمي، أو عدم وجود جزاءات رادعة عن السرقات العلمية.

خاتمة : الكيان الصهيوني مصدراً للإنجازات العلمية

من المخجل والمحزن أن يصبح الكيان الصهيوني قوة إنتاج علمي ومصدرا للإنجازات العلمية التقنية. فعلى سبيل المثال زادت صادرات الكيان الصهيوني من المنتجات الإلكترونية من حوالي مليار دولار أمريكي في عام 1986 إلى قرابة الستة مليارات دولار أمريكي في عام 1999 وبلغ حجم الإنفاق على التعليم من الناتج القومي الإجمالي عند الصهاينة 6,6% عام 1999 في حين بلغ في العام نفسه 5.3 % بالولايات المتحدة الأمريكية و 3.8% باليابان و 3.7 بجمهورية كوريا و 2.8% بالصين وقد بلغ الناتج المحلى الإجمالي في العام نفسه 91965 مليون دولار في الكيان الصهيوني و 6952020 بليون دولار بالولايات المتحدة الأمريكية و 5108540 مليون دولار باليابان و 455476 مليون دولار بجمهورية كوريا و 143669 مليون دولار في الصين . ويدل ذلك على أن إنتاجية البشر في الكيان الصهيوني شديدة الارتفاع بالمقارنة بمحيطها العربي .

ويلاحظ أن نصيب الإنفاق على التعليم من الناتج القومي الإجمالي في معظم البلدان العربية ارتفع بدرجة ملحوظة بين عامي 1980 و1985 على حين كان أدنى في عام 1995 منه في عام 1980 فقد بلغ الإنفاق العام على التعليم من الناتج القومي في مصر على سبيل المثال 5.7% عام 1980 وانخفض إلى 5.6% عام 1995 وفى المغرب 6.1% عام 1980 وانخفض إلى 5.6 % عام 1995 .

إن التنمية الشاملة لأية دولة تتوقف على عناصر ثلاثة : أولها الوعي بمشكلة التخلف وأبعادها، وثانيها الوعي بضرورة القضاء على مشكلة التخلف والتخلص منها، وثالثها الوعي بضرورة القضاء على ظاهرة التخلف. وقد أدرك الصهاينة حتى قبل قيام الدولة أهمية هذه العناصر الثلاثة مما جعلهم ينشطون في تأسيس المنشآت العلمية البحثية وينتجون كما متجددا من العلم والمعلومات والمعرفة. وبلغت نسبة العلماء- والتقنيين عندهم 76 لكل 10000 شخص عام 2000 لذا فإنهم يتمتعون بعدد يفوق غيرهم كثيرا في نشر البحوث في مجالات العلوم الطبيعية والهندسة الوراثية والمجالات البيولوجية عموماً، مما أسهم في إيجاد بيئة علمية اعترفوا فيها بالباحث المتفرغ كعضو في المجتمع له دوره المهم.

===============

#المسلمون في ألمانيا بين رغبة التعايش والتحديات الداخلية

السبت 22 ربيع الثاني 1427هـ – 20 مايو 2006م

الصفحة الرئيسة

رسالة ألمانيا: يكتبها طه عبد الرحمن

مفكرة الإسلام [خاص]: منذ أن اتحدت ألمانيا الشرقية وألمانيا الغربية بعد انهيار الاتحاد السوفييتي عام 1991، بدأت المناداة بعودة برلين لتكون عاصمة ألمانيا الموحدة، إلا انه ومنذ ذلك التاريخ تأثرت أوضاع المسلمين الحياتية في ألمانيا بشكل كبير، إلى أن تزايدت بعد أحداث 11 سبتمبر.

وحرصا من 'مفكرة الإسلام' على رصد أوضاع المسلمين في ألمانيا فقد انتقلت إلى هناك للتعرف على أبرز المشاكل التي تواجههم في هذه البقعة الأوروبية التي تذكر الدراسات التاريخية أن غالبية مسلميها ينتمون إلى المذهب السني 'حوالي 65%'، إلا أنه وطبقا للدراسات وقياسات الرأي فإن غالبية المسلمين لا يمارسون العبادات بشكل منتظم وحتى صلاة الجمعة لا يحرص على تأديتها سوى ما يقل عن 10 % فقط.

وبحسب الدراسات التاريخية فإن العديد من التوقعات في ألمانيا، تشير إلى أن أعداد المسلمين المتجنسين سوف تتزايد، نظرا لوجود استعداد لدى الجالية الإسلامية للتجنس بغض النظر عن التسهيلات التي يمكن أن تقدم أو لا تقدم في محاولة منهم للقيام بدور سياسي في ألمانيا، رغم ما كل يواجهونه من مشاكل وتحديات.

ويطالب أعضاء الجالية الإسلامية بضرورة تحرك المؤسسات الإسلامية المختلفة لبحث قضاياهم في الوقت الذي يطالبون فيه إخوانهم بعدم نقل مشاكل بلاد المواطنة إلى بلاد الهجرة، إضافة إلى مطالبتهم بعدم كيل النظم الغربية بمكيالين. ففي الوقت الذي تناصر فيه كثير من الدوائر الغربية 'إسرائيل'، تقف موقف العداء من قضايا العرب والمسلمين.

تاريخ المسلمين في ألمانيا

حسبما تؤكد الدراسات ، فإن تاريخ المسلمين الموثق في ألمانيا يرجع إلى القرن الثامن عشر، أما الاتصالات بين المسلمين والألمان أنفسهم فتسبق ذلك، حيث شهدت هذه الفترة اتصالات عدة بين ملوك ألمانيا والمسلمين كما هو ثابت تاريخيا، بل إن بعض الفترات القديمة شهدت وجود جالية إسلامية مستقرة منذ ذلك الوقت.

كل هذا يدل على أن التعامل مع الحضارة الإسلامية كان تعاملا أكثر إنسانية وحضارة وانفتاحا مما نراه اليوم من كل ما هو غريب خشية تغيير النمط الأوروبي، لكن هذا التاريخ القديم شهد تجديدا في ستينيات القرن الماضي عندما أتت مجموعات كبيرة من المسلمين للعمل في ألمانيا.

وبشكل أكثر توضيحا فان الإسلام دخل ألمانيا الاتحادية والنمسا والجزء الألماني السويسري منذ مئات السنين، وكان ذلك عند وصول الفاتحين المسلمين الأتراك إلى مشارف في، ويرجع سبب وجود الجاليات الإسلامية في ألمانيا بهذا العدد الكبير إلى حركة الاعمار التي قام بها الألمان بعد الحرب العالمية الثانية وهزيمتها.

وبقدوم العمال وزيادة أعداد الطلبة الدارسين وللعوامل الأخرى بدأ الوجود الملحوظ والمكثف للمسلمين في ألمانيا، وكان هذا الوضع كفيلا بأن يدفع المسلمين لإقامة اتحاد إسلامي يضم الجميع، حيث تم تكوين أول اتحاد إسلامي في أوائل الخمسينيات، كما أقاموا بعض المساجد الصغيرة لتأدية الصلاة فيها، وبمرور الوقت زاد عدد الجاليات بشكل كبير.

وهنا تنبه أعضاء الاتحاد الإسلامي لضرورة الاهتمام بالأجيال القادمة حتى لا يذوبون في المجتمعات الأوربية، فتم إنشاء بعض المراكز الثقافية والمدارس، وبدأ التنسيق بين الهيئات والمؤسسات المختلفة، التي يطلق عليها حاليا المجلس الإسلامي، وكذلك بعض المؤسسات التنسيقية بهدف تنسيق جهود الهيئات الإسلامية للحصول على حقوقهم المشروعة كالسماح بتعليم مبادئ الإسلام لأبناء المسلمين في المدارس الألمانية، وتكوين المراكز الإسلامية، وان ترعى هذه المراكز شئون الجاليات، خاصة من ناحية الأحوال الشخصية بشكل رسمي، والحصول على اعتراف رسمي بالإسلام في ألمانيا أسوة بالمسيحية واليهودية.

وعلى الرغم من عدم وجود إحصاءات شاملة عن الانتماءات الدينية بوجه عام في ألمانيا إلا أنه استنادا على التقديرات المختلفة يتراوح عدد المسلمين ما بين 3 إلى 3.2 مليون مسلم منهم حوالي نصف مليون مواطن من المواطنين الألمان الذين اعتنقوا الإسلام, أما بقية المسلمين فغالبيتهم العظمى من أصول تركية ويشكلون السواد الأعظم للجالية المسلمة في ألمانيا , أما البقية الأخرى فينحدرون من أصول عربية , بالإضافة إلى مسلمي البلقان وشبه القارة الهندية.

وبوجه عام يصعب القول إن المسلمين في ألمانيا يتعرضون لتفرقة أو اضطهاد منهجي , فالقانون الأساسي الألماني' الدستور' يكفل حرية العبادة ويحمى هذا الحق ولكن هذا لا يمنع من وجود ' مضايقات' كثيرة تواجه المجتمع المسلم في ألمانيا, كثير منها نابع من عدم قدرة المسلمين على الاندماج الثقافي والاجتماعي في المجتمع الذي يعيشون فيه.

وهذه أحد القضايا الأساسية المطروحة على بساط النقاش في ألمانيا منذ عدة سنوات مضت وحتى قبل وقوع أحداث 11 سبتمبر التي تعتبر متغيرا رئيسيا في النظرة إلى المسلمين.

والإسلام في ألمانيا معظمه يميل إلى الطابع التركي نتيجة لاستقدام الشركات والمؤسسات في حقبة الازدهار الاقتصادي أو كما يسمى 'المعجزة الألمانية' في نهاية ستينات وسبعينات القرن الماضي للآلاف من الأتراك ليقوموا بالأعمال الدنيا التي لم تلق إقبالا من المواطنين الأملان أو لم تكن تليق بالوضع الاقتصادي المزدهر الذي نعموا به في تلك الفترة ثم سمحت السلطات الألمانية بعد ذلك بتوحيد أسر هؤلاء العاملين الأمر الذي أدى إلى زيادة أعدادهم.

وفى بداية قدوم المسلمين إلى ألمانيا لم يمثل القادمون الجدد من المسلمين للمجتمع الألماني الذي لم يلتفت أو لم يعنه وجودهم في الأساس ونظر إليهم على أساس أنهم ' ضيوف' مؤقتين سرعان ما سوف يغادرون البلاد لكون ألمانيا في تلك الفترة لم تكن مجتمع هجرة .

كما أن تكيف الأجانب من المسلمين على العيش في ألمانيا لم يكن بالأمر اليسير ولذلك يمكن القول إن ألمانيا في تلك الفترة كانت مجتمعا مغلقا إلى حد ما ولم تكن فكرة الوحدة الأوروبية تبلورت بصورتها الحالية مما سهل انتقال الأفراد بين المجتمعات لالأوروربية فضلا عن أن أفكار العولمة بكل تداعياتها المختلفة لم تكن قائمة.

المهاجرون المسلمون الأوائل عاشوا على هامش المجتمع الألماني , وحسب الشواهد , لم يكونوا يوما جزءا منه ولذلك لم تعبأ بهم الدولة أو المواطنون ونظرا لثقافتهم المختلفة والمتعارضة في كثير من الأحيان مع الثقافة الألمانية فضلا عن عدم إلمام الكثيرين منهم باللغة الألمانية وهوة ما جعلهم يعيشون في مجتمعات خاصة بهم ' جيتو' أو كما بات يقال يطلق عليهم فيما بعد ' المجتمعات الموازية'.

وبعد سنوات من الهجرة والاستقرار ووجود جيل ثان من هؤلاء المهاجرين بدأ الصدام مع المجتمع الألماني الذي بدأ يفيق هو الأخر على حقيقة أن هناك مجتمعات أخرى تنمو على هامش المجتمع الأساسي, وتختلف عنه في كثير من السلوكيات مختلفة مشاكل كثيرة يتعين مواجهتها منها الزواج القسرى وجرائم الشرف وبناء دور العبادة بمخالفة للقوانين القائمة والذبح على الطريقة الإسلامية وخاصة ذبح الخراف في عيد الأضحى .

هذه المشاكل امتدت لتطال المدارس العامة من عدم اختلاط الطالبات المسلمات مع نظرائهن الألمان وعدم المشاركة في الأنشطة الاجتماعية والرياضية وزاد من عزلة المسلمين انتشار الفضائيات منذ بداية حقبة السبعينات في القرن الماضي , فزادت من ثقافة ' الجيتو' لأنها نقلت المجتمعات الأصلية إلى المهاجرين المسلمين في ألمانيا باللغة الأم والثقافة القومية فزادت من الهوة الموجودة بالفعل بين المهاجرين ومجتمعهم الحالي.

ويجمع المسلمون في ألمانيا على أن أحداث 11 سبتمبر كمتغير هام في النظرة إلى المسلمين انعكس على المناخ الاجتماعي الذي يعيش فيه المسلمون في ألمانيا وزاد ه تدهورا.

وكنتيجة لتصاعد الحرب على ما يسمى بالإرهاب والتركيز على التهديد القادم من التطرف الديني كما يصفه الغرب فقد زادت النزعة العنصرية والتفرقة ضد المسلمين الذين شعروا بالعداء وأنهم ليسوا أهلا للثقة وتلاحقهم وصمة عار بسبب عقيدتهم فان بعض وسائل الإعلام الألمانية ساهمت في إذكاء هذه النزعة .

وعلى الرغم من بعض المحاولات الايجابية في أعقاب 11 سبتمبر استهدفت مد جسور حكومية إلا أن هذا لم يستطع وقف تنامي مناخ العداء للمسلمين ونظرة الارتياب تجاههم خاصة وأن قضية الخلط بين الإسلام والإرهاب جرى التعامل معها وكأنها أحد المسلمات وانعكس ذلك في تعمق شعور المسلمين بالعزلة بأنهم محاصرون أو في أفضل الأحوال مراقبون .

ولذلك سجلت كثير من منظمات حقوق الإنسان وقوع عدة حالات مثلت مضايقات للمسلمين شملت إهانات لفظية والتهديد بالقتل في بعض الأحيان وهجمات ضد المؤسسات الإسلامية إلا أنه مع ذلك فان الأمر لم يتحول إلى ظاهرة حيث اقتصرت المضايقات على حالات حصرية وفى ظروف بعينها ومع ذلك لا يزال المناخ غير مريح .

تحديات بالجملة

ومن هنا فان المسلمين في ألمانيا تواجههم العديد من التحديات نتيجة الأسلوب الذي تعاملهم به الحكومة الألمانية بدعوى الحملة على الإرهاب منذ أحداث 11 سبتمبر والتي ساهمت بدورها في دعم وتأكيد الاتجاهات السلبية ضد المسلمين حيث تستخدم السلطات الاعتبارات الأمنية كذريعة لتبرير الإجراءات التي تستهدف المسلمين بوجه عام حتى ولو لم يتورطوا في أعمال مخالفة للقانون أو حتى بمجرد أن تحوم حولهم الشبهات إلا أنها تستهدفهم لكونهم مسلمين بحجة حماية الأمن القومى حيث تتخذ ضدهم إجراءات كحملات التوقيف والاستجوابات وتفتيش المنازل ومراقبة دور العبادة.

ولا يتوقف شكوى المسلمين عند حد السلطات فقط وإنما تمتد أيضا إلى الإعلام الألماني الذي يلعب أثرا سلبيا في تشكيل اتجاهات الرأي العام عن المسلمين في ألمانيا من خلال تغطيته غير المتوازنة ويغلب عليها الأحكام المسبقة .

هذا ما تؤكده دراسة بجامعة ايرلانجن حول 'صورة الإسلام في الإعلام الألماني' إذ تشير إلى أنه سواء في الصحف أو الإذاعة أو التلفزيون أو حتى في المعاجم فان هناك صورة نمطية عن الإسلام والمسلمين, هذه الصورة تبلورت منذ سنين وخاصة بعد الثورة الإيرانية في العام 1979 حتى أنه في حال عدم استخدام مثل هذه الصورة يظل الانطباع الأول هو السائد وهو الجانب السلبي عن المسلمين لدى الألمان.

ولذلك تعمد كثير من وسائل الإعلام الألمانية إلى تناول مواضيع بعينها عن الإسلام وغالبا ما لا يتم طرح هذه المواضيع بالموضوعية المطلوبة أو عدم معرفة تامة بالإسلام والمسلمين خاصة وأنه في الآونة الأخيرة ظهرت العديد من التقارير التي تركز على ما تراه من جوانب سلبية للمسلمين مثل مشكلة القتل على خلفية الشرف والزواج بالإكراه أو العنف في العائلة المسلمة .

وفى هذا السياق فقد سبق أن نشرت مجلة ' فوكس ' الأسبوعية على صفحة الغلاف عنوانا يحمل اسم' الضيوف المخيفين' وذلك في إشارة إلى المسلمين الذين يعيشون في ألمانيا فيما تطرقت مجلة ' دير شبيجل' في أحد تحقيقاتها إلى تقييد حقوق المرأة المسلمة عنوانه ' بنات الله عديمات الحقوق ' في إشارة إلى ما أسمته معاناة المرأة المسلمة في ألمانيا من وطأة الظروف الاجتماعية التي تفرض عليهن أمورا باسم الدين تنال الكثير من حقوقهم فيما يعتبرها كثير من المستشرقين الأمان أن هذه الأمور لا تمت إلى الشريعة الإسلامية بصلة وإنما هي تابعة من فهم خاطئ للدين والعادات والتقاليد الإسلامية.

ويؤكد مصطفى أبو الحمد مقيم في مدينة بون- إن الحفاظ على هوية المسلم أمام هذه التحديات تبدأ بالتعليم، وان كثيرا من المسلمين يفتقدون التعليم الذي يدعم هويتهم، ولذلك فان التعليم سيبقى بجوار دور المساجد الدور الأساسي الذي لا غنى عنه، خاصة وان النظام الألماني يسمح بان تقام مدارس خاصة تشرف عليها الطوائف الدينية، ويعترف بشهاداتها شريطة أن تلتزم بالحد الأدنى من القانون والنظام التعليمي المعمول به.

ولذلك فإنه توجد عدة مدارس أنشئت لاستغلال هذه الرخصة منها واحدة في ميونخ ومدرسة في برلين وغيرهما، إضافة إلى مدارس تخدم مصالح البعثات الدبلوماسية مثل أكاديمية الملك فهد في بون، كما أن النظام نفسه يعطى الحق للطوائف الدينية أن تضع مناهج مواد التدريس، وان تشرف على تأهيل المعلمين، وعلى ما يتعلق بهذه المواد المنهجية، بعد أن كان هذا الحق محجوبا عن المسلمين فيما قبل.

تحديات المرأة المسلمة

ومن أبرز التحديات التي تواجه المرأة المسلمة في ما تواجهه هناك، خاصة بعد القرار الصادر منذ فترة بمنع ارتداء المسلمات للحجاب في المدارس الحكومية، واستثناء المصالح وجهات العمل من هذا القرار، وهو التحدي الذي يضاف إلى جملة من التحديات التي تواجه المرأة المسلمة في الغرب بعد قرار منع الحجاب في المدارس الفرنسية.

إلا انه رغم ذلك، فهناك رغبة من المسلمات في ألمانيا في ارتداء الحجاب والحفاظ على ارتدائه، رغم وجود إشكال عدة من التطهير العرقي والديني تعانى منه المرأة المسلمة، ففي كثير من الحالات ترفض المؤسسات قبول المرأة المسلمة المثقفة المتعلمة ذات الكفاءة لمجرد مظهرها الإسلامي، أو يرفض أصحاب العقارات إسكان الأسرة المسلمة لمظهرها الأجنبي في السكن.

يضاف إلى ذلك جملة أخرى من التحديات التي تواجه المرأة المسلمة في ألمانيا، وهى أن القانون الألماني لا يوثق الزواج الثاني، وان كان لا يعاقب عليه مثل القانون الأمريكي ، ورغم ذلك فان البعض من النازيين الجدد وغيرهم كثيرا ما يهاجمون الزواج الإسلامي.

وحسبما يؤكد محمد الأحمدي - مقيم في ألمانيا منذ 19 عاما- ورغم تمتعه بالجنسية الألمانية، فان أغلب مسلمي ألمانيا يعيشون هناك منذ 40 عاما، ولم يحصلوا على الجنسية في ظل تعديل قانون التجنس، رغم أن هذا القانون يسمح لمن يولد في ألمانيا بغض النظر عن جنسية أبويه يعطى الجنسية الألمانية، بالإضافة إلى جنسية احد أبويه، وعليه أن يقرر مع بلوغه 23 سنة اى الجنسيتين يأخذ، فهي إذا جنسية مزدوجة إلى اجل مسمى .

المشاركة السياسية

الدكتور محمود أبو الدهب- مقيم في ألمانيا - يؤكد أن وضع المسلمين اضعف من أن يشاركوا في الأمور السياسية، وان كان لبعض المسلمين في برلين بعض الآراء السياسية التي يبرزونها، إلا انه للآسف الشديد- كما يقول- توجد خلافات حادة بين الجوانب الفكرية بين المسلمين، وبالتالي فمن الصعب أن يتحدوا نحو فكر إسلامي محدد، ينطلقون من خلاله لتشكيل حزب ديني.

ويضيف عادة ما يكون هناك عقد مؤتمر سنوي، الغرض منه طرح إحدى القضايا المرتبطة بالأوضاع الإسلامية في ألمانيا أو أوروبا، ونتعمد أن يكون المؤتمر في أيام عيد الميلاد، حتى يمكن أن نجذب المسلمين إلى المؤتمر لعدم خروجهم إلى الاحتفال بمثل هذه الأعياد، حتى لا يقعوا في الزلل والمعاصي من خلال ارتكاب الموبقات ورؤية المشاهد الخليعة، وبالتالي فنحن نجمع المسلمين في هذه الأوقات من خلال المؤتمر السنوي بالمراكز الإسلامية لمتابعة الدروس والندوات الدينية ومعايشتهم في جو إسلامي، يعود بالرفاهية على أولاد المسلمين، حتى يدركوا أن الإسلام لديه أوقات لقضاء الفراغ بشكل مباح.

ويشير د. أبو الدهب إلى الدور الذي تلعبه الصهيونية في ألمانيا أو ما يقوم به النازيون الجدد للحيلولة دون دخول الأجانب في الإسلام، ولذلك فهم دائما يستعدون الحكومة الألمانية على المسلمين من خلال وسائل الإعلام المختلفة، فهي تقوم بدور بشكل مباشر في كل ما ينشر عن الإسلام، وإبراز سلبيته في مختلف المجالات، وبالطبع لا يسمح لنا بالرد على ادعاءاتهم الكاذبة، أو المحاولة لتوضيح صورة الإسلام الصحيحة.

ويقول: نلجأ إلى وسائل لإبراز صورة الإسلام وحماية المسلمين من محاولات الاختراق والتشويه عن طريق زيارات المسلمين للتجمعات وإرشادهم لكيفية التعامل مع العناصر المخالفة داخل المجتمع الألماني، ونقوم بتوفير الصحف والمجلات الإسلامية باللغات الانجليزية والألمانية، كمحاولة لإبراز الصورة الصحيحة للإسلام عن طريق تناول سيرة النبي محمد صلى الله عليه وسلم، ومواقف القرآن الكريم.

الحوار بين الشرق والغرب

ولعل ابرز ما يطرح نفسه على الساحة الألمانية، ما يدور في هذه الأيام،قضية الحوار بين الشرق والغرب، ولذلك فان تعبير الحوار مع الإسلام في ألمانيا أصبح تعبيرا شائعا، وسيطر على الخطاب الألماني في مؤسساته الرسمية والفكرية بهدف التعرف أكثر على الحضارة والثقافة الإسلامية، وتأثير هذه الثقافة على النواحي الاجتماعية والسياسية على المجتمعات العربية والإسلامية بوجه عام، وكذلك معرفة الفوارق بين هذه المجتمعات التي تشترك في نفس الدين الواحد لكنها تختلف اختلافا كبيرا فيما بينها حتى يمكن رسم إطار سياسي يتلاءم مع كل مجتمع على حدة.

غير انه بعد إحداث 11 سبتمبر وما تلاها من إعلان الولايات المتحدة الحرب على ما يسمى بالإرهاب أصبحت العلاقات الثقافية الخارجية لألمانيا احد المكونات الرئيسية في السياسة الخارجية الألمانية بسبب اللغط الكثير الذي أثير حول الإسلام والخلط بينه وبين الإرهاب، مما كان له تداعيات خطيرة على العلاقات بين الدول، وقفزت العلاقات الثقافية الخارجية من حالة السكون أو عدم الاهتمام لتصبح في مقدمة أولويات السياسة الخارجية الألمانية، حيث سارعت وزارة الخارجية الألمانية إلى القيام ببعض المبادرات والمشروعات لتعزيز الحوار الإسلامي الأوروبي حتى لا تسقط السياسة الخارجية الأوربية بوجه عام في فخ صدام الحضارات.

ويرى الكثير من الباحثين أن مسارعة ألمانيا وغيرها من الدول الأوربية إلى الاهتمام بهذا العامل الثقافي إنما يرجع إلى محاولة مواجهة أو موازنة السياسة الأمريكية التي اعتمدت على التدخل العسكري في أعقاب أحداث سبتمبر، وما أسمته أمريكا بالحرب الوقائية، وهو المبدأ الذي تعارضه غالبية الدول الأوروبية التي ترى أن السياسة الثقافية الخارجية هي سياسة أمنية، ولكن بوسائل مختلفة تهدف إلى منع نشوب الصراعات من خلال الحوار.

وأخيرا تبقى الإشارة إلى أن كل هذه التحديات والمشاكل التي تواجه المسلمين في ألمانيا، يرجعها الكثيرون من الجاليات المسلمة إلى التأثير الصهيوني، ومحاولاته ضدهم، والتأييد الرسمي لإسرائيل، الأمر الذي أدى إلى حالة من عدم الارتياح بين الرأي العام، وفى المناقشات السياسية والصحفية حول سياسة إسرائيل وسلوكها مع الفلسطينيين، ويرون أن هذه الممارسات يمكن أن تشكل عائقا أمام عملية التسوية، وتقويض الجهود الدولية والأوربية الرامية إلى حل الصراع وإقامة دولة فلسطينية.

وهنا يؤكد المراقبون في ألمانيا أن برلين تسعى إلى إقامة توازن بين التزامها الراسخ إزاء أمن إسرائيل وقبولها مبدأ حق تقرير المصير للفلسطينيين، وهو المبدأ الذي أقرته السوق الأوروبية المشتركة في إعلان في عام 1980، ثم تطور هذا المبدأ بعد ذلك لقبول قيام دولة فلسطينية إلى جانب إسرائيل.

============

#نحو صورة وسطية حضارية نقدم بها الإسلام للعالم

الأربعاء 19 ربيع الثاني 1427هـ – 17مايو 2006م

الصفحة الرئيسة

- يجب تقديم الإسلام على أنه نظام شامل وليس أجزاء متفرقة.

- ينبغي إبراز عطاء علماء الإسلام في المجال الاجتماعي وخاصة رعاية المرأة.

- ينبغي الاهتمام بالدعاة الذين يقدمون الإسلام للناس.

- الإسلام حرر الإنسان ذاتًا وعقلاً وضميرًا وعقيدة.

د. ليلى بيومي

مفكرة الإسلام: رغم ما قدمته الصحوة الإسلامية من جهد طيب في مجال الدعوة وتيسير التدين للشباب والناس جميعًا .. إلا أن الملاحظ أن هناك سلبيات كثيرة رافقت خطاب الصحوة الدعوى ما بين الإفراط في الزجر والتخويف يصل إلى حد سد باب التوبة في وجه النادمين ،وبين التساهل إلى حد التفريط في الثوابت والأصول. والناس حيارى .. إلى من يستمعون ؟ .. ثم إن الخطاب الدعوي موجه أيضًا في شكل من أشكاله إلى غير المسلمين .. ومن ثم ينبغي أن يكون فيه من النضج والعمق والاعتدال ملامح تجعله مؤثرًا ومرشدًا. فما هي الصورة الوسطية الحضارية التي ينبغي على الدعاة تقديم الإسلام بها سواء إلى المسلمين في الداخل أو غير المسلمين في الخارج ؟.

ينبغي تقديم الإسلام كمهج ونظام

يقول د. علي مدكور عميد معهد البحوث التربوية بجامعة القاهرة: إننا لابد أن نقدم الإسلام للناس على أنه منهج ونظام .. فالإسلام باعتباره المنهج الأخير هو نظام التوجيه حياة البشر ومعنى أنه نظام أي أنه كل مكون من أجزاء وكل جزء يؤثر في جزء ويتأثر به. والإسلام بهذا المعنى هو منهج الحضارة بل هو الحضارة. وهذا يعني أننا حينما نقدم الإسلام لا يجب أن نقدمه في أجزاء متفرقة بل لا بد أن يقدم في صورة كلية شاملة أولاً ثم تأتي التفاصيل في مرحلة تالية. والإسلام كنظام مبني على شقين :الشق الأول هو : الشق الاعتقادي ،والشق الثاني هو : الشق الاجتماعي.

والشق الاعتقادي في الإسلام هو : التصور الإنساني للألوهية والكون والحياة والإنسان. وهذا الشق هو جوهر مناهج الفلسفة التي نقدمها لأبنائنا وللآخرين كي يتعرفوا على الوجه الحضاري للإسلام.

ولهذا فإذا أردنا تقديم الإسلام للآخرين فلا يجب أن نقدمه في صورة رؤى فكرية لهذا المفكر أو ذاك أو رؤى اعتقاديه لبعض الفرق مثل أهل السُنَّة أو الشيعة .. الخ وإنما نقدم التصور الاعتقادي من القرآن والسنة مباشرة.

أما فيما يتعلق بالشق الثاني وهو شق التصور الاجتماعي فهو : يتعامل مع أمور من قبيل كيف نقيم النظام السياسي والنظام الاجتماعي وكيف نقيم الأسرة وما هي العلاقة بين أفرادها والعلاقة بينهم وبين غيرهم .. وما هي الثقافة ؟ وكيف نتعامل معها ؟ وكيف نقيم مناهج التربية والفنون والآداب والإعلام ؟.. الخ.

وهذا الشق الاجتماعي منبثق عن الشق الاعتقادي.. فمثلاً كيف نتعامل مع الغيبيات في الكون مثل الروح والملائكة والجن والشياطين ؟ وكيف نتعامل مع المشهودات في الكون مثل : الماء والجبال والأنهار والحيوانات والإنسان ؟ كل هذه الأمور والأسئلة تأتيها موجهات من الشق الاعتقادي لأن الله أقام الكون وبناه على نظام ولو أخللنا بهذا التوازن الدقيق في الكون فسوف يعود الخلل علينا.

فلو لوثنا الماء والهواء وفتحنا ثقبًا في الطبقة الحامية للأرض فهذا كله سوف يعود علينا بالضرر. وعلى هذا نستطيع أن نقول إن هناك نظامًا للسياسة في الإسلام وعلينا أن نقدمه على أنه نظام وليس جزئيات .. وإذا لم نقدمه هكذا فإننا بذلك نسيء للإسلام. كما أن الاقتصاد في الإسلام نظام فيه جزئيات كثيرة منها الزكاة والمواريث والصدقات .. الخ. ونقطة الضعف أننا ندرسه كأجزاء متفرقة كل جزئية في سُنَّة من سنوات الدراسة وفي كتاب منفصل. إن النظام الاقتصادي الإسلامي شامل ولا يجوز لنا أن نقدمه كأجزاء وإلا فقد معناه ، كذلك فإن النظام التربوي في الإسلام هو نظام شامل ومتكامل ووحدة واحدة تأتيه التوجيهات من الشق الاعتقادي .. والأمر ينطبق أيضًا على الفنون والآداب والإعلام .. الخ.

إننا يجب ألا ننسب أخطاءنا إلى الإسلام ولا يجب أن نعرض الإسلام كما يفعل صاحب المعرض الذي يجلس أمام معرضه بثياب رثه وشعر أشعث فيمر الناس فلا يدخلون معرضه. وإنما علينا أن نبدأ بأنفسنا فنعلمها قبل أن ندعو الناس.

التركيز على الجوانب الاجتماعية في الخطاب الدعوى

يقول د. حسن الشافعي رئيس الجامعة الإسلامية العالمية بباكستان سابقا:ً إننا ونحن ندعو المسلمين وغير المسلمين للإسلام علينا أن نهتم بالجانب الاجتماعي حيث وضع المرأة والأسرة الذي هو معيار صحيح لحضارة أي مجتمع .. لأن الأسرة أعظم مؤسسة إنسانية. وفي هذا المجال فإن المرأة المسلمة تتساوى مع الرجل من حيث القيمة الإنسانية والمسؤولية القانونية والحقوق والواجبات .. ولا يتعارض ذلك مع التخصص في العمل فلكل منهما مواهبه وملكاته .. وللأسف فإن وضع المرأة في مجتمعاتنا دائمًا ما يثار من وجهة نظر تغريبية .. لكننا نريد أن نثيره دائمًا في إطاره الإسلامي. وإذا كنا نرى الآن المرأة المسلمة أصبحت رئيسة وزراء فإننا مازلنا نسمع عن الفصل بين الرجل والمرأة في جامعاتنا وعن منع المرأة من أمور معينة على سبيل القهر. والأخطر من ذلك ما سمعناه أخيرًا في أفغانستان عن حبس المرأة تمامًا وعدم السمح لها بالخروج لا للتعليم ولا للعمل .. إن هذه تشوهات خطيرة في الوجه الحضاري الإسلامي.

ورغم السلبيات التي لدينا فما تزال الأسرة المسلمة متميزة وهو ما جعل الأمير تشارلز ولي عهد بريطانيا يقول للبريطانيين : تعلموا من الباكستانيين عندنا والمسلمين كيف يحافظون على أسرهم وكيف يوقرون كبيرهم ويرعونه ويعطفون على صغيرهم. إن الترابط والتكامل لا يزال يجعل الأسرة المسلمة هي الأكثر تماسكًا في المجتمعات المعاصرة لكن هناك اتجاه عالمي يحاول الانقضاض على هذه الأسرة المسلمة المتماسكة … ووضح ذلك تمامًا في مؤتمر السكان في القاهرة ثم في مؤتمر المرأة في بكين. حيث يريدون الترويح لأسرة بلا رجال ، وبلا بنات ،ولا علاقات وإنما أسرة من رجلين أو امرأتين .. الخ.

ورغم تميز الأسرة المسلمة فهي مهددة من الداخل أيضًا فهناك انحرافات وميل إما إلى اليمين أو اليسار والأمر في حاجة إلى إعادة بناء وتدعيم.

وأضاف د. حسن الشافعي قائلاً : إن هناك نقطة مهمة ينبغي مناقشتها في هذا البعد الاجتماعي وهي : الإرشاد الديني الرسمي والشعبي .. فعلى صعيد الإرشاد الديني الرسمي نجد أنه كان متميزًا حتى الأربعينات. أما الآن فهو مليء بالغوغائية والعاطفية والضحالة وهناك نقص خطير في إعداد الدعاة. إننا إذا كنا نريد تغييرًا في مجتمعنا فإن التغيير يأتي من المسجد ولذلك فلابد من إعطائه الاهتمام الذي يناسبه حتى يستطيع أن يحدث الأثر المطلوب.

وفي المجال الاجتماعي لا يفوتني التنبيه إلى نقطة هامة وعقبة تحول دون تقديم الوجه الحضاري للإسلام وهي: أن الفجوة الاجتماعية تزداد اتساعًا وسوف تتسع أكثر مع اتساق الخصخصة وقوانين السوق وسلطة المال التي ليس لها قلب ولا دين. ونحن هنا ننادي بالزكاة التي لو طبقت على ثرواتنا ومنها البترول وغيره لغيرت وجه المجتمع. إن قوانين السوق لا تبحث إلا عن الربح والكسب وليس لها أخلاقيات ولذلك فلابد أن نقيم من الإسلام رقيبًا عليها بنظمه وقوانينه.

ملامح أساسية يجب أن تسود الخطاب الدعوى الإسلامي

يقول د. أحمد هيكل وزير الثقافة المصري الأسبق: إن الدعاة إلى الإسلام حينما يخاطبون المسلمين أو غير المسلمين يجب أن يركزوا على عدة ملامح أساسية تفرد بها الإسلام عن كل النظم القديمة والحديثة وأول هذه السمات والمبادئ هي : الحرية … فالإسلام ركز على حرية الإنسان ذاتًا وعقلاً وضميرًا وعقيدة ما لم يركز عليها أي دين آخر.

و بالنسبة لتحرير الإنسان ذاتًا فإن الفقهاء والمفكرين المسلمين يجمعون على أن الأصل في الإنسان أنه حُرْ وأن العبودية طارئة لأسباب سياسية واقتصادية واجتماعية وعرقية .. والإسلام حاول أن يحرر الإنسان بوسائل كثيرة ولم يكن من الممكن حينما جاء الإسلام أن يحرر الرق دفعة واحدة لأنه كان سيسبب تخريبًا اقتصاديًا وكان سيرسي مبدأ عدم المعاملة بالمثل بالنسبة للآخرين الذين يسترقون في الحرب أسرى من المسلمين. لكن الإسلام شرع تحرير الموجود من الرقيق بأساليب كثيرة .. فكل الكفارات وكل القرب وكل السُنَنْ تقوم على أشياء كثيرة في مقدمتها فك رقبة. وأما بالنسبة لتحرير عقل الإنسان فكان ذلك بدعوة الإسلام الناس إلى التأمل والنظر وإعمال العقل وترك التقليد وترك اتباع الأهواء وذم اتباع الأقدمين .. ولقد سخر القرآن من ذلك سخرية كبيرة ووجه الناس التوجيه الذي يحرر عقولهم.

وبالنسبة لتحرير الضمير فقد شرع الله سبحانه الحلال والحرام وربى الضمير على أن هناك إلهًا يحاسب وعلى أن هناك جنة ونارًا وأنه لا يستوي الذين يصلحون والذي يفسدون.

و بالنسبة لتحرير عقيدة الإنسان فهي نقطة يقف الإنسان عندها مبهورًا دائمًا .. لأن الإسلام أكد على حرية العقيدة كما لم يؤكد دين ولا نظام. فالعقيدة في الإسلام حرة مائة في المائة .. وشعار الإسلام في هذا هو [ لا إكراه في الدين ] .. والذين يتوهمون أنهم يستطيعون تغيير عقيدة الناس بجد السيف مخطئون .. وكل ما ورد في ذلك من نصوص وممارسات تبتعد عن شعار الإسلام.

ويضيف د. أحمد هيكل أن هناك ملامح أخرى ينبغي أن يضمنها الدعاة في رسائلهم الدعوية ومنها المساواة. فالإسلام أول تشريع سوى بين البشر كافة تسوية مطلقة فلا ألوان ولا طبقات ولا أجناس ولا أعراق ولا أي شيء إلا التقوى.

إن الحضارات السابقة مثل الرومانية واليونانية وغيرها جعلت من الناس طبقات .. طبقة النبلاء .. وطبقة أصحاب الدماء الزرقاء .. وطبقة العمال .. وطبقة الفلاحين .. وكل طبقة لها قوانين خاصة. أما الإسلام فكان أول تشريع ألغى العنصرية والتي لم يستطع العالم أن يلغيها إلا في وثيقة حقوق الإنسان عام 1948. كما لابد من التركيز على ملمح العدالة المطلقة التي تصل إلى حد المبالغة حينما يقول الرسول الكريم : [والله لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطع محمد يدها] .. ولم نسمع نبيًا ولا حاكمًا ولا مسئولا قال مثل هذا الكلام. ولا نعرف مثل قول عمر بن الخطاب لأبي موسى الأشعري حينما ذهب إلى اليمن : [آسي بين الناس في مجلسك ووجهك حتى لا يطمع شريف في حيفك ولا ييأس ضعيف من عدلك]. والمساواة في الإسلام تصل إلى حد نظرة القاضي إلى المتقاضين وجلسة القاضي من المتخاصمين. فلا يجلس مقبلاً على واحد ومعرضًا عن الآخر ولا يجلس مبتسمًا لواحد ومكفهر الوجه للآخر. ومن هذه الملامح أيضًا : الشورى حيث يرفض الإسلام الحكم الشمولي المطلق ويرفضه الاستبداد بالرأي. وحسبنا أن نعلم أن رسولنا طولب بالشورى وهو نبي [ وشاورهم في الأمر

=============

#الوقف الخيري يحل المشكلات الاقتصادية في بلاد المسلمين

الأربعاء 28 ربيع الأول 1427هـ – 26 أبريل 2006م

الصفحة الرئيسة

- أستاذ يهودي يشيد بالوقف الإسلامي ويتعجب من إلغاء المسلمين له.

- الوقف حل عبقري وغير مستورد لكثير من مشكلاتنا.

- مطلوب إعادة الوقف وتطويره ليتصدى لمشكلاتنا العلمية والإنتاجية.

د. ليلى بيومي

مفكرة الإسلام: ظل نظام الوقف الإسلامي متفردًا في خصائصه ومقوماته عبر العصور .. وكان هذا النظام انعكاسًا حقيقيًا لما غرسه الإسلام في نفوس أبنائه من حب الخير ومحاربة شح النفوس. فرأينا مئات وآلاف الخيّرين الذين يوقفون أموالهم كلها أو جزء منها على الدعوة الإسلامية، أو على طلاب العلم ،أو على مجموعة من المساكين والفقراء، وكانت هذه الأوقاف تتمثل في الأراضي الزراعية والعقارات والمحلات وغيرها. إلا أنه مع تغير ظروف مجتمعاتنا وصل الأمر إلى حد اختفاء وإلغاء الأوقاف الخيرية في ظل الظروف الاقتصادية غير المواتية واتساع الفجوة بين الطبقات وازدياد أعداد الفقراء والمحتاجين.

فلسفة الوقف

يقول د. سيد دسوقي حسن أستاذ هندسة الطيران بجامعة القاهرة والمفكر الإسلامي إن منظومة الأعمال والأنشطة في أية دولة تتجه مع مرور الوقت إلى الجمود والجنوح إلى منطقة الأمان الاقتصادي بعيدًا عن الأعمال الريادية التي من شأنها أن تجدد شباب الأمة، والتي تحتاج بطبيعتها إلى روح المجازفة الحالمة. وفي مثل هذه الظروف تلعب فكرة الوقف دورًا أساسيًا في اجتياز حواجز الخوف الاقتصادي حيث تتيح المشروعات رصيدًا ماليًا يأخذ بيدها في أول الطريق ،ولا يخفى علينا الدور الكبير الذي قامت به فكرة الوقف في تاريخنا الإسلامي والخدمات الجليلة التي أدتها الأوقاف لمختلف مجالات الحياة.

والوقف نوعان : نوع سلبي متآكل كمن يوقف دارًا للفقراء فتبلى الدار مع الزمن وتنتكس قيمة النقود ويؤول الوقف في النهاية إلى لا شيء.

وهناك نوع من الوقف ينمو مع الزمن ويشب مع الأيام كمن يوقف المال على عمل إنتاجي من شأنه أن يساعد الناس على امتلاك قدرات إنتاجية يزيدون بها وقفهم ويجددون بها حياتهم. أو من ينفق المال ويوقفه حتى يمتلك الناس أدوات الإنتاج أو يمتلكون عملاً منتجًا أو خبرة أصيلة ،أو يحمل لهم أهل الخبرة من بلاد أخرى لينقلوا لهم خبرات بلادهم ، وكل ذلك يهدي في ميدان الحضارة إلى صراط مستقيم... وما نبتغيه هو وقف من النوع الثاني.

نوع منتج وليس نوعًا سلبيًا .. ونحن ندرك أن كثيرًا من أهل الخير في بلاد المسلمين يوقفون أموالهم على النوع السلبي وقليل منهم يوقف على النوع الثاني.

ويضيف د. سيد دسوقي إنه إذا كانت الحكومات والمؤسسات الرسمية تعاني مشكلات اقتصادية كبيرة لا تستطيع معها تحقيق ما يصبو إليه الناس فالمفترض أن يتدخل أهل الخير ليحلوا هذه المعضلة ويقدموا لمجتمعاتهم وينفقوا من أموالهم .. ولكن أين هم أهل الخير في بلاد المسلمين ؟ لقد انقطع زادهم فلم يعودوا ينفقون في أعمال الخير إلا قليلاً. وربما نعجب أنه في بلاد الفرنجة حيث يظن الناس أن الرأسمالية تنشب أظفارها .. لكننا نجد أن آلاف من المحسنين هناك يوقفون أموالهم على هذه الأعمال الخيرية .. وكل يوم تنشأ في بلادهم جمعيات خيرية لتنمية صناعات بعينها أو تعمل على ازدهار جامعات ومراكز بحوث علمية وتطبيقية. وعلى مستوى العالم توجد تسعون ألف جمعية خيرية منها اثنان وعشرون ألفاً في الولايات المتحدة وحدها تنفق ما يزيد على ثلاثين مليار دولارًا كمنح بحثية لتطوير العلوم والتكنولوجيا. ونحن – المسلمين – لا ملجأ لنا من القهر العالمي إلا أن نسعى بكل ما نملك لإيجاد الوقف الذي يساعد على الابتكارات وتنميتها.

الأوقاف من إضافات التشريع الإسلامي المثمرة

ويقول د. علي أبو المكارم عميد كلية دار العلوم السابق إن الأوقاف الخيرية تمثل في التاريخ الإسلامي رافدًا مهمًا من روافد بناء المجتمع والفرد معًا لأنها كانت تتيح للمجتمع الحصول على المال بوسائل اختيارية لتحقيق المصالح العامة كتعليم الطلبة والإنفاق عليهم خلال مرحلة دراستهم أو إنشاء المستشفيات أو الملاجيء فيما كان يسمى 'بالتكايا'. وكرصد الأموال لخدمة بيوت الله وتعميرها أو لمساعدة المحتاجين في كافة المجالات. ومعنى هذا أن الأوقاف الإسلامية بصورتها الصحيحة تتيح المساهمة الفعالة لأفراد المجتمع وتمكن المجتمع بالتالي من تحقيق التوازن الضروري في مجالات الإنفاق. ولقد كان ذلك كله سبيلاً للأفراد كي يشعروا بالرضا عن أنفسهم إذ ينفقون في سبيل الله ويخففون عن إخوانهم من الضعفاء والمحتاجين.

ومن الثابت تاريخيًا أن المساجد في العالم الإسلامي كانت تتلقى ريع ما يوقف عليها من عقارات وأراضٍ شأنها في ذلك شأن المستشفيات والتكايا وكان ذلك هو الذي يسر للمسلمين تقديم هذه الخدمات العامة منذ صدر الإسلام إلى مطلع أو أواسط القرن العشرين. وأظن أن إلغاء هذه الأوقاف والاستيلاء عليها قد ترتب عليه إحجام المسلمين القادرين على القيام بدورهم الذي قاموا به على مدى التاريخ .. وأحسب أن ذلك خطأ لا مفر من الاعتراف به ، لأنه حال دون مشاركة هؤلاء المسلمين مشاركة منظمة في رعاية مجتمعاتهم.

وليس صحيحًا ما يقال من أن الجهود الذاتية تستطيع أن تقوم بهذا الدور لأن هذه الجهود تفتقد الأساس الديني الذي يعطيها التجرد والفاعلية. وأرى أنه من الواجب الآن إعادة النظر في مسألة الأوقاف خصوصًا وأن الظروف الاجتماعية والاقتصادية تستدعي مزيدًا من المشاركة الجماهيرية وتقتضي من القادرين المساهمة الإيجابية في حل مشكلات المجتمع .. ولن يكون ذلك ممكنًا بصورة فعالة ونشطة إلا عن طريق الأوقاف الخيرية لأنها هي التي تمكن المسلم القادر من أن يضع أمواله في خدمة بيئته المحيطة به ومن أن يضمن استمرار الإنفاق منها بالشروط التي يراها دون أن تتدخل في ذلك إرادة الأجهزة الرسمية وما يعنيه ذلك من البيروقراطية.

فالاهتمام بالأوقاف الخيرية يمكن أن يترتب عليه في المستقبل كما ترتب عليه في الماضي اهتمام بأنماط معينة من التعليم أو بأشكال محددة من الرعاية الاجتماعية .. وهذا كله يتيح الفرصة بصورة إيجابية للحركة الاجتماعية لكي تحقق غايتها في إقرار السلام والطمأنينة بين أفراد المجتمع .. وهذا بالطبع غير ما يطالب به المسلم من الزكاة وما يجب عليه من الصدقات. وهكذا فإن الأوقاف الخيرية إضافة من إضافات التشريع الإسلامي لحل المشكلات الاجتماعية وتحقيق التوازن النفسي بين أفراد المجتمع من ناحية وبين الفرد والمجتمع كله من ناحية أخرى.

الأوقاف علاج للأنانية

أما د. أحمد عبد الرحمن أستاذ الفلسفة الإسلامية فيقول : إن المسلمين كانوا أذكياء حينما كانوا يوقفون أموالهم في شكل أراضٍ أو عقارات .. فالأرض لا تتبدد ولا يستطيع أحد أن يسرقها .. بينما لو كان الوقف في مشروعات تجارية لامتد إليها النهب والاختلاس. ونحن في هذه الأيام يجب أن تتكامل دعواتنا التربوية مع الإعلام والقيم السائدة في المجتمع. فالإعلام والفنون الموجودة الآن تخاطب الغرائز وتشجع على الأنانية وحب الذات .. أما العمل التطوعي فهو إنكار للذات وفيه حب الخير للناس .. والأوقاف الخيرية الإسلامية هي قمة العمل الخيري التطوعي الخالي من الأنانية.

ففي مجال التدابير الوقائية في الإسلام أو فيما يخص النواحي الأمنية فإننا نقسم الناس إلى ثلاثة أقسام : القسم الأول هو الإنسان الذي يعمل لنفسه على حساب الآخرين ويؤذيهم فهو يقتلهم ويسرقهم، والقسم الثاني هو الإنسان الذي يعمل لنفسه ولا يؤذي غيره ولكنه ليس على استعداد لمساعدتهم ، والقسم الثالث هو الإنسان الذي يعمل لنفسه ويساعد الآخرين.

وإذا تكاملت الأجهزة في المجتمع لتحبيذ النوع الثالث والعمل على انتشاره فسوف يؤدي ذلك إلى تقليل الجريمة واختفاء القضايا أمام المحاكم واختفاء الغش والتزوير والرشوة والتقاعس عن العمل وكلها مظاهر أنانية.

وهكذا فالوقف عمل متعدد الجوانب الاقتصادية والاجتماعية والأخلاقية والأمنية والتربوية .. فما أجمل أن يشعر الإنسان أنه يخدم الآخرين ويساعدهم ويخفف عنهم وما أعظم أن يشعر الإنسان أنه ذو قيمة في مجتمعه.

عالم يهودي يشيد بالوقف الإسلامي

أما د. محمد راغب أستاذ التاريخ الإسلامي فيقول إن البروفيسور اليهودي إسحاق رايتر ألَّف كتابًا عن نظام الوقف الإسلامي يقول فيه : إنه نظام مهم جدًا ولا يوجد مثله في العالم .. فهو يسمح بتداول الثروة .. هذه المعضلة التي استعصت على كل النظريات والفلسفات والثورات ويتعجب هذا الأستاذ اليهودي من تصفية هذا النظام الإسلامي المتميز بأيدي المسلمين أنفسهم.

ويضيف د. محمد راغب أن نظام الوقف الإسلامي يمكنه المساعدة الفعالة في مجال التعليم حيث يمكن وقف مدارس بكامل تجهيزاتها وكذلك عمارات كاملة لإسكان الطلاب .. كما يمكن أن يساعد نظام الوقف في منع تضخم الثروة وظهور الاحتكارات التي تعصف بالفقراء والمساكين. وقد ثبت بالتجربة أن التدخل الرسمي للدولة لا يجدي بل يدمر نظام الوقف.

ليتنا نفكر في إعادة نظام الوقف مرة أخرى فهو حل عبقري لكثير من مشكلاتنا وهو في نفس الوقت حل ذاتي وغير مستورد وغير مكلف.

تخيف العبء عن الدولة

ويؤكد د . رفعت العوضي رئيس قسم الاقتصاد بتجارة الأزهر أن إحياء شعيرة الوقف سيؤدي إلى تخفيف العبء عن الموازنة خاصة في مجالات التعليم والصحة والخدمات الاجتماعية والشبابية , وأن مجالات الوقف غير محددة ويمكن أن تشمل إقامة الصناعات الحرفية ومراكز التدريب علي الحرف والكمبيوتر والبحث العلمي وإقامة الطرق والمرافق , خاصة أنه لا يقتصر علي العقارات والأراضي ولكنه يمتد إلى الأموال المنقولة بل والخدمات .

فالوقف صدقة خيرية ذات تميز واضح كاستثمار مستمر , وهو يبعد الصدقة عن الاستهلاك خاصة أن مشكلة الأعمال الخيرية أنها تزيد الاستهلاك بينما الوقف لبناء مدرسة أو مستشفي أو طريق هو عمل خيري استثماري , وأن الوقف هو صانع الحضارة الإسلامية وانه كان السبب لعدم قيام وزارات للصحة والتعليم والبيئة والشئون الاجتماعية في عدد من الدول الإسلامية إلى عهد قريب لقيامه بوظائف تلك الوزارات .

ويشير د. العوضي إلى وجود فوضي حاليا بسوق الاستثمار في التعليم الخاص حيث يسترد رأس المال خلال ثلاث سنوات وهذه الربحية العالية مؤشر غاية في السلبية حتى إن إحدى الجامعات الخاصة حققت أرباحا غير موزعة مقدارها 200 مليون جنيه في عام واحد , بينما نجد أن جامعات غربية كثيرة مثل أكسفورد وكمبردج وهارفارد تقوم علي نظام الوقف .

ويقول د. رفعت العوضي إن توني بلير رئيس الوزراء البريطاني قد نجح في قيادة حزب العمال البريطاني من خلال برنامج الطريق الثالث وكان كلينتون من أنصار هذا البرنامج وهو برنامج يعتمد علي ساقين هما الكفاءة الاقتصادية والجدارة الاجتماعية وإذا كانت العولمة يمكن أن تحقق الكفاءة الاقتصادية فإن الوقف يمكن أن يكون أداة لتحقيق الجدارة الاجتماعية وهناك 12 دولة أوروبية اتجهت للطريق الثالث .

ودعا إلى استرداد الأزهر لأوقافه وهو ما يخفف العبء عن ميزانية الدولة التي تتحمل ميزانية جامعة الأزهر والتي بها 60 كلية جامعية , وقال إن الوقف كان سببا في استقلال الدعاة المفكرين خلال العقود الماضية , وحتى يتم تطوير الوقف فلا مجال لذلك إن لم نبدأ بتطوير قانون الوقف , وإذا كنا نتبع حاليا سياسة الخصخصة فلتمتد الخصخصة إلى وزارة الأوقاف ولتكن مشرفة وليس مالكة والتي تتسبب أيلولة الأوقاف إليها في إحجام القادرين علي الوقف .

الوقف تغلغل حياة المسلمين

ويشير د . محمد شوقي الفنجري أستاذ الاقتصاد الإسلامي إلى بعض المجالات التي امتد إليها نشاط الوقف خلال القرون الماضية ومنها المكتبات العامة ورعاية المخطوطات وإقامة البيمارستانات للعلاج ورصف الطرق وصيانتها وتجهيز العرائس الفقيرات بالحلي ورعاية النساء المختلفات مع أزواجهن وتطبيب الحيوانات والطيور والحدائق المخصصة ثمارها لعابري السبيل ومؤسسة نقطة الحليب لإمداد المرضعات بالحليب والسكر وإقامة أسواق التجارة ووكالاتها بالمدن وعلي طرق التجارة .

وإقامة مؤسسات الصناعة مثل السجاد والعطور والقناديل والورق والمنتجات الخشبية والزجاجية والأغذية والملابس , وإقامة الأفران للخبز والحمامات العامة للنظافة والعبارات لنقل الناس عبر الأنهار والترع وإقراض المحتاجين بدون عوض وإقامة المطاحن العامة لطحن الحبوب بالمجان وإنشاء القناطر والجسور علي الأنهار والترع وإقامة الخانات التي ينزل فيها المسافرون . وهو ما يشير لاتساع مجالات الوقف والتي يمكن أن تخفف العبء عن ميزانية الدولة. كما يمكن أن يمتد نشاط الوقف إلى كل المجالات التي يحتاجها المجتمع مثل البحث العلمي والتدريب والترجمة والإذاعات والصحف المتخصصة والأقمار الصناعية ومحو الأمية واستصلاح الأراضي والبطالة .

=============

#الأمريكان وجريمة التخريب الثقافي للعراق

السبت 10ربيع الأول1427هـ – 8 أبريل 2006م

الصفحة الرئيسة

محمد سيد بركة

مفكرة الإسلام: الأمة التي تنسى تاريخها محكوم عليها أن تبدأه من جديد. ونقصد بالنسيان الاغتراب الفكري والتغافل عن ربط الماضي بالحاضر وثقافة الأمم هي تاريخها.

ويقاس تقدم الأمم بمقدار اهتمامها بالثقافة ومن هنا أولت الحضارة الإسلامية الثقافة اهتمامًا كبيرًا، وكانت بغداد عاصمة الرشيد تباهي بلدان الدنيا بمكتباتها وعلمائها وظلت بغداد تؤدي دورها الثقافي في الحضارة الإسلامية بعد إزالة آثار التدمير المغولي، تكبو حيًنا وتنهض أحيانًا، ولكن كانت الكارثة الكبرى بعد سقوطها في التاسع من أبريل 2003 على أيدي شرذمة من شذاذ الآفاق. وبدأت عمليات سلب ونهب واسعة النطاق في بغداد وبعض المدن الأخرى.. وقد نقلت هذه العمليات للعالم كله عبر شاشات التلفزيون حيث قام الجيش الأمريكي فقط بحماية مباني وزارتي النفط والداخلية ومن ضمنها المخابرات العراقية وبقيت المؤسسات الأخرى بدون أية حماية.

وحقيقة الأمر أن الوضع الثقافي في العراق يشهد اليوم تراجعًا ثقافيًا واضحًا، ينعكس على مجالات واسعة في الحياة السياسية والاجتماعية، والفكرية، ويُفرز إشكاليات ثقافية معقدة ذات خصوصية عراقية، تجعل الواقع الثقافي العراقي يتحرك في فضاءات أدنى من فضاءات الثقافة في العالم العربي والإسلامي، رغم وجود طاقات ثقافية مبدعة تستند إلى عمق ثقافي أصيل يمتد إلى عصور تاريخية عريقة في الفكر والآداب والفنون. وهذا نتيجة لما خلفته الهجمة البربرية الأمريكية من دمار في كل شيء وهنا سنحاول أن نذكر بما فعلوه من تخريب وتدمير ثقافي لعل الذكرى تحفز وتشحذ الهمم وتدعو المتقاعسين إلى العمل الجاد من أجل إزالة غمة الاحتلال وعودة العراق إلى دوره الريادي في أمته الإسلامية

تراثنا القومي فقدناه

عاثت جموع من الناهبين نهبًا وتخريبًا في المكتبة العراقية في بغداد وأضرموا النار فيها، مخلفين وراءهم أكوامًا من الكتب والمخطوطات أحالتها النيران رمادًا وتراثًا ثقافيًا للبلاد قد ذهب طعمًا للنيران.

كما نهبت الجموع مكتبة الأوقاف، وهي المكتبة الإسلامية الرئيسة في العراق القريبة من المكتبة الوطنية وأضرمت النار فيها. وهذه المكتبة تحتوي على نسخ من المصاحف والمخطوطات الدينية التي لا تقدر بثمن.

ومَنْ يتتبَّع أخبار المكتبات القديمة في العراق يجد أنها متنوعة، فمنها ما هو خاص بالأشخاص، وما هو عام للجمهور، وبعضها ديني خُصّص للمعابد والأديرة والمساجد والمدارس، والآخر دنيوي تناول العلوم والمعارف بشكل عام، وبعضها حكومي له علاقة بالسجلات الرسمية والدواوين، والآخر شعبي تكون في الأسواق، وهذا واضح لكل من يتتبع أنباء المكتبات والكتب.

ويلعب تقادُمُ الزمن دورًا مُهمًّا في تقديم المعلومات الخاصة بالمكتبات، فكلما تَقَادَمَ الزمن تقلّ المعلومات، وكلما كان الزمن متأخرًا تتوفر لنا معلومات أوفر تُساهم بإلقاء الأضواء على المكتبات من حيث أنواعها ومحتوياتها. إن الحديث المفصل عن مكتبات العراق يتطلب مجلدات.

إنّ عيون اليهود شاخصة نحو محتويات الخزائن العراقية، وغيرها من خزائن بلاد العرب والمسلمين، وتضاف إلى الخزائن القديمة خزائن الكتب الإسلامية المخطوطة التي تطورت في العراق الذي ضم مكتبات الخلفاء العباسيين، وأشهرها: مكتبة المنصور، ودار الحكمة التي رعاها الخلفية هارون الرشيد وابنه الأمين ثم المأمون، وخزانة المعتضد، وخزائن: المكتفي، والراضي بالله، والقائم بأمر الله، والمقتدي بالله، والناصر لدين الله، والمستنصر بالله المعروفة بالمستنصرية، والمستعصم بالله، ودار المسناة البغدادية، وتضاف إلى خزائن الخلفاء مكتبات الملوك والسلاطين والوزراء والعلماء، وخزائن المكتبات العامة والخاصة، وأوقاف المساجد والتكايا والزوايا والرباطات، والمدارس وخاصة المدارس النظامية الشافعية التي انتشرت في رحاب العالم الإسلامي.

وقد تعرضت الكتب لآفات عديدة نذكر منها الإحراق بالنار، والإغراق بالماء، والوأد بالتراب، والغسيل والمسح، وقد شهدت على إغراق الكتب مأساة سقوط بغداد سنة 656هـ/ 1258م ، وما فعله جيش هولاكو، وتجلت مأساة حرق كتب مكتبات الأندلس في ساحة غرناطة سنة 1492م على أيدي أنصار فرديناندو وإيزابيلا.

والجديد في مآسي مكتبات التراث ما تعرضت له مكتبات العراق في ظل الاحتلال الأنجلوـ أمريكي من نّهْبٍ وسلب وإتلاف، وقد لفتَ انتباهَ الْمُهتمين بالتراث تحويلُ حركَةُ سير القوات الأمريكية نحو مدينة الكفل العراقية بشكل خاص، وكان بإمكانها الوصول إلى بغداد بطريق أقرب من طريق الكفل، وتلك الحركة تدلُّ على أن سببَ ذلك التوجه هو سرقة مخطوطة التلمود القديمة التي كانت في مكتبة الكفل، ولا يستبعد وجود لصوص آثار صهاينة مع القوات الغازية، وهم أصحاب خبرة في محتويات مكتبات العراق القديمة والحديثة.

لقد أسفر الغزو الأنجلوـ أمريكي عن مأساةً عراقية وعربية وعالمية شملت الأرواح والأبدان، واستهدفت التراث بشكل عام، وتراث المسلمين بشكل خاص، وساهم في نجاح هذه المؤامرة غباء مثقفي النظام العراقي الذين جمعوا الكثير من التراث في العاصمة بغداد مما سهّل إبادته لاحقًا على أيدي المعتدين، والدليل على ذلك دار صدام للمخطوطات التي جمعت فيها آلاف المخطوطات من كافة نواحي العراق خلال السنوات الماضية ثم سُرقَ منها ما سُرق، وحُرق ما حُرق، ولذلك فإننا ننبه بقية الدول العربية إلى الخطر الذي يتهدد تراثها المجموع، والذي لم يُصَوَّرْ، ولا توجد منه نسخ متعدِّدة، ونأملُ أن تُعاد المخطوطات إلى المكتبات الأصلية الموزعة في المحافظات والمناطق لعلها تسلم إذا ما حصل غزو خارجي أو وقعت فتنة داخلية، راجين أن يبقى تُراثنا برعاية العلماء، لا تحت تصرف اللصوص والعملاء.

المتحف الوطني العراقي في ذمة التاريخ

من الأماكن التي تعرضت إلى نهب وسلب وتركت جروحًا عميقة في ذاكرة العراقيين وجميع العالم هو سرقة المتحف الوطني العراقي حيث سرق من المتحف 170 ألف قطعة أثرية وكانت بعض هذه القطع من الضخامة في الحجم ما يستحيل سرقته من قبل أفراد عاديين وبرزت شكوك على أن تكون هذه السرقة بالذات منظمة. والحقيقة أن المأساة طالت أكثر من نصف مليون قطعة أثرية منقوشة أو منحوتة أو مخطوطة، ويوجد في الولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا وفرنسا وألمانيا أكثر من مليون قطعة أثرية قبل هذه الحرب الفظيعة.

'أنقذوا المتحف العراقي أنقذوه من أجل الإنسانية أنقذوا خمسة آلاف سنة من الحضارة والتاريخ'، هذا ما رددته صارخة والدموع تسيل من عينيها نضال أمين مديرة المتحف الوطني العراقي السابقة. وقالت نضال: 'يمكن للمرء أن يسرق الطعام من أحد ليأكله ويمكن له أن يسرق أي شيء ومن أي كان ليبيعه من أجل الحصول على مبلغ من المال ليؤمن حاجاته لكنه من غير الممكن أن يسرق الإنسانية كلها ويدمرها'. وتعمل نضال منذ أكثر من 30 عامًا في هيئة الآثار والتراث العراقية.

وقالت السيدة: إن المتحف العراقي يضم في قاعاته كنوزًا أثرية لا تقدر بثمن ابتداء من أقدم الحضارات، السومرية مرورًا بالبابلية فالأشورية فالإسلامية. واتهمت نضال الجنود الأمريكيين بالتقاعس عن حماية المتحف العراقي، قائلة: 'هذا أكبر دليل على فقدانهم للوعي الحضاري وجهلهم وتجاهلهم للتاريخ'. وكان المتحف الوطني العراقي قد تعرض لأعمال نهب وسلب وتخريب كبيرة لأيام متتالية عقب سقوط بغداد. وأصبحت خزانات العرض في المتحف الضخم الذي يقع على ساحة تسمى ساحة المتحف العراقي ينتصب في مواجهتها نصب يمثل بوابة عشتار البابلية والثور المجنح الأشوري، فارغة من محتوياتها من الآثار ومحطمة الزجاج على أيدي اللصوص والمخربين. ولم يكترث المخربون لوجود الصحفيين في المتحف حيث واصلوا عمليات النهب وهم يبتسمون ولم تنفع توسلات حارس المتحف أبو حسن لهم أن يتركوا المتحف حيث لم يبق فيه شيء يذكر مما يمكن حمله. وقال أبو حسن 'لقد ذهبت بنفسي إلى بعض الجنود الأمريكان الذين كانوا يوجدون قرب دبابتهم وتوسلت إليهم أن يمنعوا هؤلاء السراق ولو بإيقاف دبابتهم أمام بوابة المتحف أو بإرسال مجموعة من الجنود لحمايته ولكن دون جدوى'.

وبحسب شهود عيان فإن عملية نهب المتحف الوطني العراقي تمت على أيدي القوات الأمريكية، وإن العديد من الدبابات خرجت محملة بالعديد من الكنوز التراثية الثمينة، ثم أطلقت يد الغوغاء لاحقًا، لتأتي على ما تبقى من كنوز العراق وآثاره، التي ترجع لآلاف السنين.

القوات الأمريكية كانت تعمد إلى فتح أبواب المؤسسات والمراكز والجامعات والوزارات العراقية، أمام الغوغاء وجماعات النهب والسلب، ثم تبقى تراقب ما يحدث، لضمان أكبر تخريب ممكن لتلك المؤسسات.

وبما أن منظمة اليونسكو مسئولة عن حماية التراث الإنساني فقد تحركت بعد فوات الأوان ببرود لا يشبه حماسها الذي هزّ العالم عندما فجّرت طالبان تمثال بوذا في باميان.

تصفية العلماء

منذ بدء الاحتلال الأمريكي للعراق، وعلماء العراق وأساتذة جامعاته وعقوله المفكرة يعيشون مأساة مروعة تتوالى فصولها يومًا بعد يوم. حيث يتعرض هؤلاء العلماء والأساتذة إلى حملة تصفية شاملة منظمة، وتتعرض المؤسسات الأكاديمية والعلمية والجامعات إلى حملة تخريب وتدمير منظمة. الكل يعلم الأعداد المهولة من العلماء والأساتذة الذين تم اغتيالهم في ظل الاحتلال. وقد نشرت معلومات كثيرة في مختلف العالم عن فرق الاغتيالات الصهيونية التي تولت، بدعم مباشر من الاحتلال الأمريكي، تصفية هؤلاء العلماء والأساتذة، أو إجبارهم على الرحيل عن العراق. إن الأرقام المعلنة عن العلماء والأساتذة الذين تم اغتيالهم أو إجبارهم على الرحيل مفزعة. يكفي أن نشير هنا إلى المعلومات التي ذكرت في ندوة متخصصة عقدت بالقاهرة تشير هذه المعلومات إلى أن فرق الاغتيالات الصهيونية اغتالت 310 من علماء وأساتذة العراق. ولاحقًا تم الكشف عن أن أكثر من 500 من علماء العراق وأساتذته موضوعون على قوائم الاغتيال الصهيوني. وتشير أيضا إلى أن 17 ألفًا من العلماء والأساتذة أجبروا على الرحيل عن العراق منذ بدء الاحتلال. هذه التصفية الجماعية لعلماء العراق وأساتذته، ليست سوى وجه واحد من وجوه محنة قاسية مؤلمة يعيشها أساتذة العراق اليوم، وتعيشها جامعاته ومؤسساته الأكاديمية.

مؤخرًا أصدرت 'رابطة الجامعيين العراقيين' تقريرًا عن أشكال الاعتداءات على أساتذة الجامعات والمؤسسات التعليمية في العراق. التقرير كشف عن حقائق مأساوية، سواء عن صور وأشكال الاعتداءات على الأساتذة والجامعات، أو عن الجهات التي تنفذ هذه الاعتداءات.

ومن صور الاعتداءات التي رصدها التقرير: القتل، حيث تعرضت أعداد كبيرة من الأساتذة للقتل، وقيدت كل الجرائم ضد مجهول ولم يتم تقديم أي أحد للمحاكمة. ثم الاعتقال، حيث اعتقل الكثير من الأساتذة على أيدي قوات الاحتلال مع سرقة الأموال وتخريب الممتلكات الخاصة، ثم الخطف، حيث تعرض الكثير من أساتذتهم أو أبنائهم للخطف من قبل عصابات إجرامية منظمة. ثم الإقصاء القسري من المناصب الإدارية. وأيضًا تدخل جهات أجنبية مشبوهة في إدارة الاحتفالات وإقامة معارض الكتب. ثم انتهاك حرمة الجامعات والمؤسسات التعليمية من قبل القوات الأمريكية والحرس الوطني والميليشيات الخاصة. ويكشف التقرير أن هذه الاعتداءات وغيرها، لا تشنها فقط قوات الاحتلال، وإنما أيضًا قوى وجهات طائفية، وعصابات إجرام منظمة. أي أن علماء وأساتذة العراق محاصرون اليوم ومستهدفون من الاحتلال والعدو الصهيوني والميليشيات الطائفية والعصابات المنظمة في نفس الوقت. هي إذن حملة تصفية وإبادة منظمة لكل علماء وأساتذة العراق وعقوله. وهي حملة تخريب شاملة لكل مؤسساته العلمية وجامعاته. مفهوم بالطبع أن هذه الحملة هي جزء من حملة الإبادة الشاملة للعراق وتدميره في ظل الاحتلال. لقد ابتدأ مسلسل الاغتيال الأهوج بعد أيام من غزو العراق باغتيال الدكتور محمد الراوي نقيب أطباء العراق ورئيس جامعة بغداد، وهناك سلسلة طويلة من الاغتيالات والتصفيات قيل إنها تعدت الـ 1500 شخصية عراقية ما بين أستاذ جامعي وعالم ومهندس وطبيب وعالم دين وسياسي وصحفي وفنان، مازالت قضاياها مسجلة في مراكز الشرطة ضد 'مجهول'! ولا يشمل هذا الرقم الإحصائية التي نشرتها صحيفة طبية بريطانية عن مقتل 100 ألف مدني عراقي منذ الغزو على أيدي قوات الاحتلال. وإذا ما أضفنا إلى هذه القائمة، أعداد الآلاف من العراقيين من أصحاب الكفاءات ممن اضطرتهم الظروف لمغادرة العراق والهجرة إلى حيث الأمان، وكذلك الآلاف ممن شملتهم قرارات هيئة 'اجتثاث البعث' سيئة السمعة لنعرف أن هناك مخططًا لاستنزاف العقل العراقي بالاغتيال مرة وبالتهجير مرة وبالتجويع تارة أخرى..

الأمين العام لرابطة أكاديمي ومثقفي العراق اتهم 'الموساد' الصهيوني بالوقوف وراء اغتيالات علماء العراق، وأن قرارات فصل العلماء العراقيين من وظائفهم وضعت في تل أبيب بهدف الاقتصاص من منفذي برامج العراق العلمية.. وقال: إن معظم الضحايا هم ممن لم يكونوا محسوبين على النظام السابق مما يجعل تصفيتهم ترتبط بمخطط يهدف إلى تحطيم مؤسسات العراق الوليدة مشيرًا إلى أن الهدف هو قتل الخلايا النوعية في جسد المجتمع العراقي لمنعه من مواصلة مسيرة التطور والنمو. وأكدت أوساط عراقية مطلعة في بغداد أن الموساد الإسرائيلي طلب من المخابرات الأمريكية ترك ملف العلماء العراقيين برمته إلى عملاء الموساد في العراق، مشيرين إلى أن الموساد يريد تهجير هؤلاء العلماء أو اغتيالهم إذا رفضوا التعامل معه.

وبحسب مصادر إعلامية فإن العشرات من العلماء والكفاءات العلمية العراقية بدءوا بالفعل بمغادرة بلادهم للنفاد بجلدهم من التصفيات الجسدية التي تنفذ أحيانًا لأسباب تتعلق بوجهات النظر والآراء السياسية، فضلاً عن أسباب أخرى تتعلق بتدني أجورهم التي يقولون: إنها لا تتناسب مع شهاداتهم العلمية ولا مع الظروف المعيشية.

الجنرال مارك كيميت الناطق الرسمي باسم قوات الاحتلال الأمريكي صرح في مؤتمر صحفي يوم 2/5/2004 أن عدد الذين تمت تصفيتهم ممن وصفهم بذوي الياقات البيض من الطبقة المتعلمة جاوز الألف شخص منذ الاحتلال. وكان الصحفي البريطاني روبرت فيسك، قد كتب مقالة في الإندبندنت يوم 15/7/2004 عن ظاهرة اختطاف واغتيال الأكاديميين العراقيين. وقال فيسك: إن المغول، حولوا ماء نهري دجلة والفرات للسواد عندما دمروا كل ثقافة العراق في ذلك الوقت. ومنذ الاجتياح الأنجلو ـ أمريكي، يقول الكاتب: تم اغتيال عدد كبير من أكاديميي الجامعات.. ويقول الكاتب: إن معتدين مجهولين قاموا بذبح عميدة كلية القانون بالموصل وزوجها في فراشهما، وهي القصة التي لم تجد من يتحدث عنها في الإعلام الغربي، كما يقول فيسك. ويتساءل هنا عن الجهة التي تقف وراء عمليات القتل هذه، مستبعدًا أن يكونوا من الطلاب الغاضبين علي أساتذتهم. ولا يستبعد أن يكون الفاعلون من الذين يتصيدون البعثيين، مع أنه غير متأكد، حيث يقول: إن معظم الأساتذة في الجامعات الذين أجبروا على الانضمام للبعث لم يكونوا سوى حملة بطاقة انتساب لا أكثر ولا أقل، بل إن رئيس جامعة بغداد محمد الراوي الذي اغتيل العام الماضي، يعتبر رجلاً إنسانيًا وليبراليًا. ومع ذلك فالأساتذة في الجامعات يراقبون أبواب غرف المحاضرات ومكاتبهم بحذر، تمامًا كما يفعل طلابهم. خاصة إن الذين يقومون بالعمليات لا يهتمون بوجود طلاب في الحادث، فالدكتور صبري البياتي، أستاذ الجغرافيا قتل أمام طلابه، على باب الجامعة. وأشار أحد زملائه للمكان الذي اغتيل فيه، مشيرًا إلى أن طلابًا شاهدوا القاتلين، ولم يكن بمقدورهم فعل أي شيء على حد قول فيسك.

أحد أساتذة الجامعة علق على اغتيال الدكتور عبد الرزاق النعاس الأستاذ في كلية الإعلام أمام مبنى كليته: إن الكادر التدريسي بات ممزقًا بين واجباته العلمية والوطنية وبين خوفه من رصاصة غادرة تترصده لافتًا إلى أن استهداف الكفاءات العلمية بات ظاهرة تؤكد وجود جهات منظمة، تسعى إلى إفراغ العراق من عقوله العلمية وخبراته.

إن العمليات التصفوية تجري وفق مخطط متقن، وتستهدف العقول العلمية بغض النظر عن الانتماء الطائفي، وإن كانت الغالبية العظمى ممن تم اغتيالهم من أهل السنة، وتشير أصابع الاتهام إلى جهات مدعومة من إيران تقوم بتنفيذ مسلسل الاغتيالات، بمسدسات مزودة بأجهزة كاتم صوت متطورة، وبخاصة حملات التصفية التي استهدفت كبار الضباط الطيارين العراقيين ممن شاركوا في الحرب العراقية الإيرانية، حيث بلغ عدد من تمت تصفيتهم 28 ضابطًا من رتبة عقيد وعميد ولواء. ويقال: إن الاختيار وقع على الذين نفذوا ضربات جوية على موانئ إيران الخليجية في الثمانينات، وبخاصة في جزيرة خرج التي كان لها أثر فاعل في اضطرار إيران لوقف القتال آنذاك.

رابطة الأساتذة الجامعيين أعلنت أن أكثر من 182 أستاذًا جامعيًا ومحاضرًا اغتيلوا خلال السنوات الثلاث الماضية، لائحة الأسماء التي طاولها رصاص مجهولين تظهر الدرجات العلمية المختلفة والتخصصات المتنوعة، ما يؤكد أن الجهات التي تقف خلف هذه الاغتيالات لا تسعى إلى تصفية أسماء أو تخصصات بعينها، فالقائمة تضم علماء في الطب واللغة والفنون والعلوم وغيرها. ومن المؤلم وقوف الحكومة وأجهزتها الأمنية عاجزة إزاء ما يواجهه الأساتذة من مخاطر واكتفاؤها بلعب دور المتفرج على ما يجري دفع الكثير من الكفاءات العلمية إلى الهجرة أو الانتقال من مدينة إلى مدينة داخل العراق، والانزواء بعيدًا عن الأضواء.

إن تخريب العراق وتصفية العقول العراقية هو الهدف الأساس لهذه الحملات، وأن سلطات الاحتلال والمخابرات المركزية والموساد الإسرائيلي والمخابرات الإيرانية كلها متورطة في التصفيات إضافة لميليشيات الأحزاب التي جاءت مع الدبابات الأمريكية. ويشير العديد من المحللين السياسيين بأصابع الاتهام إلى 'الموساد' الإسرائيلي الذي يتولى ملف هؤلاء العلماء، ويقود حملة لاجتثاثهم أو تهجيرهم أو اغتيالهم خشية أن يهاجروا إلى دول عربية أو إسلامية، مؤكدين أن ذلك المخطط الإجرامي أصبح أمرًا معروفًا ومكشوفًا، وقد أشارت له الكثير من وسائل الإعلام الغربية.

وفي النهاية

نرى أن سقوط بغداد يشبه السقوط الذي تم قديمًا على يد التتار، وكذلك السقوط الذي تم لغرناطة آخر ممالك الأندلس، ولعله كان قبل سقوط بغداد الحديث، كان هناك سقوط ثقافي، ربما كان سقوط المدينة أثر من آثار هذا السقوط والاضمحلال الحضاري في الأمة كلها، ولن يظهر أثر سقوط بغداد بصفة سريعة إلا في بعض القصائد والمقالات والتحليلات الفكرية والسياسية، لكن هذا التأثير سيظهر تباعًا بعد ذلك في بعض الإشكال الإبداعية من رواية ومسرحية ورسائل جامعية. وهذا السقوط متوقع لأنه مخطط له ومقصود، لأن هؤلاء يعرفون جيدًا مكامن التقدم والثقافة والحضارة لدينا، كما حدث قبل غزو نابليون لمصر، فقد كانوا يعرفون كل شخصية علمية وكل أثر مرموق، كما يعرفون أن هذه الأمة لن يصلح أمرها بهذا العبث الحضاري، لأن ما تملكه هو كنوز للإنسانية، وليس ملكًا لها وحدها، وإنما للإنسانية كلها.. هناك أشياء كثيرة ضاعت منا ولا تعوض، لكننا تعودنا على هذا، فنحن منذ فترات طويلة نتعرض لأزمات متوالية. وإنني مدرك أن هذه الأمة رغم ما يحيطها من مصاعب وإحباطات ستعاود نهضتها مرة أخرى وربما لن يراها جيلنا لكنها بالفعل قائمة.

=============

#فقه التغيير .. دراسة جديدة لفكر مالك بن نبي

الاثنين 5 ربيع الأول1427هـ – 3 أبريل 2006م

الصفحة الرئيسة

مفكرة الإسلام : مازال فكر مالك بن نبي يشكل محور اهتمام لكثير من الكتاب و الباحثين نظرا لما يكتسبه من أهمية و عمق و متجددة ، بحيث صدر مؤخرا عن عالم الأفكار كتاب جديد يتناول فقه التغيير عند مالك بن نبي لعبد اللطيف عبادة ، تعرض من خلاله إلى محاولة الرائدة للمفكر في فلسفة التغير و الثورة ، هذه الفلسفة التي ارتبطت حسب الكاتب بأصول سلفية سليمة و تمكنت من إبراز الكثير من عيوب المجتمع الإسلامي المعاصر و تناقضاته التي تكف نشاطه و تشل فاعليته.

فبعد فصل كامل خصصه الكاتب للتعريف بحياة مالك بن نبي و آثاره و فكره استعرض في ثمانية فصول أخرى دور العلم و العلماء في تحقيق ما أسماه بالإقلاع الحضاري في نظر المفكر و تقديم نقد و تقويم مناهج الحركات الإسلامية المعاصرة في التغيير على ضوء فكره ليركز بعدها على منهج التغير عند بن نبي الذي كان يرى بأنه لا يمكن تغير العالم دون تغيير نفسية الإنسان لأن نفسية الإنسان ليست مجرد انعكاس لما يحدث في العالم من تغييرات مادية، بل هي المحرك للتغيير سلبا و إيجابا. و كذا التصورات التي قدمها بن نبي للتجديد الفكري و السياسي في العالم الإسلامي و منهجه في تحليل و غرس بعض القيم السياسية من الحرية إلى التغيير. كما طرح المؤلف قضية الإسلام و التنمية بين بن نبي و بعض رواد الفكر الجزائري المعاصر من بينهم أحمد طالب الإبراهيمي، عبد الله شريط، مولود قاسم ، عبد المجيد مزيان ، وألقى الضوء على المذهب الاجتماعي لبن نبي في تفسير الثورة تفسيرا إسلاميا، مشيرا أن المفكر تمكن من فهم الثورة الجزائرية أحسن من غيره ذلك لأن منهجيته يضيف الكاتب كانت متحررة من المذاهب و الأفكار المسبقة ليستعرض في خاتمة بحثه الذي قدمه مجموعة من النقاط لأساسية في فكر بن نبي من بينها: أن الحضارة ليست تمدنا عند صاحب كتاب آفاق جزائرية ، بل هي شرط مادي و معنوي ، كما أن الحضارة بالنسبة له هي التي تصنع منتجاتها و ليس العكس و بمعنى أدق الاستيراد لا يولد حضارة و لا يمكن حل مشكلة الحضارة بالتقليد ، أما التغير الاقتصادي فلا يمكن أن يحصل حسبه إلا باستثمار ما في البلاد من طاقات ، كما يعتبر الثقافة مجموعة الصفات الخلقية و القيم الاجتماعية التي يتلقاها الفرد منذ ولادته كرأسمال أولي و حركة التغير إنما تنبثق حسب المفكر من الثقافة بهذا المفهوم ، إلى جانب اقتراحه المتعددة لمواجهة السيطرة الغربية و الدعوة إلى مواجهة الآثار الوخيمة للصراع الفكري و على إنشاء علة اجتماع خاص بالعالم الإسلامي و الرجوع للدعوة الإسلامية التي أحدثها ظهور الإسلام في الجزيرة العربية ... داعيا في الأخير إلى ضرورة التمحيص أكثر في فكر مالك بن نبي وإعادة قراءته على ضوء المعطيات الجديدة الداخلية و الخارجية في عصر العولمة و الكوارث التي حلت بالعالم الإسلامي.

===========

#خمس مؤامرات كبرى على الإسلام .. أخر ما كتبه أنور الجندي

الثلاثاء 7 صفر 1427هـ – 7 مارس 2006م

الصفحة الرئيسة

مفكرة الإسلام : صدر عن دار الاعتصام في القاهرة كتاب: الضربات التي وجهت للانقضاض على الأمة الإسلامية .. خمس مؤامرات كبرى على الإسلام من فجر الإسلام وحتى الآن، للكاتب والمفكر الإسلامي أنور الجندي.

يعد هذا الكتاب أخر ماكتبه الجندي حيث يحلل فيه المؤامرات الكبرى على الإسلام من فجره وحتى الآن ..فقد جاء الإسلام ليكون حدا فاصلا في التاريخ الإنساني بين عصر الأديان وعصر الدين العالمي الخاتم برسالة القرآن وقيادة محمد صلى الله عليه وسلم ، حاملا رسالة التوحيد الخالص ليخرج البشرية من الظلمات إلى النور .

وقد جاء كتاب 'أنور الجندي' في تسعة أبواب كان عنوان الباب الأول : من جبهة بيزنطية إلى نهاية الحروب الصليبية . وأشاد فيه إلى أن أول أعمال الغرب المسيحي في مواجهة الفتح الإسلامي الزاحف هو العمل على صده ووقفه وتحطيم خطته التي كانت تتمثل في تحويل البحر الأبيض المتوسط إلى بحيرة إسلامية ، وكانت هناك جبهتان : الأولى هي بيزنطة ، والثانية : هي الأندلس .

وتحدث المؤلف عن الأحداث الكبرى فتحدث عن معركة ملاذكرد [ 463 هـ – 1071 م ] والحملة الصليبية الأولى [ 494 هـ – 1096 م ] ومعركة حطين [ 583 هـ – 1187 م ] ومعركة عين جالوت [658 هـ – 1259م]وآخر الحروب الصليبية [690 هـ – 1291م] .

أما الباب الثاني فتناول: الزحف المغولي التتري على أرض الإسلام من سقوط بغداد إلى نصر 'عين جالوت' إلى إسلام 'بركة خان' . وقام بتحليل الأحداث الكبرى مثل دخول قوات المغول إلى بغداد [656 هـ – 1257 م ] وانتصار جيش مصر على جحافل التتار [ 658 هـ – 1260 م ] وحملة التتار على حلب في نفس العام ثم الاستيلاء على أنطاكية [666 هـ – 1268 م ] .

كما تناول الباب الثالث : 'جهاد المماليك في مواجهة خطر الصليبيين والتتار' وبين فيه أن هذه المرحلة العاصفة التي تفجرت فيها المؤامرات على الإسلام كشفت عن عناصر جديدة من المسلمين حملت لواء الدفاع عن الإسلام والجهاد في سبيله والاستشهاد من أجله تتمثل في: السلاجقة والأكراد والمماليك ، فمن السلاجقة ظهر 'عماد الدين زنكي' و'نور الدين محمود' وكان دورهما في مواجهة الحروب الصليبية قويا وبارزا ، ومن الأكراد ظهر 'صلاح الدين الأيوبي' الذي استرد بيت المقدس من أيدي الصليبيين ، ومن المماليك 'قطز' و'الظاهر بيبرس' و'قلاوون' و'الأشرف بن قلاوون' وكان دور المماليك قويا وممتدا وحاسما فقد استطاعوا بعزيمة جبارة تصفية نفوذ التتار والصليبيين وتحقيق أكبر نصر في هذا المجال .

'عصر الإنقاذ '

يعد كثير من المؤرخين عصر المماليك بأنه عصر الإنقاذ فهم الذين أنقذوا الحضارة الإسلامية من الدمار العام على أيدي المغول والتتار حين حطموا قواتهم في عين جالوت ، وأنهم أنهوا الحكم الصليبي في بلاد الشام وأحيوا الخلافة الإسلامية وجعلوا مركزها القاهرة .

وكذلك كان الظاهر بيبرس أبرز هؤلاء الأبطال فقد قاد معركة عين جالوت مع قطز ثم انتزع صفد ويافا والشقيف وأنطاكية من 'الإفرنج' ثم أقام منهج الإصلاح الاجتماعي على شرعة القرآن .

كما تميز عصر المماليك بظهور الموسوعات الكبرى في الأدب والنحو وعلم الحديث والفقه والتاريخ ففي عهدهم ظهرت الموسوعات : ' صبح الأعشى للقلقشندي ، ولسان العرب لابن منظور ، والفتاوى لابن تيميه ، ووفيات الأعيان لابن خلكان ، والبداية والنهاية لابن كثير ، وسير أعلام النبلاء للذهبي ، والنجوم الزاهرة لابن تفرى بردى '.

في الباب الرابع : 'من الأندلس إلى قلب أوروبا' ، تناول المؤلف الأحداث الكبرى ومنها عبور طارق بن زياد نهر الزقاق [ 92 هـ – 711 م ] وسير عبد الرحمن الغافقي في جيش إلى فرنسا [ 110 هـ – 732 م ] ، كما تناول الغزوة لروما من مسلمي الأندلس وشمال إفريقيا وكريت بقيادة 'يوسف بن تاشفين' [ 479 هـ 1088 م ] وتأكيده على إسلامية الأندلس إلى عام [ 897 هـ – 1492 م ] .

في الباب الخامس : 'تطويق عالم الإسلام' يؤكد الجندي – رحمه الله - على مقاومة المسلمين عمليات التنصير والصمود في وجه الاجتياح، وغدر الحكام الجدد، واستمرار المقاومة من عام 1492 إلى عام 1608 م عندما قام الأسبانيون بطردهم نهائيا حين جمعوا مئات الألوف منهم في عملية تهجير بشعة وقذف بهم إلى الشاطئ الآخر [تطوان والجزائر وتونس] وحيل بين الأبناء والآباء والأمهات في ذلك العصر، كوسيلة من وسائل مطاردة المسلمين ومحاولة حصارهم للقضاء على الإسلام نفسه .

في الباب السادس : ' من فتح القسطنطينية إلى سقوط الخلافة' تحدث المؤلف عن ولادة الدولة العثمانية [ 687 هـ – 1288 م ] والهجرة إلى سواحل المغرب ودخول الأتراك أوروبا ومحاصرة العثمانيون لفيينا ، كما تحدث عن عزل السلطان عبد الحميد عام 1908 م .

ولا شك أن الدولة العثمانية في التاريخ الإسلامي دولة مفترى عليها ، كما أطلق عليها الدكتور عبد العزيز الشناوي في مؤلف يحمل هذا العنوان . فقد شكلت الدولة العثمانية منذ ظهورها خطرا متزايدا على أوروبا وتصدت للوجود البرتغالي في الخليج وفي المياه الشرقية وساندت مسلمي الأندلس الذين تعرضوا للاضطهاد الأسباني وحررت طرابلس الغرب وتونس والجزائر من الاحتلال، وسيطرت بعض الوقت على الملاحة في البحر المتوسط ، كما ساندت 'مارتن لوثر' بوصف مذهبه أقرب إلى التوحيد الإسلامي من المذهب الكاثوليكي .

وفي الباب السابع : 'الآن انتهت الحروب الصليبية' ، انتهت الحروب الصليبية بهزيمة قوى الغرب عام 1291 م وانسحابهم إلى بلادهم مدحورين ، ولكن الاستعمار ظهر بشكل آخر منذ قيام الحملة الفرنسية إلى مصر وبداية مرحلة النفوذ الأجنبي والسيطرة على العالم الإسلامي .

أما الباب الثامن : تناول سقوط القدس في أيدي الصهيونية ، ثم تحدث في الباب التاسع : عن أبعاد المؤامرة على الإسلام فتحدث عن الحملة الفرنسية على مصر 1798 م، ودخول الإنجليز القدس 1917 م، وإحراق المسجد الأقصى 1969 م، ولا تزال المؤامرة على الإسلام وبيت المقدس مستمرة .

كتاب أنور الجندي كتاب قيم يستحق القراءة والتأمل خاصة وأن صاحبه كاتب كبير له دور رائد في إيقاظ الوعي لدى شباب الصحوة الإسلامية في نهاية السبعينات وبداية الثمانينات من القرن الميلادي، ومؤلفاته دورها جلي في تصحيح العديد من المفاهيم المغلوطة والمنتشرة.

=============

#مفكرة الإسلام تحاور المفكر د. جعفر شيخ إدريس

السبت 4صفر 1427هـ – 4 مارس 2006م

الصفحة الرئيسة

- الحركات الإسلامية نجحت في إحداث ثورة اجتماعية.

- حينما تكون المعركة بيننا وبين الغرب فكرية فنحن الغالبون.

حاوره في القاهرة/ محمد سيد بركة

مفكرة الإسلام: د. جعفر شيخ إدريس أحد أعلام الدعوة والفكر في العالم العربي والإسلامي، وله أثره في مسيرة العمل الإسلامي.

تخرج في كلية الآداب [قسم الفلسفة] بجامعة الخرطوم عام 1961 وعين بها معيدا. ترك الدراسة واستقال من الجامعة ليشارك في العمل السياسي الإسلامي. وكان مرشح جبهة الميثاق بمدينة بور تسودان. ثم عاد للجامعة مرة أخرى عام 1967 فحول المشرف رسالة الماجستير إلى دكتوراه فأكملها في عام 1969 وحصل على الشهادة عام 1970 بعد أن ابتعثته الجامعة إلى بريطانيا مرة أخرى.

عمل في قسم الفلسفة جامعة الخرطوم 1967 - 1973 وقسم الثقافة الإسلامية جامعة الرياض [الملك سعود حالياً ]، ومركز البحوث بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية بالرياض، وكلية الدعوة والإعلام جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، وكان يدرس طلاب الدراسات العليا بالجامعة مواد العقيدة والمذاهب المعاصرة. كما أشرف على الكثير من رسائل الماجستير والدكتوراه.

وهو الآن مدير لقسم البحث بمعهد العلوم الإسلامية والعربية في أمريكا ومدير الهيئة التأسيسية للجامعة الأمريكية المفتوحة.

ألقى أحاديث ودروس ومحاضرات في كثير من الجامعات والمراكز الإسلامية والمساجد في كثير من بلدان العالم في أفريقيا وآسيا وأوروبا وأستراليا وأمريكا الشمالية ودول الكاريبي وأمريكا اللاتينية.

شارك في كثير من البرامج التلفازية والإذاعية في عدد من الدول، كما أشرف على رسائل علمية لدرجة الدكتوراة والماجستير، وشارك ببحوث قيمة في عدد كبير من المؤتمرات الإسلامية والعالمية.

وما إن علمنا بوجوده في مصر حتى هرعنا للقائه والاستئناس برؤاه الثاقبة حول مايجري في عالمنا من أحداث من وجهة نظر إسلامية.

** بعد الهجمة الشرسة والتطاول على الرسول الكريم في رسوم وأفلام.. هل الصورة النمطية للإسلام في الغرب ما زالت أسيرة فتح القسطنطينية والأندلس والحروب الصليبية والاستعمار الأوروبي لبلداننا في العصر الحديث؟

* هنالك تصور صحيح للإسلام في الغرب يعرفونه ولا يرضونه وهو أنه في الوقت الذي سيطرت فيه العلمانية على الغرب وصارت تقريبا هي الأيديولوجية وأن الدين صار في زاوية من الزوايا .. لكن العالم الإسلامي يعتبر الدين مسألة جوهرية هذه يعرفونها .. عامتهم قد يستغربون لأنه بسبب سيطرة العلمانية صار من المألوف عندهم أن يسخر الناس من الخالق والأنبياء ..تجد السخرية في قصصهم وشعرهم وأدبهم ونكاتهم .. ولذلك يستغربون من هبة العالم الإسلامي واستنكاره الشديد لتلك الرسوم المقيتة .. هم -أقصد الغرب- يعتقدون أن ما حدث عندهم نوع من التطور وأننا ما زلنا متخلفين ولا نفهم مسألة حرية التعبير .. ما زلنا متدينين جامدين.

الأوربيون عندهم نوع من العصبية المقيتة حيث يرون أنهم هم المقياس لكل شيء .. تاريخهم أحسن تاريخ .. أدبهم أحسن أدب .. فكرهم هو الفكر فهم الموجودون ولا يوجد في الكون غيرهم .. إنهم ينظرون إلى الآخر بكل صلف وعنجهية واحتقار وهذا نوع من العصبية البغيضة.

إن مفكريهم يقولون إن التخلف في حقيقة الأمر ليس تخلفا في كل أمر ..

وأقول وغيري يقول ولا ينكر أنه حدث عندنا تخلف في أهم مزايا العصر وهي العلوم التجريبية وما نتج عنها من تقدم تقني هائل أدى إلى تطور اقتصادي وعسكري غير مسبوق...لكن هذا لا يعني أن ينظر إلينا الأوربيون على أننا متخلفون.. فعندما جاء النبي صلى الله عليه وسلم كان العرب متخلفين لدرجة لا تقاس حيث قيل كان نصيب أحد المسلمين من الغنائم في إحدى الغزوات شيئا ثمينا فطلب ألف درهم فيه فقيل له إنه يساوي أكثر من ذلك فقال لا أعلم بعد الألف شيئا ..

وما كان من ناحية العمران عندهم لا يساوي شيئا بجانب حضارتي الفرس والروم .

أما عن حرية التعبير في الغرب فليست مطلقة، وتعليل الغرب ما يفعله بدعوى حرية التعبير تعليل سخيف.

أود أن أقول إن تعليل الغرب لما يفعله من إساءة بأن الغرب لايعرف سقفا لحرية التعبير ..هذا تعليل مردود عليه ولون من البهتان والتزييف.

إن إساءات الغرب وافتراءاته ضد الإسلام ورموزه سابقة على النهضة الأوربية حيث بدأت منذ العصور الوسطى وقبل أن يعرف الغرب مايسميه الآن حرية التعبير ..وهناك أمر آخر هو أن الغرب بدعوى العلمانية يتحدث عن أن حرية التعبير مطلقة وهذا كما قلت آنفا تعليل سخيف.

خذ مثلا التشكيك في المحرقة، فبالأمس القريب تمت محاكمة مؤرخ بريطاني وحكم عليه بالسجن لمدة ثلاث سنوات لأنه شكك في المحرقة رغم إعلانه التراجع عن كلامه، ومن قبله نذكر ما حدث مع جارودي. ثم يا أخي إن الأمير تشارلز قدم شكوى ضد جريدة لأنها نشرت بعض كلام كتبه في مذكراته الخاصة فأين حرية التعبير المطلقة ..وهكذا عندهم أمثلة كثيرة.

في حرية التعبير لا يوجد مجتمع يمنع التعبير منعا كاملا ولا يبيحه إباحة كاملة وإنما الخلاف أين توضع الحدود.. وهذا يعتمد على قيم وتصورات الناس.

ففي الغرب لا يضعون قيودا على الكلام الفاحش ولا يضعون حدودا للطعن في الأديان حتى دينهم، حتى أن جماعة منهم قالوا أن المسيح شاذ.

** بدأت الحركة الإسلامية تجني بعض ثمار جهادها الطويل متمثلا ذلك في تمكن بعض الحركات الإسلامية كحماس في تشكيل حكومات، واشتراك في مجالس نيابية ...ألا ترون ذلك مقدمة لنجاح أكبر؟ أو ما تفسيركم لذلك؟

* أولا أظن أنه من عدم الإنصاف للحركات الإسلامية أن يقاس نجاحها بمجرد وصولها إلى السلطة.

الحركة الإسلامية بكل أنواعها نجحت نجاحا كبيرا في أنها أحدثت ما يسميه الغربيون ثورة اجتماعية إسلامية يعني في سلوك الناس وهذا هو الذي ترتب عليه النجاح الآخر وهو الوصول إلى الحكم.

هل يكون هذا بداية لنجاح أكبر ؟ لست متأكدا فمازال الغرب مسيطرا على العالم. قد يرجع الغرب مرة أخرى ويعود إلى تأييد النظم القهرية ما دام النظام الديمقراطي سيأتي بنظم إسلامية وأود أن أقول إن الغرب الآن، ولا سيما أمريكا، يعتقدون أن الإسلام خطر على مصالحه القومية فلن يسمحوا إلا بنجاح محدود ومشاركة محدودة .. وموضوع حماس كان مفاجأة لحماس نفسها.

** الإعلام الأمريكي معروف بكذبه وترويجه للأباطيل خاصة إذا كان الأمر يتعلق بقضايا عربية وإسلامية .. وكمعايش للمجتمع الأمريكي ما هي نسبة الأمريكان الذين يؤيدون حقوقنا العربية والإسلامية؟ وهل كل المجتمع الأمريكي مغرر به من إدارة بوش المتطرفة ومن الإعلام الصهيوني ؟

* أولا هناك حقيقة وهي أن الأمريكان أجهل خلق الله بكل شيء، بل بأمريكا نفسها، أغلبهم لا يعرفون شيئا حتى عن بلادهم . سأقول لك شيئا مضحكا يدل على جهلهم، فقد نشرت جريدة لوس أنجلوس تايمز في كاليفورنيا سؤالا : ما الإسلام؟ فجاءت الإجابات تنم عن جهل فظيع فمن قائل إنه دين إسرائيل إلى قائل إنه الإرهاب إلى غير ذلك من إجابات مضحكة. والذين يعرفون متأثرون بالإعلام.

ولكن هنالك قلة يمثلها اليمين المتطرف وهؤلاء يعرفون وعندهم عداء شديد للإسلام ويعدون الإسلام في وثيقة تحدث عنها صحفي محترم في جريدة نيو إس أيه يصرح فيها لأول مرة بأن الإسلام باعتباره دينا هو خطر على المصلحة القومية الأمريكية، ولذلك فهم قرروا محاربته بالطرق التي يرونها مناسبة ويبدءون بما يسمونها الوهابية. ثم يقولون لا بأس أن نتعاون مع بعض الجماعات المعتدلة فالشعب الأمريكي كما قلت آنفا شعب جاهل والحكومة في سياستها الخارجية لا تراعي الشعب ولا تتأثر به فالسياسة الخارجية ليست ممثلة للشعب ولكن لفئات معينة عندها عداء للإسلام.

** كنا نعتقد أن الأقليات الإسلامية الموجودة في الغرب وبتفاعلها مع هذه المجتمعات سوف تقوم بدور إيجابي في تحسين صورة الإسلام لكننا وجدنا بعد أزمة الرسوم المسيئة أن هذا لم يحدث.. هل قصرت هذه الأقليات الإسلامية؟

* مما لاشك فيه أن وجود هذه الأقليات مهم جدا فلا يمر يوم إلا ويدخل في الإسلام أعداد كبيرة، وربما تتحسن صورة الإسلام، أما التأثير في المجتمع فأمر يحتاج إلى قوة إعلامية كبيرة، وهذا أمر لا تستطيعه الجماعات في أمريكا.. ولكن بعد ثورة الاتصالات ووجود الانترنت صارت هناك مواقع كثيرة تبين حقيقة الإسلام..ولكن هناك مشكلة كبيرة أن الجماعات الإسلامية في الغرب مختلفة مع بعضها اختلافا كبيراً.

أيضا أظهرت قضية الرسوم أن الدنمرك تلك البلد الصغير دولة متعصبة لدرجة أن ملكتهم نفسها تخرج وتسب المسلمين وتتهمهم بالتخلف والجهل وأنهم لم يصلوا إلى الدرجة التي يفهمون فيها حرية التعبير.

** هل ترون في تركيز الحركة الإسلامية على العمل السياسي أمرا سلبياً وهل البديل هو العمل الاجتماعي الدعوي ..كيف ترون هذه الإشكالية؟

* أنا في رأيي أن على الحركات الإسلامية أن تكون أعقل وتسلك الطرق السلمية.

ولقد ثبت بالتجربة أن في المواجهة تكون الحركات الإسلامية هي الخاسرة.

وهذه سنة النبي صلى الله عليه وسلم ..فربنا أمر المسلمين أن يكفوا أيديهم ويقيموا الصلاة، لكن لا يمدون أيديهم، ولم يأمرهم إلا بعد أن هاجروا وصارت لهم دولة.

على الحركة الإسلامية أن تركز على الدعوة، التي هي بصراحة بيان للحق بحسب الحال، وهي لا تحرّف الدين بغرض إقناع الناس.

[ يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك و إن لم تفعل فما بلغت رسالته والله يعصمك من الناس إن الله لايهدي القوم الكافرين ] المائدة 67.

فإذا ركزت الجماعات الإسلامية على العلم وركزت على فهم الفكر الغربي والأحوال العالمية وصاروا يشاركون مشاركة قوية سيكون النصر حليفنا بإذن الله.

إن الأمريكان يقولون إن المعركة معركة فكرية، وأنا أؤكد أنه عندما تكون المعركة فكرية أقول بكل ثقة وتأكيد نحن إن شاء الله غالبون.

فعلى الجماعات الإسلامية الدعوة إلى الإسلام وبيان العقيدة والعبادات متعاونة كل فيما ينجح فيه .. أعني أن تكمل كل جماعة الجماعة الأخرى ولامانع من التخصص مادام لا يوجد إنكار وخصومات .

** من واقع استقرائك لمجريات الأحداث … كيف ستكون طبيعة العلاقة المستقبلية بين الإسلام والغرب، هل ستكون علاقة صدام أم حوار؟

* شكل هذه العلاقة يحدده الناس، ونظرتهم إلى مصالحهم، والوسائل التي تتحقق بها هذه المصالح. فالكاتب الأمريكي هنتنجتون في تحليله ينطلق من كونه عالم اجتماع يرصد الواقع ويفسره، فانتهى من تحليله إلى أن الصدام القادم سيكون بين الحضارة الغربية من جهة والحضارتين الإسلامية والكنفوشيوسية من جهة أخرى ، ويعتمد في تحليله على أن الدول الإسلامية بدأت تتعاون مع الصين واليابان وأنهما ستمدان هذه الدول بالأسلحة.

وإذا افترضنا صحة هذا التحليل، فإن السبب في ذلك يكون الغرب، لأنه لا يريد للدول الإسلامية أن تتطور أو أن تمتلك ما تدافع به عن نفسها.

وإذا كان هنتنجتون يرى الدين مكوناً من أهم مكونات الحضارة، فإن ذلك يعني أن المسافة أقرب بين الغرب والإسلام، من تلك المسافة التي بين الإسلام والكنفوشيوسية، لأن النصارى واليهود نسميهم نحن المسلمين أهل الكتاب، ولهم منزلة خاصة في الدين الإسلامي.

إذن فالسبب الحقيقي للتعاون القائم بين المسلمين وأصحاب الحضارة الكنفوشيوسية ليس نابعاً من طبيعة الحضارتين، بل من معاملة الحضارة الغربية لهما.

وأنا استبعد الصدام وبخاصة الصدام المسلح، لأن من المعروف أن الأسلحة التي تمتلكها الولايات المتحدة الأمريكية وحدها تكفى لتدمير العالم كله عدة مرات، فكيف إذا أضيف إليها ما لدى الدول الغربية الأخرى، والصين وروسيا، وغيرها، فليس هناك من أحد سيستفيد في حالة حدوث صدام شامل، وأعتقد أن الغربيين حريصون كغيرهم على الحياة، ولن يكون أي صدام في صالحهم، ولكن هذا لا ينفي أنه سيكون هناك صدامات وحروب محلية، كما هو الحال اليوم .

** ألا ترى أن اهتمامنا يتزايد بالغرب، في حين لا نهتم بأصحاب الحضارات الأخرى؟

* نحن مهتمون به، وهناك ظاهرة عجيبة في الغرب، فما أن تقرأ ما يكتبه مفكروه الكبار، إلا وتظن أن الغرب في خطر داهم وقريب. ولذلك فهم يتكلمون كثيراً عن العالم الإسلامي، ويعرفونه معرفة جيدة أكثر من معرفتنا نحن بالغرب، بل أحسن مما يعرف كثير منا مجتمعاتنا . أما اهتمامنا بالغرب فأمر طبيعي، لأن حضارته هي المسيطرة عسكرياً وإعلامياً ومادياً، ومصالح كل هذا العالم مرتبطة به، حتى أصحاب الحضارات الأخرى الذين تعنيهم يهتمون بالغرب أكثر من اهتمامهم بنا .

ومع ذلك فإن للعالم الإسلامي علاقات واسعة مع الصين واليابان والهند، ولا توجد مشكلة بيننا وبينهم، أما الغرب فينبغي أن نتعرف على حضارته، لأنها هي التي تسيطر على هذا العالم كله.

** انهيار الحضارة الغربية محل مراهنة من بعض المسلمين فمن المستفيد إذا حدث ذلك؟

* انهيار الحضارة الغربية إذا حدث سيكون بسبب الانحلال الأخلاقي، فانهيار الاتحاد السوفيتي السابق، ربما يقال إنه لعامل اقتصادي، أما انهيار الغرب - إذا حدث- فسيكون لأسباب أخلاقية. فأنا أرى أن قضية المخدرات من أخطر القضايا التي تهدد الغرب، وأذكر أنَّ واحداً ممن هداهم الله إلى الإسلام قال لي : إنه عندما تخرج قبل ثلاث سنوات أو أربع كانت نسبة الذين يتعاطون المخدرات بصفة دائمة تصل إلى 40%، إضافة إلى أن جميع الطلاب يمكن أن يكونوا قد تعاطوها مرة واحدة على الأقل، أما الآن ، فإن الذين لا يتعاطون المخدرات أصبحوا يمثلون الأقلية. وهناك مشكلة التفكك الأسري أيضاً من مهددات الحضارة الغربية، فإذا فسد الفرد بالمخدرات وانحلت الأسرة، ماذا بقى في المجتمع؟.

ولكن لماذا تقول انهيار، ولا نقول : إن الله يمكن أن يهديهم إن شاء الله إلى الإسلام أو على الأقل أن يتأثروا بالقيم الإسلامية التي بدءوا يعرفونها، وعلينا أن نرجو لهم الهداية، لأنهم إذا اهتدوا حافظوا على كل هذه الإنجازات المادية التي حققها الإنسان في هذا العصر.

ومن الخطأ الظن أن انهيار الحضارة الغربية يعني آلياً سيطرة المسلمين، لأن من الممكن أن تؤول السيطرة إلى حضارة أخرى مثل الحضارة اليابانية أو الصينية، وقد تكون الحضارة البديلة أسوأ من الحضارة الغربية، إذ ليس من الإنصاف أن ننكر أن هناك قيماً إنسانية تلتزمها الحضارة الغربية على الرغم من كل علاتها. وسواء بقيت الحضارة الغربية أو انهارت، فإن مشكلاتنا ستظل قائمة، لأنها نابعة من داخلنا، وليس الغربيون هم الذين يمنعونا من أن نجعل أمتنا أمة شامخة. فالمسلمون منقسمون بين من يريدون بناء الحياة على أساس الإسلام ومن يريدون تبني العلمانية الغربية، وأحملّ أصحاب الفكر العلماني مسؤولية ما نحن عليه من ضعف لما أحدثوه من انشقاق في داخل العالم الإسلامي.

** في مقابل تناولكم لبعض الأخلاقيات المهددة للحضارة الغربية، هناك من يرى أن العالم الإسلامي ليس بمنأى عن بعض الاضطراب في الجانب القيمي؟.

* نعم يوجد اضطراب في منظومة القيم في العالم الإسلامي، ولكنه ليس في حدة التدهور الأخلاقي في الغرب. فهناك حوادث في الغرب تقشعر لها الأبدان كالاعتداءات الجنسية على المحارم والأطفال، وجرائم القتل التي أصبحت وجبة يومية، ولم يُعد مستغرباً أن يُقتل الإنسان من غير جناية ارتكبها إلا أن هناك إنساناً مخدراً يحمل معه سلاحاً يريد استخدامه. أما في عالمنا الإسلامي فلا تزال الأسرة على تكاتفها وتماسكها مهما بدا لنا أن الأمور ليست على ما يرام.

** نأتي إلى إشكالية دائما ما يثيرها العلمانيون وهي الإسلام والديمقراطية.. ألا ترون أن الربط بين الدين والدولة يتم عادة على حساب الديمقراطية وهل ينفي الإسلام الديمقراطية؟.

* أهم ما في الديمقراطية وأفضل، هو ما يسمى بحكم القانون، وحرية التعبير في نطاق ذلك القانون، واختيار الناس لمن يحكمهم. وكل هذه مبادئ إسلامية لا يحتاج المسلم لأن يأخذها من غيره، وإن كان من الحكمة أن يستفيد من تجارب غيره، ولا يلزم أن نسميها ديمقراطية، لأن الديمقراطية في معناها الأصلي، بل المعنى الذي يفاخر به كثير من الغربيين هي حكم الشعب أو الأمة، والإسلام هو حكم الله تعالى. لكن هذا لا يمنع من أن تكون هنالك أمور مشتركة، فالدين يتضمن ويقر كثيراً مما استحسنه الناس بعقولهم وتجاربهم. فالشورى التي نقول إنها إسلامية كانت موجودة وممارسة حتى في العصر الجاهلي العربي، لكنها صارت ذات صبغة إسلامية حين وضعت في إطار مجموعة القيم الإسلامية. وكذلك يمكن أن نفعل بالديمقراطية. إن أكبر خطأ نرتكبه هو أن نحاول أن نكون نسخة من التجربة الغربية. إن الممارسات السياسية والاقتصادية والاجتماعية لا تنفك عن قيم الناس الحضارية. لقد وقعنا في مثل هذا الخطأ في بعض نواحي حياتنا الاجتماعية لأن بعضنا ظن أن ما يمارسه الغرب من عادات وتقاليد في المأكل والملبس والاحتفال هو وحده المناسب للعصر الذي نعيش فيه. فإذا أردنا أن نكون معاصرين فيلزمنا أن نكون كالغربيين.. هذا وهم كبير جر علينا وما يزال يجر ويلات عظيمة

=============

#كيف غير الإسلام الطب؟ مقال منشور في مجلة بريطانية

السبت 4صفر 1427هـ – 4 مارس 2006م

الصفحة الرئيسة

مفكرة الإسلام: نشرت المجلة الطبية البريطانية [British Medica Journal] وهي إحدى أهم المجلات الطبية في العالم، وأكثرها انتشارا مقالا في عدد شهر ديسمبر 2005 بعنوان كيف غير الإسلام الطب: الأطباء والعلماء العرب يضعون أسس الممارسة الطبية في أوروبا للبروفيسور عظيم مجيد من لندن. وكان المعهد الملكي لبريطانيا العظمى قد ناقش في نفس الشهر أن العالم الغربي قد يبدو مختلفا اليوم لولا عظمة العلماء المسلمين في بغداد والقاهرة وقرطبة وأماكن أخرى.

ويتعرض الكاتب إلى الحضارة الإسلامية التي انتشرت من الهند شرقا وحتى الأندلس غربا وكيف أن العالم لا يتذكر دور العلماء المسلمين الذين برزوا بين عام 800 - 1450 ميلادي وتأثيرهم على الحضارة الغربية في مجال العلوم والتكنولوجيا والطب.

وحيث إن كثيرا منا نحن المسلمين بدأ يفقد الثقة بنفسه وبقدرتنا كأفراد وكأمة على إضافة الجديد للعالم وبسبب الحملات التي يتعرض لها المسلمون في كل مكان فإني أردت أن أستعرض هذا المقال لعله يعيد لنا بعضا من العزة والثقة بأنفسنا وقدراتنا ويستلهم هممنا لبذل المزيد من الجهد في طلب العلم. وقد كان للمقال صدى طيب حيث وردت للمجلة عدة رسائل تشيد بدور العلماء المسلمين في ازدهار الحضارة.

ويستعرض الكاتب كيف أن العرب المسلمين وخروجهم من جزيرة العرب احتكوا مع ثقافات عريقة كالثقافة اليونانية وغيرها وتفاعل معها المسلمون بحركة ترجمة نشطة بلغت أوجها في عهد المأمون فيما يعرف ببيت الحكمة في بغداد عام 830م مما جعل اللغة العربية في ذلك الوقت أهم لغة علمية في العالم وهذا يوجب علينا في هذا الوقت الاهتمام بلغتنا العربية وبالترجمة ودراسة العلوم بلغتنا إن أردنا أن نعود لما كنا عليه.

وبجمع العلوم من مختلف الثقافات استطاع العلماء المسلمون أن يضيفوا كثيراً من التقدم العلمي في مجالات كثيرة كالرياضيات والفلك والكيمياء والزراعة والطب وغيرها. فهم أول من استخدم تقطير المياه وأول من استخدم الكحول في التعقيم وهذه الممارسة لا زالت تستخدم حتى الآن. ووضع العلماء المسلمون أسس الممارسة الطبية الحديثة فقبل الحضارة الإسلامية كانت أوروبا تعتمد على رجال الدين في العلاج ولم تكن توجد أي مستشفيات أو مراكز طبية في حين أوجد العرب المستشفيات والمراكز الطبية التي بدأت التعليم الطبي المنظم وادخل الأطباء العرب كثيراً من التنظيمات التي لاتزال تستخدم في المستشفيات الحديثة كالأجنحة الخاصة بالرجال وأجنحة النساء والاهتمام بنظافة العاملين في المستشفيات ونظافة المنشآت الصحية للحد من انتقال العدوى أو ما يعرف حالياً بالتحكم في العدوى [infection Control] وكانوا أول من أدخل نظام الملفات الطبية والصيدليات.

واستعرض المقال بعد ذلك بعض الأطباء المسلمين المبرزين كا بن النفيس الذي عاش في القرن الثالث عشر الميلادي وهو أول من وصف الدورة الشريانية الرئوية وقد سبق في ذلك وليام هارفي بثلاثمائة سنة ولكن الغرب للأسف لا يشير إلى هذه الحقيقة المثبتة. كما يشير الكاتب إلى الجراح أبو القاسم الزهراوي الذي ألف كتاب التصريف والذي ترجم إلى اللاتينية وعد الكتاب الطبي الأساس في الجامعات الأوروبية في القرون الوسطي. والزهراوي أول من وصف كثيراً من الأمراض الوراثية ومرض استسقاء الرأس وطور كثيراً من التقنيات الجراحية وهو أول من استخدم خيوط الكاتقت في خياطة الجروح. وأشار الكاتب كذلك إلى الرازي الذي يعده بعضهم أعظم طبيب مسلم وهو صاحب كتاب المنصوري الذي يقع في 10 مجلدات والذي استمرت إعادة طباعته حتى القرن التاسع عشر الميلادي. كما ضمت مناهج الجامعات الأوروبية كتب ابن رشد وكتب ابن سينا القانون في الطب. وقد عد كتاب القانون في الطب أعلى مرجع طبي في أوروبا لعدة قرون. ويعد ابن سينا أول من ادخل النظام العلاجي الذي يعتمد على العوامل العضوية والنفسية والدوائية مجتمعة. وبدأ بعد ذلك اختفاء وهج الحضارة العلمية الإسلامية باحتلال بغداد من قبل المغول وسقوط الأندلس وظهور الدولة العثمانية وانعكست الآية وتغير تدفق العلوم وتغيرت موازين القوى العلمية على مدى ال 600 سنة الماضية وفقدنا كثيراً مما كنا نتميز به وتركنا الريادة لغيرنا. راجيا أن يكون هذا المقال عامل تحفيز لنا لشحذ الهمم للحاق بركب العلوم والتقدم.

==============

#الأمة الإسلامية والخروج من المأزق

الثلاثاء 29 المحرم 1427هـ –28 فبراير 2006م

الصفحة الرئيسة

د. علي عبد الباقي

مفكرة الإسلام : لا يختلف أحد من المسلمين على أن الأمة الإسلامية الآن في مأزق، وأنها تواجه تحديات كثيرة وخطيرة ومتعددة ولا تتعامل معها بما تستحقه من برامج المواجهة المناسبة.

وقبل أن نستعرض أهم التحديات التي تواجه الأمة فإننا نؤكد على أن إعادة نهضة الأمة وبعث حضارتها من جديد سهل للغاية من حيث الطريق ولكنه صعب للغاية من حيث النوايا. وإن صحة هذا الطريق تأكدت لنا عبر 14 قرناً من الزمان، حيث إن النظم السياسية تذهب وتجيء وتصعد وتهبط، والإسلام باق بكل مبادئه وأحكامه سواء في نظام التشريع أو في نظام الأخلاق.

وأولى التحديات التي تواجه الأمة الإسلامية هي أزمة الديمقراطية والحكم الرشيد حيث تتعطش شعوبنا إلى الحكم الرشيد المبني على المساءلة والشفافية والتعددية السياسية والعدالة وسيادة القانون. ويتفق الجميع اليوم على أن الديمقراطية والتنمية وجهان لعملة واحدة وأمران متلازمان، وأنه لن تتحقق التنمية في بلادنا إلا من خلال الأنظمة السياسية المنتخبة بطريقة ديمقراطية، يتم فيها تفعيل دور مؤسساتنا الأهلية وجمعيات المجتمع المدني الأصيلة التي تحمل هم الأمة، لا التي يمولها الغرب وتتحدث باسمه.

إن معظم مشاكل الأمة تكونت بفعل الأنظمة الاستبدادية غير الشرعية، التي تغيب عنها مساءلة الأمة. هذه الأنظمة هي التي نما وترعرع الفساد في كنفها، فانهارت مشروعات التنمية. تلك التنمية التي تتبدى للعيان في التخلف المزمن في مجال التنمية الاقتصادية والبشرية. فمن غير المقبول أن يبقى مجموع الناتج العام للعالم الإسلامي كله، بمئات ملايينه التي تزيد على خُمس أبناء البشرية وبرقعته الجغرافية التي تغطي حيزا كبيرا من المعمورة وتزخر بثروات عديدة، مقصورا على نسبة لا يُعتدّ بها في أرقام الاقتصاد العالمي وحساباته.

ومن التحديات كذلك أزمة التعليم والثقافة التي تتجلى في الجهل والأمية الحَرفيّة والرقمية، وضعف مناهج التعليم في أرجاء العالم الإسلامي، وندرة مراكز الأبحاث والعلوم، وغياب تكنولوجيا المعلومات التي هي القوة الأولى المحرّكة للاقتصاد العالمي، وندرة الكتب والمؤلفات وقلة القارئين في العالم الإسلامي.

ويعاني العالم الإسلامي كذلك من أزمة القيم التي تتجلى في عدم التقيّد بالحقوق العامة، وفي مقدمها حقوق الإنسان وكرامته وغيرها من الممارسات اللاإنسانية التي تخدش مفهوم القيم في مجتمعاتنا، وتجعلنا موضع النقد والتندر.

كما أن العالم الإسلامي يعاني في الفترة الأخيرة من ظاهرة تفشي تيارات التطرف الديني، وما نجم عن ذلك من أعمال عنف وإرهاب وظهور اتجاهات تكفيرية ومدارس للتعصّب الديني. وقد شجعت أعمال العنف والإرهاب خارج العالم الإسلامي وداخله أخيرا استشراء ظاهرة عداء الإسلام وكراهيته في العالم، وهو ما أوجد بدوره تحديا جديدا خطيرا يقتضي من العالم الإسلامي التعامل معه ومع غيره من التحديات بمنهجية عصرية وخطط ناجعة... والكثير من الجدية والمسؤولية.

سنن الله الحاكمة

واقع العالم الإسلامي حسب التشخيص الأمين يؤكد أن المسلمين ناس من الناس، وأمة من الأمم، لا يتقدمون إلا بما يحوزون من العلم والعمل والكفاح، وتجري عليهم سنن الله الحاكمة في هذا الكون، فإن أخذوا بهذه السنن نالوا السبق وحققوا أهدافهم، وإن خاصموها وتخلوا عنها- كما هو حالهم الآن- تداعت عليهم الأمم كما تتداعى الأكلة إلى قصعتها.

فكل أمة من الأمم لها ساعات إقبال وساعات إدبار، وللحضارات في أيام تراجعها خصائص تلازمها، وكذلك سلوك أبنائها المنتمين إليها، كما أن لها خصائص تلازمها أيام نهضتها وكذلك سلوك أبنائها المنتمين إليها.

والفرق بين حالة النهضة وحالة التراجع أنه في حالة النهضة يرتفع سلطان العلم والمعرفة بحثاً عن الإبداع، أما في حالة التراجع فينكمش العقل ويتضاءل دوره ويحل محله شطحات الخيال، فلا يتبدى الواقع على حقيقة ولكن يتبدى كما يريده الخيال.

وفي حالة النهضة تفتح الأمة ذراعيها للآخرين تواصلاً معهم وتنافساً، أما في حالة التراجع فتشيع روح العزلة ويسود الانقطاع والابتعاد والإحساس بالخطر وسوء الظن بالآخرين.

وفي حالة النهضة أيضا تتطلع الهمم إلى المستقبل وتنشغل به وترجو منه خيراً وتطمح إلى مزيد من الريادة. أما في حالة التراجع فيكون الماضي وحده هو الملاذ انطلاقا من اليأس فلا يبقى إلا التغني بأمجاد الأولين والتشكيك في أمجاد الآخرين.

ظواهر سلبية

إننا هنا نرصد بعض الظواهر السلبية والغالبة في العالم الإسلامي اليوم وتتمثل أولاها في الحيرة الحضارية الكبرى واستمرار القضايا المعلقة، وهذه الظاهرة سائدة في العالم الإسلامي من مشرقه لمغربه. فهناك مجموعة قضايا تعيش بيننا منذ مئات السنين لا نتركها فنستريح ولا نحلها فنستريح وإنما نعلقها، مثل مكانة الدين في المجتمع، وهذا أمر خطير، فهل يعقل أن هناك أمة لم تتفق على شيء خطير كهذا؟ هناك من ينظر للإسلام على أنه نظام شامل للحياة وهناك من ينظر له على أنه يتعلق بالمساجد فقط وأن الارتباط بالإسلام هو تخلف، وهذه قضية كفيلة بأن تهدم أمة.

وهكذا فإن هناك حزبان في مجتمعاتنا وهناك حرب أهلية تبرد أحيانا وتسخن أحيانا أخرى. فهل يبقى للأمة بعد ذلك جهد لمواجهة تحدياتها. وعندنا مثل هذه القضايا الكثير في الأمور المالية والاقتصادية وفي قضايا المرأة وقضايا التربية.. الخ.

وثاني هذه الظواهر السلبية أننا أمة نعيش في فرقة وتشرذم ولا تكاد دولتان إسلاميتان لا توجد بينهما خصومة ونزاع .

فنحن نسير بعكس العالم الذي يتجمع فيه المختلفون. فأوروبا التي خاضت حربين عالميتين غير الحروب العديدة السابقة بينها تتناسى ذلك وتنشئ الاتحاد الأوربي والسوق الأوروبية، أما نحن فإذا لم نجد في حاضرنا خلافا اخترعنا خلافا.

وثالث هذه الظواهر الاشتباك الأليم بين الحكومات والرعية في غالبية الدول الإسلامية، وبسبب هذا الاشتباك سال الدم الحرام واختفى الأمن وضاعت مواردنا الاقتصادية.

والضحية الوحيدة من هذا كله هي الأمة التي لن يبقى من طاقتها شيء لتواجه به مشاكل التخلف والجهل.

وإذا كان هناك عناصر ضعف في الأمة فإن هناك عناصر قوة. وأهم عناصر القوة هذه أن تيار التدين الصحيح ينتشر في الأمة من أقصاها إلى أقصاها، كما أن تيار التوجه نحو القيم الحافظة للأديان يقوى في العالم كله لأن الناس اكتشفوا أن الجانب الروحي أهم من الجانب المادي.

وثاني عناصر القوة هو أنه رغم كل التيارات الشاردة والشاذة التي تنتشر باسم الإسلام فإن التيار العريض للأمة الإسلامية لا يزال تيارا سليما يحمل نفحات النبي صلى الله عليه وسلم، وسيرة الصالحين في حق وحب وخير وجمال، ولا يزال المنحرفون هامشا صغيرا عن يمين هذا التيار أو شماله.

قضيتان رئيسيتان

إننا هنا نركز على قضيتين رئيسيتين لا بد من حسمهما في واقع المسلمين كي يمكن تمهيد الأرضية للمستقبل.

أولا قضية الحرية: فالذي يبنى الحضارة ليس العبد ولكنه الحر، وهو من كان مرفوع الرأس حر الحركة، والأمة غير الحرة لن تبني حضارة. وقضية الحرية في عالمنا الإسلامي ينبغي أن تكون قضية محورية. وفي العالم عشرات من الجمعيات الدولية لحماية حقوق الإنسان لا نكاد نجد فيها مسلماً بل كل روادها يهود.

إن الحرية غريزة فطرية ومفهوم رائع تلتقي عنده المشاعر وتتجاوب معه العواطف وتتطلع إليه النفوس، وهي ليست شيئاً ثانوياً في حياة الإنسان بل حاجة ملحّة وضرورة ماسّة من ضروراته، باعتبارها تعبيراً حقيقياً عن إرادته وترجمة صادقة لأفكاره. فبدون الحرية لا تتحقق الإرادة وعدم تحقيق الإرادة يعني تكبيل الإنسان ووأد كافة طموحاته وتطلعاته، وإلقائه في هوة الضياع والموت البطيء، وهو ما لا ينسجم أبداً والغاية من وجود هذا الكائن الإلهي والدور المناط به والمسؤولية التي تقع على عاتقه، وبدون الحرية لا تتحقق ذاتية الإنسان وكرامته وقدرته على تقرير مصيره، وبدونها أيضاً لا تتحقق سعادته.

فالحرية إذن منحة إلهية للإنسان الذي حباه الله تعالى بكل المقومات الأخرى اللازمة خلال مسيرته الحياتية والتي تضمن له أداء دوره الريادي على الأرض في أحسن صورة.

وثاني هذه القضايا هو فض الاشتباك، أي أن ندخل في سلسلة من المصالحات. فنجمع الدول العربي والإسلامية ونزيل الخلافات بينها مقتدين بما يحدث في العالم من حولنا واضعين مصلحة الأمة ككل فوق كل اعتبار.

ثم فض الاشتباك بين الحكومات وشعوبها، فالحكومات عليها ألا تأخذ الناس بالتهم وعليها أن تتصور أن كل متدين ليس متطرفا، وعليها أن تصون الشاب من أول الطريق فتقدم له علما سويا وعملا وتحسن إليه وتشعره بآدميته. وعلى الحركات الإسلامية في ذلك أن تؤمن أن الإصلاح ليس بالوثوب على السلطة وأن المسلم في فسحة من دينه ما لم يصب دما حراما، وأن الإساءة لصورة الإسلام جزء منها وارد من الخارج والجزء الآخر صنعناه بأنفسنا. وعليهم أن يعرفوا أن الناس يريدون اللين في الدعوة والمعاملة والله يقول [فبما رحمة من الله لنت لهم ولو كنت فظا غليظ القلب لانفضوا من حولك].

ثم يجب فض الاشتباك بين الحركات الإسلامية وبعضها لتكون قوة مضافة للإسلام وللدعوة الإسلامية ولا تفتن المسلمين في دينهم وتكون عامل توحد بين المسلمين.

معايير لمصداقية الحكم الإسلامي

إن قضية حاكمية الشريعة قد كثر اللغط حولها، وتم التخويف بها على نطاق واسع. ونحن نؤكد أن هناك معايير أو مقاييس لمصداقية الحكم الإسلامي إذا وجدت كان الحكم إسلاميا، وإذا لم توجد لم يكن الحكم إسلامياً. وإذا وجد بعضها وفقد الآخر فإنه يكون إسلامياً بقدر ما وجد وغير إسلامي بقدر ما فقد.

والمعيار الأول: هو أن يكون الهدف هو إعمار الأرض، أي إقامة المصانع وزراعة الأرض والنهضة بالصناعة والتجارة، وتيسير الخدمات والرعاية ونشر التعليم الخ.. أو كما نقول تحقيق رخاء الفرد ورفاهيته.

والمعيار الثاني: أن يكون المناخ هو الحرية الواسعة بكافة أنواعها.

والمعيار الثالث: أن يكون المحور هو العدل الذي هو 'بصمة الإسلام' لو كان للأديان بصمات. ولأن الغرض الأسمى من الحكم هو تطبيق العدل. ليس فحسب لما هو مفهوم بداهة- ولكن أيضاً لأن العدل هو الحق مطبقاً. والحق هو الذي أقام الله تعالى عليه السموات والأرض وأنزل كتبه، وأرسل رسله له.

والمعيار الرابع: هو أن تكون الشورى وسيلة اتخاذ القرار، وفي الإسلام ما هو أقوى من الشورى وهو حق مساءلة الحاكم إلى درجة عزله.

وأخيراً نأتي إلى المعيار الخامس والأخير وهو: أن يكون الحكم رسالة وليس مغنما أو وسيلة لاكتساب الجاه والسيطرة واستبعاد الجماهير والشعوب كما كان منذ أن ظهر الملوك والأباطرة والقادة العسكريون من الحكم الفرعوني حتى الإمبراطورية الرومانية.

=============

#السقوط الحر

الثلاثاء 29 المحرم 1427هـ –28 فبراير 2006م

الصفحة الرئيسة

محمد عادل

moh.adel@islammemo.cc

مفكرة الإسلام : كشفت السنوات الأخيرة بوضوح أن الإسلام يمثل عقبة أساسية أمام مشروع الهيمنة الأمريكي وأن العالم الإسلامي بات بما يمتلكه من رصيد فكري وثقافي وحضاري على رأس التحديات التي تواجه مشروع السيطرة الأمريكية على العالم .

ويبدو أن التصورات والحلول المقترحة للتغلب على هذا العائق وزحزحته لإفساح الطريق أمام المشروع الأمريكي متنوعة لدى مخططي الإدارة الأمريكية ويجمعها مساحة مشتركة تصب في أهمية تغيير شكل الواقع في دول العالم الإسلامي ومنطقة الشرق الأوسط على وجه الخصوص.

والمتأمل في السياسة الأمريكية في المنطقة يلمح شواهد إثبات على الرغبة الأمريكية الملحة في تغيير الأنظمة في المنطقة العربية التي تمثل مركز العالم الإسلامي بعد أن أصبح الكثير من تلك الأنظمة بصورتها القديمة - التي سئمتها الشعوب - غير مهيأ للعب الدور المطلوب والمشاركة في رسم ملامح الصورة الأمريكية للشرق الأوسط، وباتت تتعارض مع طبيعة المشروع الجديد الذي يحمل 'الديمقراطية' الأمريكية المفصلة للمنطقة, ومن ثم فقد انتهت المرحلة التي يمكن أن تلعب فيها دورًا يتوافق والمصالح الأمريكية.

ولأن المنطقة باتت على حافة الانفجار الكبير بسبب حالة الاختناق السياسي والتأزم الشعبي؛ ما ينذر بتغيرات سياسية كبيرة قد تسير في اتجاه عكسي يتصادم والمصالح الأمريكية، فكان من الملح أن تستبق أمريكا وتأخذ هي بمبادرة التغيير وتُسارع إلى الإمساك بخيوطه وتروج لذلك إعلاميًا للاحتفاظ بأوراق اللعبة بيدها بالكامل، لتتصرف كيف تشاء حسب الرؤية والمصلحة الأمريكية، محاولة في الوقت ذاته إيهام شعوب المنطقة - والتي تسعى للتغيير - بأن التغيير المرتقب قد تحقق بفضل المبادرة الأمريكية.

لذا فقد دأبت دوائر الفكر ومراكز التخطيط الاستراتيجي على وضع الحلول البديلة للواقع السياسي الحالي في الشرق الأوسط، وبناءً على ذلك رفعت الإدارة الأمريكية شعار التغيير والإصلاح, وكان ذلك متزامنًا مع تبنيها لمبادرة 'الشرق الأوسط الكبير' ، والذي يبدو أنه سيحمل وفقًا للمفهوم الأمريكي ملامح مختلفة لأنظمة جديدة.

ولأن تغيير المنطقة وعلى رأسها الأنظمة لا يتم بما يتوافق مع المصالح الأمريكية إلا بتغيير الشعوب, فكان لزاما أن يُخطط وعلى محور مواز ٍ لتغيير الواقع العربي الذي برغم فقده الكثير من مقومات صموده الحضاري إلا أنه ما زال يدافع المشروع الأمريكي بالمنطقة ويعوقه.

- وسواء كانت الرؤية حول طبيعة التغيير المنتظر تقوم على البندقية والدبابة والصواريخ الذكية، أم سيكون الدور الأساس في هذا المخطط لأسلحة الغزو الحضاري والثقافي المغلفة بغلاف أمريكي من أمثلة - 'العولمة' و'حوار الأديان' و'الحرية' و'الديمقراطية' وغيرها الكثير في الجعبة الأمريكية - فإننا يمكن أن نتلمس ومن خلال تصريحات مسئولي الإدارة الأمريكية والسياسات التي بدأت أمريكا تطبقها بالمنطقة أهم ملامح هذا المخطط الهادف لتغيير الأنظمة والشعوب, والذي يقوم في أساسه على سياسية 'الاستبدال' التي تتمثل أهم محاورها في:

- استبدال الحالة السياسية المتأزمة في الدول العربية 'بالديمقراطية الأمريكية المفصلة' التي تحوي صناديق اقتراع خاوية إلا من أصوات مؤيديها، وحرية تتسع لتشمل جميع الأطياف سوى منتقدي سياساتها ، ودستور يكفل التبادل السلمي للسلطة لكن بدون تجاوز للخطوط الحمراء والتي لا تعطي أمريكا الحق لغيرها في رسمها ، والواقع السياسي العراقي القريب خير شاهد على ذلك .

-استبدال الأنظمة القمعية والتي سقطت في أعين شعوبها ، -وسواء كان الاستبدال قائمًا على تغيير فعلي للنظام ورموزه أم الإبقاء على الأنظمة القابلة لتغيير أفكارها وسياساتها بما يتواءم والدور الجديد والمحدد أمريكيًا - ففي كلٍ فإن البديل المنتظر لابد أن يكون أنظمة هزيلة تفتقد لأدنى درجات الاستقلالية ، ولا تحمل أي طموح وطني أو قومي - فضلا عن أن يكون إسلاميًا - ينهض لمقاومة المشروع الأمريكي.

-استبدال الواقع الثقافي للبلدان العربية القائم في كثير من أدبياته على الثقافة الإسلامية بما تحويه من معاني التميز والعالمية والهيمنة والصمود ، والرافض للكثير من مفردات الغرب الثقافية والتي تصطدم بالثوابت والهوية العربية، بآخر يغلب عليه لغة 'السلام' و'التعايش'و'الحداثة' والعولمة'، وبالطبع بالمفهوم الأمريكي لتلك المصطلحات.

-استبدال اجتماعي قائم على التدخل في القواعد الأسرية والأعراف الاجتماعية التي تحكم العلاقة بين أفراد المجتمع العربي المسلم بهدف تغيير النمط' المحافظ' التي اعتادت عليه المجتمعات العربية بآخر مختلف يسود فيه دعاوى' تحرير المرأة' و'المساواة' و'الحرية الجنسية'، ويتدخل في أدق تفاصيل الحياة اليومية بدءًا 'بمنضدة الطعام' وانتهاءً 'بغرفة النوم'. وما مؤتمرات بكين والقاهرة وغيرها من المنتديات الأممية المتعلقة بشئون الأسرة والمجتمع - والتي تؤسس لمفهومات جديدة 'شاذة' لطبيعة ودور الرجل والمرأة - إلا غيض من فيض مما يُخَطَط للمجتمعات العربية.

-استبدال جغرافي يهدف لإضعاف مراكز الثقل العربي بتفتيت الدول المحورية الكبرى لدويلات صغيرة هامشية تتمحور حول مشاكلها المحلية ويغيب دورها إقليما ودوليا، أو استبدالها بدول أخرى صغيرة الحجم ضعيفة التأثير سهلة الانقياد يسلط عليها الضوء تقدم كمثال للدولة النموذج التي تستأهل الدعم والرضا الأمريكي.

إن منظومة 'الاستبدال' الأمريكية التي تهدف لصناعة دول 'تافهة' بما تحويه من أنظمة 'هشة' وشعوب 'هلامية' تملك من عوامل الضعف ما يفتح الطريق لأمريكا لتثبيت هيمنتها وتحقيق مشاريعها بالمنطقة، تمهيدًا لما يصح تسميته بـ'السقوط الحر' للأنظمة والذي لابد أن يوازيه 'سقوط حر' للشعوب يهدف لسلخ الهوية واستلاب الحضارة ، وكل ذلك يأتي في إطار استراتيجية أمريكية أوسع تهدف لتضليل الأمة وإقناعها أن ثمة نجاح قد تحقق وأن التغيير المنشود قد حدث على يد أمريكا وبفضل مشاريعها 'الاستبدالية'

=============

#أسس الحضارة الاسلاميه

الفصل الاول: بسم الله ارحمن الرحيم

الحضاره الاسلاميه

1/ القران الكريم

2/ السنه النبويه

3/ اللغه العربيه

4/ شعوب البلاد المفتوحه والخط العربي

5/ الاطار الجغرافي

6/ التأ ثيرات الاجنبيه

اولآ : القران الكريم

يعد القران الكريم احد الاسس الريئسيه الذي نبعث منه الحضاره الاسلاميه باعتباره المصدر الاساسي للاسلام وحجر الزاويه الذي تقوم عليه الشريعه الاسلاميه.

ومن المعروف ان الفران الكريم نزل على الرسول محمد صلى الله عليه وسلم منجما على مدى الثلاث وعشرين سنه التي ضل خلالها يدعو الى الله سبحانه وتعالى ليكون اقرب الى الحفض واسهل على الضبط وابعد عن النسيان وقد حرص الرسول واصحابه على حفض الايات واستضهارها كما حرص ايضا على تدوينه فأ تخذ له كتبه يدونون ما ينزل عليه من ايات ويلازمونه حيثما ذهب عرفو بكتاب الوحي قاموا بتسجيل الايات على مواد متباينه اختلف في احجامها واشكالها وتنوعت في موادها بين قطع من العضم والخشب والفخار والجلد وجريد النخل والحجر

ومن ثم قد استخدم في حفض القران الكريم الذي بلغت صوره مائه واربعه عشر سوره وسيلتان هما

1 - الحفض والتدوين فقد تولى الرسول صلى الله عليه وسلم ترتيب الايات بنفسه فعين موضعها من بعضها البعض وتحديد مكانها في السورالمختلفه طبقا لما اخبر به الوحي ثم انتقل بعد ذلك الى الرفيق الاعلى وقامت حركه الرده واستشهد في موقعه اليمامه ما يقارب من سبعين صحابيا من حفضه القران الكريم وخشى عليه عمر من الضياع

بموت الحفاض فاقترح على الخليفه ابو بكر الصديق ان يجمع القران الكريم في صحف توضع بين دفتين وتردد ابو بكر في اول الامر وخاصه وان الرسول صلى الله عليه وسلم لم يامر بذلك ثم استجاب بعد ذلك لم اشار به عمر ابن الخطاب

رضي الله عنهما اجمعين واستدعى زيد بن ثابت احد كتاب الوحي وامره بنسخ القران الكريم في مصحف فجمعه من وافع المدونات التي كانت لدى كتاب الوحي وبمساعده حفضته المشهود لهم بالتقوى وقوه الذاكراه اذ يروى ان ابو بكر كلف عمر ابن الخطاب وزيد بن ثابت بأن يقفا عند باب المسجد ويطلبا من كل من يحفض شيئا ان يذكر لهما مايحفض وهكذا تم حفض القران الكريم في عهد ابو بكر الصديق وحفض المصحف لديه مده حياته ثم انتقل بعد وفاته الى عمر بن الخطاب الذي تولىبعده الخلافه وبقى عنده حتى مقتله فحفض عند السيده حفصه احدى زوجات الرسول صلى الله عليه وسلم وكانت تعرف باتقانها للقراءه والكتابه

ولما كان القران الكريم هودستور الاسلام والمسلمين فقد كان من الطبيعي ان يكون بثابه المصدر الاول والريئسي الذي نبعث منه الحضاره الاسلاميه اذ يكمن فبه سرد الاصاله الاسلاميه وعضمتها لاانه كتاب يهدي للتي هي اقوم لاياتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه فيه خير البشر سواء من الناحيه الروحيه او العقليه او الاجتماعيه فهو يدعو الى عقيده حقه تقوم على الوحدانيه عقيده واضحه خاليه من التعقيد والغموض والابهام

ثانيا : السنه النبويه

عما قريب ان شاء الله

المصدر:الحضاره الاسلاميه في العصور الوسطى

تاليف الدكتور احمد عبد الرزاق احمد

ليسنانس اداب اداب من قسم الاثار الاسلاميه-جامعه القاهره 1963ميلادي

ماجستير في الاثار الاسلاميه -جامعه القاهره1968

دكتوراه المرحله الثالثه في الاثار الاسلاميه-جامعه باريس( السربون ) 1970

يعمل استاذ وريئسقسم الارشاد السياحي ووكيل كليه الاداب للدراسات العلياء والبحوث بكليه الاداب - جامعه عين شمس

==============

#خصائص الحضارة الإسلامية

لكل حضارة وعلى مر العصور العديد من الخصائص التي تتصل بشعب تلك الحضارة ونظرته إلى الحياة وتفكيره وعاداته وتقاليده ومدى تفاعله مع بيئته و تميزها هذه الحضارة على الحضارات الأخرى ولعل من أبرز خصائص الحضارة الإسلامية مكايلي :

1- العالمية والحيوية : تعني العالمية في الحضارة الإسلامية أنها ليست حضارة محصورة على فئة أو جماعة أو منطقة أو جزئية معينه ولكن هي صالحه للناس كافه ودليل ذلك قوله تعالى ( وما أرسلناك للناس كافة بشيرا ونذيرا ) حيث سمحت هذه الحضارة بسرعة دخول الناس للإسلام وانتشار الأفكار بينهم بكل سهولة وحيوية , ولعل أبرز م أيميزها ويجعل من السهل على من يعتنقونها التواصل مع بعضهم البعض وتبادل الأفكار بكل يسر هي فريضة الحج التي فرضها الله عز وجل على كل مسلم بالغ حر عاقل وقادر ليلتقي فيها المسلمون من مشارق الأرض ومغاربها ويتبادلون فيها الأفكار والأحاديث التي تتعلق بأمور دينهم ,وقد ساهمت بذلك في توسعت الأمم والأجناس واستطاعت تلك الشعوب والبيئات التي دخلت في هذه الحضارة إن تطور حياتها معنويا وماديا تطويرا واضحا في ظلها وترتقي بجميع مكونات الحياة بعد إن كانت متخلفة , بل مما يبين حيوية هذه الحضارة أنها أثرت في المدنية العالمية وفي نقل تراث الأمم القديمة وكان لها أثر فعال في الشرق والغرب وبالإضافة إلى ذلك فإنها كانت من عوامل النهضة الأوروبية الحديثة .

والحضارة الإسلامية قوية بذاتها لأنها تعتمد على أسس متينة من الدعائم الروحية والخلفية والفكرية , ولذلك لم يؤثر تمزق الوحدة السياسية الإسلامية على استمرار الوحدة الحضارية القائمة على الإسلام والعروبة .

(ولقد بدأ المفكرون في القرن العشرين يدعون إلى حكومة عالمية , فأين هم من الإسلام ورسوله الكريم الذي دعا إلى أخوة المسلمين في الدين , وأخوة الناس جميعاً في الإنسانية , ولم يجعل لعربي على أعجمي فضلا إلى بالتقوى والعمل الصالح , وألغى الفروق بين الأفراد والطبقات والعناصر والأجناس والألوان والشعوب , وجعل أساس الحكم المحافظة على الكرام والإنسانية ونشر كلمة الله والهدى والنور والحق والخير والمعرفة , الدين واحد والناس جميعا أخوة يحكمهم حاكم واحد بما أنزل الله , ويقول توماس كارل يل في كتابه الأبطال (( إن الرسالة التي أداها ذلك الرسول الكريم ( صلى الله عليه وسلم ) مازالت السراج المنير مدة ثلاثة عشر قرناً لأكثر من مائتي مليون من البشر , وإن رجلاً كاذباً لاستطيع أن يوجد دين وينشره , وعجيب واليم الله أمية محمد ( صلى الله عليه وسلم ) فلم يقتبس من نور أي إنسان آخر , ولم يغترف من مناهل غيره , ولم يكن إلا كجميع الأنبياء , أولئك الذين أشبههم بالمصابيح الهادية في ظلمات الدهور )) ) (1)

2- المرونة والشمول والتطور : مما يبين شمولية الحضارة العربية الإسلامية أنها لم تقتصر الحضارة الإسلامية على مدينة الإسلام وحدها بل ضمت إليها مدينة العرب قبل الإسلام وما اقتبسته من مدنيات أخرى في الشرق والغرب من خلال عملية التأثير المتبادل , ثم افرغ هذا المزيج في قالب خاص طبع بالنزعة العلمية وحب الاستقصاء والابتكار ولم يقتصر الإبداع والابتكار على العلوم الشرعية فقط ولكن كان واضحاً في معارف العلوم والآداب والفنون الأخرى ومن معالم شموليتها أنها اهتمت بتربية الفرد والمجتمع من النواحي المختلفة في الحياة الدنيا والآخرة وسعت إلى التوفيق بينهما وقد اهتمت بعالم الملك والملكوت دون تقصير بجانب للجانب الأخر لأنهما مترابطين ترابط وثيق , ولما كان الإسلام خاتمة الرسالات فمن الضروري إن تكون حضارته حضارة متطورة تستطيع إن تسع كل تطورات الحياة الإنسانية ولا تقف جامدة إمام متغيرات الحياة البشرية في واقعها الفردي والجماعي , فاعتمدت في تشريعاتها على الكتاب والسنة والاجتهاد والذي يتضح لنا من خلال المؤلفات المختلفة في العلوم الإسلامية والإنسانية والطبيعية المختلفة .

3- الإيمان والولاء للإسلام وعقيدته : تؤمن هذه الحضارة بالله ورسالاته وأنبيائه عليهم السلام وتهتدي بهدى خاتم النبيين محمد صلى الله عليه وسلم فمتى سماكان الشخص متشرب لهذه الفكرة ومؤمن بتا ويعمل على أساسها فإنه يعتبر من المسلمين حيث انه من السهل الإنظماl للمسلمين لأن الدين الإسلام مرتبط كل الارتباط بهذه الفكرة والتي لتتعارض مع العقل لأن الإسلام يقوم أساساً على مبدأ تعقل الإيمان والاقتناع بت ولالتفت لما دونها من انتماء لشعب أو منطقة أو قبيلة او عنصرية , بل حث الإسلام على إستغلال ما أتانا الله من نعم كثيرة كخلقة الله عز وجل للإنسان من مادة وروح والتي متى ماروعية فإن حياته تسير نحو الصلاح قال تعالى ( وابتغ فيما اتاك الله الدار الآخرة , ولاتنس نصيبك من الدنيا ) وقال الرسول صلى الله عليه وسلم ( ومامن مسلم يغرس غرساً أو يزرع زرعاً فيأكل منه انسان او طير او بهيمة الا كانت له به صدقة ) . ولعل الدين الإسلامي قد أكد على ضرورة الولاء للإسلام والمسلمين دون غيرهم في ظل الدولة الإسلامية وحضارتها قال تعالى ( لا يتخذ المؤمنون الكافرين أولياء من دون الله ) وقوله تعالى ( إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا ) ولم يكن الرسول صلى الله عليه وسلم يهادن الكافرين ولو كانوا من أقرب أقربائه كعمه أبي لهب , وقد حث الإسلام على العمل ولم يهمل جانب المادة بل ربط العمل بالإيمان بل تعتبر الحضارة الإسلامية حضارة إيمان وعمل وانتاج قال تعالى ( وقل أعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون )

( جعل الإسلام رابطة العقيدة الأصل الذي يجتمع ويتفرق عليه الناس ورفض كل العصبيات : الطبقية والقومية والعنصرية والقبلية , وماشابه ذلك , يقول المولى عز وجل < يا أيها الناس أتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منهما رجالاً كثيراً ونساء > ويقول الرسول صلى الله عليه وسلم < أيها الناس : إن ربكم واحد , وأباكم واحد , كلكم لآدم وآدم من تراب , إن أكرمكم عند الله أتقاكم , ولا فضل لعربي على أعجمي إلا بالتقوى > ) (2)

4- نزعة التسامح والإنسانية : تتجلى صورة النزعة الإنسانية في الحضارة الإسلامية من خلال طريقتين الأولى رسالة الإسلام التي جاء بها القرأن الكريم وحدث الرسول صلى الله عليه وسلم بها والثانية هي ماورثة العرب من الأخلاق الحميدة التي رواها لنا التراث العربي , ولقد ذكرت العديد من الألفاظ في القرأن الكريم والسنة النبوية والتي تحث على الإنسانية وتدعوا إليها في كل زمان ومكان , فعن معاذ بن جبل أنه قال : قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( أوصيك بتقوى الله , وصدق الحديث , ووفاء العهد , وأداء الأمانة , وترك الخيانة , وحفظ الحياد , ورحمة اليتيم , ولين الكلام , وبذل السلام , وحفظ الجناح ) , وقد حث الرسول صلى الله عليه وسلم على التواصل والمبادرة الإنسانية حيث قال : أفضل الفضائل ان تصل من قطعك , وتعطي من حرمك , وتصفح عمن ظلمك ) , فالحضارة الإسلامية حضارة إنسانية ملائمة لفطرة الإنسان وخصائصه المتعددة ومسايرة لتطلعاته وقادرة على تلبية حاجاته , فهو في نظر الإسلام كائن حي خلقه الله تعالى واختاره من بين المخلوقات جميعا ليكون خليفة الله في ارضه لأنه مؤهل للتكليف الالهي والمسئولية , وقد ارسل إليه الرسل كي يهدونه إلى سواء السبيل , بل وقد نظر الإسلام إلى غير المسلمين من أهل الذمة نظرة تسامح وأعطاهم حقوقهم وقد أثنى العديد من المؤلفين المسلمين على العلماء والكتاب من أهل السنة وهو مالم تعرفه أوروبا .

( ولا يزال الغرب يدعي أن أول من أعلن حق الإنسان في الحرية والأخاء والمساواة وأنه واضع حقوق الإنسان , وما أشد جرأة هؤلاء وهؤلاء على الحقائق , فلقد سبقهم الإسلام بأجيال وقرون إلى إعلان حقوق الإنسان وتأييدها وحمايتها , ومابالكم بدين حرر المرأة من جور الرجال , وحرر العامل من ظلم صاحب العمل , وحرر الرقيق والخدم من العبودية والهوان , وحافظ على حق الإنسان في الحياة والأمن , وحقة في الملكية , وفي الكرامة الإنسانية , وفي تكوين الأسرة , وفي الإشتراك في إدارة شئون الدولة , ودعا إلى العدالة بأجلى معانيها , وإلى الأخاء بأصدق مدلولاته , وإلى الحرية الكاملة , والمساواة الشاملة , والاشتراكية العادلة , وحمى أتباع الأديان الأخرى , وجعل لهم ماللمسلمين وعليهم ماعليهم من واجبات وحقوق , شعاره في ذلك الآية الكريمة < يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى , وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا , إن أكرمكم عند الله أتقاكم > , فلقد كان أفلاطون وأرسطو من فلاسفة اليونان يقرران حرمان العمال والصناع والموالى من الحقوق المدنية , لانحطاط مايمارسونه من مهن , وكان غيرهما يضع الرقيق والحيوانات في منزلة سواء , فأين هذا من سماحة الإسلام وسمو مبادئه , التي سوت بين الناس جميعاً ) (3)

5- النزعة السلمية : تفيض الحضارة الإسلامية بروح السلام وألفاظه من خلال فريضة الصلاة والتحية بين المسلمين قال تعالى ( وإذا حييتم بتحية فحيوا بأحسن منها أو ردوها ) , وجاء في الحديث الشريف ( إذا دخلتم بيوتكم فسلموا على أهلها فأن الشيطان اذا سلم أحدكم لم يدخل بيته ) , فتحية الإسلام يتعامل بها المسلم مع غيره من أهل بيته والأخرين وغير المسلمين وقد أوصى الإسلام بحقوق الجار مهما كان معتقدة , قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( الجيران ثلاثة : جار له حق واحد , وجار له حقان , وجار له ثلاثة حقوق . فالجار الذي له ثلاثة حقوق : الجار المسلم ذو الرحيم , له حق الجوار وحق الاسلام , وحق الرحم . وأما الذي له حقان فالجار المسلم , له حق الجوار وحق الاسلام . وأما الذي له حق واحد فالجار المشرك ) , وحقوق الجار تلزم جاره مشاركته فيما يحزنه ويسره ويرشده إلى مايجهله من أمور دينه ودنياه , فالإسلام دين سلام وأمان يأمن فيه الفرد على نفسه وعرضه وماله وأهله حتى ينصرف إلى العمل والإنتاج ويتنقل بين الدول العربية والإسلامية بكل أمان , فقليل من الآيات التي تحث على القتال بالمقارنة مع تلك التي تدعوا إلى السلم دائماً , لكن التمسك بالاسلام لايتعارض مع الحفاظ على مصالح المسلمين .

( بل قد أمر الإسلام المسلمين أن يعدلوا مع أعدائهم وان لايجورو عليهم قال تعالى < ولايجرمنكم شنآن قوم على ألا تعدلوا , أعدلوا هو أقرب للتقوى , واتقوا الله , أن الله خبير بماتعملون > ) (4)

6- النزعة العلمية : حث الإسلام منذ نزول أول آية فيه على طلب العلم والتأكيد عليه , قال تعالى ( اقرأ باسم ربك الذي خلق ) , وقد كرم الدين الإسلامي العلماء في قوله تعالى ( شهد الله انه لا إله إلا هو والملائكة وأولوا العلم قائما بالقسط ) , وقد ذُكر العلم ومشتقاته في عدد كبير من الآيات في القرأن الكريم , قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في مكانة أهل العلم عند الله سبحانه وتعالى ( أول من يشفع يوم القيامة الانبياء ثم العلماء ثم الشهداء ) , وقوله صلى الله عليه وسلم ( من سلك طريقاً يطلب فيه علما سهل الله له طريقا إلى الجنة ) , وكان الحصول على الأجر والثواب هو أبرز الدوافع التي دفعت العلماء لطلب العلم أو تدريسه , وكانت الأمانة العلمية من أشد الأمور التي يحرص عليها العلماء المسلمين فقد نهجوا منهج الرقة والأمانة العلمية بالتجربة والمشاهدة والبحث والتحري والاعتماد على الحقائق العلمية الثابتة واجتناب الظنون والشبهات بالجهود المضنية في المعارف المختلفة , وهو ماشهد عليه الكثير من المستشرقين كسيديو .

7- النزعة العقلية : دعا الدين الإسلامي إلى إستغلال العقل خير إستغلال حيث وردة العديد من الأيات التي تدعوا إلى إستخدام العقل وتؤكد على النزعة العقلية منها ( أفلا يعقلون ) , ( أفلا يتفكرون ) , ( أفلا ينظرون ) لذلك رفع الإسلام القلم عن ( الجاهل – النائم – المخمور ) لأن عقولهم لم تنضج والدين الإسلامي يدعوا لأستخدام العقل ويكلف فقط من له عقل صحيح وناظج , وغالباً مايتفوق المسلمين على غير المسلمين عند مناظرتهم بأستخدام النظرة العقلية وليس النظرة العاطفية وقد اعتمد المسلمون على العقل في انتاجاتهم العلمية المختلفة بما فيها العلوم الشرعية .

( وأكبر أثر للإسلام في هذا المجال الكبير , هو أنه حارب الأديان الفاسدة , والعقائد الزائفة , ووجه الناس كافة إلى الله وحده لا شريك له , فرفع من شأن العقل , وذم التقليد والمقلدين , ونهى عن إتباع الآباء في غير الحق , وحارب الأوهام الفاسدة التي تضعف من شأن العقل وتدعوه إلى الكسل والجمود , وسلب الاسلام الناس ماكانوا يزعمون من القدرة على تسخير مافي الوجود من غيب , وجعل كل ذلك مرده إلى الله وحده , يعلم الغيب وماهو أخفى , فزالت عن العقل ظلمات كثيفة كانت تحول بينه وبين الفهم والادراك والرؤية الصحيحة , ودعا الإسلام إلى العلم الصحيح والتفكير السليم وبعث في الناس حب المعرفة والثقافة , وفرض على العالم إرشاد الجاهل وتهذيبه , إلى غير ذلك من مقومات الحياة الصحيحة , إلى غير ذلك من مظاهر الرقي العقلي والفكري وفي مقدمتها ان الإسلام دعا الناس إلى أن لا يؤمنوا إلا بمايؤدي إليه العقل والدليل والبرهان الصحيح , وإلى أن يمحصوا الأمور , ويتثبتوا في الحكم على الأشياء , فلا يصدرون عن هوى , ولا يحكمون إلا بعد تنقيب وتدقيق واستنباط صحيح , وهذا هو منهج البحث في الإسلام والذي قامت عليه الحضارة الإسلامية الباهرة ) (5)

8- الشورى : جاء الدين الإسلامي ليؤكد ماكان عليه العرب في الجاهلية من خلال تشاورهم في أمورهم العامة قبل , حيث كانت المناظرة والمفاوضة والتحكيم طريقهم في حل مشاكلهم وخصوماتهم في حالتي السلم والحرب , وقال تعالى ( وشاورهم في الأمر ) وقال سبحانه ( وأمرهم شورى بينهم ) ومن أبرز المواقف التي تبين لنا صورة الشورى في عصر الرسول صلى الله عليه وسلم والخلفاء والتابعين من بعده هي ( إشارة الحباب بن المنذر بتغيير منزل المسلمين في بدر استعدادا للحرب ) وقد استجاب الرسول صلى الله عليه وسلم له , وقوله صلى الله عليه وسلم في حديث آخر (( يا أيها الناس من كنت جلدت له ظهراً فهذا ظهري فليستقد مني , ومن كنت شتمت له عرضاً فهذا عرضي فليستقد منه , ومن أخذت له مالاً فهذا مالي فيأخذ منه , ولا يخش الشحناء فهي ليست من شأني )) (6) ( بيعة أبي بكر الصديق رضي الله عنه ) , و ( بيعة عثمان بن عفان رضي الله عنه ) , وقول عمر رضي الله عنه لعمرو بن العاص (( متى أستعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحراراً ؟ )) (7) , وقال علي كرم الله وجهه (( من استبد برأيه هلك )) (8) , ( وقد أُثر عن النبي صلى الله عليه وسلم قوله (( أسمعوا وأطيعوا , وإن تأمر عليكم عبد حبشي كأن رأسه زبيبة )) فالرسول صلى الله عليه وسلم يأمر بأطاعة إمام المسلمين , ولو كان عبداً حبشياً , أسود اللون والرأس , وهذه روح الديمقراطية الإسلامية التني تنادي بالمساواة بين جميع الطبقات , ولا تفرق بين الأغنياء والفقراء او غيرهم من طبقات المجتمع ) (9)

9- اللغة العربية : تتجلى الصورة الحقيقية للحضارة العربي الاسلامية باللغة العربية باعتبارها الوسيلة الأساسية للتعبير عن نفسها من خلال تراثها العلمي والأدبي والفني , وأصبحت المقوم الثاني للشعوب الإسلامية بعد الإسلام في وحدتهم , بل كان الصفوة من المجتمعات الغربية في عصر النهضة يقدمون على تعلم اللغة العربية ويترجمون الكتب إلى لغاتهم ثم ينسبون الكتاب إلى أنفسهم مما يؤدي إلى وضعه كعالم وهو لايتعدى كونه مترجماً ولعل أبرز مادفعهم لفعل مثل هذا الشيئ هو كره بعض الغربيين لقبول شيء من العلماء العرب , وقد تشرفت هذه اللغة بنزول القرآن الكريم فيها , قال تعالى ( إنا أنزلناه قرأنا عربيا لعلكم تعقلون ) فكان الفضل الأكبر للقرأن الكريم في حفظ تراث اللغة ووحدة المتكلمين بها والتخفيف من فوارق اللهجات العربية قبل الإسلام حتى سادتها لغة قريش وهي لغة القرأن الكريم

=============

#الوظيفة العامة في الإسلام... فكر إداري

الصفحة الرئيسة

ترتكز فكرة الوظيفة العامة في الإسلام على أن الوظيفة العامة واجب ديني، وأنها تكليف وليست حقًا، ومن ثم فإن دوام الوظيفة للفرد العامل مرهون بدوام صلاحية شاغلها، فمن يثبت عدم صلاحيته لها ينحى عنها.

ـ والمنهج الإسلامي قائم على أن وجود الرجل المناسب في المكان المناسب هو واجب شرعي وضامنًا لسلامة العمل وحسن الأداء، والإسلام يربي الفرد على الإحسان والإتقان، ولا يسود الأمر إلا لأهله، كما فعل النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ مع أبي ذر عندما طلب منه أن يوليه فقال له: [[إنك ضعيف وإنها أمانة، وأنها يوم القيامة حسرة ندامة]].

ـ ولقد ألزم الإسلام ولاة الأمور باختيار الأصلح لشغل الوظيفة العامة، فالقواعد الأساسية في النظام الإسلامي ترتكز على أن الصلاحية أساس الاختيار، وعملية الاختيار في النظام الإسلامي لها ضوابط محكمة، إذ إنها تعتمد على تحديد مهام الوظيفة بكل دقة وتفصيل، ثم اختيار المتنافسين، ومن ثم يمكن القول بأن الإسلام كان له فضل السبق على الإدارة المعاصرة في وضع الضوابط لاختيار العاملين لشغل الوظائف العامة، فقد حرص الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ والخلفاء الراشدون من بعده على ألا يكلف شخص غير كفء بعمل عام وهناك من هو أكفأ منه.

ـ وهكذا عرفت الوظيفة العامة في الإسلام بأنها خدمة عامة تستهدف إشباع حاجات المواطنين، ولم تكن الوظيفة في الإسلام لمن يسألها، بل كانت لمن يستحقها وتتوافر في الكفاية.

ـ وكان الاختبار قبل الاختيار مبدأ أساسيًا في الإسلام، فلا يشغل فرد وظيفة عامة قبل أن تثبت باختبار صلاحيته، وكان لابد من توافر شروط معينة فيمن يتولى الوظائف العامة، ومن أهمها القوة والأمانة والكفاية، والمقصود بالكفاية أن يكون من تم اختياره لشغل الوظيفة العامة هو الأصلح والأكفأ.

ـ وكان تقدير الأجر على أساس عادل وهو 'الأجر على قدر العمل' وهو الأساس الذي تنادي به الإدارة الحديثة وتقف عاجزة عن تطبيقه. وقد اهتم الإسلام بالحوافز والروادع، بل إن الإسلام كان يقرن دائمًا الروادع بالحوافز.

ـ وكان رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ يقوم بتدريب من يستعملهم على مصالح المسلمين، ويزودهم بالنصائح والإرشادات، ولم يفت الخلفاء الراشدين ـ رضوان الله عليهم ـ ما للتدريب من أهمية بالغة في تنمية المعارف والقدرة على تفهم الأعمال فأولوه الكثير من اهتمامهم فكانت المدينة، المنورة على عهد عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ أشبه بالجامعة التي تخرج فيها القادة والولاة والأفراد.

فلم يكن عمر رضي الله عنه يبعث أحدًا إلى الأمصار إلا بعد أن يكون قد اختبره بالتدريب والمناقشة، حتى أنه كان قلما يخطئ اختيار عماله كل في المكان الذي يصلح له.

والخلاصة:

أن التربية الإسلامية القائمة على إصلاح النفس والضمير والارتباط بمراقبة الله في السر والعلن، والنظر إلى الإنسان على أنه مستخلف في الأرض لعمارتها وأن الله كرمه وأسجد له الملائكة، ومبدأ المساواة في الحقوق والواجبات والعدالة الاجتماعية القائمة على مبدأ العدل الرباني تنشئ نظامًا إسلاميًا رائعًا فاق في ميادين الحضارة الغربية الزائفة ومبدأ الإدارة في الإسلام أقوى بكثير من مبادئ الحضارة الغربية التي لا زالت تتلمس الطريق لعلها تجد من يرشدها إليه.

============

#انظروا عمَّن تأخذون دينكم ؟!

الأحد غرة ذي الحجة 1426هـ – 1 يناير 2006م

الصفحة الرئيسة

خباب بن مروان الحمد

مفكرة الإسلام: الحمد لله الذي جعل في كلِّ زمان فترة من الرسل, بقايا من أهل العلم يدعون من ضلَّ إلى الهدى, ويصبرون منهم على الأذى, يحيون بكتاب الله الموتى, ويبصِّرون بنور الله أهل العمى, فكم من قتيل لإبليس قد أحيوه! وكم من ضالٍ تائه قد هدوه! فما أحسن أثرهم على الناس, وأقبح أثر الناس عليهم. ينفون عن كتاب الله تحريف الغالين, وانتحال المبطلين, وتأويل الجاهلين...

أمَّا بعد:

فإنَّ لأهل العلم منزلة عالية في دين الإسلام, ودرجة رفيعة سامقة, كيف لا... وهم الذين اجتباهم الله لحفظ دينه, ونشر كلمته, وقرنهم بشهادته فقال: [ شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِماً بِالْقِسْطِ ]، ونفى المساواة بين من يعلم ومن لا يعلم، فقال: [ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُون]، وأوضح أنَّ ألصق الصفات بأهل العلم, خشيتهم لله تعالى, فقال: [ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ]، ومن خشية العلماء لربهم أنَّهم لا يتكلمون إلا بالعلم والهدى, ويخشون ربهم من فوقهم أن يتقوَّلوا عليه بلا علم, ويوقِّعوا عنه بجهل؛ لأنَّهم وقَّافون عند حدود الله ونواهيه, إذ قال تعالى: [ وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً] [الإسراء:36].

إلاَّ أنَّه ـ وللأسف ـ قد تقحَّم بوابة العلم, وولج فيها مولجًا لا يستحقه, أناسٌ ليس لهم في العلم الشرعي كبير إنعام، حيث امتطوا صهوة العلم والتعليم, فتراموا على شاشات الفضائيات, وأوقعوا بأرجلهم على مهاد المنابر, وتكالبوا في الكتابة بالصحف والجرائد والمجلات, إمعانًا منهم لتعليم الناس ما يهمُّهم, في شئون الدين والدنيا, وقسم آخر وهم كثيرون إذا اجتمعوا في المجالس والنوادي, وطُرحت مسألة فقهية أو شرعية, وجدت المختص وغير المختص يخوض فيها, ويتمنطق متحدثًا عنها, مدَّعياً أنَّ لديه علمها وحكمها, على حدِّ ما ذكره الشيخ: 'محمد الغزالي' ـ رحمه الله ـ: [ قرأت كتابًا لأحد المهندسين يفسِّر حقيقة الصلاة تفسيرًا لم يعرفه المسلمون طوال أربعة عشر قرنًا؛ فعجبت لهذا الحُمق في خرق الإجماع, وقلت: أما يجد هذا المخترع مجالاً لذكائه في ميدان الهندسة ليتقدَّم فيه، بدلاً من أن يشغل نفسه ويشغلنا معه بهذه التوافه ] [ ليس من الإسلام ـ للشيخ: محمد الغزالي /56 ]. فترى كثيرًا ممَّن على شاكلة هذا الشخص زاعمين أنَّهم مثقفون ومطَّلعون يطلقون لأنفسهم باب الاجتهاد في التحدّث عنها بآرائهم, والغريب أنَّ ذلك يحصل في كثير من المجالس، وخصوصًا مجالس كثير من العوام أو غير المتخصصين في العلم الشرعي، ممَّن تخصصوا في العلوم التجريبيَّة أو الطبيعيَّة أو غيرها, وكانوا بعيدين بُعد المشرقين عن البحث والاطِّلاع في أصول الشريعة ومحكماتها، فتجد كثيرًا منهم 'يلتُّ ويعجن' في المسألة التي قد تكون مشكلة, ولو عُرضت على عمر ـ رضي الله عنه ـ لجمع لها أهل بدر ليتباحثوا فيها, ويعطوا الحكم الشرعي المناسب لها، المبني على الكتاب والسنّة ! وإن طُرحت على أهل العلم أعطوها حقَّها من البحث والتفكير, ورحم الله زمنًا جاء فيه أنَّ الإمام مالك قال: [ إني لأفكر في مسألة منذ بضع عشرة سنّة, فما اتَّفق لي فيها رأي إلى الآن ]، وقال: [ ربما وردت علي المسألة فأفكر فيها ليالٍ ] [ ترتيب المدارك 1/178].

وإنَّ العجب ليأخذني كلَّ مأخذ, حين أرى هؤلاء المتقحِّمين باب العلم حين تُعرض أية مسألة من متعلقات الشريعة فيتحدثون عنها, ولم يكلِّفوا أنفسهم البحث عن حكمها ودلائل حلِّها أو حرمتها، بل تجد المبادرة والمسارعة للإفتاء وإبداء الرأي بحجَّة أنَّها وجهة نظرهم, ولا يعني أن تكون وجهة النظر صحيحة, وكأنَّ علم الشريعة علم يُتناول على مائدة الحوار والكل يبدي رأيه متوقعًا ومخمِّنًا أنَّ ذلك هو الحكم الشرعي !

مع أنَّ هؤلاء العوام أو من يتسمَّون بالمثقفين ـ أمثال [ صاحبنا ] ـ لو أنَّ رجلاً غير متخصص في الفن الذي هو من اختصاصهم وتكلم فيه زاعمًا أنَّ رأيه صواب, وأنَّ ما يقوله لا يلزم أن يكون صحيحًا, لنظروا إليه نظر شزر, وقرَّعوه بشديد الخطاب؛ لأنَّه تكلّم فيما لا يحسنه, ومن يتكلم بما لا يحسن يأتي بالعجائب !

وَصَدَقُوا... ولكن لِمَ لا تمرَّر هذه القاعدة والمنهجية عليهم كذلك ؟ أمَّ أنَّ علم الشريعة متاح لكل أحد أن يكون مجتهدًا فيه, وغيره من العلوم لا يتحدَّث فيه إلاَّ من تخصص به وثنى ركبته في نيله عند أهله ؟!

وقد لاحظ تلك المشكلة الإمام 'ابن رجب' ـ رحمه الله ـ واشتكى منها قائلاً: [ يا لله العجب ! لو ادَّعى معرفة صناعة من صنائع الدنيا, ولم يعرفه الناس بها, ولا شاهدوا عنده آلاتها لكذَّبوه في دعواه, ولم يأمنوه على أموالهم, ولم يمكِّنوه أن يعمل فيها ما يدَّعيه من تلك الصناعة, فكيف بمن يدَّعي معرفة أمر الرسول وما شوهد قط يكتب علم الرسول, ولا يجالس أهله ولا يدارسه ! ] [ الحكم الجديرة بالإذاعة ].

* أقوال علماء الإسلام في النهي عن التكلم بلا علم:

وقد تواترت كتابات العلماء في التحذير من التكلّم بلا علم والإفتاء بالجهل, ومنهم الإمام الشافعي فقد قال ـ رحمه الله ـ: [ فالواجب على العالمين أن لا يقولوا إلاَّ من حيث علموا, وقد تكلَّم في العلم من لو أمسك عن بعض ما تكلَّم فيه منه لكان الإمساك أوْلى به وأقرب من السلامة له، إن شاء الله ] [ الرسالة /41 ].

وقال الإمام 'ابن حزم': [ لا آفة على العلوم وأهلها أضر من الدخلاء فيها وهم من غير أهلها, فإنَّهم يجهلون ويظنُّون أنَّهم يعلمون, ويفسدون ويقدرون أنهم يصلحون ] [ مداواة النفوس /67 ]

وقال شيخ الإسلام 'ابن تيميَّة' ـ رحمه الله ـ: [ ولا يحل لأحد أن يتكلَّم في الدين بلا علم، ولا يعين من تكلَّم في الدين بلا علم, أو أدخل في الدين ما ليس منه ] [ مجموع الفتاوى 22/240 ]، وقال كذلك: [ فمن تكلَّم بجهل وبما يخالف الأئمة؛ فإنَّه يُنهى عن ذلك ويؤدَّب على الإصرار, كما يُفعل بأمثاله من الجهال, ولا يُقتدى في خلاف الشريعة بأحد من أئمَّة الضلالة، وإن كان مشهوراً عنه العلم, كما قال بعض السلف: لا تنظر إلى عمل الفقيه، ولكن سله يصدقك ] [ مجموع الفتاوى 22/227 ]، وقال كذلك: [ ومن تكلم في الدين بلا علم كان كاذبًا، وإن كان لا يتعمد الكذب، كما ثبت في الصحيحين عن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ لما قالت له سبيعة الأسلمية، وقد توفي عنها زوجها سعد بن خولة في حجة الوداع فكانت حاملاً فوضعت بعد موت زوجها بليالٍ قلائل، فقال لها أبو السنابل بن بعكك: ما أنت بناكحة حتى يمضي عليك آخر الأجلين, فقال النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ: [ كذب أبو السنابل, بل حللت فانكحي ] [ مجموع الفتاوى 10/449 ].

* من يملك حقّ التكلُّم بالعلم:

ممَّا يهمُّ المسلم المعاصر لهذا الزمن, أن تكون له بيِّنة لصفات من يُؤخذُ عنهم العلم, ومعرفة جليَّة لسمات أهله وأصحابه؛ لئلاَّ يختلط عليه الحق بالباطل, والصواب بالخطأ, وليعبد الله على بصيرة وبيِّنة، خصوصًا أنّ أحاديث صريحة أتت عن رسول الله ـ صلَّى الله عليه وسلَّم ـ في التحذير ممن يتقمصون مسوح العلم وينطقون به, ومن أئمة الضلال الذين يحكمون بالجور والجهل, ومن ذلك أنَّه ـ عليه الصلاة والسلام ـ قال: [ سيأتي على الناس سنوات خدَّاعات يُصَدَّقُ فيها الكاذب, ويُكَذَّبُ فيها الصادق, ويؤتمن فيها الخائن, ويخوَّن فيها المؤتمن, وينطق الرويبضة. قيل: وما الرويبضة؟ قال: الرجل التافه, يتكلم في أمر العامَّة ] أخرجه ابن ماجه [4042 ]، وأحمد في المسند [ 2/291 ] بسند حسن, وانظر السلسلة الصحيحة للألباني [ 1887 ]، وثبت عند أحمد من حديث أبي الدرداء أنَّ النبي ـ صلى الله عليه وسلَّم ـ قال: [ إنَّ أخوف ما أخاف عليكم الأئمة المضلون ] [ المسند 6/441 ]، وحدَّث عبد الله بن عمرو بن العاص ـ رضي الله عنهما ـ أنَّ رسول الله ـ صلَّى الله عليه وسلَّم ـ قال: [ إنَّ الله لا يقبض العلم انتزاعًا ينتزعه من العباد, ولكن يقبض العلم بقبض العلماء، حتَّى إذا لم يُبقِ عالمًا؛ اتخذ الناس رؤوسًا جهَّالاً فسئلوا فأفتوا بغير علم؛ فضلُّوا وأضلُّوا ] [ أخرجه البخاري 1/174،175 في كتاب العلم, ومسلم واللفظ له 4/258 ].

لأجل هذا يتحتَّم على مبتغي طريق الحق, ومريد طوق النجاة وسبيل الفلاح أن يعرف صفات من يأخذ عنهم العلم؛ لئلا يضيع الطريق الشرعي, ويضل السبيل, وسأذكرها في عدَّة نقاط:

*صفات من يؤخذ عنهم العلم:

1ـ خشية الله تعالى:

وهي صفة لصيقة بأهل العلم الراسخين الربَّانيين, الذين يخشون ربهم, ويراقبونه في ما دقَّ وكبر, جليلاً كان أو حقيرًَا, فخشية ربَّهم ملازمة لهم, لا يحيدون عنها ولا يتحايلون عليها, بل هم لله وبالله وعلى الله يفضون له جميع أمورهم, ويتعلقون بحبال الرجاء والخشية منه، ولهذا كان يقول جمع من أهل العلم كابن مسعود ـ رضي الله عنه ـ وغيره: [ كفى بخشية الله علمًا, وكفى بالاغترار به جهلاً ]، وحين نادى أحدهم الإمام الشعبي قائلاً له: يا عالم. فقال الشعبي: [ إنَّما العالم من يخشى الله ]، وكان طلاب العلم لا يتلقون العلم إلاَّ عمَّن عُرف بالخشية والخشوع, فقد قال النخعي ـ رحمه الله ـ: [ كان الرجل إذا أراد أن يأخذ عن الرجل نظر في صلاته وفي حاله وفي سمته, ثمَّ يأخذ عنه ].

2ـ تلقي العلم عن الراسخين في العلم:

وذلك لئلاَّ تكون له منهجية مبعثرة في قواعد الترجيح, ودلائل الاستنباط, وأن يكون تلقيه من أفواه العلماء وشفاههم؛ فيكون متقنًا للأحكام, ولهذا كان السلف الصالح كالإمام الشافعي يقول: [ من تفقه من بطون الكتب ضيَّع الأحكام ] [ تذكرة السامع والمتكلم /83 ].

فلا يعقل آيات الله, ولا يفقه أحكامها ويستنبط دلائلها إلا البارعون في العلم, كما قال تعالى: [ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلاَّ الْعَالِمُونَ ] [العنكبوت: 43]، وكقوله تعالى: [ وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُم] [النساء: 83]؛ فأهل العلم هم أوْلى الناس باستنباط أحكام الدين وشرائعه. قال محمد بن سراقة البصري: حقيقة الفقه عندي: الاستنباط. قال تعالى: [ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُم ] [ المنثور في القواعد 1/67 ـ بواسطة: أصول الإفتاء والاجتهاد التطبيقي 1/68 لمحمد أحمد الراشد ]؛ لهذا حثَّنا الله تعالى على سؤالهم إن أشكل علينا أمر شرعي, فقال تعالى: [ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ] [الأنبياء: 7].

أخرج الدارمي في سننه في مقدمته: عَنْ أَبِي أُمَامَةَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ [ خُذُوا الْعِلْمَ قَبْلَ أَنْ يَذْهَبَ ] قَالُوا: وَكَيْفَ يَذْهَبُ الْعِلْمُ يَا نَبِيَّ اللَّهِ وَفِينَا كِتَابُ اللَّهِ؟ قَالَ: فَغَضِبَ ـ لَا يُغْضِبُهُ إلاَّ اللَّهُ ـ ثُمَّ قَالَ: [ ثَكِلَتْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ أَوَلَمْ تَكُنِ التَّوْرَاةُ وَالْإِنْجِيلُ فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ، فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمْ شَيْئًا ؟! إِنَّ ذَهَابَ الْعِلْمِ أَنْ يَذْهَبَ حَمَلَتُهُ, إِنَّ ذَهَابَ الْعِلْمِ أَنْ يَذْهَبَ حَمَلَتُهُ ].

قال الإمام الشوكاني ـ رحمه الله ـ: [ إنَّ إنصاف الرجل لا يتمُّ حتَّى يأخذ كلَّ فنٍّ عن أهله كائنًا ما كان؛ فإنَّه لو ذهب العالم الذي تأهَّل للاجتهاد يأخذ مثلاً الحديث عن أهله، ثمَّ يريد أن يأخذ ما يتعلَّق بتفسيره في اللغة عنهم؛ كان مخطئًا في أخذ المدلول اللغوي عنهم, وهكذا المعنى الإعرابي عنهم فإنَّه خطأ ]، ثمَّ يؤكِّد الإمام الشوكاني هذه المنهجيَّة المتَّزنة بقوله: [ فالعالم إذا ظفر بالحق من أبوابه, ودخل إلى الإنصاف بأقوى أسبابه, وأمَّا إذا أخذ العلم عن غير أهله، ورجَّح ما يجده من الكلام لأهل العلم في فنون ليسوا من أهلها؛ فإنَّه يخبط ويخلط, ويأتي من الأقوال والترجيحات بما هو في أبعد درجات الإتقان وهو حقيق بذاك] ا.هـ [ أدب الطلب ومنتهى الأرب /76 ]

وكم من مدَّعٍ للعلم, متعالم مع جهل, ينظر لنفسه نظر الكبر والغرور؛ فيظنُّ أنَّ جمع العلم يكون من قراءته للكتب فحسب, فلا حاجة لأن يقرأ العلم على أهله, ولا ليثني ركبه عند أهل العلم, تلقيًا منهم ومذاكرة معهم, ومراجعة عليهم؛ ليعلو كعبه في العلم, ويعلم أنَّه [من البليَّة تشيُّخ الصحيفة]، وقد كان أهل العلم ينهون عن نيل العلم من الكتب فحسب, بل لابد من مقارنة ذلك بالحضور عند أهل العلم, والتلقي من الأشياخ؛ ليقوى باع الطالب في العلم, ويشتد عوده في الفهم, ويصلب مراسه لمعالجة مشكلات الكتب وما يكتنفها من مسائل غامضة. قال كمال الدين الشمني:

من يأخذ العلم عن شيخ مشافهةً يكن من الزيف والتصحيف في حرمِ

ومن يكن آخذاً للعلم من صحف فعلمه عند أهل العلم كالعدم

قال الأوزاعي : كان هذا العلم شيئاً شريفاً , إذ كان من أفواه الرجال يتلاقونه ويتذاكرونه, فلما صار في الكتب ذهب نوره وصار إلى غير أهله.

وحين يتأمل المرء في بعض الكتب الصادرة, وما يجد فيها من فهم خطأ لبعض نصوص الكتاب والسنَّة, وأقوال أهل العلم؛ يتيقن بأنَّ الخطأ ليس في صياغة الشيخ في كتابه بدلالاته اللغوية, ومعانيه الكلاميَّة, وإنَّما من الفهم القاصر لقارئ الكتاب؛ ممَّا يجعله ينزلق في الفهم القاصر, كما قال ابن القيم: [ما أكثر ما ينقل الناس المذاهب الباطلة عن العلماء بالأفهام القاصرة] [مدارج السالكين2/431]. وصدق من قال:

وكم من عائب قولاً صحيحاً وآفته من الفهم السقيم

ولا عجبَ أن ترى كثيراً من المسائل التي وقعت بها أخطاء علميَّة, أدَّت فيما بعد لأن تكون أقوالاً تنسب لبعض المنتسبين للعلم؛ لتكون خلافاً يحكى أمد الدهر, وذلك لقلَّة الفهم, وضعف العلم, ولو سكت هؤلاء القوم ولم ينطقوا لكان ذلك بهم أحرى وأوْلى من أن يتكالبوا على التدريس والتعليم, وبضاعتهم في العلم مزجاة, وممَّا يحسن إيراده في هذا المقام ما قاله كلثوم العتابي حيث قال: [لو سكت من لا يعلم لسقط الاختلاف ] معجم الأدباء[5/19] وقال أبو حامد الغزالي: [لو سكت من لا يعرف قلَّ الاختلاف, ومن قصر باعه وضاق نظره عن كلام علماء الأمَّة والاطِّلاع عليه فماله وللتكلُّم فيما لا يدريه, والدخول فيما لا يعنيه, وحق مثل هذا أن يلزم السكوت] [الحاوي للفتاوى2/116].

ولهذا كان أهل العلم ـ رحمهم الله جميعاً ـ إذا سئلوا عن مسألة ولم يعرفوا لها جواباً قالوا : الله أعلم, ولم يفذلكوا أو يكذلكوا, بل كانوا متَّسمين بالوضوح تجاه مستفتيهم, إن علموا حكم المسألة قالوا بها, وإن جهلوها قالوا لا نعرفها, بل كانوا لا يجزمون في فتاويهم ـ في بعض الأحيان ـ إن شعروا أنَّ المسألة قد تحتمل أوجهاً متعدِّدة, كما نقل عن الإمام مالك أنَّه في بعض الأحيان إن أفتى قال: [إن نظنُّ إلاَّ ظنَّاً وما نحن بمستيقنين] [جامع بيان العلم وفضله2/146] وممَّا نقل عن بعض أهل العلم حين كانوا لا يعرفون حكم المسألة أو يجهلونها, ما نُقِلَ عن علي بن أبي طالب ـ رضي الله عنه ـ أنَّه قال: [وأبردها على الكبد إذا سئل أحدكم عمَّا لا يعلم, أن يقول : الله أعلم] [تعظيم الفتيا لابن الجوزي/81].

3ـ ألاَّ يكون من أصحاب تتبع الرخص, ومن المتساهلين في فتاويهم وتعليمهم:

والحقيقة أنَّ أصحاب تتبُّع الرخص صاروا يستمرؤون هذه الخصلة وخاصَّة في هذا الزمان, بل صاروا يأتوننا بأسماء جديدة للفقه, فطوراً يقولون: نحن من دعاة [تطوير الفقه الإسلامي] وتارة يقولون : نحن أصحاب مدرسة [فقه التيسير والوسطيَّة] وليتهم كانوا كذلك, فهناك فرق بين التيسير الذي هو سمة الفقهاء الراسخين, والتفريط الذي هو سمة المتساهلين!

بيد أنَّ التيسير والترخيص لا يؤخذ إلاَّ من رجل عالم ثبت ثقة، وأمَّا أن يؤخذ ذلك من كل أحد يدَّعي الاجتهاد والتعليم؛ فإنَّ ذلك هو المرفوض قطعاً, وبما أنَّ الربَّاني يرفض الغلو والتشديد, فهو كذلك يرفض الترخيص والتساهل من غير الثقات, لذا قال الإمام سفيان الثوري ـ رحمه الله ـ[إنَّما العلم عندنا الرخصة من ثقة فأما التَّشدد فيحسنه كلُّ أحد] [جامع بيان العلم وفضله لابن عبد البر 1/784]. فليفرَّق بين أصحاب مدرسة التيسير المتَّبعين لضوابط الشرع, وبين أولي التساهل والتفريط والتمييع وعلى هذا فقس، من أنصار تطويع الفتوى للواقع, وليِّ أعناقها لتواكب هذا العصر وتوازن ميوله واتجاهاته خشية أن يُنْبَزُوا بأنَّهم متشدِّدون متنطِّعون!

وصرنا نرى فتاوى يضحك الجهلاء منها, كشيخ يرى جواز كشف شعر المرأة لأنَّ هناك عالماً كان يرى كشف شعر المرأة , ولذا فلا بأس بأن تكشف المرأة شعرها, وشيخ يفتي النساء المسلمات ويدعوهنَّ إلى التَّخلِّي عن الحجاب تلافياً لموجة الاعتداءات على المسلمين التي شهدتها بريطانيا عقب الهجمات على لندن, وآخر يرى جوازَ بيعِ المسلمينَ للكفَّارِ الخمرَ, بدعوى الضرورة والحاجة:

أمور تضحك السفهاء منها ويبكي من عواقبها الحليم

وثالث يفتي بجواز التطبيع مع اليهود مع أنَّ إباحة ذلك قضيَّة خطيرة للغاية، وشيخ ٌيرى جواز إمامة النساء للرجال, أو يرى جواز التدخين لمن يقدر على شرائه, أو بمن يقول بجواز لبس البنطال للنساء في الشوارع بحجَّة أنَّه يستر جسدها, أو بجواز مصافحة المرأة الأجنبيَّة للرجل وتقبيله لها أو تقبيلها له, أو من شيخ يرى جواز أن يتغنَّى الفسقة المغنُّون بالقرآن ويعزفوا الوتر على آياته, وآخر ما اطَّلعت عليه ما نشر عن أحدهم بأنَّه يشكِّكُ في نزول عيسى بن مريم ـ عليه الصلاة والسلام ـ إلى الأرض في آخر الزمان , ضارباً على الأحاديث الواردة عن النبي ـ صلَّى الله عليه وسلَّم ـ في إثبات هذه المسلَّمة العقديَّة ! وقد سمعت من ذلك عجباً لا أحبُّ أن أزيد به القارئ ضحكاً مزجياً بتعجُّبٍ واستغراب.

ومن الوسائل التي يحاول أدعياء تطوير الفكر الإسلامي أن يطرحوها , اتِّخاذ التلفيق الفقهي وسيلة لمعايشة ضغوط الواقع, والمقصود بالتلفيق: أن لا يلتزم المفتي أو مستنبط الحكم مذهباً معيَّناً في فتاواه وفي حكمه, بل يحاول أن يأخذ برخص الفقهاء, ونوادر العلماء, وتيسيرات المتقدِّمين؛ لتكون مناسبة لفقه القرن الواحد والعشرين, وهو قرن اندماج الثقافات مع الآخر الغربي/ الكافر؛ ليكون ذلك وسيلة على إظهار الإسلام بروح المعاصرة والمسايرة!

وقد اطَّلعت مؤخراً على كتاب جديد كتبه: [مراد هوفمان] بعنوان: [في تطوُّر الشريعة الإسلامية] يقرِّر فيه إسلاماً يسميه [الإسلام المعتدل] إذ يرى أنَّ الشريعة الإسلامية قابلة للتطور والمرونة؛ ولذا يرى أنَّ شهادة المرأة كافية وخاصَّة في الأمور الاختصاصيَّة بل وملزمة /صـ47، ويرى أنَّ تعدد الزوجات هو استثناء لحالات خاصَّة حيث يسمح به في حالة الأمَّهات الأرامل ممَّن لديهنَّ أطفال يتامى، أو مع يتيمات, أو لهدف العناية بالأيتام /صـ41، كما يرى أنَّه لا ينبغي إقامة حدِّ الردَّة على المرتد عن الإسلام /صـ53, ويرى أنَّ الإسلام ـ كنتيجة نهائية لبحث كتبه في عشرين سطراً ـ لم يقرَّ أبداً رجم الزناة /صـ55، بل يرى أنَّ الحديث عن مفاهيم دار الحرب ودار الإسلام للتعبير عن العلاقة بين الشرق والغرب بأنَّها مفاهيم تجاوزها الزمن /صـ65, إلى غير ذلك من الضَّلالات التي وقعَ فيها هذا الرجل؛ ليجعل أحكام الإسلام تُؤخذُ بهذه الطريقة المنهزمة, والمُمَيَّعة! [ آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ] [يونس: 59]

ولولا أن يُظنَّ بنا غلوٌّ لزدنا في المقال من استزادا

فهذا الرجل وأمثاله الذين صار لهم توسع وانتشار, من الأشكال التَّي تعرض الدين الإسلامي بطريقة تجعل النصوص الإسلاميَّة ملويَّة أعناقها لتتواءم ـ كما زعموا ـ مع معطيات الحضارة, ومتغيرات الزمن؛ وليؤسٍِّسوا فقهاً اجتهاديَّاً جديداً يرعى مصالح الزمان, وضغوطه الدولية، والَّتي من أهمِّها أن ينظر الغرب إلى هذه العقول بأنَّها عقول مرنة ومنفتحة, وصدق من قال من علمائنا المعاصرين: إنَّ الاجتهاد لم يُفتح في هذا الزمان وإنَّما كسر كسراً! فرحم الله من قال:

إن رُمْتَ حقَّاً لهذا الدِّين مصلحة لا تظلم القوس أعط القوس باريها

ولقد كان علماؤنا الأجلاَّء يحرِّمون استفتاء المفتي المتساهل, كما ذكر الإمام ابن مفلح قائلاً: [ يحرم تساهل المفتي, وتقليد معروف به] [التقرير3/351 بواسطة : زجر الفقهاء عن تتبع رخص الفقهاء/66]، وكان الإمام أيوب السختياني ـ رحمه الله ـ يقول: [يخادعون الله كأنَّما يخادعون الصبيان] [أعلام الموقِّعين 4/176ـ177]؛ ولهذا شكا بعضهم إلى الفقيه ابن حجر الهيتمي أحدَ قضاة المسلمين , لأنَّه يشدِّد على الناس فلا يحكم إلاَّ بالقول الصحيح, ولا يسلك بهم مسلك التخفيف والترخيص فأجاب ـ رحمه الله ـ بقوله: [ما ذُكر عن هذا القاضي إنَّما يُعَدُّ من محاسنه لا من مساوئه؛ فجزاه الله تعالى عن دينه وأمانته خيراً, فإنَّه عديم النظر إلى الآن ـ ثمَّ قال: ـ فقيام هذا القاضي حينئذٍ بقوانين مذهبه, وعدم التفاته إلى الترخيص للناس بما لا تقتضيه قواعد إمامه يدلُّ على صلاحه ونجاحه وفلاحه] [الفتاوى الكبرى الفقهية 4/324 بواسطة زجر الفقهاء عن تتبع رخص الفقهاء لجاسم الدوسري/22, وكتاب تحذير الفضلاء للمقطري/35ـ36]

ولهذا فإن المنتسبين لأصحاب مدرسة [فقه التيسير ـ أي التساهل والتمييع لقضايا الشريعة ـ] المدَّعين أنَّهم أولو الوسطيَّة والاعتدال؛ فإنَّك واجد في كتاباتهم ودروسهم وفتاويهم عجائب من الأقاويل, التي يرون أنَّهم بها قد وافقوا بين الأصالة الفقهية, والمعاصرة الزمانيَّة، ومن ذلك ما قاله الشيخ مصطفى المراغي لأعضاء لجنة وضع لائحة الأصول للأحوال الشخصيَّة ـ وكان رئيسها ـ : [ضعوا من المواد ما يبدو لكم أنَّه موافق الزمان والمكان, وأنا لا يعوزني بعد ذلك أن آتيكم بنص من المذاهب الإسلاميَّة يطابق ما وضعتم] [تراجم الأعلام المعاصرين لأنور الجندي/ص428].

آه من دهر خؤون أهله لا يرون العلم للدين شعارا

طلبوا علماً بماضي غيرهم حالهم أحسن إذ كانوا صغارا

فإذا ما الشيب في أذقانهم ملؤوا الآفاق ظلماً وبوارا

وقد كان أهل العلم يحذِّرون أشدَّ التحذير من الأخذ برخص العلماء وزلاَّتهم, وأن تُجعل ديناً يدين العبد بها ربَّه, فإنَّ ذلك علامة على ضعف الإيمان, وقلَّة الديانة, قال الأوزاعي: [من أخذ بنوادر العلماء خرج من الإسلام] [السير/125].

4ـ أن يكون له باع طويل في تلقِّي العلم والاجتهاد في تحصيله:

إنَّ ضرورة التأصيل العلمي, وقوَّة التمكن الشرعي, له أثره البالغ ـ ولا شكَّ ـ في أهليَّة العالم أو المعلِّم وقت تعليمه وكتابته وإفتائه, ذلك أنَّه يعطي المتعلِّم أو المستفتي اطمئناناً لمن يسأله، والقارئ ارتياحاً لما يكتبه الداعية المعلِّم، وقد كان أهل العلم الربَّانيين السابقين منهم واللاحقين يطلبون العلم, ويجتهدون في نيل مرامه, من المهد إلى اللحد، كما قال الإمام أحمد, فكانوا لا يفارقون كواغد العلم, ولا أوراق الشريعة, فهي معهم في حلِّهم وترحالهم, بل لا يتركون معلِّميهم وأساتذتهم في طلب العلم عليهم بثني الركب عندهم، ولك أن تعلم أنَّ إماماً كابن الجوزي طلب علم القراءات وقد كان باقعة في العلم, علاَّمة في الإدراك والفهم, مشهوراً بين الأنام, ومع ذلك يطلب هذا العلم مع ابنه الصغير وهو في سنِّ السبعين, ولم يكن كبر عمره, وشرف رسوخه في العلم, حائلاً بينه وبين طلب العلم, وملازمة أخذه وإدراكه, والعيش معه ليل نهار, حفظاً واطِّلاعاً وبحثاً ومذاكرة وفهماً وتعليماً وإفتاءً, وقد قال علماؤنا بأنَّه: من لم يتقن الأصول حرم الوصول.

إلاَّ أنَّ القضيَّة ـ وللأسف ـ اختلفت وخاصة في هذا الزمان الذي كثر فيه المستعجلون للتدريس, والمتزبِّبون قبل أن يتحصرموا, والمدَّعون للعلم والعلم بريء منهم [فعلى هذا لا يكتفي بمجرَّد انتسابه إلى العلم, ولو بمنصب تدريس أو غيره, لا سيما في هذا الزمان الذي غلب فيه الجهل, وقلَّ فيه طلب العلم, وتصدَّى فيه جهلة الطَّلبة للقضاء والفتيا, فتجد بعضهم يقضي ويفتي وهو لا يحسن عبارة الكتاب, ولا يعلم صورة المسألة, بل لو طولب بإحضار تلك المسألة وهي في الكتاب لم يهتدِ إلى موضعها, فإنَّا لله وإنَّا إليه راجعون:

لقد هزلت حتَّى بدا من هزالها كلاها وحتَّى سامها كل مفلس]

[ما بين القوسين من رسالة في الاجتهاد والتقليد ـ للشيخ: حمد بن ناصر بن معمَّر/48ـ49]

حتَّى قال الأستاذ: مالك بن نبي ـ رحمه الله ـ : [والحقيقة أنَّنا قبل خمسين عاماً كنَّا نعرف مرضاً واحداً يمكن علاجه, هو الجهل والأميَّة, ولكننا اليوم أصبحنا نرى مرضاً جديداً مستعصياً هو[التعالم]. وإن شئت فقل: الحرفيَّة في التعلُّم , والصعوبة كلَّ الصعوبة في مداواته . وهكذا فقد أتيح لجيلنا أن يرى خلال النصف الأخير من هذا القرن ظهور نموذجين من أفراد في مجتمعنا: حامل المرقعات ذي الثياب البالية, وحامل اللافتات العلميَّة] [شروط النهضة/91 ]. ولهذا فإنَّ أحد متعالمي زماننا، وهو مهندس ميكانيكي، أخرجَ كتاباً عنوانه: [ إصلاح أكبر خطأ في تاريخ الأمَّة الإسلاميَّة] حيث يدَّعي أنَّ مسند الإمام أحمد ليس للإمام أحمد وإنَّما لابنه عبد الله, بدعوى أنَّ المسند قبل كلِّ حديث أو أثر مرويٌّ بسنده, يبدأ به بقوله حدَّثنا عبد الله, قال حدَّثنا الإمام أحمد، فخرج هذا المسكين بالنتيجة العلميَّة التي لم يدركها جميع علماء الحديث على مرِّ الزمن, واستخرجها هو بفطنته وعلمه وكياسته, ولم يعلم هذا المتعالم أنَّ مسند الإمام أحمد قد رواه عنه كاملاً ابنه عبد الله؛ ولهذا كُتب فيه: حدَّثنا عبد الله ابن الإمام أحمد, وصدق من قال: العلم فضَّاح لغير أهله.

كلُّ من يدَّعي بما ليس فيه فضحته شواهد الامتحان

بل وصل بعضنا إلى درجة [الانحطاط الفكري] في تلقِّي العلم الشرعي ممن لم يعرف عنه نبوغه به, فقد حدَّثني أحد العلماء المعاصرين عن أحد الكتَّاب الغربيين الذين انتسبوا لدين الإسلام, أنَّه استُضيف في أحد الفنادق، وكان حضور الناس إليه بالمئات, وكان ممَّن حضر ذلك المؤتمر النساء المسلمات, وبدؤوا يسألونه عن كلِّ صغيرة وكبيرة وصاحبنا الغربي لا يفتأ يجيب عن كلِّ ما يسأل عنه, حتَّى إنَّ إحدى النساء الحاضرات سألته عن مسألة من مسائل الحيض المشكلة عليها ليجيب عنها بما يراه مناسبًا, والعجيب أنَّ المقدِّم له يسأله عن ذلك وهو يعلم أنَّ ذلك الرجل المنتسب لدين الإسلام حديث عهد بإسلامه ! فكيف بالله يلج هذا الرجل تلك المداخل وهو قريب عهد بالإسلام؟! ورحم الله ابن رشد إذ قال: [كان العلم في الصدور واليوم صار في الثياب][ خلاصة الأثر للمجبي 1/275ـ بواسطة التعالم للشيخ الدكتور بكر أبو زيد /صـ35].

ولن أستطرد بذكر شيء من هذا القبيل؛ فلا أحبُّ أن أنكأ الجراح, ولا أذرَّ الملح على الجراح! ولله درُّ الإمام ابن تيميَّة حين نَقَلَ عن بعضهم: [وقد قال بعض الناس: أكثر ما يفسد الدنيا نصف متكلم, ونصف متفقه, ونصف متطبب, ونصف نحوي, هذا يفسد الأديان وهذا يفسد البلدان, وهذا يفسد الأبدان, وهذا يفسد اللسان] [مجموع الفتاوى5/118].

5ـ أن يتلقَّى العلم ممَّن يقدِّر العلماء ويحترمهم.

المسلم الذي يهوى الحق ويطلبه؛ لابدَّ أن تكون لديه علامة لحبِّ أهل العلم وإنزالهم منزلتهم, واحترام علمهم, وقد أخبرنا رسول الله ـ صلَّى الله عليه وسلَّم ـ كما في حديث عبادة بن الصامت ـ رضي الله عنه أنَّه قال ـ: [ليس من أمتي من لم يجل كبيرنا, ويرحم صغيرنا, ويعرف لعالمنا حقَّه] [أخرجه أحمد بسند جيد].

بيد أنَّ المطَّلع على حال الكثير من الصحفيين ـ وهم الذين يأخذون العلم من الكتب دون المشايخ ـ كما قال الزمخشري في التعاريف[1/449] أو من يتسمَّون بالصحافيين وهم جمَّاعو الأخبار, فسيجد المراقب لكتاباتهم شيئاً عجيباً من قلَّة احترام العلماء, والاستهانة بعلمهم, بل الاجتهاد في تحقيق كثير من القضايا في مجلاَّت لم تُعرف بروح العلم, بل عرفت بالعلمنة والفسق, ثمَّ يأتي أحدهم ويناقش قضيَّة حكم استماع الموسيقى والأغاني في نصف صفحة, ويعرض قول من شذَّ رأيهم في إجازة الاستماع لتلك المعازف, ويعرض بل يشنِّع ويشغِّب على العلماء الذين أفتوا بحرمتها, وخاصَّة في هذا العصر؛ لأنَّ تلك الفتوى لا تتواءم مع القرن الحادي والعشرين!

بينما تجد عند السابقين من طلاَّب العلم قمَّة احترامهم لعلمائهم, فهذا لا يطرق الباب على شيخه إلاَّ بأطراف أصابعه, وهذا يهاب من النظر إليه إجلالاً له واحتراماً, وآخر يخشى أن يزعج شيخه بتصفُّح الأوراق أمامه والانشغال عن درسه بها, وهذا ينتظر شيخه من المساء إلى الصباح وقد سفَّته الرياح حتَّى يفتح الشيخ له بابه, وآخر لا يأتي عند شيخه إلاَّ ويقبِّلُ يده ويدعو له بالخير, وآخر لا يصلي صلاة إلاَّ ويدعو لشيخه بالخير والجنَّة, ورحم الله ربيعة بن أبي عبد الرحمن إذ قال: [الناس في حجور علمائهم كالصبيان في حجور أمَّهاتهم] [شرح ابن أبي العز للطحاوية1/105].

أمَّا الآن فتجد أنّ القوم المتعالمين إذا تعلم أحدهم مسألة أو عشر مسائل, بدأ يكتب في الصحف والمجلاَّت والجرائد، وينشر علمه الغزير! فيخطِّئ الأئمة المجتهدين, ويستدرك عليهم ما يظنُّه من زلاَّتهم, بدعوى الحجَّة الزائفة: [هم رجال ونحن رجال]، ولا شكَّ أنَّ الاحتجاج بهذه المقولة حجَّة ساقطة لوجوه:

الوجه الأوَّل: أنَّ الاحتجاج بهذه الكلمة غير صحيح؛ لأنَّ الذي قالها الإمام أبو حنيفة, كما نقل مقولته عنه ابن حزم ـ رحمه الله ـ: [ ما جاء عن الله تعالى فعلى الرأس والعينين, وما جاء عن رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم فسمعاً وطاعة, وما جاء عن الصحابة ـ رضي الله عنهم ـ تخيَّرنا من أقوالهم, ولم نخرج عنهم, وما جاء من التابعين فهم رجال ونحن رجال ] [الإحكام لابن حزم4/573]، فأبو حنيفة حين قال هذه الكلمة, فقد قالها لأنَّه يصنَّف من التابعين, حيث رأى أنس بن مالك, واجتمع مع جمهرة من التابعين الأكابر، فيصدق عليه أنّه رجل وهم رجال لأنَّه هو وهم من التابعين, ومن لنا بعلم أبي حنيفة في هذا العصر, لنقول فيه: هو رجل وهم رجال!

الوجه الثاني: أنَّ هناك فرقاً عظيماً بين هؤلاء الرجال العصريين, ومن قبلهم من الرجال السابقين؛ لأنَّ التابعين هم من القرون المفضَّلة, التي امتدحها رسول الله؛ وهو ما أدَّى بابن رجب إلى أن يؤلِّف كتاباً بعنوان: [فضل علم السلف على علم الخلف]، ولذا فإنَّ كلام السلف قليل كثير البركة, وكلام الخلف كثير قليل البركة.

الوجه الثالث: أنَّ من يدَّعي أنَّه رجل ينبغي عليه أن يعرف قدره وقدر الرجال الذين سبقوه, وإذا كان أبو عمرو بن العلاء يقول: [ما نحن فيمن مضى إلاَّ كبقل في أصول نخل طوال] [سير أعلام النبلاء 6/407] مع أنَّ أبي عمرو يعدُّ في عُرف أهل السير شيخَ القرَّاء والعربية.

فهؤلاء المدَّعون للعلم والشيخوخة في طلبه, لم يعرفوا قدر علمائهم, وإذا كانوا يعدُّون أنفسهم أنَّهم رجال, فإنَّ الرجال يحترم بعضهم بعضاً, وأوْلى بهؤلاء المدَّعين للرجولة أن يقال في حقِّهم ما قاله الشيخ عبد الرزاق عفيفي لأحدهم حين ادَّعى أمامه تلك الدَّعوى قائلاً له : نعم ... هم رجال ... وأنت دجَّال!!

ورحم الله مجاهداً حين قال: [ذهب العلماء فلم يبقَ إلاَّ المتكلِّمون, والمجتهد فيكم كاللاعب فيمن كان قبلكم] [أخرجه أبو خيثمة في كتاب العلم/66]؛ فالله المستعان.

وفي الختام:

فإنَّ مريد الحق, ومبتغي سبل الهدى, ينبغي أن يحتاط في الأخذ لدينه, وأن يعرف من يؤخذ عنهم العلم, وما صفاتهم, وقد كان علماؤنا الأجلاَّء يُعْنَوْنَ بهذه القضيَّة أشدَّ الاعتناء, فقد قال الإمام محمد بن سيرين ـ رحمه الله ـ: [إنَّ هذا العلم دين؛ فانظروا عمَّن تأخذون دينكم] [شرح مسلم للنووي1/84]. فليس كلُّ من لبس لباس العلم يؤخذ عنه, وليس كلُّ من صدَّره الإعلام والفضائيَّات والصحف يُظَنُّ أنَّه ذلك الرجل الخِرِّيت الذي فقه دين الله, ورضي بمقتضاه, وألمَّ بفحواه, وليس كلُّ من كتب مقالاً أو بحث مسألة شرعيَّة أو كتب كتاباً يعدُّ عالماً أو طالباً للعلم, أو مؤهَّلاً لأن يؤخذ عنه العلم, ويكفي أنَّ أئمتنا قالوا: ليس العلم بكثرة الرواية والدراية, ولكنَّه نور يقذفه الله في قلب المؤمن الموفَّق, مصداقاً لقوله تعالى: [ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُم ] [البقرة: 282]. قال الإمام ابن القيِّم:

والعلم يدخل قلب كلِّ موفَّق من غير بوَّاب ولا استئذان

ويردُّه المحروم من خذلانه لا تشقنا اللهم بالخذلان

فاعرف يا ابن الإسلام دينك, واختر لنفسك عالماً متفقِّهاً في دين الله تنهل منه العلم, وتأخذ عنه الفتوى, وإيَّاك ومشايخ السوء، فعنهم ابتعد, ولهم خالف, وعلى آرائهم فاضرب, متأسِّياً بقول العربي الأصيل: [ليس ذا عشَّك فادرجي].

كتبت هذا المقال مذكِّراً بأهمِّيَّة هذه القضيَّة, ومنبِّهاً لها في زمن قلَّ فيه من يعطي لأهل العلم الربَّانيين قدرهم, ويعرف علمهم, وما أنا ـ والله ـ إلاَّ رجل مستفيد من بضاعتهم, متطفِّل على موائدهم, فرحمني الله برحمته، وجعلني ممَّن يهتدي بهدي نبيِّه وصحابته.

أسير خلف ركاب النُّجب ذا عرج مؤمِّلاً كشف ما لاقيت من عوج

فإن لحقت بهم من بعد ما سبقوا فكم لربِّ الورى في ذاك من فرج

وإن بقيت بظهر الأرض منقطعاً فما على عَرَجٍ من ذاك في حرج

سائلاً المولى أن يعصمنا من الفتن, وأن يحفظنا من زلل القول والعمل, والحمد لله ربِّ العالمين.

==============

#المرأة الأمريكية والتاريخ!!

الأحد غرة ذي الحجة 1426هـ – 1 يناير 2006م

الصفحة الرئيسة

د.باسم خفاجي

مفكرة الإسلام: لعبت المرأة دوراً هاماً في تاريخ البشرية، وكان لها دور حاسم في تغيير مجرى الكثير من أحداث العالم. وعرفت البشرية عبر حضاراتها المختلفة نساء عظيمات، ولكن بعض الحضارات فشلت في أن تنجب للبشرية نساء يذكرهن التاريخ، بينما نجحت حضارات أخرى في إنجاب نساء كان لهن أثراً ملموساً في حضارات أممهم.

ومن اللافت للنظر أن أمريكا – رغم حضارتها المدنية – قد فشلت في أن تقدم للبشرية امرأة واحدة من سلسلة النساء اللائي ساهمن في صياغة تاريخ البشرية. ليست أمريكا هى الحضارة الوحيدة التي لم تقدم للعالم نساء يعرفهن التاريخ، فكلا من الحضارة الرومانية واليونانية لم تنجحا أيضاً في ذلك، وكذلك الحضارة الصينية.

عندما غادر سيموند فرويد – عالم النفس المعروف – أمريكا عائداً إلى النمسا ذكر أن أحد التجارب الأمريكية الهامة هى تجربة تحرير المرأة، وأعرب عن اعتقاده أن التجربة لن تنجح في إسعاد المرأة الأمريكية، ولعله كان محقاً في ذلك. لقد حصلت المرأة الأمريكية على العديد من الحقوق المدنية، ولكنها فقدت في المقابل العديد من الحقوق الإنسانية، ويفسر ذلك انتشار الإكتئاب والانتحار والطلاق والأمراض النفسية لدى المرأة الأمريكية بدرجة أكبر من معظم الدول الصناعية المتقدمة، وأعلى بدرجة كبيرة من باقي دول العالم.

إن الحفاظ على الحقوق الإنسانية للمرأة أهم من الحفاظ على الحقوق المدنية لكي يحافظ المجتمع على توازنه رغم استحقاق المرأة لكل من الحقوق المدنية والإنسانية ليس مناً من الرجل، ولكنه حق سنه الخالق لها. ولكن التاريخ يشهد أن المرأة نجحت بشكل أكبر في التأثير على المجتمع عندما تمتعت بكامل حقوقها الإنسانية من محبة وتعاطف المجتمع معها، وتقدير الرجل لدورها في بناء الأمة حتى وإن لم تتمتع بكل الحقوق المدنية التي تمتع بها الرجل.

لقد ساهمت المرأة في القرون الماضية في صناعة تاريخ أوربا الحديث رغم عدم حصولها على الحقوق المدنية المتعارف عليها اليوم. وشهدت أوربا إنجازات الملكة فيكتوريا في بريطانيا. والإمبراطورية كاثرين في روسيا القيصرية، وجين دو آرك التي وحدت فرنسا. كان للحضارات الأخرى التي احترمت المرأة واحاطتها بالحب والتقدير نصيبها الوافر أيضاً من نساء التاريخ.

فقد أنجبت الحضارة المصرية كليوباترا، وكذلك الحال مع الأمة الإسلامية التي أخرجت للعالم العديد من النساء اللائي صنعن التاريخ وغيرن من مساره أيضاً وعلى رأسهن أمهات المؤمنين عائشة وخديجة رضي الله عنهن.

إن الحضارات تنجب عظيمات عندما تحظى المرأة باحترام وتقدير المجتمع، وعندما يحيطها المجتمع بالمحبة والتعاطف، وليس بالتنافس والإستغلال. ومن يظن أن المرأة كانت مهملة في تاريخ البشرية قبل القرن العشرين، فليعيد قراءة التاريخ فقد فاته الكثير.

لم يذكر التاريخ عائشة رضي الله عنها أو كليوباترا أو الملكة فيكتوريا فقط لأن مجتمعاتهم شملتهن بالمحبة والتقدير .. ولكن لأن المرأة في تلك الحقب التاريخية كانت محل المحبة والإحترام من كل المجتمع لكل النساء. لم تحتج المرأة في تلك الأيام أن تتعرى لكي تعرف وتشتهر، ولم تستخدم المرأة كسلعة إعلانية أو سائقة شاحنة لكي تنعم بالحرية. لقد تحررت المرأة في أمريكا، وأصبحت قادرة على منافسة الرجال في معظم ميادين الحياة، ونجحت في الحصول على حق الإنتخاب وحق استخدام قدراتها وأحياناً حتى جسدها للنجاح المادي، ولكنها فقدت الكثير من محبة المجتمع واحترام الأجيال الناشئة، ولذلك فقدت السعادة، وتوارت عن صفحات التاريخ.

=============

#صنعة الخط والمخطوط والوراقة والفهرسة في الحضارة الإسلامية

الاثنين 24 ذي القعدة 1426هـ – 26 ديسمبر 2005م

الصفحة الرئيسة

مفكرة الإسلام : صدر مؤخرا في دمشق كتاب بعنوان صنعة الخط والمخطوط والوراقة والفهرسة في الحضارة العربية الإسلامية من تأليف عبد القادر أحمد عبد القادر .

يتناول الكتاب مواضيع تتعلق بتاريخ المكتبات الإنسانية منذ ما قبل الميلاد، ويستفيض المؤلف في تعريف المخطوط العربي ومكوناته المادية ومضامينه من الغلاف وعنوانه، وحتى التقيدات والحواشي والهوامش المسجلة على جوانب صفحات المخطوط، والجذاذات المثبتة جانب المواقع والمواضيع الشارحة لبعض بنود المخطوط، أو المفسرة لبعض الكلمات والرموز أو المصححة لخطأ تاريخي أو علمي أولغوي وقع فيه المؤلف أو سها عنه الناسخ أو فوائد يضيفها مالك المخطوط أو قارئه.

وأشار المؤلف إلى صيغ تملك أو شراء أو مطالعة أو قراءة أو سماع أو ما كتب على الأوراق الملحقة بالمخطوط في وسطه أو آخره بعد بداياته.

حفل الكتاب بتعاريف منهجية اصطلاحية للمخطوط العربي الإسلامي من ناحية مضامينه الفقهية والتاريخية والعلمية والفكرية في علوم الفلك والإسطرلاب والأرض، وكذلك بمتابعة مكوناته المادية من الورق والمداد وأنواعه وألوانه وثباته، وأنواع الخط ومدارسه وأشكال الزخرفة لمقدمته وإطار صفحاته، وركز علي الكيفية التي يتم بها إنهاء المخطوط سواء عليه أكتبها المؤلف أو الناسخ.

وتطرق المؤلف إلى المكتبات المحلية والدولية التي تحتفظ بنسخة أو نسخ من بعض المخطوطات.

وعرّف بكلمة الفهرسة التي تعني السجل الذي تكتب فيه أسماء الكتب ومنحى تطورها ومعناها اصطلاحيا ويأخذ بيد الباحث والدارس ليجد ما يساعده على معرفة الكتاب ومؤلفه وموضوعه وتاريخ تأليفه ودار نشره.

وفرّق بين فهرسة المخطوطات القلمية وفهرسة المطبوعات الحجرية وبين الكتب المواكبة لتطور التنفيذ الآلي والحاسوبي وفق معايير عالية الدقة والإخراج الطباعي.

ولاحظ المؤلف ضرورة التنبه للمهام التي ينبغي أن يراعيها المفهرس لمكان النسخ أو الطبع وأنواع الخط الذي كتب به المخطوط، وعدد أجزائه إن جاوز المجلد الواحد وعدد الأوراق ومقاسها طولا وعرضاً وعدد الأسطر في كل صفحة وهل تم تدقيق المخطوط ومراجعته من خبير إضافة للمصنف أو الناسخ، وعرّف بمضمون بطاقة فهرسة المخطوطات المصورة ـ الميكروفيلم ـ وبالرموز المستخدمة في المخطوطات والمطبوعات لعلة الاختصار.

وينتقل لبيان أهمية التصنيف في علم فهرسة المخطوطات لتنظيمها، بهدف تسهيل استخدامها والتعريف بها. وعرّج على تعريف التنصيف لغة ومصطلحاً على تعدادها بين المؤلفين الإسلاميين وصولاً بها حتى تعاريف الاختصاصين المعاصرين لعلم المكتبات الدولية والمحلية، بناءً على تراكم معلوماتهم وخبراتهم ومهاراتهم في تقسيم العلوم من كلياتها إلى أجزائها والتدرج فيها من الأعم إلى الأخص في كل اختصاص.

ويعني تصنيف المخطوطات ضم الموضوع المتعلق بجانب معين في حزمة واحدة، فتنضم كتب الفقه وفروعها في حزمة واحدة، وكتب الطب واختصاصاتها قديماً وحديثاً في رزمة وكذلك فروع الفيزياء والكيمياء والرياضيات والفلك والجيولوجيا والميكانيكا» وتطرق الباحث عبد القادر أحمد عبد القادر إلى أنظمة الفهارس المعاصرة وتطور تقنياتها وهي: نظام التصنيف العشري العالمي، نظام مكتبة الكونغرس الذي يقسم الموضوعات إلى واحد وعشرين قسماً رئيساً منها دوائر المعارف، والفلسفة، والدين، والتاريخ،السياسة، القانون، التربية والتعليم، الموسيقى، الفنون الجميلة، اللغات، والآداب، العلوم، الطب، الزراعة، التقنيات، العلوم العسكرية والبحرية، والببلوغرافيا وعلم المكتبات.

وبيّن الباحث الفوارق بين نظام تصنيف المخطوطات ونظام تصنيف المطبوعات. ويستتبع التصنيف للمخطوطات الأصيلة أو المصورات الرقمية أو الفيلمية أو الأقراص المدمجة CD كل تفصيل لصناعة فهرسة المخطوطات التي تبدأ بالرقم، والعنوان، الناسخ، تاريخ التأليف، النسخ، عدد الأوراق، قياسها، وشكل الحظ، والمراجع، والملاحظات، الإجازات، السماعات ، التملكات والتحبيسات وهذه جميعها تعطي الباحث والدارس لمحة تقريبية عن حالة المخطوط أو الكتاب وفيما إذا كان مصوباً ومصححاً، ومن ذلك أن الباحث عبد القادر أحمد عبد القادر وجد في مخطوط الأمالي الشجرية، الجزء الثالث، لابن الشجري، هبة الله بن علي [542 هـ]، نسخة الخزانة العامة بالرباط، رقم 4255/342 مكناس: المصورة على الفيلم 3190، وفيه قرأ جميع هذا الكتاب وهو الامالي على مصنفه سيدنا الأجل.. أدام الله أيامه الشيخ الأمام العالم النحوي أبو الغنائم حسن بن محمد بن شعيب الو اسطي.

وثبّت هذا السماع أبو محمد حسن بن علي بن عبيد المقري، وذلك في مجالس آخرها يوم الاثنين خامس رجب سنة تسع وثلاثين وخمسمائة، هذا صحيح.

ومما كتب من قراءة أبي الغنائم حسن بن محمد، ومن قراءة محمد بن محمد علي المؤلف، وما كتبه المؤلف من صحة لهذه القراءة، نستدل على أن هذه النسخة مصححة تصحيحاً كاملاً، وأن هذه النسخة كانت منسوخة سنة 539ه، فيقدر بذلك تاريخ نسخها في القرن السادس الهجري، إذ لم يسجل الناسخ تاريخ نسخها.

وأحاط الباحث بالمشكلات التي تواجه المفهرس، إذ تعد كل نسخة مخطوطة عالماً قائماً بذاته، وما يمكن ان ينطبق على نسخة مخطوطة قد لا ينطبق على سواها من المخطوطات.

والإشكاليات التي قد تعترض المحقق في مخطوط ما، نادراً ما تعترضه في مخطوط غيره بعينها تماماً لذا تعددت المعلومات وتراكمت الخبرات وتطورت المهارات المتعلقة بمشكلات فهرسة المخطوطات وتصنيفها من ناحية الحلول والقواعد المشفوعة من قبل المؤلف عبد القادر احمد عبد القادر بأمثلة معينة حية.

==============

#محمد كرد علي ..علامة الشام ومؤسس أول المجامع العربية

الأربعاء 12 ذي القعدة 1426هـ – 14 ديسمبر 2005م

الصفحة الرئيسة

محمد سيد بركة

مفكرة الإسلام : هو محمد بن عبد الرزاق بن محمد كرد علي، ولد في دمشق عام 1876 وعاش فيها. أصله من أكراد السليمانية [من أعمال الموصل]، تعلم في الكتاب القراءة والكتابة والقرآن الكريم، ودرس المرحلة الإعدادية في المدرسة الرشدية، ثم أتم تعليمه الثانوي في المدرسة العازارية.

عشق محمد كرد علي الكتابة والصحافة، وأولع بمطالعة الكتب وجمعها منذ صغره، وقد شجعه والده رغم أميته على اقتناء الكتب، وقدم له المساعدة الكافية لامتلاكها. ولما اشتد ساعده بالعلم واللغة أخذ يقرأ الصحف والمجلات بالفرنسية والتركية والعربية، فزادته المطالعة تعلقاً بالصحافة وعشقاً للمعرفة والعلم. وعندما كان في السادسة عشرة، كان يكتب الأخبار والمقالات ويدفع بها إلى الصحف، ولم تقف هواياته عند هذا الحد، بل أحب الشعر العربي، والسجع المنمق، وعكف على شيوخه ينهل من علمهم وأدبهم، وهم من مشهوري عصره في بلده أمثال: سليم البخاري، الشيخ محمد المبارك، والشيخ طاهر الجزائري.

في العام 1897 عُهد إليه بتحرير جريدة [الشام] الأسبوعية الحكومية، واستمر مدة ثلاث سنوات وكان يلتزم في مقالاته بالسجع. ثم أخذ كرد علي يراسل مجلة [المقتطف] المصرية لمدة خمس سنوات، فانتقلت شهرته إلى مصر.

رحل كرد علي إلى القاهرة، ولبث فيها شهوراً عشرة تولى خلالها تحرير جريدة الرائد المصري، وتعرف إلى علمائها وأدبائها، ورجال الفكر فيها، فاتسع أفقه وذاع صيته، وباتت شهرته في مصر لا تقل عن شهرة أدباء تلك الفترة وعلمائها الأعلام.

عاد كرد علي إلى دمشق، ورُفعت إلى واليها التركي وشاية به ففتش بيته، وظهرت براءته فهاجر إلى مصر عام 1906، وأنشأ مجلة المقتبس الشهرية نشر فيها البحوث العلمية والأدبية والتاريخية، كما قام بتحرير جريدة الظاهر ثم التحرير في جريدة المؤيد وهما يوميتان. وكان ينقل عن مجلات الغرب أحدث أنباء العلم والحضارة والاختراع والتقدم، كما ترجم عدداً من الكتب المخطوطة النادرة فجمع بين القديم والحديث.

عاد محمد كرد علي إلى دمشق عام 1908 بعد إعلان الدستور العثماني، وأصدر مجلة المقتبس وجريدة يومية أسماها المقتبس بالتعاون مع أخيه أحمد، كما أسس لها مطبعة خاصة، غير أن السلطة العثمانية ضايقته وحاربته ولاحقته وأغلقت الجريدة بعدما اتهمه أحد ولاة الترك بالتعرض للعائلة السلطانية في إحدى مقالاته، ففر إلى مصر ثم إلى دول أوروبا وعاد مبرأ، وتكرر ذلك في تهمة أخرى، فترك الجريدة اليومية لأخيه أحمد وانقطع للمجلة، واشتد جزعه بعد إعلان الحرب العالمية الأولى وابتداء حملة الانتقام من أحرار العرب، فأقفل المجلة والجريدة، وكاد يساق كما سيق غيره من نقدة نظام الاستبداد ودعاة التحرر إلى المشانق، إلا أنه أنقذته [خلاصة حديث] وجدت في القنصلية الفرنسية بدمشق كتبها أحد موظفي الخارجية الفرنسية قبل الحرب، وكان هذا قد زار كرد علي في بيته وأراد استغلال نقمته على [الاتحاديين] ليصرفه إلى موالاة السياسة الفرنسية في الشرق، فخيب كرد علي ظنه، ونصحه بتبديل سياستهم في الجزائر وتونس، وأيضاً مثلها [نشرة رسمية سرية] كان قد بعث بها سفير فرنسا في الأستانة إلى قناصل دولته في الديار الشامية يحذرهم بها من كرد علي ويقول: إنه لا يسير إلا مع الأتراك. وأوراق أخرى من هذا النوع أظهرها تفتيش القنصليات في أوائل الحرب، فدعاه جمال باشا إليه مستبشراً، وأعلمه بها وأنذره إن عاد إلى المعارضة ليقتلنه هو بمسدسه، ثم أمر بإعادة فتح الجريدة ومنحه مساعدة مالية. ثم ولاه تحرير جريدة [الشرق] التي أصدرها الجيش، فأمضى كرد علي مدة الحرب مصانعا بلسانه وقلمه، وظل يخشى شبح جمال باشا حتى بعد الحرب، وفي مذكراته ما يدل على بقاء أثر من هذا في نفسه إلى آخر أيامه.

تأسيس المجمع العلمي

وبعد دخول العهد الفيصلي واستقلال سورية عن الدولة العثمانية،

وجد كرد علي الفرصة سانحة لتحقيق الحلم الذي طالما راوده، ألا وهو إنشاء مجمع علمي عربي على غرار ما تفعله الأمم المتحضرة لحفظ تراثها وصون لغتها، ونشر آدابها وعلومها. وعرض الفكرة على الحاكم العسكري رضا باشا الركابي الذي وافق على قلب ديوان المعارف برئيسه وأعضائه مجمعاً علمياً عربياً. وكان ذلك في الثامن من حزيران عام 1919، وعُين محمد كرد علي رئيساً للمجمع.

تحول ذلك الديوان بجهد من رئيسه محمد كرد علي إلى 'المجمع العلمي العربي'، أو ما اشتهر بعد ذلك باسم 'مجمع اللغة العربية' للنهوض باللغة العربية وآدابها، وهو أول المجامع اللغوية ظهورا، وقد بذل محمد كرد علي جهدا كبيرا في تكوين هذا الصرح العلمي، ونجح في إبعاده عن التيارات السياسية والحزبية، وأنشأ له مجلة رصينة، صدر العدد الأول منها في [21 من ربيع الآخر سنة 1339هـ= 2 من يناير 1921م]، ونشر له على صفحاتها 41 مقالة أدبية وتاريخية، وفتح قاعة المجمع للجمهور لسماع المحاضرات العامة التي كان يلقيها رجال الأدب والفكر، وكان من نصيب محمد كرد علي منها 62 محاضرة.

وقد ظل محمد كرد علي رئيسا للمجمع العلمي طوال حياته، لم يشغله عنه منصب تولاه، وصار شغله الشاغل، لا يبخل عليه بوقت أو جهد، يمضي فيه معظم وقته ويعده بيته وملاذه.

كان المجمع عند كرد علي أغلى من فلذة كبده، وهبه كل حياته وكل نشاطه، كما وهب مجلته كل جهده وعبقريته ولم يكن ليتخلف عن التردد على المجمع إلا لأمر طارئ.

في الوزارة

وإلى جانب رئاسة المجمع العلمي العربي، اختير كرد علي لتولي وزارة المعارف سنة [1338هـ= 1920م] بعد استيلاء القوات الفرنسية على البلاد، وأثناء وزارته بعث عشرة من الطلاب لاستكمال دراستهم العالية في الجامعات الفرنسية، وطاف بأوروبا في زيارة علمية اتصل خلالها بالمستشرقين والعلماء، وسجل هذه السياحة العلمية في مقالات طريفة، جمعها مع غيرها في كتابه الذي ذكرناه آنفا 'غرائب الغرب'، ثم ترك الوزارة بعد خلاف مع الحكومة، واكتفى برئاسته للمجمع، وأُسند إليه تدريس الآداب العربية في معهد الحقوق بدمشق سنة [1343هـ=1924م]، وكان له الفضل الأكبر في تعليم الخطابة والإنشاء بهذا المعهد.

عاد كرد علي إلى الوزارة مرة أخرى سنة [1347هـ= 1928م] في حكومة الشيخ تاج الدين الحسيني، واغتنم فرصة وجوده في هذه الوزارة؛ فأنشأ مدرسة الآداب العليا، وجعلها تابعة للجامعة السورية، كما هيأ جميع أسباب افتتاح كلية الإلهيات، وأضيفت إلى الجامعة.

ولما أُنشئ مجمع اللغة العربية في القاهرة سنة [1352هـ= 1933م] كان محمد كرد علي واحدا من مؤسسيه الأُوَل.

وبعد خروجه من الوزارة ظل منصرفا إلى القراءة والكتابة، لا ينقطع عنهما، ولا يحول بينه وبينهما إلا المرض، وشغل وقته بإدارة المجمع العلمي العربي، وفي أواخر حياته أصدر مذكراته في 4 أجزاء، وقد أثارت دويا هائلا، وأوجدت له خصومات وعداوات.

آثاره الفكرية

وكان محمد كرد علي إماماً في الصحافة، وحجة في التحقيق، وعلماً في الكتابة والتأليف، وزعيماً من زعماء القلم والفكر في الوطن العربي، إذ كان أول من أنشأ جريدة ومجلة راقية في دمشق، وكان أول من أسس مجمعاً علمياً عربياً، ثم تلاه مجمع اللغة العربية في مصر ثم بعض المجامع الأخرى في عدد من بلدان الوطن العربي.

أما أسلوبه فقد وصف بالسهل الممتنع، فهو رقيق التعبير، بليغ باللفظ، الكلمات فيه على قدر المعاني، والجمل تطول حيناً وتقصر حيناً آخر، وهو في جميع الأحوال لا يتكلف ولا يتصنع، ويهدف إلى التركيز على المعنى دون أن يعطي كبير اهتمام للمبنى، وكان ينحو في كثير مما يكتبه منحى ابن خلدون في مقدمته.

جمع محمد كرد علي بين الصحافة والجامعة، والوزارة والمجمع العلمي العربي بدمشق، والمجمع اللغوي في مصر. وقد تولى وزارة المعارف مرتين في عهد الاحتلال الفرنسي.

كان محمد كرد علي من أصفى الناس سريرة، وأطيبهم لمن أحب عشرة، وأحفظهم وداً... وقد كتب في وصف نفسه: [خُلقت عصبي المزاج دمويه، محباً للطرب والأنس والدعابة، أعشق النظام وأحب الحرية والصراحة وأكره الفوضى، وأتألم للظلم، وأحارب التعصب، وأمقت الرياء].

يقف محمد كرد علي في المكانة الأدبية والعلمية الأولى بين أنداده الأعلام العرب. وقد بلغت مؤلفاته التي تركها اثنين وعشرين مؤلفاً، هي: - خطط الشام، وطُبع سنة [1344هـ= 1925م] في 3 أجزاء، وهو من أهم كتبه. - الإسلام والحضارة العربية، وطُبع في القاهرة في مجلدين سنة [1353هـ= 1934م].- أمراء البيان، وطبع بالقاهرة سنة 1937م.- أقوالنا وأفعالنا، ويضم عددا من مقالاته الإصلاحية، وطبع بالقاهرة سنة 1946م.-[تاريخ الحضارة] جزآن، ترجمه عن الفرنسية. ـ [غرائب الغرب] مجلدان. ـ [دمشق مدينة السحر والشعر]. ـ [غابر الأندلس وحاضرها]. ـ [القديم والحديث] وهو منتقيات من نقالاته. ـ [كنوز الأجداد] في سير بعض الأعلام. ـ [الإدارة الإسلامية في عز العرب]. ـ [غوطة دمشق]. ـ [المذكرات] أربعة أجزاء.

كما حقق كتبا من عيون من عيون التراث العربي، منها:- سيرة أحمد بن طولون للبلوي، وطُبع في دمشق سنة [1358هـ=1939م]

- المستجاد من فعلات الأجواد للتنوخي، وطبع بدمشق سنة [1366هـ= 1946م]- تاريخ حكماء الإسلام للبيهقي، وطبع بدمشق سنة [1366هـ= 1946م1947م].].- كتاب الأشربة لابن قتيبة وطبع بدمشق سنة [1367هـ= 1947].

وفاته

توفي محمد كرد علي يوم الخميس الثاني من نيسان [أبريل] 1952 في دمشق، ودفن بجوار قبر معاوية بن أبي سفيان في دمشق.

المراجع:

ـ عبد الغني العطري [عبقريات شامية، مطبعة الهندي، دمشق، الطبعة الأولى [1986].

ـ خير الدين الزركلي [موسوعة الأعلام، دار العلم للملايين، بيروت، الطبعة الخامسة 1980، الجزء السادس.

جمال الدين الألوسي - محمد كرد علي - دار الشئون الثقافية العامة -بغداد -1986م.

سامي الدهان -قدماء ومعاصرون -دار المعارف -القاهرة -1961م.

فضل عفاش -رحالات في أمة -دار المعرفة - دمشق -[1408هـ= 1988م].

محمد رجب البيومي -النهضة الإسلامية في سير أعلامها المعاصرين -دار القلم - دمشق [1415هـ= 1995م].

==============

#جهود العلماء المسلمين في تقدم الحضارة الإنسانية

الأربعاء 12 ذي القعدة 1426هـ – 14 ديسمبر 2005م

الصفحة الرئيسة

مفكرة الإسلام : صدر حديثا في الرياض كتاب بعنوان جهود العلماء المسلمين في تقدم الحضارة الإنسانية من تأليف خالد بن سليمان الخويطر

يرصد هذا الكتاب بشكل مستفيض الإسهام الذي قدمه المسلمون في الحضارة الإنسانية من خلال رصد دقيق لمختلف المجالات العلمية مؤكدا بذلك عمق إسهام المسلمين في التطور الإنساني. وقد حاز البحث الذي تضمه صفحات الكتاب على جائزة يوسف بن أحمد كانو للتفوق والإبداع في دورتها الأولى عام 2000. يبدأ المؤلف كتابه بالإشارة إلى خصائص الحضارة الإسلامية مشيرا إلى ان منها الأخلاق والنزعة العلمية والتلازم بين العلم والعمل، وتقدير قيمة الوقت، فضلا عن الحرية المطلقة. وانطلاقا من الدعوة الصريحة التي يوجهها القرآن الكريم إلى العلم وابتكار وسائله عن طريق تفعيل الحواس المرتبطة بالعقل عند الإنسان، كان التلازم في مسار الحضارة الإسلامية بين الإيمان والعلم والعمل.

ويشير المؤلف في هذا الصدد إلى أن علماء المسلمين هم أول من ابتكر الأسلوب التجريبي في تناولهم للمعطيات العلمية والكونية من حولهم هو ما أدى إلى تأسيس قواعد المنهج العلمي التجريبي الذي ما زال العلم المعاصر يسير على هديه. ومن العلماء المسلمين الذين كان لهم باع طويل في هذا المجال الحسن بن الهيثم وابن النفيس، والخوارزمي، وجابر بن حيان وغيرهم كثير. بعد هذا الاستهلال يتطرق المؤلف في فصل تال إلى العلوم الإسلامية ومنها علم الطب والصيدلة مشيرا إلى أنه ليس هناك مجال حيوي حضاري ساهم فيه المسلمون أعظم من الطب فهم بهذا الإسهام لم يخدموا العالم الإسلامي بل خدموا البشرية خدمة جليلة امتدت إلى يومنا هذا. ويعرض في هذا السياق للطرق المبتكرة والعلوم الجديدة في المجال الطبي التي طرقها المسلمون وأدت بهم إلى الوصول بهذا العلم إلى درجة متقدمة جدا أكثر مما يظن الكثير من المعاصرين.

ويوضح المؤلف هنا تقدم المسلمين في علم التشريح باعتبار ما كان يمثله من دعوة للمسلمين إلى التجربة والمشاهدة والنظر الدقيق كمنهج علمي للوصول إلى الحقائق الطبية والتخلص من التخرصات التي لا تقوم على دليل أو برهان، وهنا يتركز فضل المسلمين في التوسع فيه وقيامه على الدقة والمشاهدة والتحليل العميق.

فضلا عن ذلك فقد حقق المسلمون تقدما كبيرا في مجال الجراحة ومارسوا جراحة العظام والسرطان وما تبع ذلك من استحداث مواد وطرق جديدة لخياطة الجروح وتعقيمها في التخدير أثناء العمليات الجراحية. وأعظم جراح مسلم أنجبته القرون الوسطى هو الطبيب الزهراوي الذي حقق الكثير من الإنجازات الطبية في هذا المجال ويعتبر مؤسس المنهجية التي قام عليها هذا الفرع المهم من الطب.

ومن الطب إلى الفلك يشير المؤلف إلى أن الفلك في حياة المسلمين ارتبط بكثير من شعائر دينهم حيث وعت الأمة الإسلامية على اهتمام قرآني غير مسبوق في الكتب السماوية الأخرى فيما يتعلق بالفلك والكون المحيط بالإنسان بكل معطياته. ومن الإنجازات الإسلامية التي يشير لها هنا بناء المنهج الفلكي على أسس أولية راسخة من حيث الدافع والهدف والرغبة مستشهدا في ذلك بما يقوله وول ديورانت بأن الفلكيين المسلمين لم يكونوا يقبلون شيئا إلا بعد أن تثبته الخبرة والتجارب العلمية،

وكانوا يسيرون في بحوثهم على قواعد علمية خالصة. ويستعرض في هذا الخصوص أهم إنجازات علماء الفلك المسلمين. ويشير إلى أن من مظاهر النهضة العلمية الإسلامية في مجال الفلك، بناء المراصد التي كانت مبثوثة في العالم الإسلامي من أقصاه شرقا إلى أقصاه غربا. ويلاحظ أن المسلمين حرصوا على إقامة مراصدهم في أماكن رفيعة لأنها أنسب وأكثر دقة في رصد الكواكب ولأنهم بذلك يرتفعون على أي بناء يحجب السماء عنهم، كما يلاحظ ضخامة أجهزتها لأنها في رأيهم تعطيهم نتائج دقيقة.

أما في مجال الجغرافيا فيشير إلى توصل المسلمين إلى تحديد دقيق لدرجات الطول ودوائر العرض وتمكنهم من ضبط تحديد عرض الأماكن عن طريق قياس ارتفاع النجم القطبي أو الشمس. وقد ظهر في المسيرة العلمية للجغرافيا الإسلامية أفذاذ من العلماء الموسوعيين الذين لم يقتصر جهدهم على علم دون آخر فكان للجغرافيا من علمهم نصيب، ومن هنا نرى إسهام المسعودي كمؤرخ في الجغرافيا وكذلك نرى العالم البيروني كعالم طبيعيات يسهم في مجال الجغرافيا وكذلك الكندي من ضمن إسهاماته الجغرافية الفلكية قوله بأن سطح البحر كروي كاليابسة. أما الأصطخري فهو أول عالم جغرافي ذا منهجية واضحة المعالم وخلف لنا كتابه «المسالك والممالك» ذكر فيه أقاليم بلاد الإسلام وغيرها وكان فيه دقيقا لم يعتمد فيه على النقل من غيره، وقد أحصى في كثيرا من المدن والأنهار والجبال.. الخ.

وعن إسهام المسلمين في علم الكيمياء يشير المؤلف إلى جابر بن حيان باعتباره مؤسس الكيمياء المنهجية في الحضارة الإسلامية. وقد اعتمد المسلمون على التجربة وحدها للوصول إلى الحقيقة العلمية ولذا اهتموا كثيرا بإنشاء المختبرات لإجراء تجاربهم وكان من هذه المختبرات مختبرا لجابر بن حيان وآخر للرازي. أما بالنسبة للأجهزة الكيميائية التي توصلوا لها فمنها جهاز التقطير، كما عرف المسلمون ميزان الماء وقد تحدث عنه العالم الخازن ووصفه وصفا دقيقا وعن استخداماته لقياس كثافة المادة.

واستمرارا لمنهجه يرصد المؤلف إسهامات المسلمين في مجال الفيزياء مشيرا إلى أنهم خاضوا غمار هذا العلم ببراعة وذكاء منقطعي النظير حتى لكأنهم أنشئوا علما جديدا فمن انجازاتهم واكتشافاتهم أنهم بحثوا في الوزن النوعي للمعادن والسوائل أما المعادن فكان أول من تطرق إلى وزنها هو سند بن علي الذي عاش في خلافة المأمون. كما أن المسلمين استطاعوا قياس الوزن النوعي للسوائل والذي يعد حتى في العصر الحديث بوسائله المتطورة أمرا عسيرا.

وراصدا لإسهامات المسلمين في علمي الرياضيات والأحياء والحيل على نفس المنوال يعرض لإسهاماتهم في الأحياء والأحياء الدقيقة. ويوضح أن علم الأحياء دخل في الحياة العلمية الإسلامية من بوابة اللغة، أي أن كثيرا من اللغويين من المعجميين أو فقهاء اللغة من قبلهم قد تحدثوا عن مصطلحات نباتية أو حيوانية كمسميات وألفاظ مع ما يستتبع ذلك من التأكد عن طريق التجربة والمشاهدة وسؤال الأعراب في الصحارى وأهل الخبرة في الزرع أو تربية ومعالجة الحيوان.

يبدأ المؤلف بعد ذلك في رصد أثر العلوم الإسلامية في أوروبا علما علما. فعن أثر علم الطب والصيدلة في أوروبا يذكر أنه لعل من أبرز مظاهر التأثير الطبي الإسلامي تصاعد حركة الترجمة المحمومة للكتب الطبية الإسلامية والتي بدأت في عهد مبكر جدا نظرا لحيوية هذا المجال في حياة الشعوب عامة وكانت الترجمة في الغالب تتم تحت إشراف مراكز ترجمة تابعة للكنائس أو للكليات الطبية وكانت تلك الكتب تصل إلى أوروبا عن طريق الأندلس بالدرجة الأولى وكان مهد حركة الترجمة تلك في جنوب إيطاليا.

أما علم الفلك فيعد من الميادين الحيوية التي تأثر بها الغرب من المسلمين ومن الطريف حسبما يذكر المؤلف أن التراث الشعبي لكل أمة في مجال الفلك لا بد أن يعتريه مسحة من الخرافة والأساطير أو ما يسمى بالتنجيم وذلك قبل حدوث أي نهضة فلكية علمية كبري وتبعا لذلك ظل لصنعة التنجيم التي ظهرت في بواكير النهضة الفلكية لدى المسلمين أثرها الواضح حتى على الفلكي الألماني يوهنس كيبلر الذي ألف تقاويم تنبؤية.

وبالنسبة للجغرافيا فقد ترجم كتاب القز ويني «آثار البلاد وأخبار العباد» إلى اللاتينية ولقبه الأوروبيون «بلين العرب» نسبة إلى بلين اللاتيني الذي له كتاب تاريخ الطبيعيات. أما كتب المعاجم الجغرافية التي كان المسلمون سباقون إليها فقد انتقل تأثيرها إلى أوروبا حين خرج أول معجم جغرافي أوروبي بعنوان «معجم أوتيليوس» في القرن السادس عشر الميلادي في حين كان أول معجم إسلامي هو معجم البكري الأندلسي الموسوم بـ «معجم ما استعجم».

ومن استعراض تفصيلي لكل علم وأثره في أوروبا ينتقل المؤلف في باب جديد إلى تناول الصناعات الإسلامية وأثرها في أوروبا. ومن الصناعات التي يتناولها هنا صناعة الورق التي كان للمسلمين الفضل في نشرها على مستوى العالم آنذاك فلولا الورق الإسلامي حسب توصيفه لما تقدمت العلوم ولا نشطت حركة التدوين ولولاها لما دارت مطابع أوروبا ابتداء من القرن الخامس عشر.

وأدى ذلك بشكل عام إلى توسع العلم بصورة عامة لسهولة الحصول على الكتاب بسبب توفر الورق الصالح للكتابة، كما استتبع ذلك تطوير للخط العربي القديم الذي كان يكتب على الرقاق بهيئة غير متكلفة خالية من الجمال والإتقان. ويشير المؤلف إلى صناعة الأسلحة النارية والباردوية معتبرا تطويرها على يد المسلمين أعظم أنجاز علمي عسكري وصلت إليه الأمة. ويقرر أنه لولا الأسلحة النارية التي طور المسلمون ذخائرها ومدافعها في العصور الوسطى لما ظهرت القنبلة الذرية في العصر الحديث.

وفي هذا يورد مقولة لفرنسيين هما رينو وفافيه يقولان فيها أن العرب هم الذين استخرجوا قوة البارود الدافعة أي أن العرب هم الذين استخرجوا الأسلحة النارية.ولأن هذه الصناعة ظهرت على يد مسلمي الأندلس في أواخر الحكم الإسلامي لجنوبها في مملكة غرناطة فإنها سرعان ما تسربت إلى الشمال الأسباني ثم إلى جنوب فرنسا وألمانيا. وفي الإطار نفسه يشير إلى ان المسلمين برعوا في تركيب الأدوية من عناصر كيميائية مثل الزئبق وغيره كما أدخلوا ولأول مرة السكر في تركيب الدواء المر لتحليته خاصة عندما يوصف ذلك الدواء للأطفال كما اكتشف الطبيب ابن جزلة في كتابه «المنهاج» فائدة زهر حجر أسيوس أو ملح البارود البحري في تركيب الكحل علاجا يقوي البصر ويجلو العين ويذهب بسحابة القرنية. كما يتطرق إلى دور المسلمين في صناعة الزجاج حيث توصلوا إلى استخراجه من الحجارة «الرمل» وتنسب أسبقية هذه الصناعة إلى عباس بن فرناس من علماء الأندلس وكان الزجاج يستخرج بصهر الرمل بعد إضافة «البورق» و«النطرون» وهو الصودا الكاوية وذلك عن طريق التشميع وهو تذويب للمادة لتسهيل بعض العمليات الكيميائية عليها.

وفي نهاية هذه الرحلة يقول المؤلف انه يحق لنا أن نتيه فخرا على البشرية بهذا الدين العظيم الذي جعلنا خير امة أخرجت للناس وأن نفخر بذلك الإسهام الرائع لرجال التاريخ الإسلامي الذين حملوا هذا الدين سلوكا وعبادة علما وعملا فخرج منهم علماء أفذاذ أناروا للبشرية ظلامها الدامس بعلومهم واكتشافاتهم وانجازاتهم وصناعاتهم التي رأينا أثرها على مسيرة الحضارة البشرية.

ويذكر المؤلف أنه انطلاقا من هذا التناول فقد لا يكون من المغالاة الإشارة إلى أننا في عصرنا هذا لا نزال نعيش بترف الحضارة الإسلامية الذي صنعته لنا في مجالات مهمة كالعلوم والصناعات والأجهزة والأهم من ذلك فيما أخرجته إلى البشرية من منهج تجريبي علمي رصين فتعلمت تلك البشرية خلاله كيف تصل إلى الحقيقة العلمية ثقة واقتدار بعيدا عن الظنون والأوهام والأهواء.

وهنا فإنه يلقي بجانب من اللوم على أبناء الأمة مشيرا إلى أنه إذا كنا نعاني، حسبما يذكر، الأمرين من تجاهل الغرب لدورنا الحضاري التليد ، لما نمر به من ضعف مادي وهزيمة نفسية ، فالذي أشد منه مرارة عقوق أبناء المسلمين لتاريخهم وضعف الغيرة في قلوبهم على دينهم وحضاراتهم والجهل المطبق بعظم الدور الذي لعبه العقل المسلم في بناء الحضارة الإنسانية في نفس الوقت الذي يسعى فيه أولئك الأبناء لاهثين خلف ثقافة الغرب ولغته وعاداته وتقاليده بينما لا يشعر هؤلاء، وفق المؤلف، أن ما يحيا به الغرب اليوم من تقدم وازدهار سببه حضارة الإسلام وعلماؤها.

===============

#كيف يستطيع المسلمون الإفلات من طوق التخلف؟

الاثنين 3 ذي القعدة 1426هـ – 5 ديسمبر 2005م

الصفحة الرئيسة

تحقيق : أسامة الهيتمي

مفكرة الإسلام : يحاول البعض من أعداء الإسلام إلصاق تهمة التخلف الذي تعاني منه أمتنا العربية والإسلامية بدين الإسلام مشيرين إلى أن المجتمعات الإسلامية وحدها هي التي تعاني من ذلك برغم ما تمتلكه من ثروات كثيرة ونعم عديدة في حين ينعم الغرب وأبناء الحضارات الأخرى بحياة سعيدة ومستقرة ويعتبرون أن ذلك تأكيدا على أن القيم الإسلامية في حد ذاتها تدعو إلى التخلف ولا تدفع إلى الأخذ بعوامل النهضة .

ويعتقد هؤلاء أن الحل للخروج مما تعاني منه الأمة هو الأخذ بما وصلت إليه الحضارات الأخرى والتمثل بقيمها ومبادئها التي تتلاءم مع طبيعة التطور الزمني الحادث في المجتمعات .

وما يراه هؤلاء ليس جديدا في حد ذاته فهو نفس ما يروجه المستشرقون منذ أن بدءوا في تنظيم أنفسهم لتوجيه انتقاداتهم للإسلام عبر كتاباتهم ومؤلفاتهم في محاولة لتشويه صورته وإبعاد المسلمين عن مبادئه .

غير أن هؤلاء نسوا أو تناسوا ما قدمه الإسلام من حضارة عريقة أسهمت فيما وصل إليه العالم من رقي وتقدم على المستويين المادي والمعنوي وأنه كان سباقا في الكثير مما يعتبره البعض إنجازا بشريا حتى الآن .

ومع ذلك فإن الموضوعية تقتضي أن نعترف بأن حالة الأمة العربية والإسلامية لم تعد تثير سوى الرثاء والبكاء على ما آلت إليه .. كما تدفع أبناء هذه الأمة المخلصين إلى الاجتهاد في التفكير للخروج من حالة التخلف التي ألمت بها .

المسلمون يعانون من الأمية الدينية

في البداية يرى الشيخ منصور رفاعي عبيد أحد علماء الأزهر الشريف أن الذي نراه الآن في الأمة ليس تخلفا بالمعنى الدقيق وإنما هو أمية دينية سيطرت على الجميع فجهل المسلمون أمور دينهم وابتعدوا عن حقائقه ونسوا ما يدعو إليه الدين من وحدة وأخوة ودعوة إلى العلم وحث عليه مع التسامح والحب والألفة فجهل المسلمون هذه الأمور وتناسوها فأصابتهم الفرقة. كما تناسوا دعوته إلى إعداد العدة لمناهضة العدو ودفعه عن ديارهم. كذلك تناسوا زراعة الأرض وعاشوا يمدون أيديهم إلى الغرب يأكلون من إنتاج غيرهم ويلبسون من مصانع غيرهم بينما عندهم القوة المادية والأرض المهيأة التي تمكنهم أن يكونوا قادة لا عالة وأن يكونوا سادة وليسوا في آخر القافلة.

ويضيف الشيخ منصور إن أبناء الأمة نسوا ذكر الله فأنساهم الله أنفسهم فأصبحوا يستوردون لمدارسهم المناهج التعليمية من بلاد غيرهم.. فتاريخهم أصبح مهملا وحضارتهم أضحت مطموسة كما يحفظون أولادهم حضارة غيرهم ويلقنوهم تاريخ أعدائهم على أنه تاريخ البطولات والنضال.

ولا ننسى الإعلام ووسائله المختلفة فلم يعد له منهج إسلامي وإنما يعيش عالة على ترجمة ما فعله غيرهم لبيئة تختلف عن بيئتهم ومناخ اجتماعي ليس من طبعهم وعادات وتقاليد لا يعرفون عنها أي شيء وهو ما دفع شباب الأمة إلى أن يقلد الممثلين الأجانب في كل شيء حتى في الحركة والمشي والأكل والجلوس وتعليق السيجارة بين الأصبعين إلى غير ذلك حتى تسريحة الشعر والملابس فلم يعد لهم زى وطني موحد إلى غير ذلك من الأمور الكثيرة ..وأؤكد أن السبب في ذلك هو الأمية الدينية

ويشير الشيخ عبيد إلى أن العلاج والخروج من هذا الوضع سهل ميسر وبسيط وهو أن يعود المسلمون وأبناء الأمة إلى دينهم ومنهج هذا الدين 'القرآن الكريم' حيث لابد أن يطبقوا ما فيه على أنفسهم وأن يقتدوا بسنة نبيهم سيدنا محمد – صلى الله عليه وسلم – المليئة بالتوجيهات والقيم الأخلاقية النبيلة والأدب العالي حيث حث المصدران 'القرآن والسنة' المسلمين على طلب العلم حتى يتبوءوا مكان الصدارة والقيادة .

ويتساءل الشيخ عبيد لماذا نذهب بعيدا وعندنا عقول مفكرة وشخصيات بارزة في جميع المجالات العلمية والطبية والثقافية والتخطيطية والتنظيمية يحتلون مراكز مرموقة في بلاد الغرب والشرق حيث تحرم بلادهم من هذه العقول المهاجرة .. العلم عند الله وفي أذهان القيادات السياسية المسئولة عن الدولة .

ويؤكد الشيخ عبيد أنه ليس هناك صراع أيدلوجي بين أطراف الأمة وإنما الصورة هكذا تظهر للعالم لكن الحقيقة أن المجتمع الإسلامي له أسس وتقاليد وعادات تتفق مع البيئة والمناخ الاجتماعي هي التي تتناسب معه فقط .. لكنني لو اعتمدت على حضارة غيري فهي تختلف عن تقاليد الآباء والأجداد ومن هنا عندما أتمسك بحضارة غيري فأنا أفقد هويتي وأطمس معالم شخصيتي وأذوب في ذكر غيري وهذا ما لا يقره أي عاقل .

وهنا لابد أن أؤكد أننا كمسلمين لا نتعصب ولا نعرف ذلك أبدا فالإسلام يعلن ' ليس من المسلمين من دعا إلى عصبية ' فتعالوا إلى كلمة سواء بينا وبينكم كل منا يبني بفكر بيئته ونحترم بعضنا البعض ولا ندمر ما صنعه الآباء لنا ولا نحطم نفوسنا ونعزل نفوسنا عن المجتمعات الأخرى بل نتعايش في جو من الحب والتعاون والإخاء .

ليس هناك خلاف بين الأصالة والمعاصرة

ويقول الأستاذ الدكتور عاطف البنا أستاذ القانون الدستوري بجامعة القاهرة إن الأمة العربية والإسلامية تمر بالفعل بمرحلة خطيرة من حياتها تعاني فيها من تخلف حضاري كبير غير أنه يشير إلى أن هناك ملاحظتين هامتين يجب اعتبارهما:

الأولى: هي أنني لست مؤرخا وإن كنت قارئا في التاريخ وبالتالي لست ملما جيدا بأسوأ فترات تاريخ الأمة .

والثانية: هي أن الفترة التي يمكن أن نقارن أوضاعنا الحالية بها ربما كانت فترة أمراء الأندلس وهي الفترة التي ضاعت فيها منا الأندلس، وعليه فنرجو ألا تكون نفس النتيجة .. فقد تعاون الأمراء مع ملوك الفرنجة في الأندلس حتى ضاعت فلا نريد أن نصل إلى نهاية هذا الطريق وهي ضياع الأندلس خاصة وأن هناك صور لأندلسات كثيرة وربما أذهب بذهني إلى فلسطين والعراق والدور القادم على سوريا ونرجو ألا نصل إلى هذا الطريق .

ويضيف البنا إنني لا أمتلك بالطبع وصفة سحرية للخروج من هذا الحال السئ لكن هناك بدايات أمل في صحوة بدأت في كثير من بلاد العرب والمسلمين ونرجو أن تستمر وتقوى وأن ينضم إليها الحكام وينحازون ولولمرة لصالح شعوبهم ضد هذه الهيمنة والغطرسة الأمريكية والأوروبية التي يمارسونها على دولهم .

أيضا يجب الأخذ بما وصل إليه الغرب من تقدم علمي وتكنولوجي فلابد من الاستفادة منه مع التمسك بقيمنا وأصولنا الحضارية حيث ليس هناك خلاف جوهري وجذري بين الأصالة والمعاصرة إلا في فكر البعض يمينا أو يسارا فمن يرفضون حضارة الغرب يستخدمون السيارة والراديو والكمبيوتر والتلفاز وغيرها من أدوات التكنولوجيا العصرية ..فلا مبرر إذن لرفض الغرب كلية وكذلك هؤلاء الذين يرتمون في أحضان الغرب لن يصبحوا غربيين تماما وحتى لو تحولوا للغرب كلية فقد فقدوا حضارتهم وهويتهم وشخصياتهم المتميزة .. ويصبحون بعد ذلك مجرد تابعين للغرب .

المطلوب هو الاستفادة من التقدم العلمي والتكنولوجي مع الاحتفاظ بهويتنا الثقافية والحضارية والجمع بين التقدم العلمي والفني والشخصية الوطنية بأصولها الحضارية.

ويؤكد الدكتور البنا أنه توجد مقومات للنهضة والمطلوب تقويتها والبناء عليها والأخذ بسبل التقدم وأن هذا أمر ممكن ولكنه يحتاج إلى إرادة وعزيمة قوية وعمل متواصل .

البعد عن الإسلام اقتراب من الجريمة

ويرى الدكتور أحمد المجدوب أستاذ علم الاجتماع أن إعادة نهضة الأمة وابتعاث حضارتها سهل للغاية من حيث الطريق ولكنه صعب للغاية من حيث النوايا، فالطريق حدده الرسول – صلى الله عليه وسلم – ' تركت فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا بعدي أبدا .. كتاب الله وسنتي ' فالطريق واضح وضوح الشمس .

ويقول الدكتور المجدوب إن صحة هذا الطريق تأكدت لنا عبر 14 قرنا من الزمان حيث إن النظم تذهب وتجيء وتصعد وتهبط والإسلام باق بكل مبادئه وأحكامه سواء في نظام التشريع أو في نظام الأخلاق وكلنا عاصر وعرف الاتحاد السوفيتي والوعود التي قطعها قادته على أنفسهم بأن يجعلوا من العالم الفردوس الأرضي ثم اكتشفنا أنه الجحيم بعينه .. إن أمامنا الطريق إذا كنتم تريدون الخير والفلاح والقوة والعزة اسلكوا هذا الطريق .

ويضيف المجدوب لكن للأسف الشديد فإن النوايا الخبيثة تضمر للدين العداء حيث يصل الأمر ببعضهم إلى تحريض غير المسلمين على الإسلام وها أنت ترى ما حدث في الانتخابات البرلمانية بمصر فبعد أن تمكن الإخوان من تحقيق بعض الانتصارات في الجولتين السابقتين بدأت الأسئلة ..ماذا ستفعلون في الأقباط ؟ وما موقفكم من نانسي عجرم ؟ وما هي رؤيتكم للمرأة ؟ إلى آخر هذا الكلام الذي لا يقوله إلا أناس فقدوا عقولهم فهم يضمرون العداء للإسلام .. لماذا ؟ لأنه حال دون تسلطهم على الأمة بمبادئهم المنحرفة وسياساتهم الإجرامية فيزرعون العراقيل في طريق المسلمين .

ففي الغرب يقرنون الإسلام بالإرهاب وسيأتي يوم بعد أن تتطور الحملة الغربية على الإسلام وسنقول على استحياء أنا مسلم ..فالعمليات الاستشهادية في فلسطين والعراق والشيشان وغيرها نقول عليها انتحارية لأننا عندما نقول عليها استشهادية نكون من أنصار الإرهاب وحكوماتنا تفعل ذلك ..القضية إذا لم ننظم أنفسنا من أجل التوجه الحقيقي نحو قيم الإسلام أو أحكامه قل على المسلمين - وليس على الإسلام لأنه قوي - السلام .

وعليه فإن الطريق واضح وليس له بديل وقد قلتها قبل ذلك كثيرا .. إن البعد عن الإسلام يعني أن كل خطوة نبعدها نقترب خطوتين من الشر والجريمة والانحراف دعك من أن الناس الجهلة والحمقى يناصبون الإسلام العداء وينسون شيء هام هو أن أرخص وسيلة لمواجهة الجريمة والانحراف وليست في حاجة إلى كثير إنفاق أو تكلفة هي الدين وبالتالي فإن البعد عن الدين ينتج أبشع الجرائم .. وها أنت ترى وتقرأ ما تنشره الصحف فالأب يعاشر ابنته والأم تعاشر ابنها والأخ يعاشر أخته وهكذا .. إن الحل في الإسلام ولا حل غير الإسلام .

وحول الأخذ من النظريات الأخرى يشير الدكتور المجدوب إلى أنه يمكن أن نستعين بالنظريات الأخرى للتفسير والتحليل والتوقع لكن في النهاية يوجد أحداث تقع ولا يتنبأ بها فالانتخابات الأخيرة وهذه الصحوة التي انتابتهم وجعلتهم يسقطون رموز الفساد ويختارون أعضاء الإخوان المسلمين كانت مخالفة لتحليلات المحللين فليس كل من انتخب الإخوان إخواني وكثيرون أعطوا أصواتهم للإخوان نكاية في النظام ورموزه .

يوجد سر كبير في الناس فهم ينحرفون اليوم لكنهم يعودون إلى صوابهم بعد ذلك وذلك مصداقا لقوله – صلى الله عليه وسلم – ' الخير في وفي أمتي إلى يوم الدين ' فهناك خير لن يختفي .. الناس سيأتي عليهم الوقت لينهضوا وليعيدوا للأمة كرامتها وشرفها وعافيتها .

وأنا وبعد 70 سنة خبرة في الحياة يمكنني أن أؤكد أنه طالما هناك قرآن يتلى في مكان ما في زمان ما في هذا البلد فثق أنه لا يأس وأن الأمل موجود .. لذلك هم يريدون محاصرة الإسلام ويعملون على تزييف القرآن ويدمرون المسلمين ويبعدونهم عن حقائق دينهم .. ولكن هيهات أن يحدث ذلك .. وأنا أتصور ولي علاقة وثيقة بعدد من مشايخ الأزهر الشريف الذين يمرون بحالة صمت أن الأزهر كمؤسسة دينية ذات تاريخ سيعود إلى دوره وسيقود حركة الصحوة في الوقت المناسب وذلك عندما ترفع السلطة يدها عنه .

العمل الجماعي للخروج من مأزق التخلف

أما الدكتور السيد رزق الحجر أستاذ الفلسفة والعقيدة الإسلامية بكلية دار العلوم فيقول إنه من المفترض أولا أن ننظر في الأسباب الداعية إلى التخلف وهي في اعتقادي تتمثل في :

أولا :الاختلاف والفرقة التي تعاني منها الأمة العربية والإسلامية .. فكل دولة إسلامية لها رأي مخالف مع الأخرى كما لا يوجد حد أدنى من الاتفاق وهذه مصيبة كبرى.. بل يصل هذا الاختلاف بين الدول الإسلامية المتجاورة جغرافيا فكل دولة تقترح رأي والأخرى تخرج برأي مخالف ..هذا سبب مهم جدا للتخلف فالاختلاف من غير وجه حق ولأمور شخصية يضعف الأمة .

وثانيا : الوقوف ضد الدين والرغبة في إبعاد الناس عن دينهم .. وأقصد بالدين هنا تعاليم الدين الصحيحة .. الدين السمح بمبادئه وقيمه والذي لو فهم صحيحا لكان حلا

لأن الإسلام فيه أسس التقدم والرقي وله سابقة تاريخية فعندما فهمنا الإسلام فهما صحيحا وصلنا إلى الحضارة التي ما زلنا نتغنى بها .. أما عندما تكالبت علينا الجيوش وابتعدنا عن قيمنا اختل فهمنا للإسلام وتشوه فهم الناس للدين حتى اعتبره البعض دين الإرهاب في حين اعتبره الآخرون أنه مجرد علاقة للإنسان بربه وليس الإسلام هكذا .

ثالثا :الإعلام والدور الذي يقوم به حيث يساهم في تشويه الدين وإبعادنا عنه .. وانظر إلى الانتخابات البرلمانية الأخيرة وانظر إلى الموقف الظالم الذي اتخذه الإعلام من أبناء التيار الإسلامي وما وجهوه لهم من افتراءات وأكاذيب .. وتناسى هؤلاء أن صالح هذه البلد وصالح الأمة هو أن يأتي من يريده الشعب وأن التخلف هو أن نأتي بما لا يريده الشعب .. حيث يصيب ذلك الأمة بالإحباط ثم التخلف .

رابعا : غياب العدل بين أبناء الأمة واضرب لذلك مثلا فعندما يتخرج أي شاب من الجامعة أو ينهي دراسته ثم يفاجأ بزميله الأقل والأضعف وقد تم تعيينه بأحد الوظائف عندها يصاب بالإحباط أيضا .. فعدم إشاعة العدل أحد أهم أسباب التخلف والعلاج بالطبع هو إقامة العدل كما أمر الله تعالى فالمجتهد لابد أن يأخذ حقه والمخطأ لا بد أن يعاقب وإذا عملنا غير ذلك فإننا نساعد على التخلف .

ويضيف الدكتور الحجر أنه للخروج من هذا الوضع فإننا نحتاج إلى أن نتعاون جميعا وفي إطار واحد وأن يكون ذلك على عدة مستويات منها مثلا :

1- ضبط المنظومة التربوية والتعليمية وأن تكون لديها الرغبة الأكيدة لتربية الشباب على فهم الإسلام الصحيح والذي عندما أحققه سأبعد الشباب والمجتمع عن الآراء الشاذة والسلوكيات الغير إسلامية ومنها الإرهاب أما إذا شوهت لديه الحقائق فحتما ستكون النتيجة سيئة .

وهنا أتساءل هل منظومتنا التعليمية مستعدة للقيام بهذا الواجب ؟.

2- العمل على أن تكون منظومة الإعلام منظومة متكاتفة .. والإعلام كما هو معلوم له دور خطير وهام فقد كان السلاح الرئيسي لهتلر في حربه ويمكن أن يجعل الناس تقول ما يريده ويردده .. فعلى هذه المؤسسات أن تخلص لله أولا ثم للوطن.. الصفحات الدينية في الصحف تتقلص باستمرار.. مع أنك يمكن أن تبقيها كما هي وتنشر فيها مبادئ الدين الصحيح لحماية الشباب من الاتجاهات الأخرى وتوفر جزء من مجهود الدولة الذي تنفقه في مواجهة الاتجاهات المنحرفة .. فلنعلمه الدين من البداية .. وهذا واجب وطني وديني .

3- البحث العلمي الذي يجب أن نعطي له أهمية أكبر ... فنحن عندنا كل يوم مؤتمر والجامعات المصرية والعربية تعقد بين الحين والآخر مؤتمرات في كافة التخصصات لكن في النهاية أين تذهب توصيات هذه المؤتمرات ؟ .. إنها مجرد ورق على الرفوف .. فليس هناك جهة تنفذ هذه التوصيات

يضاف إلى ذلك أننا لا نهتم بالعلماء كما أننا بخلاء في الإنفاق على البحث العلمي وقد ذهلت عندما سمعت أن دولة الاحتلال الإسرائيلي تنفق على البحث العلمي ما يقرب من 80 % من ميزانيتها.. فماذا ننفق نحن ؟ أعتقد أنه الفتات .

يجب علينا حماية حرية العلماء لأنه لن يوجد عالم يفكر وهو مضطهد أو غير قادر على اكتساب مأكله وملبسه .

4- الدفع إلى العمل وهو وسيلة إلى التقدم حتى يمكن اللحاق بالركب فكثيرا من الدول التي بدأت معنا وبعدنا وصلت إلى درجات كبيرة من التقدم في حين ما زلنا نحن كما نحن.

===============

#الحرب ضد الإسلام قديمة ولا علاقة لها بأحداث سبتمبر

الصفحة الرئيسة

- الرئيس الأمريكي يجهل كل شئ عن الإسلام .

- الحكام هم الذين أوصلوا المسلمين إلى هذا الضعف.

- لا يجوز أن نصف الإسلام بالراديكالية أو العلمانية.

- الديمقراطية أصبحت مصطلح تاريخي تعني الظلم والعدوان.

- حكومة العراق غير شرعية جاء بها الاستعمار بالطائرة والمدفع.

- أطالب عقلاء الشيعة أن يوقفوا الفتنة ويعاونوا إخوانهم السنة.

- جماعات المقاومة في العراق وفلسطين جيش الله للدفاع عن دينه.

- نطالب في حوارنا مع الغرب بالاعتذار عن الحروب الصليبية.

- العلمانيون حرب على أمتهم ويصنفوا في قائمة الخونة.

أجرى الحوار : أسامة الهتيمي

مفكرة الإسلام : الحوار مع الأستاذ الدكتور مصطفى الشكعة ليس حوارا مع من يمكن أن نصفه بالكاتب أو المفكر الإسلامي فحسب بل هو حوار مع من استطاع أن يجمع في تكوينه الثقافي بين المعرفة والإطلاع على التراث الإسلامي وبين فهمه واستيعابه للفكر الغربي بمدارسه المتعددة وهي المعادلة الصعبة التي لم يحققها إلا القليلون من مفكرينا الذين فتن كثير منهم وانحازوا لثقافة الآخر .

حملنا أوراقنا وتساؤلاتنا وذهبنا لنلتقي بالدكتور الشكعة في صومعته وبين كتبه ليعطي لنا إجاباته فيما يشغل بال الكثيرين من أبناء أمتنا الإسلامية .

** يرى البعض أن التحديات التي تواجه العالم الإسلامي بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر اختلفت تماما عما قبلها .. هل تتفقون مع ذلك ؟ وما هي طبيعة هذه التحديات ؟ وكيف يمكن أن نواجهها ؟

*أولا إنني أعترض على لفظ التحديات لأنه لفظ هش لزج ويجب أن نسمي الأشياء بأسمائها فالذي يحدث في العالم الإسلامي لا يسمى تحديات وإنما هي عداوات وحروب ، هذه الحروب تشتعل حينا وتخمد حينا آخر ويستبدل بها وسائل الدعاية والإعلام والهجوم والصحف والمؤلفات التي يوجهها الغرب ضد الإسلام .. وبعد تصحيح التسمية نبدأ بالقول بأن هناك حربا معلنة على الإسلام لا علاقة لها بما يطلق عليه 11 سبتمبر لأنها كانت موجودة قبل ذلك بعقود من السنين بل بمئات السنين.

فالحروب الصليبية بسلاسلها المتعاقبة الحلقات والتي جرت فيها دماء المسلمين أنهاراً في القدس وغيرها وهذا بشهادة المؤلفات التي كتبها الأوروبيون أنفسهم عن هذه الحروب ثم بعد ذلك سلسلة الاستعمار الصليبي لمنطقة بلاد الشام والبلاد المحيطة. حتى أن قرية ' الكرك' والتي تعرف الآن بالمملكة الأردنية الهاشمية كان لها حاكم صليبي أوروبي والذي وقع أسيرا في يد صلاح الدين الأيوبي بعد هزيمته لهم أكبر دليل على هذه العداوات .

ولم تكتفي البلاد الأوروبية في حروبها ببلاد الشام وما حولها ولكنها امتدت إلى مصر وظل الأوروبيون في مصر بضعة عشر عاما في منطقة دمياط والمنصورة وما بينهما وأسر في هذه المعارك ملك فرنسا لويس التاسع ووضع في بيت مشهور إلى الآن في المنصورة يسمى بيت 'ابن لقمان' وبعد الهزيمة المنكرة التي أوقعها صلاح الدين - وكان نبيلا في عداواته على النحو المشهور في كتب التاريخ حين قام بتطبيب من كان يسمى ' ريتشارد قلب الأسد ' - بعد هذه الهزيمة الكبرى التي أوقعها بهم المسلمون في مصر امتدت الحروب الصليبية غير المعلنة ولكنها كانت ساخنة إلى المدى الذي عبر عنه القائد الإنجليزي الذي دخل القدس في الحرب العالمية الثانية وقال مقولته المشهورة ' الآن انتهت الحروب الصليبية ' ثم كان القائد الفرنسي الذي حارب لتخريب سوريا واستطاع أن يصل حيث يدفن صلاح الدين وركل باب المقبرة التي تضم أحد أشهر قادة المسلمين وهو صلاح الدين ركلها بقدمه ووقف في حضرة صلاح الدين ليقول ' نحن هنا يا صلاح الدين ' والتي ترجمت إلى العربية بقوله ' لقد عدنا يا صلاح الدين' .

الحرب الصليبية لم تنته حتى نقول إن بدايةً ما قد حدثت بعد ما يسمى 11 سبتمبر , ثم كانت حماقة رئيس أمريكا الحالي ' جورج بوش' الذي أعلن أنها حرب صليبية وعندما لفت نظره بعض الأمريكيين إلى هذه الحماقة تراجع وقال لا أقصد حرب صليبية ولكنني أقصد الحرب ضد الإرهاب ثم قال منذ أيام إنه لم تنته بعد الحرب ضد 'الإرهاب الإسلامي' واستعمل لفظة لا أحب أن أرددها وهي ' الإسلام الراديكالي ' فهذا المصطلح ليس له علاقة بالإسلام فهو مصطلح كنسي كهنوتي مسيحي للراديكالية المسيحية وهذا التعبير الذي صدر من رئيس أمريكا يدل على جهل مطبق بالإسلام عقيدة وشريعة وسماحة وسلاما .

والخطأ ليس خطأ بوش بمفرده وإنما خطأ من يكتب له أيضا الخطب ..

هذا الرجل الذي يجهل كل شئ عن الإسلام استمر في حربه الصليبية ضد أفغانستان ثم العراق بشكل فاضح وأرسل للعراق 180 ألف جندي أمريكي يلقون الهزيمة كل يوم وتمرغ وجوههم في التراب والأوحال ولكنه لا يعرف الحياء ولا يهتم بالشعب الأمريكي الذي يترأسه بغير حق وبطريقة مزورة ومشهورة عرفت أيام الانتخابات الأمريكية .

نحن المسلمين لسنا أعداء للشعب الأمريكي المغلوب على أمره والذي يتناوب على حكمه مجموعة من العصابات أما الأمريكيين فشعب طيب وقد عشنا بينه سنوات طويلة لمسنا خلالها الفرق بين الأمريكيين كشعب والحاكم الأمريكي الظالم المستبد الذي يتحدث عن الديمقراطية وهو لا يعرف ألف باء ديمقراطية ولكنه يمارس الديكتاتورية في أقبح صورها لذلك فليس هناك ما قبل سبتمبر وما بعد سبتمبر بهذا المفهوم الخاطئ الذي تسهر على ترديده وسائل الإعلام سواء كانت الغربية أو العربية وإنما نحن نعيش في حروب صليبية موقدة حينا وتحت الرماد حينا آخر والآن نعيش غزوة صليبية ضارية ظالمة يقودها حاكم جاهل يلعب به بعض اليهود وبعض من يسمون بالمسيحية اليهودية في أمريكا في العصر الحاضر .

** يبذل الغرب جهدا كبيرا من أجل تأطير مجتمعاتنا الإسلامية بما يتفق مع ثقافته ورؤاه الفلسفية ... في حين ينخدع الكثيرون من المسلمين إذ يتطلعون لحياة أفضل تظللها قيم الحرية الغائبة عن مجتمعاتهم... كيف يمكن التعامل مع هذه الأزمة ؟

*الجواب متصل بما أوضحته سابقا.. فالمسلمون ضعاف وقد تنبأ بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم حين شبه المسلمين على كثرتهم بالغثاء .. وأنا لست عدوا أو خصما لحاكم لمسلم لكنني لا أبرئ كثير من الحكام المسلمين من أنهم هم الذين أوصلوا المسلمين إلى هذه الحالة التي تنبأ بها الرسول – صلى الله عليه وسلم – .

لا بد من إعادة الوجه الإسلامي للإسلام والوجه الإسلامي يتمثل في القوة وأقصد القوة الراشدة التي لا تعتدي ولكنها تمنع عدوان الآخرين على المسلمين ويتمثل ذلك في قوله تعالى : ' وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم وءاخرين من دونهم لا تعلمونهم الله يعلمهم ' الآية 60 سورة الأنفال وقال ' وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين ' الآية 190 سورة البقرة 'ولا تعتدوا ' ونضع عشرات الخطوط تحت 'ولا تعتدوا ' .

هل نحن أعددنا لهم من قوة ومن رباط الخيل وهي كناية عن أدوات الحرب نحن لم نفعل ذلك لذلك أضعنا فلسطين والعراق وسوريا وإيران وأضعنا هذه الأيام باكستان الباسلة لحاكم علماني يحمل اسما إسلاميا.

وأجدني لذلك أردد قول الشاعر:

نعيب زماننا والعيب فينا وما لزماننا عيب سوانا

نحن مطالبون بأن نعود للإسلام والإسلام عقيدة وسلوك والعقيدة معروفة ولكن السلوك أضعناه .

فالدعوة إلى الله التي يجب أن تكون بالحسنى أصبحنا نقوم بها بجهل شديد فضلا عما يقوم به بعض الحكام المعروفين الذين ينزعون مثلا قناع الفتاة المسلمة في الشوارع.

المطلوب منا أن نعود للإسلام ، والإسلام لا يتلون ولا يوصف بأنه إسلام راديكالي أو علماني أو غير ذلك من المصطلحات وقد أصدر مجمع البحوث الإسلامية بالقاهرة من قبل شهرين بأن الإسلام لا يوصف إلا بكونه إسلام أما المسلمون الغلاة فليسوا مسلمين لأن الإسلام دين الاعتدال والوسطية ومن يخرج عنهما فهو بعيد عن الإسلام وأعماله لا تحسب ولا تنسب للإسلام .

أما عن العدوان على معتقداتنا وأفكارنا فأعتقد أننا في مصر مثلا لم يحدث ذلك فقد أكد وزير الأوقاف المصري في أحد المؤتمرات أن أمريكا لا تجرؤ على ذلك وكان يقصد التدخل الأمريكي في مناهج التعليم الأزهري وطرق عرض العقيدة الإسلامية.

لذا فأنا أتمنى أن يتخذ كل وزراء الأوقاف في الدول العربية والإسلامية نفس المنهج حتى يمكن رد أمريكا عن مخططها .

وهنا أشير كذلك إلى بعض الذين يحملون أسماء إسلامية وما هم بمسلمين ويكونون عونا ولسانا للغرب الذي لم يكن يوما صديقا للإسلام ومجاملا للإسلام مع أنه يعيش في الغرب الآن ما لا يقل عن 20 مليون مسلم يضيق عليهم في إنجلترا وفرنسا بشكل خاص .

أما في أمريكا فقد سألت أحد المسلمين الأمريكيين البارزين في زيارة أخيرة لي لأمريكا قائلا له أرجو ألا يكون الحصار قد أحكم عليكم ووقع الضرر فأجاب لم يخلو مسلم من الأذى أو المضايقة.. فكيف تتقبل ' نصيحة' أعدائنا الذين يوقعون بالمسلمين الأمريكيين الحصار والمضايقة والأذى في كل شارع وحارة وزقاق.

** تعاني المجتمعات الإسلامية من حالة تدني سياسي شديدة أفقدت الكثير من أبناء هذه المجتمعات الانتماء إليها... في رأيكم ما هي إمكانية وجود نظم ديمقراطية داخل هذه المجتمعات ؟

*المشكلة أننا نحارب بالديمقراطية في العراق ونحارب بالديمقراطية الأمريكية في أفغانستان.. فالديمقراطية أصبحت مصطلح تاريخي أما ترجمته المعاصرة فتعني الظلم والعدوان لذا ينبغي أن نحاسب أنفسنا على المصطلحات.

نحن لا نصلح أنفسنا بالديمقراطية ولكن بالعدالة الإسلامية حكما وممارسة وسلوكا وهذا هو السبيل وليس بالديمقراطية التي نذبح بها في العراق وفلسطين وغيرهما.

والسبيل إلى تحقيق ذلك هو' التنادي 'وهو أن نتنادى كمسلمين بأن نحكم إسلاميا وأن نزيل العداوة بالإسلام عند الحكام المسلمين ولا أقول بالثورة ولكن بالتنادي.

' أدع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن إن ربك هو أعلم بمن ضل عن سبيله وهو أعلم بالمهتدين ' الآية 125 من سورة النحل.

أن نعود إلى طلب العلم والتسلح به لأن طلب العلم فريضة على كل مسلم وقد أهملناه فضعنا وما زلنا حتى اليوم ننتمي إلى ما يسمى بالعالم الثالث.. نريد أن نعيد أنفسنا إلى المجتمع الذي عرفنا به مجتمع المعرفة والحضارة الإسلامية ونحن لدينا رصيد كبير يسمى الحضارة الإسلامية.

** حرصتم خلال كتابكم ' إسلام بلا مذاهب ' على ألا تخدشوا شعور أحد من الفرق الإسلامية الكثيرة والتي تماوجت بين الاعتدال والغلو..ألا ترى أن مثل هذه المنهج ليس مقبولا لدى البعض ؟

*الغلاة ليسوا مسلمين.. وقد كنت مهذبا في كتابي فالإسماعيلية بفرقتيهما غير مسلمين والذين يؤلهون عليا في سوريا ليسوا مسلمين والذي يؤلهون الحاكم بأمر الله ليسوا مسلمين والذين يعيشون في الهند ويقولون إن القادياني نبي ليسوا مسلمين .

وأذكر أنه في هذه الغرفة وقبل ثلاث سنوات كان الشيخ محمد مهدي شمس الدين ضيفا علي وهو زعيم شيعة لبنان ويؤمن بالفكر الشيعي فقال له بعض الحاضرين قبلت دعوة الدكتور الشكعة مع كل ما قاله عنكم ولم تقبل دعوة أحدنا فقال بالحرف الواحد إن كل ما قاله عنا صحيح فكيف أرفض دعوته .

أنا لم أتهم أحد أنا وضعت حقائق ولم أقرنها باتهام أما الغلاة أنا لا أعتبرهم مسلمين المشكلة بيننا وبين الشيعة الإمامية تقع في هذا الجزء من عقيدتهم نحن لا نبعدهم عن الإسلام ونسعى إليهم .. نقطة الخلاف تتمثل في قولهم عن الإمام علي: ' والإمام علي وصي والوصي كالنبي منصب إلهي غير أنه لا يوحى إليه ' ونحن نريد تعريفاً لهذا الكلام فهل بعد الرسول محمد – صلى الله عليه وسلم - نبي ؟هل هناك شك في أن محمد خاتم الرسل والنبيين ؟ هل هناك من يتولى منصب إلهي بعد محمد ؟ أنا لم أتعرض لزواج المتعة الذي له دكاكين في إيران , كما لم أتعرض إلى أن أئمة الشيعة معصومون والعصمة لا تكون إلا لنبي وإنما أتعرض بمودة وأقسم بمحبة هل هذا يعد تعصبا أو تحاملا ؟ .

وأضيف أن أكثر تلامذتي من الشيعة وإن لي تلامذة وأصدقاء ليسوا بالقليل ..ليس بي ذرة من تعصب وإلا لما أكرمني الناس بالإقبال على كتابي ولم أعد أعرف عدد طبعاته الرسمية والمسروقة .

** في لحظة تاريخية معينة تجاوز الكثير من أهل السنة الخلاف المذهبي مع طائفة الشيعة وحاولوا التعايش معا , غير أن موقف الشيعة الطائفي في العراق وأفغانستان وإيران أعاد مجددا مشهد توتر العلاقات بين الطرفين ... ما رأيكم في ذلك ؟

*أنا هنا أعمد إلى مخاطبة العقلاء من الشيعة الذين أعلنوا الحرب على السنة ولو كانت حرب سلمية أن يعيدوا النظر في موقفهم لنعيش في مودة.

وأنا أثق أنه من بين الشيعة الكثرة التي تستنكر الخصومة بين الطرف السني والشيعي.

أنا لا أعتبر الحكومة العراقية حكومة شرعية إنما هي حكومة جاء بها الاستعمار الغاشم بالطائرة والمدفع.. والأصل أن نتفق على حكومة شرعية فالحكومة الحالية لا تقول على الغزاة غزاة وإنما تصفهم بالجيوش الحليفة وأطلب من علماء الشيعة أن يتداركوا الأمر ويدحضون الفتنة القائمة بين بعض الشيعة الذين يعينون المستعمر ويعتدون على إخوانهم السنة.

** العنف ظاهرة قديمة ومعقدة ومركبة .. وقد عاني منها المجتمع العربي لمرحلة زمنية... في رأيكم هل تلاشت الدوافع والأسباب التي دعت إلى تفجره أم أن هذه الدوافع يمكن أن تتجدد في أي لحظة ؟

*هؤلاء الذين نصفهم بالإسلام دخلاء لأن الإسلام تتمثل دعوته في قوله تعالى ' ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة ' ومن لم يستعمل هذا الدستور الإسلامي في دعوته هو دخيل على الإسلام ولا أحب أن أتكلم عنه.

أما عن جماعات المقاومة في العراق وفلسطين وغيرهما فلا توصف بذلك وإنما هم جيش الله فهم يحاربون دفاعا عن أرضهم ووطنهم وأبنائهم وأرزاقهم فهؤلاء مجاهدون.

والذين يصفهم رئيس أمريكا بأنهم معتدون لا يفهم الإسلام ولا يريد أن يفهمه فهؤلاء مجاهدون يدافعون عن أرضهم.. إما إذا لجأ بعضهم إلى وسائل مختلف فيها لا نعتبرهم متطرفين وإنما نخطأ هذا الأسلوب عن ذاك ونشير إلى الذين لا يتفقون مع القواعد الإسلامية.

** يرى البعض أن المخطط الغربي المعادي للأمة تم وضعه وهو قابل للتنفيذ من قبل وقوع أحداث سبتمبر وأن هذه الأحداث ليست الدافع الحقيقي بقدر كونها لحظة البدء في تنفيذ هذا المخطط.. في ظل ذلك هل من جدوى للحوار مع الغرب ؟

*الإسلام دين الحوار والرسول – صلى الله عليه وسلم – حاور اليهود وحاور النصارى فالحوار مطلوب من جانبنا إذا ما استجابوا لهذا الحوار وباعتباري شخصيا في لجنة الحوار الإسلامي المسيحي فأنا أشجع الحوار حيث اشترطنا أن لا يكون في العقائد وإنما يكون في النفع البشري والإنساني والاجتماعي فالحوار مع أهل الكتاب مطلوب وقد أوصانا به الله عز وجل .. أما الذين بيننا وبينهم عداوات فلا أحاورهم لقوله تعالى : ' فقاتلوا الذين يقاتلونكم ' .

ومن يعتدي علينا نحن مأمورين بقتاله غير أنه في نفس الوقت عليّ أن أمد يدي بالسلام إن هم جنحوا له لقوله تعالى : ' وإن جنحوا للسلم فاجنح لها ' .

هي قواعد ربانية محددة شديدة الوضوح .

** يتحدث كتاب الغرب عن صراع وصدام الحضارات وتتحرك الجيوش الغربية في اتجاه احتلال واستعباد المجتمعات الإسلامية في حين لا يزال كتابنا ومفكرونا يرفعون شعار الحوار ... هل يمكن أن يكون ذلك مقبولا ومستساغا لدى شعوب وجماهير الأمة ؟

*المسألة في الحقيقة ذات شعبتين شعبة سياسية وأخرى عقائدية والحوار يتم في إطار الشعبة العقائدية والمسلمون يؤمنون بالسلام وهكذا النصارى لذلك فإن الحوار يتم بين جهات دينية إسلامية ومسيحية.. كذلك لا شك أن هناك بعض الفائدة التي كانت ثمرة لهذا الحوار وهو تبصير الذين يحاوروننا وهم رجال دين مسيحي قد عرفوا عن الإسلام أشياء لم يعرفوها من قبل برغم قراءتهم الكثيرة عن الإسلام .

من هنا برزت قضية اعتذار النصارى عن الحروب الصليبية وهناك من يرى الاعتذار عنها وهم قلة ونحن نصر وفي ذلك إدانة للغرب في فترة طويلة .

أما العدوان الذي يحدث الآن على بلاد المسلمين من قبل الجيوش الغربية والأمريكية فهو يحدث من عصابات وليس من دول.. فأمريكا لا تحاربنا من يحاربنا فريق مستعمر للأمريكيين لو أخذنا عدد الذين انتخبوا الرجل الذي يحاربنا وأقصد بوش سنجده لا يزيد عن 15 % من الأمريكيين لهذا نحن لا نؤاخذهم بخطأ 15% .

الذي يحاربون الإسلام عشرات.. وكثير من رجال السياسة في الغرب ضد ما يجري على المسلمين في العراق وأفغانستان وغيرهما.. إذا باب الحوار مفتوح بالنسبة للغرب الأوروبي وهو الذي يمارس الآن وبالنسبة للغرب الأمريكي وهو ما لم يمارس بعد .

** يرى العلمانيون أن الثقافة الإسلامية فيها ضعف ذاتي وألغام تعرقل نموها وتطورها . ومن هذه الألغام التطرف والتمذهب والتمركز حول الجماعة . كيف ترد على هذه الدعاوى ؟

*لا يحق للعلمانيين التحدث باسم الإسلام لأنهم يناصبون الإسلام العداء ومن ثم كل هذه الاتهامات باطلة وعليهم أن يلتفتوا لأنفسهم ويحاولوا أن يصلحوا من ذواتهم قبل الحديث عن الإسلام وإن أكثرهم يحملون أسماء إسلامية لا يستحقونها كمحمد وعلي وإبراهيم وهم حرب على أمتهم التي يحملون أسمائها ومن ثم فهم يصنفون في قائمة الخونة وليس العلمانيين.. والعلمانية تاريخها مملوء بما يقزز ويدفع إلى الاستنكار والسخرية .

وكتب العلمانية من الكثرة بمكان وكلها فضائح فهم يحاولون أن يغطوا فضائحهم لأقوامهم بهذه الإثارة التي يثيرونها من حين إلى آخر.

وأؤكد أنه لا يوجد ضعف ذاتي في الإسلام أو ثقافته.. الضعف في المسلمين أو في بعض المسلمين والسبب في ذلك يعود إلى العلمانيين أنفسهم فضلا عن بعض الحكومات الضعيفة التي رأت أن تجامل الغرب المعادي .

==============

#د.محمد يحي يتحدث للمفكرة عن المشروع الإسلامي وهموم الصحوة.

الاثنين 3 ذي القعدة 1426هـ – 5 ديسمبر 2005م

الصفحة الرئيسة

- لدينا مشروع إسلامي لكنه يتعرض للتشويه من الخصوم.

- المروجون للمفاهيم الغربية يكرسون لتبعية الآخر.

- الأوضاع السياسية للأمة لا تشجع على الإبداع الأدبي.

- مازال هناك إمكانية لتحريك الشعوب الإسلامية للمطالبة بحقوقها.

- على القوى الإسلامية استمرار تشكيل الوعي بأهمية النهضة.

- بعض الحركات الإسلامية يعيش أزمة حقيقية في الوقت الراهن.

- العنف لم يكن أبدا سمة أصيلة لدى الحركة الإسلامية.

- ليس كل ما يحدث في العراق يمكن أن نعتبره مقاومة.

أجرى الحوار : أسامة الهتيمي

الفكر واحد من أهم القضايا والإشكاليات التي تعاني منها الأمة الإسلامية بعد أن تعرضت للعديد من محاولات الاختراق والتغريب عبر بعض أبناءها الذين حملوا أسماء إسلامية وعقول غربية ترعرعت وتشكلت بين أحضان الثقافة الغربية التي جعلتهم ينظرون للثقافة والتراث الإسلامي باستخفاف وازدراء معتبرين أن هذه الثقافة أهم أسباب التخلف المادي والحضاري الذي تعيشه الأمة والتي لن يمكنها النهوض إلا إذا تخلصت من عبئه .

واستطاع هؤلاء في مرحلة تاريخية خاصة أن يكثفوا جهودهم من أجل إيجاد جيل كامل نشأت داخله عملية فصل بين انتمائه لأمته وثقافته وطرائق تفكيره حتى يمكن أن يحمل على عاتقه مهمة ترسيخ الثقافة الوافدة لتكون البداية في عملية اللحاق بركب الحضارة الغربية .

الدكتور محمد يحي أستاذ الأدب الإنجليزي بجامعة القاهرة والكاتب الإسلامي المعروف واحد ممن لم يخدعهم بريق الثقافة الغربية على الرغم من عمق اطلاعه عليها وحسن درايته بها ..فقد رأى الرجل أن قوة الحضارة الإسلامية واستنهاضها تكمن في طبيعة ثقافتها واستجلاء حقيقتها وأن ذلك لن يتأتي باستيراد أفكار الغرب التي تكرس استمرار التبعية له .

وحاول الدكتور يحي من خلال دراساته والعديد من مقالاته أن يقوم بعملية كشف وبيان عن زيف دعاوى الثقافة الغربية مؤكدا أن الثقافة الإسلامية تحمل بين جنباتها ما يمكن أن يكون قوة دفع لعملية النهوض هذه .

من هنا تأتي أهمية الحوار مع الدكتور محمد يحي الذي طرحنا عليه العديد من القضايا مما يشغل الساحة الفكرية والثقافية .

** أصبح مصطلح 'العولمة' من أكثر المصطلحات الفكرية والسياسية التي تلوكها الألسنة في العالم العربي خلال العشر سنوات الأخيرة كنتيجة للضغوط والإغراءات الغربية المروجة لها .. في نظركم هل عملية الترويج هذه تصب في صالح الأمة أم أنها محاولة جديدة لتذويب هويتها ؟

*بالتأكيد إن عملية الترويج لمثل هذه المصطلحات ومنها العولمة محاولة جادة من قبل الغرب تهدف إلى تذويب الهوية الثقافية والحضارية للأمة الإسلامية مثلها مثل الكثير من المحاولات التي قام بها الغرب .. والعولمة كما يتم ترويجها بهذا الشكل ليست في صالح الأمة لأنها ذات مضمون غربي وتتسم بالتبعية للغرب وبالذات للولايات المتحدة الأمريكية من كل النواحي ولا سيما الجانب الاقتصادي .

أضيف إلى ذلك أنه في العشرين سنة الأخيرة أعيد طرح قضية الهوية من جانب فصيل معين من فصائل الحركة الثقافية في مصر والعالم العربي .. وهو الفصيل الذي يميل إلى العلمانية والتغريب في فكره .. هذا الفصيل يرفض الهوية العربية الإسلامية ولكنه يحاول أن يلتف حول هذا الرفض بأن يطرح قضية الهوية على إطلاقها ليمهد السبيل إلى هوية أخرى قد تكون أفريقية كما يشاع أو شرق أوسطية .. أو أوروبية بها عناصر عربية مهجنة ... ألخ .

أما هويتنا فهي الهوية العربية الإسلامية وهي ثابتة ومستقرة بالتاريخ واللغة والدين وتواصل العادات والتقاليد وبالإنتاج الفكري والأدبي.

** أغلب المفكرين الإسلاميين يتحدثون دائما عن أزمة غياب المشروع الفكري الخاص بالأمة وتكاد تقتصر أدبياتهم على هذا المعنى .. فمتى يمكن أن يكون للأمة مشروعها المستمد من مرجعيتها الدينية والثقافية ؟

* بالطبع أنا أختلف مع هذا الرأي وأتصور أن المشروع الفكري الإسلامي موجود بالفعل .. على الأقل في ملامحه العامة وأيضا جوانبه التفصيلية وهو مطروح لدى عدد لا بأس به من مفكري وكتاب وعلماء الأمة ولكن المشكلة هي أن هذا المشروع يقع ضحية الإهمال وعدم الالتفات إليه أو أنه يتعرض للتشويه من جانب خصومه وبالتالي لا يجد مكانا له .

أما عن صياغة هذا المشروع فهذا أمر ضروري إذا أصبح الآن داخل النخبة المثقفة في العالم العربي مكون إسلامي قوي جدا يصلح لأن يكون مشروعا بديلا .. فهناك مشروع إسلامي حضاري كبير يدخل فيه الجميع .. فهناك التيار القومي بالإضافة إلى المعتدلين من العلمانيين وكذلك المنفتحين من الإسلاميين بالإضافة إلى الأقباط أيضا .

** على مستوى الإبداع الأدبي نلحظ بوضوح أن الأدب العربي لم يزل يشغل موقعا متدنيا بالنسبة للآداب العالمية ... هل يعود ذلك إلى ضعف حقيقي في آدابنا أم أن ذلك جاء كنتيجة لعمليات الإقصاء والتجاهل من قبل الآخر المسيطر ؟

* مما لا شك فيه أن الفترة التي تمر بها الأمة هي فترة صعبة فضلا عن الظروف الاقتصادية والاجتماعية والسياسية التي لا تشجع كثيرا على الإبداع الأدبي كذلك يجب أن نعترف بأن الأدباء أنفسهم أصبحوا الآن أقلية لا تكاد تذكر لأن من يعمل في مجال الأدب يواجه بمشاكل عديدة كمشاكل النشر وحتى مشكلة الأدوات الفنية نفسها كالأسلوب والتقاليد الفنية ، ومن ناحية أخرى لابد من الإشارة إلى أن الأدب العربي نفسه يتعرض داخل الوطن العربي إلى محاربة من جانب التيارات المنتمية إلى الغرب والتي تحاول أن تحكم على هذا الأدب بالتبعية للغرب حتى لو لم يكن ذلك في صالح هذا الأدب أو حتى إذا كان ذلك مناقضا لتاريخه وجوهره .

وحقيقة الأمر أن هناك أزمة بالفعل وهي أزمة متعددة المستويات فنحن يمكن أن نقول إن هناك أزمة في القراءة فالناس لم يعودوا يقرءون كما كانوا في الماضي وإنما استولت على اهتماماتهم وأوقاتهم وسائل الإعلام الأخرى من راديو وتلفزيون وسينما .. إلخ والقراءة في أزمة وإلا لما كنا نقيم مهرجانات للقراءة كما أن هناك أزمة في الإبداع الفني في الكتابة والقصة والشعر فلم نعد نجد نفس الكم من الإنتاج الجيد والإنتاج الحالي ردئ ولم يعد كما كان في الماضي .

** العدوان الأمريكي والغربي على أفغانستان والعراق كشف عن أزمة حقيقية داخل الأمة العربية والإسلامية لعلنا يمكن اعتبارها حالة من حالات الشعور بالدونية والضعف أمام الغرب على المستويين المادي والثقافي .. في رأيكم هل يمكن مواجهة هذه الحالة المرضية ؟ أم أنه ليس ثمة فرصة يمكن أن تتاح للحد من سيطرة المرض والقضاء عليه ؟

أعتقد أنه ظهرت بوادر كثيرة على مواجهة هذه الحالة ولكن مع الأسف أن الجوانب السياسية المهيمنة هي التي تكرس التبعية والإحساس بالدونية وحتى التي تعوق أية إمكانية للنهضة وإحياء مشروع إسلامي مستقل عن المشروع الغربي .... أما عن حالة السلبية التي ألمت بالشارعين العربي والإسلامي إزاء الاعتداءات على العراق وأفغانستان فسببها يعود إلى الأنظمة والحكام المستبدين فضلا عن الأوضاع السياسية المتدهورة في هذا الدول إلا أنه يمكن تحريك هذه الشعوب وإن كان ذلك غير مؤكد حيث يحتاج إلى قوة كبيرة يجب أن تتسم بها الطليعة التي تأخذ على عاتقها مسئولية القيام بهذه المهمة الصعبة .

** أمام حالة الانبهار الجماهيري في العالمين العربي والإسلامي إزاء الأفكار الغربية نجد الكثير ممن يدعون تبنيهم للفكر والمشروع الإسلامي يحاول من خلال أطروحاته أن يكون النسخة الإسلامية لهذه الأفكار بمعنى أوضح يتعسف في عملية التأصيل لهذه الأفكار .... هل تعتبرون مثل هذه المحاولات شكل من أشكال الاختراق الثقافي أم محاولة حسنة النوايا للبحث عن الحكمة وعملية الاستنهاض ؟ ثم هل يمكن أن نعتبر أن الثقافة الغربية هي النموذج ؟

*بالفعل إنني اعتبر ما يقوم به هؤلاء هو شكل من أشكال الاختراق الثقافي حتى إذا كان فيها قدر ضئيل جدا من النوايا الحسنة عند بعض الأشخاص إلا أنه تظل في غالبها جزءا لا يتجزأ بل هي الجزء الأكبر والأهم لحركة الغزو الغربي للعالم الإسلامي ... غير أنه يجب أن ألفت النظر إلى أن هناك فرق في تناول بعض الموضوعات والقضايا وغيرها حيث لا يمكننا أن نضع الجميع في سلة واحدة فالحديث مثلا عن الديمقراطية وحقوق الإنسان يعبر في بعضه عن مطالب للشعوب والجماهير التي تتطلع إلى الحرية في حين أن الحديث مثلا عن حقوق المرأة يكاد ينصب في إطار الغزو الغربي .. وعليه فهناك جوانب تعبر عن رغبة شعبية حقيقية وجوانب أخرى تم صياغتها في قالب يؤدي في النهاية إلى تعميق حركة التبعية للغرب.

وأود أن أضيف أن الثقافة الغربية توجد انطباعا بأنها متجددة دائما.. فمن يتابع الإصدارات الفكرية والأدبية في بلد واحد في أوروبا – وليكن بلدا محدودا نسبيا كأسبانيا – يجدها متنوعة وكثيرة بدرجة مذهلة.. فما بالك لو أخذنا كل الدول الأوروبية مجتمعة وأضفنا إليها أمريكا ؟ فالثقافة الغربية متجددة من حيث ضخامة الإنتاج وتنوعه.. ولكن السمة التي نلاحظها الآن وعلى مدى السنوات الأخيرة هي سمة الإفلاس.. فلم تعد هناك حركات فلسفية وأدبية جديدة والجميع يجتر الحركات الثقافية والأدبية التي ظهرت في القرنين التاسع عشر والعشرين.

وعلى الطرف الآخر فأن في ثقافتنا العربية الإسلامية عناصر قوة... وأول عنصر قوة هو عنصر التاريخ فالثقافة الربية الإسلامية هي ذاكرة الأمة وتراثها وهي التي شكلت هذا المجتمع .

وثاني عنصر من عناصر القوة أنها ذات طابع إنساني يستجيب للفطرة والثقافة الغربية مهما كانت براقة إلا أننا حينما نقترب منها نجد قسوة وجفافا ومادية ولا إنسانية كاملة.

** الكثير من المفكرين يعتمد في مقولاته حول مواجهة الحضارة الغربية على الانهيار الحضاري للغرب من الداخل في حين يرى البعض ضرورة ممارسة فعل ابتعاث الحضارة الإسلامية من جديد .. أي المقولتين ترى أحقيتهما بالتأصيل مع استحضار واقع وحقيقة المد الغربي على المستوى المادي والثقافي، وكذلك الجهد الذي سيبذله الغرب لاستمرار ضعف الأمة الإسلامية ؟

* الحقيقة أنه لابد من إجراء عملية الابتعاث من الداخل أولا وليس التركيز على انتظار انهيار الحضارة الغربية لكن المشكلة هو أن الغرب نفسه من خلال عملائه والتابعين له يحاول دائما أن يقض على إمكانية الابتعاث الإسلامي من داخل الأمة ويحارب ذلك بكل ما أوتي من قوة ، لذلك فإن السبيل الذي يمكن أن نسلكه هو أن تسعى النخب أو القوى الإسلامية باستمرار ورغم صعوبة الظروف إلى أن توسع من دائرة الوعي بأهمية النهضة الجديدة للأمة من داخلها كما يجب على هذه التيارات أيضا أن تطرح باستمرار أمام الجماهير التفاصيل والخطوط العامة لمثل هذا المشروع الذي يدعو للنهضة من داخل الأمة حتى يكون هناك أمام الجماهير نموذج أو فكرة تستطيع أن تتعلق بها وتعمل من أجل تحقيقها .

** فيما يخص الحركة الإسلامية وواقعها.. هل ترى أن حالة ركود الصحوة الإسلامية الراهنة هي مرحلة استئنافية للحركة بعد عمليات المراجعة التي قامت بها العديد من الاتجاهات داخل الحركة؟

* من الممكن أن تكون حالة الركود هي مقدمة لاستئناف الصحوة لكن كذلك من الممكن أن تكون هذه الحالة بالذات عند بعض الجماعات والأطراف في الحركة الإسلامية أزمة حقيقية تعكس ما يمكن أن نسميه التوقف للنهضة أو الحركة عند تلك الجماعات بالذات .

** يمكن أن نقول أن العنف لم يعد ظاهرة كما كان خلال حقبة الثمانينات وحتى منتصف التسعينات من القرن الماضي غير أن بعض الأعمال المسلحة وقعت مجددا ... هل يمكن اعتبار ذلك بداية لسلسلة جديدة من العنف ؟

* أنا أرى أن ذلك غير ممكن فأنا أميل في اعتقادي إلى اعتبار أن العنف لم يكن أبدا سمة أصيلة من سمات الحركة الإسلامية في مجملها وإنما جاء لظرف معين تم فرضه على هذه الحركة من خارجها وافتعل في أغلبه من جانب جهات تريد تعطيل هذه الحركة وإفشالها . لكن بالتأكيد لن يعود هذه العنف مرة ثانية إلى إذا استمرت بعض الجهات التي يمكن أن تكون محلية أو خارجية في دعمه للمزيد من تشويه الحركة الإسلامية .

** وماذا عن العمليات المسلحة في فلسطين والعراق ؟

* ما يحدث في فلسطين هو مقاومة بمعنى الكلمة إذ يقف شعب محاصر ضد عدو صهيوني مغتصب من أجل انتزاع حقه المسلوب.. أما ما يحدث في العراق فلابد أن نفرق بين نوعين من العنف النوع الأول ما يمكن أن نعتبره مقاومة حيث تتوجه العمليات ضد الأمريكيين وقوات الاحتلال أما النوع الثاني فهو مصطنع من أجهزة المخابرات وقوات الاحتلال بهدف تشويه صورة المقاومة وكسب العداء لها ومن نماذج ذلك العنف المتبادل بين أطراف عراقية كالسنة والشيعة والاعتداء على المساجد والمدارس الدينية فمثل هذه الأعمال يصب في صالح الاحتلال .

=============

#مصطفى صادق الرافعي- أديب كتب تحت راية القرآن

لأحد 11 شوال 1426هـ – 13 نوفمبر 2005م

الصفحة الرئيسة

مفكرة الإسلام : عرفت النهضة الأدبية المعاصرة مصطفى صادق الرافعي هذا العَلَم الفذ مفكراً وأديباً، رائدا لأمته والرائد لايكذب أهله.وقف أمام تيار التغريب الذي ماتزال الأمة تعاني من آثاره في حياتها الاجتماعية والسياسية والثقافية.

وقد بدأ الرافعي قول الشِّعر في سن مبكرة، وبدأ بشعر يحاكي فيه فحول الشعراء العرب قوة وجمالاً، وفي الثالثة والعشرين من عمره أصدر الجزء الأول من ديوانه وأتبعه بعد سنة بالجزء الثاني، وبعد سنتين أخريين أصدر الجزء الثالث، وقد جمع الأجزاء الثلاثة في ديوان أسماه [النظرات] وأصدره سنة 1326هـ، وله أناشيد وطنيه وقصائد أخرى في فنون الشعر المختلفة.. وحينما بلغ سنُّه الثلاثين عدل عن قول الشعر وترديده وتحوَّل إلى الأدب المنثور.

الرافعي ..سيرة حياة

ولد مصطفى صادق بن عبد الرازق بن سعيد الرافعي في مدينة [بهتيم] بمحافظة القليوبية بمصر سنة 1298هـ 1881م من أسرة الرافعي التي يتصل نسبها بعمر بن الخطاب. وبها قضى شطراَ من صباه والتحق بمدرستها الابتدائية. ثم نقل أبوه إلى المنصورة فانتقل في صحبته، وفي المنصورة التحق بالابتدائية التي تخرج منها سنة 1315هـ ثم أصيب بالمرض الذي أضعف من صوته وأفضى بسمعه إلى الصمم فانقطع عن الدراسة وأقبل على مكتبة أبيه التي كانت تزخر بصنوف الكتب وكان أبوه من علماء الأزهر، ولذا كان مجلسه عامراً بالعلماء والأدباء ومكتبته زاخرة بنفائس الكتب ومن هذه المصادر الثلاثة: [أبو الرافعي الشيخ عبد الرازق، ومكتبته، ومرتادو مجلسه من العلماء] استقى الرافعي علمه وتحصيله.

ثم نقل الشيخ عبد الرازق إلى طنطا قاضياً بمحكمتها فانتقل معه ابنه مصطفى وبها عين كاتبا في المحكمة، وكان مثال الإخلاص والنشاط في عمله الذي لم يصرفه عن الإقبال على القراءة والكتابة وبقي بها حتى أحيل إلى التقاعد وكان قد رشح من رئيس التشريفات [نجيب باشا] لأن يكون شاعر الملك يمدحه في المناسبات فبقي كذلك حتى حل الإبراشي باشا محل نجيب باشا فاختلف مع الرافعي لأسباب غير معلومة ولذا هيأ الإبراشي المجال لعبد الله عفيفي كي يكون منافسا للرافعي فانقطع الرافعي عن مدح الملك، وانتخب عضوًا للمجمع العلمي بدمشق.

وكان منزله ومكتبته، ومقهى [ لمنوس ] أمكنة يرتادها تلامذة الرافعي ومحبوه وكان يتلقى أسئلتهم ويجيب عليها بصدر رحب، كما كان يبتهج بهؤلاء ويأنس بهم إلى أن توفي في مدينة طنطا بمصر سنة 1356هـ 1937م.

حياته العملية

عين الرافعي كاتباً بمحكمة طلخا الشرعية عام 1899م. و ظل ينتقل من محكمة إلى أخرى حتى استقر به المقام في محكمة طنطا الأهلية.

إنتاجه الأدبي

يعد الرافعي في زمانه حامل لواء الأصالة في الأدب، ورافع راية البلاغة فيه، ثم إنه الرجل الذي وقف قلمه وبيانه في سبيل الدفاع عن القرآن ولغة القرآن، ولذا وجدنا الصراع يشتد بينه وبن أولئك الذين استراحوا للفكر الغربي وأقبلوا عليه حتى وإن كان حربا على أمتهم ودينهم ولغتهم.يقول الرافعي مخاطبا المستغربين :'علم الله ما فتن المغرورين من شبابنا إلا ما يأخذهم من هذه الحضارة فإن لها في زينتها ورونقها أخذة كالسحر فلا يميزون بين خيرها وشرها ولا يفرقون بين مبادئها وعواقبها ثم لا يفتنهم منها إلا ما يدعوهم إلى مايميت ويصدهم عما يحي وما يحول بينهم وبين قلوبهم فليس إلا المتابعة والتقليد .

'والحضارة الغربية أطلقت حرية العقول تجدد وتبتدع وأطلقت من ورائها الأهواء تلذ وتستمتع وتشتهي فضربت الخير بالشر ضربة لم تقتل ولكنها تركت الآثار التي هي سبب القتل إذ لا تزال تمد مدها حتى تنتهي إلى غايتها وذلك هو السر في أنه كلما تقادمت الأزمنة على هذه الحضارة ضج أهلها وأحسوا عللا اجتماعية لم تكن فيهم من قبل .'

ولقد كانت صلة الرافعي بالصحف مبكرة حيث أقبل عليها يودع صفحاتها مقالاته وبحوثه التي كان يطرق بها كل ميدان من ميادين الحياة، فيعالج قضايا المجتمع كالفقر والجهل وزواج الشيب بالشابات، ويركز على القضايا ذات الصبغة الإسلامية كمسألة السفور مثلاً.

ويقف بقلمه في وجوه أعداء الإسلام الذين تكاثروا في ميدان الطعن فيه سواء منهم من كان من الغربيين، أومن مستغربي العرب، ويجعل من بيانه حصنا يصد عن اللغة العربية سهام المغرضين، ولقد عرف هؤلاء فيه قوته وصلابته فأرادوا استمالته إلى نهجهم من طريق إغرائه بالإمامة في الأدب في العصر الحديث.

ومن ذلك ما ورد في مقالة جبران التي رصدها الرافعي في كتابه [تحت راية القرآن] أو [المعركة بين القديم والجديد] ولقد بدأ الرافعي حياته الأدبية بالهجوم على أرباب المراتب العالية في الأدب مثل البارودي والمنفلوطي فلما صار في المقدمة من أهل هذا الفن عاد واعترف بأن عمله ذلك كان من نزق الشباب، وهذا دليل على صدق الرافعي مع نفسه والناس.

ولم يكد منهج الرافعي يشتهر في الناس حتى أقبلوا عليه، وأقبلت معهم الصحف والمجلات وكان طبيعياً أن يجد من بعض مزامنيه من يقف في وجهه إما كرها لنهجه، وإما خوفاً من مزاحمته، وإما لأسباب أخرى.

ومن مؤلفاته

1- تاريخ آداب العرب [ثلاثة أجزاء]، صدرت طبعته الأولى في جزأين عام 1329هـ،1911م.

وصدر الجزء الثالث بعد وفاته بتحقيق محمد سعيد العريان وذلك عام 1359هـ الموافق لعام 1940م.

2- إعجاز القرآن والبلاغة النبوية [وهو الجزء الثاني من كتابه تاريخ آداب العرب]، وقد صدرت طبعته الأولى باسم إعجاز القرآن والبلاغة النبوية عام 1928م.

3- المساكين، صدرت طبعته الأولى عام 1917م.

4- السحاب الأحمر.

5- حديث القمر.

6- رسائل الرافعي، وهي مجموعة رسائل خاصة كان يبعث بها إلى محمود أبي رية، وقد اشتملت على كثير من آرائه في الأدب والسياسة ورجالهما.

7- تحت راية القرآن، مقالات الأدب العربي في الجامعة، والرد على كتاب في الشعر الجاهلي لطه حسين.

8- على السفود، وهو رد على عباس محمود العقاد.

9- وحي القلم، [ثلاثة أجزاء] وهو مجموعة فصول ومقالات وقصص كتب المؤلف أكثره لمجلة الرسالة القاهرية بين عامي 1934- 1937م.

10- أوراق الورد.

11- رسائل الأحزان.

12- ديوان الرافعي [ثلاثة أجزاء] صدرت طبعته الأولى عام 1900م.

13- ديوان النظرات [شعر] صدرت طبعته الأولى عام 1908م.

قالوا وكتبوا عنه

صدر عن حياته عدة كتب ودراسات منها: حياة الرافعي لمحمد سعيد العريان، الجانب الإسلامي في أدب مصطفى صادق الرافعي لعبد الستار علي السطوحي كما كتبت عن فكره وأدبه رسائل جامعية عديدة في جامعات مصر والسعودية وسورية.

وقد كان للرافعي مقام كبير بين أدباء عصره، وهذه جمل من أقوالهم فيه:

يقول محمد عبده : أسأل الله أن يجعل للحق من لسانك سيفاً يمحق الباطل وأن يقيمك في الأواخر مقام حسان مع الأوائل.

وقال: سعد زغلول عن كتابه إعجاز القرآن ' بيان كأنه تنزيل من التنزيل أو قبس من نور الذكر الحكيم'.

أما العقاد فقال : إنه ليتفق لهذا الكاتب من أساليب البيان ما لا يتفق مثله لكاتب من كتاب العربية في صدر أيامها

وقال عنه أحمد زكي باشا الملقب بشيخ العروبة: لقد جعلت لنا شكسبير كما للإنجليز شكسبير وهيجو كما للفرنسيين هيجو وجوته كما للألمان جوته.

المصادر والمراجع

1- حياة الرافعي، محمد سعيد العريان.

2- وحي القلم، مصطفى صادق الرافعي.

3- الجانب الإسلامي في أدب مصطفى صادق الرافعي، عبد الستار علي السطوحي.

4- أغاريد الرافعي، مصطفى نعمان البدري.

5- مجلة الأمة- العدد 34.

6- الأعلام للزركلي.

7- مصطفى صادق الرافعي فارس القلم لمحمد رجب البيومي

8-مجلة الأدب الإسلامي عدد خاص عن الرافعي-العدد 43، 44 .

9- مصطفى صادق الرافعي الأديب الناقد لإبراهيم الكوفي .

محمد بركة

barakah169@hotmail.com

===============

#خصال الشباب المتهمين بالإرهاب

الاثنين 22 شعبان 1426هـ – 26سبتمبر 2005م

الصفحة الرئيسة

مفكرة الإسلام: يَسَّر الله تعالى لي منذ طفولتي أن أختلط بشباب مسلم مؤمن ملتزم من النوع الذي تتهمه أمريكا وبريطانيا وإسرائيل وحلفاؤهم من منافقي العرب وغيرهم بالإرهاب، ولم يكن اختلاطي بهذه النوعية من الشباب يقتصر على الفلسطينيين فقط، بل امتد إلى المسلمين من شتى الأجناس والأعراق ومن كل البلدان والقارات، إذ كنا ندرس في جامعة أم القرى بمكة المكرمة مع طلاب ينتمون إلى أكثر من مائة قطر، وقد عشت مع هؤلاء الشباب وعرفتهم عن قرب حيث تعاملت وسكنت معهم، وعرفت أخلاقهم وخصالهم وهمومهم وعاداتهم وتقاليدهم وقيمهم ومبادئهم، وقد وجدت خصالاً كثيرة مشتركة تجمع بين هؤلاء الشباب بالرغم من اختلاف أجناسهم وأقطارهم، كما عرفت وخالطت غيرهم من الشباب الغربيين والمستغربين الذين تربوا على قيم ومبادئ الحضارة الغربية التي يبشر بها بوش وبلير وشارون ويزعمون أنهم يخوضون الحروب دفاعًا عنها، وقارنت بين الشباب الذين يتهمهم هؤلاء المجرمون بالإرهاب وبين الشباب الذين تربوا على قيم الغرب ومبادئه فوجدت الفرق هائلاً، وخلصت إلى: أن أفضل شباب على وجه الأرض هم أولئك الذين يُتهمون في زماننا بالإرهاب، وأن أكثرهم فضلاً وأخلاقًا وصلاحًا واستقامة هم أولئك الذين يعدهم الأعداء الأكثر إرهابًا والأشد خطرًا.

لقد وجدتهم: ربانيين عابدين مخلصين يتوجهون بأعمالهم كلها إلى الله تعالى، ولا يسعون إلا إلى كسب رضاه، وقد هاجروا إلى الله ورسوله، وليس إلى دنيا يصيبونها، أو شهوة يقضونها، أو جاه يحققونه، أو مال يكسبونه، وأسمى أمانيهم أن يخرجوا من هذه الدنيا وقد رضي الله عنهم، وهم يرددون دائمًا قول أبيهم إبراهيم عليه السلام:{ قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين، لا شريك له، وبذلك أمرت وأنا أول المسلمين} .

ووجدتهم لا يكذبون ولا يسرقون ولا يغشون ولا يرتشون ولا يخونون، يؤدون الأمانة ولو كانت قناطير مقنطرة من الذهب، ولا يمدون أيديهم إلى مال حرام ولو غاب الرقيب، أو كانت بهم فاقة، خلافًا لزعماء الغرب الذين يعدون أئمة الكذب في هذا العصر، وقد قتلوا مئات الألوف من أبنائنا وأبنائهم في حروب ظالمة برروها بمجموعة من الأكاذيب، وخلافًا لأبنائهم الذين لا يمنعهم من السرقة والغش والاختلاس إلا القانون الرادع، وما إن تسنح لهم الفرصة ـ كأن يقطع التيار الكهربائي أو تحدث كارثة طبيعية ـ نجدهم يتحولون إلى عصابات ولصوص وقتلة، وما إعصار كاترينا منا ببعيد حيث لم تمنع الكارثة المدمرة من حدوث الفوضى والنهب والسلب على نطاق واسع.

ولاحظت أنهم يخلصون في أقوالهم وأعمالهم ويحرصون على إتقانها إرضاء لربهم الذي يحب من يتقن عمله.

وأنهم يوفون بعهودهم ووعودهم ولا ينقضونها، لأن مولاهم أثنى على من يفي بعهده.

وأنهم يتجنبون الخمر والميسر والمخدرات والسجائر، ويعيش أحدهم عمرًا مديدًا دون أن يدخل جوفه شيء من هذه السموم التي ابتلي بها أبناء الحضارة الغربية، فجعلت معظم شبابهم مدمنين تقتلهم الأمراض والأوجاع. ووجدتهم أطهارًا مطهرين يغضون أبصارهم عن ما حرم الله، ولا يقربون الزنا، وإن دعتهم إليه ذات منصب وجمال، لأنهم يخافون الله الذي حرمه عليهم، خلافًا لغيرهم من شباب وشابات الغرب الغارقين في الفواحش والشذوذ بشتى صوره، والذين يفتك الإيدز بالملايين منهم كل سنة.

ورأيتهم رحماء ترق قلوبهم وتنهمر دموعهم رحمة بالأيتام والمساكين والأرامل والمحتاجين؛ وكرماء يجودون بأموالهم في سبيل الله لسد حوائج الفقراء، ويبادرون إلى إقامة الجمعيات والمؤسسات التي تعمل على حل مشكلاتهم.

ولاحظت أنهم يحبون الناس ويريدون الخير لهم، ويدافعون عنهم من الظلم والظالمين والمعتدين بأوقاتهم وجهودهم وأموالهم وأرواحهم؛ وأنهم متفوقون في دراستهم، مبدعون في تخصصاتهم، يحملون أعلى الدرجات، وأنهم ناجحون في أعمالهم، موفقون في كل شئون حياتهم.

وأنهم متواضعون يحبون الناس ويحبونهم، لا يتكبرون على أحد لأنهم يعتقدون أنه لا يدخل الجنة من في قلبه مثقال ذرة من كبر، وأنهم يصلون أرحامهم، ويبرون بأمهاتهم وآبائهم، ويخفضون لهم جناح الذل من الرحمة، وفاء واستجابة لأمر ربهم الذي قال: { وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحسانًا}، خلافًا لشباب الغرب الذين يلقون بآبائهم وأمهاتهم في دور المسنين ولا يذكرونهم إلا في عيد الأم؛ وأنهم يحافظون على أبنائهم وبناتهم وزوجاتهم ويحسنون رعايتهم وتربيتهم، تقربًا إلى الله تعالى الذي جعلهم أمانة يُسأل عنها العبد يوم القيامة، خلافاً لدعاة التحضر أصحاب الأسر المفككة الذين يخون بعضهم بعضًا ويلعن بعضهم بعضًا، والذين ترتكب الزوجة والبنت والأخت الفاحشة على مرأى وعلم من زوجها وأبيها وأخيها؛ وأنهم رجال يؤرقهم حال أمتهم المتردي، ويحلمون بوحدة الأمة ونصرها وعزتها، ويبذلون قصارى جهدهم لتحقيق ذلك؛ وأنهم يبكون لمناظر دماء المسلمين التي تسيل وأطفالهم الذين يقتلون ومقدساتهم التي تدنس ومنازلهم التي تدمر ومزارعهم التي تجرف، ويتحرقون شوقًا لنصرتهم وإنقاذهم، ويقسمون ألا يهدأ لهم بال حتى يحرروا العرض والأرض من رجس المعتدين.

ووجدت أنهم أشداء على أعداء الله، لا يخافون ولا يجبنون، ويعشقون الشهادة، إذ يعتقدون أن الموت في سبيل الله حياة خالدة لهم في الجنة، وحياة عزيزة لأمتهم في الدنيا؛ وأنهم لا ييأسون ولا يملون، ويعتقدون أن نصر الله قادم وقريب إذا ما عادوا إلى ربهم وتمسكوا بدينهم ومبادئهم؛ وأنهم لا ينهزمون أمام جبروت الأعداء وبطشهم ولا أمام حضارتهم الزائفة، ويوقنون أنهم أقوى وأعلى لأن الله القوي العلي معهم، وقد أوصاهم بما أوصى به نبيه موسى عليه السلام بقوله: { قلنا لا تخف إنك أنت الأعلى}.

تلكم بعض خصال الشباب الذين يتهمهم الأعداء بالإرهاب، وذلكم هو الفرق بين من تربوا في بيوت الله على موائد القرآن الكريم والسنة المطهرة، ومن تربوا في الملاهي والمراقص على موائد الخمر والمخدرات والرذيلة.

أولئك آبائي فجئني بمثلهم إذا جمعتنا يا جريرُ المجامعُ

إنها صفات عباد الله الصالحين التي أرادها سبحانه وتعالى ووعد أن ينصر من اتصف بها،

وهي الصفات التي تؤهل حامليها لإنقاذ البشرية من الضلال، وتخليصها من التعاسة والشقاء، وقيادتها إلى السعادة والهناء {وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم، وليبدلنهم من بعد خوفهم أمنا يعبدونني لا يشركون بي شيئًا، ومن كفر بعد ذلك فأولئك هم الفاسقون}.

بقلم: د.خالد يونس الخالدي

أستاذ التاريخ المشارك

الجامعة الإسلامية ـ غزة

==============

#الإسلام والغرب .. تعاون أم مواجهة ؟!

الأربعاء 19 رجب 1426هـ – 24 أغسطس 2005م

الصفحة الرئيسة

مفكرة الإسلام : هناك الآن أكثر من اتجاه بشأن العلاقة المفترضة بين الإسلام والغرب أو الإسلام وأمريكا باعتبارها الممثلة الكبرى للحضارة الغربية .

فهناك الغرب وأمريكا وبعض القوى المحلية عندنا تدعونا إلى الالتحاق بالركب الحضاري الغربي والاندماج في الحضارة الغربية والتخلي عن ديننا وحضارتنا وقيمنا أو على الأقل قصر علاقتنا به على العبادة الفردية والضمير وهؤلاء يقولون إنه قد ثبت أن الحضارة الغربية حضارة عظيمة ويجب أن تسود العالم ، أو يقولون إنه لا أمل ولا فرصة للمواجهة ومن الأفضل أن ننصاع لها ، وهؤلاء بالطبع منافقون ومخادعون فلا الحضارة الغربية حضارة عظيمة ، ولا هي حضارة ذات أخلاق ، ولا هي قدر مقدور لا يمكن الفكاك منه ، هؤلاء بالتحديد يدعوننا إلى الاستمرار في أداء دور الضحية والذبيحة خاصة بعد أن شحذ الجزار سكينه وأصيب الآكلون بنهم شديد ، وفضلاً عن أننا سنكون مجالا للنهب فإنهم يطلبون منا أن نتخلى عن قيمنا وذاتيتنا ومبادئ ديننا وحضارتنا وهذا بالطبع مرفوض .

واتجاه آخر يقول بأن الحضارات تتفاعل مع بعضها البعض أو تتزاوج وإن الحضارة الغربية ليست غربية فقط بل إنسانية أي أنها استفادت من كل الحضارات التي سبقتها وتفاعلت وتزاوجت معها وخرجت في النهاية لتكون حضارة الإنسانية كلها ، وهذا الرأي خطير وبراق ولكنه خطأ ، ولكي نعرف انه خطأ ينبغي علينا أن نفرق بين أمرين أحدهما التفاعل والتزاوج والآخر التعاون فالتفاعل والتزاوج لا يتم إلا بين حضارات أو إبداعات حضارية من عًائلة واحدة مثل الحضارة الرومانية واليونانية والإغريقية والجرمانية والسكسونية وهكذا .. وهذا التفاعل والتزاوج لا يتم بين حضارات من عًائلات مختلفة ، أي مختلفة نوعًا وكميًا ، فلا يمكن مثلاً الحديث عن تمازج وتزاوج حضاري بين حضارة تقوم على الوثنية كالحضارة الغربية وأخرى تقوم على التوحيد كالحضارة الإسلامية ، والأمر هنا أشبه بعمليات التطعيم التي تتم في النباتات ، فلابد لكي تنجح عملية التطعيم هذه أن تكون بين أنواع معينة من النباتات تنتمي إلى عًائلة واحدة ، أو عائلات متقاربة ، ولكن هذا التطعيم يفشل تمامًا إذا ما تم بين شجرتين لا تنتميان إلى عائلة أو عًائلات نباتية متقاربة .

وفي الحقيقة فإن إمكانية التزاوج والتفاعل بين الحضارة الإسلامية والحضارة الغربية أمر مستحيل ، لأن أي دراسة متعمقة للأساسيات التي قامت عليها كل من عائلة الحضارة الإسلامية وعًائلة الحضارة الأوروبية لا تترك مجالا للشك في أن لكل منهما طريقًا مختلفًا وسياقًا خاصًا ، لهذا يهدف الحديث عن التواصل الحضاري أو التفاعل الحضاري أو التزاوج الحضاري إلى الإلحاق والتبعية الحضارية باعتباره جزءًا أساسيًا في عملية الإلحاق الاقتصادي والثقافي والسياسي والسيطرة العسكرية .

وينبغي في هذا الصدد أن نلتفت إلى مجموعة من النقاط ، فالداعون إلى الاندماج في الحضارة الغربية ، ينسون نقطة أساسية وهي أن الحضارة الغربية لن تقبل الاندماج بها وأن يصبح غيرها جزءًا منها يستمتع بنفس الحقوق الحضارية معها ، أنهم فقط يعنون بالاندماج أن نظل تابعين وأن نظل مجالا للنهب دون مقاومة ، ففرنسا مثلاً التي أدمجت الجزائر فيها وجعلتها جزءًا من فرنسا لم تقبل أن تعطي الجنسية الفرنسية للجزائريين مثلاً ولم تقبل أن يكون لهم نفس حقوق الانتخاب التي للفرنسي مثلاً !

والداعون إلى التزاوج والتفاعل الحضاريين مع الحضارة الغربية ينسون الظروف المشبوهة التي ظهرت فيها مثل هذه الدعوة ، فهذا الموضوع لم يطرق بعيدًا عن غابات ذات علاقة بالصراع الدائر بين القوى الاستعمارية والشعوب المقهورة والمستضعفة ، فعندما طرح منظورًا أوروبيًا هذا الموضوع كانوا في أغلبهم يرمون إلى سيادة الحضارة الأوروبية على العالم بكل ما تحمل من فلسفات وقيم ومعايير ومفاهيم ، وذلك من خلال الترويج للحضارة الأوروبية وضرب الحضارات الأخرى ، أو طمسها ، أو الإنقاص من قدرها أو خلطها بما يلغيها ، وهو أمر يؤدي بالشعوب إلى فقدان هويتها ومقومات شخصيتها الأساسية ، وإلى ضرب عوامل وجودها المادي والثقافي المستقل ، فتصبح مكشوفة أمام طغيان المستعمرين ثم تتحول إلى تابع ذليل تلتقط الفتات ، وتقف على العتبات ، دون السماح لها بالدخول إلى صدر البيت .

والشيء الوحيد الممكن في العلاقة بين الحضارة الإسلامية والحضارة الغربية ولو من الناحية النظرية هو التعاون على أساس استقلال كل منهما وعلى أساس انفراد كل منهما بخصائصها الذاتية المتميزة دون أن تحاول السيطرة أو ظلم أو نهب الأخرى ، والإسلام بالطبع يرحب بالتعاون ويدعو إليه في إطار الاحترام المتبادل والعلاقات المتكافئة ، ولكن هل تقبل الحضارة الغربية التخلي عن النهب والظلم والعنصرية والعنف من أجل هذا التعاون ؟ ! .. لنأخذ مثلاً مجال العلوم الطبيعية ، وهذه الأطروحة تنقسم إلى قسمين: قسم خاص بالحقائق العلمية والمكتشفات العلمية ، وقسم خاص بتوجيه هذه العلوم في اتجاه معين أي لإنتاج سلعة ضرورية مثلاً أو كمالية ، للقضاء على مرض أو لنشر مرض ! لإنتاج أدوات تسعد الإنسان أو لإنتاج أسلحة الدمار الشامل ، لإصلاح البيئة والمحافظة عليها أو لتخريبها وتلويثها .

أي أن هناك شقًا علميًا وشقًا قيميًا ، والحضارة الإسلامية مثلاً عندما كانت متقدمة علميا كانت توجه هذه العلوم لإسعًاد الإنسان وتلبية حاجات كل البشر ، بل وكانت تسعى سعيًا لنشر العلوم ولا تحجبها عن الآخرين ، لأن حبس العلم جريمة في الفقه الإسلامي ، أما الحضارة الغربية فإنها عندما تقدمت علميا استخدمت منجزات العلم في تحقيق أكبر وسائل النهب وقهر الشعوب الأخرى وظلمها بل أنها أيضًا تحجب العلم عن الشعوب الأخرى ، بل وتحاكم من يجرؤ على نقل شيء منها لبلاده ' قضية الدكتور مهندس عبد القادر حلمي مثلاً ' بل تغتال كل من ينجح علميا في البلاد الأخرى .

على أية حال من الناحية النظرية يمكن التعاون في الاستفادة من العلوم الطبيعة ونقلها دون ربط ذلك بغايات وأهداف استخداماتها أي في الشق العلمي دون الشق القيمي ، ولكن هل تقبل الحضارة الغربية ذلك وهي التي تغتال العلم ، وتحرم نقل العلم وتحاكم من يفعل ذلك ، بل وتضرب أي نهضة علمية في أي مكان خارج دائرتها الحضارية ؟ !

نؤكد مرة أخرى أن الإسلام يحض على التعاون ، ويحرص عليه ، ولكن التعاون ليس الاندماج والتزاوج والإلحاق ، التعاون يقوم على استقلال حضاري كامل فالحضارة الغربية عندما نقلت العلوم الطبيعية من الحضارة الإسلامية أخذتها دون شقها القيمي أخذتها وهضمتها ووجهتها وفقًا لمعًاييرها الحضارية ، وجهتها للتدمير والتلويث والإفساد وتحقيق أكبر قدر من آليات النهب ، أما نحن فمن المفروض أن نأخذ العلوم الطبيعية من الغرب دون شقها القيمي فنهضمها وتصبح جزءًا من شخصيتنا الحضارية المستقلة فنوجهها طبقا لمعًاييرنا وقيمنا الحضارية في إسعاد الإنسان وتحقيق الرفاهية لكل البشر وليس لنا وحدنا .

هل هناك فرصة للتعاون مع الغرب ؟

قلنا انه لا يمكن ولا نقبل لا الإلحاق الحضاري مع الغرب ولا التزاوج والتفاعل بين الحضارة الإسلامية والحضارة الغربية لانتمائهما إلى عًائلتي حضارتين مختلفتين ولأن هذا في النهاية يعني التحول إلى تابع ذليل يظل خاضعًا للنهب والسيطرة . وقلنا إن العلاقة الصحيحة بين الحضارة الإسلامية والحضارة الغربية هو التعاون على أساس الاستقلال الحضاري الكامل والشخصية الحضارية المستقلة ، ولكن هل هناك فرصة للتعاون ؟ .. هل يقبل الغرب هذا التعاون ؟ .. هل تاريخنا معه يسمح بذلك ؟ .. هل تركيب الحضارة الغربية تسمح بذلك ؟ ..

إن تركيبة الحضارة الغربية تقوم على النهب والقهر والعنصرية . ورخاء ورفاهية أهل الحضارة الغربية جاء من نهب ثروات الشعوب الأخرى واسترقاق أهلها، ولكي تستمر هذه الرفاهية لابد أن يستمر النهب والقهر، فهل أهل الحضارة الغربية مستعدون للتوقف عن النهب والقهر والعنصرية ؟ هل هم مستعدون للتخلي عن رفاهيتهم القائمة على ثروات الآخرين من أجل التعاون معنا أو مع غيرنا ؟

أعتقد أن ذلك صعب ، بل يبدو مستحيلا ، وبالتالي فإمكانية التعاون بشروطها الصحيحة صعبة أيضًا ، بل وتبدو مستحيلة وحتى إذا حدثت المعجزة وتخلى أهل الشمال عن القهر والعنف والعنصرية فماذا يبقى من الحضارة الغربية ؟ أنهم يسقطونها تمامًا ، أنهم يفقدونها سماتها الأساسية ، أي يقبلون الاندماج في نمط حضاري آخر وفي حالة دخولهم في النمط الحضاري الإسلامي مثلاً ، فإننا لن نعاملهم معاملة التابع ، بل معاملة الإسلام التي تقول أنهم أصبحوا مثلنا تمامًا لهم ما لنا وعليهم ما علينا .

وإذا كانت تركيبة الحضارة الغربية لا تسمح بالتعاون إلا بانتفاء خصائص الحضارة الغربية ذاتها ، وبالتالي فالتعاون هنا صعب ويكاد يكون مستحيلا ً، ورأي أهل الحضارة الغربية فينا وموقفهم منا لا يسمح بقيام مثل هذا التعاون ، فهم ينظرون إلينا نظرة صليبية عنصرية حاقدة لا تقبل بأقل من تدمير حضارتنا تمامًا وفي قول لا يخلو من الدلالة يقول المعلق السوفييتي فاسييليف:

' إن أمريكا الآن تنظر إلى العالم الإسلامي بوصفه إمبراطورية الشر الجديدة التي حلت محل الاتحاد السوفيتي السابق الذي كان إمبراطورية الشر القديمة والتي تركزت كل الجهود الأمريكية خلال أكثر من أربعين عامًا للقضاء عليها ' .

وهذا المعلق السوفييتي المشهور فاسييليف استخدم هذه الحقيقة نفس المصطلح المستخدم دائمًا من قبل الأوروبيين والأمريكيين تجاهنا ، فالبابا أوربان الثاني الذي فجر الحروب الصليبية قال في مجمع كلير مونت في سنة 1095:

' إن إرادة الرب تحتم على المسيحيين تخليص بيت المقدس من أيدي إمبراطورية الشيطان '. وعندها خر الكهنة الحاضرون راكعين تحت قدمي البابا !

والبارون دي كارافو يقول: ' أعتقد أن علينا أن نعمل جاهدين على تمزيق العالم الإسلامي وتحطيم وحدته الروحية مستخدمين من أجل هذه الغاية الانقسامات السياسية والعرقية .. دعونا نمزق الإسلام بل نستخدم من أجل ذلك الفرق المنشقة والطرق الصوفية .. وذلك لكي نضعف الإسلام ، لنجعله عاجزًا إلى الأبد عن صحوة كبرى ' [1] .

ويقول يوجين روستو اليهودي:

' إن الحوار بين المسيحية والإسلام كان صراعًا محتدمًا على الدوام ، ومنذ قرن ونصف خضع الإسلام لسيطرة الغرب أي خضعت الحضارة الإسلامية للحضارة الغربية والتراث الإسلامي للتراث المسيحي وتركت هذه آثارها البعيدة في المجتمعات الإسلامية ' [2].

يقول لورانس براون:

' لقد كنا نخوف بشعوب مختلفة ، ولكننا بعد الاختبار لم نجد مبررًا لهذا الخوف ، لقد كنا نخوف من قبل بالخطر اليهودي والخطر الأصفر وبالخطر البلشفي إلا أن هذا التخويف كله لم نجده كما تخيلناه ، أننا وجدنا اليهود أصدقاء لنا ، وعلى هذا يكون كل مضطهد لهم عدونا اللدود ، ثم رأينا البلاشفة حلفاء لنا ، أما الشعوب الصفر 'الصين ، اليابان ' فإنها ليست خطيرة لهذه الدرجة ، ولكن الخطر الحقيقي كان في نظام الإسلام وفي قدرته على التوسع والإخضاع ، وفي حيويته ، أنه الجدار الوحيد في وجه الاستعمار الأوروبي ' [3] .

ويقول مورو بيرجر في كتابه ' العالم العربي ': ' لقد ثبت تاريخيًا أن قوة العرب تعني قوة الإسلام فليدمروا بتدميرهم الإسلام ' [4]

ويضيف مورو بيرجر: ' إن الخوف من العرب واهتمامنا بالأمة العربية ليس ناتجًا عن وجود البترول بغزارة عند العرب ، بل بسبب الإسلام ، ويجب محاربة الإسلام للحيلولة دون وحدة العرب التي تؤدي إلى قوة العرب ، لأن قوة العرب تتصاحب دائمًا مع قوة الإسلام وعزته وانتشاره ' [5]

ويقول ج . سيمون: ' إن الوحدة الإسلامية تجمع آمال الشعوب السمر وتساعدهم على التخلص من السيطرة الأوروبية ' [6]

ويقول سالازار دكتاتور البرتغال السابق: ' إن الخطر الحقيقي على حضارتنا هو الذي يمكن أن يحدثه المسلمون حين يغيرون نظام العالم ' ! ولما سأله أحد الصحفيين: ولكن المسلمين مشغولون بخلافاتهم عنا .. أجابه: ' أخشى أن يخرج من بينهم من يوجه خلافهم إلينا ] [7] .

ويقول ريتشارد هرير دكمجيان: ' إن قلة فقط خارج نطاق العالم الإسلامي كانت قادرة على توقع انبعًاث إسلامي في البيئة المعًاصرة وإن ضعف البصيرة في مجال التصور الذي أحدثته المادية الغربية والماركسية قد أعمى بقوة كل العلماء ورجال الدين الذين مالوا إلى استبعًاد قوة الإسلام أو التقليل من شأنها ' [8] .

ويحذر المفكر الألماني باول شمتز قائلاً : ' سيعيد التاريخ نفسه مبتدئا من الشرق ، عودا على بدء من المنطقة التي قامت فيها القوة العالمية الإسلامية في الصدر الأول للإسلام وستظهر هذه القوة التي تكمن في تماسك الإسلام ووحدته العسكرية ، وستثبت هذه القوة وجودها ، إذا ما أدرك المسلمون كيفية استخراجها والاستفادة منها وستقلب موازين القوى لأنها قائمة على أسس لا تتوافر في غيرها من تيارات القوى العالمية ' [9] .

ويقول المفكر الإنجليزي هيلد بيلوك: ' لا يساورني أدنى شك في أن الحضارة التي ترتبط أجزاؤها برباط متين وتتماسك أطرافها تماسكًا قويًا ، وتحمل في طياتها عقيدة مثل الإسلام لا ينتظرها مستقبل باهر فحسب بل ستكون أيضًا خطرًًًا على أعدائه '.

وما بين الحقد على الإسلام، وكراهيته، والدعوة إلى تدميره والقضاء عليه أو التخويف منه ومن خطره التي تسود الروح الفكرية الأوروبية على اختلاف مدارسها هل هناك فرصة للتعاون بين الحضارة الإسلامية والحضارة الغربية ؟ .. الإجابة: هذا صعب بالطبع.

وإذا تركنا كل ما سبق والتفتنا قليلاً إلى التاريخ، نجده مفعمًا بالصراع الدامي الذي خاضته الحضارة الأوروبية ضد الإسلام للقضاء عليه وخاصة الإسلام دفاعًا عن نفسه ونشرًا لقيمه وإنقاذا للعالم من الظلم والطغيان.

خاض الإسلام معارك شرسة ضد الحضارة الأوروبية المتوحشة منذ اللحظة الأولى واستطاعت جيوش الإسلام أن تنتصر في اليرموك وعمورية وحطين ، ثم بدأت أوروبا تستعيد المبادرة فظهرت الحروب الصليبية بدءًا من سنة 1095 وحتى 1294 في المشرق العربي أما في المغرب العربي فإن الإسلام استطاع أن يفتح أفريقيا والأندلس .

واستمر المعارك مع الحضارة الغربية في الأندلس ثمانية قرون وفي بلاد المغرب العربي ألف عام قبل دخول الأندلس وأثناء الحكم الإسلامي للأندلس وبعد سقوط الأندلس ، ولم يتوقف الصراع مع الحضارة الغربية لا في الشرق ولا في الغرب ، ففي الشرق ظهرت الخلافة العثمانية واستطاعت أن تنقذ العالم الإسلامي من السقوط ، ودخلت في معارك طاحنة مع أوروبا انتهت بفتح القسطنطينية 1453 على يد محمد الفاتح ، بل وانتشرت جيوش الإسلام في أوروبا مرة أخرى تعاود الهجوم ، وتعرضت الخلافة العثمانية إلى ضغط رهيب انتهى بسقوطها ، وقبل ذلك بقليل بدأت أوروبا حملتها الصليبية الثانية على العالم الإسلامي والمسماة باسم الاستعمار بدءًا من هجوم نابليون 1798 وانتهاء بسقوط معظم بلاد العالم الإسلامي في قبضة الاحتلال الأوروبي ، وفي المغرب العربي ظلت أوروبا ترسل حملاتها الصليبية إلى المغرب بعد سقوط الأندلس ، فتعرضت الجزائر وحدها إلى 100 حملة صليبية في أقل من 300 عام بعضها برتغالي والآخر فرنسي أو إنجليزي أو أسباني أو ألماني أو بلجيكي بل وحتى أمريكي وانتهى الأمر بسقوط الجزائر في يد الاستعمار الفرنسي 1830 ثم تبعتها المغرب وتونس .

إذن فبرغم أننا لا نرفض التعاون مع الحضارة الأوروبية في إطار الاستقلال الحضاري لكل منا ، إلا انه لا التركيبة الحضارية الغربية تسمح بذلك ولا رأى قادتها فينا وأهدافهم تجاهنا تسمح بذلك ، ولا تداعيات التاريخ القدم والحديث تسمح بذلك ، وبالتالي لكي نعيش لا نخضع ونذوب وننتهي لابد من المواجهة

حرب شاملة في مواجهة حرب شاملة ..

إذن فالمعركة حتمية ، ولا سبيل هناك إلا المواجهة ، أو الموت ، وحتى المواجهة مع الهزيمة ربما تعطينا الفرصة في الصمود والحفاظ على البذور صالحة تحت التربة لتعود من جديد لتثمر في مرحلة أخرى ، ولكن الانصياع والخضوع لا يعني فقط خسائر هائلة في الحاضر بل يعني تدمير المستقبل ، لأنها تطال البذور الكامنة تحت التربة .

والمعركة هنا معركة حضارية شاملة ، أي سياسية واقتصادية واجتماعية وعسكرية وثقافية ، والغرب يستخدم معنا كل الوسائل السياسية والعسكرية ، والاقتصادية والاجتماعية ، والثقافية أيضًا ، وما دام الغرب يشن علينا حربًا شاملة فلا بد من مواجهته بحرب شاملة ، تواجه بالكفاح وحتى إذا سلمنا بصحة مقدمة هؤلاء وهي أن الغرب وأمريكا أقوياء بدرجة لا يمكن مواجهتها ، فإن النتيجة التي توصلوا إليها خطأ ، لأن معنى مثل هذه القوة الهائلة للغرب وأمريكا أن الخضوع لهم سيؤدي إلى النهاية والموت والاندثار ، وأن الخضوع لن ينقذنا ولن يحقن دمائنا ، بل إن الخضوع سيتسبب في خسائر أكثر من المواجهة حتى ولو كانت غير متكافئة ، على الأقل فالمواجهة سوف تقلل الخسائر وسوف تسمح للبذور الكامنة تحت التربة بالبقاء ، بعيدًا عن يد الغرب فتعود لتثمر في فرصة أخرى مستقبلية .

وبالإضافة إلى ذلك فإن الحضارة الغربية تحمل في داخلها الكثير من نقاط الضعف التي ينبغي الصمود واستثمارها أو الصمود وانتظار أن تؤدي تلك المواقع الضعيفة في جسد الحضارة الغربية إلى انفجار داخلي ، فالإنسان في الحضارة الأوروبية مثلاً يفتقد التوازن بين حاجاته المختلفة ويفتقد التوازن في علاقاته مع الجماعة ، وهذا يؤدي إلى انتشار الأمراض النفسية والجريمة والانحراف والشذوذ الجنسي وزيادة استهلاك الخمور والمخدرات إلى حدود أصبحت تهدد حياة مئات الملايين من سكان أوروبا وأمريكا وهو ما يمكن أن يؤدي على المدى المتوسط أو الطويل إلى انهيار الحضارة الغربية من داخلها ، أضف إلى ذلك أن الرغبة في تحقيق أقصى قدر من النهب وبالتالي عدم التورع عن استعمال أقصى قدر من العنف ومع تزايد قوة الأسلحة الفتاكة يجعل العجلة العسكرية تدور بلا توقف مما يجعلها في النهاية قابلة للانفجار من داخلها أو بالتصادم مع بعضها البعض وإذا كانت الحرب العالمية الثانية التي نشأت بسبب التنافس على الربح بين دول كلها تنتمي إلى الحضارة الغربية قد أدت إلى قتل 62 مليون إنسان معظمهم من الأوروبيين فكم يا ترى سوف يقتل في المعركة المسلحة والحرب الشعبية ، وعلينا أن نواجه بالوسائل السياسية ونواجهه برفض الخضوع لوسائل النهب التي يمارسها ومن خلال بناء نمط اقتصادي مستقل وغير تابع ويعتمد على قوانا الذاتية ويقطع تمامًا خيوط التبعية مع الغرب ، ونواجهه أيضًا بتصفية كل مراكز الثقافة المغتربة وكل أشكال الاختراق الثقافي ، ونواجهه بثورة ثقافية شاملة تعتمد على تأكيد قيمنا الحضارية ، ونواجهه بالوحدة ، ورفض التجزئة التي فرضها علينا ، ونواجهه بتعبئة شعبية شاملة ، ونواجهه بحرب حضارية شاملة في مواجهة حرب حضارية شاملة .

ويجب أن ننتبه هنا إلى نقطة خطيرة ، وهي أن أخطر هذه المواجهات هي على الجانب الثقافي ، لأن الاختراق الثقافي يدمر حياتنا من الداخل ويقلل قدرتنا على المواجهة ويضرب فينا قيمنا الإيجابية مثل الجهاد والوحدة والرفض وبالتالي يجعلنا عاجزين عن المواجهة في المجالات السياسية والعسكرية والاقتصادية ، ولابد أن ننتبه إلى انه ما دامت الحرب حضارية وشاملة فليس من المعقول مثلاً أن نستخدم قيمًا ووسائل واستراتيجيات مستمدة من الغرب لمحاربته بها ومهما كانت براقة فإنها لن تجدي في مواجهته ، فكيف أواجهه على أرضيته الثقافية والحضارية ؟ ، لابد أن أواجهه بأساليب وتكتيكات وقيم ووسائل واستراتيجيًات مستمدة من ذاتنا حتى تظل قادرة على الاستمرار .

هناك من يروجون بأنه لا قدرة ولا سبيل إلى مواجهة الغرب وأمريكا وأن توازن القوى مختل تمامًا لصالحهم وانه لا داعي للمواجهة لأنها لن تفيد وانه من الأفضل الخضوع أو البحث عن سبيل للتفاهم ، وإذا كنا ندرك انه لا سبيل للتفاهم فإن المتاح وفقًا لمنطق هؤلاء هو الخضوع فقط ، مع العلم أن القدرات التدميرية لتلك الدول أصبحت هائلة بالمقارنة إلى مثيلتها أثناء الحرب العالمية الثانية ، وبالإضافة إلى ذلك فإن الرغبة في الربح بدون وازع أخلاقي ولا مراعًاة للتوازن البيئي يمكن أن تؤدي إلى كارثة تهدد كوكب الأرض بأكمله .

ويلخص الأستاذ منير شفيق في كتابه:

' الإسلام في معركة الحضارة ' نقاط الضعف في الحضارة الغربية كالتالي:

1 – التطور العام غير المتوازن بالنسبة إلى مختلف المجالات ، فقد تكثف في المجالات المادية واختل على مستوى العلاقات الإنسانية والأخلاقية مما يؤدي في النهاية إلى الإسراع بسقوطها لأن حالها يصبح كحال الذي يقف على قدم واحدة ، فمهما بلغت قدمه من القوة إلا أنها ضعيفة حين يتعرض الجسد كله إلى هزة قوية .

2 – اتسعت الهوة بين أصحاب تلك الحضارة والغالبية العظمى من شعوب العالم مما دفع بها إلى مواجهة قوى لا قبل لها بها ، فالأقلية الظالمة مهما قويت وتمكنت تظل ضعيفة أمام قوة الأغلبية المظلومة صاحبة الحق ، فالتضاد مع حقوق غالبية الشعوب ومصالحها يؤدي إلى انهيار تلك الحضارة مهما طال الزمن .

3 – التآكل الداخلي يشكل سمة أساسية مميزة لمجتمعات الحضارة الإفرنجية سواء أكان ذلك على مستوى المجتمع منفردًا أم على مستوى صراع تلك المجتمعات فيما بينها ، إن الصراع على امتلاك القوة والسيطرة والتنازع لامتلاك الثروة يؤديان بالإسراع بعملية التآكل الداخلي .

4 – إن إطلاق الغرائز والنزعات البهيمية وانتشار الفساد والانحلال قد يصل في تلك الحضارة إلى ضعف داخلي شديد يجعلها غير قادرة حتى على الإفادة من قوتها المادية ، مما قد يكرر صورة الجندي الروماني الذي ربط بالسلاسل لكي لا يفر في معركة اليرموك ، على الرغم من الكثرة العددية للرومان في تلك المعركة ، وقوة دروعهم ، وطول رماحهم ومضاء سيوفهم و فراهة خيولهم .

وقد يقول قائل إن الحضارة الغربية يمكن أن تعالج نقاط ضعفها أو تتخلص منها وبالتالي تجدد نفسها ، وهذا القول يعكس جهل أصحابه بطبيعة وجوهر الحضارة الغربية وطبيعة وجوهر نقاط الضعف فيها ، لأن نقاط الضعف هنا هي من صميم وجوهر الحضارة الغربية وليس عارضًا عليها ولا ناشئا من عوامل جانبية أو إهمال من القواد أو غيرها أنها تنبع من داخلها ومن صميمها بطريقة تلقائية وحتمية بحيث انه من المستحيل عليها معًالجتها أو التخلص منها ، وإذا حاول أهل الحضارة الغربية التخلص من تلك العيوب فإنهم سيتخلصون من الحضارة الغربية ذاتها .

فمثلاً إن السعي لتحقيق أقصى درجات القوة العنيفة المادية من أجل السيطرة على العالم ونهب ثرواته بلا حدود يجعل تلك الحضارة تدوس على كل القيم والمعايير التي تتعارض مع هذا السعي ، أو بتعبير آخر إن ذلك السعي يسخر كل شيء من أجله ، وهذا في حد ذاته يسمح بالتفوق في مجالات محدودة ، وهذه نقطة قوة أساسية في الحضارة الغربية ، وهي أيضًا سبب انهيارها المتوقع في مجالات أخرى ، المجالات الأخلاقية والنفسية والإنسانية واندلاع أشد الصراعات الداخلية والخارجية مما يشكل بدوره نقطة الضعف المركزية في هذه الحضارة ، إن نقطتي القوة والضعف المتولدتين عن تلك السمة الأساسية في الحضارة الغربية سيصلان في نهاية المطاف إلى تدميرها إن لم يعرضا مستقبل الإنسانية كلها إلى خطر قريب من شبه الإبادة الجماعية '

ومثل آخر: إنه إذا حاول نظام حكم عنصري التخلص من عنصريته ، فإنه من الحقيقة يتخلص من نفسه ، لأن العنصرية هنا هي التي شيدت بناءه وهي التي تسمح له بالاستمرار ، فلولا النهب والاسترقاق والفصل العنصري لما كان هذا النظام العنصري قد نشأ ولما كان حقق لنفسه هذا الرخاء ولما استطاع أن يستمر لحظة بعد التخلص من العنصرية

د. محمد مورو

[1] مروان بحيري – الدراسات الاستعمارية في الإحياء الإسلامي في القرن 19 .

==============

#من سيملأ الأكواب لبنًا..؟؟!

العدد30 ـ جمادى الآخرة 1426هـ.

الصفحة الرئيسة

لن أتكلم من أبراج عاجية ولا من فلسفة إغريقية ذات ثقافة هيلينية. أستطيع أن أتفلسف عليكم وأملأ مقالتي بكلمات رنانة 'إرهاصات، بوتقة، الحيز التكويني، برهة، هنيهة،ردهة، إيقونة، قيض، أشتف، أدلهم، ودلف'

وبما أن اللغة تتألف من ثمانين ألف مادة، المستعمل منها عشرة آلاف فقط

سأحاول أن استخدم أقل عدد من الألفاظ وأستخدم المتداول منها قدر المستطاع

استمع معي لهذه القصة:

طلب الوالي من أهل القرية.. طلبًا غريبًا.. في محاولة منه لمواجهة خطر القحط والجوع، وأخبرهم بأنه سيضع قِدرًا كبيرًا في وسط القرية..

وعلى كل رجل وامرأة أن يضع في القِدر.. كوبًا من اللبن بشرط أن يضع كل واحد الكوب لوحده من غير أن يشاهده أحد. هرع الناس لتلبية طلب الوالي.. كل منهم تخفى بالليل وسكب ما في الكأس الذي يخصه. وفي الصباح فتح الوالي القدر.. وماذا شاهد؟

القدر امتلأ بالماء

أين اللبن؟! ولماذا وضع كل واحد من الرعية الماء بدلاً من اللبن؟‍!

كل واحد من الرعية.. قال في نفسه: [إن وضعي لكوب واحد من الماء لا يؤثر على كمية اللبن الكبيرة التي سيضعها الناس في القرية].

وكل واحد اعتمد على غيره في رعاية مصالح البلد.. وكل واحد منهم فكر بالطريقة نفسها التي فكر فيها أخوه، وكل واحد منهم ظن أنه هو الوحيد الذي سكب ماءً بدلاً من اللبن، والنتيجة التي حدثت.. أن الجوع عم هذه القرية ومات الكثيرون منهم. ولم يجدوا ما يعينهم وقت الأزمات.

هذه القصة الرمزية تنطبق على ما يحدث في بلدنا في هذه الأيام، كل واحد يلوذ بالصمت ولا يفكر أن يسجل موقفًا من الأحداث التي تجري من حولنا.. لا يبدي رأيه ولا حتى مشاعره حيال قضية المرأة.. والتي تستعر نيرانها يومًا بعد يوم.. وكل واحد منا يقول: [غيري سيقوم بالواجب].

وإذا بالواجب لا يقوم به أحد - اسمعوا:

نحن النساء والرجال جميعًا نواجه حربًا.. أسوأ ما فيها.. أنها خفية.. بطيئة، لكنها مدروسة الأهداف، ومضمونة النتائج إلا إذا تداركتنا رحمة ربي، ولن يحدث ذلك إلا إذا رأى منا ربنا صدق التوجه وصلاح النية، وإذا قام المجتمع وقاوم هذا الطوفان.

القضية يا سادة.. [قيادة] المرأة للسيارة.. قضية اجتماعية.. يعني لابد أن يحلها المجتمع.

لحظة أيها القارئ!!!

لا تدر وجهك.. تعال

من هو المجتمع؟!

المجتمع هو أنا وأنت وهي وهو.. كل منا بالآخر اجتمع.. فسميناه المجتمع، لماذا هذا الصمت؟

ماذا تنتظرون؟

الحرب الباردة بدأت في السعودية.. واتخذت أسهل الطرق وأكثرها ضمانًا.. [المرأة]..

المحاولات تجري على قدم وساق لإخراج المرأة من بيتها ومحاولة خلطها بالرجل.. في كل مجالات الحياة.

وارتكزت هذه الدعوى على الجانب الضعيف وهو عاطفتها..

صاحوا وولولوا.. بأن المرأة هنا [مسكينة] مظلومة وأن حريتها مقيدة، وأنها لابد أن تتحرر.. تركوا كل حقوقها وركزوا على ركوبها السيارة..

جعلوا من تعاليم الدين السمحة التي تحفظ لها كرامتها.. هي ذاتها التي تعقدها وتقيدها، وصفوا التي تتمرد على هذه التعاليم بالبنت الجريئة.. وأثنوا عليها.. [والغواني يغرهن الثناء] العالم الغربي الحاقد على الأمة الإسلامية.. نظر إلينا كمسلمين.. فمات من الغيظ..

لماذا؟!

صحيح أننا أخفقنا في الحضارة المادية والصناعة والزراعية و...و.. والحضارة المظهرية لكنهم وجدوا عندنا ما لا يستطيعون صنعه أو الوصول إليه بقوانينهم الوضعية المتخبطة، وجدوا عندنا بيئة نظيفة وأسرة متماسكة، عائلة متحابة.. الجريمة محدودة..البنت محترمة وحقوقها مصانة.. المتحجبة يقف العالم كله ليعتز بها ويفسح لها الطريق كملكة.. وجدوا مجتمعًا قدر المرأة ورفع منزلتها، لم يجعلها رخيصة مهانة مبتذلة وفي متناول الجميع.

حبيبتي:

لولا هذا الدين لكنا أنا وأنت في عداد المؤودات...

نقموا من هذا الدين.. ففكروا.. وقرروا أن يدخلوا من جانب العاطفة الهشة، أوهمونا أننا مسكينات، ضعيفات، حقوقنا ضائعة في بلدنا.

إن هذه المحاولات خطط لها منذ مؤتمر بال في سويسرا 1897 [يوم أن كنا أنا وأنت في عالم الذر].

[لا تقولي.. إنني معقدة وكل شيء عندي مؤامرة، وأن الجماعة ما جابوا خبر حجابي ولا حجابك..] لا يا حبيبتي.. يؤسفني أن أخبرك. أن من أهم مصالحهم.. [إضعاف الأمة الإسلامية]، وإذا ضعف نصف الأمة [وهي الأمة] سأترك لمخيلتك العنان فيتصور ما يحدث.

هذه المحاولات..هدفها خبيث.. تحمل في أحشائها جنينًا مشوه الخلقة، ومستقبلاً مظلمًا مليئًا بالجريمة.. لا بد من السرعة لإجهاض هذا الجنين قبل أن تنفخ فيه الروح، ولتعلموا أنكم إن قاومتم ستنتصرون وبسرعة.. ذلك لأن الحق معكم.. والحق يعلوا ولا يعلا عليه.. وإن الله مولانا والكافرين لا مولى لهم.

والكثرة تغلب الشجاعة

جولة الباطل ساعة وجولة الحق إلى قيام الساعة

إلى كل أب:

ارفض القيادة لأن الخطر سيأتيك لا محالة.. ماذا تنتظر.. أن تأتي ابنتك تبكي وقد حملت سفاحًا من حبيبها الذي يحلف لها ويبكي أمامها أنه سيتزوجها.. لا تستبعد فالطريق سهل.. حينها.. ستضيق بك الدنيا وتتمنى لو تدسها في التراب.

الأسباب كلها متوفرة [سيارة + جوال + صديقات سوء + شباب فارغ + ميول وغرائز فطرية + ثقة الأهل + شيطان رجيم]

أنا لا أبالغ.. الواقع أمامنا. العالم من حولنا جرب ما سنجربه.. ولم يدر في خلده أي نوع من الجريمة، وكل أب استبعد مثلك..وترك ابنته تجرب.. فسقطت في الرذيلة.

إلى كل أم: ماذا تنتظرين؟!

حتى لا تسهري كل الليالي في خوف وكرب ما بين ابن لا تعرفين مقره.. يلاحق البنات في كل مكان.. وقد يفجعك ويهدد بالزواج من بنت مطلقة معها ستة أطفال.. لا تناسبه اجتماعيًا ولا فكريًا.. وتضطرب الأسرة لمصاهرة من لا يتناسب مع تقاليدها خوفًا على الولد من الانتحار.. أو تخافين على بنت ما هيأ الله طبيعة تكوينها وتركيبتها للقيادة. وما تدرين هل ترجع أو تموت في حادث أو تخطف أو يغرر بها وقد تقع في مخدرات أو أوكار فساد.

اخرجوا للشارع وانظروا إلى وجوه قائدي السيارات.. شباب صغير جدًا لا نأمن بناتنا عليه.. شباب فارغ لا هم له في الحياة إلا ملاحقة البنات.. إنهم يلاحقون طيفها وهي محتشمة.. فكيف لو قادت السيارة وخلعت شيئًا من سترها؟

إنك حتى لو أمنت البنات عليهم من التحرش بهن. لا شك أنك لا تستطيع أن تأمن على حياة بناتك من تهورهم وسرعتهم الجنونية.. إنك تراهم في طريق.. وفجأة تتحول السيارة إلى طفرة جينية..خارجة عن كل قوانين مندل للوراثة.

إلى كل زوجة: ماذا تنتظرين؟

أن يضيع زوجك منك.. ويقضي وقته من شارع لشارع ومن علاقة إلى علاقة.. حتى تفقدينه وتتركين له البيت..

ألا تغارين على زوجك؟

أليس.. أليس رجل؟

خاف عليه المصطفى عليه الصلاة والسلام من فتنة النساء؟ فكيف لا تخافين عليه أنت؟! وكيف تسكتين على قيادة المرأة.. هذه المرأة التي تفتن زوجك وتذهب بعقله ولبه وماله؟ بينما أنت تستسلمين للبكاء المر والنوم والقلق.

إنك تخافين عليه أن يجالس الرجال المتزوجين على نسائهم حتى لا يحرضوه على الزواج عليك. إن الموضوع الذي تهربين من التحدث فيه هو [التعدد] وترتجفين أن زوجك ـ لو تخيلت ـ تزوج أو سيتزوج عليك.. إنك تهلعين لو عرفت أنه مسافر لبلد عربي أو إسلامي الزواج فيه سهل وميسر.

إنك لتضطربين لو سمعته يهمهم في الهاتف بكلام غير مترابط.

فكيف تتركينه.. كل يوم.. يعدد.. وبطريقته الخاصة والمحرمة.

صفي مشاعرك.. فيما لو تخيلته ينظر لهذه ويتغزل في تلك.. ويقضي طوال ليله معك وهو يفكر ويتخيل أخرى شاهدها في الشارع، أو عند إشارة.. أو رحمها وساعدها أية مساعدة [ونحن شعب نحب المساعدة].

وبما أننا نفهم بعضنا.. فلا تقولي: يذهب يفعل ما يريد، لأني أعرف أن أول من يغير رأيه هو أنت.. [لأن الرجل حتى لو لم تحبينه إذا شعرت بأنه ذهب لغيرك.. لا تتحملين.

لا تقولي: إن زوجك يحبك [لا تتكلمي على هذا الحب.. لا تحرضيني على الكلام.. دعي الأمر بيني وبينك، المعلومات التي لدي خطيرة وعلمية سأتركها احترامًا لك وحبًا فيك].

ولا تقولي: إنه ثقة.. وإنه متزن ومستقيم [رجلي مطوع ما يناظر].. [الحمد لله ما يرفع عيونه]. صحيح، لكن قيادة المرأة للسيارة ووقوفها بجانبه في كل مكان سيجعل مهمته صعبة..بل تكاد تكون مستحيلة.. {رَبَّنَا وَلا تُحَمِّلْنَا مَا لا طَاقَةَ لَنَا بِهِ}[البقرة:286]، {وَخُلِقَ الإِنْسَانُ ضَعِيفاً} [النساء:28] لعله لا يخفاك قصص استسلام الرجال الأقوياء.. الفحول.. لضعف النساء..

هل أذكر لك قصص الجاسوسات اللاتي أوقعن أقوى الرجال في السياسة؟ أم قصص البغايا اللاتي أجهزن على أموال الأغنياء؟

سأكتفي بقصة واحدة..

قصة المسلم.. إمام المسجد.. الذي تحول للنصرانية بسبب فتنته بالمرأة.. ومات وهو يسجد لها من دون الله.

كثير من الرجال.. بالرغم من قوتهم.. ركعوا وسجدوا وبكوا من أجل نساء.. ومن أجل بغايا.. وسقطوا مع الساقطات إنها ناقصة عقل ودين.. لكنها.. [تغلب ذوي اللب من الرجال].

وأنت أيها الزوج:

لنترك الحمية والرجولة جانبًا.. لأن الرجولة نادرة.. ومن الصعب أن نتحدث بها هكذا ونمنحها أي واحد، ألم تفكر لحظة في أن زوجتك قد تحب رجلاً غيرك.. وقد يستدرجها.. وتخونك بقصد أو بغير قصد.. وقد تستمر في الخطأ وتقدم التنازلات وهي كارهة خوفًا من تهديدات رجل نذل غرر بها وخدعها.

إلى كل أخ:

إن لك أختًا.. هي واجهتك.. اسمها من اسمك وأمها هي أمكم.. انظر إلى وجهها. بريئة.. لا يمكن أن تغري رجلاً.. كل واحد سينظر لأخته بالطريقة نفسها التي تنظر بها لأختك.. إن أخت أي رجل ستراها في الشارع متزينة متعطرة.. تتميع في حركاتها.. وتتمايل في مشيتها.. وتخضع في صوتها وتلينه.. يطير عقلك معها.

إنك في اللحظة التي تصرخ فيها [يا زين البنات ويا حلو البنات.. الله عالبنات] يصرخ شاب مثلك.. يقول لأختك ما قلت لأخته ويتغزل بها غزلاً وبأساليب تفوقك ما عندك.

إن أختك تحمل صفات بنت الناس نفسها.. لم تخلق من مادة غير الطين.. إن لها التركيبة نفسها ولديها الميول والرغبات نفسها.. وتكون وهامًا لو اعتقدت أن أختك ستكلم الشاب الغريب [بالجلافة] والطريقة نفسها التي تكلمك بها..

خلق الله في كل من الرجل والمرأة ميولاً فطرية غريزية.. لا يمكننا إنكارها أو تسفيهها وتجاهلها، الرجل يحاول أن يلفت نظر المرأة ويستميلها.. والمرأة تعمل الشيء ذاته.

هذا الميل الفطري وضعه الله في داخل كل فرد منا.

إنه ميل مقصود.

لكنه لم يكن مقصودًا لذاته.. إنما كان مقصودًا لغيره.. لحفظ الجنس البشري من الانقراض.. وجد للتزاوج والتوالد والتكاثر.

فلولا هذا الميل الطبيعي لما تزوج الرجل من المرأة ولما أحبها ولما أنس بقربها. ولعزف كل منهما عن الآخر وانقرض البشر.

ما يريده أهل الفساد.. هو أن يجعلوا هذا الميل مقصودًا لذاته، وأن تكون العلاقات المحرمة والفساد الأخلاقي والجنسي هو الذي يعم وينتشر.

إن بناتكم وزوجاتكم وأخواتكم.. أمانة في أعناقكم، وإياكم أن تنساقوا وراء رغبتهم في التجربة وإلهاءً لهم على نيل لذة المحاولة.. ولو أننا سمعنا لتوسلات الصغار ورغباتهم الآنية وحققنا طموحاتهم الشقية.. إذن لسمعناهم منذ زمن..يوم كانوا صغارًا يصرخ أحدهم ليمسك بالسكين الحادة ويقطع بنفسه التفاحة، ولتركناهم وهم يبكون ليتناولوا إبريق الشاي الساخن.

كنا نقول لهم:

كخ.. حار.. لا .. كنا في كل هذه الأحوال نخاف عليهم الخطر.. ألا نخاف عليهم من الخطر بعد أن كبروا؟!

إننا نخاف عليهم وهم صغار.. كل دول العالم.. جربوا هذا الشيء الحار.. تعبوا.. مرضوا.. اكتووا بالنار وهاهم يدفعون الثمن..

[انتحار، اكتئاب، مخدرات، اغتصاب، اختطاف، قتل، عنف، شذوذ، أمراض نفسية وجنسية، و....].

لماذا علينا أن نجرب الفشل؟!

إن تجربة المجرب.. حمق ما بعده حمق.

ملحوظة مهمة:

الكلام الذي قلته ليس تكهنات شخصية ولا أعني بها [كل] المجتمع.

دعونا من كل الذي مضى، خلاصة القول:

هل ستملئون الأكواب لبنًا

==============

#البرقع مقابل البكيني في سوق المرأة الأمريكية

العدد 1659 ـ 3 جمادى الآخرة 1426هـ

الصفحة الرئيسة

'البرقع مقابل البكيني في سوق المرأة الأمريكية' عنوان لمقال سطره د. هنري ماكوو يبدي من خلاله تقديره للحياء كصفة ملازمة للفتاة المسلمة التي تكرس حياتها لأسرتها وإعداد النشء وتربيتهم, وعلى الوجه الآخر يبوح بما يضمره من استياء نتيجة للانحطاط القيمي والهياج الجنسي الذي تعيشه الفتاة الأمريكية.

د. هنري ماكوو أستاذ جامعي ومخترع لعبة [SCRUPLES] الشهيرة ومؤلف وباحث متخصص في الشؤون النسوية والحركات التحررية. المقال يعكس مدى إعجاب بعض المنصفين من دعاة التحرر في الغرب بقيمنا الإسلامية رغم اختلاف الأيديولوجيات والتوجهات، وقد أثار مقال د.هنري ردود أفعال في الشارع الأمريكي بين مؤيد ومعارض.

صورتان متناقضتان

يقول د. هنري في مقاله: 'على حائط مكتبي صورتان، الأولى صورة امرأة مسلمة تلبس البرقع ـ النقاب أو الغطاء أو الحجاب ـ وبجانبها صورة متسابقة جمال أمريكية لا تلبس شيئًا سوى البكيني، المرأة الأولى تغطت تمامًا عن العامة والأخرى مكشوفة تمامًا'. هكذا كانت مقدمة المقال والتي تعتبر مدخلاً لعرض نموذجين مختلفين في التوجهات والسلوكيات.

حرب متعددة الأهداف

يشير الكاتب إلى الدوافع الخفية لحرب الغرب على الأمة العربية والإسلامية موضحًا أنها حرب ذات أبعاد سياسية وثقافية وأخلاقية، إذ أنها تستهدف ثروات ومدخرات الأمة، إضافة إلى سلبها أثمن ما تملك: دينها، وكنوزها الثقافية والأخلاقية. وعلى صعيد المرأة استبدال البرقع وما يحمله من قيم بالبكيني كناية عن التعري والتفسخ، يقول الكاتب: 'دور المرأة في صميم أي ثقافة، فإلى جانب سرقة نفط العرب فإن الحرب في الشرق الأوسط إنما هي لتجريد العرب من دينهم وثقافتهم واستبدال البرقع بالبكيني'!.

دفاعًا عن القيم

يمتدح د. هنري القيم الأخلاقية للحجاب أو البرقع، أو ما يستر المرأة المسلمة فيقول: 'لست خبيرًا في شؤون النساء المسلمات وأحب الجمال النسائي كثيرًا مما لا يدعوني للدفاع عن البرقع هنا، لكني أدافع عن بعض القيم التي يمثلها البرقع لي' ويضيف قائلاً: 'بالنسبة لي البرقع ـ التستر ـ يمثل تكريس المرأة نفسها لزوجها وعائلتها، هم فقط يرونها وذلك تأكيدًا لخصوصيتها'.. وكأن د. هنري يتفق هنا مع ما ذهبت إليه السيدة عائشة رضي الله عنها لما سئلت: أي النساء أفضل؟ قالت: 'التي لا تعرف عيب المقال ولا تهدي لمكر الرجال، فارغة القلب إلا من الزينة لزوجها والإبقاء على رعاية أولادها' أو كما قالت رضي الله عنها.

المسلمة مربية أجيال

ويشيد الكاتب بمهمة ورسالة المسلمة والمتمثلة في حرصها على بيتها واهتمامها بإعداد النشء الصالح فيقول: 'تركيز المرأة المسلمة منصب على بيتها، العش حيث يولد أطفالها وتتم تربيتهم، هي الصانعة المحلية، هي الجذر الذي يبقى على الحياة الروح للعائلة..تربي وتدرب أطفالها.. تمد يد العون لزوجها وتكون ملجأ له'.

وماذا عن المرأة الأمريكية؟!

بعد الانتهاء من شرح الصورة الأولى التي على مكتبه وهي صورة المرأة المسلمة ينتقل د. هنري إلى الصورة الثانية، فيقول: 'على النقيض، ملكة الجمال الأمريكية وهي ترتدي البكيني فهي تختال عارية تقريبًا أمام الملايين على شاشات التلفزة.. وهي ملك للعامة.. تسوق جسمها إلى المزايد الأعلى سعرًا.. هي تبيع نفسها بالمزاد العلني كل يوم' ويضيف: 'في أمريكا، المقياس الثقافي لقيمة المرأة هو جاذبيتها، وبهذه المعايير تنخفض قيمتها بسرعة..هي تشغل نفسها وتهلك أعصابها للظهور'.

الجنس والعواطف الفارغة

ينتقد د. هنري فترة المراهقة الشاذة التي تعيشها الفتاة الأمريكية حيث التعري والجنس والرذيلة فيقول: 'كمراهقة قدوتها هي 'بريتني سبيرز' المطربة التي تشبه العرايا، من شخصية بريتني تتعلم أنها ستكون محبوبة فقط إذا مارست الجنس.. هكذا تتعلم التعلق بالعواطف الفارغة بدلاً من الخطوبة والحب الحقيقي والصبر'.

ثم يعرج الكاتب إلى الآثار السلبية لتلك الحياة الماجنة التي تعيشها الفتاة الأمريكية فيقول: 'العشرات من الذكور يعرفونها قبل زوجها.. تفقد براءتها التي هي جزء من جاذبيتها.. تصبح جامدة وماكرة.. غير قادرة على الحب'.

ويشير إلى أن المرأة في المجتمع الأمريكي تجد نفسها منقادة إلى السلوك الذكوري مما يجعلها امرأة عدوانية مضطربة، لا تصلح أن تكون زوجة أو أمًا، إنما هي فقط للاستمتاع الجنسي وليس للحب أو التكاثر.

النظام العالمي يكرس العزلة

وينتقد د. هنري نظام الحياة في العالم المعاصر حيث التركيز على الانعزالية والانفراد فيقول: 'الأبوة هي قمة التطور البشري، إنها مرحلة التخلص من الانغماس في الشهوات حتى نصبح عبادًا لله.. تربية وحياة جديدة'. ويضيف قائلاً: 'النظام العالمي الجديد لا يريدنا أن نصل إلى هذا المستوى من الرشد... حيث يريدنا منفردين منعزلين.. جائعين جنسيًا ويقدم لنا الصور الفاضحة بدلاً للزواج'.

احذروا خدعة تحرير المرأة

ويكشف د. هنري زيف ادعاءات تحرير المرأة ويصفها بالخدعة القاسية إذ يقول: 'تحرير المرأة خدعة من خدع النظام العالمي الجديد، خدعة قاسية أغوت النساء الأمريكيات وخربت الحضارة الغربية'، ويؤكد الكاتب أن تحرير المرأة يمثل تهديدًا للمسلمين فيقول: 'لقد دمرت الملايين وتمثل تهديدًا كبيرًا للمسلمين'.

وأخيرًا يقول د. هنري: 'لا أدافع عن البرقع أو النقاب أو الحجاب' لكن إلى حد ما بعض القيم التي يمثلها بصفة خاصة عندما تهب المرأة نفسها لزوجها وعائلتها والتواضع والوقار يستلزم مني هذه الوقفة'.

أليس هذا الكاتب وأمثاله أكثر صدقًا وجرأة وقولاً للحق من الكثير من دعاة العلمانية في بلادنا؟!

ألا يكفي المرأة المسلمة فخرًا بأن يشيد بمكارم أخلاقها من ليسوا على دينها؟

محمد الكندري

============

#تصدير الحضارات على ظهور الدبابات

السبت 20 ربيع الثاني 1426هـ - 28 مايو 2005م

الصفحة الرئيسة

من الشبه التي تثار على دين الإسلام بين فينة وأخرى هو أنه دين أُجبر الناس على اعتناقه بحد السيف، وقد كتب علماء الإسلام ومفكروه في رد هذه الفرية ما يكفي.

وحسب القارئ الكريم أن يعلم أن الإسلام رغم الاستضعاف الذي نزل بأهله في هذه الأزمان هو أكثر الديانات انشاراً وفقاً للإحصائيات، وأنى لمحمد صلى الله عليه وسلم وهو رجل واحد بين أمم أهل الكتاب والمجوس والمشركين أنى له أن ينشر دعوته بالسيف بينهم، بل كيف يفعل ذلك أتباعه في أول أمرهم ولم يزل الأمر بكف الأيدي عن القتال يتنزل على رسولهم صلى الله عليه وسلم قبل فرضه، نعم فرض القتال بعدُ ولكن ما كان لينتشر في أول أمره ولاحقه إن لم تكن لدعوته مقومات القبول والانتشار عند الناس. وإذا تأملت تلك الملاحم التي حدثت في عهد النبوة وقريب منها وجدت أن عسكر الإسلام وجند القرآن هم الأقل عدة وعدداً ومع ذلك فقل أن تكون دائرة إلاّ لهم وهذا يفيد بأن سبب نصرهم أمر زائد على حد السيف.

وقد دخل الإسلام أقطار آسيا الشرقية وغيرها من الأمم الأوربية مع أنه لم يصل إلى تلك الأصقاع جنود وعساكر! ولعلك اليوم لاتجد دولة في أرض الله ليس فيها مسلم. بل قد عهد في التاريخ الإسلام أمراً عجباً لعله لم يعهد في تاريخ الديانات الأخرى وهو دخول الغزاة المتغلبين على المسلمين في دين الله أفواجاً كما حصل أيام الغزو التتري على بلاد المسلمين.

وأنبه هنا إلى أن المسلمين لاينكرون أهمية السيف والقتال بل هم يعلمون أن القتال فريضة مكتوبة عليهم مع أنه كره كما قال الله تعالى: [كتب عليكم القتال وهو كره لكم]، وهذا الجهاد قد يكون لحماية نفوذ الدولة المسلمة ورد الصائلين عليها، كما قد يكون لأجل تبليغ الدين إلى الأمم والشعوب التي حال ساستها دون بلوغ دعوة الحق إلى أهلها، فأهل الإسلام يرون أن استنقاذ تلك الشعوب من الجهل والظلام والبعد عن الهدي واجب مناط بهم وإن أزهقت في سبيل ذلك أرواحهم مع أرواح الطغاة الحائلين بين الحق وعموم الناس، وكم من دواء قد كان مراً.

وهذان النوعان من الجهاد هما اللذان يسميهما فقهاء الإسلام بجهاد الدفع وجهاد الطلب.

أما جهاد الدفع فلا يكاد يعارضه معارض بل هو غريزة جبل الله جميع الحيوانات عليها إذ إن البشر كافة متفقون على دفع الصائل الذي يهاجمهم وعلى الدفاع عن أنفسهم في حال مهاجمة الآخر لهم وسعيه لأخذ أموالهم أو التعدي على أعراضهم أو استعمار بيوتهم

وأما جهاد الطلب يعنى الابتداء بفتح البلدان فمن شرطه عند أهل الإسلام أن يكون في سبيل الله، لأجل إعلاء كلمة الله والتي لايعوز أهل الإسلام إثبات أنها الأصلح والأجدر بالسيادة، فجهاد الطلب لايشرع في قانون الإسلام لأجل تحصيل مصالح دنيوية أو مكاسب مادية باستغلال ثروات الشعوب وطاقاتها أو التعدي على حرماتها أو إذلال أهلها ، وقد تُوعد من قاتل مع المسلمين فغل شملة بالنار، وقد سئل نبينا صلى الله عليه وسلم عن الرجل يقاتل للمغنم، والرجل يقاتل للذكر، والرجل يقاتل ليرى مكانه، والرجل يقاتل حمية، فبين أن من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو الذي في سبيل الله. وقد حذر علماؤنا رحمهم الله كما حذرت نصوص الشريعة من إرادة الإنسان بعمله الدنيا. ولهذا وغيره لايبادر أهل الإسلام بالقتال قبل أن يُعرض منهجه ويُدعى إليه، فإن رضيه الآخر كان أخونا له مالنا يحرم دمه وعرضه وماله فمن قال لاإله إلا الله فله حق الإسلام ، وإن لم يرضه ولكنه أذعن لحكمه ولم يحل دونه ودون بلوغه غيره فهو في ذمة الله التي يتوجب على المسلم حفظها ورعايتها .

ومن جميل فعال الإسلام تجاه الدول التي حاربها وقاتلها أنه يربط قتالها بمحددات وقيم ومبادىء شرعية عظيمة :

- فالأصل – كما ذكرنا – أن يكون كله لله فلا رجاء لدنيا ولا لمقامات عند الناس

- كذلك فقد نهى النبى صلى الله عليه وسلم عن قتل النساء والولدان والأطفال والشيوخ نهيا شديدا كما فى الأحاديث الصحيحة

- كذلك فقد كان المسلمون يقدمون بين يدى قتالهم للأمم دعوتهم لها بالحسنى للإسلام كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم في رسائله لملوك الروم والفرس ومصر وغيرهم

- وكذلك فقد رضي المسلمون من القرية التي يقاتلونها أن يرفعوا الآذان لينتهوا عن قتالهم وأن يكفوا عن محاربتهم

- كذلك فقد نهى الشرع الحنيف عن المثلة والتمثيل بالمحاربين وكذلك نهى عن ضرب الوجه والتقبيح والوسم عليه

- ولنا في نموذج صلاح الدين الأيوبي وقتاله للحروب الصليبية النموذج الرائع فى العدل والحكمة والرفق والشفقة على الأمم رغم أنهم جاءوا بجيوش عظيمة يريدون استئصال شأفة المسلمين ولم يراعوا في ذلك – كعادتهم – طفلا ولا شيخا ولا امرأة كما قتلوا المسلمين فى أثناء الصلاة .. إلا أن صلاح الدين – كقائد مسلم عادل – أبي أن يعاملهم بالمثل وكان نموذجا للمروءة والفروسية الإسلامية الحقة ..

- كما أن هناك محددا آخر لابد من تبيينه ألا وهو أن هذا النوع من القتال يجب أن يكون تحت مظلة الخلافة الإسلامية , فالخليفة المسلم هو وأهل شورته هم الذين لديهم القدرة على اتخاذ القرار بالحرب للأمم المختلفة , فلا تصح نفرة الجماعات المتشرزمة أو المتأولة بل تصير عاصية للخليفة المسلم إذا ما تحركت من تلقاء نفسها , فقتال الطلب منوط بالسلطان المسلم ولا يجوز لأحد غيره الإقدام عليه في ظل دولة الإسلام

ولعل مبدأ القتال – من أجل إيصال الخير للناس وفقاً لما سبق- مبدأ نصت عليه كتب أهل الكتاب قبل كتب أهل الإسلام، كما أنه هو الواقع الذي حكمت به البلاد الشيوعية الحمراء أراض ممتدة عبر التاريخ الحديث ولكن وفقاً لرأي ذويها القاصر، كحال أدعياء الحرية والديمقراطية اليوم.

أما النصارى فنقلوا عن المسيح عليه السلام كما في إنجيل متى، ما نصه: 'لا تظنوا أني جئت لألقي سلاماً على الأرض، ما جئت لألقي سلاماً بل سيفاً، وإني جئت لأفرق الإنسان ضد أبيه، والابنة ضد أمها، والكنة ضد حماتها، وأعداء الإنسان أهل بيته. من أحب أبا أو أماً أكثر مني فلا يستحقني، ومن أحب ابناً أو ابنة أكثر مني فلا يستحقني، ومن لا يأخذ صليبه ويتبعني فلا يستحقني، من وجد حياته يضيعها، ومن أضاع حياته من أجلي يجدها'، وعلى كل حال يغننا عن هذا النص واقع الحروب التي شنت باسم المسيح على ديار الإسلام بل على شعوب الأرض، وكذلك معركة هرمجدون التي يروج لها بعض متدينيهم في الحاضر. وأما التوراة فشواهد تشريع القتال فيها أكثر من أن تحصى وأشهر من أن تذكر.

ومن جيد أبيات الحكمة المعاصرة قول الأمير:

وَالشَرُّ إِن تَلقَهُ بِالخَيرِ ضِقتَ بِهِ ذَرعاً وَإِن تَلقَهُ بِالشَرِّ يَنحَسِمِ

سَلِ المَسيحِيَّةَ الغَرّاءَ كَم شَرِبَت بِالصابِ مِن شَهَواتِ الظالِمِ الغَلِمِ

طَريدَةُ الشِركِ يُؤذيها وَيوسِعُها في كُلِّ حينٍ قِتالاً ساطِعَ الحَدَمِ

لَولا حُماةٌ لَها هَبّوا لِنُصرَتِها بِالسَيفِ ما اِنتَفَعَت بِالرِفقِ وَالرُحَمِ

وأما تاريخهم فما أشد ممراته حتى قال بعض باحثيهم: إن أعداد المسيحيين الذين قتلوا بالتعذيب في عهد الإمبراطور دقلديانوس الروماني [حكم 248-305] يقدر بأكثر من مليون مسيحي إضافة إلى المغالاة في الضرائب التي كانت تفرض على كل شيء حتى على دفن الموتى، لذلك قررت الكنيسة القبطية الأرثوذكسية في مصر تسمية ذلك العهد بعصر الشهداء، وأرخوا به التقويم القبطي تذكيرا بالتطرف المسيحي. وأشار الباحث إلى الحروب الدموية التي حدثت بين الكاثوليك والبروتستانت في أوروبا، وما لاقاه البروتستانت من العذاب والقتل والتشريد والحبس في غياهب السجون إثر ظهور المذهب البروتستانتي على يد مارتن لوثر الذي ضاق ذرعا برجال الدين الذين احتكروا تفسير النصوص وتقسيم صكوك الغفران. وقد كتبت لنا يد التاريخ صراعات المسيحية بين كنيسة الإسكندرية وكنيسة روما والقسطنطينية، الأمر الذي انتهى إلى انقسام الكنيسة بعد مؤتمر الكلدونية عام 451م وخلال حكم الإمبراطور البيزنطي مرقيانوس 450-457م إلى مذهبين: مذهب الطبيعة الواحدة للمسيح بزعامة كنيسة الإسكندرية ومذهب الطبيعتين وتتزعمه كنيستا روما والقسطنطينية.

ومع ذلك فإن المسلمين ينظرون إلى هذا النص وذلك الواقع ونحوهما بموضوعية لإدراكهم المقاصد الكلية من أديان الرسل وما جاءوا به ولجمعهم بين النصوص وعدم اختزال جميعها في واحد، وأيضاً لتفريقهم بين دين الحق والممارسات التي تزور باسمه، ولهذا فلا يقول المسلمون بأن اليهودية والنصرانية من حيث المبدأ انتشرتا بحد السيف –مع أنهما بتلك التهمة أجدر من الإسلام- على الرغم من محاكم التفتيش والإبادات الجماعية والحروب الصليبية التي وقعت في تاريخ المسيحية بين أهلها فضلاً عن غيرهم. بل نحن على يقين من أن موسى يقدم يوم القيامة ومعه سواد عظيم قد ملأ الآفاق من أتباعه كما صحت الأخبار عن نبينا صلى الله عليه وسلم.

وهذا الرأي لايتوجه في الشيوعية الاشتراكية التي أُجبر الناس على اعتناقها من قبل سلطة متحكمة بقوة الحديد والنار، والسبب هو معارضة فكرة الإلحاد لبدائه العقول وفطرة الخلائق وأديان السماء، فلما أطر الشيوعيون الناس على مذهبهم انساقوا لهم عندما كانت السطوة لهم، ولما كانت العقائد لا تستقر في نفوس الناس تحت حد السيف وإن أظهروا الإذعان يوماً ما، فما أن كُسِرت يد الظلم الباطشة الاشتراكية الممتدة إلى الشعوب المقهورة في الشرق أو الغرب حتى أظهر الناس ما كانوا يكنونه من عقائد، فمضى الشيوعيون وألسنة تلك الأجيال تلعنهم.

ولاينقض ماسبق تدين مجموعات من الانتفاعيين بدين السلطان أنى كان فهؤلاء لادين لهم في الحقيقة إلاّ حيث كانت مصالحهم ورغباتهم العاجلة.

ولإدراك المسلمين هذه الحقيقة لم يكن للسيف عندهم في جهاد الطلب دور غير إزاحة من حال دون الناس ونور الإسلام ليتوجه الناس إلى الدين الصحيح ويسترشدوا بتعاليمه فتنبت النابتة الجديدة في أجواء صحية وتتحقق لهم مصالح الدارين بالتزامهم تشريعات الإسلام السمحة، وأما من أبى فهو مخير بين أن يعيش في كنف الإسلام وتحت عدالة دولته ورعايتها مع فرض جزية يدفعها إن كان من أهل القتال جراء ذلك وهو مقيم على دينه، أو مفارقة تلك الأرض التي لايرتضيها، فإن رفض قانون الإسلام والخضوع لدولته فيحكم عليه بحكم الخارجين عليها والمصلحة في ذلك ظاهرة فحيث وُجد من يتمرد على قوانين الدولة المتحكمة فلابد من أن ينال جزاءه، كما أن المتمرد عليها من المسلمين يناله جزاؤه أيضاً. وشأن الإسلام في هذا شأن الأديان من قبله فالجزية مذكورة في التوارة والإنجيل مضروبة منذ القرون الأولى وليست بدعاً من بني الإسلام.

وعلامة صحة هذا الطريق –جهاد الطلب لأجل تبليغ الدين لمن حيل بينهم وبينه- وكون الغرض منه عند أهل الإسلام هو ما سلف بيانه، دخول الجم الغفير في دين الله أفواجاً مع التزامهم به في السر والعلن وتوريثه البنين والبنات الذين نشأوا على حب ما حببه إليه آباؤهم.

ويبدو أن هذا المبدأ لم يعد مرفوضاً اليوم من الناحية العملية بل أصبح واقعاً يفرض على البلدان الإسلامية من قبل دول تزعم تصدير الحرية والديمقراطية بطائرتها ودباباتها وصواريخها الذكية.

وليس في هذا الفهم ما يستنكر إذا علمنا أن كثيراً من الدول الغربية كان مبدأ تحولها إلى الديمقراطية عن طريق ثورات على النازية والبلشفية والماركسية وغيرها من الاتجاهات الاستبدادية أو الشمولية والتي انتصرت عليها بعد جراحات ودماء وأشلاء.

وفي اعتقادي أن من أسباب نجاح ذلك التحول القسري في كثير من الشعوب الأوربية والأمريكية تلك القناعة الداخلية للشعوب بأن النظم القمعية أو الاستبدادية الشمولية التي سيطرت عليها ليست صالحة، وأن البديل الديمقراطي الرأسمالي أصلح لهم، فظلت المدافعة ردحاً من الزمن ثم كتب البقاء للأصلح.

ولكن ما يجهله هؤلاء أثناء تصديرهم لتلك الثقافة عن طريق الدبابة إلى البلدان الإسلامية هو أن الإسلام دين لايعتنقه حقاً إلاّ من اعتقد أن نظامه هو الأصلح، ولذلك فلن يرتضي به بدلاً إلاّ من بدل دينه منهم.

والنتيجة الطبيعية لهذا أن تتكرر ظاهرة ظهور الإسلام في تلك الأرجاء ولو بعد حين من القهر والاستبداد سواء أتم ذلك باسم الاشتراكية أو الديمقراطية.

ولو أردنا أن نأخذ نموذجاً حياً فسوف نجد العراق أمثل نموذج، وقبل أن أدخل في بيانه أنبه القارئ الكريم إلى أن هذا الكلام مبني على أحسن أحوال مدعي تصدير الحضارة أو الحرية أو الثقافة على متن الدبابة، مفترضاً على سبيل التنزل أنه لا مآرب أخرى للجنود ولا لمن أرسلهم غير بذل المهج والنفوس من أجل الحرية!

لقد دخلت القوات البريطانية محتلة العراق ما بين 1904- 1918، وقدم الجنرال [مود] عندما احتل جيشه بغداد يوم 11 مارس 1917 فخاطب العراقيين قائلاً عبارته المشهورة: 'إننا جئناكم محررين لا فاتحين' وألقى وعوده وتباشيره بعصر الحرية والغد المشرق.

فإذا العراق ترزح تحت نير احتلال تبدو مطامعه يوماً بعد يوم ومع ذلك لايزال المحتل يجد له أنصاراً وأعواناً وأذناباً كما هي الحال اليوم، وعلى الطرف الآخر تتوالي أعمال المقاومة وتتصاعد حتى جاءت ثورة العشرينات فعزل الكولونيل [ولسن] الحاكم الملكي في العراق وعين بدلاً عنه [برسي كوكس] ليمثل الحكومة البريطانية في العراق ومهمته المعلنة تأسيس حكومة عربية في العراق وتنفيذ مطالب الثوار فوصل بغداد في يوم 11 أكتوبر 1920 فاستقبل في بغداد من قبل العملاء استقبالاً حافلاً حتى قال جميل صدقي الفيضي ابن الملا أحمد بابان زهاوي[1]، قصيدة ترحيبية حمل فيها على المقاومة حملة شعواء من جملة ما جاء فيها:

عُد للعراق وأصلح منه ما فسدا وابثث به العدل وامنح أَهله الرغدا

الشعب فيه عليك اليوم معتمدٌ فيما يَكون كَما قد كانَ معتمدا

حييت من قادم إِبَّانَ حاجِتنا إليه نَرجو به للأمة الرشدا

إنَّ العِراق لمسعودٌ برؤيته أباً له من بلاد العدل قد وردا

وبفضل هؤلاء الأذناب أو المغفلين –وأنت تراهم في كل عصر ومصر- الذين يفتون في عضد الأمة، يظن المحتل أن يده ملأى.

لقد تأسس ما سمي بالدولة العراقية عام 1921 تحت الوصاية البريطانية التي جاء الدستور والبرلمان وفق هواها بعد أن مهدت لإقامتهما كما هي الحال اليوم، فكان ماذا؟ حفظ لنا الأدب التاريخ فنقل قول معروف الرصافي معبراً عن حال الشعب ناقداً الحكومة الاسمية في أبيات أطول من هذه:

سأقول فيها ما أقول ولن أخف من أن يقولوا شاعر مُتَطَرِّفُ

ويبدو أن القاعدة وجماعة الزرقاوي لم تعرفا في ذلك العصر أو لايجيء عليهما وزن الأبيات فاكتفى بأعظم التهم في زمانه التي تطلق على المناضلين المقاومين للاحتلال من المجاهدين ألا وهي التطرف! ثم أردف مبيناً:

هذي حكومتنا وكل شُموخها كَذِب وكل صنيعها متكلَّفُ

عَلَم ودستور ومجلس أمة كل عن المعنى الصحيح محرف

أسماء ليس لنا سوى ألفاظها أما معانيها فليست تعرف

مَن يقرأ الدستور يعلمْ أنه وَفقاً لصكّ الانتداب مصنَّف

من يأتِ مجلسنا يُصَدِّق إنه لمُراد غير الناخبين مؤلَّف

أفهكذا تبقى الحكومة عندنا كلماً تموَّه للورى وتُزخرَف

للإنجليز مطامع ببلادكم لا تنتهي إلاّ بأن تتبلشفُوا

أفتقنعون من الحكومة باسمها ويفوتكم في الأمر أن تتصرّفوا

أنتم عليها والأجانب فوقكم كلّ بسلطته عليكم مُشرِف

أيُعَدّ فخراً للوزير جلوسه فَرِحاً على الكرسيّ وهو مُكتَّف

إن دام هذا في البلاد فإنه بدوامه لسيوفنا مُسترعِف

لا بُدّ من يوم يطول عليكم فيه الحساب كما يطول المَوْقفُ

ولما قرر الانتداب البريطاني تخريج دفعة من الضباط العراقيين وتنصيبهم في مناصب قيادية وعسكرية كما يفعل الأمريكان في الوقت الراهن قال:

وكم عند الحكومة من رجالٍ تراهم سادة وهم العبيدُ

كلاب للأجانب هُم و لكِنْ على أبناء جِلدتهم أسودُ

وبمثل هذا النفس كانت المقاومة الصادقة تشتعل فكان من الطبيعي ألا يدوم الأمر للمتغلب فما مرت ثلاثة عقود حتى اجتاحت المقاومة عام 1958 أرجاء العراق قاطعة أذناب الاستعمار ليعلن انسحابه ذليلاً. وفي صورة أُراها شبيهة بصورة انهيار تمثال صدام توجهت الحشود الجمة إلى تمثال الجنرال [مود] لتجعله جذاذا تحت الأقدام.

وهكذا خرج المحتل من العراق نهائياً بعد زهاء ثلاثة عقود من تشكيله حكومته العربية، وكذلك أخرج من سائر أرجاء الأرض العربية، وهكذا سوف يخرج المحتل اليوم بعد ثلاثة عقود من تشكيله حكومته أو قبلها.

وهذه الصورة صورة متكررة عبر تاريخ المسلمين الأول فما أرض من تخومهم أو أراضيهم التي أحتلت في حروب صليبية أو غارات معادية إلاّ ورجعت إسلامية بمجرد رجوع الغازي أو خروجه منها وبطل سحر حضارته التي تبدت للناس إبان الاحتلال على حقيقتها. وكذلك الأمر في التاريخ الحديث ولعل أفغانستان الجريحة وما دار فيها بين أنصار الإسلام وأنصار الشيوعية شاهد قائم، وما سينتهي إليه أمرها مع دولة الاستكبار سوف يكون شاهداً للأجيال من بعدنا ومن يدري ربما يكون شاهد على هذا لنا، ومثل أفغانستان بلاد الشيشان.

ومع ذلك لم تستفد أمريكا من هذا التاريخ في احتلالها للعراق الواعد بتصدير الحرية والديمقراطية على ظهر الدبابة الأمريكية لأجل سلام ورخاء المنطقة. وليتها لم تستفد من التاريخ وحده بل إنها لم تستفد من دين ساستها البروتستانت الواعد في آخر الزمان بمعركة هرمجدون، ولا أظنهم يتوقعون نشوبها مع نظام ديمقراطي حر يرضونه في المنطقة!

فماذا بقي غير نهب الثروات باسم الديمقراطية، والتوطيد لدولة العدو الصهيوني وتقويض القوى النادة عن الطاعة الأمريكية باسم الحرية؟

ولعل ما غر أمريكا هو نجاحها في تصدير ثقافتها عبر السيف والبندقية والقنبلة النووية في بلدان قهرتها عسكرياً وتفوقت عليها حضارياً كما في حالها مع اليابان مثلاً، فما أن أُلقيت القنابل النووية، حتى أعلنت البلاد الصفراء الاستسلام والخنوع الكامل بغير مقاومة تذكر وإلى اليوم، وهنا ظنت أمريكا أن مقوم نصرها هو التفوق العسكري وما حسبت أن سر نجاحها هو في تفوقها الحضاري الذي كفل لها البقاء في اليابان بعد مغادرتها!

وكل هذا يظهر أن السيف في الماضي أو الدبابة فما فوقها اليوم آلات، مهمتها فسح المجال لولوج الحضارة وتنوير الناس بها، فإذا كانت تلك الحضارة بمفهومها الشامل الذي ينظر إلى الطبيعة وما ورائها لاتوازي في معتقداتها وتعاليمها وقيمها ومبادئها وأخلاقها ما كان عليه المُتَغَلَّب عليهم بحد السيف أو فوهة البندقية، فجدير بحضارة المُتَغَلِّب أن تزول متى رفع حد السيف أو كُسر، وهذا ما ينبغي لأهل الإسلام السعي في التعجيل به ماداموا يعتقدون بأنه لاصلاح للإنسانية في دنياهم وآخرتهم إلاّ بحضارة الإسلام ومنهجه.

وهذا ما يفسر إنكسار الدول والحكومات الإسلامية دون انكسار الشعوب التي تبقى مقاومتها للحضارة الدون باقية مادام دين الإسلام باق في بنيها وهذا كله إذا لم تكن للمتغلب الظاهر مآرب أخرى ظاهرة غير تصدير حضارته!

وإذا فهم ما سبق فإنه يسرنا أن تصدر إلينا حضارة غربية أو شرقية على ظهر دبابة أو متن مروحية شريطة أن تثبت أنها الأصلح والأنفع وهيهات هيهات. وعليه فإن مصيرها ولابد إلى الزوال والاضمحلال بمجرد اختلال موازين القوى ولو بعد أجيال.

كما لايسؤونا تصدير تلك الحضارة إلى من بها قوام حياتهم إن كان لابد من ترحيلها عبر ظهور المجنزرات والآلات الحربية، ولاسيما إن كانت تلك الحضارة المنقولة أدعى للقبول من قِبَل تلك الشعوب وحينها يكون تحريرهم من الأنظمة الحائلة بينهم وبينها مهمة مقدسة نبيلة.

ولكننا لانرضى بحال أن يعتدي متكبر جبار على قوم لينهب خيراتهم، ويخضعهم لمصالحه وأهوائه، ونرى أن جرمه يتضاعف إذا فعله تحت شعار تصدير الحضارة أوالحرية.

إن أهل الإسلام يرفضون كل دعوى جوفاء بتصدير الحرية أو رغد الحياة من أناس يتفنن جندهم في ابتذال وإهانة من أرسلوا إليهم ومقدساتهم، فكيف ينقل الحرية أو يبعث الأمل من يعد الشذوذ والتعذيب والتنديس للمقدسات من الحرية، أو -على الأقل- أثبتت وقائعه أن رسله لايفهمون معنى الحضارة ولا الحرية!

[1] والذي يقول عن نفسه:'كنت أسمى في صباي المجنون لحركاتي غير المألوفة! وفي شبابي الطائش لنزعاتي إلى الطرب! وفي كهولي الجريء لمقاومتي الاستبداد! وفي شيخوختي الزنديق لمجاهرتي بآرائي الفلسفية!'

===============

#قواعد التغيير

العدد 1647 ـ 7ربيع الأول 1426هـ

الصفحة الرئيسة

مفكرة الإسلام : هناك مجموعة أصول ومبادئ تكررت على مدى الزمان ولاحظها الذين درسوا هذا الموضوع وأصبحت شبه أصل، وهي كثيرة ولكني سأذكر بعضها:

{إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ} [الرعد: 11] لأن التغيير ينطلق من داخل النفس ولا يفرض على الإنسان.

التغيير المادي أسرع من التغيير الفكري. فمثال الأول أن أبني منزلاً جديدًا أو أغير السيارة أو الأثاث.. فهذه مسائل أسهل كثيرًا من أن أغير فكر أمة.. ولذلك من الخطأ الذي يقع فيه من يحاولون أن يسرعوا من عجلة الحضارة أنهم يركزون كثيرًا على قضية المادة، ونحن نرى أنه في مدينة الرسول صلى الله عليه وسلم لم يهتم ببناء البنايات الضخمة والعمارات الشاهقة والآثار العمرانية التي تبقى عبر الزمن لا في المدينة المنور ولا في مكة، فلم تكن هذه قضية الرسول صلى الله عليه وسلم، ولكن كان اهتمامه بالفرد وبالتغيير الفكري، ولذلك انطلقت حضارة الأمة من مكة والمدينة شرفهما الله؛ لأن التغيير الفكري؛ هو الذي تأصل ثم نتج عنه التغيير المادي.

ونجد في قصص الأنبياء أن إبراهيم عليه السلام كسر الأصنام التي كان يعبدها قومه ولكن محمدًا صلى الله عليه وسلم لم يكسر الأصنام التي كانت تعبدها قريش في المرحلة الأولى من الدعوة، مع أن تكسير الأصنام مطلوب، ونبي الله إبراهيم عليه السلام فعل شيئًا صحيحًا وهو القضاء على هذا الشرك لكن محمدًا صلى الله عليه وسلم فعل الشيء الأكثر فاعلية.. فنبي الله إبراهيم بعد أن فعل ذلك ألقي في النار وتم نفيه من بلده.

ومحمد صلى الله عليه وسلم عمل على تغيير الفكر إلى أن وصل إلى مرحلة أن الذي كسر الأصنام هم خالد بن الوليد وعمرو بن العاص وغيرهما من الذين كانوا يعبدونها من قبل.

إذن كثير من الناس خاصة المتحمسين والشغوفين بالفكر الغربي وبالنهضة المادية الغربية يريدوننا أن سنتعجل الخطوات في الانطلاق نحو التغيير المادي، وهذا أسهل ما يمكن.. لكن المشكلة الكبيرة في تغيير الإنسان، فأنا أستطيع أن أبني ناطحة سحاب وأملأها أجهزة كمبيوتر، لكن إذا كان ساكنوها متخلفين فما فعلت تغييرًا حقيقيًا للحضارة.. والأمر الأصعب هو تغيير الفكر.

دور العلماء:

وهنا يأتي دور علماء العلوم الإنسانية، فالذي يغير الفكر ليس الأطباء ولا المهندسون ولا أهل التكنولوجيا [رغم مكانتهم العظيمة في الحضارة] لكن أهل الأدب والإعلام والفلسفة والاجتماع والدعوة والعلم والفكر وعلى رأسهم علماء الشرع وهم الذين يغيرون فكر الأمة، فإذا تقاعس هؤلاء أو أصبحوا مقلدين لفكر الغربي فعلى الأمة السلام.

فالخطورة لا تأتي من الأطباء أو المهندسين ولكن تأتي من أن ينمسخ هؤلاء المفكرون أصحاب العلوم الإنسانية [يصيرون مسخًا] فتنمسخ الأمة معهم، ومن هنا تأتي خطورة المناهج التي تطبق بالجامعات في جانب العلوم الإنسانية، فليس هناك مشكلة في أن آتي بعلم الهندسة من الغرب أو علم الطب والأعضاء ولكن الخطورة أن آتي بالفلسفة الغربية وأطبقها في عالمنا الإسلامي لأن الفكر هو الذي ينهض بالأمم ويصنع الحضارات.

وهذه مسألة لا يمكن استعجالها ولكن يجب التريث فها حتى تُطبخ على نار هادئة إلى أن تنضج.

والمطلوب من العلماء والمفكرين ألا ييأسوا، وأن يستمروا في محاولاتهم، أما إذا فقد هؤلاء الأمل فعلى الأمة السلام.

انظروا إلى تاريخ المصلحين على مدى الزمان وعلى رأسهم الأنبياء عليهم السلام سنجد بوضوح أن العملية التي قام بها هؤلاء ليست تغييرًا ماديًا وإنما فكريًا، ومن ذلك نهضت الحضارات.

أيضًا من قواعد التغيير أن الطموحين والمثقفين لديهم استعداد أكبر من غيرهم للتغيير. فالإنسان قليل الثقافة والطموح يرضى بالواقع ويحكمه هذا الواقع ويأسره والذي يقود عملية التغيير هم أهل الفكر والطموح والمشكلة الكبرى أن يصبح أهل الفكر بلا طموح وهذا الذي حدث في الأمة على مدى طويل.

سرعة انهيار الحضارات:

وعند تأملي للتاريخ وجدت أن الأمم تأخذ وقتًا طويلاً إلى أن تصل إلى القمة وتنهار في وقت قصير جدًا انظروا إلى حضارات بابل والإغريق واليونان تجدوا هذا واضحًا، بعكس ما حدث للإسلام الذي ساد الأرض في مائة عام ثم أخذ يتقدم ويزداد إلى أن وصل إلى قمة الحضارة وعندما انهار وصار التخلف والانحطاط في الأمة أخذ حوالي 800 عام.. لماذا؟

لأن كل الحضارات الأخرى قامت على مثقفين وفلاسفة وقادة عسكريين وملوك عظام استطاعوا أن ينهضوا بهذه الحضارة وبناؤهم لها كان بطيئًا لأنهم لا يملكون المنهج الفكري الذي يوصلهم إليها، وعندما مات هؤلاء انهارت حضارتهم.

أما الحضارة الإسلامية فإن قوتها ليس في رجالها بقدر ما هي في أصل المنهج العظيم الذي يتوافق مع طبيعة البشر ومع العقل والمنطق والفلسفة والتكنولوجيا.

وعلماء الغرب وقعوا في صراع غير عادل؛ لأنهم عندما أرادوا أن ينهضوا تصادموا مع الكنيسة.

أما في الإسلام فإن الذين قادوا صناعة الحضارة هم علماء الدين، لذلك فإن من أكبر ما يقع فيه المفكرون من خطر هو المقارنة بين حضارة الإسلام والحضارات الأخرى فليس هناك وجه للمقارنة فالحضارة الإسلامية تمتلك منهجًا يختلف اختلافًا جذريًا عن كل مناهج الأرض ويخطأ من يحاول أن يقيس الدولة الإسلامية بالدولة الغربية لأن الدولة الإسلامية تحمل توافقًا بين الدين والدنيا وبين الفكر والواقع.

وإذا وجد لدينا أصحاب فكر فهذا يجعلنا نطمئن أننا نسير في الاتجاه الصحيح، والحمد لله أن أصحاب الفكر لدينا في ازدياد.

وإذا عدنا للحضارة الإسلامية فإننا نرسم مخططًا سريعًا لها.

ـ نهضة سريعة غير عادية في أقل من 100 عام.

ـ عام 92 هجريًا فتح الأندلس، ثم نهضة عظيمة بمعدل أبطأ استمرت حوالي 400 عام ثم توقفت لمدة 100، ثم انحدار 800 سنة وصل إلى القاع مع سقوط الخلافة عام 1924م، ثم جاءت حركات التحرر والإصلاح والنهضة فاستطاعت أن توقف هذا الانحدار وجعلته يثبت، ثم بدأنا بالصعود الذي لا يلاحظه كثير من الناس، لأنهم يقيسون الصعود بمقاييس مادية 'وصلنا للقمة أم لا؟' عندنا تكنولوجيا أم لا؟ ولكن ليس هذا هو التغيير وإنما هو في الثقافة وفي الطموح وفي الفكر، وقد بدأ في الأمة من جديد وآخر ما سينضج هو السياسية ...فالتغيير يحدث شعبيًا وفكريًا وعقليًا.

فاستعداد الطموحين والمثقفين للتغيير أكبر، كما أنه ينضج بالحوار، وكلما زاد الحوار نضج الإنسان ومما يزيد التغيير ويدعمه أيضًا.. الاحتكاك بالمتميزين.

==============

#أمريكا والانهيار الحضاري...حقيقة أم وهم؟!

الأحد 22 ربيع الأول 1426هـ -1مايو2005م

الصفحة الرئيسة

مفكرة الإسلام: الحمد لله ناصر المؤمنين، وقامع الكافرين، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، أمَّا بعد:

[إنَّ التاريخ ـ وبالدقة ذاتها ـ لا يكرر أبدًا نفسه، ولكنه غالبًا ما يوجه صفعاته، إلى أولئك الذين يتجاهلونه كليًا]

بهذا سطَّر أحد أشهر المؤرخين المعاصرين الأمريكان [بول كينيدي] مدير مركز الدراسات الأمنية الدولية بجامعة بيل، وأستاذ التاريخ فيها, وصدق! فإنَّ أمريكا تتجاهل تاريخ الأمم السابقة التي سادت ثمَّ بادت {فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ وَالأَرْضُ وَمَا كَانُوا مُنْظَرِينَ}.

ومن الجيد أن نقارن بين واقع الإدارة الأمريكية بواقع الأمم الكافرة التي تكبرت على منهج ربها وآذت عباده، فلعل الربط بين الواقع الحاضر وتاريخ الماضي يوضِّح لنا دلالات، ويجلي لنا أمورًا غامضات، وقد أمرنا تعالى في محكم التنزيل بأن نعتبر بما وقع للمؤمنين والكافرين من قصص وأخبار حيث قال: {فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكَالَ الآخِرَةِ وَالأُولَى إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِمَنْ يَخْشَى}.

ومن هذا المنطلق فلعلي أربط بين منطق الطغاة في القرآن الكريم وأفعالهم مع المؤمنين، مع منطق طغاة أمريكا وأفعالهم مع عباد الله كافرهم ومسلمهم، كي يُعْلَمَ أنَّ التأريخ يعيد دورة الأيام ولكن بأسماء أخر، وأفعال تبتكر، وجرائم تحضَّر، وما أشبه الليلة بالبارحة!!

ومن جميل كلام الإمام ابن تيمية ـ رحمه الله ـ: [فأمرنا أن نعتبر بأحوال المتقدمين علينا من هذه الأمَّة، وممن قبلها من الأمم، وذكر في غير موضع أنَّ سنَّته في ذلك مطَّردة وعادته مستمرة، فينبغي للعقلاء أن يعتبروا بسنَّة الله وأيَّامه في عباده، ودأب الأمم وعادتهم].

[انظر: كتاب الجهاد لابن تيمية 2/70ـ جمع الدكتور/ عبد الرحمن عميرة]

وعليه فقد أزمعت الرأي مستعينًا بالله في البحث والكتابة لتوضيح سياسات هذه الدولة ليعتبر المسلم قبل الكافر، مستشرفًا في ذلك المستقبل الذي بدأت خيوط نوره تلمع، وحجب ظلامه تزول وتُقْشَع، بأنَّ مصير هذه الدولة إلى سفول، ولو امتدت الأيام، فحقٌ على الله ما ارتفع شيء إلا وضعه، ولن يبقى إلا الإسلام العظيم يحكم البشرية في أرض الله.

فلن ألتفت إلى الزفَّة الإعلامية الصاخبة التي تظهر هذه الدولة بمظهر الكابوس المخيف، والإمبراطورية التي لا تقهر أو التي بدأت تعيد عهد سالفتها بريطانيا بأنها الدولة التي لا تغيب عنها الشمس، فإنِّي موقن حتماً بأنَّنا في زمن حجب الحقائق، وتكميم الأفواه، وتغطية العيون، ولن يمنعنا مانع بأن نصدح بحقنا، ونرفع به عقيرتنا، ما أحيانا الله، وقد قال تعالى: {إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ}، وما دمنا أحياءً نرزق، وأقلامنا في أيدينا توثق وتطلق، فلنوضح الحقائق، وإذا كانت العبارة الفرنسية تقول: [أعطني سطرًا واحدًا لأكثر الناس حرصًا، وأنا أجد كلمة واحدة يستحق عليها الشنق]؛ فإنَّ كلام خير الحاكمين يقول: {وَلا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَناً قَلِيلاً وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ وَلا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ}, ولعلي أستعرض في ثنايا هذا المقال شيئًا من الجرائم الأمريكية مقارنًا مع جرائم من سبقهم من طغاة الأرض، وفراعين الدهر، سائلاً المولى التوفيق في العرض، والسداد في الطرح:

1ـ ادِّعاء أمريكا بأنَّها الدولة التي لن تقهر، والتي توقف التاريخ عندها، فلن تزول حضارتها، ولن يفنى شبابها، فهي باقية أبد الدهر ـ عياذًا بالله من ذلك ـ فلا مانع من التوسع والهيمنة على جميع الدول, ولعلَّ أشهر من كتب في هذا العصر عن هذه النبوءة؛ فرانسيس فوكوياما في كتابه [نهاية التاريخ والرجل المريض]، فقد ألَّف كتابه محتفلاً فيه بسقوط الشيوعية واندحارها أمام الحضارة الغربية الحديثة! فالعالم بزعمه لم يعد أمامه شيء جديد سوى هذه الحضارة الغربية وبالذات الأمريكية، ولهذا فقد أغلق باب التاريخ ولم يعد هناك من يمسك زمامه سوى القوى الغربية وعلى رأسها أمريكا, وسينتهي التاريخ عندها ولن تقوم قائمة لأية حضارة بعدها، والحقيقة أنَّ كلام فوكوياما وغيره ممن يتمنطق بمثل هذا الكلام مبني على مقولة أمريكية قديمة تقول: [إنَّ أمريكا هي العالم، والعالم هو أمريكا], ولا ريب أنَّ الرجل وقومه يعيدون كلام من سبقهم من الأمم الكافرة حين نظروا لقوتهم وجبروتهم فاستكبروا وقالوا: ليس لنا نهاية ولن نزول، حيث قال تعالى عنهم: {أَوَلَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُمْ مِنْ قَبْلُ مَا لَكُمْ مِنْ زَوَالٍ}!!

تأمل خطاب [ألبرت بيفريدج] ممثِّل ولاية [إنديانا] في مجلس الشيوخ الأمريكي وهو يقول: [لقد جعل الله منَّا أساتذة العالم! كي نتمكن من نشر النظام حيث تكون الفوضى، وجعلنا جديرين بالحكم لكي نتمكن من إدارة الشعوب البربرية الهرمة، وبدون هذه القوة، ستعمُّ العالم مرَّة أخرى البربرية والظلام، وقد اختار الله الشعب الأمريكي دون سائر الأجناس كشعب مختار!! يقود العالم أخيرًا إلى تجديد ذاته].

والشاهد من ذلك أنَّ هؤلاء القوم قد أعادوا سيرة سلفهم حين نظروا لقوتهم وجبروتهم وخيراتهم وحضاراتهم، فافتخروا بها، وظنَّوا أنهم بذلك أولياء الله وأحباؤه، ففي الزمن السابق قال أحدهم حين رأى أملاكه وخيراته بكل كبر وعجرفة: {مَا أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هَذِهِ أَبَداً وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلَى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْراً مِنْهَا مُنْقَلَباً}.

لكنَّ الحق سبحانه لن يحيي إلا الحق, وسيجعل الباطل غثاءً زبدًا زائلاً، فلم يبقَ لهذا المفتخر بماله وملكه إلا حطام ما مَلَكْ، {وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلَى مَا أَنْفَقَ فِيهَا وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَداً وَلَمْ تَكُنْ لَهُ فِئَةٌ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مُنْتَصِراً}.

2ـ اغترار أمريكا بأنَّها الدولة القوية والتي لن تقف أمامها أية قوة، وفي أدبياتها أنَّ أيَّ تفكير لدولة ما تريد أنْ تتقوى أو تقف مناوئة لها، فإنَّها ستجلب على نفسها الدمار قبل بداية الحرب بواسطة الحروب الاستباقية الوقائية. وهذا بالضبط حال فرعون ومنطقه حين خاف أن يأتي من بني إسرائيل ابن يقتله ويقضي على ملكه، فما كان منه إلا أن استحل دماء الناس وفرضها حربًا وقائية له تنجيه من ذلك القتل.

وحين نمعن النظر في كلام قادة هذه الدولة المارقة، أو بحالها العملي مع الدول المخالفة لها فسنجد ذلك واضحًا جدًا، فها هي مادلين أولبرايت تقول في إحدى المقابلات معها في جامعة أمريكية: [في هذا الكون قوة عظمى واحدة؛ الولايات المتحدة!].

وهذا ستيفن إيه دوجلاس يذكِّر مجلس الشيوخ الأمريكي عام [1858م] بحقيقة المنطق الطاغوتي القائل: {مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً} حيث يقول: [إنَّ أمريكا أمَّة شابة نامية، تعج مثل خلية النحل، وكما أنَّ النحل في حاجة إلى الخلايا ليتجمع وينتج العسل، أقول لكم: إنَّ التكاثر والتضاعف والتوسع هو قانون وجود هذه الأمة].

ومِمَّا يصدِّق كلام [دوجلاس] السابق ذكره ويدلِّلُ على حب هؤلاء الغزاة للتوسع والسيطرة على بلاد الله، ما قاله السيناتور هارت بنتون في القدم، في خطاب ألقاه أمام مجلس الشيوخ عام 1846م: [إنَّ قدر أمريكا الأبدي هو الغزو والتوسع، إنَّها مثل عصا هارون [يقصد موسى] التي صارت أفعى، ثمَّ ابتلعت كلَّ الحبال. فهكذا ستغزو أمريكا الأراضي، وتضمُّها إليها، أرضًا بعد أرض. ذلك هو قدرها المتجلي. أعطها الوقت، وستجدها تبتلع، كلَّ بضع سنوات مفازات بوسع معظم ممالك أوروبا. ذلك هو معدَّل توسعها].

ويقول المؤرخ [ريتشارد إيميرمان]: [القوَّة والأمن الأمريكيين يعتمدان بشكل أساسي على الحصول على المواد الأولية من العالم، وبالتدخل في أسواقه الداخلية، وبالأخص في دول العالم الثالث التي يجب أن تبقيها الولايات المتحدة تحت السيطرة الشديدة].

وهاهو نيكسون يقول: [على أعداء الولايات المتحدة الأمريكية أن يدركوا أننا نتحول حمقى إذا ضربت مصالحنا.. بحيث يصعب التنبؤ بما قد نقوم به مما لدينا من قوة تدميرية غير تقليدية، وعندها سوف ينحنون خوفاً منَّا].

ويقول وزير الخارجية كولن باول بعد ضربة سبتمبر: [نحن الآن القوة الأعظم، نحن الآن اللاعب الرئيس على المسرح الدولي، وكل ما يجب علينا أن نفكر به الآن هو مسؤوليتنا عن العالم بأسره، ومصالحنا التي تشمل العالم كلَّه].

بل سبقه بذلك بوش الأب حينما ألقى خطابًا عقب انتصار الحلفاء على العراق في حرب الخليج الثانية في إحدى القواعد العسكرية 13/4/1991م حيث يقول: [إنَّ النظام العالمي الجديد لا يعني تنازلاً عن سيادتنا الوطنية، أو تخليًا عن مصالحنا، إنَّه ينبئ عن مسئولية أملتها علينا نجاحاتنا].

ثمَّ صرَّح في خطابه أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة 23/9/1991م [بأنَّ أمريكا ستقود العالم], وبعد هذه الكلمات فهل يشكُّ أحد في مشابهة منطق الأمريكان بمنطق الطغاة الغابرين {ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ}، فإنَّهم اعتقدوا مقتنعين أنَّهم رب الكون ومسَيِّرو أحداثه ـ تعالى الله عمَّا يقول الظالمون علوًا كبيرًا ـ ولهذا من يقرأ كلام نيكسون حين قال: [نحن نقبض على ناصية المستقبل بأيدينا], يوقن يقيناً بأنَّ هذا [يتواءم مع اعتقاد الأمريكيين بأنَّ قيادتهم للعالم هي قدرهم المحتوم، الذي اختاره لهم الرب، وباركته من أجلهم الملائكة].

3ـ الكبر والتعالي على الرب وعلى العباد, بمنطق من قال: {فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى}, ومن قال: {مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي} ومن قال: {مَا أُرِيكُمْ إلاَّ مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إلاَّ سَبِيلَ الرَّشَادِ}.

يقول أحد كبرائهم وهو متحدث باسم البيت الأبيض في حرب الخليج: [جئنا نصحح خطأ الرب الذي جعل البترول في أرض العرب]!! وهذا بوش يخاطب الرئيس الباكستاني برويز مشرَّف بمنطق القوة والتهديد ليركع له وينحني: [أمامك خياران إمَّا أن تدخل في حلف أمريكا ضد الإرهاب، وإمَّا أن نعيد باكستان للعصر الحجري], وحقاً إنَّها سياسة من لا يفتح مجال الحوار والأخذ والرد، وهي القاسم المشترك الذي جمع طواغيت الأرض على كرسي التجبُّر، وسيف القهر، والكبرياء البغيضة.

ولهذا فإنَّ الأمريكان جعلوا أنفسهم بمنزلة الرب، واستقوا من الفكرة الثيوقراطية مبدأً؛ بأن يُطاعوا ويُخدموا من قبل الناس, وإلا فالجحيم ينتظرهم لأنَّهم مفوضون حسب ادعائهم عن الله بالحكم والقتل، وتابع معي كلامًا لنيكسون: [إنَّ محور علاقات أمريكا مع ألمانيا وأوروبا وآسيا والعالم كلِّه هو مصالح أمريكا، وعلى العالم كلَّه أن يخدم مصالح أمريكا].

4ـ القتل والتدمير واستحلال دماء الشعوب، وهو حال فرعون {إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعاً يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ}، وهذا حين لم تنتشر دعوة الله في الأرض فكان فرعون يقتل الأبناء ثمَّ حين وجد بعضًا من النساء يشهدن بأنه طاغوت وأن الرب هو الله جلَّ جلاله وليس فرعون فما كان منه إلا أن مكر بالسيدة آسية وقتلها بكل وحشية وإجرام ـ رضي الله عنها وأرضاها ـ.

ولا شكَّ أنَّ أمريكا كانت كذلك، فكم من رجلٍ كبيرٍ أو امرأةٍ مسنةٍ أو طفل ٍصغيرٍ استخدمت أمريكا في حق إنسانيتهم وسائل البطش والإجرام، ولم يكن ذلك في حقِّ المسلمين فحسب، بل إنَّ إخوانهم في الكفر لم يسلموا من أذاهم وشرهم، وكانت خطاباتهم فيها صراحة واضحة بحبِّ سفك الدماء، والإفساد في الأرض، وخير شاهد على ذلك ما قاله الجنرال الأمريكي سميث الذي كُلِّف بتحطيم الحركة الفلبينية مُصدِّرًا أوامره لقواته: [إنني لا أريد أسرى.. أريدكم أن تحرقوا وتقتلوا, وكلَّما زدتم في الحرق والقتل جلبتم السرور إلى قلبي].

وكذلك فنحن لا ننسى مذبحة الهنود الحمر في أمريكا والتي قال عنها المؤرخ الأمريكي ديفيد ستارند: [إنَّها أكبر مذبحة جماعية في العالم]، وما خبر مذابح فيتنام عنَّا ببعيد، وهذا كلَّه في حق الكفار, فما البال بألد أعدائهم المسلمين، فلم يكن لهم قرار في أرض من بلاد المسلمين إلا وعاثوا فيها الفساد، وأبادوا فيها العباد, سواء بطرق مباشرة أو بتوكيل غيرهم على المسلمين, أو بالدعم المادي والعسكري والمعنوي, ولن أعدَّ البلاد الإسلامية التي أفسدت في حقها أمريكا, فإنَّ هذا في عقلية المسلم أمر معلوم، ثمَّ إنه أمر يصعب حصره في مقال، فجميع بلاد الإسلام تأذَّت من سياسات هذه الدولة.

أمَّا عن الشعب الأمريكي فقد ربَّاه أسياده على حب الجريمة، وحببت إليه وقائعها, ولهذا فلا عجب حين نجد 85% من الشعب الأمريكي يؤيدون الحرب على بلاد أفغانستان المسلمة، وكان هذا الاستفتاء في شهر رمضان المبارك عام [1422هـ]، بل إنَّ 80% من الشعب الأمريكي أيَّد بوش على حرب العراق وفقًا لاستطلاع وزارة الدفاع الأمريكية البنتاغون في العراق، فإذا كان شعب أغلبيته يؤيد المحرقة للعالم الإسلامي وكيَّه بنار الموت، ولا يعارض ما تقترفه سياسات دولته، فإنَّ حكَّامهم سيمضون في مقاصل حمَّامات الدماء هنا وهناك, ولن يردهم شعبهم عن ذلك، وقد قيل لفرعون من فرعنك؟! فقال : لم أجد من يردَّني!! ولا يستغرب حين يرى حكَّام أمريكا شعوبهم بهذه العقيدة الإجرامية تجاه الشعوب الإسلامية بأن يفعلوا بها كلَّ ما خبث وفحش ذكره من المآسي والكوارث، ولا عجب أن يوافق مجلس الشيوخ الأمريكي على إنتاج قنابل ذرِّيَّة صغيرة يعادل كل ثلاث منها القنبلة التي ضربت هيروشيما!!

ـ لقد أعجبني حين زار الملاكم العالمي المسلم [محمد علي كلاي] مبنى التجارة العالمي ، فواجهه أحد المتطفلين قائلاً: ألا تستحي من دين ينتمي إليه ابن لادن؟! فأجابه كلاي: [ألا تستحي أنت من الانتماء إلى دين ينتمي إليه هتلر؟!] وقد أجاد كلاي, فإنَّ هؤلاء الهتلريون ينسون جرائمهم الماضية في حق البشرية ثمَّ يتساءلون تساؤل الأغبياء عن سبب ضربة سبتمبر، أو يُعَرِّضُونَ بأنَّ دين الإسلام دين الدموية والإرهاب، وكأنهم قد برئوا من أي عمل إرهابي اقترفوه في حق البشرية براءة الذئب من دم ابن يعقوب!!

إنَّ أمريكا بتجاهلها لدساتير الحروب، والعمل على إزهاق الأرواح دون أدنى تحرٍ في كشف ملابسات الحدث، يُسَيِّرها ذلك إلى التبلد في مواجهة البشرية، والتصلب تجاه الآخر في كشف أسباب الرد الأمريكي على الدول والشعوب، ومن يقرأ مقال [سحب من الشك.. شهادة أمريكية على الإرهاب الأمريكي] [يبين بإجماع عدد من الفنِّيين الأجانب الذين عملوا بمصنع الشفاء في السودان الذي دمَّرته الطائرات الأمريكية على خلوه من المواد الكيماوية المشبوهة، وهذا ما يعلل رفض أمريكا للتحقيق حول المصنع حتَّى لا يظهر كذبها على الجميع].

ولا أدري كيف يتعامل هؤلاء القوم مع واقع الناس، فإنَّهم قد نصُّوا في قوانينهم الأرضية الوضعية بأنَّ دولتهم علمانية ترعى الحرية، وتنشر الديمقراطية، وحين ضُرِبُوا في سبتمبر صاحوا بأنَّهم سيشنون حربًا صليبية واسعة النطاق، عريضة الجبهة، تمتد إلى مالا نهاية، فالعجب لا ينقضي حين يقول هؤلاء بأنها حرب صليبية، يعنون بذلك رجوعهم لديانتهم المحرفة النصرانية، مع أنَّ في مدوناتهم، أهمية الرفق بالبشرية، والرحمة للإنسانية، بل نص الإنجيل لأبناء المسيح ـ عليه السلام ـ وأتباعه بأنَّ [من ضربك على خدِّك الأيمن فأدر له خدَّك الأيسر], فأين هذا من هذا، وهم يريدون أن يوسعوا جبهة الحرب, بل عدُّوا ستين دولة سيأتيها الدور لمحاربتها، ومكافحة الإرهاب فيها، والسؤال: هل شاركت هذه الدول الستين وأمدت هؤلاء بالعدة والعتاد ليقوضوا صرح أمريكا المتمثل في برجي التجارة العالمي؟! بل لو ضيَّقنا السؤال وقلنا: هل من دولة واحدة من هذه الدول أمدتهم لتحطيم مجد أمريكا!! وثبتت بذلك دلائله؟!

إننا نحن المسلمين نحتار حقًا في تعاملات هذه الدولة مع شعوب الأرض، ولكنَّنا نقول كما قال السيد المسيح: [من ثمارهم تعرفونهم], فلا جرم حينئذٍ أن يوصفوا بأنهم مجرمو حرب، وتجار أسلحة، وقد بان كذب بعض العلمانيين العرب حين قالوا بأنهم أصحاب الحرية، وأهل العدالة، وإذا كان هؤلاء صادقين في هذا الطرح، فليربوا أبناءهم على مناهج التعليم الأمريكية، ليكرعوا من ثقافة الإجرام، ويصوبوا أسلحتهم لبلادهم!!

وتبًّا لهذه الحضارة الأمريكية، فهي أوْلى بأن تسمى حقارة، فلا دين يقودهم، ولا أعراف دولية تحكمهم، ولا قيم خلقية تسوسهم، وجزى الله الشاعر النحوي خيرًا حين قال عن حضارتهم:

حضارة بالية كبعض ثوب خلق ما قيمة العلم الذي يُلهب حُمَّى السبق

يبني ويعلي ما بنى شواهقًا في أفق ثمَّ تراه ينثني في لحظة من نزق

يهدمها إلى الثرى كأنَّها لم تَسْمُقِ فهذه حضارة واهية من ورقِ

وإنَّ مِن أكثر مَن بيَّن جرائم أمريكا في حقِّ شعوب الأرض المثقف اليهودي الأمريكي [نعوم تشومسكي], حيث أفاض في كتابه [ماذا يريد العم سام؟] في ذكر الجرائم التي ارتكبتها أمريكا في العالم والمؤامرات التي حاكتها، والممارسات السياسية التي لا تستند إلى أي خلق أو قانون، وكان من جملة ما قاله: [أعتقد من وجهة النظر القانونية أنَّ هناك ما يكفي من الأدلة لاتهام كل الرؤساء الأمريكيين منذ نهاية الحرب العالمية الثانية بأنهم مجرمو حرب، أو على الأقل متورطون بدرجة خطيرة في جرائم حرب].

ويقول أيضاً: [إنَّ الولايات المتحدة الأمريكية، قضت على سكَّانها الأصليين ـ الهنود الحمر ـ عبر القرون، واجتاحت نصف المكسيك، وتدخلت بعنف في المنطقة، واحتلت هاواي فيتنام، وقامت خلال الخمسين سنة الأخيرة باللجوء إلى القوة في جميع أنحاء العالم تقريبًا... هذه هي المرَّة الأولى التي توجَّهُ فيها البنادق إلى الاتجاه الآخر.. ـ يقصد ضربة سبتمبر ـ لا يمكن اعتبار الولايات المتحدة ضحية بريئة إلاّ إذا تجاهلنا لائحة أفعالها وأفعال حلفائها... علينا أن نُعيرَ اهتمامًا أكبر لما نفعل في العالم... علينا أن نتساءل: لماذا حصل لنا ما حصل؟!].

وهذا هو السؤال الوجيه الذي يجب أن يطرحه الساسة الأمريكان لو كانوا يعقلون: لماذا حصل لنا ما حصل؟!

نعم.. إنَّ من المهم أن يسألوا أنفسهم هذا السؤال، ثمَّ يبحثوا في الأسباب التي أَلَّبت هؤلاء الشباب المسلمين ليضربوا برجيها ضربة تأريخية، لا أن يتساءلوا تساؤل المظلومين وكأنهم لم يقترفوا شيئًا من الجرائم في تاريخ الإنسانية، كتساؤل بوش حين ضربت أمريكا قائلاً: لماذا يكرهوننا؟!

فيقال له: سل نفسك وابحث عن مكمن السبب، فهو أمر أوضح من الشمس في رابعة النهار، وجوابه بكل تأكيد: ظلمتم المسلمين والإنسانية جمعاء فسلَّط الله عليكم ما لم تحسبوا له حسابًا، ومع ذلك فقد بقيتم في إضرام نار المعركة، لأنَّكم تريدون أن تستردوا هيبتكم بعد أن صفعتم على مرأى من الناس، واقترفتم في حق المسلمين ما لم تقترفه أية أمة في حقهم، ولهذا فالتهديدات التي تأتيكم من هنا وهناك ومن عدة جماعات مسلحة تنتسب إلى الإسلام لتضربكم في قعر داركم مرَّة أخرى ما هي إلا بسبب ما اقترفتم في حق المسلمين، بغض النظر عن شرعية الفعل أم عدمه، وقد صدَّق هذا القول أناس كفار حين رأوا الإجرام الأمريكي في تعامله مع دول الشرق الأوسط التعامل الممقوت, ومنهم الأستاذ الأمريكي [وارد تشرشل] في جامعة كولورادو الأمريكية حيث قال: [إنَّ 11 سبتمبر نتيجة طبيعية للسياسة الأمريكية في الشرق الأوسط، وحملة الإبادة الجماعية ضد العراق]. ولذلك شنَّ اللوبي الصهيوني، واليمين المتشدد، حملة دعائية ضده مطالبة بعزله من السلك التعليمي، وحين واجه ذاك تشرشل ردَّ عليهم قائلاً: [لن أتراجع قيد أنملة... أنا لست مدينًا لأحد بالاعتذار], وهذا السفير البريطاني السابق في روما يقول منتقدًا النتائج السلبية لسياسة بوش في حرب ما يسمى بالإرهاب حيث يقول: [بوش خير من يجند للقاعدة].

ولنذكر مثلاً أخيرًا من كلام أحد المقايضين للعنترية الأمريكية، فالمحلل السياسي [ديفيد يوك] - وهو مرشح سابق للرئاسة وعضو سابق في مجلس النواب عن ولاية [لويزيانا] - يقول في مقال له بعنوان: [لماذا هوجمت أمريكا]: [يجب علينا أن نتحلى بالشجاعة الكافية كي نضع في الاعتبار الأسباب الحقيقية وراء كره العالم لنا ـ إذا اكتملت كل الحقائق لدينا ـ بدلاً من العبارات الممجوجة والمستهلكة مثل [الهجوم على الحرية], عندها فقط نستطيع أن نقرر ما هي أفضل السبل لحماية شعبنا في المستقبل].

5ـ المكر والمراوغة والدجل السياسي، والنفاق المبطَّن، والخداع الكاذب، والتهرب من الحقيقة، وهو منطق فرعون حين قال: {مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي فَأَوْقِدْ لِي يَا هَامَانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَلْ لِي صَرْحاً لَعَلِّي أَطَّلِعُ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لأَظُنُّهُ مِنَ الْكَاذِبِينَ}.

ويذكر أنَّ لينين حين أسَّس الاتحاد السوفيتي أعلن مبدأه المعروف: [اكذب واكذب حتى يصدقك الناس], وهذا الأسلوب تمارسه الإدارة الأمريكية وبدهاء، لإخفاء الحقائق عن الناس، فالمرشح الأمريكي جون كيري كان يقول للشعب الأمريكي كما في إحدى المقالات التي نشرت في نيويورك في الأشهر الأخيرة: [إنَّ أمريكا ستواصل الضغط على الدول العربية لوقف الإساءة إلى اليهود وإثارة الكراهية ضدهم], وهذا كولن باول يقول في مؤتمر صحفي في العراق: [نحن لسنا محتلين... لقد جئناكم كمحررين... لقد حررنا عددًا من البلدان, ولا نملك شبرًا واحدًا في أي من تلك البلاد, اللهم إلا حيث ندفن موتانا].

وممَّن بيَّن نفاق كولن باول ودجله السياسي؛ المفكر الأمريكي الراحل [إدوارد سعيد] ـ الفلسطيني الأصل ـ حيث كتب: [إنَّ كولن باول وصل في خطابه للأمم المتحدة، والهادف إلى سوقها إلى الحرب إلى حضيض من الرياء الأخلاقي والغش السياسي], ولو أتى رجل لم يعرف بأمور السياسة شيئاً لقال بعد سماعه خطاب باول السابق ذكره: إنَّ هذا الرجل بريء جداً وللغاية، وهو لا يريد إلا الخير للناس والإنسانية جمعاء!!

لقد ذكرني هذا الرجل - وكنت ناسيًا - بمَثَل أحفظه من قديم عن مثل هؤلاء الساسة وهو: [تكلم بلطف واحمل عصًا غليظة] وصدق من قال:

ما جئت تنشر سلماً في مواطننا لكن أتيت بتضليل وتمويه

فهؤلاء القادة شابهوا فرعون في خطاباته حين كان يقلب الحقائق، ويكذب على الناس، ويتلاعب بعقول البسطاء بقوله عن موسى ـ عليه السلام ـ: {إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الأَرْضِ الْفَسَادَ}, وكم سمعنا من دهاقنة الإجرام الأمريكي، أنهم ما أتوا للشرق الأوسط إلا لنشر قيم الحرية والتسامح، والديمقراطية والعدالة، ومن ذلك قول الناطق الرسمي باسم البيت الأبيض سكون ماكميلان: [إنَّ الطريقة الأفضل لتكريم كلِّ الذين فقدوا حياتهم في الحرب ضد الإرهاب هي مواصلة شنِّ حرب مكثفة ونشر السلام في المناطق الخطرة في العالم].

والعجيب أنَّ هؤلاء الجلاوزة يتحدثون بهذا الحديث أمام شعوبهم, وشعوبهم المخدرة الغافلة تصفق لهم وتهتف؛ ظانين أنهم هم رعايا السلام وحمائم العدالة، وقد شابه رؤساء أمريكا في استخفافهم بشعوبهم؛ فرعون حيث قال تعالى عنه: {فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْماً فَاسِقِينَ}, ومع ذلك فهؤلاء القادة ومع جرائمهم التي لا تحصر يرفعون شعارات العدالة والحرية، وكلهم حقد دفين على الإسلام، ويتعاملون مع أبنائه بسياسة الكيل بمكيالين وازدواجية المعايير، ويحق العجب حين نجد أنَّ أمريكا تدعم انفصال تيمور الشرقية النصرانية عن إندونيسيا، وتحمي وتساند حركة الانفصال في جنوب السودان، وبالمقابل فإنَّها تبقي كشمير المسلمة أسيرة في أيدي الهندوس، وفلسطين أسيرة في أيدي يهود، ومع ذلك ينادون بأهمية مكافحة الإرهاب، وإيقاف إفساد الجماعات المسلحة في شعوب الأرض، وما علموا بل يعلمون ويتجاهلون أنهم على رأس الإرهاب، والإفساد بكل معانيه.

ومن أجمل ما قرأت في هذا الصدد ما قاله الملياردير الأمريكي جورج سوروس متحدثًا عن ازدواجية الإدارة الأمريكية: [الرئيس بوش عندما يتحدث عن ضرورة بقاء الحرية، فإنَّه يقصد بذلك ضرورة بقاء الولايات المتحدة!!], وتأخذنا الدهشة حينما نقرأ ما نقل عن بوش وكأنه الرجل المكافح لإبقاء روح السلام بين شعوب العالم قائلاً: [من أجل مستقبل الحضارة يجب أن لا نسمح لأسوأ قادة العالم بتطوير ونشر أسلحة الدمار الشامل لابتزاز بلدان العالم], والحقيقة أنَّ من يستمع لكلام هذا الرجل وهو جاهل بما تفعله أمريكا يظنُّ أنَّ هذه الدولة ليس عندها مصنع واحد لأسلحة الدمار الشامل الذرية أو النووية أو الكيماوية أو غيرها، وكأنَّ الذي دمَّر وهشم هيروشيما مجموعة قراصنة أو عصابات المافيا، ولم تكن ترتضيه أمريكا.. مع أنَّه وفي وقت متأخر [كشفت صحيفة 'هيوستن كرونيكل' النقاب عن مصنعٍ في ولاية لويزيانا الأمريكية تنتج غاز الخردل السام، والذي يعتبر أحد أكثر الأسلحة الكيماوية خطورة في العالم، إذ يكفي سقوط نقطة واحدة منه على بشرة أي إنسان تسبب وفاته خلال دقيقة على أبعد تقدير.

ويذكر أن معاهدة خطر الأسلحة الكيماوية التي صدَّقت عليها الولايات المتحدة في العام الماضي، تمنع الإنتاج المقصود لكل مشتقات الخردل، وكشفت الصحيفة عن أن المصنع يستخدم أيضًا مركبًا كيماويًا آخر يعرف باسم [كلوريد الإثيلين], وهو سائل يهاجم الكبد والرئتين والكلى، ويمكن أن يسبب السرطان أيضًا!].

ومن تلاعب بوش بشعبه الساذج ما قاله أيام الانتخابات الرئاسية لهم: [أعطوني أربع سنوات إضافية وستنعم الولايات المتحدة بمزيد من الأمان وتصبح أفضل وأقوى], ورحم الله القائل: [فهل هناك أطرف من أن يقول فرعون الضال الوثني، عن موسى ـ عليه السلام ـ {إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسَادَ}, أليست هي بعينها كلمة كل طاغية مفسد عن كل داعية مصلح؟! أليست هي بعينها كلمة الباطل الكالح في وجه الحق الجميل؟! أليست هي بعينها كلمة الخداع الخبيث لإثارة الخواطر في وجه الإيمان الهادئ؟ إنه منطق واحد يتكرر كلما التقى الحق بالباطل، والإيمان بالكفر، والصلاح بالطغيان على توالي الزمان واختلاف المكان، والقصة قديمة مكررة تعرض بين الحين والحين].

وبعد ذلك فإني أدع المجال للقارئ الكريم ليقارن خطابات الطغاة السابقين مع أحد خطابات بوش, حيث وقف متحدثًا أمام الكونغرس حول قضية أفغانستان قائلاً: [الرجال والنساء الأفغان الآن أمَّة حرة تحارب الإرهاب وفخورة بأبنائها!].

6ـ سياسة الطرد والإبعاد والسجن لكل رجل خالفهم، وغياب روح التسامح، وحرية الرأي المزعومة! تحت الحجج الواهية, وهو منطق من قال: {أَخْرِجُوهُمْ مِنْ قَرْيَتِكُمْ}، ومنطق قوم شعيب حين قال تعالى على لسانهم: {قَالَ الْمَلأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَنُخْرِجَنَّكَ يَا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا} [الأعراف: 88] .

ولا شك أنَّ هذا أمر واضح بيانًا عيانًا، فكم من شيخ كبير أسرته هذه الدولة بتهم باطلة أو ملفقة عليه وسجنته عدة سنوات لأنه يقول: ربي الله، وكم من داعية ضيق الخناق عليه فخرج من ديارهم إمَّا مكرهًا وإمَّا لسوء التعامل معه والاضطهاد والأذى، وبهذه الفظاظة فلا يعجب المرء حين يجد أن هناك جماعات في بلاد الإسلام تقتل الأمريكي ولو كان مستأمنًا أو حتى معارضًا لسياسة بوش وزبانيته بسبب كفره بالله، ولشدة ما يلاقيه المسلمون في أمريكا من المضايقات القولية أو الفعلية.

وفي هذا المقام أتذكر قول الكاتب الأمريكي [نورمان ميلر] حين قال: [أمريكا أصبحت أكثر فظاظة، وربما أصبح العالم كلُّه يسير في هذا الطريق؛ لأننا نقوم بتصدير هذه الفظاظة، إنَّها واحدة من أكبر سلعنا الثقافية: اللغو].

وحين نسترجع ذاكرتنا ونرى ما فعلته أمريكا من الطرد والإبعاد والإهانة والسجن والتقتيل سواء قبل ضربة أمريكا أو بعدها لوجدناه أمرًا يصعب حصره، ويملُّ الإنسان من ذكره، للكثرة الكاثرة من عمليات السحق والسجن والإبادة.

لقد قال [جيف سيمونر] في كتابه [حرب الخليج وحرب العراق]عن هذه المأساة : [أعرف مراقبين غربيين أصيبوا بالكآبة والانهيار العصبي بسبب ما شاهدوه من التعذيب الأمريكي لأطفال العراق].

ولو تذكرنا ما لاقاه المسلمون في سجون جوانتنامو تحت إشراف الطغمة الأمريكية من الأذى والتنكيل ومحاولة إطفاء السجاير في أدبار المعتقلين والبول على القرآن أمامهم واستفزازهم جنسيًا وحبسهم عراة ينظر المعتقل لعورة الآخر، وتربيطهم عدَّة أسابيع بحبال موثقة مع إحناء ظهورهم، وتكميم وجوههم ليصابوا بالأمراض العضوية والنفسية، وكل ذلك سمع به العالم!!

وكم سمعنا من أناس كانوا معتقلين في هذه المعتقلات أجريت معهم لقاءات وحوارات سواء في المجلات أو مواقع الإنترنت أو الفضائيات ليذكروا الوحشية الأمريكية في التعامل مع أسرى الحرب، ولا ننسى كذلك ما تعرَّض له إخواننا في سجن 'أبو غريب' في العراق, [فقد التقط الجندي الأمريكي [جوزيف داربي] ألفي صورة عبر كاميرا إليكترونية حديثة من سوق المعتقلين العراقيين عرايا، وتوصيلهم بالأسلاك الكهربائية، وإجبارهم على ممارسة الشذوذ بعضهم مع بعض, واغتصاب للفتيات. بل اعترف قادة أمريكيون في محضر سري بأنَّ كلابًا مدربة التهمت الأعضاء الذكرية لـ[300] معتقل ماتوا جميعًا، ومصرع [60] طفلاً عراقيًا بعد تقطيع أطرافهم أمام أمَّهاتهم في سجن 'أبو غريب'، وكذلك وفاة العديد من النساء العراقيات بالصدمة بعد إطلاق الكلاب للتحرش الجنسي بهن، واستخدام [12] أسلوبًا للتعذيب النفسي، وكانت هذه الأساليب مقترحة من البنتاغون، مع الاغتصاب العلني الجماعي للمعتقلات العراقيات], وما قصة المجاهدة الشهيدة ـ بإذن الله ـ فاطمة العراقية عنَّا ببعيد, حيث ذكرت برسالة أرسلتها قبل أن تستشهد أنه في يوم واحد اغتصبت تسع مرَّات مع الإجرام في التعامل معها في اغتصابها وإجبارها على التميع للعلوج الأمريكان في حالة اغتصباها، وهي تتأبى وترفض.. رحمها الله رحمة واسعة, ورفع درجتها في عليين، وأسكنها مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، وإنَّا لله وإنَّا إليه راجعون.

أفبعد ذلك يدعى أنَّ أمريكا راعية السلام، كلاّ, بل هي راعية الحِمَام، فهو الوصف اللائق بها، وكذب من ادَّعى بأنَّ لديها الحرية، أو من قال بذلك من أحد كبرائها فإنما هي حرية الاستغلال والنفعية لأجل المصلحة الخاصة بها ليس إلاّ!!

ولن يصف بنو الإسلام هذه الدولة بأنها حاملة الحرية والعدالة، فإنَّ لأهل الحرية علامات، ولمنتسبي العدالة منهج يقوم على القسط والتحري، وصدق من قال:

وكيف يصحُّ أن تدعى حكيمًا وأنت لكل ما تهوى ركوب

وإن كانت أمريكا بلاد حرية حقًا فلماذا يضيق الخناق على بعض أبنائها المفكرين المعارضين لحروبهم الإرهابية، بل ومنعهم من الحديث في الفضائيات الرسمية، لماذا يفعل ذلك؟ أليست أمريكا بلاد الحرية وشعارها تمثال الحرية؟ فلماذا يمنع الكتاب المناوئون لها من الكتابة في بعض صحفهم، أو الحديث أمام الشعب الأمريكي لتوعيته بإجرامية الحرب الأمريكية؟ فأين الحرية؟ يا أدعياء السلام والحرية؟ ولقد بان كذب كوندوليزا رايس حين قالت: [القيم الأمريكية قيم عالمية يستطيع الشعب أن يقول ما يفكر به، وأن يعتقد بما يشاء].

'فنقول: ليفسح التلفاز الأمريكي للمناهضين لحروبكم الإرهابية، أليسوا هم مفكرين وقيمكم تسمح لمن يفكر بأن يقول ما يفكر به ويعتقده، فلتفسحوا المجال للكثير من الكتَّاب الذين منعوا من الكتابة في صحف أمريكا أو الحديث في الفضائيات الأمريكية بسبب معارضتهم لحروبكم الجائرة.

ولا يزال يساورنا العجب من فعلة [ريتشارد بوتشي] الناطق باسم الخارجية الأمريكية، إزاء مقال الكاتبة السعودية أميمة الجلاهمة عن فطير صهيون، وهي حادثة تاريخية وثَّقها جمع من المعنيين، فقد رأى فيها ريتشارد تحريضًا ضد السامية، وعلى إثره تمَّ فصل الكاتبة من الجريدة التي نشرت المقال، ومنعت من الكتابة فيها!! فأين الحرية يا أدعياءها؟!

وهذا نعوم تشومسكي، والذي ضيق عليه في الإعلام الأمريكي، وهو وإن كان يهوديًا كافرًا فإنَّ له مواقف مُشَرِّفة في الدفاع عن بعض القضايا الإسلامية وفضح النظام الأمريكي, حتى إنَّه وصف هذه الدولة في آخر كتبه التي أصدرها بأنَّها [الدولة المارقة], ووضع عنوان الكتاب بهذا الوصف، ومن جميل ما وُصف به هذا الكتاب ما قالته [إندبندنت أون لاين سانداي] بأنَّ [الدولة المارقة عبارة عن مضبطة اتهامات يجب أن ترمى بحجر في وجوه مسؤولي الإدارة الأمريكية في واشنطن], بل ألَّف رجل آخر وهو [وليم بلوما] كتابًا أسماه [الدولة المارقة], وذلك لما رآه من سياسات الإجرام التي تمارسها الإدارة الأمريكية.

وحينئذٍ فهل بعد هذه الجرائم المرتكبة من رؤساء هذه الدولة الطاغية، تجعلهم في الصدارة والريادة؟! أم أنَّهم يظنون أنَّ أفعالهم تلك سترفع منزلتهم عند الله أو عند خلقه الضعفاء؟! كلا، فإنَّه سبحانه وتعالى يقول: {لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ وَلا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيّاً وَلا نَصِيراً} [النساء: 123].

إنَّ سنن الله جارية ماضية وهي لا تحابي أحدًا, ولا تجاري دولاً، ولن يبقى على ظهر هذه الأرض إلا الحق السامق، وستزول بعدها رايات الكفر والإفك والظلم، ولقد تفرَّس الكثير من أبناء هذه الدولة بزوالها حين رأوا ما اقترفت، وأدرك البعض الآخر مكمن الخطر, فبدأ يصيح في آذان الأمريكان بعنوان: أدركوا أنفسكم قبل فوات الأوان!!

ولقد قالها توماس جيفرسون في كتابه [ملاحظات عن ولاية فرجينيا عام 1784ـ1785م] بعد أن رأى ملامح الفساد ينخر في القيم الأمريكية فقال: [أرتجف خوفًا على بلادي عندما أفكِّر بأنَّ الله عادل!!].

وحين فاز كلينتون وأيده الرأي العام الشعبي الأمريكي وانتخبه على الرغم من معرفته بتورطه مع مونيكا ليونيسكي في فضيحة خُلُقِيَّة، علَّق المؤرخ الأمريكي [تيد هاير] على ذلك فقال: [إنَّ أمَّة تقبل أن يقودها شخص على هذا القدر من الانحطاط الأخلاقي لا يمكن أن تستمر في تبوء قيادة هذا العالم].

ويقول السناتور[توم هاركن] ممثل ولاية [أيوا] الأمريكية في مجلس الشيوخ: [إنَّ بوش وجماعته اليمينية يجب أن يطردوا من البيت الأبيض لأنهم يقودون أمريكا إلى الخراب في كلِّ مجال].

وهذه العجوز وزيرة الخارجية الأمريكية السابقة [مادلين أولبرايت] تقول عن بوش: [الرئيس دمَّر سمعتنا ودمَّر مصداقيتنا وهيبتنا الأخلاقية، إنَّ العالم اليوم في فوضى], وبناءً على ذلك, فهل يظنَّ ظانّ بأنَّ هذه الدولة ستبقى باقية أبد الدهر كما هو الرأي الذي مشى عليه فوكوياما وغيره.

إنَّ غمامة الإجرام الأمريكية التي ظلَّلت العالم منذ قرن من الزمان وآذتهم بشتى أساليب الإيذاء، وتعدت على دمائهم بل تغذَّت عليها، إنَّ هذه الهمجية التي تتعامل بها أمريكا مع شعوب الأرض لن تبقى، كيف والله قد توعد الظَلَمة بالإهلاك، وعدم المكوث الرئاسي على هذه الأرض.

لقد بشَّر الكثير من مفكري أمريكا بسقوط هذه الدولة، وعدم بقائها على ظهر البسيطة، لأنها تعدت في حقوق الحق، وفي حقوق الخلق، ومن ذلك ما قاله توماس شيتوم وهو من قدماء المحاربين في فيتنام وصاحب كتاب الحرب الأهلية الثانية: [أمريكا ولدت في الدماء، رضعت الدماء، وأتخمت دماءً، وتعملقت على الدماء، ولسوف تغرق في الدماء!!].

وصدق، فإنَّ أمريكا حين أهينت كرامتها في ضربة سبتمبر، أرادت أن تستعيد كرامتها بالنيل من دماء المسلمين وتكوين الأحلاف ترغيبًا وترهيبًا ليواكبوها في حملتها ضد ما يسمى بالإرهاب، ولا أشبهها إلا بكفار قريش وطغاتهم، حين استنقذوا القافلة التي كانت متوجهة من الشام إلى مكة وفيها من الأحمال والقوت الشيء الكثير، ولمَّا انتدبت سرية من سرايا الإسلام لتستولي على هذه القافلة، ولم يتمكنوا من ذلك، لحماية كفار قريش لها، أرادوا بعدئذٍ أن يرجعوا إلى مكة بعد حمايتهم للقافلة، ولكن رؤساء الكفر، ورموز الغرور في الأرض، أرادوا أن يتغطرسوا وينتفشوا أمام كفار العرب ومن حالفهم، فقال أبو جهل: لا والله لن نذهب إلى مكة، بل سنبقى في مكاننا هذا مدَّة ثلاثة أيام تغني لنا فيها القيان، وتُذبحُ لنا الجزور، حتى يتسامع العرب بأنَّ قريش قوة لن تغلب، ودولة لن تقهر أو تكسر، فماذا فعل لهم غرورهم ذاك؟!

ولقد حذَّر الله تعالى عباده من مشابهة الكافرين بطرًا وكبرًا فقال: {وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بَطَراً وَرِئَاءَ النَّاسِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ} [الأنفال: 47]. وحين قامت معركة بدر حطَّم ثلَّة من سرايا الجهاد جبروت كفار قريش، وقتلوا قادتهم، وكان منهم أبو جهل، بل أجهز عليه حَدَثَان من شباب الإسلام، لينطفئ الكبر الجاهلي المزروع في قلب أبي جهل، وليعلو عليه، أصغر القوم سنَّا، معاذ ومعوذ، وأقلُّهم مالاً وجسمًا، عبد الله بن مسعود، وليرتقي المرتقى السهل على جثَّة أبي جهل الهامدة، وهو يغرغر، ليعلم الطغاة أنَّ مصيرهم في الدنيا إلى سفول، ومصيرهم في الآخرة إلى جحيم ووبال، وقد أخرج الإمام مسلم في صحيحه مرفوعًا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أنّه قال: [يحشر المتكبرون يوم القيامة مثل الذر يطؤهم الناس بأقدامهم].

وختامًا:

فإنَّ قيادة الأمم، وريادة الشعوب راجعة إلى هذه الأمة الإسلامية بلا محالة, بعز عزيز أو بذل ذليل, عزَّا ًيعزُّ الله به الإسلام وأهله، وذلاًّ يذلُّ الله به الكفر وأهله، فأمريكا الطاغية لن تظل باقية، ورسول الهدى عليه السلام علَّمنا بأنَّه [حقٌ على الله أن لا يرتفع شيء من الدنيا إلاّ وضعه]. ولتسقط أمريكا، فورق التوت قد ذبل وتساقط, ولم يطق العيش مع مزوِّري الحقائق، حينها ترامى على الأرض لتنكشف عورات الرئاسة الأمريكية: {لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَة}.

يا دامي العينين والكفين إنَّ الليل زائل

لا غرفة التعذيب باقية ولا زَرْدُ السلاسل

وحبوب سنبلة تجف ستملأ الوادي سنابل

فأمَّة كافرة ظالمة متكبرة كاذبة مزورة للحقائق مدعية الربوبية ومفسدة في الأرض ومجرمة في حقوق الحق والخلق, هل ستبقى في علو وارتفاع، وينيلها الله ـ جلَّ وتعالى ـ الدرجات العلى يوم القيامة؟! كلاّ, فقد قال تعالى: {تِلْكَ الدَّارُ الآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوّاً فِي الأَرْضِ وَلا فَسَاداً وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} [القصص: 83]. فأبشري أمَّة الإسلام, وأمِّلي الخير من ربك، وتفاءلوا يا جند الرحمن، واصبروا وصابروا ورابطوا، فإنَّ سقوط دولة طاغية لا يتمُّ بين عشية وضحاها، فالاحتضار قد يطول، والله عزَّ وجلَّ حين بشَّر المسلمين بسقوط الفرس وهزيمتهم أمام الروم قال: {الم * غُلِبَتِ الرُّومُ فِي أَدْنَى الأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ * فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ بِنَصْرِ اللَّهِ * يَنْصُرُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ * وَعْدَ اللَّهِ لا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} [الروم1ـ6]. لكن لنعلم أننا إذا أردنا خلافة الأرض والتصدر لقيادة الأمم وحكمها بالإسلام، فإنَّه تعالى قد طلب منَّا طلبين: الإيمان به حقَّ الإيمان, والعمل الصالح, فإن حقَّقناهما فسيعطينا مقابلها أربعة، وتأمل قوله تعالى: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [سورة النور: 55]. فلنتفاءل ولنمضِ على طريق الإباء، فإنَّ مما يبشرنا أنَّ الأمة الإسلامية ولله الحمد أمَّة شابة نامية ولود، وراجعة لكتاب لربها وسنة رسولها، ولا أدلَّ على ذلك من هذه الصحوة الإسلامية، واليقظة العلمية الفكرية الجهادية الدعوية في أوساط شباب الأمة.. وهاهو المارد الإسلامي ينتفض ويخلع عنه ثوب الانكسار، وأوهاق الكسل، بهبة إيمانية، وشبَّة عمرية، وعزمة علية...

ستشبُّ كالبركان يَقْظَةُ أمةٍ والفجر من خلف الدياجي مقبل

ولست والله مغرقاً في التفاؤل، ولا متحمسًا بالتعبير عن عودة الكثير من أبناء هذه الأمة لدينها القويم، والاستمساك بحبله المتين، فمن يقارن واقع المسلمين الآن وواقعهم قبل قرن أو أقل قليلاً سيجد بونًا شاسعًا، وفرقًا هائلاً، ولن أفرط في ذلك، فإنَّ غدًا لناظره قريب، والأيام حبالى والدات كل أمر جديد.

لا لن نذل فهذه راياتنا رغم العواصف والدجى لم تحجم

لا عزَّ إلا بالكتاب يقودنا أكرم بأحسن قائد ومعلم

فيا رجل الإسلام امض واقتحم.. أنت لها، فالنصر عن قريب، بسواعد الإيمان المتوضئة، وبالقلوب النقية الطاهرة، وبالسير على منهج سلف الأمة عقيدة وعبادة وعلمًا ودعوة وعملاً وجهادًا.. تنصر الأمة، وتزقزق عصافير الترحاب، وتهدل حمائم السلام لأمة السلام، ويعلو الخير في سمائنا الزرقاء، وتبقى البشرية في سعادة وهناء تحت ظلِّ الخلافة الراشدة على منهاج النبوة، ولن يخيب الله الظن، ولن يرد الأمل، فهو معنا وناصرنا، وهل يخذل الإله الحق معبوده المتمرغ له بعبادته على ظهر البسيطة؟!

بقلم: خباب بن مروان الحمد

=============

#معوقات وعوامل نهضة الأمة.. قراءة تحليلية نقدية لنخبة من المفكرين والدعاة [1/2]

ذي الحجة 1423هـ

الصفحة الرئيسة

يعترف حكماء الأمة بأننا في مرحلة ضعف، مرحلة نبحث بها عن ملامح الهوية التي افتقدناها في خضم المتغيرات الكثيرة والمستجدات المتلاحقة في مختلف جوانب الحياة من غير قوة أو حيلة منا وبلا مشاركة تذكر.. وإذا كان بعضنا مازال يجري وراء هذه المتغيرات بدون رؤية مستندًا لعمق حضاري واضح فإن الأغلب يكتفي بالفرجة والقليل جدًا يحاول أن يفعل شيئًا ولأن مناعة الأمة في أدنى مستوياتها فقد تأثر بعض مثقفينا وأصحاب الشهادات العالية فقدموا الحلول مخلوطة يشوبها دخن غربي أو شرقي يزيد الطين بلة، ولأنهم نخبة هذا الزمن الرديء فقد أسهموا في تكريس الضياع والاغتراب الثقافي والعقائدي فخدعوا الحاكم برأي أرضي هابط وضللوا الأمة بريادة كاذبة لا جذور لها ولا استقرار.

مجلة [المنار] وكما عودتكم تطرح هذه القضية لمجموعة من المفكرين والعلماء وأصحاب الرأي، لعلنا نقف على العلاج العملي المبرمج أو شيء منه.. بل لعلنا نشحذ فكر القراء فيكتبوا إليها بآرائهم لننشرها وتسهم في تحريك الماء الساكن.

التدريب على العمل المؤسسي:

فضيلة الشيخ الدكتور/ محمد موسى الشريف ركز في بداية مشاركته بهذا الملف على التدريب على العمل المؤسسي فقال:

إن التدريب على العمل المؤسسي ضرورة من ضرورات العمل الإسلامي في هذا العصر، وهو طريق النجاح والإحكام لهذا العمل، ومن المؤسف أنه إلى الآن لا توجد مؤسسات تدرب على العمل الإسلامي, ولا يزال يعتلي سدة التوجيه في الأعمال الإسلامية العامة من لم يدرب التدريب الكافي أو لم يدرب على الإطلاق، وهذا عجيب إذ إن هذا الأمر غير مقبول في الأعمال الإدارية والتجارية والسياسية والاجتماعية وغيرها، فلماذا يقبل في العمل الإسلامي؟ ولماذا نجد الخطباء غير المؤهلين ولا المدربين؟ ولماذا نجد من يتولى الأعمال الإسلامية العامة مثل العمل الخيري والإغاثي والتربوي وهو لم ينل قسطًا وافيًا من التدريب؟

معيشة ضنكًا:

وأرجع الدكتور محمد موسى الخلل في جسم الأمة إلى عدم تطبيق المجتمع لكتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم حيث نعيش بعيدًا عن ديننا وإسلامنا وحضارتنا، وسبب لنا هذا ضعفًا وهوانًا، مصداقًا لقوله تعالى: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا} [طه: 124] وهذا بالضبط هو الضنك الذي نعيشه الآن، بالرغم من أننا نملك مقومات أمة: فعندنا شعب ذو عدد كبير، ويجمعنا دين واحد، وثقافة واحدة، واللغة العربية مفهومة عند جمهور عريق من المسلمين، وبلادنا متجاورة... لكننا بحاجة إلى الاستفادة من هذه المقومات وتحويلها إلى طاقة فاعلة تحت توجيه القرآن والسنة.

من معوقات النهضة:

يرى الدكتور محمد موسى الشريف أن من أهم معوقات النهضة عدم الاستفادة مما تحت أيدينا من توجيهات وإرشادات مبثوثة في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم.

بالإضافة للفوضى الشاملة في الجوانب الإدارية والاجتماعية.

والنهب الداخلي للثروات ومقدرات الأمة.

وافتقارنا للإدارة السياسية القوية الجامعة للأمة والقادرة على النهوض.

كل ذلك أغرى الأعداء فتكالبوا علينا وحاكوا المؤامرات الضخمة للوقوف عقبة أمام نهضتنا.

دور الشباب:

ويؤكد الدكتور الشريف على دور الشباب وأهمية مشاركته بالنهضة فيقول: لابد للشباب أن يعودوا للإسلام ويفهموا ثقافته الصحيحة، وبدون ذلك لا مجال للاعتزاز بالقيم والتعاليم الإسلامية، ولهذا السبب رفض شيراك افتتاح مطعم ماكدونالدز في برج إيفل بباريس لأنه يؤثر على الثقافة الفرنسية الفرنكفونية، والأهم من اللباس والأثاث والطعام بناء العقول بناءً صحيحًا وغرس المفاهيم الإسلامية في نفوس الجيل الصاعد وغرس القدوات العظام في أذهان الشباب والشابات حتى ينشأوا على حبهم والاقتداء والتأسي بهم لأن الشاب خاصة يقتدي بأناس من الممثلين والممثلات واللاعبين واللاهين مما يدمر شخصياتهم تمامًا ويجعلهم إمعات لا قيمة لهم ولا هدف ولا غاية.

وينبغي أيضًا أن يُفهَّم الشباب أن الأمة بحاجة لهم ولجهودهم وأنها تنتظرهم لإنقاذها؛ ذلك أن الشباب يحب التحدي، وإثارة كوامن التحدي في قلوب وصدور الشباب من أهم المثيرات لهم حتى يتحركوا لنجدة الأمة ورفعتها.

أ/ محمد أحمد الحساني:

مما يؤخذ على الخطط والبرامج الإسلامية كونها لا تقوم في معظمها على استراتيجية شاملة تأخذ في الحسبان جميع العوامل التي تؤدي إلى نهضة الأمة وتمكينها من اللحاق بالأمم الأخرى، فهي برامج عاطفية تنتج عن انفعال مؤقت، وهذا بالتالي يؤدي إما إلى عدم بلوغ تلك البرامج لأهدافها المأمولة، أو عجزها عن ضمان حياة كريمة لمن طبقت لهم تلك البرامج، وعلى سبيل المثال فإن هناك مشاريع تكلف عشرات الملايين من الدولارات لبناء مساجد ومراكز إسلامية في مناطق مختلفة من العالم، وأخرى لإنشاء معاهد دينية ومدارس لتحفيظ القرآن الكريم، وكل ذلك حسن إن لم يكن مبالغ في الإنفاق عليه، ولكن خريجي تلك المؤسسات الإسلامية قد يتضورون جوعًا وهم يحملون شهاداتهم فلا يجدون عملاً يقتاتون منه لأن تعليمهم نظري ولا يستفيد منه مجتمعهم العام ولا تكون لهم فرصة إلا العودة كمعلمين في الجهات التي خرجتهم وهي جهات محدودة الطاقة والإمكانية، فلو كان هناك عمل استراتيجي كأن يقام بجوار كل مسجد ومركز إسلامي معهد مهني وآخر صحي وثالث لتدريس علوم الاتصالات ورابع للمحاسبة والتسويق والعمل القيادي المنظم وخامس للمهن البسيطة الأخرى، فإذا تخرج الشاب من المعاهد الدينية أو المراكز الإسلامية أو مدارس تحفيظ القرآن الكريم فإنه يكون في الوقت نفسه مهيأ لسوق العمل في مجتمعه مشاركًا في بنائه رافعًا رأسه محققًا صورة المسلم المعطاء المنتج الذي لا يعيش عالة على المجتمع، ولذلك فلابد من توجيه الجزء الأكبر من الأعمال الخيرية والتبرعات لتأهيل الشباب المسلم للعمل والإنتاج إضافة إلى تأهيلهم الديني وهذا يتطلب وعيًا خاصًا لدى من يمولون المشاريع الإسلامية ومن يقومون بتنفيذها.

سهيلة زين العابدين:

نهضة على أسس غربية:

الدكتورة سهيلة زين العابدين حماد الداعية والمفكرة المعروفة كان لها مشاركة مميزة في ملف [معوقات وعوامل نهضة الأمة] وقد قالت عن معوقات نهضة الأمة:

الأسباب كثيرة، ويأتي في مقدمتها:

قيام نهضة الأمة في القرنين التاسع عشر والعشرين على أسس غربية غريبة عن الأمة، فحركة ما يسمى بـ'حركة التنوير' قامت على انبهار القائمين بها بالغرب، وتقليد الغربيين، وكان يسعى روَّاد هذه الحركة الأخذ بمناهج وطرائق الغرب في كل نواحي الحياة، وإبعاد الدين عنها، وقصره على أداء العبادات، ودعا بعضهم إلى فصل الدين عن الدولة، ولعل معظمنا قرأ ما كتبه الدكتور طه حسين في كتابه 'مستقبل الثقافة في مصر' الذي دعا فيه إلى الأخذ بالحضارة الأوروبية خيرها وشرها، حلوها ومرها، وما يحمد منها وما يعاب، وأن نسير سيرة الأوروبيين، ونسلك طريقهم. أيضًا الشيخ رفاعة الطهطاوي بعد عودته من باريس التي أقام بها خمس سنوات [1826 ـ 1831]، كتب في كتاب [تلخيص الإبريز في تلخيص باريز] و'إنَّ السفور والاختلاط بين الجنسين ليس داعيًا إلى الفساد'، كما نجده يقول في جرأة: 'وقوع اللخبطة بالنسبة لعفة النساء لا يأتي من كشفهن أو سترهن، بل منشأ ذلك التربية الجيدة والخسيسة'.

فنهضتنا الحديثة قامت ـ للأسف الشديد ـ على أسس غربية، ولم تقم على أسس إسلامية، بما فيها نهضة المرأة.

الغزو الفكري والثقافي:

ولم يتوقف الأمر عند هذا الحد؛ فلقد حرص الغرب على نشر المدارس الأجنبية في بلادنا؛ لإفقادنا هويتنا ومنذ أكثر من ثمانين عامًا، أي في أواخر القرن التاسع عشر ـ نشر الكاتب الفرنسي الشهير مسيو 'ايتين لامي' مقالاً خطيرًا في مجلة 'العالمين الفرنسية' دعا فيه إلى ما سمَّاه الخطة المثلى لهدم الإسلام فقال ما ترجمته:

[إنَّ مقاومة الإسلام بالقوة لا تزيده إلا انتشارًا، فالواسطة الفعَّالة لهدمه وتقويض بنيانه هي تربية بنيه في المدارس المسيحية، وإلقاء بذور الشك في نفوسهم منذ عهد النشأة، فتفسد عقائدهم الإسلامية من حيث لا يشعرون، وإن لم يتنصر منهم أحد فإنهم يصيرون لا مسلمين ولا مسيحيين، وأمثال هؤلاء يكونون بلا ارتياب أضرَّ على الإسلام مما إذا اعتنقوا المسيحية وتظاهروا بها].

ثم قال: [إن طريقة تربية أبناء المسلمين وإن كان لها من التأثير ما بينَّاه، فإن تربية البنات في مدارس الراهبات أدعى لحصولنا على حقيقة القصد ووصولنا إلى نفس الغاية التي وراءها نسعى، بل أقول: إن تربية البنات بهذه الكيفية هي الطريقة الوحيدة للقضاء على الإسلام بيد أهله].

ثم قال: [إن التربية المسيحية أو تربية الراهبات لبنات المسلمين توجِد للإسلام داخل حصنه المنيع عدوة لداء لا يمكن للرجل قهرها؛ لأن المسلمة التي تربيها يد مسيحية تعرف كيف تتغلب على الرجل، ومتى تغلبت هكذا سهل عليها أن تؤثر على إحساس زوجها وعقيدته وتبعده عن الإسلام، وتُربي أولادها على غير دين أبيهم، وفي هذه الحالة نكون قد وصلنا إلى غايتنا من أن تكون المرأة المسلمة نفسها هي هادمة الإسلام...].

وهكذا فإن الغرب، ومن ورائه الصهيونية العالمية قد نزع في محاولته للقضاء على الإسلام إلى سلوك طريقين في آن واحد؛ طريق نحو العقيدة الإسلامية، وطريق نحو الأسرة المسلمة.. وقد وصل في كلا الطريقين إلى كثير من مبتغاه، ففيما يتصل بالعقيدة الإسلامية قد استطاع أن يغرس الإلحاد في رؤوس المحسوبين على الإسلام زورًا وبهتانًا، كما استطاع أن يُوجِد الفرق المتعددة لمناهضة الحقيقة الإسلامية، فأبرز ألوانًا من التيارات الخطيرة الهدَّامة، كالقاديانية، والبهائية، والماسونية، والعلمانية، والشيوعية وغيرها.

كما تسلل إلى الأدب، ونشر مذهب 'الفن للفن' والأخذ بالمذاهب الفكرية الغربية لإشاعة الإباحية والإلحاد مثل: الواقعية الاشتراكية، والوجودية، والفرويدية، وغيرها، والحداثة بكل ما حوته من إلحاد وإباحية وتمرد على الدين والتراث لنبذ كل ما هو تراثي لنزع الإنسان المسلم من جذوره لتتحقق تبعيته للآخر إلى جانب حملات التنصير، وهذا ـ في رأيي ـ مرحلة ثانية من مراحل إعدادنا لتقبل العولمة، وذوباننا في الآخر.

ولقد نجح الاستعمار إلى حد كبير في سلخ معظمنا من دينه وتاريخه ولغته وحضارته، وأصبحنا ندين للغرب بالتبعية رغم تحررنا من سيطرته العسكرية، لقد كان استقلالنا من الاستعمار استقلالاً اسميًا، وهذه التبعية ستوقعنا تحت سيطرة المستعمر الأمريكي, والسيطرة الصهيونية اليهودية ما لم نفق من غفوتنا، ونتنبه إلى خطورة ما آل إليه حالنا، وما يخطط ضدنا.

عوامل نهضتنا:

كما أرجعت الدكتورة سهيلة زين العابدين في مشاركتها التعاسة التي يعيشها المسلمون إلى [قصور التربية الأسرية والتعليمية والاجتماعية] ولا زلتُ أُحمِّل المرأة جزءًا كبيرًا مما وصلنا إليه؛ إذ انشغلت بطموحاتها الشخصية وجريها وراء ما سمي بمساواتها بالرجل، مما أدى إلى إهمالها في تربية أولادها أوصلنا إلى ما نحن عليه من تبعية واستسلام وخنوع، فقد ذكرت الصحفية الأمريكية جوستي شاينر رئيسة تحرير صحيفة الواشنطن تايمز في بحثها الذي قدمته لمؤتمر المرأة بين الأسرة وسوق العمل ـ المنعقد في الدوحة بقطر ـ في الفترة من 26 ـ 29 إبريل عام 1997م ـ إنَّ هناك 80% من النساء الأمريكيات العاملات يرغبن في العودة إلى بيوتهن للتفرغ لتربية أطفالهن؛ إذ ثبت انخفاض المستوى الأخلاقي لأطفالهن لفشل دور الحضانة في القيام بعملية التربية، ويعتقد 64% أن بقاء الأطفال مع أمهاتهم في بيوتهم أفضل من دور الحضانة.

فإن كان القلق يسود المجتمعات الغربية من آثار خروج المرأة إلى سوق العمل على تربية النشء وأخلاقه وسلوكياته، فكيف بمجتمعاتنا الإسلامية المتمسكة بدينها، والمؤمنة بخالقها جل شأنه، وقد ظهر بين شبابها بعض الانحرافات العقدية والسلوكية، ومع هذا نراها تدفع المرأة إلى سوق العمل، دونما أن تراعي أنها أم وزوجة.

فلتنهض أمتنا، ولتجتاز هذه المحنة، ولتكون ثقافتنا ثقافة إسلامية واعية صامدة أمام تحديات العولمة، فارضة ذاتها على الآخر لتكون النموذج الذي نقدمه للعالم في هذا العصر، وبدلاً من أن يفرض علينا الآخر ثقافته، وقد مرَّت علينا قرون، ونحن نتلقى من الآخر، فلقد آن الأوان أن نقدم ثقافتنا الإسلامية بكل رقيها وسموها وثراها وغناها وتجددها الدائم؛ لأنها من نبع لا ينضب، علينا أن نتبع الآتي:

الاهتمام بالتربية:

وعن عوامل النهضة دعت الدكتورة سهيلة للاهتمام بالتربية الأسرية ولاسيما التربية الروحية، فضعف الجانب الروحي في شبابنا ـ ذكورًا وإناثًا ـ هو العامل الرئيس في هذا الانحراف العقائدي، وتنمية هذا الجانب، وغرسه في روح الأبناء غرسًا سليمًا هو القاعدة الأساسية في الإصلاح، لما للتربية الإسلامية من أهمية بالغة في غرس حب الله والإيمان به في النفوس, ومراقبته والخوف منه، فللتربية الروحية أهمية بالغة في تحديد عقيدة النشء يجب الاهتمام بها، والتركيز عليها منذ الطفولة المبكرة ليستطيع الأبناء مواجهة تحديات العصر، وتيارات التشكيك الموجهة ضد ديننا وعقيدتنا بعقيدة ثابتة لا تتأثر بتلك المحاولات، تصبح له إرادة قوية يستطيع أن يصمد بها أمام المغريات، ويعالج نفسه من الانحرافات، بالاعتراف بالذنب، والتوبة النصوح والاستغفار، ويقاوم مصائب الدهر بالدعاء، وليس إلى ما يغيب عقله كالمخدرات والمسكرات، كما يكتب معظم كتاب القصص والروايات.

كما دعت الدكتورة سهيلة إلى ضرورة إعادة النظر في مناهج التعليم وطرائق تدريسها.

إذ لابد أن تكون مناهجنا قادرة على مواجهة تحديات العولمة، وبناء الإنسان المسلم بناءً إسلاميًا قويًا، ويكون ذلك بإيجاد العقلية الإسلامية المتفتحة التي ترتكز على أساس ثابت نستطيع أن ننطلق منه إلى آفاق الإبداع والابتكار دون أن نذوب فيها ونضيع في غياباتها، هذه العقلية الإسلامية الفذة التي كانت موجودة لدى علمائنا الأوائل الذين نبغوا في مختلف العلوم ونحن لو قرأنا سير هؤلاء العلماء نجد أنهم جمعوا في علومهم بين علوم الدين والدنيا، ومزجوا بينها، ولم يفصلوا بينها، بل كانت علومهم الدينية طريقًا ومفتاحًا للعلوم الأخرى، وكانت هي أول ما تلقوه، وأول علم تلقوه كان القرآن الكريم حفظوه وفهموه وتعمَّقوا في معانيه، كما حفظوا الأحاديث النبوية الشريفة، وعكفوا على دراستها، وتفقهوا في أمور دينهم، ثم انطلقوا ليغوصوا في بحور العلوم الأخرى، معهم هذه الذخيرة النفيسة من العلم التي ترشدهم وتلهمهم لطرق كل العلوم والنبوغ فيها، فأسهموا في إنشاء حضارة فريدة تميزت على كل الحضارات، وأصبح المسلمون سادة العالم، وأكبر قوة فيه؛ لذا كانت حملات أعداء الإسلام موجهة ضد الدين الإسلامي, ومحاربة القرآن الكريم بإبعاد أبناء الإسلام عنه حتى هجروه، فأصبحوا أمة مستضعفة مغلوبة على أمرها.

الفصل بين التربية والتعليم:

ودعت الدكتورة سهيلة إلى عدم فصل التربية عن التعليم، مؤكدة أن التربية منفصلة تمامًا عن العملية التعليمية، ولابد من مراعاة الالتزام بتطبيق أسس التربية الإسلامية في مناهج التعليم وطريقة تدريسها، واتباع المنهج العلمي الذي حثنا عليه القرآن الكريم في أكثر من موضع، من ذلك قوله تعالى: {قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [البقرة: 111]، وقد طبَّق علماؤنا الأوائل هذا المنهج في بحوثهم وعلومهم، في مقدمتهم الحسن ابن الهيثم الذي أقر 'هيل جوزيف' في كتابه 'تاريخ الحضارة' باتباعه المنهج العلمي، وهذا دليل على أن المسلمين أسبق في اتباع المنهج العلمي من الغربيين الذين يزعمون أن فرنسيس بيكون أول من اتبع المنهج العلمي، فهم أخذوه منا ونسبوه لأنفسهم.

ولابد أن تلاحق المناهج الدراسية أحداث هذا العصر وإنجازاته حتى يستطيع الناشئ معايشة عصره والتعامل معه بثقة وثبات.

ودعت الدكتورة أيضًا إلى: الاهتمام بالمواهب وتنميتها وتوجيهها توجيهًا صحيحًا سليمًا، وتسخيرها في سبيل الخير لتكون نافعة للإسلام والمسلمين، وذلك باتباع منهج التربية الإسلامية إزاء المواهب والاستعدادات، ذلك المنهج الذي لا يكبتها ولا يبددها، وإنما يوجهها وجهة الخير التي تنفع صاحبها في الدنيا والآخرة.

وفي هذا الإطار أشادت الدكتورة سهيلة بتوصيات مؤتمر 'شبابنا إلى أين؟' الذي نظمته كلية 'دار الحكمة' بجدة ورأسته الدكتورة فاطمة نصيف في الفترة من 10 ـ 11 شعبان 1423هـ؛ إذ كان من ضمن توصياته:

ـ إنشاء مركز متخصص في تعليم مهارات التفكير يهدف إلى تطبيق برامج تعليم مهارات التفكير في المؤسسات التعليمية والتربوية على أن تتبناه وزارة المعارف، ويموله القطاع الحكومي والخاص.

ـ إنشاء مراكز للإرشاد والتوجيه المهني يساعد الشباب على الاختيار المهني المناسب لقدراتهم وميولهم بالتعاون مع الجهة المختصة بتمويل من القطاع الحكومي والخاص.

تعريب العلوم وأسلمتها:

كما اعتبرت الدكتورة سهيلة زين العابدين أن اللغة مهمة في نقل الحضارة ودعت إلى تعريب العلوم التجريبية بما في ذلك الطب، وكذلك العلوم الإدارية والاقتصادية. والحاصل في واقعنا المؤسف أن اللغة الإنجليزية تكاد تكون لغة التعليم الأولى، بل لغة المستشفيات والبنوك على وجه الخصوص، وأصبح من يتقن الإنجليزية يفضل على من يتقن اللغة العربية في الوظائف الحكومية، وفي القطاع الخاص.

ودعت أيضًا إلى إعادة كتابة التاريخ من منظور إسلامي وفق التفسير الإسلامي للتاريخ في الكتابة التاريخية، وتنقيته من الإسرائيليات، والروايات الموضوعة والشاذة والمفردة التي تهدف النيل من الإسلام وأنبياء الله، وصحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم ونسائه رضوان الله عليهم، وخلفاء المسلمين وعلمائهم.

وإعادة كتابة تاريخ الأدب العربي من منظور إسلامي، وتقويم الأعمال الأدبية من هذا المنظور لتنقيته مما علق به من شوائب التغريب والإلحاد، وإعادة الهوية الإسلامية، وتدريس الأدب الإسلامي، وأسلمة العلوم الإنسانية وتوضيح آثار علماء الإسلام فيها، ونتائج بحوثهم، ودراساتهم، ومدى استفادة علماء الغرب منها، لنربط أبناءنا بتاريخهم وحضارتهم، ونعيد لهم الثقة بأنفسهم، وليحذوا حذو هؤلاء العلماء، ويسيرون على مناهجهم.

ولتحقيق التوافق والانسجام الاجتماعي نادت الدكتورة سهيلة بتدريس مادتي المرأة في الإسلام، والأسرة المسلمة ليعرف كل من الرجل والمرأة ما له وما عليه، والعمل على رفع مستوى المعلمين والمعلمات الذين يعملون الآن في حقل التعليم في مراحله المختلفة؛ لأن تدني مستوى الطلبة والطالبات يرجع في المقام الأول إلى تدني مستوى معلميهم.

توافق العمليات التربوية:

كما دعت إلى توافق التربية الاجتماعية مع معطيات وأسس التربيتين الأسرية والتعليمية، وقالت: علينا أن نعمل على توافق التربية الاجتماعية مع معطيات وأسس التربيتين الأسرية والتعليمية، ولا تكون متناقضة معهما كما هي الحال الآن، وذلك بأن يُعاد للمسجد دوره في المجتمع، وأن يجمع علماؤنا بين الأصالة والمعاصرة، ويأخذ علماؤنا بالأيسر في الدين لقوله صلى الله عليه وسلم: [[يسروا ولا تعسروا]]، ولقوله صلى الله عليه وسلم: [[هلك المتنطعون]] قالها ثلاثًا، وللأسف الشديد نجد أن بعض العلماء متشددين في الدين لدرجة تحريمهم الحلال من باب سد الذرائع، كما نجد البعض يخضع بعض النصوص القرآنية والحديثية الخاصة بأحكام النساء للعادات والتقاليد والأعراف، مما يؤدي إلى حرمان المرأة من كثير من حقوقها، وهذا أحدث فجوة بين نسبة كبيرة من المسلمين من الجنسين، وبين الإسلام، وعلماء الإسلام، واستغله العلمانيون في المطالبة بإبعاد الدين عن التشريع، والسياسة والاقتصاد، وقصره على العبادات.

ومما يعمِّق هذه الفجوة تشدد بعض الإسلاميين في أمور الحياة، وعدم قدرتهم على الجمع بين الأصالة والمعاصرة، فهم يكادون يعيشون في عزلة عن العالم لتحريمهم مشاهدة التلفاز، ومطالعة الصحف لأن بها صورًا، وبعض هؤلاء يتصدر للفتوى، وهو غير مؤهل لها فيضيق على الأمة بتضييق دائرة المباح، وتوسيع دائرة المحرمات.

والبعض الآخر نجده يتساهل في الدين لدرجة إباحة بعض ما حرَّمه الإسلام.

كما نادت الدكتورة سهيلة زين العابدين بالعمل على وضع خطة إعلامية موحدة من قبل وزراء الإعلام في العالم الإسلامي لمواجهة التحديات التي تواجه أمتنا الإسلامية، وأن يتبنى إعلامنا في البلاد الإسلامية الأدب الإسلامي؛ لأنه يشكل الآن الجبهة التي تجعلنا نحافظ على هويتنا الإسلامية وأصالتنا وتراثنا الفكري والحضاري، ويقينا شر الذوبان في ثقافة وحضارة الآخر. كما يجب تشجيع أصحاب القنوات الفضائية المفتوحة والمشفرة على التنسيق فيما بينهم ليقدموا مواد جيدة بعيدة عن الإسفاف، تجمع بين الترفيه البريء والتثقيف الإسلامي الواعي.

محاورة التيار العلماني:

وأضافت أنه لابد من العمل على القضاء على التطرف والغلو في الدين ونشر الوسطية في الدين، ولابد ممن يسيرون على هذا النهج أن تكون لهم مشاركة إيجابية فعَّالة في الخطاب الديني, وأن يكونوا أكثر جرأة وشجاعة في مواجهة المتشددين والمتطرفين لإعادة التوازن في حياتنا الاجتماعية، ولتوحيد التوجه، والقضاء على هذا التحزب الذي تعيشه أمتنا الآن.

كما يجب العمل على احتضان أبناء الأمة الذين ابتعدوا عن النهج الإسلامي وتبنوا التيَّار العلماني بإعادتهم إلى المنهج الإسلامي بفتح باب الحوار معهم لتبصيرهم بأمور دينهم، طبقًا للمنهج الإسلامي في الدعوة، فالله جل شأنه يقول: {وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [النحل: 125]، وقال: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ} [النحل: 125]، وقال لرسوله الكريم: {وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِك} [آل عمران: 159]، ولقد تبين لي من خلال مواجهاتي معهم جهلهم التام بدينهم، وحكمهم عليه من خلال الرؤية التي رسمها الغرب لهم، فأغلب هؤلاء ثقافتهم غربية درسوا في مدارس أجنبية، وتتلمذوا على أيدي الغربيين، وبعضهم الآخر تأثر بالمنظور الغربي من خلال قراءته، أو عن طريق أساتذة تتلمذوا على الغربيين.

ـ فتح باب الحوار مع شبابنا لنتعرف منهم على مشاكلهم، وكيف يفكرون، وما الذي يحتاجونه، وعلينا أن ننصت لهم، ونحترم طروحاتهم وآراءهم، وأن نشعرهم بأهميتهم، وهذا في حد ذاته يبعث الثقة في نفوسهم، ويشعرهم بأننا نحبهم ونحترمهم.

الوحدة والتكاتف:

وفي هذا الإطار كانت مشاركة الدكتورة سهيلة زين العابدين ثرية وقد دعت فيها إلى إنشاء سوق إسلامية مشتركة والتحرر من كل أشكال التبعية السياسية والاقتصادية والفكرية...إلخ.

كما دعت إلى إنشاء صندوق دولي إسلامي لتمويل المشاريع الاستراتيجية... ومنع التمويل الأجنبي للجمعيات النسائية ومراكز الأبحاث الأهلية.

ودعت أيضًا إلى تشجيع أصحاب رؤوس الأموال العربية والإسلامية على الاستثمار في البلاد العربية والإسلامية ونشر اللغة العربية والثقافة الإسلامية على عموم المسلمين لتعزيز الوحدة الإسلامية.

من جهة أخرى أكدت الدكتورة سهيلة أيضًا على الاهتمام بعلم الاستغراب وقالت: علينا أن ندرس الغرب وعلومه ومناهجه للاستفادة منها بعد نقدها وتمحيصها وفق المنظور الإسلامي التجريبي التحليلي الذي قامت عليه الحضارة الغربية ابتداءً متأثرة بالحضارة الإسلامية، وحرصًا على الجاليات المسلمة في الغرب أوصت بمزيد من الاهتمام والتواصل والتفاعل الاجتماعي والاتصالي المعروف في هذا العصر داعية المفكرين والمثقفين للقيام بدورهم في المجتمعات الغربية.

التصنيع الحربي والقرار:

وأكدت على أهمية البدء بالتصنيع الحربي، فإذا لم نملك سلاحنا لن نملك حق إصدار القرار، والتحرر من التبعية السياسية والفكرية والثقافية، صحيح أن الآخر لن يتركنا نحقق هذا، وسيضع أمامنا العراقيل للحيلولة دون تنفيذنا لهذا الأمل، وقد ينسف ما نبنيه من مصانع، ولكن كل هذا ينبغي أن يزيدنا تصميمًا على تنفيذ ما يحقق لنا استقلالنا، ويحافظ على كرامتنا.

الشيخ: طارق الحسين:

الشيخ طارق الحسين أعطى أولوية كبيرة لمراجعة وتصفية الفكرة الإسلامية فقال:

أزعم أن هذه القضية أول أساسات النهضة؛ لأن الفكرة والوعي وتحديد المفهوم للفكرة الإسلامية لا يمكن أن تقوم بدونها نهضة ذات أثر، فكيف ستتجه الأمة إلى الخروج من هذا المأزق وهي لا تدرك قيمة الفكرة الإسلامية ولا تملكها، إنها بذلك سوف تنطلق من تراكمات المد التاريخي بطريقة حائرة لا وجهة لها ولا طريق، فالأمة تفترق على عدد كبير من الفرق وكل فرقة تنقسم على نفسها وتتشظى إلى أجزاء لا حصر لها، وكل منها تنطلق من فهم واجتهاد وثوابت ومتغيرات وتقترب إلى الحق وتبتعد عنه وكل يدعي أنه على الجادة، وتستند كل فرقة على كتلة تاريخية تنزع من أفكارها وتنطلق من أصولها مع بعض التعديلات بحكم الزمن والعصور.

هذا الداء التاريخي هو الذي أصاب الأمة في مفهوم الإسلام الذي ننهض من قاعدته ولذلك ضعفت الأمة بداية في المفاهيم وسوف تنهض أيضًا انطلاقًا من المفاهيم، يجب أن تصفّى الفكرة الإسلامية من كل ما شابها من اجتهادات البشر وتفريعات الخلق التي أضفت على هذه الفكرة ازدحامًا شديدًا من الأفكار والتصورات غطى على النظرة الصحيحة والتصور السليم للإسلام وأهدافه وغايته وسبل الحركة به. ومن الشاق جدًا إن لم يكن مستحيلاً اجتماع هذه الفرق على نهج واحد ولكن أول خطوة وأجدى مرحلة هي الاتفاق على الثوابت وتغييب القضايا الخلافية، ومن واجب العلماء والدعاة والعقلاء في الأمة أن ينطلقوا نحو هذا الهدف ليس بالدعوة إلى الحوار وإنما بالدعوة إلى إنهاء الخلاف والسكوت عنه والتعهد بتجاوز هذه القضية، وإذا ما حدث ذلك فسوف تذوب هذه الخلافيات بشكل تدريجي ولا بأس أن يكون نسبيًا في ظل الثوابت الكبرى.

إن حشد كل الطاقات وتكتل جميع الفئات أمر لن تنهض الأمة بدونه.

لماذا أسلمنا؟ ما الذي يريده الله منا؟

ما هو دورنا كمسلمين؟ وما هي وسائلنا وغاياتنا؟

إننا في حقيقتنا حلٌ، فأصبحنا في واقعنا أزمة.

نحن نملك قوة التغيير للعالم ولكننا لم نستطع أن نغير من أنفسنا شيئًا، ومن هنا يأتي القول: إن إحياء الفكرة الإسلامية وبث الوعي في عقول المعنيين بهذه النهضة هي الخطوة الأولى في هذا التغيير.

ومن قرأ التاريخ جيدًا يرى أن مجموعة من الخلفاء والقادة حاولوا تجاوز هذه القضية بالسكوت عن التفصيلات مع عدم الرضى عنها من أجل المصلحة الكبرى، فهذا أمير المؤمنين علي رضي الله عنه يسكت عن الخوارج ما لم يرفعوا السلاح ويرضى ببقائهم معه ومخالطتهم وصلاتهم في المساجد وهم أهل بدعة مغلظة شهد عليهم الرسول صلى الله عليه وسلم بالمروق من الدين وبأنهم كلاب النار إلى غير ذلك، وفعل هذا أيضًا عمر ابن عبد العزيز رضي الله عنه مع الخوارج والأمثلة على ذلك كثيرة، كل ذلك لخدمة الثوابت الكبرى، ويكفي أن الإسلام أقر التعايش مع غير المسلمين.

الانبعاث عبر الأمة:

من أولويات النهضة الإسلامية أن تنبعث الحركة النهضوية منها لا من خارجها، وأن تنتقل من الدعوة الحزبية والمؤسسية المحدودة إلى الدعوة الشاملة للأمة بأكملها.

إن الحل الأسلم والأكمل هو في علاج الأمراض التي أدّت إلى الهبوط والتخلف ثم وضع البدائل لها أثناء ذلك بطريقة قانون الإزاحة التي تتمثل في ملء الأجزاء المزاحة بأجزاء علاجية صحيحة على شكل تدريجي من الأصول إلى الفروع ومن الضروريات إلى الحاجيات. كل هذا في كيان الأمة وجسدها وليس بالإنزال وطريقة التنظيرات العامة الهلامية غير المركزة.

الانبعاث عبر الأمة يقتضي من المعنيين بالنهضة الذوبان في كيان الأمة والامتزاج بها امتزاجًا صحيحًا يجمع الاحتكاك والالتصاق المباشر بالحصانة المنهجية والتكوينية والظهور من خلالها والنهوض منها وبها.

ومن أجل أن ننبعث انبعاثًا صحيحًا يجب أن ندرك أهمية ربط الأمة ربطًا مباشرًا بما تعانيه من معضلات ومشكلات، وإحياء مشاعر القاعدة الجماهيرية العريضة بواقعها وما يحيط بها، والتخلي عن أسلوب المفوضيات العليا الزائفة وادعاءات الحلول النخبوية التي أهلكت الأمة بمجملها. وعدم الاستئثار بالآراء والتفكير والتعامل مع الأمة كالقطيع من الغنم.

إشاعة النزعة الجماعية والشورية ونبذ الفردية؛ لأن الأسلوب الفردي والنظام الأحادي تزهق تحته روح الأمة وإذا ما استمر كذلك فإن النهضة تصبح ضربًا من الخيال. هل من المعقول أن تقوم أمة ذات مشكلات هائلة ومعضلات معقدة ويحيط بها أعداؤها من كل مكان على مجموعة قليلة وعدد محدود من العقول والتجارب غير المجدية غالبًا في لحظة تهمش فيها كل مقدرات الأمة العقلية والفكرية والإرادية وتغفل جميع الإمكانات المجمدة!! إن من أعظم المهمات التي تتطلبها النهضة الإسلامية: بث روح الحرية في فتح أبواب الممارسة في النقد والبناء ولو شكليًا في البداية.

من الأولويات للنهضة الإسلامية: إشاعة أدبيات الجماعة والشورى وتهيئة النفس المسلمة على مستوى الأمة للتعايش مع هذه الخطوة الرئيسة في النهضة المستقبلية.

إننا بهذا الركن المهم من أركان النهضة ندفع الحركة النهضوية نحو الأمام؛ لأننا سنفجر الطاقات ونفتح أبواب الإبداع والتطوير والحضارة تلقائيًا، وسيكون ذلك من إفرازات الحرية والمشاركة الجماعية في البناء دون شك.

هذه الأمة المباركة تملك طاقة جبارة في صناعة الحياة ولكن حين تعطى الحرية ويطلق عقالها وتمتلك هي زمامها.

التكتل حول القضايا الكبرى:

أعتقد أن الحل هو في التكتل حول القضايا المصيرية الكبرى، تكتلاً مدروسًا ومنظمًا وشاملاً لكل توجهات الأمة ولكل شعوبها لا كما هو معتاد في انحسار الاهتمام بهذه القضايا على المؤسسات الحاكمة أو الجماعات والتكتلات الحزبية.

ولو لم يكن من قضية إلا قضية فلسطين لكان فيها أعظم الكفاية لحشد الأمة خلفها وتجنيدها ورفع معاني التقدم والنهضة خلالها، فكيف إذا كانت القضايا الكبرى متعددة الأحجام والنوعيات والجنسيات؟

فقضية فلسطين تأتي في الدرجة الأولى وهي من المجمع عليه إسلاميًا وغير إسلامي وقضية التخلف وقضية حقوق الإنسان وقضية التعليم وقضية القوة والتكنولوجيا وغيرها من القضايا.

ولا شك أن البلاء يأتي بكثير من المصالح لبني الإنسان إذا ما وجد قومًا من العقلاء يستغلون هذا البلاء وتلك المحنة للنهوض والثورة على الرجعية والتخلف والضيم وأسباب التردي وعوامل التراجع.

ومن الطبيعي أن تتناسى الأمة قضاياها الهامشية لمعالجة المسائل الكبرى.

وقد خسرت الأمة كثيرًا عندما فقدت بعض الفصائل الإسلامية وعيها بصرف الأنظار إليها بدلاً من القضايا المصيرية عن طريق ممارسات أتت في غير موضعها زمانًا ومكانًا.

دراسة القضايا الإسلامية على الطريقة المؤسسية:

أعتقد أن الأمة لو أحيت الأسلوب المؤسسي في دراسة القضايا والأزمات وأصدرت تحليلاتها عن رؤية جماعية لكان الحال أصلح مما نحن عليه, ولكن التعصب ورؤية الذات والنظرة المحدودة المنبثقة من الحزب أو التكوين الفكري أو الجماعة تمنع ذلك. ومن نظر في حالة الأمة نحو فلسطين والمقاومة الآن تبين له الأمر واتضح، فقومٌ يدعون إلى استمرار المقاومة وقوم يرون أنها انتحار وغيرهم يراها عبثًا، وبين محرم ومحلل وهلم جرًّا، إن الذي نحن بحاجة إليه في هذه الآونة هو إنشاء مؤسسات بحثية تبحث القضايا بعمق وجدارة وتخصص على طريقة كشف الداء وتشخيص العلم وطرائق الخلاص والنجاة على طريقة الأبعاد الزمنية والخطط المستقبلية البعيدة لأن ذلك سيجنب الأمة العشوائية والضعف المزمن في احتواء الأزمات ويقلل من الارتباك الناتج عن الأحداث العرضية هنا وهناك

=================

معوقات وعوامل نهضة الأمة.. قراءة تحليلية نقدية لنخبة من المفكرين والدعاة [2/2]

ذي الحجة 1423هـ

الصفحة الرئيسة

عبدالله الطنطاوي:

دعوة للتدبر:

دعا الأستاذ عبد الله الطنطاوي المثقفين إلى ضرورة دراسة التاريخ الإسلامي والفكر الإسلامي بشكل كاف كدراستهم للمناهج الغربية المفروضة عليهم، وذلك ليكتشفوا بأنفسهم عظمة الإسلام وأهمية سيادته على ما عداه من المدارس الفكرية والمذهبية والسياسية. إسعادًا للإنسانية وإنقاذًا لها من وحل الصراع والإرهاب الذي تقود العالم إليه قوى الشر والاستكبار، واستشهد الأستاذ الطنطاوي على أهمية الحل الإسلامي بقول عمر الفاروق رضي الله عنه: 'نحن قوم أعزنا الله بالإسلام، فإن ابتغينا العزة في غيره أذلنا الله'.

فهم الفروض الكفائية:

يقول الأستاذ الطنطاوي: أعتقد لو أن علماء الأمة بادروا إلى شرح الفروض الكفائية للناس عامة ولأثرياء المسلمين خاصة، فبينوا أوجه الحاجة والسياسة الشرعية، وما هو مطلوب اجتماعيًا واقتصاديًا للنهوض لتغير وجه العلام الإسلامي، فلو أنفق الأثرياء شطر ما أنفقوه على المساجد في بناء المعامل والمصانع والمعاهد لكانت أمتنا أفضل مما هي عليه بكثير... بكثير. أريد أن نبني بميزانية كل مسجد فاخر ننوي بناءه مسجدًا متواضعًا وإلى جانبه مدرسة أو مركز تدريب على مهارة من تلك المهارات ومصنعًا صغيرًا ليعمل به عدد من أفراد الأسر الفقيرة نقيهم السؤال والحاجة، أريد مراكز للتدريب على المهارات الاجتماعية والاتصالية، أريد مراكز تعنى بالإبداع والإنتاج الأفضل.

أريد مراكز تربينا على الإتقان، الإتقان في كل شيء في العلاقات الأسرية والاجتماعية... المهنية... الإدارية، وفي العلاقات مع الآخر، تلك العلاقات المهمة لإبلاغ دعوة الحق وتعميم الخير.

القيادات تاريخ وواقع وطموح:

في هذا الموضوع المهم من الحراك الاجتماعي الضروري لنهضة الأمة تحدث الناقد والأديب، صاحب التجربة الغنية في العمل الإسلامي الأستاذ عبد الله الطنطاوي يضيف:

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [[لا نولي هذا الأمر من يطلبه]].

هذا هو المبدأ، ولكن بعض القادة الكرام اعترضوا عليه بطلب سيدنا يوسف عليه السلام من حاكم مصر: {قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِن الأرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ} [يوسف:55].

وتذرع كثير من القيادات التاريخية بذرائع واهية من أجل الاحتفاظ بمناصبهم وزعاماتهم، ولقد رأيت ناسًا من الناس نالوا شهادات عليا وبامتياز، وكبروا وصاروا آباء وأجدادًا ولكنهم في عرف تلك القيادات ما زالوا صغارًا أغراراً، لا يقوون على تحمل المسؤولية، وقد [شذ] عن هؤلاء القادة نخبة من الأحبة كانوا في [القيادة] من الزاهدين وتركوها لمن رأوه أهلاً لتحمل المسؤولية من بعدهم، وقد رأيت بعض القيادات تتشبث بمواقعها، وتسعى لما هو أعلى وكنت أحسبهم أزهد الناس فيها..

وكنت أقول: لعلهم يجربونها دورة ثم يعودون إلى أماكنهم، ولكنهم كانوا يزدادون تمسكًا بها وهم [الزاهدون وفي لباس الزاهدين] ومن كثرة المشاهد التي شهدتها خلال نصف قرن، بتّ أعتقد أن [الجميع] يسعون إليها، ومن يعف أو يتظاهر بالزهد بها والعفاف عنها، فلعلة لا نعلمها، الله يعلمها، مما يؤكد ضرورة اعتماد أسس ومبادئ إدارية كافية لحمايتنا من هذا البلاء وهذا ممكن مع تطور العلوم الإدارية والسياسية.

بعضهم أرادها لنفسه من المهد إلى اللحد فلما فاتته في مهده، ما رضي أن تفوته قبل أن يصير إلى مثواه الأخير..

المشكلة ليست في القيادات التاريخية وحسب بل في أكثر الذين حسبوا العبقرية مغروسة فيهم وأنهم كيوسف عليه السلام إذا تركوها أحلوا قومهم دار البوار ويبدو أن الشاعر أصاب كبد الحقيقة حين قال:

لا خيرَ في حشو الكلام إذا اهتديت إلى عيونه

كل امرئ في نفسه أعلى وأشرفُ من قرينه

حب الزعامة والقتال دونها، أورد بعض الرجال موارد الهلاك، والشيطان يسول لهم ما يسعون إليه هو الصحيح فانشقت الدول والجماعات والأحزاب والهيئات على نفسها، وسار بعض أولئك في ركاب الطواغيت البعيدين عن منهج الله ونهج الإسلام بل كانوا من أعدى أعدائه... وحب الزعامة لدى الآخرين، من الأحزاب العلمانية، جعل المتزعمين يكيد بعضهم لبعض ويحتربون فيما بينهم والقوي اللئيم يغتال من أحسن إليه من رفاقه في الحزب والنضال حتى إذا ما تسلم الحزب مقاليد الأمور نشبت التصفيات الجسدية بينهم، فقتل الرفيق القائد رفاق دربه، وقد جالست بعضهم واستمعت إليهم، وحاورتهم، وكان تمسكهم بزعاماتهم لا مثيل له ولا أستثني واحدًا منهم، حتى الذين بلغوا أرذل العمر وصاروا على حواف قبورهم كانوا أشد تمسكًا لأنهم أصحاب السبق والخبرات والتجارب ولأنهم العارفون ببواطن الأمور ومخبآت النفوس ودواخلها ولأنهم هم البناة وغيرهم ما أكلوا إلا من كدهم وسهرهم..

مشكلتنا الكبرى أن القائد منا يربي جنودًا ولا يخرج قيادات ونحن في هذا لا نكاد نختلف إلا قليلاً عن ذاك الحاكم المستبد، المشكلة في القيادات التاريخية تتجدد في القيادات التي سوف تغدو [تاريخية] بعد حين، من الشباب المتطلعين أصحاب المطامح والمطامع... ولهذا يجب الانتباه والحذر.

والحل؟

الحل في اختيار مجموعة من الفتيان المتفوقين المتميزين وتربيتهم على المثل الدينية والأخلاقية، بتقديم دراسات هادفة عن القيادة القدوة، عن الرسول القائد عليه الصلاة والسلام، عن خلفائه الراشدين الهادين المهديين، عن المثنى وأبي عبيدة وخالد، وعن العز وابن تيمية وابن القيم، كما يجب تربية هؤلاء الفتية على الجانب العملي ولا نسهب في التنظير حتى لا نغرقهم في الأوهام، نضرب لهم الأمثلة العملية من حياة عظمائنا التاريخيين والمعاصرين حتى لا نسوقهم إلى متاهات، المعلمون أنفسهم لم يجنوا من ورائها إلا الفراغ والضياع في لجج الكلام الفارغ المكرر، والجري وراء سراب الأمنيات والكلمات..

تربيتهم على الإيمان الحق بالله واليوم الآخر، وأضع مائة خط تحت كلمتي [الإيمان الحق] لأن زعم الزاعمين الإيمان بالله واليوم الآخر مجرد زعم والزعم مطية الكذب، ولو كان أولئك الأدعياء المدعين صادقين في إيمانهم هذا وبأن هناك آخرة يحاسب فيها المرء على ما قدم من قول وعمل لكانت حياتنا غير التي نحيا الآن ولما ضجت دنيانا بالآثام والمجرمين...

فالتركيز على الإيمان بالله واليوم الآخر مهم جدًا في تربية من نأمل فيهم أن يكونوا قادة المستقبل.

نربي فيهم الإنسان وننميه بما فيه من قيم تدعوه إلى التسامي والتفوق والتواضع والرحمة والإخبات لله تعالى... ليكون إنسانًا مسلمًا يحب لنفسه مثل ما يحب لإخوانه، ويحب لإخوانه كما يحب لنفسه... يعطف، ويداوي جراح الناس ويعمل من أجل إسعادهم بكل صدق وحب وإخلاص، ولله وحده.. تربيتهم على العفة؛ عفة اللسان فلا يكذب أحدهم ولا يغتاب، ولا ينم ولا يجرح إخوانه ولا خصومه ولا الهيئات ولا الأحزاب فهو خصم شريف، ويخاصم بشرف.. يقول خيرًا أو يصمت.

وعلى عفة الأذنين فلا تسمعان الكلام البذيء ولا الغيبة ولا النميمة ولا السباب والشتائم وكل ما لا يليق بالمسلم الملتزم.

وعلى عفة النفس عن الحسد والبغض والكراهية والحقد والغضب. وعلى عفة اليد عن كل ما ليس لها فلا تمتد إلى سرقة أو بطش. وعلى عفة العينين {وَلا تَمُدَّنَ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجاً مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [طه: 131] فلا تنظران إلى حرام ولا تتطلعان إلى ما في أيدي الناس، ولا تطمعان بما عندهم بل تزهدان وتعفان وتسموان..

وبشكل عام نربيهم على مكارم الأخلاق، نربيهم على التنافس الشريف في تقديم الخير للدعوة ولسائر الناس ومن أجل المصلحة العامة مع شرح معنى المصلحة العامة والتمييز بينها وبين المصلحة الذاتية التي يزينها الشيطان ويبرزها لتكون في ظاهرها مصلحة عامة وهي موغلة في الذات الأنانية..لهذا ينبغي التنبيه لتلبيسات إبليس.

تربيتهم على مراقبة الله تعالى فيما يعملون، وليس مراقبة رؤسائهم...

والعلوم الإنسانية الحديثة في هذا المجال قدمت إنتاجًا إنسانيًا يجب احترامه وأخذ المفيد منه بعد أسلمته وتصفيته مما علق به من مادية الغرب البعيدة عن روح الدين والوعي بهذه الأمور يساعد كثيرًا على حل مشاكلنا الإدارية والسياسية.

تربيتهم على طاعة أولي الأمر..

تربيتهم على الوفاء لمن أحسن إليهم ولشيوخ الدعوة وقادتها، تربيتهم على حب الوطن أرضًا وشعبًا وعلى افتدائه بالمال والروح والوقت وعلى الانتصار له ونصرته بعد أن ربوا على التضحية والإيثار وليسوا كأولئك الذين {قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ يَقُولُونَ هَلْ لَنَا مِنَ الأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ} [آل عمران: 154].

بعد تربيتهم على هذا الذي تقدم، تربية قائمة على مناهج علمية وعملية واختبارات جادة وواقعية تأتي التربية العلمية التخصصية، كل في المجال الذي يهفو إليه ويعشقه وترتاح إليه نفسه ويظهر فيه حسب اختصاصات تكاملية، فهذا يميل إلى الإدارة، وذاك يبرع في الإعلام، وثالث للسياسة، وآخرون للقضايا الاجتماعية والوعظية والإرشادية و...و ... مما تحتاجه الحركة لتكون حركة بنت زماننا ولكنها راسخة بثوابتها رسوخ الجبال وهذا يعني ضرورة تأسيس المعاهد التدريبية المتخصصة لدراسة الشباب وتأهيلهم ليكونوا قادة المستقبل وفق المناهج العلمية العملية ووفق الشروط الواجب توافرها فيهم ويسهر على تطبيقات رجال فيهم كثير من تلك المواصفات والسمات، وليس فيهم ما يثلم المروءة أو أشياء من مكارم الأخلاق أو ما يعلمهم عليه ويربيهم، يجب أن يكون المربون والمدربون والمعلمون القائمون على هذه المعاهد ممن يتصفون بالصفات التي تحبب المثل والقيم والذوق إلى أولئك الشباب... وهذا يعني أهمية القدوة الحية في حياتهم ليأخذها غيرهم عنهم سلوكًا عمليًا ليس فيه خدش لقيمة من تلك القيم.

القدوة الحية خير من قراءة ألف كتاب وألف دورة ولا مبالغة، ما استقر في أذهاننا وقلوبنا ونفوسنا ونحن صغار هو ما رأيناه رأي العين في حياة السباعي الرجل القائد المتحرك لا ما قرأناه له من كتب ومقالات، بل كانت خطبه الرائعة ومحاضراته البديعة وكتاباته المتخصصة والعامة، تركز ما حمله سلوكه المستقيم في حياتنا نحن الفتية والشبان والرجال.. وعندما قرأنا للندوي والمودودي، والطنطاوي، والمبارك، وسعيد رمضان ـ رحمهم الله رحمة واسعة ـ أحببناهم، ولكن عندما عرفناهم عن قرب عشقناهم وتأثرنا بكل حركة وكلمة وسلوك عفوي لهم، تركزت محامدهم في نفوسنا، وصار لسان حالنا يردد:

فتشبهوا إن لم تكونوا مثلهم إن التشبه بالكرام فلاح

لقد تعلمنا من أشياخنا ـ رحمهم الله جميعًا ـ الأحياء منهم والأموات معنى الثوابت ومعنى الحفاظ عليها، والدفاع عنها...

وتعلمنا منهم المرونة في التعامل مع الناس، وفي دعوتهم إلى الخير...

وكيف يكون البذل من الجهد والمال والنفس، وأن تكون مصلحة الدعوة أولاً، وتليها بعدة درجات المصالح الشخصية التي لا تتعارض مع مصلحة الدعوة، بل تكون مكملة لها وداعمة.

تعلمنا منهم العمل كفريق ضمن عمل مؤسسي لا يتأثر بغياب أحد أو بحضوره، فالكل يعمل حيث وضع ويعين أخاه المقصر ويحتسب ذلك عند الله عز وجل، تعلمنا منهم أن الله قد ينصر الدولة الكافرة والجماعة الكافرة إذا كانت عادلة ويخذل الدولة المسلمة والجماعة المسلمة إذا كانتا جائرتين ظالمتين.. فحذرونا وخوفونا من الجور والظلم وحببوا إلينا العدل والإنصاف وزينوه في قلوبنا.

حاولوا معنا الكثير وأفلحت تعاليمهم والحمد لله.

د/ أحمد البراء الأميري:

خواطر حول معوقات وعوامل نهضة الأمة الإسلامية:

الدكتور أحمد البراء الأميري كانت له مشاركة من نوع آخر في هذا الملف فكتب [خواطر حول معوقات وعوامل نهضة الأمة الإسلامية]:

الإنسان هو قاعدة كل انطلاق حضاري، وصانع كل تقدم؛ فالمسلم يستعين بالله ويطبق السنن، وأما غيره فيأخذ بالأسباب التي توصله إلى نتائجها، معرضًا عن الله، أو جاهلاً به، فيجني ثمرة جهده، كما يجني عاقبة إعراضه أو جهله.

السنن لا تحابي أحدًا:

والسنن [أو القوانين] لا تحابي أحدًا، فمن أخذ بها أوصلته إلى النتيجة بغض النظر عن دينه، وهكذا سادت حضارات، [كالصين، والهند، واليونان، والرومان، والفراعنة، والفينيقيين] وعلا في الأرض استعمار [كالبريطاني، والفرنسي, والإيطالي، والإسباني، والأمريكي...إلخ] إذن: من يضع المفتاح الصحيح في القفل، ويديره بالشكل الصحيح ينفتح له الباب.

كما أن الغالبية الساحقة من مسلمي اليوم بعيدة عن دينها، وبعيدة عن الأخذ بأسباب النصر، والعلم والقوة وبدون هذه الأسباب لن تكون لها جولة وصولة ودولة. والأقلية [الصالحة] من المسلمين لم [تبلغ النصاب] الذي يتم به التغيير، لذا قد يصيبها ـ لا قدر الله ـ عقاب من الذين ظلموا: {وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً} [الأنفال: 25].

المسؤولية الفردية:

كل فرد على [ثغرة] فعليه الحرص على أن لا يؤتى الإسلام من قبله؛ الأب، والأم، والمعلم، والطبيب، والمهندس، والكناس، والخباز، والخياط...إلخ.

كل واحد عليه أن يقوم بواجبه خير القيام... ولن يسأل يوم القيامة لماذا لم يغير الدنيا، إنما يسأل عن تفريطه في مسئوليته التي هي في وسعه: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إلا وُسْعَهَا} [البقرة: 286]، {وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [الأنعام: 164].

وقد قالوا: [من تعجل الشيء قبل أوانه عوقب بحرمانه] وإذا كانت أشجار النخيل والزيتون ـ مثلاً ـ لا تثمر إلا بعد سنين من زرعها، فهل نريد من شجرة [حضارة الأمة] أن تثمر سريعًا؟!

وعلى الإنسان أن يبدأ بما يقدر عليه، قال تعالى: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ} [الأنفال: 60] والقوة هنا تشمل أشكال القوة وأنواعها كافة، ولا شك عندي أن أولها ـ بعد الإيمان بالله ـ هو العلم؛ لأنه الركن الأول من أركان القوة المادية في عصرنا.

نعم مشكلة المسلمين معقدة، ولكنها ليست غامضة، وحلها صعب لكنه معروف.

إنها [كالموشور] ذي الوجوه المتعددة: أحد وجوهها نقص العلم، والآخر نقص العمل. فنحن نجهل كثيرًا مما يجب أن نعرفه، ولكننا أيضًا لا نطبق الكثير النافع مما نعرفه، وبيان ذلك:

من يجهل أن الوقت هو الحياة ولابد من حسن استغلاله؟ من يجهل وجوب الصدق والاستقامة وإتقان العمل؟ من يجهل أهمية التسامح والدفع بالتي هي أحسن؟ من يجهل أهمية العناية بالصحة؟ من يجهل مائة فضيلة أخرى؟؟ ولكن من يطبق هذه الأمور؟ وكم يطبق منها؟! وحتى لا نشطط في ذكر دور الفرد أقول في دور الأمة والسلطة بأن الحق بلا قوة تحميه ضعيف 'لأن الله يزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن'، والقوة بلا حق ظالمة، فلابد ـ إذن ـ من المصحف والسيف معًا، لكن لابد كذلك أن يعلو المصحف على السيف لا العكس، أي أن تكون القوة في خدمة الحق، لا أن يكون الحق مسوغًا لأخطاء القوة! نحن لا نقول: 'إن لم تكن ذئبًا أكلتك الذئاب' ولا نقول: 'ومن لا يظلم الناس يُظلم' ولكننا نقول:

تعدو الذئاب على من لا كلاب له وتتقي صولة المستأسد الحامي

ونقول: ومن لا يذد عن حوضه بسلاحه يهدم..

تتكون الأمة من مجموع أفرادها، ورصيد الأمة كما قلنا ونعرف في: العلم، والعقل، والاختراع، والصناعة، والتفوق...إلخ هو مجموع أرصدة أفرادها؛ فيجب على الفرد أن يعرف ما أودعه الله سبحانه وتعالى من طاقات وقدرات، وأن يحسن استثمارها. 'وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب'.

وهنا أؤكد أهمية التكافل مع الآخرين وفق منظومة حضارية أستفيد منها وأنفعها فالفرد ضعيف بنفسه قوي بإخوانه، ,'إنما يأكل الذئب من الغنم القاصية'، فلابد من استشعار معنى 'الجسدية' والعمل بروح الفريق، كما يقولون، وقيام المجتمع على 'المؤسسات' لا على الأفراد.

الحضارة والأخلاق:

تعد [الأخلاق] ركنًا ركينًا في استثمار الحضارة [المادية]، وهذا ليس بغريب، فما من أمة سادت ثم بادت إلا بدأت سيادتها بقوة أخلاقها، وبدأ انهيارها بانهيار الأخلاق فيها:

وإما الأمم الأخلاق ما بقيت فإن همو ذهبت أخلاقهم ذهبوا

إن من واجب علماء التاريخ وعلماء الاجتماع أن يدرسوا الحضارات السابقة واللاحقة ويبينوا بوضوح أسباب صعودها وقوتها، وأسباب ضعفها وهبوطها، وأن تكون هذه الأسباب وتلك الأهداف مهمة لإعلامنا حتى تكون واضحة تمامًا في أذهان أكبر عدد من الأفراد، وأن تدرس هذه الموضوعات في المدارس، وللأسف فإن شطرًا كبيرًا مما نعلمه في مدارسنا وجامعاتنا لا ينفع لا في الدنيا ولا في الآخرة!! 'اللهم إنا نعوذ بك من علم لا ينفع'. يجب أن نعلم أولادنا كيف يعيشون بشكل جيد، وكيف يفكرون بشكل جيد، وكيف يستثمرون أوقاتهم وقدراتهم بشكل جيد...إلخ، وهذا واجب المعلمين، والسؤال المهم في هذه القضية هو: هل المعلمون مؤهلون لهذه الرسالة؟ 'ففاقد الشيء لا يعطيه'!

تقول الحكمة العربية: 'رحم الله امرءًا عرف قدر زمانه واستقامت طريقته' إنها [معادلة حضارية]:

رحمة الله = معرفة الزمان + استقامة الطريقة.

فالمعرفة بدون استقامة اقتداء بعلم إبليس، والاستقامة بدون معرفة قد تؤدي إلى السذاجة والغفلة.

د/ محمد رفعت زنجير:

التخلف التقني بُعد استراتيجي في أزمنتنا المعاصرة:

الدكتور محمد رفعت زنجير تناول جانبًا مهمًا من معوقات نهضة الأمة فقال:

إن من أهم المشكلات التي تعاني منها الدول الإسلامية مشكلة التخلف التقني في كافة ميادين الحياة والتي تبدأ من الصناعات الاستهلاكية والتي تشمل حتى لعب الأطفال، وتنتهي بالصناعات الدفاعية لحماية أمن الأمة، مرورًا بالصناعات الطبية وغيرها! والخطورة هو أن الصناعات الأساسية صارت حكرًا بيد الدول الكبرى، وقد ازداد الأمر تعقيدًا عندما أقبلت الدول ذات القدرات الاقتصادية المحدودة على الاستيراد في شتى المجالات ولمختلف أنواع البضائع مما أرهق الميزانيات المحلية، وجعل الديون تتراكم والفوائد تتضاعف، ولم تقدر معظم تلك الدول برغم إجراءات التقشف أن تسدد فوائد تلك الديون فضلاً عن تسديد تلك الديون نفسها، مما جعلها خاضعة للابتزاز السياسي من قبل الدول الدائنة، وانعكس هذا بالضرر على شعوبها، فتدهورت القيمة الحقيقية للعملات المحلية، وانتشر الفقر ومختلف الأوبئة الاجتماعية والأخلاقية.

وبشكل عام نستطيع أن نقول: إن التخلف في ميدان الصناعة اليوم يعني أن سيادة الأمة في قراراتها المصيرية مهددة، وهو يوازي التخلف في جوانب أزمنتنا المعاصرة بل ربما يكون هو من أخطر الجوانب، فالأمم التي تتكل على غيرها في عالم الصناعة في العصر الحديث لا يمكن أن تقاتل يومًا واحدًا، ولا أن تتصدى لأي عدوان يقع عليها في عالم مثقل بالتكتلات والحروب والعدوان. والحرب اليوم تستخدم كل ما تمده بها التكنولوجيا الحديثة من وسائل الدمار الشامل، حتى أصبح بالإمكان محو دول من على الخريطة دون تسيير لجيش أو فرقعة بالقنابل، ونحن كأمة ذات رسالة للإنسانية كافة لنا أعداء قد تزودوا بمختلف أنواع الأسلحة، وعبروا عن أحقادهم بأفظع الأساليب، علينا أن نقيم نهضة صناعية شاملة تكفل حريتنا وكرامتنا، فقد رأينا مأساة أفغانستان وفلسطين وكشمير والبوسنة.. وهنالك الكثير من المآسي التي لا ترى إلا بالتأمل والبحث، والمآسي تحيط بنا من كل طرف، حتى قيل عنا بأننا أمة الحزن والنكبات... فلم تعد حدود المآسي التي نعاني منها محصورة في رغيف الخبز الذي تقدمه لنا في بعض الأحيان المنظمات الإسلامية في مناطق كثيرة حول العالم، وإنما تمتد بشكل فعّال إلى المورثات السلبية التي نبثها في عقول الأبناء والأحفاد، وذلك كله من آثار الضعف الذي نعانيه، والسبيل الأول لعودة العافية والصحة لهذه الأمة هو توليد شعور القوة فيها، والنهضة الصناعية الشاملة كفيلة بأن تولد بالأمة شعورًا بالاستقلال والتحرر من التبعية.

إن النصر الحقيقي للأمة المسلمة هو في عودة وحدتها وتضامنها تحت راية القرآن، وهذا لن يتم عفوًا، وإنما يحتاج إلى جهود الفئة الواعية والمخلصة من الحكام والعلماء وكافة قطاعات الشعب الأخرى لصياغة مشروع حضاري مدروس.

الصناعة طريقنا للتحصن بالقوة التي أمرنا الله بها قبل أن نواجه عدوًا، قال تعالى: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْل} [الأنفال: 60].

والآية تحث بشكل صريح على الاهتمام بالصناعات الحربية التي تكفل للأمة كرامتها في ساحة الشرف أمام أعدائها، وقد وضع النبي الكريم ذلك في حثه للأمة على صناعة ما يدفع عنها كيد أعدائها، ففي الحديث: [[إن الله تعالى يدخل بالسهم الواحد ثلاثة نفر الجنة: صانعه يحتسب في صنعته الخير، والرامي به، ومنبله، فارموا واركبوا]] 'ورد الحديث في مشكاة المصابيح للترمذي، المجلد الثاني، ص1131'.

البنا والصناعة:

وقد قال الشيخ حسن البنا خلال حديثه عن أزمة الأمة: [التحول إلى الصناعات فورًا من روح الإسلام الذي يقول نبيه صلى الله عليه وسلم: إن الله يحب المؤمن المحترف، ومن أمسى كالاً من عمل يده أمسى مغفورًا له، والذي أثنى كتابه على داود وسليمان بهذا التقدم الصناعي وذكر لنا من دقائق الرقي فيه ما أعجز البشر، واستغل قوى الجن والشياطين.

حرام على الأمة التي تقرأ في كتابها من الثناء على داود عليه السلام: {وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ. أَنِ اعْمَلْ سَابِغَاتٍ وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ وَاعْمَلُوا صَالِحاً إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} [سبأ: 10، 11]، وتقرأ: {وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ لِتُحْصِنَكُمْ مِنْ بَأْسِكُمْ فَهَلْ أَنْتُمْ شَاكِرُونَ} [الأنبياء:80]، ثم لا يكون فيها مصنع للسلاح، ثم تقرأ في كتاب ربها: {وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ وَأَسَلْنَا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ وَمِنَ الْجِنِّ مَنْ يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَمَنْ يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنَا نُذِقْهُ مِنْ عَذَابِ السَّعِيرِ. يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاءُ مِنْ مَحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ وَقُدُورٍ رَاسِيَاتٍ اعْمَلُوا آلَ دَاوُدَ شُكْراً} [سبأ: 12، 13]، ثم لا يكون فيها مسبك عظيم، ولا مصنع كامل للأدوات المعدنية.

ثم تقرأ: {وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ} [الحديد: 25] ثم تهمل ما عندها من هذا المعدن هذا الإهمال، وهو من أجود الأنواع، ويكفي العالم مائتي عام كما قدر الخبراء، حرام هذا كله.

شهادات مسؤول أوروبي:

يقول الأستاذ ظافر القاسمي: [كنت في عام 1945م أشهد مؤتمر المحامين الدولي في موناكو، وقد قيض لي أن ألتقي بمسؤول أوروبي كبير، وكان جرح فلسطين حارًا جدًا، فلما تذاكرنا الموضوع قال لي بحرية وصراحة: يا سيدي أنتم العرب أذكياء، ولكنكم قوم لا تخيفون، حينما يوجد عندكم علماء قادرين على تدمير الأرض في 59 دقيقة كما ادعى الإنجليز بدلاً من 60 دقيقة كما ادعى الأمريكان، وعندئذ يحسب لكم حساب، أما إذا كنتم بحاجة إلى ألف بندقية، لتوزيعها على رجال الشرطة، وكنتم مضطرين لشرائها من بلجيكا، ثم تنكل بلجيكا عن الصفقة، وتبقى شرطتكم بلا بندقيات، فليس من حقكم أن تسألوا العالم أن يعيد إليكم فلسطين.

يقول القاسمي: يومئذ فهمت معنى قوله تعالى: {تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ} [الأنفال: 60] وقلت لمحدثي: لقد جاء في القرآن الكريم ما يشبه كلامك، وترجمت له معنى الآية فدهش، وذهب من توه يبحث عن أي ترجمة لمعاني القرآن الكريم، وأورد ذلك نقلاً من كتاب 'الجهاد والقتال في السياسة الشرعية' للدكتور محمد خير هيكل.

وكنا نود لو أن جيل المفكرين والباحثين الذين جاءوا بعد عصر الرواد عمقوا الدراسات في هذا المضمار، والتي من شأنها أن تبحث في طرق النهضة الصناعية الشاملة للعالم الإسلامي بدلاً من إغراقه في الخلافات المذهبية والسياسية التي بددت قدرات الأمة، ولكن الدراسات في هذا المجال كانت قليلة وفردية، ويحق لنا أن ننوه هنا بكتاب للدكتور محمد مصطفى رمضان بعنوان [طريق المسلمين إلى الثورة الصناعية].

زهير سالم:

إعادة الفهم للمشروع الإسلامي:

الكاتب زهير سالم أحد المشتغلين بالهم الإسلامي العام، كان له مداخلة في الملف، دعا إلى إعادة الفهم وترتيب الأولويات فقال: إن الحديث المجرد عن شمول الإسلام وصلاحه للزمان والمكان لا يكفي أن يكون عناوين نظرية، وإنما يجب أن يكون مقومًا أساسيًا للرؤية والفرز والتقويم، ومنذ العصر الأول قال عمر لمن زكى عنده آخر: [لعلك رأيته قائمًا في المسجد يرفع رأسه تارة ويخفضه أخرى. قال: نعم. قال: اذهب فإنك لا تعرفه]. ومع ذلك فنحن لا نزال نقوم الناس بهذه الجزيئات، نعتبرها أحيانًا عنوانًا على الكل، ونعتبرها أحيانًا أخرى [الكل]. وهذا فهم خاطئ للمشروع الإسلامي، ومن غير أي تصغير لقيمة الشعائر الإسلامية {وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ} [الحج: 32] ولكن الإنسان من ضعفه وقصوره لا يمكن أن يقوم بشعيرة هنا وأخرى هناك. والموقف العام في الحياة أو التشريع لا يمكن أن يصاغ بقانون هنا أو قانون هناك.

خذ مثلاً قضية الشريعة الإسلامية بكل جمالها وجلالها وعدالتها وسموها وتحقيقها لمصالح العباد على صعيد الفرد والأسرة والمجتمع، اختصرها قوم جهلاً أو خبثًا في قضية الحدود، والحدود هي جزء أصيل من الشريعة الإسلامية، ولكنها جزء يسير منها، بل هي جزء يسير من معادلة [الجريمة والعقاب] التي لا تمس إلا دوائر محددة في حياة الناس.

فهم الآخر:

كما دعا الأستاذ زهير سالم إلى إعادة النظر في فهم الآخر فقال: المطلوب أن نتحول من مرحلة المفاصلة إلى مرحلة [المداخلة] ومن مرحلة النبذ إلى مرحلة [الجذب]، يجب أن يُمد قطر الدائرة الإسلامية، ليشمل أعدادًا أوسع، ولا نعتبر هذا تمييعًا للموقف الإسلامي وإنما هو تحقيق لمقصد الشريعة في الدعوة والانتشار، يجب أن نربط الفرد، والجماعة، والحزب، والدولة، والحاكم والمحكوم بالإسلام، ولو بشعرة. إن النبذ بالكفر كبيرة شرعية، وخطيئة حركية سياسية، الواجب أن نبحث عمّا يربط الناس بالإسلام، لا عما يخرجهم منه، كان المنافقون يزاحمون المسلمين على الصف الأول، ولم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم يواجههم بذلك.

إن مصطلح الكفر [البواح] له معناه وجرسه الذي يجب على الداعية أن يتوقف عنه كثيرًا. والأصل الشرعي الابتعاد عن التكفير ما أمكن التأويل...

يجب أن نعيد فرز وتقويم الآخر في كل دوائره، كما يجب أن نؤكد أن سياسات مد الجسور، والبحث عن المشترك، وتقويته وتدعيمه هما من مرتكزات الحركة في إطار القرن الجديد.

الموقف من السلطة:

إن دور السلطة في حياة المجتمعات أخذ بالتقلص وكذا دورها السياسي العام في عصر العولمة، لقد تسبب التفكير في السلطة أو النزاع عليها بكثير من المشكلات للعمل الإسلامي، وكان العنف الداخلي أحد الثمار المرة والفِجة لهذا التفكير، في حياة الفرد والمجتمع وحتى الدولة مساحات كبيرة للحركة دون المساس بالسلطة. هذه الطريقة المنهجية في الحركة لم تغب عن ذهنية حسن البنا رحمه الله ولا عن ذهنية مصطفى السباعي رحمه الله، وإنما غابت عن ذهنية آخرين اعتبروا تحدي السلطة التحدي الأول والأخير فأرهقوا أنفسهم وإخوانهم. لقد كان المنهج الإسلامي عبر تاريخه الطويل إصلاحيًا، وبناءً، وفعالاً، وشارك في تحقيق الإنجازات العظيمة في حياة الأمة. أعتقد أن فكرة [الإسلام الثوري] هي بعض وافدات الفكر المادي والخلط بين المفهوم المادي الثوري، ومفهوم الجهاد الإسلامي، أربك الحركة الإسلامية كثيرًا. إن المقاومة الفلسطينية بكل أبعادها ووسائلها جهاد لا شك في ذلك، أما ما جرى في [الأقصر] أو في بعض المدن العربية، أو ما يجري هنا وهناك في دول العالم، فهو إلى الثورة أقرب منه إلى الجهاد. الجهاد فعل شرعي له أحكامه وضوابطه، والثورة ظاهرة عامة تحكمها عوامل أخرى من الفعل ورد الفعل.

تكامل الأجيال:

ودعا الأستاذ زهير سالم إلى تكامل دور الأجيال فقال: أنت لا تستطيع أن تضع فاصلاً حادًا بين مرحلتين في حياة الإنسان، وإذا اعتبرنا الشباب موئل العطاء فإن المرء لا يزال شابًا ما دام قادرًا على العطاء، وكم جالسنا شيوخًا في الثمانين من أعمارهم كان لهم توقد الشباب وتحرقه وعطاؤه.. المعادلة ليست زمنية إذًا، وفي الوقت نفسه فإنه لابد من الصيرورة إلى التكامل في البناء العام للحركات، الشيوخ والكهول والشباب والفتيان والرجال والنساء، كل هؤلاء لهم أدوارهم، ولا تلغي فئة عمل فئة أخرى.

في إطار العمل الإسلامي العام لم تكن المعضلة قط معضلة عمرية، في قطر من الأقطار مثلاً قاد الحركة الإسلامية جيل من الشباب، كانت أعمارهم جميعًا في حدود الأربعين، وكانت النتيجة كارثية.

أؤكد أن البعد العمري له دوره في نضج الإنسان وتجربته، كيف وقد نص على ذلك القرآن الكريم: {حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً} [الأحقاف: 15] ولكن دور المعادلة الزمنية يبقى محدودًا.

مهمة الشباب الحركة، والحركة مرتبطة بالمبادرة أكثر من ارتباطها بالقرار. الذين يتطلعون إلى القرار هم الذين يعجزون عن الحركة، ومبادرات الشباب تكون دائمًا موضع نظر الشيوخ وتقديرهم.

نحن بحاجة إلى المجتمع بكل هيكليته. وما أروع ما صور به النابغة الجعدي هذا التكامل في حضرة رسول الله صلى الله عليه وسلم معبرًا عن الشباب، وما يصاحبه من انفعال وعاطفة وقوة [بالجهل] على طريقة العرب، وعبّر عن الشيوخ بالحلم والرزانة فقال:

ولا خير في حلم إذا لم يكن له جهول يحمي بوادره أن يكدرا

ولا خير في جهل إذا لم يكن له حليم إذا أورد الأخر أصدرا

فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:' لا فض الله فاك' تأييدًا لهذا الكلام.

تقول كتب الأدب فعاش النابغة 120 عامًا ما سقطت له سن.

الجزء الأول

معوقات وعوامل نهضة الأمة..قراءة تحليلية نقدية لنخبة من المفكرين والدعاة [1/2]

===============

#التربية طريق التغيير الحضاري

بقلم المغفور له السيد: علي عزت بيجوفيتش

8/18/2005

في النظام الإسلامي تتوحد عناصر الدين والتنظيم السياسي والاجتماعي جميعًا، فكيف نسعى لتحقيقه؟.. بنهضة دينية، أم بثورة سياسية؟

إن الإجابة عن هذا السؤال هي: إنه لا يمكن البدء في نهضة إسلامية بدون ثورة دينية، كما أنه لا يمكن لهذه النهضة أن تواصل سيرها بنجاح وتكتمل إلا بثورة سياسية، هذه الإجابة التي تحدد النهضة الإسلامية باعتبارها ثورةً مزدوجةً، أخلاقية واجتماعية، وتعطي أولوية واضحة للصحوة الدينية.. هذه الإجابة تنبثق من طبيعة الإسلام ومبادئه، وليس من الواقع الكئيب الذي يطبع العالم المسلم في الوقت الحالي

.

هذا الواقع يفصح عن خطورة الحالة المعنوية للعالم المسلم كما يكشف عن الانحراف وسيطرة الفساد والخرافة والكسل والنفاق وسيادة التقاليد والعادات غير الإسلامية وترسُّخ المادية، والغياب المذهل للحماسة والأمل.. فهل يمكن البدء بأي نوع من الإصلاح الاجتماعي أو السياسي مباشرةً في مثل هذه الظروف؟ وكل أمة- قبل دعوتها لأداء دورها في التاريخ- عليها أن تحيا فترةً من التطهير "الجواني" والتسليم العملي بمبادئ أخلاقية أساسية معينة.

إن كل قوة في العالم تبدأ بثبات أخلاقي، وكل هزيمة تبدأ بانهيار أخلاقي، فكل ما يراد تحقيقه لابد أن نبدأ بتحقيقه أولاً في أنفس الناس.. فماذا نعني بالصحوة الدينية كمتطلب أساسي للنظام الإسلامي؟ إن الصحوة الدينية هي وعيٌ واضحٌ بالغاية الحقيقية للحياة: لِمَ نحيا؟ ولأجل أي هدف نحيا؟ وهل هذا الهدف هدف شخصي أم هدف مشترك؟ هل يتعلق الهدف بعظمة العنصر "الذي أنتمي إليه"؟ أم بمجد الأمة؟ أم تأكيد شخصيتي الفردية؟ أم هو هيمنة شريعة الله على الأرض؟

وبالنسبة لحالتنا فإن الصحوة الدينية تعني من الناحية العملية "أسلمة" الناس الذين يدَّعون أنهم مسلمون، أو أولئك الناس الذين يدعونهم الآخرون بهذا الاسم، فنقطة الانطلاق في هذه "الأسلمة" هي الإيمان الراسخ بالله من جانب المسلمين، والالتزام الدقيق الأصيل بقيم الإسلام الدينية والأخلاقية.

أما العنصر الثاني للصحوة الدينية فيتمثل في الاستعداد للقيام بالواجبات التي يفرضها الوعي بالهدف، فالصحوة الدينية- لذلك- هي نوع من الالتزام الأخلاقي، والحماسة حالة من القوة الروحية على المادة، حالة من المثالية الحية العملية يصحب فيها الأشخاص العاديون وهم قادرون على أعمال بطولية تتسم بالشجاعة والتضحية، ومن ثَمَّ فالصحوة الدينية خاصية جديدة للإيمان والإرادة، تتلاشى فيها قيمة المعايير اليومية المألوفة للممكن، ويرتفع فيها الفرد والجماعة معًا إلى درجة أعلى من درجات التضحية في سبيل تحقيق مثلهم الأعلى.. وبدون هذه الحالة الجديدة للروح والشعور يستحيل تحقيق أي تغيير حقيقي في عالم المسلمين الحالي.

وعند النظر في هذه الأمور تستبد بنا الحيرة- ولو للحظة قصيرة- فنتساءل: هل أقصر طريق للنظام الإسلامي هو الاستيلاء على السلطة التي ستقوم بدورها ببناء المؤسسات المناسبة وتقوم بتربية الشعب تربيةً دينيةً وأخلاقيةً وثقافيةً، كمقدمة ضرورية لبناء مجتمع إسلامي؟! لكن هذه مجرد غواية، فالتاريخ لا يذكر لنا أي ثورة حقيقية جاءت عن طريق السلطة وإنما عن طريق التربية، وكانت معنية في جوهرها بالدعوة الأخلاقية.

إضافة إلى ذلك فإن الصيغة التي تقصر إقامة النظام الإسلامي على نوع من السلطة لا تجيب عن السؤال: من أين تأتي هذه السلطة ومن سيقيمها وينفذها؟ ومن أي نوع من الناس ستتألف هذه السلطة ومؤسساتها؟ وفي النهاية من الذي سيكبح سلوك هذه السلطة ويمنعها من أن تتحول إلى "غول" تخدم نفسها بدلاً من أن تخدم الشعب الذي رحَّب بها؟

من الممكن استبدال مجموعة من الناس في السلطة بمجموعة أخرى، وهذا ما يحدث كل يوم.. يمكن استبدال مجموعة من الطغاة بمجموعة أخرى من الطغاة.. "إن مُلاك السلطة في هذا العالم قابلون للتغيير"، ومن الممكن تغيير الأسماء والأعلام والسلام الوطني والشعارات.. ولكننا بهذا كله لا نستطيع أن نتقدم خطوةً واحدةً نحو تحقيق النظام الإسلامي من حيث هو تجربة جديدة في العالم.. وعلاقة جديدة مختلفة بين الإنسان ونفسه وبينه وبين الآخرين والعالم.

والتطلع الدائم إلى سلطة ما للمساعدة تكمن جذوره في الميل الطبيعي للإنسان إلى الهروب من المراحل الأولى الشاقة من الجهاد.. وأعني بذلك جهاد النفس؛ فإن تربية الناس مشقَّة؛ ولكن أشق منها تربية الذات، والصحوة الدينية بحكم تعريفها تعني البدء بالذات.. بحياة الإنسان نفسه.. أما فكرة العنف والسلطة- كوسيلة للتغيير- فهي موجَّهة للآخرين، وهذا ما يجعل هذه الفكرة ذات إغواء.

لذلك لابد لأي حركة تتطلع إلى النظام الإسلامي كهدف أساسي لها أن تكون حركة أخلاقية.. أن تستهدف إيقاظ الناس بالمعنى الأخلاقي، وأن تكون لها وظيفة أخلاقية تنهض بالناس وتصلح أحوالهم، وهذا هو الفرق بين الحركة الإسلامية وبين الحزب السياسي، فالحزب السياسي قد تتمثل فيه وحدة بين الأفكار والمصالح؛ ولكنه لا يتضمن معايير أخلاقية ولا يشغل الناس بنشاط أخلاقي.. لقد أعطت المصادر الإسلامية أولويةً مطلقةً للصحوة الدينية:

أولاً- يقرر القرآن أن الصحوة الداخلية "تغيير النفس" شرط سابق على أي تغيير أو إصلاح أوضاع أي جماعة: ?إِنَّ اللهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ? (الرعد: 11).

ثانيًا- تأكدت هذه القاعدة عمليًا في صدر الإسلام وفي جهاد الرسول محمد- صلى الله عليه وسلم- في سبيل إقامة أول نظام إسلامي في التاريخ، ويدل على هذا أن القرآن طوال السنوات الـ13 من الدعوة الإسلامية اقتصر في نقاشه على قضايا الإيمان وتأكيد المسئولية، ولم يتطرق في تلك الفترة لأية مشكلة اجتماعية أو سياسية، ولم يقرر أي نوع من القوانين الاجتماعية المبنيَّة على الإسلام.. إننا نتطلع إلى الصحوة الدينية في تحقيق ثلاثة أمور أخرى مهمة:

1- الصحوة الدينية وحدها هي التي يمكن أن توفر العزم- دون تردد أو تساهل- على تطبيق أحكام القرآن، ولاسيما تلك الأحكام التي تتعلق بالأمراض الاجتماعية المتأصلة، أو التي من شأنها إحراج أصحاب السلطان ومحتكري الثروات العريضة، وتعني الصحوة الدينية أن يتم تطبيق هذه الأحكام دون عنف أو كراهية؛ لأن كل المجتمع الذي استيقظ فيه وعيه الديني أو غالبيته سوف يفقه هذه الأحكام ويرحِّب بها طاعةً لأمر الله وتحقيقًا للعدل.

2- لا يمكن تصور نهضة إسلامية بدون استعداد الناس لتضحيات هائلة بالأموال والأنفس، ولا بدون درجة عالية من الثقة المتبادلة والتعاون المخلص فيما بينهم، وإلا فما الذي يحول دون استغلال هذه الجهود والتضحيات التي يفرضها على نفسه فريق من المجتمع؛ لكي يستخدمها فريق آخر لدعم سيطرته وإشباع مطامعه؟ وما الذي يمنع من تكرار مأساة الهزائم الأخلاقية التي يتكرر ظهورها في التاريخ الحديث للمسلمين؟! إن كل نظام- بما في ذلك النظام الإسلامي- يكون دائما أكثر تمثيلاً للناس الذين أقاموه من تمثيله للمبادئ التي ينادون بها.

3- نظرًا للتخلف المذهل في العالم الإسلامي عليه أن يسير سيرًا حثيثًا في مجالي التربية والتصنيع، جنبًا إلى جنب؛ وذلك لأن التنمية المادية المتسرعة تكون عادةً مصحوبةً بأعراض مرضية خطيرة، تتمثل في الاستبداد والفساد، وتحطيم الأسرة، وانتهاب الثروات بطرق سريعة غير مشروعة، وبروز الانتهازيين ومعدومي الضمير في المقدمة، والتوسع في المدن على حساب الريف، وانتشار الكحول والمخدرات، وتفشي الدِّعارة، ولا يوجد سدٌّ يحول دون الفيضان الكاسح لهذا الخبث المضاد للثقافة والأخلاق إلا ذلك السدُّ الذي يبنَى على أساس من الإيمان القوي الخالص بالله، والالتزام بتعاليم الدين من قبل جميع فئات الشعب، فالدين وحده هو الذي يضمن لنا ألا تقوض الحضارة أركان الثقافة، أما التقدم المادي والتقني المجرد- كما رأينا بوضوح في كثير من الحالات- فإنه قد يتحوَّل إلى بربرية.

السلطة الإسلامية

إننا إذا كنا نؤكد على أولوية الصحوة الدينية والأخلاقية، فهذا لا يعني- ولا يصح تأويله ليعني- أن النظام الإسلامي يمكن أن يقوم دون سلطة إسلامية، إنه يعني فحسب أن طريقنا لا يبدأ بالاستيلاء على السلطة، وإنما بكسب الناس، وأن الصحوة الإسلامية إنما هي ثورة في التربية تؤدي إلى ثورة في السياسة، فيجب علينا أن نكون أولاً دعاةً، ثم بعد ذلك نكون جنودًا مجاهدين، وسلاحنا هو القدوة الشخصية والكتاب والكلمة، فمتى تلحق القوة بهذا كله؟!

اختيار هذه اللحظة هو دائمًا اختيار واقعي يعتمد على سلسلة من العوامل، وتوجد على كل حال قاعدةٌ عامة: أن الحركة الإسلامية يمكنها؛ بل يجب عليها أن تبدأ في السعي إلى السلطة عندما تجد في نفسها من القوة الأخلاقية والعددية ما يمكِّنها- ليس فقط- من تغيير الحكومة غير الإسلامية؛ بل أيضًا من بناء حكومة إسلامية، وهذا التمييز بالغ الأهمية؛ لأن تغيير النظام وبناء نظام آخر لا يتطلبان نفس الدرجة من التهيؤ النفسي والمادي.

التسرع في هذه الأمور خطر، شأنه في ذلك شأن التراخي، وتسلُّم السلطة نتيجة توافر مجموعة من الظروف المواتية بدون إعداد أخلاقي ونفسي كافٍ، وبدون

=============

#كيف تصبح شخصية فعالة - أنت مفتاح النهضة

السبت غرة صفر 1426هـ - 12مارس 2005 م

الصفحة الرئيسة

مفكرة الإسلام : 'يوشك أن تداعى عليكم الأمم كما تتداعى الأكلة إلى قصعتها، قالوا: أو من قلة نحن يومئذ يا رسول الله؟ قال: كلا بل أنتم يومئذ كثير ولكنكم غثاء كغثاء السيل، ولينزعن الله المهابة من قلوب عدوكم ، وليقذفن في قلوبكم الوهن، قالوا: وما الوهن يا رسول الله؟ قال: حب الدنيا وكراهية الموت'.

بهذا الحديث والذي يعد علمًا من أعلام النبوة، يوصف لنا النبي صلى الله عليه وسلم وبدقة متناهية واقعنا المرير الذي تحياه أمة الإسلام في هذا الزمان، فعلى الصعيد الخارجي ها هي أمم الكفر من اليهود والصليبيين قد تداعت علينا، كل يريد أكل نصيبه من قصعة الإسلام، والتي أصبحت حلاً مستباحًا لكل من هب ودب من أعداء الله، ففي الوقت الذي ما زال فيه جرح الأمة يسيل في القدس الشريف، اذ بها تبتلي بجراح أخرى لا تقل عنها نزفا في الشيشان، ثم في أفغانستان وأخيرًا في العراق والبقية تأتي.

وعلى الصعيد الداخلي: فالمأساة أقوى وأشد، فقد انحرفت جماهير الأمة عن شرع الله تعالى، انتشر الفساد وخربت الأخلاق، وعرفت الشعوب في حب الشهوات والملذات، وعطلت أحكام الله تعالى، دب الوهن في قلوب المسلمين، وتخلفوا عن ركب الحضارة والتقدم، انتشر الجهل والتخلف أصبحنا في ذيل الأمم، نتقوت على فتات الحضارة الغربية، بعد أن كنا أساتذة النهضة والمدنية، ساد فينا نموذج العاجز الكسلان بعد أن كنا فرسان الإنجاز والفاعلية، ضاع منا زمام القيادة بعد أن كنا قد:

ملكنا هذه الدنيا قرونا

...

وأخضعها جدود خالدونا

وسطرنا صحائف من ضيا

...

فما نسي الزمان ولا نسينا

ولكن:

وما فتئ الزمان يدور حتى

...

مضى بالمجد قوم آخرونا

وأصبح لا يرى في الركب قومي

...

وقد عاشوا أئمته سنينا

وآلمني وآلم كل حر

...

سؤال الدهر .. أين المسلمونا؟

ويقف المؤمن الحر أمام هذا الواقع متفكرًا أين المخرج؟

ما السبيل إلى عودة هذه الأمة لتسلم لواء السيادة الذي أوجب الله عليها حمله {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ} [البقرة:143].

{كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} [آل عمران:110].

ما الطريق إلى تبوأ أمتنا لهذه المكانة العلية؟ واعتلائها لذري المجد والسؤدد والحضارة والتقدم، والعزة والتمكين، والجواب أن هذا الطريق الشاق يبدأ منك أنت أخي المؤمن، بهذا أخبرنا الله تعالى في كتابه: {إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ} [الرعد:11].

إن الطريق إلى بناء الأمة يبدأ من بناء الفرد المؤمن، ولكنه البناء الكامل الشامل وحده الذي يمكن أن يحدث النهضة، إننا نريد نموذج المؤمن الفعال لا المؤمن العاجز السلبي ذلك أن مهمة النهوض بهذه الأمة من كبوتها الحالية مهمة شاقة عسيرة لا يكفي للقيام بها عاجز ضعيف الشخصية، ناقص القدرات والمهارات حتى لو كان على قدر كبير من الصلاح والتقوى، إننا نخطئ كثيرًا حينما لا نفصل بين منزلة الإنسان عند ربه والتي معيارها التقوى والطاعة، وبين صلاحية هذا الإنسان لتولي زمام القيادة، ومهمة التغيير، وهذا نبينا صلى الله عليه وسلم يقول في أبي ذر رضي الله عنه: 'ما أقلت الغبراء أصدق لهجة من أبي ذر'.

ومع ذلك يمنعه صلى الله عليه وسلم من تولي القيادة فقال له: 'يا أبا ذر إني أراك ضعيفًا فلا تولين إمرة اثنين'. وما ضر ذلك أبا ذر ـ رضي الله عنه ـ ولا نقص من قدره شيئًا بعد أن انتصب أستاذًا في الزهد، وتربية المسلمين بالقدوة واللسان الدعوى الناطق، ولكن لكل مهمة مقوماتها، ولكل دور رجاله، وكل ميسر لما خلق له.

ومجتمعاتنا اليوم تنوء بأثقال السلبية والتخلف تترك آثارها ولا شك على كل مؤمن، ولذلك لا بد أن نعلم أن المؤمن التقي الصالح الذي يفتقد الشخصية القوية المؤثرة، ذات المهارات والقدرات قد لا يستطيع أن ينهض بحمل الأمانة، والقيام بالمسئولية، من أجل ذلك فيجب أن نعمل في هذه الأيام على بناء المؤمن القوي الفعال الذي قال فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم: 'المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف'.

وفي طريق البناء المنشود نحتاج إلى منهج واضح لبناء هذا النموذج الفذ ولا بد أن يقوم هذا المنهج على ركيزتين أساسيتين:

1ـ بناء الإيمان.

2ـ بناء القوة في الشخصية عبر إتقان فنون التأثير والفاعلية.

ولقد استفاضت المكتبة الإسلامية في بيان الركيزة الأولى وهي الإيمان، أما الركيزة الثانية فهي التي فيها الندرة، وهي موضع هذه السلسلة بإذن الله تعالى، نحاول فيها أن نضع منهاجًا عمليًا لبناء الشخصية الفعالة التي تملك من فنون التأثير ومقومات الإنجاز والريادة ما يجعلها أهلاً لإحداث النهضة الشاملة في أمة الإسلام، وذلك عبر استخدام ما توصل إليه علماء الإدارة والتنمية البشرية في الحضارة الغربية بعد وزنه بميزان الشريعة، والتعامل معه بروح الانتقاء الاستعلائي بدلا عن التبعية العمياء والانبهار الذليل، فالحكمة ضالة المؤمن أنى وجدها فهو أحق بها، والعلم التجريبي ميراث بين الأمم، وما قامت الحضارة الغربية إلا بعد أن اقتبست أسس النهضة من جامعات المسلمين في الأندلس من خلال فرانسيس بيكون وغيره من مؤسسي النهضة الغربية، وعلى ذلك فعلينا نحن أن نعيد الكرة ونأخذ مما عندهم ما يفيدنا وينفعنا ولكن من خلفيتنا العقدية، وموازيننا الشرعية، فنأخذ عن علم، ونستفيد بوعي، ونضيف بحكمة، وما أكثر ما نستطيع إضافته من الإسلام إلى فنون الفاعلية، وكما يقول الشيخ الغزالي رحمه الله: ' وللفطرة في بلاد الإسلام كتاب يتلى ودروس تلقى وشعوب هاجعة، ولها في بلاد أخرى رجال ينقبون عن هداياتها كما ينقب المعدنون عن الذهب في أعماق الصحارى، فإذا أظفروا بشيء منه أغلوا قدره واستفادوا منه، وصدق من قال: الناس رجلان: رجل نام في النور ، ورجل استيقظ في الظلام' ونتاج الفطرة الإنسانية في البلاد المحرومة من أشعة القرآن الكريم نتاج واسع الدائرة متفاوت القيمة، وليس يصعب على من له أثارة من علم بالإسلام الحنيف أن يرى المشابهة بين الدلالة الصامتة هناك، والدلالة الناطقة هنا، أو بين العنوان المفصول عن موضوعه هنا، والموضوع الذي فقد عنوانه هناك، إن الانحطاط الفكري في الأقطار المحسوبة على الإسلام يثير اللوعة، واليقظة العقلية في الأقطار الأخرى تثير الدهشة، ولا يحملنا على العزاء إلا أن هذه اليقظة صدى الفطرة التي جاء الإسلام يعلى شأنها، أما تخلف المسلمين فسببه الأول تنكرهم لهذه الفطرة السليمة وتخاذلهم عن السير معها'.

ومن خلال استقراء أساسيات علوم الإدارة والتنمية البشرية، يمكننا أن نتبين الملامح الآتية والتي تمثل الأركان الأساسية في منهج بناء المؤمن الفعال:

الركن الأول: الهدف.

الركن الثاني: التخطيط.

الركن الثالث: الإيجابية.

الركن الرابع: الجماعية.

الركن الخامس: اكتساب المهارات والتي تشمل:

1ـ مهارات إدارة الذات: مثل إدارة الوقت، اتخاذ القرار.

2ـ مهارات في بناء العلاقات والتأثير في الآخرين.

3ـ مهارات في القيادة.

4ـ مهارات في إدارة العقل مثل: التفكير، الذكاء، التركيز، الإبداع..

5ـ مهارات في إدارة العمل مثل: التفويض، التفاوض، إدارة الاجتماعات ..

6ـ قدرات نفسية مثل: الثقة بالنفس، الإدارة القوية...

لمن هذه السلسلة؟

إن هذه السلسلة إنما نوجهها لكل من آمن بالله ربًا وبالإسلام دينًا وبمحمد صلى الله عليه وسلم نبيًا ورسولاً، رجالاً ونساءً، صغارًا وكبارًا، نهيب من خلالها بكل مؤمن أن يتقدم ليقوم بدوره في إحداث نهضة هذه الأمة من خلال التفوق والنبوغ في تخصصه، إننا نخاطب هذا الكلام:

1ـ الدعاة إلى الله تعالى: ونضم صوتنا هنا إلى صوت الشيخ المربي الفاضل محمد الدويش ـ حفظه الله ـ وهو يشرح لنا مفهوم التكامل في التربية فيقول: 'إن من يتأمل في هذا المفهوم يرى أنه يكاد ينحصر في جانب التدين في شخصية المرء وما يتصل بها ويتجاهل الجوانب الأخرى، ومن هنا فالحديث عن بناء القدرات العقلية ومهارات التفكير لدى الفرد والمهارات الاجتماعية والصحة النفسية .. الخ الحديث عن هذه الجوانب في التربية الدعوية لا يزال نادرًا فضلاً عن الاعتناء بذلك في التطبيق والممارسة'.

ومن هنا فنحن ندعو كل داعية إلى أن يستكمل بناء شخصيته معنا من خلال هذا المنهج ليكون أقدر على القيام بحمل أمانة الدعوة وأداء تكاليف الرسالة.

2ـ كل مؤمن صاحب تخصص مهني أو علمي، سواء كان طالبًا، معلمًا، طبيبًا، مهندسًا، عاملاً، رجل أعمال، حتى ولو كان مقصرًا في حق ربه، ندعوه أن يجبر قصوره ويعيد بناء إيمانه وفاعليته معًا، ونقول له أنت أول من نخاطب بهذه السلسلة ونناديه مع الشاعر:

يا سليل المجد ماذا غيرك

...

أنت للمجد وهذا المجد لك

كيف تغفو يا فتى التوحيد هل

...

هيأ الأعداء في الدرب الشرك؟

يا سليل المجد هلا قلت لي

...

أي ذنب بالمخازي ضيعك؟

أيها السادر في لذاته

...

هل ترى عيش المعاصي أعجبك؟

أمتي قد علقت فيك المنى

...

فاستفق وانهض وغادر مضجعك

عد إلى الرحمن في طهر تجد

...

مركب النصر إلى العليا معك

وترى الأبطال آساد الثرى

...

تشتهي يوم الفدا أن تتبعك

وأخيرًا فهذه وصيتي الشرعية السنية لكل مؤمن ومؤمنة

أوصيكم أن تعودوا للرحمن وأن تصنعوا النهضة.

==============

#فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ

الأحد 21 ذي القعدة 1425هـ - 2 يناير 2005 م

الصفحة الرئيسة

يقول عز وجل:{ فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ وَلَا تَطْغَوْا إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ[112]وَلَا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ[113]}[سورة هود].

قضية الاستمرار في الامتثال لأمر الله في المنشط والمكره من القضايا الجوهرية في التصور الإسلامي، ومن القضايا الجوهرية كذلك في بنية التشريع وأدبياته، وليس أدل على ذلك من وصية الله لنبيه صلى الله عليه وسلم في هذه الآية وفي غيرها بـ [الاستقامة]، التي هي:'المداومة على فعل ما ينبغي فعله، وترك ما ينبغي تركه'.

وقد قام عليه الصلاة والسلام بإسداء النصح بلزومها لمن سأله عن قول فصل يصلح به جماع أمره، فعَنْ سُفْيَانَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الثَّقَفِيِّ قَالَ قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ قُلْ لِي فِي الْإِسْلَامِ قَوْلًا لَا أَسْأَلُ عَنْهُ أَحَدًا بَعْدَكَ قَالَ: [قُلْ آمَنْتُ بِاللَّهِ فَاسْتَقِمْ]رواه مسلم .

ولنا مع هذه الآيات المباركة الوقفات التالية:

1- إن في قوله جل وعلا:{ وَلا تَطْغَوْا }، وقوله:{وَلا تَرْكَنُوا إلَى الَذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ} إشارة واضحة إلى ما يعترض سبيل الاستقامة من ملابسات السرّاء والضرّاء، وقد أخبرنا ربنا أن من طبيعة البسط والتمكن استدعاءَ البغي والطغيان، حيث قال سبحانه:{ وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ...[27]}[سورة الشورى].

والبغي هو مجاوزة الحد، وهو يتجسد في صور متعددة:

فبغي القوة: البطش بالضعفاء. وبغي الجاه والنفوذ: الظلم وأكل الحقوق. وبغي العلم: اعتماد العالم على ما لديه من شهرة ومكانة؛ مما يدفعه إلى القول بغير دليل، ورد أقوال المخالفين من غير حجة ولا برهان. وطغيان المال: التبذير والإسراف والتوسع الزائد في المتع والمرفهات .

والعارض الثاني للاستقامة على خلاف الأول: حيث تدفع الطموحات، والتطلعات المصلحية، والضعف، والظروف الصعبة إلى مصانعة الظالمين ومداهنتهم وإشعارهم بالرضا عما هم فيه، والاستفادة من قوتهم وما لديهم من متاع في تحسين الأحوال وتحقيق المكاسب ... مع أن طبيعة الاستقامة والالتزام في هذه الحال تقتضي المناصحة، والهجر، والضغط الأدبي، والتحذير من التمادي في ذلك، وهذا كله منافٍ للركون؛ لكن الشيطان يبرهن دائماً على أنه يملك خبرات مميزة في تزيين الباطل والتلبيس على الخلق، فهو ينسيهم أحكاماً ومواعظ وأدبيات ومواقف وتجارب، ويدفع بهم بعيداً عن كل ذلك !

2- إن الاستقامة في التحليل النهائي ليست سوى تمحور المسلم حول مبادئه ومعتقداته، مهما كلف ذلك من عنت ومشقة، ومهما ضيع من فرص ومكاسب .

وينبغي أن يكون واضحاً: أن المرء إذا أراد أن يعيش وفق مبادئه، ورغب إلى جانب ذلك أن يحقق مصالحه إلى الحد الأقصى، فإنه بذلك يحاول الجمع بين نقيضين، وسيجد أنه لا بد في بعض المواطن من التضحية بأحدهما حتى يستقيم أمر الآخر .

إن تحقيق المصلحة على حساب المبدأ يُعدّ انتصاراً لشهوة، أو مصلحة آنيّة، أما الانتصار للمبدأ على حساب المصلحة، فإنه بمثابة [التربع] على قمة من الشعور بالسعادة والرضا، والنصر والحكمة، والانسجام والثقة بالنفس، وقد أثبتت المبادئ أنها قادرة على أن تكرر الانتصار المرة تلو المرة، كما أثبت الجري خلف الشهوات دون قيد ولا رادع أنه يحقق نوعاً من المتع والمكاسب الآنيّة، لكنه لا يفتأ أن يرتد على صاحبه بالتدمير الذاتي، حيث ينمو الظاهر على حساب فساد الباطن، ويتألّف الشكل على حساب ضمور المضمون !

إن المبدأ أشبه شيء بـ [النظارة] إذا وضعناها على أعيننا، فإن كل شيء يتلّون بلونها، فصاحب المبدأ له طريقته الخاصة في الرؤية والإدراك والتقويم:

إنه حين يرى الناس يتسابقون على الاستحواذ على منصب؛ يستغرب من ذلك، ويترفّع؛ لأن مبدأه يقول له شيئاً آخر غير ما تقوله الغرائز للآخرين.

وإذا رأى الناس يخبطون في المال الحرام؛ تقززت نفسه؛ لأنه يعلم ضخامة العقوبة التي تنتظر أولئك.

وإذا أصيب بمصيبة؛ فإنه يتجلد ويصبر؛ لأنه يرجو المثوبة عليها من الله تعالى.

إذا قلّبنا النظر في اهتمامات الناس ومناشطهم اليومية، فإن من السهل الوقوف على المحور الذي يعلقون عليه توازنهم العام، وهناك تشاهد:

من همّه الأكبر النجاح في عمله والمحافظة على سمعته فيه.. كما تشاهد من يتمحور حول المتعة، فهو يبحث عنها في كل نادٍ وواد.

ومن يتمحور حول المال، فهو يجوب العالم بحثاً عنه.. ومن يبحث عن السيطرة والنفوذ، فهو مستعد لأن يفعل أي شيء في سبيل التمكن والتحكم.

وتجد ثلة قليلة بين هذا الطوفان من البشر استهدفت أن تحيا لله، وأن تبحث عن رضوانه، ومن ثمَّ: فإنه يمكن تفسير كل أنشطتها ومقاصدها في ضوء هذا المحور، وهذه الثلة هي التي أُمِر النبيّ صلى الله عليه وسلم أن يفصح عن محورها باعتباره رائدها وهاديها:{ قُلْ إنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ العَالَمِينَ [162] لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ المُسْلِمِينَ[163]}[سورة الأنعام].

إن الذين يعلنون الولاء للمبادئ كثيرون، بل هم أكثر أهل الأرض، ولكن لا برهان على ذلك لدى أكثرهم، ويمكن أن يقال: إن لأكثر الناس دينين : ديناً معلَناً وديناً حقيقيّاً، ودينُ المرء الحقيقي هو الذي يكرِّس حياته من أجله .

إن من طبيعة المبدأ أنه يمد من يتمحور حوله بقوى وإمكانات خارقة وخارجة عن رصيده الفعلي، ولذا: فإن التضحيات الجليلة لا تصدر إلا عن أصحاب المبادئ والالتزام، وهم أنفع الناس للناس؛ لأنهم يثرون الحياة دون أن يسحبوا من رصيدها الحيوي، إذ إنهم ينتظرون المكافأة في الآخرة .

التمحور حول المبدأ هو الذي يمنح الحياة معنى، ويجعلها تختلف عن حياة السوائم الذليلة التي تحيا من أجل التكاثر ومجرد البقاء .. المبدأ هو الذي يُضفي على تصرفاتنا الانسجام والمنطقية، ويجعلها واضحة مفهومة .

نحن لا ننكر أن الظروف الصعبة تُوهِن من سيطرة المبدأ على السلوك، لكن تلك الظروف هي التي تمنحنا العلامة الفارقة بين أناس تشبّعوا بمبادئهم؛ حتى اختلطت بدمائهم ولحومهم، وأناس لا تمثل المبادئ بالنسبة لهم أكثر من تكميل شكلي لبشريتهم.

3- لا يماري أحد في أن الإنسان اكتشف في العصر الحديث من الآيات والسنن ما لم يكتشف عشر معشاره في تاريخ البشرية الطويل، لكن مع هذا فعنصر المخاطرة والإمكانات المفتوحة ما زال قائماً؛ حيث تتحكم في الظاهرة الواحدة عشرات الألوف من العلاقات التي يصعب معها التنبؤ بنتائج الاجتهادات والأنشطة المختلفة، ولا سيما في القضايا الكبرى، كمصائر الأمم والحضارات، وقضايا التقدم والتخلف، وما تنطوي عليه من تفاعلات وتغيرات، وإن الله قد ضمن لنا نتائج الاستقامة في الدنيا والآخرة، فهي بوجه من الوجوه وعلى نحو من الأنحاء لا تكون إلا خيراً، وإلا في صالح الإنسان، وقد قال الله:{... إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ[128]}[سورة الأعراف] .

وقوله:{... لَا نَسْأَلُكَ رِزْقًا نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى[132]}[سورة طه]. وقوله:{ وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ[96]}[سورة الأعراف].

أما من يسلك دروب المعاصي والفجور، ويتبع مغريات الأهواء والشهوات فإنه يظل يتوجس خيفة من سوء العاقبة، لكنه لا يعرف شكل العقوبة، ولا طريقة نزولها ولا توقيتها؛ ليكون الشك والغموض والخوف عاجل جزائه، ومقدمةً للبلاء الذي ينتظره، ثم تكون الخيبة الكبرى والخسارة العظمى ! !

إن هناك فترة سماحات تطول أو تقصر بين الانحراف وعواقبه، وهذا هو الذي جعل الابتلاء تامّاً، كما أنه هو الذي جرّأ أهل المعاصي على التماري في غيهم، لكن العاقل الحصيف ينظر دائماً إلى الأمام ويتحسس ما هو آتٍ، ويضغط على واقعة من أجل السلامة في مستقبله .

4- علينا أن نجمع بين النصوص التي تدل على ضرورة الاستقامة والالتزام بالمنهج الرباني، والنصوص التي تفيد رفع الحرج والعنت عن هذه الأمة، من مثل قوله تعالى:{... هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ...[78]}[سورة الحج] وقوله:{ لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا...[286]}[سورة البقرة] . وقوله:{... يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ...[185]}[سورة البقرة].

وإذا فعلنا ذلك، فإننا سنفهم من مجموعها أمرين:

الأول: هو ضرورة تزويد المسلمين بثقافة شرعية تتضح فيها حدود الواجبات، والمباحات والمحظورات، بما يشكل خارطة فكرية واضحة لما ينبغي أن يكون عليه سلوك المسلم وعلاقاته .

الثاني: توفير الظروف والشروط الموضوعية التي تجعل التزام المسلم بدينه ميسوراً، وبعيداً عن الحرج والمشقة التي لا تُحتمل؛ إذ إنه لا يكفي أن تكون التعاليم الإسلامية ضمن الطوق، بل لا بد إلى جانب ذلك من أن تكون الظروف المعيشية العامة التي يحيا فيها المسلم مناسبة، ومشجِعة على الالتزام .

إنه كلما تعقدت الظروف المطلوبة للعيش الكريم؛ قلّ عدد أولئك الذين يتصرفون ضمن مبادئهم، ويلتزمون حدود الشرع، فحين يكون المرتّب الشهري للموظف لا يكفي لسداد أجرة البيت الذي يسكنه، فإن شريحة كبيرة من الموظفين سوف تلجأ إلى طرق غير مشروعة في تأمين احتياجاتها اليومية، وآنذاك سيشعرون أن الالتزام التام لا يخلو من العنت، وحينئذ سيكون عدد الملتزمين بالطرق الشرعية في الكسب محدوداً .

إن الحضارة الحديثة أضعفت الإرادة بما أوجدته من صنوف اللهو والمتع، وجعلت الشروط المطلوبة للحد الأدنى من العيش الكريم فوق طاقة كثير من الناس، كما أنها أوجدت من الطموحات إلى الكماليات، وأشكال المرفِهات ما يتجاوز بكثير الإمكانات المتاحة، وهذا كله جعل الاستقامة على الشرع الحنيف بحاجة إلى نمط من الرجال أرقى، كما جعل من الواجب على الأمة أن تفكر مليّاً في توفير ظروف تساعد على الاستقامة، وتحفز عليها .

إن المنهجية الإسلامية تقوم دائماً على ما يمكن أن نسميه بـ [الحلول المركبة] ؛ إذ إن هناك من النصوص والأحكام ما يرفع الوتيرة الروحية للمسلم، كما إن هناك ما يزيد في بصيرته، وهناك ما يدعوه إلى الصبر والجلد، وهناك ما يحفزه على تحسين ظروف عيشه وأدائه، ولا بد أن نمنح الفاعلية لكل ذلك حتى يمكن تجسيد المنهج الرباني في حياة الناس .

إن الفكر مهما كان قويّاً، وإن الوعي النقدي مهما كان عظيماً، فإن سلوك الناس لن يتغير كثيراً ما لم تنشأ ظروف وأوضاع جديدة تحملهم حملاً على التحول إلى سلوك الطريق الأقوم والأرشد .

ويؤسفني القول: إننا لم نستطع إلى الآن أن نبلور نظرية إصلاحية إسلامية معاصرة ومتعمقة في تلمس شروط الاستجابة والظروف الصحيحة والمثلى لها، إلى جانب تلمس مجمل الحساسيات والترابطات والتداعيات التي تشكل المناخ المطلوب لقيام حياة إسلامية راشدة ! .

إن جل اهتمامنا ينصب على بيان ما يجب عمله، أما البرامج والكيفيات والإجراءات والأطر والسياسات التي يجب اتباعها وتأسيسها من أجل تحويل المبدأ إلى واقع معيش .. فإنها لا تلقى ما تستحقه من اهتمام ومتابعة، والخبرات لدينا في ذلك ما زالت ضئيلة، بل إن هناك مَن يستوحش من الخوض في غمار مثل هذا النوع من البحث، ويعد التعمق في ذلك ضرباً من [الاستغراب] أو الجنوح نحو المادية ! ومن الدعاة من يدعي أنه عارف بكل ذلك، لكن لو نظرت في إنتاجه المعرفي لم تقف له في هذه السبيل على كتاب، أو رسالة، بل على خاطرة أو فكرة .. [وما أطيب العرسَ لولا النفقة] ! ! ولله الأمر من قبل ومن بعد .

من:' فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ' للدكتور/ عبد الكريم بكار

=============

#خطابات الظواهري وملامح الطريق الثالث

السبت 22 من جمادى الثانية1428هـ 7-7-2007م الساعة 12:12 م مكة المكرمة 09:12 ص جرينتش

الصفحة الرئيسة > مقالات وتحليلات

... الطريق إلى إصلاح ثقافي حقيقي في مجتمعاتنا ...

الطريق إلى إصلاح ثقافي حقيقي في مجتمعاتنا؟؟

عصام زيدان

مفكرة الإسلام: يشن الرجل الثاني في تنظيم القاعدة الدكتور أيمن الظواهري بين الحين والآخر هجومًا شرسًا على جماعة الإخوان المسلمين في مصر, وكذلك على حركة المقاومة الإسلامية (حماس) بجامع المشروع السياسي التغييري الذي يجمع الجماعة والحركة.

هذا المشروع السياسي للإصلاح الذي تقوم على أساسه عدة حركات تغييرية في العالم العربي والإسلامي كان محل انتقاد من قبل الظواهري, في شريطه الأخير الذي نقلته عدة وكالات منذ أيام, فهو في معتقده نوع من الانبطاح للمفاهيم الغربية متمثلة في الديمقراطية, كما هي في مخيلته نوع من التفريط في الحاكمية والشريعة التي توجب منابذة الأنظمة وإسقاطها لإعلاء راية الشريعة والتمهيد للخلافة الإسلامية المغيبة منذ العام 1924.

خلاصة ما يردده الظواهري إذن في مجمل خطاباته يقوم على محورين أساسيين:

المحور الأول: أن حركات التغيير السلمي المتترسة خلف العمل السياسي متلبسة بالخطأ من ناحيتين:

الأول: أنها تفرط في الشريعة الغراء باتخاذها المفاهيم والمعتقدات الغربية سبيلاً للتغيير.

الثاني: أن هذا الطريق عقيم لا يمكن أن يسفر في نهايته عن شيء للأمة, وإنما هو من قبيل العبث وتضييع الأوقات.

المحور الثاني: أن الطريق الوحيد والسبيل القويم للوصول إلى الخلافة الراشدة لن يمر إلا بالتغيير القسري, وهذا على شقين:

الأول: استنزاف العدو البعيد المتمثل في الولايات المتحدة الأمريكية كونها تدعم تلك الأنظمة, وتساهم في إطالة عمرها.

الثاني: مجابهة العدو القريب بالعمل المسلح لغاية إسقاطه لمصلحة المشروع الإسلامي, وإقامة الخلافة الراشدة.

محاور رئيسة:

لا نريد أن نخوض كثيرًا في التعرض لرأي الظواهري, ولكن قبل أن نعرض ما نسميه الطريق الثالث أو "هندسة المجتمعات" نريد أن نقف عند عدة محاور رئيسة نمهد لما نريد أن نطرحه في هذا الشأن.

أولاً: الإشارة أو الملاحظة الأولية في البداية كتمهيد.. هي أننا يجب ألا ننجر إلى ثنائية الاختيار المفروضة علينا.. وذلك مثل حوار الحضارات وصراع الحضارات.. الإصلاح بالسياسية أم الإصلاح بالعنف.. معارض للحكومات أو مهادن لها...

فهذا الحجر الفكري يقوض مناحي التفكير المختلفة, ويجمدها عند برهة من الزمن, ظهرت فيها مجموعة من الاجتهادات البشرية هي وليدة ساعتها وزمنها, وقد يعتريها ما يعترى الاجتهادات من ظهور قصور وعدم صلاحية للوقت والزمن الحالي.

ثانيًا: أن التغيير السلمي المستند إلى آليات سياسية صحيح أنه لم يتمكن حتى الآن من تحقيق نجاحات تمكنه من تغيير وجه الدولة والمجتمع إلى حيث الوجهة التي يريد, وذلك في أغلب الأحيان يكون ناجمًا عن تدخل السلطة الحاكمة بإجهاض المشروع من بدايته أو تتدخل في نهاية المطاف لإنهاء ما يمكن أن يحققه من نجاحات, ودليل ذلك تجربة حزب جبهة الإنقاذ في الجزائر عام 1991.

كما قد يكون التدخل من قبل القوى الخارجية النافذة على الساحة الدولية والتي تجد آذانًا مصغية من قبل السلطات الداخلية لإجهاض مثل هذه التجارب مثلما هو مشاهد في تجربة حركة حماس في فلسطين.

ثالثًا: كما أن التغيير المسيس قد فشل من منظور الرؤية الواقعية حتى الآن, فنفس الشيء يمكن أن يقال عن التغيير القسري العنيف, هو إلى الآن لم يسجل أية نجاحات تذكر من حيث الواقع, غير مناوشات جرت في التسعينيات على صعيد واسع في مصر وعدة دول أخرى ما زالت تواجه تلك الحركات العنيفة, ثم في الأخير تراجعت الجماعة الإسلامية عن خطها منذ عشر سنوات وتبعتها حركة الجهاد الإسلامي منذ بضعة أشهر أيضًا.

رابعًا: معظم حركات التغيير القائمة والسابقة إنما استندت في مسعاها التغييري إلى مجابهة الأنظمة الحاكمة, وفقط تغيرت آلية المواجهة, فهي آلية سياسية عند البعض كما هو عند جماعة الإخوان, فيما كان التعجل سمت الكيانات الأخرى التي أرادت حسم المعركة مبكرًا عن طريق السلاح, وهو مسعى القاعدة ومن دار في فلكها وانضوى تحت لوائها.

فالفكر والتوجه, وإن اختلفت الآلية, يقوم في الأساس على ضرورة إزاحة السلطات الحاكمة لإيجاد سلطة أخرى تسوس المجتمع وتقوده إلى حيث الوجهة التي تريد.

خامسًا: هذه الحركات جمعها أيضًا, إضافة إلى ما سبق, جذر فكري واحد يعود إلى كتابات الأستاذ سيد قطب ـ رحمه الله ـ الداعي إلى ضرورة إيجاد فئة متمايزة عن المجتمع, "القاعدة الصلبة", التي تتحوصل وتتخندق في مقابلة المجتمع والسلطة الحاكمة لتنشئ هي بذاتها مجتمعًا جديدًا, يفترض أن يغير المجتمع القائم, عقيدة هذا المجتمع الصغير هي الحزبية والولاء للكيان الصغير والاستعلاء على الكيان المجتمعي الأكبر الذي يتوجب ـ حسب رؤيتها ـ أن ينصهر في ذاتها كي تتم الولادة المتعسرة ويتغير وجه المجتمع!!

سادسًا:دعاة التغيير السلمي من خلال الفاعليات السياسية وإن كان يدعو نظريًا إلى الشمولية في الإصلاح, والتوجه إلى المجتمعات إلى أن الدعوي والتربوي والإصلاحي انسحب لصالح السياسي, على نحو ما هو مشاهد, هذه واحدة.

والثانية أن الجهد التربوي في حقيقته يتوجه لفئة محددة, هي من انخرطت في التنظيم أو الجماعة أو الحزب, وليس لعموم المجتمع, حتى على المستوى الخطابي غلب الأسلوب الوعظي الترهيبي أو السياسي على غيرهما.

ثم ثالثًا, التربية في فكر تلك الجماعات يعني بالعموم الإلمام والمعرفة بمبادئ الجماعة ومرتكزاتها, على نحو ما هو قائم في تربية الأتباع في جماعة الإخوان على ما ورد في رسالة التعاليم للإمام البنا رحمه الله, والتي تمثل الثوابت الفكرية للجماعة, وفيها يقدم الإمام لرسالته بقوله: "...فهذه رسالتي إلى الإخوان المجاهدين من الإخوان المسلمين الذين آمنوا بسمو دعوتهم، وقدسية فكرتهم، وعزموا صادقين على أن يعيشوا بها، أو يموتوا في سبيلها، إلى هؤلاء الإخوان فقط أوجه هذه الكلمات...".

الطريق الثالث.. هندسة المجتمعات:

ما قدمناه من محاور رئيسة إنما كنا نمهد به لما نسميه بالطريق الثالث أو "هندسة المجتمعات", والذي تتمايز خطوطه وتنابين ملامحه عن التغيير المسيس والمسلح, وان كانت أيضًا تلتقي في بعض التقاطعات والمحاور الأولية.

أولاً: خطوط الالتقاء:

1ـ الالتقاء الأول مع الحركات التغيرية القائمة تسند إلى النظر إلى الواقع التعيس الذي تعيش فيه الأمة, والذي يتوجب معه على كل غيور أن يحترق فكرًا وعملاً من أجل إنقاذ الأمة مما هي فيه, ويأخذ بيدها إلى طريق الريادة الذي احتلته عصبة من الأشرار ورعاة بقر لا يعرفون للقيم والأخلاق سبيلاً, وإنما كان سبيلهم شديد الوطأة على الأمة من مشرقها لمغربها, فاستباحوا منها كل عرض, وهتكوا لها كل مقدس.

2ـ الالتقاء الثاني في مرجعية التغيير الذي يجب أن يستند إلى هوية الأمة ودينها الإسلامي الحنيف, وذلك بعد طول تجارب ذاقت فيها الأمة الأمرين من اشتراكية ورأسمالية وغيرها من الأفكار الأرضية التي تنظر نظرة عوراء سقيمة إلى الواقع, فلا تزيده إلا سقمًا ومرضًا, يحسبها الظمآن ماءً.. وكأن الأمة باتت حقلاً للتجارب البشرية.

ثانيًا: الملامح المميزة للطريق الثالث:

تظهر ملامح هذا المنهج في النقاط والمحاور الآتية:

1ـ العلل والأسقام التي تعاني منها الأمة ليست وليدة اللحظة الراهنة, وإنما هي مستغرقة ومتشعبة وضاربة بجذورها في نفسية الفرد العربي والمسلم, تستمد معينها من مجتمع مضطرب في هويته, ومرتعش في مرجعيته, ومنهزم في حضارته.

فالمشكلة ليست في حقيقتها ـ بحسب رؤيتنا ـ مشكلة نظام قائم وسلطة حاكمة فحسب, وان كانت هذه بلا شك عرض للأمراض والأسقام وسببًا فيها في آن واحد, وإنما مشكلة مجتمعية وحضارية في الأساس والمقام الأول.

2ـ تأسيسًا على ما سبق, فان الإصلاح يجب أن يتوجه في البداية للمجتمع, بأسس علمية رصينة, يبحث مكمن الخلل وأسبابه, ولا يتوقف فقط عند أعراضه ومظاهره, ثم هو بعد يرسم الخريطة النفسية لهذا المجتمع المريض, يتلمس العلاج مازجًا بين روح العصر الحديث وقواعد الشرع الحنيف, لا يحيد عن ذلك العصر في تطوره, ولا يتغافل عن مقاصد الشرع وقواعده الثابتة, وما خطه منذ قديم الأزل علاجًا للمجتمعات السقيمة.

3ـ إصلاح المجتمع يحتاج إلى رؤية شمولية لا تركز على جانب فيما تعاني البقية الأخرى من الإهمال والتهميش, فهو إصلاح نبتغيه متكامل الأركان والأسس, تتضح ملامحه في ثلاثة جوانب رئيسة:

ـ إصلاح المنظومة الإيمانية:

ومن خلال هذه المنظومة يعود المجتمع ويتصالح مع دينه وربه, حيث تكون هذه العلاقة عاصمة من كثير الفساد الذي يذهب بالمجتمعات, وأساسًا متينًا تقوم عليه ركائز النهضة المحاطة والمشمولة بعناية الرب جل وعلا.

ـ إصلاح منظومة القيم والأخلاق:

وبها ينصلح حال أفراد المجتمع الواحد بحيث يقترب أو يكاد من النموذج الذي غير وجه التاريخ من قبل, وحول دفة وقيادة العالم من الفرس والروم إلى حيث لم يكن يتخيل أحد إلى بلاد العرب التي كانت محلاً للجهالة والصراعات الداخلية, فباتت محلاً لخير الأمم.

ـ إصلاح منظومة الفاعلية:

هذه المنظومة التي تستمد أصولها ونبعها مما سبقها من منظومتي الإيمان والأخلاق لتعلي من قيمة العمل, وتزحزح تلك السلبية التي غصت بها الأمة وعرقلت تقدمها دهرًا طويلاً, فجعلتها تقتات من موائد الأعداء حضارتها وفكرها قبل غذائها وطعامها.

4ـ هذا الإصلاح وإن قامت به عصبة تأخذ على عاتقها وكاهلها نهضة الأمة, فهي في طريقها لا تنسلخ عن مجتمعها لتبني عريشًا تنحاز إليه وطائفية تستند إليها, وحزبية تنطلق منها, وإنما هي عصبة حققت في ذاتها معاني الإصلاح, تنصهر برفق في المجتمع تربت على كتفه وتأخذ بيده إلى حيث المكان الصحيح لهذه الأمة, وحيث أراد الله عز وجل لها, أمة يتحقق على يديها الخير لكافة الأمم

===============

#أمجادنا

الأحد 16شوال 1425هـ - 28 نوفمبر 2004 م

الصفحة الرئيسة

مفكرة الإسلام: أمجادنا.. تاريخنا.. تراثنا.. ماضينا.. ألفاظ ظلمت فنسبت إلى غير أبيها, بعد أن أطفئت أنوار الحقيقة فيها.. ابتدأ بها القومي خطابه فبدل خبرها، وتحدث بها الدَّعي فطمس آثارها.. وصاح بها الإقليمي الضيق فغير مرادها.. أما هي في لغة الإسلام فشيء آخر. إنَّ تاريخنا أمجاد سطرتها الأمم التي فتحناها قبل أن نسطرها، أعلنتها السهول التي نزلناها، والجُدَدُ التي طرقناها.. أمجادنا عطر سرى في الأجواء وبريق تلألأ في السماء.

سل المواضي عن أمجاد ماضينا

نحن الذين جمعنا كل مكرمة

نحن الذين فتحنا كل مغلقة

نحن الذين رفعنا كل مئذنة

واسأل عوالينا ذكرى معالينا

ما سيم عائذنا ما خاب راجينا

وفر من بأسنا العاتي ملاقينا

في مسمع الكون تكبيرات داعينا

'الله أكبر' دوت بها أرجاء مكة، ورددت أصداؤها منابر الصين ومآذن إفريقية. أمجادنا.. ضاربة في الزمن عمقًا، وفي الكون اتساعًا، فلسنا أمة مقطوعة من شجرة, ترهقها قترة.. بل نحن أمة أصلها ثابت وفرعها في السماء.. نحن أمة أمجاد.. أمة أجداد.. أمة قوة.. أمة فتوة، تاريخنا مشرق وضاء، وصفحاتنا نظيفة بيضاء.

ليست أمجادنا التي نفاخر بها أمجاد عرب.. كلا.. وما صُبغنا يومًا بالقومية فوجدنا العز.. كلا..

لكن مجدنا مجد.. ومن أحسن من الله صبغة ونحن له عابدون.. وصبغتنا صبغة الله .. لقد أشرق تاريخنا يوم ولد محمد صلى الله عليه وسلم, وتتابعت أمجادنا يوم قام فأنذر.

لما أطل محمد زكت الربى

وأضاءت الفردوس مكنون الشذا

واخضر في البستان كل هشيم

فإذا الورى في نضرة ونعيم

أما قبل ذلك فليس للعرب مجدٌ يفاخرون به ولا تاريخ يتحدثون عنه غير المعلقات.. وقصر غمدان.. وجدار وإيوان... وحين نفاخر الناس بالدنيا - وكأنما هي أمجادنا الحقيقية - فلسنا بذلك نؤهل أنفسنا لريادة العالم تقنيًا، لأنا قد نجد عندهم ما يفوق.. ومن يفاخر منا بالطين فليتأمل سور الصين..

لكنا نفاخر بأمجاد لا يجدون لها مثيلاً.

• نفاخر بالرسول الكريم، الذي ختمت به الرسالات، وفضله الله على سائر الأنبياء.

• نفاخر بالدين الذي أكمله الله لنا وأتمه, وتكفل بحفظه وجعله صالحًا لكل زمان ومكان.

• نفاخر بالقرآن, فمن يستطيع له: {قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا}.

• نفاخر بالعلم الذي نشرناه فأضاءت به الدنيا وكانت قبله تعيش الجاهلية.. كانت أوربا تعيش الظلام والجهل في القرون الوسطى وما أبصرت إلا حين التقمت ثديًا من الحضارة الإسلامية.

يقول 'بريفولت' في كتاب بناء الإنسانية: [لم يكن العلم وحده هو الذي أعاد أوربا إلى الحياة, بل إن مؤثرات أخرى كثيرة من مؤثرات الحضارة الإسلامية بعثت أشعتها إلى الحياة الأوربية].

• نفاخر بالعدل الذي حكمنا به البسيطة بعد أن كانت تحكم بالنار والحديد والظلم والتهديد, لم يكن العدل الذي نشرناه نعيمًا لأهل الإسلام فحسب، بل لقد نعم به حتى الكفار الذين يسكنون في الديار التي يحكمها الإسلام، لقد وجد أهل الذمة والعهد في الإسلام ما لم يجدوه عند بني دينهم.

لما فتح أبو عبيده عامر بن الجراح بلاد الشام دفع النصارى الجزية واشترطوا حماية المسلمين لهم من بطش الروم وطغيانهم, فقبل أبو عبيدة الشرط وأخذ الجزية، ومرت الأيام وسمع أبو عبيدة أن هرقل يعد جيشًا ضخمًا لاسترداد الشام من المسلمين، فأخذ أبو عبيدة الجزية التي دفعها النصارى من قبل وردها عليهم معتذرًا أنه لا يقدر على حمايتهم وقال: نحن لكم على الشرط إن نصرنا الله عليهم، فلما نصره الله جاء أهل الشام يدفعون الجزية عن رضى وهم يقولون: [أنتم – ولستم على ديننا – أحب إلينا وأرأف بنا من أهل ديننا].

تلك المكارم لا قعبان من لبن شيبًا بماء فعاد بعد أبوالاً

• نفاخر بالرجال الذين خلد التاريخ ذكرهم وسطر أمجادهم حتى كأنما أخبارهم خيال لا حقيقة، إنهم الرجال الذين نصروا الدين وأقاموا الملة ودوخوا فارس والروم الذين كانوا لا يزنون للعرب أي وزن.

خرج سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه يقارع فارس بجنود الإسلام, فولوا الأدبار منهزمين, فلحقهم وتابع عليهم الهزائم, وفر كسرى يرجو النجاة بنفسه فتوجه إلى المدائن وهو يظن أن مياه دجلة ستحميه وتحول بينه وبين المسلمين، وسعد ومن معه يطاردون علوجهم، من حصن إلى حصن وما شعر إلا ومياه دجله تعترضه وقد علم أن كسرى لجأ إلى المدائن ولاذ بها، فوقف سعد أمام النهر وهو يرمي بالزَّبَد, فسمى الله وعبر عليه بجنوده وخيله، فدخلوا النهر أفواجًا حتى غطوه من الساحل إلى الساحل من كثرتهم وخرجوا منه أفواجًا لم يغرق منهم أحد.

وأسلنا على المدائن خيلاً

فانتثلنا خزائن المرء كسرى

يوم ولوا وحاص منا جريضًا

بحرها مثل برهن أريضًا

• هذه أمجادنا التي نفاخر بها وهذا تاريخنا الذي لا يعالينا فيه أحد, ومع ذلك فهو لا يغنينا كثيرًا إذا كنا مقطوعي النسب عنه.

إن علينا أن نقرأ الأمجاد والمآثر قراءةً مثمرةً فاعلة, نتلمس من خلالها أسباب العز والمجد السابق, فنسعى لتحقيق تلك الأسباب من أجل تجديد الأمجاد وإعادة التاريخ مرة أخرى فالأمور معقودة بأسبابه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ}.

لابد أن نقتفي أثر السابقين ونسير على طريقتهم كما قال مالك: [إنه لن يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها].

إن أمة سطرت ذلك التاريخ وملكت تلك الأمجاد لا يصلح أن تذل اليوم لكافر أو تخضع له.. {وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الأعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ}.

- أمة كانت قبل قائدة للركب رائدة للحضارة هل يليق بها أن تكون اليوم مقودة يمسك بزمامها أراذل القوم؟!

- أمة هدمت الأصنام وأزاحت الجاهلية هل يصح أن ينتشر فيها الجهل مرة أخرى وأن تعلو فيها الأصنام ويطاف فيها بالأضرحة والقبور ويعبد فيها الهوى ويغيب عن ساحتها الهدى؟!

إن المسلمين اليوم لا يشكون من قلة في العدد، فهم أكثر الناس عددًا, لكنهم لا يشكلون ثقلاً يؤثر في موازين الحياة.. قد صدق فيهم قول النبي صلى الله عليه وسلم: [ولكنكم غثاء كغثاء السيل].

إنها دعوة صادقة لإزالة الغثائية عن الأمة والسعي الجاد في إعادة الأمجاد, حتى تنقل أمجادنا السابقة من طي الكتب وسجل التاريخ إلى أرض الحاضر الذي نعيشه.

إبراهيم بن صالح الدحيم

============

#الفكر الغربي مارس أبشع أنواع الإرهاب تحت قناع الحضارة

عدد 12 ـ رجب 1425هـ

الصفحة الرئيسة

مفكرة الإسلام : يعد روجيه جارودي في صدارة أولئك الفلاسفة الغربيين الذين يثيرون جدلاً صاخبًا حول تحولاتهم الفكرية وآرائهم المثيرة للجدل، وقد برز اسم جارودي في العالم الإسلامي منذ أعلن إسلامه في بداية الثمنينات، وعلى الرغم من ذلك لم تتوقف الانتقادات الموجهة إلى جارودي، بل ازدادت هذه الانتقادات بدخول فلسفة جارودي الخاصة إلى ساحة الفكر الإسلامي.

وربما تكمن إشكالية الخلاف في الفكر الإسلامي عند جارودي في أن التحولات الفكرية التي مر بها قبل الإسلام ـ منذ أن كان طفلاً يعيش في أسرة ملحدة ثم رحليه إلى الماركسية ثم اعتناقه البروستانتية ـ قد تركت في نفسه وعقله أثرًا لم يمح بدخوله الإسلام، أو على حد تعبير جارودي عن نفسه: [لم يعني وصولي إلى الإسلام أبدًا قطعية كاملة مع كل خبراتي الفكرية والوجودية السابقة].

وأيًا كان الأمر فإن كتابات هذا الفيلسوف تستلزم الوقوف أمامها بالقراءة والفهم والتحليل، وتأتي أهمية الكتاب الذي بين أيدينا اليوم في ثلاثة أشياء:

1ـ أن المؤلف استهلك جزاء كبيرًا في بداية الكتاب في شرح وتحليل تحولاته الفكرية المتتالية حتى وصل إلى الإسلام، وتأتي أهمية هذا الجزء في أنه يعد [مفتاحًا] لشخصية جارودي، قد يسهم في تيسير قراءة وتفهم مواقف جارودي ـ وليس بالضرورة قبولها ـ في مؤلفاته جميعًا، والتي لم يتنازل فكريًا عن أي منها بوصفها الممثل الصادق عن مراحل التطور التطبيعي لفكره.

2ـ أن الكتاب يعالج قضية في غاية الأهمية، إنها قضية [الإرهاب الغربي] في مقابل الإرهاب الإسلامي [المزعوم]؛ وهي قضية تحتاج إلى مثل جارودي ذلك المثقف الغربي أن يقدمها وأن يؤصل لجذورها في الفكر الديني والسياسي الغربي.

3ـ أن هذا الكتاب ربما يكون الكتاب الأخير الذي يؤلفه جارودي، إذ جاوز التسعين من عمره، وشرع في أن يغلق دكانه.

التحولات الفكرية في حياة جارودي

استغرق جارودي ما يقرب من الخمسين صفحة الأولى في الكتاب في استعراض تحولاته الفكرية الشخصية؛ وهو يقول: 'مرت حياتي بانشقاقات لا آسف على أي منها؛ لأنها ليست إنكارًا لما سبق ولكنها تجاوز لحد ما'.

لقد نشأ جارودي في أسرة فرنسية ملحدة لكنه اعتنق البروتستانتية في الرابعة عشر من عمره، ثم انضم إلى الحزب الشيوعي الفرنسي في الثانية والعشرين حتى أصبح عضوًا في اللجنة المركزي للحزب الشيوعي الفرنسي، وفي الوقت ذاته كان رئيسًا لجمعية الشبان المسيحيين البروتستانت.

وقد [طرد] جارودي من الحزب الشيوعي منذ أكثر من ثلاثين عامًا، وكان سبب ذلك أنه قال: 'إن الاتحاد السوفيتي ليس بلدًا اشتراكيًا، وإن الاشتراكية ليس لها وجود فعلي في أي مكان في العالم'. أما أكبر تحول في حياة جارودي فكان تحوله للإسلام؛ لقد تعرف على الإسلام مبكرًا جدًا، وهو يقل في أحد الحوارات التي أجريت معه: 'لقد عشت في بداية الحرب العالمية الثانية تجربة فريدة من نوعها؛ لأن قوات الاحتلال الألماني قبضت على المجموعة الأولى للمقاومة الفرنسية حين سقطت باريس، وصدر الأمر بنقلها إلى معسكر [جلفة] في جنوب الجزائر، وكنت أحد أفراد هذه المجموعة، فدعوت رفاقي إلى تمرد في السجن، وفي مارس من سنة 1941م دعوت حوالي خمسمائة منهم إلى التظاهر لتأكيد اعتراضنا على السياسة النازية .. وبعد ثلاثة إنذارات من قائد المعسكر .. أصدر أوامره للجنود بإطلاق النار علينا ففوجئنا برفض الجنود ذلك حتى بعد تهديدهم بالسياط .. ولم أفهم للوهلة الأولى سبب رفضهم، ثم عرفت أن هؤلاء الجنود كانوا من الجزائريين المسلمين، الذين يرون أن شرف وأخلاق المحارب المسلم تقتضي ألا يطلق النار على إنسان أعزل.

ويضيف جارودي: 'لقد صوروا لنا المسلم على أنه متوحش همجي، فإذا بي أمام منظومة قيم متكاملة لها اعتبارها لقد علمني هذا الموقف، واستفدت منه أكثر من استفادتي عشر سنوات بالسوربون'.

أزمة العقل الغربي

يذهب جارودي إلى أن التسلط الغربي على العالم يضرب بجوره إلى آلاف السنين منذ الأسطورة التي بررت إبادة الآخرين، حتى 'الإمبراطورية الرومانية' التي ادعت أنها تضم في حدودها كل العالم المعروف آنذاك، وهذا ما سمته أوروبا بـ'الحضارة'، كما لو كانت حكرًا عليها، لكي تعطي الشرعية لاستعباد واستعمار الشعوب الأخرى.

أما قادة الولايات المتحدة فقد جعلوا مهمتهم ـ التي كلفهم بها القدر ـ هي قيادة العالم لإقامة نوع من 'العولمة' أي نظام وحيد خاضع لما سماه أحد منظريها بـ'قانون السوق'.

ويقول جارودي: 'ولكي ننجز مهمتنا ونحقق الوحدة المتناسقة لعالم اليوم الذي انقسم إلى شمال وجنوب، بعد عشرين قرنًا من انفصال الغرب، وخمسة قرون من الاستعمار، وخمسين عامًا من الهيمنة الأمريكية الإمبريالية، نجد أنه من الضروري أن نرسم منحى لتطور الغرب، ونعود إلى أسباب الانقسام، ونبحث عن الوسائل التي تضع نهاية ذلك، فتضع نهاية لهذا الصدع الذي يزداد باستمرار ـ حتى في الغرب نفسه ـ بين من يملكون ومن لا يملكون'.

ويتفق جارودي مع [بول فاليري] أن ثلاثة تقاليد شكلت أوروبا؛ وهي:

1ـ المسيحية، وبأكثر دقة الكاثوليكية، في المجال الأخلاقي.

2ـ التأثير المستمر للقانون الروماني في مجالات القانون والسياسة والدولة.

3ـ التراث الإغريقي في مجال الفنون.

لكن ما يتميز به جارودي وهو دعوته بألا نفصل هذه التيارات الثلاثة عن مصادرها؛ 'لأنه بهذا الفصل يتولد الإيهام بأن الغرب ما هو إلا بداية مطلقة، ليس قبلة شيء، وأنه ظهر كنبته قد نمتنع عن تتبع جذورها، نبته منعزلة ووحيدة كنوع من المعجزة التاريخية'.

وقد أسهب المؤلف في عملية التأصيل للفكر الغربي بمنابعه الثلاثة السابقة طيلة الفصلين الثاني والثالث خاصة ما يتصل منها بالعنصر الديني الأخلاقي الذي طرح بأن أوروبا رغم علمانيتها اليوم لا يمكن لها أن تتنازل عنه، فيقول: 'إن التاريخ الديني للكنيسة يسيطر سيطرة تامة على التاريخ الغربي، فأوروبا لم يكن لها وجود خارج إطار الكنيسة، وستظل دائمًا وأبدا داخل هذا الإطار الذي لن تستطيع الخروج منه، حتى بعد أن وقعت معاهدات ويسفاليا عام 1648م، وتفككت أوروبا إلى أمم كثيرة. ولن تجدي أيضًا محاولتها إقناع العالم أن بإمكانها القيام بنهضة أو قيامة حقيقية باستبدال الكنيسة بالسوق الموحدة التي يسيطر عليها الدولار وتابعة [اليورو].

وهو يؤكد بالدليل الفلسفي والواقع التاريخي بعد تتبعه لجذور الفكر الديني المسيحي أن التاريخ الأوروبي أو بمعنى أصح ـ حسب تعبير جارودي ـ التاريخ المسيحي الذي أدى إلى نشأة أوروبا، تاريخ دموي حافل باضطهادات الهرطقة التي ولغت في الدماء والتعذيب الجسدي.

نشأة المتوحشين

تحت هذا العنوان كتب جارودي أحد فصول الكتاب، وكان يقصد به أصحاب النهضة الغربية التي بدأت مع القرن السادس عشر، وصنعت تلك المواجهة الجدلية بين مصطلحي [التقدم] و[التخلف]؛ فالتخلف هو التعبير عن علاقة استغلال بلد لبلد آخر، وبمعنى آخر: التنمية والتخلف هما مكونان لنظام واحد وهو النظام الرأسمالي. فتكديس الثروات ونماءها تم على عدة مراحل:

ـ إبادة هنود أمريكا بدأ من القرن السادس عشر.

ـ تجارة العبيد التي كانت ضرورية لاستغلال مناجم وأراضي أمريكا لخلوها من سكانها بسبب هذه الإبادة.

ـ القضاء على العبودية بدءًا من الثورة الصناعية، لأنه كان لا يسمح أبدًا بتنفيذ التقنيات الجديدة.

ـ بداية الاستعمار بالمعنى الصرف للكلمة، أي السيطرة السياسية والعسكرية والاقتصادية على إفريقيا وأكبر جزء من آسيا وأمريكا اللاتينية، لضمان الاستثمارات المربحة للغاية في الصناعة والتجارة عن طريق فرض الأسعار البخسة على الأيدي العاملة، والأسعار المرتفعة للمنتجات المستوردة.

وقد أخذ المؤلف يتتبع تطور الفكر الغربي منذ القرن السادس عشر؛ ذلك القرن الرهيب الذي بدأت فيه عملية نهب 90% من الثروات المادية التي انتهجها أولئك. الذين يعيشون من أجل الثراء والقوة. وهذا هو ما يطلق عليه في الغرب مصطلح 'العصور الحديثة' والمؤرخون مكلفون بنقل أيديولوجيته إلى الأطفال، ووسائل الإعلام مكلفة بنقلها إلى البالغين.

العنف في السياسة الأمريكية

بعد انهيار الاتحاد السوفيتي بدأ الغرب [الولايات المتحدة وبريطانيا وحلف الأطلنطي] وإسرائيل والصهيونية العالمية حملة تشهير كبرى ضد الإسلام والمسلمين باعتبارهم العدو الجديد للحضارة الغربية؛ وقد بلغت هذه الحملة اليوم مبلغها عسكريًا وثقافيًا وسياسيًا، وكل ما نفعله اليوم هو محاولات متقطعة لنفي الإرهاب عن الإسلام، مع استغلال بعض حكومات الشرق الأوسط تلك الحملة العالمية لزيادة البطش ضد المعارضة بزعم محاربة الإسلام أو مساندة الحملة الغربية عل الإسلام.

في حين يأتي التعريف الأمريكي للإرهاب كما بينه تشومسكي في كتبه [أوهام الشرق] و[السيطرة على العالم] و[11/9] ينطبق تمامًا على أسلوب السياسة الخارجية الأمريكية، وهو ما قام جارودي بتتبعه في الكتاب الذي بين أيدينا حين يذكر أن العنف الذي تمارسه الولايات المتحدة في سياستها الخارجية إنما هو امتداد لما يمارس في الحياة داخليًا منذ العام 1889م، يوم أن أكد السيناتور ألبرت جي بفريدج [عضو مجلس الشيوخ] أن: 'التجارة الدولية يجب أن تستحوذ على النصيب الأعظم منها، وأن نقوم بغزو البحار والسيطرة على التجارة البحرية من خلال تملك أسطول ضخم يتناسب مع قوتنا وطموحاتنا، فهناك مستعمرات كبيرة تحكم نفسها ويمكنها التغلب على مراكبنا؛ لذا يجب أن نضع نصب أعيننا ضرورة السيطرة على الطرق التجارية، وأن يرفرف علمنا على العديد من مناطق العالم من خلال وصول تجارتنا إلى هذه المناطق، يجب أن تصمم مؤسساتنا على وصول القانون الأمريكي والعلم الأمريكي والنظام الأمريكي والحضارة الأمريكية إلى هذه المناطق والطرق التجارية في العالم، وقد يكون ذلك بصورة دموية .. وستكون نعمة الرب معنا حتى يصبح نجمنا ساطعًا في أرجاء عديدة من العالم'.

كذلك فإن العقيدة الأمريكية التي تقوم على ثنائية عقائدية وهي: عناية الرب الحتمية وعبادة الدولار، تدفع ريتشارد نيكسون أن يعلن أن 'الرب مع أمريكا .. يريد الرب لأمريكا أن تقود العالم'. وهكذا تتوجه أمريكا وحلفاؤها إلى الشرق لتنفيذ إرادة الله وحصاد المال واستنزاف الثروات. لكن الحقيقة التي يجب ألا تغيب والتي التفت إليها جارودي هو العداء الخفي بين أوروبا والولايات المتحدة، فأوروبا لم تغفر للولايات المتحدة حتى اليوم ما جرته سياستها الخارجية منذ بدأ ظهورها على الخريطة الاقتصادية والعسكرية مع الحربين العالميتين، حين دفعت دول أوربا فواتير الدمار التي أنتجته السياسة الأمريكية.

فبالرغم من توحد جذور الفكر بين أمريكا والغرب؛ إلا أن أمريكا في نظر جارودي وفلسفته تحظى بنصيب أكبر من الاحتقار جعلها تحظى بلقب [أمريكا طليعة الانحطاط] وهو عنوان لأحد كتب جارودي القيمة.

ويعلق أحد الباحثين قائلاً: إن جارودي يعيد سياسة الهيمنة الأميركية التي صنعت وتصنع 'فوضى عالمية جديدة' إلى البعد المادي المسيطر على صناعة القرار في منظومة الحضارة الغربية، والذي يرسخ ما يعتبره ديانة جديدة يطلق عليها وصف 'وحدانية السوق' الناجمة عن تطور اقتصاد السوق باتجاه السيطرة على صناعة القرار وطنيًا وعالميًا في مختلف الميادين في إطار حضارة مادية احتكارية تلغي الآخر 'الحضاري'.

أين المسلمون في هذا المأزق

ما هو موقف المسلمون من هذا التوجيه العنكبوتي الذي يلف بخيوطه هذا العالم؟ إن جرودي يتفق مع سيد قطب في أن الإسلام وتعاليمه هو الأقدر على قيادة البشرية وإنقاذها في هذا العالم الذي تقوده حضارة بلا قيم، ويتفق مع المفكرين المسلمين في تجسيد سر تأخر العرب والمسلمين في نقطتين رئيستين:

1ـ حصر وحكر الإسلام ـ وهو دعوة عالمية لكل زمان ومكان ـ على استيعاب [فقهنا] لتجربة وفهم المسلمين في القرون الأولى، وعالمها المحدود.

2ـ الشريعة هي قانون الله، لم تعد عند النصيين أو الحرفيين ـ المتمسكين بالحروف عوضًا عن الجوهر والأساس ـ قاعدة للتطبيق العالمي، المؤسس على قوانين عامة، قابلة للتطبيق في مجتمعات متنوعة تنوع الزمان والمكان.

ويهتم المؤلف بالتوجيه إلى ضرورة إحداث نهضة في العالم الإسلامي، حيث يرى إنه:

1ـ يتطلب تحقيق أي نهضة سياسة وروحية في العالم الإسلامي؛ قراءة جديدة للقرآن من ناحية، والتحرر من أي تفسيرات سطحية يقدمها العلماء من ناحية ثانية.

2ـ لا يجب أن تطرح مشكلة [الحداثة] في العالم الإسلامي، انطلاقًا من أيديولوجية غربية .. تستبعد مشكلة 'الغايات النهائية' الخاصة بالعالم الإسلامي وتبرر الوسائل التي تقود إلى القوة والثراء انطلاقًا من الاستعمار العسكري والاقتصادي والثقافي لباقي أجزاء العالم.

الماركسية في فكر جارودي

يرى جارودي على أن الفكر الاقتصادي الماركسي لا يتعارض مع الإسلام كدين، وأنه يمثل عبقرية فذة تم تشويه صورتها من خلال ممارسة الفكر الاشتراكي في الاتحاد السوفيتي والدول التابعة له، وأن هذه الدول لم تطبق أفكار ماركس كما أرادها هو. ومنها خرجت أفكار جارودي التي تهاجم التفكير الرأسمالي بشراسة، وقد برز ذلك في هذا الكتاب وفي غيره بوضوح شديد، مما يعني ضرورة أن يبين هذا الأمر على يد المتخصصون في الفكر الاقتصادي الإسلامي، وأنا أدعو مجلة 'الجسور' الغراء أن تستكتب من له باع في هذا الأمر، لتوضيح وجهة النظر الإسلامية في الفكر الماركسي.

من تجاوزات جارودي

وبالرغم من عقلانية الطرح للمرض الذي يعاني منه المسلمين إلا أن جارودي قد جاوز حده في احترام عقله [المخلوق] ليبرر أحد قوانين [الخالق] حين يحاول التمثيل لما ذهب إليه بالأخطاء في تطبيق الشريعة الإسلامية، وذلك بالإصرار على تطبيق قانون العقوبات في القرن السابع؛ حين يقول: 'مثل قطع أيدي من يقترف جرم السرقة، على مجتمعات حيث أصبحت السرقة فيها صورة من صور المضاربة .. لا تستخدم الأيدي بل هناك سرقات أفظع وأشد هولاً، لا تستخدم فيها الأيدي .. سرقة الحياة الشريفة الكريمة العزيزة من ملايين البشر .. سرقة أعمار الشباب وأحلامهم وطموحاتهم . سرقة البشرية من نفوس البشر ثم يضيف: 'التطبيق الحرفي كان تطبيقًا تاريخيًا، خاصًا بزمان ومكان'.

ومما لا شك فيه أن في فكر جارودي الكثير من الموضوعات التي تستحق المراجعة والمناقشة، ولا مجال لإعادة سردها في هذا المقال، وقد تحدث في ذلك كثيرون. انظر على سبيل المثال: [بيان حقيقة روجيه جارودي للشيخ عبد العزيز بن باز] في موقعه على الإنترنت: [WWW.IBNBAZ.COM].

أخطاء شنيعة في ترجمة الكتاب

تبقى في النهاية ملاحظة هامة ينبغي أن يتيقظ لها الناشرون وهي:

1ـ ضرورة عدم تشتيت ذهن القارئ مع أكثر من مترجم للكتاب الواحد، أو على الأقل وجود مترجم واحد يقوم بمراجعة النص كاملاً، فلكل مترجم لغته الخاصة وثقافته المغايرة، والتي تنعكس بالضرورة على تعريبه للنص الأجنبي.

2ـ ضرورة المراجعة الموضوعية فضلاً عن المراجعة اللغوية؛ وإذ أخذنا على سبيل المثال لفظ [العولمة] في ترجمة كتاب جارودي الذي بين أيدينا، وجدناه في أكثر من موضع بمعان مختلفة، فمرة يأتي ممدوحًا بمعنى [العالمية] أو [الإنسانية] بمعناها الواسع، وذلك في ترجمة الدكتور سامي مندور للمقدمة حين تقول ترجمته: 'لقد بدأ محمد صلى الله عليه وسلم بعولمة الرسالة، فأمر بتكريم الأنبياء السابقين، الذين أرسلهم الله'.

بينما لا تمر عشر صفحات إلا ونرى الدكتور سامي مندور يتعامل مع نفس المصطلح بمعنى آخر وهو معنى التسلط والهيمنة حين تقول ترجمته على لسان المؤلف: 'يبدو بالنسبة لنا ـ نحن الغربيين ـ أن طرق الهيمنة الذي أخذ اليوم اسم العولمة أضحى ممهدًا جدًا'.

أو يقول المترجم في مكان آخر على لسان جارودي أيضًا العولمة: هي اسم مرادف لطموحات الهيمنة العالمية لدى الولايات المتحدة والتابعين لها، الذين يقودننا في القرن ـ الواحد والعشرين ـ إلى انتحار كوني'.

3ـ إسناد تعريب جزء من الكتاب لمترجم غير مسلم واسمه [عبد المسيح فلي]، بل وتخصيص الجزء الذي يعالج قضية الشريعة في الإسلام وكيفية التعامل مع نصوص الشريعة له، أمر يثير الريبة، خاصة أن لرجاء جارودي الكثير من الإشكاليات في هذا الباب، وهذا الأمر يعتبر سقطة كبيرة للناشر.

============

#مُقوِّمات الأمة وأَسباب النهوض بها

الاثنين 10 شوال 1425هـ - 22 نوفمبر 2004 م

الصفحة الرئيسة

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد،،،

فإن الأمة الإسلامية ليست حدثًا عارضاً في حياة الإنسانية، وليست نبتًا بلا قرار:

إنها – وفيها التوحيد – شجرة طيبة أصلها ثابت وفرعها في السماء.

إنها- وفيها الحق- ليست زبداً طافياً يذهب جفاء، وإنما هي معدن أصيل ينفع الناس، فيمكث في الأرض.

إنها- وفيها القرآن وبيانه - لن ينتهي مدها، ولن يطفأ نورها، ولن يخمد ذكرها بفضل من الله ورحمته.

إنها أمة الرسل والأنبياء جميعاً، تآخت فطرتها مع فطرة الكون الذي أسلم كل من فيه لله طوعاً وكرهاً.

إنها ذات أصل ثابت وفرع ممتد في ماضيها وحاضرها ومستقبلها، غيرها من أهل الباطل له في الزمن ساعة، وهي بفضل الله إلى قيام الساعة.

تأتى إليها الريح، فتميل بها ولا تقتلعها، وتهب عليها العواصف فتسقط من ورقها ما صار هشيماً، وتظل تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها.

ولئن مرت عليها فترات فتور أو خمول يراها أهل الكفر مواتاً، ويرون حماها بواحًا؛ فإن لها من مقوماتها ما يبعث الحركة فيها، ويجدد الحياة.

ومهما طال الليل فإن فجراً صادقاً يأتي عليه، فيطوى ظلامه، ونجماً رائداً متألقاً مجددًا يؤذن بطلوع الفجر، فتتحول الحياة- وهي تسمع الآذان- من حال إلى حال، فيصحو الغافل، ويستيقظ النائم، ويصبح نشيطاً طيب النفس.

فما مقومات هذه الأمة؟ وما أَسباب النهوض بها؟

ذاك ما سنحاول أَن نتحدث عنه، أو نشير إليه:

إن المقومات تمثل الثابت في تاريخ هذه الأمة؛ ولذا فإنها لا تتغير بتغير الزمان والمكان، وبها يرتبط ما هو متغير من أسباب النهوض في كل عصر.. ولكي تبقى الأمة قائمة برسالتها، لابد أن تحافظ على الثابت من مقوماتها، وألاّ تفرط في شيء منه، فهو مصدر عزها وقوتها، وبه تتميز أخلاقها وتتحقق إمامتها.

وهذا الجانب هو صمام الأمن للمجتمع الإنساني كله بل صمام الأمن لنتائج العلم - التي يخشى في غيبة الثابت من المقومات أو التفريط فيها- أن تدمر في لحظات عمر الإنسان في قرون، وأن تسوق الفناء إلى ما شيد من بناء.

بالأصل الثابت من المقومات يسارع الإنسان إلى الخيرات، ويسبق لها:{ إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ[57]وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ[58]وَالَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لَا يُشْرِكُونَ[59]وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ[60]أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ[61]}[سورة المؤمنون]. والمسارعة إلى الخيرات عمل إيجابي في محاربة الفساد، ومقاومة شره، وتأمين الناس من تسلطه وظلمه. ومن هذا نستطيع أَن نقف عند:

الأصل الأول من هذه المقومات:عقيدة التوحيد:

وهذه العقيدة يتم بها التحول من حال إلى حال، من ظلمات وجمود وخمول وموات إلى نور وحركة حية واعية راشدة، والإيمان تصديق وقول وعمل، وجميع الرسل قد طلبوا من أقوامهم أَن يفعلوا أو يتركوا على أساس من عقيدة التوحيد، فبدافع من هذه العقيدة يتم الفعل، أو الترك. { وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ قَدْ جَاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ[85]وَلَا تَقْعُدُوا بِكُلِّ صِرَاطٍ تُوعِدُونَ وَتَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِهِ وَتَبْغُونَهَا عِوَجًا وَاذْكُرُوا إِذْ كُنْتُمْ قَلِيلًا فَكَثَّرَكُمْ وَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ[86]}[سورة الأعراف].

فعلى أساس من توحيد الألوهية يتم التحول من شر إلى خير، ومن إفساد إلى إصلاح، ومن ظلم وظلمات إلى عدل ونور، ومن صد وانحراف إلى استقامة واتباع. ويقترن الإيمان بالأعمال فعلًا وكيفًا، فيزيد وينقص، ويبقى ويذهب.

و بالتوحيد:

1- يتحدد موقف الإنسان من الأشياء، ومن الناس، وتترتب النتائج: { وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَأَدْعُو رَبِّي عَسَى أَلَّا أَكُونَ بِدُعَاءِ رَبِّي شَقِيًّا[48]فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَكُلًّا جَعَلْنَا نَبِيًّا[49]وَوَهَبْنَا لَهُمْ مِنْ رَحْمَتِنَا وَجَعَلْنَا لَهُمْ لِسَانَ صِدْقٍ عَلِيًّا[50]}[سورة مريم].

2- يتحدد موقف الإنسان من أقرب الناس إليه:{وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ[114]}[سورة التوبة].

3- لا تتميع المواقف ولا تختلط ولا تلتبس مع صدق الاعتقاد: { لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُولَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ[22]}[سورة المجادلة].

4- يتميز سلوك الإنسان في العسر واليسر، والشدة والرخاء، ويتبين الصادق من الكاذب: ولذا كان الابتلاء سنة من سنن الله، وكانت المحن والشدائد سبيلًا للتنقية والتصفية يميز الله بها الخبيث من الطيب:{مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ ...[179]}[سورة آل عمران]. { الم[1]أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ[2]وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ[3]}[سورة العنكبوت]. ولولا ذلك لاختلط الأمر على الناس والتبس، ولم يتميز خبيث من أصيل، وادعى بعض الناس لأنفسهم ما ليس لهم: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ وَلَئِنْ جَاءَ نَصْرٌ مِنْ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ أَوَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِمَا فِي صُدُورِ الْعَالَمِينَ[10]وَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْمُنَافِقِينَ[11]}[سورة العنكبوت].

5- وبالتوحيد: نقاتل ونسالم، ونصاحب ونعادي، ومن أجله نجد في الحقل والمصنع، والدكان والديوان، والبر والبحر، والأعمال الصالحة تقترن بالإيمان، فلا تدع مجالًا في الحياة دون إصلاح وإحسان.

ومن الواجب على الأمة الموحدة أن تحسن ما تحتاج إليه في أي شيء، ولا تكون عالة على غيرها في شيء، والإعداد الذي نرهب به عدو الله وعدونا، والذي أمرنا الله به يستوجب شئون الحياة في ترابط واتساق، فالضعف في جانب قد يؤدي إلى الضعف في غيره..والحديد الذي أنزله الله فيه بأس شديد ومنافع للناس يقترن في ديننا بما أرسل الله من رسول وما أنزل من الكتاب.

6- وعقيدة التوحيد تفرض أن يطوع الحديد لإقامة العدل ونصرة الحق ومن وراء ذلك أعمال وأعمال، تستوجب قيام المصنع، ووجود الغواص في البحر، والطيار في الجو، والباحث في المعمل، كما تطلب قلم الكاتب، ودفتر المحاسب، وفقه العالم، وتدبير الحاكم، وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب، ففي سورة واحدة بل في آية واحدة نقرأ قول الله:{ لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ[25]}[سورة الحديد].

7- إن جميع ما يذكر من مقومات هذه الأمة يستند إلى هذا الأصل، ويقوم عليه: فما ندعو إليه من توثيق روابط الأخوة والمودة، وما نأمر به أو ننهى، لا يثمر ولا يغني ما لم يكن الدافع إليه والغاية منه القصد لله، وابتغاء مرضاته. وإذا تسرب الشرك إلى شيء من عمل أحبطه ودمره:{ وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ[65]}[سورة الزمر].

8- والحياة التي تقوم على التوحيد تصان فيها الفرائض، وتؤدى الواجبات: ويتساند فيها أهل التوحيد معتصمين بحبل الله غير متفرقين، وتقوم نعم الله التي لا تحصى بين أيديهم لتكون عونًا على إعلاء كلمة الله في إحقاق الحق، وإبطال الباطل، ونصر المظلوم بإنصافه وتأمينه، والظالم بالأخذ على يده.. وبهذا تحافظ الأمة الإسلامية على خيريتها، وتعز بإيمانها وأداء رسالتها، وتفلح بالدعوة إلى سبيل ربها:{وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ[104]}[سورة آل عمران].

إنها أمة مجاهدة ذات رسالة خالدة، فرض عليها أن تحيا مرابطة في سبيل الله تجير المظلوم وإن كان من غيرها، وتأخذ على يد الظالم وإن كان منها، وتعلي كلمة الله في كل شأن من شئونها.

والإسلام يعتبر المسلمين أمة واحدة تجمعها العقيدة ويشارك بعضها بعضًا في الآلام والآمال: وأي عدوان يقع على قطر من أقطارها، أو على فرد من أبنائها؛ فهو عدوان عليها جميعًا.

ولكي تستطيع هذه الأمة أن تنهض برسالتها، وأن تؤدي ما أوجب الله عليها؛ لابد أن تعمل دائمًا على تحقيق الأسباب التي تعينها على ذلك، وأن تحافظ على المقومات الأصيلة الثابتة التي تميز شخصيتها وتجعلها أمة دعوة ورسالة.

وواقع الأمة الإسلامية الآن لا يحتاج إلى بيان، ولكن من الخطأ أن نظن أن ما وصلت إليه يستحيل علاجه، ومن الخطيئة أن ندع اليأس يتسرب إلى النفوس، وأن نترك أولئك الذين لا يريدون لأمتنا إلا مزيداً من الفشل وذهاب الريح، أن يفرضوا عليها الرضى بالواقع، أو يجعلوها تؤمن بالتبعية لغيرها في شرق، أو غرب.

فإن أمتنا تملك- بفضل من الله- أن تبدأ البداية الصحيحة دون حاجة لشرق أو غرب، وعليها أن تدرك أن ما سلط عليها من أعدائها بسبب معاصيها وقعودها عن أداء رسالتها { وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ[30]}[سورة الشورى].

فعلى أمتنا أن تبدأ بما أمر الله به:{...فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ[1]}[سورة الأنفال]..عليها أن تكف شرها عن نفسها وأن تأخذ على يد العابثين الذين يفسدون في الأرض، ويقطعون الأرحام.

في الجاهلية تداعت قبائل من قريش إلى حلف، وقد تعاهدت على أن لا يجدوا بمكة مظلومًا من أهلها وغيرهم ممن دخلها من سائر الناس إلا قاموا معه، وكانوا على من ظلمه حتى ترد مظلمته، فسمت قريش ذلك الحلف:' حلف الفضول'.

أفلا يتداعى المسلمون لما ينقذ حياتهم، ويرد كيد أعدائهم، ويدفع الشر والبلاء عنهم، أفلا يتداعى المسلمون لتحقيق أمر الله فيما بينهم، والأخذ على يد الظالم، وإنصاف المظلوم، إن تحقيق معنى الأمة الإسلامية في أدنى صورة ممكنةٍ قد غاب كثيراً عن حياة المسلمين، فغدت الأمة نهباً لكل طامع وتحقق ما حذر الرسول صلى الله عليه وسلم منه في قوله: [يُوشِكُ أَنْ تَدَاعَى عَلَيْكُمْ الْأُمَمُ مِنْ كُلِّ أُفُقٍ كَمَا تَدَاعَى الْأَكَلَةُ عَلَى قَصْعَتِهَا] رواه أبوداود وأحمد. لقد تحقق ما حذر الرسول صلى الله عليه وسلم منه، وتداعى الأكلة من أمم الكفر في شراهة وضراوة لتمزيق الجسد الإسلامي، وفصل أجزائه بعضها عن بعض.

ومنذ فترة قيل عن تركة الرجل المريض، وأخشى أن يكون الاصطلاح لديهم الآن تركة الرجل الميت، ولكنني أؤمن أن الأمة لن تموت مهما بدت مظاهر الضعف والسكون فيها.

وسائل النهوض بأمتنا الإسلامية:

وعلينا أن نبحث في غير يأس في وسائل النهوض بأمتنا الإسلامية، فإنها أمة باقية بإذن الله إلى قيام الساعة، ومنها:

أولاً: أسلوب التربية والثقافة والإعداد للإنسان في عالمنا الإسلامي يحتاج إلى مراجعة إصلاح بحيث تتوحد الغاية، وتتسق الوسائل، وتمضي لما يجب أن يكون:

إن أصحاب المذاهب في شرق أو غرب يعملون على صياغة الإنسان في أمتنا الإسلامية ليكون لهم لا لأمته، وينفقون في سبيل ذلك من الجهد والمال لصياغة إنسان الغد لصالحه، وكل ما وقع من اغتصاب أرض المسلمين في أي مكان أو زمان قد مهد له من قبل بالاستيلاء على الإنسان.

الإنسان هو الأساس الذي تقوم به، ومن أجله الحضارة والنهضة، والعناية به هي السبيل للنهوض بأمتنا من كبوتها، ولا تصلح الأشياء إلاَّ بإيجاد الإنسان الصحيح، من أجل هذا أرسل الله الرسل وأنزلت الكتب.

وأمتنا الإسلامية - وأمامها من التحديات - ما لا يخفى على أحد عليها أن تعد الإنسان بالإيمان الموجه للنفوس إلى الخير والإصلاح، وبالعلم الذي تنشده النهضة في جميع شئون الحياة بحيث لا تكون الأمة الإسلامية في قبضة غيرها، فالأمة الإسلامية إذا احتاجت إلى مائة ألف طبيب عليها أن تعمل على إعداد هذا العدد بتخصصاته المتنوعة، وأن تدرس في صبر وأناة حاجتها في كل شأن، وأن تعرف ما تملكه من طاقات وإمكانات قبل أن تطلب عوناً من أحد. وفي جميع الأحوال تكون مهمة الدين إعداد الإنسان لكي يصلح في الأرض ولا يفسد.

والمهمل في عمله والمقصر فيه مفسد غير مصلح، والقعود عن الأخذ بالأسباب معصية ومفسدة تتيح للغير أن يتفوق أَمام قاعد، وعامل أمام خامل، والتنافس قائم بين الخلق، وأهل الباطل لن يسكتوا أبداً عن إضعاف أهل الحق {...لَا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا...[118]}[سورة آل عمران].

ويا له من ضياع.. ويا لها من مفسدة حين تظل أمة الحق عالة على أهل الباطل، لا تسل عن الاتباع والطواعية، إتباع أهل الحق لأهل الباطل حتى لو دخلوا جحر ضب، وطواعيتهم فيما يريدون لأهل الحق من ردهم بعد إيمانهم كافرين.

والأمة الإسلامية إن هي قصرت في أن تصنع الضروري من وسائل حياتها؛ احتاجت إلى غيرها من دول الكفر وقد يؤثر ذلك في مقومات حياتها من عقيدة وسلوك. والذين يتصورون أن العمل للدين يقف عند تعليم الناس بعض الفرائض التي لا تأخذ من حياة المسلم إلا دقائق معدودات يخطئون في فهم الدين، ويعزلونه عن الحياة، وهم يحسبون أنهم محسنون صنعًا.

إن العقيدة تتحرك بموجبها الحياة كلها لتكون في صلاتها وتشكلها ومحياها ومماتها لله رب العالمين. ومن أجل العقيدة طولِبنَا بالنظر في خلق السماوات والأرض، وفي أنفسنا لنظفر بثبات العقيدة ووسائل حمايتها، لذا فإن الإعداد والتربية لا يفصل فيهما مصنع عن مسجد، فيقال: هذا للدين وذاك للدنيا، لا يفصل كد وجهد عن تسبيح وذكر:{ فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ[10]}[سورة الجمعة].

وإعداد المسلم على هذا الفهم والعمل به؛ يزيل من دنيانا نحن المسلمين كثيراً من التوتر الذي يقع بين الأفراد والجماعات، ويقيم صراعاً في داخل الأمة الإسلامية يجني ثماره من يتربص بها ويضمر الشر لها.

الإسلام شامل كامل منظم لشئون الحياة كلها، باعث للنهضة في جميع أجزائها بلا تفرقة، والدين ليس إتباعا لأهواء الناس، وليس خاضعاً لما يرغبون إنه تكليف ومسئولية: { فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ[6]فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِمْ بِعِلْمٍ وَمَا كُنَّا غَائِبِينَ[7]}[سورة الأعراف].

والذين يريدون الدين هوى لأنفسهم فيأخذون منه ما لا مشقة فيه، ويدعون ما فيه كره ومشقة؛ لم يحملوا ديناً، وإنما حملوا عليه، وكم من ناس أفرزتهم المشقات وألقت بهم في حظائر أهل النفاق:{وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا لَوْلَا نُزِّلَتْ سُورَةٌ فَإِذَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ مُحْكَمَةٌ وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتَالُ رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَأَوْلَى لَهُمْ[20]طَاعَةٌ وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ فَإِذَا عَزَمَ الْأَمْرُ فَلَوْ صَدَقُوا اللَّهَ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ[21]}[سورة محمد].

وإعداد المسلم عملياً ليؤدي واجبه في الإصلاح في جميع شئون الحياة؛ يحفظ للأمة دينها وعزتها، ويجعلها في مأمن من تكالب الأعداء عليها.

وإذا اتسع فهم المسلم لما يطلبه إسلامه؛ انشرح صدره لكل من رغب في الإسلام، وأقبل عليه؛ لأن الساحة تسع الناس جميعاً، بل تسع الإنس والجن، وساحة الإسلام أرحب من عالمنا الذي نعيش فيه، وإسلام الناس أحب إلينا، ونبينا صلى الله عليه وسلم بعث هادياً ورحمة.

وإذا ضاق الفهم لما يطلبه الإسلام وما ينشده للعالمين قصرت الجهود عن الوفاء بحقه وغدت عبئاً عليه مسيئة إليه وإن قنعت مع نفسها أنها تقوم بفرائضه وتفي بواجباته. إن الواجب قد ينشدك في لحظة لتركب البحر وتحلق في الفضاء وتقف أَمام نيران المصنع وطلقات المدفع فإذا أجبت هذا الواجب بمزيد من ركعات وسجدات غير ما فرض الله وسن رسوله وقعدت ولم تستجب قد يذهب مع القعود دينك، وأنت تحسب أنك مستمسك به.

وهل ترك الثلاثة الذين خُلفوا وتاب الله عليهم إحسان صلاتهم والقيام بها؟! إذن لماذا قاطعهم الرسول صلى الله عليه وسلم، وأمر بمقاطعتهم؟ لأنهم لم يكونوا في لحظة ما حيث طلبهم الواجب وحثه النداء، ولما عاد الرسول صلى الله عليه وسلم ومن معه من أداء ما وجب جاءه من لم يخرج معه، فمن اعتذر كذبًا هلك، ومن صدق أمر الرسول صلى الله عليه وسلم بمقاطعته حتى جاءت توبة الله عليه ولولا هذه التوبة لهلكوا مع الهالكين.

إن المسلم يكون حيث يدعوه واجب دينه لا حيث يرغب هو أو يحب: والتفريط في أداء ما يجب له عواقبه ومخاطره. ولقد تحولت في زمننا هذا بعض فروض الكفاية إلى فرض عين لتفريط المسلمين، وإذا أردت أن تحصر ذلك وجدت أَمتنا الإسلامية تحتاج إلى تخطيط شامل في حياتها كلها لتسد كل جانب بما يكفيه ليسقط الفرض عن الباقيين.

إذًا: أسلوب التربية والثقافة والإعداد للإنسان في عالمنا الإسلامي يحتاج إلى مراجعة إصلاح بحيث تتوحد الغاية وتتسق الوسائل وتمضي لما يجب أن يكون..وإعداد الإنسان الصحيح هو الأصل فيما ننشده من نهضة وما نطلبه من إصلاح.

ثانيًا: لابد من جهاز متخصص ذي إمكانات عصرية يقوم بمسح شامل لمعرفة الطاقات والإمكانات الهائلة في عالمنا الإسلامي، ويقدم الأسباب الصادقة لهجرة أبناء المسلمين من ديار الإسلام إلى غيرها وهي تمثل خطراً حقيقياً في تطوير عالمنا الإسلامي بما يتناسب وضرورات العصر.

وهؤلاء المهاجرون لم يهاجروا عقوقاً لأوطانهم وإنما هناك عوامل لا يجهلها كثير من الناس دفعتهم إلى الهجرة وأرغمتهم عليها وأكثر هذه العوامل تنتسب إلى الشعارات المنافية للإسلام التي رمي بها عالمنا الإسلامي في كثير من دياره، والتي سحقت معها كرامة الإنسان، وامتهنت آدميته وإنسانيته، ووضع في غير موضعه باسم وضع الإنسان المناسب في المكان المناسب، وصعب التكامل أَو التفاهم في عالمنا الإسلامي لاختلاف الشعارات، وتناقض الغايات، مع أن عالمنا الإسلامي يملك من التكامل فيما بينه ما يقنعه عن الحاجات إلى الغير ويملك من الطاقات البشرية المتخصصة ما يسد حاجته في كثير من ضروراته.

فهل من حصر لهذه الطاقات، وتهيئة الأسباب عودتها بل وتهيئة لأسباب الاستقرار في عالمنا الإسلامي بنبذ الشعارات المفرقة، والتمسك بالكلمة الطيبة الموحدة كلمة الإسلام الذي يجمعنا على إتباع صراط واحد، ويجنبنا إتباع السبل المفرقة: { وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ[153]}[سورة الأنعام].

فلابد للإسلام أَن يحكم على أَرضه؛ ليؤمن أبناءه، ويفتح أمامهم أَسباب النهضة الشاملة الكاملة، ويجمعهم على كلمة سواء يكونون بها هداة ودعاة للإنسانية جمعاء.

نحتاج في كثير من ديارنا الإسلامية إلى تأمين الإنسان المسلم على أرضه، كما نحتاج إلى قيام الأخوة الإسلامية وهي -الأصل- مقام الشعارات الدخيلة المفرقة، إن عالمنا الإسلامي يحتاج إلى نهضة شاملة كاملة في الزراعة والصناعة وجميع مرافق الحياة، إن أمتنا تعيش مشلولة الحركة حين البأس إذا لم يكن على أرضها المصنع الذي يمدها بما تحتاج إليه، كما تعيش منكسة الرأس إذا لم تتعلم كيف تستغني بما أعطاها الله، وتجاهد عدو الله وعدوها، وأسلافنا من قبل قد نهضوا بالقليل الذي في أيديهم؛ لأنهم عرفوا أن الإيمان حركة حياة لا قعود معه، ولا تواكل، ولا يأس.

والرسول صلى الله عليه وسلم لم يخش على أمته الفقر فيما استقبلت وتستقبل من أيامها فيقول: [ أَبْشِرُوا وَأَمِّلُوا مَا يَسُرُّكُمْ فَوَاللَّهِ مَا الْفَقْرَ أَخْشَى عَلَيْكُمْ وَلَكِنِّي أَخْشَى أَنْ تُبْسَطَ عَلَيْكُمْ الدُّنْيَا كَمَا بُسِطَتْ عَلَى مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ فَتَنَافَسُوهَا كَمَا تَنَافَسُوهَا وَتُهْلِكَكُمْ كَمَا أَهْلَكَتْهُمْ] رواه البخاري ومسلم.

تنافسنا عليها، وتقاتلنا، وقتلنا بها أَنفسنا، ولم نجاهد عدونا.. بسطت الدنيا فهل استطعنا أن نحقق بها غنى حقيقيا لأنفسنا، أم أَنها كثيرة في أيدينا، ونحن معها فقراء، وديارنا الإسلامية مع كثرة ما سلب منها هي أوسط وأَخصب بلاد العالم، ومعظمها يستورد ما يحتاج إليه من طعام وشراب ولباس وغير ذلك مما هو ضروري وغير ضروري.

ولقد وقع ما أخبر الرسول صلى الله عليه وسلم به وحذر منه، فاستفاد غيرنا وخسرنا، وانتصر بباطله وهُزمنا، وشغل بتمزيقنا وشغلنا بأنفسنا.

كم فرقت الفرقة والتنازع على المسلمين من ايجابيات وجلبت عليه مع الشعارات المنافية للإسلام شعارات اللؤم والغدر والسلبيات المدمرة في أَخص شئونهم وفي علاقتهم بعضهم ببعض. ويخطئ من يظن أننا بغير الإسلام تجتمع لنا كلمة، أَو يرتفع لنا بناء. إن ما صلح به ماضينا هو ما يصلح به حاضرنا ومستقبلنا، ولم تستطع القبيلة، ولا روابط الجنس والدم أن تجمع الناس على رسالة خير وإصلاح، وإن جمعت فرقت. والعرب لماذا لم تجمعهم روابط الجنس من قبل؟ لماذا لم يجتمع الأوس والخزرج وبينهم من الصلة ما بينهم؟ إنها الحروب والدماء والقطيعة والبغضاء، أزيلت حين شع نور الإسلام على الديار، فصفت النفوس، والتقت القلوب، وتعانقت الأرواح، وأَصبحوا بنعمة الله إخوانا.

بالإسلام صاروا خير أمة أخرجت للناس.. وبالإسلام امتد نورهم وسما ذكرهم، وعرف فضلهم. وبالإسلام بطل كيد عدوهم الذي أراد أَن ينفذ إليهم عن طريق إعادتهم إلى عصبية الجاهلية وتناحرها. بالإسلام تتماسك الصفوف، وتأتلف النفوس، وتتحول الطاقات والإمكانات إلى بناء حضارة تصان فيها كرامة الإنسان..بالإسلام تسقط جميع السلبيات التي حالت بيننا وبين التعاون على البر والتقوى.

قد تظن أن كل بلد يستطيع أن يبني نفسه ويستصلح أرضه، ويوفر حاجة أبنائه، ويختار لنفسه من المذاهب ما شاء، ولا تدخل لأحد في شئون غيره. وهل يطلب أعداؤنا أكثر من ذلك؟ إنه السبيل لإبتلاع كل فريسة على حدة يؤكل الأبيض والأحمر والأسود، وأي تفريط في ترابطنا وتماسكنا وتداعي بعضنا البعض سيجعلنا نقول في حسرة: أكلت يوم أكل الثور الأبيض.. أكلت يوم أكل الأندلس المفقود.. ويوم ابتلعت جزر البحر الأبيض المتوسط.. ويوم استعمرت روسيا الشيوعية ديار الإسلام واغتصبت أرضه ويوم.. ويوم.. ويوم.

ولن يتوقف جشع الأكلة من الكفرة والفجرة ما لم تؤد أمتنا الإسلامية رسالتها مع نفسها، ومع الناس وتحيا مرابطة في سبيل ربها قائمة بما أوجب الله عليها.. عندئذ تستطيع أن تجير المظلوم وإن كان من غيرها، وأن تضرب على يد الظالم وإن كان منها.

عندئذ تجيب نداء من قالت: وامعتصماه بمائة ألف مقاتل، لا بمائة ألف شكوى لمجلس الأمن، وهيئة الأمم..

عندئذ تستطيع أن تصحح مفهوم السلام بإقامة الحق والعدل في الأرض:{ وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ إِلَّا تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ[73]}[سورة الأنفال].

عندئذ نستطيع أَن نتكلم بلغة ديننا لا في شعارات غيرنا، وأن ننادي أهل الكتاب بما ناداهم الله به- { يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيرًا مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ[15]يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ[16]}[سورة المائدة].

عندئذ نستطيع أن نقدم للإنسانية كلها أسباب الأمن والسلم وهي تعيش على بركان من النار يوشك أن يقضي عليها وعلى حضارتها.

عندئذ نستطيع أَن نحافظ على أقوات الناس التي أخذت من أفواههم وحشرت في بطون المدافع في ظل حضارة صار فيها الإنسان أرخص شيء.. لقد انتقل تجار الفساد، وموقدو نار الحرب إلى أرضنا، ولن يطفئ نارهم، ويقتلع فسادهم إلا صدق ولائنا لديننا، واعتصامنا بحبل ربنا: { وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ[120]}[سورة آل عمران].

فإن أمتنا الإسلامية تملك من المقومات ما يحفظ شخصيتها، وتملك من الأسباب ما يحقق نهضتها من نعم الله التي لا تحصى..والأمر يتوقف على مدى المحافظة على المقومات، والأخذ بالأسباب، وسنة الله لا تجامل أحداً ولا تحابي، والله لا يغير ما بنا حتى نغير ما بأنفسنا.

إن الأخذ بالأسباب يرتبط بالمحافظة على المقومات.. فهل يتفاعل المسلمون بمقوماتهم مع الأسباب تفاعل شكر لا كفران له، فتنبت الأرض، وينتج المصنع، ويعمر المسجد، ويشغل الفراغ، وتذهب المفسدة.

إن الأمر جد لا هزل فيه، وخطر محدق يحتاج إلى إعداد وحذر..والميدان يتسع لكل جهد من كبير وصغير، ورجل وامرأة، وطالب وعامل.

ورجاؤنا في الله أن تكون الصحوة الإسلامية بارة راشدة، أن تكون على فقه بدينها، ومعرفة لعصرها، وحكمة وهي تدعو إلى سبيل ربها..وأَن تكون على مستوى الأحداث التي تحيط بالأمة الإسلامية، وأن تعلم أن الأمور لا تدرك بالأماني ولا تطلب بالتمني، وإنما هو الجد والكد، والصدق والصبر، والأخذ بالأسباب.. ولقد وصف الله من يختارهم لنصره ومن يؤتيهم فضله { يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ[54]}[سورة المائدة]. نسأل الله أن يجعلنا منهم.

من:' مُقوِّمات الأمة وأَسباب النهوض بها' للشيخ/ محمد الراوي

==============

#الوقت في حياة المسلم

الاثنين 10 شوال 1425هـ - 22 نوفمبر 2004 م

الصفحة الرئيسة

الوقت أغلى ما يملكه الإنسان, وهو أغلى من الذهب والفضة ومن كل غال وكريم، فما خسره الإنسان اليوم قد يعوَّض عنه غدًا، بل قد يجد ضعف أو أضعاف ما خسره اليوم, ولكن الوقت هي الثروة الوحيدة التي لا يمكن تعويضها، فما ضاع منه لن يعود، وإن أهل الجنة لن يتحسروا من الدنيا إلا على الوقت الذي مضى ولم يذكروا فيه اسم الله، وحقق سلفنا الصالح الأمجاد التليدة التي خلدها التاريخ واعترف بها أعداؤنا، حققوها عندما قدروا الوقت قدره ولم يضيعوه.

فهذا ابن الجوزي رحمه الله يعتبر واحدًا من علماء الإسلام المكثرين في التأليف، كان يأتيه أمثالنا من الفضوليين، فكان يتجاذب معه أطراف الأحاديث، وفي ذات الوقت يعد أقلامه للكتابة حتى لا تضيع هذه الدقائق والسويعات، وإن علماءنا الذين نعتز بهم كابن حجر الذي لقب بحافظ الدنيا وابن تيمية وابن القيم والخطيب البغدادي وغيرهم, خلفوا وتركوا وراءهم تراثًا عظيمًا ضخمًا، رغم أنهم في عصرهم كانوا يفتقرون إلى ما به وعليه يكتبون، ونحن اليوم لدينا الكومبيوتر الذي إذا استخدمناه للكتابة نعمل أصابعنا العشرة، ومع ذلك لا يمكن أن ننتج أو نقدم معشار ما قدمه هؤلاء الذين أسلفنا الإشارة إليهم وغيرهم، هذا مع أن بعضهم خلف هذا التراث الهائل وهو يتنقل من سجن إلى سجن 'كابن تيمية', بل نجد بالكاد من بين الألف عالم اليوم من قرأ فتح الباري الذي يشكل 15% من الإنتاج العلمي لابن حجر كاملاً، يعجبني جدًا ما كتبه العلامة الراحل محمد شفيع رحمه الله في تفسير قوله تعالى: {إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقاً} [الإسراء:81] ما فحوى كلامه: 'الباطل زاهق لا يمكن أن تستوي سوقه ويصلب عوده أو يمكَّن لأهله في الأرض، وإن رأيت لأهل الباطل صولة وجولة أو قوة وشوكة فاعلم أنهم تمسكوا بجانب من جوانب الحق، فبه اعتزوا وتمكنوا'.

وإنني أرى أن أهل الغرب ما تقدموا إلا بأخذهم بعض الجوانب والأحكام من شريعتنا, ومن ضمنها استغلالهم للوقت فيما يعود عليهم بالنفع، فلهم روتين يومي لا يحيدون عنه، للعمل ساعات معينة، وللراحة وقت محدد، وللنوم موعد معلوم، وبالكاد تجد أحدهم عالة على أحد أو طفيليًا، الكل يعمل ويكد ويكدح، حتى الطاعنون في السن يمضون أوقاتهم في العمل أو القراءة، يقرءون وهم بالقطار مسافرون، يندر عندهم فكرة التقاعد المعروفة لدينا, ولذلك مكن الله لهم في الأرض، فقانون الفطرة يقول: 'من جد وجد ومن زرع حصد', ومن أخلد خسر, والندم بعد فوات الأوان لا ينفع، وسنة الله لا تتغير ولا تتبدل: {وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً} [الأحزاب:62] والله لا يحابي أحدًا من عباده، فليس بينه وبين عباده حسب أو نسب، ولو كان المجد والسؤدد ينال بالتمني وبالدعاء وحده لكان الأحرى بالنبي عليه السلام - ودعاؤه ادعى للقبول - أن يملك الدنيا دون أن يتحمل المشاق والمصاعب ويخوض معارك بدر وحنين... إلخ.

ولم يعرف التاريخ أمة من الأمم اهتمت شريعتها بالزمن، وحثت على اغتنامه قبل ضياعه، مثل الأمة الإسلامية، وذلك لأن الزمن هو الحياة، هو العمل والإنتاج، هو التطور العلمي في تشييد الحضارات وازدهارها، وهو كذلك التطور العلمي في جميع فروع العلم، هو التقدم التقني في مجال الاختراع والإبداع، ولذا نقول: عصر الصناعة، موجود ومسخر لخدمة الإنسان, والبشر لم يصلوا إليه، ولم يتعرفوا على ما فيه من طبقات وأجرام، إلا في هذا الوقت، بتقدم علمهم، والحرص على وقتهم، فاغتنموه حتى لا يذهب سدى، فتندموا حين لا ينفع الندم، وكذلك فإن الأيام هي الأيام لم تزد ولم تنقص، لا من حيث العدد، ولا من حيث المساحة الزمنية اليومية، والشهور والأعوام لم يتبدل فيها شيء ـ إلا الناس ـ شمس تشرق وتغيب، وهلال يهل ثم يقمر، ثم يتناقص ثم يختفي، وهكذا حياة الأقوام.

هذا هو الزمن وتلك هي حياة الإنسان، يولد صغيرًا ضعيفًا فيشيخ، هكذا هي حياة الإنسان، ثم يختفي، وكأن لم يكن.

ومن رغب في أن يخلد ذكره، وينفع نفسه في دنياه وآخرته، ويسعد الآخرين في حياته وبعد مماته فلينتهز فرصة وجوده في الحياة، وليزين هذه المدة المحدودة بالعمل، وها هو رسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم يحث أمته على انتهاز الوقت قبل فواته، فيقول: 'اغتنم خمسًا قبل خمس: حياتك قبل موتك، وصحتك قبل سقمك، وفراغك قبل شغلك، وشبابك قبل هرمك، وغناك قبل فقرك'. ويقول أيضًا: 'نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس: الصحة والفراغ'.

ها هو الرسول يوصي باستثمار الوقت؛ لأن الوقت هو المادة الخام الطيِّعة للإنسان، والتي يقدر على تشكليها حسبما يرى ويهوى، فهو يستطيع استثمارها فيما يعود عليه شخصيًا، وعلى أسرته ومجتمعه وأمته والإنسانية كافة بالفائدة الجمة، فيفيد هو علمًا ونشاطًا وصحة وذكرًا بين العالمين، ويفيد غيره رفاهية وأمنًا وحياة مستقرة، توفر لهم الغذاء والكساء والسكن والصحة والسلامة من كل ما يعتري الحياة من نكبات.

وفي مقابل ذلك يستطيع أن يهدر وقته، فيذهب هباءً منثورًا لا فائدة حاضرة، ولا خير يُرتجى مستقبلاً، ويصبح هو ومن على شاكلته أشقى من أظلتهم السماء، وأقلتهم الغبراء يتكففون الناس أعطوهم أو منعوهم, وما درى المسكين أنه هو السبب الأول والأخير في هذه الحياة المهينة التي يحياها.

وذلك بإهدارنا لزماننا، ولو جئنا إلى كتاب الله العزيز لوجدنا أن الله تعرض لذكر الساعة إلى القرن والقرون، وأقسم به في بداية بعض السور، مثل: والفجر والليل، والضحى، وذكره كثيرًا في داخل السور أيضًا، وقد سميت سورة فيه بسورة العصر: {وَالْعَصْرِ إِنَّ الإِِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ إلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} [العصر:1ـ3].

فليس المقصود هنا إنسانًا معينًا وإنما المراد جنس الإنسان.

فـ[أل] هنا ليست للتعريف والتحديد، وإنما هي للعموم لتشمل جميع بني آدم، ذكورهم وإناثهم.

فكل من أهمل عمره ـ وقته ـ هو في خسران مبين في فقر ومذلة، ومرض وجهل، وتخلف، هو في عوز لكل ما تقوم به الحياة الإنسانية، ثم استثنى الله ـ تبارك وتعالى ـ من جنس الإنسان، استثنى الذين أفردوه بالألوهية، وخصوه بالعبادة، ثم يخبرنا الله أن الإيمان القلبي وحده لا يكفي، بل لا بد أن يضاف إليه العمل الخارجي النافع، والعمل معناه الاستفادة من الوقت.

فيقضونه فيما يجنون منه فوائد لهم ولغيرهم، وتواصوا بالصبر في مواجهة متاعب الحياة كي يعيشوا أعزة.

أما الذين استلذوا الكسل 'الكسل أحلى من العسل' واستمرءوا حلاوة البطالة، والذين لا يصبرون على تحمل المشاق، ومكابدة الصعاب، وتخور قواهم لأدنى نصب، فهؤلاء جميعًا تلفظهم الحياة، وتدوسهم الأقدام وتلعنهم الأرض التي يحيون عليها، ويتجاوزهم الركب الحضاري غير مأسوف عليهم، لأنهم رضوا لأنفسهم بالتخلف عن المشاركة في بناء الحضارات.

وعندما يضرب الله لنا الأمثال في القرآن الكريم بالأمم السابقة، التي سادت ثم بادت، ويطلعنا على ما حل بهم من عقاب، كما يخبرنا بما كانوا عليه من القوة والبأس وأن آثارهم في الأرض باقية من بعدهم، وهي خير شاهد على اغتنامهم لأزمانهم وقضائها في أعمال مثمرة، يقول تعالى: {أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ وَأَشَدَّ قُوَّةً وَآثَاراً فِي الأَرْضِ} [غافر:82]، وكقوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلادِ وَثَمُودَ الَّذِينَ جَابُوا الصَّخْرَ بِالْوَادِ وَفِرْعَوْنَ ذِي الأَوْتَادِ} [الفجر:6ـ10] فإن هؤلاء الأقوام لم يكن هلاكهم بسبب كسلهم وتباطؤهم عن أعمالهم، وإنما كان بسبب جحودهم للنعم التي أنعم بها عليهم.

لنتعظ، ولنحِدْ عن الطريق الذي سلكوه، من حيث الاعتقاد والعبادة، أما من حيث العمل، واستغلال الوقت، والالتزام بتعمير الأرض، وتشييد الحضارات والمساهمة بنصيب وافر في التقدم العلمي الإنساني، فقد كانوا على قدر عظيم منها، وها هي الآيات من 6 حتى 10 من سورة الفجر تنطق بذلك صراحة، فقد كانت ثمود، قوم صالح ـ عليه السلام ـ ينحتون من الجبال بيوتًا فارهين، كما كانوا ذوي مزارع ونخل هضيم، وعاد قوم هود كانوا ذوي مصانع ومزارع, والحضارة الفرعونية لا زالت آثارها ـ أهراماتها ـ تشهد لهم بذلك إلى يومنا هذا وإلى ما شاء الله من الزمان القادم، وكذلك الحضارات الإغريقية والرومانية، والهندية، والبابلية، والفينيقية، والفارسية والإسلامية، كل واحدة قد ساهم معاصروها في بناء الحضارة العالمية، التي هي أطوار, كل عصر يشيد دورًا من أدوارها بسواعد أبنائه، فخُلِّدوا في التاريخ, وإذا كان المثل يقول: 'اطلب الموت توهب لك الحياة', فأقول لك أخي القارئ: 'اغتنم الوقت يوهب لك الخلود، والذكر الحسن'.

وإذا كان القرآن تعرض للزمن فأورده بكل جزئياته، فإن الزمن غير مقصود لذاته، وإنما المقصود أهله الذين عاشوا فيه، ماذا قدموا لأنفسهم؟ بحيث جنبوها مواقع الإهانة والاحتقار، وماذا أهدوا لغيرهم من المجتمعات الحاضرة واللاحقة، من بدائع الصنع، والابتكار، يبغون بها السبق والفخار، وهل قاموا بواجب الخلافة في الأرض، أم أنهم عاشوا وماتوا، وكأنهم لم يولدوا لأنهم لم يتركوا شيئًا تذكرهم الأجيال القادمة به؟

إن العلماء لم يولدوا علماء، ولا المشهورين ولدوا مشهورين، وإنما ولدوا مثل المواليد الآخرين، ولكنهم عرفوا كيف يستغلون وقتهم علمًا وعملاً، فأصبحوا علماء مشهورين، وهذا هو الفارق بين العالم المشهور والخامل المغمور.

ومن هنا فإن المؤمن الواعي يحس في أعماق نفسه أنه في سباق مع النهاية المحتومة، وهذا الإحساس يدفعه لأن يسجل لنفسه أكبر قدر من العمل الصالح، الذي يحتاجه في حياته وبعد مماته، ولذا يحضنا الرسول صلى الله عليه وسلم على اغتنام الوقت والاستفادة منه، وإن الموت ليس هو النهاية، بل إن الإنسان محاسب يوم القيامة على وقته الدنيوي، فيمَ قضاه؟ يقول عليه الصلاة والسلام: 'لن تزول قدما عبد يوم القيامة حتى يسأل عن أربع: عن عمره فيمَ أفناه، وعن شبابه فيمَ أبلاه، وعن ماله من أين اكتسبه، وفيمَ أنفقه، وعن علمه ماذا عمل به'.

والمسلم لا بد أن يحسن في ضوء مفهوم التوجيه الرباني بمشكلة الانتفاع بالوقت، بل الاستفادة من كل لحظة من لحظاته.

وبهذا الحساب الدقيق للزمن واستثماره والاستثمار المفيد، حافظ المسلمون الأوائل على توجيهات ربهم، وطبقوا تعاليم دينهم، وأقاموا أحكام شريعتهم، فأسسوا للدنيا حضارة شامخة، ومجدًا تليدًا, ولا نستغرب اليوم عندما نسمع أو نقرأ أن العالم الفلاني ألف من الكتب ما يربو على '300 كتاب أو 400' أو أكثر، ولكن تزول الدهشة عندما ندرك أنهم استثمروا وقتهم وشغلوا فراغهم، فتركوا لنا مصنفات دقيقة مختلفة الأجناس والأطعمة العقلية، فها نحن الآن نعكف على دراستها والتزود منها:

حقًا قال صلى الله عليه وسلم: 'نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس: الصحة والفراغ'. إن الإنسان يأتي عليه حين من الدهر، يدرك فيه أهمية الوقت ويتحسر على ما فات منه وضيعه، ولكن لات حين مندم، ثم إن الإيمان برسول الله صلى الله عليه وسلم يقتضي ويستوجب التأسي بهديه وسنته قال الله تعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} ومن الخطأ أن نزعم أن هذا التأسي يتحقق ويحصل حينما نصلى كهيئته أو نصوم كصومه أو نحج كحجه، بل يجب أن نتمسك بخلقه في شؤوننا كلها، يجب أن نقضي أوقاتنا كما كان صلى الله عليه وسلم يقضيها, إما في عمل يرضي الله أو في عمل يصلح به دنياه، فالوقت الوقت يا عباد الله.

===============

#في التاريخ .. فكرة ومنهاج

الثلاثاء 14 شعبان 1425هـ - 28 سبتمبر 2004 م

الصفحة الرئيسة

صحوَة ليسَ بَعدَهَا سُبَات:

لو كان مقدرًا للعالم الإسلامي أن يموت.. لمات في خلال القرون الطويلة التي مرت به، وهو مكبل بالقيود وهو في حالة إعياء عن الحركة، بعد أن حمل عبء الحضارة الإنسانية طويلاً، وبعد أن تعب فاسترخى ونام، والاستعمار الغربي إذ ذاك فتى، فتهيأت له الفرصة، ودانت له معظم أطراف الأرض . وكان ثقله كله على صدر العالم الإسلامي النائم !

لو كان مقدراً للعالم الإسلامي أن يموت.. لمات في خلال فترة الاسترخاء والإعياء . وفي إبان فتوة الاستعمار وقوته ...ولكنه لم يمت ... بل انتفض حياً كالمارد الجبار، يحطم أغلاله وينقض أثقاله، ويتحدى الاستعمار الذي شاخ .

وحيثما مد الإنسان بصره؛ شعر بهذه الانتفاضة الحية، وشعر بالحركة والتوفر للنضال، حتى الشعوب التي ما تزال في أعقاب دور الاسترخاء.. حتى هذه الشعوب يدرك المتأمل في أحوالها أن الحياة تدب في أوصالها ويرى خلال الرماد وميض نار، توشك أن يكون لها ضرام .

ما الذي احتفظ لهذه الشعوب بحيويتها الكامنة بعد قرون طويلة من النوم والاسترخاء ومن الضعف والخمود، ومن الضغط والقسر، ومن الاحتلال البغيض الذي بذل جهده لتقطيع أوصالها وإخماد أنفاسها .

إنه عقيدتها القوية العميقة، هذه العقيدة التي لم يستطع الاستعمار قتلها على الرغم من جهود الاستعمار الفكري والروحي، والاجتماعي والسياسي... هذه العقيدة التي تدعو معتنقيها إلى الاستعلاء؛ لأن العزة لله، ولرسوله، وللمؤمنين . كما تدعوهم إلى المقاومة والكفاح لتحقيق هذا الاستعلاء، وعدم الخضوع للقاهرين، أياً كانت قوتهم المادية؛ لأن القوة المادية وحدها لا تخيف المؤمنين بالله، جبار السماوات والأرض، القاهر فوق عباده أجمعين .

هذه العقيدة الحية هي التي حفظت لهذه الشعوب قوتها الكامنة، وبعثتها بعثاً جديداً . والذي يراجع جميع النهضات و الانبعاثات التي قامت في هذه الرقعة لمقاومة الاستعمار يجدها تستند أصلاً إلى هذه العقيدة .

هذه حقيقة كبيرة تستحق الالتفات لكي ندرك قيمة هذه العقيدة في كفاحنا، ولكي ندرك أن الاستعمار لم يكن عابثاً، وهو يحاول تحطيم هذه العقيدة، وتحطيم دعاتها في كل أنحاء العالم الإسلامي . فالاستعمار كان يدرك خطر هذه العقيدة على وجوده، وما قدره الاستعمار كان حقاً، وقد وجده حقاً، والصيحات تأخذه من كل جانب، وأصحاب العقيدة في الله القهار يقودون الصفوف المكافحة ضد الاستعمار .

وإن يوم الخلاص لقريب . وإن الفجر ليبعث خيوطه . وإن النور سيتشقق به الأفق . ولن ينام هذا العالم الإسلامي بعد صحوته، ولن يموت هذا العالم الإسلامي بعد بعثه . ولو كان مقدراً له الموت لمات . ولن تموت العقيدة الحية التي قادته في كفاحه؛ لأنها من روح الله، والله حي لا يموت .

التجديد مهمة الإسلام:

مهمة الإسلام دائماً أن يدفع بالحياة إلى التجدد، وأن يدفع بالطاقات البشرية إلى الانطلاق والارتفاع . إن الإسلام لا ينكر أن في البشرية ضعفاً . ولكنه يدرك كذلك أن في البشرية قوة ويدرك أن مهمته هي تغليب القوة على الضعف، ومحاولة رفع البشرية وتطويرها وترقيتها . لا تبرير ضعفها أو تزيينه .

الإسلاَم حركة إبدَاعِيَّة شامِلَة:

يصعب أن نفهم أي جانب منفرد من جوانب الإسلام المتعددة، ما لم نفهم طبيعة الإسلام، كوحدة متكاملة ..ليس الإسلام شعائر تؤدى فحسب، وليس الإسلام دعوة أخلاقية فحسب، كذلك ليس الإسلام مجرد نظام للحكم، أو نظام للاقتصاد، أو نظام للعلاقات الدولية .. إن هذه كلها جوانب منفردة من جوانب الإسلام المتعددة، ولكنها ليست هي كل الإسلام .

إن الإسلام حركة إبداعية خالقة، تستهدف إنشاء حياة إنسانية غير معهودة قبل الإسلام، وغير معهودة في سائر النظم الأخرى التي سبقت الإسلام، أو لحقته .. تلك الحركة الإبداعية تنشأ عن تصور معين للحياة بكل قيمها وكل ارتباطاتها، تصور جاء به الإسلام ابتداء، وهي حركة تبدأ في أعماق الضمير ثم تحقق نفسها في عالم الواقع، ولا يتم تمامها إلا حين تتحقق في عالم الواقع . وفي طبيعة النفس البشرية استعداد لتحقيقه، حين تستجيب لدعوته، وحين تتأثر به تأثراً إيجابياً لا يكتفي بالمشاعر، أو الشعائر .

وحين تستقر العقيدة الإسلامية في الضمير البشري استقراراً حقيقياً، فإنه يستحيل أن تظل مجرد شعور وجداني في أعماق الضمير . إنها لا بد أن تندفع لتحقيق ذاتها في عالم الواقع، ولتتمثل حركة إيجابية تبدع الحياة كلها، وما ينشأ عنها من ألوان وأطياف وتعمير .

ورجال الصدر الأول – رضوان الله عليهم – عندما تلقوا القرآن تلقياً حقيقياً؛ شعروا أن كيانهم النفسي كله يتزلزل ليعاد تركيبه من جديد، وفق ذلك التصور الجديد الذي جاءهم به الإسلام، وأن الكيان القديم الذي بني في الجاهلية، وفق تصورات معينة للحياة، ووفق واقع معين للحياة، لا يمكن أن يرقع ترقيعاً بالتصور الإسلامي الجديد، بل لا بد من زلزلةٍ وتصدعٍ كاملين في الكيان القديم، ليعاد إنشاؤه وفق هندسة جديدة، ووفق تصميم جديد ..{ لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ...[21]}[سورة الحشر].

ولقد تصدع ما هو أقوى من الجبل، تصدع كيان النفس البشرية التي مسها هذا القرآن مساً حقيقياً، ليعاد تركيبها على نسق غير مسبوق .

محال إذن حين تتم العقيدة الإسلامية في قلب أن تظل قابعة سلبية في هذا القلب، أو أن تتحول إلى عبادات وشعائر، ثم تنتهي هناك، إنها لا بد أن تنطلق محاولة إبداع الحياة كلها وفق التصور الإسلامي للحياة، وفي الطريق تأخذ العبادات والشعائر؛ لأنها القاعدة التي تقوم عليها الصلة بين القلب البشري وخالقه، هذه الصلة التي يستمد منها العون والتصميم والاندفاع.

وقد يكون طريق الإبداع للحياة الجديدة هو تطويرها ولكنه لن يكون ترقيعها، وفرق بين أن يكون لديك تصميم معين للبناء تنفذه شيئاً فشيئاً، وأن ترقع بناء قائماً على تصميم آخر، إن هذا الترقيع لن يحقق لك في النهاية بناء جديداً ! .

إن الإسلام يرسم صورة معينة للحياة البشرية، صورة متكاملة، يحدد فيها النموذج البشري الذي يريد تكوينه، والعلاقات الاقتصادية والاجتماعية التي تربط هذا المجتمع، ونظام الحكم والعلاقات الدولية التي تنظم الحياة العامة .

هذه الصورة المعينة التي يرسمها الإسلام للحياة لا يمكن تحقيقها بمجرد قراءة القرآن تجويداً وترتيلاً، ولا بمجرد تسبيح الله بكرة وأصيلا، إنما هي تتحقق بترجمة المدلولات القرآنية إلى واقع عملي في حياة البشر، وبترجمة التسبيح إلى حركة وجدانية تتحول إلى حركة منظورة في عالم الواقع، وبترجمة المشاعر إلى صور تعبيرية ليس الهدف فيها هو مجرد التعبير، ولكن ما وراءه من حركة وتطوير.

وهذا المعنى كان مستقراً استقراراً تلقائياً في نفوس رجال الصدر الأول – رضوان الله عليهم – ومن ثم أمكنهم أن يغيروا واقع الحياة في فترة تشبه الأحلام.. روي عن ابن مسعود رضي الله عنه قال:' كان الرجل منا إذا تعلم عشر آيات لم يجاوزهن حتى يعرف معانيهن والعمل بهن' .

والرجل يقول:'حتى يعرف معانيهن' والمعرفة شيء غير مجرد الفهم .. المعرفة إدراك كامل، وانفعال بهذا الإدراك يتم في أعماق النفس، ثم:'العمل بهن' .

بهذا الإدراك الكامل لوظيفة القرآن أمكن إنشاء حياة جديدة كاملة لم يعرفها العرب قبل الإسلام، وبمثل هذا الإدراك الكامل يمكن أن يحقق الإسلام ذاته في عالم النفس، وفي عالم الواقع في كل زمان ومكان .

ولا يمكن تقسيم الإسلام إلى أجزاء، وفصل جزء منه عن الآخر، لا في طبيعة الإسلام، ولا في آثاره في النفس البشرية، أو في واقع الحياة . فليس الإسلام تفسير آية أو حديث في جانب، ثم دعوة إلى الجهاد في جانب، ثم عرض طرف من السيرة في جانب، ثم أدب مستقل في جانب، ثم نظام حكم محلي ودولي في جانب .. كلا.. إن الإسلام تصور كامل للحياة، ومنهاج كامل للحياة.

هذا التصور الكامل لطبيعة الإسلام هو الذي نحب أن يستقر في أخلاد المسلمين، وفي المقدمة دعاة الإسلام في هذا العصر؛ لأنه التصور الذي استقر في أخلاد الصدر الأول، فأبدع الحياة الإسلامية الجديدة، فكانت بدعاً في عالم الحياة كلها وما تزال .

في التاريخ .. فكرة ومنهَاج:

التاريخ ليس هو الحوادث، إنما هو تفسير هذه الحوادث، واهتداء إلى الروابط الظاهرة والخفية التي تجمع بين شتاتها، وتجعل منها وحدة واحدة متماسكة الحلقات، متفاعلة الجزئيات، ممتدة مع الزمن والبيئة امتداد الكائن الحي في الزمان والمكان .

ولكي يفهم الإنسان الحادثة ويفسرها، ويربطها بما قبلها وما تلاها، ينبغي أن يكون لديه الاستعداد لإدراك مقومات النفس البشرية جميعها: روحية وفكرية وحيوية، ومقومات الحياة البشرية جميعها: معنوية ومادية . وأن يفتح روحه وفكره وحسه للحادثة، ويستجيب لوقوعها في مداركه، ولا يرفض شيئاً من استجاباته لها إلا بعد تحرج وتمحيص ونقد .

ومتى استقام البحث على ذلك المنهج الذي أسلفنا، وبرزت تلك المقومات الأساسية لطبيعة الدعوة، وطبيعة الرسول، وطبيعة البيئة التي استقبلت الدعوة واستقبلت الرسول، وطبيعة المجتمع الإنساني الذي كان يعاصر مولد الإسلام، وطبيعة العقائد والأفكار التي كانت تسوده يوم ذاك .

متى برزت تلك المقومات الأساسية؛ سهل تتبع نشاطها وتفاعلها وصيرورتها، وأمكن تصوير وتصور خطوات الدعوة على عهد الرسول صلى الله عليه وسلم، هذه الخطوات التي تسير متأثرة في هذا الجيل: أن نعرف كيف اختار الرسول رجاله، ومن أية طينة كان هؤلاء الرجال؟ وكيف صاغ الرسول رجاله؟ وكيف أعدهم للمهمة العظمى؟ وكيف بنى الرسول نظامه، وعلى أي الأسس قام هذا النظام الجديد؟ وماذا كان في طبيعتها، وفي ظروفها، وفي رجالها، وبيوتها وعشائرها، وفي علاقاتها الاجتماعية، وملابساتها الاقتصادية، والجغرافية والحيوية .. من استعداد لتلبية هذا الحدث، أو معارضته؟

إلى آخر هذه المباحث التي تصور المرحلة الأولى من مراحل حياة الإسلام، أو من تاريخ الإسلام والتي تصح تسميتها باسم:'الإسلام على عهد الرسول' .

ثم تجيء المرحلة الثانية، مرحلة:'المد الإسلامي' وذلك عندما انساح الإسلام في مشارق الأرض ومغاربها . عندما فاض ذلك الفيض الانفجاري العجيب الذي لم يعرف له العالم نظيراً في سرعته وفي قوته . لا من ناحية الفتح العسكري وحده، ولكن من ناحية التأثير الروحي، والفكري، والاجتماعي أيضاً: أي من الناحية الإنسانية الشاملة التي شهدت تحولاً كاملاً في خط سير التاريخ على مولد هذا الدين الجديد، وانتشاره ذلك الانتشار العجيب ! .

ويمكن تتبع أعمال الهدم والبناء التي قام بها الإسلام في تلك الرقعة الفسيحة التي امتد إليها، وتفاعله مع الأفكار والعقائد التي كانت سائرة فيها، ومع النظم الاجتماعية التي كانت تظللها، ومع الظروف الاقتصادية، والمخلفات التاريخية، والملابسات الإنسانية، في أخصب بقاع الأرض وأكثرها حضارة في ذلك الزمان .

ثم يجيء دور 'انحسار المد الإسلامي'، وعلى ضوء دراسة المراحل التاريخية السالفة يمكن أن نتبين أسباب هذا الانحسار، وعوامله الداخلية والخارجية جميعاً . كم من هذه العوامل من طبيعة العقيدة الإسلامية، والنظام الإسلامي؟ ثم هل كان هذا الانحسار شاملاً أم جزئياً ؟ وسطحياً أم عميقاً ؟ وما أثر هذا الانحسار في خط سير التاريخ، وفي تكييفه أحوال البشر، وفي قواعد التفكير والسلوك، وفي العلاقات الدولية والإنسانية ؟ وما وزن الأفكار والنظم والعقائد التي استحدثتها الإنسانية بالقياس إلى نظائرها في الإسلام ؟ وماذا كسبت البشرية، وماذا خسرت من وراء انحسار المد الإسلامي وظهور هذا المد الأوربي الذي ما تزال تظلنا بقاياه .

ومن ثم يصبح الحديث ' عن العالم الإسلامي اليوم ' طبيعياً وفي أوانه، وقائماً على أسسه الواضحة الصريحة وليس حديثاً تمليه العاطفة أو التعصب من هذا الجانب أو ذاك ويصبح التاريخ الإنساني في – ضوء منهجنا الخاص – مسلسل الحلقات متشابك الأواصر، ويتحدد دور الإسلام في هذا التاريخ في الماضي وفي الحاضر وتتبين خطوطه في المستقبل على ضوء الماضي والحاضر .

ومن ثم فالحقيقة تحتم علينا أن نعيد كتابة التاريخ الإسلامي من زاوية رؤية أكمل، وأدق، وأعمق، فنحن – الأمة الإسلامية – إنما ننظر الآن إلى أنفسنا وإلى سوانا بعدسة صنعتها أيد أجنبية عنا، أجنبية عن عقيدتنا وتاريخنا، أجنبية عن مشاعرنا وإدراكنا، أجنبية عن فهمنا للأمور وإحساسنا بالحياة وتقديرنا للأشياء ..

ثم هي بعد ذلك كله – مغرضة – في الغالب – تبغي لنا الشر لا الخير . لأن مطامحها ومطامعها ومصالحها الخاصة وأهدافها القومية .. كلها تدفع بها دفعاً لأن تبغي لنا الشر، لأن خيرنا لا يتفق مع أطماعها، ولأن مصالحنا تعطل مصالحها .

وحتى على فرض تجرد هذه الأيدي التي تكتب لنا تاريخنا من الغرض والهوى، فإن أخطاء المنهج الذي تتبعه كفيلة بأن تشوه الحقائق التاريخية في غير صالحنا .. وصالحنا في أن نرى حقيقة دورنا في تاريخ البشرية، وأن نعرف مكاننا في خط سير التاريخ، وأن نتبين قيمتنا في العالم الإنساني.

وليست فائدة هذا فائدة نظرية فكرية مجردة، بل إنها أكبر من ذلك وأشمل، فعلى ضوئها يمكن أن نحدد موقفنا الحاضر، ودورنا المقبل، وأن نسير في أداء هذا الدور على هدى ومعرفة بالظروف والعوامل العالمية المحيطة بنا، وبمقدار الطاقة التي نواجه بها هذه الظروف والعوامل .

ونحن ندرس في مدارسنا ومعاهدنا على وجه الخصوص تاريخاً إسلامياً مشوهاً، وتاريخاً أوربياً مضخماً، لا عن مجرد خطأ غير مقصود، ولكن عن نية مبيتة من الاستعمار الغربي الذي يهمه أن لا نجد في تاريخنا ما نعتز به، وأن نرى أوروبا على العكس هي صاحبة الدور الأول في التاريخ الإنساني، فإذا يئسنا من ماضينا، واستعرضنا دورنا في حياة البشرية، وامتلأت نفوسنا مع ذلك إعجاباً بالدور الذي قامت به أوروبا، وإكباراً للرجل الأبي؛ سهل قيادنا على الاستعمار، وتطامنت كبرياؤنا القومية، وذلت رقابنا للمستعمرين .. وتحت تأثير هذه العوامل كتب التاريخ الذي ندرسه في مدارسنا ومعاهدنا بوجه خاص .

وإعادة كتابة التاريخ الإسلامي على النهج والنسق الذي وصفناه هو وحده الكفيل بأن يكشف هذه الأباطيل وأن يثبت حقيقة الدور الذي أداه الإسلام، والدور الذي أدته الحضارة الأوروبية بعدما يصور طبيعة هذا الدين، وطبيعة النظام الذي ينبثق منه، ومدى ما منح البشرية من الخير والتقدم، وضخامة الدور الذي أداه لبني الإنسان .

وبعد فإنه ينبغي أن يقال: إن دراسة من هذا الطراز لن يكون من برنامجها تناول الحوادث التاريخية بالتسلسل الحرفي والتفصيل الوافي، فوظيفتها الأساسية أشبه شيء بوظيفة الخط البياني يشير ولا يحصي، ويرشد ولا يستقصي . وبعبارة أخرى: إن وظيفة دراسة من هذا النوع هي محاولة إيجاد عقلية تاريخية معينة، وصورة تاريخية خاصة، تفيد الذين يتناولون الحوادث التاريخية بالتفصيل، والشخصيات التاريخية بالتحليل .

وما من شك أن استقرار هذا النهج في حقل الدراسات التاريخية سيعين على وضوح خصائص الشخصية الإسلامية، والدور الإسلامي في حياة البشرية، الأمر الذي من شأنه أن تحلل الشخصيات الإسلامية بل الشخصيات الإنسانية في سياق صحيح .

إن قيمة هذا النوع من الدراسة أن يقيم النهج، ويشرع السنن، ويرسم الطريق، فإذا نجح في أداء مهمته كان ذلك توفيقاً أي توفيق .

طَريق وحيْد:

يوماً بعد يوم يتبين أن هنالك طريقاً معيناً للشعوب الإسلامية كلها في هذه الأرض، يمكن أن يؤدي بها إلى العزة القومية، وإلى العدالة الاجتماعية، إلى التخلص من عقابيل الاستعمار والطغيان والفساد .. طريقاً وحيداً لا ثاني له، ولا شك فيه، ولا مناص منه .. طريق الإسلام، وطريق التكتل على أساسه .

إن أحداث العالم وملابسات الظروف وموقف الشعوب الإسلامية .. كلها تشير إلى هذه الطريق الوحيد الذي لا تمليه عاطفة دينية، ولا تحتمه نزعة وجدانية .. إنما تمليه الحقائق والوقائع، ويمليه الموقف الدولي، ويمليه حب البقاء، وتلتقي عليه العاطفة والمصلحة، ويتصل فيه الماضي بالحاضر، وتشير إليه خطوات الزمن، ومقتضيات الحياة .

لقد أكلنا الاستعمار الغربي فرادى، ومزقنا قطعاً ومزقاً يسهل ازدرادها، وأرث بيننا الأحقاد والمناقشات لحسابه لا لحسابنا، وجعل في كل بلد إسلامي طابوراً خامساً، ممن ترتبط مصالحهم بمصالحه، وممن يرون أنفسهم أقرب إلى هذا الاستعمار منهم إلى شعوبهم وأوطانهم، وأقام أوضاعاً معينة، في كل بلد إسلامي تسمح له بالتدخل وتملي له في البقاء، وتضمن له أنصاراً وأذناباً في كل مكان . فإلي أين نتجه لنكافح الاستعمار وأذنابه وأوضاعه .

إنه ليس الطريق أن ننضم إلى كتلة الغرب، أو كتلة الشرق.. كلتاهما لنا عدو، وكلتاهما كارثة على البشرية، وعلى الروح الإنسانية .. هذه وتلك بلاء ونقمة – على الشعوب الإسلامية، الاستعمار بلاء واقع يجب كفاحه . والشيوعية بلاء واقع كذلك على ملايين المسلمين الواقعين في براثنه . والوطن الإسلامي كله وحدة، ومن اعتدى على مسلم واحد، فقد اعتدى على المسلمين أجمعين .

إنه ليس الطريق أن نلقي بأنفسنا إلى التهلكة هنا أو هناك، فلقد حارب الاستعمار الغربي كل مقوم حقيقي من مقومات الإسلام، وإن تظاهر بالإبقاء على المظاهر المموهة التي لا تقاومه ولا تكافحه.

إن طريقنا واضح، طريقنا الوحيد أن نمضي في تكتل إسلامي، هو وحده الذي يضمن لنا البقاء ويضمن لنا الكرامة، ويضمن لنا الخلاص من الاستعمار، وأذنابه، وأوضاعه.

وطريقنا إذن أن نرفض كل ارتباط إلى عجلة الاستعمار – تحت أي اسم وأي عنوان- .. إنه طريق وحيد، طريق الكرامة، وطريق المصلحة .. وطريق الدنيا، وطريق الآخرة .. إنه الطريق إلى الله في السماء، وإلى الخير في الأرض .. وإلى النصر والعزة والاستعلاء .. إنه هو الطريق .

من رسالة:'في التاريخ .. فكرة ومنهاج' للأستاذ/ سيد قطب رحمه الله

===============

#حوار الحضارات الجذور والتاريخ

الثلاثاء 7 شعبان 1425هـ - 21 سبتمبر 2004 م

الصفحة الرئيسة

شهد العالم في الخمس والعشرين سنة الأخيرة العديد من التغيرات الأيدلوجية التي دفعته إلى حقبة جديدة وشكل غير مسبوق من الصراعات والحروب والتدمير وتحول العالم عبر انهيار سور برلين وسقوط الشيوعية بعد أن كان ثنائي الأقطاب [ بتوازن القوى بالاتحاد السوفييتي والولايات المتحدة الأمريكية ] إلى عالم أحادي القطب تقوده الولايات المتحدة الأمريكية التي تشهد نهضة حضارية قوية خاصة في مجالات العلوم المختلفة والتكنولوجيا ولعل هذا المشهد لا غرابة فيه أما المشهد الي يليق به الاستغراب حقا فهو مشهد العالم وهو يعيش فترة سيطرة أحادية القطب [ الولايات المتحدة الأمريكية ].

ثم هو بعد ذلك يعاني من ويلات الحروب والتدمير والإبادة أضعاف ما كان يعاني وهو في الوضع الثنائي القطب وهو الوضع الذي تسعى فيه كل حضارة أو بالأحرى قطب من الأقطاب للهيمنة على العالم ولذا فالغالب المتوقع في حال سيطرة ثنائي الأقطاب على العالم حدوث مصادمات فيما بينهم وهذا المشهد متكرر على مدار أزمنة التاريخ فمن الصراع الدائر بين الفرس والروم إلى انجلترا وفرنسا إلى الاتحاد السوفييتي والولايات المتحدة الأمريكية وبين كل حقبة وأخرى من هؤلاء تتنوع الأمثلة وتتعدد الأشكال لحضارات تتصارع لتحقيق الهيمنة على العالم أما أن توجد حضارة واحدة يظهر من واقع العالم أنها الحضارة المسيطرة المهيمنة ثم بعد ذلك نرى مزيدا من الحروب والويلات والتدمير وملامح الاضطراب على الساحة العالمية بادية لا تخفى على أي ناظر فهذا هو المشهد الذي لا بد من الوقوف عنده وتأمله مليا للوصول إلى لبه ومضمونه.

إن وضع تصور حاكم للعلاقات بين الحضارات المختلفة كان الهم الشاغل للعديد من المفكرين والسياسيين والمنشغلين بتحليل الوضع الراهن للمنظومة العالمية حتى يمكن التوصل للفهم الناضج الواعي لطبيعة الأحداث ومن ثم محاولة الانتفاع بها وسوقها في الاتجاه المفيد النافع للبشرية وباءا على ذلك فقد انطلقت العديد من النظريات تحاول جاهدة فهم وتحليل الواقع ومحاولة توجيه دفته إلى ما فيه النفع لعموم البشرية وظهرت أقوى تلك الأطروحات أو بالأحرى ما كتب له العيش منها على النحو التالي:

قبل ما يقارب من عقدين من الزمان والعالم ما زال في ذلك الوقت يتعامل بواقع ثنائي القطب إلى حد ما خرج المفكر الفرنسي روجيه جارودي على العالم أجمع بنظريته الرائدة ومشروعه للجمع بين الحضارات المختلفة على أساس أرضية مشتركة للتفاهم على مستوى شعوب الأرض وسماه بـ' حوار الحضارات ' ولكن مشروعه كان يتسم بسمة أساسية ألا وهي النقد الشديد للهيمنة الغربية والسيطرة الأمريكية حتى أنه بشر في ثنايا نظريته بزوال الغرب عموما لكن هذه الصيحة وأخواتها من جانب جارودي أو غيره من المفكرين والساسة الذين سعوا إلى وضع نظرية أو قاعدة تحكم وتفسر واقع المجتمع العالمي لم تجد الصدى اللائق بها في ذلك الوقت لواقع الصراع القائم والمسمي بالحرب الباردة بين قطبي العالم آنذاك ومع انهيار الاتحاد السوفييتي وانفراد الولايات المتحدة الأمريكية بقيادة العالم بدأت نظريات أخرى بالصعود إلى السطح والظهور لتفسير كيفية تعامل القطب الأحادي مع العالم في ضوء الواقع الجديد ومن هذه النظريات ما خرج به الأمريكي الجنسية الياباني الأصل 'فوكوياما' بما يسمى ويعرف بنظرية نهاية التاريخ تلك النظرية التي انتشرت سريعا لتتداعى بسرعة أكبر ومفادها تصوير انتصار الرأسمالية على الأرض أنها نهاية التاريخ وأن الإنسان الأمريكي هو من وصل إلى أقصى مستوى حضاري ممكن وبالتالي فهي نظرية نهاية الإنسان والتاريخ ثم تلا هذا المشهد مشهد آخر في أواخر صيف 1993 م وكانت أول شرارة أشعلت المشهد مقالة نشرت في صحيفة [ الشؤون الخارجية ] للمفكر الأمريكي الشهير صمويل هتنجتون تحت عنوان [ صدام الحضارات ] والتي حاول فيها قراءة مستقبل العالم المعاصر وقرر فيها أن الصراع في خلال القرن القادم سيكون صراعا بين الحضارات وليس صراعا اقتصاديا أو أيدلوجيا وقد حدد في نظريته تلك سبع حضارات أساسية يتوقع أن يلتهب بينهم الصراع ولا بد في هذا الصراع من زوال البعض وخضوع البعض الآخر لهيمنة الأقوى وقرر في النهاية أن الحضارات المتوقع لها الاستمرار حتى النهاية لما تحمله من إمكانيات ومقومات للبقاء هي ثلاث حضارات الإسلامية والغربية والكونفوشيوسية [حضارة الصين ] وحذر العالم الغربي من تحالف الحضارة الإسلامية مع نظيرتها الكونفوشيوسية في إشارة إلى إمكانية حدوث تحالف نووي بين الصين وبعض الدول الإسلامية.

مقالة هتنجتون أثارت عاصفة من الانتقادات والجدل حول المفاهيم التي تضمنتها وقابل هتنجتون ذلك بالرد أنه على الرغم من إمكانية الاعتراف بوجود ثغرات في نظرية صراع الحضارات إلا أن المعارضين والرافضين لهذه النظرية لم ينجحوا أن يقدموا بديلا في طرحهم يوازيها في الواقعية والوضوح وبأن نظرية صراع الحضارات وهذا من وجهة نظر هتنجتون بالطبع هي خير وأفضل تصور موضوع للمستقبل في القرن القادم.

ولعل من الجدير بالذكر ردا على دعوى هتنجتون أن أحدا لم يطرح البديل المناسب أقول لعل من المناسب في هذا المقام بيان أن العديد من المفكرين والساسة الذين عارضوا نظرية صراع الحضارات والفكرة القائمة عليها قد طرحوا لها بديلا قويا ألا وهي نظرية حوار الحضارات كوسيلة لتجنيب المجتمع ويلات الحروب والقتال.

وتم إنشاء العديد من المؤتمرات والجمعيات والمؤسسات الداعية لترسيخ سياسة الحوار والتفاهم والتعايش السلمي بدلا من الصدام وتبني العديد من الكتاب هذه النظرية ودعوا إلى تنمية الحوار بين العالم الإسلامي والغرب حتى يمكن لكل طرف أن يتفهم الآخر ويتعايش معه وقد حددت الأمم المتحة عام 2001 م عام حوار الحضارات وعينت مندوبا متخصصا لهذا المنصب.

إلا أن أطروحة حوار الحضارات لم تخل من جدل شديد ونقد دائم مستمر حتى من جانب المفكرين المسلمين ولم يقف الجميع فيه على نسق واحد فمن رافض للفكرة من أساسها لعدم واقعيتها فكيف ستتحاور مع من يهدم بيتك ويشرد أهلك في أنحاء متفرقة من العالم الإسلامي إلى فريق آخر مؤيد للفكرة على الإطلاق وداع لها بغض النظر عن الواقع الحالي للأمة وفريق ثالث لا يستوعب المعنى المقصود من حوار الحضارات بل يحتفظ كل فرد في الفريق الثالث بفهم خاص له لهذا المصطلح.

ونحن بادئ ذي بدء لا نريد الوقوف مع واحد من تلك الفرق بدون نظرة محايدة منصفة قدر الإمكان ودراسة متأنية فالأمور لا تؤخذ كردود أفعال أو بدعوى الدفاع عن تهم لم نرتكبها أصلا أو بحكم العواطف والمشاهد الدامية كلا فالأمر يتعلق بمستقبل أمة وعلى الأمة أن تقرر طبيعة وشكل الطريق الذي تختار هي سلوكه في المرحلة القادمة بناءا على فهم واضح دقيق لأبعاد المصطلحات وحكم واضح صريح من علماء الأمة ومفكريها وقادتها مبني على قياس دقيق للمصالح والمفاسد.

بناءا على ما سبق يلزمنا إلقاء الضوء على نظرية حوار الحضارات وتحديد المقصود الدقيق بهذا المصطلح ثم بعد ذلك قياس حجم المصالح والمفاسد المترتبة على العمل بمقصودها ومن ثم تتضح إمكانية الحكم عليها.

' إن على الحضارات أن تكون قاعدة من الثوابت المشتركة فيما بينهم وتنطلق من خلال هذه القاعدة إلى حوار يؤمن بالتعددية وعدم هيمنة حضارة على الأخرى , هذا الحوار سيمكن كل طرف من تفهم الآخر والتعايش معه بدلا من الاصطدام والحروب ' هذه هي خلاصة نظرية حوار الحضارات وقبل أن نتسرع بإصدار الحكم عليها بالسلب أو الإيجاب علينا أن نوضح بعض المحاور الرئيسية وهي:

شرعية الحوار ومقاصده.

هل حوار الحضارات هو حوار بين الأديان؟.

هل حوار الحضارات واقع ممكن؟.

حوار الحضارات رؤية إسلامية وأخرى غربية في أعين مفكري الطرفين.

هذه ملامح سريعة ونقاط أساسية سنقوم بتوضيحها لمناقشة واقع حوار أوصراع الحضارات وأي النظريتين أنجح في توصيف الواقع المعاصر؟ ومن ثم ما هو حقيقة الدور المنوط بأمة الإسلام فيما سيأتي من الزمان في ضوء المتغيرات العالمية المتسارعة؟.

لكم منا خالص التحية وإلى لقاء قريب بإذن الله تعالى

والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

==============

#تأسيس جيل النصر.. نور الدين زنكي نموذجًا

الإثنين28 رجب 1425هـ - 13 سبتمبر 2004 م

الصفحة الرئيسة

تعودنا أن تقف الأمة عد مفاصل التاريخ العظيمة، ولحظات الانتصار أو الانكسار الحاسمة، لتملأ ماضيها فخرًا عند الأولى، وتملأ الدنيا صراخًا وعويلاً عند الثانية.

لم نتعود بما يكفي أن نبحث عن الأسباب، عن المياه العذبة التي غذت الثمرة الناضجة، أو عن السوس الذي نخر جذع الشجرة الوارفة فسقطت.

لقد عانت القضية الفلسطينية من المشكلة ذاتها ...

منذ خمسة قرون والأمة في عامتها لا تعرف إلا صلاح الدين وفتحه لبيت المقدس، وكلما ذكرت فلسطين ذكر صلاح الدين.

بل كلما دعا داعي فلسطين للجهاد والبذل تمتم العجزة: رحم الله صلاح الدين .. لو خرج فينا اليوم صلاح لقادنا إلى النصر!! وهذا وهم، فقد كان صلاح الدين الثمرة .. فهل هناك ثمرة بدون شجرة؟ وهل هناك شجرة بدون جذور؟ وهل تنبت الجذور إلا من بذرة؟

فمن الذي ألقى بذرة الشجرة؟ ومن الذين تعهدها بالسقي والرعاية حتى أثمرت صلاح الدين؟

إن صلاح الدين لم يأت فجأة، لم ينزل معجزة من السماء، ولا كان ملكًا مرسلاً فرد جناحيه على الأمة فانقادت إلى النصر وحررت بيت المقدس.

من قبل صلاح .. كان هناك ألف صلاح .. بل ألف رجل أعظم قدرًا وأجل أثرًا من صلاح.

وحسبي أن أقف اليوم مع واحد من هؤلاء الذين مهدوا لصلاح الدين.

مع رجل كان ممن هيأ ـ بإذن الله ـ كل شيء لصلاح الدين.

مع البطل العملاق الذي أسس جيل النصر الذي قاده صلاح الدين إلى فلسطين.

من هو هذا الرجل؟ وكيف أسس جيل النصر؟ وكيف هيأ الأمور ليقود صلاح الدين الأمة إلى النصر؟ ما هي الخطوات التي اتبعها؟ وكيف خطط؟ ماذا عمل؟ وعلى أية سياسة سار؟

إنه نور الدين زنكي .. وهذه محاور بنائه التأسيسي لجيل النصر.

المحور الأول: تأسيس القيادة النموذج:

لقد عمل نور الدين أول ما عمل على أن يصنع للأمة قيادة راشدة تقية تمثلت في شخصه الشريف رحمه الله. فجمع الدين والتقوى والعلم والشجاعة والبصر بالقتال وفنونه.

اسمعوا ما يقوله ابن الأثير: طالعت السير، فلم أر فيها بعد الخلفاء الراشدين وعمر بن عبد العزيز أحسن من سيرته، ولا أكثر تحريًا للعدل، وكان لا يأكل ولا يلبس ولا يتصرف إلا من ملك له قد اشتراه من سهمه من الغنيمة، فلقد طلبت منه زوجته، فأعطاها ثلاثة دكاكين فاستقلتها، فقال: ليس لي إلا هذا، وكان يتهجد كثيرًا. [سير أعلام النبلاء 20/535].

قال الذهبي: 'وكان نور الدين مليح الخط, كثير المطالعة, يصلي في جماعة, ويصوم ويتلو ويسبح ويتحرى في القوت, ويتجنب الكبر ويتشبه بالعلماء الأخيار .. وكان من رآه شاهد من جلال السلطنة وهيبة الملك ما يبهره، فإذا فاوضه رأى من لطافته وتواضعه ما يحيره، حكى من صحبه سفرًا وحضرًا أنه ما سمع منه كلمة فحش في رضاه ولا في هجره'. [السير 20/532].

وقال الموفق عبد اللطيف: كان نور الدين لم ينشف له لبد من الجهاد، وكان يأكل من عمل يده، ينسخ تارة ويعمل أغلافًا تارة، ويلبس الصوف، ويلازم السجادة والمصحف'. [السير 20/543].

وكان ذكيًا ألمعيًا فطنًا لا تشتبه عليه الأحوال، ولا يتبهرج عليه الرجال.

وكان ينام بعد صلاة العشاء ثم يستيقظ في منتصف الليل فيصلي ويتبتل إلى الله بالدعاء حتى يؤذن الفجر، كما كان كثير الصيام.

وجاءه التشريف من الخليفة العباسي بأن يدعو له على المنابر على هذا الوجه: اللهم أصلح المولى السلطان الملك العادل العالم العامل الزاهد العابد الورع المجاهد المرابط المثاغر نور الدين وعدته، ركن الإسلام وسيفه، قسيم الدولة وعمادها، اختيار الخلافة ومعزها ... سيد ملوك المشرق والغرب وسلطانها، محيي العدل في العالمين، منصف المظلوم من الظالمين، ناصر دولة أمير المؤمنين، فألغى ذلك كله واكتفى بدعاء واحد هو: [اللهم أصلح عبدك الفقير محمود بن زنكي]!!

المحور الثاني: تأسيس الوحدة النموذج:

لقد حرص نور الدين على تحقيق أكبر قدر من الوحدة الإسلامية دون أن يريق دماء المسلمين، فقد كان شديد الحفاظ عليها، وكان يقول: لا حاجة لقتل المسلمين بعضهم بعضًا, وأنا أوفرهم ليكون بذل نفوسهم في مجاهدة المشركين.

وكانت الإمارات ـ لما عُرف عنه من دين وحزم ـ تفرح بالانضمام إليه، وتسر بالدخول تحت حكمه.

ضم نور الدين حمص ودمشق وتوالت سيطرته على مدن وقلاع الشام حتى خضع معظمها له دون إراقة دماء، ثم تابع جهوده حتى تمكن من السيطرة على مصر التي كانت بيد الفاطميين.

تمكن نور الدين من السيطرة على الشام ومصر وطوق بذلك فلسطين التي كان يستولي عليها الصليبيون، وحقق بذلك وحدة طوقية رائعة كان لها أكبر الأثر في تحرير فلسطين. ثم تمكن بعد ذلك من ضم الموصل والمناطق التي تتبعها إلى حكمه، ثم ضم اليمن إلى حكم. وبذلك امتدت الجبهة الإسلامية المتحدة من العراق إلى الشام فمصر واليمن ما أنذر بقرب القضاء على الصليبيين.

ومن حرص نور الدين على وحدة الأمة أنه لم يستقل بدولته عن خليفة المسلمين بل كان يعلن نفسه أميرًا تابعًا للخليفة العباسي في بغداد، ولما فتح مصر أسقط الخلافة الفاطمية ودعا في المنابر للخليفة العباسي المستضيء.

المحور الثالث: تأسيس المجتمع المسلم النموذج:

حيث حرص على تطبيق أحكام الشريعة، ورفع المظالم، وإنصاف الناس، وكان يقول: حرام على كل من صحبني ألا يرفع قصة مظلوم لا يستطيع الوصول إليّ. ومن فقهه أنه لما كثرت غزواته قال له بعض مستشاريه: لو أخذت بعضًا من الأموال المرصودة للفقراء والمساكين وجعلتها في مصارف الجهاد، فقال رحمه الله: والله إني لا أرجو النصر إلا بأولئك، فإنما ترزقون وتنصرون بضعفائكم، كيف أقطع صلات أقوام يقاتلون عني وأنا نائم على فراشي بسهام لا تخطئ، وأصرفها على من لا يقاتل عني إلا إذا رآني بسهام قد تصيب وقد تخطئ؟ وهؤلاء لهم نصيب في بيت المال كيف يحل لي أن أعطيه إلى غيرهم؟

كما حرص على البناء الإيماني التربوي والثقافي للجيل المسلم، فاستقدم العلماء العاملين، وأفسح لهم مجال العمل والدعوة، وسعى في بناء المدارس والمساجد، وحارب البدع والأضاليل، وأحيى سمت احترام العلماء وتوقيرهم، وكان يقول عن العلماء: إنهم جند الله وبدعائهم ننصر الأعداء، ولهم في بيت المال حق أضعاف ما أعطيهم, فإن رضوا منا ببعض حقهم فلهم المنة علينا، وفي زمانه صارت بلاد الشام مقرًا للعلماء والفقهاء. وكان يقول: إن البلخي ـ وهو أحد العلماء ـ إذا قال لي: يا محمود، قامت كل شعره في جسدي هيبة له، ويرق قلبي!!

كما اعتنى بالإعمار والبناء الحضاري والاجتماعي، لأنه أدرك أن مجتمعًا مفكك الأوصال متخلف الحضارة لا يمكن أن يصنع نصرًا، ولذلك عمل على كفالة الأيتام وتزويج الأرامل وإغناء الفقراء، وبناء المستشفيات والملاجئ، ودور الأيتام، والأسواق، والحمامات، والطرق العامة، وتوطين البدو، وإقطاعهم الأراضي.

كما رتب الزكاة ونظم جبايتها وتوزيعها وفق الأسس الشرعية، وشجع التجارة بتأمين المواصلات، ورفع الضرائب التي تثقل حركة التجارة.

المحور الرابع: تأسيس الروح الجهادية:

لقد سعى نور الدين في إحياء المعاني الجهادية في النفوس وتربية الأمة على معانيها، وتكريس عزة المسلمين ومنعتهم وقوتهم، وبذل الجهد في توفير العدة والعتاد، وحماية المدن، وبناء الأسوار والحفاظ على أرواح المسلمين.

وكان يشجع ألعاب الخيل التي تعود على الكر والفر.

وكانت معاركه الفعلية، وحروبه التي خاضها ضد النصارى من أكبر ما أحيا روح الجهاد في الأمة.

فخلال فترة حكمه التي استمرت ثمانية وعشرين عامًا لم تتوقف معاركه مع الصليبيين مطلقًا. وقد تمكن من تحرير منطقة الرها وأنطاكية. كما أسهم في تحطيم الحملة الصليبية الثانية. وكان انتصاره الأعظم في تل حارم تاجا يتلألأ على جبينه رحمه الله. فقد استطاع في تلك المعركة الكبرى أن يقتل عشرة آلاف صليبي وأن يأسر عشرة آلاف، وكان من بين الأسرى أمير أنطاكية وأمير طرابلس وحاكم قلقيلية.

هكذا هيأ نور الدين كل شيء لقطف الثمرة وهي تحرير المسجد الأقصى .. وقد كان على وشك قطفها، فإنه في عام 569هـ أعد العدة للهجوم النهائي على بيت المقدس لتحريره من الصليبيين، حتى إنه قد جهز منبرًا جديدًا رائعًا للمسجد الأقصى يوضع فيه بعد الانتصار على الصليبيين .. ولكن المنية عاجلته فتوفي عام 570هـ، وهكذا أصبح الطريق معبدًا أمام خليفته صلاح الدين ليقطف الثمرة وينال شرف تحرير الأقصى .. وتم له ذلك عام 584هـ عقب معركة حطين.

لقد استمر إعداد نور الدين ثمانية وعشرين عامًا .. واستطاع صلاح الدين أن يقطف الثمرة خلال أربعة عشر عامًا..

لقد كان الإعداد أطول بكثير من قطف الثمرة.

وهذه سنة الحياة.

=============

#كيف تجعل ابنك قائدًا؟

السبت 12رجب 1425هـ - 28 أغسطس 2004

الصفحة الرئيسة

الحلقة الأولى: الخليفة 'هارون الرشيد'، أسلوب تربيته، وأسباب تميزه

عزيزي المربي ...

هل تتمنى أن يصبح ابنك قائدًا، بطلاً، مغوارًا، مثل أبناء الصالحين وغيرهم من المجاهدين؟ وهل تعتقد أن القائد يولد قائدًا .. أم أنه يحتاج إلى برنامج تربوي يقوده في النهاية إلى أن يصبح قائدًا؟

هل يولد الطفل قائدًا؟!

ـ الخليفة هارون الرشيد، والقائد موسى بن نصير

سنأخذ ـ عزيز المربي ـ في هذه الحلقات مثالين من التاريخ الإسلامي لآباء حرصوا على صناعة قادة.

الأول: هو الخليفة المهدي الذي ربى ابنه هارون تربية متميزة.

الثاني: هو نصير والد القائد 'موسى بن نصير' الذي ربى ابنه تربية متميزة أيضًا.

ـ مراحل تربية الخليفة المهدي

رزق الله الخليفة المهدي ابنين اثنين، الأول: الهادي، والثاني: هارون الرشيد .. وبدأ مبكرًا في تربيتهما وتدريبهما، فقد كان ينوي أن يجعل الخلافة الإسلامية تؤول من بعده إلى الهادي ومن ثم إلى هارون، ولأن منصب الخليفة ليس سهلاً .. ولا يولد المرء خليفة، بل يحتاج إلى تدريب، وجهاد، وصبر .. بدأ الخليفة المهدي مع أبنائه مبكرًا .. فماذا فعل؟

ـ خمس خطوات جعلت من الطفل 'هارون' خليفة عظيمًا.

سنتناول خطوات تربية المهدي للخليفة هارون والتي يتم اختصارها في التالي:

1ـ العلم هو أول الطريق

خصص الخليفة المهدي لابنه هارون علماء مشهورين، وعهد إليهم بتعليم وتربية ابنه هارون، فحفظوه القرآن، ثم اللغة العربية وبرع فيها، وصار يحفظ الشعر والأدب.

2ـ البلوغ .. هو بداية تشكيل الرجال

انتظر الخليفة المهدي إلى أن بلغ ابنه هارون وصار عمره 14 عامًا، فأعطاه أول المهام القيادية في حياته، وصار يراقبه وكانت مهمته الأولى هي قيادة حملة الحج التي تضم الخليفة المهدي والوزراء ونساء القصر العباسي.

فماذا فعل هارون؟

كان فتى حكيمًا، استطاع أن يحل جميع المشكلات التي واجهته بثقة .. فاطمأن الوالد، وارتاح، وصار يبحث له عن مهمة أخرى.

3ـ قيادة الجيوش المتجهة إلى الروم

عندما بلغ هارون 17 عامًا، نادى الخليفة 'المهدي' صديقه 'يحيى البرمكي' وكلفه مع ابنه 'هارون' مهمة قيادة الجيوش المتجهة إلى الروم.

واستطاع هارون وبنجاح كبير، أن يقود هذه الجيوش وينتصر على الروم ويرجع إلى والده بالغنائم والفوز المظفر، فاطمأن والده على قيادة ابنه للجيوش.

4ـ قيادة المدن

ولما بلغ هارون 19 عامًا أراد أن يدربه والده على قيادة المدن، فأعطاه إمارة المغرب وأرمينية وأذربيجان، وجعلهم تحت إمرته، فتوجه إليهم مع 'يحيى البرمكي' فكان حاكمًا عادلاً، وأحبه الناس بسرعة، فاطمأن والده لقيادة ابنه للمدن.

5ـ قيادة الأموال والجيوش

وكانت المهمة الأخيرة لهارون الرشيد قبل وفاة والده هي قيادة جيش آخر إلى الروم، ولكن هذه المرة الأمر مختلف قليلاً، إذ أعطاه والده أموالاً كثيرة وأراد أن يرى حسن تصرفه بها، فذهب 'هارون' مع الجيش إلى دولة الروم مع 'يحيى البرمكي' ولم يخيب هارون ظن والده، إذ رجع بأموال أكثر، وتصرف في الأموال بذكاء.

ـ النتيجة المتوقعة

وبعد كل هذه المهام الخمسة، استطاع الخليفة هارون الرشيد أن يقود الدولة الإسلامية عندما بلغ 22 عامًا، واستمرت قيادته 23 عامًا، استطاع خلال هذه الفترة الطويلة أن يرتقي بالأمة الإسلامية لتصل إلى القمة في الحضارة والتقدم.

ـ الرجال حول هارون سبب في تميزه

ولكن .. هل كانت هذه العوامل الخمسة فقط هي التي صنعت 'هارون الرشيد' أم أن هناك عوامل أخرى؟ بالطبع .. توجد عوامل أخرى أهمها، إحاطته برجال أتقياء، أقوياء، علماء، ساعدوه على بناء النهضة الإسلامية القوية، مثل:

1ـ ملاصقته لجده الخليفة أبو جعفر المنصور، حين أخذ منه حب العلماء، وتكريم المترجمين، والحزم في الإدارة.

2ـ اختياره لوزير ذكي هو 'يحيى البرمكي' في أول يوم تم مبايعته فيه على الخلافة فساعده على أن تقفز الدولة الإسلامية في عهده إلى القمة.

3ـ قاضيه 'أبو يوسف' رجل تقي، عالم، وهو أحد تلامذة الإمام أبو حنيفة، إذ ألف له كتابًا تحت عنوان 'الخراج'، فكان سببًا في انتعاش الحياة الاقتصادية في حياة 'هارون الرشيد'.

ونستطيع أن نستخلص أربعة أمور ساهمت في تكوين شخصية القائد عند الخليفة 'هارون الرشيد' هي:

1ـ الصفات الأساسية التي ورثها من آبائه

فـ'هارون الرشيد' سليل الخلفاء العباسيين، ورث عن أبيه وجده صفات أساسية مثل: الحلم، حب الإسلام، حب الخير للأمة الإسلامية، القوة، الشجاعة.

2ـ صفات تعلمها من جده

يعتر 'أبو جعفر المنصور' مؤسس الدولة العباسية الحقيقي، فكان قويًا، حازمًا، استطاع أن يتغلب على خصومه بسرعة. وكان 'هارون الرشيد' طفلاً صغيرًا عندما كان جده 'أبو جعفر المنصور' خليفة، ومن خلال ملاحظته له، استطاع أن يأخذ منه صفات عديدة أهمها حبه للعلم، ورعايته للعلماء، إذ كان جده يجمع الكتب النادرة، ويدفع مبالغ طائلة لمن يترجم له الكتب، فلما صار 'هارون ' خليفة صار يجمع الكتب من كل بلد يفتحه وينشر الإسلام فيه، وبنى للكتب دارًا سماها بيت الحكمة، فلما رآه الأمراء العباسيون يبني الدار، صاروا يتنافسون فيما بينهم في بناء دور مماثلة، فانتشرت الثقافة في عهده.

3ـ صفات رباه عليها والده

استطاع والده الخليفة 'المهدي' أن يحول 'هارون' من أمير شاب مرفه إلى أمير شاب قائد، عندما جعله يدخل مدرسة المراحل الخمس السابق ذكرها، فلتعلم من هذه الخطوات الخمسة ما يلي:

1ـ الحكمة في حل المشاكل.

2ـ إدارة الأموال بنجاح، وتقدير قيمة المال.

3ـ قيادة جيش، وإتقان فن الحوار مع دولة الروم المجاورة.

4ـ اتخاذ قرارات مهمة للدولة مثل: اختيار الصلح بدلاً من الحرب.

5ـ إدارة مدن كبيرة، واتخاذ قرارات مهمة في شأنها.

6ـ التعامل مع الجنود وقادة الجيش.

7ـ التعامل مع الشعب بشكل مباشر.

4ـ كان فريق العمل الذي أحاط 'هارون' سببًا رئيسيًا في صقل شخصيته، فعلم منهم أمورًا كثيرة منها:

1ـ حب العلم والعلماء.

2ـ الاستماع إلى نصح العلماء.

3ـ المحافظة على المال العام.

أربع ركائز أساسية في منهج تربية الخليفة 'هارون':

1ـ القرآن هو أول علم تلقاه، فصقل شخصيته، وهذبه، وهكذا المسلمون الأوائل، يجعلون القرآن منهج التلقي الأول لأطفالهم.

2ـ لم يكن دور العالم في العصور السابقة بسيطًا بل كان عظيمًا؛ لأنه لا يمارس التعليم فحسب بل يمارس معه التربية..

فساهم العلماء في تربية 'هارون' وصقل شخصيته.

3ـ لم ينظر إليه والده على أنه طفل صغير أو شاب مراهق عندما بلغ 14 من عمره، بل كان ينظر إليه على أنه قائد وخليفة المستقبل، لذلك بدأ بتدريبه مبكرًا، وهذه النظرة الرجولية إلى الشباب المراهقين تجعلهم رجالاً قبل بلوغهم سن الرجولة!!

4ـ استخدم والده في تربيته أفضل الطرق، وهي إعطاؤه مهام كبيرة، ولم يتركه لوحده فيها، بل جعل له رفيقًا، رجلاً كبيرًا ذا خبرة هو 'يحيى البرمكي' ليراقبه من بعيد ويعطيه رأيه وهو يدير مهمته.

صناعة القادة

وهكذا ـ عزيزي المربي ـ نستطيع أن نتعلم من قصة الخليفة 'هارون' أن القادة يصنعون ببرنامج تربوي تدريبي يؤهلهم للقيادة ومسك زمام الأمور.

وهذا لا يلغي أهمية دور الصفات الشخصية والوراثية التي لعبت دورًا أساسيًا في تربية الرشيد وتحوله إلى خليفة الحضارة.

===============

#نحن والغرب...هل لدينا رؤية صحيحة؟

الاثنين 10 جمادى الأولي 1425هـ - 28 يونيو 2004

الصفحة الرئيسة

... new.jpg ...

نحن وهم:

مفكرة الإسلام: أصبحنا نسمع في أيامنا هذه أخبارًا عن الغرب أكثر مما نسمع عن بلادنا, ويعرف الطفل من أطفالنا أخبار أمريكا وبوش والانتخابات والأمريكان في العراق وأفغانستان وفرنسا والحجاب كما يعرف ويتعلم جدول الضرب وباقي العمليات الحسابية من جمع وطرح, وأصبح الحوار حول الغرب ومدى أثره على أدق شؤون حياتنا من أساسيات الحوار حول مائدة الطعام كتفًا بكتف مع التجمعات العائلية, وأصبح كل ذي شأن وغير شأن يدلي بدلوه في مسألة الغرب ودوافعه وأغراضه بين مفرط في التفاؤل يرى الواقع مرحلة متوسطة لنشر العدل وقيم السلام الأمريكية, وبين مفرط في التشاؤم يرى الحال الذي تعيشه الأمة لا مثيل له فيما سبق من تاريخها, ويرى الغرب كمارد سيسحق البقية الباقية من أمة الإسلام, وبين محلل للمواقف بدرجة متميزة من السطحية والسذاجة المفرطة, وآخر يتعامل مع مخططات الغرب وطلباته وتوقعاته على أنها أمر قدري لا مفر منه, وبين هذا وذاك تخرج بعض الأصوات الرزينة العاقلة تنادي بمحاولة الفهم الدقيق لمجريات الأمور ووجوب دراسة تركيبة المجتمع الغربي ومعرفة توجهاته وفهم حقيقة مراده منا, ونحن ها هنا نقف مع هذه الأصوات متسائلين:

هل نمتلك حقًا تصورًا واضحًا دقيقًا عن الغرب ما هو وما تاريخه؟

وكيف يفكر ويخطط وينفذ؟

وما هي الدوافع الحقيقية وراء تصرفاته؟

هل لهذه الدوافع ارتباطات عقدية أو تاريخية؟

أم هي المصالح والمنافع المعاصرة وحسب؟

ما حقيقة الصراع بين الشرق والغرب؟

وعلام ينبني هذا الصراع من تصورات؟

وكيف ينظر الغرب إلينا؟

أسئلة لا بد من الإجابة عنها كي يمكننا إعطاء صورة كاملة, والأهم من ذلك أن تكون هذه الصورة صحيحة لبيان حقيقة ما يريدونه من منطقتنا العربية الإسلامية وهو كذلك تصور ضروري لتحديد حجم الدور الذي يجب علينا تجاههم.

مصطلح الغرب:

إن أول ما ينبغي علينا بيانه هنا هو تحديد المقصود بمصطلح الغرب, وبداية نشأته, فالمؤرخة الفرنسية صوفي بسيس في كتابها 'الغرب والآخرون: قصة تفوق' ـ وهي من المهتمين بالتأريخ للغرب وبداياته ـ تعتبر أن السنة الرئيسية للميلاد الحقيقي لمصطلح 'الغرب' كانت سنة 1492م سنة اكتشاف كولمبس لأمريكا وطرد المسلمين واليهود من أسبانيا أو الأندلس, وسنتعامل مع هذا التعريف باعتباره الأشمل من بين التعاريف لمعنى الغرب المعاصر, حيث ترسم الكاتبة حدود الغرب الحديث مع بدايات القرن السادس عشر الميلادي من خلال عملية امتلاك [للعالم الجديد] وإقصاء [للمسلمين من الأندلس], صحيح طبعًا أن الغرب تشكل شيئًا فشيئًا خلال قرون التاريخ، لكنه لم يتحدد بالشكل الذي آل إليه وتطور إلى اليوم إلا منذ القرن السادس عشر, وبذا فالغرب بمفهومه المعاصر يتضمن شقين هما كل من أوروبا بشقيها الشرقي والغربي بعد اتحادهما في درجة من درجات تطور المجتمع الغربي تحت مظلة الاتحاد الأوروبي التي يحكمها بالطبع التوجه الذي يدعمه المعسكر الغربي, وشق الغرب الثاني وهي أمريكا, وهنا لا بد من طرح سؤال قبل الانطلاق في تحليل المواقف ومحاولة فهمها, هل كلا الشقين يحمل فكرًا وتوجهًا واحدًا بحيث يمكننا الحكم على تصرفات كل شق بمنطق واحد؟ أم أنهما على درجة من التشابه الظاهري ولكنهما مختلفين في حقيقة الأمر في عديد من التوجهات ومنابع التصورات والدوافع فنعامل كل شق بناءً على ما يمتلك من مقومات وتصورات اكتسبها من تاريخه وموروثاته الثقافية والفكرية وهي التي تحكم تصرفاته وأفعاله؟

والجدير بالذكر أن مصطلح الغرب تعرض في الآونة الأخيرة لكثير من الهزات ما بين شقي الحضارة الغربية أوروبا وأمريكا, كل يحاول التنازع عليه أو التملص منه إلى تكتلات جديدة مثل حلف الناتو أو الاتحاد الأوروبي وغيرها من أشكال التكتلات, فلا بد من بيان الموقف من كل ذلك.

دورات التاريخ وأبي جهل:

من أبسط المشاهد أن نقول: إن الكفار كانوا على عهد النبي صلي الله عليه وسلم أشرارًا وسيئين وعلى مستوى متقارب من العداء والكره للإسلام والمسلمين, ونضع العدو كله في سلة واحدة, بينما الواقع ليس كذلك, فلم يكن مشركو قريش على درجة واحدة أو حتى متقاربة من العداء والكره للإسلام, أتريد مشهدًا يؤكد ذلك؟ بل على الأخص في السيرة أكثر من مشهد واحد يؤكد هذه الحقيقة ويؤكد حقيقة أقوى منها وأهم بالنسبة لمسلمي هذا العصر, ألا وهي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكن يتعامل مع كل الكفار تعاملاً على درجة واحدة, إن أبا جهل ليس كأبي سفيان, ومن ذلك تأمل معي هذا المشهد: عند فرار أبي سفيان بالقافلة التي كان النبي صلى الله عليه وسلم يتربص بها في بدر, وكيف أنه أرسل برسالة إلى الجيش المنطلق إلى بدر للدفاع أساسًا عن أموالهم وممتلكاتهم يأمره فيها بالعودة إلى مكة؛ فقد سلمت القافلة ونجت من الأسر, ولكن العجيب في مشهد أبي جهل قائد الجيش الذي هب للنجدة وهو يأبى إلا أن يكمل المسيرة وينتظر في بدر, وتضرب له المغنيات, وتسمع به العرب, ويذبح الذبائح لثلاث ليال, ويتعمد المواجهة مع النبي صلى الله عليه وسلم وصحبه, فهو يسعى لهذا الشرف, لا يستويان, وكذا لا يستويان في أسلوب التعامل معهم والفهم للدوافع التي تدفع للوقوف في الطرف الآخر, ومن ثم التعامل معها بالأسلوب المناسب.

ومشهد آخر نتلمحه في موقف رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يصُفُّ الجيش للقتال في بدر, فيلمح رجلاً في جيش المشركين يركب جملاً أحمر, فيخاطب أبا بكر قائلاً له: إن كان في أحد منهم خير اليوم ففي صاحب الجمل الأحمر. وقد كان فيه بعض الخير كما ذكر صلى الله عليه وسلم, فقد نادى في رؤساء الجيش أن يرجعوا بلا قتال ما دامت القافلة التي من أجلها خرجوا قد نجت, وأنه لا حاجة لقتال أبناء العمومة والإخوة والأقارب, ومضى فيهم يحثهم على العودة لولا أن وقف له أبو جهل متهمًا إياه بالجبن, وجعل يعيره بموقفه وأنه يريد الفرار من القتال وأن هذا هو دافعه لهذا الرأي, وهكذا استمر أبو جهل في استثارة نعرة الغضب وتنشيط حيل الشيطان حتى أخذ موقفًا بالحرب والاستمرار في القتال, وهكذا...

فأهل الباطل ليسوا على درجة واحدة من الصلابة والعناد والإصرار, بل والتصورات والمنطلقات, فلا يصح جمعهم مع غيرهم في سلة معاملة واحدة.

إن التاريخ كما يقول علماؤه ومؤرخوه يمر في دورات متصلة ببعضها, وهي حلقات تتكرر بصورة تلقائية متتابعة, وكذا تمر شخصيات التاريخ في دورات متصلة لا تنفك عن بعضها, فقد تتغير اللغات واللكنات والإشارات, قد تتغير الثياب والمطاعم والمشارب, قد تتغير المساكن والأسرة والمجالس, ولكن للأسف لا تكاد تلمح تغيرًا حقيقيًا في نوعيات البشر وشخصياتهم, إنها تتكرر تمامًا, وبناءً على ذلك فلا بد للعاقل الأريب من النظر فيما مضى من التاريخ والالتزام بالمنهج النبوي الرباني في النظر إلى المخالف في العقيدة والتصور وكيفية وزنه, ومن ثم تحديد الوسائل المثلى للتعامل معه.

لم يعامل النبي صلى الله عليه وسلم الكفار كلهم على درجة واحدة, بل فرق بينهم وفقًا لمجموعة من القواعد الشرعية أولاً ثم تبعًا لفهمه صلى الله عليه وسلم للبشر ولطبيعة الدوافع المحركة لكل واحد من المعارضين ومدى إصرارهم على هذه المعارضة وبالتالي يتحدد موقعهم في صف العدو.

وهذا سيدفعنا بالتأكيد للإصرار على أن قياساتنا للغرب لا يصح بحال أن تكون سطحية متجاهلة لحقيقة التركيبة الفكرية والثقافية, أو تصدر عقولنا حكمًا واحدًا على كل الغربيين بغير تمحيص ودراسة كافية لأحوالهم وتوجهاتهم ومنطلقاتهم, ومن ثم تنعكس على طريقة تعاملنا معهم.

الغرب والإسلام:

من المحاور الأساسية في محاولاتنا لفهم طبيعة الغرب أنه لا بد من التعريج على علاقة الغرب بالإسلام؛ لما لهذه العلاقة من أثر واضح على كلا الطرفين؛ حيث لا تمر مرحلة من مراحل التاريخ إلا ونرى للغرب دخولاً في أراضي الإسلام أو فتوح من بلاد الإسلام إلى قطاعات عريضة من أراضي الغرب, فضلاً عن الانتقالات للحضارة العلمية من طرف لآخر وغيرها.

والعلاقة بين الغرب والإسلام علاقة متداخلة تحكمها جملة من العوامل:

العامل التاريخي يدخل فيها كمؤثر رئيس, حيث لا بد من دراسة الخلفيات التاريخية لطبيعة العلاقة بين الإسلام والغرب على مدار القرون الماضية, كيف بدأت وتطورت؟ وإلام وصلت؟ وكيف فهمها الغرب وأعاد صياغتها في ثقافته المعاصرة؟ ومن ثم قام بترسيخها في أذهان أفراده وأصبحت جزءًا لا يتجزأ من منطلقاتهم وتصوراتهم مع ضرورة بيان حجم الخلل ومن أين أتى؟

ومن العوامل الأساسية كذلك في تحديد طبيعة هذه العلاقة العامل العقدي متمثلاً في العلاقة بين الإسلام وبين النصرانية بأوجهها المتعددة من كاثوليكية نصية إلى بروتستانتية متحررة, إلى يمين إنجيلي متشدد, إلى صهيونية مسيحية... وغيرها, ولكل من هذه الأوجه المختلفة صورة خاصة به في تحديد شكل العلاقة بين الغرب والإسلام, ومن ثم الوسيلة المثلى للتعامل واتخاذ المواقف المسبقة.

ومنها كذلك حسابات المصالح والمنافع, وإن كان الغرب يحرص على إظهار صورته دومًا بمثابة المدافع عن الحقوق وحامى حمى المظلومين وناشر الديموقراطية وحقوق الإنسان في ربوع الأرض وبين أفراد البشرية, ولكن لا يخالف عاقل ولا منصف أن حسابات المصالح والمنافع هي الحكم في التحركات الغربية نحو باقي العالم.

الأحباب الكرام هذه مقدمة للحديث عن الغرب كان لا بد لنا من المرور عليها في الطريق للتعرف على هذا الكيان الذي سنرى منه مع مرور الأيام القادمة مزيدًا من التداخل والاحتكاك مع العالمين العربي والإسلامي, حيث أضحت منطقة الشرق الأوسط الكبير [عبارة يراد من نشرها إقرار وجود الدولة الصهيونية وأن قيام الدول إنما يكون على أساس المصالح والاقتصاد لا القيم والمبادئ والديانات] هذه المنطقة أصبحت محور العالم المعاصر, وفيها ستدور كل الصراعات القادمة.

إلى أن نلقاكم في مقال آخر, لكم منا خالص التحية وجزيل الشكر.

والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته

===============

#الجالية الإسلامية في الغرب- ومسؤولياتها في المجتمع الغربي

عدد 228 ـ صفر 1425هـ

الصفحة الرئيسة

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين, وبعد:

فإن مسألة العلاقات بين الشعوب, والتمازج والتواصل فيما بينها, ظاهرة طبيعية في تاريخ البشرية لا غنى للمجتمع الإنساني عنها؛ لأنها تحقق التكامل في الحاجات والتبادل الثقافي والاجتماعي. فتنوع طبائع البلاد يؤدي إلى اختلاف منتجاتها. واختلاف المنتجات يثير الرغبة في التغيير والتنويع, بجلب ما يتوافر لدى الأمم الأخرى. وقد أدى هذا إلى قيام الاتصال والتعارف. وسرى تبادل السلع الزراعية والصناعية إلى تبادل اجتماعي وثَّق الأواصر, كما أدى في كثير من الأحيان إلى تبادل العادات والمفاهيم والمعتقدات. ومن مظاهر ذلك ما يذكره د. نعيم فرح, إذ يقول: 'إن التأثير ـ ولاسيما من الشرق على الغرب ـ كان جليًا في الجوانب العملية من كتابة وعلوم وصناعة وتجارة. وكان ضعيفًا في الأمور الدينية والسياسية'.

ومن ذلك أن اليونان التي ينسب إليها الأوربيون الكثير من الاكتشافات والثقافات والمعارف الحضارية, ولدولتها التنظيمات المدنية قد نهل أهلها من الحضارات المتقدمة عليها, كالمصرية والبابلية والفينيقية قبل عصر الإسكندر, يقول ليونارد وولي: 'لقد مضى الزمن الذي كانت تنسب فيه أصول جميع الفنون إلى بلاد الإغريق, أو أن حضارة الإغريق قد انبعثت كاملة النضج من دماغ الإله الأولمبي زيوس. فقد أصبحنا نعرف أن زهرة تلك العبقرية ارتشفت رحيقها من الليديين والحيثيين ومن فينيقية وكريت ومن بابل ومصر. وجذور تلك الزهرة تعود إلى سومر الأقدم..'.

ومن ذلك أيضًا:

ـ اقتباس الكريتيين بعض المظاهر الحضارية من المصريين.

ـ تأثر الرومان بديانة الشرق المسيحية ولكن وفق فهم وثني.

ـ انتقال الوثنية من بلاد الشام إلى الحجاز على يد عمرو بن لحيّ الخزاعي.

ـ انتشار الإسلام في جنوب شرق آسيا بواسطة التجار, الذين كانوا ينقلون منتجات تلك البلاد إلى جزيرة العرب, وما يتوفر في جزيرة العرب من بضائع إلى بلاد الملايو في جنوب شرق آسيا. بالإضافة إلى العلاقات الاجتماعية التي نشأت عن ذلك أيضًا, والتي لا تزال ملامحها واضحة حتى اليوم.

ـ انتشار الفلسفة اليونانية وترجمتها في البلاد الإسلامية في العصر العباسي, وإعادة صياغتها بصورة تتلاءم مع منهج الفكر الإسلامي والعقيدة الإسلامية, ومناقشة ما لم يتفق مع منهج التفكير الإسلامي.

ـ التأثير الحضاري الإسلامي على بعض مناطق الهند بعد فتح مناطق السند, من خلال المعاملة الحسنة التي نالها الهندوس من المسلمين الفاتحين, والتي تركت أثرًا طيبًا أدى إلى انتشار الإسلام هناك كما يقول برتولد شبولر.

ونشأة الجالية الإسلامية في الغرب لون من ألوان العلاقات بين الشعوب, والتمازج والتواصل فيما بينها.

ومن المعلوم أن للظروف السياسية والاقتصادية ونحوها تأثيرًا في نشوء جاليات شعوب في غير بلادها. ومن أبرز هذه الظروف ظهور القارتين الأميركية والأسترالية. فقد أدى ذلك إلى حركة هجرة واسعة من شتى أرجاء أوروبا إليهما, ثم من بقية أرجاء العالم أيضًا, وقد قامت هذه الهجرة رغبة من الناس في الوصول إلى فرص عمل تؤدي إلى مكاسب مغرية, ومن ثم تتحقق ظروف حياة أكثر رفاهية. كما أن من تولوا إدارة الحكم والمؤسسات الاقتصادية في هاتين القارتين شجعوا ـ ضمن صور محددة ـ على الهجرة إليهما للاستكثار من الأيدي العاملة والخبرات والكفاءات العلمية والفنية...

والأمر نفسه جرى في أوروبا بعد الحرب العالمية الثانية, فقد شجعت الإدارات الحاكمة والمؤسسات الاقتصادية في كثير من أقطارها على استقدام الكثيرين إليها، لقلة اليد العاملة فيها, بسبب ما حصدته الحرب من جهة, وبسبب استمرار الهجرة إلى القارة الأميركية من جهة ثانية, وبسبب النهضة الصناعية التي اقتضت طلب المزيد من الأيدي العاملة, لحاجة المؤسسات الصناعية فيها.

ومن أهم أسباب نشوء جالية إسلامية في الغرب أن التقدم العلمي الذي بلغه الغرب دفع بكثير من أبناء الأقطار الإسلامية وغيرها لطلب العلم في الجامعات الغربية في التخصصات المختلفة, سواء أكان ذلك بتشجيع من الغرب نفسه, كما حصل في عهد الاستعمار الغربي لمصر وغيرها من البلاد الإسلامية, أم بدفع من المؤسسات العلمية الوطنية, بغية تكوين قاعدة من المتخصصين لينهضوا بشأن بلادهم علميًا وصناعيًا, أم بدافع ذاتي.

وقد أدى ذلك في أول الأمر إلى ذوبان كثير من أبناء هذه الجاليات على اختلاف أنواعها في المجتمعات التي نزلت فيها. بل لقد أدى في كثير من الأحيان, إلى إصابة بعض الوافدين إلى الغرب بالدهشة والانبهار الذي أعشى أبصارهم, وجعلهم يشعرون بنقص الذات, بسبب الفرق الشاسع بين مجتمعهم وبين تلك المجتمعات, من الناحية التقنية والعلمية أو من الناحية الثقافية والاجتماعية. أجل لقد أدهشهم ما رأوه من مظاهر التحرر الاجتماعي...!!

بينما وقف آخرون من أبناء هذه الجالية أمام وضع اجتماعي غريب عنهم وعن طبيعتهم وتربيتهم, ووجدوا أنفسهم غرقى في هذا المجتمع المادي, مما أثار فيهم الحنين إلى مجتمعهم الذي كانوا فيه, وتجلى ذلك من خلال شعر رقيق يحمل تلك المشاعر ويترجمها.

فهذا زكي قنصل يقول:

هاجنا الشوق للشام فكبر

نحن من روضها الحساسين ذرتها

هي نجوى الفؤاد إن سهد الجفن

...

...

ثم كبر إذا ذكرت الشاما

رياح النوى فهامت يتامى

ورؤيا الخيال إن هو ناما

وأيًّا ما كان فقد نشأت جالية إسلامية كبيرة في الغرب, حمل كثير من أبنائها جنسية البلد الذي يقيم فيه, وغدا كل فرد منهم واحدًا من أبناء تلك البلاد؛ سواء أكان عربيًا مسلمًا, أم عربيًا غير مسلم, من سورية أو من لبنان أو من مصر أو من الجزائر... أم كان مسلمًا غير عربي من الباكستان أو من إندونيسيا أو من إيران.. ومع بداية الصحوة الإسلامية بدأ كثير من هؤلاء يؤكدون انتماءهم لبلادهم, ويؤكدون التزامهم بدينهم, وتعاطفهم مع قضايا أمتهم التي انحدروا منها، وإن كانوا يحملون جنسية البلد الذي هم فيه. وبدأت المراكز الإسلامية تقوم بنشاط لتعليم أبناء هذه الجالية اللغة العربية وبعض التعاليم الدينية, واستطاع هؤلاء المسلمون في بعض الأقطار التي أقاموا فيها أن ينالوا الاعتراف بدينهم, بوصفه دينًا رسميًا، لأتباعه من الحقوق الدينية ما لغيرهم.

لقد غدت الجالية المسلمة في الغرب تمثل نسبة لا يستهان بها في المجتمع الغربي. وبصورة خاصة في صفوف ذوي الكفاءات العلمية العالية. أضف إلى ذلك أن الكثير من أبناء المجتمع الغربي يدخلون الإسلام، وهم في كل يوم في تزايد ولله الحمد. وهذا الأمر يحمّل هذه الجالية مسؤوليات نحو المجتمع الذي يعيشون فيه, والبلاد التي ينعمون بخيراتها ويعيشون في ربوعها.

إن مبدأ الوفاء يقتضي أن يبادل المسلمون المقيمون في الغرب ما قدمه الغرب إليهم من علم وتقنيات وغيرها, مما يملكه الغرب من مقومات تخدم البشرية, بما يتوافر لديهم من مقومات الحضارة الإنسانية التي لا تتوافر لدى الغرب, والغرب بأشد الحاجة إليها.

إذا كان المسلمون اليوم يعانون من فقر في مجال التقنية والعلوم الحديثة, التي تقدم للبشرية الكثير من أسباب التطور والسلامة والراحة والسعادة, وتلبي حاجات ماسة في المجتمع الإنساني في مجال الصناعة والزراعة والطب والاتصالات ووسائل النقل وغير ذلك. وهم مدينون للغرب إذ يقدم لهم ما يقدمه في هذا المجال, بغض النظر عن حالات الاحتكار التي تمارسها بعض الجهات تجاه كثير من المسلمين الذين وفدوا إلى الغرب...

إذا كان المسلمون يعانون من فقر في هذا الجانب, فإن الغرب أيضًا يعاني أبناؤه من أمراض في أوضاعهم الاجتماعية وتصوراتهم الفكرية والاعتقادية, وفي مجال الصحة النفسية, ما أدى بهم إلى حالة من الضياع, والأمراض النفسية والجسدية, والتفكك الاجتماعي والانهيار الأخلاقي, تثير الشفقة والأسى, وتدعو إلى التعاون الجاد لمعالجة هذا الواقع. لقد آن للإنسان المسلم أن يؤدي واجبه في إنقاذ المجتمع الإنساني عامة والغربي خاصة من هذه المعاناة التي يقاسي منها. وأن يسعى للتخفيف من الأرقام المخيفة التي تتفاقم يومًا بعد يوم, وهي تروي قصة المعاناة الأليمة في حياة الإنسان المعاصر.

ولابد من الإشارة إلى بعض مظاهر هذه المعاناة.

ظاهرة الانتحار:

ورد في الإحصائيات عن ظاهرة الانتحار في أوروبا: أن حالات الانتحار بين الشبان في بريطانيا قد بلغت درجة الأزمة, فقد ارتفع عدد المنتحرين بين الشباب الذكور من 55 في المليون في عام 1970 إلى 100 في المليون. ويذكر التقرير أن من أسباب الانتحار وجود أزمة ثقة بين الشباب.. وأن أسباب أزمة الثقة اختلالات نفسية, ومشاكل عائلية أو زوجية, والبطالة والتورط في الجرائم, وكذلك انتشار المخدرات والكحول وتراكم الديون. وقد تطورت وسيلة انتحارهم من السم إلى الشنق.

ويقول تقرير آخر عن تفاقم ظاهرة الانتحار في دول شمال أوروبا مع أن الشباب هناك تقدم لهم الحكومات دعمًا ماديًا كبيرًا, ومع ذلك فإن مئات من التلاميذ في المدارس السويدية يفكرون بالانتحار, كما أن المخدرات بدأت تنتشر بصورة فظيعة في تلك الدول, وأن بعض المدن السويدية بلغت نسبة الأطفال الذين يتعاطون المخدرات فيها وهم دون الرابعة عشرة 17%, ويعلق على ذلك باحث نفسي فنلندي بأن السبب هو الفراغ الروحي, وأن معظم المنتحرين لا علاقة لهم بالدين, ولا يؤمنون بخالق الكون.

أما في أميركا فقد ورد في إحصائية منظمة الصحة العالمية لعام 2000 أن 16 إنسانًا يموتون بالانتحار من كل 100.000 إنسان, أي بمعدل إنسان واحد في كل أربعين ثانية, وأن الذين يموتون بسبب الانتحار في أميركا أكثر ممن يموتون بسبب القتل. وأن الانتحار هو ثالث ثلاثة أسباب للموت فيمن يموتون بين 15 ـ 24 من عمرهم. هذا على الرغم من أن الذين يموتون فعلاً بمحاولة الانتحار هم 1/20 فقط ممن يحاولون الانتحار.

مرض الإيدز:

ورد في إحصائية قامت بها منظمة الصحة العالمية, وبرنامج الاتحاد الوطني لمكافحة الإيدز

'Joint United Nation Program on HIV/AIDS UNAIDS' أنه:

ـ بلغ عدد الذين يحملون الفيروس المسبب لمرض الإيدز حتى نهاية عام 2000: 36.1 مليون بالغ, و1.4 مليون طفل.

ـ وبلغ عدد الذين يحملون فيروس الإيدز خلال عام 2000: 5.3 مليون إنسان. وبلغ عدد الذين ماتوا بسبب الإيدز: 3 مليون إنسان ويزيد هذا العدد على 50% من الرقم المتوقع, ويفوق عالميًا أي رقم مضى؛ على الرغم من كل محاولات الوقاية المخففة.

ـ نصف حاملي فيروس الإيدز يصابون بالمرض قبل بلوغهم الخامسة والعشرين من عمرهم, ويموتون قبل بلوغ الخامسة والثلاثين.

ـ وفي السنة نفسها 'عام 2000' 600.000 طفل دون الرابعة عشرة كانوا يحملون فيروس الإيدز. وأكثر من 90% منهم ولدوا وهم يحملون هذا الفيروس من أمهات مصابات.

ـ بلغ عدد أيتام الإيدز حتى نهاية عام 1999: 13 مليون طفل. وهل غير الإسلام يمكن أن يصون الإنسان في حصن من العافية والفضيلة والطهر والحياة الأسرية المستقرة؟

العنف العائلي:

ـ قتل النساء في الولايات المتحدة:

تقتل كل يوم عشر نساء من قبل الزوج أو الصديق, '75%' من هذه الحالات يتم القتل فيها بعد أن تترك المرأة صديقها, فينتقم منها بالقتل. أو تطلب الطلاق من زوجها, أو تعصي زوجها.

ونصف حالات القتل في روسيا، تمت ضد النساء من قبل أزواجهن, أو أصدقائهن, وفي عام 93 قُتلت '14000' امرأة, وجُرحت '54000' امرأة جراحات شديدة.

ـ كتب 'Richard. F. Jonnees' الأستاذ بمعهد القبالة وأمراض النساء في مقال عن ظاهرة العنف العائلي وبصورة خاصة عن ضرب النساء, في المجلة العائدة لهذا المعهد, في عدد يناير 1993 تحت عنوان: 'Domestic Violence let our voices be heard'

العنف العائلي: لندع أصواتنا تُسمع. يقول: 'إنه في كل 12 ثانية في الولايات المتحدة الأميركية تخضع امرأة لهذا الوباء. ففي كل 12 ثانية تُضرب امرأة لدرجة القتل أو التحطيم من قبل زوج أو صديق. وفي كل يوم نرى نتائج هذا الضرب في مكاتبنا وفي غرف الطوارئ لدينا وفي عياداتنا'.

ـ وقد سمعت من إذاعة مونت كارلو في شهر 11 من عام 1998 فيما أذكر أن الإحصائيات سجلت أنه قتل في ذلك العام أكثر من 15000 امرأة في روسيا بيد زوج أو صديق. وأنه قتل أكثر من 50.000 طفل بأيدي ذويه!

3ـ عدد حالات الاغتصاب في كندا المسجلة '20530' حالة وليس هناك إحصاء لغير المسجلات, ولكن في كندا '150' مركزًا لمساعدة المغتصبات اللاتي يأتين لطلب المساعدة بعد الاغتصاب, ورقم المراكز في أميركا لا تتوفر له إحصائية, وذلك أن منه الرسمي والتطوعي.. ومن يعرف المجتمع, يعرف مدى انتشار هذه المراكز, فهي خدمة اجتماعية منتشرة في الأحياء, والجامعات.

4ـ في أستراليا '75' مركزًا لمساعدة المغتصبات, وفي نيوزيلندا '66' مركزًا.

5ـ حالات الاغتصاب المسجلة في ألمانيا '5527' حالة ـ لم تشر الكاتبة لتقدير الأرقام غير المسجلة.

6ـ في جنوب أفريقيا '2600' حالة مسجلة, وغير المسجل يقدر بـ 386000 حالة.

7ـ بنغلاديش بها مركز واحد.

8 ـ روسيا سُجلت فيها '14000' حالة أما التقدير للحالات فهو من أعلى دول العالم '700,000' حالة.

ملاجئ النساء:

في الولايات المتحدة فقط 14 ملجأ للنساء المضروبات, أو الهاربات من أزواجهن, وهن اللاتي لا يجدن ملجأً عند أهل أو أقارب.

في كندا 400 ملجأ, في ألمانيا 325, في بريطانيا 300, في أستراليا 270, في نيوزيلندا 53، في هولندا 40، في أيرلندا 10، في اليابان 5, في الباكستان 4, في تونس 1, في بنغلاديش 1.

الطلاق:

في أميركا: وعلى الرغم من العزوف الشديد عن الحياة الزوجية, فإن:

50% من حالات الزواج لأول مرة تنتهي بالطلاق.

60% من حالات الزواج للمرة الثانية تنتهي بالطلاق.

66% من الذين يعيشون حياة مشتركة تنتهي شراكتهم بالفشل بسبب وجود أولاد من شريك سابق.

50% من الأولاد يعيشون في ظل أسرة أحد طرفيها ليس أحد الوالدين.

والطلاق ليس مشكلة بحد ذاته, ولكن المشكلة تكمن في سبب الطلاق ونتائجه, والتي تتجاوز البيت إلى الشارع والمدرسة وبقية مجالات الحياة.

وهذه الإحصائيات غيض من فيض, واختصار شديد لحجم المعاناة الإنسانية التي تنال الطفل والمرأة, بل كل فرد في المجتمع الغربي. ولئن كانت معظم الإحصائيات من أميركا, إلا أن الوضع من هذه الناحية متشابه إلى حد بعيد في أكثر المجتمعات الغربية.

وإن عيادات الطب النفسي التي تغص بالمرضى الذين يعانون من شتى الأمراض النفسية التي أفرزتها أوضاع الغرب من إباحية وتفكك أسري وضياع فكري, مظهر يجعل الوضع مأساويًا لدرجة لا تطاق.

إننا لنعيب على الغرب أن يحتكر ما أكرمه الله تعالى به من علوم وتقنيات وتطور صناعي وطبي وغير ذلك, من المقومات المادية للحضارة البشرية, إذا ما جرى منه ذلك, وفي الوقت ذاته نعيب على الجالية الإسلامية في الغرب أن ينسى أبناؤها فضل الله تعالى عليهم, ويكتموا ما أكرمهم الله تعالى به من هداية, يمكن أن يسعفوا بها المجتمع الإنساني بحلول لكثير من مشكلاته التي يعاني منها, بعد أن يسعفوا أنفسهم بها أولاً.

إن على الجالية المسلمة في الغرب أن تقدم نفسها للمجتمع الغربي بوصفها جالية مسلمة, تحمل هويتها, وتلتزم بدينها, وفي الوقت ذاته تحترم النظم والقوانين العامة المتعلقة بالهجرة والسفر والإقامة وأنظمة السير ونحوها. وأن تثري من خلال دينها الحضارة الغربية, فالمجتمع الغربي ليس بحاجة إلى مواطن جديد, بمقدار ما هو بحاجة إلى إغناء حضارته.

لقد تحدث إليّ أحد الغربيين فقال: إن المسلمين يأتون إلينا وينهلون من الغرب العلم والتقنيات وأمورًا كثيرة أخرى, فماذا يقدمون للغرب في مقابل ذلك؟ لقد تأثرت بهذه الكلمة كل التأثر ووجدتها تحمل معاني كثيرة.

إن على الغربيين أن يوسعوا صدورهم لهؤلاء المسلمين, إذ يختلفون عنهم في كثير من تصوراتهم ونمط حياتهم, فقد يكون في هذه الاختلافات ما يثري حضارتهم, إذا ما تم عرضها بصورة صحيحة, وقد يكون فيها الخير الكثير للمجتمع الإنساني عامة ولمجتمعهم بصورة خاصة.

لقد لاحظت أن الغرب يحب أن يتعامل مع الآخرين على هذا النحو. ولاحظت أنه يرحب بتلوّن مجتمعه بتصورات وأفكار مختلفة. كما لاحظت أن الشعوب والجاليات الأخرى تأتي إلى الغرب تحمل هويتها, وتعتز بها. سواء في معتقداتها الدينية, أم في أخلاقها وعلاقاتها الاجتماعية, بل حتى في نمط طعامها وأزيائها وتقاليدها. وقد لاحظت أن الغرب يراعي الخلافات الدينية التي قد تتباين فيها المعتقدات وما يترتب عليها. فلليهود عندهم تقدير لاعتباراتهم الدينية بالنسبة للحوم والذبائح وغير ذلك. وللشعوب النباتية تقدير لتصوراتهم الاعتقادية وسلوكهم المبني على ذلك أيضًا. والمطلوب من المسلمين أن يكونوا في مستوى هذا التقدير, وأن يكونوا ترجمة صادقة لقيم الإسلام وأخلاقه ونظمه وأحكامه.

إن من حق المجتمع الغربي أن يتعرف على حقيقة الإسلام ومبادئه وأحكامه, وذلك من خلال التزام صحيح تؤديه الجالية المسلمة بهذا الدين, يترجم حقيقته السامية المتسامحة, وإذا كان المسلم يتلون بحسب البيئة التي يعيش فيها, فما الميزة التي يقدم من خلالها شخصيته؟

إن المسلم ليس نسخة متكررة عن البيئة التي يعيش فيها, بل يجب أن يكون صورة عن الإسلام الذي أمره الله تعالى أن يلتزم به, هذا الإسلام الذي يحترم الحقوق, ويصون الأسرة, ويحقق للفرد كرامته ومكانته وحقوقه, أيًا كان؛ صغيرًا أو كبيرًا, غنيًا أو فقيرًا, ذكرًا أو أنثى, حاكمًا أو محكومًا. ويبني في الإنسان الفكر الواعي المتدبر الذي يتدبر حقيقة هذا الكون وموقعه منه ووظيفته فيه. ويحقق للأسرة التماسك في ظل من الود والمحبة والاحترام المتبادل والوفاء. كما يحقق للمجتمع الرقي والتقدم, مع التماسك والتعاطف والتراحم والتوادد, على اختلاف معتقدات أبنائه وأجناسهم وألوانهم. إذ لا فضل لعربي على أعجمي ولا لأبيض على أسود إلا بالتقوى, التي تتجسد في العمل الصالح, وفي نفع العباد والإحسان إليهم.

إن على المسلم أن يقدم نفسه إلى المجتمعات التي يعيش فيها من خلال هويته الإسلامية بصورة صحيحة وصادقة, بحيث يترجم الإسلام الذي أنزله الله تعالى؛ ليتيح للمجتمعات التي يعيش فيها أن تتعرف على الإسلام الحقيقي، من خلال فكره وسلوكه وأخلاقه وعلاقاته. وعندئذ يتم تبادل الثقافات وحوار الحضارات بصورة واقعية, لا من خلال الدعوة الكلامية أو على الورق فقط.

إن كل متأمل في أوضاع المجتمع الغربي يدرك أن ثمة من يستثمر مآسي المجتمع الغربي وأمراضه، لتحقيق مصالح خاصة تقوم على شفاء الآخرين, بغض النظر عن النتائج الأليمة التي تترتب على ذلك. إن انهيار الأسرة في المجتمع الغربي, وحرمان الطفل من الرعاية الأسرية بين أبوين متحابين، يمنحانه العطف والاستقرار النفسي؛ وانتشار الإباحية التي تفرز العنف والإجرام وشتى الأمراض النفسية.. كل ذلك هدف مرسوم لبعض الجهات التي تريد تقويض المجتمع الإنساني كله بدءًا من المجتمعات الغربية. وإن معالجة هذا الواقع الاجتماعي مسؤولية يتحملها كل إنسان يدرك خطر هذا الواقع, ويدرك نتائجه المدمرة. إن هذا الوضع لن يبقى ولا يراد له أن يبقى منحصرًا في أميركا أو في أوروبا. بل يراد له أن يكون سرطانًا يفتك بالبشرية في كل أنحاء الدنيا.

لقد بدأت بعض الدول الغربية تبحث عن حل لهذه المشكلة, ولاحظت أن الوازع الديني وحده هو القادر على الحد من انتشار آفات الوضع المؤسف الخطير, ولذلك بدأت تفكر في توظيف الوعي الديني لمعالجة مخاطر هذا الوضع الاجتماعي المتدهور. وهي التي كانت لأكثر من نصف قرن تنادي بالعلمانية منهجًا في مدارسها.

وبغض النظر عن إمكانية نجاح الجهود الطيبة لتحقيق هدف الحد من حالة التدهور الأخلاقي والانهيار الاجتماعي, وما قد ينجم عنها من مآس ومخاطر, فإن ذلك يدل على شعور صادق بالحرص على معالجة هذا الواقع.

دور الجالية المسلمة في الغرب:

فما دور الجالية المسلمة في الغرب في معالجة هذه المشكلة؟

إن أول واجب يترتب عليها هو أن تحافظ على نفسها, وذلك بأن يتعلم كل فرد بحسب مستواه, حقائق الإسلام الاعتقادية, وأحكامه التشريعية, وتعاليمه الأخلاقية, ونظمه الاجتماعية, تعلمًا صحيحًا ودقيقًا, ثم تترجم ذلك بصورة عملية, وإن مجرد تطبيق المسلم لدينه في سلوكه الشخصي, وعلاقاته الأسرية والاجتماعية, وأسلوب تعامله المادي على قاعدة الأسس الأخلاقية التي أمره بها الإسلام, سيكون له أعظم الآثار الإيجابية في نفوس الغربيين وغيرهم إذا طبق ذلك بصورة صحيحة وواعية.

تُرى ما شعور الإنسان الغربي عندما يجد الأسرة المسلمة متماسكة متعاطفة متحابّة, العلاقة الزوجية فيها قائمة على الحب والتقدير والوفاء والتراحم. والأبناء يجدون في بر والديهم واجبًا دينيًا يتقربون به إلى ربهم, ومظهرًا للوفاء المترتب عليهم تجاه الأبوين, فضلاً عن المشاعر الفطرية التي لم تتشوه وبقيت تحمل كل المحبة والاحترام للوالدين. ويمتد ذلك حتى الأجداد والجدات. والأبوان يمتد عطفهم وحبهم للأولاد ليشمل من بعدهم أولادهم، في جو من الألفة والتقدير العظيم؟

ما شعور الإنسان الغربي عندما يجد التعاطف بين أبناء الجالية المسلمة يظهر أثره في التعاون والإيثار والعطف, الذي لا يترقب مكافأة على ذلك سوى القبول عند الله سبحانه وتعالى؟

وما شعور الإنسان الغربي عندما يرى تعفف المسلم ذكرًا كان أم أنثى عما لا يحل له؟ وقيامه بشأن العلاقة الزوجية بكل مسؤولياته على أتم وجه؟

وما شعور الإنسان الغربي عندما يرى النظام الاقتصادي الإسلامي الذي يرفض الاستغلال والظلم في النظام الربوي المسيطر على كل العلاقات المالية في المجتمع الغربي؟

إن النظام الاقتصادي الإسلامي يملك البدائل الشرعية الواقعية للاستثمار العادل القائم على الربح الحقيقي, وتوزيعه بين الأطراف المساهمة بصورة متكافئة بحسب دور كل طرف في العملية الإنتاجية.

ما شعور الإنسان الغربي عندما يرى الإنسان المسلم ذكرًا كان أم أنثى, شيخًا أم شابًا يقف بين يدي خالقه سبحانه, باسطًا كف التضرع, معبرًا عن أعظم معاني الحب والتعظيم لخالقه, سائلاً إياه أن يكرمه بالقبول والمغفرة, يذكره صباحًا ومساءً, ويقف بين يديه بخشوع ومحبة وتعظيم, يتذكر بذلك نعم الله عليه فيشكره ويتذكر تقصيره بحق ربه فيستغفره, ويتدبر مظاهر قدرته وعظمته فيزداد خشية وتعظيمًا له... هذا الشعور يملأ قلب المسلم بنوع من الطمأنينة لا يعرفه الغربي ويتمنى لو أنه تذوقه.. أجل يتمنى ذلك؛ لأن ذلك من أهم ما يفتقر إليه. ولكن المسلم في الغرب لن يستطيع أن يؤثر في الآخرين، ما لم يكن هو نفسه متأثرًا بحقائق دينه. ولن ينال احترام الآخرين ما دام مزدوج الشخصية, يقول شيئًا ويفعل خلافه.

فتاوى للأقليات:

أما المحاولات التي يقوم بها بعض الأخوة اليوم لتمييع أحكام الشريعة الإسلامية والتحلل من ضوابطها وأحكامها, بدعوى الانسجام مع الوسط الغربي أو غيره، فإنها تشويه لحقيقة الشخصية الإسلامية من جهة, وخروج على المبادئ الإسلامية من جهة أخرى.

إننا لسنا مع التعصب أو التزمت أو التنطع. فذلك ليس من مبادئ شريعتنا. بل نحن مع المبادئ العامة لهذا الدين القائمة على أساس التيسير ورفع الحرج, ولكن وفق قواعد وضوابط حددتها الشريعة الغراء, وليس على النحو الذي تتشهاه النفوس, وتتجه إليه الأهواء.

إن البعض يحاولون اليوم أن يخرجوا على قواعد الشريعة وأحكامها باسم الدين وباسم الشريعة, بدعوى مراعاة أوضاع الأقليات المسلمة في المجتمعات الأخرى.

أجل إن بعض الأخوة يتجهون اليوم نحو تمييع أحكام الشريعة الإسلامية, والتجاوز على قواعدها وإصدار الفتاوى التي لا تستند إلى أصول معتمدة, ولا إلى دليل صحيح. من ذلك الإفتاء بجواز شراء البيوت بفوائد ربوية, والقول بجواز بقاء المرأة عند زوجها الكافر بعد إسلامها, وقولهم بجواز أكل اللحوم غير المذكّاة في بلاد الكتابيين... إلى غير ذلك من الفتاوى التي تكرس لذوبان المسلم في البيئة الغربية.

والعجيب أن أحدهم يبرر فتواه بجواز شراء البيوت بفوائد ربوية بقوله: 'إن المسلم غير مكلف شرعًا أن يقيم أحكام الشرع المدنية والمالية والسياسية ونحوها في مجتمع لا يلتزم بالإسلام لأن هذا ليس في وسعة, ولا يكلف الله نفسًا إلا وسعها, وتحريم الربا من هذه الأحكام التي تتعلق بهوية المجتمع وفلسفة الدولة...!!!'.

هل نسي هذا المفتي قوله تعالى: {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ} [المائدة:49].

والعجيب أنه نسب هذا الحكم لمذهب أبي حنيفة, والمعروف في مذهب أبي حنيفة أنه يجيز للمسلم المستأمن الزيادة في دار الحرب من الحربي, لا بالتعاقد بل بناءً على أن مال الحربي يحل للمسلم, ولما كان المسلم مستأمنًا فقد حرم عليه أن يأخذ مال الحربي بغير رضاه. فإذا رضي الحربي ببذل ماله جاز للمسلم أخذ ماله بأصل الحل لا بالتعاقد. وكيف يحل له أن يتعاقد على الربا وقد قال الله تعالى: {وحرم الربا} [البقرة: 275], ثم إن الحنفية إنما قالوا بذلك في أخذ المال من الحربي, لا بإعطائه, والمسألة معروفة في كتبهم.

إن الخروج على قواعد الشريعة وتجاوز أحكامها وضوابطها, بدعوى مراعاة الأقليات المسلمة, تشويه لحقائق هذا الدين وتمييع لأحكامه, وهو يعني أن أحكام الشريعة الإسلامية نوعان؛ نوع محلي ونوع خارجي, وهذا الأمر سيحوِّل إسلامنا في نظر العالم إلى إسلامات متعددة, فهذا إسلام أغلبية وذلك إسلام أقلية, وهذا شرقي وذاك إسلام غربي, وهذا إسلام عربي وذاك إسلام عجمي. إسلامنا واحد, أنزله الله تعالى رحمة للعالمين يوم أنزله.

هل يتم خلاص البشرية على أيدي المسلمين من جديد؟

إن واجب الجالية المسلمة في الغرب أن تكون مظهرًا للانسجام مع البيئة, ولكن ليس من خلال ذوبان الشخصية, وإنكار الأصل الذي انحدرت منه والهوية التي تنتسب إليها, بل من خلال الأخلاق التي تجعل الفرد من أبناء هذه الجالية موضع تقدير واحترام، وتجسد الصورة الصحيحة لهذا الدين, إن على الجالية المسلمة أن تحترم النظم السائدة في المجتمع الذي تعيش فيه, بمقدار ما تكوّن هذه القوانين والنظم صورة حضارية تجسد كرامة الإنسان وإنسانيته، وبمقدار ما تكون سببًا للأمن والاستقرار في المجتمع الذي يعيشون فيه؛ لأن ذلك قاسم مشترك بين المبادئ الإسلامية وتلك النظم. إن هذا يوجب على الجالية المسلمة أن تكون سفير صدق لدينها, ولن يتحقق ذلك إلا إذا كانوا صورة تجسد بصدق مبادئ هذا الدين وأخلاقه.

إن أعظم رسالة يمكن أن تصحح تصور الغربيين وغيرهم عن ديننا وعن أمتنا, تتمثل في أن يكون أبناء الجالية الإسلامية, ملتزمين بدينهم وتوجيهاته في أخلاقهم ومعاملتهم, سواء في حياتهم المنزلية وعلاقاتهم الأسرية, أم في معاملاتهم مع الآخرين, أم في عبادتهم لربهم, أم في سائر شؤونهم وتصرفاتهم, وأن يكونوا صورة تمثل بصدق ما أمرهم به الله تعالى. عندئذ سيجدون أثر ذلك في هذا المجتمع الغربي وغيره يتجلى في أعظم مظاهر التقدير والاحترام. ولا أدل على ذلك من وضع المسلمين في جنوب شرق آسيا إذ كان لوجودهم من خلال نشاطهم التجاري وتعاملهم المادي مع أبناء تلك البلاد ما عرفه التاريخ من الأثر العظيم. وإن أول مسؤول عن تشويه صورة الإسلام والمسلمين في نظر الآخرين هم المسلمون أنفسهم, عندما يتناقض كلامهم مع أفعالهم, ويحملون اسم الإسلام ولكنهم في تصرفاتهم وأخلاقهم على نقيض ذلك. وبيان ذلك لا يخفى على أحد.

إن هذه الحقيقة لتوجب على الجالية المسلمة أن تتحمل مسؤولياتها أمام ربها أولاً. وأمام أبنائها ثانيًا، ثم أمام أبناء المجتمع الغربي أخيرًا؛ بأن تتعلم دينها وأحكامه ومثله الأخلاقية على درجة من الإحاطة والدقة والوعي, من مصادر موثوقة ومؤتمنة, ثم أن تجسد ذلك في عقيدة تؤمن بها بصدق ويقين, وسلوك تلتزمه بإخلاص وأمانة, دون ازدواجية ولا نفاق. وأخلاق تلتزمها في كل علاقاتها وتصرفاتها. فديننا إنما بُعث به نبينا محمد صلى الله عليه وسلم ليتمم به مكارم الأخلاق. والتزام بأحكام هذا الدين, سواء في ضبط علاقة الإنسان مع ربه أم مع أهله أم مع الآخرين على اختلاف صفاتهم. ألم يقل ربنا تبارك وتعالى: {وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ} [فصلت:34], ألم يقل النبي صلى الله عليه وسلم: 'وخالق الناس بخلق حسن'.

إن أخلاق المسلم سجية يجب أن تكون متأصلة فيه, وليست مجرد مظهر يتجمل به أمام الناس, كلما أراد. إنها منه أشبه بلون بشرته الذي لا يتغير, وليست مجرد ثوب يلبسه متى شاء ويخلعه متى شاء. أرجو أن تغدو الجالية المسلمة على مستوى مسؤولياتها ولاسيما بعد الزلازل العنيفة التي هزت العالم في الفترة الأخيرة, وغدا يبحث عن الخلاص, فهل يكون المسلمون سببًا لسعادة البشرية وخلاصها مرة أخرى؟

===============

#أسباب تصدع الأسر وتفككها

الاثنين 25 ربيع الآخر 1425هـ - 14 يونيو 2004 م

الصفحة الرئيسة

... love-in-allah.jpg ...

تعاني الأسرة في المجتمعات العربية والإسلامية من إشكاليات عدة عويصة تهددها في أمنها واستقرارها ومستقبلها, ولعل أهم هذه الإشكاليات الخطيرة توتر العلاقات بين أفرادها وتدهورها بين الأزواج والأولاد, ونشوب أشكال النزاع والشقاق والصراع, وتحلل القيم الأخلاقية والتربوية وغياب أواصر المحبة والرحمة والمودة... وكل هذه الظواهر السلبية تهدد الأسرة المسلمة في الوقت الراهن بالتفكك والتصدع وما يترتب عن ذلك من نتائج سلبية وخيمة, ولاسيما على الأطفال والشباب الذين يصبحون ضحايا هذا التفكك ويصابون بكل الأمراض الاجتماعية والصحية والنفسية الخطيرة, مثل الفشل الدراسي والتشرد والجنوح والانحراف بكل أنواعه: العقدي والفكري والخلقي والسلوكي... فما مظاهر تفكك الأسرة المسلمة وتجلياتها في الوقت الحاضر.

مظاهره

تتعدد مظاهر التفكك الأسري وأعراضه في المجتمعات العربية والإسلامية اليوم وتتنوع وتختلف من أسرة إلى أخرى, وأهمها ما يلي:

ـ لم تعد الروابط الأسرية وثيقة ومتينة بين أفرادها, ولاسيما بين الزوجين كما حددها الإسلام في قول الله تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً} [الروم: 21] وهكذا تحول المنزل من مقر للسكينة والاستقرار إلى مكان لأشكال النزاع والشقاق والصراع مع الأسف الشديد.

ـ تحلل القيم الأخلاقية داخل الأسرة, كالاحترام والطاعة, حيث لم يعد الأبناء يوقرون آباءهم ويحترمونهم, وهذا يتنافى مع القيم والمثل الخلقية والتربوية لديننا الحنيف, ومخالفة لقوله تعالى: {إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاهُمَا فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلاً كَرِيمًا. وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيراً} [الإسراء: 23, 24].

لقد انتشر العقوق في مجتمعاتنا الإسلامية اليوم وهو من الأسباب المفضية إلى هلاك الأمم ونزول البلاء والمصائب...

ـ غياب صلة الرحم وحق الزيارة والمودة من طرف الأبناء في حق والديهم بفعل عوامل عدة, وهذا ما ينذر بعواقب وخيمة وسخط الله وغضبه ومقته في الدنيا والآخرة, قال الله تعالى في محكم كتابه العزيز: {فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ. أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ} [محمد: 22, 23].

ـ توتر العلاقات الأسرية وتدهورها فيما بين الأبناء ونشوب أشكال النزاع والشقاق فيما بينهم, وانعدام الموارد والتواصل والتفاهم والتعاون... وهكذا انحدرت العلاقات الأسرية في عصرنا الحاضر إلى درجة بالغة السوء والتدني, ومن مظاهر هذا الانحدار توتر العلاقات الأخوية واضطرابها بين الأخ وأخيه, والأخت وأخيها... فقد أصبحت العلاقات فيما بين الأخوة والأخوات الذين ينحدرون من أسرة واحدة ومن أب واحد وأم واحدة تتميز بالفتور وانعدام الحوار والتفاهم, بل وتصل أحيانًا إلى الصراع والنزاع والتقاتل عوض المودة والترابط والتساكن التي أمرنا بها الشرع الإسلامي الحنيف.

دوافعه

لقد أصيبت الأسرة المسلمة اليوم وأكثر من أي وقت مضى بالتفكك والتصدع بفعل عوامل عدة, دينية واجتماعية وسياسية وثقافية.. ويمكن أن نستعرض ونحلل أهم هذه الدوافع في النقط التالية:

ـ خروج المرأة للعمل: لقد هز هذا العامل استقرار الأسرة المسلمة وأثر تأثيرًا سلبيًا على تربية الأبناء ثم التنشئة الاجتماعية لهم, وما ظاهرة النزاع والشقاق بين الأخوة إلا نتيجة حتمية لمغادرة المرأة لبيتها وولوجها العمل في الشركات والإدارات والمعامل؛ لأن الأبناء فقدوا حنان الأم ومودتها وعطفها, وهكذا تخلت الأم عن دورها التربوي واستعانت بالخدم ودور الحضانة, كما أن سفر الأب وغيابه عن المنزل زاد من حدة تفكك الأسرة المسلمة بمجتمعاتنا بسبب بحثه عن لقمة العيش وجمع المال, لقد عق الآباء والأمهات أبناءهم اليوم قبل أن يعقوهم, إذ قصروا حقوق أبنائهم عليهم على الحقوق المادية فقط, ونسي هؤلاء أن حاجة الطفل إلى العطف والحنان والرعاية والتوجيه لا تقل أهمية عن حاجته إلى الطعام والشراب, وأن غذاء الروح أهم من غذاء البدن.

ـ الطلاق أو هجر أحد الوالدين: ساهم هذا العامل بشكل كبير في تفكك الأسر وتصدعها بالمجتمعات العربية والإسلامية؛ فالطلاق الذي هو أبغض الحلال عند الله في شريعتنا, يعد بمثابة 'قنبلة موقوتة' تنفجر فجأة لتدمر كيان الأسرة وتفككها؛ لأن من نتائجه السلبية الوخيمة قطع وشائج الصلة بين الأبوين, فيفتقد الأولاد حنان الأم, وقد يبقون رازحين تحت سلطة أبوية صارمة ومستبدة, مما يدفعهم إلى الهروب من جحيم المنزل, فيصبحون عرضة للتشرد والتسكع والضياع بالشارع, فيميلون بالتالي إلى مخالطة رفقاء السوء والأشرار والسقوط في هاوية الرذيلة واكتساب العادات الذميمة وسلوك طريقة الإجرام والعنف والعدوان من أجل كسب لقمة العيش.

ـ الدور الخطير لوسائل الإعلام: في تصدع الأسر المسلمة, ولاسيما المرئية منها, كالقنوات الفضائية التي تبث برامج وأفلام ومسلسلات العنف والتحلل الأخلاقي والانحراف السلوكي, لقد أسهمت وسائل الإعلام إسهامًا كبيرًا في هدم الكثير من ثوابتنا وقيمنا الدينية والأخلاقية والثقافية, لعل أهمها ما كان يحيط بالوالدين من قداسة وتعظيم واحترام, فكانت بذلك سببًا مباشرًا في شيوع هذا الشر المستطير.

ـ الغزو الفكري والثقافي للحضارة الغربية: التي تتعارض مع الخصوصيات الحضارية للأمة مما دفع بأطفالنا وشبابنا إلى تقليد الغرب في المظاهر الزائفة والسلبية لهذه الحضارة, لقد ابتليت ديارنا في هذا العصر بغزو المدنية الغربية الحديثة والأوروبية والأمريكية بخيرها وشرها، فانطلقنا نقلد القوم ونحذو حذوهم ونتبع سننهم شبرًا شبرًا, وذراعًا بذراع مع الأسف الشديد, فأصاب أسرنا ما أصاب أسرهم من تفكك وتصدع وانهيار، لقد تفككت العائلات الكبيرة إلى أسر صغيرة متباعدة لا تتعدى الأب والأم والأبناء, وهذه غير مترابطة ومتجانسة في كثير من الأحيان.

ـ ضعف الوازع الديني والإيماني لدى أفراد الأسرة, ولاسيما لدى الأزواج, لقد أدى ذلك إلى تصدع الأسر المسلمة وتفككها وأصبحت مثل الأسر الغربية, إذًا فعوامل الدين والإيمان والأخلاق الإسلامية تمنح للأسرة في مجتمعاتنا المحافظة القداسة والاحترام والصمود في وجه الأعاصير والمخاطر وتحفظها من التصدع والتفكك والضياع والانحراف

=============

#ليس 'آلام المسيح' بل جهل المتعالمين

السبت 23 ربيع الآخر 1425هـ - 12يونيو 2004 م

الصفحة الرئيسة

... camera-04_s.jpg ...

نقف وقفة يسيرة حول فيلم أقام الآراء ولم يقعدها, وكثر حول مادته القيل والقال, والتأييد والمعارضة فكان كما عنون له 'آلامًا' للناس وتشتيتًا لآرائهم, وإزعاجًا لحياتهم, وشغلاً لهم عن المهمات من القضايا, وذلك حين تصدت لهذا القيل طائفة ممن يحسبون على المسلمين, فجوزت عرض هذا المسخ الثقافي والمفسد الديني في الكويت لاسيما, وغيرها من بلدان المسلمين. ومن خلال التالي من الكلمات أحببت أن أسهم برأي موجز, فيه إن شاء الله تبصرة وذكرى لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد, من خلال ثلاث نقاط مهمة تتركز في التالي: حقيقة التمثيل, ثم ما قصة فيلم 'آلام المسيح', وتعقب ذلك نصيحة لمن يجيز عرض الأفلام ولاسيما مثل هذه النوعية من الأفلام.

التمثيل في ميزان الشريعة:

تنوعت الكلمات والعبارات الدالة على مسمى التمثيل وكلها تصب في حقيقة واحدة وهي التمثيل, فإن قيل: المحاكاة, التقليد, التشخيص, المسلسلات, المسرحيات, التمثيليات, الأراجوز, الملهاة والملاهي, خيال الظل, وهذه كلها ألفاظ استعملت في العربية.

وفي الأجنبية استعملت الألفاظ التالية: الدراما, الميلو دراما, التراجيديا, التياترو, الكوميديا, وكلها تشترك في الاستعمال والحقيقة مع مسمى التمثيل, والعبرة بالحقائق وليس بالمسميات.

نشأة التمثيل:

والتمثيل بدأت نشأته من خلال التمثيل الديني والترفيهي, وقد رجح بعضهم أن نواة التمثيل من شعائر العبادات الوثنية لدى اليونان, ثم انتشر التمثيل في المعابد الكنسية, وحمل مسميات التراجيديا, 'المأساة', ثم في العقود الأخيرة تسربت التمثيليات الدينية والهزلية إلى المدارس النظامية وتم إنشاء فرق التمثيل فتألفت فرقة 'التمثيل الديني' ثم أخذت تتطور إلى تمثيل أشخاص بعينهم, ثم إلى العظماء في الإسلام, ثم إلى طبقة الصحابة رضي الله عنهم, ثم إلى أنبياء الله ورسله عليهم الصلاة والسلام, ثم إلى العوالم الغيبية كملائكة الرحمن, وهكذا.

مخالفات شرعية:

وبعد هذه المقدمة الموجزة التي علمنا أن التمثيل منقطع الصلة بتاريخ المسلمين في خير القرون يأتينا السؤال المهم: ما حكم الشريعة في مثل هذا النوع من الأعمال؟

فلنعلم ابتداء أن قواعد الشريعة وأصولها وترقيها بأهلها إلى مدارج الشرف والكمال تقضي رفضه ورده من حيث أتى وفق التالي:

أولاً: الأعمال إما أن تكون عبادات أو عادات, والأصل في العبادات أن لا يشرع منها إلا ما شرعه الله والأصل في العادات لا يحظر منها إلا ما حظره الله.

وعليه:

فلا يخلو التمثيل أن يكون على سبيل التعبد, فأين النص المشرع لمثل هذه الأعمال التي لا عهد لها للشريعة بها, فهو سبيل محدث مبتدع.

ولأن 'التمثيل الديني' وجد في أمم الكفر, لأنهم خواء ليس لهم شرع قائم يرجعون إليه, أما أهل الإسلام فلديهم الشرع المعصوم من التبديل 'الكتاب والسنة' وفق فهم خيرة القرون رضي الله عنهم, فهم في غناء عن هذه الواردات, قال تعالى: {وَلا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيراً} بالفرقان:33].

ويدلك على خطر مثل هذا النوع من التمثيل ما ثبت بالمشاهدة في أكثر من مكان قيام تمثيلية دينية ـ كما يزعمون ـ يمثل فيها مسلم دور مشرك بالله فيسجد لشجرة من دون الله... لبيان فضل التوحيد في النهاية, وغيرها كثير من المفاسد.

وإن كان التمثيل على سبيل 'العادات' فهذا فيه تشبه بأعداء الله الكافرين, وقد نهينا عن التشبه بهم, والتمثيل لم يعرف إلا من طريقهم, وليس فيه نفع دنيوي عاجل ولا أخروي آجل, ولا يوضع في باب المكتشفات النافعة أو الدالة على الحضارة والرقي.

ثانيًا: لا يخلو 'التمثيل' أن يكون أسطورة متخيلة أو حقيقة في أساسها تم الزيادة لإكمال قصتها تمثيلاً.

وفي الحال الأولى فإن الكذب هو أساسها, والنفوس واجب ترويضها على الصدق ومنابذة الكذب, والأساطير المختلفة المكذوبة تُشرب النفوس على الكذب وعدم الاحتراز منه.

وفي الحال الثانية, لا يخلو الأمر من الزيادة في الخبر الأصلي, والزيادة بدون حق تعد كذبًا وتقولاً على السابقين, وأيضًا فيه المحاكاة إن كان 'التمثيل' حقيقة بتمثيل معين, والمحاكاة منهي عنها بإطلاق؛ لأن فيها التقليد في الحركات والشخصية والأقوال, وهذا باب من أبواب الغيبة الفعلية والقولية.

ويدلك على بغض الناس للمحاكاة والتقليد أن الطباع تنفر من مشاهدة من يحاكيها حتى في مواطن المحمدة, وإن عشاق اللهو من العظماء والمترفين لا يمكن التجاسر بمحاكاتهم على ملأ من الناس, ولو في مواطن الشجاعة والكرم, فكيف تهدم حرمات قوم مضوا 'وكل المسلم حرام دمه وماله وعرضه'.

والسؤال ليرد على من يعتني بمثل هذا النوع من الأعمال ويتلذذ بتمثيل غيره معينًا بتأليف أو إخراج أو مشاهدة, هل يرضى أن يُمثل في مشاهدته وهو يتحدث إلى زوجته أو قائم في صلاته أو حال تلبسه في معصية, أو في دور من أدوار حياته!!

ثالثًا: المروءة من مقاصد الشرع, وخوارمها من مسقطات الشهادة قضاء, والشرع يأمر بمعالي الأخلاق, وينهى عن سفاسفها, فكم رأى المشاهدون 'الممثل' يفعل بنفسه الأفاعيل في أي عضو من جسمه وفي حركاته وصوته واختلاج أعضائه, بل ويمثل دور مجنون وساقط وماجن.

ومن المسلمات أن 'التمثيل' لا يحترفه أهل المروءات والمراتب العالية, ولا من له صفة تذكر في العقل والدين.

رابعًا: الوقت من أنفس الموجودات, فهل الاشتراك في مثل هذه الأعمال أو الجلوس خلفها دأب الجادين والعالمين لماذا خلقوا في هذه الحياة؟ ناهيك أن التجهيز للمسلسلات والأفلام وغيرها يحتاج الساعات ولربما السنوات, وهذا عدو كاسر لوقت المسلم النفيس, لاسيما وقد صار حرفة, بل علمًا له تخصصاته وأساتذته, وكم أنفقت عليه من أموال, والنتيجة هراء في هراء ورعونة يأنف من مشاهدتها العقلاء.

وبعد هذه المقدمة المهمة التي تحدد معالم الشخصية الإسلامية تجاه ما يتعلق بحقيقة التمثيل, أشرع في الكلام عن فيلم الساعة.

فيلم المسيح:

لم يسبق لفيلم أن أثار ضجة دينية وتباينًا بالآراء مثل ما فعل فيلم المخرج الأسترالي الأصل 'ميل جيبسون' ـ ذو النزعة الدينية النصرانية ـ والذي وضع له عنوانًا مستمدًا من الإنجيل وهو: 'آلام المسيح'.

ولقد صاحب هذا الفيلم ضجة, ولم تكن ردود الفعل الإسلامية سلبية ـ ويا ليتها كانت كذلك ـ ولم يكن صوتها خافتًا, بل الرأي بلغ أعلى مداه من قبل المراجع الدينية في الكويت, وحتى في العراق وإيران وأيضًا في مصر, كل ذلك جاء موازيًا لعرض هذا الفيلم, الذي تكالبت عليه بعض المنظمات الصهيونية بالتشويه وردود الفعل الغاضبة, فولدت له نجاحًا هائلاً من خلال صراخها بالتأييد أو المعارضة, ففي العالم النصراني خصوصًا, تشوق العوام لرؤية هذا الحدث المثير الجديد, وفي العالم الإسلامي عمومًا والمترقب والمتعلق بأي شيء يغيظ اليهود, فصدرت الفتاوى التي تأذن بعرض هذا الفيلم على المسلمين, بغض النظر عن بحث محتوى السيناريو والقصة, أو هل يوافق عقيدتنا أم يضرب بها عرض الحائط؟!

وفي وسط هذه الضجة الكبيرة, والاهتمام الواسع المتزايد الذي أثاره فيلم 'آلام المسيح' والذي سيعرض حاليًا, سيجد الكثير من الآشوريين ومن الكلدانيين, فرصة نادرة لسماع لغتهم الأصلية التي تحدث بها السيد المسيح عليه السلام, وذلك لأن بعض لقطات الفيلم تدور أحداثه باللغة الآرامية القديمة.

ومن الأمور التي تثير النقاش المقارنة بين تلك اللغة في القرن الأول الميلادي وبينها الآن.

وينظر الكثير من أبناء الكلدان والآشوريين والسريان وغيرهم بفخر إلى لغتهم الأصلية وهم الآن فرحون لاحتواء فيلم شهير كهذا على لقطات يتحدث الممثلون بها.

وبعد أن ذكرت مقدمة موجزة عن التمثيل وبدايته قبل أن أذكر بعض الشروط الواجب عدم إغفالها من الوجهة الشرعية الإسلامية, أذكر بشيء من الإيجاز كيف أن هذا الفيلم اكتسح شباك التذاكر في أمريكا الشمالية فقط, وما قصة هذا الفيلم, ولماذا الضجة العالمية حوله؟

==============

#وفاة رفاعة الطهطاوي ـ رائد التغريب

الثلاثاء 5 ربيع الآخر 1425هـ - 25 مايو 2004 م

الصفحة الرئيسة

الزمان/ 1 ربيع الآخر ـ 1289 هـ.

المكان/ القاهرة ـ مصر.

الموضوع/ وفاة الشيخ رفاعة الطهطاوي رائد التغريب في العصر الحديث.

الأحداث:

مقدمة:

إن تجربة الالتقاء الحضاري الشامل بين المجتمع العربي الإسلامي والحضارة الأوروبية في بداية القرن التاسع عشر الميلادي الموافق القرن الثالث عشر الهجري، وما خلفته من آثار ما زالت الأمة تتجرع مرارتها حتى الآن ـ لجديرة بالتأمل والتدبر وإمعان التفكير؛ ذلك لأنه قد صبغت وجهة العالم الإسلامي وحددت مساره النفسي والفكري والقيمي لفترة طويلة، وأفرزت عند الأمة هذا المسخ العقلاني القبيح المسمى بالعلمانية التي تسللت لحياة المسلمين واحتلت جانبًا كبيرًا من عقولهم وقلوبهم من حيث لا يعلمون، ولولا رحمة الله عز وجل لهذه الأمة ثم الدعوة والصحوة الراشدة التي صححت مسار الأمة بعدما كانت على شفا هلكة وغرق حتمي في مستنقع العلمانية النتن.

والجدير بالذكر أن كافة الانحرافات التي تتصدى لها الصحوة اجتماعيًا وأخلاقيًا وثقافيًا وإعلاميًا جاءت عند حدوث الصدمة الحضارية التي وقعت لبعض المسلمين عندما التقوا مع الحضارة الغربية، وهذه الصدمة أدت للانبهار والهزيمة النفسية والوعي المنقوص، والرغبة في رقي المسلمين كما ارتقى الغربيون، فوقع الخلل، وانحرف المسار، وتشوه التفكير، وانحرفت الأمة إلى طريق التبعية والتقليد الأعمى للغرب، فصارت حضارة المسلمين مثل حضارة القرود تقلد ما تراه ولا تعلم معناه، ونحن على هذه الصفحة نقلب دفاتر أول رائد للتغريب، وأول من تلقى الصدمة الحضارية، لنعلم مدى الأثر البالغ التي خلفته تلك الصدمة المشئومة.

رفاعة رافع الطهطاوي:

في أتون المواجهات العسكرية العنيفة بين الشعب المصري المسلم في صعيد البلاد وبين قوات الحملة الفرنسية النابليونية وبالتحديد سنة 1216 هـ ولد رفاعة رافع بمدينة 'طهطا

' من أعمال مديرية 'جرجا' بمحافظة 'المنيا' بعائلة تؤكد شرف انتسابها لآل البيت من الفرع الحسيني، وهذه الدعوة منتشرة بأرض مصر خصوصًا، ولهم نقابة خاصة بهم تعرف بنقابة الأشراف بعضويتها ستة ملايين مصري!!! كلهم يدعي الانتساب لآل البيت، والله يعلم من منهم ينتسب ومن منهم ينتحل، والظن أن أغلبهم منتحلون.

نشأ رفاعة كعادة أبناء جيله على حفظ القرآن الكريم حتى أتمه، وحفظ بعض المتون الشرعية المتداولة حتى توفي أبوه وهو صغير السن، فانتقل للدراسة بالجامع الأزهر، ولم تمر عليه بضع سنين حتى ظهرت نجابته وقوة فهمه وتحصيله العلمي حتى فاق أقرانه، وانتقل إلى طبقة المدرسين وهو في العشرين من عمره، ولكن ضيق ذات اليد كانت تكدر عليه صفو حياته وتعطل مسيرته العلمية وتفرغه للتدريس.

الشيخ المجهول:

ونعني به الشيخ 'حسن العطار'، وكان من كبار علماء الأزهر، حتى إنه قد تولى مشيخة الأزهر في مرحلة من حياته، وكان هذا الشيخ أستاذ رفاعة في الأزهر، وكان له الأثر البالغ في حياة وتفكير رفاعة الطهطاوي رغم جهل الكثيرين بهذا الرجل، ويعتبر حسن العطار أول مشايخ الأزهر افتتانًا بالحضارة الغربية، أو بعبارة أدق أول مصدوم بها، وذلك عندما جاءت الحملة الفرنسية على مصر، واتصل حسن العطار برجالها وتأثر بما عندهم من علوم وتقدم، واشتغل بتعليمهم اللغة العربية، واندمج إلى حد كبير معهم وأنشد في رقيهم وعوايدهم الأشعار، وتوثقت العلاقة بين محمد علي وحسن العطار بعد رحيل الحملة الفرنسية، وأصبح محط ثقته وأحد الركائز التي يعتمد عليها محمد علي في مشروعة الحضاري الجديد القائم في الأصل على الحضارة الغربية.

كان حسن العطار يبث في عقول تلاميذه ـ ومنهم رفاعة الطهطاوي ـ ضرورة التغيير في أوضاع الأمة المسلمة ونقل الحضارة الغربية، ثم جاءت الفرصة عندما طلب محمد علي من حسن العطار أن يرشح له 'إماما' يؤم البعثة المصرية العلمية المتوجهة إلى فرنسا في الصلاة والفتوى، فرشح العطارُ الطهطاوي لتلك المهمة، فتوجه الطهطاوي إلى فرنسا سنة 1241هـ / 1825م، وقد طلب حسن العطار من رفاعة طلبًا خاصًا ألا وهو: تدوين كل ما يراه ويسمعه أثناء هذه الرحلة التي استمرت ست سنوات.

الصدمة الأولى:

الرحلة التي قام بها رفاعة الطهطاوي كانت تمثل اللقاء الأول بين الفكر الإسلامي الأصيل التقليدي والحضارة الغربية في أوج عنفوانها وقوتها عقب الثورة الفرنسية الشهيرة، فوقعت الصدمة الأولى عند هذا الرجل صاحب الثقافة الإسلامية والحضارة التي نبذت لتوها الدين وتخلصت من سلطان الكنيسة بعد الثورة المعروفة، وكانت الحسرة تملأ قلب رفاعة عندما يرى التمدن والحضارة الجديدة قوية راقية مرتفعة ويرى أن المسلمين أولى بتلك القوة من بلاد الكفر، وأن المسلمين أولى من هؤلاء الكفرة بالأخذ بأسباب الحضارة. وهذه كانت بداية الصدمة؛ لأن المسار انحرف بعد ذلك.

مكث رفاعة الطهطاوي ست سنوات يسجل كل ما يراه ويكتبه ويعلق عليه وذلك في كتابه الشهير 'تخليص الأبريز في تلخيص باريس' ووصل بعد هذه الرحلة ـ أو الصدمة الحضارية ت لعدة قَناعات حددت بعد ذلك مسار حياته عندما رجع إلى مصر.

قَناعات الطهطاوي:

ـ ضرورة التقريب بين الأحوال الإسلامية والأحوال الغربية خاصة فيما يتعلق بفكرة التشريع. فيقول في كتابه: 'ومن زاول علم أصول الفقه، وفَقِهَ ما اشتمل عليه من الضوابط والقواعد جزم بأن جميع الاستنباطات العقلية التي وصلت عقول أهالي باقي الأمم المتمدنة ـ يقصد أوروبا ـ إليها وجعلوها أساسًا لوضع قوانين تمدنهم وأحكامهم قلَّ أن تخرج عن تلك الأصول التي بنيت عليها الفروع الفقهية'.

وهو بذلك يجعل الشرع الحنيف على قدم سواء مع تشريعات أوروبا الوضعية، فيعتبر بذلك أول من مهد لدخول هذه التشريعات لبلاد المسلمين، وقد ظهر ذلك واقعيًا وعمليًا عندما عاد إلى مصر وقام بترجمة قوانين أوربا الوضعية ونقلها للعربية بناءً على أوامر محمد علي، وما أدى بعد ذلك لاستبدال الشريعة بهذه القوانين الوضعية.

ـ تقديم مفهوم الوطنية من وجهة النظر الأوروبية للعالم الإسلامي لأول مرة بديار الإسلام، فقال في كتابه: 'وما يتمسك به أهل الإسلام من محبة الدين والولوع بحمايته مما يفضلون به عن سائر الأمم في القوة والمنعة يسمونه ـ أي الأوروبيون ـ محبة الوطن'.

وهو بذلك يروج للوطنية على المسلمين السذج مما يمهد السبيل لقطع علائق المسلمين بعضهم ببعض بدعوى ابتعاد أوطانهم واختلافها.

ـ نقل الحرية بالمعنى والمفهوم الفرنسي إلى بلاد المسلمين، بسبب حالة القهر والظلم التي مارسها الطاغية محمد علي على البلاد، مما جعل هذا الشيخ الوافد ينبهر بالحرية التي عليها الناس في أوروبا، فنراه يثني ويدافع عن مراقصة الرجال للنساء ويصفه بأنه نوع من الرياضة والأناقة والفتوة، ويقول عن الاختلاط بين الجنسين: 'ليس داعيًا إلى الفساد' !!!!

ـ ضرورة تحرير المرأة الشرقية والمسلمة. ويكون بذلك أول من أثار هذه القضية بديار المسلمين، فسن بذلك أسوأ السنن حيث حمل بعده رجال راية 'تحرير المرأة' على النمط الغربي، فخُلع الحجاب، وعم الفساد، وانتشر الاختلاط، وضاعت الأنساب.

الحيرة والتخبط:

إن أزمة رفاعة الطهطاوي حقًا تتلخص في الصدمة الحضارية الشديدة التي تلقاها عندما سافر إلى فرنسا، فهو لم ينحرف أو يضل أو يترك شيئًا من عقائده وصلواته، فهو قد ابتعد إيمانيًا عن فرنسا النصرانية، ولكنه اصطدم حضاريًا إلى حد التبعية والتقليد لحضارة فرنسا، ففشل في الجمع بينهما كما فعل الأوائل عندما فهموا ما عند الغير من العلوم وهضموها جيدًا ووظفوها وطوروها بما يخدم أمة الإسلام دون تقليد أو انبهار. ونلمس هذه الحيرة والتخبط في تفكير رفاعة الطهطاوي وأشعاره فمنها:

أيوجد مثل باريس ديار شموس العلم فيها لا تغيب

وليل الكفر ليس له صباح أما هذا وحقكم عجيب

ـ لقد كان رفاعة الطهطاوي أول من وضع الأفكار النظرية موضع التنفيذ وأنتج أعمالا فكرية تمهد لخطة اجتماعية عملية في التشريع، وفي التعليم، وفي السلوكيات، وكان موضع ثقة محمد علي وأولاده من بعده في تطبيق فكرة التغريب والتحديث الأوروبي في كل الميادين، حتى إن الخديوي 'إسماعيل' طلب منه أن يقنع علماء الأزهر وشيوخه بقبول التشريع الأوروبي الوضعي ودار بينهما هذا الحوار:

قال الخديوي إسماعيل: إنك منهم ونشأت معهم، وأنت أقدر على إقناعهم، أخبرهم أن أوروبا تضطرب إذا هم لم يستجيبوا إلى الحكم بشريعة نابليون.

قال رفاعة: إنني يا مولاي قد شخت، ولم يطعن أحد في ديني فلا تعرضني لتكفير مشايخ الأزهر إياي في آخر حياتي، وأقلني من هذا الأمر. فوافق إسماعيل.

انزوى رفاعة الطهطاوي في آخر حياته عن الساحة وترك مكان الصدارة الذي ظل يشغله طيلة خمسين سنة يترجم علوم وأفكار أوروبا والقوانين الوضعية ويرأس تحرير جريدة 'الوقائع المصرية'، ويكتب المقالات، ويؤلف الكتب ويقنن الأفكار، حتى وافته المنية في 1 ربيع الآخر سنة 1289هـ/1873م. بعد أن قام بالدور الأول في طمس معالم الحضارة الإسلامية وتحويلها لمسخ من الحضارة الغربية، وكلنا يعرف وزر من سن في الإسلام سنة سيئة

=============

#سُكَّانُ القِمَمِ

الخميس 11 صفر 1425هـ - 1ابريل 2004م

الصفحة الرئيسة

... supes-top.jpg ...

في الأرض قمم شامخة، وفي السماء نسور تحلق، وتزاحم النجوم، وفي المقابل نرى من يزحف في بطون الأودية, أو يدفن رأسه في التراب كالنعام.. واذا نظرت في الحياة، فسترى قيمًا عالية، وأخلاقا رفيعة، وفى المقابل، ترى سفاسف دنيئة، وقيمًا وضيعة، والناس كالطيور، منهم من يحلق هنا وهناك، ومنهم من يلتصق بهذه، أو تلك،

قال ابن الجوزى رحمه الله : وتلمح سير الكاملين في العلم والعمل، ولا تقنع بالدون، فقد قال الشاعر:

ولم أر في عيوب الناس شيئًا كنقص القادرين على التمام

فمن هم سكان القمم؟هل هم بشر كسائر البشر؟ أم يعيشون على كوكب آخر؟

إن سكان القمم أناس مثلنا، يعيشون على هذه الأرض بأجسامهم، لكن هممهم وعزائمهم تحلق في السماء.

سكان القمم لا يرضون لأنفسهم من كل شيء إلا أحسنه، ومن كل أمر إلا أتمه وأجمله، وقد قيل قديمًا:'قدر الرجل على قدر همته'. فمن كان عالي الهمة؛ كان عالي القدر..فبادر ولا يقعد بك العجز عن المكرمات، حاول أن تكون من سكان القمم، وابذل في تحصيله كل غال ورخيص، ولا تدخر في ذلك أي نفيس.

لكل مُجِدٍّ مكافأة تليق بمقامه:

فمن جدَّ في العلم؛ كوفئ باحتياج الناس إليه.. ومن جدَّ في بذل المعروف كوفىء بثناء الناس عليه.. ومن كان همّه ما يأكله.. كان قيمته ما يخرجه، فأين طلاب المعالي؟ أين أصحاب الهمم العوالى ؟ أين من يحب الله صنيعهم ويبارك مسيرهم؟ لا يسأل الكثير إلا من كان عقله يفكر بالكثير..ولا يطلب العظيم إلا من كانت نفسه تسمو لكل عظيم،

إذا غامرت في شرف مروم فلا تقنع بما دون النجوم

فطعم الموت في أمر حقير كطعم الموت في أمر عظيم

إن حياتك مغامرة كبيرة، وان لحظات عمرك مباراة خطيرة:

فإياك أن تخرج منها خاسرًا، قبل أن تبنى لك بيتًا في الجنة..عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: [مَنْ أَصْبَحَ مِنْكُمْ الْيَوْمَ صَائِمًا] قَالَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَا قَالَ: [فَمَنْ تَبِعَ مِنْكُمْ الْيَوْمَ جَنَازَةً] قَالَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَا قَالَ: [فَمَنْ أَطْعَمَ مِنْكُمْ الْيَوْمَ مِسْكِينًا] قَالَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَا قَالَ: [فَمَنْ عَادَ مِنْكُمْ الْيَوْمَ مَرِيضًا] قَالَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَا فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: [مَا اجْتَمَعْنَ فِي امْرِئٍ إِلَّا دَخَلَ الْجَنَّةَ]رواه مسلم.

قال تعالى:{ سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ[21]}[سورة الحديد] .

إن المكارم لا تحصل بالمنى لكن لها بالتضحيات سبيلا

فلكم سما للمجد من أجدادنا بطل أقام على السمو دليلا

فسل المعالي عن شجاعة خالد وسل المعارك هل رأته ذليلا

وسل الحضارة إن رأيت بهائها عمن أنار لهديها القنديلا

وسل المكارم والمعالي هل رأت من بعدهم في ذا الزمان مثيلا

هذى المكارم عندهم كبداية لسلوك درب ما يزال طويلا

في الأرض مجدهم ولكن قلبهم لجنة الفردوس رام رحيلا

وخذ المكارم لا تخف أعبائها المكارم لا يكون ثقيلا

روى أن أعرابيًا سال أناسًا من أهل البصرة:من سيد القوم في بلدكم؟ فقالوا: الحسن أي البصري، فقال بم سادهم؟

قالوا: احتاج الناس إلى علمه، واستغنى هو عن دنياهم .

سكان القمم أبعد ما يكونون عن زخارف هذه الدنيا وبهرجها:

الهم الأكبر لسكان القمم هم الآخرة، أما الدنيا فقد استصغروا متاعها، واحتقروا نتائجها، وترفعوا عن الاستباق فيها، فتحرروا من قيودها وهمومها، يقول الحسن رحمه الله:'من نافسك في دينك فنافسه، ومن نافسك في دنياك فألقها في نحره' .

عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: [مَنْ كَانَتْ الْآخِرَةُ هَمَّهُ جَعَلَ اللَّهُ غِنَاهُ فِي قَلْبِهِ وَجَمَعَ لَهُ شَمْلَهُ وَأَتَتْهُ الدُّنْيَا وَهِيَ رَاغِمَةٌ وَمَنْ كَانَتْ الدُّنْيَا هَمَّهُ جَعَلَ اللَّهُ فَقْرَهُ بَيْنَ عَيْنَيْهِ وَفَرَّقَ عَلَيْهِ شَمْلَهُ وَلَمْ يَأْتِهِ مِنْ الدُّنْيَا إِلَّا مَا قُدِّرَ لَهُ]رواه الترمذي.

إنه وعيد لمن كانت الدنيا أكبر همه، فهو مقبل عليها بكليته، يجمع حطامها في نهم لا ينقضي، منشغل بذلك عن الآخرة، فمن كانت هذه حاله: عوقب بشتات القلب، فلا يزال لاهثًا وراء المال والمناصب والشهوات، يعب منها لكنه لا يشبع، بل يطلب المزيد، غافلًا عن أنه لا يأتيه إلا ما كتب الله له من الرزق، وأن حاله هذا هو عين الفقر، حيث لا تنتهي حاجته، ولا يحصل له الرضا بما جمع من المال، وهذا معنى: [جَعَلَ اللَّهُ فَقْرَهُ بَيْنَ عَيْنَيْهِ] .

وفى المقابل حال الرجل الصالح الذي جعل الآخرة همه: فهو في سعى دائم لتحصيل الحسنات، والوصول إلى مرضاة الله، مع حسن توكله على الله، فهذا يجمع الله له أمره، ويرزقه القناعة، وغنى النفس، ويبارك له في ماله، وصحته وأولاده..وهذا هو الغنى الحقيقي.. يقول ابن الجوزى رحمه الله:' يا هذا حب الدنيا أقتل السم، وشرورها أكثر من النمل' .

وقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: [وَاللَّهِ مَا الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا مِثْلُ مَا يَجْعَلُ أَحَدُكُمْ إِصْبَعَهُ فِي الْيَمِّ فَلْيَنْظُرْ بِمَ تَرْجِعُ] رواه مسلم. وعَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَرَّ بِالسُّوقِ دَاخِلًا مِنْ بَعْضِ الْعَالِيَةِ وَالنَّاسُ كَنَفَتَهُ فَمَرَّ بِجَدْيٍ أَسَكَّ مَيِّتٍ فَتَنَاوَلَهُ فَأَخَذَ بِأُذُنِهِ ثُمَّ قَالَ: [أَيُّكُمْ يُحِبُّ أَنَّ هَذَا لَهُ بِدِرْهَمٍ] فَقَالُوا مَا نُحِبُّ أَنَّهُ لَنَا بِشَيْءٍ وَمَا نَصْنَعُ بِهِ قَالَ: [أَتُحِبُّونَ أَنَّهُ لَكُمْ] قَالُوا وَاللَّهِ لَوْ كَانَ حَيًّا كَانَ عَيْبًا فِيهِ لِأَنَّهُ أَسَكُّ فَكَيْفَ وَهُوَ مَيِّتٌ فَقَالَ: [فَوَاللَّهِ لَلدُّنْيَا أَهْوَنُ عَلَى اللَّهِ مِنْ هَذَا عَلَيْكُمْ] رواه مسلم.

ونلاحظ في هذه الأحاديث: تحقير شأن الدنيا بجانب شأن الآخرة، فنعيم الدنيا قليل زائل، يشوبه الكدر، إذا سر فيها المرء أمر ساءته أمور، أما نعيم الآخرة، فنعيم كله لا نكد فيه ولا أحزان.

وقد كان صلى الله عليه وسلم القدوة في نظرته إلى الدنيا: فلم يركن إليها ولا تعلق بها، بل كان شأنه فيها كشأن الراكب المسافر الذي استظل في طريقه تحت ظل شجرة ثم قام يواصل سيره، فالدنيا أشبه بتلك الاستراحة العارضة، وكما أن المسافر ليس له هم إلا الوصول إلى غايته، وهى منتهى سفره، فكذلك العاقل الموفق في الدنيا، لا يتعلق بدنيا عارضة زائلة, منشغلًا عن النعيم الخالد في الآخرة

فلو كانت الدنيا جزاء لمحسن إذن لم يكن فيها معاش لظالم

لقد جاع فيها الأنبياء كرامة وقد شبعت فيها بطون البهائم

الأمة الإسلامية تواجه اليوم عدوًا شرسًا، كشر عن أنيابه، وأظهر ما كان مستورًا في فؤاده:

هذا العدو لا يمكن أن يواجه بأناس ذوى همم ضعيفة، تعلقوا بدنياهم.. لا يكسر هذا العدو إلا سكان القمم، لكم أضر بناغياب الزهد عن حياتنا، فالزهد في الدنيا، من أهم مقومات الصراع بين المسلمين وأعدائهم، ومواجهة المكائد والمؤامرات التي يتعرضون لها الآن.

وإن من الغفلة القاتلة أن يظن المسلمون أن عدوهم غافل عنهم، فضلًا عن أن يتوهموا أنه صديق لهم، إن عدونا لا يرضى لنا عودة إلى ديننا تبعث فينا الحياة والقوة، وتفتح أعيننا على مصالحنا، فهل نفيق الآن ونزهد في الترف والراحة، التي لا تثمر إلا الخنوع والضعف، ونعمل لنرد عن الأمة غائلة العدو، ونقطع أطماعه فينا، أم نبقى في ترفنا وترهلنا حتى تأكلنا الذئاب؟!

من أشد ما تصاب به أمة من الأمم أن يكون أفرادها ذووا همم ضعيفة، وعزائم واهنة، وتطلعات قاصرة، يرى أحدهم نفسه قزمًا أمام المتغيرات الكبيرة، والتحولات التاريخية، فلا يفكر في التغيير، ولا البدء في مشاريع مستقبلية. ومن هذا وضعه، كيف يرجى له الشفاء، إذا كان اعتقاده أنه لا يشفى، ذلك أنه أسير تربية ذليلة، لم يقم يومًا بعمل مستقل، أو بعمل تعاوني كبير، لم يتدرب يومًا على القيادة، فإذا فاجأه أمر تقوقع وانزوى؛ لأنه لا يملك الخبرة لإدارته.

إن أرض الله واسعة لمن يريد الانطلاق، ولمن يريد تأسيس أعمال كبيرة، والطاقات متوافرة، ولكنها بحاجة إلى عزمة أكيدة، وثقة بوعد الله، ولقد بعث الله موسى عليه السلام، ليخرج قومه من الذل والاستعباد، إلى التمكين في الأرض، والاسترواح بشرع الله، ولكن نفوسهم كانت ضعيفة صغيرة، لا تستطيع حمل هذا العمل العظيم، وذلك لما ألفوه من العبودية لفرعون وملأه، فتصاغرت نفوسهم، وهانت عليهم، حتى لم يعودوا يرون أنها جديرة بمرتبة الاستخلاف في الأرض.. لابد أن ينعتق الفرد المسلم من مثل هذه الأجواء التي تقيده وتشعره بضآلته، لابد أن يقتنع الفرد المسلم، بأن عنده طاقات وقدرات، يستطيع بها القيام بأعمال كبيرة، إن معالي الأمور لا يبلغها إلا أصحاب الهمم العالية، والعزائم القوية، فالجنة محفوفة بالمكاره، قال ابن القيم رحمه الله :'علو الهمة لا تقف دون الله تعالى، ولا تتعوض عنه بشيء سواه، ولا ترضى بغيره بدلًا منه، وأعلى الناس همة وارفعهم قدرًا من لذته في معرفة الله ومحبته والشوق إلى لقاءه' . قال الله تعالى:{ قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ[58]}[سورة يونس].

كان الأعرابي يأتي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يسأله حفنة من شعير قائلًا: يا محمد أعطني من مال الله فإنه ليس مالك، ولا مال أبيك.. هذه همة، بينما همة ربيعة بن كعب، همة فوق الشمس.. قَالَ رَبِيعَةُ بْنُ كَعْبٍ الْأَسْلَمِيُّ: كُنْتُ أَبِيتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَتَيْتُهُ بِوَضُوئِهِ وَحَاجَتِهِ فَقَالَ لِي: [سَلْ] فَقُلْتُ أَسْأَلُكَ مُرَافَقَتَكَ فِي الْجَنَّةِ قَالَ: [أَوْ غَيْرَ ذَلِكَ] قُلْتُ هُوَ ذَاكَ قَالَ: [ فَأَعِنِّي عَلَى نَفْسِكَ بِكَثْرَةِ السُّجُودِ] رواه مسلم. أين كانت تحلق همة ربيعة؟ كانت تحلق في سماء رفيعة، وقمم شاهقة، وكما قال الإمام ابن القيم رحمه الله:' فلله در الهمم .. ما أعجب شأنها! وأشد تفاوتها.. فهمة متعلقة بالعرش، وهمة هائمة حول الأنتان والحش!' .

سكان القمم جِدُّ في السلوك, نشاط في العمل, لا يعرفون التراخي والكسل: ومن سنن الحياة أن الدنيا لا تعطى حصادها، إلا لمن يزرعها, ولا جناها إلا لمن يغرسها، سكان القمم لا ينغمسون في الترف وكثرة المباح، قال ابن القيم رحمه الله:' قال لي شيخ الإسلام قدس الله روحه في شيء من المباح: هذا ينافى المراتب العالية، وان لم يكن تركه شرطًا في النجاة, فالعارف يترك كثيرًا من المباح برزخًا بين الحلال والحرام' .

سكان القمم سباقون إلى الخيرات، مبادرون إلى القربات, لا يفرغ من خير إلا بدأ بخير بعده: لا ينفض يده من عمل إلا وضعها في عمل آخر، يفيد نفسه وينفع أمته، قال أحد السلف:'إذا هممت بخير، فبادر هواك لا يغلبك، وإذا هممت بِشَرٍّ، فَسَوِّفْ هواك لعلك تظفر' .

سكان القمم يتعبون لبلوغ المعالي, ويقاسون المشقة للصعود في درجات الكمال: لكنه تعب يعقبه فرح، ونعيم لا شقاء بعده، يقول ابن القيم رحمه الله:'وقد أجمع عقلاء كل أمة، على أن النعيم لا يدرك بالنعيم، وأن من آثر الراحة، فاتته الراحة، وأن بحسب ركوب الأهوال، واحتمال المشاق، تكون الفرحة واللذة، فلا فرحة لمن لا هَمَّ له، ولا لذة لمن لا صبر له, ولا نعيم لمن لا شقاء له، ولا راحة لمن لا تعب له، بل إذا تعب العبد قليلًا، استراح طويلًا، إنما تخلق اللذة والراحة والنعيم، في دار السلام، وأما في هذه الدار فكلا' .

القمم يسكنها العباد والزهاد، والمجاهدون، والعلماء والدعاة وطلاب العلم: شمر لسكنى القمم السابقون من أنبياء الله، وأصحابهم، ومن سار على نهجهم، إن السكنى في القمم هي الحياة التي من حرمها؛ فهو في جملة الأموات، والنور الساطع الذي يسترشد به الغرباء في بحار ظلمات الدنيا، وهى الشفاء الذي من فقده؛ فقد أصابته جميع الأسقام، وبها تكون اللذة التي من لم يظفر بها فعيشه كله هموم وآلام، إذا هممت فبادر، وان عزمت فثابر، واعلم أن لا يدرك المفاخر من رضي بالصف الآخر، يا طالبا للدعة أخطأت الطريق، علة الراحة التعب، إذا لم تكن أسدًا في العزم، ولا غزالًا في السبق، فلا تتثعلب, من خاف ركوب الأهوال، بقي عن إدراك الآمال, من وجد الله، فماذا فقد, ومن فقد الله فماذا وجد

متى صح الود منك فالكل هين وكل الذي فوق التراب تراب

إذا اطَّلَعَ الخبير على الضمير، فلم يجد في الضمير غير الخبير..جعل فيه سراجًا منيرًا.

سكان القمم في كل وقت يقل عددهم، لكن يجل قدرهم: حتى إذا ماتوا فهم أحياء، فكم من أناس موتى، تحيا القلوب بذكرهم, وأناس أحياء تموت، القلوب برؤيتهم،

قال ابن القيم:

تفنى عظام الصب بعد مماته وأشواقه وقف عليه محرم

وقال الفاروق عمر رضي الله عنه:' لا تصغرن همتك، فإني لم أر أقعد بالرجل، من سقوط همته', وقد قيل:'المرء حيث يجعل نفسه، إن رفعها ارتفعت..وان قصر بها اتضعت'. قال ابن الجو زى:'قال الكلب للأسد يوما: يا سيد السباع، غير اسمي فإنه قبيح، فقال له : أنت خائن لا يصلح لك غير هذا الاسم, قال جربني, فأعطاه قطعة لحم، وقال له: احفظ هذه إلى الغد وأنا أغير اسمك..أخذ الكلب قطعة اللحم، وبعد زمن جعل الكلب ينظر إلى اللحم ويصبر, فلما غلبته نفسه قال : وأي شيء في اسمي، وما كلب إلا اسم حسن، وأكل اللحم. يقول ابن الجوزى: وهكذا خسيس الهمة، القنوع بأقل المنازل، المختار لعاجل الهوى، على آجل الفضائل، فالله الله في حريق الهوى إذا ثار فانظر كيف تطفئه'. المشكلة هي قناعة الشخص بالمستوى الذي هو فيه، فإذا اقتنع بذلك، فاعلم أن هذه هي أول خطوة في الانحدار.

سكان القمم من أكثر الناس تعرضا للفتن والبلاء: عَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ قَالَ قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَيُّ النَّاسِ أَشَدُّ بَلَاءً قَالَ: [الْأَنْبِيَاءُ ثُمَّ الْأَمْثَلُ فَالْأَمْثَلُ] رواه الترمذي وابن ماجة وأحمد. قال المناوى رحمه الله -معلقًا على هذا الحديث-:' ومن ظن أن شدة البلاء هوان بالعبد؛ فقد ذهب لُبُّهُ، وعمى قلبه, فقد ابتلى من الأكابر مالا يحصى, ألا ترى إلى ذبح نبي الله يحي بن زكريا، وقتل الخلفاء الثلاثة, والحسين، وابن الزبير، وابن جبير, وقد ضرب أبو حنيفة، وحبس ومات بالسجن, وجرد مالك وضرب بالسياط، وجذبت يده حتى انخلعت من كتفه, وضرب الإمام أحمد حتى أغمى عليه, وقطع من لحمه وهو حي، وأمر بصلب سفيان فاختفى, ومات البويطى مسجونًا في قيوده, ونفى البخاري من بلده ' .

كذا المعالي إذا ما رمت تدركها فاعبر إليها على جسر من التعب

إن الجنة غالية، لكنها محفوفة بالمكاره, ومن رام السعادة، تصدى لعبور جسر المشقة بالجد والاجتهاد

نماذج ممن سكنوا القمم:

فهذا عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: يقول عنه شقيق بن عبد الله : مرض عبد الله بن مسعود، فعدناه، فجعل يبكى، فعوتب فقال:' إني لا أبكى لأجل المرض، وإنما أبكى أنه أصابني على حال فترة، ولم يصبني في حال اجتهاد، فإنه يكتب للعبد من الأجر إذا مرض، ما كان يكتب له قبل أن يمرض، فمنعه منه المرض'.. والإمام الطبري جلس أربعين سنة..وهو يكتب كل يوم أربعين ورقة في التأليف.

وابن الأثير ألف كتبه الرائعة، كـ'جامع الأصول'، و'النهاية في غريب الحديث'، بسبب أنه مقعد. وابن القيم كتب 'زاد المعاد' وهو مسافر، والقرطبى شرح 'صحيح مسلم' وهو على ظهر سفينة، وشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، جل فتاويه كتبها وهو في السجن, وابن الجوزى يتحدث عن نفسه ويقول:'نظرت إلى علو الهمة فرأيتها عجبًا، وذلك أنني أروم نيل كل العلوم، وهذا أمر يعجز العمر عن بعضه..وأروم نهاية العمل بالعلم، مع مطالعة التصانيف وإفادة الخلق، وأروم الغنى عن الخلق، والاشتغال بالعلم مانع من الكسب، وها أنا ذا احفظ أنفاسي من أن يضيع منها نفس في غير فائدة '.

وهذا عبد الله بن المبارك، نور مرو وجمالها, يقول عنه محمد بن أعين، وكان صاحبه في أسفاره:' كان ذات ليلة ونحن في غزاة الروم، ذهب ليضع رأسه ليريني أنه ينام، فقمت أنا برمحي في يدي قبضت عليه ووضعت رأسي على الرمح كأني أنام كذلك, قال فظن أنى قد نمت، فقام فأخذ في صلاته، فلم يزل كذلك حتى طلع الفجر وأنا أرمقه, فلما طلع الفجر أيقظني وظن أنى نائم، فقال يا محمد, فقلت: إنى لم أنم قال، فلما سمعها منى ما رأيته بعد ذلك يكلمني، ولا ينبسط إلى في شيء من غزاته كلها كأنه لم يعجبه ذلك منى لما فطنت له العمل، فلم أزل أعرفها فيه حتى مات، ولم أر رجلًا أسر بالخير منه'.

وكان على بن الحسين يحمل جراب الخبز على ظهره بالليل ويتصدق به، ويقول:'إن صدقة السر تطفئ غضب الرب'. قال عمرو بن ثابت:' لما مات على بن الحسين فغسلوه جعلوا ينظرون إلى آثار سواد بظهره فقالوا: ما هذا، فقيل: كان يحمل جراب الدقيق ليلًا على ظهره، فيعطيه فقراء أهل المدينة' .

هذا الذي تعرف البطحاء وطأته والبيت يعرفه والحل والحرم

إذا رأته قريش قال قائلها إلى مكارم هذا ينتهي الكرم

وداود ابن أبى هند صام أربعين سنة، لا يعلم به أهله ولا أحد من الناس, وكان خبازًا فيحمل معه طعامه من عند أهله، فيتصدق به في الطريق ويرجع عشيًا فيفطر معهم, فيظن أهل السوق أنه قد أكل في البيت، ويظن أهله أنه قد أكل في السوق .

ينقسم الناس في سكنى القمم إلى أقسام:

1- فمن الناس من يطلب المعالي بلسانه، وليس له همة في الوصول إليها، فهذا متمن مغرور,

2- ومن الناس من لا يطلب إلا سفا سف الأمور وهم فريقان:

أ- فريق ذو همة في تحصيل تلك الدنايا, فتجده السباق إلى أماكن اللهو، ومغاني الغواني.

ب- وفريق لا همَّ له, فهو معدود من سقط المتاع, وموته وحياته سواء, لا يفتقد إذا غاب، ولا يسأل إذا حضر.

3- ومن الناس من تسمو مطالبه إلى ما يحبه الله ورسوله, وله همة عظيمة في تحصيل مطالبه وأهدافه.

وبين هذه الأقسام مراتب كثيرة متفاوتة.

ونرى اليوم من تفاوت الهمم أمرًا عجبًا:فإذا استثنى الناظر في أحوال الناس، أمر العامة، واستثناؤهم واجب، لأنه قد ماتت هممهم، وقعدت بهم عن تحصيل معالي الأمور, واطلع على أحوال الخاصة، من الشباب والدعاة وطلاب العلم، سيصاب بالدهشة لما يراه من فتور الهمة:

فمنهم من إذا قرأ ساعة في اليوم، ظن أنه أتى بما لم يأت به الأوائل.

ومنهم من تتغلب عليه زوجه وعيال فيقطع عامة وقته في مرضاتهم.

ومنهم من اقتصر في تحصيل العلم، على سماع بعض الأشرطة، وحضور بعض المحاضرات.

ومنهم من غلب عليه الركون إلى الدنيا، والتمتع بمباحاتها, تمتعًا يفضى به إلى نسيان المعالي العلية.

وهكذا يندر أن تجد إنسانا استطاع أن يسكن القمم، وان يعلو بهمته، ويجمع شمله ويقصر من الاعتذارات والشكايات, فتصبح حياته مثلًا أعلى يحتذي به, ولكن القليل هم الذين يستثمرون هممهم حق الاستثمار, ويحاولون أن يرتقوا بأنفسهم حق الارتقاء.

إن تحقيق كثير من الأمور، مما يعده الناس خيالًا لا يتحقق, يستطيع سكان القمم بتوفيق الله لهم أولا، وبهمتهم ثانيا, إنجاز الكثير من الأعمال التي يستعظم بعضها من قعدت به همته وظنها خيالًا, وأعظم مثال على هذا سيرة النبي صلى الله عليه وسلم؛ إذ المعروف عند أهل التواريخ أن بناء الأمم يحتاج إلى أجيال لتحقيقه, لكنه عليه الصلاة والسلام استطاع بناء خير أمة أخرجت للناس في أقل من ربع قرن من الزمان, واستطاعت هذه الأمة أن تنير بالإسلام غالب الأجزاء المعروفة آنذاك, وجهاده عليه الصلاة والسلام وعمله وهمته العالية في بناء الأمة أمر معروف.

والصديق رضي الله عنه استطاع في أقل من سنتين أن يخرج من دائرة حصار المرتدين, ولم يمت رضي الله عنه إلا وجيوشه تحاصر أعظم إمبراطوريتين في ذلك الوقت, هذا وقد نهاه كبار الصحابة عن حرب المرتدين، وظنوا أنه لا يستطيع أن يقوم في وجه العرب كلهم, ولكن همته العالية أبت عليه ذلك، واستطاع أن ينجز ما ظنه الناس خيالًا لا ينجز .

سكان القمم يعتمد عليهم، وتناط بهم الأمور الصعبة، وهذا أمر مشاهد معروف, سكان القمم أحدهم يكون بمثابة فريق من الدعاة, يرفع الله به الدعوة درجات, وقد قيل: ذو الهمة وإن حط نفسه تأبى إلا العلو, كالشعلة من النار يخبيها صاحبها وتأبى إلا ارتفاعًا.

سكان القمم قدوة في مجتمعهم, ينظر إلى حاله القاعدون وأنصاف الكسالى والفاترون, فيقتدون بهمته، ويرون ما كانوا يظنونه أمرًا مسطورًا في الكتب القديمة, قد انتهى وعدم من دنيا الناس, يجدونه واقعًا في حياتهم, فيظل هذا الشخص رمزًا للناس ومحل ضرب أمثالهم .

أظنك تريد بعد هذا أن تكون من سكان القمم, إن الارتقاء بالنفس أمر مطلوب, ويتأكد هذا عند عقلاء الناس ودعاتهم ومصلحيهم, و أظنك منهم, وهذه جملة أمور تساعدهم على ذلك :

أولا : المجاهدة: فبدونها لا يتحقق شيء, قال تعالى:{ وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ[69]}[سورة العنكبوت]. من لم يباشر حر الهجير في طلب المجد, لم يَقِل في ظل الشرف, خلق الإنسان في نصب وكبد, هناك من يكدح في سبيل نزوة وشهوة, والعظيم يكدح في سبيل عقيدة ودعوة, وليس للعابد مستراح إلا تحت ظل شجرة طوبى

قف بالديار فهذه آثارهم تبكى الأحبة حسرة وتشوقا

كم قد وقفت بها أسائل مخبرا عن أهلها أو صادقا أو مشفقا

فأجابني داعي الهوى في رسمها من تهوى فعز الملتقى

ثانيًا: الدعاء الصادق والالتجاء إلى الله: فهو المسئول سبحانه أن يقوى إرادتنا, ويعلى همتنا.

ثالثًا: اعتراف الشخص بقصور همته, وأنه لابد أن يطورها ويعلو بها: وهذا أمر أولى، ثم لابد أن يعتقد أنه قادر على أن يكون من سكان القمم

رابعًا: قراءة سير سلف هذه الأمة, أهل الاجتهاد ممن سكنوا القمم: إنها خير وسيلة لإشعال العزائم, وإثارة الروح الوثابة, والتسامي إلى معالي الأمور, إن أخبار العلماء العاملين, والنبهاء الصالحين, تغرس الفضائل في النفوس، وتدفعها إلى تحمل الشدائد والمكاره في سبيل الغايات النبيلة، والمقاصد الجليلة, وتبعثها إلى التأسي بذوي التضحيات والعزمات, وقد قيل قديمًا:' الحكايات جند من جنود الله عز وجل يثبت الله بها قلوب أوليائه'.

خامسًا : مصاحبة بعض من سكن القمم: والنظر في أحواله, وما هو عليه, فهذا من أعظم البواعث على علو الهمة, لأن البشر قد جبلوا على الغيرة والتنافس، ومزاحمة بعضهم بعضا, وحب المجاراة في طبائع البشر أمر لا ينكر, فاتخذ من سكان القمم أعوانًا, واخلط نفسك مع الأبرار, وطهرها من الفجار, واجتنب الصغار الأخطار، فالمرء يعرف بقرينه, فاصحب من يحملك في سيرك إلى الله، لا من تحمله, من يعظك بلحظه قبل أن يعظك بلفظه.

سادسًا: مراجعة جدول أعمالك اليومي ومراعاة الأولويات: الأهم ثم المهم, وهذا أمر مفيد في باب تطوير الهمة, إذ كلما كان ذلك الجدول بعيدًا عن الرتابة والملل, كان أجدى في معالجة الهمة .

سابعًا : التنافس والتنازع بين الشخص وهمته: فعلى مريد تطوير همته أن يضيف أعباء وأعمالًا يومية لنفسه لم تكن موجودة في برنامج حياته السابق، بحيث يحدث نوعًا من التحدي في داخل نفسه بإنجاز ما تحمله من أعمال جديدة, ويجب أن تكون هذه الإضافة مدروسة بعناية وإحكام حتى لا يصاب الشخص بالإحباط واليأس .

ثامنًا : العزم على الكمالات: فمن استوى عنده العلم والجهل, أو كان قانعًا بحاله وما هو عليه, فكيف تكون له همة أصلًا, قال الخليفة الراشد عمر بن عبد العزيز رحمه الله:'إن لي نفسا تواقة, وإنها لم تعط من الدنيا شيئًا إلا تاقت إلى ما هو أفضل منه, فلما أعطيت ما لا أفضل منه في الدنيا, تاقت إلى ما هو أفضل منه- يعنى: الجنة-' .

تاسعًا : التحول عن البيئة المثبطة: إن الماء يفسد بقربه من الجيف, وكذا الهواء, فكيف بأنفاس العصاة ! ألا تنظر إلى فعل المعصية بآبار ثمود بعد آلاف السنين لما مر عليها الصحابة، وأرادوا أن يستسقوا منها منعهم الرسول صلى الله عليه وسلم, وأمرهم أن يلقوا بعجينهم إلى النواضح.

عاشرًا: واقع المسلمين المر: في تاريخ الأمم كبوات وعثرات وآلام, إلا أن الأمة الحية تنهض من كبوتها، وتتجاوز آلامها, بل تكون هذه الآلام باعثًا لها على الكفاح حتى النصر, وفى تاريخ الأمة صعود وهبوط, ضعف الرجال في فترات تاريخية ثم أنجبت الأمة رجالًا غيروا مسار التاريخ, والحاضر الماثل أمامنا اليوم يدل على مولد الكثيرين الذين يستعدون لحمل راية الإسلام, وتغيير مسار التاريخ من جديد, إن الأحداث الجسام التي تمر بها الأمة, تبعث الهمة وتوقظ العزائم, هذا تاريخ الإسلام يحكى أن حالات الضعف والتردي وتسلط الأعداء, تحرك الأمة لكي تسترد التفكير السليم, والعمل الجاد الذي ترد به المعتدى, وتستعيد به عزها ومجدها, في مثل هذه الأحداث تنجب الأمة أبطالاً مجاهدين، وعلماء عاملين, قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: [لَا يَزَالُ اللَّهُ يَغْرِسُ فِي هَذَا الدِّينِ غَرْسًا يَسْتَعْمِلُهُمْ فِي طَاعَتِهِ] رواه ابن ماجة.

الحادي عشر : الابتعاد عن كل ما من شأنه الهبوط بالهمة وتضييعها: من له رغبة مفي أن يكون من سكان القمم, فليختر لنفسه مجالًا يبدع فيه، ويكون عطاؤه من خلاله, فمن وجد من نفسه انصرافًا للعلم وتحصيله؛ فليقبل عليه, ومن وجد منها ميلًا للأعمال الخيرية والإغاثة، فليشارك إخوانه.

فـ إياك إياك أن تكون ممن قال فيهم يحي بن معاذ الرازي رحمه الله:'عمل لسراب, قلب من التقوى خراب, وذنوب بعدد الرمل والتراب, ثم تطمع في الكواعب الأتراب, هيهات أنت سكران بغير شراب, ما أكملك لو بادرت أملك, ما أجلَّكَ لو بادرت أَجَلَكَ, ما أقواك لو خالفت هواك, يا هذا لقد أعظمت المهر وأسأت الخطبة' .

وأخيرًا:

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [مَنْ خَافَ أَدْلَجَ وَمَنْ أَدْلَجَ بَلَغَ الْمَنْزِلَ أَلَا إِنَّ سِلْعَةَ اللَّهِ غَالِيَةٌ أَلَا إِنَّ سِلْعَةَ اللَّهِ الْجَنَّةُ]رواه الترمذي .

يا سلعة الله لست رخيصة بل أنت غالية على الكسلان

يا سلعة الرحمن ليس ينالها في الألف إلا واحد لا اثنان

يا سلعة الرحمن ماذا كفؤها إلا أولوا التقوى مع الإيمان

يا سلعة الرحمن سوقك كاسد الأراذل تفلة الحيوان

يا سلعة الرحمن أين المشترى فلقد عرضت بأيسر الأثمان

يا سلعة الرحمن هل من خاطب فالمهر قبل الموت ذو امكان

يا سلعة الرحمن كيف يصبر الخطاب عنك وهم ذوو إيمان

يا سلعة الرحمـ،ن لولا أنها حجبت بكل مكاره الإنسان

ما كان عنها قط من متخلف وتعطلت دار الجزاء الثاني

لكنها حجبت بكل كريهة ليصد عنها المبطل المتوانى

وتنالها الهمم التي تسمو إلى العلا بمشيئة الرحمن

اتعب ليوم معادك الأدنى تجد راحاته يوم المعاد الثاني

وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين .

من محاضرة:' سُكَّانُ القِمَمِ' للشيخ ناصر الأحمد

===============

#الغرب أستاذ الخداع

عدد6 ذو القعدة 1424.

الصفحة الرئيسة

د. منير الغضبان

الخامس من صفر، هانحن في القرن الثالث عشر الميلادي، وهولاكو على أسوار بغداد.

'دخل المغول بغداد في الخامس من صفر 656هـ 1258م بعد مقاومة عنيفة، وفتكوا بأهلها سبعة أيام أو تزيد، وتم تخريب المدينة وحرقها سكانها وبذلك انتهى الحكم العباسي'.

ففي 10 شباط عام 1258م، 5 صفر 656 هـ هاجم المغول المدينة واحتلوا دار الخلافة، وأسروا الخليفة، وأجبروه أن يبوح لهم بمواضع الذخيرة أو الدفائن السرية، وبعد ذلك أعدموه بخنقه بين الزرابي، وذلك لأن المغول كان لديهم خوف موروث مصدره خرافي من إراقة الدماء الملكية.

وهانحن الآن في القرن الحادي والعشرين ميلادي، وأمريكا على أسوار بغداد.

الأمريكيون في القصر الجمهوري في بغداد بعد سقوط البصرة:

وفي اليوم التاسع عشر من الحرب الأمريكية البريطانية على العراق نقل الأمريكيون المعركة إلى قلب بغداد ودخلت إلى القصر الجمهوري بعدما خاضت معارك ضارية خلال تقدمها، ولم توضح القيادة العسكرية الأمريكية هدفها من هذا الاختراق العظيم في العاصمة.

وشوهدت المدرعات والدبابات الأمريكية وسط بغداد قرب فندقي فلسطين والرشيد حيث يقيم الصحافيون.

بغداد, قاعدة السيلية 'قطر', لندن: الحياة ـ أب رويترز، 'أف ب': اقتحمت القوات الأمريكية أمس 'السابع من نيسان ـ الخامس من صفر' قلب بغداد، وهاجمت القصر الجمهوري في المجمع الرئاسي الذي يضم مباني رسمية عدة، واحتدمت المعارك للسيطرة عليه لساعات ....وأعلن 'لفتانت كولونيل بيتر باير' المسؤول عن العمليات في الغرفة الثالثة الأمريكية إسقاط القصر الرئاسي الأساسي، وقصرًا آخر وسط المدينة، وثالثًا جنوبي غربي بغداد.

ولم يسهم التوغل الأمريكي في تخفيف حدة قصف بغداد الذي تواصل على مدار الساعة، واستهدف أحياء مدينة داخلها، أسفر عن مقتل تسعة أشخاص جراء انهيار مبنى أصابه صاروخ في حي المنصور ... وقال الناطق باسم القيادة الأمريكية في قطر الجنرال 'فيسينت بروكس': إن نظام صدام حسين فقد السيطرة على قسم من العاصمة.

هذا هو الوصف الظاهري للسقوط، وبغداد معقل الخلافة الإسلامية في الأرض قبل ثمانمائة عام ونيف، وبغداد اليوم رمز الصمود والمواجهة للعدوان الأمريكي والصهيوني على الأرض العربية.

حرب التحرير

العدو يعتبر الحرب حرب تحرير، هكذا زعم جنكيز خان، وهولاكو، وتيمور لنك أنهم جاؤوا لإزالة الظلم والقضاء على الاستبداد والبغي البشري، وهكذا يزعم اليوم بوش، ورامسفيلد الرئيس الأمريكي ووزير دفاعه حتى إنهم ليسمون الحملة بحملة تحرير العراق، فكلا السقوطين على يد عدوين لدودين للإسلام وثني وكتابي، وكلاهما يزعم قدومه لاجتثاث ظلم الشعوب من حكامها الطغاة.

حتى ليمكن أن يقال: إن العبارات التي وجهها جنكيز خان، وتيمورلنك، وهولاكو إنما تمثل الواقع المحتوم في هذه الفترة، حيث وصفهم بأنهم 'ملوك وحكام ظلمة قد أشبعوا أنفسهم وأجاعوا شعوبهم، وأنهم غفلوا عن مفهوم الإسلام في عدالته ووحدته في المساواة وألحق، ولذلك فإن الله قد سلط التتار عليهم لينتقموا منهم، وأنهم آية الله على هذه القيادات الظالمة.

هذه العبارات التي أوردها التتار في رسائلهم إلى أمراء الإسلام إنما تمثل مفهوم التطور وحركة التاريخ، فما من قوة تضعف إلا ولقوة أخرى مجددة أن تسيطر عليها، وأن تحل محلها، وأن الدول إذا شاخت كان لابد لها أن تنهار، وكذلك كانت الدول الممثلة للإسلام من سمرقند إلى بغداد في هذه الفترة'616ـ656' بين سيطرة جنكيزخان وهولاكو قد أصابتهم الفرقة والضعف، واستسلمت إلى الترف والانحلال، وانطوت على نفسها فكان لا بد أن تطيح بها قوة جديدة شابة حتى يستيقظ المسلمون من غفلتهم، وقد جاءت موجة المغول الأولى 612هـ بقيادة جنكيزخان في جيش قوامه ستون ألف اجتاح هراة وسمرقند وبلخ وخوارزم وتدفق ما بين الصين والأدرياتيك، ثم كانت موجة المغول الثانية 656هـ بقيادة هولاكو، فاجتاح عالم الإسلام حتى بلغ بغداد فدمرها وأسقط الدولة العباسية، وقتل الخليفة المستعصم، وبلغ الشام واستولى على حلب.

ويعيد التاريخ نفسه لكنه اليوم يأتي باسم الحضارة والتقدم، من زعيمة الديمقراطية في العالم أمريكا، لماذا؟ لتحرير العراق كما أعلن بوش عند انتهاء الحرب.

'لقد حاربنا في هذه المعركة في سبيل قضية الحرية، وفي سبيل سلام العالم .. لقد تم تنفيذ عملية حرية العراق بمزيج من الثقة المتناهية والسرعة والجرأة لم يتوقعه العدو ... وقد صرنا نملك اليوم القوة الأعظم لأن نحرر بلدًا عبر سحق نظام خطير عدواني ... كما أننا شاهدنا من خلال صور العراقيين المحتفين بالتحرر افتتان البشر السرمدي بالحرية، ولم تنجح عقود من الكذب والتخويف في جعل الشعب العراقي يشعر بالحب تجاه مضطهديه، أو بالرغبة في أن يتم استعباده .. إن الرجال والنساء في كل ثقافة يحتاجون إلى الحرية تمامًا كمثل احتياجهم إلى الماء والطعام والهواء ... إننا نساعد في إعادة بناء العراق حيث شيد الدكتاتور قصورًا بدل المستشفيات والمدارس للشعب، وسنقف إلى جنب قادة العراق الجدد أثناء تشكيلهم حكومة جديدة بالشعب ومن الشعب وللشعب العراقي.

إن الانتقال من الديمقراطية إلى الحرية سيستغرق وقتًا، ولكنه يستحق كل مجهود، وسيبقى تحالفنا مع العراق إلى أن يتم إنجاز عملنا، وسنغادر بعد ذلك ونخلف وراءنا عراقًا حرًا'.

إعلان الاحتلال

بعد أقل من شهر يتحول التحرير إلى احتلال بقرار رسمي من الأمم المتحدة وبإجماع أعضاء مجلس الأمن وهذه أهم نقاط هذا القرار:

1ـ يعترف مجلس الأمن بأن قوات الاحتلال ـ ويشار إليها بالسلطة ـ لها سلطة ومسؤولية وواجبات محددة بموجب القانون الدولي.

2ـ تعمل السلطة على تأمين رفاهية الشعب العراقي، وستوفر الظروف التي تسمح له بتقرير مستقبله السياسي بحرية.

3ـ ترفع كل العقوبات التجارية والمالية المفروضة على العراق بعد اجتياح آب 1990م وبعده فورًا باستثناء الحظر على الأسلحة.

4ـ يشكل صندوق لتنمية العراق تحت إشراف المصرف المركزي العراقي ويعين مجلس دولي يضم ممثلين عن الأمم المتحدة، وصندوق النقد الدولي، والبنك الدولي، والصندوق العربي للتنمية، مرافقي حسابات مستقلين.

5ـ تصرف أموال صندوق التنمية بمبادرة من السلطة بالتشاور مع السلطة الانتقالية العراقية.

6ـ يحول مبلغ بليون دولار لم يخصص بعد في إطار برنامج 'النفط للغذاء' فورًا إلى صندوق التنمية، أما العائدات النفطية الأخرى غير المخصصة لغرض معين فستحول إلى الصندوق ما إن تغطي نفقات الأمم المتحدة.

7ـ يتحقق مدققو الحسابات في الصندوق من أن عائدات النفط العراقي، ومنتجات النفط والغاز الطبيعي تباع بأسعار السوق الدولية في حينه.

8ـ تودع كل عائدات النفط في الصندوق حتى تشكيل حكومة عراقية جديدة باستثناء 5% تذهب إلى صندوق الأمم المتحدة لتعويض الأضرار الناتجة عن اجتياح الكويت واحتلالها.

9ـ تكون عائدات العراق النفطية محمية من أي إجراءات قانونية حتى 13 كانون الأول 2007م باستثناء عمليات تلوث أو أي كارثة بيئية أخرى.

10ـ يشجع القرار الولايات المتحدة وبريطانيا على إطلاع مجلس الأمن بانتظام، ومجلس الأمن يدرس تطبيق القرار في غضون 12 شهرًا.

وهكذا أصبحت أمريكا هي المسؤولة عن نفط العراق وتنمية العراق، وحكم العراق على الأقل لسنتين قادمتين، وحيث تصوغ الحكومة العراقية التي تريد، وتتحكم في مصير الشعب العراقي كما تريد، ففي ظل حكومة عراقية، استمرت العقوبات ثلاثة عشر عامًا، وفي ظل الاحتلال ألغيت هذه العقوبات.

أسلحة الدمار الشامل

والظاهر من خطاب الرئيس الأمريكي أن الهدف الرئيسي بل الوحيد هو تحرير العراق المستعبد المتعاون مع الإرهاب، بينما كان سبب الحرب قبل وقوعها هو تدمير أسلحة الدمار الشامل الذي يملكه العراق ويشكل خطرًا على أمريكا، فقد ادعى تشيني نائب الرئيس الأمريكي بعد رفضه أداء الوكالة الدولية للطاقة الذرية في اليوم السابق لإعلان بوش مهلة الثمانية والأربعين ساعة قبل غزو العراق أن لدى الاستخبارات الأمريكية أدلة سرية على وجود السلاح النووي العراقي، يعلن وزير الدفاع الأمريكي دونالد رامسفيلد أمس في 4/5/2003م أن الولايات المتحدة لم تعثر حتى الآن على أسلحة دمار شامل في العراق، وقال رامسفيلد في حديث لشبكة 'سي إن إن': لا يوجد لدى واشنطن أي شيء جوهري للإعلان عن العثور عن أي أسلحة في العراق، ومن جهته أعلن وزير الخارجية الأمريكي كولن باول لشبكة 'إن بي سي' أنه لم يتم العثور على أي أثر لأسلحة نووية في العراق.

فقد قامت الحرب على أساس كاذب باعتراف القادة الأمريكيين الذين اعتبروا العراق خطرًا على أمريكا لامتلاكها أسلحة الدمار الشامل، وأما السبب الآخر وهو موضوع صلة العراق بتنظيم القاعدة الإرهابي، فقد تكفل بتكذيبه عميد مجلس الشيوخ الأمريكي السناتور الديمقراطي روبرت بيرد حيث أبدى استغرابه من تأكيد بوش في خطابه أن صدام حليف القاعدة، والسيطرة على العراق تعتبر انتصارًا للحرب على الإرهاب قائلاً: في الواقع ليس هناك أي دليل يربط هجمات 11 أيلول بالعراق.

ماذا جرى في العراق؟

لخصه الصحفي العربي جهاد الخازن بكلمات قلائل:

'أدت الحرب لإطاحة نظام صدام حسين إلى مقتل حوالي عشرة آلاف جندي عراقي، ومثلهم من المدنيين، ولا يزال المدنيون يقتلون إلى اليوم، وأصبح ثلاثة أرباع مواطني أغنى بلد عربي يعتمدون على المساعدات الغذائية، ولا يجدون ماءً صالحًا للشرب إلا من طريق منظمات الغوث الدولية، وبلغت نفقات الحرب 60 بليون دولار، أما نفقات التعمير فتقدر ما بين مائة بليون دولار ومائتي بليون دولار، ولن ينجو من أذى الحرب الجيل المقبل فواحد من كل أربعة أطفال عراقيين يعاني من سوء التغذية ومن المرض'.

وحين يتحدث عن أسباب الحرب يثير السؤال التالي:

'إذا كانت الحرب التي كلفت هذه النفقات الباهظة في الأرواح والممتلكات شنت لسبب كاذب أو خاطئ، فهل يتحمل الذين خاضوها المسؤولية؟ ويحاكمون أمام محكمة العدل الدولية؟ ويطالبون بالتعويضات المناسبة؟' ويسارع للإجابة بقوله: 'طبعًا هذا سؤال أكاديمي كما يقولون، والجواب معروف، وإدارة جورج بوش لم تعترف بالخطأ ناهيك أن تعتذر عنه، بل إن الرئيس يحتفل بالانتصار كأنه كان هناك شك في النتيجة، والحرب بين جيش موازنته 400 بليون دولار وجيش موازنته 1,5 بليون دولار هذا هو الأثر المادي الظاهري للحرب'، لكننا قبل أن نتحدث عن النتائج المعنوية والبعيدة إضافة إلى النتائج المادية يحسن الحديث تفصيلاً عن الأهداف الحقيقة للحرب الأمريكية، وليس الأهداف المعلنة.

==============

#حركة التغريب تقود بناتنا للهاوية!

عدد 11 ـ ذو القعدة 1424هـ

الصفحة الرئيسة

إعداد: نوال العلي

عالمنا اليوم يعج بالغرائب والتناقضات، ففي الوقت الذي تظهر فيه جماعات تدعو إلى العفة في العالم الغربي ونشط لمنع الاختلاط في مقاعد الدراسة نرى العكس تمامًا في العالم الإسلامي حيث تنشط حركات مشبوهة ترمي إلى تغريب الفتاة المسلمة وإيقاعها في براثن التحرر والتحضر لمواكبة عصرها!

ومن العجيب أيضًا أن نسمع صرخات فتيات الغرب في المدارس العليا والجامعات الأمريكية تعلو بـ'رفض الإباحية' التي انتشرت بسبب الاختلاط والابتعاد عن العفاف، حتى إن الرئيس الأمريكي 'جورج بوش' يطالب بدراسة منع الاختلاط في المدارس الإعدادية والثانوية بعد التقارير التي أكدت لإدارته ضعف التحصيل العلمي للطلاب والطالبات في المدارس المختلطة، وفي فرنسا تقدمت جهات معينة بنفس الطلب ولكن في عربات المترو بسبب زيادة التحرشات الجنسية.

يبدأ من المؤسف حقًا ومع ظهور هذه الاتجاهات نحو الفضيلة والعفاف في الغرب نجد نشاط حركات لنشر الرذيلة والفساد في الشرق من خلال الإعلاميين والأفلام الهابطة والمسلسلات الساقطة وخداع المرأة بالبريق الزائف الذي يسوق في نهاية المطاف إلى الانحراف وينشر السوس الذي ينخر عظام الأمة ب استهدافهم الفتاة.

إنه سم زعاف سرى فأثر في عقل الصغير والكبير .. إنه الانسياق المحموم وراء كل ناعق..

مما جعلنا في هذا الملف نحاول إلقاء الضوء على هذه الحركات ومظاهرها رغبة منا في بيان وجه الحق في تلك القضية وردًا على تلك الدعوات المغرضة بالمنهج الشرعي والحلول الناجحة .. بإذن الله

إفرازات التغريب:

ولجت على نساء المسلمين ترتدي بنطالاً وبلوزة .. لا تندهشي أخية ولا تأخذك الغيرة بأن الداخل رجل، ولا تعجلي فإنها ليست من العمالة الغربية الوافدة إلينا .. بل هي أخت لنا في الله تتكلم بلساننا، وتحيا بين أظهرنا .. لكنه على حد قولها: الموديل .. الحضارة أو التقدم!

لم الركض وراء السراب؟!

تقول هند بنت عبد العزيز: 'قررت أن ألتحق بأحد المعاهد لتعلم اللغة الإنجليزية, وبالفعل حدث ذلك، وإذا بي أرى إحدى الفتيات هناك تضع جلودًا ملونة في يدها وكأنها عضو هام في جماعة 'الهيبز' تلك الجماعة المتشردة وعندما سألتها عن سبب ذلك قالت: لقد وضعتها لأنني أتمنى أن أنجح في امتحان اللغة الإنجليزية، فوجئت بما قالته لي واندهشت من كلامها حقًا! لأنني لم أتعود من فتاة مسلمة هذا الكلام فالمسلم أمله بالله، فهل هذه الجلود التي تضعها ستحل لها الامتحان؟! إنها أفكار دخيلة علينا فلا بد أن نواجهها ونتصدى لها بكل قوة.

تقاليع غربية لفتاتنا:

وتضيف حفصة محمد: 'أتابع أخبار الموضة بشغف وشوق وأركض لأجل أن ألحقها فلا يفوتني منها خبر .. حتى عباءتي تلك السوداء لم تتركها الموضة على حالها, فقد أغراني حب الجديد بأن أتفنن في طريقة لبس لها, فتراني حينًا أضعها على كتفي لا على رأسي لأجل أن أظهر زينتي وشيئًا من أناقتي، أما نقابي بل قل نقاب الفتنة فقد بدأت ألبسه تمشيًا مع الموضة وتحججًا واهيًا بعدم الرؤية، عيناي أظهرتهما مكحلتين من خلال فتحات نقابي، فوقعت في المحظور، الذي كان بإمكاني تجنبه'.

وتقول 'س.ع' ودموعها تسابق كلماتها والحزن يقطع نياط قلبها: 'أنا طالبة متفوقة في المرحلة الثانوية، ولكن منذ أن ارتبطت بالقنوات الفضائية ساء وتدهور مستواي الدراسي, وزاد الطين بلة بعض صديقات السوء اللاتي زيَّنَّ لي الإهمال وعدم الاكتراث والابتعاد عن الخلق القويم .. وعن طريقهن تعرفت على شاب ظل يحادثني هاتفيًا ويمنيني بالأحلام السعيدة! حتى أخذ مني أعز ما أملك، وإذا بي أستيقظ يومًا على خداعه وكذبه!

الموضة:

وتؤكد مني أحمد: 'جيل أهل الفن والتمثيل هم القدوات حتى إن أشخاصهم تشدني وتأخذ بنفسي، وإن هذا الانبهار الشديد بهم لن يكن مجرد شعور داخلي محبوس في نفسي بل انعكس حتى على مظهري فصار لباسي، وقصة شعري وحذائي وحقيبتي، بل كل ما اقتنيه صار ذلك معرضًا متنقلاً لمقتنياتهم'.

لن نعيش في جلباب الغرب:

تحدثت الأستاذة الجامعية سميرة خالد بقولها: 'نفاجأ عندما نشاهد فتاة قد قُص شعرها إلى ما فوق رقبتها، وصُبغ بلون أصفر، وتضع سماعة المسجل في أذنها، وتضع جميع أنواع وألوان المساحيق على وجهها وكأنها أتت لتحضر عرسًا أو حفلة لا مكانًا لطلب العلم، والأدهى ما يُرى من رسمات خليعة على 'البلوزة' والتنورة ذات الفتحات التي تكاد تتمزق على جسمها من الضيق .. وعند حديثها لا تجد منها سوى الغث, فهي تحدث زميلاتها بأنها كانت في الأسبوع الماضي في إحدى دول أوروبا حتى يقال عنها: إنها متحضرة لا متأخرة العقل جاهلة .. فسبحان الله! لهذه الدرجة تلعب حركة التغريب بأفكارنا، ألهذه الدرجة نكون ضعفاء أمامها، أعتقد بل أجزم أن مثل هؤلاء الفتيات لو أن حركة التغريب أمرتهن أن يخرجن من منازلهن بثياب متسخة أو بدون أن يمشطن شعرهن لفعلن ذلك؟'

وتؤكد المعلمة هيا سعود: 'إنني آسف جدًا عندما أرى بعض الفتيات يضعن صور بعض المطربين إما على شنطهن أو يعلقنها في ثيابهن، ولقد قرأت في إحدى المجلات مقابلة أجريت مع أحد المطربين وفوجئت بقول ذلك المطرب الشيطان: 'إنني لو أعلم أن العرب سيسمعون لي ما غنيت', فهل يا أختي الغالية: تحتفظين أو بالأصح تفتخرين بمثل هذه الأشكال وكيف تسمح لنا أخلاقنا بذلك؟! ولو فرضنا مثلاً أن إحدى صديقاتك أظهرت لك البغض والكراهية فهل تتقربين منها أكثر أم تنفرين عنها؟ بالطبع وبالتأكيد لن يكون لها نصيب في قلبك، فكيف بنا نحن الذين نتقرب من أناس لا يضمرون لنا إلا الحقد والعداوة، فقد حاولوا بشتى الوسائل خداعنا ونجحوا عن طريق الموضة التي تتسرب إلى عقولنا كالماء الذي يتسرب في أرض يابسة عطشى.

اليد الخادعة الماكرة:

أما الأستاذة نورة العبد الله فقد طرحت سؤالاً في غاية الأهمية: هل تدرين يا أختاه ما اليد الخادعة الماكرة؟ إنها العناوين المشوقة، والمقالات الساحرة، والكلمات الأدبية التي أمتلأت بها أعمدة الصحف والمجلات والتي تطالب جميعها بحريتك وتقدمك وتطورك ومشاركتك في الحياة .. يكتبها عملاء الماسونية ويحررها أجراء الإباحية لإضلالك والتغرير بك حتى تتركي حجابك وتخرجي من طهرك وعفافك، وتصبحي مسخًا ورجسًا ونجسًا لا خير فيك لنفسك ولا لذويك.

وأد جديد:

تقول فاطمة عبد العزيز: 'إننا في هذا العصر نئد بناتنا, لكن هذا الوأد أشد خطرًا من وأد الجاهلية الأولى، إذ إن المؤودة في الجاهلية في الجنة، أما مؤودة اليوم فهي التي وأدت نفسها، فأذهبت عفتها وباعت حياءها، كيف لا؟! وقد تساهلت الفتاة في الخلوة مع السائق الأجنبي، والابتعاث للدراسة في الخارج من غير محرم أو ضرورة .. بل استطاع منافقو هذا العصر إغواء الفتاة المسلمة عن طريق تلميع الرموز الساقطة في المجتمع من الغربيات والممثلات والرقصات والمغنيات وملكات الجمال، بل إنهم يحاولون استدراج الفتيات المسلمات ـ خاصة النابغات ـ للكتابة أو التمثيل أو الإذاعة'.

كما تقول المعلمة صالحة ماجد: 'بدأنا نلحظ لدى طالبات مدارس المرحلة الثانوية والمتوسطة والابتدائية استعراضات إيقاعية راقصة بلبس سراويل ضيقة تبرز كل عضلات الجسم ومفاتنه وبثوب طوله شبران'.

باب شر وفتنة:

من المعلوم بداهة أن هذا باب شر وفتنة، ولهذا الاستعراض سوابق ولواحق كريهة وله مقدمات هي تدريب هؤلاء الطالبات على الرقص والإيقاع بتلك الملابس الفاتنة حتى يُحكِمن هذا الفن الممقوت تمهيدًا للاستعراض، وضمانًا للنجاح في مجال الشر بإعجاب الحاضرين، وله توابع مرذولة قد ينتهي بهن أو بكثير منهم إلى اتخاذ ما دربن عليه مهنة لهن يكسبن من حمأتها ما يعشن به في دنيا اللهو والمجون'.

وتقول إحدى الأمهات [جواهر بلال]: 'إن بناتنا من أفضل ثمارنا، وخير زرعنا، إنهن الرياحين الناضرة في حياتنا .. إنهن فلذات أكبادنا غير أن هذه الزروع يوشك أن نحرم منها، ويوشك أن تعصف بها الريح، بعد أن طابت ورجونا خيرها وبرها، إنها ريح الإثم والجريمة المنتنة، ريح التبرج والسفور، تنقلها إليهن الصحف والمجلات والروايات الرخيصة التي تنشر الإثم عاريًا وتتحدث عن تحرير المرأة بأسلوب قذر مكشوف .. فتطالب بفتح نوادي رياضية والاشتراك في المسابقات العالمية، والدعوة إلى قيادة السيارة .. في سلسلة من المطالب الرخيصة المبتذلة .. فهل من منقذ لهذه الثمار والرياحين'.

ضرورة كالماء والهواء:

تقول فايزة الشهري وهي من المتأثرات بموجة التغريب: 'إنه ليس من المقبول أن تذهب البنت إلى عملها وهي نفس الشكل الذي كانت عليه بالأمس بل لا بد من التغيير والتجديد وصبغ الوجوه والشعور والأجساد والجري وراء أحداث المبتكرات وعند أمهر ذوي الفن.

دس السم في العسل:

تشير الدكتورة نوف الزيد بقولها: 'اهتم الأعداء بقضية تعليم المرأة لأنه المدخل على عقل المرأة المسلمة وبالتالي حقنه بالأفكار الهدامة والحيلولة بينه وبين منابع الإسلام الصافية، فلقد أيقنوا أن مقاومة الإسلام بالقوة لا تزيده إلا انتشارًا, فالوسيلة الفعالة لهدمه وتقويض بنيانه هي تربية بنيه في المدارس النصرانية وإلقاء بذور الشك في نفوسهم من عهد النشأة وتعويدهم على الاختلاط والمناظر الإباحية, فتفسد عقائدهم وأخلاقهم. وتضيف د. 'نوف' 'بأن من العادات الدخيلة على مجتمعنا إقامة الحفلات المختلطة بين الرجال والنساء في الأماكن العامة، وسفر المرأة بدون محرم لأداء مهام العمل، والاحتفال بما يسمى عيد الأم، ومشاركة النصارى في احتفالاتهم بأعياد رأس السنة الميلادية 'الكريسمس'، فهذه بعض إفرازات الغزو الفكري والثقافي الذي ينخر في جسد الأمة الإسلامية ويسعى لتقويض أركانها.

تشويه آدمية المرأة:

تصرح الأستاذة مها سالم بأن بناتنا أصبحن يرتدين آخر صيحات الموضة من ثياب عارية وتسريحة شعر وحقيبة وإكسسوارات, بل حتى لون العيون أصبح يناسب لون الحذاء, فالبنت تحرص أن تكون صورة طبق الأصل لما جاء في 'مجلات الأزياء'، وهذا بطبيعة الحال يصدر منها دون تأمل أو تفكير، وكثيرًا ما يحرص دعاة الفساد إلى جعل المرأة عنوانًا لكل عرض تجاري أو دعاية حتى ولو كانت إطاراً لسيارة أو علبة سجائر.

هؤلاء هم دعاة الانحراف:

تقول أم علي السالم: 'إن مشاهدة الأفلام المكسيكية والأسبانية الرومانسية المدبلجة التي تعرض في دقائقها الدعوة الصريحة للعشق والزنا واتخاذ الصديق, فضلاً عن الملابس الفاضحة والقبلات المحرمة والتصرفات المؤسفة لهي والله مما يفتك بأخلاق بناتنا ويؤدي بهن إلى الذوبان في أتون التغريب الآسن، ويعظم الأمر إذا كانت المشاهدة هي المرأة غير المتزوجة والتي عرفت بالحياء والعفاف أكثر من غيرها، ومن المؤسف حقًا أن بعض الفتيات يقرأن العشرات من قصص الحب ويتابعن أفلامه ويحفظن قصائده وينتظرن بعد ذلك وبشغف فارس أحلامهن الرومانسي.

كما تصرح أخيرًا: بأن الأفلام الرومانسية قتلت الحقيقة الغائبة في حياة الفتيات, فالشعور بالفرح ارتبط بالأغنية والقطة والمشهد والقصة والمعالجة الدرامية بينما الواقع يشهد بخلاف ذلك'.

تحرر كاذب:

وتضيف أ.حسناء محمد قائلة: 'لقد تبرجت المرأة وتكشفت في معظم بلاد العرب والمسلمين, ومع ذلك لم نسمع أن تطورًا قد حدث، أو مدنية قد ظهرت أو صناعة قد نمت، أو نصرًا قد أحرز، لماذا يصر هؤلاء على ربط الحضارة والتقدم بتخلي المرأة عن حجابها وخاصة الفتاة؟ إن المتأمل يدرك أنهم يفعلون ذلك لكي تفقد الفتاة عفتها، ومن هنا فأنا أدعو كل فتاة مسلمة إلى التحرر من أفكار هؤلاء وأطروحاتهم الخبيثة التي أسقمت القلوب، وأزكمت الأنوف، وأصابت الأعين بالكمه والآذان بالصمم، وتؤيدها الرأي الأستاذة سالمة عبد الرحمن بقولها: 'هل ما نراه من وضع بعض فتياتنا اليوم حقيقة هو بسبب أفكار رموز التغريب التي دسوها بأن المرأة لا تستطيع أن تشارك في مسيرة البناء والنهضة والتنمية ولا تستطيع أن تخدم مجتمعها، ولا تستطيع أن تواكب عصرها إلا إذا خلعت حجابها وداست عليه وتبرجت وكشفت مفاتنها، وما أمر الله بستره واتبعت الموضة الغربية وتشبهت بالكافرات وخلت واختلطت بالرجال في ميادين أعمالهم وغيرها .. وشاركت أعداء الله في أعيادهم ومناسباتهم بدعوى العصرية والعولمة، ومفهوم القرية الواحدة وأجادت فنون الرقص والغناء بدعوى الفن والثقافة واتبعت شهواتها، وتخلت عن حيائها وعفتها بدعوى الحرية و المساواة .. فهذا ما يحاولون نشره وإقناع بناتنا به.

الزينة المزورة:

يذكر الشيخ محمد عبد العزيز المسند بأن الزينة المزورة ليست وليدة في هذا العصر فحسب، بل هي قديمة منذ العصور الأولى, حيث كان جل اهتمام النساء منصبًا على المظهر الحسن واللباس الجميل الزائد عن الحاجة بعيدًا عن خير لباس وهو التقوى إلا من رحم الله، وأوضح في كتابه زينة المرأة بين الطب والشرع بأن مساحيق التجميل تزيد حب الشباب ولها تأثير سلبي على الدم والكبد والكلى وتسبب الشيخوخة المبكرة، والكثير من الالتهابات، وأكثر الفئات التي تقع ضحية لهذه الدعايات المضللة التي لا هدف لها إلا الكسب المادي ولو على حساب الصحة والدين بناتنا المراهقات! وإننا نلاحظ مظاهر انتكاس الفطرة لدى بعض بناتنا سواء أكان ذلك بتركيب العدسات اللاصقة أو صبغ الشعر أو النمص ونحوه، وقد أثنى الله على نساء الجنة بسواد أعينهن، ولكن لما انتكست الفطرة لدى بعض نساء الدنيا، أبين إلا أن يصحبن كالقطط والحيوانات تشبهًا وتقليدًا، وزيفًا ممقوتًا.

الحرب الباردة:

وتتحدث أم سامي أحمد بقولها: 'محلات كثيرة تعرض موديلات وأشكال العباءات والطرح باتباع سياسية تكسير الموجة, فهم لم يطلبوا من نساء المسلمين نزع العباءة مباشرة، فإن في طلبهم ذلك خسرانًا مبينًا وفشلاً ذريعًا لهم؟ فمن الذي يتخلى عن دينه وإيمانه وقناعاته بكل سهولة ويسر؟! ولذا سلكوا طريقة 'بطيء ولكن أكيد المفعول'، فقاموا بالتدرج في زخرفة هذه العباءة حتى وصلت إلى ما وصل إيه حالها الآن، بالطبع اللاتي يشترين هذه العباءات لسن هن نصرانيات أو يهوديات أو نحو ذلك . لا .. إنما الذي يشتري منها هن بنات التوحيد فهل يعقل ذلك...؟!

لكن لو وضعت نساء المسلمين أيديهن في أيدي بعض وعملن على مقاطعة هذه المحلات فهن بذلك يمارسن حربًا وإن كانت باردة لكن لها نتائجها ـ بإذن الله ـ'.

تصور لنا أم محمد ما شاهدته بعينيها في أحد الأسواق: 'فتاتان ليستا صغيرتين أحسبهما فوق الثامنة ـ والله أعلم ـ كل واحدة منهما ترتدي بنطالاً ضيقًا وبلوزة والشعر مقصوص فوق الكتفين، إحداهما ترتدي قبعة ليست من ألبسة المسلمين .. وكأنهما ليستا في بلد عربي مسلم .. فهذه بداية الهاوية .. ولا أخفي على كل أم بأن البنت الصغيرة عندما تكبر سوف تسير على نفس المنوال وستواجه الأم معها مشقة وعنتًا كبيرًا'.

تمدن زائف:

وتشير الدكتورة سهام عبد المجيد إلى ظاهرة انتشرت مؤخرًا وشاعت بين الناس ألا وهي: الحدائق والمطاعم المختلطة للعائلات، وهذا نط دخيل على الحياة الإسلامية وسمة غربية بحتة، وبدأ النسوة يرتدن هذه المطاعم منفردات أو يدعون بعضهن البعض لتناول العشاء أو الغداء.

أما الدكتورة سهام فكان لها طرح قوي حيث قالت: العاقلة العفيفة لا تنساق وراء كل صيحة ولا تتبع إلا ما جاء في الكتاب والسنة، ولا يضرها بعد ذلك إن قيل عنها: إنها لا تعرف الموضة ولا تلبس إلا عباءة المطاوعة، فأهلاً بتلك العباءة إن كانت ترضي ربها، وتدخل بها الجنة، وسحقًا لعباءة الموضة إن كانت تسخط ربها وتكون سببًا في تعذيبها في النار.

ذبح للفضيلة:

تقول الدكتورة لولوة عبد المجيد: 'كيف تقضي المرأة الساعات الطوال في مشاهدة هذا الغثاء وما يتخلله من صور عارية، ومشاهد فاضحة، وعبارات الحب والغرام، ثم تظل على عفافها وحيائها؟! هل يظن أولياء أمور الفتيات حينما يسمحون لبناتهم بمشاهدة هذا الغزو الفكري والنفسي والاجتماعي الخبيث أن بناتهم لن يتأثرن بما يشاهدن ولن يمارسن ما يفعله الساقطات اللاتي يشاهدنهن عبر الشاشات، ألا نبئونا أيها العقلاء لماذا تذبحون الفضيلة وتدثرون العفاف وتنحرون الشرف والكرامة، وتزعمون بعد ذلك أنكم قمتم بأمانة تربية أبنائكم وتهذيب أخلاقهم خير قيام؟!'

وتوضح أمينة السعيد: 'بأن الحرية الجنسية في البلاد الأخرى طاغية في خطابات القراء عندهم، فإذا وجدوا بنتًا معقدة شجعوها أن تنطلق جنسيًا، وتمارس حياتها بلا حدود، أما عندنا فإن البنت عندما تخطئ تكاد تقتل نفسها، وهناك يقولون: إنها إحدى تجارب الحياة، ستتعلمين واحترسي في المرة القادمة.

وإذا كانت حاملاً دون زواج يقولون: وماذا في ذلك؟! أعط الطفل أمومتك، وربيه، وواجهي به المجتمع، الواقع أن هذا شيء مختلف لا يمكن أن يسري عندنا ـ بإذن الله ـ'.

حرية الفتاة بلا حدود:

وتضيف عايدة ثابت: 'إن ما نسميه نحن انحلالاً لا يفعلونه كأي ظاهرة طبيعية أخرى، فلم يعد في مجتمع الغرب شيء مباح وآخر غير مباح، لقد عمدت الصحافة إلى الغش والتمويه وذلك في طرق عرض الجرائم الخلقية، وهي تعرف أن أخبار الجرائم الأخلاقية تثير النفوس، فتعرضها على نحو تهون فيه من شأنها، وتوحي من وراء التعدد والموالاة والتكرارات أن الظاهرة عامة وطبيعية وأنها لا تؤثر على المجتمع .. وهي لا تحاول مطلقًا أن تقدم مع الحدث الوجهة الصحيحة أو الدرس المستفاد أو الدعوة إلى الإصلاح، فماذا ينتظر ممن كانت هذه هي دعواتهم ووجهاتهم سوى سقوط الفتاة في الحضيض.

وتناصرها في وجهة النظر أم مروان حيث تقول: 'انتشر التغريب في البلاد العربية والإسلامية بشكل كبير وساعد على ذلك الوسائل المتعددة من وسائل الإعلام والمجلات والإنترنت, فبالرغم من فوائد الإنترنت العديدة في شتى مناحي الحياة والعلوم، إلا أن نظرة بعض الفتيات ما زالت قاصرة بحيث يدخلن هذه المواقع لمجرد التسلية وإضاعة الوقت ومشاهدة الصور'.

تغريب المنازل والمأكل:

تقول هدى حسن: 'تفشت ظاهرة الديكورات المستوردة التي تواكب الموضة الغربية سواء في أثاث المنازل أو المطبخ وأنواع الجلسات وصور الحيوانات أو التماثل التي تضاهي المنازل الأوروبية مما جعل الفتاة تلهث خلف هذا السراب الخادع حتى يقال: إنها مواكبة للتطور.

وتضيف أ. سعاد سليمان: 'إنه كثيرًا ما تعقد المؤتمرات التي تهتم بقضايا المرأة والتي تسعى حثيثة إلى تغريب المرأة وتجريدها من كل القيم والمبادئ السامية، بل يصرحن بأن المرأة في الخليج لا بد أن تتحرر وتعادل الرجل في كل شيء لهذا عندهم بمثابة تحرير وطن.

البحث عن الفضيلة:

يشير الشيخ خالد الجريسي إلى قضية مهمة للغاية ألا وهي: 'كيف مسخت الهوية لدى المرأة المسلمة وأصبحت تقلد المرأة الغربية وتتشبه بها في كل صغيرة وكبيرة من طريقة قص العشر إلى لبس المايوه وغير ذلك مما قذفت به إليها الحضارة الغربية متناسية قول النبي صلى الله عليه وسلم: 'من تشبه بقوم فهو منهم'، لقد أصبح الغرب بمدنيته وحضارته المبهرجة هو المثل الأعلى للشباب وخاصة المرأة التي تنظر إليه بعين الإعجاب وتسارع إلى تقليده في كل صغيرة وكبيرة.

الضحية الأولى:

ويرى أحمد عبد الله 'بأن الخادمات جلبن معهن الكثير من العادات الغربية على مجتمعنا مثل السفور والتعري أمام رب الأسرة، فأثرهن على الفتيات بلا شك ظاهر ومعلوم، ولقد كنا في السابق نعرف غيرة المسلم العربي على محارمه فهو لا يرضى بأي حال من الأحوال ببقاء رجل أجنبي بين أهل بيته، أما الآن فقد حدث العكس فهو يحضر الأجنبي بحر ماله ويسلم له محارمه أغلى ما عنده يذهب بهن يمنة ويسرة, أما هو فمشغول بمتابعة مباراة ناديه المفضل!'.

ويضيف فهد السامر بقوله: 'عندما خرجت بنت حواء للعمل في الغرب واجهت بمفردها جفاف هذا المجتمع الخارجي وغلظ التعامل معه, فهي راكضة لاهثة تركض في مبدأ حياتها لتتعلم ثم تركض لتعمل وتكسب وتعيش ثم تركض وراء الأزياء ولفت الأنظار لعلها تجد من يلتفت إليها بلا عقد ولا ميثاق غليظ، وهكذا تعيش حاضرًا لا طعم له وحيدة منبوذة وما هي إلا إفرازات البيوت الخربة والمسؤوليات الضائعة فهل تتعظ بنت المسلمين من حال فتاة الغرب؟!

ويؤكد الدكتور هشام عبد الله بأن: 'الحركة النسوية نشطت مؤخرًا لقلب عكس المفاهيم وارتبطت بمصالح مادية وإعلامية وتيارات اجتماعية تعادي الدين والعقائد، تروج للإلحاد والإباحية والشذوذ ا الجنسي، إنها ليست دعوة إلى تحرير المرأة كما يزعمون ولكنها دعوة إلى تحرير الوصول إلى المرأة.

القضية من منظور شرعي:

كل المظاهر التي قرأناها جعلتنا نقف أمام هذه الظاهرة وهذه الحركات فتوجهنا إلى الشيخ عبد الله الماجد ليبين لنا أسبابها: ما أشبه المرأة بالزهرة اليانعة التي تحيط بها الأشواك من كل ناحية .. يريد الأعداء خدش جمالها وحيائها وقبل ذلك إيمانها لعدم تحصنها لعدة أسباب نجملها فيما يلي:

ـ ضعف الإيمان وعدم الخوف من الله:

فالمرأة إذا لم يكن لديها هذا الضابط فإنها تصبح بارودًا يوشك على الانفجار متى وجدت النار حوله ـ وما أكثر وجودها ـ والمرأة إذا نسيت عقاب الله لها لمخالفة أمره تفعل ما تشاء لتمكن الشيطان منها، ورقة قلبها وانسياقها مع شهوات النفس الأمارة بالسوء، وتزيين شياطين الإنس والجن، ولذا قال عليه الصلاة و السلام: 'اطلعت في النار فرأيت أكثر أهلها النساء'.

ـ فساد التربية:

ولا ريب أن مصير المجتمعات مرتهن بالمعتقدات التي يتمسك بها أفرادها، وبخاصة التي ينشأ الأجيال عليها، فالفتاة تتربى وتأخذ عن أهلها، فإذا رأت أمها متبرجة، أو تبرجت الفتاة بنفسها ولم تنه عن ذلك، تفسخت شيئًا فشيئًا وشق تقويمها بعد ذلك.

هذا مع اعتقاد البعض أن التبرج حرية وتطور، فيقرونه ولو رأوا بنتهم متبرجة يقولون: هذه حريتها الشخصية، ويقولون: هي شريفة ولا يمكن أن تخل بعرضها ..! وهذه بداية الهاوية.

كما أن للمدرسة شأنًا في التربية، بل ربما كانت أشد تأثيرًا، فالفتاة تأخذ من معلمتها، كما أنها تقلد زميلاتها وتنافسهن.

ـ وسائل الإعلام:

فقد عمدوا إلى إخراج اللؤلؤة المكنونة، وإلقائها في مستنقعات الرذيلة، فعمدوا إلى تغريب المرأة المسلمة، على مبادئ مدروسة ومحكمة، وهي إن كانت بطيئة نسبيًا، لكنها أكيدة المفعول، وذلك عبر الإذاعة والتلفاز، والفيديو، والمجلات، والإنترنت، ومن خلالها حرضوا المرأة المسلمة على الخروج من الآداب التي تحافظ على شرفها وكرامتها.

ـ التقليد:

وهو ظاهرة اجتماعية نابعة من دوافع نفسية وسنة من سنن الكون, ولذا ربما كان التقليد في الطيب وربما في الخبيث، وفي عصرنا هذا الذي كثرت فيه المدلهمات، أولع النساء بالتقليد إلى حد الجنون وبخاصة تقليد المنحلات في أخلاقهن من نساء الغرب، وحسب آخر صيحات دور الأزياء, فاليوم عباءة مع الجلد وغدًا عباءة مع الجينز، وبعد غد تصير العباءة بدون عباءة، فما دام الأمر صادرًا من دور الأزياء العالمية، فمن يستطيع أن يقول لها: لا، فهم أدرى بما هو أجمل وأفضل! ونحن ننظر لما نحن ندفع ثمنه، إنه غسيل دماغ من الطراز الأول، وعبودية بشكل جديد ووفق أحدث التصاميم الشيطانية.

خواء فكري:

وأضاف الشيخ عبد الرزاق الشهري قائلاً: 'إن قصات الشعر المشابهة للذكور وإن استمرأها النساء وتساهلن بها، وكذلك مشابهة النساء للرجال في اللبس أمر لا يجوز, فكل ذلك نوع من أنواع التبرج والسفور'.

وأما ما يعمد إليه بعض النساء والفتيات خاصة من التشبه بالكافرات والفاسقات من ممثلات ومغنيات وأضرابهن، فلا ريب أنه مما ينافي الحشمة والعفاف، وهو دليل على نقص الإيمان والخواء الفكري.

ثم يشير إلى أنه من الملاحظ على كثير من أولياء الأمور الغياب عن البيوت طويلاً تاركين أسرهم تتصرف كيفما تشاء دخولاً وخروجًا دون حسيب ولا رقيب، ومن العجيب أن هذا الإهمال قد يحصل من بعض الصالحين بحسن النية مثل من يجيء بأسرته للعمرة في رمضان فيعتكف في العشر الأواخر ويترك عائلته في السكن دون راع أو مع راع مراهق وهذا يعتبر من التفريط بالأمانة، فقد قال عليه الصلاة والسلام: 'كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته'، وكفانا وعيد رسول الله صلى الله عليه وسلم فيمن يضيع من هم في رعيته، فعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: 'كفى بالمرء إثمًا أن يضيع من يقوت'.

ـ الانبهار بالمجتمع الغربي موضة أم نقص؟

وفي هذا الإطار يرى الدكتور عبد الرحمن العاصمي ـ أخصائي في الطب النفس ـ أن الفتاة خصوصًا عندما تكون قد تربت في طفولتها على القيم والأخلاق ثم تقع في جحيم الموضة فإن نفسها تكون عرضة لحصول التردد والحيرة والصراع الداخلي بين ما يرضي ربها وما يوافق دينها، وبين ما تدعو إليه الموضة، لذا قد تشعر في أوقات كثيرة بفراغ نفسي مسحوب بشكوى متكررة من الكآبة والملل والسأم, فتعيش في قلق مستمر وعدم تقبل داخلي لذاتها مما يجعلها تشعر دائمًا بنقص في ثقتها بنفسها، هذا من شأنه أن يحرمها من الشعور بالسعادة.

كما أن المجتمع يدفع بالمرأة إلى الجنون, ففي كل دقيقة تظهر موضة جديدة، وفي كل لحظة هناك منتجات جديدة, وفي كل لحظة هناك منتجات خصيصًا للمرأة، وتكثف الدعاية عنها في المجلات ووسائل الإعلام، فتجد المرأة نفسها منجذبة نحو هذا التيار الجارف في المعروضات لدرجة تكاد تدفعها إلى الجنون، إنها تريد أن تجرب كل شيء وتشتري كل شيء، وعندما لا تستطيع تصاب بعقدة'.

ويؤكد علماء النفس 'أن المرأة التي ليس لها رصيد من القناعة، يصبح لها رصيد من العقد، فهناك آلاف الأشياء التي تجذب المرأة إليها، والتي تجعلها تفقد الاهتمام بزوجها ومنزلها، والحل هو أن المرأة عليها أن تلزم التوازن، وأن تحدد باقتناع ما تريد، وتزن الأمور حتى لا تصبح في النهاية فريسة للضياع في بحر من العقد'.

وتوضح لنا قاعدة ثابتة أتت بعد دراسة نفسية .. أن المرأة تحب أن تأوي إلى ركن شديد, فالمرأة التي يعطيها زوجها أو وليها الحرية هي ليست مطمئنة في نفسها لأنها تعلم أنه لا يوجد عندها رجل، وأما المرأة التي تشتكي أحيانًا من أن زوجها شديد وصعب هي واثقة ومطمئنة في نفسها وإن قالت بلسانها غير ذلك.

فهذه دعوة إلى الرجال كي يقوموا بمسؤولياتهم داخل بيوتهم.

الحلول المتاحة:

تذكر الدكتورة هند صالح ـ اختصاصية اجتماعية ـ بعض الحلول التي تطرح نفسها في هذه الظاهرة:

ـ الكأس الفارغ يمتلئ بسرعة، لذا علينا ملء فراغ الفتاة بما يتوافق مع شخصيتها في قراءة أو كتابة أو سماع المفيد ومشاهدته وغيرها، ولا بد من إيجاد مؤسسات أو مراكز تستثمر أوقات الفتيات باستمرار، ففراغ أذهان فتياتنا عن حقيقة التشريع وما هو مطلوب منها يجعلها محطة استقبال لكل ناعق.

ـ توعية الفتاة بمخططات الأعداء التي تحاك تجاه الشخصية الإسلامية، ونشر الوعي الديني والرقابة الذاتية عند الفتاة للوصول إلى العفاف والجنة.

ـ الإكثار من ذكر القصص والنماذج والقدوات من سيرة السلف الصالح في كل مجال لمحو صور بعض القدوات الزائفة التي يقدمها الإعلام اليوم، والتي عششت في عقول وقلوب الفتيات.

ـ صناعة الإعلام الإسلامي ومواقع على الشبكة العنكبوتية .. لتكون بديلاً إسلاميًا يسد فراغًا عظيمًا من شأنه أن يكون سببًا لصلاح الكثيرين وهدايتهم.

ـ تذكير رجال الأعمال بتقوى الله فيما يقيمونه من مشاريع استثمارية والحرص على تنقيتها من أن تكون سببًا في تغريب فتياتنا من اللباس والأنشطة.

ـ التركيز على دور الأب والأم والمربية والمدرسات في حماية فتاة الإسلام، فبعض فتيات اليوم أتيحت لهن فرص الفساد وهيئت لهن أسباب الغواية ولا رقيب ولا حسيب.

ـ الحرص على الرفقة الصالحة والطيبة التي تعين على الخير وتدل عليه .. وترك صديقات الموضة والأزياء والخرافات.

ـ جعل هم الفتاة منصبًا لأمور الآخرة وكيف تجتاز الصراط .. والسعي في العمل الخيري والدعوة إلى الله.

كما تضيف الداعية مها الحمد: 'إن إصلاح المجتمع أو أكثر يكون منوطًا بالمرأة لسببين':

السبب الأول: النساء كالرجال عددًا، إن لم يكن أكثر .. أعني أن ذرية آدم أكثرهم من النساء كما دلت على ذلك السنة النبوية ـ ولا سيما في آخر الزمان ـ.

السبب الثاني: أن نشأة الأجيال أول ما تنشأ إنما تكون في أحضان النساء .. لذلك يجب على المرأة إصلاح ذاتها ودينها ليصلح المجتمع، وتنبه الأستاذة مها الحمد إلى أن دأب دعاة الضلالة بالتغريب تسمية الأشياء بغير مسماها، فتسمي الأحكام الشرعية عادات وتقاليد، وتسمي الباطل بغير اسمه، فالسفور عنده حرية شخصية، والتبرج جمال وأناقة، والفساد حب ومشاعر إنسانية، وتحدي الرجل ومعاملته بالند مطالبة بالحقوق المسلوبة مساواة .. فعلى الفتاة المسلمة أن تحذر من الانخداع أو الانسياق خلف هذه الضلالات'.

كلمة المتميزة:

لصد هذه الهجمات عن مجتمعنا وعن بناتنا خاصة، يجب التمسك بديننا وإدراك خطر هذه الهجمة الشرسة وحقيقتها ومغزاها، والحرص على التربية الإسلامية.

التيقظ وإدراك أن أعداء الإسلام يسعون ويخططون لإفساد بنات ونساء المسلمين بكل وسيلة وبكل طريقة, فاستخدموا المرأة كسلاح لتقويض كل القيم الأخلاقية في بلاد المسلمين, فهي نواة المجتمع, فقد قال أحد كبراء الماسونية: 'كأس وغانية تفعلان في تحطيم الأمة المحمدية أكثر مما يفعله ألف مدفع، فأغرقوها في حب المادة والشهوات'.

كشف مؤامرات دعاة التغريب وفضح أفكارهم واتخاذ الاحتياطيات اللازمة للتصدي لتيارهم التغريبي الخبيث

==============

#الخوف من الإسلام القادم

الأحد 3 ذو الحجة 1424هـ - 25 يناير 2004م

الصفحة الرئيسة

الخوف رد فعل طبعي بالنسبة للإنسان، وهو في نفس الوقت يشكّل أول مراحل المواجهة؛ وهو أول خط من خطوط الإنذار التي تبدأ تشحذ القوى الموجودة عند الإنسان .فيبدأ أولاً بعد الشعور بالخطر بالدراسة والتحليل، ثم يبدأ بشحذ القوى نحو التوقع والدراسات المستقبلية، ثم بعد ذلك يبدأ في وضع الخطوات العملية المكافئة والمناسبة؛ فإن الإنسان إذا لم يكن يدرك الخطر ولم يستشعر الضرر؛ فإنه لا يكون عنده أي حافز وتوجه للقيام بأية صورة عملية في أي ميدان من الميادين

ومن هنا: تكمن أهمية الرصد لظاهرة التخوف من الإسلام؛ لأن هذا الرصد سيوقفنا على طبيعة النقاط والموضوعات المحدَّدة والمعيَّنة لهذا التخوف، وإذا عرفنا هذا سنعلم أن هذه القنوات التي شكَّلت هذا التخوف هي المزايا التي ينبغي أن نحرص عليها .

وسيظهر لنا أيضاً الأمور التي لا تشكل خطراً على الأعداء، فنعرف أنها لا تحتاج منا إلى جهد كبير، وبعضها ربما يحتاج أن نلغيه من صفوفنا؛ لأنه موضع لرغبة العدو المواجه لنا، في أن يكرس هذه الجوانب التي لا يخشى منها.

ومن هنا أحب أن أقول في البداية: أن التخوف هو أول خطوة تنشأ عنها كثير من الخطوات، ذلك أن هناك صيحات لهذا التخوف ليست وليدة اليوم بل هي قديمة، ثم هي صيحات من هذا الإسلام القادم.

فأولًا: نحن نعرف تماماً أن هذا التخوف منشأه الصراع العقائدي الذي هو جوهر الصراع بين الحق والباطل منذ أن خلق الله هذه الخليقة، وبعث فيها الرسل، ومن هنا فإننا نجد أن صيحات التخوف من الإسلام قديمة، فمنذ عهد النبي صلى الله عليه وسلم، ومروراً بالتاريخ كله نجد أنها ظاهرة ملازمة في كل موضع يتعاظم فيه دور الإسلام، وقيامه كمؤسسات أو حكومات، أو تطبيقات متكاملة، ومنذ أن بزغ فجر الرسالة المحمدية بدأ التخوّف، فكما ذكر ابن كثير في تاريخه: ' لما قدم النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة عندما وصل إلى قباء قبل أن يدخل المدينة، ذهب حيي بن أخطب زعيم اليهود ومعه أخٌ له يقال له أبو ياسر، ذهبا لاستطلاع الخبر، فذهبا ثم عادا مرة أخرى إلى مكانهما وهما كالَّين تعبين على ظهورهما كأمثال الجبال من الهموم، فقال أبو ياسر لأخيه: أهو هو ؟! - يعني أهو محمد المذكور خبره - قال: نعم، فقال: ما لك عنده ؟، فقال: عداوته ما بقيت ' .

وهذا يدلنا على أن الإنذار المبكر بمجرد معرفة الإسلام الصادق الصحيح الذي هو تصوّر كامل لهذا الوجود، والذي هو تشريع كامل يتناول ميادين الحياة، والذي هو تطبيق عملي يتجاوز مجرد الشعارات والنداءات، بمجرد وجود هذه الظاهرة يبدأ التخوف .

ومنذ بدايات هذا القرن في أوج التفوق الاستعمارى الغربي الصهيوني، كان هذا الأمر لا يجعلها غافلة عن حقيقة الخطر الذي يتهددها، والكامن في طبيعة وحقيقة هذا الدين، حينما يتضح لحملته وأبنائه، ثم يحصل التفاعل بين هذه الحقيقة وبين حامليها، مهما كانوا قلة، ومهما كانت إمكانياتهم محدودة، فمنذ بدايات هذا القرن، وحين دخل النصارى واليهود إلى ديار الإسلام بقواهم العسكرية وغزواتهم الفكرية، وهم ينبهون على هذا الخطر .

صيحات التخوف القريبة العهد

الوقفة الأولى: التخوف من تمكّن الإسلام في دياره: ومن هذه النماذج: مقال لصحفية يهودية اسمها روث كارث تقول فيه: إن قادة الحركة الإسلامية يحاولون إقناع العرب بأنهم أسمى الشعوب على وجه البسيطة، وأن الإسلام هو خير الأديان جميعاً، وأفضل قانون تحيى به شعوب الأرض كلها ' . ثم تتابع قائلة:'والآن وقد أصبح قادة الحركة الإسلامية ينادون بالاستعداد للمعركة الفاصلة التي توجه ضد التدخل المادي للولايات المتحدة في شئون الشرق الأوسط، وأصبحوا يطلبون من كل مسلم أن لا يتعاون مع هيئة الأمم المتحدة، فقد حان الوقت لكي يعرف الشعب الأمريكي أي حركة خطرة هي هذه الحركة الإسلامية ' .

ووقفة أخرى مع تعليق في راديو إسرائيل في إحدى نشراته في الأعوام القريبة، يقول المعلق:

' إن عودة الروح الدينية للظهور من جديد في المنطقة، تشكل تهديداً مباشراً لمستقبل إسرائيل ومستقبل الحضارة الغربية بأسرها ' .

والقضية عندهم ذات بُعد تأصيلي، يظهر ذلك أيضاً في كلام لخبيرة سياسية أمريكية اسمها روبرن رايت:'إن على الغرب أن يدرك أنه أعجز- الغرب كله على اختلاف حكوماته وقواته ـ أنه أعجز من أن يواجه هذه الصحوة مواجهة عسكرية، وإن من الأفضل أن يسالم الغرب الإسلام' .

ويقول جيمس بل أستاذ العلوم السياسية بأنه:'يتنبأ أنه من خلال الأربعين سنة القادمة، سوف يكون الإسلام الجماهيري قوة أيدلوجية في العالم' .

ويقول ألبير شامبو في كتابه عن 'حمراء غرناطة':'هذا العربي الشجاع استطاع أن يغزو نصف العالم، وترك لنا في حمراء غرناطة آثار فخاره، إن هذا العربي الذي نام نوماً عميقاً قد استيقظ وأخذ ينادي العالم ها أنا لم أمت، من يدري قد يعود اليوم الذي تصبح فيه بلاد الفرنج مهددة بالعرب المسلمين مرة ثانية في الوقت المناسب والزمن المناسب، فيحطمون الغرب عدوهم الأبدي' .

وهؤلاء القوم نعرف أنهم إلى حد ما لا يتكلمون من فراغ، فيؤكد ويقول:' لست أدعي النبوة ولكن الأبحاث تدل على ذلك، والأمارات التي تدل على هذه الاحتمالات كثيرة جداً ' . فإذاً القضية مبنية على دراسة.

ثم يؤكد خطورة الأمر بالنسبة له ويقول:' أبيدوا هذه الأشباح التي تنتظر البعث، أسكتوها إلى الأبد' . فهو يرى ليست هناك طريقة إلا الوأد الخفي قبل أن يولد المولود، ويستهل صارخاً ثم يغدو فتى يافعاً ثم يمارس دوره في هذه الحياة.

هذه صيحات تحذّر من الإسلام بشكل عام ضد الحضارة الغربية كلها على اختلاف حكوماتها وقواتها، وكذلك التحذير قويٌ جداً من الخطر الإسلامي في شرق العالم، وبالذات في الاتحاد السوفيتي الذي انتهى أمره إلى ما هو معلوم، فذكرت مجلة جورج كوركنيل وهي من ا لصحف اليهودية الواسعة ا لانتشار في مقال لها تربط الخطر وأنه يعم كل العالم حتى المعسكر الشرقي والروسي في ذلك الوقت:' إنه لا العالم الغربي ولا الإتحاد السوفيتي أن يرقبا بهدوء هذه اليقظة الإسلامية، التي لو أُسيء استعمالها من قبل الجماعات المتعصبة، لنتج عن ذلك ليس هلاك إسرائيل، وإنما زعزعة استقرار جزء كبير من العالم، ولن تسلم من ذلك لا الحضارة الغربية، ولا الحضارة الشيوعية ' ويقول السفير اليهودي في الأمم المتحدة:'إننا نشهد اليوم ظاهرة غريبة ومثيرة للاهتمام وتحمل في ثناياها الشر للمجتمع الغربي بأسره، وهذه الظاهرة هي عودة الحركات الإسلامية التي تعتبر نفسها عدوة طبيعية لكل ما هو غربي، وتعتبر التعصب ضد اليهود بشكل خاص، وضد الأفكار الأخرى بشكل عام فريضة مقدسة ' .

وأيضاً نلمح أن القضية عند القوم واسعة المدى من حيث التخوّف من الإسلام في عقر ديار الغرب والكفر، ومن هنا تقول إحدى الصحف السويدية تبين هذه الظاهرة وتخوِّف منها:'إن الإسلام بدأ ينتشر في الولايات المتحدة الأمريكية، بسرعة مذهلة ' . وأضافت الإحصائيات الرسمية التي قدمها مركز إعلام الاتحاد المسيحي في بريطانيا:'أن معدل انتشار المساجد في أمريكا هو مسجد واحد في كل أسبوع ' .

وأصدر وزير الداخلية الفرنسي السابق أوامره إلى كبار موظفي الوزارة بإعداد تقرر عن فرنسا 'ذات الألف مئذنة والألف مسجد' على أن يبينوا كافة التفاصيل عن تأثير الأصوليين الإسلاميين، فالظاهرة بدأت تأخذ حجمها في الخوف في داخل ديار القوم، وأحد الكتاب جير كيبل له كتاب [ فرنسا ضاحية الإسلام ]، وعنوان الكتاب ينبئ عن التخوف الكبير والرصد التحليلي الذي يعتمد على الإحصائيات والتنبؤات المستقبلية، فيقول: ' فرنسا ضاحية الإسلام كأنها أصبحت إحدى عواصم الإسلام ليس في العصر الحديث، وإنما في العصر الإسلامي الزاهر '، ويقول: ' إن هذه الانفجارة الكبرى في تأكيد الهوية الإسلامية خلال ما يقل عن العقدين الآخرين تمثل مشكلة تواجه المجتمع الفرنسي لم يسبق له مواجهة مثيل لها من قبل، وأعتقد في بعض الأخبار التي تتداول سواء في بعض الحوادث البسيطة مثل حوادث الحجاب وغيرها، ما يبين كثير من هذه الظواهر' .

ولذلك روبن رايت تقول مرة أخرى حول الأصولية الإسلامية: ' إن على أمريكا والغرب عموماً إدراك أن الأصولية الإسلامية لا يمكن أن تُحْتَوَى، أو يكون لها هزيمة عسكرية، أو مقاطعة إقتصادية؛ لأنها ليست ذات حدود ولكنها موجات تتحرك على مساحات شاسعة ' .

ولذلك تقول: ' إن الطريقة الوحيدة التي يمكن أن يتبناها الغرب هو التعايش والوفاق مع هذه الأصولية '، طبعاً من وجهة نظرها، وتقول: ' يجب أن نعترف أن الإسلام قوة أيدلوجية وقدرة ترشحه للبقاء فتيَّاً معافاً قادراً على العطاء وإثبات الحضور حتى قرننا المقبل ' .

فإذاً الجانب الآخر: هو أن الصيحات والتخوف من الإسلام في داخل دياره ظاهرة واضحة جداً .

طبعاً لا شك أن أبرز صيحات التخوف وأكثرها وضوحاً، تخوُّف اليهود من الإسلام القادم؛ لأنهم يعلمون أن قضية وبؤرة الصراع بين الإسلام وبين اليهودية سيما التفوق اليهودي الحالي، وعلمهم أنه أحد الجولات، وأن الجولة القادمة طال الزمان أو قصر للإسلام، ولذلك أصبحت الدراسات والحديث يتعلق كثيراً بالربط المباشر والكبير والضخم جداً بين العمل الإسلامي بشكل عام، وظهور الروح الإسلامية في غالب الأراضي الفلسطينية المحتلة أكثر من أي وقت مضى، وهذه صورة واضحة جداً . الوقفة الثانية: دراسات وتحليل: ليست القضية هي عبارة عن مقالات، أو عبارة عن تصريحات عابرة، وإنما هي صورة أخرى لها، وهي صورة الدراسة والتركيز والتحليل حول هذه الظاهرة الإسلامية من منطلق التخوف منها .

ملامح من الدراسات حول الظاهرة الإسلامية:

أولاً: عقد مركز الدراسات العربية المعاصرة في جامعة ' جورج تاون ' بواشنطن ندوة استمرت يومين عن العمل الإسلامي .

ثانياً: جمعية دراسات الشرق الأوسط في مؤتمرها السنوي العشرين والحادي عشرين في مدينة بوسطن وبلتمور في نوفمبر 1986م ـ 1987م تخصص هذين المؤتمرين لدراسة الظاهرة الإسلامية.

ثالثاً: تصريح بأن أحد الرؤساء في مراكز الأبحاث تلقى مبلغاً قدره خمسين ألف دولار من وكالة المخابرات المركزية مقابل تنظيم مؤتمر عالمي عن الإسلام الأصولي .

رابعاً: عقدت وزارة الخارجية الأمريكية عام 1987 م سيمناراً حول الأصولية الإسلامية ووجهات النظر على السياسة الأمريكية .

خامساً: على مستوى أوروبا عقد مؤتمر أوروبي لمناقشة ظاهرة المد الإسلامي في منطقة الشرق الأوسط، مما يدل أيضاً على أن القضية ذات طابع عملي ودراسة في هذا الباب .

ومن هنا يتنادى هؤلاء المذعورين إلى ضرورة الجانب العملي في هذا الباب، ولذلك من هذه الدراسات خلاصات تقول: ' لا بد من الاعتراف أن الحاجة ملحة لمزيد من المعلومات عن تكوين هذه الحركات وأعضاءها ' .

وتجدر الإشارة إلى القول بأن كثير من هذه الدول تفرغ أجهزة متخصصة للرصد والتحليل والدراسة، فالدراسات المتعلقة بالمخابرات الأمريكية أو الإسرائيلية نجد أن التخصص في هذا الجانب والتركيز على تبادل المعلومات فيه قوياً ووطيداً، حتى إن بعض الدول الغربية عندما تعطي تأشيرات للدخول إذا جاءت طلبات من مسلمين أو عرب، فإنها قبل إعطاء التأشيرات ترسل مباشرة إلى إسرائيل لتأخذ بعض المعلومات إن كان هناك تحفظات على اعتبار أن إسرائيل في نظر بعض الدول الغربية تعتبر ملف المعلومات الأقوى، بحيث توفر عليهم وتعطيهم التحذير المطلوب والمناسب بشكل يؤدي الحاجة التي يحتاجون إليها، وهذه كثيرة جداً بحيث تغني عن ذكرها بشكل أو بآخر .

الوقفة الثالثة: الصور العملية في التخوف من الإسلام:

الصورة الأولى: عمل المؤتمرات والدراسات التخصصية:وأعتقد أن بعض الجهود البسيطة في هذا الشأن تعطينا مثالاً على ذلك، ومن ذلك أحد مطبوعات الرابطة عن الصحوة الإسلامية في الصحافة الغربية .

الصورة الثانية: جمع وتبادل المعلومات:عن العمل الإسلامي بين أعداء الإسلام رغم اختلافهم، ومن ذلك من أول الإستثمارات اليهودية لتفكك الإتحاد السوفيتي الحرص على هذه المعلومات التي لم تكن متوفرة لديهم بشكل أو بآخر .

الصورة الثالثة: التحذير والتخويف:للحكومات في المناطق الإسلامية وغير الإسلامية، التي قد يرى أنها غافلة عن هذا الخطر، أو على أقل تقدير لا تعطيه الاهتمام المناسب.

الصورة الرابعة: التضييق والتعطيل:لمشروعات العمل الإسلامي المتعلقة بمجالات الحياة الحيوية.

مواضع التخوف من الإسلام

السؤال المهم وأحد النقاط الجوهرية في هذا الموضوع هو:ما هو بالضبط موضع التخوف ؟.

هل التخوّف من بعض الصور الشعائر التعبدية، من بعض الأفكار، من أي شيء على وجه التحديد؟ لا بد أن نستخلص أهم وأركز الأشياء التي هي مبعث التخو،ف لماذا نستخلص هذا ؟ لنعرف أن هذه الجوانب التي هي أكثر الجوانب إرهاباً، أو تخويفاً لأعداءنا قطعاً ستكون أهم الجوانب التي نعطيها الأولوية والدعم في العمل؛ لأنها ما دامت هي موضع التخوّف فلا شك أنها ستكون هي الموضع الذي فيه الفاعلية، والقوة المؤثرة.

ويمكن أن نلمح ثلاث محاور أساسية، ربما فيها تقارب أو تدرج لكنها تنبئنا أن الجوهر يتعلق بهذه النواحي:

الموضع الأول: النظام السياسي في الإسلام: التخوّف من ربط الإسلام بالسياسة، ثم في مرحلة أخرى هل يرقى هذا النظام لو فرض التسليم بوجوده هل يرقى أن يصل إلى مرحلة قيام الدولة وتطبيق الحكم الإسلامي .

الموضع الثاني: تطبيق الشريعة الإسلامية: أو بتعبير آخر كما يقول البعض: ' قيام الدولة الدينية ' .

الموضع الثالث: نهج الجهاد في الإسلام: هل هذه الدولة الإسلامية- إن وجدت- ستتبنى أحد أكثر الأمور إرهاباً أو تخويفاً لأعداء الإسلام ؟ هل تتبنى نهج الجهاد الإسلامي الذي يدعو إلى تحرر كل الأرض من كل سلطان إلا سلطان الإسلام .

ثلاث نقاط أساسية وجوهرية وهي في حقيقة الأمر تدرجية:

1- خوف من سياسة الإسلام .

2- ترقي ذه السياسة لأن تكون دولة تحكم وتطبق؟

3- تكون من منهاجها أن ترفع راية الجهاد وتتحرك ؟

هذه الجوانب الثلاثة، هي التي حظيت بكثير من الدراسة والتحليل والتخوف، هذه القضايا في الجوانب الثلاثة نوجزها:

الموضع الأول: الإسلام السياسي: نجد التركيز منصباً بصورة واضحة على أن يكون للإسلام دور في أي مجال يمكن أن يُحتمل هذا إلا أن يكون له صلة بالناحية السياسية، ولذلك يقول د. كمال أبو المجد في حوار لا مواجهة، يقول:' الإسلام لم يفرض نظاماً سياسياً مفصلاً، والخلافة ليست نظام محدد المعالم ' .

وكل النصوص التي نوردها عنهم إنما تهدف في آخر الأمر إلى قضية واحدة، وهو أن يُعرَّى الإسلام من ثوبه السياسي ونظامه المستمد من نصوص كثيرة، وتطبيقات عملية امتدت واستمرت زمناً ودهراً طويلاً، يقول أيضاً رأي آخر نرفضه كذلك: ' يرى أن للإسلام نظام في الحكم، مفصَّل المعالم متميز القسمات أقامه النبي صلى الله عليه وسلم وألزم المسلمين من بعده بإقامته، وأنهم أقاموه في أيام الخلافة الراشدة قبل أن تتحول إلى ملك عضوض وأن على المسلمين أن يرفضوا كل ما حولهم من أنظمة الحكم والسياسة وأن ينحوها عن مقاعد السلطة والرئاسة ليجعلوا نظامهم الإسلامي على رأس دولتهم الجديدة ' .

هذا المبدأ المرفوض يراد أن يكرَّس سواء في دراسات الغرب، أو في دراسات أتباع الغرب ممن تأثروا بهم، أو نهجوا نهجهم، ولذلك نجد هذه القضية واضحة في كتابات كثيرة، ومن ذلك أيضاً كلام للدكتور محمد خلف الله في كتاب [ النص والحكم والاجتهاد في الإسلام ]، يقول: ' إن التاريخ الإسلامي يكشف لنا عن حقيقة أن نظام الخلافة ليس مصدره النص وإنما مصدره الاجتهاد '، ثم يقول: ' ونحن حين نقول الاجتهاد في هذه القضية إنما نعني أن العقل البشري هو الواضع لنظام الخلافة، وهنا حقيقة لا بد من لفت النظر إليها وهو ما كان من اجتهاد العقل البشري لا يكون ديناً وإنما يكون تشريعاً مدنياً ' .

وهذا النص لا يخفى ما فيه من تفريغ الإسلام من هذا المضمون المهم، الذي هو أحد أخطر التفاعلات الحديثة بين المسلمين والصحوة الإسلامية في هذا العصر .

وأيضاً يؤكد هذا الكلام في نص آخر يقول فيه: ' نظام الحكم والإسلام مصدره الاجتهاد وليس النص، وما جاء عن اجتهاد يمكن أن يستبدل به اجتهاد جديد يحقق المصلحة، والجماعات الدينية يجب أن تترك هذه القضية لتكون محل اجتهاد جديد، لأن الفكر السياسي في نظام الحكم فكر بشري خالص تستطيع المؤسسات العلمية من أمثال كليات العلوم السياسية أن تجتهد فيه، وليس من أمثال الكليات الشرعية ولا العلماء أن يخوضوا في مثل هذا المجال ' .

وأيضاً نجد أن د. محمد عمارة في 'المعتزلة وأصول الحكم' يقول: ' الإسلام له مفاهيم عليا ومثل عليا ثم للناس أن يحددوا ويشرعوا ويطوروا حياتهم وفق المصلحة، فليس الحكم ـ لاحظ هذه العبارة - ليس الحكم والقضاء والإمامة والسياسة ديناً وشرعاً وبلاغاً يجب فيهما التأسي والاحتذاء بما في السنة من وقائع وتطبيقات ' . لا يجب هذا الأمر ولذلك هنا كان التنبيه على هذا ا لجانب بشكل إجمالي .

الموضع الثاني: تطبيق الشريعة الإسلامية، أو إقامة الدولة الإسلامية: ونحن نعلم كم هي الصراعات والصيحات في هذه النقطة حتى إن مجلس الشعب المصري أصدر قرارًا رسميًا واعتمد بشكل أو بآخر بأن لا يفتح في موضوعات المجلس بصورة أو بأخرى في أي جلسة موضوع تطبيق الشريعة، وأغلق الباب فيما هو مقرر حتى الآن

فنجد أن قضية إقامة الدولة الإسلامية موضع نقد شديد وموضع تخوف كبير، تصور أن تطبيق الإسلام كما صرح بعضهم: ' إذا طبَّقْنا الإسلام وطبقنا الشريعة سنجد أن نصف المجتمع مقطوعي الأيدي وذوي عاهات ' . على اعتبار تطبيق الشريعة .

التصوير المرعب والمخيف لعموم المجتمعات المسلمة من تطبيق الحكم الشرعي الإسلامي خاصة أنهم يتناولون جانب تطبيق الحدود، وكذلك جانب تصوير أن إقامة الحكم الإسلامي سيجعل المجتمع المسلم، الذي يقام فيه هذا الحكم، مجتمع ضيق في علاقاته، عدائياً في معاملاته، بل بدائياً في تصوراته، وهذا التأكيد دائماً نجده في كثير من المقولات التي تعالج أو تنتبه إلى هذا الموضوع، وطبعاً النصوص في ذلك كثيرة، ربما نختار بعضاً من النصوص التي تؤكد التخوف من هذا الجانب، أو العداء له على وجه الخصوص، قول د. محمد عمارة: ' إن أحداً لن يستطيع الزعم بأن الشريعة يمكن أن تثبت عندما قرره نبي العصر ـ يعني أن تبقى كما كانت في عهد النبي صلى الله عليه وسلم - ثم نستطيع أن نطبقها اليوم في هذا الجانب ' .

ثم تصوير الشريعة بأنها نوع من السيطرة والقهر، وللأسف أن كثيرًا من هؤلاء دخلوا في كلامهم على أنهم مفسرين، وأنهم فقهاء مجتهدين، وأنهم أصحاب علم بأصول فقه، وغير ذلك، ولذلك يقول محمد خلف الله: ' إن القرآن الكريم كان يلفت ذهن النبي صلى الله عليه وسلم أنه ليس على الناس بوكيل، أو مسيطر، أو جبار، أو ما إلى ذلك من كل ما هو من شئون الحكم والرئاسة ـ وهذا هو التفسير عنده لـ:{لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُسَيْطِرٍ[22]}[سورة الغاشية] أي: فيما يتعلق بشؤون الحكم والسياسة - وعلى أساس هذا كان القرآن يطلب إليه أن يترك أمر معاقبة الناس على مخالفتهم تعاليم الله على الله نفسه 'اهـ . وهذا يعني عنده أنه ليس هناك من حاجة إلى تطبيق الحكم والسياسة، أو التشريع الإسلامي .

وأيضاً النقد لهذه الظاهرة يتركز في نقد المنهج حتى في الصور التي يتشبث بها المسلم الواعي ويرتبط بها، ومن أقرب الأمثلة كلام الإسلاميين عن الخلافة العثمانية وما كان لها من دور، وأنها كانت نموذجًا لوحدة الأمة الإسلامية، نجد أن الطعن في هذا الجانب في الدراسات التاريخية والمنهجية كثيرٌ جداً مما يؤكد أن هناك تخوف من أن تكون حكومة، أو تطبيق للشرع الإسلامي بتكامله المنهجي .

ولذلك يقول د. محمد جابر الأنصاري - منزعجاً بشدة لتلك المحاولات العجيبة التي تحاول إعادة الاعتبار للتاريخ العثماني ولتاريخ السلاطين الأتراك في العالم العربي والإسلامي، باعتبارهم رموزاً للجامعة الإسلامية وللكيان الإسلامي الواحد -: ' وهذا المنحنى التاريخي الجديد للثقافة العربية الإسلامية المعاصرة، مرده إلى إخفاق الحركات القومية والتقدمية التي ثارت على الدولة العثمانية وانفصلت عنها لإقامة ... النظام المصري الجديد وهو منحنى يرتبط بمفكري الاتجاه الإسلامي الجديد وفصائله ' .

ولذلك نجد الكتابات مركزة في هذا الجانب، حتى كتب د. عبد العظيم رمضان في أكتوبر [ وجلدوا الأئمة الأربعة بالسياط ]، واستعرض فتنة الأئمة الأربعة الإمام مالك وأبو حنيفة قال: ' هذه الحكومات والتطبيقات للشريعة الإسلامية التي تريدونها انظروا كيف كانت في العصور التي تستشهدون بها انظروا كيف جلد الإمام مالك والإمام الشافعي وأحمد بن حنبل وأبو حنيفة !' .

كنوع من استقراء لبعض الحوادث التاريخية الجزئية في غير تكامل منهجي، وهذه نقطة مهمة؛ لأن الدراسة التاريخية المجتزأة يمكن أن تغير نظرة الإنسان في قضية معينة، فإذا أخذنا هذا الجانب كحادثة معينة، إذاً تشوه التطبيق بينما هي نموذج لقضايا معينة محدودة معروفة الأسباب، ويمكن فهمها في غير هذا الإطار المجتزأ، فيقول:'لست أعتقد أن هناك من المسلمين من يرفض سيرة عثمان بن عفان كحاكم ـ يقول-: رفض حكمه كبار الصحابة من معاصريه لدرجة قتله، ورفض دفنه في مقابر المسلمين، ثم دفن دون الصلاة عليه إلى آخر هذه الوقائع المحزنة'اهـ . وطبعاً ليست وقائع حتى تكون محزنة لأنها ليست صحيحة .

الموضع الثالث: منهجية الجهاد في الإسلام:حينما تقوم الدولة الإسلامي هل ستأخذ بهذا النهج ؟ طبعاً الاستماتة كبيرة جداً في هذا الجانب، ولعل أهم النقاط التي ربما تلفت النظر في التغيرات السياسية التركيز على مبدأ الجهاد، حتى أن شامير الهالك في افتتاحه الرسمي في مؤتمر مدريد للسلام، قال بالحرف الواحد:'عليكم ـ هو يخاطب الوفود - أن تعملوا على إلغاء الجهاد ضد غير المسلمين ' .

وقضية الجهاد لا شك أنها أحد أهم مواطن الإرهاب الذي يخشى منه غير المسلمين، لذلك للأسف من مقالات نفس الباحثين أو غيرهم نجد هذه الصورة واضحة، يقول د. محمد عمارة: ' لا الحرب التي كانت في حروب الردة كانت دينية، ولا حروب علي مع خصومه كانت دينية، لأنها كانت حرب في سبيل الأمر، أي في سبيل الرئاسة والإمامة، وهذه سلطة ذات طبيعة سياسية مدنية، ومن ثم كانت الحرب التي نشأت لأجلها سياسية مدنية 'اهـ. إذاً ليس هناك شيء اسمه حرب دينية أي جهاد إسلامي، ويقول أيضاً في كتابه' الإسلام والوحدة الدينية': ' أنه طوى صفحة التاريخ الذي كان يقسم الناس إلى مؤمنين وكفار، طويت هذه الصفحة ليبسط مكانها الحضارة الحديثة، التي تميز بين الأمم والشعوب على أساس فقط من التحضر والخشونة والبداوة ' .

والعشماوي ألف كتاباً كاملاً عن الإسلام السياسي جعل نصفه عن الجهاد في الإسلام واستقرأ بعض الآيات، وخرج بقرارات أو بتصورات يريد أن يكرسها، من ذلك قوله: ' المعنى السليم للجهاد فُسِّر خطئاً من جانب بعض الفقهاء، وحُرِّف عمداً من جانب بعض السلطات السياسية في التاريخ الإسلامي، ونحن نعلم أنه ما من كتاب فقهي على أي مذهب من المذاهب إلا وفيه باب من أبواب الجهاد وأحكامه والفيئ والغنيمة لأنها نصوص قرآنية ثابتة ' .

ويقول هنا أيضاًً: ' أنه فُسِّر خطئاً من جانب بعض الفقهاء، وحرف عمداً من جانب بعض السلطات فبعض الفقهاء الذين أثروا على العقل الإسلامي و يقولون أن الصلة بين الإسلام وغيره من الدول أو المجتمعات هي الحرب دائماً ' .

طبعاً التقسيم الإسلامي: 'دار حرب' 'دار إسلام' تقسيم فقهي مؤصل له تفصيلاته، وأحكام المتعاملين مع ديار الإسلام، أيضاً لها أحكام تفصيلية في هذا الجانب، ولذلك يقول هؤلاء الفقهاء أن الصلة بين الإسلام وغيره هي الحرب دائماً، وأن السلم ليس إلا هدنة مؤقته ريثما يتهيأ المسلمون للحرب، وزاد البعض فرأى أنه من غير الجائز لإمام المسلمين أن يتعاقد على سلم دائم مع بلد من بلاد الحرب، لأن في مثل هذا السلم إلغاء لفريضة الجهاد وهو كذلك، وطبعاً خلص إلى أن الجهاد هو وغيره إنما هو عبارة عن الصورة الدفاعية في بعض الأوقات، وإنما هو جهاد النفس، وتصويره بعد ذلك بصورة تعبيرية جميلة، يقول فيها: ' وبهذا يكون الجهاد أسلوباً كريماً، وباعثاً قوياً، ودافعاً سامياً للارتقاء بالذات والسمو بالنفس، والعلو بالروح حتى تعطي دون توقع للرد، وتبذل دون نظر للمقابل، وأنه يكون تربية للمؤمن على أسلوب الدفاع عن النفس، الذي يبدأ عند بداية العدوان وينتهي بنهايته، فلا يجنح بالابتداء بالعدوان، ولا ينحرف إلى الاستمرار كما تهوى النفوس عادة، ما لم تضبط بالمجاهدة الحق والمكابدة السليمة ' .

فإذاً هذه صور تبين لنا أن هذه المحاور الثلاثة كانت هي موضع الدرس، والتركيز؛ لأنها هي أحد أهم المعالم لهذا التخوف .

لماذا الخوف من الإسلام ؟ لماذا تعاظم هذا التخوف من الظاهرة الإسلامية؟

في تصوري أن هناك بعض الملامح المهمة لباعث الخوف من الإسلام يتلخص في انتقال الطرح الإسلامي عبر مراحل كثيرة، وظروف متغيرة من كونه قضايا فكرية أو تطبيقات عملية لدى فئة محدودة من أبناء الحركة الإسلامية إلى كونه قضية شعبية دخلت في هموم الناس وحاجاتهم اليومية، وهذا أبرز أحد المعالم المتنامية في الفترة الأخيرة، طبعاً هذا التحرك والقدرة على هذا التحريك الشعبي بصورة عملية واضحة، وأن المسألة ليست مجرد خطابات أو شعارات أحد أبرز المعالم المهمة في هذا الجانب، ولذلك أيضاً نجد كثير من الكلام يتركز حول هذه الشعبية بل حتى أساليبها البسيطة المحددة، فنجد الكلام حول حرب الأشرطة، وأنها أحد الأساليب الترويجية التي نقلت كثير من المفاهيم والأفكار بشكل قوي ومتشعب في هذه الجوانب .

من ملامح شعبية التوجه الإسلامي:

1- انتقال العمل إلى الفئات الشعبية: أول نقطة من النقاط التحولية التي زادت من التخوف من الإسلام هو انتقال العمل أو الصورة الإسلامية من فئة مجموعات وجماعات، إلى فئات شعبية واسعة المدى وعريضة النطاق .

2- النماذج العملية للتطبيقات الإسلامية في ميادين الحياة:بمعنى أن العمل الإسلامي والإسلام كان في الفترة الماضية يؤكد على شموليته، ويؤكد على ضرورة معايشته لواقع الناس واحتياجاتهم، لما بدأت تبرز الصور العملية لذلك كان أحد المعالم لقوة التيار الإسلامي، وبالتالي أحد أبرز المعالم للتخوف الكبير لهذا الإسلام القادم، ومن الأمثلة في بعض الجوانب:الاقتصاد والإعلام على وجه الخصوص.

3- ظهور الصورة العملية لاحتياجات الناس اليومية

منهجية هذا التخوف: ما نحتاج إليه نحن من هذا السرد أو أمثاله بشكل أو بآخر:

أولاً: الجمع لما يُسمع من أخبار ومعلومات .

ثانياً: الربط فيما بين المعلومات والأخبار: لأن القضية حينما تكون جزئية يكون النظر نحوها جزئياً، وحينما تجمع من هنا ومن هنا تعطي صورة متكاملة، تبيِّن أن الأمر قد يكون بُيِّت بليل، وأن الأمر يكون فيه تنسيق بين أطراف متعددة، وأن الأمر يحظى باهتمامات كبيرة وإلى آخره .

ثالثاً: التحليل والدراسة للاستنباط: ومثال على الاستنباط: هذه الجوانب الثلاثة هي التي عليها التركيز لماذا نحتاج أن نعرف ؟ لأن الآخرين يرون أنها هي العوامل أو النقاط الفاعلة في تحريك الإسلام ضد أعدائه بشكل قوي .

رابعاً: تقوية الجوانب التي منها الخوف والخطر عند أعداءنا: لأن أعداءنا لا يخشون من شيء إلا وهو في حقيقة الأمر سبب من أسباب قوِّتنا، وأحد مؤهِّلات تفوقنا وانتصارنا عليهم، بالتالي أيضاً إظهار الجوانب التي لم ترد في تخوفاتهم، بل ربما قبلوها وربما أيضاً دعموها، ولذلك ينشأ من هنا التصور الكلي الذي نحتاج إليه: وهو ترتيب الأولويات، ومعرفة القضايا الثانوية والهامشية التي ينبغي أن لا تزحم ما هو أهم منها، وأن لا تشغل عن تكريس ما هو أولى في ظهور قوة الإسلام، وأسرع في تقدم خطواته، نحو النجاح والنصر والتمكين .

وبالتالي هذه الصورة الموجزة يمكن أن نرى أن هذه الصيحات، وأن التخوُّف إنما هو ظاهرة صحية بالنسبة للمسلمين أن يخشى منهم، فهذا أمر يدل على وجود ظاهرة إيجابية، والذين لا يخشى منهم وقد يفرحون بذلك ويعتبرون أنفسهم حضاريين وأنهم مقبولين عالمياً ودولياً، إنما يفقدون في الحقيقة قيمتهم .

خامساً: تضخيم على حساب المستقبل: فنحن نحتاج لنعرف أن العمل الإسلامي- وإن كان بسيطاً في دائرة معينة- فإنه يؤذن له بإذن الله أن يكبر، وأن يعظم، وأن يكون ذا أثر فعال في فرص قريبة ربما أقرب مما نظن، والله نسأل أن يمكن لدين الإسلام، وأن يجعل هذا التخوف رعباً في قلوب أعداء الإسلام، ويكون أحد أسباب النصر الذي كان لمحمد صلى الله عليه وسلم حينما قال: [...نُصِرْتُ بِالرُّعْبِ مَسِيرَةَ شَهْرٍ...]رواه البخاري ومسلم. ونرجو أن ينصر المسلمون برعب أعداءهم منهم كما نرى في صور كثيرة .

من محاضرة:'الخوف من الإسلام القادم' للدكتور/ علي بن عمر بادحدح

================

#كتاب [الإسلام والغرب بين التعاون والمواجهة]

الصفحة الرئيسة

... mosque-34.jpg ...

المؤلفان [جراهام فوللر، وأيان ليسر]

في كتاب [الإسلام والغرب بين التعاون والمواجهة] الصادر عن مركز دراسات الشرق الأوسط بواشنطن وقام بترجمته مركز الأهرام للترجمة والنشر ـ يحاول المؤلفان جراهام فوللر وأيان ليسر [وهما من الأشخاص التي لها دور كبير في رسم السياسات العسكرية والاستخبارية الأمريكية سواء بتولي المسئولية أو بالاستشارة] أن يضعا ملامح محددة للتصورين المتقابلين: تصور الإسلام للغرب، وتصور الغرب للإسلام. وقد يكون رصد هذا التصور الثاني هو الأجد بمتابعتنا.

تصورات الغرب التاريخية عن الإسلام:

في البدء يرصد المؤلفان أن المواطن الغربي العادي لا ينزع إلى أن يولي اهتمامًا جادًا للتطورات الجارية في العالم إلا إذا جاءت نتيجة أزمات تؤثر على المصالح الغربية. ومع ذلك يعترف المؤلفان بأن الانطباعات الذهنية المتولدة عن قرون الخبرة الأوربية تمثل جزءًا مهمًا من النهج الفكري تجاه الإسلام من جانبي الأطلسي ومع ذلك فهما يريان أن التمييز بين أوروبا والأراضي الواقعة ناحية الشرق منها كأساس للتحليل السياسي والاستراتيجي تمييز يسبق تاريخيًا ظهور الإسلام على المسرح العالمي، فقد طور الإغريق حسًا قويًا بالتمييز الجغرافي والثقافي بين أوروبا وآسيا، ومن ثم رأوا أن أشد منافسيهم الاستراتيجيين قوة هم الفرس [الأسيويين] وبعد ذلك كان ظهور الإمبراطورية البيزنطية ثم انقسامها إلى إمبراطوريتين شرقية وغربية داخل الإمبراطورية الرومانية المسيحية، ومع عصر الفتوحات الإسلامية الكبرى في القرنين السابع والثامن أصبحت فكرة التنافس الثقافي والاستراتيجي بين أوروبا وآسيا تراثا راسخًا في الفكر الأوروبي، ومن ثم النظر إلى التخوم الأوروبية والبحر المتوسط باعتبارها حاجزًا ومعتركًا دفاعيًا لصراع أبدي بين الحضارات.

ويرى المؤلفان أنه من الملاحظ أن حالة عدم الأمن التي شاعت في جنوب أوروبا نتيجة سلسلة الغزوات الإسلامية المتتابعة سريعًا وما ترتب عليها من فقدان الاتصالات الحرة بين الشمال والجنوب والشرق والغرب كان لها دور مهم في فقدان الوحدة المتوسطية.

إن التقدم السريع للإسلام كان الحدث المحوري الذي أفضى إلى القطيعة الفكرية والسياسية مع تراث العصر القديم. 'إن غرب المتوسط وقد أصبح بحيرة إسلامية لم يعد طريق المرور العام للتجارة وللفكر على نحو ما كان دائمًا. لقد حوصر الغرب وأرغم على الحياة اعتمادًا على موارده الذاتية. ويمكن النظر إلى الإسلام ذاته باعتباره الحضارة المتوسطة الكبرى التي لها قوة توحيدية. وأن التقاء الحركات السياسية الإسلامية عبر الشمال الأفريقي والمشرق، والنمو المتصاعد للعامل الإسلامي في منطقة البلقان، يوحي بأن إمكانية الإسلام كقوة توحيدية في منطقة البحر المتوسط أبعد من أن تكون قد استنفدت.

ما خلفته صراعات القرون الوسطى في العقل الغربي:

يرى المؤلفان أن الخطر الإسلامي قد ظل على مدى ألف عام تقريبًا المشكلة الاستراتيجية الأساسية التي تواجه الأوروبيين ابتداء من شبه جزيرة أيبريا وحتى النمسا والبلقان بل وما بعدهما إذا ما وضعنا في الاعتبار روسيا وفترة خضوعها تحت نير التتار وإذا استرجعنا الأحداث الآن نجد من الصعب تصور المدى الكامل وإمكانات هذا الخطر الذي بدا محسوسًا بوضوح في ضوء الاعتبارات هذا المحلية والاعتبارات الاستراتيجية المهمة والأساسية.

ودون إغفال المزايا الجغرافية والتكنولوجية والعسكرية ومزايا تزايد التفوق الأوروبي مع الزمن ـ ساد تصور قوي ومستمر في أوقات ما بأن مصير أوربا بات معلقًا في الميزان. إن صورة الأتراك على أبواب فيينا منذ القرن السابع عشر أصبحت عنصرًا ثابتًا وملازمًا في التحليلات الغربية المعاصرة عن الانقسامات التي عادت إلى الحياة من جديد بين المسيحيين والمسلمين.

صورة الغرب تاريخيًا وسيكولوجيًا عند المسلمين:

يرى المؤلفان أن ثمة قضيتين أساسيتان شديدتي التمايز تحددان خصائص تصور المسلم لعلاقته بالغرب وهما:

ـ نقض التفوق طويل المدى للحضارة الإسلامية.

ـ غلبة شعور واسع النطاق بين المسلمين بأنهم تحت الحصار المفروض من الغرب وأنهم يعملون من موقع الضعف والتعرض للخطر.

هذان المفهومات ربما يثيران دهشة كثيرين في الغرب ممن يرون الإسلام واثقًا بنفسه على نحو متشدد ويتخذ موقفًا هجوميًا، ولكن عدم إدراك هذه الحالة النفسية للعقل في العالم الإسلامي يعني إغفال عامل دينامي حاسم له أثره بين المنطقتين. فالمسلمون يحملون في وعيهم صورة حية من عصر امتد قرابة الألف عام من التفوق الإسلامي الثقافي والكفري والعلمي والتكنولوجي والعسكري والذي أفل قبيل عصر النهضة الأوروبية وأعقب هذا فترة انهيار إسلامي وصعود أوربي لا يزال ممتدًا حتى الآن.

أثر الحروب الصليبية وسقوط الأندلس في العلاقة بين الإسلام والغرب:

يرى المؤلفان أنه لم يكن وصول الجيوش المسيحية من أوروبا إلى الأراضي المقدسة في فلسطين لخوض حرب صليبية سوى بداية لحملة أوروبية عامة طويلة المدى لاستعادة الأراضي الخاضعة لسيطرة المسلمين في أسبانيا وصقلية والمشرق. واستطاعت الجيوش الصليبية على مدى مئة عام أن تستولي على كل الأراضي المطلة على شرق المتوسط تقريبًا ابتداء من الحدود التركية إلى الحدود المصرية. وبحلول عام 1187م استطاعت الجيوش الإسلامية التي جاء رد فعلها بطيئًا أن تقضي في نهاية المطاف على المملكة المسيحية في بيت المقدس وأن تستعيد المنطقة السيطرة الإسلامية. ولكن الحروب الصليبية أصبحت منذ ذلك الحين حدثًا له آثاره الوجدانية العميقة عند المسلمين ولن يعد يشمل فقط الغزو المادي للجيوش الغربية وإنما يمثل أيضًا قيام دول مسيحية فوق الأراضي الإسلامية أيضًا وباتت هذه الأحداث بمثابة المقدمات الأولى للاستعمار والإمبريالية الغربية في العصر الحديث وارتبط بها أيضًا تأسيس دولة يهودية في فلسطين عام 1948.

وكذلك فإنه لا تزال كلمة أندلس تستثير في عقول المسلمين عظمة وأمجاد الماضي مثلما تثير مشاعر الحزن العميق إزاء ضياع مجد هو أعظم أمجاد الإسلام إشرقا في العصر الوسيط خصوصا أن المجتمعات الإسلامية الكبيرة التي أجبرت أن تحيا في ظل حكم مسيحي، عاشت حياة من المعاناة هي على النقيض تماما من الحياة التي عاشها المسيحيون على امتداد القرون في ظل الحكم الإسلام

============

#العولمة بين أحلام مشروعة وأوهام ممنوعة

عدد457 ـ رمضان 1424

الصفحة الرئيسة

د. بركات محمد مراد. أستاذ الفلسفة الإسلامية كلية التربية ـ جامعة عين شمس

مفكرة الإسلام: ظهرت العولمة Globalization وكأنها تسقط على تاريخ المجتمعات الإنسانية شروطًا جديدة لتغيير مساره التقليدي، بحيث يتمركز حول جملة من القيم والرؤى المحددة، إنها ترفع شعار توحيد القيم والتصورات والرؤى والغايات والأهداف بديلاً عن التمزق والتشتت والفرقة وتقاطع الأنساق الثقافية، ولكن العولمة في دعواها هذه إنما تختزل العالم إلى مفهوم، وتتخطى حقيقته باعتباره تشكيلاً متنوعًا من القوى سيؤدي إلى توتر يفجر نزعات التعصب المغلقة، فالتاريخ البشري لعوب في تحولاته، فكل رغبة بالتعميم والشمول قد تفضي إلى التضييق المبالغ فيه، وتنشأ رغبات احتجاجية مضادة ترفض الامتثال لعملية الدمج التي تنزع عن المجتمعات خصوصيتها الثقافية من لغة ودين وبنية اجتماعية ونفسية وأخلاقية، ويقود مسار التنازل إلى تعارض بين القيم ذاتها، إذ من الصعب الاحتكام إلى مبدأ التفاضل والتراتب حينما يكون الأمر متعلقًا بالبطانة الشعورية والثقافية للمجتمعات، لأنها نسبية، وتتحدد أهميتها من نوع العلاقة التي يقيمها الإنسان الذي ينتمي إليها.

إن العولمة تتجاوز هذه الخصوصيات وبها تستبدل قيمًا تدعي أنها عالمية، إن القول بعالمية القيم أمر فيه مجانبة للحقيقة، لأن قيم العولمة إنما هي القيم الغربية التي تبلورت ضمن المحضن الغربي خلال القرون الثلاثة الأخيرة، إنها ذات القيم التي نشرتها المركزية الغربية وطبعتها بطابعها، وكذا كانت تلك القيم قد تشكلت في بنيتها الغربية في ظل شروط تاريخية معينة، فإن نزعة التمركز الغربي عملت على تعميمها لتصبح كونية.

وكانت التجربة الاستعمارية قد أسهمت في إشاعة تلك القيم على مستوى العالم، لكن العولمة تجاوزت الأسلوب التقليدي فصاغت جملة من القوانين والضوابط الملزمة التي بها يصبح الأخذ بتلك القيم إجباريًا، ووظفت التقدم الكبير الذي بلغته الاتصالات من أجل إشاعة هذه القيم كمرحلة أولى قبل فرضها قانونيًا على العالم. كلنا مستعد للإقرار بأن للعولمة تأثيرًا على الهوية الثقافية، ولكن من الطبيعي أن كلاً منا لا يرى إلا هذا التأثير الذي يصدر عن ذلك الجانب من العولمة الذي يلمسه بيده، ومن ثم كان من الطبيعي أن يختلف المحللون لظاهرة العولمة، حول تجديد ذلك الأثر على الهوية الثقافية: ما هو بالضبط؟

هناك مثلاً من لا يرى في العولمة إلا اتجاهًا متزايدًا نحو تقيد العمل وانتشار التكنولوجيا الحديثة من مراكزها في العالم المتقدم اقتصاديًا، إلى أقصى أطراف الأرض، ومن ثم زيادة الإنتاج أضعافًا مضاعفة، وهو في سبيل ذلك مستعد لأن يغفر للعولمة أي تأثير سلبي يمكن أن ينتج منها ويذهب إلى حد القول بأن الهوية الثقافية سوف تفيد من العولمة بدلاً من أن تضار.

هناك أيضًا المفتونون بالحضارة الغربية بوجه عام، ليس فقط بكفاءتها المنقطعة النظير في الإنتاج المادي، بل وفي نقل المعلومات الغربية وتخزينها وتوافرها لمن يريد الانتفاع بها، وربما حققه الغرب في مضمار التنظيم السياسي والاجتماعي والإنتاج الثقافي، أولئك المفتونون بالديمقراطية الغربية، وبالعلاقات الاجتماعية الغربية، وبغزارة ونوع الإنتاج الثقافي في الغرب، ويتمنون لشعوبهم سرعة اللحاق بكل هذه الإنجازات ويجدون في العولمة السبيل إلى ذلك.

ومن هؤلاء من لا تثير لديهم مسألة الهوية الثقافية إلا السخرية والاستهزاء، وهناك أيضًا الكارهون للعولمة، ولكن هناك مئة سبب محتمل لهذه الكراهية، هناك من يكرهونها لأنها تتضمن مزيدًا من الاستغلال الاقتصادي: يتجلى هذا فيما تفعله الاستثمارات الأجنبية الخاصة عندما تترك العالم في البلاد الرأسمالية نهبًا للبطالة، وتذهب لاستغلال العمل الرخيص في البلاد الأقل نموًا؟ كما يتجلى في شركات الأدوية العملاقة التي تضغط من أجل أن تفتح لها كل بلاد العالم أبوابها لتحقيق مزيد من الربح على حساب مستهلكي ومنتجي هذه الأدوية داخل البلاد الأقل نموًا؟

ومن هنا يعلق الباحث 'جلال أمين': نعم الهوية الثقافية لا بد أن تعاني جراء ذلك، ولكن المعاناة هنا ليست إلا نتيجة الاستغلال الرأسمالي، إذ تحمل كل هذه الاستثمارات الأجنبية وهذه السلع المستوردة في طياتها ثقافة مغايرة تسحق ثقافة الأمم المستوردة لها، لا لغرض إلا لتحقيق مزيد من الأرباح، وحماية الهوية الثقافية واجبة في نظر هؤلاء كوسيلة للتصدي لهذا الاستغلال، إذ إن إثارة الحمية الوطنية والحماس للثقافة الوطنية قد يعطلان هذا الاتجاه لدى الرأسمالية العالمية للانتشار.

في زمن سابق كان استنزاف الإمكانات البشرية من بلدان الجنوب يتم بالاغتصاب 'اغتصاب مواطنين أفارقة من أوطانهم ومن بين ذويهم وشحنهم على بلدان أخرى بعيدة حيث يباعون كعبيد وحيث تغتصب آدميتهم منهم' وأما في الزمن الحالي، فإن استنزاف الإمكانات البشرية من بلدان الجنوب يتم ـ أساسًا ـ بالتحفيز الانتقائي، وفي كلتا الحالين، سواء بالاغتصاب أم بالتحفيز الانتقائي، فإن جزءًا من الشمال يستنزف لصالحه إمكانات بشرية من الجنوب، في الزمن السابق كانت هذه الممارسة تمثل نزفًا للسواعد والعضلات وأما في الزمن الحالي 'عصر الرأسمال الذهني' فإنها تعد نزفاً للعقول والإمكانات المعرفية.

إن إصرار القوى المهيمنة في الشمال على أن تسخر لصالحها الإمكانات البشرية في الآخر ـ وفي الجنوب ـ جعلها تقوم بتجميل عملية التسخير، حيث لا ترى هي فيها نزفًا للأدمغةBrain drainage وإنما تعتبرها حفظًا لهذه الأدمغة Saving Brain من التعرض للأذى أو التدهور أو الفقدان إذا ما بقيت في الجنوب، وذلك باعتبار بلدان وشعوب الجنوب غير قادرين على تطوير هذه الأدمغة والانتفاع بها.

وهكذا المهيمنون في الشمال يراوغون في الدوام، من أجل تعظيم مكاسبهم، بصرف النظر عما يحدث من أقلمة لإمكانات الجنوب، وفي جميع الأحوال يكونون هم ـ حسب المنطق الاستعماري ـ أصحاب الفضل، وإذا كانت عمليات الاغتصاب التي يمارسها الشمال ضد الجنوب وعلى مدى قرون تتبدل وتتنوع بين اغتصاب للمواد الخام 'المعادن ـ المطاط ـ البترول' واغتصاب للسواعد والعضلات 'استبعاد السود' واغتصاب للعقول 'نزف الأدمغة'، فإن السؤال الكبير المطروح هو كيف السبيل إلى وقف كل هذه الأنواع من الاغتصاب والاستنزاف للجنوب الذي يتم على مدار العقود والقرون لصالح دول الشمال؟

وفي العصر الحاضر يقوم العالم المتقدم ـ باسم العولمة ـ بتقديم المسكنات لعالم الجنوب المتخلف في صورة وسائل تسلية وإعلام، من أجل إلهائه وتخدير أجهزته المناعية، عما يحاك له في الخفاء، ومن حسن الحظ أن الصحفي الألماني النابه 'هانس بيتر مارتن' كان أحد ثلاثة صحفيين فقط من كل أرجاء العالم سمح لهم بحضور لقاء غير عادي عقد في سان فرانسيسكو في سبتمبر عام 1995م، ومع خمسمائة من القادة على المستوى العالمي في مجالات المال والسياسة والاقتصاد.

كان صاحب الدعوة لهذا اللقاء مع 'ميخائيل جورباتشوف' من خلال معهده الذي كان قد تم تأسيسه في الولايات المتحدة بواسطة تبرعات بعض الأثرياء الأمريكيين، وكان مكان اللقاء فندق 'الفيرمونتو' الشهير، وحضره شخصيات مثل 'جورج بوش' و'مارجريت تاتشر' ورئيس مؤسسة CNN ورؤساء بعض الشركات العملاقة المتعددة الجنسية.

لقد شكل هذا اللقاء بالنسبة للصحفي 'بيتر مارتين' أحد المعابر الرئيسية المهمة التي ساعدته هو وصديقه 'هارالد شومان' على تكوين نظرة مختلفة لمسارات وتتابعات العولمة، أدت بالصديقين الألمانيين إلى إصدار كتابهما الشهير 'فخ العولمة' عام 1997م، ومن خلال 'فخ العولمة' نقل إلينا 'هانس بيتر' مصطلحًا جديدًا وهو 'تيتي تيمنت' Tittytainnment كعنوان لأطروحة مهمة ناقشها 'كبراء العالم' المجتمعون في 'الفيرومونت'.

كان صاحب الأطروحة وناحت المصطلح هو السيد 'زيجينو بريجينسكي' البولندي الأصل. الذي كان مستشارًا للأمن القومي في إدارة الرئيس الأمريكي 'كارتر'، وحسبما شرح 'برجينسكي' للمجتمعين فإن كلمة Tittytainnment مصطلح منحوتة من Entertainnment 'تسلية' وTits 'حلمة' وهي الكلمة التي يستخدمها الأمريكيون للثدي 'دلالا' لقد بين 'برجينسكي' أنه يستخدم هذا المصطلح للإشارة إلى 'الحليب الذي يفيض عن ثدي المرضع، فبخليط من التسلية المخدرة والتغذية الكافية يمكن تهدئة خواطر سكان المعمورة المحبطين'.

وهكذا كانت الأطروحة تختص ـ موضوعيًا ـ بما يمكن أن نطلق عليه 'حملة العولمة' من حيث هي 'ميكانيزم' لتسكين خواطر المحبطين 'في كل أنحاء العالم' جراء الرياح العولمة التي يصطنعها هؤلاء القادة 'العولميون' وغيرهم زمن وهنا يؤكد الدكتور 'جلال أمين' على أن التركيب البنائي للفكر البرجينسكي وكذلك للقاء 'الفيرمونت' يجسد حقيقة مهمة، وهي أن شعوب العالم ومصائره ليست عند هؤلاء القادة أكثر من كرة صغيرة يسعون للهو بها، وحتى يستمر هذا اللهو لأطول زمن ممكن، عليهم أن يعملوا على أن تستمر الكرة مجرد كرة، وألا يحدث لها أو فيها أي تعديل أو انفجار.

ومن هنا كانت سياسة 'الحملة'، التي تعد بمثابة آلية استراتيجية في إطار مناخ للعولمة والذي تهيمن اتفاقيات التجارة الدولية 'من خلال منظمة التجارة العالمية' وتتلاشى الحدود وتتكسر الوطنيات، وتضمحل الصناعات المحلية وتتعاظم أحجام ودورات الأموال القذرة dirty money 'الناتجة من المضاربات' وتضعف اتحادات ونقابات العمل والمهنيين، وتتقلص إمكانات الحكومات 'في الدول لنامية' ذلك بينما يتضخم نفوذ الشركات متعددة الجنسية وتتعاظم أنشطة الدعاية والإعلان والترويح الاستهلاكي، كل ذلك بينما يتزايد انفكاء جزء كبير من النخبة المثقفين والمفكرين والعلماء على الذات المحدودة جدًا، من أجل الحفاظ على إمكانية مجاراة التطورات المالية والاستهلاكية.

وفي الحقيقة فالحملة موجودة حتى قبل أطروحة 'برجينسكي' وصناعات التسلية الأميركية بالذات قد حققت تطورات وانعكاسات اقتصادية واجتماعية مذهلة على المستوى العالمي، وذلك بالإضافة إلى القدرة الأميركية الضخمة في مجالات الدعاية والإعلان والترويح الاستهلاكي باستخدام أحدث وأرقى وأغلى التكنولوجيات.

وهذا ما دعا 'هانس ـ بيتر مارتين' في 'فخ العولمة' إلى القول أنه لم يعد ثمة شك في أنه لو طلب من سكان المعمورة التصويت لأي أسلوب في الحياة هم يفضلونه، لكان بوسعهم ذلك، فهناك ما يزيد على خمسمائة قمر صناعي تدور حول الأرض، مرسلة إشارات لاسلكية للحداثة التي صارت تنعم بها بعض الشعوب، فبواسطة الصور الموجودة على شاشات مليار من أجهزة التلفاز تتشابه الأحلام والأماني، على ضعف الأمور ويانغ نسه Jang Tse والأمازون والغانج والنيل، لقد 'اقتلعت' الأطباق المستقبلة لما ترسله الأقمار الصناعية، وكذلك مولدات الكهرباء العاملة بالطاقة الشمسية إلى المناطق النائية غير المربوطة حتى الآن بالشبكة الكهربائية، كما هو الحال في النيجر في غرب أفريقيا، ملايين من البشر 'من حياتهم القروية رامية بهم في خضم أبعاد فلكية' كما قال 'برتران شنايدر' Bretrand Schneider الأمين العام لنادي روما.

وبهذا فإن المعركة الدفاعية التي يشنها الحاكمون في الصين ضد رسائل الفاكس والبريد الإلكتروني [E.mail] ومحطات البث التلفازي لم يعد القصد منها الوقاية من نسق اجتماعي مختلف، بل هي تهدف إلى المحافظة على ما يتمتعون به من سلطان، وحتى في كوريا الشمالية وبعض البلدان الإسلامية، حيث تستنكره الصور التي تبثها محطات التلفاز التجارية العالمية، حلت الصور الفوتوغرافية والأقاصيص ذات الصور الدقيقة مكان المحطات التلفازية هذه وأخذت تنتشر على مستوى عريض.

ويؤكد 'هانس ـ بيتر مارتين' أنه لو قدر لستة المليارات إنسان الذين هم تقريبًا سكان المعمورة أن ينتخبوا الحياة التي يريدونها، لا ينتخبوا الغالبية العظمى منهم حياة الطبقة الوسطى السائدة في واحد من أحيان سان فرانسيسكو، لقد بدأت وسائل الاتصال والإعلام تصوغ وعي الشعوب صوغًا يرمي إلى تقبل نسق القيم الغربية، وفي خطوة لاحقة سيصار إلى تشريع المعايير اللازمة لتطبيق ذلك، وهو ما سيفضي إلى استبعاد كثير من التشكيلات الثقافية والقيمية الأصلية، والمفارقة بين العالم التقليدي لن يأخذ من عالم الحداثة إلا كل ما هو سطحي وبهرج وزائل غير متأثر بقيم علمية وحضارية ثابتة، كما أن ما تفعله التكنولوجيا الحديثة بهوية الإنسان داخل الدولة الواحدة ـ تفعل مثله بثقافات الأمم في العالم ككل، فكما خلبت التكنولوجيا الحديثة لب الفرد حتى استسلم لها، خلبت لب الأمم فضحت الواحدة بعد الأخرى بجزء بعد آخر من استقلالها الثقافي، وكما استخدمت التكنولوجيا الحديثة من جانب طبقة لقهر الطبقات الأخرى داخل الأمة الواحدة، استخدمت من جانب الأمم المتقدمة لقهر سائر الأمم.

ومن هنا يرى الدكتور 'عبد الله إبراهيم أن العولمة تشطر العالم إلى شطرين، وتعمق بينهما التناقض، عالم تمثله المجتمعات التقليدية، وتقوم العلوم بوضع التقنيات الحديثة والاتصال تحت تصرفه، فيقوم من خلالها بإعادة إنتاج الأفكار التقنية الموروثة دون أن يتمكن من الانخراط في تحديث نفسه على مستوى إنتاج المعرفة التعليمية العقلية التي يشترطها كل تحديث مهما كانت سياقاته الثقافية، وعالم آخر أنجز رهان الحداثة، وهضمها، وتمثله المجتمعات الحديثة، وفيها تقوم العولمة بتحدي المعرفة وتجديدها بشكل مطرد.

وثمة فرق كبير بين إعادة إنتاج معرفة تقليدية بوسائل حديثة، وإنتاج معرفة جديدة بوسائل حديثة، فذلك سيفضي إلى أن المجتمعات التقليدية ستطوي على نفسها، وتشغل ببعث الأفكار الموروثة الخاصة بها والتي حجزتها ضمن نسق اجتماعي ثقافي شبه مغلق، إنها ستكون بعيدة عن إنتاج المعرفة المطلوبة من أجل التحديث.

وفي الوقت نفسه ستستأنف المجتمعات الحديثة تطوير المعرفة من آخر نقطة وصلت إليها، وحسب التحليل المعرفي ـ ووفقًا للرؤية السابقة ـ سترتمي المجتمعات التقليدية في أسر تصور ما للماضي وتجعله هدفًا لها، فيما سيكون المستقبل هو هدف المجتمعات الحديثة، وحتى تلك الوسائط التقنية التي ستضعها هذه المجتمعات التقليدية لبعث الفكر التقليدي ونشره كما بدأت تظهر إلى العيان بوادر ذلك.

وبهذا ستكون العولمة بمواصفاتها الحالية من الأسباب الجوهرية لاتساع الهوة الثقافية والعلمية بل والحضارية بين عالم الجنوب المتخلف وعالم الشمال المتقدم، وفي الحقيقية تعتبر الثورة الصناعية الثالثة من المصادر الرئيسة للتغيير والتحول الذي شهده ويشهده العالم في الوقت الراهن، وتستند هذه الثورة إلى إنتاج العقل البشري المتدفق واللانهائي من الأفكار والمعلومات والمعرفة المكثفة، وتمثل أبرز مظاهرها في التقدم التكنولوجي الهائل، وبخاصة في مجالات الاتصالات والمعلومات والفضاء والحاسب الآلي بأجياله المختلفة والإلكترونيات الدقيقة والهندسة الوراثية.

وهكذا فإن هذه الثورة تمثل حجر الزاوية فيما يعرف بـ'مجتمع المعلومات' الذي يجسد العديد من مظاهر 'العولمة' ولا شك أن الثورة الصناعية الثالثة وما يرتبط بها من تحولات إنما تمثل نصرًا مهمًا لإعادة تعريف عناصر القوة والتأثير، فضلاً عن إعادة تعريف بعض المفاهيم الرئيسية مثل: السيادة والأمن والحدود الدولية ...إلخ، ونظرًا لأن هذه الدول الصناعية المتقدمة والشركات العالمية عابرة لحدود الدول هي التي تتحكم بدرجات مختلفة بأشكال مختلفة في مسارات هذه الثورات واتجاهاتها، فالمؤكد أنها أسهمت، وتسهم في تعميق الهوة بين الشمال والجنوب، وبالتالي زيادة تهميش معظم دول الجنوب، وبخاصة في ظل ضعف قدرات وإمكانات هذه الدول على استيعاب هذه الثورة أو الاستفادة منها أو التكيف مع مخرجاتها.

وبالإضافة إلى ما سبق، فإن الثورة الصناعية والاجتماعية قد أدت وتؤدي إلى إعادة تشكيل خريطة العلاقات والتوازنات السياسية والاقتصادية والاجتماعية، ليس على صعيد العلاقات بين الدول فحسب، ولكن على صعيد الدول ذاتها أيضًا.

وقد يكون صحيحًا إلى حد بعيد أن دعاة العولمة، بمفهوم الهيمنة والسيطرة على العالم، وليس بمفهوم بناء المشترك الإنساني، الذي يحتفظ بالتنوع ويقوم عليه، ويعتبره أساس النمو الحضاري، والتقدم وإثارة الاقتداء والفاعلية، وتجميع الطاقات، للإقلاع الحضاري، حاولوا التمهيد، وتأهيل الشعوب وترويضها للقبول بالعولمة، التي تعني التسلط والاستعمار، بصيغ قديمة متجددة.

كل ذلك لإدخال الأمم والشعوب في مرحلة 'الوهن الحضاري' وذلك بإقامة الاستبداد السياسي ومساندة العولمة، لأنها تدمر الثقافة، والتربية والتعليم، والاقتصاد، وتغرس صفات الذل واليأس في النفوس، وتجعل المجتمعات هشة، وسريعة العطب، والانكسار والاستسلام، وحتى الميل للانتحار الجماعي أملاً في الخلاص.

هل يتعين أن نذكر سلسلة الانتحارات الجماعية وبطائفة 'بوابة السماء' كما رأيناها متسمية بأسمائها، وبغير أسمائها؟ إذ تدين بعبادة 'سفن الفضاء' أو نذكر كيف ازداد المجتمع الأميركي يومها اهتزازًا وهلعًا بعدما تابع تفاصيل الأشرطة التي تركها المنتحرون وتبين للجميع أن الذي أعانهم على الإمعان في تصوراتهم وزادهم إصراراً على ضرورة الانفلات من قبضة الأرض والخروج إلى الفضاء الرحب الفسيح عمق خبرتهم بالكمبيوتر وطوال عشرتهم للشبكات المندمجة والعنكبوتية التي توجهها الإنترنت، أم قد يكفي أن نورد الإحصاءات التي ضبطت نسبة الحمل بين الفتيات المراهقات في بعض المجتمعات الحملة للواء الأممية الجديدة، وهل ستنسى ذاكرة الإنسان المعاصر فظاعة مجازر الأطفال من بنين وبنات ضمن تجارة الجنس بالأحداث بعد اختطافهم وذلك في شبكة من الأخطبوط السلمي المتدرج إلى أعلى هرم المجتمع الأوروبي، وبخاصة في بلجيكا وفرنسا، وقد جاءت الصورة مروعة إنها تشكلت بآليات التجارة والاستثمار: فيها الكفلاء وفيها الوسطاء، وفيها من عليه القوم ومن يغطي ويستر ويستدر العائدات بحيث كدنا نشارف تدويلاً تجاريًا، وعولمة جنسية، وأممية في ممارسة الشذوذ الجنسي.

إن الحالة الراهنة والأنماط المستقبلية بالنسبة للحقوق والعدالة الاجتماعية الجدية تعتمد بشكل أساسي ـ كما يذكر أستاذ القانون 'ياشي كاي' على التفاعل بين العولمة والتمويل، إن تأثير العولمة، ليس متطابقًا بين الطبقات أو الدول، فبعض الدول أكثر قدرة على استغلال الفرص التي توفرها العولمة، بينما تعجز دول أخرى عن مواجهة سطوتها، بعض الفئات أو الطبقات تستفيد من العولمة بينما يعاني بعضها الآخر منها.

بصفة عامة تستفيد من العولمة المؤسسات والطبقات الأكثر قدرة على تنظيم نفسها، عبر القوميات في تنظيمات دولية، بينما يبقى الآخرون تحت رحمة العمليات العالمية، لقد أثرت العولمة على كل من إطار الخطاب وممارسة حقوق الإنسان بشكل جذري، وقليل من القضايا المثارة جديدة، ولكن سياق التحليل قد طرأت عليه الكثير من التعديل، على سبيل المثال فقد وفرت العولمة زاوية جديدة لواحدة من أكثر القضايا جدلية وهي هل الحقوق عالمية أم خصوصية؟ وقد أثارت الجدل والحوار حول من هم المستفيدون الحقيقيون من نظام الحقوق، ومن يتحمل مسؤوليتها؟

وقد أكدت أيضًا على الحوار الخاص بالعلاقة بين الحقوق الاقتصادية والاجتماعية وبين الحقوق السياسية والمدنية وأيهما له الأولية على الآخر؟ كما أنها من ناحية ثالثة أثارت الأسئلة حول أساليب تطبيق هذه الحقوق ومسؤولية المجتمع الدولي في حمايتها وطبيعة سيادة الدولة.

وقد أثارت العولمة ـ بشكل متناقض ـ وعيًا عالميًا وأنعشت في الوقت نفسه نزعة إلى التعصب القومي، إن انتشار الآليات الدولية لحقوق الإنسان، من سهولة الاتصالات وازدياد المعرفة ببقية أنحاء العالم .. إلخ، قد ساعد على تنمية المنظور الكوني إلى مجموعة من القضايا المحلية والدولية، ولقد نشأت الكثير من الشبكات غير القومية لمتابعة العديد من القضايا والاهتمامات الخاصة بالجماعات المهنية والجماعات النسائية بالانتماء لكيانات غير قومية تمتد فيما بعد خارج حدود الدولة الأم.

وهذا الوعي يترسخ مع زيادة انتقال الناس عبر الحدود القومية 'بالاختيار الحر أو نتيجة كونهم ضحايا القهر' تكتسب الشعوب أيضًا معرفة بمختلف الثقافات ويعيشون في جماعات متعددة الثقافات، ولكننا نرى أن تدويل القيم والمؤسسات يعزز نوعًا من العشوائية والاغتراب والخوف لدى الكثير من الأفراد والجماعات، إن زحف حدود السوق يهدد مجتمعات كانت قد حافظت لوقت طويل على ثقافتها وأساليب معيشتها على مدى أجيال طويلة 'مثل السكان الأصليين الذين تحتوي مساكنهم على الكثير من الثروات الطبيعية' ويكون رد الفعل غالبًا رفض تلك المؤسسات العالمية ـ والتي غالبًا ما تهيمن عليها الدول الغربية الكبرى ـ وفي بعض الأحيان تتمسك هذه الشعوب بثقافتها الأصلية، وأحيانًا، بل غالبًا بشكل سلبي في أنحاء كراهية الأجانب، ما يؤدي لإنماء متعمد للولاءات والانتماءات الضيقة.

إن النظام العالمي الجديد يقوم على مسلمة أساسية هي إيجاد ما يشبه الحكومة العالمية ولو من خلال بناء المجتمع المدني العالمي أولاً، ولعل مؤتمرات الأمم المتحدة التي بدأت بمؤتمر الأرض ثم السكان ثم المرأة ثم المسكن، ثم الدعوة إلى إنشاء المجتمع المدني العالمي التي أصدرتها لجنة شؤون المجتمع العالمي تؤكد على ذلك وتؤسس له، ومن أهم العقبات أمام سريان النظام العالمي الجديد واستقراره حدوث خروج على قيمه ومعاييره التي من أهمها إزالة الخصوصيات وتذويبها وتحويل العالم إلى نسق واحد تحدده قيام النظام العالمي الجديد. ولعل الموقف من الصين في موضوع حقوق الإنسان ثم الحظر على كوريا الشمالية وكوبا وليبيا والسودان والعراق سابقًا وإيران لا يخرج عن رفض النظام العالمي الجديد لأي مخالفة لمعاييره وقيمة العالمية، ومن خلال إطار تحكم خمسة من الاحتكارات تعتبر قانون العالمية المعاصرة كما يلي هي:

ـ الاحتكار التكنولوجي.

ـ احتكار التحكم في أسواق التمويل المالي العالمي.

ـ احتكار أسلحة الدمار الشامل.

وهذه الاحتكارات تجعل من استمرار العالمية أكثر احتمالاً من الانتقال إلى عصر الخصوصيات، ويجب أن نعي أن الخصوصية الحضارية، هي مرتبة وسطى في بناء حضارة من الحضارات إلى علاقة حضارتهم بغيرها من الحضارات، وسطي بين 'المغايرة الكاملة' وبين 'التماثل والتطابق والتأمين'، فالخصوصية تعني 'التمايز' الحضاري 'والتمايز' وسط بين 'الوحدة' وبين 'الفصل التام' وهذا يعني وجود مشترك إنساني عام بين مختلف الحضارات، لا تتمايز حقائقه وقوانينه ومعارفه باختلاف الحضارات وتعددها، ووجود خصوصيات تتمايز فيها وبها كل حضارة عن غيرها من الحضارات .. فمثلاً الإنسان يشارك كل بني جنسه، في الإنسانية والخلق وفي كثير من المعارف وحقائق الأعضاء ووظائفها، ولكنه يتميز بالنفس والروح والمشاعر والمميزة لذاته، وبالبصمة التي لا يشاركه فيها سواه من بني الإنسان.

ولذلك يؤكد الدكتور محمد عمارة على أنه كانت 'الحداثة الغربية' هي داعية 'القطيعة المعرفية' مع الموروث، لأنها تتغيا إحلال 'عصرها الغربي' محل 'موروثنا الإسلامي' فإن المنهج الوسطي في علاقة 'العصر' بـ'الماضي' وعلاقة المعاصرين بـ'الأسلاف'. ومن هنا يميز التجديد بين 'المقدس الإلهي' وبين الاجتهاد الفكري والتجارب الإنسانية، فيلتزم بالأول ـ مع فقهه ـ ويحتضن الثاني ـ مع النقد والاختيار منه، والبناء عليه، والتجديد فيه، فالتجديد تطور، لكنه يتم داخل النسق الفكري وانطلاقًا من ثوابته، والتزامًا بالمقدس الذي تخلق من حوله ذلك النسق الفكري، وبهذا يفترق عن كل من 'الحداثة' و'التقليد' ففيه 'اتباع' في 'الثوابت' وتجديد في المتغيرات.

إن لحظة التوق إلى الأمة العالمية، أو الحضارة الإنسانية الجديدة توحي أكثر بالمعاني السامية للفكر الإسلامي في تعامله مع النصوص المرجعية، وتؤكد على ثوابت الإسلام وضرورة التمسك بها، على الرغم من الحاجة الشديدة في العصر الحديث إلى إعمال الاجتهاد وبذل الجهد الإنساني في تحصيله وتفعيله، وأهم مبادئ الإسلام وثوابته، أفكار محورية مثل فكرة الاستخلاف في الأرض، وفكرة الأمانة التي حملها الإنسان وفكرة أن المبشرين بالإسلام بمعناه التوحيدي هم خير أمة في العالم لأنهم يعرفون المعروف ويأمرون به ويعرفون المنكر وينهون عنه وهي كلها مقولات ووظائف لها الأخلاقية والتعالي والمصداقية مع ما يتطلع إليه اليوم الفكر الساعي عبر العولمة إلى تحديد إطار مرجعي عالمي جديد، ففكرة الاستخلاف تنطوي على احترام الإنسان للطبيعة، فضلاً عن احترامه للإنسان ذاته والمجتمع وتعظيم الله، وهو ما يمكن التعبير عنه في الوقت الراهن بالانتقال من العقد الاجتماعي 'جان جاك روسو' إلى العقد الطبيعي 'فيشر سير' كما أن مفهوم الأمة التي وصف بها إبراهيم عليه السلام في القرآن الكريم يسهم في استقطاب جميع الأديان التي تنادي بوحدانية الله في جميع الديانات السماوية، ويعزز هذا المفهوم أيضًا إشكالية الخوض في حوار ديانات وحضارات وانطلاقًا من مبدأ التسامح الذي توفره اللحظة العولمية، وهذا ما كان غائبًا إلا في لحظات قليلة، قبل اليوم، علاوة على أن فكرة الأمانة: {إِنَّا عَرَضْنَا الأمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً} [الأحزاب:72]، منوطة بالإنسان وتنطوي على الحرص على الآخرين ومسؤولية الأقوياء على الضعفاء، إن في المجتمع الواحد أو في المجتمع الدولة.

إن وظيفة الإنسان المؤمن الصالح لكل العالم، الذي تأخر مجيئه، تجد مجالاً رحبًا لما يعرف بـ'مجتمع الذات' Soclelste أي المجتمع الذي يجد فيه الإنسان الذي يخاطب استمرار طاقاته الروحية والمادية لصالح المؤسسات الاجتماعية، وهكذا فالإنسان الذي يخاطب جميع جوانبه وأبعاده لا يصير مجرد رقم أو فرد، وإنما تربطه مع بقية المواطنين جملة من العلاقات الإنسانية تحدده، ويتحدد بها مع الآخرين، وما يعزز هذا التوجه هو انتقال الحديث عن 'حقوق الإنسان' عندما تعني الرجل وأبعاده المادية إلى حقوق الإنسانية Les droit Humains حيث يراد بها ليس فقط الرجل وإنما المرأة أيضًا علاوة على الاهتمام بالحقوق الداخلية أو الروحية.

فوعي الإنسان بكل أبعاده وذاتية المجتمع الذي يعيش فيه من اللحظة العالمية والتفكير في صالح العالم.

يساعد على ازدهار الشخصية والرفع بها إلى مجالات أرحب لتصوغ فقرات كاملة من البيان العالمي للحضارة الإنسانية الجديدة، تخاطب الجميع لأنها من الجميع.

وبصفة عامة فقد تعددت اتجاهات التفاعل مع العولمة بين المسلمين، وهي تتراوح بين اختيار إيجابيات العولمة حتى الدعوة لقيادة المسلمين في هذه المرحلة، وفي كل الأحوال أصبحت ردود الفعل جميعها أكثر واقعية وتكيفيه، وخمدت النزعة الصراعية نسبيًا، وهناك اتجاه بارز هو أن المسلمين قادرون على أن يوجهوا بوصلة سير العالم مستقبلاً، إن صدقت النيات واجتمعت العزائم، يقول الدكتور المسيري: 'وعلى المستوى الثقافي نجد أن الهيمنة الغربية الثقافية بدأت في التراجع، والنموذج الغربي لم يعد جذابًا لا بشخصه الرأسمالي، ولا بشخصه الاشتراكي، بمعنى أن الاختراق الداخلي لهذه الحضارة، قد حدث، فالنظام الاشتراكي قد انهار والنظام الرأسمالي أصبح في أزمة'. وهذا المدخل يعني أن الساحة قد أصبحت خالية أو مهيأة لأن يحل البديل الإسلامي محل النظم السابقة.

ولكن لا ننسى أن الطريق شاق وطويل أمام المسلمين لإقناع العالم وبخاصة الغرب بأهمية الخصوصيات الثقافية الإسلامية التي لا تتعارض البتة مع المواثيق والقوانين الدولية.

ولكنها يمكن أن تكملها وتثريها بما فيها من مفاهيم وروحانيات، إنما الغرب في أشد الحاجة إليها، وعلينا أن نحدد معالم تلك الخصوصيات الثقافية الإسلامية التي تعتبر القاسم المشترك لشعوب الأمة الإسلامية التي أراد الله سبحانه وتعالى أن تكون 'خير أمة أخرجت للناس'.

=============

#من روائع الحضارة الإسلامية .. النظام الاقتصادي في الحضارة الإسلامية

الصفحة الرئيسة

مفكرة الإسلام :

جاء الإسلام بدعوة خاتمة لكل الرسالات والدعوات, ونزل القرآن مصدقًا لما بين يديه من الكتب السابقة ومهيمنًا عليها, وجاء الرسول صلى الله عليه وسلم كخاتم المرسلين بالرسالة العالمية الجديدة للبشر كافة والعالمين أجمعين، لذلك فقد اقتضت عالمية الرسالة الخاتمة أن تكون جامعة مانعة جامعة لها خير يحتاج إليه الإنسان في دنياه وأخراه, ومانعة لها ما يؤذيه ويكدر صفو حياته ويعطل سيره لأخراه, فجاء الإسلام بدعوة دين ودولة ودعوة حياة اجتماعية وسياسية واقتصادية وفكرية ووضع أسس العقيدة النقية ونظم العلاقات على كل المستويات لتنتج لنا في النهاية مجتمعًا مسلمًا متميزًا في كل شئ عقديًا وسلوكيًا وأخلاقيًا واجتماعيًا واقتصاديًا وفكريًا وحضاريًا.

ومن أبرز ما تميزت به الحضارة الإسلامية والتي تمثل تفاعل كافة القيم والتعاليم الإسلامية مع المجتمع البشري هي تلك النظم التي قامت عليها تلك الحضارة الإسلامية والتي شملت أمور الحكم والإدارة والسلام والحب والاجتماع والاقتصاد وكل ما يتصل بتنظيم أمور الدولة المسلمة التي هي المحتوي العلمي لقيم الحضارة الإسلامية, وحديثنا في هذا المقام عن النظام الاقتصادي في الحضارة الإسلامية.

* بيت المال 'وزارة المالية':

تعتبر الحضارة الإسلامية الرائدة في مجال تنظيم الأموال الاقتصادية والموارد المالية للأمة الإسلامية وعرفت البشرية أول وزارة للمالية على نفس النمط الذي يسود الآن في أرقى الدول المتحضرة وهذه الوزارة الرائدة كانت 'بيت المال', ويعتبر الخليفة الراشد عمر بن الخطاب رضي الله عنه أول من أنشأ بيت المال بسبب الفتوحات العظيمة التي تمت في عهده والخيرات التي تدفقت على الدولة المسلمة, فقد روى ابن سعد في طبقاته أن أبا هريرة قدم على عمر من البحرين فلقيه في صلاة العشاء الآخرة فسلم عليه ثم سأله عن الناس ثم قال لأبي هريرة: ماذا جئت به؟ قلت: جئت بخمسمائة ألف درهم, قال: ماذا تقول؟ قلت: مائة ألف، مائة ألف، مائة ألف حتى عددت خمسًا، فقال عمر، إنك ناعس فارجع إلى أهلك فنم, فإذا أصبحت فأتني، قال أبو هريرة: فغدوت إليه فقال: ماذا جئت به؟ قلت: جئت بخمسمائة ألف درهم, قال عمر: 'أطيب' قلت: نعم لا أعلم إلا ذلك، فقال عمر للناس: إنه قد قدم علينا مال كثير, فإن شئتم أن نعده لكم عدًا وإن شئتم أن نكيله لكم كيلاً، ونشأت من يومها فكرة بيت المال.

ولقد أنشأ عمر بيت المال الفرعي في كل ولاية يكون خاصًا بموارد ومصارف تلك الولاية وما يزيد يرد على بيت المال العام أو المركز الرئيس بالمدينة, وجعل له أمينًا مستقلاً في عمله عن الوالي وعن القاضي وهو ما عرفه العالم بعد ذلك باسم 'مبدأ فصل السلطات'.

وتعالوا سويًا نقترب من بيت مال المسلمين لنتعرف على موارد ومصارف هذا البيت والذي يمثل للنظام الاقتصادي للدولة الإسلامية، وما يوضح عظمة الحضارة الإسلامية وريادتها في هذا المجال وغيره.

موارد بيت المال:

تنقسم موارد بيت المال في الدولة المسلمة إلى عدة موارد ومصادر تحت القاعدة الأصولية العامة [إن الأصل في الأموال الحرمة وما أبيح أخذه يكون بنص].

وهي القاعدة المستفادة من حديث رسول الله صلى الله عليهوسلمي في خطبة الوداع [[إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام ...]] وهذه الموارد كما يلي:

[1] أولاً: الزكاة: وهي ركن من أركان الإسلام وفريضة محكمة وثابتة إلى قيام الساعة وهي مقدار معلوم من مال الأغنياء يرد إلى إخوانهم الفقراء وهي أرقى صور التكافل والتراحم الاجتماعي والذي لا يعرف نظيره في أي مجتمع من المجتمعات السابقة أو اللاحقة، والمال الواجب فيه الزكاة، أربعة أقسام، [1] زكاة النقد [2] زكاة السوائم والأنعام والماشية [3] زكاة الزروع والثمار [4] زكاة الركاز والمعادن.

وهذا المورد من موارد بيت مال الدولة المسلمة يتميز عن باقي الموارد بتحديد مصارفه وأوجه إنفاقه وهي المذكورة في الآية رقم 60 من سورة التوبة.

[2] ثانيًا: الخراج: لما فتح المسلمون بلاد العراق وأزالوا دولة الفرس المجوس منها وأيضا فتحوا الشام والجزيرة وطردوا الروم منها طلب كثير من كبار الصحابة من الخليفة عمر بن الخطاب أن يقسم الأرض المفتوحة على الفاتحين والمجاهدين كما قسم عليها الغنائم المنقولة من سلاح ومتاع ولكن عمر رأى أن تكون الأرض المفتوحة فيئًا لعموم المسلمين على مر العصور, واستند في رأيه على آيات الفيء الموجودة في سورة الحشر, وأية الفيء هذه لعموم المسلمين حتى في العصور القادمة، وألح عليه الصحابة في تقسيم الأرض ولكنه أبى وأيده في رأيه عبد الرحمن بن عوف وشرح الله عز وجل صدر الفاروق لهذا الرأي الذي كان فيه الفلاح والصلاح للأمة المسلمة، وجعل عمر هذا الأرض عليها مقدار معين من المال تدفعه كل عام وهو ما عرف بالخراج، والأرض الخراجية تنقسم إلى نوعين هما:

1ـ الأراضي التي فتحت عنوة وبقى عليها أهلها دون أن يدخلوا في الإسلام، يفلحونها لحاجة الدولة لخبراتهم على أن يدفعوا خراجها وينتفعوا بالباقي مقابل عملهم في الأرض.

2ـ الأراضي التي فتحت صلحًا واتفق المسلمون مع أهلها على أداء خراجها مقابل أن تبقي في أيديهم يتوارثونها طالما يدفعون خراجها ولا يستطيع أحد أن يأخذها.

وكان الخراج أحيانًا في صورة مال أو حاصلات زراعية وكان يجبى بعد الحصاد, وحولُه شمسي لا قمري لارتباط الزراعة بالنظام الشمسي والفصول الأربعة.

مع ملاحظة حقيقة هامة تضمن استمرارية الخراج كمصدر هام من مصادر الأموال في الدولة المسلمة وهي أن الخراج لا يسقط عن الأرض أبدًا حتى ولو أسلم أصحابها، ويعتبر كتاب الخراج للقاضي أبي يوسف صاحب أبي حنيفة من أفضل وأول ما كتب في مصادر بيت مال الدولة ومصارفه كتبه بناءً على طلب الخليفة العباسي هارون الرشيد الذي أراد ضبط الأمور المالية في خلافته.

كيف تعامل عمر مع أرض الخراج؟

لما اتضح لعمر رأيه في الأرض المغنومة أرسل من قبله رجالاً لمسح أرض السواد 'بالصراق' فبلغت مساحتها 26 مليون جريب، والجريب مساحته تقدر بألف ومائتان متر، أي أن كل 3,5 جريب يوازي فدان زراعي الآن، وجعل عمر على كل جريب مقدارًا معينًا من الدراهم يختلف من جريب لآخر حسب طبيعة الزراعة أو الثمار والزروع, فالكرم والنخل تختلف عن القمح, والشعير عن القطن عن القصب وهكذا, وبلغت قيمة خراج أرض السواد قبل وفاة عمر بعام واحد مائة مليون درهم.

وقد بقي لنا من عهد المأمون العباسي أثر تاريخ هام يدل على مقدار الجباية الخراجية من جميع الأقاليم, وقد ذكره ابن خلدون في مقدمته نقلاً عن كتاب جراب الدولة ولما في ذلك الأثر من الفائدة والتوضيح نذكره كما هو:

الإقليم الخراج النقدي الخراج العيني

1ـ أرض السواد 27800000 درهم 200 ثوب

2ـ كسكر 11600000 درهم 240 رطلاً من التين

3ـ كور دجلة 20800000 درهم

4ـ حلوان 4800000 درهم

5ـ الأهواز 25000000 30 ألف زجاجة ماء ورد/ 30000 رطل سكر

6ـ فارس 27000000 30200 رطل زيت/ 20000 رطل تمر/ 500 ثوب

7ـ كرمان 4200000

8ـ مكران 400000 150 رطل عود هندي

9ـ السندوماييه 12500000 200 ثوب

10ـ سجستان 4000000 ألفان نقرة فضة/ 40000 برذون/ 1000 رأس رقيق

11ـ خراسان 28000000 20000 ثوب

12ـ جرجان 12000000 30000 رطل أهليلج ونوع من الفاكهة

13ـ قومي 1000000 1000 ثوب حريري

14ـ الرويان ودنباوند 6300000 250 كساء/ 500 ثوب/ 300 منديل/ 3000 إناء فضة

15ـ الري 12000000 20000 رطل عسل

16ـ همذان 11300000 1000 رطل رمان / 12000 رطل عسل

17ـ البصرة / الكوفة 10700000

18ـ ماسبذان والريان 4000000

19ـ شهررؤر 6700000

20ـ الموصل 24000000 20000 رطل عسل

21ـ الجزيرة 34000000 1000 رأس رقيق/ 12000 زق عسل/ 10 صقور

22ـ أرمينية 13000000

23ـ برقة 1000000

24ـ أفريقية 'تونس' 13000000

25ـ قنرين 4000000 دينار

26ـ دمشق 420000 دينار

27ـ الأردن 97000 دينار

28ـ فلسطين 310000 دينار

29ـ مصر 1920000 دينار

30 اليمن 370000 دينار

31ـ الحجاز 3000000 دينار

فيكون بهذا الأثر دخل الدولة الإسلامية من الخراج فقط كمورد من موارد الدولة يبلغ 31960000 درهم 3817000 دينار هذا غير العروض الأخرى المذكورة والتي لو قومت لبلغت مبلغًا كبيرًا كل ذلك يرد إلى بيت مال المسلمين ببغداد.

ثالثا: العشور:

ليست كل أراضي الدولة الإسلامية المفتوحة تعتبر أرضًا خراجية بل هناك نوع آخر من الأراضي لا يفرض عليها الخراج وهي التي يفرض عليها عشر غلتها واسمها الأرض العشرية وهي ثلاثة أنواع:

أـ الأرض التي أسلم أهلها وهم عليها من غير قتال ولا حرب.

ب ـ الأرض التي لم يعرف لها صاحب ووزعت على الفاتحين بإذن الإمام.

ج ـ الأرض البور أو الموات التي فتحها المسلمون وقاموا باستصلاحها.

ويلاحظ أنه لا يجوز تحويل الأرض العشرية إلى أرض خراج كما لا يجوز تحويل أرض الخراج إلى أرض عشرية.

رابعًا: الجزية:

تأمر شريعة الإسلام السمحة النقية أنه إذا أراد المسلمون غزو بلد وجب عليهم أولاً دعوة أهله إلى الدخول في الإسلام فإذا لم يسلموا يبقون على دينهم ويدفعون الجزية مقابل دفاع المسلمين عنهم ورد العدوان عن بلادهم وتمتعهم بجميع حرياتهم, وهي تقابل الزكاة المفروضة على المسلمين وتتبين لنا عظمة هذا الدين القويم في أن الجزية لا تؤخذ إلا من الرجال دون النساء والصبيان ولا تؤخذ من مسكين ولا من أعمى ولا من مقعد لا مال له ولا من راهب ولا من شيخ كبير لا يستطيع العمل ولا من المرضى الزمنى, وليس في أموال أهل ذمة المسلمين زكاة، وتتضح أيضًا عظمة هذا الدين في أن مقدارها يختلف من حالة لأخرى حسب يسر الدافع, وقد ذكر أبو يوسف في كتابه الخراج ثلاثة فئات 58 درهمًا على الموسرين، و24 على المتورطين، و12 على العمال، والجزية لا تسقط عن الذمي إلا في حالة واحدة وهي إسلامه 'بخلاف الخراج'.

وليست الجزية من مستحدثات الإسلام فلقد عرفتها الأمم السابقة, فلقد فرض اليونان القدامى على سكان سواحل آسيا الصغرى في القرن الخامس قبل الميلاد ضريبة أشبه بالجزية مقابل حمايتهم من هجمات الفينيقيين كما فرضها الروم على الشعوب التي أخضعوها لحكمهم وتبعهم الفرس، وكانت الجزية في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم وأبي بكر الصديق على أهل الكتابين اليهود والنصارى, فلما كان عهد عمر بن الخطاب ألحق بهما المجوس عملاً بشدة عبد الرحمن بن عوف, فلما كان عهد المأمون العباسي ألحق بهم 'الصابئة'.

خامسًا: الغنائم:

وهي بحل ما غنمه المسلمون في حربهم ضد الكفار والمشركين من غير الملة, وقد أباحها الله عز وجل لهذه الأمة لما رأى ضعفها وقصر أعمارها وكثرة أعدائها وهي من خصوصيات هذه الأمة الخاتمة ولم تكن لأمة ولا نبي من قبل, وهذه الغنائم عبارة عن المتاع والسلاح والخيل والأموال المنقولة من ذهب وفضة وغير ذلك ولا يستثنى إلا الأرض عملاً بمذهب عمر بن الخطاب رضي الله عنه في جعلها وقفًا لعموم المسلمين.

والغنائم لا يدخل منها في بيت المال إلا الخمس أما باقي الأخماس الأربعة فتوزع على المجاهدين سواء كانوا من الجند النظاميين أو من المتطوعين، أما مصرف الخمس فهو مذكور في قوله عز وجل في الآية رقم 41 من سورة الأنفال كما يلي:

[1] سهم للرسول صلى الله عليه وسلم ينفق منه على نفسه وأزواجه وفي صالح المسلمين, وقد أسقط أبو بكر هذا السهم بعد وفاة النبي [2] سهم ذي القربى وهم قرابة النبي صلى الله عليه وسلم من بنى هاشم وبني عبد المطلب وقد أسقط أبو بكر أيضًا هذا السهم [3] سهم لليتامى [4] سهم للمساكين [5] سهم لأبناء السبيل، وعندما جاء عمر اتفق مع الصحابة على جعل سهم الرسول وسهم قرابته في الكراع والسلاح ومصالح المسلمين وهذا ما عليه الراجح من أقوال أهل العلم.

سادسًا: عشور التجارة:

ولم تكن عشور التجارة من الموارد التي ذكرها القرآن الكريم ولكنها أحدثت في عهد عمر بن الخطاب رضي الله عنه أيضًا وسبب ذلك أن أبا موسى الأشعري كتب إليه أن تجاراً من قبلنا من المسلمين يأتون أرض الحرب فيأخذون منهم العشر ـ ويعني أرض الحرب كل أرض أهلها غير مسلمين ـ فكتب إليهم عمر: وخذ أنت منهم كما يأخذون من تجار المسلمين.

وروي أن أهل مدينة 'مبنج' وكانوا نصارى في شمال الجزيرة كتبوا إلى عمر بن الخطاب يقولون: دعنا ندخل أرضك تجاراً وتعشرنا, فشاور عمر الصحابة في ذلك فوافقوا فأصبحت سنة ماضية, وإذا كان القادم بالتجارة من المسلمين فيُسأل هل أدى زكاة هذه التجارة أم لا؟ ويقبل يمينه على ذلك, وهكذا نرى أن العشور تختلف تمامًا عن صورة الجمارك المفروضة اليوم على كل ما يأتي من الخارج سواء كان التاجر مسلمًا أو غير مسلم.

هذا بالنسبة بموارد بيت مال المسلمين أو ما يطلق عليه في الصورة الحديثة بند 'الإيرادات'، أما بالنسبة للمصروفات أو مصارف بيت المال فهي كالآتي:

أولاً: أرزاق الولاة والقضاة وموظفو الدولة والعمال في المصلحة العامة ومن هؤلاء أمير المؤمنين أو الخليفة نفسه.

ثانيًا: رواتب الجند والعسكر, ولم يكن هناك في حياة النبي صلى الله عليه وسلم مرتبات معينة للجند لأن الجميع كانوا جنودًا ولم يكن هناك جيش نظامي بالمعنى المعروف وكان الجميع يأخذ من أربعة أخماس الغنائم والخراج ولما ولي أبو بكر ساوى بين الناس في الأعطيات فلما جاء عمر بن الخطاب قسم العطاء مفضلاً الأسبق فالأسبق وعلى هذه القاعدة كانت المرتبات كالآتي:

12000 درهم لأزواج النبي صلى الله عليه وسلم ولعمه العباس/ 5000 درهم لأهل بدر وألحق بهم الحسن والحسين، 4000 درهم لمن كان إسلامه كأهل بدر ولكن لم يشهدها وألحق بهم أسامة بن زيد/ 3000 لعبد الله بن عمر وبعض أبناء المهاجرين والأنصار كعمر بن أبي سلمة/ 2000 درهم لأبناء المهاجرين والأنصار/ 800 درهم لأهل مكة 400/300 لسائر الناس/ 600 إلى 200 لنساء المهاجرين والأنصار/ 9000 لأمراء الجيوش والقراء، وهكذا كان الحال, فلما كثر الناس عن حاجة الغزو والجهاد ولدواعي قيام الحضارة العمرانية اشتغل كثير من الأمة بغير الجهاد من الصنائع فلجأت الدولة للجيش النظامي وأصبح هناك دواوين خاصة بالجند ينالون منها الرواتب الخاصة بهم على رأس كل سنة.

ثالثًا: تجهيز الجيوش وآلات القتال من سلاح وذخائر وخيل وما يقوم مقامهما.

رابعًا: إقامة المشروعات العامة من جسور وسدود وتمهيد الطرق والمباني العامة ودور الاستراحة والمساجد.

خامسًا: مصروفات المؤسسات الاجتماعية مثل المستشفيات والسجون وغير ذلك من مرافق الدولة.

سادسًا: توزيع الأرزاق على الفقراء واليتامى والأرامل وكل من لا عائلة له, فالدولة تعوله وتكفله, ومن العرض السابق يتضح لنا النظام الاقتصادي الدقيق الذي ابتكرته الحضارة الإسلامية في خطواتها الأولى ومبكرًا جدًا قبل أي حضارة أخرى سابقة أو حتى لاحقة, فهي صاحبة السبق في تنظيم الموارد والمصارف المالية الخاصة بالدولة، ويبقى بعد هذه الموارد والمصارف كلها أنه قد تفاجئ الدولة بكارثة أو مجاعة أو قحط شديد أو وباء قاتل، وهنا يكون ندب الأغنياء من المسلمين من غير إكراه للصدقة والعطاء لإنقاذ جمهور المسلمين كما فعل عثمان بن عفان مع المجاعة في عهد أبي بكر الصديق عندما تصدق بأموال طائلة لنجدة المسلمين وكما فعل عبد الرحمن بن عوف أيام عمر بن الخطاب وأمثال ذلك كثير عبر التاريخ الإسلامي مما يضمن استمرارية تدفق الأموال على خزينة الدولة دون إكراه أو مصادرة أو إجبار.

وهكذا نرى أن المنظومة الاقتصادية في الحضارة الإسلامية كانت تمثل معلمًا بارزًا من معالم تلك الحضارة ضمنت لتلك الحضارة وتلك الدولة المسلمة الاستقلالية والاستمرارية والتوسع والانتشار وأيضًا الشفافية في التعامل والحرية في اتخاذ قراراتها فإن الدولة متى اعتمدت على غيرها في المساعدات والقروض فقد تخلف طواعية عن سيادتها واستقلاليتها لصالح من تأخذ منه الأموال وهذا وقع بالفعل لكثير من بلاد المسلمين الآن وهذا رغم تراثهم العظيم والحافل من رصيد التجربة في الحضارة الإسلامية

==============

#الصحة الإيمانية .. وأثرها على واقع الأمة [2]

الصفحة الرئيسة

الرضا بقضاء الله:

هذا ما أكده الشيخ علي العمري بقوله: وصاحب الصحة الإيمانية هو الذي يربط الناس بالله ويذكرهم بلزوم الصبر ورضاه على أقدار الله، فلا يمكن أن يطق لسانه إلا بالرضا عن الله. وإننا لنعجب من بعض المسلمين والدعاة المؤمنين الذين يعيشون مع موجة اليأس التي تحيط بالناس وانسداد الأبواب، وقلة الأرزاق. بل لا بد أن يتميزوا بتذكير الناس بالرضا والقناعة بما قسم الله، وبيان قرته وعظمته وأن الله لا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء.

حسن الخلق:

قال الأستاذ الدكتور عبد الصبور شاهين: وحين تستخدم اللغة العربية كلمة 'الإسلام' فإنها تعني: جملة الفرائض الظاهرة، كالصلاة والصوم والزكاة والحج، فأما حين تستخدم كلمة 'الإيمان' فإنها تعني الجانب الأخلاقي، وهو مرتبط بأحوال القلب، ولذلك جاء من توجيهات الرسول صلى الله عليه وسلم: 'لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه', وجاء أيضًا' 'لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من نفسه وولده والناس أجمعين'، وأمر 'الحب' خفي لا يعلمه إلا الله، والمؤمن الحق يستحي، بل يحذر أن يطلع الله سبحانه في قلبه على ما ينافي الحب الصادق لرسول الله، ولأخيه المسلم.

على هذا الجانب الأخلاقي يقوم بناء المجتمع الإسلامي، وبه ينهض مجتمع الإيمان الصحيح، أي أن عقيدة الإسلام لها ظاهر وباطن، فأما ظاهرها فهو الفرائض، وأما باطنها فهو الأخلاق والسلوكيات التي تجعل المؤمن متميزًا في سلوكه وتعامله، وهو الجانب الجوهري المرجو الذي يحرص عليه الإنسان المؤمن.

فغاية الإيمان من الالتزام بالأخلاق الدينية هي غاية علوية لا سفلية، أخروية لا دنيوية، ومن ثم كان الحيز المطلق هو الغاية للإيمان.

فأما الكفر فإنه لا يعرف غاية للالتزام بالأخلاق سوى 'المنفعة' وقد كان هذا المذهب 'النفعي' وراء كل الجرائم والمظالم التي ارتكبتها الحضارة الغربية في حق الشعوب المستضعفة، التي اتخذتها عرضًا لعدوانها، وجعلتها هدفًا لإجرامها، وسلطت عليها قوى الشر والبغي، والاحتلال والاستغلال.

أما الإيمان فحين تجلى في أخلاق المؤمنين فإنه التزم بدستور الأخلاق القرآنية، وتعاليم السنة المحمدية، يقول الله سبحانه: {وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} [البقرة:190]، ويقول في نفس السياق: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَلا عُدْوَانَ إِلاَّ عَلَى الظَّالِمِينَ} [البقرة:193]، ولم يعرف التاريخ غزاة فاتحين يلتزمون بالعدل المطلق مع أعدائهم ـ إلا المسلمين.

محبة الله:

قال الشيخ إبراهيم الحارثي: قال تعالى: {وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبّاً لِلَّهِ} [البقرة:165] أشد حبًا لله من كل شيء يمكن أن يراه الإنسان أو يسمع عنه أو حتى يخطر في باله، وحين يصل المؤمن إلى هذه الدرجة من الحب يكون قد استكمل الإيمان كما جاء في الحديث الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: [[لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من والده وولده والناس أجمعين]].

واضح هنا أشد الوضوح أن كمال الإيمان يتحقق بحب الله تعالى كما في الآية وبحب رسوله صلى الله عليه وسلم كما في الحديث، وهما في النهاية شيء واحد، ولكن هذا الحب يعني استسلامًا وانقيادًا كاملاً وشعورًا غامرًا بالحاجة إلى امتلاء القلب والعقل بالرضا بالله جل وعلا برسوله صلى الله عليه وسلم: 'ذاق طعم الإيمان من رضي بالله ربًا وبالإسلام دينًا وبمحمد رسولاً'.

صفاء الروح:

قال الشيخ الحارثي: المؤمن العامل للصالحات له حالة وجدانية فريدة، حالة تبدأ من القلب وتمتد نحو الجوارح عبر كل العروق والأوردة والشرايين لتجعل من ذلك الجسد، جسدًا طاهرًا يتمشى على الأرض بين الناس وروحه تحلق في أعلى عليين، وتحوم حول ملكوت الله وعظمته، تعيش بها ومعها ومن أجلها.

قاعدة الصحة الإيمانية:

أتحفنا الشيخ علي العمري بكلام نفيس في قاعدة الصحة الإيمانية ومفرداتها ثم ختم مستوياتها.

قال فضيلته: وكأي إنسان في الحياة يعتريه الضعف والفتور والمرض، كذلك الصحة الإيمانية يعتريها الضعف والمرض، ولأن المرض أنواع، كذلك الحالة الإيمانية التي تعتري الإنسان تتشكل بصور مختلفة.

ولو أردنا أن نشبه الصحة الجسمية بالصحة الإيمانية فإننا نقول: أن الجسم يؤثر فيه كثيرًا فعل المحرمات 'كشرب الخمر، وتعاطي المخدرات، وأكل الحرام..' وهذه التي نسميها 'محظورات' ويحافظ على الجسم وبقائه؛ 'الأكل الطبيعي، الشرب الطبيعي' وهذه تسمى 'ضروريات'.

وهناك أمور بعيدة عن قضية الأكل والشرب 'كالمشي، والتعرض للشمس وحسن التهوية' وهذه تسمى 'وقائيات' وهناك أمور أخرى 'كالابتعاد عن الدهنيات، والغازيات ..' وهذه تسمى 'معينات'. كما أن الجسم قد يعتريه بعض الجروح والآلام وهذه قد تكون خفية وبعضها ظاهرة، بل ومعروفة السبب فإذا ما سارع الإنسان بمعالجتها نجا وإذا ما تمادي لربما سببت له مصائب وأحزان!. ومن هنا يمكننا أن نضع قانونًا لما يعتري الصحة الجسمية وهو..

قانون الصحة الجسمية:

سرعة العلاج + الصبر = استقرار الصحة الجسمية

كما أننا نخلص إلى أن قاعدة الصحة الجسمية تعني:

قاعدة الصحة الجسمية = ضروريات + محظورات + وقائيات + معينات

وعلى ضوء هذه القاعدة يمكن أن نربط بينها وبين الصحة الإيمانية.

فالصحة الإيمانية كذلك هي الأخذ بالضروريات وهي [الأركان الأساسية في الدين، والواجبات الشرعية في جانب الإيمانيات مثل الصلاة المفروضة، والصيام، الزكاة، الحج، صلة الرحم..].

والمحضورات هي [الإشراك بالله، والفواحش، وبدع العبادة، واتباع الهوى، والمشي وراء خطوات الشيطان، والتعرض للفتن، والتساهل في الصغائر...].

والوقائيات: [وضع ضوابط التعامل مع الناس مثل أكل الحرام، الغش، الخداع، ضبط الجوارح، الجلوس في مجالس الهوى والفتن .. إلخ].

والمعينات [كصلاة الليل، كثرة التسبيح، الإحسان للمحتاجين، قراءة القرآن، طول التفكر، مجالسة الصالحين].

ويربط بين هذه الأمور الأربعة مسألة مهمة جدًا وهي بمثابة قانون الصحة الإيمانية ألا وهي مسألة الصبر والمجاهدة، وهي خلاصة آيات الثبات كما قال تعالى: {وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ} [الكهف:28]، ويقول تعالى: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ} [العنكبوت:69].

إذًا عند المقارنة بين الصحة الجسمية والصحة الإيمانية نجد أن النتيجة واحدة، وهي أن قانون الصحة الإيمانية هو:

قانون الصحة الإيمانية:

سرعة العلاج + الصبر = استقرار الصحة الإيمانية

كما أننا نجد أن قاعدة الصحة الإيمانية تعني:

قاعدة الصحة الإيمانية = ضروريات + محظورات + وقائيات + معينات

مفردات قاعدة الصحة الإيمانية:

ذكرنا أن قاعدة الصحة الإيمانية هي عبارة عن:

1ـ ضروريات: وهذه الضروريات في الجانب الإيماني العبادي تشمل الصلاة والخشوع فيها، والتأثر والبكاء، وتشمل صيام شهر رمضان، وأداء الزكاة المفروضة، وحج بيت الله الحرام. وحول هذا المعنى نجد الحديث في الصحيح عن ضمام بن ثعلبة عندما سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الأركان الخمسة، وأجاب عنها، ثم قال: والله لا أزيد على هذا ولا أنقص. وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أنه من أهل الجنة. وهنا لا بد أن نقف عند هذا الحديث الشريف. فضمام بن ثعلبة كان يصلي الصلوات المفروضة، ولكنها يا ترى هل هي كصلاتنا؟ وكان يصوم لله فهل هو كصيامنا؟ أنا أجزم أن الحديث حق، ولكني أقول: إننا لم نؤد العبادات بالشكل المطلوب منا، ودعونا ندلل على هذه المفاهيم بالشواهد التالية:

قال عدي بن حاتم: 'ما دخل وقت صلاة إلا وأنا أشتاق إليها'.

وقال أبو سليمان الداراني: 'ما رأيت أحدًا الخوف أظهر على وجهه من الحسن, قام ليلة بـ 'عم يتساءولن' فغشي عيه، فلم يختمها إلى الفجر'. إذن هناك فرق بين حالنا وحالهم، وهذا سر التأثير.

2ـ محظورات: وهذه المفردة الثانية من مفردات قاعدة الصحة الإيمانية، والمحضورات قسمان: محظورات مباشرة، ومحظورات غير مباشرة.

فالمحظورات المباشرة كشرب الخمر، وفعل الفواحش، وأكل الحرام. وهذه تأثيرها في الصحة الإيمانية مباشر. ومثال ذلك قول بعض السلف: [[إذا أكلت الحلال أطعت الله شئت أو أبيت، وإذا أكلت الحرام عصيت الله شئت أو أبيت]].

وقول أحد السلف: 'رب نظرة حرمت قراءة سورة، ورب أكلة حرمت قيام ليلة'.

والمحضورات غير المباشرة: كالخواطر التي لا ترضي الله تعالى، واتباع خطوات الشيطان، وقد وضع مسروق الأجدع قاعدة توضح هذا المعنى بقوله: 'من راقب الله في خطرات قلبه عصمه الله في حركات جوارحه' فمن أراد الصحة والعافية الإيمانية فليتق الله تعالى، ولا يتساهل مع النفس والهوى والشيطان، حتى لا يتعب في الدنيا ويخسر في الآخرة. والوصية عند أبي سليمان الداراني قائلاً: 'من صفى صُفي له، ومن كدر كُدِّر عليه، ومن أحسن في نهاره كوفئ في ليله، ومن أحسن في ليله كوفئ في نهاره'. وقال: كان ها هنا شيخ يدور في المجالس يقول: 'من سره أن تدون له العافية فليتق الله عز وجل'.

3ـ الوقائيات: وهي التي يعلم منها التأثير المباشر على صحة الإيمان والقلب، من كثرة النوم والأكل والخلطة. وفي هذا يقول إبراهيم الخواص رحمه الله: 'دواء القلب بالتدبر، وقيام الليل، والتضرع عند السحر، ومجالسة الصالحين'.

وقال أحد السلف: 'يحرم العبد قيام الليل بأكل الشبهات، أو الإصرار على الذنب، أو غلبة هم الدنيا على القلب'. وفي الحديث الحسن: 'علامة المؤمن أن يدع ما لا بأس به حذرًا مما به بأس'. ألا وإن تفلت القلب ممر إلى تفلته.

4ـ معينات: وهي كثيرة نافعة 'كزيارة القبور، والتفكر، والصدقة، وقيام الليل، ومسح دمع اليتيم، والزيارة في الله، والخلوة، وقراءة القرآن، والعمرة، وقراءة سير الصالحين، القعود إلى الإشراق..'. وهذه المولدات للطاقة الإيمانية كان يحرص عليها السلف الصالح كثيرًا، ويؤكدون عليها، لأنها تحافظ على الجو الإيماني العام، وتعصم بعد عصمة الله العبد، لأنها تملأ القلب بحب الله جل جلاله.

وبمقدار وجود هذه المقادير الإيمانية في القلب يستطيع مواجهة لحظات الغفلة، والصبر على معترك الحياة. وبمقدار نسيان هذه المقادير الإيمانية يكون التعرض للفتن. وهذا ما صرح به الإمام حسن البنا ـ رحمه الله ـ في آخر حياته بعد أن رأى جملة من إخوانه في معترك العمل السياسي على حساب العمل التربوي والإيماني وقد أثر ذلك فيهم، قال رحمه الله: 'لو استقبلت من أمري ما استدبرت لعدت بإخواني إلى المأثورات'!

مستويات الصحة الإيمانية:

القاعدة المشهورة الصحية هي: 'أن الإيمان يزيد وينقص يزيد بالطاعات، وينقص بالمعاصي'. والمستوى المطلوب في الصحة الإيمانية والذي أطلت النظر فيه كثيرًا واطمأننت إليه، هو عين ما أخبر عنه شيخنا الأستاذ الراشد بكلام مجمل عظيم، يقول فيه: 'ويسألني كثير من الدعاة عن تقصير في النوافل والسنن يشعرون به، زاحمتهم عليها الواجبات الدعوية الثقيلة، وكثرة التحرك، والإداريات والعلاقات العامة، ويرغب هؤلاء أن يأنسوا بركعات أكثر، وتلاوة أطول، ولكنهم لا يستطيعون'. وكان جوابي دائمًا أن الفرض، والإكثار من السنن، وإطالة اللبث في المسجد .

ثم هو مطالب ثانيًا بالتقوى بكف نفسه عن المحرمات، من الكبائر مثل الزنا والربا وعقوق الوالدين، أو أنواع المعصية التي هي أصغر، مثل مقدمات الكبائر ولواحقها، في أنواع كثيرة حتى تصل إلى قلة المبالاة بإسباغ الوضوء مثلاً، أو نبرة قاسية في الكلام، أو تكبر على مستضعف. والذي أفهمه من قواعد الشرع ودلت عليه تجربتي أن الأهم هو هذه التقوى التي يتمتع بها المؤمن عن مقاربة السوء، وهي مقدمة على ممارسة النوافل وأثرها أعظم، والتوفيق الذي يرجوه الداعية في أعماله الدعوية أو في حياته الخاصة، بحيث يصيب النجاح أو يتوسع له الرزق؛ إنما هو نتاج هذه التقوى غالبًا، وبها يشاد الأساس، ثم ترفع النوافل جدران توفيقه على هذا الأساس.

ولا تحبسن أن اكتشاف هذا الميزان جاء سهلاً سريعًا، فإن كل مؤمن قد يقول ذلك، ولكن درجة الإيمان بهذه الحقيقة تختلف، وتظل قناعته تزداد حتى تتحول إلى يقين راسخ بجريان هذا الميزان وحكمه لحركات الحياة، فيكتشف بالتجربة اليومية أن الله يراقب عباده، فيجازي المحسن والمسيء أولاً بأول، وتحصل له قصص في ذلك على مدى ساعاته، ما أن يحصل له سوء ويفحص سلوكه إلا ويجده متعلقًا بمعصية اقترفها من قريب، أو فضل إلا ويجده من آثار امتناعه عن معابة تحاشاها'.

وقبل أن أترك هذه النقطة الخطيرة والمهمة ـ والكلام ما زال للشيخ العمري ـ بودي أن أؤكد على أن المعنى السابق هو مختصر ما كان يروى في ترجمة مالك بن أنس في قول ابن المبارك عنه: 'ما رأيت رجلاً ارتفع مثل مالك بن أنس، ليس له صلاة ولا صيام إلا أن يكون سريرة عند الله عز وجل'. والمعنى في أنه ليس له كثرة صلاة وصيام كونها هي المؤثرة فقط، وإنما تقوى الله وخشيته. وإلا فمالك رحمه الله هو من سيد العباد في زمانه، وطول الصلاة عند قوم لربما تعادل عشرات الركعات عند آخرين، فالجواب في هذا ليس واحدًا للجميع، فليعلم ذلك. والله أعلم.

خواؤنا الروحي:

أكد الدكتور عبد الستار فتح الله سعيد أن الأمة الإسلامية هي خير أمة أخرجت للناس، بشرط أن تعمل بما قاله الله من شروط وهي: تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر، فإذا أدت هذه الشروط وصار لها العز والتمكين في الدنيا والآخرة، لكن الأمة فرطت في دينها، وتشوش عليها إيمانها، لذلك وقعت في نذير الله عز وجل: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً} [طه:124]، لذلك يجب أن ترد كل أزماتنا إلى هذا المحور الأساس الذي تقوم عليه حياتنا ومماتنا، والأمة الآن تحتاج إلى تصحيح إيمانها وتجديد دينها، والعودة إلى أصولها لتظل كما كانت خير أمة.

وقال الأستاذ الدكتور عبد الصبور شاهين: لعلنا لو تلمسنا واقع المجتمع المعاصر لم نجد سوى درجة الانتماء إلى [الإسلام] في أفضل الحوار، وربما زادت بشيء من الإقرار ببعض العقائد الغيبية الإيمانية، فأما درجة [الإحسان] فشيء غائب عن واقع المجتمعات المعاصرة إلا من رحم بك.

وقد سلطت 'مجلة المنار' الضوء على الصحة الإيمانية لدى الدعاة ـ كما أسلفنا في مقدمة الملف ـ وها هي الأرقام تتكلم وتفضي لنا عن حقائق يدمي لها القلب ويندي لها الجبين، فبعد أن كان السلف يعزي بعضهم البعض عند التخلف عن صلاة الجماعة، بعد أن كان بعضهم يختم ستين ختمة في رمضان، بعد أن كان الواحد منهم يأتي بنصف ماله والآخر بكل ما يملك تاركًا لأهله الله ورسوله بعد أن كان الواحد منهم يقوم الليل حتى تتفطر قدماه, ها هي الأرقام تتكلم وتعلن لنا البون الشاسع الذي بيننا وبينهم إيمانيًا ومن ثم كانت النتائج والآثار ـ ولا بد ـ تحكي أيضا بونًا كبيرًا بيننا وبينهم ...

الاستبيان:

عدد المشاركين في الاستبيان '198' [علما بأن الاستبيان قد أجري على عينات عشوائية من الدعاة في مختلف مناطق المملكة].

وقبل أن نطلعك على الاستبيان ونتائجه ـ أيها القارئ الكريم ـ نريد إن سمحت لنا ـ أن نسألك هذا السؤال.

ـ هل تعتقد أن الدعاة وأنت منهم يعانون من ضعف إيماني؟

والآن نطلعك على إجابة إخوانك الدعاة على هذا السؤال:

نعم [87%] لا [13%] لم يجب عليه أحد [49]

1. الفروض التي لا أصليها في وقتها خلال شهر واحد:

ج. [أكثر من 5]

[27%]

...

ب. [3ـ 5]

[26%]

...

أ. [1ـ 2]

[47%]

2. . الفروض التي أصليها في وقتها في البيت من غير سبب:

ج. [أكثر من 5]

[17%]

...

أ. [3ـ 5]

[26%]

...

ب. [1ـ 2]

[63%]

3. أصلي السنن الرواتب:

ج. [أحيانًا]

[20%]

...

ب. [غالبًا]

[46%]

...

أ. [دائمًا]

[34%]

4. أصوم التطوع:

ج. [أحيانًا]

[69%]

...

ت. [غالبًا]

[22%]

...

أ. [دائمًا]

[9%]

5. أصلي الوتر بعد من الركعات:

ج. [3]

[71%]

...

ب. [3ـ 5]

[24%]

...

أ. [7ـ 11]

[5%]

6. أختم القرآن الكريم كل:

ج. [بالبركة]

[65%]

...

ب. [شهرين]

[24%]

...

أ. [شهر]

[10%]

7. أنفق في سبيل الله:

ج. [أحيانًا]

[46%]

...

ب. [غالبًا]

[33%]

...

أ.[دائمًا]

[21%]

8. أقوم الليل مرة كل:

ج. [3 أشهر فأكثر]

[50%]

...

ب. [شهر ـ شهرين]

[18%]

...

أ. [أسبوع ـ شهر]

[32%]

9. أحافظ على أذكار اليوم والليلة:

ج. [أحيانًا]

[15%]

...

ب. [غالبًا]

[38%]

...

أ.[دائمًا]

[47%]

10. أذكر الله الذكر المطلق:

ث. [قليلاً]

[14%]

...

ب.[أحيانًا]

[42%]

...

أ.[كثيرًا]

[44%]

11. أبكي من خشية الله جل وعلا مرة في:

ج.[الشهرين]

[53%]

...

ب.[الشهر]

[27%]

...

أ.[الأسبوع]

[20%]

الآثار والنتائج من هذا الواقع:

ولقد توجهنا بسؤال لفضيلة الدكتور عبد الستار فتح الله سعيد: هل أنتم ترجعون الهزيمة الحضارية للأمة إلى خوائها الروحي؟

فأجاب: نعم، العلاقة بينهما كعلاقة المقدمة والنتيجة، فالله سبحانه وتعالى وعد المؤمنين 'إن استقاموا على طريقته العظمى مكن لهم في الأرض وجنبهم السيئات، وجعلهم في أمن وطمأنينة {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} [النور:55]، فهناك تلازم بينهما.

ووعد الله المفرطين بالبؤس والشقاء وتسلط الأعداء، قال تعالى: {فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى} [طه:123]، وقال: {وَأَلَّوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لأسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقاً} [الجن:16]، ولما كانت الأمة قد فرطت في دينها وتكاسلت عن جهادها، وصارت إلى ما حذرها منه النبي صلى الله عليه وسلم وهي أن تكون غثاءً كغثاء السيل، فقد استحقت الوعيد لا الوعد، ولا مخرج لها إلا بالعودة إلى دينها كما أخبر نبيها صلى الله عليه وسلم: 'ألا إنها ستكون فتنة، قلنا: وما المخرج منها يا رسول الله؟ قال: كتاب الله تعالى فيه نبأ ما قبلكم وخبر ما بعدكم، وحكم ما بينكم'.

إن من آثار تدني الإيمان المعيشة الضنك للفرد والأسرة والمجتمع والعالم، هذا ما أشار إليه أ.د عبد الصبور شاهين بقوله: بدون هذا الإيمان فإن الصلة تنقطع بين المخلوق وخالقه، وبذلك يفقد المخلوق السند، ويسقط في وهدة اليأس والضياع، وهو وقوله تعالى: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى[124]قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيراً[125]قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى} [طه:124ـ126].

أي: أن الذنوب والمعاصي لن تمنح أهلها استقلالاً عن الوجود الإلهي، بل سوف يرون في واقعهم معيشة ضنكًا، حين يحجب الله عنهم رزقه، ويحرمهم نعمته، وهذا هو ما يحدث في الدنيا، أما في الآخرة فسوف يحشرون {عُمْياً وَبُكْماً وَصُمّاً} [الإسراء:97]، أو كما قالت الآية السابقة من سورة [طه].

وأضاف أ.د شاهين بقوله: قال تعالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} [آل عمران:110]، وفي هذه الآية ـ كما نرى ـ ربط للخيرية في الأمة بما تقوم به من التزام بالإيمان، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فليست خيرية الأمة المحمدية ذات طابع عنصري، كما يزعم اليهود لأنفسهم بأنهم [شعب الله المختار]، ولكنها خيرية عمل صالح، وإيمان صادق، بحيث يدوم لها وصفها بالخيرية ما دامت تقوم بوظائفها: [تأمرون بالمعروف، وتنهون عن المنكر، وتؤمنون بالله]، فإذا لم تقم هذه الأمة بما نيط بها من وظائف فقدت خيريتها، أو بتعبير آخر: فقدت الوسام الإلهي الذي منحته في القرآن، وهذه هي النتيجة المترتبة على الخواء الروحي [النفسي] والإيماني.

وأضاف الأستاذ الدكتور عبد الصبور شاهين: ومن هناك كانت الأزمة الإيمانية التي برزت آثارها في كل مكان، وعمت سائر الأرجاء وتجلت فيما يوجه على أهل الإيمان من اضطهاد، وإبعاد عن خطاب الجماهير في بلاد كثيرة، وإبراز لدور [الزعانف والذيول] في الحديث عما يزعمون أنه [الإسلام] بجوهره، وما يقولون سوى [هذرمة] لا معنى لها، ولا هدف إلا إملال الناس من الكلام عن الإيمان، والقضاء على أي أمل في إحياء العقيدة، وإنعاش الإيمان في الأنفس والأفئدة، ولاسيما لدى الأجيال الناشئة، وذلك هو الخطر الأكبر الذي يهدد استمرار تيار العقيدة الصحيحة.

ولقد قيل: فعل رجل في ألف رجل خير من قول ألف رجل في رجل, فالداعية إن لم يكن وثيق الصلة بالله متقربًا إلى الله بالعبادات والنوافل فأنى لمن يدعوه أن يقتفي أثره, هذا ما أكد عليه الشيخ مالك بن طالب بقوله: وإذا أصر الداعية إلا أن يقصر في هذه العبادات فإننا نقول له: لن يكون لدعوتك ونشاطك بريق وتأثير يؤثر في الآخرين، فبقدر ما تشحن روحك بالإيمان بقدر ما تستطيع أن تؤثر في الناس.

بينت لنا الأستاذة نور الهدى أضرار تدنى الإيمان على الأمة بقولها: وإذا استقرأنا التاريخ الإسلامي منذ بداياته الأولى وحتى اليوم، فلن نجد أوضح من العلاقة بين الخواء الروحي والإيماني للأمة وهزيمتها وتراجعها الحضاري، فقوة الأمة مشروطة بإيمان أفرادها، وضعفها رهين اعتلالهم الإيماني، ومرضهم الروحي. ومن ثم كان المسجد الأقصى في حوزة المسلمين طوال عهود عافيتهم الإيمانية، فإذا تراجعت العافية كان العقاب حرمانهم من امتلاك الأقصى مسرى النبي صلى الله عليه وسلم وأولى القبلتين.

ولذلك أيضًا لم يكتف المجاهد صلاح الدين الأيوبي بإعداد العدة البشرية والعسكرية لتحرير الأقصى، بل ظل سنوات يعد القلوب ويسلحها بالإيمان، وينزع منها الفتور، ويشحذ يقينها لتقود أصحابها في معركة استرداد الأقصى، فكانت حلقات العلم ودروس الإمام الغزالي، وصيحات الجهاد من فوق المآذن، وتحفيز الغيرة، واستدرار الإحساس بالمسؤولية الفردية عن صناعة كل نفس مؤمنة، وسائل سارت جنبًا إلى جانب الإعداد القتالي، وما كان الأقصى ليتحرر على يدي صلاح الدين لو لم يكن قد امتلك فقه الأخذ بالأسباب الإيمانية والمادية معًا 'فإذن الله' الوارد في الآية الكريمة {كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ} [البقرة:249] إشارة واضحة إلى عدم كفاية العدة القتالية فقط لتحقيق النصر، إذ إن إذن الله بالنصر حكر على من يمتلكون أسباب القوة الإيمانية كلها؛ حتى وإن كان عتادهم أضعف، وعددهم أقل.

وعلق الأستاذ عبد الصبور شاهين بقوله: لا ريب أن اندفاع قوى العدوان نحو المشرق العربي هو تعبير عن السعار الذي أصابهم في جانب من جوانب الحياة المادية، وإن كان الضنك لا يقتصر على الناحية المادية، بل قد يكون وباءً أخلاقيًا، لا تتوفر فيه حياة الأمان، ولا أوضاع السلام، ويكفي أن تتسلط القوى الصهيونية على الحياة الأمريكية لتجفف فيها منابع الأخلاق، وتخرب جوانب الخير، وتروج فنون الشر، وتسلط عليها الفقر النفسي ليتحقق هذا الضنك المقدور.

وصدق الشاعر إقبال حين لخص هذه القضية في قوله:

ولا دنيا لمن يحي دينا

...

...

إذا الإيمان ضاع فلا أمان

فقد جعل الفناء لها قرينا

...

...

ومن رضى الحياة بغير دين

وقال الشيخ إبراهيم الحارثي: واقعنا اليوم يدل على انحطاط الإنسان إلى أسفل سافلين، وانحدار الأخلاق إلى مرتبة الحيوانية، وسقوط القيم وانحراف المبادئ، والتحول إلى حياة الجاهلين في أبشع صورها، وظهور الطمع وحب المنفعة ولو على حساب الأمة وحضارتها. ويبدو للأسف أن هذا هو واقع الأمة اليوم إلا ما رحم ربك.

وكم يؤسفني أن أقول هذا ولكن الحقيقة التي لا ينبغي أن نكابر فيها، أن هناك ضعفاً واضحاً في صلة الأمة بربها وفي علاقة الفرد بربه وأمته؟ هناك ولاشك جفاف وجفاء وغلظة وفظاظة، هناك جرأة على الله، وجرأة على القيم والأعراف، هناك أنانية وتسلط وظلم، وغير ذلك كثير، والسبب في ذلك هو الجهل بالله أولاً وانشغال الناس بحياتهم الدنيا بدلاً عن حياتهم العليا، بل هناك إصرار على الإعراض عن الإيمان وسلوك سبيل غير المؤمنين، تئن المساجد وتشكو إلى الله، تبكي المصاحف وتجأر إلى الله، تبرأ الأرض من منكرات الأفعال وسيئات الأخلاق، كل ذلك وغيره تسبب في خواء روحاني وإيماني مخيف يأخذ بالأمة مرة إلى اليمين ومرة إلى الشمال بحسب الهوى لا بمنطق الحق والصواب، ولذا تعيش اليوم أمتنا هزيمة نكراء، وواقعًا مأسويًا اخترناه نحن على علم، وارتضيناه منهجًا للحياة، وإلا فطريق الله واضح، وسبيله بين، ولو أردنا النصر والتمكين فإن الطريق واضح بين لا لبس فيه.

أسباب تدني الإيمان:

قال الدكتور عبد الستار فتح الله سعيد: أما عن الأسباب التي تقف وراء التردي الإيماني للأمة فهي أسباب كثيرة ... أهمها:

ـ تفريط الأمة في تطبيق دينها [فردًا وأسرة ومجتمعًا ودولاً].

والنخبة البديلة التي رباها الكفار في بلاد الإسلام، ومكنوا لهم في الأرض، في كل دولة، وتركوهم يسيرون بالأمة الإسلامية على ذات الخط الذي رسمه الكفار في فترة احتلالهم لبلادنا، قال فيهم النبي صلى الله عليه وسلم: [[هم من جلدتنا ويتكلمون بألسنتنا دعاة إلى أبواب جهنم من أجابهم قذفوه فيها]].

ـ مؤامرات الأعداء لصرفها عن دينها.

ـ ضعف الحس الديني في العالم كله في ظل الحضارة المادية، وكان المأمول أن يقوم المسلمون بتصحيح الوضع، ولكن المسلمين انحرفوا في هذه الخطايا، فأصبحوا يؤثرون الحياة الدنيا على الآخرة، وتسخفهم الموبقات الوافدة من وراء البحار عن دينهم الذي فيه هدى الدنيا.

بينما قال الأستاذ الدكتور عبد الصبور شاهين: ولاشك أن هنالك قوة مضادة لهذا الخير، وهي تعمل على إفساد الحياة، بقيادة الشيطان،وقد أخذ على عاتقه أن يغوي خلق الله، ويحشرهم إلى جهنم، وقد حذرنا الله منه فقال: {إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوّاً إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ} [فاطر:6]، واستطرد الدكتور عبد الصبور شاهين: ويكفي أن ننظر إلى الغارة الأخيرة على الإسلام والتشنيع بأنه دين الإرهاب {كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلاَّ كَذِباً} [الكهف: 5]!!، لقد كان الهدف الرئيس من هذه الغارة خلخلة إيمان الجماهير بالإسلام، وإضعاف الرابطة الإيمانية التي تصل ما بين العقيدة الإسلامية وأتباعها.

وصرحت دعوات كثيرة بضرورة تجديد الخطاب الديني، وتجرأت هذه الدعوات بالمطالبة بتعديل البناء القرآني، حذف الكثير من آياته. وهي دعوات آثمة ظالمة فاجرة، يقصد أصحابها من ورائها تقويض الأساس الذي تقوم عليه أمة القرآن، وبذلك يتم تفريغ الإسلام من مضمونه، ويرتد الناس إلى جاهلية جهلاء، وضلالة عمياء.

ولاشك أن هذه الدعوات قد بلغت مستوى ينذر بخطر داهم، ووصلت إلى مستوى عال من التعامل مع الجماعات الحاكمة، نتيجة الحرص على المغانم والأسلاب، ونتيجة الخواء النفسي الذي يهيمن على كثيرين من المسيطرين على الإعلام، فحالوا بين الكلمة الإيمانية الصادقة وأن تصل إلى الأسماع والقلوب.

ولقد ذكر لنا الشيخ علي العمري بعض الأسباب التي تؤدي إلى تدني الإيمان هي:

قلة المحاسبة ـ غياب الناصح ـ دوام الغفلة ـ البيئة السيئة ـ الوحدة والتعرض للفتنة ـ العلم غير المنضبط ـ الإسراف في المباح ـ اتباع خطوات الشيطان ـ يحسب أن لم يره أحد ـ التساهل في الفرائض ـ البعد عن القرآن ـ قلة المواعظ ـ نسيان التوبة والاستغفار ـ تضييع حقوق الآخرين ـ عقوق الوالدين ـ قلة الدعاء ـ التكبر عن نصيحة الآخرين ـ ضعف الشوق والمحبة لله.

ثم قال الشيخ علي العمري: وأستطيع أن أشبه هذه التردي بالمرض الذي يصيب الإنسان، فبعضه سريع العلاج، وبعضه يحتاج إلى طبيب معالج، وبعضه يحتاج إلى جهد وإنفاق مال، وهكذا الحصة الإيمانية تمامًا، منها ما يمكن علاجه بسرعة، ومنها ما تغلغل، فيحتاج الأمر إلى جهد ومجاهدة وصبر وإرادة ودعاء، وهكذا...

وما سبق أن ذكر من نقاط حول كل منها تفصيل وتوضيح، والحر تكفيه الإشارة

===============

#وفاة طه حسين – الأكذوبة الكبرى

الصفحة الرئيسة

الزمان/ 2 شوال - 1393هـ

المكان/ القاهرة – مصر .

الموضوع/ وفاة الكاتب طه حسين الملقب زوراً بعميد الأدب العربي .

الأحداث/

مفكرة الإسلام : عندما فشلت الحملة الصليبية الثامنة على بلاد الإسلام بقيادة لويس التاسع ملك فرنسا ووقع نفسه في الأسر ودفع فدية عظيمة من أجل فك أسره أيقن الصليبيون وعلى رأسهم لويس نفسه أنه لا سبيل للانتصار على المسلمين عن طريق القوة الحربية لأن تدينهم بالإسلام يدفعهم للمقاومة والجهاد وبذل النفس في سبيل الله لحماية دار الإسلام وعرفوا أن عقيدة المسلمين مصدر قوتهم فكتب لويس التاسع وصيته التي جعلته قديساً في عيون الصليبيون يدعو فيها لإيجاد سبيل آخر لغزو المسلمين عن طريق دراسة ثقافتهم الإسلامية واتخاذ ذلك وسيلة وسبيلاً للطعن في دينهم بإثارة الشبهات وتزييف عقائد المسلمين ومن ثم ظهر الغزو الفكري للمسلمين وظهرت تيارات التغريب والاستشراق ,ولقد عمل الصليبيون على نشر التيارات الفكرية العلمانية والإلحادية في بلاد المسلمين عن طريق المدارس الأجنبية والإرساليات التبشيرية التي صارت محضناً لكل فرخ إلحاد يريد أن يريس في طعنه على الإسلام , ولقد حرص المستشرقون على كسب الأنصار واتخاذ التلاميذ والأتباع ممن يتسمى بأسماء المسلمين وينطق بلسانهم ليكون كالببغاوات في ترديد الأباطيل والمفتريات على الإسلام وافتعال معارك حول عقائده وآدابه وكل ما يتعلق بالدين لتعميق ما يروجون له وتشكيك الناس في دينهم واقفين بكل ثقلهم وراء أذنابهم من المسلمين ليكون خير من يقوم بتلك المهمة القذرة نيابة عنهم وصاحبنا الذي ليس لنا بصاحب في هذه الصفحة هو صنيعة الاستشراق الذي روج لأفكارهم وصار خير من يمثلهم حتى فاق أساتذته من الغرب في الطعن في الدين وهم كفاؤه بأن خلعوا عليه صفات وألقاب ضخمة تفتن سامعها وتضلله عن حقيقة صاحبها ولكثرة من فتن به وجب علينا بيان حاله وآراءه ودوره الهام الذي قام به من أجل هدم الإسلام في بلاد الإسلام .

نشأته :

ولد طه حسين سنة 1307 هـ بقرية الكيلو التابعة لمغاغة بمحافظة المنيا في صعيد مصر في أسرة كبيرة يبلغ تعدادها ثلاثة عشر ولداً وبنتاً من اخوته أصيب في صغره بحمى أفقدته بصره وهو في السادسة وهو صغير أثناء تناوله الطعام مع اخوته فضحكوا عليه فترك أثراً في نفسيته غائراً جعلته يحاول وبكل قوته السخرية من الآخرين ونقدهم وتشويههم .

حاول أبوه كعادة أهل البلاد وقتها تحفيظه القرآن على يد أحد المحفظين ولكنه فشل عدة مرات وازداد بغضاً لمن حوله خاصة كل من كان له علاقة بالدين والقرآن لفشله السابق حتى أنه حاول الانتحار وهو في العاشرة من عمره مما يبين لنا الحالة النفسية المعقدة المملوءة بالغضب والحقد على الآخرين وخاصة أهل الدين والقرآن منهم مما عد بذلك تربة صالحة للشيطان وأعوانه أن يبذروا فيها ما شاءوا من الشك والريب , ورغم صغر سن طه حسين إلا أنه أظهر مكنون صدره عندما جهر بسب ونقد معلمه القرآن ثم السخرية من إمام مسجد قريته وكل الرموز الدينية في قريته .

رحلته في الأزهر :

أرسله والده لتلقي علومه بالأزهر كما هي عادة أهل البلاد وكان أخوه الكبير الشيخ أحمد قد سبقه لذلك فالتحق طه حسين بالأزهر دخله وهو مشحون بالكره والبغض لكل ما هو ديني ومصري وشرقي ووجد نفسه أمام أكبر رمز من رموز الإسلام فانتقلت معركته الصغيرة مع معلمه القرآن وإمام المسجد إلى ثلة من علماء الأزهر يقول عن نفسه أنه قد احتقر العلم ! منذ أول يوم سمع فيه درساً من مشايخ الأزهر .

اضطرمت ثورة الحقد والغيظ والغل في نفس طه حسين بعد أن اطلع على مزيد من العلوم في الأزهر وقرر خوض المعارك في قريته ببعض ما تعلم فأثار المشاكل في قريته عندما عاد في الإجازة وساعده على ذلك انتشار الجهل في قرى الصعيد وقتها وانتقم من أهل قريته كما وعد نفسه وشيطانه .

عندما بلغ طه حسين أولى مراحل الشباب وهذه المرحلة بطبعها تتسم بالتمرد والسخط على كل شئ بالنسبة لعامة الناس فما بالنا بشخص مثل طه حسين فعمل منذ دخوله الأزهر على نقد أساتذته ومدرسيه وعيبهم وبالأخص من يحبهم الطلبة فاكتسب بذلك عداوة الجميع في الأزهر علماء وطلاب وكل يوم يزداد بمشايخه إزدراءاً وطعناً حتى قرر التحول من دراسة العلوم الشرعية إلى دراسة الأدب ولكنه كان صاحب شخصية معقدة موتورة ضد الجميع فزاد نقده للجميع فأمر شيخ الأزهر بطرده وتسقيطه في الامتحانات فخرج منه مذموماً مدحوراً .

دخوله الصحافة :

ذاع نجم طه حسين كما أراد لنفسه بالنقد والطعن في رمز الدين الأزهر والتقطه أحد دعاة التغريب وقتها أحمد لطفي السيد الملقب زوراً بأستاذ الجيل وفتح له صفحات جريدته ليشن فيها طه حسين هجوماًً شرساً على الأزهر وعلماؤه وشيخ الأزهر نفسه ويمهد أحمد لطفي له السبيل لدخول الجامعة المصرية القديمة التي أنشئت سنة 1324 هـ وهو في نفس الوقت يواصل هجومه على الأزهر بدعوى التجديد والحرية ووصل في هجومه لحد الافتراء والكذب والرمي بالكبائر على شيخ الأزهر وواصل عبثه وشتمه لمشايخ الأزهر بصورة طائشة اعتذر هو عنها في آخر حياته .

عندما دخل الجامعة ذاعت شهرته بحكم أنه أول أزهري وضرير يدخل الجامعة وسبقته شهرته التي اكتسبها عندما كان يطعن ويهاجم الأزهر وشيوخه ومكافأة له على جهوده في الطعن على الدين ورموزه قررت الجامعة إيفاده في بعثة إلى فرنسا سنة 1340هـ للحصول على رسالة الدكتوراه وهناك يتلقفه المستشرقون من أمثال جولد تسهير وإميل دور كايم ومانتسيه وغيرهم من المستشرقين اليهود ووجدوا فيه ضالتهم المنشودة وأمنيتهم الغالية كما قال القس زويمر 'لابد أن يقطع الشجرة أحد أغصانها' فأحاطوا بهذا الطالب المسكين المحمل بكل الغيظ والكره لك ما هو ديني وشرقي وكل ما يربطه بالتراث , سهل له هؤلاء إتقان اللغة الفرنسية والحصول على الليسانس في سنة 1343هـ وفي هذه الفترة تزوج الشيخ طه حسين الضرير الأسمر الوجه والغليظ القسمات من امرأة فرنسية جميلة اسمها سوزان وهي بالمناسبة ابنة قسيس كاثوليكي وكان لهذه المرأة دوراً مشبوهاً طوال حياته ولم تتكلم العربية قط رغم عمرها الطويل الذي امتد بعد وفاة طه حسين , ثم الدكتوراه في الفلسفة سنة 1344هـ ثم عاد إلى مصر ليعين أستاذاً لتاريخ الأدب العربي ويدخل مرحلة جديدة وخطيرة في نفس الوقت بل أخطر مراحل حياته .

مؤلفاته وأفكاره :

حاول طه حسين استغلال لقبه الجديد والذي أعطى له زوراً في فرنسا كما اعترف بذلك زميل طه حسين في البعثة , واستغلال منصبه الجديد كأستاذ في الجامعة ليبث سمومه وأحقاده على الدين وأهله وسط طلابه في الجامعة وعلى صفحات الجرائد وعلى صفحات الكتب التي ألفها لنشر أفكاره واتبع طه حسين أسلوب الإثارة وافتعال المعارك مع الآخرين ليرى مكانه ويسمع صوته ويروج فكره ولقد لخص طه حسين أفكاره وبثها بصراحة في كتبه وهي كالأتي :

* في كتابه 'الشعر الجاهلي' : أنكر وجود إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام ولم يعترف بالقرآن عندما ذكرهما , وأنكر وجود الشعر الجاهلي أصلاً وقال إنه من وضع شعراء المسلمين , وأنكر الصلة بين الإسلام وبين دين إبراهيم عليه السلام , وأنكر كون الرسول صلى الله عليه وسلم من خيرة العرب ومن خيرة البشر , وأنكر القراءات السبع المتواترة وقال أنها ليست منزلة من عند الله وبسبب هذا الكتاب حكم الأزهر بتكفيره وقام له علماء الوقت فردوا عليه ونقدوا كتابه وبينوا أكاذيبه وفندوا أباطيله خاصة الكابت مصطفى صادق الرافعي في كتابه 'تحت راية القرآن' والأستاذ محمد فريد وجدي في كتابه 'نقد الشعر الجاهلي' والأستاذ محمد لطفي جمعة في كتابه 'الشهاب الراصد' وكشف هؤلاء حقيقة ما يدعو إليه طه حسين من هدم الدين وتشويه العقائد ودفن التراث فثار الشعب كله ضد طه حسين , حتى كانت الضربة القاضية لهذا الكتاب على يد الأستاذ عبد المتعال الصعيدي أستاذ البلاغة عندما كشف عن أن كتاب 'الشعر الجاهلي' ما هو إلا سرقة أدبية وترجمة حرفية لكتاب حاقد صليبي وهو المستشرق الإنجليزي جرجيش صال واسم الكتاب 'مقالة في الإسلام' وقامت مظاهرات في الشوارع ضد طه حسين وتوجهت إلى البرلمان فيخطب فيهم سعد زغلول فيقول :إن مسألة كهذه لا يمكن أن تؤثر في هذه الأمة المتمسكة بدينها هبوا أن رجلاً مجنوناً يهذي في الطريق فهل يضير العقلاء شيئاً من ذلك ؟ إن هذا الدين متين وليس الذي شك فيه زعيماً ولا إماماً حتى نخشى من شكه على العامة فليشك ما يشاء ماذا علينا إذا لم يفهم البقر ؟' .

* في كتابه 'مستقبل الثقافة في مصر' جهر وصرح بأفكاره الخبيثة ومنها :

1- الدعوة إلى حمل مصر على الحضارة الغربية وطبعها بها وقطع ما يربطها بقديمها وإسلامها .

2- الدعوة إلى إقامة الوطنية وشئون الحكم على أساس مدني لا دخل فيه للدين بحيث تصبح الحكومة علمانية محضة .

3- الدعوة لنبذ اللغة الفصحى حتى تصبح لغة الشعائر الدينية فقط مع استخدام اللغتين اليونانية واللاتينية في التعليم والحياة عموماً .

4- إلغاء التعليم الأزهري .

وقد قام الدكتور محمد محمد حسين رحمه الله بالرد على هذه الأباطيل الظاهرة في عدة تكب ومحاضرات وكذلك الدكتور زكي مبارك وغيرهم .

* في كتابه 'حديث الأربعاء' اهتم بنشر أخبار الشعراء الماجنين والفاسقين والعشاق والزناة في الدولة الأموية والعباسية وأسقط ذلك على العصر كله فقال عنه -هذا القرن يعتبر من القرون الفاضلة بنص حديث رسول الله - قال عنه 'أن العصر الذي دالت فيه الدولة الأموية وقامت فيه الدولة العباسية قد كان عصر شك وعبث ومجون' وكان طه حسين قد نقل هذا الكتاب من كتاب الأغاني للأصفهاني المعروف بتشيعه الشديد وعداوته للأمويين والعباسيين على حد السواء .

* في كتابه 'على هامش السيرة' وهو كتاب كتبه بعد اشتداد الهجوم عليه بسبب كتبه السابقة فقر كتابة بعض الكتب الدينية والتي من خلالها يبث سمومه وشروره المملوء بها قلبه الحاقد فملئ هذا الكتاب أكاذيب وأباطيل وأساطير ليست في التاريخ من شئ وغرضه من ذلك كله التشكيك في مصادر التشريع الإسلامي والتنفير من سيرة خير خلق الله .

وظل طه حسين طوال حياته مسخراً قلمه ولسانه وإمكانياته كلها من أجل هدف واحد وهو تشويه الإسلام والتشكيك فيه والدعوة إلى العلمانية والتقليد الأعمى للغرب حتى قيل عنه أنه مستشرق ولكن بلسان عربي وتعرض لكثير من المضايقات وهاجمه العام والخاص وأبغضه القريب والبعيد وعاداه العالم والجاهل ومع ذلك خلعت عليه الألقاب الكبيرة وصار عميداً لكلية الآداب ثم وزير المعارف ثم عزل من منصبه بعد قدوم الثورة وأخذ مكانه في الظل وقد تقدمت به السن يهاجم الكتاب والأدباء وكل من له نزعة دينية وظل على عقيدته حتى مات في 2 شوال سنة 1393هـ بعد أن خدع الكثيرين وانبهر به الكثيرين ولم يكن هو في واقع أمره إلا ذنباً للمستشرقين ولساناً للحاقدين وثمرة خبيثة من ثمار الغزو الفكري الصليبي للإسلام وأهله

==============

#صدور الجزء الثامن من كتاب في البناء الحضاري للعالم الإسلامي

السبت 19المحرم 1427هـ –18فبراير 2006م

الصفحة الرئيسة

مفكرة الإسلام: صدر الجزء الثامن من كتاب في البناء الحضاري للعالم الإسلامي للدكتور عبد العزيز بن عثمان التو يجري، المدير العام للمنظمة الإسلامية للتربية والعلوم والثقافة ـ إيسيسكو ـ ويشتمل الكتاب الذي يقع في 359 صفحة من القطع الكبير، على مجموعة من الدراسات والأبحاث وأوراق العمل التي شارك فيها المؤلف في العديد من الندوات والمؤتمرات الدولية التي عالجت قضايا إسلامية من جوانب مختلفة، إضافة إلى الكلمات التي ألقاها في المؤتمرات الإسلامية والعربية والدولية والإقليمية.

ومن فصول هذا الجزء، الديمقراطية : حدودها وتطبيقاتها العلمية، والحوار الحضاري الثقافي : أهدافه ومجالاته، والثقافة العربية في عصر العولمة، والحضارة الإسلامية والحضارات الأخرى : تفاعل لا صراع، وحوار الحضارات : رؤية العالم الإسلامي.

ويقول المؤلف في تقديمه لهذا الجزء من كتابه: إن الفكر ليحار في فهم العديد من الأحداث الكبرى التي يشهدها العالم في هذه المرحلة، فلا يهتدي إلى معرفة دقيقة لطبيعة المتغيّرات المتلاحقة التي تطبع الحياة الإنسانية، وتؤثّر التأثيرَ القويَّ، في الاتجاهات التي تسلكها مسيرتُها، فالغموض يلفّ جوانب كثيرة من السياسة الدولية، والضباب يغلّف سماء الحقيقة التي ينشدها العقل الراجح، والفكر الرشيد، والمنطق السليم، فيتسبّب ذلك في حالة من الإرباك الفكري، والحيرة العقلية، مما يؤدّي إلى ما يشبه المأساة الإغريقية التي نقرأ عنها في مصنفات الأدب اليوناني القديم'.

ويضيف: في مواجهة القوة الغاشمة التي تتحكم في سياسة الدولة العظمى التي لا تَأْبَهُ بالقانون ولا تعترف بالمبادئ، يقف الفكر الإنساني الرشيد، يكبح من جموحها، ويحدُّ من هيمنتها، ويفتّ في عضدها، ويخفّف من وطأتها، ويعبئ الرأي العام لمقاومتها، ويحشد القوى الحيّة المناهضة للظلم والعدوان للوقوف في وجهها. ولذلك فإن رسالة الفكر في كل عصر، هي رسالة إنسانية تنويرية، لا يُستغنى عنها، بل تشتدّ الحاجة إليها كلما ادلهمت الخطوب، وطما الظلم، وفشا الانتهاك للقوانين، وعمّ الانحراف عن جادة الرسالات السماوية الحقّ.

ويقول المؤلف أيضاً: إذا كان النظام العالمي الجديد قد بلغ من القسوة والعتوّ ونكران القيم والمبادئ التي قامت الحضارات الإنسانية المتعاقبة على أساسها، فإن أثر الفكر الإنساني في التصحيح والترشيد والتقييم لا يتراجع، لأنَّ المفكرين حَمَلَةَ مشاعل التنوير وبُناةَ الحضارة وصُنَّاعَ السلام في الأرض، هم الطليعةُ التي تتصدَّى لهذا العتوّ والجبروت . ولذلك فإنَّ الإنسانية اليوم لا تفقد الأمل في مستقبل آمنٍ ومشرقٍ وسعيد، تعيش فيه الأمم والشعوب في سلام حقيقي، وعدل يظلّ بظلاله الجميع، وإخاء وتعايش وحوار متفاعل ومُبدعٍ بين الحضارات والشعوب.

==============

#وثيقة المدينة المنورة.. كتاب عن عقد اجتماعي مبكر في تاريخ البشرية

الثلاثاء 15 المحرم 1427هـ – 14 فبراير 2006م

الصفحة الرئيسة

مفكرة الإسلام : يمثل كتاب أحمد قائد الشعيبي وثيقة المدينة: المضمون والدلالة والذي صدر مؤخرا في سلسلة كتاب الأمة التي تصدر عن مركز الدراسات والبحوث في وزارة الأوقاف القطرية، قراءة معاصرة لهذه الوثيقة التي يمكن اعتبارها أول عقد اجتماعي في تاريخ البشرية، والكتاب في أصله رسالة علمية محكمة يمكن أن تعتبر بعمومها استدعاء للموضوع لساحة الهم والاجتهاد، فهذه الوثائق الخالدة مثل صلح الحديبية والعهدة العمرية وحلف الفضول تصلح للاجتهاد والاستنطاق وأن تكون مصدرا للفهم والعطاء والمساهمة في الحضارة الإنسانية المشتركة.

فيظهر موضوع الوثيقة أساسا للحكم والمجتمعات والمصالح المشتركة بين الناس، وقواعد للمواطنة قائمة على العلاقة مع المكان والمجتمع والدولة وليس فقط على أساس العقيدة والدين، وكفلت الحقوق والحريات والتضامن بين 'المواطنين' جميعهم، فقد كان مجتمع المدينة الذي شملته الوثيقة يضم المسلمين من مكة والمدينة والمهاجرين من غيرهما من الأماكن والمشركين واليهود.

وكانت تجربة رائدة لمجتمع تتعدد فيها الانتماءات القبلية والدينية، وترتبط بالانتماء إلى الوطن والأرض المشتركة وتنميتها والدفاع عنها، وتلتزم بالتسامح الديني والعون الإنساني العام من مساعدة الضعيف وإطعام الجائع، وتأمين الخائف، والمساواة القائمة على العلاقات والقواعد العامة والنظرة إلى المواطنين على أنهم بشر مكرمون مهما كان دينهم وانتماؤهم.

جاءت الوثيقة في 47 مادة، بدأت بمقدمة توضيحية 'هذا كتاب محمد النبي بين المؤمنين والمسلمين من قريش وأهل يثرب ومن تبعهم أنهم أمة واحدة من دون الناس، المهاجرون من قريش وبنو عوف وبنو ساعدة وبنو الحارث وبنو جشم وبنو النجار وبنو عمرو بن عوف وبنو النبيت وبنو الأوس، ومن تبعنا من يهود فإن له النصر والأسوة غير مظلومين ولا متناصر عليهم ينفقون مع المؤمنين ما داموا محاربين، ثم نصت على قبائل اليهود من عوف وبني النجار وبني الحارث وبني ساعدة وبني جشم والأوس وبني ثعلبة وغيرها من القبائل العربية على نحو يوضح أن القبائل العربية نفسها كانت موزعة بين مسلمين ويهود ومشركين'.

وحذرت الوثيقة المشركين من مجتمع المدينة من مناصرة الأعداء من قريش، وفي ذلك إشارة واضحة لقواعد المواطنة وحقوقها والتزاماتها وواجباتها على الأفراد والمجتمع والدولة، فلا تجار قريش ولا من نصرها، وبين أهل المدينة جميعا النصر والحلف. وذكرت قواعد يلتزمها المواطنون من التحالف والتضامن والدفاع والمناصرة والجيرة وحل الخلافات والشجار.

وقد كانت هذه الوثيقة موضوعا لدراسات كثير من المستشرقين، مثل فلهاوزن وولفنسون وكايتاني وهيدبير غريم، ووردت في روايات تاريخية عدة، ابن اسحق، وابن أبي خيثمة، وأبو عبيد القاسم بن سلام، وحميد بن زنجويه، وابن أبي حاتم، والإمام أحمد، والبيهقي.

ويلاحظ الشعيبي في الأبعاد السياسية والاجتماعية والأمنية والحضارية للوثيقة أنها حددت مرجعية للحكم والقضاء وأساسا للمواطنة ومفهوما جديدا لها، وهو أساس يختلف عما هو سائد للوهلة الأولى، فقد يكون غير المسلم مواطنا وقد لا يكون المسلم مواطنا، ولكنه قائم على الإقامة في المكان والانتماء إليه والمشاركة في عقد المواطنة القائم على الحقوق والالتزامات.

وتوضح الآية 27 في سورة الأنفال هذه القاعدة أيضا، قال تعالى: ' والذين آمنوا ولم يهاجروا مالكم من ولايتهم من شيء حتى يهاجروا وإن استنصروكم في الدين فعليكم النصر إلا على قوم بينكم وبينهم ميثاق'.

لقد وفرت الوثيقة أساسا لمواطنة غير المسلم يتيح له الاندماج في المجتمع الذي ينتمي إليه دون قهر ديني 'لا إكراه في الدين'، ثم أكدت الوقائع فيما بعد كما في صلح الحديبية كيف أن المسلمين لم يلتزموا بنصرة المسلمين من مكة الذين هم جزء منها، ولكنهم التزموا بنصرة قبيلة خزاعة.

لم تغير الوثيقة في العلاقات الجديدة التي أرستها من تركيبة المجتمعات والقبائل وولائها والتزاماتها ولكنها وظفت هذا النظام الاجتماعي القائم في تحقيق الالتزامات والحقوق التي نصت عليها، فهي غيرت من دور ووظائف القبائل والمجتمعات وأضافت إليها دون أن تغير بنيتها، وهذه قضية ربما تغيب عن بال كثير من المشتغلين بالعمل الإسلامي وبخاصة شباب الجماعات الإسلامية وقادتها ممن يحسبون الحركات والجماعات الإسلامية بديلا للمجتمعات والدول، وينشئون التزامات ويتخلون عن أخرى وفق قراءة مغلوطة للنصوص، أو من آخرين يريدون إلغاء الأنظمة الاجتماعية والقبلية والعشائرية ويعتبرونها مخالفة لعلاقات الدين والعقيدة.

ولكن هذه الانتماءات لا تعفي من المساواة والعدالة وتطبيق القوانين والشرائع، بل إن المجتمعات والقبائل نفسها ملتزمة بمنع خرق المبادئ والقوانين ومعاقبة من يخرقها ورده إلى مرجعيات الحكم والقضاء.

وتتضمن الوثيقة أيضا أبعادا حضارية من التسامح الديني، والتعايش السلمي والتعاون بين الأفراد والمجتمعات، ورعاية حقوق الإنسان وتأكيد حرمتها، على النحو الذي يجعلها مرجعية أساسية للمسلمين والعالم وبخاصة في هذه المرحلة من التداخل بين الشعوب والأمم والمجتمعات وظهور أفكار الصراع والحوار بين الحضارات.

وقد تبدو برأي عمر عبيد حسنة- المشرف على سلسلة كتاب الأمة - الحاجة إلى هذه المرجعية أكثر إلحاحا اليوم في حقبة الانفتاح العالمي واختزال الزمان والمكان واستحقاقاته في حقبة العولمة التي فتحت علينا كل شيء وبخاصة معاهدات الشراكة السياسية والاقتصادية والثقافية والعلاقات والمسائل الثقافية والإثنية، مما يزيد الحاجة إلى مواثيق وقيم جديدة تستوعب هذه التحولات استيعابا يأخذ بها إلى التعاون والحوار والمنفعة ويبعدها عن الصراع والأزمات.

فالوثيقة تصلح اليوم لتقدم علاجا لمعادلة المواطنة الصعبة، والقوميات والإثنيات والأديان والطائفيات والأجناس التي تعج بها بلاد المسلمين وتواجه العالم أيضا، حيث تغيب القواسم المشتركة والتوافق على الأمور المشتركة.

وقد يكون من المفيد اليوم الكلام عن هذه الوثائق ووضعها في سياقها التاريخي المبكر وأهميتها كعقد اجتماعي وسياسي واقتصادي ودفاعي، وإعطائها قيمتها والنظر إليها من خلال زمنها والصور التي تشكلت على أساسها الأمة والمجتمعات والمواطنة، تلك المفاهيم التي تحتاج إلى الكثير من النظر والاجتهاد لنزع فتيل المواجهات وتعطيل القدرات باسم الشرع والدين.

ويستدرك عمر حسنة هنا بأنه ليس المهم هو الكلام عن السياق القانوني والسياسي والدستوري، والعقد الاجتماعي غير المسبوق، بل المهم اليوم كيف تجيب هذه الوثائق والمعاهدات على أسئلة الحاضر، وتمنحنا الرؤية السليمة للتعامل مع الآخر، ذلك الحديث عن عظمة الإنجاز المبكر والرائد، والإيغال في الماضي لمعالجة مركب النقص المترافق مع عجز الحاضر هو نوع من توبيخ النفس، وتكريس العجز عن ترجمة هذه الوثيقة وغيرها من العقود والعهود وإبصار كامل أبعادها، والاجتهاد في كيفية تنزيلها على حاضر الأمة، وتصحيح صورة العهود والمواثيق والمواطنة، وصياغة مؤسسات السلم الأهلي في المجتمع، وتحقيق كرامة الإنسان، وضمان حرية اختياره، وإلحاق الرحمة به، وعدم إفساد هذه المعاني الإنسانية النبيلة بالاجتهادات .

===========

#الإسلام والحضارة الغربية والصدام الحتمي

الأربعاء 9 المحرم 1427هـ – 8 فبراير 2006م

الصفحة الرئيسة

مفكرة الإسلام : إن من أخطر ما يجهض الحوار الثقافي الحضاري بين الغرب والشرق الإسلامي التشويه الذي يتعرض له الإسلام في الغرب, وهو موقف ليس بجديد ولكنه يضرب بجذوره في التاريخ.

فقد أثارت شخصية نبينا محمد صلوات الله وسلامه عليه العالم المسيحي أكثر من أي شخصية تاريخية أخرى مهما علا شأنها و عظم خطرها عليهم أنفسهم.

وقد عبرت كتباً كثيرة لكتاب غربيين سواء قدماء أو محدثين عن مشاعر الخوف والكراهية لسيدنا محمد عليه الصلاة والسلام مثل 'التحدي الإسلامي' و' الزحف الإسلامي نحو أوروبا' لكونزيلمان وتمثل ما اشتملت عليه أمثال هذه الكتب من أفكار الروح الغربية العدوانية.

ومنذ الثورة الإيرانية اقترنت صفة الإرهاب بالإسلام بالرغم من المدى الشاسع بين الإسلام الحقيقي والإسلام الإيراني, وبالرغم من أن الغربيين أنفسهم يعلمون ذلك, وأصبحوا يعتبرون كل مسلم ملتزم بدينه مطبقاً لتعاليمه متعصباً أو إرهابياً.

وقد لاحظ أحد المستشرقين المسلمين أن الغرب بعد صمود الإسلام برغم كل المكائد الغربية ورفضه الانسحاب من مسرح الأحداث يمثل إهانة بالغة للغرب, وخاصة بعد انهيار الاتحاد السوفيتي والذي يمثل قلعة الشيوعية.

ومن الملاحظ أن النبي محمد رسول الإسلام صلى الله عليه وسلم والذي يحظى باحترام أكثر من مليار إنسان,لا يتمتع حتى الآن في الغرب بأي حماية قانونية في الوقت الذي يتمتع بها أتباع البوذية والهندوسية وعابدو الشيطان فكل شئ مسموح به و تشمله بركة كهنة الغرب وحكامه إلا أن تكون مسلماً.

وقد دلت المشاعر السلبية التي يكنها الغرب للإسلام والمسلمين على الطبيعة المتوترة العنيفة للعلاقات بين الإسلام والغرب والتي تحولت في كثير من الأحيان إلى حروب, بل إن قرابة 50% من الحروب الثنائية كانت بين مسلمين ومسيحيين.

وتأتي هذه الصراعات من خلال أوجه الشبه والاختلاف بين الديانتين والحضارتين فمن ناحية الاختلاف يأتي مفهوم المسلمين للإسلام كمنهج وأسلوب للحياة يربط بين الدين والسياسة كنسيج واحد, وهذا ضد المفهوم الغربي المسيحي الذي يقول ما لله لله وما لقيصر لقيصر,وأما وجه التشابه فينبع من الاعتقاد الراسخ لأتباع كلتا الديانتين بالتزامهما بتحمل مسئولية نشر معتقدهما وهداية غير المؤمنين وتحويلهم إلى الإيمان الصحيح.

وهناك عوامل كثيرة زادت من الصراع بين الإسلام والغرب والتي كان من أبرزها الصحوة الإسلامية المباركة وكذلك زيادة الاحتكاك بين المسلمين والغربيين ومحاولة كل منهما إثبات هويته, وفي المقابل فهناك جهود مستمرة من الغرب لتعميم قيمه ومؤسساته من أجل الحفاظ على تفوقه العسكري والاقتصادي وقد تمثل ذلك في التدخل في الصراعات في العالم الإسلامي والذي نشأ عنه استياء شديد في صفوف المسلمين.

ومن هذا المنطلق يرى كثير من المسلمين أن في قيم الحضارة الغربية تسميماً غربياً للمجتمعات الإسلامية ويعتبر الكثير منهم أن العلمانية والانحدار الأخلاقي المرتبط بها أشد سوءاً من المسيحية الغربية والشيوعية الملحدة وإلى جانب التناقض في القيم فإن التطور التكنولوجي والمعلوماتي وبخاصة في مجال الاتصالات ساهم في تأجج الصراع بين الإسلام والحضارة الغربية.

والمشكلة المهمة بالنسبة للغرب ليست الأصولية الإسلامية, بل الإسلام نفسه كدين والذي هو أيضاً بمثابة حضارة مختلفة مقتنع شعبها بتفوق ثقافته ولا ينقصه سوى استجماع قواه وتوحيد صفوفه للنهوض والتقدم.

ومن ناحية أخرى فالمشكلة الهامة بالنسبة للإسلام ليست أمريكا والغرب بكل مؤسساته ولكن المشكلة هي العرب فحضارتهم مختلفة ويعتقدون أن قوتهم المتفرقة وإن كانت متدهورة ولكنها تفرض عليهم التزاماً بنشر معالم تلك الحضارة في العالم أجمع و وهذه هي أهم الأسس التي تغذي الصراع بين الإسلام والغرب.

ويرى البعض أنه لا جدوى من المواجهة المحتدمة بين حضارتي الإسلام والغرب وبخاصة في ظل ما نعلمه من نية الغرب على إقصاء الطرف الآخر وتشويهه و تهميشه بل قل على الأرجح التخلص منه.

ويجب أن يعلم كل من يهمه الأمر أن ما يطلبه المسلمون هو أن تتاح لهم الفرصة لكي يقدموا ما تحتويه ثقافتهم في ظل العالمية الحقيقية لا المزيفة والتي تعني وجود أقوام متعددين يحتفظون بالاختلافات بينهم مع سعيهم مع الوقت نفسه لإثراء جهودهم المشتركة من خلال العناصر المتضمنة لتلك الاختلافات.

============

#الانهيار الحضاري يقع على عاتق حكام وعلماء الأمة

الأحد 6 المحرم 1427هـ – 5 فبراير 2006م

الصفحة الرئيسة

أجرى الحوار : أسامة الهتيمي

مفكرة الإسلام : التاريخ في حياة الأمم ليس مجرد أحداث ووقائع بل هو جزء من الرصيد الحضاري الذي تقدمه الأمة لأبنائها وللآخرين، فإما أن يكون نقاطاً مضيئة، وإما أن يكون إشارات وعلامات لبدء مرحلة الانهيار .. ومن هذا المنطلق تأتي أهمية النظر في التاريخ ودراسته التي يمكن أن تكون محاولة فاعلة لاستخراج السنن الكونية في بناء الحضارات وانهيارها حتى يمكن الاعتبار بما اعتبر به سلفنا .

الدكتور محمد العبدة أحد المفكرين الإسلاميين الذين استوعبوا أهمية التاريخ وفلسفته.. فآثر أن يمعن النظر في قراءة حقبه ومراحله حتى يتمكن من أن يضع يده على الداء فيسهل فيما بعد وضع طرق العلاج .. لهذا كان حوارنا معه .

** لكم اهتمامات بالمفكر العربي الإسلامي ابن خلدون، ترى ماذا أضاف ابن خلدون لعلم الاجتماع عموما، وكيف يمكننا الاستفادة من علمه في أيامنا هذه ؟

* دعنا نتحدث أولا عن التاريخ حيث إن ابن خلدون يعتبر أول مؤرخ إسلامي أراد أن يفسر التاريخ أو يضع قواعد لفهم التاريخ، وقد فؤجئ هو نفسه بموضوعات المقدمة التي كتبها لكتابه والتي كان يكتبها في الأساس ليضع بعض القواعد لتفسير أو نقد روايات التاريخ .. فمن هذا الجانب لا شك أنه أفاد كثيرا غيره، كما وضع كذلك قواعد أخرى اسماها بعلم العمران.

ونستطيع أن نقول إن أهم نقد للرواية التاريخية في نظر ابن خلدون .. هو هل تنطبق هذه الرواية على روح العصر الذي وقعت فيه وهل تنطبق على القواعد التي وضعها من حيث ' السكان – الجغرافيا – الأخلاق – البيئة.. الخ'؟

كذلك وضع ابن خلدون قواعد دراية ظاهرة لنشأة وانهيار الدول الإسلامية .. ولماذا تقوم ولماذا تسقط ؟ وحدد من خلال هذه الدراسات بعض أسباب سقوط الدول مثل الاستبداد والفساد الاقتصادي والمالي وسقوط الدول بالترف والذي اعتبره من أهم الأسباب.

إلا أن هذا التحليل الذي قدمه ابن خلدون فيه نقص لأنه لم يدرس حالات أخرى حيث لم يعمم الظاهرة، كما أنه لم يشر إلى الأسباب التي يمكن للدولة الإسلامية بها أن تتجدد أو أن يطول عمرها كأن تطبق هذه الدولة الروح الإسلامية.

ومع ذلك فلاشك في أن ما قدمه ابن خلدون من دراسة الظواهر الاجتماعية كالبداوة والحضارة والتعليم والحرف والصناعات والمدن والريف والتقدم والتأخر قد أفاد الدارسين لها فيما بعد إفادة عظيمة ..إضافة إلى أنه لم يسبق إليه أحد قبله، وحتى الذين سبقوه في دراستها جاءت دراساتهم بطريقة مجتزأة .. حتى الفلاسفة الأقدمون كاليونانيين لم يكن عندهم هذا التركيب في الدراسات الخاصة بهم .

وابن خلدون لاشك استفاد من القرآن الكريم والثقافة الإسلامية في دراسة هذه الظواهر، وهذا هو سبب إبداعه، فدراسة السنن القرآنية أعطته بعدا أكبر وأعمق .. حتى المصطلح الذي اخترعه وسماه علم العمران هو أدق من كلمة علم الاجتماع الذي اصطلح عليه المتخصصون فيما بعد ويكفي أنه أول المؤرخين الذين تكلموا في الظاهرة الاجتماعية وتحدث دائما عن غاية الإنسان وهي عمران الأرض .

** لكن ما موقف الغربيين من ابن خلدون وهل أشاروا إليه أم تجاهلوه ؟

* الغربيون يمدحون ابن خلدون أحيانا بشكل يكون مبالغ فيه حتى أن المؤرخ المشهور ' توينبي ' يقول إن المقدمة أعظم عمل في تاريخ البشرية .. وأنا شخصيا أعتقد أنهم لاشك استفادوا كثيرا من ابن خلدون، إلا أن الكثيرين منهم أيضا لا يذكرون هذا صراحة .. فالمؤرخ الإيطالي ' فيكو' في تقسيمه لبعض أدوار التاريخ يشابه ما قدمه ابن خلدون ومع ذلك لا يذكره .. فهل هو قرأ ابن خلدون ولا يذكره .. ربما .

وأول من اكتشف أهمية المقدمة هم المؤرخون العثمانيون في بداية ' العصر الحديث ' ثم المستشرقون الغربيون الذين كتبوا عن المقدمة كثيرا بينما بقية المسلمين في حالة تخلف .. العثمانيون اكتشفوها لأنهم كانوا يريدون أن يكتبوا عن أسباب انهيار الخلافة العثمانية في آخر أيامها.

وأخلص من ذلك بالقول بأن الغربيين أحيانا يستفيدون من العلوم الإسلامية لكن لا يظهرون ذلك، وهو نفس ما حدث من قبل عندما استفادوا من العلوم الإسلامية في الأندلس ولم يشيروا إلى ذلك .. وهذه دائما عادتهم لأن المنصفين منهم قليلون .

** لكن البعض يشكك في أصالة الأفكار الإسلامية في نظريات ابن خلدون مستندين في ذلك إلى الهجوم الذي شنه على العرب ؟

* هذا كلام انتهى .. الذين شككوا في أصالة أفكار ابن خلدون لأنه يهاجم العرب مثل طه حسين لم يفهموا ماذا يقصد ابن خلدون بالعرب في مقدمته إلا أنه بعد ذلك اتضحت الصورة حيث إن العرب عنده ظاهرة البداوة ' الأعراب ' ولكن لا شك أن ما يجب أن يوجه لابن خلدون من انتقاد فيما يخص أرائه ونظرياته هو أنه كان شديد الواقعية ولا يتكلم عما يجب أن يكون وما هي البدائل وما الطريقة الصحيحة وما تطلعاته وآماله؟ وكيف يكون إصلاح المجتمع الإسلامي؟ فهو لا يتكلم أبدا عن هذه النواحي .. فالعلماء مثلا يقولون بالرجوع إلى المصادر الأولى للإسلام لكنه لا يتطرق إلى ذلك وهذا مما يؤخذ عليه ... لذلك فإن الذي يقرأ المقدمة يتعجب .. وربما يصف الرجل بالتشاؤم.

** في رأيكم هل تتشابه ظروف الأمة الآن مع ظروف انهيارها أيام التتار والحملات الصليبية؟ ما أوجه الشبه والاختلاف؟

* لقد كتبت حول هذا الموضع في كتاب 'هل يعيد التاريخ نفسه' وخاصة فترة ما قبل صلاح الدين الأيوبي .. ووصلت إلى أنه لا يوجد شيء يعاد ويكرر نفسه تماما ولكن يوجد تشابه أحيان بين الأحداث.. فالتاريخ يعيد نفسه ولكن ليس بنفس الصورة ولكن بما تحمله الأحداث من تشابهات، فطبيعة الإنسان من الجشع وحب الخير والمادية وغير المادية وحب الرئاسة كل هذه أمور ثابتة وموجودة.

فالتفرق في الأمة نوع من التشابه بين الحالتين الماضية والحاضرة .. وظاهرة الدول الصغيرة نوع من التشابه وحتى احتماء بعض الدول أو التجاء بعضها للغرب في مواجهة دول إسلامية أخرى نوع أيضا من التشابه.

وأضرب لذلك مثالا واضحا .. فأول حملة صليبية وصلت إلى مدينة ' أنطاكية ' استنجد أميرها بالمسلمين لمدة 9 أشهر دون نجدة لأن حاكم دمشق كان يخشى من حاكم حلب والعكس .. فحالة الأنانية وحب الرئاسة أدت إلى سقوط أنطاكية ... كذلك في الأندلس حدث نفس الشيء عندما ازدادت الهجمة وبدأت أوروبا في استرداد المدن الأسبانية التي كانت تحت حكم المسلمين آنذاك كان بعض الحكام يستنجدون بالأسبان على إخوانهم المسلمين في سبيل الحصول على مكسب أو مدينة أخرى.

ومع ذلك فإن الذين يقولون إن الوضع الآن أسوأ من جانب ما صحيح لكنه ليس صحيحا تماما .. فالفرق بين الوضع الآن والوضع في الماضي هو أن الأمة الإسلامية وحضارتها كانت لا تزال متفوقة رغم الانهزام العسكري والسياسي .. لذلك فإن التتار بعد الاحتلال أسلموا لأنهم وجدوا أنفسهم لا شيء أمام الحضارة الإسلامية .. بينما الآن قسم من الناس مسلوب العقل أمام الحضارة الغربية، لكن أيضا حتى لا نكون متشائمين فما زال هناك وعي، وجزء من الأمة واقف يواجه الغزو الغربي .. ومظاهر هذا تتمثل في إحياء فكرة الجهاد ضد العدو في فلسطين والعراق وأيضا عمليات الإحياء العلمي الحاصل في الخمسين عاما الماضية.

** عاش في الدولة الإسلامية أقليات وعرقيات كثيرة ومع هذا استوعبتهم ولم تكن هناك مشكلات .. كيف يمكننا استحضار التعامل الإسلامي السابق مع مشكلات الأقليات والعرقيات الحالية؟

* مشكلة الأقليات مشكلة مفتعلة والأمريكان والغربيون هم من افتعلوها وخاصة في السنوات الأخيرة .. فالمجتمع الإسلامي عاش مئات السنين ولم تكن هذه المشكلة موجودة .. قامت دول بكاملها كثيرة في المغرب، أصحاب هذه الدول كانوا من البربر مثل المرابطين والموحدين ولم تكن هناك مشكلة ولا حساسية لأنهم جميعا مسلمون .. كذلك فإن الإسلام هو من جعل المماليك يحكمون مصر والشام لمئات السنين.

ولو كانت هناك مشكلة ما كان ليأتي حاكم تركي مثل ' نور الدين محمود' أو كردي مثل 'صلاح الدين الأيوبي' .. لم يكن يوجد مشكلة اسمها الأقليات.

وفي العصر الحديث نجد 'ابن باديس' ينتمي لأكبر عائلة بربرية في الجزائر وهو الذي أحيا اللغة العربية في الجزائر من خلال جمعية العلماء المسلمين في مواجهة محاولات فرنسة الجزائر .. وفي العراق وسوريا كان يوجد وزراء ورؤساء وزراء من الأكراد ولم يخطر على بال أحد أن يرفض هذا من منطلق أنهم من الأكراد .. لم تكن هذه المشكلة موجودة كلهم كانوا عربا ومسلمين.. فمن تكلم العربية فهو عربي .

أما بالنسبة للأقليات الأخرى غير الإسلامية فقد عاشت في ظل الحضارة الإسلامية ولم يظلموا أبدا ونحن نتحدى إذا كان بالتاريخ الإسلامي ظلم للأقليات ولو ظلموا لهاجروا فهم ما زالوا موجودين في كل مكان من أرض الإسلام.

ويشهد بهذه الحرية التي عاشتها الأقليات في ظل الإسلام عقلاء هذه الأقليات وانظر مثلا إلى قول أحدهم وهو مكرم عبيد الذي كان وزيرا في مصر قبل عام 1952 ' أنا مسلم وطنا مسيحي العقيدة ' .

إذن فالحقيقة أنها مشكلة مفتعلة من الغرب وقد أججها زعماء هذه الطوائف ليكرسوا زعامتهم باسم حماية الطائفة والاستنجاد بالآخر .. وهذا كله غير صحيح.

**هل تحمّلون قادة الأمة وحكامها مسئولية الانهيار الحالي؟ وما دور الشعوب في مواجهة فساد الحكام؟

* إذا أردنا أن نقول إن هناك مسئولية فإنها مشتركة بين علماء الأمة وحكامها لكن المسئولية بالدرجة الأولى تقع على الحكام لأن لديهم القدرة على تنفيذ مشاريع النهضة وإحياء الأمة .. فهم مسئولون عن ضعف الأمة أمام أعدائها ومسئولون عن المواقف الضعيفة أمام الغرب وعدم الالتصاق بأساس هوية الأمة وحضارتها وهو الإسلام .. فالذي يقتنع من الحكام بشيء ينفذه وهناك من اقتنع بالاشتراكية مثلا وطبقها فلماذا لا ينفذون مشاريع النهضة الإسلامية؟.

الأمة الإسلامية لها وضعها الخاص .. هي أمة قامت على الدين ولم تقم مثل بقية الأمم على مساحة جغرافية معينة أو اقتصاد أو شيء دنيوي بحت إذن قيادة هذه الأمة 'الصف الثاني' العلماء، فعلى العلماء أن يقودوا تيار الإصلاح وبالتالي عليهم أن يضغطوا على الحكام لإصلاح هذا الفساد المتفشي.

وأضيف أن الأمة الإسلامية عاشت فترة طويلة تنتج حضارتها بدون حكام .. عن طريق الوقف من المدارس الأهلية وغيرها.. حيث أوقفت الأمة أموالاً كثيرة على المدارس التي خرّجت العلماء والقادة فيمكن للأمة أن تستعين بهذه الوسائل مرة أخرى لمجابهة الأعداء والمد الغربي .. وأقصد بذلك ما يسمى الآن بمؤسسات المجتمع المدني.

** ما هو أخطر تحد ترونه يواجه العرب والمسلمين الآن ؟ ولماذا ؟

دائما ذكر شيء واحد بشأن التحديات أمر ليس صحيحا إذ أنها تحديات كثيرة لذا فأنا أعتقد أن هناك أسباباً رئيسية منها :

1- قلة العلماء.

2- ضعف شبكة العلاقات الأخوية والاجتماعية.

3- الهزيمة النفسية عند طبقة من الأمة أمام الغرب وتقليد الحضارة الغربية في كل شيء حتى في قضايا المبادئ.

4- ضعف الإيمان واليقين بحتمية الحل الإسلامي وأنه الحق مع خيرية هذه الأمة.

5- ضعف الوعي السياسي .. المسلم يجب أن يعلم حقوقه وواجباته كذلك لابد أن نعرف هل فعلا نحن شعوب لديها قابلية للاستبداد؟ وهل هذه القابلية يمكن أن تنتزع؟.

** يصر البعض من الكتاب والمفكرين والدعاة على مهاجمة المتبنين للديمقراطية في مواجهة الاستبداد والظلم الذي تعاني منه مجتمعاتنا العربية والإسلامية .. هل من المجدي ترك هؤلاء من أجل تخفيف القبضة على الإسلاميين ؟

* في مثل هذه القضايا علينا أن نعود لبعض الأسس الثابتة ومن هذه الأسس أن من مقاصد الشريعة الإسلامية تكثير الخير وتقليل الشر.. لا يوجد أحد يتبنى الديمقراطية، كنظام فلدينا نظام خاص وهو الإسلام. فالديمقراطية مرتبطة بالليبرالية والرأسمالية فما يجوز لمسلم أن يقول هذا الكلام .. لكن في قضية الحرية والانتخابات والمشاركة إذا كان ذلك لتقليل الشر وتكثير الخير فهذه توضع موضع موازنة المفاسد والمصالح .. هل يوجد مصلحة أم لا ؟ وهل هي مصلحة حقيقية أم لا أيضا ؟ .. هنا يأتي التوازن والموازنة فلا شك إذا كان هناك شيء يخفف من الاستبداد أو ينقل المجتمع إلى مرحلة أفضل فلا شك أن هذا جائز ويترك هؤلاء لو أن لديهم استطاعة لفعل ذلك .. ولا شك أن الذين يعارضون هذا يطرحون بدائل معروفة وهي الإسلام .. لكن نحن في ظروف صعبة فلا بأس من ترك هؤلاء الدعاة للديمقراطية.

ولاشك أيضا أن الديمقراطية بحد ذاتها، وحتى الغربيون يعرفون ذلك، لها سلبيات فهي اختراع بشري .. والمسلمون عندهم البديل وهو الشورى بتفريعاتها وتطبيقاتها والتجديد فيها .. الديمقراطية فعلا نبتة غربية فعندما ننقلها إلى تربة أخرى تنبت لكن يكون وضعها سيئاً .

** أثبتت العديد من التجارب أن إحداث تقارب بين طرفي الأمة من السنة والشيعة يواجه الكثير من المعوقات.. ألا ترون أن الأولى أن يتوقف كلا الطرفين عن توجيه انتقاد للطرف الآخر؟

* في البداية هناك تجارب معاصرة كثيرة لما يسمى بالتقارب بين السنة والشيعة وكلها تجارب فاشلة وهي مبادرات من السنة جاءت بنية حسنة ومنها اللقاء المشهور في النجف بين السني الشيخ عبد الله السويدي مع علماء الشيعة ثم مبادرة الشيخ مصطفى السباعي في سوريا والشيخ رشيد رضا في مصر وهذه التجارب فاشلة لأن الطرف الآخر ' الشيعة ' لم يكن صادقا في عملية التقارب لأن لديه مشروع سياسي وفكري خاص لا يتنازل عنه كما أن مشايخ الشيعة مستفيدون من الزعامة ماليا واقتصاديا، فهم يسيطرون على شعوبهم فكيف يتركون هذه البدع وقضايا القبور والحسين والبكاء؟.

إنهم يبنون هذه الزعامات على قضية انتهينا منها ' مقتل الحسين ' مع أننا كأهل سنة نعظم ونحب الإمام على والحسين أكثر من الشيعة.

وأقول إن التقارب شيء غير صحيح .. الشيعة وخاصة الصفوية ' الفارسية ' لها مشروعها الخاص الديني والقومي ولا يتنازلون عن هذا الأمر. والتقارب ممكن إذا تركوا كل العقائد الفاسدة ومنها تكفير الصحابة ما عدا أربعة أو خمسة منهم فقط وقول البعض في القرآن وغير ذلك.

** لكن من الشيعة من يقول إن هذه شائعات وأن الحكم بالشائعات لا يجوز ؟

* هذا كلامهم في المحطات الفضائية .. ففي إحدى المقابلات لم يستطع الشيعي أن يقول أبو بكر الصديق وقال عبد الله بن أبي قحافة.

** فماذا عن التقارب السياسي مع الشيعة ؟

* التقارب السياسي لن يحدث فهم يتعاونون مع الأعداء وانظر مثلا ما حدث في العراق وأفغانستان، أما في لبنان فما يحدث من مقاومة لحزب الله فهذا في الظاهر فقط .. وأتساءل لماذا يقاوم أهل السنة في البداية ضد الاحتلال الإسرائيلي في لبنان ثم يأتي حزب الله ويمنع مشاركة السنة في المقاومة ويفوز هو بالنصر ؟

ألم يتم منع أهل السنة من المشاركة في المقاومة وقد هددهم الأسد ؟

ولماذا لا يتحركون بالعمليات إلا إذا حدثت مشكلة سياسية بين سوريا ولبنان مثلا أو سوريا وإسرائيل ؟ إنهم يعملون فرقعة ' .

** لا يفتأ يخرج علينا بين الحين والحين من يدعونا لضرورة الحوار مع الغرب وأهمية أن نبرز صورتنا النقية أمامه .. في رأيكم ما مدى شرعية هذا الحوار في ظل الهجمة الشرسة على رسول الله؟

* أولا لا يحتاج الإسلام ولا المسلمون إلى تحسين صورتهم .. وهل صورتنا قبيحة؟ الإسلام هو الحق والطريق الصحيح فما نحتاج إلى أن نقول للغرب تعالوا نحن كذا وكذا .

الغرب لا يفهم هذه العقلية، الغرب يحترمك إذا تكلمت معه بندية وبقوة أما إذا حدثته عن الإسلام وأنه رحيم وكذا وكذا فقد يراك ويسمعك ويبتسم لكنه يحتقرك ولا يحترمك.

الحوار مطلوب لكن مع من ؟ .. مؤسسات متصهينة ؟ مع ساسة لهم مشاريع لاستلاب العالم الإسلامي ؟ أم حوار مع عقلائهم من شعوبهم المسلوبة الإرادة؟. لأن هذه الشعوب تثق جدا في إعلامها فعندما يسمعون شيء يصدقونه وكثير من المؤسسات الإعلامية متصهينة، بل حصل مرة أن مستشار الرئيس الأمريكي نيكسون قال إن أكثر مؤسسات الإعلام في أمريكا متصهينة فأبدى الرئيس موافقته على ذلك غير أنه اضطر بعد ذلك للاعتذار لليهود .. الحوار مطلوب لكنه يجب أن يكون بندية وليس حوار ضعفاء.

** لماذا لا يسعى أهل السنة لوجود مرجعية دينية موحدة في المسائل الفقهية بدلا من حالة التضارب والتناقض ؟

* أولا إذا قلنا إن هناك تقصير عند أهل السنة بخصوص العلماء والمرجعية العلمية المستقلة والموثوق بها فهذا صحيح وهذا له أسبابه التاريخية والموضوعية التي أدت إلى ألا يكون لهم هذه المرجعية المحترمة .

ولكن هناك نقطة هامة أحب أن أشير إليها وهي أن أهل السنة عقيدتهم لا تقوم على البدع ولا الخرافات ولا يستطيعون أن يأسروا العامة أو يوحدوهم ببدع معينة فأهل السنة ليس عندهم طاعة عمياء مثل أهل البدع .

لكن أهل السنة يجب أن يكون عندهم علماء كبار ويجب أن يحترموهم أيضا .. نعم لا نستطيع أن نقول إنه يجب أن تكون لنا مرجعية مثل مرجعية الشيعة فأهل السنة لا يمكن أن يكون لهم مرجعية تراتبية حيث يوجد عند أهل السنة عالم وغير عالم في حين هناك مراتب عند الشيعة كما عند الكنيسة.

==============

#حدود التعددية التي يسمح بها الإسلام

الأحد 6 المحرم 1427هـ – 5 فبراير 2006م

الصفحة الرئيسة

تحقيق: أسامة الهتيمي

مفكرة الإسلام : لم يكن بناء الحضارة الإسلامية التي ملأت أسماع الدنيا وأبصارها خلال عصور ازدهارها الطويلة وبهرت الدنيا بكل ما قدمته على المستويين المادي والمعنوي مقتصرا على المسلمين وحدهم .. فالفتوحات الإسلامية التي امتدت من المحيط إلى المحيط وسماحة الإسلام التي لم تجبر أيا من أبناء هذه البلاد الجديدة على اعتناق الإسلام أوجدت عناصر أخرى من غير المسلمين ساهمت بشكل أو بأخر في تشكيل هذا البناء على اعتبار أن هؤلاء أصبحوا أحد مكونات الأمة التي ينتمون لها حتى لو لم يدينوا بدينها .

كما لم يقتصر هذا التنوع داخل الدولة الإسلامية على الاختلاف العقائدي فحسب بل امتد كذلك إلى تنوع الاجتهادات والأفكار التي أنتجت فيما بعد العديد من التيارات الفكرية التي كانت تعكس وبجدارة قدرة الإسلام على احتواء مختلف الرؤى .

مفكرة الإسلام أرادت أن تطرح من جديد موقف الإسلام من التعددية وهل كل تعددية مقبولة أم أن هناك حدود لهذه التعددية ؟

الإسلام أول من وضع فكرة المواطنة

يقول الكاتب الإسلامي مجدي أحمد حسين: ' إن الاختلاف والتنوع سنة من سنن الله في الكون كما أنه سنة بين البشر .. وقد دلت على ذلك نصوص القرآن قاطعة الدلالة ' وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم '.

كما اعتبر القرآن الكريم أن اختلاف الألسنة والألوان بين الناس آية من آيات الله عز وجل ' ومن آياته خلق السموات والأرض واختلاف ألسنتكم وألوانكم' ومع ذلك وبرغم هذه الآيات نجد من الناس من ينشغل بأن تسود اللغة العربية وحدها على غيرها من اللغات مع أن القرآن لا يطالبنا بذلك .

كذلك أيضا الاختلاف بين الليل والنهار يعتبره القرآن آية ' إن في اختلاف الليل والنهار لآيات لأولي الألباب ' .

فالكون قائم على هذه المتضادات .. الليل والنهار .. الشمس والقمر .. البرودة والسخونة .. والخير والشر.. هذه الثنائية التي يتركب منها الكون .. وليس معنى هذا أن التنوع لا بد أن يكون بين شيء إيجابي وبين آخر سلبي ولكن هناك تنوع داخل كل إطار فمعسكر المشركين مثلا داخله تنوعات وليسوا جميعا بدرجة واحدة وكذلك التنوع داخل حزب الله .. فالإيمان نفسه درجات.

ويضيف مجدي حسين أننا لو أخذنا صحيفة الرسول – صلى الله عليه وسلم – كمعيار والصحيفة كما هو معلوم للجميع من إنتاج السنة النبوية التي هي أحد مرجعيتنا ' الكتاب والسنة' .. فقد سمحت الصحيفة لليهود أن يستمروا ويحصلوا على المواطنة السياسية ولولا أن اليهود لم يتآمروا على الرسول – صلى الله عليه وسلم – لاستمروا في الحياة في موطنهم إلا أنهم حاولوا قتل الرسول الكريم .

فالإسلام أول من وضع فكرة المواطنة السياسية .. ومن باب أولى إذا كنت ستسمح بالخلاف في العقيدة فلماذا لا تسمح به في السياسة.

ويؤكد حسين أن التسامح بالتعددية مفتوح في الإسلام ولا يحده إلا شرط واحد إذا لم يتحقق هذا الشرط فهنا على الدولة أن تتدخل للحظر والمنع وهذا الشرط هو عدم تعاون المختلفين مع الأعداء أو السعي لتقويض النظام الإسلامي أو استخدام العنف فهذا هو الشرط الذي يمكن أن يؤدي إلى منع ذلك وهذا شرط موجود في كل العالم وليس لدى الإسلام فقط .. فالحضارات تحمي نفسها .

ويرد حسين على القائلين بأن الإسلام لا يقبل التعددية السياسية والحزبية خشية أن يسمح لهؤلاء بالدعوة للكفر والإلحاد قائلا إن الإسلام عنده من القوة والبرهان والحجج ما يجعله لا يخشى من الرأي الآخر .. ثم إن الإسلاميين في المعارضة يحرصون ويجتهدون في الحصول على الأغلبية بأي انتخابات حرة فكيف يخشون وقد وصلوا إلى السلطة.

والتخوف لن يأت إلا إذا تصور هؤلاء أن السلطة مغنم ومعها سوف تكون الراحة .. لا هذا مرفوض إن على الإسلاميين بعد أن يصلوا إلى الحكم عليهم أن يواصلوا الدعوة والعمل حتى يمكنهم الحفاظ على القاعدة الإسلامية، ولن يكون ذلك عن طريق الحظر والمنع ولكن عن طريق الكلمة والدعوة ... فالإمام علي بن أبي طالب رضي الله عنه وخليفة المسلمين احترم وجود الخوارج وقد كفروه هو شخصيا وقيل له يا أمير المؤمنين إنهم يكفرونك .. أي الخوارج ... فقال لهم دعوهم ولم يقاتلهم رضي الله عنه إلا عندما استخدموا القوة والعنف ضد المسلمين وقتلوا بعض المسلمين. هذا أمر، والأمر الآخر هو أن الدساتير العربية الحالية تنص في معظمها على أن الدين الإسلامي هو الدين الرسمي لهذه الدول كما ينص على أهمية احترام القيم الإسلامية .. فلا يوجد نص في هذه الدساتير يبيح حرية الدعوة للكفر أو الإلحاد .. نعم يمكن أن يكون هناك حزب يساري أو حزب شيوعي داخل الدولة ويطرح هذا الحزب برامج سياسية واقتصادية مختلفة عما يطرحه الإسلام .. أما الدعوة إلى الإلحاد فهذه منطقة أخرى وبالطبع إنها مرفوضة .. فأي دستور إسلامي سيبقى بالطبع على تحريم وتجريم المساس بالإسلام وبعقيدته كما سيمنع الدعوة للكفر حيث يجب احترام عقائد الناس وعدم الترويج للفكر الذي يدعو لهذا الكفر .

ويضيف مجدي حسين إن ما يروج له البعض من أن الديمقراطية والتعددية تسمح بوجود أي أحزاب تتبني أي أفكار كلام غير صحيح .. فكل نظام ديمقراطي قام في الغرب حظر أفكاراً معينة .. وأمامنا مثلا قضية المحرقة والخاصة بإدعاءات اليهود بأنهم تعرضوا لمحرقة ' الهولوكوست ' في ألمانيا حيث تم تصفية ملايين منهم.. فإن أي كاتب حاول أن ينكر هذه المحرقة أو أن يقلل من الأعداد التي أبيدت يتعرض للمحاكمة والحبس .. كذلك ما يسمى بمعاداة السامية حيث يتم محاكمة أي شخص يهاجم اليهود أو ما تقوم به دولة الكيان الصهيوني من الانتهاكات.. فإن مثل هذه الكتابات يعد معاداة للسامية ... وكذلك تم منع الأحزاب النازية والفاشية ويتم مطاردة من يتبنى مثل هذه الأفكار.. فغير صحيح إذن أن كل الأفكار مسموح بها في الديمقراطية.

وهناك نماذج كثيرة على ذلك ومنها أن أمريكا لما خشيت من وجود حزب شيوعي متصاعد داخل أراضيها شنت حملة أمنية لا مثيل لها والتي أطلق عليها ' المكارثية ' حيث وسعت من دائرة الاشتباه واعتقلت كل من تظن أنه ينتمي أو يتعاطف مع الأفكار الشيوعية وكان ذلك من منطلق خوفها من أن يسيطر هؤلاء على السلطة في أمريكا. كذلك فإن دول أوروبا الغربية لم ولن تسمح بوجود حزب شيوعي يشارك في الانتخابات .. وحتى عندما وصل حزب شيوعي في ' شيلي ' بأمريكا اللاتينية حصل الانقلاب المدعوم من الولايات المتحدة الأمريكية ضد سلفادور اللندي .

فهذه إذن أكذوبة ..فالديمقراطية الغربية يجب أن ينظر إليها بشكل واقعي وليس على المستوى النظري بالإضافة إلى أنها أفضل من نظمنا المستبدة حيث أن لها حدودا .. نعم هي متخلفة بالنسبة للنظم السياسية في الإسلام لكنها تطرح تنافسا بين طرفين أو أكثر ويحدث نوع من التنافس لصالح الشعب .. فما يتردد عن الحرية المطلقة أكذوبة يشيعها الغرب ويرددها العلمانيون .

لا يوجد في الديمقراطية حرية مطلقة

أما الكاتب الإسلامي جمال سلطان فيقول إن التعددية هي مصطلح حديث يدور عليه ما يدور على المصطلحات الجديدة بشكل عام وهو عدم وجود ضبط علمي محدد وبالتالي تكثر التأويلات والمفاهيم حول المصطلح الجديد ولذلك فمن هذه الناحية لن نستطيع أن نقول بشك حاسم إن هناك موقفا إسلاميا محددا من مسألة التعددية وإنما هو اجتهادات نقولها على فرضية أن التعددية مفهوم للتعايش مع الآخر من بني البشر واحترام الحق في الاختلاف وضمان عدم الاعتداء على الناس بسبب أفكارهم ومعتقداتهم .

فمن هذه الناحية نقول إن الإسلام ربما يكون الدين الوحيد الذي عرفته البشرية ويعمل على تحقيق هذه المعاني في حين أن الأديان الأخرى لم تكن تعرف أي تسامح مع المختلفين وتاريخ أوروبا والصراعات المريرة بين الكاثوليك والبروتستانت خير شاهد على هذا الحادث .

ويضيف سلطان أما بالنسبة للحياة السياسية وبالنسبة للأحزاب التي تتبنى مشروعات لا يمكن وصفها بأنها إسلامية فإنه لا حرج من الناحية الشرعية في قبول مثل هذه الأحزاب والحركات .. لكن على شريطة أن يكون الجهد المختلف فيه متعلق بجانب الاجتهاد السياسي والاقتصادي والثقافي وأن لا يمارس مثل هذا الحزب دعاية سوداء ضد مقدسات المجتمع لأن هذا بمثابة اعتداء على مقدسات الناس .. أما أن يكون له اجتهادات سياسية قد لا يرضى عنها الجمهور الأوسع من المسلمين فلا أظن أن في قبول هذا اختلاف .. ثم إنه عند مستويات معينة من الخلاف السياسي فإنه من الجائز أن يقبل الاجتهاد أو يرفض وهذا ليس متعلق بالحالة الإسلامية وحدها وإنما بالمناخ السياسي العام .. وأظن مثلا لو اختلف أحد المواطنين وخلال الحقبة الناصرية ودعا مثلا إلى التطبيع أو الصلح مع الكيان الصهيوني فأظن أنهم كانوا سيشنقونه في وقتها حيث يعد ذلك خيانة عظمى.

كذلك لابد أن يكون هناك ضمانات ألا يمثل هذا الاجتهاد خطراً على الأمن القومي أو المجتمع أو أن يهدد الوحدة الاجتماعية .. فلا يوجد في الديمقراطية شيء مطلق فهناك قواعد عامة ثم استثناءات .. فأوروبا لا تسمح بقيام أحزاب نازية وهي محظورة ولا يقبل في ذلك أن يحتج بأن الديمقراطية تقبل أو تسمح لكل صاحب رأي بالتعبير عن أفكاره .. كون أن هناك استثناءات لا يقدح في القاعدة وهي استثناءات تقدر بقدرها وحالاتها .. في التصور الإسلامي ضمانات وتحفظات فلا يعني ذلك أن الإسلاميين لا يقبلون بالتعدد .. هي مجرد تحفظات مثل أي تيار فكري آخر .

وحول قبول وجود أحزاب وتيارات سياسية داخل الدولة الإسلامية يؤكد جمال سلطان أن الإسلام لا يرفض ذلك طالما أن الأمور تحكم بقواعد واضحة وأن ممارسة هذا الخلاف تتم من مؤسسات مسئولة ولها احترامها وطالما أن هناك قانوناً ينظم هذا الفعل السياسي ويجعله إيجابياً وبناءً .

وفق ذلك لن يكون هناك مشاكل للاجتهاد السياسي وهو موجود وفي التاريخ الإسلامي نماذج متعددة .. غير أنه لم تكن توجد آليات لتصريف الخلاف السياسي بشكل إيجابي وإنما كان يفهم على أنه خروج على السلطان وكان يتم المواجهة بالقوة .. أما الآن وبعد تطور الخبرة السياسية والإدارة أظن أنه لا حرج أن يتم الاستفادة من البنية التحتية التي تصرف الخلاف السياسي بشكل إيجابي وتجعله عنصر دفع وحماية للمجتمع .

الإسلام الدين الوحيد الذي يعترف بالآخر

أما كمال حبيب الكاتب والباحث الإسلامي فيقول إن الإسلام أول دين في تاريخ العالم كله والأديان السابقة عليه لا يقول إن ' الناس على دين ملوكهم ' فمثلا كانت الحضارات الرومانية أو اليونانية أو المسيحية وحتى الوثنية قبلها كان المبدأ الثابت لها أن الناس على دين ملوكهم بمعنى أن أي مواطن مثلا موجود في رومانيا كان هو المواطن الذي على دين الملك أما إذا خالف دين الملك لا يكون مواطنا ويسمونه 'HOST ' ومعناها والذي لا يزال في اللغة الإنجليزية العدو أو الآخر .

فالإسلام حين جاء مثّل فاتحة جديدة في التعددية والاعتراف بالآخر فقبل لأول مرة في التاريخ الإنساني الذين لا يدينون بدينه كمواطنين لهم حقوق وعليهم واجبات ولا يوجد أي كتاب في الفقه الإسلامي إلا وفيه باب عن تنظيم أوضاع غير المسلمين من أهل الكتاب أو أهل الذمة وحتى الوثنيين من أهل البلاد المفتوحة مثل الهند.

ويضيف كمال حبيب أن الوثيقة التي وضعها الرسول – صلى الله عليه وسلم – حين جاء إلى المدينة المنورة مثلت فتحا جديدا في تاريخ البشرية حيث كانت بمثابة الدستور الذي نظم قواعد العلاقة بين المسلمين وغيرهم من أهل المدينة وكان فيهم القبائل اليهود الثلاث وأيضا الوثنيون وتظهر الوثيقة اعتراف الرسول – صلى الله عليه وسلم – بوجود هؤلاء الاجتماعي والثقافي بشرط أن يكونوا تحت النظام الإسلامي لدولة المدينة .. المهم أن الوثيقة مثلت فتحا جديدا في تأسيس العلاقات بين المسلمين وغيرهم على اعتبار أن غير المسلمين مواطنون وقد اعترف بهم كأمة ولأول مرة يوجد في تاريخ البشرية مستويان من العلاقات:

المستوى الأول قائم على أساس 'COMUNITY ' وهي تشير إلى فكرة وحدة العقيدة.

أما المستوى الثاني 'OCITY ' والتي تشير إلى فكرة المصلحة والعيش المشترك بين المسلمين وغيرهم وأن هناك مقاصد معينة لبقاء غير المسلمين على أرض واحدة وهي فكرة حديثة والغرب لم يعرفها إلا مؤخرا .

ويشير حبيب إلى أن الغرب الذي قام على فكرة الكاثوليكية التي تعني المذهب الشامل أو الكلي ويرفض الاعتراف بالآخر رفض أن تظهر فكرة مسيحية أخرى مناهضة له وكان ذلك المذهب هو البروتستانتية التي ظهرت كمذهب احتجاجي وكانت نتيجة ظهوره هو اندلاع معارك وسفك دماء يخصص لها 'ول ديورانت' في موسوعته تاريخ الحضارة فصولا كاملة .

ولم تأت فكرة الاعتراف بالبروتستانت من جانب الكاثوليك إلا في المناطق المتاخمة للدولة العثمانية أولا حيث كانت الدولة العثمانية والمناطق المجاورة لها ملاذا آمنا للمضطهدين من محاكم التفتيش الأوروبية سواء في أسبانيا أو مناطق الغال وغيرها وقد فعلوا ذلك حتى لا يذهب البروتستانت إلى الدولة العثمانية. التعددية في الغرب إذن جاءت في إطار الصراع مع الدولة العثمانية .. وكثير من الحركات الإصلاحية في أوروبا كانت تتبنى النموذج العثماني .. مثلما نقول الآن النموذج الأمريكي.

ويشير حبيب إلى أن العديد من الأدبيات ومنها أدبيات غربية تشير إلى أن الدولة العثمانية دولة 'malti-nation ' أي أنها قائمة على فكرة التعددية ونظمت العلاقات مع مئات الأعراق والمذاهب .

ويضيف حبيب أنه توجد أيضاً التعددية المذهبية الفقهية .. فأبو جعفر المنصور الخليفة العباسي قال للإمام مالك الفقيه المعروف بأن يجعل من 'الموطأ' كتابا للمسلمين غير أن الإمام مالك رفض ذلك لأنه لا يرى في نفسه الحق في احتكار الاجتهاد ويرى أن هناك مجتهدين آخرين .. إذن يوجد تعددية فقهية ولكنها تعددية لها قواعد ومناهج وأصول ولها نظر علمي .. بمعنى أنها كانت مدارس على أعلى مستوى في النظر وإدارة أوضاع المسلمين الاجتماعية والاقتصادية .. والأحوال الشخصية .. والعلاقة بين الحاكم والمحكوم .

كذلك كانت التعددية المذهبية واختلاف العقائد .. فالعقيدة الغالبة كانت أهل السنة ومع ذلك فقد ظهرت دول شيعية حيث إن الدولة لم تكن تقتل من يخالف مذهب الدولة أو كانت لديه مشكلة عقائدية .. وتبدأ المشكلة عندما كان يتحرك صاحب هذه العقيدة ضد اتجاه الدولة وهو ما يشكل تهديداً للهوية ففي هذه الحالة تبدأ الدولة بالحوار معه .. إما إذا ظل هو وحده فمعظم الفقهاء يقبلون به عاديا .

ويؤكد حبيب أن ما يسمى بفكرة 'بوتقة الصهر' لم تظهر إلا مع الدولة القومية التي تستمد مرجعيتها من الغرب وليست فكرة قائمة على مبدأ التسامح الإسلامي .. فكمال أتاتورك مثلا لا يعترف بالأكراد ويسعى لتأسيس دولة تؤمم كل العقائد ولا تعترف بالأيدلوجيات.

كذلك فإن فرنسا العلمانية لم تتحمل تعدد الأعراق حيث يرون أن الإسلام تهديد للهوية القائمة على العنصر الواحد ..في التحليل النهائي نقول إن الإسلام وحضارته كانا أكثر تعبيرا عن قبول الآخر والتعددية .

ويشير حبيب إلى أن القول بأن الديمقراطية تسمح لكل الأفكار بالوجود قول خاطئ فالنازية ممنوعة في ألمانيا والشيوعية ممنوعة في أمريكا وهذه قوانين وجدت لكي تحافظ على الهوية الثقافية للمجتمع.

==============

#الإحسان في الحضارة الإسلامية

الأحد 6 المحرم 1427هـ – 5 فبراير 2006م

الصفحة الرئيسة

مفكرة الإسلام : صدر في القاهرة مؤخراً كتاب بعنوان 'الفقر والإحسان في مصر' لآدم صبرة أستاذ التاريخ الإسلامي في جامعة ميتشغان الأميركية خصص الفصل الأول للكتاب عن الفقر والفقراء في فقه وتاريخ المجتمعات الإسلامية إنما يشمل المجتمعات الإسلامية المختلفة بحكم المرجعية الواحدة، دون أن ينفي هذا خصوصية مصر واستجابة السلاطين المماليك لهذا الإشكال في المجتمع.

وينطلق الدكتور صبرة في المقدمة من أنه كما في المسيحية كذلك في الإسلام يشكل الدين الأساسي في تبلور مفاهيم الفقر والفقراء والإحسان الخ. وبناء على ذلك فقد انشغل الفقهاء المسلمون في التنظير لمفاهيم الفقر ومكانة/ أفضلية الفقراء في الدنيا والآخرة - على اعتبار أنهم يسبقون الأغنياء في دخول الجنة بـ500 سنة- وما لهم من حق على الأغنياء في الدنيا باعتبار أن الفقير هو 'الواسطة بين الله سبحانه وتعالى والأغنياء'، وصولاً إلى دور ولاة الأمر تجاه الفقراء الخ.

وبعبارة أخرى يلفت الدكتور صبرة نظرنا بحق إلى ما في التراث الإسلامي من غنى فقهي حول الفقر والفقراء سواء في الدنيا أو في الآخرة. ويلاحظ أن مفهوم الفقر في التراث الإسلامي كان يتغير من وقت إلى آخر نتيجة للظروف السياسية والاقتصادية والاجتماعية، حيث تداخل مع الزهد ليفضي إلى نوع جديد من الفقر يمكن أن يسمى الفقر الاختياري أو الصوفي الذي تحول إلى 'مثل أعلى' وتطرف كثيراً في بعض الحالات ليصل إلى التخلي عن الغنى واختيار الفقر والتسول لإذلال النفس.

وفي هذا الإطار فقد مثل كتاب 'إحياء علوم الدين' للغزالي [توفي 505هـ/1111م] منعطفا واضحاً في التنظير الجديد للفقر باعتباره موقفاً واعياً واختيارياً وليس مصاباً وقدراً للإنسان، وصولاً إلى إبراز ما يمكن تسميته بـ'أفضيلة الفقر'. فالغزالي ينطلق من أن الدنيا عدو الله ولذلك يجب على المرء المسلم ألا ينشغل بحب هذه الدنيا بل يجب أن يكرهها. وفي هذا الحال يصبح الاعتماد هنا على الدعاء المأثور عن الرسول:'اللهم أحييني مسكيناً وتوفني فقيراً'.

ومع أن هذه الآراء للغزالي لاقت معارضة قوية من قبل بعض الفقهاء كابن الجوزي [توفي 597هـ/1200م] الذي قال بأن الفقر لا يمكن أن يكون مرغوباً أو مطلوباً بل هو مرض من يبتلى به ويجب أن يعالجه بالصبر، إلا أن الفرق الصوفية التي برزت بقوة بعد الغزالي كالقلندرية والحيدرية ..الخ غالت في تعظيم الزهد في الدنيا وابتغاء الفقر كوسيلة لتحطيم الرغبة في الدنيا والتقرب إلى الله تعالى، حتى أصبح تعبير 'الفقير' يكاد يوازي تعبير 'الصوفي'.

وفي المقابل يبحث الدكتور صبرة عما يوجد في الإسلام من مصادر ووسائل لمواجهة الفقر سواء بمعناه الاجتماعي الشائع أو بمظهره الزهدي الجديد ومن هذه المصادر الزكاة والصدقات والوقف.

وفيما يتعلق بالزكاة، التي حدد أحد مصارفها الثمانية للفقراء، يلاحظ الدكتور صبرة أنها على الرغم من أن تقديرها والتصريح عنها يعود إلى ضمير الأفراد فإن الدول الإسلامية تراخت بعد تشدد في جميع الزكاة، حيث أن الكثير من الدول لم تعد تقوم بجمع الزكاة بل أصبحت تترك ذلك للأفراد لكي يصرحوا عنها ويفرقوها بأنفسهم. وفيما يتعلق بمصر، على سبيل المثال، يلاحظ الدكتور صبرة أن صلاح الدين الأيوبي كان أول حاكم يجمع أموال الزكاة ويأمر بتوزيعها على الفقراء وأبناء السبيل والغارمين بعد استقطاع الجزء الخاص بالعاملين عليها. وهكذا فقد تم في عام 588هـ/1192م على سبيل المثال جمع 52 ألف دينار من أموال الزكاة وتوزيعها.

وفيما يتعلق بالصدقات الأخرى التي يقدمها الأغنياء للفقراء الحقيقيين أو الزاهدين فهي ترتبط بمناسبات عامة على مر العام أو بمناسبات خاصة عند الأفراد والأسر. فمن المناسبات العامة لدينا يوم عاشوراء ومولد النبي وشهر رمضان وعيد الفطر وعيد الأضحى، التي كانت توزع فيها الصدقات نقداً وعيناً من الخبزً واللحم على الفقراء. أما المناسبات الخاصة فهي تتراوح ما بين الختان والشفاء من الأمراض عملاً بالحديث النبوي 'داووا مرضاكم بالصدقة'، التي كانت تبذل فيها الأطعمة للفقراء أيضا.

أما فيما يتعلق بالوقف فقد خصّص له الدكتور صبرة فصلاً كاملاً لما يمثل من أهمية بالنسبة لامتصاص الفقر في المجتمعات الإسلامية، حيث أنه يمثل مزيجاُ من تدخل الأفراد والحكام ولكنه يختلف عن غيره من الصدقات بالدوام والتنظيم. وفي هذا الإطار فقد تركزت خدمات الوقف في مجالين مهمين: تقديم الطعام من الخبز دائماً واللحم أحياناً والعلاج الصحي المجاني فيما عرف بالبيمارستانات التي غدت من مظاهر الحضارة الإسلامية. وبالعودة إلى السؤال المهم عن دور الدولة في مواجهة الفقر يلاحظ الدكتور صبرة أن الفقهاء من الماوردي [توفي 450هـ/1058م] قد أعطوا دوراً ما للدولة مع بعض الاختلاف من واحد إلى آخر. فالماوردي نفسه حصر تدخل الدور في مكافحة التسول، حيث يجب على الدولة أن تمنع الرجال القادرين على العمل من التسول وأن تعاقبهم في حال عودتهم إلى ذلك. ومع أن كتب الحسبة اللاحقة للشيزري وابن الأخوة وغيرهم جعلت ذلك الأمر [مكافحة التسول] من مهام المحتسب إلا أن هذا لم يمنع تدخل بعض الحكام في حالات خاصة. فقد بادر السلطان بيبرس في 664هـ/1265م إلى جمع العاجزين عن العمل في القاهرة وترحيلهم إلى الفيوم حيث خصص لهم السلطان قرية ورتب لهم الرواتب لحاجاتهم.

ولكن هذه 'اللفتة' التي تمثل بداية الدولة المملوكية لا تخفي الجانب الآخر لدور الحكام المتمثل في خلق الفقر أو إفقار الناس نتيجة للمصادرات والضرائب الخ. ولا شك أن التنافس بين زعماء المماليك والتخبط في صك النقود والتلاعب بقوت الشعب كان من أسباب المجاعات [كان آخرها في 892هـ/1486-1487م] التي اضطر فيها الفقراء إلى أكل كل شيء بما في ذلك القطط والكلاب للبقاء على قيد الحياة.

=============

#الخيانات العربية... محاولة للتفسير

السبت 21 ذي الحجة 1426هـ – 21 يناير 2006م

الصفحة الرئيسة

د. ليلى بيومي

مفكرة الإسلام: ظاهرة الخيانات في العالم العربي تستحق الوقوف عندها والتعامل معها بجدية وموقف يتجاوز الشجب والإدانة والاستنكار كما يحدث عادة، فهذه الظاهرة أصبحت متكررة وهي تمتد إلى أبعاد تاريخية سحيقة كما أنها تحدث في أوساط متعددة سواء على المستوى الشخصي أو على المستوى العام في أعلى درجاته حيث السلطة والحكم.

وتتفرع الخيانات ما بين خيانة للوطن نفسه وخيانة للنظام الحاكم أيا كانت طبيعته وخيانة للمؤسسة التي ينتمي إليها الفرد سواء كانت عسكرية أو اقتصادية أو تعليمية... كما أن هذه الظاهرة تهبط إلى مستويات مختلفة من العلاقات الشخصية والأسرية وعلاقات العمل والتجارة ولذلك فلابد من البحث في جذورها وأسبابها.

فهل ترجع هذه الأسباب إلى خلل معين في التنشئة الاجتماعية لا يعتني بقيم الصدق والأمانة والإخلاص، أم أنها تعود إلى ضغوط مادية تستجيب لها النفوس الضعيفة والمريضة فتنهار بسرعة وتفرط في أمانات كان يجب أن تحافظ عليها... وقد تعود الظاهرة وبالذات عندما تحدث على المستوى السياسي أو العسكري إلى أسباب أخرى منها مخالفة العقيدة أو المذهب أو الفكرة السائدة في المجتمع والرغبة في إيذاء هذه العقيدة بالكيد لها والانقلاب عليها وتشجيع وخدمة خصومها.

كذلك ترجع هذه الظاهرة في تلك المستويات السياسية إلى طابع الكثير من نظم الحكم المعاصرة التي قامت هي أصلا على خيانات من خلال انقلابات على أنظمة سبقتها أو من خلال انقلابات على مبادئ دينية وقانونية مستقرة ولذلك فإن الخيانة هي طبع وسمة مستقرة أصيلة فيها مما يسهل أن يخونها

المنضمون إليها بدورهم، كما كانت هي مع من سبقوها.

ومن السهل في هذا المناخ أن ينقلب الإنسان على النظام الذي ينتمي إليه لأنه نظام لا يقوم على أسس أخلاقية وإنما ينشأ على أساس من السلب والنهب وفرض السيطرة بالقوة وبالحيلة وبالخداع. ولكن أيا كانت أسباب هذه الظاهرة فهي بالقطع تحتاج إلى معالجتها والقضاء عليها بكشف هذه الأسباب مع ملاحظة أن القضاء على هذه الظاهرة عندما تكون أسبابها ومستويات حدوثها هي المستويات السياسية فإن هذا أمر صعب لأنه يحتاج إلى معالجة لكامل النظام السياسي القائم وليس فقط معالجة بحسن التربية والتنشئة كما هو مطلوب من القضاء على الخيانة عندما تحدث في مستويات العلاقات الشخصية والأسرية أو العلاقات التجارية.

ونحن عندما نتوقف عند الخيانات السياسية نفعل ذلك لأنها لا تؤثر فقط على مجموعة أفراد أو مجتمعات ولكنها قد تؤثر على مصير أمم بأكملها ونذكر هنا على سبيل المثال حوادث فاصلة في تاريخ أمتنا بدءً بابن العلقمي، ومروراً بالمعلم يعقوب، ووصولاً إلى بعض زعمائنا المعاصرين، وانتهاءً بحسين كامل وعبد الحليم خدام.

وابن العلقمي، اسم يدل على الخيانة والغدر، فقد كان وزيراً للخليفة العباسي المستعصم، وكان هذا الوزير الرافضي يخطط للقضاء على دولة الخلافة، وإبادة أهل السنة، وإقامة دولة على مذهب الرافضة، فاستغل منصبه، وغفلة الخليفة لتنفيذ مؤامراته ضد دولة الخلافة، وكانت خيوط مؤامراته تتمثل في ثلاث مراحل :

المرحلة الأولى: إضعاف الجيش، ومضايقة الجند، فكان يجتهد في صرف الجيوش، وإسقاط اسمهم من الديوان، فكانت العساكر في أخر أيام المستنصر قريباً من مائة ألف مقاتل، ولم يزل يجتهد في تقليلهم ، إلى أن لم يبق سوى عشرة آلاف.

المرحلة الثانية: كاتب التتار، وأطمعهم في احتلال البلاد، وسهل عليهم ذلك ، وحكا لهم حقيقة الحال ، وكشف لهم ضعف الرجال.

المرحلة الثالثة: نهى عن قتال التتار، وثبط الخليفة والناس.

وهكذا فتح هذا الخائن أبواب بغداد لجيوش هولاكو التي دمرت الحضارة العباسية وقتلت مليونين من المسلمين.

أما يعقوب النصراني فقد تواطأ مع الحملة الفرنسية ضد مصر، وكوّن كتيبة مقاتلة انضمت إلى القوات الفرنسية، ليحارب المصريين المسلمين الذين نشأ بينهم وأكل من خير بلدهم.

أما دور نفر من الزعماء العرب المعاصرين ونقلهم الأخبار الهامة والسرية للعدو الصهيوني فهو معروف ومتاح للجميع ويتحدث عنه القاصي والداني، وكان الموقف الأشهر هو الاتصال بجولدا مائير رئيسة وزراء الكيان الصهيوني فجراً وإخبارها بموعد قيام الجيشين المصري والسوري بالهجوم على الجيش الصهيوني.

وقبل ذلك لا يمكن نسيان ما فعله ملوك العرب من خيانة الأمة عام 1948 سواء في طريقة قيادة المعارك أو في التورط في قضية الأسلحة الفاسدة.

ومؤخرا قام حسين كامل صهر صدام حسين بتقديم تقارير للأمريكان بعد هروبه من العراق للأردن مدعيا وجود أسلحة كيمائية وكانت تلك المعلومات المضللة ذريعة بعد ذلك لضرب العراق واحتلالها، بعد أن كانت لجنة التفتيش آنذاك على وشك إعلان العراق خالياً من أسلحة الدمار الشامل. وأخيرا وليس آخرا ما قام به عبد الحليم خدام الذي ظل جزءً من النظام السوري الحاكم لمدة أكثر من ثلاثين عاما وظل طامعا في هذا الحكم حتى آخر يوم في عمره ولما لم يكن له ما أراد انقلب على بلاده.

وتعتبر الخيانات الفردية هذه في ظل الاستضعاف العربي بمثابة ذريعة لضرب شعوب بأكملها، تلك الشعوب العاجزة هي الأخرى كلية نتيجة القهر والاستبداد عن أن تفرق بين الحق والباطل، بين العدو والصديق فهناك فصائل ما زالت تقوم هي الأخرى بمواقف خيانة تجاه المخالفين في المذهب في نفس الوطن الواحد.

فما يقوم به ما يسمى بفيلق بدر الشيعي الذي انتهج سلوكا عدائيا شرسا ضد أهل السنة حتى كاد يتفوق على العداء الأمريكي لأهل العراق وقد سار على دربه مجموعات من الأفراد والتجمعات التي كانت ترفع الشعارات الإسلامية وهم في الحقيقة طائفيون يعملون ضد الوطن لصالح القوى الخارجية.

وما يقوم به أيضا الدروز في لبنان وتحت قيادة وليد جنبلاط من تأليب للقوى الخارجية ضد سوريا وضد لبنان أيضا إنما هو صفحة جديدة من صفحات الخيانة والغدر، بل ويقوم الدروز بخيانات عظمى لصالح الصهاينة ضد الفلسطينيين، وما الجاسوس عزام عزام عنا ببعيد , ومما يلاحظ بجلاء أن غالب تلك الخيانات والعمالات إنما تأتي من أصحاب العقائد المنحرفة ..فالشيعة الباطنية تارة والنصيريين تارة والدروز تارة ..الخ

ومثل تلك الخيانات المتكررة والمتداخلة تنهك الجسد العربي المثقل بأعبائه في تلك المرحلة التاريخية.. وتلك الخيانات لابد من التوقف عندها لأنها على وشك أن تكون سمة غالبة لدى العديد من الجماعات والأفراد ذات الأداء السياسي العام وتضر بالمصالح العامة للشعوب العربية المسلمة.

وما يسعنا أن نستحضره في هذا الصدد موقف رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديث السفينة حيث أكد على أن الخرق إن كان في الأسفل سيصيب حتما من هم في الأعلى وجميعنا في سفينة واحدة وليس بعضنا في مأمن مرحلي مادام الخطر واحد يتربص بنا جميعا .. ولنقرأ الماضي والحاضر ونعي المستقبل لأنه لا سبيل للخلاص على المدى القريب والبعيد والمتوسط إلا بدرء تلك المفاسد .

فقد روى النعمان بن بشير في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: 'مثل المداهن في حدود الله والواقع فيها مثل قوم استهموا سفينة، فصار بعضهم في أسفلها، وصار بعضهم في أعلاها، فكان الذي في أسفلها يمرون بالماء على الذين في أعلاها، فتأذوا به، فأخذ فأسا فجعل ينقر أسفل السفينة، فأتوه فقالوا: ما لك! قال: تأذيتم بي ولا بد لي من الماء! فإن أخذوا على يديه أنجوه ونجوا أنفسهم وإن تركوه أهلكوه وأهلكوا أنفسهم'.

============

#مفكرة الإسلام تفند دعاوى الرافضين للحل الإسلامي

الخميس 19 ذي الحجة 1426هـ – 19يناير 2006م

الصفحة الرئيسة

تحقيق : أسامة الهتيمي

مفكرة الإسلام: لم يفتتن العرب والمسلمون في عصور انحطاطهم بالجانب المادي من الحضارة الغربية فحسب بل امتدت تلك الفتنة لتشمل الجوانب الثقافية والاجتماعية والقانونية والتشريعية إلى الدرجة التي طالب فيها بعضهم بأن نتبع الغرب في كل كبيرة وصغيرة حتى يمكننا تحقيق ما حققه الغرب من تقدم علمي ومعرفي .

وكانت دعوة مثل هؤلاء تتضمن سرا أو جهرا التخلي عن القيم والمبادئ الإسلامية التي أضحت في نظرهم أسباب تخلف المسلمين وتراجعهم في الوقت الذي نسوا فيه أو تناسوا أن حضارة الأمة الإسلامية وازدهارها لم تكن إلا بتمسك الأمة بهذه القيم الإسلامية فضلا عن تحكيمهم لله ولرسوله في كل شئونهم .

واليوم وقد أدرك المسلمون خطورة الابتعاد عن هويتهم ووعوا جيدا أهمية التمسك بدينهم وأحكامه كحل وحيد لتحقيق النهضة الضائعة تعيد مفكرة الإسلام فتح ملف الرد على الرافضين للحل الإسلامي ودحض شبهاتهم التي لم يفتأوا يكررونها بين الحين والآخر.

الحضارة الإسلامية قامت على ربط الدين بالدولة

في البداية يؤكد الدكتور مجدي قرقر الكاتب الإسلامي أن الرافضين للحل الإسلامي فريقان :

الفريق الأول هم ' الماديون ' نسبة إلى المادة وهؤلاء هم أصحاب النظريات المادية من شيوعيين ووجوديين ولا دينيين وهؤلاء يجدون في الإسلام منافسا خطيرا بل يعدونه العدو الأول لهم .

والفريق الثاني للأسف أخوة لنا في الإسلام ' الدنيويون ' أو ما اصطلح على تسميتهم بـ ' العلمانيين ' .

ويضيف الدكتور قرقر أن الإسلام لا يعرف ثنائية الدين والدولة التي يقرها الفكر المسيحي حيث يقسم الحياة بين الله تعالى وبين قيصر [ أعط ما لقيصر لقيصر وما للرب للرب ] إلا أن رجال الدين في أوروبا في العصور الوسطى خرجوا عن هذه المبادئ المسيحية وكونوا طبقة تسيطر وتستعلي وتضطهد وتتعصب بربطهم بين الدين والدولة واستغلالهم لمناصبهم اعتمادا على مبدأ ' الكهنوت ' في المسيحية حتى إنهم اضطهدوا الفكر ونشروا الجهل والخرافة تدعيما لمراكزهم التي كانوا يحرصون عليها .. ومن أوروبا ومع بدايات القرن الميلادي الماضي انتقلت الدنيوية لبلادنا عن طريق بعض المستشرقين وبعض الدارسين العرب في أوروبا بعد أن عادوا لبلادهم ..مع أن ربط الدين بالدولة في عصور الإسلام الزاهرة مكنه من أن يمتد من الصين حتى الأندلس .. كما أدى هذا الربط إلى ازدهار الفكر وتحرير الناس من جاهليتهم حتى ازدهرت الحضارة الإسلامية على أطلال حضارة الفرس والرومان .

وأشار قرقر إلى أن الرافضين للحل الإسلامي من الدنيويين يعلنون أنهم مؤمنون ويحترمون الدين ولكنهم ينشدون الإسلام المستنير كأن المطالبين بالحل الإسلامي يطالبون بالإسلام المظلم .. لكننا نتساءل هل يكتمل إيمان هؤلاء وهم يؤمنون ببعض الكتاب ويكفرون ببعضه .

وأوضح قرقر أن مثل هؤلاء يعتمدون في منهجهم على شن الهجوم على رموز العمل الإسلامي واتهامهم بالإرهاب والتطرف وبأنهم يوظفون الدين لتحقيق مكاسب سياسية وبهذا يقيمون حاجزا من الكراهية وعدم الثقة بين الناس وبين هذه الرموز .. وكذلك إثارة الشبهات والانتقادات الموجهة للمشروع الإسلامي .

ويقول الدكتور مجدي ومن هؤلاء الذين ينكرون جانب الشريعة من الإسلام ويقصرونه على جانب العقيدة والعبادة بالمعنى الضيق وهم بذلك يلغون مئات الآيات القرآنية المتعلقة بالأحكام وهنا تتضح مغالطات هؤلاء فليست كل آيات الأحكام في التوحيد والعبادات فهناك أحكام البيع والربا والزواج والطلاق والمواريث والقصاص والحدود والقتال والجزية والخراج .

ومن هؤلاء أيضا الذين يتحفظون على ما يسمونه بالحكومة الدينية ' الثيوقراطية ' والتي تعني حكم رجال الدين الذين يستمدون سلطاتهم من الله في الوقت الذي لا يعرف فيه الإسلام الحكومة الدينية بهذا المعنى لأن الإسلام لا يعرف الكهنوتية وليس فيه رجال دين وإنما علماء دين متخصصون في علوم الدين .. وأكثر من هذا فإن الإسلام لم يشترط في حاكم المسلمين أن يكون أكثر الناس معرفة بعلوم الدين أو أكثرهم تدينا وسماحة أخلاق .

ويستطرد الدكتور قرقر قائلا إن هناك كذلك من يتحجج بغياب النموذج الإسلامي ويتساءلون أين الفترة التي حكم فيها بالدين الصحيح طوال ألف وأربعمائة عام ؟ ..ومثل هؤلاء يستقون معلوماتهم من حكايات 'ألف ليلة وليلة ' إنهم يدعون أن التاريخ الإسلامي كان ظلاما بعد الخلافة الراشدة باستثناء سنتين ونصف لعمر بن عبد العزيز وتسعة شهور من الخلافة العباسية مع أن كل العلوم الإسلامية شرعية ومدنية بنيت بعد الخلافة الراشدة وكل تيارات الفكر الإسلامي لم تنشأ إلا بعد الخلافة .. وكل المذاهب الفقهية لم تنشأ إلا بعد الخلافة الراشدة وكل ما نتيه به على الدنيا وما تتلمذت عليه أوروبا جاء بعد الخلافة .

كما يتساءل هؤلاء أي إسلام تنشدون ؟ إسلام النميري والترابي في السودان أم إسلام الخميني في إيران أم ضياء الحق في باكستان ؟ ونقول لهم إنكم لا تملكون مؤهلات الحكم على هذه التجارب وحتى إن امتلكتم فإن هذه الأنظمة ليست حجة على الإسلام .. فالإسلام يحتج به ولا يحتج عليه .

ونرد كذلك على المتحججين بتعدد المذاهب الفقهية والذين يسألوننا أي إسلام نريد ؟ إسلام مالك أم أبي حنيفة أم الشافعي أم أحمد بن حنبل ؟ ..وكأن الإسلام أكثر من إسلام !! ونقول لهؤلاء إن الأئمة متفقون في غالبية الأحكام وإن اختلفوا في بعض التفاصيل والهيئات فهذا دليل على عظمة الإسلام وصلاحيته لكل زمان ومكان ' إجماعهم حجة قاطعة واختلافهم رحمة واسعة ' .. ثم إنهم من القوم المطففين كما قلنا والذين يزنون بميزانين ويكيلون بمكيالين فإذا اختلفوا في تفسير القوانين الوضعية فهو حلال .. بل ويقنن هذا الاختلاف فهناك المحاكم الجزئية ثم هناك الاستئناف وهناك واضعو الدستور وهناك المحاكم الدستورية .. ولكنهم في حالة الاختلاف في تفسير القوانين الوضعية يغضون الطرف وفي حالة الفقهاء في بعض التفاصيل يفتحون عيونهم على آخرها لرصد أي تقصير في الحل الإسلامي ليشبعوه تشكيكا وانتقادا .

ويضيف ولا ننسى هؤلاء الذين يقولون يجب أن نعد المجتمع أولا وهم في ذلك مثلهم مثل من يدع المريض ليشفى وحده بدون دواء مع أنه يجب أن نفحص المريض حتى نضع أيدينا على مكمن الداء والخطر ولا ريب أن الحل الإسلامي هو الدواء لكل هذه الأمراض ومع ذلك فإن جهابذة المسوفين يقولون لا يمكن تطبيق الحل الإسلامي قبل تحقيق العدالة الاجتماعية رغم أن العدالة الاجتماعية لن تتحقق إلا في ظل الإسلام .

رافضو الحل الإسلامي ليسوا بمسلمين

ويقول الشيخ عبد الله السماوي الداعية الإسلامي المعروف إن هؤلاء الذين يعلنون رفضهم للحل الإسلامي لم يدخلوا الإسلام بعد حتى وإن تسموا بأسماء المسلمين لأن الإسلام ليس بالأسماء وشهادات الميلاد والبطاقات الشخصية كما أن من أنكر آية في كتاب الله أو حديثا متواترا عن النبي – صلى الله عليه وسلم – وأنكر معلوما من الدين بالضرورة فإنه لا يكون مسلما فأقول إن هؤلاء ليسوا بمسلمين وعلى هذا فلا نستمع لهم كمسلمين .

فالله عز وجل يرد على هؤلاء بقوله ' أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض فما جزاء من يفعل ذلك منكم إلا خزي في الحياة الدنيا ويوم القيامة يردون إلى أشد العذاب وما الله بغافل عما تعملون '

فالإسلام يساوي حكم الله، وحكم الله يتضمن الشرائع والشعائر معا، والذي يعبد الله بالشرائع دون الشعائر أو من يعبده بالشعائر دون الشرائع لا يكون موحدا ولابد من عبادة الله بالشرائع كما نعبده بالشعائر ..كما أن صلاتنا وصومنا وتوحيدنا لله فكذلك لابد أن يكون حكمنا لله ' إن الحكم إلا لله ' .

فكلمة لا إله إلا الله كما تعني أنه لا خالق ولا رازق ولا نافع ولا ضار إلا الله فكذلك تعني أنه لا حاكم ولا مشرع ولا منظم لحياة العباد إلا الله ..فالله من خصائصه الحكم والشرع كما له الخلق وحده فليس من حق أحد أن يشارك في تدبير الأمر ' ألا له الخلق والأمر ' .. وإذا أحسنا الظن وتلطفنا في القول .. نقول هؤلاء كأنهم حديثو عهد بالإسلام فلم يعرفوا الإسلام بعد .

ويضيف الشيخ السماوي إن حياة المسلمين كلها دينية.. وكانت دينية في عهد الرسول – صلى الله عليه وسلم – ومع ذلك فالرسول – صلى الله عليه وسلم – لا يتكلم من عند نفسه والله قال ' ولو تقول علينا بعض الأقاويل لأخذنا منه باليمين ثم لقطعنا منه الوتين ' وقال ' ليس لك من الأمر شيء' .

وكانت دينية في عهد أبي بكر الصديق وعمر بن الخطاب وعثمان بن عفان وعلي بن أبي طالب ولم يدعوا أنهم فوق غيرهم من البشر .. حتى أن أحدهم رضي الله عنهم يطلب من الناس أن يقوموه إذا أعوج وانحرف .. وبالتالي فإن إدعاء هؤلاء غير صحيح فحياة المسلمين كلها دينية.. إن الدنيا والآخرة طريق واحد أوله في الدنيا وآخره في الآخرة إن الحياة كلها تصطبغ بالإسلام ' قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين ' .. وأؤكد مرة أخرى إن حياة المسلمين كلها دينية حتى العادات تصبح عبادات بحسن النية وكذلك الأكل والشرب يصبح دينا وعبادة... ومداعبة الزوجة وإضحاك اليتيم وإدخال البهجة على اليائس والسعي للرزق في الأرض طالما يسير صاحبه في هداية الله وتصطبغ حياته كلها بصبغة الله ..لا يوجد دينيات ودنيويات في الإسلام .

ويشير الشيخ السماوي إلى هؤلاء الزاعمين بأنهم من أنصار حقوق الإنسان وأن الحدود في الإسلام انتهاكا لهذه الحقوق قائلا إن هؤلاء لا يعرفون حقوق الإنسان حين يتباكون على حقوق الإنسان ويضيعون حق الله خالق الإنسان فهذا من الظلم والجور أن يعرف الإنسان للعبد حقه ولا يعرف للرب ولي النعم الذي خلقنا سبحانه وتعالى واستخلفنا في أرضه لا يعرفون له حقه، الحقيقة لو أنهم عرفوا حق الله فإنهم سيعرفون حق الإنسان أما إذا جهلوا حق الله سبحانه تعالى فإنهم لا يعرفون مصلحة الإنسان ، ومصلحة الإنسان هي العبودية لله فهم أعداء الإنسان وليسوا أنصار الإنسان .

ويرد الشيخ السماوي على القائلين بأن الشريعة لا تصلح إلا لزمن معين مشيرا إلى أن هؤلاء يتهمون الله - تعالى الله عما يقولون علوا كبيرا - بالقصور وعدم الحكمة والله أعلم بما يصلح به الإنسان في كل زمان ومكان 'ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير ' وهو أرسل نبيه ويعلم أنه لن تكون هناك شريعة بعده ويعلم أن شريعته هي الخاتمة وأنها صالحة للناس إلى يوم القيامة .. وقد قامت على هذه الشريعة دولة وحضارة كانت أعظم حضارة إنسانية عرفها بني الإنسان فكيف يدعون أنها قاصرة ولا تناسب هذا العصر فما الذي جعلها تناسب العصور الماضية إذا ؟

ويضيف الشيخ السماوي أما بالنسبة للأقليات الغير مسلمة في الدول الإسلامية فإنه لا توجد أقليات على وجه الأرض عاشت في حرية وعاشت مكفولة الحقوق كالأقليات التي عاشت في ظل الإسلام بين أهل الإسلام ..أنظر إلى الأقليات المسلمة وكيف عانت ولو أن المسلمين عاملوا الأقليات كما عامل الصرب أهل البوسنة من المسلمين وكما عامل الشيوعيون المسلمين وكما عامل الهندوس المسلمين وكما عاملت أسبانيا المسلمين، لو أنهم عاملوا الأقليات كذلك لما تبقى نصراني أو يهودي على أرض الإسلام.. ولكنهم عاشوا مكفولين الحقوق في حمى المسلمين .. والنبي – صلى الله عليه وسلم – أوصى بهم وبمراعاة ذمتهم ' من عادى ذميا كنت حجيجه يوم القيامة ' فقد عاشت الأقليات في ظل الإسلام ولم تشتكي كما لم تظلمهم الشريعة .

دعاوى العلمانيين ترديد لمقولات قديمة

أما ممدوح إسماعيل المحامي ووكيل مؤسسي حزب الشريعة المصري فيقول إن مثل هؤلاء الذين يرفضون الحل الإسلامي ويثيرون حوله الشبهات ليسوا نتاج اليوم وإنما هذه المحاولات ظهرت مع بدايات القرن العشرين وخلال استيلاء البريطانيين والفرنسيين وغيرهم على معظم بلاد العرب والمسلمين وبدءوا في غرس العلمانية عن طريق حلفاء لهم ارتدوا ملابس الوطنية .. ونفذت الخطة عن طريق البعثات التعليمية لفرنسا وانجلترا فضلا عن المدارس الأجنبية حيث كان أكبر مدخل لهم هو التعليم وهو ما دفع المندوب البريطاني في مصر 'دانلوب' إلى أن يعتبر التعليم هو الهدف الرئيسي وعبره حرص على تخريج جيل منقطع الصلة عن فهم الإسلام وعلمنة العقل المصري في أجيال من الطلبة .. هذه البذرة نتجت وأثمرت حتى أن الاستعمار البريطاني عندما خرج من مصر خرج وهو مطمئن من أن هذه البذرة لها ثمارها وأن الحياة في مصر بدأت في تغييب الشريعة وتنحيتها وقصرها على الأحوال الشخصية كما غرسوا العمل الحزبي العلماني وفتحوا الباب لأحزاب علمانية.

خرجوا وهم مطمئنون أن الوطنيين إذا ما وصلوا إلى السلطة فستكون الدولة علمانية ولن يعود الوجود الإسلامي.. حيث كان أغلب القائمين على العمل السياسي بمثابة الطابور الخامس يقوم على تغريب الشعوب .. لهذا فليس غريبا على الشيخ علي عبد الرازق أن يخرج بكتابه عن الإسلام وأصول الحكم تحت عين وبصر الاستعمار وأن توزع طبعات من كتب قاسم أمين عن المرأة وسط مسلمي الهند بواسطة الإنجليز .

ومن هذا نتيقن أن الأفكار التي تتناقل حتى الآن عن الإسلام بشموليته هي نفس الأفكار القديمة وإن تغيرت بعض الألفاظ بما يتناسب مع العصر .. فهم يستقون كلامهم من علي عبد الرازق وأحمد لطفي السيد وطه حسين وغيرهم .

ويضيف وكيل مؤسسي حزب الشريعة إن الذين يرددون هذا الكلام أفاقون لأنهم يستغلون سيطرة القرار الأمريكي سياسيا واقتصاديا على بلاد العرب والمسلمين.. فهي فرصة لأن يعلوا أصواتهم للسيطرة على مناحي الثقافة والإعلام ولإثبات ذواتهم لكنهم لا سيطرة لهم على الشعوب لأن الصحوة غرست غرساً مهماً عمل على ترسيخ مفاهيم الإسلام في نفوس الناس وأكبر دليل على ذلك هذا التصويت الشعبي الذي حظي به التيار الإسلامي في مصر، فهو تصويت لرفض العلمنة ولدعم المشروع الإسلامي ورفضا للتغريب.

ويؤكد ممدوح إسماعيل أن المنكرين للجانب التشريعي ينكرون الثوابت في الكتاب والسنة وهم كمن يحاول أن يخفي ضوء الشمس لأنها حقائق ساطعة لكل من قرأ كتاب الله وهذه مسألة لا تحتاج إلى تدليل .

وأعتقد أن هؤلاء يلجأون إلى هذه الفرية نتيجة تزايد سطوة الاستعمار الثقافي والسياسي الغربي على العرب والمسلمين فهم يحتمون بسلطاتهم ليعلو صوتهم ولولا ذلك لما تكلم أحد بهذا الكلام .. ولو أن ملحدا كلمته عن التشريع وقلت له أقرأ القرآن لوجد أن القرآن ينطق بأحكام التشريع .

ويشير ممدوح إسماعيل إلى أن هناك البعض ممن يرددون كلاما أقل ما يوصف به أنه كذب فاضح حول أن الشريعة الإسلامية مطبقة في بعض البلدان بنسبة 95 % لأن هذا الكلام إنكار لمعلوم من الدين ومعلوم لمن لديه أبسط معرفة بقواعد القانون التي تحكم البلاد العربية والإسلامية فهي غير مستمدة من الكتاب والسنة وما حدث أن تم تنحية الكتاب والسنة كمصدر تشريعي وتم استيراد القوانين الأنجلوساكسونية والفرنسية وغيرها.. كما تم في بداية القرن العشرين وضع لجان من مختلف القانونيين الفرنسيين والبريطانيين ووضع البذور الأولى للقوانين المعمول بها الآن حيث تم اتخاذ الشريعة كمصدر من مصادر التشريع وليس مصدرا أوليا لأنهم وجدوا أن مصادر التشريع في القوانين الأوروبية واليونانية وحتى 'حمورابي ' فيها نقصا لن تسده قواعد القانون فلجأوا إلى الشريعة لسد هذه النقص .. ومثال ذلك القانون المصري الجنائي فهو أبعد ما يكون بنسبة 100 % عن الإسلام وليس فيه استنباط من أحكام الشريعة مطلقا بل عندما نقلوا القوانين 'مصروا' بعض القوانين وبعضها لم يستطيعوا تمصيرها فنقلوها نقلا حرفيا ووضعت هكذا نقلا من القانون الفرنسي.

أما ما يقال عن وجود الشريعة في الحكم فهذه فرية واضحة لأن الشريعة في الكثير من البلدان منحصرة فيما يخص قوانين الأحوال الشخصية .. وحتى في ذلك تم تحريف الكثير منها فيما يخص المواد التي تتعلق بحقوق الرجل والمرأة حيث أعطوا للمرأة حقوقا تفوق ما للرجل .

ما أريد قوله إن مرجعية الشريعة في الحكم تفرض على المشرعين ألا يلجأوا إلى أي مرجعية أخرى حتى تكون الحاكمية لله بداية ونهاية .. وهذا غير معمول به مطلقا ففي القضاء المصري يجب على القاضي أن يحكم بالقانون الوضعي فإذا لم يجد نصا في الواقعة التي أمامه يلجأ إلى العرف فإن لم يجد في العرف ما يعينه على الحكم يلجأ إلى الشريعة الإسلامية .

الإسلام يكفل لأفراده المحافظة على الحقول الأساسية

أما الدكتور حامد طاهر نائب رئيس جامعة القاهرة وأستاذ الفلسفة الإسلامية فيؤكد أن تخلف المسلمين في العصور الأخيرة لا يرجع أبداً إلى الإسلام ، بل أنه يرجع في المقام الأول إلى البعد عن تعاليم الإسلام، وأحياناً عدم فهمها فهماً صحيحاً. وهناك عوامل كثيرة وراء تخلف المسلمين لا يصعب على العاقل أن يحددها.

أما الحضارة الحديثة فلها إيجابيات وسلبيات، والإسلام يرفض بصراحة كل سلبيات الحضارة الحديثة ، فهو ضد الانحلال الأخلاقي ، والتفكك الأسرى ، والبطالة ، والإدمان ، والتلوث ، وجنون التسلح .. أما إيجابيات الحضارة الحديثة فإنه يدعو إليها بشدة منذ مئات السنين ، وأهمها طلب العلم ، وإتقان العمل ، وتنظيم الطاقات ، واحترام الوقت ، بل إنه يزيد عليها بإعداد الفرد ليكون مؤمناً بالله ، وعضوا صالحاً في المجتمع .

ويرد الدكتور طاهر على الادعاء بأن العقوبات الإسلامية [مثل قطع يد السارق ورجم الزاني ] عنيفة ووحشية للغاية مشيرا إلى أنه من المعروف أن العقوبات إنما توضع للخارجين على نظام المجتمع .. ونظام المجتمع الإسلامي يكفل لأفراده المحافظة على الحقوق الأساسية التالية : [الدين والنفس والمال والعرض والعقل]. ومن ثم فإن الاعتداء على أي منها في فرد واحد يعتبر اعتداء على المجتمع كله ، وتهديداً لأمنه واستقراره . يقول الله تعالى [مَن قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً] .. ومع ذلك ، فإن الإسلام يوفر لأفراد المجتمع من الحقوق ما يكفيهم بحيث يصبح ارتكاب الجريمة في حد ذاته هو الوحشية .

وعلى الرغم من أن العقوبات الإسلامية قد تبدو في بعض الحالات عنيفة وقاسية إلا أنها لا تطبق بسرعة ، أو لمجرد الشبهة ، وإنما هي محكومة بعدد من الإجراءات الدقيقة التي ينبغي توافرها ، قبل إدانة المجرم ، مما يجعل تحقيقها قليلاً ، إن لم يكن نادراً . ويمكن القول بأنها وضعت للردع والتحذير وتخويف المسلم من أن هناك جرائم لا يرضى عنها الله تعالى ، الذي هو أرحم الراحمين بخلقه .

وقد كان لتحديد هذه العقوبات بهذه الصورة أثر بالغ في تكوين ضمير جماعي لدى المسلمين عبر العصور وفى كل المجتمعات تقريباً . وهذا الضمير جعلهم يمتنعون عن ارتكاب الجرائم من منطلق ديني أكثر من خوفهم من تشريع مدني .

ويضيف الدكتور حامد أما الادعاء بأن الإسلام ضد الديمقراطية وحقوق الإنسان ، وأن الشورى ليست ملزمة للحاكم فنقول إن ذلك ليس صحيحاً على الإطلاق فقد سبق الإسلام الأنظمة السياسية المعروفة حالياً ، ومنها الديمقراطية ، في إتاحة المشاركة السياسية لكل أفراد الأمة ، ولم يضع عليها أية قيود تعطل فعاليتها . فقد أمر الله تعالى رسوله في القرآن الكريم بأن يشاور أصحابه في أمورهم ، فقال [وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ] ، ووصف مجتمع المسلمين النموذجي بقوله [وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ] ..وقد ثبت أن الرسول كان أكثر الناس تشاوراً مع أصحابه ،وكذلك فعل الخلفاء الراشدون من بعده . وهناك وقائع تثبت معارضة بعض المسلمين للحكام دون أن يمسسهم أي أذى . فقد عارضت امرأة الخليفة الثاني عمر بن الخطاب في مسألة ، نزل فيها على رأيها . وهو الذي كان يقول : ' رحم الله امرءاً أهدى إلى عيوبي '.

وقد استخلص علماء الإسلام من هذا كله أن الشورى ملزمة للحاكم على الرأي الأرجح الذي يعتمده جمهور العلماء .

أما موقف علماء المسلمين من الرأي الآخر فتحكمه عدة مبادئ من أهمها : حسن الإصغاء إليه ، وعدم معاداة صاحبه أو إيذائه بالقول أو بالعمل ، والرد المقنع عليه بالحجة والبرهان ، وقد رسخت بينهم مقولات رائعة تعبر عن ذلك ، مثل: ' اختلاف الرأي لا يفسد للود قضية ' ، 'رأيي صواب يحتمل الخطأ ، ورأى غيري خطأ يحتمل الصواب '.

ومما يدل على اتساع صدر المسلمين للرأي الآخر ما يوجد في الفقه الإسلامي، وأيضاً في علوم أخرى كثيرة ، من اختلاف وجهات النظر ، وتعددها ، والانتصار لكل منها ، وتكوين مذاهب ومدارس مختلفة تتبعها وتروج لها .

كما أن الإسلام هو الدين الأكثر رعاية لحقوق الإنسان . ونصوصه الثابتة تؤكد ذلك تماماً . وكذلك ما ظهر من تطبيقات في حياة المسلمين عبر العصور.

ويوضح الدكتور طاهر بأنه إذا كانت فكرة حقوق الإنسان قد بدأت تجرى الآن على كل لسان في العالم ، فلابد من متابعة نشأتها المحلية الأولى في كل من إنجلترا [سنة 1688] ، وفى الولايات المتحدة الأمريكية [سنة 1776] وفى فرنسا [سنة 1789] – ولم يتم إقرارها على نطاق دولي إلا اعتباراً من [سنة 1948] في الإعلان العالمي لحقوق الإنسان ، وفى [سنة 1950] في المعاهدة الأوربية لحقوق الإنسان ، وفى [سنة 1966] في الاتفاقية الدولية للحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية. وهى تتركز كلها حول مبدأين أساسيين هما : الحرية والمساواة ، بالإضافة إلى مجموعة من الحقوق التي تحفظ حياة الإنسان وكرامته داخل المجتمع .

وبأي نظرة سريعة إلى القرآن الكريم والسنة النبوية ومن تربى بهديهما، يتبين سبق الإسلام إلى تأكيد كل هذه الحقوق بل وأكثر منها . ويمكن الاكتفاء من ذلك بما يلي :

- إعلان تكريم الإنسان من حيث هو إنسان : [وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ] .

- تقرير حق المساواة بين البشر جميعاً دون التفرقة بين جنس ولون ووضع اجتماعي: [يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً] .

- تقرير حق الحياة والسلامة الشخصية : [أَنَّهُ مَن قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً] .

- التحرر من الرق والعبودية : روى أن عمر بن الخطاب قال لعمرو بن العاص وابنه : متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحراراً ؟ وكتب منشوراً للناس يقول فيه : إني لم أبعث عمالي – يعنى الولاة – ليضربوا جلودكم ولا ليأخذوا أموالكم . فمن فعل به ذلك فليرفعه إلى لأقتص له .

- الحرية الدينية : يقول الله تعالى [لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ] .. وأيضاً [وَقُلِ الحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ فَمَن شَاءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاءَ فَلْيَكْفُرْ] ، وأيضاً [لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ] .

مع ذلك ، فمن غير الإنصاف أن تحكم وثيقة حقوق الإنسان التي لم يتوصل إليها البشر إلا في النصف الثاني من القرن العشرين على الإسلام كدين متكامل أنزله الله تعالى لهداية البشر في كل زمان ومكان .

ويبقى دائماً أن العبرة إنما تكون بمدى تحقق مبادئ حقوق الإنسان في الحياة العملية. وأن تكون عامة وشاملة للناس جميعاً. وليس أن تطبقها دولة متقدمة على رعاياها بينما تحرم منها بقية الشعوب الأخرى ، أو أن تلوم على تطبيقها الدول الصغرى بينما تنتهك هي نفسها تلك الحقوق .

وأخيراً فإن حقوق الإنسان في الإسلام تتميز بأنها تمتزج كلها بدافع ديني عميق، كما يراعى في تطبيقها وجه الله تعالى، في حين تخلو حقوق الإنسان [المدنية] من هاتين الميزتين.

============

#الإصلاح ... ضرورة

سهيلة زين العابدين حمَّاد 24/8/1424

20/10/2003

تواجه أمتنا الإسلامية تحديات جمة وخطيرة تستهدف هويتها وعقيدتها وتراثها وحضارتها وثرواتها وعزتها وكرامتها وحريتها، والكعبة المشرفة هدف أعداء الأمة، ولقد أشار إليها رئيس الوزراء البريطاني مستر جلادستون في أواخر القرن التاسع عشر في مجلس العموم البريطاني، وقد أمسك بيمينه كتاب الله عزَّ وجلَّ، وصاح في أعضاء البرلمان وقال: "إنَّ العقبة الكؤود أمام استقرارنا بمستعمراتنا في بلاد المسلمين هي شيئان، ولابد من القضاء عليهما مهما كلَّفنا الأمر، أولهما هذا الكتاب، وسكت قليلاً بينما أشار بيده اليسرى نحو الشرق وقال:هذه الكعبة!!" (1).

ويحاول الآن الأعداء النفوذ إلينا من خلال ثغرات موجودة في مجتمعنا، واستغلال هذه الثغرات للانقضاض علينا مدعين أنَّهم يريدون لنا الحرية والعدل والديمقراطية، هذه الكلمات التي يخدعون بها البعض من أبناء أمتنا من المنبهرين بالغرب وحضارته وثقافته وحريته وديمقراطيته الزائفة، فينصاعوا وراء تلك الشعارات الزائفة، ويكونوا عوناً لأعدائنا علينا، وما يلبثوا أن يجدوا أنفسهم وقعوا وأوقعوا معهم أمتهم وأوطانهم في مستنقع عميق لا قرار له، ولا مخرج منه إلاَّ بعد تقديم الملايين من الشهداء خلال عدد من السنين لا يعلم مداها إلاَّ الله وحده.

ولئلاَّ تتكرر مأساة أفغانستان والعراق علينا أن نعمل على إصلاح ما بأنفسنا (إنَّ الله لا يُغيِّر ما بقومٍ حتى يُغيِّروا ما بأنفسهم) ، ونحدد دور كل واحد منا في هذا الإصلاح، وأن نكون يداً واحدة وجبهة واحدة يتضامن فيها الشعب بكل فئاته وعناصره للعمل على سد كل المنافذ والثغرات التي قد ينفذ الأعداء إلينا منها.

لذا فإني سوف أقدم كامل رؤيتي لهذا الإصلاح في جانبه الثقافي والتربوي والإعلامي.

أولاً – الإصلاح الثقافي

لن يتحقق الإصلاح الثقافي في مجتمعاتنا الإسلامية إلاَّ إذا عملنا على تحقيق الآتي:

1-العمل على القضاء على الأمية في عالمنا العربي والإسلامي.

2- السعي إلى توحيد لغة المسلمين بنشر لغة القرآن الكريم:

علينا أن نسعى إلى توحيد لغة المسلمين بنشر لغة القرآن الكريم وجعلها لغة كل مسلم ومسلمة.

3-التسلح بثقافة إسلامية واعية:

يجب أن نتسلح بثقافة إسلامية واعية، وأن نواجه تحديات العولمة بها، بل علينا أن ننشر الثقافة الإسلامية، وأن نقدمها للعالم بكل ما فيها من سمو وجمالية وقيم وفضائل وعدل وخير للبشرية، بدلاً من "الأمركة" المفروضة على العالم بكل أمراضها وشذوذها، وهيمنتها وسطوتها وغرورها وغطرستها وظلمها وانحيازها للصهيونية العالمية ولكل من يحارب الإسلام، ويبيد المسلمين.

فلتكن ثقافتنا ثقافة إسلامية واعية صامدة أمام تحديات العولمة، فارضة ذاتها على الآخر لتكون النموذج الذي نقدمه للعالم في هذا العصر، وبدلاً من أن يفرض علينا الآخر ثقافته، وقد مرَّت علينا قرون، ونحن نتلقى من الآخر، وقد آن الأوان أن نقدم ثقافتنا الإسلامية بكل رقيها وسموها وثراها وغناها وتجددها الدائم، لأنها من نبع لا ينضب، علينا أن نتبع الآتي:

أولاً - الاهتمام بالتربية الأسرية ولا سيما التربية الروحية:

إذ أرى أنّ ضعف الجانب الروحي في شبابنا -ذكور وإناث -هو العامل الرئيس في هذا الانحراف العقائدي، وتنمية هذا الجانب، وغرسه في روح الأبناء غرساً سليماً هو القاعدة الأساسية في الإصلاح، لما للتربية الإسلامية من أهمية بالغة في غرس حب الله والإيمان به في النفوس، ومراقبته والخوف منه، فللتربية الروحية أهمية بالغة في تحديد عقيدة النشء يجب الاهتمام بها، والتركيز عليها منذ الطفولة المبكرة ليستطيع الأبناء مواجهة تحديات العصر، وتيارات التشكيك الموجهة ضد ديننا وعقيدتنا بعقيدة ثابتة لا تتأثر بتلك المحاولات التي تعمل على إفقادهم عقيدتهم الإيمانية بالخالق، وصلاحية ما شرَّعه لهم في أمورهم الدنيوية، وما وعدهم من نعيم في حياتهم الأخروية إن التزموا بما أمرهم به، واجتنبوا عمَّا نهاهم عنه (2)،فإذا قوي في الإنسان الإيمان بالخالق جلّ شأنه ومراقبته في كل قول وعمل فاتبع أوامره، واجتنب نواهيه، ورَّوض نفسه ووطَّنها على كبح جماح الغرائز والشهوات، وأصبحت له إرادة قوية يستطيع أن يصمد بها أمام المغريات، وعالج نفسه من الانحرافات، بالاعتراف بالذنب، والتوبة النصوحة والاستغفار، وقاوم مصائب الدهر بالدعاء، وليس إلى ما يغيب عقله كالمخدرات والمسكرات، كما يكتب معظم كتاب القصص والروايات.

ثانياً - الاهتمام بعلم الاستغراب:

علينا أن نبدأ بدراسة الغرب وعلومهم ومناهجهم، ونقدها من المنظور الإسلامي، وذلك للاستفادة مما حققوه من إنجازات في مجال العلوم التطبيقية، ومن مناهجهم فيما لا يتعارض مع الدين، وتوضيح مثالب وعيوب الحضارة الغربية باتباع منهج علمي حقيقي مجرد من الميول والأهواء والنزعات الذي أرشدنا ووجهنا إليه ديننا الحنيف.

ثالثاً - الاهتمام بالجاليات الإسلامية:

أن يكون هناك تواصل فكري وثقافي بين أبناء الجاليات الإسلامية، وبين مفكري ومثقفي الأمة الإسلامية، عن طريق تنظيم المؤتمرات والملتقيات والمهرجانات والمواسم الثقافية، وعلى المؤسسات والمنظمات الإسلامية أن تنظم مؤتمرات في مختلف البلاد الإسلامية يشارك فيها مثقفو ومفكرو أبناء الجاليات الإسلامية لربطهم بوطنهم الأم، وليتم التواصل بينهم وبين أكبر عدد ممكن من مفكري ومثقفي الأمة.

إنَّ الصلة بيننا وبينهم تكاد تكون منقطعة، وهذا قصور منا نحن شعوبًا وحكومات، وعلينا أن نعمل على التواصل بيننا وبينهم فهم جزء لا يتجزأ منا، وسيسألنا الله عنهم إن فرَّط أحدهم في دينه، أو تعرض إلى ما يسيء إليه دون أن نقف إلى جانبه ونسانده للحفاظ على دينه ليجتاز محنته، ومتى أدركنا هذه المسؤولية، وقمنا بواجبنا نحوهم، نكون قد أسهمنا في أسلمة فكر وثقافة الأمة -وأقول هنا أسلمة فكر وثقافة الأمة لأنَّ الغالبية العظمى منا أضحت للأسف الشديد علمانية الفكر والثقافة، وأصبح معظم القائمين على وسائل الاتصال علمانيين-، ووحدنا توجهاتها لخير البشرية، وبذلك نكون قد أسهمنا في إعادة الدور الحضاري للأمة الإسلامية، وجعلنا الثقافة الإسلامية في موقع القوة والإبداع والابتكار لا موقف الضعف والتقليد والاتباع، كما هي حالنا الآن.

رابعاً – قيام مفكري ومثقفي الجاليات الإسلامية بدورهم الثقافي في المجتمعات الغربية:

على مفكري ومثقفي الجاليات الإسلامية أن يقوموا بدورهم الثقافي في المجتمعات الغربية، بالتعريف بالإسلام ومبادئه وقيمه وحضارته وتاريخه؛ لتصحيح ما شوهه رجال الكنيسة والمستشرقين عن الإسلام ونبيه - عليه الصلاة والسلام- وتاريخه، وما يقوم بتشويهه الإعلام الغربي الذي تسيره وتتحكم فيه الصهيونية العالمية.

ثانياً – الإصلاح في المجال الإعلامي

أولاً - أن تضع الدول العربية والإسلامية خطة إعلامية موحدة لمواجهة ما يواجهنا من مخاطر وضغوط وتحديات:

وأن يراعى في هذه الخطة الآتي:

- إنشاء وكالة أنباء عالمية إسلامية، وصحف وقنوات تلفازية بمختلف اللغات تشرح ديننا وقيمه وحضارته وتاريخه، وترد على ما يثار حوله من شبهات، مع شرح قضايانا، ومن المفارقات العجيبة أنَّنا نجد اليهود الصهاينة الذين لا يتجاوز عددهم الخمسة عشر مليوناً يملكون أربع من خمس وكالات أنباء عالمية، وكبريات الصحف وشبكات التلفزة العالمية في أوربا وأمريكا، إضافة إلى سيطرتها على السينما الأمريكية، وامتلاكها كبريات شركات الإنتاج السينمائي العالمية، مع سيطرتها على المسارح، وشركات الإعلان في أمريكا، ونحن المسلمين البالغ عددنا مليار ونصف لا نملك ولا وكالة أنباء عالمية واحدة، ولا صحيفة أو مجلة أو قناة تلفازية عالمية.والولايات المتحدة وإسرائيل كل منهما سوف يوجه قناة فضائية تبث بالعربية إلى العالم العربي تقدمان مزيداً من التضليل والأكاذيب لتضليل الرأي العام العربي، ونحن الواقع علينا كل هذا الظلم والعدوان لم نبث قناة، ولو باللغة الإنجليزية تعمل على تكوين رأي عام عالمي سليم تجاه ديننا وقضايانا المصيرية.

- إيقاف الدعاية والإعلان للبضائع والمطاعم واللحوم والمشروبات اليهودية والأمريكية. في المحطات التلفازية، والإذاعات الصحف والمجلات التي تصدر في البلاد العربية والإسلامية.

- مقاطعة الأفلام والمحطات التلفازية الأمريكية، بعدم بث الأفلام والبرامج والقنوات الأمريكية على الشبكات التلفازية المشفرة.

- أن يتبنى إعلامنا في البلاد الإسلامية الأدب الإسلامي، لأنه يشكل الآن الجبهة التي تجعلنا نحافظ على هويتنا الإسلامية وأصالتنا وتراثنا الفكري والحضاري، ويقينا شر الذوبان في ثقافة وحضارة الآخر.

- أن يُشجع أصحاب القنوات الفضائية المفتوحة والمشفرة على التنسيق فيما بينهم ليقدموا مواد جيدة بعيدة عن الإسفاف، تجمع بين الترفيه البريء والتثقيف الإسلامي الواعي، وعلى القنوات الفضائية المتخصصة ألاَّ تخرج عن المناهج والأهداف التي أُنشئت من أجلها.

- أن تتاح الفرص للأقلام الإسلامية الواعية المعتدلة غير المتطرفة بالكتابة في الصحف والمجلات.

- لا بد أن يتخذ وزراء العدل والإعلام والثقافة العرب والمسلمون خطوات إيجابية تجاه ما يقوم به اللوبي الصهيوني من إرهاب فكري وثقافي تجاه الأدباء والكتاب والمفكرين والصحفيين:

وهو تكميم أفواهنا كما كمموا سلاحنا ضد الجرائم الإسرائيلية تجاه الفلسطينيين، فأصبح الذين يدافعون عن الحق العربي في فلسطين ويكشفون أكاذيب وأضاليل اليهود وجرائمهم عبر التاريخ، يُحاكمون بتهمة " المعاداة للسامية" في المحاكم الغربية، يُحكم عليهم بالسجن؛ إذ عليهم المطالبة بإسقاط ما يسمى بتهمة المعاداة للسامية، و رفض المحاكم في كل دول العالم القضايا التي ترفع تحت مسمى هذا الاتهام لأنَّ هذه التهمة تقيد حرية التعبير، وحرية الرأي من جهة، ولأنَّها تعطي المشروعية للجرائم الإسرائيلية والصهيونية العالمية ضد الفلسطينيين والعرب من جهة أخرى.

ثانياً – الالتزام بميثاق جاكرتا للإعلام الإسلامي:

ففي الحادي والعشرين من شهر شوَّال عام 1400هـ الموافق 1سبتمبر عام 1980م عقد المؤتمر الأول للإعلام الإسلامي في جاكرتا بإندونيسيا، وشارك فيه ما يقارب من 450 شخصية إعلامية إسلامية من مختلف أنحاء العالم يمثلون كافة أشكال وسائل الإعلام الإسلامي، وقد أقر هذا المؤتمر ميثاق الشرف الإعلامي الإسلامي، وجاء في المادة الأولى من هذا الميثاق الآتي:

الالتزام:

أ- بترسيخ الإيمان بقيم الإسلام ومبادئه الخلقية.

ب- بالعمل على تكامل الشخصية الإسلامية.

ج- بتقديم الحقيقة له خالصة في حدود الآداب الإسلامية.

د- بتبيين واجباته له تجاه الآخرين وبحقوقه وحرياته الأساسية.

وجاء في المادة الثانية الآتي:

يعمل الإعلاميون على جمع كلمة المسلمين، ويدعون إلى التحلي بالعقل والأخوة الإسلامية والتسامح في حل مشكلاتهم، ويلتزمون:

1- بمجاهدة الاستعمار والإلحاد في كل أشكاله والعدوان في شتى صوره والحركات الفاشية والعنصرية.

2- بمجاهدة الصهيونية واستعمارها الاستيطاني بأشكال القمع والقهر التي يمارسها العدو الصهيوني ضد الشعب الفلسطيني والشعوب العربية.

3- باليقظة الكاملة لمواجهة الأفكار والتيارات المعادية للإسلام.

وجاء في المادة الثالثة الآتي:

يلتزمون:

1-بالتدقيق فيما يُذاع وينشر ويعرض حماية للأمة الإسلامية من التأثيرات الضارة بشخصيتها الإسلامية وبقيمها ومقدساتها ودرء الأخطار عنها.

2-بأداء رسالتهم في أسلوب عف كريم حرصاً على شرف المهنة، وعلى الآداب الإسلامية. فلا يستخدمون ألفاظاً نابية ولا ينشرون صوراً خليعة، ولا يتعرضون بالسخرية والطعن الشخصي والقذف والسب والشتم وإثارة الفتن، ونشر الشائعات وسائر المهاترات.

بالامتناع عن إذاعة ونشر كل ما يمس الآداب العامة أو يوحي بالانحلال الخلقي، أو يرغب في الجريمة والعنف والانتحار، أو يبعث الرعب، أو يثير الغرائز سواءً بطريق مباشر أو غير مباشر.

بالامتناع عن إذاعة ونشر الإعلان التجاري في حالة تعارضه مع الأخلاق العامة والقيم الإسلامية.

وجاء في المادة الرابعة الآتي:

يلتزمون بنشر الدعوة الإسلامية والتعريف بالقضايا الإسلامية، والدفاع عنها، وتعريف الشعوب الإسلامية بعضها ببعض، والاهتمام بالتراث الإسلامي والتاريخ والحضارة الإسلامية، ومزيد العناية باللغة العربية، والحرص على سلامتها ونشرها بين أبناء الأمة الإسلامية، وبالخصوص بين الأقليات الإسلامية.

وبإحلال الشريعة الإسلامية محل القوانين الوضعية لاسترجاع السيادة التشريعية للقرآن والسنة.

ويتعهدون بالمجاهدة من أجل تحرير فلسطين وفي مقدمتها القدس وكافة الأقطار الإسلامية المضطهدة.

ويلتزمون بتثبيت فكرة الأمة الإسلامية المنزهة عن الإقليمية الضيقة والتعصب العنصري والقبلي واستنهاض الهمم لمقاومة التخلف في جميع مظاهره وتحقيق التنمية الشاملة التي تضمن للأمة الازدهار والرقي والمناعة(3).

هذا هو ميثاق جاكرتا للإعلام الإسلامي، وعلى الإعلاميين في عالمنا الإسلامي الالتزام به، وكذلك الالتزام بتوصيات وقرارات هذا المؤتمر لمواجهة التحديات التي تواجه أمتنا الإسلامية.

ثالثاً – على أصحاب رؤوس الأموال العرب والمسلمين العمل على الآتي:

1- العمل على إنشاء وكالة أنباء عالمية إسلامية على مستوى وكالات الأنباء العالمية لتنوير الرأي العام العالمي بحقائق تسعى وكالات الأنباء الأجنبية -التي تسيرها الصهيونية العالمية- إلى طمسها، وتضليل الرأي العام العالمي، وتأليبه ضد المسلمين والعرب، وتشويه صورتهم.

2- إصدار صحف عالمية إسلامية، وبث قنوات فضائية بمختلف اللغات الأجنبية توضح للرأي العام العالمي قضايانا المصيرية، وتاريخنا الإسلامي المشرف، وحضارتنا الإسلامية التي تعد أرقى الحضارات الإنسانية. فإعلامنا حتى هذه اللحظة لا يزال يخاطب نفسه، ولم توجد إلى الآن لغة حوار بيننا وبين الغرب، فالصهيونية العالمية لا تزال تسيطر على الرأي العام العالمي وتوجيهه لتحكمها في معظم وكالات الأنباء العالمية، والصحافة العالمية وشبكات التلفاز العالمية، وكذلك السينما والمسرح.

3- إنتاج أفلام سينمائية تاريخية ضخمة، تدبلج بمختلف اللغات توضح روعة تاريخنا الإسلامي، وعظمة الإسلام وسماحته، كما تركز على إنجازات العلماء المسلمين في مختلف مجالات العلم والمعرفة، كما تركز على القضية الفلسطينية، والمذابح التي أحدثها الإسرائيليون في دير ياسين، وقانا، وصبرا وشاتيلا، وما يحدثونه الآن من جرائم بشعة في الأراضي المحتلة، وما أحدثوه من جرائم خلال خمسين عاماً، وعن استشهاد الطفل "محمد الدرة" وغيره من الأطفال، وكذلك إنتاج أفلام سينمائية مماثلة عن القضية الشيشانية، والألبانية، وقضية البوسنة والهرسك، وما تلاقيه الأقليات الإسلامية من اضطهاد في الفلبين، وسيرلانكا، وغيرها.

4- الاهتمام بالأقليات الإسلامية الموجودة في مختلف أنحاء العالم، ولا سيما في أوربا والأمريكتين، والعمل على جعلها مراكز إشعاع حضاري للعالم، وتُوجّه لها برامج في القنوات الفضائية المقترح إنشاؤها، بإعداد برامج عن تعليم اللغة العربية لغير الناطقين بها، وبرامج توضح لهم أمور دينهم، وتربطهم بأوطانهم، وتحكي لهم تاريخهم، وتسهم في حل ما يواجههم من مشكلات.

5- على القنوات الفضائية العربية الخاصة الالتزام بميثاق جاكرتا للإعلام الإسلامي حفاظاً على بناء الشخصية الإسلامية للإنسان المسلم بناءً سليماً، وحفاظاً على القيم الخلقية.

6- إنشاء دور نشر تهتم بترجمة كتب التراث الإسلامي والحضارة الإسلامية، والتاريخ الإسلامي، والثقافة الإسلامية إلى مختلف لغات العالم، وتوزيعها في أوربا والأمريكتين على وجه الخصوص.

وهكذا نجد أنّ مسؤولية كبرى تقع على عاتق أصحاب القنوات الفضائية العربية الخاصة، وعلى غيرهم من أصحاب رؤوس الأموال الضخمة من العرب والمسلمين، وهذه مسؤولية يوجبها عليهم ديننا الإسلامي، فالأمة الإسلامية تمر بظروف حرجة، والرأي العام الغربي مضلل تجاه قضايانا من قبل الصهيونية العالمية التي تسيطر على معظم وسائل الإعلام الغربي، وصورة الإنسان العربي المسلم مشوهة في العالم الغربي.

وإنني أتساءل: لماذا الأثرياء العرب يقفون هذا الموقف السلبي تجاه أمتهم، فنحن مليار مسلم عاجزون حتى الآن عن تكوين مؤسسات إعلامية عالمية في حين أنَّ يهود العالم الذين لا يزيد عددهم عن ثلاثة عشر مليوناً، يمتلك معظم وكالات الأنباء العالمية والصحف وشبكات التلفاز والسينما العالمية؟

وكلنا أمل أن يدرك هؤلاء مسؤولياتهم الدينية والوطنية.

1 -محمَّد فهمي عبد الوهاب: الحركات النسائية في الشرق، وصلتها بالاستعمار والصهيونية العالمية، ص7، دار الاعتصام، القاهرة.

2 - سهيلة زين العابدين حمَّاد:بناء الأسرة المسلمة، ص127، "الدار السعودية للنشر".

3 - د. محمد سيد محمد: المسؤولية الإعلامية في الإسلام، ص355-357.

============

#موقف الغرب من الإسلام

سهيلة زين العابدين حمَّاد 10/3/1424

11/05/2003

لقد وقف الغرب من الإسلام موقفاً عدائياً عبر التاريخ، ويظهر هذا العداء بجلاء ووضوح في الآتي:

1-الحروب الصليبية:

حارب الغرب الإسلام، والحروب الصليبية التي شنها على الإسلام -مدى قرنين من الزمان- أكبر دليل على هذا .

الحركة الاستشراقية:

عندما فشلت هذه الحروب في تحقيق أهدافها، احتضنت الكنيسة الاستشراق الذي استمر على مدى ثمانية قرون يهاجم الإسلام، وينال من التشريعات القرآنية، ومن سنة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ومن النبي الكريم، لتشويه الإسلام، وسيرة نبيه -صلى الله عليه وسلم- للحيلولة دون إسلام النصارى، ولتنصير المسلمين، وللسيطرة على المسلمين سياسياً وعسكرياً واقتصادياً واحتوائهم علمياً وفكرياً، ولا تزال الحركة الاستشراقية مستمرة حتى يومنا هذا، وقد تغير مسماها، إذ أصبحت تحمل مسمى الدراسات (الشرق أوسطية) ملقية بمصطلح (الاستشراق) في مزبلة التاريخ -بعدما كُشفت أغراضه وأهدافه- مركزة على هذه المنطقة التي تضم المقدسات الإسلامية، وباعتبارها محور الصراع، مع سيرها على ذات المنهج. ولقد صرَّح المستشرق اليهودي الفرنسي (مكسيم ردنسون) أنَّهم لن يتخلوا عن مناهجهم إرضاءً للعرب .

3-دعوة البابوية استقبال الألفية الثالثة بلا إسلام:

والإسلام ظل –وسيظل- مخيفاً لأعدائه الذين يخططون للقضاء على كل ما هو إسلامي، ويرهبهم الجهاد في سبيل الله للدفاع عن الأوطان وتحريرها، فعملوا على تغييب الجهاد واعتباره إرهاباً، وملاحقة المجاهدين في فلسطين وغيرها كإرهابيين لتصفيتهم والقضاء عليهم، والحملة الحالية الموجهة ضد الإسلام، وضد المملكة ليست وليدة أحداث الحادي عشر من سبتمبر، وإنَّما مخطط لها منذ سنين طويلة، فلقد أعلن (بابا الفاتيكان) في المجمع المسكوني عام 1965م أنهم سوف يستقبلون الألفية الثالثة بلا إسلام، ففي شهر مايو عام 1992م صرَّح نائب الرئيس الأمريكي في حفل الأكاديمية البحرية الأمريكية بولاية (ماريلاند) أنَّهم قد أخيفوا في هذا القرن بثلاثة تيارات هي: الشيوعية، والنازية، والأصولية الإسلامية، وقد سقطت الشيوعية والنازية، ولم يبق أمامهم سوى الأصولية الإسلامية.

4- إعلانهم في مؤتمر التنصير -الذي عقد في (كلورادو) بالولايات المتحدة- أنّ الحضارة الإسلامية شرّ برمتها، ويجب العمل على اقتلاعها من جذورها، وأنَّ كلمة (مسجد) و (مسلم) تستفزهم.

4-إعلان جورج بوش حرب صليبية ثانية على الإسلام:

فما أعلنه الرئيس الأمريكي أنَّ حرب الإرهاب هي حرب صليبية على الإسلام لم تكن زلة لسان، وكل الأحداث التي حدثت -والمخطط لها- تؤكد أنَّ هناك حرباً شرسة على الإسلام على مختلف الجبهات، وعلى كل الأصعدة، والحملة المكثفة على المملكة العربية السعودية تؤكد ذلك؛ لأنَّ المملكة مهد الإسلام، ولأنَّها أكثر الدول الإسلامية اهتماماً بتحفيظ القرآن الكريم للجنسين، وبتدريس المواد الدينية من تفسير للقرآن الكريم، وحديث وتوحيد وفقه في جميع المراحل الدراسية، وذلك لينشأ أبناؤها على أسس سليمة من العقيدة.

والغربيون يدركون تماماً أنّ الدين الإسلامي والتاريخ الإسلامي يخلوان من الحقد الديني الذي يمتلئ به التاريخ الأوروبي، وتلمود اليهود وتشريع التوراة المحرفة، وتاريخ اليهود الصهاينة في فلسطين.

والذي يؤكد ما أقوله إنَّ التلمود يبيح دماء وأعراض وأموال غير اليهود، ويسب سيدنا عيسى -عليه السلام- ويشتمه، وإسرائيل قائمة على أساس الدين بكل ما تحمله عقيدتهم من استعلاء على الشعوب، وأنَّهم شعب الله المختار، وإسرائيل بكل ما تقوم من حرب إبادة لشعب بأكمله -وهو أعزل- وتضربه بالطائرات والصواريخ والدبَّابات، وتجرف الأراضي، وتهدم المنازل، وتقتل الأطفال والنساء والشيوخ، وتروع الآمنين، وتمثل بجثث القتلى من الأطفال، وتنزع منها أعضاءها، هذا كله لا يعد إرهاباً في نظر الغرب، بل اعتبروا جهاد الشعب الفلسطيني ومقاومته للاحتلال الصهيوني إرهاباً، مع أنهم قاوموا هم من احتل أراضيهم، فأمريكا قاومت الاستعمار البريطاني، وفرنسا قاومت الاحتلال الألماني لأراضيها.

والواضح أنّ نجاح انتفاضة الأقصى -فيما ألحقته من خسائر لإسرائيل- جعلت الصحف الإسرائيلية –الآن- تتحدث عن انهيار إسرائيل، وقد أصبح الآن عدد النازحين من إسرائيل من اليهود أكثر من المهاجرين إليها، إضافة إلى الخسائر المالية التي تكاد تشل اقتصاد إسرائيل، فهذا ضاعف من جنون الغرب، -ولا سيما أمريكا- الموجه حملاته ضد الإسلام، وكل ما هو إسلامي، وتجفيف منابع الجمعيات الخيرية التي تدعم الشعب الفلسطيني بصورة خاصة؛ لإجهاض الانتفاضة والقضاء عليها .

وينبغي ألا ننسى أنَّ هذه الحملات التي تحركها وتصعدها الصهيونية العالمية؛ لأنهم مستفيدون منها إلى حد كبير، كما لا يخفى على الجميع مدى سيطرة الصهيونية على وسائل الإعلام الغربية، من صحافة وإذاعة وتلفزيون وسينما ومسرح، وشركات إعلان، وكذلك على مصادر الخبر، وهي وكالات الأنباء، فجريدة (النيويورك تايمز) -التي تقود حملة شعواء على المملكة- صاحبها يهودي، والكاتب الصحفي بها -المتحامل على الإسلام- يهودي صهيوني، وهذا يجعلنا ندرك أبعاد هذه الحملة

==============

#شاهين: أحفاد أتاتورك يمارسون مهمتهم

حوار: طه عبد الرحمن 25/2/1424

27/04/2003

- العلمانية جزء من الغارة الاستعمارية على العالم الإسلامي

- أحفاد أتاتورك من كتاب وفنانين وإعلاميين يمارسون مهمتهم بكل إخلاص للقضاء على الإسلام

- العدو الصهيوني يخطط لقطع قضية فلسطين عن العرب والمسلمين

تحدث المفكر الإسلامي المعروف الدكتور عبد الصبور شاهين الأستاذ بجامعة القاهرة عن الأسباب التي أدت إلى تراجع المسلمين عن السبق الحضاري في مقابل تقدم الأمم الأخرى، واعتبر أن عدم التمسك بالشريعة الإسلامية وعدم تطبيقها هي السبب وراء ذلك .

ودعا د. شاهين في حديثه لموقع " الإسلام اليوم " إلي ضرورة وحدة المسلمين والتكاتف لاستعادة زمام الحضارة وهو ما سيؤدي أيضا إلى حماية الأقليات المسلمة في شتى بقاع العالم من محاولات الاضطهاد والتشويه التي يتعرضون لها ويحقق لهم حفظ هويتهم الإسلامية

وطرح تفسيره لبروز الاتجاه العلماني في العالم الإسلامي مؤكدا أنه ليس دينا ولكنه جاء عقب سقوط الخلافة العثمانية وتزكية إسرائيل لهذا الاتجاه الذي وصفه بأنه استعمار جديد يستهدف تقويض الحياة في العالم الإسلامي

واستعرض د. شاهين قضايا إسلامية عديدة جاءت في الحديث التالي :

حماية الأقليات المسلمة

سؤال:في الفترة الأخيرة تعرضت الأقليات الإسلامية في الدول الغربية لحملات اضطهاد واسعة، شملت إهداراً لحقوقها وحريتها فكيف يمكن حماية الهوية الإسلامية لهذه الأقليات مما تتعرض له ؟

جواب:للأسف هناك عجز من العالم الإسلامي عن حماية هذه الأقليات فهو يجهل الكثير عن هذه الأقليات المسلمة، ويعجز أيضا عن الدفاع عنها، فمأساة الأقليات المسلمة هي مأساة العالم الإسلامي كله، ولا أمل في استرداد الأمة الإسلامية لعافيتها إلا إذا توحدت في وجودها ووعيها وقوتها ووحدتها.. فحينئذ يمكن إن نتحرك لحماية هذه الأقليات وإنقاذها وأعتقد أن وجود مشكلة أقليات مسلمة في العالم دليل على تحرك الروح الإسلامية في هذه الأقليات وشعورها بأهمية الالتزام بالدين الإسلامي،

ويجب أن يعي المسلمون جيدا أن تمزقهم وتفرقهم سينعكس كثيرا على هذه الأقليات كما أن هذا التفرق هو سبب تخلفهم وضعفهم وضياعهم وإذا وعوا هذه الحقيقة فإن أوضاعا كثيرة سوف تتغير لصالح مستقبل العالم الإسلامي.

سؤال:في تقديرك ما الأسباب التي أدت إلى ضعف العالم الإسلامي وتراجعه عن النهضة الحضارية التي امتلك زمامها منذ مئات السنين ؟

جواب:هناك سببان أساسيان لتخلف المسلمين:

الأول: ذاتي وهو يرجع إلى أن المسلمين قد تخلوا عن مبادئهم الحضارية، فبعد أن كان الإسلام عزهم وحضارتهم ضعفت علاقتهم به في فترة تاريخية معينة، وأدى هذا الضعف إلى انهزامهم في أول لقاء جاد بينهم وبين الحضارة الغربية في الأندلس وطرد المسلمون من هناك.. ومن وقتها بدأ المسلمون يدخلون في مرحلة التمزق والضياع وظهرت بينهم ألوان من التنافس القبلي والارتداد إلى العصبيات، مما أدى إلى ضعف الرابطة الإسلامية التي كانت تجمع الأمة، وأصبح الوضع لا إسلامي مما شجع أعداء الإسلام على تحطيم وجود هذه الأخلاط من البشر التي تخلت عن دينها مصدر قوتها وعزتها وتقدمها .

وأما السبب الثاني فهو خارجي ويتمثل في أن صولجان الحضارة عندما انتقل إلى الغرب.. كان هم الغرب أن يعمل في اتجاهين: الأول أن يطور نفسه لينشئ حضارته المادية، والثاني أن يعمل على تأخر وتعويق وتدمير حياة المسلمين حتى لا يعودوا إلى سيرتهم الحضارية، وبالفعل تحقق لهم ذلك فالمسلمون اليوم في حالة غير حضارية، لأنهم ليسوا أصحاب الحضارة المادية القائمة اليوم .

سؤال:وكيف يمكن التوصل إلى حلول عملية لمعالجة هذه الأسباب ومواجهة التحديات التي تواجه الأمة الإسلامية ؟

جواب:الحل هو ضرورة الاتفاق حول مفاهيم المصطلحات الفقهية والشرعية ومضامينها حتى تتفق الأحكام على صيغة واحدة واضحة، وتبتعد عن إطار المتشابهة وتمييع الحقائق ويختلف الناس حول الهوامش، وهذه مهمة مجتمعات البحوث الإسلامية في بلاد العالم الإسلامي، والتي يجب إن تخلق مناخاً فكريا وسطاً تجتمع حوله العقول المختلفة لتتفق بشرط ألا تتحول هذه الاتفاقات إلى مجرد مناظرات عقيمة لا طائل من ورائها ولا تفيد الأمة وأن يكون لدى كل طرف استعداد مسبق للاتفاق وقبول ما لدى الطرف الآخر وليس مجرد الاختلاف

وأؤكد أن الوحدة الإسلامية وتطبيق تعاليم الدين الإسلامي على أنفسنا ومحاولة الاستقلال الفكري والسياسي والاقتصادي عن الحضارات الأخرى؛ لأن الحضارة الإسلامية قادرة بخصوصيتها على حل جميع مشكلات أبنائها ولا داعي للحلول المستوردة، وأدعو الله أن تتسع الجهود التي تبذل للتنسيق بين الدول الإسلامية عن طريق المنظمات الإسلامية المتعددة وأن تنجح هذه الجهود لتشمل كل المجالات وتتحقق الأهداف الكبرى لهذه الأمة في الوحدة وإعلاء كلمة الإسلام .

العلمانية ... مؤامرة

سؤال:ما تفسيركم للامتداد العلماني الغربي في بعض الدول الإسلامية وما الصلة بينه وبين الغزو الفكري الحديث ؟

جواب:العلمانية هي جزء من الغارة الاستعمارية على العالم الإسلامي، فالاستعمار لا يوجد خيار أمامه إلا السيطرة العلمانية على أجهزة الإعلام والإدارة والتوجيه في العالم الإسلامي ويتخذ من بعض الجهات والمؤسسات ذريعة للتدخل ويدفع لأصحابها أموالاً، ولذلك لا أستغرب إذا ما وجدنا كتابا يدافعون عن الغرب مقابل هجومهم على الإسلام، وكانت البدايات وراء دخول العلمانية إلى العالم الإسلامي عن طريق مؤامرة أوروبية على الخلافة العثمانية لتقسيم العالم الإسلامي من خلال حركة أتاتورك العالمية في تركيا والتي ثبت تواطؤها مع الصهيونية العالمية، فأتاتورك وهو أساسا من يهود الدونما كان أول صيحة دخلت بها العلمانية واقع العالم الإسلامي، وهو في الحقيقة عميل عريق من عملاء الاستعمار، استطاع أن يمكن الغرب من رقبة الخلافة الإسلامية واستطاع أن يقضي على شخصية تركيا الإسلامية وبذلك خدم الغرب أكبر خدمة ومازال أحفاده في شكل كتاب وفنانين وإعلاميين يمارسون مهمتهم بكل إخلاص وتفان حتى يقضوا على الإسلام وهؤلاء هم رسل الاستعمار لإبعاد الجماهير المسلمة عن روح الإسلام ومساعدة الاستعمار بكل صوره على فرض الهيمنة على العالم الإسلامي .

ولا شك أن إسرائيل تزكي الاتجاه العلماني وتؤيدها بعض الاتجاهات في الغرب، فالعلمانية ليست دينا جديدا يجب أن يؤمن به الناس، ولكنها دفع استعماري خطير يريد تقويض الحياة في العالم الإسلامي ليسيطر الغرب على كل شيء في حياتنا .

الجهاد لإنقاذ القدس

سؤال:في هذا الإطار كيف يمكن للمسلمين مواجهة الصلف الإسرائيلي وممارسات قوات الاحتلال تجاه المقدسات الإسلامية وجرائمه في حق الشعب الفلسطيني ؟

جواب:أؤكد أنه لا أمل لنا نحن المسلمين إلا أن نحيي قضية القدس إسلاميا ونشعلها جذوة حتى لا ينسى العالم أن المسلمين هم أصحاب القضية، ولا ينسى المسلمون أن عليهم الجهاد من أجل أولى القبلتين وثالث الحرمين، وعلينا أن نعلم أن الصهاينة هم عدونا الأول, وقد تجمعوا في فلسطين وعددهم لا يزيد عن أربعة ملايين أي أنهم قلة، ونحن المسلمون نزيد على المليار مسلم, ولا يأتينا الضعف من قلتنا ولكن من تفرقنا، وقد خطط العدو الصهيوني لقطع قضية فلسطين عن العرب والمسلمين وحصرها في أضيق الحدود، وإسرائيل تخشى ما تخشاه أن تتحول قضية القدس إلي قضية إسلامية فالمفاوضون العرب سلموا القدس لليهود ولم يبق للقدس إلا إسلاميتها وجدار الإسلام وحضنه يقوي هذه القضية.. أما المنظور العربي وحده فإنه يضعفها .

الإسلام والغرب

سؤال:برأيكم.. كيف تقيمون العلاقة بين الإسلام والغرب ؟ وهل سيحقق الحوار المشترك نتائج إيجابية مع مراعاة حملة التشويه التي يقودها بعض الأشخاص في الغرب تجاه الحضارة الإسلامية ؟

جواب:للأسف فإن الحضارة الغربية وبعض مفكريها ومنظريها لم يجدوا عدواً لهم سوى الإسلام وحضارته وشعوبه أيضا وكان الأولى بهم أن يوجهوا دعوة لحوار مشترك مع المفكرين والعلماء الإسلاميين ولكنهم للأسف أرادوا أن يطلقوا شعارات جوفاء حول العداء للإسلام بدعوى مواجهة الإرهاب بإرهاب أكثر منه، ومن الضروري أن نفتح باب الحوار المشترك بين الأديان المختلفة خاصة بين الحضارة الإسلامية وبين الحضارة الغربية؛لتكون لغة الحوار هي السائدة بدلا من لغة الصراع، فالأديان كلها تدعو إلى التسامح والحوار بين كافة البشر.

سؤال:ولكن الغرب دائما ينظر إلى المسلمين وحضارتهم نظرة أخرى "سلبية " فما رأيك ؟

جواب:أرى أنه حين يفهم المسلمون شريعتهم بدقة ويأخذون بأسباب التقدم الذي سار عليها الأولون وأولها العلم فستتوهج حضارتنا مرة أخرى ونكون أنداداً لهؤلاء وغيرهم، وقد نتفوق عليهم كما كان الأصل،

كما أرى أن المشكلة فينا بالتأكيد فنحن لم نفهم ما تأمر به الشريعة الإسلامية وتركنا الأمم الأخرى تتفوق علينا بعد أن أقاموا حضارتهم على أنقاض حضارتنا فأخذوا علومهم التي قامت عليها حياتهم منا بعد أن فهموا أسس قيام الحضارة وطوعوها لصالحهم .

==========

#صراع الحضارات أكذوبة غربية

التحرير 26/2/1424

28/04/2003

- ما يمر به الاسلام اليوم حلقة جديدة في سلسلة لن تتوقف

- المرأة تمتلك أخطر دور في بناء الأمة الإسلامية القوية

- الحرب على الإسلام لم تتوقف منذ ظهوره من أجل القضاء عليه

المفكر الإسلامي الدكتور مصطفى الشكعة يرى أن الإسلام والمسلمين يتعرضون حالياً لحملة هجوم شرسة لم يتعرضوا لها من قبل، فالغرب يشن عليهم حربًا بكل ألوان العدوان البارد والساخن، ويؤكد أن المسلمين يعيشون مرحلة زمنية تعيسة، ولكنهم لا بد أن يتمسكوا بدينهم ووحدتهم؛ لأن تلك سنة الله، فمنذ أن ظهر الإسلام علي الأرض وهو يمر بمراحل متعددة من الهجوم، لكن أبطاله استطاعوا أن ينتصروا على عدوهم في كل المرات.

وينادي الدكتور مصطفى الشكعة الأستاذ بجامعة عين شمس بضرورة تمسك المرأة المسلمة بالرسالة التي حددتها لها الشريعة الإسلامية؛ لأن دورها في بناء الأسرة والمجتمع الإسلامي مهم جداً ،وخاصة في ظل كفالة المبادئ الدينية لحقوقها، بعدما كانت كماً مهملا ضمن ممتلكات الرجل، ويحذر الدكتور الشكعة من خطورة الاستشراق فهو السم المدسوس في العسل.. تفاصيل عديدة حول القضايا الساخنة في هذا الحوار الذي أجراه موقع الإسلام اليوم.

صورة مشوهة

سؤال: ما تعليقكم على الهجمة الشرسة التي يتعرض لها الإسلام هذه الأيام ؟

جواب: الهجمة الشرسة التي يتعرض لها الإسلام ليست وليدة اليوم، ولكنها حلقة جديدة في سلسلة لن تتوقف، وتتغير حسب موازين القوى الدولية ووحدة العالم الإسلامي، فالغرب يشن حربه التي بدأت بتشويه صورة الإسلام والمسلمين في شتى وسائل الإعلام الغربي، فأصبح هناك عقيدة راسخة في عقول الشعوب المعادية للإسلام في أمريكا ودول أوروبا بأن الرجل المسلم شخص عدواني متخلف، قبيح المنظر بدائي، يمسك في إحدى يديه بكتاب الله وفي اليد الأخرى السلاح، يرتدي جلبابه الأبيض القصير.. أما الصورة الأخرى للمسلم فهو رجل يجمع حوله النساء والخمر والطرب والأموال ولا يفكر فكل ما يعنيه هو ملذات الدنيا المادية ويبدد في سبيل ذلك كل شيء..أما الصورة الأشد قسوة فهي تلك التي تصور هذا المسلم بالعداوة للإنسانية والشذوذ، بحيث يتم عرض صورته في هيئة شخص يعتدي على الأطفال الأبرياء ويمزق براءتهم.. هذه الصورة المشوهة هي القاعدة التي انطلقت منها كل الحروب ضد الإسلام وشعوبه، سواء كانت بالحرب الاقتصادية تارة أو بالسلاح تارة أخرى، وهو ما حدث في البوسنة والهرسك وأفغانستان وما حدث في السودان والصومال، ولم يزل في فلسطين مستمرا وكذلك كشمير وغيرها من المناطق الإسلامية، وما يتعرض له العراق الآن وإيران ولبنان، كل ذلك هو نفس سيناريو الهجوم، لكن كلما اشتدت الأزمات بالمسلمين لا بد أن يزداد تمسكهم بدينهم، وتقوى وحدتهم لأن العدو الذي يتربص بهم – دائما – يجد فرصته في فرقة الأمة لتحقيق أهدافه الاستعمارية.

محنة المسلمين

سؤال: ما هو تقييمك للوضع الحالي للأمة الإسلامية ؟

جواب: الأمة الإسلامية تعيش في محنة ما يطلق عليه الغرب بالأصولية أو ما يطلقون عليه "التطرف الإسلامي"، ولا بد أن نعرف أن أصولية الإسلام ذات معنى يختلف تماما عن الأصولية النصرانية، فالأصولية عندهم ترتبط بالكنيسة وحرق العلماء، بينما الأصولية الإسلامية ترتبط بكل معاني الإنسانية والحياة السلمية .

وقد طوع الغرب هذه المغالطة الكبرى بصورة سيئة، فأصبحت المادة العلمية التي يتلقاها الأطفال والشباب الذين يتلقون تعليمهم في مدارسهم يحصلون على مادة علمية تحتوي على مادة مشوهة وكريهة، فهم يعلمونهم كيف يكرهون الإسلام، أما المصيبة الكبرى فتكمن فيما تصدره بعض الهيئات الحكومية في بلاد المسلمين، وتحمل هجوما شرسا على الإسلام، فما أقبح أن تكون يد الهجوم على الإسلام من بلاد المسلمين ومن وسائل إعلام ليست غربية، كذلك بعض الكتب التي هاجم أصحابها الإسلام ثم أعلنوا توبتهم وبراءتهم منها، ثم نجد بعد ذلك قيام بعض الهيئات الحكومية في بلادنا الإسلامية تعيد طباعتها مما يخدم الأطماع الغربية، وتثير عددا كثيرا من علامات الاستفهام، أما المناهج التعليمية في العديد من المدارس بالدول الإسلامية فقد تعرضت لعملية تجهيل للقضايا الإسلامية وكل ما يربط التلاميذ بدينهم، حتى الحصص القليلة التي خصصتها وزارات التعليم للدين الإسلامي فكثيرا ما يتم إلغاؤها وتحويلها لتدريس مواد أخرى، لكن على النقيض تماما فبرامج أقسام اللغات الأجنبية في الجامعات وما شاكلها تقوم بتدريس روايات بعضها إباحي مائة بالمائة، والبعض الآخر فيه طعن في الإسلام، والأبشع من ذلك أن الروايات العربية التي يتم تدريسها في أقسام اللغة العربية كلها فاحشة، وكل ذلك من أساليب الهجوم على الإسلام .

الحرب على الإسلام

سؤال: ما تحليلك للحروب التي تعلن عنها الولايات المتحدة الأمريكية بدعوى مكافحة الإرهاب و إنقاذ الأمة العربية والإسلامية ؟

جواب : الحروب الوهمية التي تعلن عنها الولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا وتحشد العالم من أجل المشاركة فيها تحت مسميات الشرعية الدولية تارة، ومكافحة الإرهاب تارة أخرى، كل ذلك يدور في نفس فلك الحرب ضد الإسلام، فما حدث في البوسنة والهرسك من عمليات إبادة للمسلمين وما يدور على الأرض المحتلة في فلسطين كان أدعى لسرعة التدخل الدولي من أجل إنقاذ الضحايا، لكن ما حدث هو غض الطرف عن السفاحين حتى ينتهوا من تنفيذ جرائمهم ضد المسلمين، وبعد ذلك يتم التدخل بصورة تعد ورقة توت يحاول ما يسمى بالمجتمع الدولي أن يستر بها عورته، وعلى النقيض تماما يكون التصرف مع الدول الإسلامية، فحين بدأت أفغانستان والسودان وإيران في بناء قواعد لدول إسلامية حقيقية، تم اختلاق الحجج من أجل القضاء عليها كي تضمن دول محور الحرب على الإسلام استمرار نفوذها في العالم الإسلامي...

أما المهزلة التي يشهدها بلد مسلم كالعراق فهي مسألة لا علاقة لها بالقضاء على أسلحة الدمار الشامل، لأن هذا النوع من السلاح بدأت ولادته في الولايات المتحدة الأمريكية والدول الكبرى، ولم يصل للدول الأخرى إلا بعد أن طورت الدول الكبرى هذه الأسلحة أو ابتكرت ما هو أخطر منها، والمسألة برمتها تدور في إطار تحقيق المصالح الخاصة لأمريكا وبريطانيا، كذلك تعطي الفرصة لتمكين الحكومة الدموية في إسرائيل من تحقيق مخططاتها تجاه الشعب الفلسطيني المجاهد، فأي عدالة دولية هذه التي ترى في امتلاك دولة ذات سيادة على أرضها لسلاح ما خطورة على العالم ؟

في حين لا ترى الخطورة نفسها في امتلاك دولة معتدية بل إنها ترفض نداء المجتمع الدولي بالتوقيع على اتفاقيات نزع هذا النوع من السلاح الخطر، المسألة واضحة ولا تحتاج لعناء في كشف أبعادها الاستعمارية.

الداء والدواء

سؤال: هل هناك تصور من وجهة نظرك للخروج من هذه المحنة ؟

جواب: لست يائساً من الوصول إلى طريق الخروج من هذه المحنة فالمسلم لا ييأس، لكن لا يمكن أن نصل إلى الدواء بدون معرفة الداء، والذي ينبع من البلاد الإسلامية نفسها، هذا الداء يكمن في الهجوم على الإسلام في بلاد المسلمين، وملاحقة كل من يتمسك به، وكذلك الفرقة والصراعات التي أصبحت تحكم معظم علاقات الدول الإسلامية، وغياب المشروعات الكبرى التي من شأنها توحيد كلمتهم وإثراء عملية التمسك بدينهم، كذلك اختفاء القدوة التي من خلالها انتشر الإسلام، فالتجار المسلمون في بداية الدعوة كانوا أمناء في تعاملاتهم، صادقين في علاقاتهم الاقتصادية، يقيمون الصلاة في أوقاتها، فأسلم الكثيرون ومن خلال هذه القدوة وعن طريقها يتربى الطفل وينشأ على الفضيلة، وبها يمكن تحصين المجتمعات الإسلامية من التيارات الفكرية و الثقافية الوافدة التي تدمر عقول الشباب وتهدم بناء المجتمع، هذا بالإضافة إلى استغلال الثروات الضخمة التي يتمتع بها العالم الإسلامي، سواء أكانت بشرية أو طبيعية أو صناعية، ورفع اليد الاستعمارية من السيطرة عليها، كما لابد أن نكون أشد حذرا من عمليات الاستشراق التي بدأت تحت رايتين، الأولى راية الكنيسة المعادية للإسلام، والراية الأخرى هي راية الاستعمار الذي يرى أن كل ما يملكه المسلمون حلال لهم، ولذلك يلجأون للتدليس وقلب الحقائق؛ حتى يتمكنوا من تحقيق أهدافهم .

هذه النقاط التي كانت سببا في داء الضعف الذي أصاب العالم الإسلامي لو تم القضاء عليها لتغيرت الصورة إلى النقيض، وعادت لنا قوتنا من جديد .

صدام الحضارات

سؤال: ماذا عن رأيكم فيما يعرف بتصادم الحضارات، وتأثير ذلك على الإسلام ؟

جواب: الحضارة في أي مكان بمعناها الراقي الرفيع هي ملك لكل الإنسانية وكذلك المعرفة، لذلك فإن الحصول على المعرفة والبحث عنها واقتنائها والسفر إليها هي أمر مطلوب من كل الحضارات، وصدام الحضارات ثم صراعها لا وجود له في الحضارة الإسلامية التي لا تصارع أحد من جانبها، وهنا نذكر بقول الإمام ابن رشد – الذي أهدر بعضنا قيمته العلمية والدينية – " أننا نقرأ ما يكتبه الآخرون فإن اتفق مع ديننا وعقيدتنا وآدابنا أخذناه وشكرناهم، وإن اصطدم مع معتقداتنا الدينية والحضارية انصرفنا عنه وشكرناهم أيضا" .. لذلك فالحضارات لا بد ألا تصطدم بعضها البعض على أي حال، بشرط أن تكون نافعة للبشر والعقل الإنساني وليس للتشكيك فيه وهدم المعتقدات الدينية السليمة، فالحضارات لا تصطدم وتتصارع لكنها تتفاعل من أجل الإنسانية، شريطة أن تكون بعيدة عن تغيير فطرة الخالق أو هدم العقائد السماوية .

طعنات مسمومة

سؤال : هل يرى فضيلتكم أن هناك أزمة حقيقية في العقل المسلم، وما تفسيرك للاتهامات التي ترد في هذا الشأن ؟

جواب : ما يدعيه البعض ويروج له من وجود أزمة في العقل المسلم مغالطة لا وجود لها، فمادة "يعقلون" و"أولي الألباب " في آيات القران الكريم لا تحصى فكيف يكون هناك أزمة في عقل المسلم.

إن الأزمة موجودة في العقول المريضة التي تلصق بالإسلام الأزمات، فأعداء الإسلام يختلقون التعبيرات والمفاهيم الخاطئة عن الإسلام، ويطعنونه بها، والهدف من ذلك هو إحداث بلبلة في عقول المسلمين من أجل صرفها عن الاهتمام بواقعها والتفكير في مستقبلها، والشيء المؤسف أن الأعداء نجحوا إلى حد كبير في تحقيق أهدافهم، فهناك العديد من المسلمين لا يعلمون شيئا عن دينهم ولا مشاكل مجتمعاتهم الإسلامية .. فكيف نطلب منهم أن يعملوا عقولهم لحلها.

إن الأزمة الحقيقية هي محاولة تغييب العقل المسلم، ومحو طاقته الفكرية والإبداعية، وللقضاء على هذه الأزمة لا بد أن تتكاتف كل المؤسسات الإسلامية داخل مجتمعاتنا المسلمة، بحيث توضح روح الإسلام الحقيقية لكل من يشوب عقله أي نقص في جانب من جوانب الإسلام، وهذا يتطلب وضع خطة متكاملة للنهوض بالعمل الإسلامي داخل هذه المجتمعات.

صلاح المرأة المسلمة

سؤال: ما رأيك في دعوة المساواة بين الرجل والمرأة، والتي يروج لها البعض هذه الأيام ؟

جواب: المرأة قبل الإسلام كانت مخلوقاً مضطهداً من قبل الرجل في شتى المجتمعات، لكن مع ظهور نور الإسلام حصلت علي حقوقها كاملة، وتم فك القيود التي كانت تحيط بعنقها، وللمرأة دور أساس في بناء الأسرة التي تعد اللبنة الأولى للمجتمع، وصلاح المرأة المسلمة ينتج عنه صلاح المجتمع الإسلامي، فدورها لا يقل بأي حال عن دور الرجل، وما يجب عليها فقط أن تؤدي رسالتها بالصورة التي رسمها لها الإسلام وقواعده؛ حتى لا تتحول إلى مخلوق ثالث لا هي حافظت على كونها امرأة ولا استطاعت أن تصير رجلا.

ولا بد أن تعي ما يريده أعداء الإسلام من توجيه أسلحتهم لهذا الجانب المهم من البناء الإسلامي، فهم يرغبون في خروجها عن آداب دينها وإفسادها عن طريق شعارات المساواة وغيرها، ونجاحهم في ذلك يعني نجاحهم في إفساد اللبنة الأولى في بناء المجتمع المسلم بما يعني النجاح في إفساد كل المجتمع، كما يجب على الرجل منحها حقوقها كاملة كما كفلها لها الإسلام، ولا يعود بها إلى عصور الجاهلية .

============

#العولمة والإسلام

إعداد: سهى عبيد* 28/2/1424

01/05/2003

المقدمة

في هذه الورقة البحثية سيكون حديثنا عن الإسلام والعولمة، وذلك لعدة اعتبارات أهمها: (أن عالمنا شهد مجموعة من التحولات المفزعة دولياً والتي أتخذت مظاهر متعددة:(1)

*

"انهيارية" وذلك من حيث انهيار الاتحاد السوفيتي والكتلة الشرقية.

*

"استقطابية أحادية" من حيث استقطاب الاتحاد السوفيتي إلى الحشد الدولي في الحملة الدولية على منطقة الخليج العربي، وكسر عزلة النهوض الذاتي للصين.

*

"ابتلاعية" أي محاولة تنميط العالم اقتصادياً وسياسياً وإعلامياَ وثقافياً عبر إبتلاع الشركات المتعددة الجنسيات للمسافات الحضارية التاريخية والجغرافية للشعوب والدول القومية.

إذاً عالماً اليوم له سمات ثلاثة أساسية، انهيار الكتلة الشرقية، وأحادية القطبية، والهيمنة الرأسمالية على كافة مظاهر الحياة، وضمن هذه الظروف يكمن سؤال هام:

أين يقع الإسلام في ظل عالمنا اليوم؟!

ذلك الدين صاحب الرسالة الخالدة العالمية ما هي طبيعة علاقته بالعولمة؟ هل هي علاقة تصارعية؟ أم اندماجية؟

انطلاقاً من الفرضية السابقة ستكون خطة البحث كما يلي:

الباب الأول: موقع الإسلام في النظام العالمي الجديد.

الفصل الأول: ماهية العولمة والنظام العالمي الجديد.

الفصل الثاني: علاقة الإسلام بالعولمة.

الباب الثاني: تقييم عام.

الفصل الأول: مخاطر العولمة على الإسلام.

الفصل الثاني: الخيارات المطروحة أمام مسألة الإسلام والعولمة.

الباب الأول: موقع الإسلام في النظام العالمي الجديد:

الفصل الأول: ماهية العولمة والنظام العالمي الجديد

بعد انهيار الاتحاد السوفيتي والكتلة الشرقية وتحديداً خلال حرب الخليج الثانية عام 1991 تحدث الرئيس الأمريكي الأسبق جورج بوش "الأب" عن نظام عالمي جديد، هذا النظام في الحقيقة يقوم على هيمنة قطب واحد يحاول فرض سلطته على كافة الصعد الثقافية والسياسية والاقتصادية وحتى الاجتماعية. وللوقوف على حقيقة الموضوع لابد لنا في البداية أن نتعرف على مصطلح النظام العالمي الجديد أو ما عُبر عنه بالعولمة

في الحقيقة هناك العديد من المفاهيم لهذا المصطلح حتى أنك تجد في حال بحثك عن هذا الموضوع أنك في شبكة هائلة من المفاهيم على أن الكثير من المفكرون اعتبروا العولمة تراكماً تاريخياً وأمراً لم يكن مستحدثاً فهي صيغة طُرحت قديماً بعدة أشكال وطرق فيقول أحمد سلامة (2)(لقد بشر شوبنهاور ونيتشة بعولمة تقوم على أساس نقاء العرق واختطف تلك الفكرة النظرية هتلر الذي كان يسعى للعولمة بطريقته العرقية الخاصة ثم جاء ستالين بطريقة جديدة للعولمة عبر العولمة اللا إلهية، ثم تأتي العولمة اليوم بكونها: فكرة تجمع بين القوة والقدرة والرغبة والمناخ الملائم ليجعل اتباعها من أنفسهم نموذجاً يحتذى إما بالفرض القسري وإما بالتبشير المرغوب فيه فيصير العالم قرية كونية".

في حين يرى الدكتور سيار الجميل (3)"أن العولمة نظام عالمي جديد له أدواته ووسائله وعناصره وجاءت منجزاتها حصيلة تاريخية لعصر تنوعت فيه تلك التطورات التي ازدحم بها التاريخ الحديث للإنسان بدءً باستكشافه للعالم الجديد عند نهاية القرن الخامس عشر وصولاً لاستكشافه العولمة الجديدة عند نهايات القرن العشرين مروراً بأنظمة وظواهر وأنساق متنوعة كالإصلاحات الدينية والذهنية والسياسية والثورات الصناعية والرأسمالية والاشتراكية والمرور بأزمات وكوارث وصراعات وحروب أشعلتها الدول، هكذا تأتي فلسفة العولمة لتجسد حصيلة ما حفل به التاريخ الحديث للبشرية".

أما العولمة من وجهة نظر د. برهان غليون (4)فإنها تتجسد في نشوء شبكات اتصال عالمية تربط جميع الاقتصاديات والبلدان والمجتمعات ليخضعها لحركة واحدة، ويتمثل باندماج منظومات رئيسية:

1.المنظمة المالية عبر سوق واحدة رأس المال وبورصة عالمية واحدة.

2. المنظومة الإعلامية والاتصالية.

3. المنظومة المعلوماتية التي تجسدها بشكل واضح شبكة المعلومات فالمقصود هو الدخول في مرحلة من الاندماج العالمي العميق.

إذن هناك العديد من المفاهيم لظاهرة العولمة والتي لا يمكن أن نقترب من تعريف شامل لها إلا إذ وضعنا في الاعتبار ثلاث عمليات تكشف عن جوهر هذه الظاهرة، كما يرى د.ياسين(5):

1.انتشار المعلومات.

2.تذويب الحدود بين الدول.

3.زيادة معدل التشابه بين الجماعات والمؤسسات.

فالعولمة ظاهرة تعكس معالم النظام العالمي الحديث وهذه المعالم على النحو التالي:(6)

1.تخلي الاتحاد السوفيتي كطرف مؤثر في العالم وعن أصدقائه في حلف وارسو، الأمر الذي شجع على حدوث التغييرات السريعة في أوروبا الشرقية وبالتالي انهيار الكتلة الشرقية.

2.أدت التغييرات التي حدثت في أوروبا الشرقية إلى اختلال في ميزان القوى لصالح الولايات المتحدة حيث أصبحت مرتكز للنظام العالمي الجديد الذي يخضع لنظام القطب الواحد بزعامة الولايات المتحدة.

3.نظام يقسم العالم إلى طرفين لا إلى ثلاثة: أغنياء وفقراء، الشمال للأغنياء والجنوب للفقراء.

4.جعل المنظمات الدولية والإقليمية هيئات موظفة لخدمة مركز الزعامة في النظام الدولي وهي الولايات المتحدة ومبررة لسياساتها وأهدافها.

5.بروز مفاهيم الديموقراطية، حقوق الإنسان، التعددية السياسية.

6.الاقتصاديات العملاقة ذات التكنولوجيا العالية، جعلت الاقتصاديات القطرية عاجزة عن التأثير في العلاقات الاقتصادية الدولية خاصة في ظل وجود الشركات متعددة الجنسيات.

وبما أننا تعرفنا في هذا الباب إلى مفهوم العولمة ومعالم النظام العالمي الجديد لابد لنا أن نوضح مفهوم الإسلام وذلك حتى تكتمل المصطلحات الأساسية التي يرتكز عليها البحث.

فإذا نظرنا للمفهوم التقليدي الشائع، فالإسلام هو الدين الذي أُنزل على سيدنا محمد عليه السلام، وهو خاتم الرسالات السماوية.

لكم ما يميّز الإسلام حقاً هو عالمية رسالته وكونيتها . والبحث قائم في الأساس على الفرق بين العالمية والعولمة، فالعالمية هي طموح الارتقاء بالخصوصي إلى مستوى عالمي وهذا ما كرّسه القرآن الكريم:((وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين))، ((وما أرسلناك إلا كافة للناس بشيراً ونذيرا))، لكن مع ملاحظة هامة ((لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي))، ((أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين)).

بالإضافة لما سبق يجب أن نلاحظ أن عالمية الإسلام لم تجعله يرفض التباين بين الأمم فالإسلام يؤمن بأن لكل أمة خصوصيتها ((لكلٍ جعلنا شرعةً ومنهاجاً ولو شاء الله لجعلكم أمة واحدة))(7).

فمنذ فجر الإسلام كان الرسول الكريم محاطاً ببلال الحبشي وصهيب الرومي وسلمان الفارسي. وكل هؤلاء ليسوا بعرب.

في حين أن إطار العولمة الحديث يقوم على إقصاء الطرف المقابل وعدم قبول ثقافته ومن هنا العالمية على عكس العولمة، تقبل بالتبادل بين الثقافات فهي تقبل بالآخر ولا تعمل على إقصائه، فخصائص عالمية الإسلام تنطلق مما يلي:

1.الخلود، وخلود الإسلام هو استمرار بقائه وامتداد رسالته، ودعوته ما دامت البشرية تواصل حياتها على سطح هذه الأرض. وسر الخلود يكمن في:

أ. السعة والشمول، والتي تظهر في العقيدة والقوانين والنظم والأفكار والمفاهيم الإيمانية والحضارية.

ب. الاجتهاد، أي استنباط الأحكام والقوانين والمفاهيم والأفكار من القرآن والسنة، فكل حادثة وأمر جديد محدث في المجتمع الإسلامي ولم يكن له حكم مجدي، فإن الشريعة أذنت باستنباط ذلك الحكم من القواعد والأسس والمفاهيم الكلية العامة.

2.اليسر والسهولة، فالتكليف بمستوى القدرة، فليس في الشريعة الإسلامية تكليفاً فوق طاقة الإنسان فكل العبادات في الصوم والصلاة والحج والزكاة والجهاد في سبيل الله كلها وضعت بمستوى طاقة الإنسان واستطاعته قال تعالى ((لا يكلف الله نفساً إلا وسعها)).

3.الإنسانية فالإسلام ينظر للناس جميعاً بأنهم من أصل واحد متساوون في الإنسانية ولا فضل لأحد على أحد إلا بالتقوى وبذلك قال تعالى ((يا أيها الناس إن خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم)) وفي الحديث الصحيح عن الرسول الكريم "لا فضل لعربي على أعجمي إلا بالتقوى".

4. العقلانية فرسالة الإسلام تقوم على أساس قناعة العقل والتوافق مع منطقه وإقناعه بالحجة والدليل والبرهان وبذلك قال تعالى((وتلك الأمثال نضربها للناس وما يعقلها إلا العالمين)).

5.الاعتدال بين الدنيا والآخرة تأمر الشريعة بالاعتدال في كل شيء حتى في العبادة وقال تعالى ((وابتغ فيما آتاك الله الدار الآخرة ولا تنسى نصيبك من الدنيا واحسن كما احسن الله إليك)).

ومن كل ما سبق يمكننا القول أن العولمة ظاهرة متعددة الأبعاد والزوايا "سياسية واقتصادية واجتماعية وثقافية"و أنها ظاهرة ولدت في نهاية القرن العشرين وهذا يعني أنها مرت في مراحل متعددة حتى أصبحت ظاهرة قابلة للوجود وبالتالي كان وجودها في نهاية القرن الماضي وفي نهاية هذا الباب من الفصل الأول يجب أن أنوه بأن هناك عولمة وعالمية وكلاهما مفهومان مختلفان كما يقول د.محمد عابد الجابري" هناك عولمة Globalization وهي تعني إرادة الهيمنة أي قمع وإقصاء للخصوص والذاتي وهناك عالمية

Universalism وهي طموح للارتقاء والارتفاع بالخصوصي إلى مستوى عالمي.فالعولمة احتواء للعالم أما العالمية تفتح على كل ما هو كوني وعالمي(8)وبغض النظر عن وجهة نظري الشخصية إزاء العولمة فإنني اتفق مع داني روديك أستاذ الاقتصاد السياسي في هارفارد حيث يقول (يجب أن لا نفزع من العولمة كما يجب أن لا نأخذها بخفة، فالعولمة تفتح أفاقاً واسعة وتتيح فرصاً أولئك الذين لديهم المهارة والقدرة والمؤهلات التي تمكنهم من الحركة والازدهار في الأسواق العالمية).

ومن هذا المنطلق ومن منطلقات أخرى أهمها أن لكل شيء جانبان إحداهما سلبي والآخر إيجابي اخترت أن أتحدث عن الإسلام والعولمة.

الفصل الثاني: علاقة الإسلام بالعولمة

في الفصل السابق تحدثت عن مفهوم العولمة وعن طبيعة العالم الحالي وما يسمى بالنظام العالمي الجديد، وفي هذا الفصل سأتحدث عن موقع الإسلام في ظل هذا النظام وفي ظل ما أطلق عليه بالعولمة.

يقترن الإسلام بالإرهاب والأصولية فالحركات الإسلامية أُلصقت بها هذه تهمة الإرهاب والعنف والتطرف والسؤال هو لماذا؟

إن النظر لواقع الإسلام اليوم يتنازعه رأيان(9):

1. يقول غير المسلمين أن هناك مشكلة ما تتسبب في إضطراب علاقات الإسلام مع الأديان الأخرى وأن هذه المشكلة تعبر عن نفسها في سلسلة من الصراعات.

2. هو أن المسلمين يقولون أن الإسلام مستهدف وأن ثمة حرباً معلنة ضده وأن الإسلام في دفاعه عن عقيدته وفي صموده أمام سلسلة من الهجمات التي يتعرض لها يجد نفسه في حالة صراع دائم.

فالمسلمين يرون أن المشكلة هي في نظرة الآخرين للإسلام، وغير المسلمين يعتقدون بوجود المشكلة في الإسلام.

وعلى أي حال بدأ الحديث عن الإسلام بإعتباره ضمن دائرة صراع الحضارات وخاصة بعد انهيار الاتحاد السوفيتي، فبعدما انتهى العدو الأول للغرب الرأسمالي ما لبث أن وجد عدو جديداً ألا وهو الإسلام وهذا يظهر في العديد من الكتابات بل وحتى في الخطابات الرسمية وغير الرسمية ويقول هنري كيسنجر في خطاب ألقاه أمام المؤتمر السنوي لغرفة التجارة الدولية (بأن الجبهة الجديدة التي على الغرب مواجهتاها هي العالم العربي الإسلامي باعتبار هذا العالم هو العدو الجديد للغرب) وهذا ما أكده الأمين العام للناتو "حلف شمال الأطلسي" ويلي كلايس willy Claes الذي وصف الأصولية الإسلامية في خطاب رسمي له بأنها أعظم خطر راهن يواجه الحلف(10).

من خلال التصريحين السابقين يتضح لنا أن الإسلام مستهدف خاصة أن بعض الجماعات والحركات التي تدعي الإسلام تتيح للغرب استهداف الإسلام. وعلى أي حال يجب أن نلاحظ أن العالم الإسلامي يعاني العديد من المشاكل والتي لابد أن تتفاقم في ظل العولمة إذا لم يوجد حل لهذه المشاكل.

حتى أننا نجد أن الأدبيات الغربية تجعل من الإسلام عدواً لها خاصة في ظل رأي هنتغتون في "صراع الحضارات" حيث يقول (بأن النظام العالمي السابق كان يقوم على صراع بين ثلاث قوى رئيسية: الولايات المتحدة الأمريكية، الاتحاد السوفيتي والعالم الثالث، أما النظام العالمي الجديد نظام ما بعد الحرب الباردة فيقوم على الصراع بين ثماني حضارات(11)

"الغربية واليابانية والكنوفشسية والهندوسية والأمريكية اللاتينية والأرثذوكسية والحضارة الإسلامية والحضارة الإفريقية". وهو يرى أن حروب المستقبل سوف تجد جبهات لها في نقاط التماس بين الحضارات وخاصة مع الإسلام وكل واحدة من هذه الحضارات على حدى وهذه النقاط كما يراها: (المواجهة بين الإسلام والغرب من خلال الصراع بين البوسنة وكل من كرواتيا وسلوفينيا. المواجهة بين الإسلام والأرثذوكسية من خلال الصراع بين البوسنة وصربيا وتركيا واليونان وبلغاريا.المواجهة بين الإسلام والهندوسية من خلال الصراع الهندي الباكستاني). بمعنى أن الغرب وضع الإسلام في موضع العدو والمواجهة وفي الحقيقة ازداد عجبي بعدما قرأت كتاب (أحجار على رقعة الشطرنج) حيث يقول مؤلفه أن الاتحاد السوفيتي سينهار وبعدها ستبحث الرأسمالية عن عدو لها وسيكون هو الإسلام، والذي سيعمل على محاربته هو الصهيونية، عبر دولتها إسرائيل.

والغريب أن هذا الكتاب تم تأليفه عام 1950، وهذا يعني أنه جاء بعد قيام إسرائيل بعامين فقط، وأنه جاء ليتحدث عن سقوط الاتحاد السوفيتي قبل حوالي أربعين عاماً، ولنتذكر أن الاتحاد السوفيتي عام 1950 كان قلعة عسكرية وعلمية دخل في حرب النجوم مع الولايات المتحدة الأمريكية وتفوق عليها في مرحلة من المراحل، فكيف استطاع الكاتب في ظل هذه المعطيات أن يتوقع كل ذلك؟!.

اعتقد فعلاً أن الإسلام حقاً في مواجهة الغرب، والعولمة هي الصيغة المطروحة حالياً.

وعلى أي حال، إن الإسلام كدين جاء يحمل طابعاً عالمياً على خلاف اليهودية التي جاءت مقتصرة على بني إسرائيل، جاء الإسلام كرسالة لبني البشر أجمعين قال تعالى ((وما أرسلناك إلا نذيراً وبشيراً للعالمين)).

فالإسلام في كثير من تعاليمه وفي الكثير من تطبيقاته وفي الكثير من ممارسات الرسول الكريم دلالة على الطابع العالمي: ((لا فرق بين عربي ولا أعجمي إلا بالتقوى)).

هذا يعني أن الإسلام له طابع عالمي وليس مُعَولماً بمعنى أنه Universalim وليس Globalization حيث أن الإسلام وجهت له ضربات تتخذ شكلاً عالمياً معولماً:

1.وذلك بضرب قوات التحالف الدولي للعراق على إثر ما درج على تسميته الآن بالحالة العراقية الكويتية.

2.محاولة طبع المنطقة العربية "الإسلامية" بالطابع الشرق أوسطي.

فخطوات عولمة العالم العربي بدت متسارعة جداً وذات هدف لا يستهان به هو عولمة المنطقة العربية لابعادها وسلخها عن أي محاولة لأسلمتها. فبعد أن خرج العرب منهكين من أثار التحالف الدولي المعولم على العراق طُلب منهم للسلام في مدريد.

ومما سبق نخلص إلى أن الإسلام شيء والعولمة شيء آخر وفي هذا رد على من يدعي ترابطهما، لكن هذا لا ينفي أبداً كون الإسلام دين عالمياً لكنه يبقى في الحقيقة موقع وهدف للمواجهة في ظل النظام العالمي الجديد.

فبعد نهاية الحرب الباردة أصبح هناك العديد من التنظيرات حول شكل العالم الجديد وبزت جملة من السيناريوهات والتوقعات تطرح أشكالاً متعددة مثل، فكرة صعود قطب آخر غير الولايات المتحدة، وتحول النظام إلى ثنائي القطبية، وأحياناً يتطرق الحديث إلى استحكام قطب واحد تمثله الولايات المتحدة، بينما هناك تصور ثالث يشير إلى التعددية القطبية بحيث تشارك فيه أطراف أخرى مثل أوروبا الموحدة والهند والصين. (ومن العجيب أن هذه الاحتمالات التي تشير إلى قوى صاعدة لا تتضمن وجود أي دولة إسلامية كدولة رائدة فإذا كان هناك وفق التصور الذي يؤكد تحكم قطب واحد مهيمن على العالم، فهل يصبح كل العالم بذلك "دار حرب"؟).

ومن جهة أخرى، للعولمة العديد من التجليات السياسية والتي تتركز في رفع شعارات الديموقراطية والتعددية الفكرية واحترام حقوق الإنسان.

هنا الإسلام لا يتعارض مع حقوق الإنسان، وفي الكثير من نصوصه ما يؤكد ذلك ((يا أيها الناس إنا جعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم)). إلا أن الإسلام لا يمكن أن ينسجم مع مصطلح الديموقراطية بالمفهوم الغربي، وهذا لا يعني أن الإسلام ديكتاتوري لكن الإسلام له خصوصيته فلا يمكن تأطيره وقولبته بالقلب وإطار معين وإلا كان هذا تقزيماً له.

فالإسلام شيء والديموقراطية شيء آخر لأن الأخيرة تقوم على العلمانية والحرية التي لا سقف لها.

أما الإسلام يؤمن بالحرية المنسجمة مع حدود الشرع، ولا علمانية في الإسلام فالسلطة الدينية هي الأساس وحتى أن السلطة السياسية تُعد مكسباً من مكاسب السلطة الدينية، لذلك الإسلام شيء والعولمة شيء آخر. وإن كان الإسلام في بعض جوانبه يلتقي مع العولمة مثلاً في حقوق الإنسان، إلا أن هذا الالتقاء لا يعبر عنه بالعولمة وإنما بالعالمية.

الباب الثاني: تقييم عام

الفصل الأول: مخاطر العولمة على الإسلام

لقد ذكرنا سابقاً أن الإسلام يحمل صورة تم تشويهها اليوم في العالم الغربي حيث أن صورة الإسلام في الغرب تمثل صورة الإرهاب والتطرف والكثير من العنف إزاء هذه الصورة المشوهه يعاني الإسلام والشعوب الإسلامية العديد من المشكلات والتي بدورها تجعل موقف هذه الشعوب ضعيفاً في مواجهة العولمة خاصة إذا ما علمنا أن أبرز مواقع الجوع الكبرى تقع في العالم الإسلامي، فمن أصل 200 مليون شخص جائع في العالم هناك 173 مليون منهم من المسلمين موزعين على النحو التالي:(12)

70مليون جائع في الهند.

12 مليون جائع في الصين.

50 مليون في آسيا الجنوبية.

26 مليون جائع في أفريقيا السوداء.

15مليون جائع في الشرق الأوسط و الشمال الإفريقي.

ومن جهة أخرى العالم الإسلامي يعاني من ضعف الإنتاج(13)فمثلاً مدينة واحدة في ألمانيا دوسلدروف يقدر ناتجها المحلي 1.8 مليار دولار ويقدر عدد سكانها ب 2 مليون نسمة، وهذا الناتج المحلي يعادل تماماً الناتج القومي لأكبر دولة إسلامية سكانياً وهي أندونيسيا التي تضم أكثر من 200 مليون نسمة. هذا يعني أن العالم الإسلامي يعاني من العديد من المشاكل ولنتذكر أن خلاصة الفصل السابق من البحث أن الإسلام والعولمة كلاهما في مواجهة والسؤال هنا:

هل يستطيع الإسلام والدولة الإسلامية مواجهة العولمة؟ وكيف ستتعامل هذه الدول مع الإسلام ومع العولمة في وقت واحد؟

وعلى أي حال يتضح لنا في هذا البحث أن الإسلام كحضارة جاء في مواجهة الحضارة الغربية والتي تتمثل بالعولمة نجد أن الإسلام يتعرض للكثير من التحديات والمصاعب فالعولمة كظاهرة حضارية تقودها الولايات المتحدة الأمريكية(14)تواجه الإسلام كحضارة وكأفراد إذ أن هناك محاولات الغزو الثقافي عبر استغلال الجامعات والمعاهد فمثلاً الجامعة الأمريكية في القاهرة طرحت الاستبيان التالي على أحد الطلبة الراغبين في الدراسة للحصول على درجة الماجستير:

-ما رأيك في إذاعة أذان الصلاة في الإذاعة والتلفزيون؟

-هل توافق على إذاعة بعض الأحاديث النبوية عقب الآذان؟

-ماذا نسمي المقاتلين في الشيشان؟ هل هم مناضلون أم إرهابيون؟

في الحقيقة إني أرى أن مثل هذه الأسئلة تحاول أن تضلل الفرد المسلم وتجعله يقع في دائرة الشك ويبتعد عن الإسلام ديناً وحضارة ليقترب أكثر نحو العولمة والحضارة الغربية.

وتبرز خطورة الغزو الثقافي للحضارة الإسلامية في أن أبناء هذه الحضارة لا يقرؤون إذا ما قارنهم بأبناء الحضارة الغربية، كما أن أبناء الحضارة الإسلامية يتلقون الأبناء والمعارف ولا يصدرونها للعالم بعكس أبناء الحضارة الإسلامية في العصور السابقة الذين تتلمذ الغرب على أيديهم أما اليوم فنحن ننتظر أن يأتي الخبر وتأتي المعلومة إلينا ولا نقوم بصنعها.

وبهذا يقول الدكتور السيد يسين "إن الخصوصية الثقافية للمسلمين والعرب مهددة على اعتبارات المشكلة التي يثيرها الباحثين في العالم الثالث والذي يعد العالم الإسلامي من ضمنه هي أن تدفق الرسائل الإعلامية والثقافية يأتي من المراكز الرأسمالية الإعلامية بكل قوتها وقدراتها التكنولوجية ويصب في دول الأطراف كمجتمعات والتي تصبح في الواقع مجرد مستقبله لهذه الرسائل الإعلامية بكل ما فيها من قيم وهي في الغالب قيم سلبية مدمرة".

وإذا نظرنا لسلبيات العولمة اقتصادياً فإننا نجد أن إحدى آليات العولمة وهي التكنولوجيا قد أدت إلى البطالة وبالتالي أصبح عندنا حوالي مليار عاطل عن العمل في العالم منهم 15% من الدول العربية الإسلامية.

وفي الحقيقة إن مخاطر العولمة ستزداد في ظل المجتمعات التي تعاني من الأمية والجهل فنسبة الأمية نسبة لا يستهان بها في العالم الإسلامي ففي موريتانيا حوالي 62% والسودان 53% وهذا يعني أن هذه المجتمعات غير مؤهلة لمواجهة النظام العالمي الجديد "العولمة".

وإذا نظرنا للعولمة كظاهرة حضارية تسيطر عليها حالياً الولايات المتحدة: "على اعتبار بروز أقطاب أخرى لتقوم بتمثيل العولمة لاحقاً" فإن الأوضاع حالياً تشير إلى كون العولمة هي الأمركة ومن مخاطر ذك على العالم الإسلامي هو سياسة التدخل في شؤون الدول الأخرى بحجة الاضطهاد الديني قررت الولايات المتحدة الأمريكية باعتبارها القوة العظمى الوحيدة حالياً أن تقوم بدور الزعيم الأخلاقي الكوني وقد دار جدل واسع حول إنشاء مكتب في البيت الأبيض لمراقبة الاضطهاد الديني تحت اسم قانون "التحرر من الاضطهاد الديني" لعام 1997 والذي يقوم بمراقبة معاملة الأقليات الدينية في بلدان معينة منها السودان(15).

ولا يعد بعيداً عن الموضع إصدار أمريكا لقائمة الدول الداعمة للإرهاب والتي على رأسها سوريا، السودان، ليبيا، وغيرها من الدول العربية الإسلامية. وغير بعيد عن ذلك أيضاً ما أصدره مجلس العموم البريطاني في شهر آذار 2001 من قانون ملاحقة المنظمات والحركات الإسلامية التي وسمها بالإرهاب والأصولية.

ويجب أن نلاحظ أن الدول الإسلامية تواجه العديد من التحديات أمام العولمة لكونها دولاً وليس لكونها تمثل حضارة الإسلام، وخاصة أن هذه التحديات تواجه منظومة دول العالم الثالث التي تقع ضمنها، إضافة إلى تحديات أخرى أهمها(16):

1.تحويل الاستثمار إلى مناطق العمالة الرخيصة، وهذا ما يؤدي إلى إغلاق المصانع المحلية وانتشار البطالة.

2.سيطرة الشركات المتعددة الجنسيات على مقدرات هذه الدول.

3.مساهمة تكنولوجيا المعلومات في ازدياد الهوة بين العالم الصناعي المتقدم والنامي الفقير إلى درجة التصدع الكامل لبنية المجتمع الإنساني.

4.تخوف الدول النامية والأمم ذات الحضارات العريقة من ضياع هويتها الحضارية والثقافية وسيطرة نسق قيمي واحد من الحضارة الغربية بكل ما فيها من مثالب وإيجابيات.

ويزاد أثر هذه التحديات على الفرد المسلم بصورة عامة والعربي بصورة خاصة وذلك لأنه يعيش في ظل دول قطرية جعلت الانتماء إلى الوطن يحل محل الانتماء للأمة، ويستوعب في الوقت نفسه الانتماء العصبوي، فأدى ذلك إلى خلق ما يعرف بإنسان (مأزوم الهوية)(17).

فازداد "تشرنق" الفرد داخل عصبيته أو مذهبيته، مما أدى إلى عدم قدرته على الاندماج في مؤسسات الدولة، كما ازداد ضعف مشاعر الانتماء للأمة وذلك بسبب انقطاع التواصل العضوي الحر بين أجزاء الأمة مع وجود ثقافة قطرية تحاول "قومنة" الدولة وترسيخها.

لقد نجحت الدولة القُطرية منذ نشأتها وحتى الآن أن تثبت نفسها في مواجهة فكرة الدولة القومية ولكنها ضلت عالة على إرث الأمة ولم تستطع أن تؤسس هوية خاصة بها تجعل الفرد يحس بأنها تعبر عن خصوصية جماعته فظل يشعر بأن محددات هويته الثقافية والحضارية تتجاوز حدود هذه الدولة بينما انتماؤه الاجتماعي يقصر عن تلك الحدود وبالتالي وجد الفرد المسلم والعربي نفسه إنساناً مأزوماً في هويته وليس ذلك فقط بل يواجه عصر العولمة.

وفي النهاية أقول أن الحضارة الإسلامية تقبل بالحوار والجدل المنطقي ففيها من المرونة ما يجعلها قابلة للانفتاح على ثقافات العالم خاصة إذا كان التحاور يقوم على حرية التواصل والاحترام بين الثقافات العالمية، وأخطر ما يواجه القائمين على استنهاض الثقافة العربية الشعور بالدنيوية والاستسلام التبعي لمنتج الثقافة الغيرية والرضى بأن نكون مستهلكين لا منتجين وفاعلين في صناعة ثقافتنا ولو لم يكن للعولمة من أثر على الثقافة العربية الإسلامية إلا تحريك وايقاظ الوعي الإسلامي فهذا يعد أمر هام.

وفي نهاية هذا الباب يجب أن أذكر وللأمانة العلمية أن هناك من يفرق بين نظرة الأوروبيين ونظرة الأمريكيين له ومنهم عبد الإله بلقزيز(18)(الأوروبيون يهتموا كثيراً ببناء نظرة ثقافية وموقف أيديولوجي من الإسلام تحت وطأة الشعور بالمغايرة الثقافية وبمركزية المرجعية الحضارية الغربية فعداء مثقفيهم وسياسيّهم للإسلام يتغذى من هذه الخلفية الثقافية والشعور بالأنا الحضاري والتفوق الثقافي، بل أن هذا العداء ليس بمستغرب من ثقافات أنتجتها ثورات عقلية مريرة ضد الكنيسة. أما الأمريكيون وبسبب غياب خلفية حضارية لمجتمعه الحديث التكوين والمتعدد الأصول والمشارب الثقافية فلا يهمهم من الإسلام إلا مقدار العائدات التي يمكن أن يحصلوها منه فلا يهتموا بموقف عقائدي منه لأنهم برغماتيون، فهم مثلاً يتصالحون مع إسلام يعقد الولاية الكونية لواشنطن، أو مع الإسلام الطيّع الذي يقم خدمات استراتيجية إقليمية، لكنهن يشحذون أسلحتهم ويستنفذون قواتهم حين يصبح إسلاماً تحرري المنزع، أو إسلاماً جهادياً كما في فلسطين وجنوب لبنان لأنه يخالف منطق مصلحتهم وبالجملة لا يخيف الولايات المتحدة من الإسلام إلا أن يسيطر على النفط وهنا يصبح الإسلام عدواً استراتيجياً للولايات المتحدة.

الفصل الثاني: الخيارات المطروحة أمام مسألة الإسلام والعولمة

في الفصل الأخير من هذا البحث لابد أن أوضح أن العولمة كظاهرة تمثل حضارة الغرب في وجه الإسلام، وتخشى الاتجاهات القومية بشقيها العربي والأوربي من العولمة باعتبارها ظاهرة تمثل محاولات الهيمنة الأمريكية، وعلى أي حال فإن معظم المراجع تميل إلى طرح خيارات متعددة لمواجهة العولمة ومنها:

1.الاندماج: بمعنى التعايش بين العولمة وأي حضارة أو ظاهرة مقابلة لها، لذا فإن الطرف المقابل يجب أن يكون مؤهلاً لهذا الاندماج وإلا فإنه سيذوب ويتلاشى أمامها.

2.المواجهة: بمعنى التحدي والصمود أمام هذه الظاهرة ومحاولة الحفاظ على الذات.

3.التهميش: بمعنى أن الطرف المقابل لن يكون له أي قيمة أمام هذه الظاهرة.

وإنني أرى أن التهميش سيحصل في حالتين، الأولى إذا تم اندماج الإسلام في ظل النظام العالمي الجديد دون أن يكون هناك تحسين لظروف وأوضاع المسلمين والبلاد الإسلامية. أما الثانية هي إذا دخلنا في مواجهة مع النظام العالمي الجديد دون استعداد حقيقي وتحضير لهذه المجابهة. وهذا يعني أيضاً تهميشنا وعلى أي حال فإنني أعتقد أن التهميش ليس خياراً وإنما هو نتيجة لخيارين، وهما الاندماج أو المواجهة لكن دون استعداد و تحضير ومحافظة على الهوية الذاتية.

هناك عدة خيارات طرحها كامل أبو صقر(19):

1.أن لا نعمل شيئاً أكثر مما نعمل ولا أقل مما نعمل، وهو خيار على الأقل يحقق لنا الوجود (ونحن موجودون كثيرو الشكوى لم نسترد حقوقنا المسلوبة، كرماء، مستهلكون، لا نضيف ولا نجدد ونتغنى بالماضي، وننتظر المجهول، نطيع أكثر من في الأرض قوة و نقلدهم). هذا الخيار سلبي.

2.أن ننسحب من التاريخ والسوق الكونية والعولمة لأننا أفلسنا عقلياً وأصبح وجودنا مكلفاً ومقدار ما نأخذه أكثر مما نعطيه، وتوقفنا عن دفع فاتورة استحقاقاتنا العلمية، وتركنا كتاب الله وهجرناه فكان أكثرنا عُمياً.

3.الابقاء على ما هو كائن وهو يشبه الخيار الأول ولكنه يختلف عنه من حيث أنه يتضمن تغييراً في الأساليب والطرق ومن هنا يجب علينا أن نبحث عن ذاتنا ولا نسعى للتقليد، فلنعد إلى خصوصيتنا ومنهجنا القرآني الذي سيهدينا للطريق الصحيح.

وإذا أردنا دراسة الخيارات المطروحة فيجب أن نقول أن أنصار المواجهة والتحدي يرفضون المعايير العالمية لحقوق الإنسان، فمثلاً بحجة الخصوصية الثقافية يرفض البعض كل ما هو جديد، وبالتالي يقوم أنصار هذا الخيار برفض الديموقراطية الغربية على أساس أن لدينا نظاماً للشورى, والأهم من ذلك كله أن الحديث يتم حول الهوية العربية وكأن هناك اتفاق على محتواها فالحقيقة أن هناك صراع ثقافي دائر ومحتوم بين جماعات سياسية وثقافية عربية، إذ أن هناك صراع بين القوميين والإسلاميين يدور حول سؤال: هل نحن عرب أولاً أم نحن مسلمون أساساً؟

وهذا الصراع الخطير أدى إلى نشوء الفكر المتطرف لدى جماعات متعددة في المجتمع الإسلامي، وأخطر من ذلك بزغت حركات إرهابية تحاول تحقيق الهدف الإستراتيجي وهو إقامة الدولة الإسلامية.

ويرى محي الدين اللاذقاني أننا في العالم العربي والإسلامي أسرفنا في الهجوم على العولمة قبل أن تصل وحفرنا كافة "المتاريس" اللازمة للدفاع عن الهوية العربية دون أن نسأل أنفسنا إن كانت تلك الهوية موجودة أو نتأكد في حال وجودها من أن العولمة قادمة لمحوها مع غيرها من الهويات المحلية في دول الأطراف لصالح مركز لا يقبل إلا أن يكون كل شيء في العالم على شاكلته.

ومن هنا يمكن القول أن الحضارة الإسلامية عليها أن تواجه العولمة لأنه إذا كان الخيار هو الاندماج والتعايش معها فهذا يعني في ظل الظروف الراهنة أن هذه الحضارة ستذوب في ظل العولمة. وإذا ما اخترنا هذا الخيار "خيار الاندماج" فيجب أن نكون مؤهلين لذلك لنتمكن من الصمود ولا ندخل في إطار التهميش بمعنى حتى لا تكون أثار العولمة مميتة لنا يجب الاستفادة من كل الامكانات التي توفرها العولمة للنهوض وليس للخضوع.

*بكالوريوس علوم سياسية /باحثة سياسية في مركز جنين للدراسات السياسية، إلى جانب القيام ببعض المهمات الصحفية.

(1)ياسر عبد الجواد، مجلة المستقبل العربي، عدد 252، شباط 2000، تحليل لكتاب العولمة ليست الخيار الوحيد، منير خمش، مركز دراسات الوحدة العربية، لبنان، صفحة 182

(2) أحمد سلامة، العولمة والعروبة من الصراع إلى الأمل، عمان، دائرة المكتبة الوطنية 1999، صفحة 37

(3) سيار الجميل، العولمة والمستقبل استراتيجية تفكير من أجل العرب والمسلمين في القرن الحادي والعشرين، عمان، الأهلية للنشر،ط1،2000، صفحة 77

(4) د.برهان غليون، ثقافة العولمة وعولمة الثقافة،دار الفكر المعاصر،ط1، 1999، صفحة 16+17

(5) مهيوب غالب أحمد، المستقبل العربي، عدد 256 ،حزيران 2000،صفحة 61

(6) سيار الجميل، مرجع سابق،صفحة 91+92

(7) أ.د محمد الحارثي، العولمة والهوية، جامعة فيلادلفيا،ط1،1999،صفحة 169

(8) مهيوب غالب أحمد ، المستقبل العربي، مرجع سابق، صفحة 61

(9) محمد السمان، موقع الإسلام في صراع الحضارات والنظام العالمي الجديد، دار النفائس، ط1،1995، صفحة 15

(10) محمد السماك، المرجع السابق، صفحة 17

(11) محمد السماك، المرجع السابق،صفحة 153

(12) د.سيار الجميل، مرجع سابق، صفحة 124.

(13) د. سيار الجميل، مرجع سابق، صفحة 128.

(14) اني أعتقد أن الولايات المتحدة الأمريكية لن تستمر في قيادة العالم وعولمته ولابد أن تبرز قوى أخرى، وإني أرجح أوروبا واليابان والصين لذلك،وأشترك في هذا الرأي مع الكثير من المفكرين من هم الأستاذ فخري الهواري في مقال له مجلة السياسة الدولية عدد 126 بعنوان "هل يشهد القرن الواحد والعشرون انهيار الولايات المتحدة؟"

(15)د.السيد يسين، العولمة والطريق الثالث، ميريت للنشر، القاهرة، 199،صفحة 41

(16) د.عبد الباري الدرة، العولمة والهوية، أوراق المؤتمر العالمي الرابع لكلية الأداب، جامعة فيلادلفيا،ط1،1999، صفحة 61

(17)صالح السنوسي، العولمة والهوية، أوراق المؤتمر العالمي الرابع، مرجع سابق، صفحة 45

(18)أسامة الخولي، العرب والعولمة، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، ط1، 1998، صفحة 256

(19) كامل أبو صقر، العولمة، دار الإسلام، بيروت،ط2،2000،صفحة 145

=============

#قراءة في كتاب الرئيس الأميركي الأسبق " نيكسون "

د . عبد الحكيم الفيتوري 6/3/1424

07/05/2003

( اقتناص اللحظة )

صدر للرئيس نيكسون قبل هذا الكتاب ثمانية كتب سياسية ، إلا أن هذا الكتاب الجديد قد يكون أهمها على الإطلاق لأنه يعالج موضوعا يشغل بال كل دول العالم ، ويهمنا نحن المسلمين والعرب بصورة خاصة ؛ ذلك أن الرئيس نيكسون قسم العالم إلى ثلاث مناطق رئيسة من حيث دور الولايات المتحدة وظيفتها في قيادة العالم الجديد . وهذه المناطق هي المثلث الباسيفيكي ( روسيا – الصين – اليابان ) ، العالم الأطلسي ( أميركا – أوروبا ) ، النصف الجنوبي ( العالم الثالث ) .

وإذا كان هذا التقسيم اعتمد الجغرافيا أساسا له ، فإنه تجاوز ذلك تماما عندما خصص فصلاً كاملاً عن ( العالم الإسلامي ) ، راسما صورة هذا العالم كما هي في الذهن الأميركي والغربي ، محاولا تحليل أوضاعه وبنيته الإيديولوجية والسياسية ، محددا الاقتراحات والمخططات التي يدعو الولايات المتحدة إلى اعتمادها في تعاملها معه .

والذي يهمنا من هذا الكتاب هذا الفصل بالذات الخاص بالعالم الإسلامي ؛ لما يتضمنه من تصوير للعالم الإسلامي بعين أميركية ؛ ولما يقدمه المؤلف من وصفات ومقترحات محددة لاعتمادها أساسا في التعامل مع هذا العالم الإسلامي تحت مظلة النظام العالمي الجديد.

رؤية نيكسون للعالم الثالث :

يخصص " نيكسون " الفصل السادس من الكتاب للنصف الجنوبي من الكرة الأرضية ( العالم الثالث ) وهو يصف هذه المنطقة من العالم بأن طريقها إلى التطور الاقتصادي تعترضها عراقيل صعبة ، وحكومات فاسدة ، وسوء سياسة اقتصادية ، وسوء توجيه للإستراتيجيات الإنمائية (ص233) . ويصف كل هذه المشكلات بأنها مشكلات ذاتية وضعت دول المنطقة في حلقة مفرغة من الفقر تعجز عن الخروج منها .

ويرى نيكسون أنه ( لا يمكن التغلب على هذه العراقيل ما لم نطمئن إلى أن نجاح الحرية في النصف الجنوبي سوف يحل محل سقوط الشيوعية في العالم ) (ص234) . يستعمل نيكسون كلمة الحرية كتعبير ايديولوجي بديل عن الشيوعية ، معتبرا أن المفهوم الأميركي للحرية هو البديل الوحيد ، نافيا وجود أي مفهوم آخر ، أو أي بديل ايديولوجي آخر .

رؤية نيكسون للعالم الإسلامي المعاصر :

يعالج نيكسون في الفصل الخامس من الكتاب موضوع العالم الإسلامي .

ويستهل هذا الفصل بتقديم صورة بالغة السوء عن نظرة الأميركيين إلى المسلمين . فيقول : إن الأميركيين ينظرون إلى المسلمين على أنهم غير متحضرين ، برابرة ، مزاجيين ، لا يستقطبون الانتباه إلا لأن بعض قادتهم يحكمون مناطق تحتوى على ثلثي الاحتياطي العالمي المعروف من النفط . ( ص194)

والأميركيون يذكرون الحروب الثلاثة التي شنها العرب للقضاء على إسرائيل ، ويذكرون الرهائن الأميركيين الذي يعتقلهم الخمينيون المتعصبون ، ويذكرون عملية الهجوم الإرهابي على أولمبياد ميونيخ التي قام بها فلسطينيون من منظمة أيلول الأسود ، ويذكرون مذابح الميليشيات الإسلامية في لبنان ، وتفجير الطائرات المدنية بواسطة سوريا وليبيا ، ومحاولة صدام حسين ضم الكويت على الطريقة الهتلرية . ويلخص " نيكسون " هذه الصورة بقوله : ليس لأي أمة في العالم ، ولا حتى للصين صورة سلبية في الضمير الأميركي مثل صورة العالم الإسلامي . (195) .

رؤية الإدارة الأمريكية للإسلام :

وينتقل نيكسون بعد ذلك إلى الأمر الجوهري الذي يبدو أنه هو بيت القصيد ، فينقل عن مراقبين قولهم : إن الإسلام سوف يصبح قوة جيو سياسية متعصبة ، فمن خلال نمو سكانه ومن خلال تبوئه مركزاً مالياً مهما ، سيفرض تحديا رئيساً يحتم على الغرب أن يقيم تحالفا جديدا مع موسكو للتصدي لعالم إسلامي معاد وعدواني . ( ص 195) . ويذكر " نيكسون" أن هذا التحليل ينطلق من اعتبار الإسلام والغرب عالمين لا يلتقيان ، وأن للإسلام نظرية تقسم العالم إلى قسمين : دار الإسلام ودار الحرب ؛ حيث يجب القضاء على القوى غير الإسلامية .

نيكسون يجرح ويداوي :

لكن " نيكسون" يبادر بعد ذلك إلى طمأنة الغرب بأن كابوس هذا السيناريو لن يتحقق ابدا ، فالعالم الإسلامي أكبر وأكثر تنوعا من أن يحركه قرع طبل واحد . ( 195) . ويقول: إن العالم الإسلامي ليس الشرق الأوسط والوطن العربي ، ولكنه أكثر من 850 مليون إنسان سدس البشرية ، يعيشون في 37 دولة . إن هذه الأمم تنقسم إلى 190 اثنية ، وتتكلم مئات اللغات واللهجات الخاصة ، وتنتمي إلى ثلاث مجموعات دينية : السنة ، والشيعة ، والصوفية . ويدعي نيكسون أن ثمة عاملين مشتركين في العالم الإسلامي ، وهما الإسلام والاضطرابات السياسية (ص169) .

نيكسون يعرف الإسلام كما يعرف أبناءه !

ويعترف في الوقت نفسه أن الإسلام ليس دينا فقط ، ولكنه أساس حضارة رئيسة ، يقول : إننا نتحدث عن العالم الإسلامي كشخصية واحدة ، ليس لأنه يوجد مكتب سياسي يوجه شؤونه السياسية ، ولكن لأن كل الأمم الإسلامية تشترك في تيارات سياسية وثقافية تصب في مجموع الحضارة الإسلامية . (ص196) . ويقول : إن اللحن السياسي نفسه يتردد في طول العالم الإسلامي وعرضه بصرف النظر عن الفوارق بين الدول المختلفة . (ص196) . ويقول : إن المشاركة في العقيدة والسياسة تولد تضامنا مائعا ولكنه تضامن حقيقي ، فعندما يقع حادث رئيسي في جزء من العالم الإسلامي تهتز له سائر الأجزاء . (ص196) .

نيكسون يحدد عوامل الصراع مع الإسلام :

يحدد نيكسون ثلاثة عوامل تجعل الصراع أمراً لا مفر منه مع العالم الإسلامي ، وهذه العوامل هي : الديموغرافيا ، والاقتصاد ، والتوجهات السياسية .

عن الديموغرافيا يقول : إن الانفجار السكاني في العلم يتمركز في العالم الإسلامي(ص197) فعدد سكان الشرق الأوسط وحده سوف يتضاعف في حدود عام 2010 .

وعن الاقتصاد يقول : إن النمو الاقتصادي لن يتحقق بنفس وتيره النمو الديموغرافي ليمنع هبوطا في مستوى المعيشة مما يحول دون قدرة الحكومات على مقايضة السلام بالتهديدات بعدم الاستقرار . ويذكر في هذا الإطار مشاكل المياه ، والحدود الوطنية . إلا أنه لا يذكر شيئا عن دور الولايات المتحدة في إثارة هذه المشاكل وعرقلة حلها .

وعن التوجهات السياسية يقول: إن الأنظمة السياسية وهي أوتوقراطية بغالبيتها ، ودكتاتورية في أصولها ، تعتمد على احتكارها للقوة أكثر مما تعتمد على دعم الشعوب لها ، والليبرالية السياسية أدت غالبا إلىالتمزق أكثر مما أدت إلى الديمقراطية (197) .

وشهد شاهد من أهلها :

يقول:إن نجاح الإسلام في امتحان التصدي للشيوعية كان أفضل من نجاح المسيحية (198) .

ويتحدث " نيكسون " عن التراث الحضاري الإسلامي بموضوعية ويقول : إنه في الوقت الذي كانت أوروبا غارقة في ظلمات العصور الوسطى كانت الحضارة الإسلامية في عصرها الذهبي ، فقد قدم العالم الإسلامي مساهمات جمة في العلوم والطب والفلسفة (199).

وهنا يربط " نيكسون " بين هذا الماضي وآفاق المستقبل الإسلامي عندما يقول : تمثل هذه الانجازات ما كان عليه العالم الإسلامي في الماضي ، وتشير إلى ما يمكن أن يكون عليه في المستقبل إذا وضع حد لعواصف الحرب المميتة ولعدم الاستقرار السياسي . فالعالم الإسلامي عبارة عن حضارة ضخمة تبحث عن شخصيتها التاريخية (199) .

رؤية نيكسون للحركات السياسية في المنطقة :

يقسم " نيكسون" الحركات السياسية في العالم الإسلامي إلى ثلاثة تيارات فكرية هي : الأصولية – الراديكالية – الحداثة .

ويقول : إن سكان العالم الإسلامي مرشحون للثورة : إنهم شباب أكثر من 60 بالمئة منهم تحت سن الخامسة والعشرين ، إنهم فقراء ، إن متوسط الدخل الفردي – بما في ذلك الدول الغنية بالنفط في الخليج – يبلغ 1600 دولار في السنة مقارنة بمبلغ 21,000 دولار في الولايات المتحدة (203) .

ويقول : إن 27 بالمئة فقط من شعوب العالم الإسلامي تعيش في دول ديمقراطية ، وتلقى الحركات الأصولية الإسلامية هوى لدى الناس ليس بسبب ما تطرحه ولكن بسبب ما تعترض عليه ( 203).

نيكسون يدعو للوقف في وجهة المد الإسلامي :

يدعو " نيكسون " إلى ( دعم مصالحنا ومصالح أهل التحديث في العالم الإسلامي ) . ويقول عنهم : إنهم يريدون إن يقدموا إلى شعوبهم بديلا عن الإيديولوجية الأصولية المتطرفة وعن العلمانية الراديكالية .

ويقول في موضع أخر : للتأثير على التطور التاريخي في العالم الإسلامي ينبغي علينا عدم صياغة استراتيجية تطبق سياسة واحدة في كل الدول الإسلامية ، إنما علينا اختيار نقاط مفصلية من أجل وجودنا ، علينا إرساء شراكة مع دولة عصرية مختارة نشاركها المصالح والأولويات ويكون لها ثقلها في المنطقة (ص205) .

كما يقول : ومن خلال العمل معها لمعالجة قضايا سياسية وأمنية ، ومن خلال تقديم النصح والمساعدة لتطوير نموها الاقتصادي وبروزها التدريجي كنماذج ناجحة داخل العالم الإسلامي ، فإننا نسرع إمكانات التحديث في كل المنطقة . (ص205) . ومن الواضح أن الهدف هو الاستيعاب ( عن طريق التحديث ) وقطع الطريق أمام أي انفلات إسلامي من قبضة الهيمنة الأميركية .

وفي هذا الإطار يسمي " نيكسون " أربع دول يرى أنها منطقيا ، أقرب إلى الشراكة مع الولايات المتحدة وهي : تركيا ، وباكستان ، ومصر ، واندونيسيا . ويتابع : إن سياسة اختيار الشركاء لن تحقق نجاحا فوريا ، ولكن سيكون للولايات المتحدة بعد جيل واحد تأثير على التطور التاريخي للعالم الإسلامي . (208) .

الإسلام هو التحدي الحقيقي للإستراتيجية الأميركية :

ويعترف " نيكسون " أن العالم الإسلامي يطرح أعظم تحد للسياسية الخارجية الأميركية في القرن الواحد والعشرين (209) ، ولذلك فإنه يقترح على السياسة الأميركية تجنب ( ثلاثة أوهام قاتلة ) وهي :

1-وهم الإطار الأمني الشامل .

2-وهم مراقبة التسلح الإقليمي .

3- وهم إعادة توزيع الثروة الإقليمية .

اسرائيل والنفط لا غير :

وكم يبدو نيكسون صادقاً وموضوعياً عندما يقول : إن المصالح الأميركية المباشرة في الشرق الأوسط تنحصر في اثنين هما النفط وإسرائيل ) (ص217) .

ويتحدث عن اشكالية هذه العلاقة ، مؤكدا على قاعدة أساسية وهي : علينا تأمين حياة إسرائيل والعمل مع الدول العربية المعتدلة لتأمين سلامة الخليج الفارسي . (217) .

أمن إسرائيل بعد عقدي وليس سياسي !!

يقرر " نيكسون" ذلك بقوله : إن التزامنا بوجود وسلامة إسرائيل هو التزام عميق ، فنحن لسنا مجرد حلفاء ، ولكنا مرتبطون مع بعض بأكثر من قصاصة ورق ، إنه التزام معنوي ، وخلافاً للاعتقاد فإن إسرائيل ليست مصلحة استراتيجية للولايات المتحدة .. إن التزامنا بإسرائيل ينطلق من شرعية الحرب العالمية الثانية ، ومن المصالح المعنوية ولايديولوجية بتأمين بقاء الديمقراطيات . لن يجرؤ رئيس أميركي أو مجلس كونغرس أبدا على السماح بتدمير دولة إسرائيل . (ص218) .

ويحدد نيكسون ثلاثة أسباب للمضي قدما في مسيرة التسوية السياسية في الشرق الأوسط :

السب الأول : هو أن اسرائيل حصلت منذ منتصف السبعينات من الولايات المتحدة على مساعدات مباشرة وغير مباشرة تبلغ قرابة 70 مليار دولار .

السبب الثاني : أن الصراع يخلق وضعا يمكن أن يجر الولايات المتحدة إلى حرب تضطرها إلى استعمال الأسلحة النووية .

السبب الثالث : أن خدمة مصالح الولايات المتحدة واسرائيل معا تكن من خلال تسوية تقوم على مقايضة الأرض بالسلام .

وينهي " نيكسون " هذا الفصل من كتابه معترفا بأن العالم الإسلامي قاد المسيحية لمدة خمسة قرون من عام 700حتى عام 1200في ميادين قوة الجغرافيا السياسية ( الجغراسيا ) ومستوى المعيشة ، والدين ، والقانون ، ومستوى التعليم في الفلسفة والعلوم الثقافية . ولكن عقودا من الحروب قلبت الطاولة ( ص231) فكما أن المعرفة التي جاءت من الشرق اطلقت حركة النهضة في الغرب ، فقد حان الوقت ليساهم الغرب في نهضة العالم الإسلامي

=============

# مركز الثقافة الإسلامية في اسطنبول..شعاع ينبعث من أرض الخلافة الإسلامية

طه عبد الرحمن 20/3/1424

21/05/2003

35 ألف صورة من المواقع التاريخية بالعالم الإسلامي 59 ألف مجلد لخدمة الثقافة الإسلامية, مسابقات دولية للعمارة الإسلامية, تصحيح الصورة العربية و الإسلامية بالخارج, تقوية أواصر التعاون بين الشعوب الإسلامية ..تلك هي أهداف وأنشطة مركز الثقافة الإسلامية في اسطنبول والذي أخذ على عاتقه مهمة الحفاظ على التراث الإسلامي وحمايته من الاندثار حيث يضطلع المركز بدور بارز في إبراز التراث الإسلامي،والثقافة الإسلامية، ومسيرة الحضارة الإسلامية عبر العصور المختلفة، وتنوع نشاطه لخدمة هذا الهدف.

و للتعرف على الأهداف و الدور الذي يقوم به المركز في نشر الحضارة الإسلامية. تحدث الدكتور نزيه معروف ـ رئيس دائرة الإعلام بالمركز لـ" الإسلام اليوم" عن دور المركز في تسجيل وحفظ المواقع التاريخية بالعالم الإسلامي، و دور المركز في نشر الثقافة الإسلامية في ظل التحديات الراهنة التي تسعى إلى النيل من خصوصيات المجتمع الإسلامي, و دوره في تصحيح الصورة العربية و الإسلامية بالخارج، إضافة إلى حديثه عن قضايا أخرى ذات الصلة..

أهداف المركز

سؤال:ما أهداف المركز من نشر الأبحاث التاريخية، و دعم الثقافة الإسلامية؟؟

جواب:المركز هو أحد روافد منظمة المؤتمر الإسلامي، و يقع مقره في اسطنبول بتركيا، و يعتبر الإعلام العلمي من المجالات الأساسية التي اهتم بها المركز كمجال حيوي للتعريف بمجالات الحضارة الإسلامية, و تشجيع الدراسات حولها، بهدف إثارة المزيد من الاهتمام ضمن مجتمعاتنا الإسلامية، و زيادة فعاليات الحوار الحضاري و الثقافي بين الشعوب و الأمم و تشجيع الدراسات و عمليات التوثيق في هذا المجال إيمانا من المركز بأهمية الاهتمام بقضايا الأمة، و تحريك جهود التنمية للدول الأعضاء في منظمة المؤتمر الإسلامي.

و يركز المركز على تحقيق أهدافه من خلال جميع الوسائل الإعلامية العلمية المتاحة أمامه من وسائل الإنترنت، و إصدار المنشورات و نشرته الإخبارية و إعداد الأفلام التوثيقية، و إقامة المعارض و تنظيم الندوات و المؤتمرات و الحلقات الدراسية و المحاضرات و إنشاء مكتبة متخصصة تشمل أهم الكتب و الإصدارات التي تعني بموضوعات التراث و التاريخ و الفنون و الدراسات الإسلامية. و لذلك أنشأت إدارة المركز أرشيفًا خاصًا بصور المعالم التاريخية و التراثية في العالم الإسلامي و نظمنا المسابقات الدولية في مجال العمارة الإسلامية و فن الخط و الحرف اليدوية و التصوير الفوتوغرافي و إعداد المواد الإعلامية و البيانات الصحفية حول هذه النشاطات، و موافاة وسائل الإعلام بها لتعريف الباحثين و الدارسين و المهتمين في هذا الميدان.

سؤال:وما دور المركز في نشر الثقافة و الحضارة الإسلامية و إبرازها للباحثين في ظل التحديات الراهنة التي تنال من خصوصيات المجتمع الإسلامي؟

جواب:لدينا تحركات و نشاطات كثيرة في هذا الاتجاه، و هذه التحركات ليست وليدة اليوم، و ليست في الوقت نفسه رد فعل على تداعيات أحداث سبتمبر، و لكنها منذ فترة طويلة وتحديدًا منذ بداية عام1980 م ، ومنذ هذا العام أصدرنا 90 كتابًا في مجالات متعددة كنتيجة لأبحاث مبتكرة قام بها المركز في موضوعات التاريخ و الفنون و الثقافة الإسلامية و دراسة الحضارة الإسلامية.

ولخدمة الثقافة الإسلامية لدينا مكتبة تشمل كتبًا منتقاة تصل إلى 59 ألف مجلد، أما الدوريات فقد بلغ عدد عناوينها 1554 ، إضافة إلى مجموعات أخرى من الميكروفيلم و الميكروفيش و أشرطة الفيديو و الألبومات و الخرائط التي تعتبر جميعا مراجع علمية هامة للباحثين لنشر الثقافة الإسلامية. و في هذا السياق يقوم المركز بتنظيم المحاضرات، حيث نظمنا قرابة 200 محاضرة علمية في مجالات التاريخ و الفنون و الثقافة الإسلامية، استضافت كبار العلماء و المفكرين في العالم الإسلامي و خارجه لإحداث حوار مشترك بين الطرفين، و لعرض ثقافتنا الإسلامية على غيرنا. و كذلك أعددنا لإنتاج شريطين وثائقيين حول نشاطات المركز لنشر الثقافة الإسلامية عبر شرائط فيديو، و كان ذلك بمناسبة الاحتفال بالذكرى الخامسة عشر لتأسيس المركز، ثم إصدار أشرطة أخرى بمناسبة الذكرى العشرين لتأسيسه.

الحفاظ على التراث العربي

سؤال:وهل يقوم المركز بتوثيق المواقع التاريخية للعالم الإسلامي لتسجيلها، و حفاظا عليها من الاندثار؟

جواب:بالفعل نقوم بهذا الدور، و هذا هدف من ضمن أهداف المركز، ولذلك لدينا أرشيف صور فوتوغرافية للمواقع التاريخية و تمثل جميع أرجاء العالم الإسلامي و تعرف بألبومات "يلديز" و يبلغ عددها نحو 35ألف صورة ، إضافة إلى مجموعات أخرى يبلغ عددها نحو 25 ألف صورة,، حيث يسعى المركز إلى إصدار مجموعات من تلك الصور على شكل ألبومات تمثل مناطق أو معالم معينة في العالم الإسلامي. و حفاظا على التراث الإسلامي يقوم المركز بأعمال الأمانة التنفيذية للجنة الدولية للحفاظ على التراث الحضاري الإسلامي، و قمنا بتنظيم مسابقات دولية باسم اللجنة للعمارة الإسلامية و التراث الإسلامي، فضلا عن جهود المركز في تنظيم العديد من المعارض الفنية في العديد من الدول الأعضاء بمنظمة المؤتمر الإسلامي و إصدار منشورات في مجال التراث بهدف حمايته في جميع أنحاء العالم الإسلامي.

إبراز الصورة الإسلامية

سؤال:ما دور المركز في إبراز الصورة الإسلامية الصحيحة بعدما أصابها من تشويه نتيجة تداعيات أحداث سبتمبر؟

جواب:المركز يستهدف من خلال نشاطه تقديم الصورة الصحيحة و الحقيقية للحضارة الإسلامية في العالم والمساهمة في تطوير الحوار بين الشعوب التي تنتمي إلى ثقافات مختلفة، و سبق أن أصدرنا كتابًا بعنوان" الغرب و الإسلام" وهو مجموعة من المحاضرات التي ألقاها متخصصون من داخل العالم الإسلامي ومن خارجه، و تربط بين العالمين الغربي و الإسلامي. كما إن كافة الأنشطة التي يمارسها المركز تخدم إبراز الصورة الصحيحة للإسلام للغرب و تعزيز التفاهم و الوئام بين الشعوب و الثقافات والحضارات.

سؤال:ولكن كيف يتعامل المركز مع المتغيرات الحاصلة في العالم بما يحقق أهدافه في نشر الثقافة الإسلامية في خضم المستجدات الدولية ؟

جواب:المركز وهو يسعى إلى تنفيذ نشاطاته التي يتصف معظمها بكونها مشروعات طويلة المدى حريص على متابعة التطورات الدائرة ليس فقط في العالم، و لكن في الدول الأعضاء بمنظمة المؤتمر الإسلامي بصفة خاصة، وعلى ضوء القرارات الصادرة عن مؤتمرات القمة الإسلامية، و المؤتمرات الوزارية، و توصيات اللجنة الدائمة للإعلام و الشئون الثقافية المعروفة ب"كومباك". وحسب المستجدات و المتغيرات الدولية فإن المركز يقوم بتعديل خطط عمله كلما تقتضي الحاجة إلى ذلك، و تنفيذها بما يتفق و احتياجات الدول الأعضاء و في المنظمة و التطورات التي تطرأ في العالم و المتصلة بنشاطاته.

كما نسعى إلى توسيع دائرة البحث التي يقوم بها المركز لتشمل تاريخ الحضارة الإسلامية و تراثها في جهات عدة من العالم الإسلامي، بما في ذلك غربي أفريقيا و جنوب شرقي آسيا و آسيا الوسطي و القوقاز و البلقان. و نأمل أن يقوم المركز في السنوات القادمة بدور فعال للتعريف بالثقافة و الحضارة الإسلامية بشكل أفضل لإبراز الصورة الحقيقية للإسلام و ثقافته في العالم.

ومن اختصاصات المركز أيضا إنه يقوم بنشر العديد من الكتب العلمية و الفنية التي أعدها المركز بمختلف اللغات مثل الطبعات العربية و الإنجليزية و التركية و الطبعة الأوردية وهي تحت الإعداد من كتاب مختصر لتاريخ الدول التركية الإسلامية عدا الدولة العثمانية و الطبعتين العربية و التركية من كتاب العلاقات العربية التركية و كتاب " الدواة العثمانية .. تاريخ و حضارة" بالعربية و التركية و الإنجليزية و الملاوية و الفارسية من كتاب "الحضارة الإسلامية في عالم الملايو"، و العديد من الأعمال الأخرى.

سؤال:وكيف يستغل المركز أنشطته المختلفة في تعزيز أواصر التعاون بين الشعوب الإسلامية ؟

جواب:المركز أنجز العديد من الأعمال التي من شأنها تقوية أواصر التعاون بين الشعوب الإسلامية من خلال الدراسات الثقافية و الموجهة في الأصل إلى العالم الخارجي كمهمة جديدة يضطلع بها المركز لتحقيق فهم أفضل، و إرساء حوار بين الشعوب التي تنتمي إلى ثقافات أخرى، من خلال هذا الهدف و اعتمادًا على الخبرة التي تراكمت لديه، ومن خلال النشاطات المختلفة فإن المركز يقوم بفاعليات أكثر للمساعدة على إيجاد وعي صحيح بالثقافة و الحضارة الإسلامية في العالم و خاصة في الغرب. و يمكن القول إن المركز يعمل على وضع أسس متينة لمؤسسة أكاديمية ذات مستوى عالٍ في ميدان المعرفة والبحث، وأصبح معروفًا في العالم الإسلامي و في خارجه حيث يحظى بتقدير الأوساط الثقافية والعلمية ، ويعمل على بذل المزيد من الجهد و اتخاذ التدابير اللازمة لتطوير نشاطه بفاعلية متزايدة وعلى مستويات أعلى في المستقبل.

التعاون مع المؤسسات الأجنبية

سؤال:وما الجهود المبذولة من المركز للتعاون مع المؤسسات الأخرى بالعالم الإسلامي، أو غيرها من المؤسسات الأجنبية الأخرى ؟

جواب:المركز يعمل على توسيع التعاون و إبرام الاتفاقيات مع العديد من المؤسسات حيث يباشر تنفيذ عدة مشروعات مشتركة مع هذه المؤسسات، كما يطور علاقات التعاون مع مختلف هيئات الأمم المتحدة في مجالات الاهتمام المشترك، وفي هذا الإطار يعقد المجلس لقاءات من خلال منظمة المؤتمر الإسلامي مع منظمة الأمم المتحدة، ولاسيما مع منظمة اليونسكو، و ذلك التعاون في مجال الثقافة و الحرف اليدوية التقليدية الإسلامية ، ضمن إطار تعيين المركز كحلقة اتصال لمنظمة إسلامية كمرحلة تعاون جديد ذي أولوية للمنظمتين يحمل عنوان" تطوير الفنون و الحرف و تنمية التراث". و من هنا يمكن القول إن المركز اكتسب خلال الثلاثة و العشرين عامًا منذ إنشائه خبرة كبيرة من المهام الموكلة إليه، إذ أصدر العديد من الأعمال المرجعية حول تاريخ العالم الإسلامي و فنونه و ثقافته. كما اتسع حيز دراساته بصفة مطردة موضوعيًا و جغرافيًا على حد سواء، و حظيت منشوراته باهتمام عالمي و أصبح يؤمه العديد من الباحثين للاستفادة من الإمكانيات المتاحة في مكتبته و أرشيفه. و في هذا السياق أيضا أود أن أشير إلى أن نشاطات المركز و إنجازاته المدرجة ضمن خطة عمل تعكس مرحلة التطور الذي وصلها و التي تتزامن مع بداية قرن جديد و ألفية جديدة إضافة إلى التطورات الكبيرة التي تشهدها العلاقات الدولية والثقافية والتي ستحمل معها تحديات جديدة لمنظمة المؤتمر الإسلامي، و لذلك فمن المنتظر أن يقوم المركز في الفترة القادمة بمهام إضافية في إطار المنظمة الأم ، و خاصة إبراز الثقافة الإسلامية على كافة الأصعدة ، حيث ستكون الثقافات و الحضارات ممثلة من خلال مؤسساتها العلمية الدولية.

سؤال:ذكرت أن من ضمن أهداف المركز إحياء الحرف اليدوية بالعالم الإسلامي، فكيف الاهتمام بهذه الحرف المعبرة عن خصوصية التراث الإسلامي؟

جواب:المركز يعطي اهتمامًا خاصًا ـ بالفعل ـ لموضوع تنمية الحرف اليدوية في الدول الأعضاء لمنظمة المؤتمر الإسلامي من خلال استحداث برنامج لتشجيع إحياء هذه الحرف و حمايتها و تنميتها. و لذلك نظم المركز احتفاليات لحرفيي العالم الإسلامي و شارك فيه موضوعات حرفية مختلفة. و ضمن هذا البرنامج نظم المركز أيضا ندوات حول آفاق الصناعات التقليدية بدول العالم الإسلامي والحرف اليدوية في العمارة الإسلامية والحفاظ على حرفة صناعة المشربيات والزجاج المعشق و السجاد و الكليم وغيرها من الحرف التقليدية، و ذلك في محاولة إحياء صناعتها.

============

#لماذا فشل مشروع النهضة التغريبي ؟

د. محمد مورو 17/1/1426

26/02/2005

بعد عشرات السنين من اندلاع حركة التحرير الوطني في العالمين العربي والإسلامي ودول العالم الثالث عموماً، وبعد سلسلة من التجارب والمحاولات لتحقيق وبناء النهضة، اكتشفت الجميع قادة ومفكرين أن مشروع النهضة التغريبي، أي الذي استند على وسائل وأساليب وأفكار مستمدة من الشرق أو الغرب قد وصل إلى طريق مسدود، وأنه لم يحقق أياً من أهدافه المرجوة.

وكان من الطبيعي أن يطرح السؤال نفسه، وهو لماذا فشل مشروع النهضة التغريبي ووصل إلى هذا المستوى من الانهيار واللاجدوى؟‍! وفي رأينا أن هذا المشروع النهضوي الذي استند إلى أ فكار الحضارة الغربية وأساليبها والذي تجاهل خاصية الذات الحضارية لبلادنا كان من الطبيعي والمؤكد أن يصل إلى طريق مسدود؛ لأنه افتقد إلى المقومات البديهية لأية نهضة، ولأنه تجاهل العديد من الحقائق العلمية حول عملية النهضة.

السياق الحضاري

إذا افترضا حسن النية في هؤلاء الذين قادوا محاولات النهضة في بلادنا في تاريخنا المعاصر فإننا نجدهم قد وقعوا في خطأ علمي فادح حينما تعاملوا مع منهجية التغيير بمعزل عن السياق الحضاري لها؛ لأنه في الواقع لا منهج هناك مجرداً من مقولاته ونماذجه؛ لأنه تشكل في أحشاء النماذج التي عالجها واكتسى باللحم من خلال الموضوعات التي ولّدها، والمنهج يقوم ويتشكل عبر عملية معقدة من خلال نمط مجتمعي محدّد مما يحدّد له مبادئه ومقولاته ونماذجه فالمنهج الأوروبي في النهضة تكوّن عبر تاريخ النمط الحضاري الأوروبي، وبالتالي فإن هؤلاء الذين أخذوا منهج التغيير الأوروبي، حتى لو رفضوا نظرياً المقولات الفلسفية الحضارية الأوروبية، إنما هم في الحقيقة يخدعون أنفسهم؛ لأن هذا المنهج خرج من خلال منظومة حضارية شاملة منهجاً ونماذج ومقولات وبالتالي فإن هذا النهج اكتسى وأخذ هذا الطابع الحضاري المميز له، ولكل حضارة شخصيتها المتميزة، ويكاد يكون هؤلاء الداعون إلى ما يسمى بالتطعيم الحضاري يتناسون حقيقة علمية معروفة وهي أن التطعيم في علم النبات مثلاً لا ينجح إلا بين النباتات المتقاربة عائلياً، وبديهي أن التطعيم والتلقيح بين الحضارة الإسلامية القائمة على التوحيد والعدل والحرية ورجاء الآخرة والحضارة الغربية القائمة على الوثنية، والمنفعة اللا أخلاقية والقهر والنهب أمر غير ممكن عملياً وموضوعياً.

إن الذين حاولوا بناء نهضة على أسس منهجية غربية لم يدركوا حقيقة موضوعية هامة، وهي أنهم لا يطبقون هذا المنهج في الفراغ، بل إن شعوباً عاشت تجربة حيّة من الإسلام لفترة طويلة جداً، إننا أمام حضارة إسلامية عريقة متميزة وثرية، حضارة تمتلك أصلاً نظرياً إلهياً، وتمتلك ثروة من التطبيقات الاجتماعية الهائلة من خلال ما حدث طوال التاريخ الإسلامي من علاقات وحالات سياسية واقتصادية واجتماعية ارتبطت بالنص الإسلامي أو حادت عنه وواجهت هذه الحضارة مشكلات في كافة الميادين، وترتّب على تلك المشكلات فقه وثقافة وإجابات نظرية وتطبيقية في مختلف الفروع والمجالات الفكرية والسياسية والاجتماعية والاقتصادية والنفسية، فضلاً عن ميادين العلوم الرياضية والطبيعية والفلكية.

وهكذا فإن القفز على هذا الواقع بكل أوجه الصحة والخطأ والإنجاز، والقصور فيه سبب فجوة هائلة في الوعي والسلوك على حد سواء، وإهدار كل الأساسات فوق التربة أو تحتها، بحيث كان علينا أن نسير منذ البداية وفقاً للمنهج الأوروبي، ناهيك عن أننا نسير في الطريق الخطأ، الأمر الذي يستلزم مئات السنين زمنياً هذا إذا أمكن إخلاء الواقع من الوجدان والتراث الإسلامي وهو مستحيل قطعاً.

إن علم الاجتماع قد أكد على حقيقة بديهية لم يراعِها دعاة النهضة التغريبية وهي أن المنهج العلمي في أساسه أنماط اجتماعية معينة ينبغي أن يتم بمنهج هذه الأنماط ذاتها وليس بمنهج مغاير، وإلا فإن الأخطاء ستكون بالجملة أي أنه لا يمكن استقرار عملية النهضة والتنمية في مجتمعاتنا بمنهج مستمد من نمط الحضارة الأوروبية مثلاً، وبالتالي فإن شرط النهضة هنا هو أن تقرأ الواقع قراءة صحيحة، وشرط الصحة هنا أن تكون القراءة من خلال منهج نابع من هذا النمط الحضاري الذي نحن بصدده، وليس من خارجه.

غياب البعد الثقافي

محاولات النهضة الحديثة في بلادنا تواكبت مع عملية التحرر الوطني منذ الاستعمار ولا شك أن الصراع مع الاستعمار صراع سياسي واقتصادي وعسكري فلا شك أن الغرب الاستعماري قد استعمل ضدنا أقسى الوسائل العسكرية وأبشعها لتحقيق عملية القهر والنهب، وكذلك لم يتورّع عن استعمال كل الوسائل السياسية والاقتصادية في تحقيق أهدافه، وبالتالي كان من الطبيعي أن تشن حركات التحرر الوطني الحرب ضد الاستعمار عسكرياً وسياسياً واقتصادياً.

ولكن البعد الثقافي لتلك المواجهة كان غائباً، وكأن هذا هو السبب بالتحديد في فشل مشروع النهضة بعد رحيل الاستعمار، بل الوصول إلى طريق مسدود أهدر كل المكاسب التي تحققت في المجالات العسكرية والسياسية والاقتصادية للمواجهة، بل أقسى من ذلك وأمر أصبحنا مهددين بعودة الاستعمار بجيوشه وأساطيله كالمسابق وبآليات أكثر تعقيداً وأكثر كفاءة.

إن البعد الثقافي للمواجهة كان يعني ضرورة تصفية الرواسب الثقافية الاستعمارية حكومياً وشعبياً، لأن هذا البعد الثقافي مرتبط بتحطيم أو بناء المكونات العقدية والفكرية والحضارية والأنماط المعيشية والإنتاجية وأشكال العلاقات الجماعية والفردية وتحطيمها يعني هدم القلعة من الداخل ومسخ الشخصية وجعلها في حالة عدم قدرة على الصمود والمواجهة فضلاً عن تحقيق مشروع النهضة، أما بناؤها بصورة صحيحة فيعني التماسك الفردي والجماعي، والقدرة على المواجهة ـ والقدرة على تحقيق الذات الحضارية وتحقيق مشروع النهضة بالتالي.

التغريب أدّى إلى الاستبداد

ما حدث بسبب التغريب يمكن أن نشبّهه بنوع من الانفصال الشبكي بين الشعوب والنخبة الحاكمة، فأصبحت الشعوب بمعزل حقيقي عن عملية النهضة ولم تستطع النخبة السياسية أو الفكرية بحكم محدوديّتها أن تنجز عملية النهضة. إن الشعوب كانت وما زالت تحمل الوجدان الإسلامي، كانت وما زالت معبأة بالتراث ومفعمة بالعقيدة، ولا يمكن القضاء على هذا الوجدان أو طريقة التفكير بسهولة، وبالتالي فإن فرض مشروع نهضوي غير قائم على وجدان الجماهير وعقيدتها وحسّها الثقافي وتراثها التاريخي يجعل تلك الجماهير لا تفهم هذا المشروع، ولا تتحمس له أو ترفضه وتعاديه أو يحدث لها نوع من ازدواج الشخصية أو انفصامها، وبالتالي يعود إلى سلسلة من الأخطاء والخطايا تجعل مشروع النهضة في مهب الريح، وإذا كانت النخبة المغتربة جادة في محاولة تحقيق نهضة على أساس تغريبي فإن رفض الجماهير لهذا المشروع النهضوي التغريبي أو عدم حماسها له يجعل تلك النخبة تحاول أن تجبر الجماهير على الانخراط والحماس في هذا المشروع، وبما أن التركيبة الثقافية والوجدانية للجماهير لا تستجيب للتحريض الإعلامي النخبوي بهذا الصدد، فإن النخبة الحاكمة تجد نفسها لاجئة في النهاية إلى قمع الجماهير والاستبداد بها وإجبارها بالقهر على الانخراط في هذا المشروع وبالطبع تبدأ المسألة من هذه الزاوية وتنتهي إلى أن يصبح الاستبداد والقهر سمة أساسية للحكم التغريبي، بمعنى أن يصبح للاستبداد لبنته الخاصة والذاتية حتى بصرف النظر عن مشروع النهضة التغريبي أي أن التغريب يوجد الاستبداد خلقاً.

كلمة في مسألة العلوم الطبيعية

من الأشياء التي يتشدق بها دعاة مشروع النهضة التغريبي، أنهم يستهدفون الحصول على العلوم الطبيعية أو التقنية من خلال مشروعهم التغريبي المرتبط بالمنهج التغريبي في النهضة والمنفتح على الحضارة الأوروبية التي أنجزت تقدماً علمياً باهراً.

وينبغي هنا أن نضع الكثير من النقاط فوق الكثير من الحروف في هذه القضية الخطيرة.

ينبغي أن نعرف أن العلوم الطبيعية تنقسم إلى قسمين، قسم خاص بالحقائق العلمية، والمكتشفات العلمية، وقسم خاص بتوجيه هذه العلوم في اتجاه معين، أي لإنتاج سلعة ضرورية أو كمالية مثلاً، للقضاء على مرض أو لنشر مرض، أي لإنتاج أدوات تسعد الإنسان وتساهم في راحته أو لإنتاج أسلحة الدمار الشامل، لإصلاح البيئة والمحافظة عليها أو لتخريبها وتلويثها.

أي أن هناك شقاً علمياً وشقاً قيمياً، والشق العلمي تراث إنساني يجب الاستفادة به وليس تراثاً أوروبياً، ولكن الشق القيمي للمسألة أي توجيه العلوم في اتجاه معين تراث حضاري أي خاص بتوجه وقيم كل حضارة، والحضارة الإسلامية مثلاً عندما كانت متقدمة علمياً كانت توجه هذه العلوم لإسعاد الإنسان وتلبية حاجات كل البشر، بل وكانت تسعى سعياً لنشر العلوم ولا تحجبها عن الآخرين، لأن حبس العلم جريمة في الشريعة الإسلامية الغراء، أما الحضارة الأخرى ولظلمها، حجبت هذا العلم عن الشعوب الأخرى، بل وأصدرت القوانين التي تجرّم حصول الآخرين على تلك العلوم مثل قضية الدكتور مهندس عبد القادر حلمي مثلاً، بل وتغتال العلماء في البلاد الأخرى حتى لا تحدث نهضة علمية فيها كاغتيال الدكتور المشد مثلاً".

إذاً فالعلم كحقائق ومعرفة تراث إنساني ساهمت فيه كل الحضارات والمجتمعات بل إن النهضة العلمية الأوروبية الحديثة استفادت من العلوم والمعارف الإسلامية في تحقيق تقدمها المعاصر، وبالتالي فإن الحصول على العلوم واكتسابها ليس قاصراً على المشروع النهضوي التغريبي، بل العكس هو الصحيح؛ فالحصول على العلم هدف أي مشروع نهضوي إسلامي، أما الشق القيمي في العلوم فهذا أمر مرفوض، أي الشق المرتبط بكيفية استخدام هذه العلوم.

والعجب هنا، أن مشروع النهضة التغريبي فشل حتى في الحصول على هذه العلوم لسبب بسيط هو أن الحضارة الغربية ترفض إعطاء العلوم للآخرين عن طيب خاطر، وما دام المشروع النهضوي التغريبي مشروع غير تصادمي مع الحضارة الغربية أي متعاون ومهادن لها، فهو لن يحصل على هذه العلوم بل الصحيح أن المشروع الإسلامي للنهضة هو القادر على الحصول عليها؛ لأنه سينتزعها انتزاعاً ثم يستطيع أن يهضمها حضارياً بمعنى أن يوجّهها التوجيه المتفق مع قيمه الحضارية.

=============

#الصّفقة الخاسرة

أ. د. عماد الدين خليل 15/3/1426

24/04/2005

تعود "قضية" المرأة في العقدين الأخيرين لكي تحتل موقعاً متقدماًً في ساحة الصراع الفكري، وتكون واحدة من أكثر المواضيع سخونة في العالم.

قبلها كان الغربيون هم الذين "يغزوننا" بأفكارهم ومعطياتهم وتقاليدهم بخصوص المرأة والأسرة، وكل المفردات المرتبطة بهذين القطبين الأساسيين في الحياة الاجتماعية .. كنا نستورد، وكانوا يصدرون .. وكانت تجارة رائدة أن يظهر في ديارنا مقاولون أو متعهدون كبار يمارسون مهمة الاستيراد هذا بحساب الجملة.. وكانت الصفقات تتم دون معاينة جادة للبضاعة، فكانت تحمل وهي تتدفق على موانئنا الكثير من المزيف والمغشوش الذي سرعان ما انتشر في أسواقنا، وملأها بالبضائع المدسوسة التي ضاعت في غبشها المرأة المسلمة، وتعرّضت الأسرة للاهتزاز والدمار بكل ما تنطوي عليه هذه المؤسسة من قيم تربوية تصنع مجد الأمم والشعوب، أو تقودها إلى البوار.

كانت المرأة والأسرة هناك في ديار الغرب تعانيان من ألف مشكلة ومشكلة فنُقلت إلينا كما لو كانت هي الحل، فكانت خسارتنا مضاعفة على كل المستويات وبكل المقاييس. استبدلنا الأعلى بالأدنى، بمعيار معكوس كان يصور للمتعاملين على أنه هو المقياس المطلوب والضروري في القرن العشرين.

وكانت تغذي المحاولة المعكوسة هذه، وتحرسها، وتمضي بها إلى نهاية الشوط شبكة من السماسرة في عالم الفكر والإعلام والاجتماع، قد يختصمون على كل شيء إلا في هذه.. وكانت الأصوات " المعارضة" التي ترتفع لكي تدين السمسرة الماكرة، تُكبت أو تُعزل، وأحياناً يغيب أصحابها بهذه الحجة أو تلك.

صوت الطهر والنظافة والاستقرار والأمن والتوحد كاد يضيع قبالة أصوات المهرجين الذين أريد لهم أن يدخلوا المضمار، وأن يحظوا بالفوز بأي ثمن.

كانوا يصدرون مشاكلهم عبر موانئ الفكر المفتوحة على مصراعيها، ومن خلال شبكة المستوردين والسماسرة، مخيّلين للمسلمين أن المرأة المسلمة هي التي تعاني من المشاكل والأزمات، وأن الأسرة المسلمة بحاجة إلى تعديل الوقفة الجانحة من أجل كرامة المرأة وحقها الإنساني المشروع في الحياة الحرة الشريفة!! وبهدف تجاوز الهضم والإجحاف والتحقير التي عانت منها عبر القرون.

الاستقرار النفسي، والأمن الأسري، والطهارة الخلقية، والطفولة الآمنة المتوحدة.. أصبحت مآخذ على الحياة الإسلامية، سعى السماسرة إلى استيراد الحلول المناسبة لتداركها .. والحلول كانت سموماً مركزة أطاحت بالاستقرار والأمن والطهارة، ودست في شرايين الحياة الإسلامية: الفساد والعهر والشذوذ والتفكك والخوف والدمار.

ومنذ بدايات القرن الماضي حدثنا المتحدثون والكتاب عن حدث يحمل دلالاته العميقة في هذا المجال. لقد كانت (اسطنبول) عاصمة الخلافة الإسلامية واحدة من أنظف مدن

العالم في مجالات العلاقة بين الرجل والمرأة، فلما دخلها الغربيون تحت مظلة الإصلاح والتحديث .. لمّا غزتها قوانين (بونابرت) الوضعيّة وأبعدت مفردات الشريعة الإسلامية شيئاً فشيئاً.. لما أخذ الطلبة الأتراك يذهبون إلى عواصم الغرب ويرجعون بالشهادات

أو بدونها .. بدأ الطفح الأحمر يظهر على جلد (اسطنبول) .. والزهري والسيلان وكل السموم الجنسية المدمرة تتسرب في شرايينها. ويذكر (شمتز دوملان) في كتابه (الإسلام) أنه " عندما (غادر الدكتور مافرو كور داتو) الأستانة سنة 1927 م إلى برلين لدراسة الطب لم يكن في العاصمة العثمانية كلها بيت واحد للدعارة. كما لم يُعرف فيها داء الزهري وهو السفلس المعروف في الشرق بالمرض الافرنكي، فلما عاد الدكتور بعد أربع سنين تبدّلت الحال غير الحال. وفي ذلك يقول الصدر الأعظم (رشيد باشا) في حسرة موجعة: إننا نرسل أبناءنا إلى أوروبا ليتعلموا المدنية الافرنكية فيعودون إلينا بمرض الداء الافرنكي".

كانت الخطوة الأولى .. الخطوة الضرورية.. وأعقبتها بقية الخطوات .. صار العملاق العثماني الذي دق أبواب فينا، رجلاً مريضاً، وراحت السكاكين تعمل في جسده الممزق، حتى انتهى الأمر إلى قتله تماماً على يد واحد من المحسوبين على جغرافية الإسلام.. وجاء من بعده عشرات القادة لكي يواصلوا المهمة. ومن قبلهم ومعهم، وربما بعدهم، استمرت شبكة السماسرة في دوائر الفكر والثقافة والإعلام والاجتماع تمارس مهمتها المعكوسة، فترفع شعار تحرير المرأة لكي تصل بها في نهاية الأمر إلى التعهير!

عدد ليس بالقليل من النساء الغربيات أنفسهن، كما سنرى، كن يجدن في الحياة الإسلامية.. في جمال المرأة والأسرة والطفولة المثل الأعلى والصيغة المرتجاة للأمن والاستقرار والعطاء والسعادة.. وكن يتُقْن إلى التمتع بعشر معشار ما تتمتع به المرأة

المسلمة. وأغلب الظن أن عدداً من القراء والمتابعين لا يزالون يذكرون، من بين وقائع كثيرة، ذلك المؤتمر النسائي الحاشد الذي نظمته وزيرات المرأة والأسرة في الحكومات الألمانية الإقليمية عام 1991 م والذي كان بمثابة تظاهرة نسائية رسمية ضخمة استهدفت تأكيد دور المرأة في المجتمع الألماني، وقد طالبت النساء في المؤتمر بالحقوق التي تتمتع بها المرأة المسلمة منذ أكثر من ألف وأربعمائة عام، وخاصة بالنسبة لاحتفاظ المرأة الألمانية باسم والدها بدلاً من إجبارها على حمل اسم زوجها. وحيّت النساء المحتشدات قرار المحكمة الدستورية في ألمانيا (الاتحادية) الذي أقرت فيه بعدم حتمية قيام المرأة بحمل اسم زوجها، وأنه لها الحق في الاحتفاظ باسم والدها إن أرادت ذلك.

قبل ذلك بحوالي العقدين من الزمن كانت الساحة الإيطالية قد شهدت هجوماً مضاداً آخر في مواجهة الميل بالمرأة والأسرة عما أراده لها الله سبحانه .. تلك الضغوط المتواصلة في البرلمان الإيطالي .. على بعد خطوات من الفاتيكان زعيمة الكاثوليكية في العالم .. والتي تزعمها أشد البرلمانيين ليبرالية، من أجل إقرار حق الطلاق للرجل الإيطالي، بعد حجبه القرون الطوال.

بل إن بعض النسوة الغربيات انتمين إلى الإسلام من أجل أن يذُقْن التجربة ويبعدن عن مواطن التفكك والرذيلة والعفن والقلق والسعار الذي يحكم حياة المرأة الغربية، حتى لم تعد الكثيرات منهن يأمن على أزواجهن من المعاشرة اللاشرعية، ولم يعد الأزواج أنفسهم يأمنون على الذراري والأبناء، ويضمنون انحدارهم من الأصلاب!

هذا كله يتسرب بدعاوى السماسرة الذين أطلقوا على أنفسهم دعاة تحرير المرأة.. يتسرب إلى حياتنا فيستبدل الذهب بالتراب، ويكون هذا الذي كان ..

وليس ثمة أمة كهذه الأمة المسماة تجوّزاً " بالإسلامية " تجهل كل فن مجدٍ في صيرورة الحياة وتناميها، ولكنها تحذق فن هدر الطاقة، والتفريط بعناصر التميّز والتفوّق، واستبدال الغالي بالرخيص.

في سياقات عديدة تمّت الصفقات الخاسرة في التاريخ الحديث والمعاصر لهذه الأمة .. في مجال الاقتصاد والسياسة والحرب والعلم و الأخلاق.. وهاهنا في سياق المرأة والأسرة، كان القانون نفسه يعمل عمله بوساطة جيش من السماسرة وأدعية التقدّميّة والتحرر، لكي يفرط بواحدة من أكثر الحلقات في الحياة الإسلامية تميّزاً وتفوقاً، ويحلّ محلها: التفكك والعفن والرذيلة والخراب والشذوذ والزهري والسيلان.. وأخيراً الإيدز الذي بدأ يدق الأبواب.

هذا كله كان، ولا يزال قائماً حتى اللحظات الراهنة في ديارنا، رغم أنه حوصر إلى حد كبير بقوة معطيات الصحوة الإسلامية ومطالب الفطرة البشرية التي تميل إلى الطهر والعفاف والنظافة والاستقرار، والتي لن تحظى بتحققها المأمول إلا في إطار هذا الدين.

ألا أن المفاجأة التي حدثت، فيما لم يكن أحد يحسب له أيما حساب، إن المكر السيئ حاق بأهله، وتلك هي واحدة من سنن الله سبحانه في خلقه. وليس المقصود هنا حشود السماسرة الذين مرّروا العملية؛ فهؤلاء ليسوا بأكثر من أدوات أو آلات للتوصيل.. وإنما الحياة الغربية نفسها التي أخذت تتلقى الهجوم المضاد في قضية المرأة.. في عقر دارها.. عبر العقدين الأخيرين على وجه الخصوص. وأصبح هذا "الغزو" إذا صح التعبير، أو الهجوم المضاد، يمثل بمرور الوقت هاجساً ملحاً في دوائر الحياة الغربية على مستوى السلطة والمجتمع، وأخذ يتصاعد حتى كاد يدفع بعض القيادات الغربية إلى تجاوز ما يُسمى هناك بالثوابت الديموقراطية من أجل وقف الظاهرة التي أخذت تهدّد الحياة الغربية، على ما تصوّروه هم بحكم التقاليد الفكرية والسلوكية وضغط الأعراف والمسلمات الخاطئة القادمة من عمق الزمن الأوروبي.

أمامي الآن مقال للمفكر الفرنسي (برنارسيشير) بعنوان "الحجاب العرب .. ونحن" ينطوي على بعض المعطيات المهمة، وهي تمس كما يبدو من العنوان، إحدى الحلقات المهمة في موضوع المرأة المسلمة، ولا أقول قضيتها، ألا وهو (الحجاب).. فها هو الحجاب يقتحم العري الفرنسي.. التهتك الباريسي المعروف، ويفرض حضوره في قلب المجتمع.. فكيف كانت رؤية الفرنسيين أنفسهم للظاهرة؟ كيف كانت ردود الأفعال؟

حين تحجّبت بعض الفتيات في (الليسيه) يقول (سيشير)، تحركت الطبقة السياسية، وراح يدلي كل بدلوه حول الاحترام الواجب تجاه بلد الضيافة، وهو يقصد ضرورة احترام التقاليد الفرنسية من قبل أولئك الغرباء الذين قبلتهم فرنسا ضيوفاً عليها، بغض النظر عن القيم الأخلاقية لهذه التقاليد، حتى إن أحد الوزراء هدّد باتخاذ موقف، واجتمعت أخيراً الهيئة الدستورية، في حين كاد يعلن بعض المثقفين - جهاراً - أن الوطن العلماني في خطر!

ويمضي (سيشير) إلى القول بأنه مهما بلغت قدرة عملاء العروض المشهدية على التلاعب والتأثير - وهم لم يترددوا في ممارستها بوقاحتهم المألوفة - فإن حادثاً كهذا لا يكتسب مثل هذه الأهمية ولا يثير مثل هذه الأصداء، إلا إذا كان يمس الطبقات العميقة من الوعي الاجتماعي. وبما أن من تحرّك هذه المرة ليس من أتباع (الساسة الفاسدين)، وإنما من المفكرين اللامعين الذين اجتاحتهم فجأة موجة من الغضب المفرط.. فيجب أن نبحث عن الدوافع البعيدة.. إنها أعراض (بواتييه) المرضية!

إذن فإن تراكمات التأريخ والعمق الصليبي للمثقف الفرنسي الذي لا يزال يتذكر محاولة الاقتحام الإسلامي للأرض الفرنسية وهزيمته عند (بواتييه)، هي التي تستفز في تحليل (سيشير) العقل الغربي لمجابهة ظاهرة الحجاب الإسلامي، حتى لو أدّى الأمر إلى

خرق الثوابت الديموقراطية وضرورات "التسامح وجمال الاختلاط العرقي" التي يدّعيها الفرنسيون. ويبدو لي - يقول سيشير -: إن أعراض (بواتييه) المرضية إنما تشهد على جهلنا العميق بحقائق الإسلام كما تشهد في الوقت نفسه على عودة غريبة للمكبوت تجعل

العربي (المسلم بالأخص) يحل وقتياً محل اليهودي في الاستيهام العنصري والمتوتر لغيريّة AL teroite )) قوية تنذر وتهدّد.

إنه "النسيان المذهل" و "النفي المجنون" كما يعبر (سيشير)، لأفضال الحضارة الإسلامية على الغرب"، وإذا كان العرب قد بهروا ذاكرتنا القديمة وأربكوها إلى هذا الحد ، فذلك لأنهم كشفوا عن قدرتهم على ابتكار الحضارة الأكثر ألقاً وغنى ، عندما كنا لا نزال نحن في طور التخلف، وقد لعبت الكنيسة المسيحية، في إطار هذا الكبت الكبير، دوراً لا تُحسد عليه أبداً، وآن الأوان لكي تعترف بذلك خصوصاً وأن مذهبها ما كان ليتكون لولا أن سلبت الكنز النفيس الذي وصلها من الفكر الإسلامي، ثم عملت على طمس معالمه المدهشة ".

إن الفرنسيين، والغربيين عموماً هم ضحايا التعصب - كما يقرر سيشير - ضحايا تشويه تجعلهم يتصورون أن تأريخهم هو التاريخ الوحيد الممكن، ويجعلهم يسقطون من خلال هذه الأفكار (وعسكرياً من خلال الأفعال) تحديدهم للسياسة على وقائع تاريخية وثقافية تبدو لهم متطرفة لدرجة أنهم يمضون وقتهم في ترسيخ سوء التفاهم.

وبوصفي مدرساً - يقول سيشير - فإنني أتساءل كيف لا ترون أن المشكلة الملحة ليست الحجاب، وإنما الانهيار العام لثقافة لا تعني رجال السياسة عندنا؟" وتقولون: إنكم تريدون حماية هُويّة؟ وأية هُويّة؟ ولأن الجواب لن يكون سهلاً فمن الأفضل فتح باب المناقشة والانحياز إلى الفكر وليس إلى الخوف!

" لقد أحالتنا الحيوية الدينية الإسلامية فجأة، إلى وعي مخيف، ولقد عبّر عنها بعض المثقفين المستنيرين من خلال ردود فعل مرعبة وتشنّجات غير عقلانية"

هذا بعض ما يخلص إليه (سيشير) وهو يعالج ردود الفعل الفرنسية تجاه ظاهرة الحجاب في سياق الموقف المسيحي العام من خلال الظاهرة الإسلامية ببعدها الديني وعمقها التاريخي، وهو موقف لا يعكس فكر أو عاطفة الشرائح الدنيا في المجتمع، أو حتى الساسة (الفاسدين)، ولكن المثقفين والمفكرين اللامعين

=============

#مستقبل الإسلام السياسي

مركز الشمال لتنظيم المعرفة 19/2/1426

29/03/2005

اسم الكتاب: مستقبل الإسلام السياسي

المؤلف: غراهام فولر

نيويورك، بالغراف مكميلان، 2004

Graham Fuller

The Future of Political Islam

يناقش هذا الكتاب سؤالين رئيسيين: هل يمثل الإسلام السياسي آخر معاقل المقاومة للحضارة الإسلامية أمام مدّ العولمة ذات الطابع الأمريكي، أم أنه يمثل بداية دمج الإسلام مع الحاضر بحيث يتمكن المجتمع المسلم والحضارة الإسلامية من الدخول للقرن الجديد أكثر ثقةً بأسسها الحضارية؟

وللإجابة عن هذة التساؤلات وغيرها يناقش (فولر) عبر فصول كتابه العشرة ما إذا كانت ظاهرة الإسلام السياسي مجرّد حالة انتقالية لمرحلة صعبة في تاريخ العالم الإسلامي أم أنها بداية تحوّل وتغيير حقيقيين.

يبدأ (غراهام فولر) من أشواق المسلمين لاستعادة مجد الماضي، وما حققته الحضارة الإسلامية على المسرح العالمي، والتي أعقبها حالة من التراجع الحضاري والتهميش، وما يلعبه هذا من دور في بناء تصورات المستقبل، ويتتبع بدايات الحركات الإسلامية وتطورها وإمكانياتها في إحداث تغيير حقيقي، ثم ينتقل إلى الزمن المعاصر، ويتناول الأدوار المتعددة التي يلعبها الإسلام السياسي اليوم عبر المجتمعات المختلفة، ويؤكد أن جميع هذه الأدوار ليست واضحة وجلية لمعظم الدارسين الغربيين بالرغم من أن هذه الأدوار المتعددة هي التي سُتبقي للإسلام السياسي دوراً رئيساً على المسرح السياسي في العالم الإسلامي، فالثقافة السياسية في العالم الإسلامي اليوم تركّز على عدد من القضايا الأساسية كالعدالة الاجتماعية، والحاجة لبوصلة أخلاقية، وحفظ الحضارة الإسلامية، وإعادة بناء قوة وكرامة العالم الإسلامي، والمنعة ضد تهديدات القوى الخارجية، ومشروعية الحكومات، والرفاه الاجتماعي، والعدالة الاقتصادية، وأهمية وجود حكومة نظيفة وفعّالة، ويلاحظ فولر أن الجدال والنقاش على المستوى الشعبي ليس حول قيام دولة إسلامية أو علمانية؛ وإنما ينصب على ماهية النظام الحكومي وأي الأحزاب أقدر على تناول وتحقيق هذة القضايا الأساسية.

إن الإسلاميين مجموعة متنوعة من الحركات السياسية والمبادئ والفلسفات التي تستقي جميعاً من الإسلام لتنتج أجندات وبرامج مختلفة في أزمان مختلفة. إلا أن هذه الحركات في مجملها تمثل أداة إسلامية حضارية للتعبير عن مجموعة واسعة ومتنوعة من الحاجات السياسية والاجتماعية، وشكل التعبير الإسلامي المحلي يعكس الثقافة السياسية المحلية، والحاجات والتطلعات الخاصة لمجتمع معين تحت قيادة معينة في زمن معين.

وفي العموم، عادةً ما يكون خطاب الإسلاميين ذا نزعة وطنية معادية للغرب، غير أنهم قد يُبدون قدراً من البراغماتية في هذه المسألة أيضاً إذا لم يواجهوا تحدّياً وجودياً من الولايات المتحدة.

ونظراً إلى أن الإسلاميين لم يُجَرّبوا بعد في السلطة، فإنهم يتمتعون بشعبية بين الناس في حين أن باقي الأيدولوجيات جُرّبت وأثبتت عدم نجاحها.

ويشير (فولر) إلى أن الصراع بين الأصوليين والمعتدلين ما زال في بداياته، وهو ما أنتج هذا التدرج الكبير عبر الطيف الإسلامي. وبالرغم من أن الأصولية ليست بالشيء الجديد إلا أن الضغوط السلبية محلياً وعالمياً على المجتمعات المسلمة من شأنها أن تعزّز من ردة الفعل الحضارية بالعودة نحو الأصول، بمعنى أن الأصولية الإسلامية ستجد تربة خصبة في أوساط البيئات ذات الظروف المعيشية والاجتماعية القاسية في العالم الإسلامي.

وفيما يتعلق بالمعطيات الدولية وما يحدث على المسرح السياسي العالمي من تداعيات لتيار العولمة الطاغي، فالإسلاميون في موقفهم وتعاطيهم مع هذا التوجه العالمي لا يختلف كثيراً عن العديد من الحركات التحرّرية والوطنية في العالم الثالث سواء تلك في أمريكا اللاتينية أو في أفريقيا أو في شرق آسيا، غير أن هذه الحركة التغييرية كغيرها مضطرة للتعامل مع تحدي التحديث والتمدّن، وما ينجم عنه من تغييرات اجتماعية واقتصادية وسياسية. بحيث تعمل على رفع وطأة ضغوط الحياة المدنية وتقدّم إطاراً أخلاقياً وقيمياً عاماً يحافظ على التماسك والانضباط الاجتماعي، ولذلك يرفع الإسلاميون شعار العدالة الاجتماعية ضمن الإطار الاجتماعي التقليدي ويعارضون كل ما هو غربي وأمريكي.

الإسلام والإرهاب

بالرغم من أن الإسلام السياسي والحركات الإسلامية كانت دائماً تحت الضوء تحديداً لإنها ناشطة في واحدة من أهم بقاع العالم اقتصادياً وسياسياً، إلا أن الاهتمام تزايد بفهم ودراسة هذة الحركات بعد أحداث 11 سبتمبر، واللافت أن تداعيات هذة الأحداث، والتي أنتجت الحملة الدولية للحرب على الإرهاب أحدثت تعاطفاً شعبياً واسعاً مع أنصار بن لادن، ليس تأييداً للإرهاب كفعل، وإنما تأييداً للنيل من الغطرسة الأمريكية والأنظمة القمعية التي استغلت الحملة للانقضاض على معارضيها والتنكيل بهم بتهمة الانتماء لتنظيمات إرهابية.

وبالرغم من أن أفراد تلك الحركات المتطرفة قليلون بالمقارنة بتعداد العالم الإسلامي إلا أن الغالبية الصامتة التي تؤيد وتناصر هذة الحركات لمجرد أنها ترى فيها محاولة جريئة لتغيير واقع بائس، هي التي يجب أن تحظى باهتمام الغرب وفقاً لفولر. ذلك أن الاستياء والغضب اللذين يعتملان في أوساطها سيصنعان الأجيال القادمة من المتشدّدين لتخلف تلك القيادات والكوادر يتم القبض عليهم في الحملة الحالية.

لكن، هل الإسلام أو الانتماء للحركات الإسلامية ينتج بالضرورة أفراداً يميلون للعنف؟ أم أن المسألة تخضع لطبائع الأفراد والنزعات الشخصية؟ (فولر) الذي يطرح هذه التساؤلات يصرّ على أن الإسلام في أصله ليس دين عنف، وإنما دين سلام وعدل كغيره من الأديان.

وفي حين أن بعض الحركات تصمم على صياغة أفكار متطرّفة ومتشدّدة نرى حركات أخرى تنهج نهجاً معتدلاً وكلتاهما مرجعيتهما الإسلام. أما نزوع الأفراد نحو العنف فذاك يعود للفرد نفسه ودرجة غضبه وأسلوبه في التغيير، ومما لاشك فيه أن الظرف المعيشي في الشرق الأوسط والعالم الإسلامي ككل تجعل الفرد معبأ ابتداءً ومستفزاً قبل أي تعبئةٍ أيدولوجية. ولذا فإن الإسلام يبدو لكثيرين وسيلة مناسبة لإحداث فعل تغييري في واقعهم أكثر من غيرها.

الإسلام والغرب

لعل مسألة الإسلام والغرب هي أكثر القضايا الحاسمة في مستقبل الحركات الإسلامية. هل ما تنبّأ به صامويل هننغتون حقيقة واقعة وأن صدام الحضارات أمر لا مناص منه؟ أم أن هناك عوامل موضوعية تتسبب في الإحتكاك القائم بين الغرب والعالم الإسلامي؟

مما لا شك فيه أن العالم الإسلامي يتميز من بين باقي بقاع العالم غير الغربي بامتلاكه فلسفة وعقيدة شاملة ومتماسكة للحكم والقانون والمجتمع. الأمر الذي يتيح للإسلام السياسي استمداد أكبر مصادر قوته من محاولة تمثيل هذا البديل الحضاري في الحكم والاجتماع لمقابلة النموذج الغربي السائد.

من جانب آخر فإن ليس بالإمكان تناول الإحتكاك بين الغرب والعالم الإسلامي دون التطرق لمسألة قيام إسرائيل والدعم الغربي، ذلك أن إسرائيل -للعديد من العرب- رمز ونتيجة للحقبة الاستعمارية، وبقاء القضية الفلسطينية معلقة يُبقي مشاعر العداء للغرب متّقدة. فجميع المسلمين مستفزّون ومحبطون بسبب الاحتلال الإسرائيلي الظالم للضفة الغربية وغزة، ومع حضور وضع القدس في الصراع صار العالم الإسلامي يتعامل مع الصراع انطلاقاً من زاوية أن هناك مقدّسات في خطر. وستبقى العلاقات بين العالم الإسلامي والغرب في هذا الوضع المتهاوي والمتدهور حتى يتم التوصل لتسوية عادلة بنظر الجميع.

إن الهوة اليوم بين الغرب والعالم الإسلامي كبيرة جداً، فالغرب وإن كان ليس مطالباً بتبني جميع قيم وأفكار المسلمين ولا الإسلاميين، إلا أنه لا بد له من تحري وفهم مصدر وطبيعة هذة الهوة القائمة وأن يعمد جدياً إلى معالجة هذا الأمر واحتوائه قبل أن يصل لحدّ التفجّر.

مستقبل الإسلام السياسي

من المتوقع في العقدين القادمين أن تتزايد الضغوطات على الحركات الإسلامية مع تحقيقها لمكاسب سياسية على امتداد العالم الإسلامي. وسُيتوقع من الحركات المعتدلة، والتي لن تلقى المزيد من تحدّيات الوجود والبقاء أن تقدّم للجمهور بعض الإجابات والحلول الفعّالة لمشاكل الواقع.

من جانب آخر ومع استمرار السياسات الخارجية الأمريكية على ما هي عليه وإصرارها على الحرب ضد الإرهاب بشكلها الحالي فإن العلاقة بين الإسلام والولايات المتحدة ستبقى في تدهور، وستتأجّج مشاعر العداء في العالم الإسلامي تجاه أمريكا بل وستتزايد العمليات التي تستهدف الأمريكيين؛ مما سُيبقي أمريكا في حالة تصادم مع العالم الإسلامي. وهذا سينعكس على الجبهة الداخلية؛ إذ ستتعزز حالة التوتر القائمة بين المسلمين في الغرب والمجتمع الغربي الأمر الذي سيهدّد حقوقهم المدنية، وفي الوقت ذاته تقوم الأنظمة في العالم الإسلامي بالتضييق وملاحقة الحركات والمنظمات الإسلامية مما سيدفع بالكثير منهم نحو التطرف. بل قد يشتّت الكثير من تلك الحركات عن الأهداف الأساسية التي قامت لإجلها؛ كبناء المجتمع المسلم سياسياً واقتصادياً وأخلاقياً وعسكرياً. إذ سينصب اهتمامها على الدفاع عن نفسها وربما الانتقام. الحركات الوحيدة التي قد تُبقي على شيء من التوازن والإعتدال وتصرف جُلّ جهدها نحو بناء نسيج اجتماعي متماسك وجو سياسي سليم هي تلك الموجودة في ظل أنظمة تحافظ على حد أدنى من الممارسة الديموقراطية.

سينزع الإسلاميون لدعم حركات التحرر والانفصال للأقليات المسلمة في الدول غير المسلمة مثل الشيشان وكشمير وغيرها. أما محلياً فإن الإسلاميين سيكونون من أهم أدوات الإصلاح والتغيير في مجتمعاتهم خاصةً تلك المنغلقة.

كتاب "مستقبل الإسلام السياسي" لـ(جراهام فولر) من الكتب القليلة التي تنظر لظاهرة الإسلام السياسي بقدر من الموضوعية، ففولر على خلاف غالبية الكتاب الغربيين وضع نفسة على نفس الأرضية الحضارية التي تقف عليها تلك الحركات وحاول دراستها وتقييمها من ذي المنظار متخلياً إلى درجة كبيرة عن المعايير والرؤية الغربية في تقييم الأمور، ونقول إلى درجة كبيرة؛ لأن (فولر) في محاكمته لأداء نموذج السودان وإيران بل حتى في رسمه للشكل الأمثل للحكم والسياسة الذي ينبغي أن تصبو إليه تلك الحركات لم يرى أفضل من الديموقراطية الغربية كنهاية مثلى، غافلاً أن الحضارات المتنوعة قادرة على إفراز نُظم تنسجم معها بصرف النظر عن شكلها، فالمطلوب هو الوصول لنظام سياسي يحقق الحكم الصالح الذي يضمن العدل والحرية للجميع.

وعلى ذلك علّق فولر لـ(الإسلام اليوم): مبدئياً أنا منفتح لئن يجد العالم الإسلامي نموذجه الخاص، ولكن كيف نحقق ذلك مؤسسياً. أقصد المجتمع الإسلامي وإرثه السياسي يضع قيمة وتركيزاً على مصداقية وصدق الحاكم ولكن كيف نؤسس لذلك، كيف نترجم مؤسّسياً ضوابط الحكم الصالح، وكيف يأتي شخص للحكم ويعزل منه. في حين أن النظام الديموقراطي مبني أنه لا يمكن أن تولي شخصاً وتسلمه بشكل مطلق الإدارة معتمداً على قيمه ومثله، وإنما تأخذ بعين الإعتبار أن البشر يفسدون وينحرفون، ولذلك هناك نظام ومؤسسة تمكن من التخلص من أولئك سلمياً. فالقضية: ماذا نفعل حين يأتي للسلطة حاكم غير عادل بنظر المحكومين؟ يبنغي أن يكون هناك نظام يمكّن المحكومين من تحقيق رغباتهم وطموحاتهم أو على الأقل أن يكون لها تأثيرودور في أداء الحاكم".

من جانب آخر (فولر) والذي يؤكد في أكثر من مكان من كتابه أن حالة العداء للغرب وأمريكا في العالم الإسلامي مرجعها بالأساس للتدخل الأمريكي بالشأن المحلي والسياسات الأمريكية في المنطقة، غير أنه يعود لأن يطرح شكلاً لهذا التدخل، وكأن العالم الإسلامي "قاصر" يحتاج من يدير له شوؤنه. (فولر) فسّر ذلك لـ(الإسلام اليوم) قائلاً: "في العالم الحقيقي الأقوياء يتدخلون بشوؤن الضعفاء وتلك حقيقة تاريخية، وهذا جزء من الطبيعة الإنسانية. وأظن حتى في حالة وجود أمريكا مسالمة ستبقى تتدخل ولو جزئياً، فالعالم الإسلامي يقع في بقعة تمتلك إمكانيات مالية ونفطية مهمة لسائر العالم. غير أنني أعتقد أن مشكلة العالم الإسلامي والعربي أنه ما زال شاباً، فبعض دوله لا يتجاوز عمرها السياسي الخمسين عاماً، ولم يُعطَ فرصته لينمو ويتطور وحده. ولا أظن في المقابل أيضاً أن الأنظمة الملكية أو الحكام المنتخبين للأبد سيساعد أو يحل المشكلة. لكنني أعتقد أن الولايات المتحدة يمكنها أن تقدم الكثير في مجالي التعليم والصحة، وهذه مجالات مهمة ومفيدة للعالم الإسلامي، وهناك مؤسسات تعليمية كالجامعة الأمريكية في القاهرة، وتلك التي في بيروت وغيرها أدّت أدواراً مهمة ولم يُنظر لها على أنها مؤسسات استعمارية.

أظن أن أمريكا ينبغي أن ينصبّ جهدها ليس فقط على كسب الأصدقاء والحلفاء، وإنما مساعدة الدول على النمو والتوقف عن التدخل في الشأن السياسي. فما تقوم به الولايات المتحدة في سياساتها الخارجية ما هو إلا خيانة لقيمها المحلية".

وعن رؤيته لشكل وتطور دور الإسلام على المسرح السياسي فيقول (فولر): " لا أستطيع القول إن الدين لا يمكن له التأثير على السياسة، أو أنه لا يمكن السماح له بذلك، ولكن أظن أن التسوية الأمريكية والأوروبية في هذا الإطار هي الأنسب. بمعنى إن كان هناك قيم أخلاقية يؤمن بها فريق من الأمة فيجب تضمينها في السياسة ،ومحاولة عكسها على شكل تشريعات دون إلغاء حق الآخرين في محاولة ممارسة نفس التأثير لتضمين ما يؤمنون به".

============

#لا بد من المبادرة

9/1/1428

28/01/2007

في ظل الأزمات يتنادى المخلصون؛ للقيام بما لم يكن واضح الرؤية أو متبلوراً في أذهانهم.

وكلنا ندرك – وببساطة شديدة – أن الأمة في ظل الأزمات؛ تصبح بلا عقل يفكر, أو ربان يسيّر, أو قائد يدبر، يقرأ لها الأحداث, أو يرسم لها الطريق.

وهناك مؤسسات ودول وجماعات تحاول أن تجتهد؛ لكن في إطار عقلها الخاص الذي يفكر في دائرتها فقط، هذا إن وجد !

لكن أن يوجد عقل جماعي يفكر بشأن مجموع الأمة يرى بعينها ويسمع بأذنها ويهتم بهمومها فهذا أمر نادر الوجود.

ولا يخفى على أحد تلك المنحنيات الخطيرة لمسيرة الدعوة الإسلامية التي أعقبت أحداث الحادي عشر من سبتمبر, بحيث أصبح لهذه المرحلة ملامح خاصة بها, تعتبر نقطة تحول في مسيرتها؛ فمعالم العولمة البارزة ستستمر في المرحلة القادمة, والغرب تجاوز أحداث الحادي عشر واتجه نحو نوع من الصدام الحضاري مع الأمة الإسلامية في وقت لم تهيّأ فيه الأمة لذلك.

وهذا الصدام سيبدأ بهوية الأمة الإسلامية, وسيساعد على ذلك غياب أو تأخر طرح المشروع الإسلامي, والذي يؤدي بدوره إلى وجود طروحات من جهات مختلفة جذرياً مع هذا المشروع, أو أن يرسم الغرب للأمة منهجها ومصيرها.

وها هنا أسئلة ملحة تطرح نفسها :

- ألا يجب على المسلمين أن يبادروا ببيان المشروع الإسلامي والبحث عن وسائل جديدة للتعبير عنه وإعداد دراسات متواصلة عن طبيعة المرحلة ؟

- ألا يتحتم الآن الاتصال بوسائل الإعلام الغربي لإيضاح مشروعنا الإسلامي في إطار كيفية تجنّب صدام الحضارات, وذكر المطلوب منا ومن الغرب في حوار هادئ.

- ألا يجب علينا توضيح ما اصطلح عليه " بالإسلام السياسي " والذي صار يقدّم على أنه فاشية القرن العشرين, والذي يجب مقاومته واستئصاله ؟

- ألسنا في حاجة إلى إبراز صفات الحضارة الإسلامية على غرار ما كتبه ( هنتغون ) عن الحضارة الغربية؟

- أليست هناك ضرورة لدراسة مفصلة عن المسلمين في الغرب, توضح المعالم المنهجية والأسس العقدية لمواجهة الردة الفكرية والهزيمة النفسية والهلع داخل الصف الإسلامي؟

- ألا يجب علينا استقراء المجتمع الغربي من تيارات فكرية, واتجاهات سياسية وطبقات اجتماعية ومحاولة توجيه خطاب مناسب لكل شرائح المجتمع الغربي في إطار معرفة ما سبق ومعرفة موقف رموزهم من الإسلام ؟

- ألم يأن الأوان للتركيز على تنمية واستثمار جوانب القوة وتجنب مواطن الخلل في عالمنا الإسلامي, والعمل على إيجاد صيغة عمل داخل الإطار الإسلامي وأولويات المرحلة والاستفادة من النخب السياسية والثقافية في هذه الفترة الحرجة؟

_ أليس من المهم أن نطرح تصوراً عن متطلبات المرحلة الحالية يتناول الحكومات وما يمكن عمله رسمياً وكيفية استثمار الشارع الإسلامي وكذلك تطوير الخطاب الإسلامي لشرائح الأمة , واستحداث أعمال وأنشطة ومشاريع طارئة تكون ردة فعل متوازنة تجاه الطرح الغربي؟

- ألا يحسن بنا أن ننتبه إلى وجوب المبادرة لكل ما يحافظ على كينونة هذا الدين ومكتسباته وأن نتحرك في الاتجاه الذي يضع لبنة في بناء جدار الإسلام؟

- كيف يمكن دمج المشاريع الإسلامية وتأليفها لئلا تتصارع فيما بينها، وإن اختلفت أو تنوعت، وكيف يمكن الحفاظ على المجتمعات الإسلامية من التردي والمزيد من التشظي والشتات والتخلف ..

- وكيف يمكن وراء ذلك رسم مشروع نهضوي يرتقي بالأمة ولو خطوة واحدة إلى الأمام, بدلاً من الاكتفاء بالنياحة والندب أو تبادل اللعنات والشتائم والتهم ؟

- فكرك أولاً .. وقلمك ثانياً .. وخلقك الفاضل قبل هذا وذاك.

مدخل ( لماذا نبادر؟ ... وكيف؟)

في الإجابة عن السؤال لماذا نبادر؟ وكما سبق القول يمكن الجزم بأن الإنسان يبادر قبل ورود الشرع، فالإنسان جبل على المدافعة، بل الحيوان يدافع عن نفسه، فالله سبحانه وتعالى جعل في فطرة الإنسان والحيوان نوعاً من مقاومة التحديات التي تأتيه من خارجه، بل وحتى الجسم فيه المقاومة أو المدافعة ضد الجراثيم، وضد الأمراض وغيرها، ولذلك إذا أصيب الجسم بأحد الفيروسات أو الأمراض التي تصيب جهاز المناعة لديه، مثل الإيدز- أعاذ الله المسلمين منه – فإن القدرة على المقاومة تصبح ضعيفة، وبالتالي تقوى القابلية للمرض، ويصبح مهدداً بأدنى شيء، بل و يتم القضاء عليه. ولذلك في الشريعة جعل الله سبحانه وتعالى الدفع سنة ثابتة راسخة.

من جهة أخرى يرى الشيخ سلمان العودة أن نظرية التحدي والاستجابة نظرية معروفة في تفسير التاريخ، وهي نظرية لها جزء من المصداقية، ومع ذلك نعتقد أنه أحياناً إذا كان التحدي أكبر من إمكانية الطرف الآخر فلا تكون هناك الاستجابة الكافية, وربما يكون هذا هو الواقع بالنسبة للعالم الإسلامي. إن التحدي الحالي يُورث عند العالم الإسلامي نوعاً من الرفض، ونوعاً من البحث عن الذات، ونوعاً من التفكير في مخرج، وإذا كان التحدي في هذه المرحلة أقوى من استجابة أو قدرة العالم الإسلامي على الاستجابة ـ على أقل تقديرـ فإنه يفرز لدى قطاع عريض من المعنيين بالشأن الإسلامي ومستقبله، إحساساً قوياً وإصراراً على عمليّة الإصلاح الداخلي. فالمشكلة في العالم الإسلامي وتداعياتها، في الوقت الحالي، حسبما يرى الشيخ سلمان العودة، داخلية وليست خارجية مهما أوحى مظهرها بذلك. إنها تتجسد في الأفراد، في الشعوب، في الجماعات، في الحكومات، في الأمة الإسلامية بكيانها. لذلك وكما يقول مراد هوفمان " ليس الاستعمار هو سبب تخلف العالم الإسلامي، وإنما تخلف العالم الإسلامي هو سبب الاستعمار" إننا نستطيع الجزم بأن تخلف العالم الإسلامي بكل معاني التخلف: التخلف التقني، المعلوماتي، السياسي، الإداري، الاقتصادي، هذا التخلف هو الذي جعل العالم الإسلامي مجالا للتدخل. انظر لأمريكا كيف تحسب حساباتها في قضية كوريا الشمالية، وفي قضايا كثيرة دولية، بينما في العالم الإسلامي نجد أن السلاح يرفع، وتتم التهديدات، وإعطاء مهلة وإنذارات بشكل مباشر.

بعد أحداث سبتمبر كُتبت مقالات في الأحداث، وإدانة الأحداث و ما قد يترتب عليه، ومن ذلك الإشارة إلى ما سيحدث في أفغانستان، وما سيحدث في العراق، وما سيحدث في فلسطين، للقضاء على ما يسمونه بالبنية التحتية للإرهاب ، ومحاولة تفكيك الجماعات المقاومة داخل الشعب الفلسطيني. وبغض النظر عن قوة هذه الدعوات ومدى فاعليتها، إلا أننا نريد أن نقول إن المشكلة الأساسية في ضعف "بنية" و "مفهوم" الجسد الإسلامي، ثم ضعف المقاومة الداخلية للجسم. ضعف البنية الداخلية للأمة الإسلامية: الشتات، التفرق، التناقضات، وجود إمكانية كبيرة جداً لاختراقات قوية، بعضها بدوافع خيانة ومصالح ذاتية، وبعضها قد يكون بدوافع الشعور بالعجز والشعور بالاضطرار، وأيما كان فهو في النهاية يصب في مصلحة الطرف الخارجي.

إن القدرة على إيجاد مشروع النهضة للأمة الإسلامية، ووجود الكفاءات العلمية, والإدارية، والاقتصادية، ووجود المؤسسات التي من شأنها أن ترسم بداية الطريق للعالم الإسلامي, أمر ليس مستحيلاً. ونحن نعتبر أن ما نحاوله في العمل الحالي يمكن اعتباره ضمن هذا الإطار وضمن هذه المنظومة.إذ إن من شروط قيام مشروع إسلامي واضح، البدء بعمل من هذا القبيل، يحاول أن يستطلع آراء مجموعة من الخبراء، والمختصين ويجمع وجهات نظر مختلفة، ويحاول أن يؤسس لنوع من التقارب داخل الإدارة الإسلامية والمجتمع المسلم.غير إن من المؤكد أنه لا يمكن التفكير بالمستقبل، في ظل الصراعات المحتدمة داخل الإطار الإسلامي، وما لم يكن هناك روح تتجه إلى تهدئة هذه الصراعات والحد من أثرها حتى وإن بقي نوع من الاختلاف. يجب أن نفهم أن بعض الصراعات وبعض الخلافات يمكن قبولها على أنها خلاف طبيعي، وبعضها يمكن التكيف معها، حتى ولو لم يكن هناك نوع من القناعة بها، في حين أن جزءاً منها يمكن تأجيله على أساس- على الأقل- ترتيب الأولويات. بمعنى أننا – أنا و أنت- نعترف بالعجز والضعف، وبالطبع من غير المعقول أن نقوم بمواجهات على كافة الأصعدة. إن من غير المقبول أن يكون العالم الإسلامي هو فقط العالم الذي يمتلئ بألوان من الصراعات العسكرية، والصراعات العقائدية، والصراعات الفكرية، والصراعات السياسية التي لا تلتزم بأصول صحيحة، ولا منطق سليم، وإنما كل طرف يحاول اجتثاث الطرف الآخر والقضاء عليه، مع الاعتراف بأنه غير قادر.

لذلك حينما نريد أن نبادر فإننا بأمس الحاجة إلى تنمية روح التصالح مع الذات، روح الواقعية، روح تفهم الوضع، روح ترتيب الأولويات، روح الإحساس بالواقع إحساسا طبيعياً بعيداً عن النظرة الخيالية أحيانا.

ثمة تلخيص لسؤال " لماذا نبادر ؟ يكمن في التالي:

المبادرة فطرة ربانية.

المبادرة أمر شرعي بالمدافعة والمجاهدة.

المبادرة عمل يتجاوز الخلاف في التنظيرات ويعتمد على وحدة الصف.

المبادرة تعتمد على الإعذار في الأولويات.

المبادرة خطاب عمليّ ودليل عمليّ يمكن أن يتحول إلى واقع أفضل، ويقود الأمة إلى الطريق الأسلم.

المبادرة ربما تمثل نقطة تحول في الخطاب الإسلامي من النقد إلى المشاركة, ومن الوعظ إلى الممارسة ومن التوصيف إلى الصناعة والعمل.

كيف نبادر؟

أما السؤال الكبير "كيف نبادر؟" فيحمل في كيانه الكثير من التساؤلات حول "حاجتنا إلى المبادرة", و "قدرتنا على المبادرة!", و "رغبتنا في المبادرة", و "تعاطينا مع روح المبادرة", و "وإمكانياتنا في أن نبادر", ثم "هل نشاهد نحن نتيجة المبادرة ونقطف ثمرتها بأيدينا؟". لنتجاوز كل هذه الأسئلة واضعين في الحسبان قبول جميع الإجابات المتباينة حولها، لنقف مع "ذات الفرد المسلم" مباشرة وكيف يبادر؟ وكيف يقرأ ويمارس المبادرات الحالية؟.

من تكون؟ سوف تعرف كيف تبادر...

• هل أنت معلم أو معلمة؟ اقرأ المبادرات بتمعن، ثم تقبلها قبولا حسنا ومارس تربية طلابك على روح المبادرة، مختارا بعض الاستراتيجيات كدليل عمل لك.

• هل أنت رجل أعمال؟ اقرأ المبادرات بتمعن، ثم تقبلها قبولا حسنا ومارس المشاركة الفاعلة بمالك، في تبني أحد الاستراتيجيات ودعمها وتفعيلها.

• هل أنت مفكر؟ اقرأ المبادرات بتمعن، ثم تقبلها قبولا حسنا ومارس مزيداً من الإنتاج على المستوى الفكري، والإعلامي في دفع المبادرات وتطويرها .

o هل أنت كاتب أو كاتبة؟ اقرأ المبادرات بتمعن، ثم تقبلها قبولا حسنا ومارس توجيه الناس في ضوء التفاعل معها، وتأييدها وتطوير تطبيقاتها عملياً وميدانياً.

o هل أنت داعية؟ اقرأ المبادرات بتمعن، ثم تقبلها قبولا حسنا ومارس توجيه الناس مستنبطا الاستراتيجيات الدعوية، ومختاراً واحدة منها تبدأ منها لتسير إلى الأخرى .

o هل أنت مثقف أو مثقفة؟ اقرأ المبادرات بتمعن، ثم تقبلها قبولا حسنا ومارس الفعل والدعم لها، وتحويلها إلى قضية للطرح والمناقشة والمشاركة العملية .

o هل أنتِ ربة بيت؟ اقرئي المبادرات بتمعن، ثم تقبليها قبولا حسنا، ومارسي تربية أطفالك على ضوء استراتيجيات المبادرة وآلياتها .

o هل أنت قارىء؟ اقرأ المبادرات بتمعن، ثم تقبلها قبولا حسنا ومارس وانشر ما تؤمن به من استراتيجيات، وحولها إلى فعل وواقع .

o هل أنت خطيب؟ اقرأ المبادرات بتمعن، ثم تقبلها قبولا حسنا ومارس آلياتها واجعلها دليل لخطبك وأحاديثك مع جمهورك . وكن قدوة لهم فيها .

o هل أنت عالم؟ اقرأ المبادرات بتمعن، ثم تقبلها قبولا حسنا ومارس تطويرها وتصحيحها بشكل عملي وواقعي ، والعمل على إرساء المزيد من المبادرات العملية الأخرى .

إذاً .... ماذا تكون ...... فالمبادرة لك وأنت من يستطيع تحويلها إلى عمل.

من أجل ذلك فإننا إذ "نبادر" بوضع هذه المبادرات مستنبطين تلك القناعة الراسخة بأهمية وحدة الصف في العمل من أجلها، حتى وإن اختلفت كلماتنا في تقدير أهمية كل جزئية منها، أو في ترتيب أولوياتها. بمعنى أكثر وضوحاً فإننا لابد أن نتفق على أن ثمة رؤى مختلفة - بل وربما متباينة – في تقدير قيمة مبادرة ما من جهة، ثم في مرتبتها على سلم الأولويات، وما لم نتفق منذ البداية على أن نحترم أولويات الآخرين، فلن يقتنع أحد ٌ ألبته باحترام أولوياتنا والعمل من أجلها.

إن سؤالاً من نوع " لماذا لم يُذكر كذا؟"، أو "لماذا لا نبدأ بكذا ؟ " ليس له وجاهة، بل حرىٌ بأن يطرح جانباً في مجال التطبيق والعمل. إن الإسلام قد كمل شريعة ووحياً، وعلى الأمة أن تعمل على أمر دينها وأمر دنياها بما يسعها وبما تستطيع، دون أن تحدد نقطة بداية. سنختلف- يقيناً – في تعيين مكانها على سلم الواقع الحياتي على مستوى الفرد، وعلى مستوى الدولة، وعلى مستوى الأمة.

والله المستعان وعليه التكلان

============

#(هل يمكن أن نتعايش؟) رسالة مثقفي أمريكا الجوابية

الإسلام اليوم – خاص 20/8/1423

26/10/2002

قامت مجموعة من المثقفين الأمريكيين ببعث رسالة جوابية بعنوان"هل يمكن أن نتعايش؟" وهي بمثابة التعقيب على البيان الذي وقعه 153 مثقف سعودي ونشر في موقع الإسلام اليوم وحمل عنوان " على أي أساس نتعايش ؟"

وقد حملت الرسالة الجوابية نقاطاً متعددة، حيث تناولت الآراء المتفق عليها، والأخرى المختلف فيها، كما عرضت جملة من الآراء التي أُسيء فهمها .

وختمت الرسالة بمجموعة من الأسئلة التي ينتظر المثقفون الأمريكيون الإجابة عليها.

وفيما يلي نص الرسالة:

هل يمكن أن نتعايش ؟

حضرة الزملاء الأعزاء:

نشكر لكم رسالتكم الصادرة أخيراً (على أي أساس نتعايش؟) والتي نشرت في أيار (مايو) من العام الجاري في الرياض ووقعها 153 منكم, رداً على رسالتنا (على أي أساس نقاتل؟) والتي كان ستون منا أصدروها في العاصمة الاميركية واشنطن, في شباط (فبراير) الماضي (1). ونحن نرحب بردّكم.

كما إننا ندرك أن قراركم الشروع بالكتابة إلينا, وما تضمنه ردكم من الآراء, دفع بعضهم إلى انتقادكم علناً في بلادكم (2). فنحن نقدر الروح الحضارية والرغبة في التفاهم اللتين تظهران جلياً في ردكم. ونحن, انطلاقاً من هذه المشاعر عينها, نود هنا متابعة الحوار.

حيث نتفق:

إنكم تنطلقون من النص القرآني الكريم ومن سنة الرسول لتؤكدوا أن الإنسان (من حيث كينونته هو مخلوق مكرم), وأن قتل النفس الإنسانية بغير حق هو بالتالي اعتداء على الله وخيانة للدين. وتذكرون انه لا يجوز إكراه أحد في دينه, وأن العلاقات بين البشر لا بد من أن تكون قائمة على الأخلاق الكريمة. وتشيرون إلى أن العدل مفهوم عالمي, وأن المعاملة العادلة هي حق غير قابل للتصرف لكل إنسان.

ونحن ننوّه بتشديدكم الصريح على عالمية هذه القيم الإنسانية الأساسية, ونعلن موافقتنا عليها. وأنتم تشيرون إلى أن هذه القيم (قيم إنسانية عامة) بما أنها (متفقة مع الفطرة). وتوضحون أن القيم والمبادئ التي أتيتم على ذكرها في ردكم (تتفق بقدر مشترك مع بعض الأسس التي أوردها المثقفون الأميركيون في بيانهم), وأن قدر الاتفاق على هذه المسائل الفلسفية المبدئية يشكل (أرضية جيدة للحوار). ثم إنكم لاحقاً تشيرون في ردكم إلى أن (بعض القيم الإنسانية التي ذكرها المثقفون الأميركيون ليست قيماً أميركية بل إنها متعددة المصادر تشترك فيها حضارات متنوعة من بينها الحضارة الإسلامية).

ونحن نوافق على هذا الرأي بشدة. لقد كانت رسالتنا بمعظمها محاولة لتقديم الطروحات الأخلاقية على أرضية عالمية. وردكم الذي يأتي إلينا من أرض الحرمين ومهد الإسلام, وهو دين نحترمه, يضفي على هذه العالمية المنشودة المزيد من الزخم ويزيدنا ثقة بأنه قد يكون في الإمكان, على رغم الخلافات, التوصل إلى فهم مشترك للشخص الإنساني وللمجتمع المدني.

وفي إطار تشديدكم على أهمية العدالة, تؤكدون أن (الضمانات لتحقيق الأمن لا تفرض بالقوة فقط). ونحن نوافق على ذلك. وتحديداً, فإنكم في إطار نقدكم رسالتَنا تدعوننا, على ما يبدو, إلى تجنب اللجوء الى (لغة القوة). ونحن نقرّ بأهمية نصيحتكم هذه. غير أننا نذكّركم بأن السياسة, وهي المعنية بترتيب شؤون حياتنا بعضنا مع بعض, تُعنى جزئياً بالاستعمالات العادلة للقوة, فلا يسعها بالتالي التهرب من مسألة القوة. نرجو, إذن, أن توافقوا على أن من الأفضل الإقرار بهذا الأمر صراحة, بدلاً من افتراض شرط غير متعارف عليه في الممارسة السياسية الفعلية, بل أيضاً في الممارسة الدينية.

وأنتم تشددون على أن الإسلام كدين ليس (عدواً للحضارة) أو (عدواً لحقوق الإنسان). ونحن نوافق تماماً. وأنتم تشيرون إلى أن العنف السياسي والمتطرف ليس (خاصاً بالمفهوم الديني) أو (ليس مرتبطاً بديانة معينة). ونحن نوافق تماماً على ذلك أيضاً.

وفي هذا السياق, فإننا نذكر, ويا للأسف جنوح بعض الأميركيين الى الإدلاء بآراء متهورة في شأن الدين الإسلامي وأخرى تتوخى الأذى به . وبعض هذه الآراء تناقلته وسائل الإعلام بكثافة. على أن الدلائل تشير في الوقت نفسه إلى أن هذه الآراء لا تعكس وجهة نظر الغالبية العظمى من المواطنين الأميركيين.

وأنتم تدعوننا كمثقفين أميركيين ألى (مراجعة جادة) لموقفنا من الإسلام, ومدّ جسور الحوار مع المفكرين المسلمين البارزين والذين يمثلون الفكر الإسلامي العريض. وهذا هو تحديداً ما نسعى إليه, وأحد مظاهره رغبتنا في الجواب على رسالتكم.

*حيث نسيء فهم بعضنا بعضاً :

للأسف, إن استعمالنا المتكرر في رسالتنا لعبارة (القيم الأميركية) أدى إلى بعض الإرباك والإبهام, كما يظهر من اعتراضكم في ردكم على ما اعتبرتموه دعوة من الولايات المتحدة موجهة إلى المسلمين لاعتناق (المبادئ الأميركية). والواقع أن قصدنا كان صياغة طروحاتنا في إطار عالمي شامل, غير مقترن بأية خصوصية وطنية أو فردية. وكان علينا توضيح هذا القصد توضيحاً أفضل. ونحن هنا نعلن قناعتنا بأن القيم الأساسية التي ننطلق منها ليست خصوصية على الإطلاق.

ونحن في رسالتنا كتبنا أن (أفضل ما نطلق عليه (في الولايات المتحدة) بحسب الصيغة الشائعة تسمية (القيم الأميركية) ليس حكراً على أميركا بل هو إرث مشترك للإنسانية جمعاء). إضافة إلى ذلك, فإن ما سميناه (القيم الأميركية) يعكس في بعضه ما جاء ليُثرينا من التقاليد والمفاهيم التي حملها المهاجرون الوافدون إلينا من مختلف المجتمعات في أرجاء العالم معهم. ففي هذا الإطار, نجد أن تأكيدنا عالمية القيم الإنسانية الأساسية يشابه الطروحات التي تقدمتم بها في رسالتكم.

وثمة جانب آخر من جوانب سوء التفاهم على ما يبدو ينبع من استعمالنا المصطلحين الإنكليزيين (SECULAR) و(SECULARISM). فرسالتكم تشير إلى أننا نحبذ العلمانية, والواقع أننا في رسالتنا نرفض العقيدة العلمانية المتشددة (العلمانوية) التي نعرّفها أنها (نظرة إلى العالم قائمة على رفض الدين أو العداء للدين). لكننا, من جهة أخرى, ندافع عن مبدأ الحكومة الدنيوية, ونقصد به النظام الدستوري الذي لا يمنح رجال الحكم السلطة انطلاقاً من مكانتهم في الهرمية الدينية أو على أساس تعيين السلطات الدينية إياهم في مناصبهم. فتحبيذ الدولة (الدنيوية) ليس إذن اعتناقاً للعقيدة العلمانية المتشددة (العلمانوية). بل خلاف ذلك صحيح على الغالب بالنسبة إلينا. ولذلك كتبنا أن (الولايات المتحدة تكون في أفضلها حين تسعى إلى أن تكون مجتمعاً يجمع الإيمان والحرية, وكل منهما يرتقي بالآخر). وقلنا أيضاً انه (من الجانب الروحي, فإن فصل الدين عن الدولة يسمح للدين بأن يكون ديناً, عبر نزعه من السلطة القاهرة للحكومة).

وبعض سوء التفاهم هذا قد يعود إلى صعوبة التعريب. فعلى سبيل المثال, إن المصطلح العربي (العلمانية) قد يُفهم أنه ينطوي على العداء للدين, غير أنه يستعمل عادة أساساً لتعريب كل من المصطلحين الإنكليزيين (SECULAR) و(SECULARISM). فقد يكون المطلوب استعمال مصطلح (دنيوي) الذي لا ينطوي على أي عدائية إزاء الدين للتعبير عن المفهوم الذي نحبّذ.

وبشكل عام, فإن انتشار العقيدة العلمانية المتشددة (العلمانوية) والنتائج المترتبة عليها في الولايات المتحدة وغيرها من المجتمعات الغربية, والعلاقة في كل المجتمعات بين الإيمان الديني وحرية المعتقد, هي من المسائل المهمة التي تستحق المتابعة والحوار فيها بعضنا مع بعض.

حيث نختلف:

نقطة الخلاف الأولى بيننا وبينكم هي في أنكم في رسالتكم لا تأتون إطلاقاً على ذكر دور مجتمعكم في احتضان العنف (الجهادي) (3) وفي حمايته ونشره, وهو العنف الذي يهدد العالم بأسره اليوم, بما فيه العالم الإسلامي.

فعلى سبيل المثال, عند الإشارة إلى الضحايا الأبرياء الثلاثة آلاف الذين سقطوا في اعتداء الحادي عشر من أيلول (سبتمبر), لا تتحدثون عن (منفّذين) فحسب, بل عن (المنفذين المفتَرضين). وهذه العبارة تؤلمنا وتخيّب أملنا. كيف يسعنا أن نصدق أنكم لا تعلمون أن 15 من أصل 19 من المهاجمين هم من التابعية السعودية؟ وأن زعيمهم أسامة بن لادن هو في الأصل سعودي؟ أو أن تنظيم القاعدة الذي أرسلهم قد حصل على مدى السنين على الدعم المالي المهم من البعض في بلادكم؟ أو أن نسبة مرتفعة من المقاتلين التابعين لـ(طالبان) ولـ(القاعدة), والذين قبضت عليهم الولايات المتحدة في أفغانستان, هم من السعوديين؟ أو أن انتشار العنف الذي تقدم عليه الجماعات الإسلامية في أنحاء العالم, من أفغانستان إلى أندونيسيا والولايات المتحدة, يمكن تتبع أصوله, في بعضه على الأقل, إلى الدعم المالي والسياسي والديني من مصادر في بلادكم؟

هذه الوقائع معروفة جيداً, وليس ثمة خلاف على حقيقتها الموضوعية. لكن رسالتكم توحي بأن هذه الوقائع ليست وقائع على الإطلاق, بل (افتراضات), وأن المسألة برمتها, أي من هم الإرهابيون ومن يدعمهم, خارجة عن موضوع الأزمة الحالية.

ونحن ندرك بعض الأسباب الممكنة التي تدفعكم إلى تجنب النقاش في الموضوع. غير أننا لو كنا, مثلاً, قد كتبنا أن بلادنا في تاريخها قد شهدت تجربة الاسترقاق (المفترض), أو أن سكان البلاد الأصليين (الهنود) قد تعرضوا لظلم (مفترض), لكنا توقعنا منكم أن تردوا, بحق, أن هذا الإنكار المبدئي للوقائع ينفي إمكان الحوار الصادق. وقياساً, وفي سبيل متابعة الحوار في ما يتعدى هذه الرسالة, نطلب منكم بإخلاص أن تقدموا إلينا رأيكم الصريح في ما يتعلق بالدور المهم للبعض في مجتمعكم في اعتداء 11 أيلول, كما في انتشار العنف الذي تقترفه الجماعات المتذرّعة بالإسلام في أرجاء العالم.

وأنتم تكتبون (ان الولايات المتحدة لو اعتمدت العزلة عن العالم داخل حدودها) فإنه لم يكن ليعني المسلمين ما تعتنقه وتمارسه من مبادئ وقيم. وهذا القول صادق, على الأقل في بعضه. لكننا لا نعتقد بأن من الحكمة لبلادنا (أو لأية بلاد أخرى في هذا الصدد) أن تعتمد (العزلة عن العالم داخل حدودها). ونحن نشير هنا الى أن الكثير من الشخصيات والمجموعات من بلادكم تنشط في ترويج مفهومها للدين الإسلامي لا في الولايات المتحدة فحسب, بل في كثير من الدول الأخرى التي لا نية لها ولا قدرة على التأثير الفاعل خارج حدودها.

وأنتم تكتبون أن (غالبية الحركات الإسلامية في العالم الإسلامي وغيرها تمتلك قدراً ذاتياً من الاعتدال, من المهم المحافظة عليه). ونحن لا نزعم أننا على اطلاع دقيق على الوضع الحالي والاتجاهات المستقبلية للمواقف العقائدية في العالم الإسلامي. لكننا على بيّنة من التجاذب القائم في هذا العالم بين الدين الإسلامي, والذي نقرّ بعظمته ونحترمه, والجماعات السياسية الدينية المتشددة الرافضة لتسامح والتي تدعي (خطأ برأينا) رفع لواء الإسلام. وإزاء الحديث عن (المحافظة) على الوضع الحالي, نشير إلى أن هذا الوضع يقوم على مقتل الأعداد الكبيرة من الأبرياء, منهم المسلم وغير المسلم, على أيدي جماعات إسلامية متشددة, بعضها يجد الدعم والتشجيع في بلادكم, وبعضها يسعى إلى اقتناء السلاح الكيماوي والجرثومي والنووي. فنحن, بالتالي, لا نرغب إطلاقاً في المحافظة على الوضع القائم.

وفيما تعترضون على ما تعبرونه (إدارة الصراع) في الولايات المتحدة, تكتبون أن (الاستقرار أساس الحقوق والحرية في العالم). ونحن هنا نعتبر أنكم إلى حد كبير قد قلبتم السبب والنتيجة. ذلك أننا نعتقد بأن الحقوق والحرية هما أساسا الاستقرار. لذلك, فإن الأوضاع القائمة في الكثير من المجتمعات الإسلامية اليوم - حرية تعبير ضئيلة جداً, غياب النظم والمؤسسات الديموقراطية, اعتراف سيئ للسلطات بحق حرية البحث الأكاديمي وغيره من حقوق الإنسان الأساسية - تجعلنا نعتقد بأن الاستقرار في مجتمعكم, تماماً كما في غيره, يبقى مرتبطاً إلى حد بعيد بالرغبة والقدرة لدى قادتكم والمثقفين لديكم, بإضافة إلى عموم الشعب, في أن يسعوا إلى تحقيق الحقوق الأساسية والحريات للجميع في مجتمعكم. ونحن نأمل هنا بأن تعتمد حكومتنا نهجاً أكثر وضوحاً وثباتاً في دعم التوجهات نحو الديموقراطية في العالم الإسلامي.

والفحوى التي تتكرر في رسالتكم, وتأتي كنتيجة وخلاصة لها, هي أن اعتداءات 11 أيلول, وأعمال العنف الذي تقدم عليه الجماعات الإسلامية عموماً, تقع مسؤوليتها في الدرجة الأولى على الولايات المتحدة نفسها وعلى حلفائها. أي أن رسالتكم في جوهرها تقول لنا إننا جلبنا المصيبة على أنفسنا. فأنتم على سبيل المثال تكتبون أن عدم الاستقرار في العالم الإسلامي جاء (تحت مظلة الغرب) وربما كان عائداً إلى (ممارساته المباشرة).

وتقولون أيضاً إن (كثيراً من التجمعات الإسلامية المتشددة - كما توصف - لم ترد أن تكون كذلك في أولى خطواتها, لكنها وضعت في هذه الدائرة) نتيجة للضغوط السياسية والعسكرية والإعلامية من الولايات المتحدة وحلفائها. وتصرون على أن هذا التبدل الاجتماعي الذي جاء نتيجة للضغوط الخارجية هو (الدافع الأكبر إلى التشدد في التجمعات والحركات الإسلامية). وأنتم تشيرون تكراراً, في رسالتكم, إلى أن لجوء الولايات المتحدة إلى القوة العسكرية في مواجهة المجموعات الإسلامية يزيد من حدة هذا التبدل. وتشددون خصوصاً على أن إسرائيل والدعم الأميركي لها هما السبب الجوهري لكل المسائل التي تناقشونها في رسالتكم تقريباً.

ونحن ندرك أن السياسة الأميركية ذات تأثير مهم في أنحاء العالم, سلباً وإيجاباً, وندرك أيضاً أنكم تختلفون مع هذه السياسة اختلافاً مبدئياً في موضوع الدعم الأميركي لإسرائيل. وهذه أمور تستحق بالفعل المناقشة, ويمكن الاختلاف فيها بصدق وإخلاص.

وكثيرون منا, وربما كان بعضكم, عند التطلع قدماً, يأملون بأن يستتب الحل المقبل على دولتين, إسرائيل وفلسطين, كل منهما بمقومات الاستمرار والبقاء, وبالتجاور الآمن المسالم, لما فيه خير الشرق الأوسط وخير العالم أجمع.

لكننا في الوقت نفسه نطلب منكم أن تعيدوا النظر في التوجه السائد في رسالتكم والذي يلقي اللوم في المشاكل التي يواجهها مجتمعكم, على الجميع إلا قادتكم ومجتمعكم. فبعض القادة السياسيين يجد فائدة في بعض الأحيان في اللجوء إلى إثارة البغض إزاء (الآخر) أو (العدو), وذلك في سبيل تحويل أنظار الجمهور عن المشاكل الفعلية القائمة. ونحن ندعوكم, بصفتكم مثقفين, إلى إعادة النظر في ما إذا كان السبيل إلى التصدي للتحديات الملحة التي يواجهها مجتمعكم - من البطالة إلى غياب الحريات الديموقراطية وعدم النجاح في تحقيق اقتصاد عصري متنوع, واحتضان العنف الإسلاموي وتصديره - هو اللجوء إلى إلقاء اللوم على الآخرين من أفراد وأمم.

وللولايات المتحدة حصتها من المشاكل, وبعضها مشاكل خطيرة. فانتقاد الولايات المتحدة أمر مشروع, بل هو في رأينا أحياناً ضروري. وكثيرون منا يقومون بهذا الانتقاد على نحو متكرر. ولكن, من جهة أخرى, فإن تصاعد العنف الإسلاموي الذي يهدد العالم كافة, بما في ذلك العالم الإسلامي, لا يمكننكم, من المملكة العربية السعودية, أن تلقوا اللوم فيه على الغير فحسب, إذ في ذلك تجاهل غير مسؤول عن التصدي لأمورٍ لديكم لا بد من التطرق إليها.

ونحن نطرح عليكم هنا ثلاثة أسئلة تستحق في رأينا الإجابة والتوضيح: أولاً: هل تعتقدون بأن التقوى الإسلامية التي تلتزمونها في المملكة العربية السعودية, تتعارض مع ممارسات الحركات المسماة (جهادية)؟ ثانياً: إذا كان جوابكم عن السؤال الأول إيجاباً, فكيف تفسرون الدور البارز الذي اضطلع به عدد من السعوديين في اعتداءات 11 أيلول, كما في التصاعد المستمر للحركات المسماة (جهادية) كظاهرة تهدد العالم أجمع؟

وأخيراً: هل ترون أن على القادة الدينيين والمثقفين السعوديين والذين يعتبرون أن ثمة تعارضاً بين أحكام الإسلام وممارسات الجماعات الجهادية أن يعملوا فعلاً وعلناً على تبيان هذا التعارض وعلى نقض الأفكار والممارسات التي ينتهجها تنظيم (القاعدة) وما شابهه على أنها خاطئة وخطيرة؟ نحن في انتظار ردكم.

دعوة الى الحوار العاقل:

في عالمنا اليوم الذي يهدده العنف والظلم, والذي تقلقه الحرب والحديث عن الحرب, والذي يخشى الوقوع في منزلق التناطح الديني بل الحضاري, هل من مهمة بالنسبة إلينا كمثقفين من الشرق والغرب أهم من إيجاد الزمان والمكان المناسبين كي نقيم الحوار العاقل, على أمل ايجاد الأرضية المشتركة لكرامة الشخص الانساني والشروط الأساسية للازدهار البشري؟

فنحن نتمنى أن نكون طرفاً في هذا الحوار معكم ومع غيركم من المثقفين من العالم الاسلامي. ونحن ندرك أن ليس من شروط سابقة لخوض هذا الحوار إلا صفاء النية, والإقرار بانسانيتنا المشتركة, والاستعداد والقدرة للشروع بنقد وتأمل ذاتيين كما بالنقد المتأني لوجهة نظر الآخرين. ونحن نعتبر ان اقدامكم على الكتابة الينا يشير الى أنكم تتفقون معنا في هذا التوجه. رجاؤنا إذن أن نجد السبيل لمتابعة هذا الحوار وتعميقه.

وفي الختام نشكركم مجدداً على رسالتكم.

التواقيع:

جون أتلاس, جاي بيلسكي, ديفيد بلانكنهورن, ديفيد بوسورث, موريس بويد, جيرارد ف برادلي, ألان كارلسون, لورنس أي كننغهام, بول إيكمان, جون بثكي إلشتاين, أميتاي إتزيوني, إليزابيث فوكس-جينوفيز, هيلل فرادكين, صموئيل ج. فريدمان, فرانسيس فوكوياما, ماغي غالاغهر, وليم أي غالستون, كلير غودياني, روبيرت بي جورج, كارل غيرشمان, نيل غيلبرت, ماري آن غليندون, نورفال دي غلين, أوس غيننيس, ديفيد غوتمان, تشارلز هاربر, كيفين جاي (سيموس) هاسّون, سيلفيا آن هيوليت, الأب المحترم جون دبليو هاو, جيمس ديفيسون هنتر, بايرون جونسون, جيمس تورنر جونسون, جون كيلساي, دايان كنيبرز, توماس سي كوهلر, روبرت سي كونز, غلين سي لاوري, هارفي سي مانسفيلد, ويل مارشال, جيري إل مارتن, ريتشارد جاي موو, دانيال باتريك موينهان, جون إي مورّاي, آن دي نيل, فيرجيل نيموئيانو, مايكل نوفاك, الأب فال جاي بيتر, ديفيد بوبينو, غلوريا جاي رودريغيز, روبرت رويال, نينا شيا, فرد سيغل, ثيدا سكوكبول, كاثرين شو سباهت, ماكس إل ستاكهاوس, وليم تل الابن, ماريس آي فينوفسكيس, بول سي فيتس, مايكل ولتزر, جورج فيغل, روجير إي وليمز, تشارلز ويلسون, جيمس كيو ويلسون, جون ويت الابن, كريستوفر وولف, جورج فورغل, دانيال يانكيلوفيتش.

هوامش:

1- يمكن الاطلاع على نص الرسالتين بالكامل باللغة الانكليزية, إضافة الى بعض التعليقات والتحليلات والنصوص الأخرى, على موقع (معهد القيم الاميركي) على الانترنت: www.americanvalues.org

2- بعض هذه الانتقادات نقلت في مقال نيل ماكفاركوار في صحيفة (نيويورك تايمز), 12 تموز (يوليو) 2002.

3- اننا ندرك المعاني المختلفة لمصطلح (الجهاد) دينياً وتاريخياً. لكن الواقع أن ثمة مجموعات اسلامية تعتنق الدعوة إلى تغيير الوضع القائم بقوة السلاح لإقامة الحكم الاسلامي وفق تصورها, وتصف نفسها بأنها (جهادية). ولا شك في أن كثيرين من المسلمين يعتبرون أن هذه الجماعات استولت على مصطلح (الجهاد) وشوّهته, وكثيرون منا يوافقون على ذلك. على أن هذا الاستعمال اصبح بالفعل, وياللأسف, شائعا

============

#تهميش الأمة:عطل مشاريع النهضة

السيد أبو داود 14/10/1423

18/12/2002

هل التخلف هو قدر العرب المحتوم ؟ أليس هناك أمل في نهضة عربية تنفض غبار قرون الانحطاط عن هذه الأمة التي ذاقت عز المجد من قبل ؟ وإذا كان مشروع جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده قد فشل في تحقيق النهضة على الأساس الإسلامي، وإذا كان كذلك مشروع النهضة "التنويري" الذي بدأه رموز العلمانية والتغريب في بداية القرن الحالي قد فشل أيضاً في تحقيق النهضة المنشودة، ومن قبل هذين المشروعين فشل مشروع محمد علي في تحقيق النهضة لمصر، كما فشل مشروع جمال عبد الناصر بعد ذلك في تحقيق الشيء نفسه، فهل هناك أمل في النجاح بعد كل هذا الفشل والإخفاق؟ وما هي ملامح مشروع النهضة المنتظر؟ وكيف يمكن أن يحظى هذا المشروع بقبول مختلف ألوان الطيف السياسي والفكري في أمتنا العربية ؟

ورغم أن تقرير "التنمية الإنسانية العربية" لسنة 2002، الصادر عن برنامج الأمم المتحدة الإنمائي والصندوق العربي للإنماء الاقتصادي والاجتماعي في يوليو الماضي يلاحظ أن الدول العربية حققت تقدماً كبيراً في التنمية البشرية، على مدى العقود الثلاثة الماضية، يتمثل بارتفاع العمر المتوقع عند الميلاد بمعدل 15 عاماً، وانخفاض معدلات وفيات الأطفال، وازدياد نسبة الملمين بالقراءة والكتابة، وارتفاع نصيب الفرد من السعرات الحرارية الغذائية، ومن الماء الصالح للشرب يومياً، وتراجع نسبة حالات الفقر المدقع، إلا أن الأرقام تدلل أيضا، على حجم الهوة التي تفصل العرب عن إنجازات التقدم المتحققة في العالم، في مختلف المجالات.

وبحسب التقرير، فقد كان معدل نمو دخل الفرد العربي، خلال العقدين الماضيين، هو الأقل في العالم باستثناء إفريقيا جنوب الصحراء، إذ إنه لم يتجاوز نصف في المائة سنوياً، واستمرار هذه المعدل يعني بأن المواطن العربي يحتاج إلى 140 عاماً ليضاعف دخله، بينما يستطيع المواطن في مناطق أخرى مضاعفة دخله مرة كل عشر سنوات، وبحسب التقرير فقد بلغ الناتج المحلي الإجمالي لكل البلدان العربية في العام 1999 ما مقداره 5312 مليار دولار أميركي، أي ما يشكل أقل من دخل دولة أوروبية واحدة مثل إسبانيا والتي يقدر ناتجها المحلي الإجمالي بحوالي 5955 مليار دولار، أما إنتاجية العامل الصناعي العربي فهي منخفضة ويترافق ذلك مع تدهور الأجور ما يفاقم من حدة الفقر، ويقدر التقرير حجم البطالة في الدول العربية بحوالي 12 مليون عاطل من العمل عام 1995، أي ما يوازي 15 في المائة من قوة العمل، ويتوقع أن يصل عدد العاطلين إلى نحو 25 مليوناً سنة 2010.

ويشير التقرير بأن كل واحد من بين خمسة أفراد عرب يقل دخله عن دولارين في اليوم، وثمة 65 مليون أمي ثلثهم من النساء، كما لوحظ انحسار في فرص التعليم والتعلم. ويبدي التقرير قلقاً تجاه الشباب العربي الذين يشغلهم تأمين فرص العمل والتعلم، ومما يزيد القلق أن 51% من المراهقين صرحوا برغبتهم في الهجرة لعدم رضاهم عن الأوضاع الحالية والفرص المستقبلية في بلدهم الأم.

ويعد تمويل البحث العلمي في العالم العربي من أكثر المستويات تدنياً في العالم، إذ يبلغ معدل الإنفاق العلمي نسبة إلى الناتج المحلي 014 في المائة فقط في العالم العربي عام 1996 في حين أنه يبلغ 253 في المائة عام 1994 في إسرائيل، و29 في اليابان، أما الاستثمار في البحث والتطوير فهو اقل من سبع المعدل العالمي، كما أن استخدام المعلوماتية في الدول العربية أقل من أي منطقة أخرى في العالم، إذ لا تتجاوز نسبة مستخدمي الإنترنت 06 في المائة ويملك 12 في المائة فقط من المواطنين العرب حاسوباً شخصياً، ويبلغ النقص في الإنتاج الفكري والإبداع في العالم العربي حدا كبيرا، فمجموع ما يترجمه العرب من الكتب 330 كتاباً سنوياً، وهو خُمس ما تترجمه اليونان، وخلال الألف سنة الماضية، ترجم العرب من الكتب بقدر ما ترجمته إسبانيا في سنة واحدة؟.

ويصل التقرير إلى حقيقة مفادها أن النقص في المعرفة والحريات يكبل الطاقة الإبداعية للعقول وأن الثقافة والقيم هما روح التنمية، وأن التنمية الإنسانية هي تنمية الناس ومن أجل الناس ومن قِبَل الناس، وفي هذا الصدد تبدو المقارنة مع إسرائيل ليست في صالح العرب، من مختلف الوجوه، إذا تجنبنا العوامل المتعلقة بالمساحة وعدد السكان والتاريخ والثقافة وأيضا الثروة النفطية، وهي عوامل تؤكد من الجهة الأخرى، حجم الإخفاق العربي في مقابل النجاح الذي حققته إسرائيل: قليلة العدد صغيرة المساحة والتي تفتقد للعمق الحضاري ـ الثقافي.

هل عطّلت الدولة العربية الحديثة نهضة الأمّة؟

توصّل الإنسان بعد تجاربه الطويلة في الحياة الجماعية إلى اتّخاذ نظام الدولة نظاما اجتماعيا يشرف على الحياة العامّة ويرتّب شؤونها، ويكفّ الأفراد والجماعات عن الصراعات المهلكة، ويوجّههم إلى التعاون المثمر، وقد أصبحت المهمّة الأساسية للدولة هي أن توفّر للمجتمع الشروط الأساسية للنموّ الحضاري، من أمن داخلي وخارجي، وتنظيم إداري، وتخطيط مستقبلي، وتيسير لسبل الريادة في التفكير والتدبير والإنجاز.

ولكنّ التاريخ عرف نماذج من الدول انحرفت فيها الدولة عن القيام بهذه المهمّة الأساسية، التي من أجلها وجدت، بل لم يقف انحرافها أحيانا عند عجزها عن توفير شروط النهضة، وإنّما تحوّلت إلى عوامل مضادّة، تعطّل المجتمع عن حركة النموّ الحضاري، وتعطّل طاقاته الذاتية عن النهضة، ونحسب أنّ الدولة العربية الحديثة ليست ببعيدة عن أن تمثّل هذا الأنموذج المعطّل للنموّ الحضاري للأمّة العربية.

لمّا نشأت الدولة العربية الحديثة كان أمام صانعيها أنموذجان للدولة مرشّحان للاقتباس منهما، والاستفادة من التجربة الحضارية فيهما: أنموذج الدولة الإسلامية، كما رسمت معالمها التوجيهات الدينية، وكما تحقّقت في التجربة التاريخية، وأنموذج الدولة الغربية الحديثة، كما هي قائمة بالفعل في البلاد الأوروبية، على وجه الخصوص.

ولم تكن الدولة الإسلامية محلّ نظر ودرس من قِبل أولئك الصّنّاع، بنيّة الاقتباس منها، بالرغم من أنّها تمثّل مخزونا حضاريا ثريّا للأمّة، في شأن الحكم والبناء الحضاري، بل صُرف عنها النظر بصفة شبه مطلقة، واستدارت الأنظار كلّية إلى الدولة الغربية الحديثة، التي أعشى بهرجها الأبصار، لتكون محلّ الاقتباس بل المحاكاة والاحتذاء.

وقد كان لهذا الموقف غير المنطقي من الناحية المنهجية، وغير الوفيّ من الناحية الثقافية والحضارية، أثر بالغ السوء في بناء الدولة العربية الحديثة، وفي علاقتها بالمجتمع، وفي نتائج إدارتها للأمّة من أجل النهضة.

ربّما كانت بعض سلبيات الدولة الإسلامية، كما تحقّقت في واقع التاريخ،مثل ما فشا فيها من استبداد سياسي،ومثل قصورها في بناء المؤسّسات السياسية الثابتة، صارفا حاسما عن النظر فيها، من أجل الاقتباس، ولكنّ ذلك كما أنه خطأ منهجي، كان أيضا صارفا عن استفادة قيّمة من جوانب إيجابية كثيرة في تلك الدولة، أثبتت التجربة نجاعتها في إدارة المجتمع، وفي تحقيق النموّ الحضاري، فخسرت الدولة العربية الحديثة بذلك مصدرا مهمّا من مصادر البناء المثمر، وحصدت نتيجة خطئها فشلا في إدارة المجتمع، واستنهاض قواه الفاعلة.

نتائج استبعاد الخبرة الإسلامية

ولعلّ من أهمّ إيجابيات الدولة الإسلامية، التي حرمت منها الدولة العربية الحديثة، فباءت في شأنها بالخسران، ما كانت تلك الدولة تتيحه للمجتمع من هامش واسع لحرّية التصرّف في الشؤون العامّة، ومن المسؤولية في البناء الحضاري، إذ لم تكن الدولة الإسلامية تقبض من السلطات بصفة قويّة مباشرة، إلاّ على سلطة الأمن، بالمعنى الموسّع، الذي يشمل دفع العدوان الخارجي، وإقامة العدل بين الناس، وإشاعة الطمأنينة فيهم، وذلك من خلال مؤسّسات الجيش والشرطة والحسبة والقضاء وما في حكمها، وأمّا المهامّ البنائيّة فهي في مجملها تركت في إنجازها للأمّة، ولم يكن للدولة إلاّ دور الإشراف العامّ، وتوفير الشروط الممكّنة من الابتكار ومن الإنجاز.

لقد كان المجتمع الإسلامي، هو الذي يمارس مهمّة التربية والتعليم، من خلال المؤسّسات التعليمية الأهلية، ويمارس مهمّة البناء الاقتصادي، من خلال مؤسّسة الأوقاف، ويمارس مهمّة الرّعاية الاجتماعية، من خلال مؤسّسات التكافل، في دوائر اجتماعية متعدّدة، ولمّا كانت هذه المهامّ ذات البعد الاستراتيجي في البناء الحضاري قد تكفّلت بها الأمّة، فإنّها لم تتأثّر كثيرا بما تعرّضت له الدولة من اضطرابات سياسية، بل ومن انكسارات عسكرية مدمّرة، فقد ظلّت الحضارة الإسلامية تنمو في شتّى المجالات، بالرغم ممّا أصاب الدولة من انتكاسات، وما تعرّضت له من أحداث طامّة.

وعلى سبيل المثال فإنّ الدولة الإسلامية لمّا كانت تتعرّض للاضطراب الشديد بالانتقال من الأمويين إلى العبّاسيين، وبالفتنة بين المأمون العباّسي وأخيه الأمين، فإنّها كانت في الوقت ذاته تشهد أزهى عصورها في البناء الحضاري العام، فقد كان الحكم منهمكا في الفتنة، وكانت الأمّة بما لها من استقلالية منهمكة في البناء.

وقد لا يجد المؤرّخون تفسيرا غير هذا التفسير لحقيقة استمرارية الحضارة الإسلامية، بالرغم من تعرّض الدولة الإسلامية لطامّات، عرف التاريخ سقوط حضارات عاتية، بسبب ما هو دونها من الخطوب بكثير.

والدولة الحديثة في الغرب حينما اتجه ناحيتها بُناة الدولة العربية للنسج على منوالها، كانت قد انتهجت في إدارة الحياة نهج الإشراف المباشر على المرافق العامّة، التي كانت تضطلع بها الأمّة في الدولة الإسلامية، فتولّت هي التخطيط والتنفيذ، بصفة كاملة لشؤون التربية والاقتصاد والرعاية الاجتماعية وغيرها من المهامّ الاستراتيجية، ولكنّ هذا التولّي المباشر لتلك الشؤون، كان بتفويض من الأمّة، ونيابة عنها، وفق عقد مراضاة بين الطرفين، تقرّر فيه الأمّة ما تشاء، وتنفّذ فيه الدولة تلك القرارات، تحت المراقبة والمحاسبة من الوكيل المفوّض، فصار ذلك يشبه أن يكون وجها آخر لتولّي الأمّة لشؤونها الاستراتيجية ،كما انتهجته الدولة الإسلامية بصفة مباشرة، ولكنّه وجه مبنيّ على قواعد من المؤسّسات الثابتة والقوانين الملزمة.

ولكنّ الدولة العربية الحديثة لمّا نسخت منهج الدولة الغربية في الإدارة الشاملة لحياة الأمّة، أسقطت منه أهمّ عناصره، وهو التفويض الشعبي، فإذا هي تستولي على جميع مقاليد الحياة العامّة، وتدّعي لنفسها القدرة على النهوض بهذا العبء الثقيل، ثمّ هي تسلب من الأمّة في ذلك الاستيلاء، وبذلك الادّعاء، حقّ القيام المباشر على شؤونها، وحقّ الإنابة عنها، وحقّ الاختيار لنمط ما تريد جميعا، ومضت هي بمعزل عن الأمّة تقرّر في كلّ شيء، وتنفّذ في كلّ شيء، متجاوزة الدولة الغربية في أصل ما انتهت إليه من مبدأ التفويض والنيابة، ومتجاوزة إيّاها في حجم ومساحة ما تعهّدت به من النيابة عن الشعب في إدارة حياته.

خطورة تهميش دور الأمة

ولمّا كانت المهمّة، التي ادّعتها الدولة العربية الحديثة لنفسها غير قائمة على أساس من الحقّ في أصلها، وغير مقدور عليها في الواقع من قِبل الدولة عموما، ومن قبل الدولة العربية الحديثة التكوين خصوصا، فإنّ الفشل في أدائها كان محتوما، ولمّا استشعرت الدولة ذلك الفشل، أصبحت في سبيل إخفائه، والتنصّل من تبعاته، تخبط خبط عشواء، على غير محجّة بيّنة، وإلى غير هدف معلوم، فإذا هي تردّ على المجتمع كثيرا من المهامّ، التي سلبته إيّاها، ولكن على مستوى التنفيذ فقط، حتى انتهت أحيانا، لمّا عجزت عن أداء مهمّتها الأساسية، وهي حفظ الأمن، إلى أن تعهد بهذه المهمّة لهيئات شعبية تسلّحها لتقوم بحفظ الأمن بدلا منها، وأماّ الاختيار والقرار، الذي هو من الحقّ المطلق للأمّة، فقد احتفظت به لنفسها، واستماتت في الاستئثار به والدفاع عنه.

لقد انتهى أمر الدولة العربية الحديثة في هذا الشأن إلى ضرب من الكاريكاتير المضحك المحزن في آن معا، فهي قد استدارت عن تجربة الدولة الإسلامية في إفساحها مجالا واسعا من حرّية الإنجاز الحضاري للأمّة، والحال أنّ تلك الدولة هي الأنموذج الأقرب منها روحيا وثقافيا، ثمّ ذهبت تنسخ تجربة الدولة الغربية الحديثة، ولكنّه نسخ ممسوخ، إذ قد أصبحت فيه شمولية الدولة، تضمّ شمولية الاختيار إلى شمولية التنفيذ، فأُلغي دور الأمّة قرارا اختياريا وتنفيذا عمليا، ثمّ انتهى الأمر إلى أن استبدّت الدولة بالاختيار، وتقاعست في مستلزمات التنفيذ، ملقية بالكثير من أحمالها على عاتق الأمّة، التي أصبح عليها أن تنفّذ ما تختاره لها الدولة، وبذلك أصبحت هذه الدولة تطّرح في كلّ مرحلة أحسن الأوضاع، وتأخذ بأسوئها، حتى تمحّضت لها السيّئات.

ولا شكّ أنّ هذا المنتهى، الذي انتهت إليه الدولة العربية الحديثة، كانت له آثاره البالغة السوء على حركة النهضة، إذ النهضة لا تقوم بها إلاّ الأمّة، التي منها يكون الاختيار، ومن خصوبتها ينشأ الابتكار، وبيدها أو على عينها يتمّ الإنجاز، وما مهمّة الدولة إلاّ توفير الأسباب الدافعة إلى ذلك، والمساعدة عليه، وانتهاج الطرق الإدارية المفعّلة له والميسّرة لمسالكه.

وإذا ادّعت الدولة العربية الحديثة أنّها ستقوم- بديلا من الأمّة- بإنجاز كلّ تلك المهامّ، ومنعت المجتمع من أن ينتظم في مؤسّسات سياسية واقتصادية وتربوية، يقوم من خلالها بمهامّه الحضارية، وإن هي سمحت بشيء من ذلك، فبشرط أن تطبّق اختياراتها هي لا اختياراته هو، ثمّ هي قابلت بالقمع كلّ الاحتجاجات الصادرة عن المجتمع، ناقدة لهذا الوضع، ومطالبة بتصحيحه، وكانت خلاصة ذلك كلّه كبت قوى الأمّة أن تنطلق، وإعاقة خصوبتها أن تثمر، والحجر على قدراتها أن تأخذ طريق الابتكار والإبداع، فانكفأت على ذاتها تجترّ انكسارها، وتراوح مكانها في ميدان التقدّم، إن لم تكن تقهقرت في أكثر من مجال من مجالات الحياة

=============

#مستقبل الإسلام في الغرب !(1/2)

يحيى أبو زكريا – السويد الإسلام اليوم 19/10/1423

23/12/2002

استطاع الإسلام بما يملكه من ديناميكيّة ذاتيّة أن يفرض نفسه على الخارطة الغربية وأن يصبح سؤالا ملحّا على الغربيين بمختلف مستوياتهم الاجتماعية والثقافية و الفكريّة .

وقد خططّت الإستراتجية الإعلامية الصهيونية في الغرب أن يكون الإسلام عدوا رقم واحد للحضارة الغربية والغربيين والديّانة المسيحيّة لكنّ هذا التخطيط نجح في وسائل الإعلام الغربية إلى حدّ ما غير أنّه أنتج حالة فضول لدى الإنسان الغربي بضرورة التحرك فكريّا لإجراء مراجعة فكرية وثقافية للإسلام من خلال البحث عن الكتب التي تتحدث عن الإسلام والإقبال على شراء معظم الكتب المعرفيّة التي تشرح الظاهرة الإسلامية في أبعادها العقائديّة والتشريعية و الثقافيّة , إلى درجة أنّ صحيفة سويدية مشهورة سألت مطربة سويدية مشهورة أيضا عن الكتاب المفضّل الذي تقرأه هذه الأيّام فأجابت بأنّه القرآن .

وفي هذا السيّاق يشار إلى أنّ الكتب التي تتحدّث عن الإسلامباتت تحققّ أعلى المبيعات في معارض الكتب في الغرب , كما أنّ دور النشر الغربية اتصلت بالعديد من المتخصصّين في الدراسات الإسلامية والحضارة الإسلامية والعربية للكتابة في مواضيع بعينها على صلة بالإسلام , كما أنّ المعاهد الجامعية الغربية باتت تحضّ الباحثين الراغبين في إنجاز أطروحات دكتوراة للكتابة عن الحركات الإسلامية أو المذاهب الإسلامية وغيرها من المواضيع ذات العلاقة بالإسلام .

أمّا البرامج التلفزيونيّة التي تصوّر حياة المسلمين في أكثر من قطر إسلامي فقد أصبحت من الكثرة بحيث يندهش المشاهد للقنوات الغربية لهذا السيل الإعلامي الذي يتناول ظواهر الإسلام والمسلمين في خطّ طنجة – جاكرتا.

ورغم جدارات برلين الاجتماعية والثقافية والسياسية والأمنية والإستراتيجية المتعددة التي أقامها الغرب بينه وبين الإسلام منذ طرد المسلمين من الأندلس ومرورا بالحركات الاستعمارية ووصولا بالغارة الكبرى على عالمنا الإسلامي , إلاّ أنّ الإسلام استطاع أن يصل إلى جغرافيا الغرب , تماما كما تمكنّ الغرب من الوصول إلى مواقعنا على متن البواخر الشراعية فالبواخر الحربية والطائرات , والمفارقة الأساسيّة بين قدوم الغرب إلى مواقعنا الجغرافيّة و ذهاب الإسلام إلى مواقع الغرب الجغرافية تكمن في أنّ المعسكر الغربي قدم إلى مواقعنا بقوّة السلاح فيما ولج الإسلام الخارطة الغربية بقوته الذاتية أصلا منذ فتح الأندلس وإلى يومنا هذا . بالإضافة إلى ذلك فإنّ حركة انتقال المسلمين من الإسلام وإلى النصرانية ضئيلة للغاية إذا ما قورنت بحركة الأسلمة وسط الشباب والشابات الغربيين والأكاديميين الغربيين التي باتت ظاهرة في حدّ ذاتها .

وهذه الديناميكيّة التي يتمتّع بها الإسلام في الغرب لم تكن وليدة تخطيط معمّق وإستراتيجية دقيقة من قبل مسلمي الغرب الذين لجأ ثلثاهم إلى الغرب بداعي تحسين الوضع الاقتصادي أو الفرار من الوضع الاجتماعي القائم في واقعنا العربي والإسلامي , بل إنّ جزءا كبيرا من جاليتنا العربية والإسلامية أساءت إلى حضارتها وحدّت من ديناميكية الإسلام في الغرب بشكل محدود , بل إن الإسلام يملك عوامل القوة الحضارية الذاتيّة .

فماذا لو كان للمسلمين في الغرب تلك الإستراتيجية التي بموجبها يصلون إلى العقل الغربي عبر تفعيل حركة الترجمة من اللغة العربية وإلى اللغات الغربية وعبر تملّك وسائل إعلام هادفة فلو تحققّت هذه المعادلة أي ديناميكية الإسلام زائد وعي المسلمين في الغرب لأمكن في ظرف وجيز أن يصبح الإسلام ظاهرة حضارية وفكريّة راقيّة ,وقد صدق ذلك الأستاذ الأوروبي الذي أسلم وقال لأحد علماء الأزهر : أدركوا أوروبا بإسلامكم قبل أن تتهندس أو تتبوّذ أي تصير هندوسيّة أو بوذيّة .

ومع كل ما جئنا على ذكره فقد أصبح مستقبل الإسلام في الغرب سؤالا ملحا ومكررا لعشرات الدوائر والمعاهد , وأفرز هذا السؤال مجلدات وكتبا من الأجوبة ومازال يحرك العديد من الخلايا الدراسية في الدوائر الحسّاسة والمراكز الإستراتيجية السريّة والمعلنة أحيانا.

وتذهب بعض هذه الدراسات التي وضعت من قبل منظرّين غربيين إلى أنّ الإسلام في الغرب أصبح حقيقة قائمة لا مناص منها ولا مفّر , فلا يخلو شارع أوروبي من مسجد أو امرأة محتجبة أو مدرسة إسلامية أو ملحمة كتب على بابها : نبيع اللحم الشرعي أو لحومنا مذكاة على الطريقة الإسلاميّة وغير ذلك من التمظهرات الإسلاميّة .

كما أنّ بعض هذه الدراسات تؤكّد بأنّ ملايين المسلمين أصبحوا أوروبيين بحملهم الجنسيات الأوروبية وأنّهم متساوون في الحقوق والواجبات مع السكّان الأوروبيين الأصليين , لهم أن يصوتوا ولهم أن يشكلّوا أحزابا ولهم أن يفتحوا إذاعات وتلفزيونات وما إلى ذلك . والأخطر ما في هذه الدراسات إشارة إلى أنّ التكاثر بين المسلمين الغربيين في اطراد فيما النسمة الغربية آيلة إلى الشيخوخة , وقد أشارت دراسة حديثة إلى أنّ نسبة المتقاعدين من الغربيين بعد عشر سنوات سيكون مذهلا والذي سيعوّض مناصب الشغل سيكونون من المهاجرين العرب والمسلمين وبقيّة القادمين من العالم الثالث ومعنى ذلك أنّ المسلمين سيدخلون في قلب المعادلة الاقتصادية للغرب والغرب يعتبر أنّ أمنه الاقتصادي كأمنه السياسي

============

#أسلمة العلوم .. ضرورة يفرضها الواقع الراهن

الإسلام اليوم –القاهرة : 26/2/1423

09/05/2002

الواقع الإسلامي أصبح يتطلب إيجاد ترجمة للمصطلح بغية اللحاق بثورة التكنولوجيا والمعلومات التي يشهدها العالم في الوقت الراهن .

ولا شك أن هذه الترجمة ستكون باعثة فيما بعد للحديث بشكل أعمق نحو أسلمة العلوم ، وإن رأى الكثيرون أن التعريب جزء من الأسلمة .

وللوقوف حول هذه القضية المهمة في هوية الأمة في الحفاظ على لغتها وكيانها من الذوبان في الهويات الأخرى وإمكانية التطبيق ، وأهداف الأسلمة ، في وقت يلفظ فيه العالم الكيانات الصغيرة ، ولا بقاء فيه إلا للتجمعات الكبيرة ، والتي يسهل لأمتنا الإسلامية أن تحقق وجودها فيها ، إذا خلصت النوايا ، وصدقت العزائم جاء ذلك في التحقيق التالي :

التعريب جزء من الأسلمة

د. كمال بشر الأمين العام لمجمع اللغة العربية بالقاهرة يقول : إن التعريب جزء من الأسلمة ، و لقد اهتم المسلمون منذ فجر الدعوة الإسلامية بالتعليم ، وعدّوه الوسيلة الرئيسة لنشر الدعوة، وأسسوا للتربية مراكز وقواعد ونظمًا ومناهج وطرائق ، وكتبوا في العلاقة بين المعلم والمتعلم ، والأخلاق الواجبة لكل منهما ، والحال التي ينادي بها العلم ، والعوائق التي يمكن أن تقف في سبيل ذلك ، مما يُعَدُّ أساسا ثابتا في مناهج التربية بمقاييسها العصرية ، وقد كانت التربية تبدأ منذ الصغر في وسط الأسرة بالمحاكاة والتقليد والممارسة؛ لأن واجب الوالدين في الأسرة المسلمة تعليم أطفالهما مبادئ الإسلام وعباداته وسير الأنبياء والصالحين بطريقة مبسطة تستوعبها قدرات عقولهم وإدراكهم وحسهم ، ثم ينتقل الطفل بعد ذلك إلى الكتاب ، وكانت الكتاتيب في الأساس مدارس لتحفيظ القرآن الكريم وتأديب الصغار ، وكانت ملحقة بالمسجد أو مبنية بالقرب منه ، حيث كانت تنشر بالقرى والنجوع والمدن والأمصار ، وكانت تستقبل الصغار من سن الإدراك - أي حوالي السادسة - إلى ما دون سن التكليف ليتعلموا فيها القرآن الكريم، وأصول القراءة والكتابة ، وتحسين الخط، وعلوم الحساب، ورواية الأخبار، وشيئا من الشعر بما يتوافق وتباينَ المعلمين واختصاصاتهم، والمجتمعات ومتطلباتها .

ويضيف د. بشر أن العمل على تعريب العلوم في مختلف تخصصاتها يؤدي إلى وقف المدارس التنصيريه ، وأنشطتها المختلفة .

ويطالب بدعوة المسلمين بعدم إرسال أبنائهم إلى مثل هذه المدارس وضرورة تدريس الثقافة الإسلامية بمعناها الواسع في المدارس والجامعات بدول العالم الإسلامي ، والعمل على إصدار دائرة معارف إسلامية شهرية أو ربع سنوية، وإجراء المسابقات على مجالات التقنية الحديثة؛ لمعرفة المستوى القادر على نقل مناهج الغرب وترجمتها، والعمل على إحياء دور المنظمات والمؤسسات الإسلامية في قيام منهجية للأسلمة .

معاني الأسلمة

الدكتور ناصر الدين الأسد (رئيس المجمع الملكي لبحوث الحضارة الإسلامية في الأردن) يرى أن التعريب أو الأسلمة له معان كثيرة ، فهو استخدام اللغة العربية كلغة للتدريس في الجامعات والمدارس كلها ، وفي جميع الموضوعات العلمية والنظرية والتطبيقية ، كما أن استعمال العربية لغة للتدريس مع مرور الزمن يعني – بالضرورة- تعريب المصطلح في الوقت الحاضر، ويمكن للمصطلح مع مرور الزمن وبالتدريج أن يعرب ليستخدم فيما بعد في لغة الشرح والتوضيح، والجمل الواصلة ، فالمصطلح وإن كان معضلة فلا يجوز أن يؤخر التعريب خاصة وأن المصطلحات تتراكم كل يوم وتتكاثر بمئات الألوف لا نستطيع ملاحقتها خاصة أنها من صنع غيرنا .

ويقول د. الأسد إن الخطوة الأولى هي أن يتم تعميم اللغة العربية عند الناشئة ، وأن يتم استخدام لغة سهلة ومبسطة ، بعد أن أصبحت اللغة " المتقعرة " لا تصافح آذانهم في الجامعات، أو المدارس، أو في أجهزة الإعلام ، ثم نطلب منهم بعد ذلك التحدث بهذه اللغة ، وهي لغة القرآن الكريم .

ويطالب د. الأسد بحماية اللغة العربية من الجهات الدخيلة عليها ، خاصة وأنها تتعرض لمواجهة طاغية من جانب اللهجات العامية ، وإنشاء معهد لتدريب اللغة العربية بوصفها مدخلا أساسًا للتعريب والأسلمة ، فهي لغة تستوعب مصطلحات العلوم الكونية، والهندسية، والطبيعية، والإحيائية ، وغيرها من العلوم والآداب المختلفة .

إحياء التراث الإسلامي

المفكر الإسلامي المعروف الدكتور عبد الصبور شاهين (الأستاذ بكلية دار العلوم بجامعة القاهرة) يشدد على ضرورة التركيز على جوانب متعددة عند الشروع في الأسلمة ، أهمها: دراسة مناهج الغرب، وإنشاء مراكز تعليمية متخصصة ومتنوعة تقوم على إثراء الجامعات بأحدث الإصدارات وطبيعة الاكتشافات الحديثة ، وتخريج العديد من العلماء المسلمين لحمل الفكر الإسلامي إلى البشرية كلها .

ويطالب د. شاهين بالأخذ بالأسباب والوسائل؛ لإعادة توطين العلم واستنبات بذور الترقي والتقدم، وتسكين الحضارة العالمية في الأراضي العربية خاصة والإسلامية عامة بعد أن هجرتها سنين طوالا .

ويقول :إنه ينبغي اقتباس الجانب العلمي فقط بما يتلاءم وطبيعةَ الإسلام والابتعاد عن الجانب السلبي في الحضارة العالمية ، وأن يتخذ المسلمون اللغة العربية عنصرًا فاعلاً في تقديم الأبحاث والدراسات خاصة أن للغة العربية وظائفها الاجتماعية، والثقافية، والنفسية، والعقلية، حيث نعتمد على اللغة في الترابط بين المجتمع، وتسجيل التراث العقلي ونقل علومه وثقافته ، كما نعتمد عليها في الإقناع وإثارة الوجدان وتذوق المعاني وصياغة الأفكار وإشباع الحاجات النفسية والعقلية .

ويقول د. شاهين إن الحاجة أصبحت ملحة إلى الاطلاع على ما وصلت إليه العلوم على يد الغرب بعد حركة البعثات العلمية وترجمة العلوم الأوروبية ، بل ظهرت الدعوة في الاعتماد على اللغة الأجنبية في التعليم الأمر الذي يتطلب إحياء التراث الإسلامي في فكره ومنهاجه ، وتضييق الشقة بين اللهجات الدارجة وبين اللغة الفصيحة ، وتنمية القدرات على تذوق الجمال ، وتنظيم الأفكار وتفهم سلوك الناس ، وإدراك قيم الأشياء مما يحقق التجاوب النافع مع المجتمع فكريا ووجدانيا ، والقدرة على استخدام اللغة العربية بشكل سليم أداء وتلقيا، بحيث يعبر عما بداخله ويفهم ما يسمعه أو يقرؤه .

==============

#تحالف عسكرى استراتيجى على أرضية صراع الحضارات ضد العرب والمسلمين

طلعت رميح 30/1/1423

13/04/2002

وقت أن تدهورت الأوضاع على الحدود الهندية الباكستانية ووصلت حافة الحرب،اوفدت الحكومة الهندية وفدا "شعبيا" إلى مصر للقاء المثقفين والكتاب والصحفيين المصريين وشرح وجهات النظر الهندية فى أسباب تدهور الأوضاع على الحدود مع التركيز على الرؤية الهندية من قضية كشمير.

فى هذا اللقاء كانت الملاحظة الابرز لدى،هى حالة الانزعاج لدى الحاضرين من الكتاب والمثقفين من زيارة وزير الخارجية الإسرائيلى إلى نيودلهى من منطق أن للهند دور تاريخى فى حركة عدم الانحياز وادركت أن الحاضرين يتحدثون عن ماض بعيد ولا يدركون المدى الخطير الذى وصلت إليه العلاقات الهندية الإسرائيلية خلال السنوات العشر الأخيرة والتى اصبحت أخطر العلاقات الخارجية للكيان الصهيونى فى قارتى افريقيا وأسيا بل والأكثر تاثيرا على مجريات ومستقبل الصراع العربى الإسلامى مع الصهاينة.

والحقيقة أن العلاقات الهندية الإسرائيلية -أسبابها وأهدافها وطبيعتها وحدودها ومداها الإستراتيجى الذى وصلت اليه والأرضية الفكرية التى يقوم عليها-ما تزال مجهولة وغير مفهومة عربيا وإسلاميا إلا فى نطاق ضيق،حيث يتركز الاهتمام العربى والإسلامى على طبيعة هذه العلاقات من زاوية كشمير وفى أفضل الاحوال من زاوية بعض الصفقات العسكرية وبعض العلاقات الدبلوماسية الشكلية التى لا يصدر عنها ما يعبر حقيقة ما جرى ويجرى.ومع عدم تقليل الأهمية النظر من هذه الزوايا-خاصة قضية كشمير التى هي حالة شبيهة بحالة فلسطين-إلا أن هذه العلاقات أصبحت اليوم علاقات تحالف استراتيجى سياسى وعسكرى واقتصادى ..والأهم أنها تبنى على أرضية صراع الحضارات .

منذ وصول المتطرفين الهندوس إلى السلطة فى الهند (حزب بهارتيا جاناتا) بدأت إسرائيل السعى لتطوير هذه العلاقات على أساس إقامة تحالف حضارى هندوسى يهودى فى مواجهة الحضارة الإسلامية والمسلمين باعتبار أن المسلمين عدوا مشتركا وأن المواجهة بين إسرائيل والعرب والمسلمين هى نفسها المواجهة العربية الإسلامية ضد الهند سواء من قبل المسلمين داخل الهند أو فى الصراع الهندى الباكستانى فى كشمير وأن المصالح العليا للهند وإسرائيل تتطلب تحالفا إستراتيجيا على كافة المستويات

بين فلسطين وكشمير

وواقع الحال أن من يتابع ما يجرى داخل الهند وكشمير سيجده متشابها إلى نحو كبير مع ما يقوم به الكيان الصهيونى فى فلسطين فكما حاول الصهاينة حرق المسجد الأقصى وكما يحاولون هدمه وبناء هيكل سليمان المزعوم ،قام المتطرفون الهندوس بهدم المسجد البابرى ومحاولة بناء معبد هندوسى مكانة إضافة إلى ما تشهده المساجد من اعتداءات شبه يومية. وكما تجرى عملية إبادة وقتل وتهجير للعرب والمسلمين فى فلسطين فى الهند وكشمير تجرى عمليات قتل وتهجير وإبادة للمسلمين وقدر عدد المسلمين الذين الذين قتلوا وحرقوا فى الأحداث الأخيرة فى حيدر آباد وحدها بالمئات .وكما تقوم كل القوانين داخل إسرائيل على اعتبار العرب الفلسطينيين مواطنين من الدرجة الثانية أقرت الأغلبية الهندوسية فى البرلمان الهندى منذ أيام قانونا لمكافحة الإرهاب يرى المسلمون أنه موجه ضدهم لحرمانهم من حقوقهم وإطلاق يد أجهزة الأمن الهندية فى ملاحقة قادتهم واعتقالهم.

وكما يطرح شارون والمتطرفون الصهاينة طرد الفلسطينيين إلى الأردن تقوم اطروحات الهندوس المتطرفين لحل مشكلة كشمير على أساس تهجير المسلمين منها إلى داخل الهند أو خارجها إلى باكستان ومن يريد البقاء فعليه تغيير دينه الاسلامى!.وكما تعتبر الهند الحركات الكشميرية حركات إرهابية فإن إسرائيل تعتبر الحركات المقاومة الفلسطينية حركات إرهابية ويجرى تنسيق أمنى مباشر وعلى الارض فى كشمير بين أجهزة الأمن الإسرائيلية والهندية وقد قتل المجاهدين الكشميريين بالفعل ضباط من الموساد على الأرض الكشميرية وأسروا ضابطا أخر .وكما تهدد اسرائيل بشن ضربات نووية ضد العرب والمسلمين تهدد الهند بقصف باكستان بالأسلحة النووية. وقد قامت الدولتان بوضع خطط مشتركة لقصف المنشآت النووية الباكستانية باعتبارها تمثل تهديدا لكلا البلدين ،وكما هو معلوم فإن كلا من الهند واسرائيل تؤيدان مبادرة الدفاع الإستراتيجى للولايات المتحدة وتطالبان بالانضمام إليها.

والحقيقة أن كل هذا الكلام لم يعد أمرا تحليليا ذلك أن كلا من إسرائيل والهند أقاما ما سمى بالمنبر الاستراتيجى للحوار بينهما منذ فترة طويلة ولم يعد التحالف الاستراتيجى أمرا خفيا

الدعم الأمريكي

هذه هى الخلفية فى الالتقاء بين المتطرفين الهندوس والصهاينة كانت الأرضية التى اندفعت عليها العلاقات الاسرائيلية الهندية منذ مطلع التسعينات فى كافة المجالات ففي المجال التجاري بين اسرائيل والهند وصل التبادل إلى 1250 مليون دولار خلال عام 2000بينما لم تكن فى عام 93 تزيد350 مليون جنيه .

أما التعاون العسكرى فقد نمى بشقية التكنولوجى والتجارى إلى افاق استراتيجية خطيرة.فى التعاون العسكرى هناك تقديم الهند ارضها للتجارب النووية الاسرائلية بديلا لجنوب افريقيا .وهناك اتفاقات انتاج الاسلحة الاسرائيلية فى الهند ،وهناك امداد اسرائيل للهند بصواريخ بحر-بحر،والطائرات بدون طيار،ومنظومات رادار،كما حولت اسرائيل صفقة الطائرات التى كانت باعتها للصين الى الهند وتتواتر الاخبار حاليا حول امداد اسرائيل للهند بمنظومة للصوارخ المضادة للصواريخ الباليستية بعيدة المدى من نوع ارو بتكلفة قدرها 2 مليار دولار .

واللافت للنظر هنا هو الخلفية الامريكية الداعمة للعلاقات الاستراتيجية الهندية الإسرائيلية حتى يرى كثير من المراقبين أن ما يجرى حقيقة هو تحالف إستراتيجى أمريكي هندى إسرائيلى .

يشير المراقبين إلى رفض أمريكا اتمام بيع صفقة طائرات الإنذار المبكر الإسرائيلية إلى الصين،وسماحها لها ببيعها للهند،وأيضا إلى إلغاء الولايات المتحدة بإلغاء العقوبات المفروضه على الهند بعد التفجيرات النووية ، بل يشيرون إلى القرض الذى قدمه البنك الدولى للهند بقيمة 3 مليار دولار ،منذ عام 1992 بمبادرة من اللوبى الصهيونى الامريكى ضمن اتفاق على إقامة علاقات استراتيجية هندية اسرائيلية.كما إن الولايات المتحدة تدعم التحالف الاستراتيجى الهندى الاسرائيلى كمحور فى استراتيجيتها الجديدة سواء فى مواجهة الحركة الاسلامية أو التواجد العسكرى فى القارة الاسيوية ولمواجهة القدرات النووية الباكستانية وللضغط الدائم على الصين.

وفى هذا السياق تجرى الاشارة إلى قيام الولايات المتحدة بامداد الجيش الهندى بنظام رادارى متطورضمن صفقة قدرت بنحو 641 مليون دولار.

إن النظر للعلاقات الهندية الإسرائيلية على هذا النحو يطرح تساؤلات خطيرة على العالم العربى والإسلامى الإجابة عليها بمستوى قدر التحديات التى تطرحها وربما كانت الخطوة المطلوبة اليوم بشكل عاجل - على الأقل -هى الدفع بالعلاقات العربية الباكستانية نحو تحالف إستراتيجى حقيقى فهذا اضعف الإيمان

=============

# أخر ماكتبه أنور الجندى

الضربات التي وجهت للانقضاض على الأمة الإسلامية

الاسلام اليوم - محمد بركة: 30/12/1423

14/03/2002

صدر حديثا عن دار الاعتصام في القاهرة كتاب: " الضربات التي وجهت للانقضاض على الأمة الإسلامية .. خمس مؤامرات كبرى على الإسلام من فجر الإسلام وحتى الآن، " للكاتب والمفكر الإسلامي أنور الجندي، الذي وافته المنية الشهر الماضى بعد رحلة طويلة من الجهاد والعمل الفكري.

يعد هذا الكتاب أخر ماكتبه الجندي حيث يحلل فيه المؤامرات الكبرى على الإسلام من فجره وحتى الآن ..فقد جاء الإسلام ليكون حدا فاصلا في التاريخ الإنساني بين عصر الأديان وعصر الدين العالمي الخاتم برسالة القرآن وقيادة محمد صلى الله عليه وسلم ، حاملا رسالة التوحيد الخالص ليخرج البشرية من الظلمات إلى النور .

وقد جاء كتاب "أنور الجندي" في تسعة أبواب كان عنوان الباب الأول : من جبهة بيزنطية إلى نهاية الحروب الصليبية . وأشاد فيه إلى أن أول أعمال الغرب المسيحي في مواجهة الفتح الإسلامي الزاحف هو العمل على صده ووقفه وتحطيم خطته التي كانت تتمثل في تحويل البحر الأبيض المتوسط إلى بحيرة إسلامية ، وكانت هناك جبهتان : الأولى هي بيزنطة ، والثانية : هي الأندلس .

وتحدث المؤلف عن الأحداث الكبرى فتحدث عن معركة ملاذكرد ( 463 هـ – 1071 م ) والحملة الصليبية الأولى ( 494 هـ – 1096 م ) ومعركة حطين ( 583 هـ – 1187 م ) ومعركة عين جالوت (658 هـ – 1259م)وآخر الحروب الصليبية (690 هـ – 1291م) .

أما الباب الثاني فتناول: الزحف المغولي التتري على أرض الإسلام من سقوط بغداد إلى نصر "عين جالوت" إلى إسلام "بركة خان" . وقام بتحليل الأحداث الكبرى مثل دخول قوات المغول إلى بغداد (656 هـ – 1257 م ) وانتصار جيش مصر على جحافل التتار ( 658 هـ – 1260 م ) وحملة التتار على حلب في نفس العام ثم الاستيلاء على أنطاكية (666 هـ – 1268 م ) .

كما تناول الباب الثالث : "جهاد المماليك في مواجهة خطر الصليبيين والتتار" وبين فيه أن هذه المرحلة العاصفة التي تفجرت فيها المؤامرات على الإسلام كشفت عن عناصر جديدة من المسلمين حملت لواء الدفاع عن الإسلام والجهاد في سبيله والاستشهاد من أجله تتمثل في: السلاجقة والأكراد والمماليك ، فمن السلاجقة ظهر "عماد الدين زنكي" و"نور الدين محمود" وكان دورهما في مواجهة الحروب الصليبية قويا وبارزا ، ومن الأكراد ظهر "صلاح الدين الأيوبي" الذي استرد بيت المقدس من أيدي الصليبيين ، ومن المماليك "قطز" و"الظاهر بيبرس" و"قلاوون" و"الأشرف بن قلاوون" وكان دور المماليك قويا وممتدا وحاسما فقد استطاعوا بعزيمة جبارة تصفية نفوذ التتار والصليبيين وتحقيق أكبر نصر في هذا المجال .

"عصر الإنقاذ "

يعد كثير من المؤرخين عصر المماليك بأنه عصر الإنقاذ فهم الذين أنقذوا الحضارة الإسلامية من الدمار العام على أيدي المغول والتتار حين حطموا قواتهم في عين جالوت ، وأنهم أنهوا الحكم الصليبي في بلاد الشام وأحيوا الخلافة الإسلامية وجعلوا مركزها القاهرة .

وكذلك كان الظاهر بيبرس أبرز هؤلاء الأبطال فقد قاد معركة عين جالوت مع قطز ثم انتزع صفد ويافا والشقيف وأنطاكية من "الإفرنج" ثم أقام منهج الإصلاح الاجتماعي على شرعة القرآن .

كما تميز عصر المماليك بظهور الموسوعات الكبرى في الأدب والنحو وعلم الحديث والفقه والتاريخ ففي عهدهم ظهرت الموسوعات : " صبح الأعش للقلقشندي ، ولسان العرب لابن منظور ، والفتاوى لابن تيميه ، ووفيات الأعيان لابن خلكان ، والبداية والنهاية لابن كثير ، وسير أعلام النبلاء للذهبي ، والنجوم الزاهرة لابن تفرى بردى ".

في الباب الرابع : "من الأندلس إلى قلب أوروبا" ، تناول المؤلف الأحداث الكبرى ومنها عبور طارق بن زياد نهر الزقاق ( 92 هـ – 711 م ) وسير عبد الرحمن الغافقي في جيش إلى فرنسا ( 110 هـ – 732 م ) ، كما تناول الغزوة لروما من مسلمي الأندلس وشمال إفريقيا وكريت بقيادة "يوسف بن تاشفين" ( 479 هـ 1088 م ) وتأكيده على إسلامية الأندلس إلى عام ( 897 هـ – 1492 م ) .

في الباب الخامس : "تطويق عالم الإسلام" يؤكد الجندي – رحمه الله - على مقاومة المسلمين عمليات التنصير والصمود في وجه الاجتياح، وغدر الحكام الجدد، واستمرار المقاومة من عام 1492 إلى عام 1608 م عندما قام الأسبانيون بطردهم نهائيا حين جمعوا مئات الألوف منهم في عملية تهجير بشعة وقذف بهم إلى الشاطئ الآخر (تطوان والجزائر وتونس) وحيل بين الأبناء والآباء والأمهات في ذلك العصر، كوسيلة من وسائل مطاردة المسلمين ومحاولة حصارهم للقضاء على الإسلام نفسه .

" الدولة العثمانية ..المفتري عليها "

في الباب السادس : " من فتح القسطنطينية إلى سقوط الخلافة" تحدث المؤلف عن ولادة الدولة العثمانية ( 687 هـ – 1288 م ) والهجرة إلى سواحل المغرب ودخول الأتراك أوروبا ومحاصرة العثمانيون لفيينا ، كما تحدث عن عزل السلطان عبد الحميد عام 1908 م .

ولا شك أن الدولة العثمانية في التاريخ الإسلامي دولة مفترى عليها ، كما أطلق عليها الدكتور عبد العزيز الشناوي في مؤلف يحمل هذا العنوان . فقد شكلت الدولة العثمانية منذ ظهورها خطرا متزايدا على أوروبا وتصدت للوجود البرتغالي في الخليج وفي المياه الشرقية وساندت مسلمي الأندلس الذين تعرضوا للاضطهاد الأسباني وحررت طرابلس الغرب وتونس والجزائر من الاحتلال، وسيطرت بعض الوقت على الملاحة في البحر المتوسط ، كما ساندت "مارتن لوثر" بوصف مذهبه أقرب إلى التوحيد الإسلامي من المذهب الكاثوليكي .

وفي الباب السابع : "الآن انتهت الحروب الصليبية" ، انتهت الحروب الصليبية بهزيمة قوى الغرب عام 1291 م وانسحابهم إلى بلادهم مدحورين ، ولكن الاستعمار ظهر بشكل آخر منذ قيام الحملة الفرنسية إلى مصر وبداية مرحلة النفوذ الأجنبي والسيطرة على العالم الإسلامي .

أما الباب الثامن : تناول سقوط القدس في أيدي الصهيونية ، ثم تحدث في الباب التاسع : عن أبعاد المؤامرة على الإسلام فتحدث عن الحملة الفرنسية على مصر 1798 م، ودخول الإنجليز القدس 1917 م، وإحراق المسجد الأقصى 1969 م، ولا تزال المؤامرة على الإسلام وبيت المقدس مستمرة .

كتاب أنور الجندي كتاب قيم يستحق القراءة والتأمل خاصة وأن صاحبه كاتب كبير له دور رائد في إيقاظ الوعي لدى شباب الصحوة الإسلامية في نهاية السبعينات وبداية الثمانينات من القرن الميلادي، ومؤلفاته دورها جلي في تصحيح العديد من المفاهيم المغلوطة والمنتشرة.

=============

#السلطة السياسية في الفكر الإسلامي

إدارة التحرير 9/11/1423

23/01/2002

المؤلف: محمد سليمان أبو رمان.

العنوان: السلطة السياسية في الفكر الإسلامي " محمد رشيد رضا نموذجا "

دار النشر: دار البيارق للنشر والتوزيع \عمان ، 2002 ، ط 1.

حجم الكتاب: متوسط (295) صفحة.

عرض: إدارة التحرير.

محمد رشيد رضا موضوع تحدّث عنه كثير من الباحثين والكتاب ..

لكن ميزة هذه الدراسة أنّها تتناول فكر الرجل من خلال أحد الموضوعات الرئيسة التي تثير جدالات معرفية وفكرية على درجة عالية من الأهمية في الفكر الإسلامي المعاصر، ويحاول الباحث محمد سليمان أبو رمّان فيها معالجة مفهوم السلطة عند الشيخ العلاّمة محمّد رشيد رضا من خلال تناول أبعاد المفهوم بشكل متكامل، إذ تمضي الدراسة (الأصل أنّها رسالة علمية تقدم بها المؤلف لنيل درجة الماجستير في العلوم السياسية) في فصولها الأربعة (وما تفرّع عنها من مباحث) في تجلية المفهوم من جوانبه المتعددة : التعريف ، الخصائص ، الأهمية ، الشرعيّة (وجوبا وسقوطا)، الضوابط العامة في الممارسة، الوظائف، السلوك الخارجي لها. في محاولة للاقتراب من الفكر السياسي الإسلامي من خلال أحد ابرز رواده في العصر الحديث وهو الشيخ محمّد رشيد رضا ( 1865-1935م) .

ورشيد رضا غني عن التعريف: فهو تلميذ الإمام محمد عبده، وحامل لواء المدرسة الإصلاحية بعد شيخيه (الأفغاني وعبده) ؛ من هنا نجد أحد أبرز التحديات التي تواجه الباحث وهو بيان تمايز رؤية رشيد رضا لمفهوم السلطة عن شيخيه – على الأقل في جوانب معيّنة – خاصّة وأنهّ تبنّى المنهج السلفي في العديد من آرائه العقدية والفقهيّة .

كما أنّ رشيد رضا صاحب "مجلّة المنار" التي استمّرت في الصدور بين عامي 1899-1935، وقد صدر منها خمسة وثلاثون مجلّدا ضخما ، وهو شريك الشيخ محمّد عبده في تفسير المنار والذي صدر منه اثنا عشر مجلّدا ، وله العديد من المؤلفات المختلفة الأخرى : وأهمها في مجال السلطة السياسية كتابه المشهور "الخلافة" – والذي نسجه على منوال كتب الكلام والأحكام السلطانية التراثيّة – وهذا بدوره يحمل تحديّا آخر للباحث : وهو استقصاء أراء وأفكار رشيد رضا في المراجع السابقة كلها ، وتحليلها ، وتجميعها ، وإعادة ترتيبها وبنائها لاستخلاص رؤية رشيد رضا المتكاملة والمترابطة لمفهوم السلطة .

من أجل ذلك كان لابد من حسن اختيار المنهج الذي يتناسب مع طبيعة كل مرجع من المراجع السابقة ، حيث تعتمد الدراسة على منهج تحليل النصوص – خاصّة نصوص رشيد رضا – ودراستها دراسة متأنيّة وفاحصة ، وقراءتها عدة قراءات ، تستنطق كل ما تستطيعه من النص ، لكن مع منهاجين ضابطين ومكملين لهذا المنهج وهما : المنهج التاريخي ؛ والذي يضع نصوص رشيد رضا كلّ في سياقه التاريخي ، وإكراهاته الواقعية ، وبالتالي يمكن التمييز بين ما هو رؤية ثابتة مستقرة وبين ما هو رؤية متغيرة مرتبطة بالأحداث في أفكاره ، ويتطلّب هذا الأمر دراسة عميقة متأنية ، واستحضار الظروف التاريخية والسيرة الذاتية له في كافة فترات الدراسة .

أمّا المنهج الآخر الضابط فهو المقارن؛ والذي يبيّن أوجه التوافق والاختلاف بين رشيد رضا وبين غيره من المفكرين سواء على مستوى الفكر الإسلامي أم الفكر الغربي ، ويستطيع القارئ بذلك معرفة أين يقع رشيد رضا في أرائه في موضوع السلطة من غيره من المفكّرين ؟ ، وما هي أوجه الإيناع في فكره السياسي؟ .

وبناء على هذه الاحتياطات المنهجيّة ، والمدخلات النظرية تسير الدراسة في تتبع مفهوم السلطة في فكر رشيد رضا ، ويمكن القول : إنّ أهم القضايا والخلاصات التي تحتويها الدراسة ما يلي :

1.إنّ السلطة السياسية في الإسلام هي سلطة مؤسسية وليست شخصيّة ، تتأسس على مبدأ سلطة الأمة في ظل الشريعة الإسلامية ، وبالتالي فالسلطة عنده تستمد شرعيتها من الأمة ومن إرادتها ، وليست سلطة ثيوقراطية (دينية) كالتي سادت في أوروبا في القرون الوسطى.

وأهم مؤسسات السلطة مؤسستان رئيستان هما: أهل الحل والعقد ، والإمامة .. وهنا يبدو تأثر رشيد رضا في الفكر السياسي الغربي الحديث ؛ حيث يعتبر أهل الحل والعقد بمثابة السلطة التشريعية ( لكن في ظل الشريعة الإسلامية) والإمام بمثابة رئيس السلطة التنفيذية ، ويحاول رشيد رضا في هذا السياق " تطعيم " المفاهيم الإسلاميّة بمضامين معاصرة تكسبها تطبيقا حيويا في النسق الحضاري الإسلامي .

2.إنّ إقامة السلطة واجبة شرعا وعقلا على الأمة ، وليست واجبة على الله (كما ذهب إلى ذلك الفقه السياسي الشيعي).

3.إنّ من أبرز خصائص السلطة السياسية في الإسلام:

أ- أنها وسطيّة تجمع بين مصالح الناس في الدنيا والآخرة، و توازن في ممارستها بين احتياجات الإنسان الروحية والمادية ، وأنّ فلسفتها و المبادئ التي تتأسس عليها تأتي لتتماشى مع هذه الحقيقة.

ب- أنّها مدنية من حيث : سيادة الشرع (القانون)، ليست ثيوقراطية –بالمعنى الكنسي-، مؤسسية ، قائمة على الانتخاب والاختيار .

ج- أنها شورية وليست استبدادية ، ويرى رشيد رضا في هذا السياق أنّ الشورى من أسس الحكم الإسلامي ومرتكزاته، وليست أمرا مندوبا بل هي واجبة على الأمة والحاكم في الممارسة السياسية الإسلاميّة .

د - أنّها سلطة المستبد العادل في ظروف حضارية معينة ، وفي هذا السياق يتناول الباحث مفهوم المستبد العادل عند رشيد رضا مقارنة بأستاذيه ( الأفغاني ، وعبده ) وأبعاده الوظيفيّة.

4. إنّ شرعية السلطة السياسية عند رشيد رضا تنطلق من مبدأ الاختيار : فأهل الحل والعقد تختارهم الأمة ، وهم بدورهم يرشحون الحاكم الذي تقوم الأمة برفضه أو قبوله ، من خلال فكرة البيعة في النظام السياسي الإسلامي.

من هنا يرفض رشيد رضا سلطة التغلب التي يأتي فيها الحاكم إلى الحكم من خلال القوة ، ويطالب الأمة وعلى رأسهم أهل الحل والعقد بالثورة عليه وعدم القبول بسلطته .

كما يشترط موافقة الأمّة على عهد الإمام لمن خلفه في حالة ولاية العهد ، ويقر رشيد رضا العديد من الشروط – أسوة بعلماء السنة – لمن أراد الوصول إلى سلطة الحل والعقد أو الإمامة .

5. ويستنتج الباحث من خلال نصوص رشيد رضا عدة ضوابط رئيسة في ممارسة السلطة أهمها:

* المقاصد العامة للشريعة الإسلامية: ويتناول الباحث في هذا السياق موضوع المصالح الشرعية التي تقوم عليها السياسة الإسلامية ، وخصائصها ، ويتطرّق إلى إشكالية النص والعقل في العملية التشريعية ، والممارسة العامة ، وإلى مفهوم المصلحة المرسلة وتحديد رشيد رضا له .

* القيم السياسية الإسلامية: إذ يبيّن الباحث أنّ القيمة الجماعية العليا عند رشيد رضا وغيره من المفكرين الإسلاميين ، والتي تظلل باقي القيم السياسية الأخرى وتضبطها هي قيمة التوحيد ، ويستعرض الباحث أهم أبعاد هذه القيمة في فكر رضا على المستوى السياسي ، وغيرها من القيم الإسلامية ، مقدّما خصائص القيم الإسلامية في فكر رشيد رضا ، مقارنة في الفكر الغربي ، ويقارن الباحث بين القيم السياسية الرئيسة الثلاث في فكره: العدالة، الحرّية ، المساواة . مقارنة بالليبرالية والماركسية .

* السنن الكونية : ويتعرّض الباحث في هذا السياق إلى أكثر الموضوعات التي أولاها رشيد رضا اهتماماً ، وأعطاها دوراً كبيراً في الموضوع الذي استحوذ على كتاباته ، بل وتفكيره وهو: نهضة الأمة وتقدّمها ، إذ كان وما يزال السؤال الذي يؤرق المفكر المسلم " لماذا تأخر المسلمون وتقدّم غيرهم ؟والسنن الكونية هي القوانين الاجتماعية التي تفسّر أسباب التقدم والتأخر ، وهي التي لابد للسلطة السياسية أن تفهمها و تراعيها في ممارستها العامّة .

6. تقوم السلطة السياسية عند رشيد رضا – كما يتتبّع الباحث – على ثلاث وظائف أساسية هي :

* العقدية ( التي تتناول المهمات الدينية للسلطة السياسية ) وفي هذا السياق يبرز تمايز الفكر الإسلامي عن غيره من الأفكار وفقاً لعبارة محمّد عبده الشهيرة " السلطة الإسلاميّة سلطة مدنيّة بوظائف دينيّة .

* الاستخلافيّة والتي تنطلق من وظائف السلطة في إعمار الأرض ، وبناء الحضارة الإسلامية ، ويبين الباحث – هنا – أركان مفهوم الاستخلاف في فكر رشيد رضا ومرتكزاته .

* الاتصالية والتي تتعلق بنشر الدعوة والتربية والتعليم والإعلام ، والمحافظة على المثالية السياسية الإسلامية في المجتمع والدولة ، ودور عناصر الرابطة السياسية في ذلك ( الأمة ، أهل الحل والعقد ، الإمام ) ، وعواقب الخروج على الشريعة على المستوى السياسي والاجتماعي . الوظيفة الجزائية ( بما تشتمل عليه من أراء رشيد رضا في قضايا العقوبات والحدود .. ) .

7. وأخيرا يستعرض الباحث رؤية رشيد رضا لضوابط السياسة الخارجية للسلطة الإسلاميّة ، وتحليله لطبيعة العلاقات الدولية ، وتفسيره للحروب ، والمقارنة بين آرائه وبين المدارس المعاصرة في العلاقات الدولية وروادها7. وأخيرا يستعرض الباحث رؤية رشيد رضا لضوابط السياسة الخارجية للسلطة الإسلاميّة ، وتحليله لطبيعة العلاقات الدولية ، وتفسيره للحروب ، والمقارنة بين آرائه وبين المدارس المعاصرة في العلاقات الدولية وروادها.

وفي نهاية الدراسة يخرج الباحث بمجموعة من النتائج والاستنتاجات ، والتوصيات النظرية ، وعلامات الاستفهام التي يمكن لغيره من الباحثين الإجابة عنها ، بعد رحلة طويلة يمضيها القارئ في رحاب الفكر السياسي ، وبين رؤى الشيخ رشيد رضا ، ويتداخل في فترات القراءة السياسي والشرعي والثقافي في حوار جدلي ثري يصاحب القارئ منذ البداية إلى النهاية .

===========

#في المسألة الحضارية ..

عبد الله بن عبد الرحمن البريدي 27/7/1423

14/10/2001

المصدر :مجلة المنار الجديد

العدد :الخامس عشر.

التاريخ : صيف 2001

ينبع الاهتمام بالمسألة الحضاريَّة من قناعة مترسّخة بأنها السبيل الأرشد لرقي الأمم ونهضتها ،ومن أنها زاوية فريدة تتيح لعقلنا الفرْدِيّ والجمْعي أن يفكر ويدير ويقيّم ويطّور ويستشرف الآفاق بمقاييسَ حضاريةٍ و بمنظور شمولي يجنّبنا الانبثاقات التجزيئية السطحية والرؤى التفككية الضيقة ، ليتجاوز بنا نحو الأصوب الأعمق إزاء القضايا والأحداث الكِبار التي تشكّل منعطفاتٍ خطيرةً على المستوى الحضاري .

لا يمازجنا شكٌّ في أهميتها وخطورتها ، غير أنها مسألة معقدة تنطوي على كثير من الإشكاليات والجدليات ، ويكتنفها ألغاز فلسفية حيّرت العلماء والفلاسفة والمفكرين والمثقفين ، فتباحثوا وتناظروا وتفلسفوا وتخاصموا حِيال مفرداتها . ولم تساهم طروحات أولئك بإثراء أدبياتها وإنضاجها فحسب ، بل أدت إلى تشعبها وتضخمها وتعقدها ، وتناقضت لا في تفاصيلها بل حتى في أُطُرها وخطوطها العريضة لتَضادّ منطلقات أولئك وتلوّن أهدافهم بأطياف الأيدلوجيات والفلسفات الفكرية المتباينة .

وتعد قضية النهوض والسقوط الحضاريّيْن محور مسألتنا هذه وجوهرها ، فكافة الأبحاث تدور في فلكها وتنساب في حوضها حتى تلك الأبحاثُ التي تبدو لنا في الوهلة الأولى على أنها بعيدة عن تلك القضية ما تلبث أن تعود بنظرة فلسفية متعمقة إلى الدوران في ذلك الفَلََك والانسياب في ذلك الحوض .

ولذا فقد جَهَدَت تلك الطروح في تحديد آلية النهوض والسقوط الحضاريين في إطار بحْثي اتسعت دائرته فشملت كافة العوامل المؤثرة والمتأثرة بتلك القضية مع محاولة تفسير الظواهر المصاحبة للحدث الحضاري ، ولذا فيمكننا تقريرُ أن هذه المسألة تمحورت حول قضيتين كبيرتين هما : المسار الحضاريّ والمشروع الحضاريّ .

المسار الحضاري : تقلُّبُ الأمم حضارياً

تنتظم أدبيات الحضارة أفكاراً متعددة، ورُؤى متباينة، ونظريات فلسفية متعارضة حول آلية النهوض والسقوط الحضاريين ، ليس ذلك فحسب بل نجد اختلافاً جَلِيَّاً في المنطلقات البحثية ، فنرى بعضها اتكأت –مثلاً -على الدولة كوحدة للدارسة كما عند ابن خلدون(1332 – 1406م ) ، في حين ذهب بعضها إلى اعتماد الحضارة وحدة للدارسة كما عند "شبنجلر"(1856- 1936م)،و"توينبي"( 1889- 1975 م ) مع بعض الاختلاف بينهما . وغير ذلك من الاختلافات التي لا نرمي إلى استيعابها في هذا السياق ، وإنما للتأكيد على ضخامة الفجوة بين تلك النظريات والأفكار ، والتي يطبعها المركّب الحضاري بخاصية شديدة التفرد للتباين الديني والأيدلوجي لتزداد تلك الفجوة هوةً واتساعاً . خاصة إذا ما كنا بإزاء دين كالإسلام ، فهو نسيجُ وحْدِهِ ، مكتسٍ بطابع روحي – عقلاني في توازن مُبْهِر ، وبنزعة ديناميكية مدهشة تحقق له تجدداً في ثبات وترسّخاً في عمق ، وانتشاراً في توغُّل .

وقد يكون بدهياً بعد ذلك كله أن يتملكنا استغرابٌ من إهمال البعض لتأثير ذلك المركّب على المسألة الحضارية ، فتراهم يجهَدون من أجل صوغها بكامل مفرداتها وتفاصيلها في ضوْء ما يسمونه بالبعد الحضاري الإنساني متجاهلين البعدَ الديني والأيدلوجي للحضارات المختلفة . وهذا لا ينفي- ألبتة- وجود قدْر مشترك فيما بينها في بعض تفصيلاتها خاصة تلك التي تتصل بالطبيعة الإنسانية الصِّرفة ، وأُلمحُ إلى أن ذلك القدْر المشترك قليل لتأثير البرمجة الأيدلوجية لا سيما على البعدين العقلي والأخلاقي وبسرعة مذهلة ، فالأيدلوجية تنقضّ على الطفل لتطعمَه ، وتحادثَه ، وتُلبسَه زِياً مُزَرْكَشاً بألوانها ، ثم لا تكاد تفلته إلا بعد أن يَغِطّ في نوم عميق في أحضانها ، فإذا هبّ مستيقظاًَ أسرجت عينيه بنظّارة ملونة وباركت عملَه ومسعاه !!!

ومن هنا تجيء أهمية بلورة أبحاث جادّة في المسألة الحضارية تنبثق من الرّحم الكبير لمركّبنا الحضاري الإسلامي الذي ينتظم المفرداتِ العقَديَّة والقيميَّة والأخلاقية والفكريَّة والتاريخية مع خليط ناضج من الأفكار والفلسفات المستقاة من مُركّب الحضارات الأخرى .... ذلك المركّب الذي يترسب في العقل الإسللامي عبْْْْر دوائر التعليم والتربية والاحتكاك والتفاعلات البحثية والتأملات الفلسفية ... إنني أتساءل هاهنا عن سر تقاعسنا عن تلك البلورة ... مع مبادرة بالاعتراف بأن ثمة طروحاً حضاريةً تتفاوت عمقاً وأصالة ونُضجاً، أسهم بها بعض علمائنا ومفكرينا ومثقفينا ، غير أن بعضها مفتقر للشّمولية والتراكمية والارتباطية مما أضعفها نظرياً وسطّحها فلسفياً وسلبها من ثم أي مضمون تطبيقي واقعي .

وقبل الاسترسال في ثنايا الموضوع لا بد من توضيح بعض المنطلقات المنهجية في هذا البحث عبر المفردات التالية :

أيُّ شيءٍ تعنيه الحضارةُ ؟ :

من المتحتم –منهجيًا- البدْء بتعريف الحضارة إذ إنها نقطة ارتكازية في هذا البحث ، ولكنْ نظراً للإشكالية التي تحوط التعريف ، فإنني أُعرِّج على ثلاثة تعاريف :

يعرف ابن خلدون الحضارة بأنها : ( أحوال عادية زائدة على الضروري من أحوال العمران زيادة تتفاوت بتفاوُت الرَّفهِ وتفاوت الأمم في القلّة والكثرة تفاوتاً غيرمنحصر) "1"

ويعرفها" ول ديورانت" بأنها:(نظام اجتماعي يُعين الإنسانَ على الزيادة من إنتاجه الثقافي)"2"

في حين ذهب مالك بن نبي إلى أنها : ( جملةُ العواملِ المعنوية والمادية التي تتيح لمجتمع ما أن يوفر لكل فرد من أعضائه جميع الضمانات الاجتماعية اللازمة لتقدمه ) "3" .

وثمة تعريفات أخرى كثيرة ، غير أنها لم تسلم كلها من الانتقادات ، وإنني لأعد قضية التعريف تلك إشكالية حضارية معقدة ، وليس هذا مجالَ البسط ، وبازاء التعريفات السابقة يكفي أن أشير هاهنا إلى عموميتها وعدم اصطباغها بالمعنى الشمولي الذي يفي بركائز التحضر في الفكر الإسلامي . وهذا ما دفعني إلى تقديم تعريف مقترح – يصلح على الأقل لأن يكون مُنْطَلَقاً لهذا البحث – إن الحضارة في نظري :

( نهجٌ حياتٌي متكاملٌ يؤسسُ مجتمعاً إنسانياً مدنياً سعيداً في إطار ثقافي ) .

وهذا التعريف – المضغوط – يحتاج إلى تفكيك وبيان ليس هذا مقامه ، ولكنني أشير إلى نقطة واحدة بشأنه ، وهي :إنني أريد بمصطلح الثقافة المستخدم في التعريف معناه الشمولي الذي ينتظم المفردات الدينية والقيمية والفكرية والاجتماعية بما يتضمنه ذلك من أساليب التفكير والإدارة والحياة . ولإظهار مفاصل ذلك التعريف وأركانه بشكل واضح ومختصر ، أعرض مكونات الحضارة عبر ما أُسميه بـ( الخلْطة الحضارية ) "4" .

الخلْطةُ الحضاريّةُ

* ويقوم هذا البحث على اعتبار أن الأمة ذات الإرث الديني الواحد هي الوحدة المنهجية للدراسات الحضارية .

* وأقصد بالمسار الحضاري المراحل التي تتقلب فيها الأمة في درب الحضارة في سبيلٍ قاصدٍ صوْب القمة في دائرة منسجمة مع مركبّها الحضاري .

إذاً هذا المسار من شأنه تحديد المنعطفات التي تنساب حركة الأمة عبرها بَدْءًا من القاع أو "اللا حضارة" إلى تلك القمة . إن هذا المسار يكشف للحركات الإصلاحية ومن ثَّم للأمة أيَّ فضاء من أرض الحضارة تقف عليه ، ليكون ذلك الكشف منطلقاً ضرورياً – منطقاً وواقعاً – لاستئناف السير أو مواصلته في ذلك المسار بالاستعانة بالبوصلة الحضارية ولكن أيُّ شيء تُغنيه تلك البوصلة إن كانت الأمة تائهةً في درب بل دروب الحضارة ؟!

ولقد خلصْتُ إلى نمْذَجة ذلك المسار فلسفياً في إطار ما أفهم أنه يشّكل مركّبنا الحضاري ،وذلك بعرضه عبْر نموذج يَجهد لأن يكون ذا صبغةٍ تفسيرية تنبُّئِية ، يفسر الحدث الحضاري الماضي ويتنبًّأ بالآخر المستقَْبَلِيّ .

فِقْهُ الإقلاعِ الحضارِيّ :

* تنقدح شرارة الإقلاع الحضاري للأمة من جراء عامليْن اثنيْن يسبق أولهما ثانيهما في الأغلب:

إشراقُ فكرةٍ مُبْهِرَةٍ ذاتِ صبغة دينية عبر مصلح ديني ، في مُناخ ثقافي مناهض للفكرة ، مما يعيّش ذلك المصلح وأتباعه واقعاً مُعْضِلاً ، ويولّد شعوراً عميقاً لديهم بالتحدي . وهذه الإشراقة تُحدث انقلاباً داخلياً في النفوس يفي بشروط ( إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم ) .

تتمحور الجهود الإصلاحية العملية في تلك المرحلة حول الجانب الروحي – العقدي .

ويترتب على نبوغ الفكرة المبهِرة مقاومةُ الحضاراتِ الأُخرى والقوى المناهضة لسبب أو لآخر لهذه الفكرة؛ فتشتعل روحُ العداوةِ والبغضاء فيما بين الأمة الآخذة بالتقدم الحضاري وفرقائها ، فيتمخّض عن ذلك تحدٍ يسفر عن مدافعة الأمة لفرقائها، أو ما يمكن تسميته بـ( روح الجماعة ) ( النموذج جرى على الأغلب ولذا فقد رتّب كلاً من الاستعداء والواقع المعضل على الفكرة المبهرة فليُتَفَطَّنْ لذلك ) .

لدينا الآن تحديان: الواقع المعضل والاستعداء يقودان – بجانب ما تفرزه الشرارة من شعور – إلى استجابة ( وَفْقاً لنظرية التحدي والاستجابةلِ "توينبي" ) تتمثل بما أسميه بـ( اهتزاز الكيْنونة الحضارية ) .

ولنا هنا أن نتساءل عن سر هذه الكيْنونة وعن اهتزازها ، هل هي اهتزازة فرديّة أم جمْعية وما تخلّفه من آثار ؟

الكيْنونة الحضارية في رأيي: هي الوعاء الذي يختزن ذلك المركب الحضاري المعقد الذي ينتظم المفردات العقدية والقيمية والأخلاقية والفكرية والتاريخية مع خليط ناضج من الأفكار والفلسفات المستقاة من مُرَكب الحضارات الأخرى . إنه -بعبارة أخرى- ( اللاشعور الحضاري ) .

وهذه الاهتزازة تحدث من جراء ما يفرزه هذان التحدِّيان وما تُشِعُّه تلك الشرارة مما يمكننا تشبيهه بالتموجات التي تحرك البندول ... إذاً تموجات حضارية تهز الكينونة الحضارية، لا لآحاد الناس وإنما للنُّخبة الناضجة المؤثرة ، لينتقل ذلك المركب بتلك الاهتزازة من حيِّز اللاشعور إلى الشعور الحضاري في لحظة زمنية تُؤْذِنُ بحدوث اليقظة وتتسع دائرة اهتزاز الكينونة- بمرور الوقت- لتشمل أفواجاً من الناس بحسب درجة نُضْجهم وعمقهم من جهة ، ودرجة حماس وفاعلية النُّخبة في هز كينونات الجماهير عبر طرح ناضج ملائم من جهة أخرى .

* تأخذ يقظة حضارية بالتشكُّل بفعل تلك الاهتزازات العجيبة ، وتعد المراحل السابقة إرهاصاً لظهور :

- قادة إصلاحيين ينشَطون للعمل في ضوء مركبهم الحضاري القابع في شعورهم ( وليس في لا شعورهم ) . ويغلب على هؤلاء النهج الإصلاحي مع قدرة فائقة على القيادة الفكرية ، وبذلك ينتزعون اعترافاً واسعاً من قبل الجماهير بريادتهم الفكرية وقدراتهم القياديَّة .

- إرادة نافذة وهمة عالية مخلصة من أجل إحداث التغيير المنشود بعد التعرف على مواطن الداء ومكامن الوَهَن ، فيشرع أولئك القادة في محاولاتهم الإصلاحية التي تتعدى الجانب الروحي – العَقَدِيّ عَبْر قوالبَ متعددةٍ ، إلا أن أولئك القادة مع ذلك يفتقدون في بكور اليقظة إلى الشموليّة – تنظيراً أو تطبيقًا - ، وبذلك نراهم يركزون جهودهم على بعض الجوانب الحضارية دون غيرها . تستمر هذه الإصلاحات فترة من الزمن وتتكامل وتنضَج فكرياً بمرور الوقت ، كما يتبلور في هذه المرحلة طريقة تتسم بقَدْر كبير من النُّضج للتعامل مع الحضارات القائمة والإفادة منها من خلال آليات متنوعة ، فتتضح معالم الشخصية الحضارية للأمة ويتعاظم الالتزام بها ...

* وفي هذه المرحلة تتراكم أكداس من الأفكار، غير أنها لا تُسْتثمر بصورة كبيرة ، لأن هذه المرحلة من طبيعتها أنها تختزن ( طاقة وَضْع ) تتشكّل بعد فترة ( كطاقة حركة ) "5... وهذه المحصلة أو النتيجة تُدرَكُ بداهةً ... كطفل يلتهم سَمَاعاً بأذنه كلماتٍ لاتعدو أن تكون رموزاً وإشاراتٍ مُبهمَةً ، لتتحدَّر إلى عقله فيهضمها بعد أن تغمرها الخبرة المتراكمة بأنزيماتها ، لتستحيل بعدُ إلى كلمات ومصطلحات ذات مغزى تبعث عقله على تفكير منتج يثمر سلوكاً محدداً ... ومن رامَ وصولَ الأمةِ إلى طاقة الحركة دون المرور بطاقة الوضع فهو كَمَنْ رامَ طفلاً رضيعاً مُكَلِّماً للناس في مهده !!

* تتخمر تلك المحاولات الإصلاحية لتثمر عن تولُّد قناعة ببلورة مشروع حضاري متكامل ويكون مصحوباً ببروز نوع من الإصلاحيين يمتازون بالنَّْزعة الإبداعية أكثرَ من النزعة القيادية الفكرية ، وهم –غالبًا- أكثر عدداً من سابقيهم ( القادة الإصلاحيين ) وأقلُّ منهم ظَفَراً باعتراف الجماهير بقيادتهم الفكرية . ويأخذ الإصلاحيون المبدعون على عاتقهم إكمال المسيرة الإصلاحية ولكنهم في هذه المرحلة يتبَنَّوْن بلورة مشروع حضاري في إطارهم الثقافي ، ليكون بمثابة الخُطَّة الحضارية الاستراتيجية التي يؤمنون بأنها سبيلهم القاصد صوْب إقامة صرحهم الحضاريّ المنشود .

* يتمكن الإصلاحيون المبدعون من إنضاج مشروعهم الحضاري ، ويشرعون بخُطُوات تطبيقية تزداد مع الوقت كمّاً وتنضَج كيْفاً ، مع استغراقه وقتاً طويلا ً بلورةً وتنفيذاً .

وإِبَّان مرحلَتَيْ اليقظة والمشروع ، وخصوصاً المشروع ، تزداد جذوة الصراع بين الأمة وفرقائها ، ليصل لهيبها إلى كافة الميادين ، بسبب تنامي شعور الآخر بأنّ ثَمَّةَ مَنْ جعل يتطلع إلى نهوضٍ وتمدُّدٍ على بساطة ، لتتحقق بذلك جزماً نبوءة السُّنة الإلهية في ( التدافع والتداول الحضاريِّيْن ) التي تفضح كذِبَ نبوءة ( نهاية التاريخ ) لِ "فوكوياما " وتبين تفاهتَها ، قال الله تعالى : " قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيُروا فِي الأَرْضِ فَانظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ المُكَذِّبِينَ ( 137 ) هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ وهُدًى ومَوْعِظَةٌ لِلِْمُتَّقِينَ ( 138 ) ولا تَهِنُوا ولا تَحْزَنُوا وأَنتُمُ الأَعْلَوْنَ إنْ كُنتُم مُّؤْمِنِينَ ( 139 ) إن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ القَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وتِلْك الأَيَّامُ نُداَوِلهُا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللهُ الَذِينَ آمَنُوا ويَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَاءَ والله لا يُحبُّ الظَّالِمينَ ) . [آل عمران ] .

* لتصل الأمة- بعد ذلك المشوار المضني- إلى نهاية المسار الحضاري الذي تقيم على ضفافه صرحها الحضاري لتؤسس بذلك مجتمعاً إنسانياً مدنياً متماسكاً سعيداً منتجاً في إطار مِنْ عقيدتها وقيمها وأخلاقها ، ولتنعم البشرية كافةً بذلك .وهنا لا بدَّ من الإشارة إلى أن الأمة قد تتعثر في مسارها في مرحلتي اليقظة والمشروع بشكل يُعجِزُها عن المواصلة ، فتحدث انتكاسة حضارية تعيدها إلى الوراء لتُصابَ بعدُ بوَهَنٍ تختلف حِدته بحسب قوة الفيروسات الحضارية، وسرعةُ نفاذها وتغلغلها في جسدها ، وهذا يؤكد على الدور الخطير الذي يلعبه قادة العلم والفكر في تطبيب الأمة حضارياً بالوقاية تارة وبالعلاج تارة أخرى والذي يتطلب- جزما-ً إنزالَ مِبْضَعِ الِجراحة على الأورام الحضارية في عمليات جريئة قد تكلف الطبيب كثيراً كثيراً ... لتعاود الأمة سيرها بعد أن تلتقط أنفاسها وتتعافى من وَعْكتها ...

وما دام الحدَثُ ظل شاداً لأنظارنا صوْبَ سيْرورة الأمة من القاع إلى القمة في ثنايا المسار الحضاري ، فلا بأس- حينئذ- بالتفاتةٍ عَجْلى نلقي من خلالها شيئاً من الضَّوْء على السيرورة المعاكسة ، سيرورة الأمة صوب القاع بعد أن تبلغ القمة ... بإيماءة خاطفة. أقول:إن المشروع الحضاري يجسّد في حقيقته الماء والسَّماد والهواء التي تتضافر لإنبات بذرة الحضارة فتأخذ بالنمو إيراقًا وإظلالًا وإثمارًا... وتبقي الشجرة طيبةً مثمرة ما بقيت عوامل نموها ، ولعلي هنا أُلَمِّح إلى أنَّ مادة لحائها هو أول ما تفقده هذه الشجرة ،والمتمثل بالبعد العَقَدِيّ والأخلاقي ، لتتيبّسَ شجرةُ الحضارة وتتخشّب من ثم – كما يقول "شبنجلر" في تعبير رائع -عن المدنية ... "تتحول فيها الأمة إلى عمال في مصنع كبير .. يُهَرْوِلون ، يلهثون ، يأكلون في جو مُفْعَم باللهو والشَّهَوات والبؤس والشقاء ثم ما تلبث أن تهوي حطاماً تذروه رياح التغيير وتختزنه – وربما- تبتلعه ذاكرة التاريخ !"

* وحيث إن الأمة -في نظري- قد حطت رحالها منذ فترة في رحاب اليقظة الحضارية وما تزال تمد رُواقها في تلك الرِّحاب ، فإننا ننتظر أن تلملم نفسها وتجمع متاعها عبر عملية شاقة طويلة لِتَغُذَّ السير صوب بَلْورة مشروعها الحضاري ... تلك المرحلة المضنية التي تستغرق وقتاً طويلاً وتستلزم جهداً مخلصاً متواصلاً وإبداعاً خلّاقاً ...

المشروع الحضاري: خُطَّةٌ لأُمّةٍ آخذةٍ بالتَّحَضُّر عقب استيعابنا الناضج لموقع الأمة الإسلامية الراهن في المسار الحضاريّ بمتغيراته الفكرية والاجتماعية والسياسية والاقتصادية ، يمكننا الولوجُ في مناقشة أَقْصَدِ السبل لبلورة مفردات مشروعنا الحضاري ومن ثم تنفيذه . أجزم أننا لا نطيق إلى ذلك سبيلاً إلا بعد أن نسعى عبر تفاعلاتنا البحثية الصادقة وتأملاتنا الفلسفية الناضجة لإحداث حفْرياتٍ فلسفية متعمقة في بنية المسألة الحضارية ، مستكشفين ماهيّة الحضارة ومكوناتها ،متلمسين سنن التغيير الحضاري وشروطه ومعوقاته ، على أن تتم هذه الحفريات بمعاولنا نحن لا بمعاول غيرنا وفي محيط فكرنا الإسلامي الرحيب ، لنكون قادرين حينذاك على جلب لَبِناتٍ صالحة وكافية لتشييد صرحنا الحضاري الراشد .

والمشروع الحضاري ببساطة ووضوح يجسد خطة حضارية واقعية – في سياق المسار الحضاري – تنتظم أهدافاً محددة مربوطة بوسائل تحقيقها في ضوء معطيات الواقع ومؤشرات المستقبل تمهيداً لاستغلال الطاقات المتاحة وتجاوز المعوقات الحضارية . ومثل هذا المشروع الضخم لا يمكن أن تنهَض به اجتهاداتٌ فرديةٌ بل لا بد من جُهْد جماعي تكاملي ناضج ليتشكل لَبِنَةً لَبِنَةً ليشمَخَ البناء وتطيبَ الثمرةُ .

وبات جلياً- مما سبق- أنه يتعين انبثاق ذلك المشروع من مركّبنا الحضاري ، مع تفعيل الأدوات العصرية واستيعاب كافة المتغيرات . وهي مسألة يكاد يُجْمَع عليها ، غير أن مسألة أخرى متعلقة بذلك المشروع هي أخطر من سابقتها وأكثر إلحاحاً في المرحلة الحضارية الحرجة التي تمر عبرها أمتنا ، وهذه المسألة يتعذر الزعم بانعقاد الإجماع عليها في الحاضر ، بل قد يصعب نيْله في المستقبل القريب ، وهي مسألة كيفية مناقشة وإنضاج المشروع بأدوات منهجية تحليلية نقدية ؛ بحيث تتمخض عن بلورةٍ ناضجة لمفردات ذلك المشروع ، بلورةٍ تأخذ طريقها نحو التنفيذ والتحقق وجني الثمار .

ولهذا فقد آن لنا مجافاةُ الخطابية العاطفية والإنشائية الفارغة في تناولنا لمشروعنا الحضاري، لنصل إلى تبني آلية تتسم بقدْرٍ كبير من العمق والنُّضْج مع تلبُّسها بمضمون واقعي وتدثرها بديباجة يمكن ترجمتها إلى لغة نخبوية وأخرى جماهيرية وإثر سلسلة من التأمل الطويل لهذه المسألة وبعد مدارسة الإسهامات المتنوعة خلصْتُ إلى أنَّ من أفضل السُّبل لبلورة ذلك المشروع تبني ما يسميه البعض بـ( الأفكار المحورية ) التي تنتظم مجموعة كبيرة من الأفكار الجزئية (6) ، ليصبح الإيمان بالفكرة المحورية سبيلاً إلى الإيمان بتلك المجموعة ، وهذه الأفكار المحورية يجب أن تتصف بالشمول والتكامل كيما تكون صالحة بمجموعها لتمثيل المشروع الحضاري الذي يمثل بدوره الإسلام عقيدة وشريعة وفلسفة إزاء الكون والحياة والإنسان ... ولذا فمثل هذه البلورة مهمة شاقة عسيرة ، غير أنني في هذا البحث المتواضع أزمعت المضيَّ قُدُماً بُغيةَ الإسهام في اقتحام هذا السبيل المحفوف بالصعوبة والغموض ...

وقُبَيْل الشروع في تناول الأفكار المحورية التي أعتقد أنها تفي بمتطلبات بلورة المشروع الحضاري ، أُلمح- في عُجالة- إلى أنه لا يكفي بلورة الأفكار المحورية نظرياً ، بل يتوجب إذابتُها لا في بوتقة العمل الإصلاحي الحضاري فحسب ، بل يتعين انسيابها من الإصلاحيين أنفسهم ؛ من حركاتهم وسَكَنَاتهم ، في رخائهم وشدتهم ، وأن تُترجم في أهدافهم وبرامجهم ، بيوتهم وأعمالهم ، وفي أفعالهم قبل أقوالهم ، لتستحيل تلك القضايا والأفكارُ إلى أكسجين منبعثٍ في فضاء الإصلاح يتنفسه كل أحد ... يتنفسه الرائح والغادي .. القريب والبعيد .. الصديق والمعادي ... أي أننا نطالب بأن يكون المشروع الحضاريُّ روحاً ينفخ الإصلاحيون فيه الحياةَ بتمثلهم مفرداتِهِ ، وسعْيهم من أجل نشره وتنفيذه بكل إخلاص وإبداع وإتقان ...

ومن أهم الأفكار المحورية التي تسهم في بلورة ذلك المشروع ما يلي :

1- التوحيدُ الخالصُ العمليّ : أساسُ الحضارة .

2- الإسلامُ : دينٌ وتشريعٌ وحياةٌ .

3- لِيَكُنِ القرآنُ هادياً : فهمًا ومعايشةً وتطبيقًا .

4- انبثاقٌ من الكتاب والسنة : توحُّدٌ في المنطلقات .

5- فعاليتُنا الروحيةُ : وَقُودُنا للتغيير .

6- تحسينُ طرائق التفكير : مفتاحُ التغيير الحضاريّ الفكريّ .

7- "إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم" : مفتاحُ التغيير الحضاريّ العملي .

8- إرادة التغيير ( إنّ إبراهيمَ كان أمةً ) : رجل بأمة .

9- العلم : بمجالاته وتراكميّته وترابطه .

10- تكريمُ الإنسان : معيارُ تفوقِ الحضارة .

11- تنميةُ الإنسانِ أولاً : مؤشرٌ لفقهِ الأولويّات الحضارية .

12- العدالةُ : ركيزةُ البناءِ الحضاريّ .

13- الموضوعيّةُ : البحثُ عن الحقيقة .

14- الحريّة : في إطار مُنْضَبِط .

15- النقدُ : عمليةٌ بنائِيّةٌ .

16- الإبداعُ : مقوماتٌ وبيئةٌ .

17- نهجٌ إداريٌ فاعلٌ : إنجازُ التَّميُّز وتميُّزُ الإنجاز .

18- الوقتُ : فضاءُ الإنجاز والعطاء .

19- الفاعليةُ والإتقانُ : قيمُ العملِ المنتجِ .

20- نمارسُ كافةَ أعمالنا لنكتفيَ بذواتِنا : العملُ شرفٌ وإنتاجٌ .

21- الأخلاقُ والذوقُ الجمالُّي : الأناقةُ الحضاريةُ .

22- الإسلامُ : دينٌ وجنسيةٌ .

23- الانفتاحُ والاستيعابُ والإفادةُ من الآخر : في دائرة الخصوصية .

24- الرجلُ والمرأةُ : حلَقتان متكاملتان وعاملان مُنتجان .

25- الجماعةُ قبل الفرد : نحن أولاً .

وجَلِيٌّ أن فكرة محورية مما سبق تفتقر إلى دراسات تفصيلية متعمقة وَفْقَ منهجية محكَمة تستهدف سبك تلك الأفكار في إطار يوفّق بينها ويُفلح في تغذية وتقوية بعضها ببعض ، وشدّ لَبِنَاتِها إلى بعض؛ ليطيبَ جَنى المشروع الحضاري ويفوحَ عبيرُه . وإني على أمل-ٍ لا يخالطه شكٌّ ولا يشوبُه يأْسٌ -بتحقق ذلك فيما نستقبل من الأيام .

مشروعُنا الحضاري : دواعي البلورة

بإيجاز أشير هاهنا إلى أهم الأسباب أو الإيجابيات التي قادتني إلى الاقتناع بضرورة بلورة ذلك المشروع عبر الأفكار المحورية :

1- إنّ بناء المشروع على هذه الصفة يتيح لنا التفكير بمنظور شمولي كلي إزاء القضايا الكلية التي يتعين علينا الاهتمام بها والوفاء بمتطلباتها من أجل إقامة الصرح المنشود ، هذا اللون من التفكير ( الحضاري ) يتَّكِئ على ذاكرة قوية أمينة ، مستوعبة لتلك القضايا مما يجنّبنا ألواناً من الذهول أو التخبط في مسيرتنا الحضارية ... كما أن هذا التفكير يعرُجُ بنا إلى فضاءات التحليل المتعمق لنتجاوز النظراتِ التجزيئيةَ الضيقةَ . إننا بهذا الاستيعاب الناضج لتلك القضايا لا نعجِزُ عن ممارسة واعية نفرق فيها بين قولنا : ( لا ) بالمنظار التجزيئي وقولنا : ( نعم ) بالمنظار الحضاري ( أو العكس ) تجاه قضية أو أخرى ... ولذا فلا نجد غضاضة من أن تضيقَّ صدورُنا وتغتَمَّ قلوبُنا لموضوع ما بالنظرة التجزيئية القريبة ، في وقت نجد أنفسنا جَذالى بنظرة حضارية بعيدة ... لا أجد أفضل مما يسمى "بالعولمة" مثالاً على ما أقول ... "فالعولمة" بنظرة تجزيئية قد تبدو لأحدنا على أنها شرٌ كثيٌر مخلوط بخير قليل ، وأن عواقبها سيئة إجمالاً ... وهذا صواب غير أنني أجزم بأن "العولمة" بنظرة بعيدة خير وفير للأمم المستضعفة قاطبة ...

إن "العولمة" في رأيي حماقة حضارية كبرى ارتكبتها الأمة المسيطرة لتفرز استفزازاً حضارياً إيجابياً للأمم المستضعفة ، لتعمل من ثم على دفع تُروسها وتعجيل حركة دواليبها في خِضَمِّ مسيرتها ...

ومَنْ يملك الوَّقودَ –حينذاك- يقدر على المضي قدماً صوب القمة ... كما أن "العولمة" -من جهة- ثانية ترسخ بعض المفاهيم الحضارية في جماهيرنا السَّادرة .. كالحرية- مثلاً-والتي تعد مطلباً رئيساً لبناء حضارتنا ، فالجماهير التي تربّت على الاستخذاء والخضوع للطغيان الدكتاتوري أو الكبْت الفكري لا يمكن لها- ألبتة- أن تفكر بالنهوض فضلاً عن النهوض ...نعم هي متفلتة تلك الحرية التي تغرسها العولمة، ولكن ضبطها أيسر بكثير من غرسها.

2- ينضاف إلى ما سبق أننا بهذه البلورة نكون قادرين على التفكير في كيفية تحقيق وترسيخ وتطبيق الأفكار المحورية عن طريق التخصص عبر الأشخاص والبرامج ... فكلُّ منا يتخصص في فكرة محورية أو أكثر ، وتستهدف برامجنا العملية فكرة محورية أو أكثر

وهكذا ... وبذا نضمن الإتيانَ عليها جميعاً ...

مشروعنا الحضاري : مُتَطَلَّباتُ التنفيذِ

ولتنفيذ مشروعنا الحضاري في ضوْء ما سبق من القضايا والأفكار المحورية ، يتعين-في نظري- مدارستُها بغيةَ إنضاجِها وتحديدِ سبل إذابتها في العمل الإصلاحي وترسيخها والوفاء بمتطلباتها .

ومن أجل الاختصار فإنني أشير هاهنا إلى أهم متطلبات تنفيذ المشروع الحضاري في خطوط عريضة ، تماماً كما فعلْتُ في عرض الأفكار المحورية مُرْجِئاً التفصيلَ إلى دراسة أخرى بعون الله وتوفيقه . من الأمور المعينة على تنفيذ المشروع ما يلي :

1- حقْنُ كينونتنا بمركّب الحضارة .

2- المسارعةُ لإنتاجِ الكوكبةِ ( الطلائع ) الحضارية .

3- حلُّ الإشكاليات الثنائية الجدليّة وبخاصة التراثُ / المعاصرةُ أو العقلُ / النصُّ ، التحديثُ / الجمودُ أو الانفتاحُ / الانغلاقُ .

4- التعمُّقُ في مباحث إسلامية المعرفة بما تتضمنه من تأصيل إسلامي واعٍ للعلوم الاجتماعية

5- العنايةُ بالأسرة واعتبارُا نواةً للخلية ومنطلقاً للبناء .

6- تبني آلية التطوير الذاتي ( مناهج تطوير الذَّوات ) .

7- فهمُ وتفعيلُ آلية التغير الاجتماعي في الإطار السُّنني .

8- التعاملُ الناضجُ مع الحضارات الأخرى .

9- العمل المؤسسي المنبثق من أدوات العصر عبر إدارة فاعلة ( المدارس ، الإعلام ، التدريب، والاستشارات ... ) .

10- إصلاحُ مؤسسات التعليم .

11- القدرةُ الاستيعابيةُ لكافة الجهود .

12- إلمامٌ وتفعيلٌ لآلية انتشار الأفكار .

13- إنشاءُ مركزٍ للدراسات الحضارية .

14- إنشاءُ مركزٍ للدراسات المستَقْبَلِيّة .

هذه خلاصة تأمُّلاتي البحثية المتواضعة إزاء قضايا شائكة في المسألة الحضارية ، راجياً أن تساهم في تفكيك وقراءة شيء من طلاسمها ومعضلاتها ، مع إيماني بأنها تحتاج إلى وِقفة أوسعَ وأعمقَ ؛ ولذا فإنني أرجو أن نتوفّر -أنا وغيري -على دراسة مفرداتها ... وأجدني –أخيراً- أتساءل متفائلاً : ألم يأْنِ لأبحاثنا أن تتخلّق في رَحِمِ مركبنا الحضاري؟! أَتُحَرّكُ خلاصتي هذه ماءً راكداً في محيطنا الحضاري ؟؟ ... هذا ما أرجوه وأتمناه .. (قال موسى لقومه استعينوا بالله واصبروا إن الأرضَ لله يورثُها مَنْ يشاءُ مِنْ عباده والعاقبةُ ِللْمتقين" ( الأعراف 128 ) .

المراجع والهوامش :

* نُشر الجزء الأول المتعلق بالمسار في جريدة الحياة ، 18 / 3 /200(عدد 13511 ) بعنوان : نحو نمذجة المسار الحضاري : تأملات بحثية ، ولكن الجريدة لم تثبت- للأسف الشديد- المراجع في نهاية البحث مع أنه كان مثبتاً كما أنها لم تلتزم بعنوان البحث ، وأرجو التنبيه من جهة ثانية إلى أن هذا الجزء تضمن بعض الإضافات .

1- ابن خلدون : المقدمة ، دار الكتب العلمية ، بيروت ، ط 1 ، ص 290 . وبازاء تعريف ابن خلدون- رحمه الله تعالى- أشير إلى أن مصطلح الحضارة الذي عّرفه لم يكن بالسَّعة التي بات يتفق عليه الأكثرية الآن ، ولذا فلا يمكن محاكمة هذا التعريف على أنه يمثل الرؤية الإسلامية لمصطلح الحضارة ، ولكنني فقط أثبته لإعطاء لمحة تاريخية لتطور المصطلح .

2- وِلْ ديورانت : قصة الحضارة ، ج1 ، ص 3 وقد سقت هذا التعريف لا من أجل الإفادة منه ، ذلك أنني أرى أن التعريف لمصطلح كالحضارة يتعين انبثاقه من مركّبنا الحضاري ، ولكنني رُمُتُ بذلك التأكيد على قصور التصور الغربي للحضارة على أن هذه القضية أضحت جليّةً في أذهان الكثيرين .

3- مالك بن نبي : مشكلة الأفكار في العالم الإسلامي ، ص 50 .

4- ثمة كتبٌ كثيرة جداً يُفادُ منها في موضوع الخلطة الحضارية أبرزها كتب الأستاذ الكبير مالك بن نبي ، انظر مثلاً له : شروط النهضة ، مشكلة الأفكار ، ميلاد مجتمع ، وانظر كتاب : مؤشرات حول الحضارة الإسلامية ، د . عماد الدين خليل .

5- د . محمود سفر : دراسة في البناء الحضاري ، كتاب الأمة ، قطر ، العدد 21 ، 1989 ، ص 96 .

6- د . سيد دسوقي حسن : مقدمات في البعث الحضاري ، دار القلم 1987 ، ص 18 .

===========

#الحق الإسلامي في الاختلاف الفكري

مركز الشمال لتنظيم المعرفة 7/9/1426

10/10/2005

اسم الكتاب ... الحق الإسلامي في الاختلاف الفكري

المؤلف ... طه عبد الرحمن

الناشر ... المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء

الطبعة ... الطبعة الأولى، 2005

الصفحات ... 319 صفحة

لا يخفى أن لكل زمان أسئلته التي تخصه، كما أن واجب كل أمة كائنة من كانت أن تجيب عن هذه الأسئلة، والأمة بحق هي التي ترقى بالجواب إلى رتبة الاستقلال، وإن للأمة الإسلامية جوابها الخاص عن أسئلة زمانها، وروح الجواب الإسلامي يتجلى في حقيقتين هما: الإيمان، ويُتوصّل إليه بالنظر إلى الآيات، أي بالنظر الملكوتي بوصفه مؤسساً للنظر الملكي، والحقيقة الثانية هي التخلق، أي بالعمل التعارفي بوصفه مؤسساً للعمل الإسلامي، أي أن خصوصية الجواب الإسلامي تتحدد باختلافية إيمانيتها أشمل إيمانية، وأخلاقيتها أكمل أخلاقية.

التعددية القيمية والنقد الإيماني

إن التعددية القيمية اتجاه ذو تأثير بالغ في الفلسفة الأخلاقية والسياسية المعاصرة؛ إذ يؤكد هذا الاتجاه على مكانة القيم في الحياة الإنسانية جاعلاً منها المقومات المعنوية التي بوجودها تصلح هذه الحياة وتطيب، على أن أهم خاصية تتميز بها التعددية القيمية أن القيم الأساسية التي تنبني عليها الحياة الطيبة تكون متعارضة أو متنازعة أو حتى متصادمة فيما بينها، ويعود هذا التصادم القيمي إلى أسباب تطبيقية كالنقص في المعلومات أو الاعوجاج في الاستدلالات، كما لا يرجع إلى ارتباط هذه القيم بذات الإنسان؛ إذ إنها تعد القيم أذواقاً ومشاعر خاصة، بل يرجع هذا التصادم إلى كون العلاقة بين القيم تتصف بصفتين: التغاير أي أن القيمتين لا تقبلان مقايسة مقارنة بالأخرى، والتباين المنطقي.

أما الظروف الموضوعية التي ارتبطت بالتعددية القيمية فهي ظرف حداثي "تعقيل العالم" التي قامت على مبدأ التعارض بين العقل والدين، وأفضى هذا التعارض إلى التسيّب العقلي، وظرف أيديولوجي "تمكن الليبرالية" و الليبرالية هي الفكرانية السياسية التي تطالب بمجال واسع لممارسة الأفراد لحرياتهم دون تدخل بعضهم في أفعال بعض، وكذا لتحقيق تصوّراتهم للحياة الطيبة دون تدخل الدولة إلا بما يحفظ الحريات، والليبرالية احتضنت التعدديّة القيمية احتضاناً يقويه كونها تنبذ كل تأسيس لمبادئ التجمع السياسي على مقصد غيبي للعالم، كما ينبذه مظهر العقلنة الذي تجلت به الحداثة، فالليبرالية قامت على مبدأ التعارض بين السياسة والأخلاق، وأدى هذا التعارض إلى التسلط السياسي، والظرف الأخير هو ظرف إستراتيجي "صدام الحضارات" وهي ظرف مزدوج: تصارعي تعايشي، قام على مبدأ التطابق بين الثقافة والأخلاق، وأدى هذا التطابق إلى التطرّف الثقافي.

وقد تعامل الليبراليون مع ظاهرة تصادم القيم بطرق متعددة، مثل التقرير، أي نقرر من القيمتين أيهما يصلح لأن يكون موضع التحقيق، فلا مفر من أن نختار إحداهما على وجه التحكم، وطرق التدليل، ويقوم على مبدأ التعميم، فلا يصح الحكم القيمي بغير إجماع، ومبدأ المناظرة فلا يصح الحكم القيمي إلا إذا اتفق عليه جميع الأشخاص المتناظرين، وطريق التفريق، الذي يقضي بأن لكل شخص الحق في التمتع بأكبر قدر من الحريات الأساسية موافق للقدر الذي يتمتع به غيره، وبأن الفروق الاجتماعية والسياسية تتعلق بوظائف وأوضاع متاحة للجميع، والفروق تحقق أكبر فائدة للفئات المحرومة, وطريق التجميع الذي يتمثل في وجه كثيف يخص كل أمة على حدة، ووجه لطيف يشترك به أفراد الإنسانية جميعاً.

أما مسلمات النقد الإيماني فتنطلق من أن الأخلاق مستفادة من التعددية القيمية الدينية، وهي تدور على الخير والشر، وأن أفعال الإنسان كلها أفعال خلقية، أفعال قريبة لها ظاهر معنوي، وأفعال بعيدة لها ظاهر مادي، والأخلاق على ضربين: أخلاق على طريق العمل التعاوني، وأخلاق على طريق العمل التعارفي، كما أن الثقافة على ضربين: الثقافة المنفصلة التي تضم القيم التي تم فصلها عن الآيات في الوجود أو عن الفطرة في الإنسان، والثقافة المتصلة التي تضم القيم التي تحفظ صلتها بآيات الوجود وبفطرة الإنسان.

الواقع الكوني وتدمير القيم الإسلامية

ظلت الأمة المسلمة، منذ فجر "الواقع الكوني" مع فترة الاستعمار الاستيطاني الأوروبي إلى طوره الأخير المتمثل في "العولمة"، والذي يشهد ظهور الاستعمار "الإمبريالي" الأمريكي، تتعرض لمفاسد ثقافية أو قيمية متفاحشة تحرمها من حقها في الاختلاف الفكري الثقافي. عن طريق الاستتباع الثقافي الذي يخضع الشعوب المسلمة لسياسات تربوية وتعليمية تعزز سلطانه، وتنال من القيم الإيمانية والأخلاقية التي تحملها ثقافات هذه الشعوب، وتجعل هذه الثقافات تنزوي وترضى بوضع لا يتعدى "الطقوس الشكلية" أو"التقاليد الشعبية"، وعن طريق التخريب الثقافي الذي يرمي إلى نسف قيم الثقافة الإسلامية بكل الوسائل مثل: التشكيك في الثوابت العقدية في الدين الإسلامي، والتطاول على مقدساته بدعوى تحري النزاهة والموضوعية، وكذلك الطعن في الحقائق التاريخية التي تعلقت بالحضارة الإسلامية، التخويف من الإسلام بأنه دين إرهاب ودين تطرف، ودين كراهية للغرب، والتنميط الثقافي، أي فرض رؤية الواقع الكوني الخاصة ومعاييره الثقافية على باقي الأمم، دعماً لهيمنته الاقتصادية المتمثلة في السيطرة على رؤوس الأموال والأسواق التجارية والشركات العالمية، والتلبيس الأخلاقي، فقد قام الواقع الكوني بقطع صلته بالأسباب الروحية للأخلاق والعمل على مبدأ الاشتغال بالإنسان وترك كل اشتغال بالله، والتوسل بالعقل، ومبدأ اعتبار الدنيا، وترك اعتبار الآخرة، ومعلوم أن القيم الإيمانية العظيمة هي "الله" و"الوحي" و"الآخرة".

فالعالم الإسلامي يعيش اليوم واقع التصدع الثقافي، والذي يتخذ الازدواج بين ثقافة المستعمر وثقافة الأصل، والازدواج بين الحداثة والأصالة، والازدواج بين الإسلام والغرب، والازدواج بين الماضي والحاضر، والازدواج بين القومي والعالمي.

وحتى نستطيع درء المفاسد السالفة، فيجب درء الاستتباع الثقافي عن طريق التحرر والتكافؤ والإعداد الثقافي، ودرء التنميط الثقافي عن طريق التعارف والتكامل الثقافي، ودرء التلبيس الأخلاقي في تديين وتخليق الثقافة بالمعايير والقيم الإسلامية.

صدام الثقافات

إن مفهوم صدام الحضارات أو صدام الثقافات لم ينتجه واقع علاقات أمم ببعضها بل أنتجته ثقافة واحدة، هي الثقافة الغربية أي الأمريكية-الأوروبية، التي أضحت ثقافة الواقع الكوني، والصدام هنا الثقافة الغربية، والمصدوم هو باقي الثقافات، وقد استقر رأي الثقافة الغربية على أن قيم "الأمة المسلمة" مخالفة لقيمهم الكونية، ومقاومة لإرادتهم في تعميمها على باقي الأمم، فقرروا تدمير القيم الإسلامية بمختلف الوسائل، غير أن الواقع الكوني لا يصدم ولا يهدم القيم الإسلامية إلا على أساس مسلمة أن قيمه الكونية أفضل من القيم الإسلامية التي تزن الأفضلية بميزان القوة لا بميزان الحق.

وتتكون البنية الرئيسية للمسلمات الأخلاقية في البيان الأمريكي من مبادئ خمسة هي: مبدأ التساوي في الكرامة، ومقضتاه أن جميع الناس يولدون أحراراً ومتساوين في الحقوق، ومبدأ دور الحكومة أن الذات تشكل أساس المجتمع، ودور الحكومة هو حفظ ورعاية ظروف الازدهار، ومبدأ طلب الحقيقة، ومبدأ الاختيار الديني، ومقتضاه أن القتل باسم الله يضاد الإيمان بالله.

ولكن هذه المبادئ كانت مبادئ خاصة لا عامة، ونسبية لا كونية، وذلك أنه يجوز أن يقع الاختلاف بينهم وبين غيرهم في بعض مفاهيمها، وأنهم صرحوا فيما بينهم بما يخدم أغراضهم الاستدلالية الخاصة والظرفية من مثل تزكية الحكومة الأمريكية، والإدانة المطلقة لمرتكبي أحداث أيلول، خاصة أن الأمريكيين لا يأخذون بهذه القيم بل يأخذون بأضداد هذه القيم، وعلى هذا تكون المبادئ غير المصرح بها هي كالتالي: مبدأ التفاوت في الحقوق ومقتضاه أن المجتمعات والدول يكون لها من الحقوق على قدر امتلاكها لأسباب الحضارة والقوة المادية، ومبدأ الاستبداد بالرأي، ومقتضاه أن الحكومات والمؤسسات تقرن بقاءها بتقبّل الحقائق والقيم التي يمليها عليها أولو القوة في العالم، ومبدأ الاستهتار بالدين مقتضاه أن الأفراد والجماعات يعتقدون ما شاؤوا ولا يُسألون عمّا يفعلون، ويتظاهر الأمريكيون بممارسة هذا النظر الملكوتي حيث لا يمارسونه.

الاختلاف الفكري

الاختلاف الفكري درجات متعددة، تبدأ باختلاف أفكار الفرد الواحد، يليه اختلاف أفكار الأفراد داخل الجماعة الواحدة، ثم اختلاف أفكار الجماعات داخل المجتمع الواحد، فاختلاف أفكار المجتمعات داخل العالم.

وينقسم الاختلاف الفكري بحسب المجالات مثل الاختلاف في المفاهيم، وتكون هذه المفاهيم أسماء خاصة تدل عليها، وتوضع لها تعاريف تحدد مضامينها مشكلة بذلك إطارات أو نطاقات مفهومية، وتتخذ أشكالاً متعددة مثل التقديم والتأخير، والتداخل والتباين، والاتساع والضيق، والتعميم والتخصيص، والاختلاف الثاني يكون في الأحكام، ويكون اختلاف في مضمون الحكم، وفي دليل الحكم وفي نتائج الحكم، والاختلاف الثالث يكون في القيم، مثل اختلاف القيم الاعتقادية والخلقية والقيم المعرفية التي تعلق بالحقيقة، والاختلاف الأخير الاختلاف الفكري التعاوني والاختلاف الفكري التعارفي، وهناك اختلاف فكري لين واختلاف فكري صلب الذي يحصل بين أمتين متعاونتين.

الفكر الاثنيني

إن الأمة الوقحة قد لا تكتفي برفع التصلب في الاختلاف الفكري إلى أعلى الدرجات، بل تتعداه إلى أن تخط خطاً يفصل بينها وبين باقي أمم العالم، بحجة أنها هي التي تنتج الفكر وتستحق أن تنتجه، وسواها لا يستحق أن ينتجه، ولا تفتأ تثبت أنها على حق فيما تعتقد وغيرها على باطل، وهي لا تنبذ التعامل مع الأمم الأخرى، لكن تأخذ بطريق التعاون وحده، ناقلة له من حال التعاون على المعروف إلى حال التعاون على المنكر، فهي تلغي حق الاختلاف الفكري، وتجعل مكانه التقابل بين نقيضين "وجود الفكر"و"عدم الفكر" وهذا المنحنى يُعرف باسم "الاثنينية".

ويعتمد الفكر الاثنيني الركن الديني بتقسيم العالم إلى محورين: محور الخير ومحور الشر الذي يمثل فئة مرتكبي أحداث أيلول وفئة البلدان التي تؤوي الإرهابيين، والركن السياسي للاثنينية هو التقابل بين الصداقة والعداوة، قسم الأمم الصديقة وقسم الأمم العدوة، والركن العسكري للاثنينية هو التقابل بين الحياة والموت، فلا بد لحرب الإرهاب أن تلغي كل الحلول التي تكون بديلاً لشن الحرب العسكرية، وتتحول حرب الإرهاب إلى مسألة سياسية تتكفل بها مؤسسة الجيش وتدخل في نطاق المعركة الإستراتيجية، فإن أركان الفكر الاثنيني تعالج مختلف مستويات الإرهاب بواسطة أزواج مفهومية الخير والشر، الصداقة العداوة، والحياة والموت، ويرفض حق الأمم الأخرى في أن تخالف الأمة الأمريكية فيما استقرت عليه، فإما أن تكون أمريكية أو لا تكون ألبتة!

أما الأمة ذات الجهاد الأخلاقي فهي إنسانية وليست كغيرها، فيقوم الفعل الأخلاقي الكوني على التعامل الثابت الذي تبقى فيه الأعمال والتصرفات واحدة، سواء تعلقت آثارها الإيمانية والخلقية بالذات أم تعلقت بالآخر، وتقوم على التعامل المميز وهو الذي تختلف فيه الأعمال والتصرفات باختلاف من تتعلق به آثارها الإيمانية والخلقية، وهي تقوم على القوة المعنوية، حيث تقوم الاثنينية المتمثلة في الفكر الاثنيني على القوة المادية.

يقوم الفكر الاثنيني على مبدأ التقابل بين الذات والآخر، بينما الجهادية الأخلاقية تقوم على مبدأ الجهاد الذي يتوجب التداخل بين الذات والآخر بازدواج الشعور بالذات وبالشعور بالآخر، من يبذل روحه من أجل أن يحفظ روح غيره، وتقوم على تعدد الذات بحيث تكون ذاتها بعد كل تقلب مختلفة عن ذاتها قبل هذا التقلب، والأمة المجاهدة لا تكون بذات واحدة بل ذوات كثيرة متتالية، كما أنها تتجنب كل الأغراض الذاتية والمصالح المادية التي قد تفسد قصدها الجهادي، وهي لا تتسيب في استعمال الوسائل في قتل الآخرين، وترتقي الأمة المجاهدة في مراتب الإيمان حتى تنزل أعلاها بدوام الإحسان، وهي لا تهول جانب السوء في أفعال الأمم الأخرى كما تهوله الأمة الاثنينية، ولا توسع دائرة الأمم المخالفة كما توسعها الاثنينية السياسية، بل تعمد إلى تضييق نطاقها قدر المستطاع، وهي أمة محسنة لا تغلق باباً نقداً لذات بل تبلغ في فتح هذا الباب ما لا يبلغه سواها.

ولدوام الحياة فإن الاضطرار إلى الاستشهاد يكون مبدأ الحياة؛ فهي تجود بأرواح أبنائها؛ حيث لا ينفع سبيل آخر في حفظ حياة الآخرين، ولا يكون بذل الروح إلا حيث يتعذر وجود بديل آخر، والاستشهاد لا يلجأ إلى قوة السلاح بل إلى قوة الأخلاق، ولا يقتل المدنيين عن سابق تخطيط كما تقتلهم حرب الإرهاب.

الفكر الأُحادي

الفكر الأُحادي هو عبارة عن مفاهيم مكررة، وأحكام مقلدة واستدلالات جاهزة في مختلف المجالات التي تعني المواطنين في أحوال معاشهم، وهو يأتي على شكل حلقات متصلة بعضها ببعض، مثل الحلقة الإعلامية والتي تقوم على أن العنصر السياسي يتقدم على العنصر الاجتماعي، وبذلك تضفي المشروعية على المصالح السياسية للأنظمة الحاكمة، والحلقة الاقتصادية، وبها يتقدم العنصر الاقتصادي على العنصر السياسي فتضفي المشروعية على مصالح المؤسسات الاقتصادية، والحلقة المعلوماتية، وفيها العنصر المعلوماتي يتقدم على العنصر الاقتصادي وبذلك تضفي المشروعية على مصالح الشركات المعلوماتية الكبرى.

ويتميز الفكر الأُحادي بأنه فكر واحدي وتقليدي وتمجيدي يمجد العولمة، وهو فكر مصلحي يخدم مجموعات قوى مخصوصة، فنجد أن هذا الفكر الأُحادي فكر بلا أمة بلا أخلاق، ووقاحة هذا الفكر وقاحة اجتثاث، إذا كان الأصل في الوقاحة هو الصلابة فلا أصلب من هذا الفكر، فهو فكر مبني للمجهول فنقول: إنه فكر الأمة المجهولة.

الإيمان والارتقاء والاكتمال

إن الأمة المسلمة تجمع بين أرسخ تأصيل للتخلق وبين أوسع اتصال للديمومة، وهي تضع معايير توصل إلى تقويم هذه القدرة مثل معيار الخاصية الفعلية والخاصية القصدية والخاصية العمومية، ويظهر فعل الجهد مستوفياً هذه المعايير، ويعتمد الجهد الارتقائي في تفعيل الإيمان إلى أنه يكون صادراً عن الروح، ويتجلى في العمل بالقيم؛ فيأخذ المسلم قيمه من الدين الخاتم الموافق لكمال الفطرة، محققاً في كل أفعاله، ابتغاء التقرب إلى الله.

أما الجهد الاكتمالي هو عبارة عن بذل أقصى الطاقة، وهناك معايير تحدد قدرة الفعل تأصيل الخلق معيار المساواة، ومعيار العدل، فتضفي الأمة المسلمة على تعاملها مع الأمم الأخرى صبغة قدسية عليا تجعل التعاون معها على المعروف تعاوناً على أوامر الذات الإلهية التي نزلت بها أديانها، وتعتمد على أركان طلب المحنة، وتحصيل الإخلاص، والتمسك بالحرية، والتحلي بالصبر.

===========

#الاستراتيجية المقبلة لما بعدالعراق (1/2)

د. المصطفى تاج الدين* 23/5/1424

23/07/2003

لعل من أهم الأسئلة المركزية المطروحة في مرحلة ما بعد حرب العراق سؤال : ما العمل؟ وكيف السبيل إلى الإبقاء على الذات العربية الإسلامية مكتنزة بكل آمال النهوض رغم هذا الواقع الكئيب؟ سؤالان لم يعد هناك مجال لتجاهلهما أو محاولة إخفائهما بادعاء امتلاك الجواب الجاهز، أو ربما بإنكار شرعية السؤال ذاته.

يقدم القرآن الكريم توصيفين لمستقبل هذه الأمة، وكلاهما متعلق بشرط سنني لا تتحقق نتيجته إلا بتحقق شرطه الموجب، فهناك الوعد بالنصر شرط التحقق بشروطه "وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم"، وهناك إمكانية الهزيمة التي تركها القرآن الكريم ممكنة إذا تحققت شروطها "ولا يزالون يقاتلونكم حتى يردوكم عن دينكم إن استطاعوا"، فربط نصرهم بالاستطاعة، والتي هي بدورها مرتبطة بدور المسلمين -الموجه لهم الخطاب- في إيجاد هذه الاستطاعة وخلقها.

إن أي قراءة للقرآن الكريم بخلفية النصر المحتوم موقف غير قرآني، وإن بدا مبشراً ومدغدغاً للعواطف الزائلة؛ لأنه يقع في خطأ تجاهل مرير لقوة الآخر ووهن الذات، وإن الإيمان باحتمال الهزيمة يشحذ الهمم لتجنب أسبابها. كما أن قراءة القرآن بنفسية الهزيمة المحتومة لا شك موقع في اليأس من رحمة الله الواسعة، وتصور قدري ينفي القدرة على التغيير والإصرار على الإصلاح. فاعتبار التوصيفين مؤذن بخلق التوازن في الشخصية المسلمة حتى لا تستسلم لموقفين سلبيين موقف الشعار، والذي يجعل الحناجر تصرخ بالويل والثبور على كل شيء، وتصيح بأننا منصورون وأننا سنفعل ونفعل، وأن أمريكا ستسقط ليس في العراق هذه المرة، بل ولا قدر الله في سوريا وربما في مصر أو السعودية، هكذا حتى تسقط كل القلاع. الموقف الشعاري موقف منكفئ على نفسه، رومانسي الطابع يستلهم شخوص التاريخ: عمر و صلاح الدين، دون الوعي بالظروف التي صنعت الرجلين العظيمين وأمثالهما. إن مثل هذا الموقف كمثل موقف بطل في الملاكمة لم يقبل بالهزيمة فقط؛ لأن تاريخه مليء بالانتصارات، ولم تسمح له كرامته بالانسحاب. و قد يكلفه هذا حياته، يمنعه من رجعة أخرى والأيام دول!.

وموقف الهزيمة الذي لا يرى في التراجع سوى نهاية التاريخ، والصراع عنده لحظات تاريخية متقطعة لا تعاد في الزمن، وإن مثله كمثل بطل في الملاكمة رفض النزال لأنه سيهزم كما هزم في معركة سابقة.

ولو ادعينا القدرة على أن نضع تصوراً تفصيلياً لاستراتيجية مستقبلية للعمل من أجل العودة التاريخية لهذه الأمة؛ لكان محض تقول لا تسمح بتحقيقه طبيعة الأشياء، فحسب هذه الحروف أن تكون إطاراً لبرنامج عمل يفضله العاملون على بعث هذه الأمة والمرابطون على ثغورها المختلفة.

على المستوى الداخلي:

لقد أصبحت الدولة القطرية أمراً واقعاً، والوحدة الإسلامية -بل والعربية- أمراً ثقافياً ونفسياً، والدليل على ذلك فلسطين، والآن العراق، وقبل ذلك الكويت، حيث إن صدق العواطف في مساندتها سرعان ما تتكسر على المعطيات المحلية التي أفرزتها الدولة القطرية. فنحن لا نستطيع أن نفعل شيئا ذا بال رغم أعدادنا الغفيرة، وإيماننا بعدالة القضية. وإذا كان الأمر كذلك فإن خطابات التخوين والتفسيق بسبب الوقوف إلى جانب أمريكا ومساعدتها في ضرب العراق يجب أن تتوقف، ليحل محلها خطاب جديد يرنو إلى المستقبل، ويشكل نواة فكر وحدوي جديد سنبرز بعض ملامحه. هل الكويت مذنبة لأنها قدمت أرضها للمحتل للهجوم على العراق؟ وهل الأكراد متواطئون لأنهم فتحوا الشمال للعدو أو ربما "الصديق" ليلتف على أرض العراق؟ نعم إنهم كذلك، و لكن من لم يخن فليرم الكويت والأكراد بحجر. ترى من أين مرت السفن الحربية الأمريكية؟ ألم تمر من البحر المتوسط عبر بلدان عربية؟ ومنها بلدان "ثورية"؟!

إن عقلية البحث عن المذنب عقلية غير مثمرة، والسبب بكل بساطة: كلنا مذنبون. إننا ومن موقع قومي ضيق ننتقد تركيا؛ لأنها تريد الاستفادة من الوضع العربي لتعزيز دورها الإقليمي في الشرق الأوسط، ونحن ننسى أننا نحن الذين ضربنا الخلافة العثمانية في العمق، حينما أقنعنا لورنس العرب بإقامة الدولة العربية الحديثة على حساب دولة الخلافة (أقول هذا وأنا على علم بالاستبداد التركي ونتائجه في تحطيم دولة الخلافة) نعم لكل منا نصيب من الخطأ ينبغي أن يعترف به، ولكل دولة عربية وإسلامية نصيبها مما نحن فيه. أجل لقد أصبحنا -ومع كامل الأسف- متساوين في الخيانة بعد أن كنا متساويين في صنع قصة الكرامة العربية الإسلامية. فهل نوقف السباب والشتائم؟ ترى إن لم نتوحد في الهزيمة، فهل نأمل فيها بعد النصر إن كان ثمة نصر؟

ينبغي إذاً التركيز على خلق تصور جديد لعلاقتنا بالأنظمة السياسية التي تحكمنا في إطار الدولة القطرية، ويقوم هذا التصور على:

الحرص على استقرار الأنظمة السياسية ذات التوجه التعددي:

على أي حركة جماهيرية أن تتجاوز فكرة تغيير الأنظمة وإحلال أنظمة جديدة مكانها، والسبب أن كل نظام جديد سيكون أقل نفوذاً من سابقه وعليه أكثر ارتباطاً بالخارج حيث يستمد قوته ونفوذه.

إن علينا العمل بكل إخلاص من أجل تقوية الأبعاد الوطنية والدينية في أنظمتنا عن طريق خلق مصالحة شاملة مع أنظمة الحكم في العالم العربي والإسلامي، بشرط أن يوفر هذا النظام السياسي أرضية لممارسة الحريات، واحترام حقوق الإنسان، وما على التجمعات السياسية وخصوصا الإسلامية والوطنية سوى تقوية المجتمع المدني، ودعم النظام السياسي في اتجاه سياسات الإصلاح، وبذل النصح الخالص من أي شوائب المنافسة والاستقطاب، وعلينا أن نربي شبابنا على ثقافة سياسية إسلامية قوامها العمل من أجل البناء لا الهدم، والقدرة على ابتكار الأفكار وصياغتها في إطار برامج عمل قابلة للتنفيذ، بدلاً من فناء الأعمار في النقد الهدام، والاحتشاد لخلق اضطراب هنا أو مشكلة هناك.

تخليص العمل الإسلامي من بعده الحزبي:

لقد أنتج واقع الدولة القطرية واقعاً جديداً في الممارسة السياسية الإسلامية لم يتعودها العقل الإسلامي، وهو تشكيل أحزاب من أجل تغيير مسار الحكم من العلمانية إلى الإسلام. ورغم أن الحركة الإسلامية تحاول جاهدة التأريخ لظهورها بالحركات التحررية من الاستعمار- باستثناء جماعة الإخوان المسلمين التي شاركت فعليا في طرد المستعمر -إن طرد فعلاً- فإن ثمة فرقاً واضحاً بين الخطاب الإسلامي والخطاب الوطني. حيث تحول الحزب الإسلامي إلى ما يشبه الطائفة الدينية، فكل حزب له علماء محسوبون عليه، وله مفتون، وله منبر إعلامي يمتلئ بما يوافق توجهات الحزب؛ بل ولكل حزب آيات قرآنية مفضلة تختزل رؤيته السياسية، أي أن البعد الطائفي في التحزب الإسلامي ليس مقصوداً ولكنه نتيجة طبيعية لأساليب العمل وطبيعة الخطاب المتحكم في الأداء السياسي. ولقد أنتج هذا الواقع توجها للأحزاب الإسلامية نحو الاستقطاب، وخصوصاً في الانتخابات، وهذا ما أدى بالخطاب الإسلامي إلى الانكماش رغم الزخم الظاهر؛ لأن الطائفة تبقى طائفة رغم امتدادها الظرفي لسبب أو لآخر، كما أن المواطن البسيط لا يستطيع التمييز بين الإسلام والحزب الإسلامي، وأي تمثيل سيئ للإسلام فإنه يؤدي إلى الشك في المبادئ الدينية ذاتها وقدرتها على الإصلاح (نموذج السودان، الجزائر، أفغانستان، اليمن)، وعليه فعلى الأحزاب الإسلامية أن تعالج هذا عن طريق:

- التعاون مع الحكام تعاوناً صادقاً دون السكوت على مظاهر الانحراف في إطار الحرص على المصلحة الوطنية، وإسداء النصح الناضج والعملي للحكومات.

- على العلماء ألا ينضموا لحركات أو أحزاب معينة؛ لأنهم ضمير هذه الأمة، وروحها الموحدة، فمن غير المقبول أن يستمر العلماء محسوبين على إطار دون آخر؛ باستثناء نوع من العلماء الذين إذا تكلموا أو كتبوا لا يتأثرون بأولويات تنظيماتهم، ويكاد أن يستحيل هذا النوع وجوداً.

- على الشباب المستقيم والمثقفين النزهاء أن ينضموا إلى كل الأحزاب القائمة، ويعملوا في إطارها صبراً واحتسابا، فليس المشكل في الأنظمة فقط؛ بل إن الأحزاب على اختلاف أطيافها أيضا تحتاج إلى إصلاح.

- الحرص على خلق فرص الحوار الدائم والمستمر في كل فرصة بين كل الحساسيات الإيديولوجية والفكرية بدون هدف في الاستقطاب أو الكسب الجماهيري، وليكن الحوار منظماً متسقاً مع أنماط أخرى من الحوار غير الرسمي.

- على الأحزاب الإسلامية أن تقلل وربما أن توقف تعيين أعضائها في المناصب الانتخابية، وأن تعمل بدلاً من ذلك على ترشيح المستقيمين من خارج أطرها، بشرط أن يكونوا من الوجهاء، ومنحدرين من أسر علم وتدين وصلاح. إن بريق المناصب يخطف الألباب، وخصوصاً أولئك المحرومون والذين مهما أظهروا من زهد فإن نفسياتهم قد تركبت في جو من الحرمان يمنعهم من الوفاء بأمانة المسؤولية، وأدائها على الوجه الأحسن، ثم إن العمل للإسلام ينبغي أن يتخلص من كل سعي إلى المكسب الدنيوي وهي ضريبة يقدمها المصلحون في كل زمن وعلى رأسهم الأنبياء. وأنا هنا أتحدث عن الغالب، لا أن نحرم كل داعية من منصب سياسي قد يستحقه بشرط ألا يتخذه بابا للكسب. والمراد أن يتحول التيار الإسلامي إلى قوة ضغط شعبية، وليس إلى مجرد طرف من أطراف اللعبة السياسية.

- على الحركة الإسلامية أ أن تعمل على إحياء الورع من جديد والذي به نستطيع محاربة الفردية والاتجاه نحو الاستمتاع المادي الاستهلاكي، وهو ما لم تستطع الحركة الإسلامية التحديثية محاربته؛ بل إنها هي أيضا خلقت المسلم المادي الذي لا يكفيه راتبه مهما كان، والذي يعيش في دوامة استهلاكية لا تتوقف، تجعله غير قادر على العمل الصحيح من أجل حل مشاكل مجتمعه، أو ربما قول كلمة حق في مكانها.

ما العمل بعد حرب العراق؟ بدأنا بالإجابة على هذا السؤال على المستوى الداخلي، وناقشنا أولويات الحركة الإسلامية وكيفية تجاوبها مع الغير على قانون استخلاف الله للمؤمنين على هذه الأرض واليوم نتابع معكم الحلقة الثانية بمتابعة مجالات استراتيجية العمل لما بعد العراق على المستوى الخارجي..

على المستوى الخارجي

- إيجاد قنوات جديدة للحوار البناء مع الهيئات والمنظمات الدولية المهتمة بحقوق الإنسان، والعودة إلى قيم الفضيلة: إن في أمريكا وأوربا واليابان وكوريا عدداً هائلاً من المنظمات العالمية والمحلية غير المتحيزة إيديولوجيا، والتي تشتغل بجدٍ من أجل ما تريده أوطاننا وأوطانهم من تحرر وديمقراطية، وعلى جيل الصحوة العربية والإسلامية أن يعي بقدرة العمل الرمزي على إحدات الأثر الواقعي؛ فمثلا تنظيم ندوة عالمية عن الشعر أو الرواية، أو الصناعة التقليدية، أو حتى عن الطبخ المغربي أو غيره، ودعوة المختصين في هذا الميدان أو ذاك من كل بقاع العالم، والحرص على إبقاء أواصر الود قائمة بيننا وبينهم كفيل بجعل حلقات الحوار تتسع والتعرف إلى قيم الإسلام العالمية تمتد. لم يعد تجييش الناس في مظاهرات لشتم الغرب وإظهار مؤامراته عملياً في جعل الآخر يعرفنا؛ لأننا ونحن تحت ظرف الهزيمة أحوج إليه لنعرفه بأنفسنا، لا أن يعرفنا من خلال جهلنا به.

- إعادة النظر في القول بأن "الكفر ملة واحدة"، والحقيقة أنه يستدل به في غير موضعه، وهذا جهل بالتاريخ وسننه، وتجاوز للرؤية القرآنية للآخر، وإمعان في التعميم السطحي القائم على اختزال الظواهر الاجتماعية والتاريخية؛ فالقرآن والتاريخ -الترجمة الحية لمعانيه السامية- يقسمان الكفار إلى فرق عديدة، فمنهم العدو، ومنهم دون ذلك، ومنهم الأقرب مودة ومنهم الأبعد، ومنهم أمة قائمة ساجدة، ومنهم أمة لا تألونا خبالاً ودوا لو نكفر، ومنهم أمة تفي بالعهد، وأخرى لا تقيم لذلك وزنا، وليس عليها في الأميين سبيل. إن الوعي التقسيمي للأمم قائم على العلم بتاريخها ومللها ونحلها وطبائع العمران الفاعلة في مخيلتها، أما جمع الأمم الأخرى في سلة بعينها، وادعاء أن "الكفر ملة واحدة"، والاستدلال به في غير موضعه؛ فلا يحتاج إلا إلى قليل من الجهل، وحفنة من قلة الفهم، وجزء يسير من تجاهل التاريخ، وبعض هين من الذهول عن معاني القرآن، وهذا لعمري عمل يسير وأعتقد أن أمتنا -التي تستفحل فيها الأمية- قادرة على فعل هذا وزيادة!.

- الشروع في قراءة الغرب: علينا أن نخجل من أنفسنا؛ لأننا لم ندرس الغرب دراسة شاملة كما فعلت مراكز الدراسات الشرقية في دراسة الحضارة الإسلامية. إن أقسام الدراسات الإسلامية في الغرب تمتلئ بعلماء فطاحل ومحققين كبار، والذين مع كامل الأسف نكتفي برميهم بكلمة جهل واحدة : مستشرق، لكي نبعد حتى الذباب من الاقتراب من كتبهم التي أفنوا فيها أعمارهم، والتي كتبت حتى يستفيدوا منها في التخطيط للهيمنة علينا، أو على الأقل لاتقاء شرنا المفترض. ولو رجعت إلى جامعاتنا لما وجدت فيها قسماً قائماً للدراسات الغربية، أو الدراسات النصرانية، وكل ما هنالك كتب بالية في إظهار انحراف مللهم مع أن أغلب الثيولوجيين المسيحيين يؤمنون بتحريف كتبهم، ومع ذلك فلهم تفسير آخر في فهم الظاهرة الدينية، أما نحن فإننا نحاور المسيحيين وكأنهم مسيحيو القرون الوسطى، ونستعمل في ذلك كتب أجدادنا العظام الذين حاوروهم بمقتضى ما يتطلبه عصرهم، وكأننا في العلوم النظرية كمثل من يحارب صاروخاً بنبل صادق الرمي.

- الإيمان غير التكتيكي بقيم الديموقراطية الغربية وحقوق الإنسان مع التوفيق بينهما وبين قيمنا وديننا الحنيف. إن التجربة الإسلامية في هذا المجال مبشرة، إذ إن الحركة الإسلامية في قطاعها العريض مؤمنة بضرورة التعددية وشرعيتها، غير أن لي ملاحظة على هذا؛ إذ يبدو أن الإيمان بالديمقراطية تكتيك مرحلي قد ينتهي بالإسلاميين إلى إلغاء الديمقراطية بالديمقراطية على طريقة الأمريكان في محاربة أسلحة الدمار الشامل بأسلحة الدمار الشامل، أو إنهاء حرية العراق عن طريق تحريره. ودليلنا على ذلك أن الحركة الإسلامية رحبت بانقلابات عسكرية أوصلت "إسلاميين" إلى السلطة في حين نددت بانقلابات عسكرية ضد الإسلاميين، حدث هذا في المغرب، حيث تغنى الإسلاميون "الديمقراطيون" بانقلاب السودان على"الديمقراطية" في الوقت الذي نددوا فيه بانقلاب عسكر الجزائر على "الديمقراطية"، أما الإخوان المسلمون فإنهم يرفضون حالة الطوارئ في مصر المحروسة، ويرحبون بها في السودان الشقيقة، لا لشيء إلا لأن طوارئ مصر لا تمكنهم من التداول على السلطة، أما طوارئ السودان فعلى الرحب والسعة؛ لأنها أوصلت أحد قادتهم إلى ضمان وزارة من الوزارات، وأبعدت غريماً لهم عن سدة القرار. إن هذا الواقع لينبئ بازدواجية رهيبة في الخطاب الإسلامي، توحي بأن الإسلاميين يحتاجون إلى الشجاعة الفكرية من أجل تمثل القيم الديمقراطية، لا باعتبارها وسيلة للوصول إلى السلطة؛ بل باعتبارها أسلم وأكمل ما وصل إليه الفكر البشري في بناء الدول واستمرارها.

- العمل على إتقان أدوات الحوار تلك، وعلى رأسها اللغات الحية كالإنجليزية والصينية واليابانية والإسبانية وغيرها. وعلى هذا أن يكون من أولويات المرحلة المقبلة في العمل العربي والإسلامي.

إننا محامو هذه الأمة، والمحكمة هو هذا العالم بدوله القوية، والخصم هو سوء الفهم والجهل بالإسلام، ولا يتصورنّ أحد أن هذا محض افتراء أمريكي إذ إن إطلالة على تصورات اليابانيين وخصوصاً الأكاديميين عن الإسلام يجدها لا تختلف كثيراً عن تصورات الأمريكان، فهناك واقع من التشويه النسقي للإسلام بالدجل حينا، وبواقع المسلمين أحيانا. وأتصور أن الثقافات التي لا تحمل عنا صورة تاريخية -كاليابان والصين- تحتاج منا إلى عمل ثقافي مركز من أجل تحسين صورة الإسلام هناك، وقطع الطريق على كل من يريد الإساءة إلى دين الحب والمساواة والجمال والتسليم لله.

إن واقعنا يقول: إن الإسلام قضية رابحة ابتليت بأسوأ المحامين، وإذا كان المحامي في حاجة إلى إفهام القاضي؛ فإننا -لا شك- في حاجة إلى إتقان أداة الإفهام، وهي: اللغات.

- لقد أثبتت حرب العراق أن العالم الغربي مليء بالمتعاطفين، كما هو مليء بالجاهلين، وأزعم أن عصابة قليلة العدد قد استطاعت إقناعهم بضرب العراق، لا بالإفصاح عن الأسباب الحقيقية وراء إعلان الحرب من قبيل السيطرة وإظهار القوة، ولو فعلت لما وجدت نصيراً حتى من الجاهلين، فدل هذا على أنه حتى الذين ساندوا الحرب؛ فإنهم في العمق من أصدقائنا، أوقفهم عن نصرتنا جهلهم بواقع ساستهم، فهم لم يساندوا الحرب إلا لأنها تحرير للعراق، ومنع لنظام صدام من استعمال أسلحة الدمار الشامل. هذه المبررات التي صدقها جزء من الأمريكيين تدل على أنهم معنا في الأصل لا ضدنا. ولا يعي هذا إلا من درس التاريخ. إننا لا زلنا نصدق أن المعتصم هاجم عمورية من أجل امرأة صاحت وامعتصماه، فأتى لينقذها، في حرب عمورية التي جهز فيها جيشاً بكامله، وتهيب منها المعتصم حتى استشار المنجمين وأهل الرأي في جدوى الحرب، وجاءه تحفيز أبي تمام صريحاً:

السيف أصدق أنباءً من الكتب ... ...

في حده الحد بين الجد واللعب

هذه الحرب هي في أذهان المسلمين عبر التاريخ وإلى الآن فقط من أجل امرأة، وإذا صح هذا في ميزان التاريخ الفعلي -لا الرمزي-؛ فإن الحرب على العراق هي فعلا من أجل تحريره. صحيح أن إيذاء امرأة مسلمة حفز المعتصم للانتصار لها، وصحيح أن هذا يحفظ في سجل حسناته، ولكن حرب عمورية كان مخططاً لها قبل ذلك، والمعتصم وهو قائد عظيم وإمبراطور ذكي لن يعرض جيشاً من المسلمين بكامله للمهالك من أجل امرأة واحدة لولا تصميمه السابق على الحرب، ووعيه بأهمية عمورية لدار الخلافة؛ فجاءت حادثة المرأة لتتحول إلى حافز رمزي رائع، له أبعاد رومانسية في غاية الشفافية استثمره المعتصم من أجل نفخ الحماس في هذا الجيش، وبث الرعب في العدو:"إن جيشاً إمبراطورياً يحارب من أجل امرأة مظلومة من الصعب الانتصار عليه" كما هو الشأن بالنسبة لجيش عولمي يحارب من أجل الديمقراطية وتحرير الشعوب. ترى لو لم تظلم تلك المرأة هل كانت عمورية ستبقى مسيحية إلى الأبد؟ وإذاً فنحن أيضاً قابلون لأن نصدق ما يقوله زعماؤنا خصوصاً إذا كانت لهم شرعية ما، ولقد صدقنا كل ما كان يقوله (الصحاف)، وكنا نتلذذ بصور ذهنية شكلتها بلاغته العجيبة عن جنود أمريكان يحرقون في دباباتهم؛ بل كدنا أن نصدق بأن الأمريكان هربوا، وأن الصحاف بعباراته النارية في أثرهم يرديهم قتلى بشتائمه، لقد صدقنا الصحاف لا لأنه كان يقول الحقيقية؛ بل لأنه كان يقول لنا ما نريد أن نسمعه، ولو كذبناه في تلك اللحظة لرمينا بالخيانة من أقرب أقربائنا، واتهمنا بتثبيط العزائم!.

إن نجاحنا في إقناع أغلب الأمريكيين في أن يفهموا ظلم سياستهم الخارجية؛ هو تماماً نجاحنا في القضاء على أمريكا في صورتها الحالية. إن نجاحنا في خلق وعي أمريكي مختلف عن طريق الفعل الرمزي؛ هو تماماً نجاحنا في خلق واقع أمريكي مختلف، وهذا ليس مستحيلاً؛ لأن اليهود استطاعوا عن طريق الرموز الدينية والثقافية تحويل جزء لا يستهان به من صناع القرار في أمريكا من مسيحيين محافظين إلى مسيحيين صهاينة ، ليس بصهينتهم ولكن عن طريق صهينة مسيحيتهم.

=============

#بعث الحضارة الإسلاميّة من جديد... دور النُّخبة

د. بدران بن الحسن 9/11/1426

11/12/2005

لقد قضى العالم الإسلامي وقتاً طويلاً من عمره الحضاري باحثاً عن نقطة بداية لإعادة بناء حضارته من جديد، وإعطاء نفسه الحضاري دفعة تخرجه من حالة التراوح والتبطل التي استنفدت قدراته في جهود مضنية.

وكان لمالك بن نبي –عليه رحمة الله- رأي في مسألة التخلف الحضاري الشامل التي يعانيها العالم الإسلامي، ورأى منذ الأربعينيات من القرن الماضي أن العالم الإسلامي يهدر طاقته في حل مشكلات جزئية متغاضياً عن المشكلة الكلية التي تحتوي كل تلك المشكلات، ألا وهي مشكلة الحضارة.

ورأى أيضاً أنه طالما أن العالم الإسلامي يفتقد إلى الرؤية الواضحة لما يريد أن يقوم به فإنه لن يتمكن من صياغة مشروع للنهضة أو الخروج من التخلف، ولن يتمكن من تحديد وجهته ولا بناء منهج لبناء الحضارة، وذلك في تصوره راجع إلى أن "الرؤية تحدّد المنهج والوجهة".

وبعبارة أخرى، فإن تصورنا لمشكلة العالم الإسلامي تصوّر جزئي ومفكّك، ولذلك فإن فهمنا للمشكلة فهم جزئي وعقيم؛ لأنه لا يحيط بكل أبعاد المشكلة، ولذلك فإن الحلول التي طُرحت كلها حلول جزئية؛ إن اهتمت بجانب أغفلت –عن قصد أو غير قصد- جوانب أخرى لا تقل أهمية عن الجانب الذي أولته اهتمامها. فأنتجت هذه التصورات الجزئية رؤى متناقضة ومشوهة وقاصرة في أغلب الأحوال، وغير قادرة على صياغة منهج لحل المشكلة الأم، ولا لحل المشكلات الجزئية المتراكمة.

ولذلك فإن أسئلة كثيرة تطرح نفسها بقوة على كل متأمل في ما نحن فيه من تردٍّ وتهلهل وتخلف شامل في العالم الإسلامي؛ فلماذا لم نستطع امتلاك هذه الرؤية المتكاملة لمشكلتنا في العالم الإسلامي؟ ولماذا لم نستطع بناء منهج قادر على الخروج بنا من المحنة التي نحن فيها؟

لعل هذا النوع من الأسئلة تراود كل من اهتم بأمر المسلمين، وسعى إلى المساهمة في فك خيوط الأزمة التي أُحكمت. ولا شك أن كثيراً من الإجابات راودت كل من طرح هذه الأسئلة على نفسه.

وفي تصوري، فإن الإجابة عن الأسئلة السابقة يمر حتماً بالإجابة عن سؤال أو أسئلة أخرى تتعلق بمن يتولى صياغة الرؤى الحضارية، ومن يقوم على بناء مناهج التغيير؟ هل هم عامّة الناس؟ أم هم النخبة من المجتمع؟

وإذا استقرينا التاريخ؛ تاريخ التغيرات الكبرى في تاريخ المجتمعات رأينا أن هناك دائماً "فرقة" تقوم بالمبادرة بحمل لواء التغيير، وتتبنى الأفكار والمشاريع والبرامج الجديدة التي تسوّغ على وفقها نمطاً جديداً للتفكير وصورة جديدة عن العالم، وبالتالي منهجاً جديداً لمعالجة الأمور.

ولنا في الأنبياء وأتباعهم أسوة حسنة، ولنا في تاريخ النبوات، وتاريخ الأفكار الكبرى، والأمم التي تعاقبت الريادة الحضارية في العالم، والمجتمعات التي سادت ثم بادت. لنا في كل هؤلاء خير دليل على أن هناك "نفراً" من كل "فرقة" يقومون بتغيير "القوم" وبصياغة منهج جديد للحياة.

ولذلك فإن مسألة القيادة التي هي النخبة أو النفر أو الفرقة التي تتولى شؤون القوم، وإنذارهم وإبلاغهم، وقيادتهم بالتعبير القرآني- هي المسألة المركزية في صياغة الرؤية والتصور الكلي الشامل من أجل أن تتبنى منهجاً يخرج قومها من ظلمات الفوضى إلى نور المنهج الواضح الأسس، البيّن الخطوات من أجل تحقيق مبادئ النخبة والمجتمع في أرض الواقع.

وفي هذا السياق فإن المشكلة في تصوري تتعلق بنمط القيادة التي تقود عملية التغيير الحضاري، ومدى وعيها واستيعابها للمعطيات المختلفة للواقع المعاصر، ولما يتطلبه القيام بمشروع بناء الحضارة من جديد من وضوح للرؤية وتوفر منهج شمولي متكامل للتغيير.

والحديث هنا يتجه أساساً إلى العلماء والمجتهدين والمثقفين، إلى النخبة التي تقود المجتمعات الإسلامية، ومدى قدرة هذه القيادات على قيادة مشروع بناء الحضارة الإسلامية من جديد، إن نظرياً أو عملياً.

ذلك أن مستقبل العالم الإسلامي يُناط بالقيادة التي تمتلك القدرة على شق الطريق اليبس في بحر الأزمة الخانق، وأن تكون قادرة –في رأي الجماهير من الناس- على فعل المعجزات التي تحوّل مسار التاريخ في لحظاته المدلهمة، وتنير الدرب بفعل تجاوزها ليوميات الأحداث، من خلال قدرتها على استشراف المستقبل، ورسم مسارات العمل المستقبلي، والحد من الخسائر، وتحفظ المحتوى العقائدي لما تحمله من أفكار، حتى لا يفرغ من محتواه أو يحوّر أو يبدّل.

غير أن مؤسساتنا بكل تنوعها؛ الدعوية والسياسية والثقافية والعلمية والاجتماعية وغيرها، غير قادرة اليوم على أن تواكب نمط التحولات السريعة والهائلة التي تحدث بفعل عصر العولمة الذي نعيشه، ولذلك فهي غير قادرة على صياغة المجتمع وفق التطلعات التي تؤمن بها.

كما أن النخبة بمختلف طبقاتها اليوم في عالمنا الإسلامي غير قادرة على أن تحمل في وعيها آمال الجماهير وغير قادرة على توجيه هذه الجماهير أيضاً. بل إن هذه النخبة التي من المفترض فيها أن تكون هي المعبر عن آمال وتطلعات الناس من جهة، وأن تكون هي مجسّات الوعي من جهة أخرى قد انغلقت على نفسها، ولم تعد قادرة على متابعة التغيرات والأحداث الكبرى التي تجري في عالم اليوم.

ولذلك فإن النخبة في العالم الإسلامي اليوم مدعوة إلى مراجعات جوهرية لكل الأطروحات التي تتداولها منذ أمد، وعلى مختلف الأصعدة، ومن كل الأطراف. وعلى النخبة أيضاً أن تعيد ترتيب أولوياتها، ووضع خط فاصل وواضح بين القيم المبدئية التي لا يمكن أن تتغير وبين المواقف والخطوات الإجرائية التي يمكن التراجع عنها أو تغييرها أو تطويرها أو تجاوزها إلى ما هو أكثر نضجاً ونجاحاً وقابلية لتحقيق مقاصد القيم الأصلية المبدئية وتحقيق مصالح الأمة.

وعليه فإن النخبة مطلوب منها اليوم أن تعيد تشكيل مواقفها وفق المبادئ الكبرى للأمة بشكل واضح وصريح ومؤسس ومنهجي، وألاّ تلجأ إلى التلفيق بين المفاهيم، ولا التركيب المشوه بين مختلف المقولات والتصورات. كما أن على النخبة أن تعيد النظر في مفاهيمها التقليدية الموروثة سواء من تراثنا الإسلامي أو من التراث الحضاري للأمم الأخرى، ويكون ذلك وفق رؤية علمية مبنية على الحجة البينة والبرهان العلمي والحوار المنفتح على الآخر، القابل للحقيقة مهما كان مصدرها، خاصة إذا علمنا أن الإسلام لا يُخشى عليه من أي فكرة أخرى، بل إن الإسلام ذاته ما هو إلا رسالة لإتمام المكارم التي بين الناس.

ومن هذا المنطلق، فإن النخبة يكون أمامها مجال فسيح للاجتهاد المحتكم إلى القيم الثابتة من القرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة، تسترشد بعد ذلك بما استقر من صالح الكسب البشري من فكر وثقافة وحضارة شحذتها وهذبتها الخبرة الإنسانية الطويلة الأمد.

وعليه، لا نكون في اجتهادنا أمام خطر الانحراف عن القيم الكلية الثابتة؛ لأن القرآن مصدِّق ومهيمن على كل تجربة أو فكرة، ولا نكون أيضاً أمام خطر التخلف عن مواكبة الأحداث؛ لأن الانفتاح على مختلف التجارب يذكي الخبرة وحس الخطأ والصواب لدى الأمة، ويقوّي مجسّات التحقق من صلاح التجارب على اختلاف مصادرها ومدى مواءمتها لمختلف المشكلات التي تهدف النخبة لحلها.

ونختم حديثنا هذا بالتأكيد على أن سلوك نهج الحضارة، والعمل على بعث الحضارة الإسلامية من جديد، والتمكين للإسلام والمسلمين لن يتحقق طالما بقيت النخبة في العالم الإسلامي غير قادرة على بناء رؤية واضحة، من خلالها تستطيع تحديد القيم والمبادئ الكلية، وتحديد المنهج ذي الإجراءات العملية لتحقيق مقاصد هذه القيم في دنيا الناس.

=============

# الأبعاد السياسية لحوار الأديان

الحوار الإسلامي المسيحي نموذجاً.

قراءة: محمد سليمان . 28/7/1424

25/09/2003

العنوان : الأبعاد السياسية لحوار الأديان . الحوار الإسلامي المسيحي نموذجاً.

المؤلف : سامر أبورمان .

الناشر : دار البيارق ، عَمان .

سنة النشر : 2001م .

عدد الصفحات : ( 222 )

شهد الحوار الإسلامي المسيحي نشاطاً واسعاً في العقود الأخيرة ، وتعددت وتنوعت المواقف والتحليلات بخصوص دلالات هذا الحوار وأبعاده ، خاصة السياسية منها، فهناك من يرى أن الحوار هو وسيلة عقلانية لتجنب الصراعات الدينية ، وبناء حالة من التعايش بين أتباع الديانات السماوية ، وبين من يقول : إن للحوار أهدافاً سياسية خطيرة تصب في المحصلة لصالح الطرف القوي والمتفوق في الحوار ، وهو الطرف المسيحي أو اليهودي... الخ . هذه التساؤلات والجدالات هي التي سعى الباحث الإسلامي الأردني " سامر أبورمان " لمناقشتها في دراسته الحالية من خلال منهجية علمية تقوم على متابعة وثائق مؤتمرات الحوار الإسلامي المسيحي ، وتحليل هذه الوثائق واستنباط الأبعاد السياسية للحوار من خلال الوثائق والمفاهيم الرئيسة والقضايا المطروحة في النقاشات ، بالإضافة إلى المتابعة التاريخية لدورات الحوار ومؤتمراته.

مما يضفي على الكتاب أهمية مضافة أن الباحث قد سافر بنفسه وشارك في مؤتمر للحوار في ألمانيا ، كما أنه شهد مؤتمرات عقدت في عمان. ويتكون الكتاب من ثلاثة فصول : يضم كل فصل منها أربعة مباحث، يتناول الفصل الأول الطبيعة السياسية للحوار الإسلامي المسيحي ، ويتطرق فيه إلى التطور التاريخي للحوار وإلى أهداف الحوار السياسية وخصائصه وضوابطه ، والدوافع التي تقف خلفه بالإضافة إلى أبرز المعوقات . أما الفصل الثاني فيتطرق إلى أبرز المفاهيم السياسية في الحوار وهي : مفهوم العيش المشترك بين المسلمين والمسيحيين، مفهوم السلام الدولي ، مفهوم العلمانية والعلاقة بين الدين والدولة في الحوار، مفهوم القومية والعلاقة بين الوطنية والدين، في حين يبحث الفصل الثالث في القضايا السياسية المهمة التي ركز عليها الحوار الإسلامي المسيحي، ومنها: الصراع العربي - الإسرائيلي والتسوية ، قضية القدس ، الاقليات والاستقرار السياسي، الغزو العراقي للكويت وحرب الخليج الثانية.

الطبيعة السياسية للحوار:

يتناول الباحث الطبيعة السياسية للحوار من خلال عدة محاور:

1- التطور التاريخي للحوار بحيث يبين الباحث أن البداية الحقيقية المؤسسية للحوارالإسلامي المسيحي جاءت متأخرة مع منتصف القرن العشرين ، وتحديدا منذ المجمع الفاتيكاني الثاني ( 1962- 1965 )، بحيث صارت بعد ذلك خطابات الباباوات تركز على العلاقة الحسنة مع المسلمين، وأنشئت لجنة خاصة باسم " أمانة اللجنة الدائمة للعلاقات مع المسلمين" ، وصدرت بعد ذلك عدة حوارات تؤكد على ضرورة الحوار مع المسلمين وطبيعة الحوار وخصائصه ، مثل بيان: نحو حوار مع المسلمين عام 1966، وأثر هذا التوجه الفكري المتنامي للفاتيكان على العلاقات الدبلوماسية مع المسلمين ، بحيث استطاع الفاتيكان في فترة عشر سنوات ( 1966- 1976) أن يؤسس علاقات دبلوماسية على الأقل مع 17 دولة مسلمة ، ويرصد الباحث تنامي ظاهرة الحوار في السبعينات والثمانينات من القرن العشرين.

وفي حين تعددت المؤسسات الهيئات المسيحية المهتمة في الحوار مثل الفاتيكان، مجلس الكنائس العالمي، فإن أبرز المؤسسات الإسلامية التي شاركت في الحوار، هي: الأزهر، المجمع الملكي لبحوث الحضارة الإسلامية في الأردن ، جامعة أنقرة ، جامعة تونس ، ..الخ.

2- الأهداف السياسية للحوار: يبين الكاتب أبرز الأهداف السياسية من الحوار من خلال تحليل نصوص وثائق المرتمرات، ومنها:

* مواجهة الشيوعية في فترة الحرب الباردة

* مواجهة الأصولية والتطرف وبرز ذلك من خلال: انتقاد الأصولية والتطرف والإرهاب، إدانة ربط الإرهاب بدين معين، مواجهة الإسلام السياسي.

* استيعاب الإسلام وتحجيم دعوته .

* الاعتراف المتبادل والفهم المشترك بين الإسلام والمسيحية.

3- الخصائص السياسية للحوار: يبين الكاتب عدة خصائص لطبيعة المؤتمرات والحوارات الإسلامية المسيحية، منها:

* ارتباطه بالسلطة السياسية بحيث يتوصل الكاتب إلى أن أغلب المشاركين في هذه الحوارات يحملون صفات رسمية في بلدانهم.

* سبق المبادرة الغربية للحوار واستمرار المبادرة.

* غلبة الطابع المؤسسي على الحوار من خلال تشكل العديد من اللجان والمؤسسات والجمعيات الخاصة بالحوار.

* الصهيونية، إذ يرصد الباحث في هذا السياق مبادرة بعض المسيحيين ذوي الميول الصهيونية إلى العديد من الحوارات الدينية، ويشير الباحث إلى بيان أصدره الحاج أمين الحسيني مفتي القدس سابقا أثبت فيه صلة عدد من القائمين على دعوة الحوار بالصهيونية.

* الاستمرارية والنماء وعدم الانقطاع.

* النخبوية.

4- ضوابط الحوار: يذكر الباحث عدة ضوابط مستخلصة من طبيعة الحوار والقضايا المطروحة فيه ، ومن ذلك: تجنب الخوض في الأمور العقائدية قدر الإمكان ، تجنب الكثير من الأمور الخلافية ، عدم السعي إلى تغيير مباديء الآخر ومواقفه وأفكاره .

5- الدوافع السياسية للحوار: يجد الباحث أن هناك عدة عوامل ودوافع وقفت وراء ظاهرة الحوار وتناميها ، ومن ذلك :

التوجه العالمي نحو الحوار وانحسار خصوصية الدولة وعزلتها، اعتراف متبادل بالخطأ بين الطرفين ( في حين يورد الباحث في هذا السياق نصوص مسيحية تعترف بالخطأ في فهم المسلمين والتعامل معهم، فإنه لا يورد أي نص إسلامي على ذلك) .

انتهاء الاستعمار المباشر وانحسار بعض أشكال الهيمنة .

ازدياد عدد المسلمين في الغرب مع وجود جاليات غربية في العديد من الدول الإسلامية.

تزايد خطر النزاعات الإقليمية القائمة على اختلافات عرقية أو دينية.

تزايد التحديات التي تواجه الإنسانية وتفرض على أتباع الديانتين التعاون من أجل مواجهتها.

6- المعوقات السياسية للحوار: يرى الباحث أن أبرز هذه المعوقات يتمثل في :

الإرث التاريخي من الصراع بين الطرفين .

كما أن الحاضر يلقي بعبئه على الحوار ، وذلك بسبب العديد من القضايا العالقة بين الطرفين والصور الذهنية المتبادلة لكل طرف منهما عن الآخر.

ومن المعوقات أيضا التبشير الغربي ، في حين اعتبر بعض المشاركين أن تعاظم الصحوة الإسلامية ونموها من معوقات الحوار. - ومن المعوقات التي يحددها الباحث: عدم التكافؤ واختلال التوازن بين الطرفين ، و توظيف الحوار في خدمة السياسات والتوازنات الدولية.

المفاهيم السياسية في الحوار الإسلامي- المسيحي:

يتناول الباحث في هذا الفصل أبرز المفاهيم السياسية في الحوار الإسلامي المسيحي، ومنها:

* العيش المشترك : ويبين الباحث أن المقصود بالعيش المشترك: أن يعيش سكان وطن واحد بسلام وحب ووئام بغض النظر عن انتماءاتهم أو طقوسهم أو عاداتهم الدينية، فلابد أن تكون ثمة ثوابت وطنية تجمعهم، ويلاحظ الباحث أن مفهوم العيش المشترك قد استخدم على المستوى الداخلي في الدول ؛ فهو سلام بين الطوائف في الوطن الواحد.

ويصل الباحث من تتبع أدبيات الحوار إلى اتفاق الطرفين على عدة أمور، منها :

اعتبار العيش المشترك ممارسة شرعية حسب مصادر كلا الديانتين.

اعتبار التكفير المتبادل من معوقات العيش المشترك ( يعترض الباحث على هذه النقطة ، ويرى أنها تخالف أصولا شرعية ).

أهمية العيش المشترك في بناء المجتمع وازدهاره.

أهمية الحوار في تحقيق العيش المشترك.

* السلام الدولي : يرصد الباحث عدداً من المؤتمرات والندوات التي تناولت مفهوم السلام العالمي والدعوة إلى وجود مساهمة من قبل الأديان في إحلال السلام العالمي ومواجهة الحروب والصراعات والنزاعات ، ويبين الكاتب أن هناك محاولات مشتركة من قبل الطرفين في تأويل العديد من النصوص الدينية التي تحث على القتال أو تهميشها، وكذلك الدعوة الى نبذ القتال والحرب ، حيث جاء في مؤتمر ( فينا ) " إنا نهيب بجميع المسيحيين والمسلمين في العالم كله أن ينبذوا الحرب وأن يعطوا هم أنفسهم مثالا للسلام " . ويلاحظ الباحث أن الطرف الإسلامي قدم الجهاد على اعتبار أنه الحرب الدفاعية من قبل المسلمين ، وأن هذه الحرب هي المشروعة فقط. كما تطرق الحوار إلى مقولة صدام الحضارات ، وقد اتفق الطرفان على رفض هذه الفرضية بل والدعوة الى حوار الحضارات بدلا من ذلك.

* العلمانية والعلاقة بين الدين والدولة : يتطرق الباحث في هذا المجال إلى مفهوم العلمانية وتعريف كل من طرفي الحوار لها وللعلاقة بين الدين والدولة، ثم يتناول رؤية كلا الطرفين وموقفهما من العلمانية ، ويصل الباحث إلى عدة نتائج مستخلصة من حوارات ورؤية الطرفين للعلمانية:

اتفق الطرفان على رفض العلمانية التي تحارب الدين.

أكد بعض المتحاورين من كلا الطرفين على ضرورة الاستفادة من الأبعاد الإيجابية للعلمانية ، أما الطرف الإسلامي فأغلبه ضد العلمانية جملة وتفصيلاً.

هناك من رفض فصل الدين عن الدولة من الطرف المسيحي، ويفسر الباحث ذلك: بأن هذا الموقف نابع من واقع سياسي يسعى إلى الحيلولة دون تحجيم المسيحية السياسية، خاصة في لبنان.

فضل المسيحيون اختيار شركائهم من المتحاورين المسلمين ممن يتحررون من النظرة الإسلامية الأصيلة في العلاقة المحكمة بين الدين والدولة.

لوحظ أن الطرف المسيحي حاول الوصول إلى توافق ومساحة مشتركة من الاتساق بين المسيحية والعلمانية وحاول إشراك الطرف المسلم في ذلك.

* مفهوم القومية في الحوار والعلاقة بين الوطنية والدين:

يتناول الباحث بعض التعريفات لمفهوم القومية ، ورؤية كل من الطرفين له ، ورؤية الطرف الإسلامي تحديدا للعلاقة بين القومية والإسلام، ثم يستخلص الباحث نتائج متعددة حول رؤية الطرفين لهذا المفهوم، منها:

- مع تباين الطرفين في تحديد مفهوم القومية إلاّ أنهما اتفقا على وجود مضمونين لها، إيجابي اتفقا على تأييده، وسلبي اتفقا على إدانته.

- تتشابه رؤية الطرفين في تفسير بزوغ القومية وتطورها سواء على المستوى العالمي أم على المستوى العربي.

- اتفق الطرفان على أهمية التفاعل وإمكانيته بين التيارين الديني والقومي.

القضايا السياسية في الحوار الإسلامي- المسيحي:

يتناول الباحث في هذا الفصل عدة قضايا رئيسة في الحوار، منها: الصراع العربي - الإسرائيلي والتسوية ، قضية القدس، قضية الأقليات والاستقرار السياسي..

* الصراع العربي- الإسرائيلي: يبين الباحث أن طرفي الحوار قد اتفقا على إدانة الاحتلال الإسرائيلي لفلسطين والمطالبة بإنهائه، وإدانة انتهاكات إسرائيل المستمرة لحقوق الإنسان الفلسطيني واعتدائها على المقدسات الإسلامية والمسيحية، في المقابل بدا التباين جليا في وجهات النظر حول طبيعة الصراع العربي- الإسرائيلي، وامتد التباين فشمل الطرف المسيحي ذاته؛ فالمسيحية الغربية لا تتعامل مع الصراع بنظرة شاملة ولكن تقتصر على معالجة الأبعاد الإنسانية فقط.

ويستنتج الباحث بوجود تيار كبير من الطرفين المسيحي والإسلامي حاول توظيف الحوار لخدمة عملية السلام الحالية، من خلال عدة مؤشرات، منها:

- تأييد عملية السلام .

- ازدياد اختيار موضوع السلام في مؤتمرات الحوار.

- التوكيد عل الحوار الديني الثلاثي من أجل السلام في الشرق الأوسط.

- التوكيد على الأصل الإبراهيمي للديانات الثلاث.

ازدياد اللقاءات الثلاثية بين أبناء الديانات الثلاث.

* قضية القدس: يتطرق الباحث إلى أهمية القدس لدى أطراف الحوار، ويضع النقاط التي يتفق عليها الطرفان، ومنها:

- التوكيد على عروبة القدس.

- التوكيد على أن القدس عاصمة الدولة الفلسطينية.

- إدانة الاعتداءات الإسرائيلية على المقدسات واستمرار بناء المستوطنات، وعملية تهويد القدس.

* قضية الأقليات والاستقرار السياسي : يبين الباحث العديد من مواطن الخلاف بين الطرفين في قراءة مسألة الاقليات والموقف منها، فالطرف المسيحي انتقد وضع الأقليات المسيحية في العالم العربي ؛ لأنهم لا يتمتعون بحقوقهم ، ومن الدول المنتقَدة: السعودية ، أفغانستان، السودان. وتبعا للانتقاد المسيحي فإن الطرف الإسلامي انتقد أيضاً اضطهاد الأقليات المسيحية أينما يحدث في العالم العربي، في المقابل انتقد الطرف الإسلامي اضطهاد الاقليات في البوسنة والهرسك ، وموقف الكنيسة الصربية الأرثوذوكسية.

أما مسألة الاستقرار السياسي فقد اتفق الطرفان على : إدانة كل مظاهر الشغب والعنف التي تحصل ، الدعوة إلى وجود دور لرجال الدين الإسلامي والمسيحي في معالجة مشكلة عدم الاستقرار، الدعوة إلى وجود جماعات خاصة لمعالجة المشاكل بين المسيحيين والمسلمين.

ويتطرق الباحث بعد ذلك إلى موقف كلا الطرفين من الغزو العراقي للكويت . وينهي دراسته بخاتمة ومجموعة من التوصيات . وقد استفاد الباحث من عدد كبير من الوثائق الأجنبية في الحوار الإسلامي المسيحي والمراجع الأجنبية العديدة االتي تطرقت إلى الحوار وأبعاده السياسية ، بالإضافة إلى المراجع العربي .

ويبقى القول إنه مما يزكي هذه الدراسة ويعطيها أهمية أنها من الدراسات الرائدة التي تهتم بالأبعاد السياسية لهذا الحوار وتحللها من خلال منهج توثيقي محكم يربط القاريء دوما بالمصدر كي يطمئن إلى منهجية واستقامة التحليل ، كما أنه من الملاحظ اهتمام الباحث دوماً بالبعد الشرعي في مناقشة ونقد العديد من مفاهيم الحوار وقضاياه.

-============

#أمتنا وبعض إنجازاتها الحضارية

د. غازي التوبة 24/10/1427

15/11/2006

إنّ المتصفح لتاريخ الأمة الإسلامية يجد أنّ إنجازاتها الحضارية اتصفت بصفتين بارزتين هما: الإعمار الشامل، واتساع الفاعليات العقلية، فما أبرز مظاهر هاتين الصفتين؟ وما سببهما؟

يتجلى الإعمار الشامل في الإنجازات الحضارية التي لم تقتصر على مجال واحد، بل شملت مختلف مجالات الحياة: الفضاء، والبناء، والإنسان، والفن، والزراعة الخ. . . فقد درس المسلمون النجوم والكواكب، واكتشفوا حركة الأفلاك، وكان لهم فضل اكتشاف كثير من النجوم التي ما زالت تحمل الأسماء العربية؛ فمن ذلك مجموعة الطائر Altair، ومجموعة Deneb أصلها الذنب، و Familheut أصلها فم الحوت، و Bet El-geuse أصلها بيت الجوزاء، و Anka وأصلها العنقاء، و Aldebran أصلها الدبران، و Mucantar أصلها المقنطرة، و Azimuth أصلها السموت، وهي تزيد عن (150) اسماً ومصطلحاً. وقد رسم المسلمون خرائط ملونة للسماء، وألّف عبد الرحمن الصوفي كتاباً عن النجوم الثوابت، وبيّن فيه مواضع ألف نجم، رصدها بنفسه، ووصفها وصفاً دقيقاً، وحدّد أقدارها بدقة متناهية تقرب من التقديرات الحديثة.

ومما يؤكد فضل علماء المسلمين وإنجازاتهم في علوم الفضاء إعلان الهيئة الفلكية العالمية التي تتألف من علماء من جميع أنحاء العالم أنها شكلت لجنة تُسمّى (لجنة تسمية تضاريس القمر) مهمتها دراسة فضل العلماء الذين ساهمت أبحاثهم على مر العصور في هبوط الإنسان على سطح القمر، فكان في مقدمة من اختارتهم (18) عالماً إسلامياً، وقررت وضع أسمائهم على تضاريس القمر ومن هؤلاء كما جاء في القرار:

أبو الفداء، ابن فرناس، ابن يونس الذي كان أول من قام بقياس مواقع الكواكب السيارة بعضها إلى بعض، إبراهيم الفزاري، المرودي، الفرغاني، أبو عبد الله المهاني، أبو ريحان البيروني، القزويني، الخوارزمي، جابر بن حيان، والرحالة الإسلامي ابن بطوطة الذي ساهمت خرائطه في فك بعض الرموز على سطح القمر للتشابه الكبير بين سطحه وبين سطح الأرض، والعالم الإسلامي عمر الخيام الذي قام بأبحاث هامة في مرصده عن دوران الكواكب حول الشمس، والعالم الإسلامي المعاصر فاروق الباز.

لم يأت القرن التاسع الميلادي حتى كانت كل عاصمة إسلامية من الأندلس غرباً حتى الصين شرقاً ترصد بالمراصد الضخمة المزودة بالآلات المتنوعة والعلماء المتفرغين، ومن أشهرها المرصد الذي بناه الخليفة المأمون فوق جبل قاسيون في دمشق، ومرصد الشماسية في بغداد، ومرصد جبل المقطم الذي بناه الخليفة الحاكم بأمر الله في القاهرة، ومرصد الدينوري في أصفهان وغيرها كثير. .

وفي مجال البناء المعماري فقد شيّد المسلمون الجوامع الشاهقة والقصور الفاخرة، وبنوا البيمارستنات الضخمة والحمامات والمطاعم الشعبية والاستراحات، وبنوا القلاع العسكرية والحصون والرُّبُط والأسوار حول المدن، وبنوا القناطر والخزانات والسدود للري، وبنوا المراصد والجامعات العلمية، كل ذلك بأسلوب الفن المعماري الإسلامي المميز. وقد استفاد المعماريون المسلمون من شتى العلوم والمعارف في عصرهم وطبّقوها في مبانيهم، ومن أهم هذه العلوم علم الميكانيكا، وعلم الكيمياء، وعلوم الطبيعة.

وقد راعى المسلمون في بناء بعض أبنيتهم خطر الاهتزازات الأرضية؛ فقد لاحظت الحكومة الاسبانية حديثاً أنّ قصر الحمراء في قرطبة، والذي بُني في القرن التاسع الميلادي قد ظل صامداً حتى عصرنا هذا على الرغم من تعرض المنطقة لعدة زلازل دمرت كل ما حوله من بيوت ومبانٍ وبقي القصر قائماً. . فشكّلت لجان علمية لدراسة هذه الظاهرة، فاكتشفوا أنّ بعض أعمدة القصر مفرغة من ا لداخل، وفيها قوالب من الرصاص الذي يُصبّ منصهراً، وأنّ هذا التصميم الهندسي يمتص الصدمات العنيفة. أما حوائط القصر فقد صُنعت بنوعين من الحجارة على التوالي. . الحجارة الحمراء مع الحجر الرملي العادي، وهذا التصميم يدعم الجدران ضد الاهتزازات.

وقد احتل نابليون قرطبة من 1808م حتى 1812م فجعل قصر الحمراء مركز قيادة لقواته. . وعندما أراد الانسحاب منها وضع المواد الناسفة في بعض أبراج القصر وهو يتصور أنه سيدمره كله. . ولكن العنف الذي دمر برجين في القصر لم يؤثر على باقي القصر الذي ظل حتى يومنا هذا يتحدى عناصر الزمن والزلازل ومحاولات التخريب البربرية.

وحرص المسلمون على إيصال صوت الخطيب والمقرئ في المساجد الواسعة إلى أبعد مصلّ عن طرق تصميم خاص في جدران المسجد والأعمدة لنقل الصوت من المنبر وتوزيعه على الساحة بكل وضوح.

وقد اعتنى علماء المسلمين بصحة الإنسان فكانت الإنجازات المتعددة في مجال الطب والأدوية، فقد عرفوا خصائص بعض النباتات، وشكّلوا منها خلاصات طبية مختلفة، كما كانت مركبات الزئبق والأفيون معروفة قبل اشتغال المسلمين بالصيدلة، غير أنهم أسهموا إسهاماً كبيراً في إتقان تحضيرها وانتشار استعمالها بعدما كانت تفتقر إلى جودة التحضير، وبعدما كانت لا توصف إلاّ في حالات نادرة، كما حضّر الصيادلة المسلمون الترياق المؤلف من عشرات الأدوية لمقاومة السموم. وكانت المستشفيات عند المسلمين على نوعين: منها ما هو خاص لبعض الأمراض كالأمراض العقلية، ومنها ما هو عام لجميع الأمراض، وكان بعضها ثابتاً، وكان بعضها الآخر متنقّلاً وهو أشبه بالمستوصفات النقالة أو الجوّالة، وأوّل من فعل ذلك الوزير علي الجرّاح أيام الخليفة المقتدر بإشارة من سنان بن ثابت بن قرة.

وفي مجال الفنون عرف المسلمون الخط الجميل الذي زُيّنت به المساجد والقصور والمدارس والمستشفيات والبيوت والعملات الخ . . . حتى إنها طالت الأسلحة التي زينوها بآيات من القرآن الكريم للتبرّك أولاً، وللتجميل ثانياً.

لقد اهتم المسلمون بالزراعة وشهد لهم (جورج سارتون) في كتابه "المدخل إلى تاريخ العلم” حيث قال: "لقد كان التراث الإسلامي في حقل الأعشاب أعظم بكثير من تراث أية أمة أخرى، وهذا الاتجاه الذي لا نعرف له نظيراً عند الأمم الغربية، يظهر من إنتاج علماء المسلمين في هذا المضمار"، ومما يبرز اهتمامهم بالزراعة كثرة المؤلفات حول النبات ومنها: "كتاب النبات" لأبي حنيفة الدينوري الذي عاش في القرن الثالث الهجري، وكتاب "الجامع لصفات أشتات النبات" للشريف الادريسي المغربي الصقلي الذي عاش في القرن الخامس الهجري، وكتاب "الأدوية المفردة" لضياء الدين البيطار الأندلسي الذي عاش في القرن السابع الهجري.

وفي مجال الصناعة توسّع المسلمون في الصناعات الكيميائية، فهم أول من صنع الصابون من الصودا، والكلمة الأوروبية “Suvon" أصلها عربي وهو صابون، كذلك برع المسلمون في صناعة الزجاج وطوّروا منه أنواعاً على درجة من النقاوة والجودة، ومن أعظم إنجازات المسلمين اكتشاف الأحماض مثل: النيتريك والكلوردريك التي اكتشفها الرازي عام 932م، وكذلك الأحماض العضوية مثل الخليك والليمونيك والطرطريك والنمليك. كذلك برع المسلمون في علم دباغة الجلود وتحضيرها.

وقد تجلّى اتساع الفاعليات العقلية، وهي الصفة الثانية للإنجازات الحضارية الإسلامية في عدة مظاهر:

أولها: علوم مبتكرة: ابتكر المسلمون عدة علوم ابتكاراً كاملاً ومنها علم أصول الفقه الذي ابتكره الشافعي، وعلم أصول العمران الذي وضع أصوله ابن خلدون، وعلم الكيمياء، وعلم الصيدلة، وعلم المثلثات، وعلم الجبر.

ثانيها: اكتشافات غيّرت مجرى التاريخ: اكتشف المسلمون عدة اكتشافات كان لها أثر كبير في توجّه الحياة البشرية وفي تغيير مجرى التاريخ وهي: اكتشاف الدورة الدموية، والتخدير، وخيوط الجراحة، والنظّارة، وتطوير صناعة الورق، والإبرة المغنطيسية، والبارود، والمضخة الماصة الكابسة التي أصبحت أساساً لمحركات السيارات والقطارات اخترعها الجزري المولود 1165م، والكاميرا التي أصبحت نواة لكل الأجهزة البصرية والمرئية كالسينما والتلفاز اخترعها ابن الهيثم المولود سنة 965م، والرقّاص أو البندول فبفضله عُرف الزمن وصُنعت الساعات لدقة القياس اخترعه ابن يونس المصري سنة 1009م، والجبر وهو علم اخترعه الخوارزمي المولود عام 780م كان له الفضل في تطوير علوم الرياضيات والمحاسبة والكمبيوتر، وقوانين الحركة الثلاثة وهي القوانين المنسوبة إلى نيوتن بينما اكتشفها المسلمون قبله في القرن العاشر الميلادي، وبفضلها قام علم الميكانيكا الحديث وجميع الآلات المتحركة.

ثالثها: إنجازات في مختلف العلوم: ساهم المسلمون في إضافات علمية في مختلف العلوم؛ ففي علم الجغرافيا اكتشف المسلمون كروية الأرض وقاسوا محيطها، ووصفوا خطوط الطول وخطوط العرض، وعرفوا دوران الأرض حول نفسها، وفي الفزياء اكتشفوا سرعة الضوء، ومبدأ الجاذبية، وقاسوا الضغط الجوي، وعرفوا الثقل النوعي للأجسام ومراكز الأثقال، وفي الحساب اكتشفوا الصفر والنظام العشري.

والآن ما سبب الإعمار الشامل وسعة الفاعليات العقلية في الحضارة الإسلامية؟

يعود الإعمار الشامل في الحضارة الإسلامية إلى غياب فكرة النجاسة عن العمل الدنيوي التي جاءت في الديانات الأخرى، بل على العكس عد الإسلام العمل الدنيوي عبادة، فقد قال الرسول صلى الله عليه وسلم: "وفي بضع أحدكم أجر. قالوا: أيأتي أحدنا شهوته ويكون له فيها أجر؟ قال: أرأيتم لو وضعها في حرام أكان عليه فيها وزر؟ فكذلك إذا وضعها في الحلال كان له أجر". (رواه مسلم)، وقد وجه الرسول المسلم إلى العمل الدنيوي وحتى إن قامت الساعة، فقد قال الرسول صلى الله عليه وسلم: "إذا قامت الساعة وبيد أحدكم فسيلة فليغرسها فإنّ له فيها أجراً" (رواه أحمد)، وفي هذا الحديث إشارة أيضاً إلى إكبار الإعمار والبناء والزراعة، وقد نهى الإسلام عن الرهبنة بمعنى الانقطاع عن الناس وعن العمل الدنيوي، واعتبر الرسول صلى الله عليه وسلم الجهاد رهبانية هذه الأمة، فقد جاء عن أنس بن مالك عن النبي أنه قال: "لكل نبي رهبانية، ورهبانية هذه الأمة الجهاد في سبيل الله" (رواه أحمد).

أما سعة الفاعليات العقلية فقد جاءت من الحكمة التي بعث الله بها محمداً صلى الله عليه وسلم مترادفة مع الكتاب فقد قال صلى الله عليه وسلم: (كما أرسلنا فيكم رسولاً منكم يتلو عليكم آياتنا ويزكّيكم ويعلِّمكم الكتابَ والحكمةَ ويعلّمكم ما لم تكونوا تعلمون) (البقرة،151)، وقد قال صلى الله عليه وسلم أيضاً (واذْكُروا نعمةَ اللهِ عليكم وما أَنزل عليكم مِنَ الكتابِ والحكمة) (البقرة،231)، والحكمة تعني العقل وتعني إنزال الشيء وضعه المناسب، وقد فسرها بعض المفسرين بالسنة، ولكن الحكمة أوسع من السنة بدليل أنّ الحكمة أنزلها الله مع الأنبياء السابقين كما قال صلى الله عليه وسلم: (فقد آتينا آلَ إبراهيمَ الكتابَ والحكمةَ وآتيناهم مُلْكاً عظيماً) (النساء،54)، وقد عدّ الإسلام أصول المعرفة ثلاثة وهي: العلم العقلي المبني على الدليل والبرهان، والعلم الفطري المركوز في طبائع الناس كافة، والوحي الإلهي الداعي إلى الدين والإيمان والمثل والقيم الحضارية، وقد أجمل الأصول الثلاثة السابقة قوله صلى الله عليه وسلم: (ومِنَ الناسِ مَن يجادلُ في اللهِ بغيرِ علمٍ ولا هُدىً ولا كِتابٍ منيرٍ) (لقمان،20)، وقد رسم الإسلام منهجاً للتحول العقلي يأخذ في توجهاته السببية التي تعني البحث في الأسباب التي تكمن وراء الظواهر والحوادث الاجتماعية، والطبيعية، وعدم الاقتصار على النظرة السطحية البسيطة، بل لابد من العمل والربط بين الأجزاء، والنظر إليها ككل متكامل من أجل الوصول إلى معجزة الخلق ووحدانية الخالق. ويأخذ في توجيهاته اعتماد الحواس كأحد مصادر تشكيل الحقيقة حيث منح الله الإنسان الحواس القادرة على إدراك وملاحظة الظروف والمتغيرات، قال تعالى: (ولا تَقْفُ ما ليس لكَ به علمٌ إنَّ السمعَ والبصرَ والفؤادَ كلُّ أولئك كان عنه مسؤولاً) (الإسراء،36)، وقال صلى الله عليه وسلم: (أفلا ينظُرونَ إلى الإِبِلِ كيف خُلِقَتْ. وإلى السماءِ كيف رُفعتْ. وإلى الأرضِ كيف سُطِحَتْ) (الغاشية،17-20).

=============

#الطريق الروحي إلى مكة (1/3)

معالي الشيخ:صالح بن عبدالرحمن الحصين * 22/10/1424

16/12/2003

كان الصبي (ليوبولدفايس) تحت إصرار والده يواظب على دراسة النصوص الدينية ساعات طويلة كل يوم، وهكذا وجد نفسه وهو في سن الثالثة عشرة يقرأ العبرية ويتحدثها بإتقان، درس التوراة في نصوصها الأصلية وأصبح عالماً بالتلمود وتفسيره، ثم انغمس في دراسة التفسير المعقد للتوراة المسمى (ترجوم) فدرسه وكأنما يهيئ نفسه لمنصب ديني.

كان إنجازه المدهش يعد بتحقيق حلم جده الحاخام الأرثوذكسي النمساوي بأن تتصل بحفيده سلسلة من أجداده الحاخامات، ولكن هذا الحلم لم يتحقق، فبالرغم من نبوغه في دراسة الدين أو ربما بسببه نمت لديه مشاعر سلبية تجاه جوانب كثيرة من العقيدة اليهودية، لقد رفض عقله ما بدا من أن الرب في النصوص التوراتية والتلمودية مشغول فوق العادة بمصير أمة معينة ، وهم اليهود بالطبع. لقد أبرزت النصوص الرب لا كخالق وحافظ لكل خلقه من البشر؛ بل كرب قبلي يسخر كل المخلوقات لخدمة الشعب المختار.

لم يؤد إحباطه من الديانة اليهودية في ذلك الوقت إلى البحث عن معتقدات روحية أخرى، فتحت تأثير البيئة اللا أدرية التي يعيش فيها وجد نفسه يندفع ككثير من أقرانه إلى رفض الواقع الديني وكل مؤسساته، وما كان يتطلع إليه لم يكن يختلف كثيراً عما يتطلع إليه باقي أبناء جيله، وهو خوض المغامرات المثيرة.

في تلك المرحلة من عمر (ليوبولدفايس) اشتعلت الحرب العالمية الأولى (1914- 1918) وبعد انتهاء الحرب -وعلى مدى عامين- درس بلا نظام تاريخ الفن والفلسفة في (جامعة فينا) ولكن ما كان مشغوفاً بالتوصل إليه هو جوانب محببة إلى نفسه من الحياة، كان مشغوفاً أن يصل بنفسه إلى مثل روحية حقيقية كان يوقن أنها موجودة؛ لكنه لم يصل إليها بعد!.

كانت العقود الأولى للقرن العشرين تتسم بالخواء الروحي للأجيال الأوروبية، أصبحت كل القيم الأخلاقية متداعية تحت وطأة التداعيات المرعبة للسنوات التي استغرقتها الحرب العالمية الأولى في الوقت الذي لم تبد فيه أي روحية جديدة في أي أفق، كانت مشاعر عدم الإحساس بالأمن متفشية بين الجميع، إحساس داخلي بالكارثة الاجتماعية والفكرية أصاب الجميع بالشك في استمرارية أفكار البشر وفي كل مساعيهم وأهدافهم، كان القلق الروحي لدى الشباب لا يجد مستقراً لإقدامه الوجلة، ومع غياب أي مقاييس يقينية أخلاقية لم يكن ممكناً لأي فرد إعطاء إجابات مقنعة عن أسئلة كثيرة كانت تؤرق وتحير كل جيل الشباب.

كانت علوم التحليل النفسي (وهي جانب من دراسات الشاب ليوبولدفايس) تشكل في ذلك الوقت ثورة فكرية عظمى، وقد أحس فعلاً أن تلك العلوم فتحت مزاليج أبواب معرفة الإنسان بذاته، كان اكتشاف الدوافع الكامنة في اللاوعي قد فتح أبواباً واسعة تتيح فهماً أوسع للذات، وما أكثر الليالي التي قضاها في مقاهي (فينا) يستمع إلى مناقشات ساخنة ومثيرة بين رواد التحليل النفسي المبكرين من أمثال (الفريد ادلر) و (هرمان سيتكل).

إلا أن الحيرة والقلق والتشويش حلت عليه من جديد، بسبب عجرفة العلم الجديد وتعاليه ومحاولته أن يحل ألغاز الذات البشرية عن طريق تحويلها إلى سلاسل من ردود الأفعال العصبية.

لقد نما قلقه وتزايد وجعل إتمام دراسته الجامعية يبدو مستحيلاً؛ فقرر أن يترك الدراسة، ويجرب نفسه في الصحافة.

كان أول طريق النجاح في هذه التجربة تعيينه في وظيفة محرر في وكالة الأنباء (يونايتد تلجرام)، وبفضل تمكنه من عدة لغات لم يكن صعباً عليه أن يصبح بعد وقت قصير نائباً لرئيس تحرير قطاع أخبار الصحافة الاسكندنافية بالرغم من أن سنه كانت دون الثانية والعشرين، فانفتح له الطريق في برلين إلى عالم أرحب (مقهى دين فيستن) و(رومانشية) ملتقى الكتاب والمفكرين البارزين ومشاهير الصحفيين والفنانين، فكانوا يمثلون له (البيت الفكري) وربطته بهم علاقات صداقة توافرت فيها الندية.

كان في ذلك الوقت سعيداً بما هو أكثر من النجاح في حياته العملية، ولكنه لم يكن يشعر بالرضا والإشباع ولم يكن يدري بالتحديد ما الذي يسعى إليه وما الذي يتوق إلى تحقيقه.

كان مثله مثل كثير من شباب جيله، فمع أن أياً منهم لم يكن تعساً إلا أن قليلاً منهم كان سعيداً بوعي وإدراك.

* * *

لو قال له أحد في ذلك الوقت: إن أول معرفة له مباشرة الإسلام ستصبح نقطة تحول عظمى في حياته؛ لعد ذلك القول مزحة، ليس بالطبع لأنه محصن ضد إغراءات الشرق التي تربط ذهن الأوربي برومانتيكية ألف ليلة وليلة، ولكنه كان أبعد ما يكون عن أن يتوقع أن تؤدي تلك الرحلة إلى أي مغامرات روحية.

كل ما كان يدور في ذهنه عن تلك الرحلة كان يتعامل معه برؤية غربية، فقد كان رهانه محصوراً في تحقيق أعمق في المشاعر والإدراك من خلال البيئة الثقافية الوحيدة التي نشأ فيها، وهي البيئة الأوروبية، لم يكن إلا شاباً أوربياً نشأ على الاعتقاد بأن الإسلام وكل رموزه ليس إلا محاولة التفافية حول التاريخ الإنساني، محاولة لا تحظى حتى بالاحترام من الناحية الروحية والأخلاقية، ومن ثم لا يستحق الذكر، فضلاً عن أن يوازن بالدينين الوحيدين اللذين يرى الغرب أنهما يستحقان الاهتمام والبحث (اليهودية والمسيحية)، كان يلف تفكيره الفكر الضبابي القاتم والانحياز الغربي ضد كل ما هو إسلامي، أو كما يعبر عن نفسه:"لو تعاملت بعدل مع ذاتي لأقررت أني أيضاً كنت غارقاً حتى أذني في تلك الرؤية الذاتية الأوروبية والعقلية المتعالية التي اتسم بها الغرب على مدى تاريخه". [ 104].

ولكن بعد أربع سنوات كان ينطق بشهادة أن لا إله إلا الله محمد رسول الله ويتسمى باسم (محمد أسد).

بالرغم من أن حياته تفيض بالمغامرات والمفاجاءات والمصادفات فلم يكن إسلامه نتيجة لأي من ذلك بل كان نتيجة لسنوات عدة من التجول في العالم الإسلامي، والاختلاط بشعوبه، والتعمق في ثقافته، وإطلاعه الواسع على تراثه بعد إجادته للغة العربية والفارسية.

كان في الأعوام المبكرة من شبابه بعد ما أصابه الإحباط وخيبة الأمل في العقيدة اليهودية التي ينتمي إليها قد اتجه تفكيره إلى المسيحية بعد أن وجد أن المفهوم المسيحي للإله يتميز عن المفهوم التوراتي؛ لأنه لم يقصر اهتمام الإله على مجموعة معينة من البشر ترى أنها وحدها شعب الله المختار، وعلى الرغم من ذلك كان هناك جانب من الفكر المسيحي قلل في رأيه إمكانية تعميمه وصلاحيته لكل البشر، ألا وهو التمييز بين الروح والبدن. أي بين عالم الروح وعالم الشؤون الدنيوية، وبسبب تنائي المسيحية المبكر عن كل المحاولات التي تهدف إلى تأكيد أهمية المقاصد الدنيوية، كفت من قرون طويلة في أن تكون دافعاً أخلاقياً للحضارة الغربية، إن رسوخ الموقف التاريخي العتيق للكنيسة في التفريق بين ما للرب وما لقيصر؛ نتج عنه ترك الجانب الاجتماعي والاقتصادي يعاني فراغاً دينياً، وترتب على ذلك غياب الأخلاق في الممارسات الغربية السياسية والاقتصادية مع باقي دول العالم، ومثل ذلك إخفاقاً لتحقيق ما هدفت إليه رسالة المسيح أو أي دين آخر.

فالهدف الجوهري لأي دين هو تعليم البشر كيف يدركون ويشعرون، بل كيف يعيشون معيشة صحيحة وينظمون العلاقات المتبادلة بطريقة سوية عادلة، وإن إحساس الرجل الغربي أن الدين قد خذله جعله يفقد إيمانه الحقيقي بالمسيحية خلال قرون، وبفقدانه لإيمانه فَقَدَ اقتناعه بأن الكون والوجود تعبير عن قوة خلق واحدة، وبفقدان تلك القناعة عاش في خواء روحي وأخلاقي.

كان اقتناعه في شبابه المبكر أن الإنسان لا يحيا بالخبز وحده قد تبلور إلى اقتناع فكري بأن عبادة التقدم المادي ليست إلا بديلاً وهمياً للإيمان السابق بالقيم المجردة، وأن الإيمان الزائف بالمادة جعل الغربيين يعتقدون بأنهم سيقهرون المصاعب التي تواجههم حالياً، كانت جميع النظم الاقتصادية التي خرجت من معطف المادة علاجاً مزيفاً وخادعاً ولا تصلح لعلاج البؤس الروحي للغرب، كان التقدم المادي بإمكانه في أفضل الحالات شفاء بعض أعراض المرض إلا أن من المستحيل أن يعالج سبب المرض.

كانت أول علاقة له بفكرة الإسلام وهو يقضي أيام رحلته الأولى في القدس عندما رأى مجموعة من الناس يصلون صلاة الجماعة يقول: "أصابتني الحيرة حين شاهدت صلاة تتضمن حركات آلية، فسألت الإمام هل تعتقد حقاً أن الله ينتظر منك أن تظهر له إيمانك بتكرار الركوع والسجود؟ ألا يكون من الأفضل أن تنظر إلى داخلك وتصلي إلى ربك بقلبك وأنت ساكن؟ أجاب: بأي وسيلة أخرى تعتقد أننا يمكن أن نعبد الله؟ ألم يخلق الروح والجسد معاً؟ وبما أنه خلقنا جسداً وروحاً ألا يجب أن نصلي بالجسد والروح؟ ثم مضى يشرح المعنى من حركات الصلاة، أيقنت بعد ذلك بسنوات أن ذلك الشرح البسيط قد فتح لي أول باب للإسلام" [120].

بعد هذه الحادثة بشهور كان يدخل الجامع الأموي في دمشق ويرى الناس يصلون، ويصف هذا المشهد "اصطف مئات المصلين في صفوف طويلة منتظمة خلف الإمام، ركعوا وسجدوا كلهم في توحد مثل الجنود، كان المكان يسوده الصمت يسمع المرء صوت الإمام من أعماق المسجد الجامع يتلو آيات القرآن الكريم، وحين يركع أو يسجد يتبعه كل المصلين كرجل واحد، أدركت في تلك اللحظة مدى قرب الله منهم وقربهم منه بدا لي أن صلاتهم لا تنفصل عن حياتهم اليومية بل كانت جزءاً منها، لا تعينهم صلاتهم على نسيان الحياة بل تعمقها أكثر بذكرهم لله، قلت لصديقي ومضيفي ونحن ننصرف من الجامع: ما أغرب ذلك وأعظمه! إنكم تشعرون أن الله قريب منكم، أتمنى أن يملأني أنا أيضاً ذلك الشعور، رد صاحبي: ما الذي يمكن أن نحسه غير ذلك والله يقول في كتابه العزيز: )ولقد خلقنا الإنسان ونعلم ما توسوس به نفسه ونحن أقرب إليه من حبل الوريد )" [166].

ويقول بعد ذلك:"تركت تلك الشهور الأولى التي عشتها في بلد عربي قطاراً طويلاً من الانعكاسات والانطباعات، لقد واجهت مغزى الحياة وجهاً لوجه وكان ذلك جديداً تماماً على حياتي، الأنفاس البشرية الدافئة تتدفق من مجرى دم أولئك الناس إلى أفكارهم بلا تمزقات روحية مؤلمة من عدم الاطمئنان والخوف والطمع والإحباط الذي جعل من الحياة الأوروبية حياة قبيحة وسيئة لا تعد بأي شيء " [131].

"أحسست بضرورة فهم روح تلك الشعوب المسلمة لأني وجدت لديهم تلاحماً عضوياً بين الفكر والحواس، ذلك التلاحم الذي فقدناه نحن الأوربيين، واعتقدت أنه من خلال فهم أقرب وأفضل لحياتهم يمكن أن أكتشف الحلقة المفقودة التي تسبب معاناة الغربيين وهي تأكل التكامل الداخلي للشخصية الأوروبية، لقد اكتشفت كنه ذلك الشيء الذي جعلنا نحن أهل الغرب ننأى عن الحرية الحقة بشروطها الموضوعية التي يتمتع بها المسلمون حتى في عصور انهيارهم الاجتماعي والسياسي" [132].

"ما كنت أشعر به في البداية لا يعدو أكثر من تعاطف مع شكل الحياة العربية والأمان المعنوي الذي أحسبه فيما بينهم تحوّل بطريقة لا أدركها إلى ما يشبه المسألة الذاتية، زاد وعيي برغبة طاغية في معرفة كنه ذلك الشيء الذي يكمن في أسس الأمن المعنوي، والنفسي وجعل حياة العرب تختلف كلياً عن حياة الأوربيين، ارتبطت تلك الرغبة بشكل غامض بمشكلاتي الشخصية الدفينة، بدأت أبحث عن مداخل تتيح لي فهماً أفضل للشخصية العربية والأفكار التي شكلتهم وصاغتهم وجعلتهم يختلفون روحياً عن الأوروبيين، بدأت أقرأ كثيراً بتركيز في تاريخهم وثقافتهم ودينهم، وفي غمرة اهتمامي أحسست بأني قد توصلت إلى اكتشاف ما يحرك قلوبهم ويشغل فكرهم ويحدد لهم اتجاههم، أحسست أيضاً بضرورة اكتشاف القوى الخفية التي تحركني أنا ذاتي وتشكل دوافعي وتشغل فكري وتعدني أن تهديني السبيل" [132]".

"قضيت كل وقتي في دمشق أقرأ من الكتب كل ما له علاقة بالإسلام، كانت لغتي العربية تسعفني في تبادل الحديث؛ إلا أنها كانت أضعف من أن تمكنني من قراءة القرآن الكريم، لذا لجأت إلى ترجمة لمعاني القرآن الكريم، أما ما عدا القرآن الكريم فقد اعتمدت فيه على أعمال المستشرقين الأوروبيين.

ومهما كانت ضآلة ما عرفت إلا أنه كان أشبه برفع ستار، بدأت في معرفة عالم من الأفكار كنت غافلاً عنه وجاهلاً به حتى ذلك الوقت، لم يبدُ لي الإسلام ديناً بالمعنى المتعارف عليه بين الناس لكلمة دين؛ بل بدا لي أسلوباً للحياة، ليس نظاماً لاهوتياً بقدر ما هو سلوك فرد، ومجتمع يرتكز على الوعي بوجود إله واحد، لم أجد في أي آية من آيات القرآن الكريم أي إشارة إلى احتياج البشر إلى الخلاص الروحي ولا يوجد ذكر لخطيئة أولى موروثة تقف حائلاً بين المرء وقدره الذي قدره الله له، ولا يبقى لابن آدم إلا عمله الذي سعى إليه، ولا يوجد حاجة إلى الترهب والزهد لفتح أبواب خفية لتحقيق الخلاص، الخلاص حق مكفول للبشر بالولادة، والخطيئة لا تعني إلا ابتعاد الناس عن الفطرة التي خلقهم الله عليها، لم أجد أي أثر على الثنائية في الطبيعة البشرية فالبدن والروح يعملان في المنظور الإسلامي كوحدة واحدة لا ينفصل أحدهما عن الآخر.

أدهشني في البداية اهتمام القرآن الكريم ليس بالجوانب الروحية فقط بل بجوانب أخرى غير مهمة من الأمور الدنيوية، ولكن مع مرور الوقت بدأت أدرك أن البشر وحدة متكاملة من بدن وروح، وقد أكد الإسلام ذلك، لا يوجد وجه من وجوه الحياة يمكن أن نعده مهمشاً؛ بل إن كل جوانب حياة البشر تأتي في صلب اهتمامات الدين، لم يدع القرآن الكريم المسلمين ينسون أن الحياة الدنيا ليست إلا مرحلة في طريق البشر نحو تحقيق وجود أسمى وأبقى وأن الهدف النهائي ذو سمة روحية، ويرى أن الرخاء المادي لا ضرر منه إلا أنه ليس غاية في حد ذاته، لذلك لا بد أن تُقنن شهية الإنسان وشهواته وتتم السيطرة عليها بوعي أخلاقي من الفرد، هذا الوعي لا يوجه إلى الله فقط؛ بل يوجه أيضاً إلى البشر فيما بينهم، لا من أجل الكمال الديني وحده بل من أجل خلق حالة اجتماعية تؤدي إلى تطور وعي للمجتمع بأكمله حتى يتمكن من أن يحيا حياة كاملة.

نظرت إلى كل تلك الجوانب الفكرية والأخلاقية بتقدير وإجلال، كان منهجه في تناول مشكلات الروح أعمق كثيراً من تلك التي وجدتها في التوراة، هذا عدا أنه لم يأت لبشر دون بشر ولا لأمة بذاتها دون غيرها، كما أن منهجه في مسألة البدن بعكس منهج الإنجيل منهج إيجابي لا يتجاهل البدن، البدن والروح معاً يكونان البشر كتوأمين متلازمين، سألت: ألا يمكن أن يكون ذلك المنهج هو السبب الكامن وراء الإحساس بالأمن والتوازن الفكري والنفسي الذي يميز العرب والمسلمين" [166-168].

بعد أن غادر سوريا بقي شهوراً في تركيا في طريق عودته إلى أوربا لتنتهي رحلته الأولى إلى العالم الإسلامي.

"بدأت انطباعاتي عن تركيا تفقد حيويتها وأنا في القطار المتوجه إلى فينا وما ظل راسخاً هو الثمانية عشر شهراً التي قضيتها في البلاد العربية، صدمني إدراكي أني أتطلع إلى المشاهد الأوروبية التي اعتدتها بعيني من هو غريب عنها، بدا الناس في نظري في غاية القبح وحركاتهم خالية من الرقة، ولا علاقة مباشرة بين حركاتهم وما يدرونه ويشعرون به، أدركت فجأة أنه على الرغم من المظاهر التي تنبئ بأنهم يعرفون ما يريدون إلا أنهم لا يعرفون أنهم يحيون في عالم الإدعاء والتظاهر، اتضح لي أن حياتي بين العرب غيرت منهجي ورؤيتي لما كنت أعده مهماً وضرورياً للحياة، تذكرت بشيء من الدهشة أن أوربيين آخرين قد مروا بتجارب حياتية مع العرب وعايشوهم أزماناً طويلة فكيف لم تعترهم دهشة الاكتشاف كما اعترتني، أم أن ذلك قد وقع لهم أيضاً؟ هل اهتز أحدهم من أعماقه كما حدث لي " [178-179].

"توقفت بضعة أسابيع في فينا واحتفلت بتصالحي مع أبي الذي سامحني على ترك دراستي الجامعية ومغادرتي منزل الأسرة بتلك الطريقة الفجة، على أي حال كنت مراسلاً لجريدة (فرانكفوتر ذيتونج) وهو اسم يلقى التقدير والتبجيل في وسط أوربا في ذلك الوقت، وهكذا حققت في نظره مصداقية ما زعمت له قبل ذلك من أني سأحقق ما أصبو إليه وأصل إلى القمة" [179].

"رحلت بعد ذلك من فينا مباشرة إلى فرانكفورت لأقدم نفسي شخصياً إلى الصحفية التي كنت أمثلها في الخارج على مدى عام، كنت في طريقي إليها وأنا أشد ثقة بنفسي فالرسائل التي كنت أتلقاها من فرانكفورت أظهرت لي أن مقالاتي كانت تلقى كل التقدير والترحيب" [180].

"أن أكون عضواً عاملاً في مثل تلك الصحيفة كان مصدر فخر واعتزاز لشاب في مثل سني، وعلى الرغم من أن مقالاتي عن الشرق الأوسط قوبلت باهتمام شديد من قبل جميع المحررين إلا أن نصري الكامل تحقق في اليوم الذي كلفت فيه أن أكتب مقالاً افتتاحياً بالصحيفة عن مشكلة الشرق الأوسط" [182].

"كان من نتائج عملي في جريدة (فرانكفوتر ذيتونج) النضج المبكر لتفكيري الواعي، كما نتجت عنه رؤية ذهنية أكثر وضوحاً من أي وقت مضى، فبدأت في مزج خبرتي بالشرق بعالم الغرب الذي أصبحت جزءاً منه من جديد، منذ عدة شهور مضت اكتشفت العلاقة بين الاطمئنان النفسي والعاطفي السائد في نفوس العرب وعقيدة الإسلام التي يؤمنون بها، كما بدأ يتبلور في ذهني أن نقص التكامل النفسي الداخلي للأوروبيين وحالة الفوضى اللاأخلاقية التي تسيطر عليهم قد تكون ناتجة من عدم وجود إيمان ديني قد تكونت الحضارة الغربية في غيابه، لم ينكر المجتمع الغربي الإله إلا أنه لم يترك له مكاناً في أنساقه الفكرية" [182].

بعد عودته إلى أوروبا من رحلته كان يحس بالملل إحساس من أجبر على التوقف قبل التوصل إلى كشف عظيم سيميط عن نفسه الحجب لو أتيح له مزيد من الوقت.

كان يتوق إلى العودة إلى الشرق مرة أخرى، وقد تحقق له ما أراد إذ إن رئيس تحرير الجريدة الدكتور هنري سيمون –الذي كان في ذلك الوقت مشهوراً في أرجاء العالم- قد رأى فيه مراسلاً صحفياً واعداً فوافق بحماس على عودته إلى الشرق الأوسط بسرعة.

* * *

عاد إلى الشرق ليقضي عامين آخرين بين مصر وبلاد الشام والعراق وإيران وأفغانستان، عاد من أوروبا وفي ذهنه صورة عن عالم الغرب ظلت تزداد في ذهنه مع الأيام رسوخاً وثباتاً، عبّر عن هذه الصورة فيما يأتي: "لاحقاً إن الإنسان الغربي قد أسلم نفسه لعبادة الدجال، لقد فقد منذ وقت طويل براءته، وفقد كل تماسك داخلي مع الطبيعة، لقد أصبحت الحياة في نظره لغزاً، إنه مرتاب شكوك ولذا فهو منفصل عن أخيه، ينفرد بنفسه، ولكي لا يهلك في وحدته هذه فإن عليه أن يسيطر على الحياة بالوسائل الخارجية، وحقيقة كونه على قيد الحياة لم تعد وحدها قادرة على أن تشعره بالأمن الداخلي، ولذا فإن عليه أن يكافح دائماً وبألم في سبيل هذا الأمن من لحظة إلى أخرى، وبسبب من أنه فقد كل توجيه ديني وقرر الاستغناء عنه فإن عليه أن يخترع لنفسه باستمرار حلفاء ميكانيكيين، من هنا نما عنده الميل المحموم إلى التقنية والتمكن من قوانينها ووسائلها، إنه يخترع كل يوم آلات جديدة ويعطي كلاً منها بعض روحه كيما تنافح في سبيل وجوده، وهي تفعل ذلك حقاً، ولكنها في الوقت نفسه تخلق له حاجات جديدة، ومخاوف جديدة وظمأ لا يُروى إلى حلفاء جدد آخرين أكثر اصطناعية، وتضيع روحه في ضوضاء الآلة الخانقة التي تزداد مع الأيام قوة وغرابة، وتفقد الآلة غرضها الأصلي – أي أن تصون وتغني الحياة الإنسانية- وتتطور إلى صنم بذاته، صنم فولاذ، ويبدو أن كهنة هذا المعبود والمبشرين به غير مدركين أن سرعة التقدم التقني الحديث ليست نتيجة لنمو المعرفة الإيجابي فحسب؛ بل لليأس الروحي أيضاً. وأن الانتصارات المادية العظمى التي يعلن الإنسان الغربي أنه بها يستحق السيادة على الطبيعة هي في صميمها ذات صفة دفاعية؛ فخلف واجهتها البراقة يكمن الخوف من الغيب، إن الحضارة الغربية لم تستطع حتى الآن أن تقيم توازناً بين حاجات الإنسان الجسيمة والاجتماعية وبين أشواقه الروحية، لقد تخلت عن آداب دياناتها السابقة دون أن تتمكن أن تخرج من نفسها أي نظام أخلاقي آخر – مهما كان نظرياً- يخضع نفسه للعقل، بالرغم من كل ما حققته من تقدم ثقافي؛ فإنها لم تستطع حتى الآن التغلب على استعداد الإنسان الأحمق للسقوط فريسة لأي هتاف عدائي أو نداء للحرب مهما كان سخيفاً باطلاً يخترعه الحاذقون من الزعماء.. الأمم الغربية وصلت إلى درجة أصبحت معها الإمكانات العلمية غير المحدودة تصاحب الفوضى العملية، وإذا كان الغربي يفتقر إلى توجيه ديني حاذق فإنه لا يستطيع أن يفيد أخلاقياً من ضياء المعرفة الذي تسكبه علومه وهي لا شك عظيمة، إن الغربيين – في عمى وعجرفة- يعتقدون عن اقتناع أن حضارتهم هي التي ستنير العالم وتحقق السعادة، وأن كل المشاكل البشرية يمكن حلها في المصانع والمعامل وعلى مكاتب المحللين الاقتصاديين والإحصائيين، إنهم بحق يعبدون الدجال" [373].

في هذه الرحلة الثانية أمكنة أن يتقن اللغة العربية ولذلك فبدل أن ينظر إلى الإسلام بعين غيره من المستشرقين ومترجمي القرآن غير المسلمين صار في إمكانه أن ينظر إلى الإسلام في تراثه الثقافي كما هو، لم يعد على اعتقاده السابق استحالة أن يتفهم الأوروبي بوعي العقلية الإسلامية، أيقن أنه لو تحرر المرء تماماً من عاداته التي نشأ عليها ومناهجها الفكرية وتقبل مفهوم أنها ليست بالضرورة الأساليب الصحيحة في الحياة لأمكن أن يفهم ما يبدو غريباً في نظرة عن الإسلام، كانت فكرته عن الإسلام تتطور وتنمو طوال هذه الرحلة الثانية التي أمكنه فيها أن يختلط بالشعوب ويناقش العلماء، يتصل بالزعماء.

"كان التفكير في الإسلام يشغل ذهني إن الأمر بدا لي في ذلك الوقت رحلة لاستكشاف ما أجهله من تلك المناطق، كان كل يوم يمر يضيف إلى معارف جديدة، ويطرح أسئلة جديدة لأجد إجاباتها تأتي من الخارج جميعها أيقظت شيئاً ما كان نائماً في أعماقي، وكلما نمت معارفي عن الإسلام كنت أشعر مرة بعد أخرى أن الحقائق الجوهرية التي كانت كامنة في أعماقي من دون أن أعي وجودها بدأت تنكشف تدريجياً ويتأكد تطابقها مع الإسلام" [255].

كان اليقين ينمو في داخلة بأنه يقترب من إجابة نهائية عن أسئلته، بتفهمه لحياة المسلمين كان يقترب يومياً من فهم أفضل للإسلام؛ وكان الإسلام دائماً مسيطراً على ذهنه " لا يوجد في العالم بأجمعه ما يبعث في نفسي مثل تلك الراحة التي شعرت بها والتي أصبحت غير موجودة في الغرب ومهددة الآن بالضياع والاختفاء من الشرق، تلك الراحة وذلك الرضا اللذان يعبران عن التوافق الساحر بين الذات الإنسانية والعالم الذي يحيط بها" [238].

بهذه الروح من التسامح تجاه الآخر استطاع بسهولة أن يتخلص من انخداع الرجل الغربي وإساءته فهم الإسلام بسبب ما يراه من تخلف وانحطاط في العالم الإسلامي.

"الآراء الشائعة في الغرب عن الإسلام [تتلخص] فيما يأتي: (انحطاط المسلمين ناتج عن الإسلام، وأنه بمجرد تحررهم من العقيدة الإسلامية وتبني مفاهيم الغرب وأساليب حياتهم وفكرهم؛ فإن ذلك سيكون أفضل لهم وللعالم)، إلا أن ما وجدته من مفاهيم وما توصلت إلى فهمه من مبادئ الإسلام وقيمه أقنعني أن ما يردده الغرب ليس إلا مفهوماً مشوهاً للإسلام... اتضح لي أن تخلف المسلمين لم يكن ناتجاً عن الإسلام، ولكن لإخفاقهم في أن يحيوا كما أمرهم الإسلام.. لقد كان الإسلام هو ما حمل المسلمين الأوائل إلى ذراً فكرية وثقافية سامية" [243-244].

"وفر الإسلام باختصار حافزاً قوياً إلى التقدم المعرفي والثقافي والحضاري الذي أبدع واحدة من أروع صفحات التاريخ الإنساني، وقد وفر ذلك الحافز مواقف إيجابية عندما حدد في وضوح: "نعم للعقل ولا لظلام الجهل، نعم للعمل والسعي ولا للتقاعد والنكوص. نعم للحياة ولا للزهد والرهبنة". ولذلك لم يكن عجباً أن يكتسب الإسلام أتباعاً في طفرات هائلة بمجرد أن جاوز حدود بلاد العرب، فقد وجدت الشعوب التي نشأت في أحضان مسيحية القديس بولس والقديس أوجستين... ديناً لا يقر عقيدة ومفهوم الخطيئة الأولى .. ويؤكد كرامة الحياة البشرية، ولذلك دخلوا في دين الله أفواجاً، جميع ذلك يفسر كيفية انتصار الإسلام وانتشاره الواسع والسريع في بداياته التاريخية ويفند مزاعم من روجوا أنه انتشر بحد السيف[246].

وكان ذكاؤه الحاد ونفاذ بصيرته، ونهمه إلى الاطلاع على التراث الفكري للمسلمين، يعمق معرفته بالإسلام فيبصره على حقيقته " كانت صرة نهائية متكاملة عن الإسلام تتبلور في ذهني ، كان يدهشني في أوقات كثيرة أنها تتكون داخلي بما يشبه الارتشاح العقلي والفكري، أي أنها تتم من دون وعي وإرادة مني، كانت الأفكار تتجمع ويضمها ذهني بعضها إلى بعض في عملية تنظيم ومنهجة لكل الشذرات من المعلومات التي عرفتها عن الإسلام . رأيت في ذهني عملاً عمرانياً متكاملاً تتضح معالمه رويداً رويداً بكل ما تحتويه من عناصر الاكتمال، وتناغم الأجزاء والمكونات مع الكل المتكامل في توازن لا يخل جزء من بآخر، توازن مقتصد بلا خلل، ويشعر المرء أن منظور الإسلام ومسلماته كلها في موضعها الملائم الصحيح من الوجود" [381].

"كانت أهم صفة بارزة لحضارة الإسلام وهي الصفة التي انفردت بها عن الحضارات البشرية السابقة أو اللاحقة أنها منبثقة من إرادة حرة لشعوبها، لم تكن مثل حضارات سابقة وليدة قهر وضغط وإكراه وتصارع إرادات وصراع مصالح، ولكنها كانت جزءاً وكلاً من رغبة حقيقية أصيلة لدى جميع المسلمين مستمدة من إيمانهم بالله وما حثهم عليه من إعمال فكر وعمل، لقد كانت تعاقداً اجتماعياً أصيلاً لا مجرد كلام أجوف يدافع به جيل تالٍ عن امتيازات خاصة بهم... لقد تحققت أن ذلك العقد الاجتماعي الوحيد المسجل تاريخياً تحقق فقط على مدى زمني قصير جداً، أو على الأصح أنه على مدى زمني قصير تحقق العقد على نطاق واسع، ولكن بعد أقل من مائة سنة من وفاة الرسول – صلى الله عليه وسلم- بدأ الشكل النقي الأصيل للإسلام يدب فيه الفساد، وفي القرون التالية بدأ المنهج القويم يزاح إلى الخلفية .. لقد حاول المفكرون الإسلاميون أن يحفظوا نقاء العقيدة؛ إلا أن من أتوا بعدهم كانوا أقل قدرة من سابقيهم، وتقاعسوا عن الاجتهاد... وتوقفوا عن التفكير المبدع والاجتهاد الخلاق... كانت القوة الدافعة الأولى للإسلام كافية لوضعه في قمة سامية من الرقي الحضاري والفكري.. وهذا ما دفع المؤرخين إلى وصف تلك المرحلة بالعصر الذهبي للإسلام، إلا أن القوة الدافعة قد ماتت لنقص الغذاء الروحي الدافع لها وركدت الحضارة الإسلامية عصراً بعد عصر لافتقاد القوة الخلاقة المبدعة، لم يكن لدي أوهام عن الحالة المعاصرة للعالم الإسلامي، بينتْ الأعوام الأربعة التي قضيتها في مجتمعات إسلامية أن الإسلام مازال حياً وأن الأمة الإسلامية متمسكة به بقبول صامت لمنهجه وتعاليمه؛ إلا أن المسلمين كانوا مشلولين غير قادرين على تحويل إيمانهم إلى أفعال مثمرة، إلا أن ما شغلني أكثر من إخفاق المسلمين المعاصرين في تحقيق منهج الإسلام الإمكانيات المتضمنة في المنهج ذاته، كان يكفيني أن أعرف أنه خلال مدى زمني قصير .. كانت هناك محاولة ناجحة لتطبيق هذا المنهج، وما أمكن تحقيقه في وقت ما؛ يمكن تحقيقه لاحقاً، ما كان يهمني- كما فكرت في داخلي- أن المسلمين شردوا عن التعليمات الأصلية للدين... ما الذي حدث وجعلهم يبتعدون عن المثاليات التي علمهم إياها الرسول – صلى الله عليه وسلم- منذ ثلاثة عشر قرناً مضت ما دامت تلك التعليمات لا تزال متاحة لهم إن أرادوا الاستماع إلى ما تحمله من رسالة سامية؟ بدا لي كلما فكرت أننا نحن في عصرنا الحالي نحتاج إلى تعاليم تلك الرسالة أكثر من هؤلاء الذين عاشوا في عصر محمد – صلىالله عليه وسلم -، لقد عاشوا في بيئات وظروف أبسط كثيراً مما نعيش فيه الآن، ولذلك كانت مشكلاتهم أقل بكثير من مشكلاتنا... العالم الذي كنت أحيا فيه – كله- كان يتخبط لغياب أي رؤية عامة لما هو خير وما هو شر... لقد أحسست بيقين تام.. أن مجتمعنا المعاصر يحتاج إلى أسس فكرية عقائدية توفر شكلاً من أشكال التعاقد بين أفراده، وأنه يحتاج إلى إيمان يجعله يدرك خواء التقدم المادي من أجل التقدم ذاته، وفي الوقت نفسه يعطي للحياة نصيبها. إن ذلك سيدلنا ويرشدنا إلى كيفية تحقيق التوازن بين احتياجاتنا الروحية والبدنية، وإن ذلك سينقذنا من كارثة محققة نتجه إليها بأقصى سرعة... في تلك الفترة من حياتي شغلت فكري مشكلة الإسلام كما لم يشغل ذهني شيء آخر من قبل، قد تجاوزت مرحلة الاستغراق الفكري والاهتمام العقلي بدين وثقافة غربيين، لقد تحول اهتمامي إلى بحث محموم عن الحقيقة" [380-386].

لقد صار في إمكانه أن يميز بين ما هو الإسلام وما هو غريب عنه في تصورات المسلمين وسلوكهم في رحلته الأولى رأى حلقة ذكر يقيمها الصوفية في أحد مساجد " سكوتاري" في تركيا ويصفها بهذه العبارات " كانوا يقفون في محيط واحد فاستداروا في نصف دورة ليقابل كل واحد منهم الآخر أزواجاً، كانوا يعقدون أذرعهم على صدورهم وينحنون انحناءة شديدة وهم يستديرون بجذوعهم في نصف دائرة .. في اللحظة التالية[كانوا] يقذفون أذرعهم في الاتجاه المعاكس الكف اليمنى ترتفع والكف اليسرى تنزل إلى الجانب، وتخرج من حلوقهم مع كل نصف انحناءه واستدارة أصوات مثل غناء هامس "هو" ثم يطرحون رؤوسهم للخلف مغمضين أعينهم ويجتاح ملامحهم تقلص ناعم، ثم تتصاعد وتتسارع إيقاعات الحركة وترتفع الجلاليب لتكون دائرة متسعة حول كل درويش مثل دوامات البحار... تحولت الدائرة إلى دوامات، اجتاحهم الانهماك، وشفاههم تكرز بلا نهاية(هو، هو)" [251].

وفي الرحلة الثانية يتذكر حلقة الذكر هذه ويعلق عليها "اتضحت في ذهني معاني لم تبد لي عندما شاهدت حلقة الذكر [في سكوتاري]، كان ذلك الطقس الديني لتلك الجماعة- وهي واحدة من جماعات كثيرة شاهدتها في مختلف البلاد الإسلامية – لا يتفق مع صورة الإسلام التي كانت تتبلور في ذهني.. تبين لي أن تلك الممارسات والطقوس دخيلة على الإسلام من جهات ومصادر غير إسلامية، لقد شابت تأملات المتصوفة وأفكارهم أفكار روحية هندية ومسيحية، مما أضفى على بعض ذلك التصوف مفاهيم غربية عن الرسالة التي جاء بها النبي –صلى الله عليه وسلم-، أكدت رسالة النبي – صلى الله عليه وسلم- أن السببية العقلية هي السبيل للإيمان الصحيح بينما تبتعد التأملات الصوفية وما يترتب عليها [من سلوك] عن ذلك المضمون، والإسلام قبل أي شيء مفهوم عقلاني لا عاطفي ولا انفعالي، الانفعالات مهما تكن جياشة معرضة للاختلاف والتباين باختلاف رغبات الأفراد وتباين مخاوفهم بعكس السببية العقلية، كما أن الانفعالية غير معصومة بأي حال" [253].

كتب بعد ذلك بسنوات " (لقد بدا لي الإسلام مثل تكوين هندسي محكم البناء) كل أجزائه قد صيغت ليكمل بعضها البعض وليدعم بعضها بعضاً، ليس فيها شيء زائد عن الحاجة وليس فيها ما ينقص عنها، وناتج ذلك كله توازن مطلق وبناء محكم، ربما كان شعوري بأن كل ما في الإسلام من تعاليم وضع موضعه الصحيح هو ما كان له أعظم الأثر علي، لقد سعيت بجد إلى أن أتعلم عن الإسلام كل ما أستطيع أن أتعلمه، درست القرآن وأحاديث النبي، درست لغة الإسلام وتاريخه وقدراً كبيراً مما كتب عن الإسلام، وما كتب ضده، أقمت ست سنوات تقريباً في نجد والحجاز ومعظمها في مكة والمدينة بغرض أن اتصل مباشرة بيئة الإسلام الأصلية، وبما أن المدينتين كانتا مكان اجتماع المسلمين من مختلف الأقطار فقد تمكنت من الاطلاع على مختلف الآراء الدينية والاجتماعية السائدة حالياً في العالم الإسلامي، وكل هذه الدراسات والمقارنات خلقت لدي اعتقاداً راسخاً أن الإسلام كظاهرة روحية واجتماعية لا يزال أقوى قوة دافعة عرفها البشر رغم كل مظاهر التخلف التي خلفها ابتعاد السلمين عن الإسلام.

طوال العامين اللذين قضاهما في رحلته الثانية في العالم الإسلامي كان بعقله ومعلوماته يتقدم بسرعة في الطريق إلى الإسلام، لقد وعى ذلك وهو يعدو بجواده فوق جبال إيرانية مغطاة بالثلج الأبيض"بدا العالم كله مبسوطاً أمامي في رحابية لا تنتهي، بدا شفافاً في عيني كما لم يبد من قبل، رأيت نمطه الداخلي الخفي، وأحسست بنبضه الدفين في تلك الأصقاع البيضاء الخالية، واندهشت من خفاء ذلك عليّ منذ دقيقة مضت، وأيقنت أن كل الأسئلة التي تبدو بلا إجابة ماثلة أمامنا في انتظار أن ندركها، بينما نحن – الحمقى المساكين- نطرح الأسئلة وننتظر أن تفتح الأسرار الإلهية نفسها لنا بينما تنتظر تلك الأسرار أن نفتح نحن أنفسنا لها.

مر أكثر من عام بين انطلاقي المجنون على جوادي فوق الجليد والبرد قبل أن اعتنق الإسلام، ولكن حتى في ذلك الوقت قبل إسلامي كنت أنطلق- دون أن أعي ذلك- في خط مستقيم كمسار السهم المنطلق باتجاه مكة المكرمة" [274-275].

"كنت في طريقي من مدينة هراة إلى مدينة كابل... توجهنا إلى قرية ده زانجي، جلسنا في اليوم التالي حول غداء وافر كالمعتاد [ في بيت الحاكم] بعد الغداء قام رجل من القرية بالترفيه عنا...

غنى على ما أذكر عن معركة داود وجالوت، عن الإيمان عندما يواجه قوة غاشمة ... علق الحاكم في نهاية الأغنية قائلاً: " كان داود صغيراً إلا أن كان إيمانه كان كبيراً" فلم أتمالك نفسي وقلت باندفاع : " وأنتم كثيرون وإيمانكم قليل"، نظر إليّ مضيفي متعجبًا؛ فخجلت مما قلت من دون أن أتمالك نفسي، وبدأت بسرعة في توضيح ما قلت واتخذ تفسيري شكل أسئلة متعاقبة كسيل جارف، قلت:" كيف حدث أنكم معشر المسلمين فقدتم الثقة بأنفسكم تلك الثقة التي مكنتكم من نشر عقيدتكم في أقل من مئة عام حتى المحيط الأطلسي.. وحتى أعماق الصين، والآن تستسلمون بسهولة وضعف إلى أفكار الغرب وعاداته؟ لماذا لا تستجمعون قوتكم وشجاعتكم لاستعادة إيمانكم الفعلي، كيف يصبح أتاتورك ذلك المتنكر التافه الذي ينكر كل قيمة للإسلام، رمزاً لكم في الإحياء والنهوض والإصلاح؟".

ظل مضيفي صامتاً.. كان الثلج قد بدأ في التساقط خارجاً، وشعرت مرة أخرى بموجة من الأسى مختلطة مع تلك السعادة الداخلية التي شعرت بها ونحن نقترب من ده زانجي أحسست بالعظمة التي كانت عليها تلك الأمة، وبالخزي الذي يغلف ورثتها المعاصرين.

أردفت مكملاً أسئلتي " قل لي كيف دفن علماؤكم الإيمان الذي أتي به نبيكم بصفائه ونقائه؟ كيف حدث أن نبلاءكم وكبار ملاك أراضيكم يغرقون في ملذات بينما يغرق أغلب المسلمين في الفقر.. مع أن نبيكم علمكم أنه لا يؤمن أحدكم أن يشبع وجاره جائع؟.

هل يمكن أن تفسر لي كيف دفعتم النساء إلى هامش الحياة مع أن النساء في حياة الرسول – صلى الله عليه وسلم- والصحابة ساهمن في شؤون حياة أزواجهن؟ كان مضيفي مازال يحملق فيّ دون كلمة، وبدأت أعتقد أن انفجاري ربما سبب له ضيقاً، في النهاية جذب الحاكم ثوبه الأصفر الواسع وأحكمه حول جسمه.. ثم همس " ولكن أنت مسلم" ضحكت وأجبته" كلا لست مسلماً ولكني رأيت الجوانب العظيمة في رسالة الإسلام مما يجعلني أشعر بالغضب وأنا أراكم تضيعونه، سامحني إن تحدثت بحدة، أنا لست عدواً على أي حال " إلا أن مضيفي هز رأسه قائلاً : " كلا أنت كما قلت لك مسلم إلا أنك لا تعلم ذلك، لماذا لا تعلن الآن هنا: أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمد رسول الله، وتصبح مسلماً بالفعل بدلاً من أن تكون مسلماً بقلبك فقط " قلت له: " لو قلتها في أي وقت فسأقولها عندما يستقر فكري عليها ويستريح لها " استمر إصرار الحاكم: ولكنك تعرف عن الإسلام أكثر مما يعرفه أي واحد منا، ما الذي لم تعرفه أو تفهمه بعد؟ " قلت له: " الأمر ليس مسألة فهم بل أن أكون مقتنعاً، أن أقتنع أن القرآن الكريم هو كلمة الله، وليس ابتداعاً ذكياً لعقلية بشرية عظيمة" ولم تمح كلمات صديقي الأفغاني من ذهني على مدى شهور طويلة" [375-376].

(5)

بعد شهور من هذه الحادثة كان ينطق بالشهادة أمام رئيس رابطة المسلمين في برلين كان قد رجع إلى أوروبا من رحلته الثانية التي استغرقت عامين من التجوال في العالم الإسلامي فعرف أن اسمه أصبح من الأسماء المعروفة.. وأنه أصبح واحداً من أشهر مراسلي الصحف وسط أوروبا، بعض مقالاته لقيت ما يفوق الاعتراف بأهميتها، وتلقى دعوة لإلقاء سلسلة من المحاضرات في أكاديمية الجغرافيا السياسية في برلين، ولم يحدث كما قيل أن رجلاً في مثل سنه (السادسة والعشرين) قد حقق ذلك التميز، وأعيد نشر مقالاته الأخرى في صحف كثيرة حتى إن واحدة من تلك المقالات نشرت في ثلاثين مطبوعة مختلفة.

ولكن بعد عودته واتصاله من جديد بأصدقاء الفكر والثقافة في برلين، ومناقشته معهم قضية الإسلام، أحس أنه وإياهم لم يعودوا يتحدثون من المنطلقات الفكرية نفسها، شعر بأن من يرون منهم أن الأديان القديمة أصبحت شيئاً من الماضي وهم الأغلبية ومن كانوا لا يرفضون الأديان رفضاً كلياً، كانوا كلهم يميلون بلا سبب إلى تبني المفهوم الغربي الشائع الذي يرى أن الإسلام يهتم بالشؤون الدينية وتنقصه الروحانيات التي يتوقع المرء أن يجدها في أي دين "ما أدهشني بالفعل أن اكتشف أن ذلك الجانب من الإسلام هو ما جذبني إليه من أول لحظة وهو عدم الفصل بين الوجود المادي والوجود الروحي للبشر، وتأكيد السببية العقلية سبيلاً للإيمان، وهو الجانب ذاته الذي يعترض عليه مفكروا أوروبا الذين يتبنون السببية العقلية منهجاً للحياة، ولا يتخلون عن ذلك المنهج العقلاني إلا عندما يرد ذكر الإسلام، لم أجد أي فرق بين الأقلية المهتمة بالأديان والأغلبية التي ترى أن الدين أصبح من المفاهيم البالية التي عفا عليها الزمن، أدركت مع الوقت مكمن الخطأ في منهج كل منهما ، أدركت أن مفاهيم من تربوا في أحضان الأفكار المسيحية في أوروبا ... تبنوا مفهوماً يسود بينهم جميعاً، فمع طول تعود أوروبا نسق التفكير المسيحي تعلّم حتى اللادينيين أن ينظروا إلى أي دين آخر من خلال عدسات مسيحية فيرون أي فكر ديني صالحاً لأن يكون ديناً إذا غلفته مسحة غامضة خارقة للطبيعة تبدو خافية وفوق قدرة العقل البشري على استيعابها، ومن منظورهم لم يف الإسلام بتلك المتطلبات.. كنت أوقن بأني في طريقي إلى الإسلام وجعلني تردد اللحظة الأخيرة أؤجل الخطوة النهائية التي لا مفر منها، كانت فكرة اعتناق الإسلام تمثل لي عبور قنطرة فوق هاوية تفصل بين عالمين مختلفين تماماً قنطرة طويلة حتى إن المرء عليه أن يصل إلى نقطة اللاعودة أولاً قبل أن يتبين الطرف الآخر للقنطرة، كنت أعي أني لو اعتنقت الإسلام لاضطررت إلى خلع نفسي نهائياً من العالم الذي ولدت ونشأت فيه، لم تكن هناك حلول أخرى، فلم يكن ممكناً لامرئ مثلي أن يتبع دعوة محمد – صلى الله عليه وسلم- ويظل بعدها محتفظاً بروابطه مع مجتمع يتصف بثنائية المفاهيم المتعارضة والمتناقضة، كان سؤالي الأخير الذي كنت متردداً أمامه هو : هل الإسلام رسالة من عند الله أم أنه حصيلة حكمة رجل عظيم؟" [287-289].

ولم يمكث غير بعيد حتى جاءت الإجابة، لقد اتصل من جديد بحياة الغرب مباشرة، ورأى مبلغ التعاسة والشقاء الذي يعانيه الغربيون ولكنهم لا يعونه أو لا يعون سببه، كان في القطار مع زوجته، وشغل نفسه بالتطلع إلى وجوه الناس "بدأت أتطلع حولي إلى الوجوه.. كانت جميعاً وجوهاً تنتمي إلى طبقة تنعم بلبس ومأكل جيدين ولكنها كانت تشي بتعاسة داخلية عميقة ومعاناة واضحة على الملامح تعاسة عميقة حتى إن أصحابها لم يدركوا ذلك.. كنت أوقن بأنهم غير واعين وإلا لما استمروا في إهدار حياتهم على هذا المنوال من دون أي تماسك داخلي ومن دون هدف أسمى من مجرد تحسين معيشتهم ومن دون أمل يزيد على الاستحواذ المادي الذي من الممكن أن يحقق لهم مزيداً من السيطرة" [290].

جاءت الإجابة حين قرأ القرآن فور عودته إلى بيته – وكانت تلك التجربة التي مر بها في القطار لا تزال حية في تفكيره.

"وقفت لحظات مشدوها وأنا أحبس أنفاسي، وأحسست أن يدي ترتجفان، فقد كان القرآن يتضمن الإجابة.. إجابة حاسمة قضت على شكوكي كلها وأطاحت بها بلا رجعة، أيقنت يقيناً تاماً أن القرآن .. من عند الله" [291].

(6)

بعد إسلامه بست سنوات كان يقطع الصحراء الكبرى قادماً من " قصر عثيمين" على الحدود السعودية العراقية وقاصداً مكة، كانت رحلة مليئة بالمفاجأة والمغامرة لقد أشرف فيها على الموت.

وكتب كتابه " الطريق إلى مكة " يقص فيه التفاصيل المثيرة لهذه الرحلة، ويقص معها تفاصيل رحلة أخرى رحلة روحه إلى مكة، رحلتها إلى الإسلام.

* كل ما سبق من معلومات واقتباسات أخذ من هذه القصة الرائعة.

==============

#وقفات في تعاقب السنين

د.عبد اللطيف بن إبراهيم الحسين (*) 5/1/1425

25/02/2004

ها نحن أولاء نودع عامًا هجريًّا بعد انقضائه، ونستقبل عامًا جديدًا..

بل إن هذا العام الخامس في بداية عِقْدٍ جديدٍ من تاريخ المسلمين، بعد أن شارفوا منتصف العقد الثالث (رُبْعَ قَرْنِ) من هذا القرن (الخامس عشر الهجري).

فالمسافر حين يجتاز مرحلة طويلة من الطريق فيحط الرحال، ويقف ليستريح، فيتلفت وراءه ليرى كم قطع؟ وينظر أمامه ليبصر كم بقي؟.

والتاجر تنتهي سنته؛ فيقيم موازينه ويحسب غلته، ليعلم ماذا ربح؟وماذا خسر؟".(1)

أينقضي عام ويدخل عام، وتمر الأيام والأعوام.. دون أن نقف عليها ساعة نستفيق من غفلتنا ونفكر ونعتبر؟

قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ) فما أحرانا أيها الإخوة الكرام أن نكون أشد حرصًا على أعمارنا وأوقاتنا من التجار والصناع وغيرهم . قال الإمام الحسن البصري-رحمه الله-: "أدركت أقوامًا كان أحدُهم أشحَ على عمره منه على درهمه". (2)

وفيما يلي أقف بعض الوقفات في تعاقب الأعوام والسنين :

1ـ التأريخ الهجري نقطة مضيئة في حياة الأمة :

أجمع الصحابة في عهد عمر بن الخطاب على اختيار التاريخ بهجرة النبي، لما في ذلك الحدث العظيم من نصر وتمكين وقيام دولة الإسلام في مدينة رسول الله ، وقد جرى على ذلك سلف الأمة، ولا يصح استعمال التاريخ الميلادي أو ما أشبهه استقلالاً، فالتاريخ الهجري مرتبطة به عبادات عديدة، كما أن له تاريخًا وثيقًا بتاريخ الأمة وهويتها.

2ـ معادلة معكوسة :

ينقضي العام فنظن أننا عشناه وزدنا عامًا، وفي الحقيقة قد فقدناه ونقصنا عامًا من أعمارنا، وربما يعجب من هذا الكلام ! وهو حق، قال الحسن البصري -رحمه الله-: "يا ابن آدم إنما أنت أيام، كلما ذَهَبَ يوم ذَهَبَ بعضك". (3)

فكل عام يمضي من أعمارنا نقترب به من الموت، ونهاية المطاف أشبه بالموظف الذي يأخذ إجازة ثلاثين يومًا، إذا قضى فيها عشرة أيام، يكون قد خسر منها عشرة أيام فصارت عشرين يومًا، فإذا انقضت الإجازة فكأنها لم تكن. (4)

3-الحذر من التسويف والتأجيل :

من الأمراض الاجتماعية الشائعة في مجتمعاتنا كثرة تأجيل الأعمال والتسويف في أدائها، حتى تمر الأيام والسنون الطويلة ولم نفعل شيئًا، ونحن لا ينقصنا العلم، بل ينقصنا الشروع في العمل بما نعلم .

وما أجمل الحكمة المشهورة : "لا تؤجل عمل اليوم إلى غد" . ومع ذلك كله فكثير من الناس يُسوفون ويُؤجلون، ويقولون سوف نعمل كذا، وسوف نتوب! وجاء عن بعض السلف : (أنذرتكم سوْفَ).

وأضرب لذلك مثالاً؛ تبدأ الدراسة فيقول الطالب : أذاكر غدًا -إن شاء الله-، ثم يأتي الغد فيقول بعد غد.. وهكذا يؤجل من يوم إلى يوم، ومن أسبوع إلى آخر حتى إذا اقترب موعد الامتحان، وأصبح أمامه وهو لم يذاكر؛ ندم أشد الندم على ما فات في تسويفه وتفريطه، ولات حين مناص.

وهذا عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- يوصي ألا يؤخر عمل اليوم إلى غد، خشية أن تجتمع الأعمال الكثيرة، فتضيع الواجبات. (5)

وكان عمر بن عبد العزيز-رحمه الله- حريصًا على أداء الواجبات والأعمال وعدم تأجيلها، وذات يوم قال لَهُ أحد أبنائه: لو أخرَّتَ عمل هذا اليوم إلى غد فاسترحت؛ فقال : قد أجهدَنا عمل يوم واحد، فما بالك بعمل يومين مجتمعين .

وقال الشاعر :

إن أنت لم تزرع وأبصرت حاصدًا ... ...

ندمت على التفريط في زمن البذر

4ـ استدراك ما يفوت من العمل واستغلال مواسم الخير :

كثير من الناس يُبذرون في أوقاتِهم، والوقتُ سريعُ الانقضاء، فلا نجدهُ حتى نفقدهُ، ولا يكادُ يبدأُ حتى ينقضي، فلا يعودُ أبدًا.

وإِنْ فات عملُ الخير في النهار؛ فالليلُ خلفة منه قال تعالى : (وهو الذي جعل الليل والنهار خلفة لمن أراد أن يذكر أو أراد شكورًا)، وكان من عمل النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه إذا غلبه عن قيام الليل من نوم أو وجع، صَلَّى من النهار ثنتي عشرة ركعة . بمعنى أنه يُصليها في الضحى، أي يستدرك بالنهار ما فاته من الليل، وفي الحديث الصحيح قوله عليه الصلاة والسلام: "من نَامَ عن حزبِهِ، أو عن شيءٍ منه، فَقَرَأَهُ فيما بين صلاة الفجر وصلاة الظهر، كُتِبَ لَهُ كأنَّمَا قَرَأَهُ من الليل"(6). وقال تعالى : (وجعلنا الليل والنهار آيتين فَمَحَونا آيَةَ الليل وَجَعلنَا آيَةَ النهَار مُبْصِرَةً لِتَبتغوا فَضلاً من ربكم ولتعلموا عَدَدَ السنينَ والحسابَ وَكُلَّ شَيءٍ فصلناه تفصيلاً). وكذلك استغلال مواسم الخيرات: استغلال شهر رمضان بالصيام والقيام، وصيام شهر الله المحرم، لا سيما عاشوراء، وصيام ست من شوال، وعشر ذي الحجة، وكذلك قيام الليل والإنفاق والبر والجود وسائر الطاعات.(7)

5ـ لا يأتي عامٌ إلا والذي يليه شرٌ منه.

بوب البخاري -رحمه الله- باب "لا يأتي زمان إلا والذي بعده شر منه"، وذكر فيه حديث أنس: "لا يأتي زمان إلا والذي بعده أشرُّ منه حتى تلقوا ربكم" (8)،(9). قال ابن بطال : "هذا الخبر من أعلام النبوة لإخباره صلى الله عليه وسلم بفساد الأحوال، وذلك من الغيب الذي لا يُعلم بالرأي وإنما يُعلم بالوحي" (10). والمقصود لا يأتي زمان إلا والذي بعده أَشَرُّ، مثل كثرة الفتن وابتعاد الناس عن معين الشريعة وانغماسهم في المعاصي كلما مرت السنون والأعوام، وهذا من حيث الأعم .

ويقول عبد الله بن مسعود معلقًا على حديث "لا يأتي عليكم يوم إلا وهو شر من اليوم الذي كان قبله حتى تقوم الساعة": "لست أعني رخاء من العيش يصيبه ولا مالاً يفيده، ولكن لا يأتي عليكم يوم إلا وهو أقل علمًا من اليوم الذي مضى قبله؛ فإذا ذهب العلماء استوى الناس فلا يأمرون بالمعروف ولا ينهون عن المنكر فعند ذلك يهلكون". ومن طريق مسروق عن الشعبي -رحمهما الله- قال: "وما ذاك بكثرة الأمطار وقلتها، ولكن بذهاب العلماء، ثم يحدث قوم يُفتون في الأمور برأيهم فيثلمون الإسلام ويهدمونه".(11)

ومصداق ذلك قول الرسول -صلى الله عليه وسلم- : "إنَّ الله لا يقبضُ العلم انتزاعًا ينتزعُهُ من صدور العباد، ولكن يقبض العلم بقبض العلماء، حتى إذا لم يُبقِ عالمًا اتخذ الناسُ رُؤوسًا جُهالاً فسُئلوا؛ فأفْتَوا بغير علم، فَضَلُّوا وأَضَلُّوا" (12).

ففي الأعوام المنقضية القريبة فقدنا كوكبة من العلماء والفضلاء والدعاة، يتصدرهم : سماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز، والشيخ علي الطنطاوي، والشيخ مناع القطان، والشيخ عطية محمد سالم، والشيخ مصطفى أحمد الزرقاء، والشيخ محمد ناصر الدين الألباني، والشيخ أبو الحسن الندوي، والشيخ سيد سابق، والشيخ محمد بن صالح العثيمين وغيرهم..-رحم الله الجميع-، وإن أمة منها هؤلاء لأمة خيرٍ وَهُدى، وفي رحيلهم تبعات ومسؤوليات، وعبر وآيات، وما يعقلها إلا العالمون.

6ـ الحياة قصيرة وإن طالت في نظرنا :

الكل منا يعلم أن الحياةَ الدنيا لها أشكال كثيرة وألوان عديدة، ويريد أن يعب من لذائذها الكثير، ويستمتع بشهواتها، ويحرص على الاستمتاع بلحظاتها، لكن حياتنا الدنيوية متعتها زائلة، وشهواتها رخيصة مهما بذل الإنسان في أثمانها، وساعاتها قصيرة مهما طالت، وكل منا سيلقى حتفه وهلاكه ولو بعد حين .

قال مطرف بن عبد الله -رحمه الله-: "إن هذا الموت قد أفسد على أهل النعيم نعيمهم فالتمسوا نعيمًا لا موت فيه" (13)، ولا ندري من يعيش يومًا آخر أَوْ عامًا جديدًا؛ بل لو تأملنا أعمارنا على اختلاف فيما بيننا لوجدنا أن عمرنا المنصرم سواءً أكان أربعين سنة أم ثلاثين أم عشرين.. أشبه بدقائق مرت مرور الكرام، وهكذا الحياة الدنيا قصيرة؛ فالحذر من التقصير!، يقول النبي – صلى الله عليه وسلم-: "ما لي وللدنيا، إنما مَثَلي وَمَثَلُ الدنيا كمثل راكبٍ قَالَ في ظِلِّ شجرةٍ، ثم راحَ وتَرَكَهَا"، وعن ابن عمر-رضي الله عنهما- قال أخذ رسول الله – صلى الله عليه وسلم- بمنكبي، فقال: "كن في الدنيا كأنك غريب، أو عابرُ سبيل". وكان ابن عمر يقول : "إذا أمسيتَ فلا تنتظر الصباح، وإذا أصبحتَ فلا تنتظر المساءَ، وخذ من صحتك لمرضك، ومن حياتك لموتك" (رواه البخاري)(14) وخرجه الترمذي، وزاد فيه: "وعُدَّ نَفْسَكَ من أصحاب القبور". (15)

فالحذر الحذر من الاغترار بالدنيا والانغماس في شهواتها، قال أحد السلف: "لو فارق ذكر الموت قلبي ساعة لفسد".(16)

فالإنسان المسلم يُؤمن بما بعد هذه الحياة الدنيا فيُدرك قيمة الزمن، ويُسخر ساعات هذه الحياة للبِرِّ والتقوى، وللعمل بما يُرضى الله تعالى (يوم لا ينفع مالٌ ولا بنون إلا من أتى اللهَ بقلبٍ سليم). (17)

7ـ دور الأمة في تسخير الأوقات :

إن الأمم تحسب أعوامها بمقدار ما تبنيه وتقدمه للبشرية جمعاء، فالسلف الصالح-رضوان الله تعالى عليهم- بنوا الحضارة الإسلامية في أزهى صورها في زمن قصير حتى أفاد من حضارتهم المجيدة الأمم الأخرى في الشرق والغرب، وشهد القاصي والداني بعظمة تلك الحضارة في ذلك الزمن القصير بعد ظهور الإسلام وانتشاره، وبقوة أولئك الأفذاذ المؤمنين بالله ورسوله، وسخروا إمكاناتهم العقلية والجسدية والزمنية لخدمة دينهم الذي ارتضاه الله لهم، فكانت أوقاتهم محسوبة منظمة، فلم يضيعوا فرصة، ولم يهدروا طاقة إلا فيما يبني أمتهم ويعلي مكانتهم بين الأمم والشعوب .

ولذا فالأمة التي لا تحسن الإفادة من الوقت لا تكون في مركز الصدارة والقيادة، وإنَّ مما يؤسف له أن غير المسلمين-في الوقت الحاضر- أشد حرصًا على الانتفاع بالوقت في العمل والبناء والجد والانضباط، أما المسلمون فهم أزهد الناس في الإفادة من أوقاتهم، فكثيرًا ما يمضونها في العبث والقيل والقال، وهم مسؤولون عن تضيع أوقاتهم ومغبونون بها، والناس عموما يعرفون قيمة الوقت، ولكن كثيرين لا يعرفون كيف يستغلونه، وذلك مصداق قول نبينا محمد -صلى الله عليه وسلم-: "نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس:الصحة والفراغ" (رواه البخاري) (18) ، يقول ابن بطال-رحمه الله-معلقًا على الحديث: (كثيرٌ من الناس) "أي أن الذي يوفق لذلك قليل" (19). وجاء عن عمر بن الخطاب قوله : "إني لأكره أحدَكُم سُبهللاً لا في عمل دنيا ولا في عمل آخره" ومعنى سبهللاً : أي فارغًا.

يقول الوزير ابن هبيرة :

الوقتُ أنفسُ ما عنيت بحفظه ... ...

وأراهُ أسهل ما عليك يضيعُ

مع ملاحظة أن الوقت إذا لم يشغل بالخير شُغِلَ بالباطل، وكما يقال: إن الشيطان يسكن حيث يجد المكان فارغًا.

8ـ التخطيط للمستقبل :

من الأمور المهمة التي ينبغي أن نتوقف عندها في انقضاء الأعوام، مسألة التخطيط للمستقبل، كيف نخطط لمستقبل الأمة الإسلامية مستلهمين الأعوام الماضية، مستشرفين الأعوام القادمة، مقدرين حاجات الأمة وعجزها، ومحاولة سد هذه الثغرات في المستقبل؟ والجواب على ذلك يكمن في وضع الخطط العملية الإيجابية الممكن تحقيقها على مراحل وخطوات؛ فالتخطيط للمستقبل يقوم على الإفادة من أحداث الماضي-قربت أم بعدت- حتى يتكامل البناء الحضاري للأمة الإسلامية، وترجع قيمتها بين الأمم، وهناك دراسات تُعنى بالمستقبل برع فيها الغرب، فما أحرانا -نحن المسلمين- أن نعد العدة لمستقبل الأيام والسنين ونخطط لها ونبتعد عن الأعمال العشوائية والارتجالية في حياتنا.

(*)عضو هيئة التدريس في كلية الشريعة والدراسات الإسلامية بالأحساء

جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية

[1] صور وخواطر للشيخ علي الطنطاوي ص5.

[2] شرح السنة للبغوي (14/225).

[3] حلية الأولياء للأصبهاني (2/148)

[4] انظر : صور وخواطر، ص6.

[5] انظر : تاريخ عمر بن الخطاب t لابن الجوزي ، ص151 .

[6] رواه مسلم، كتاب صلاة المسافرين، رقم الحديث 747 .

[7] للإفادة : يراجع كتاب لطائف المعارف لابن رجب، فهو مفيد في الموضوع .

[8] تلقوا ربكم : أي حتى تموتوا .

[9] فتح الباري شرح صحيح البخاري لابن حجر (13/19-20).

[10] المرجع السابق (13/21).

[11] المرجع السابق

[12] رواه البخاري، 3-كتاب العلم ح(100)، ومسلم،47-كتاب العلم، ح(2673).

[13] لطائف المعارف، ص32.

[14] ح(6416).

[15] ح(2333) .

[16] لطائف المعارف، ص18 .

[17] ( سورة الشعراء )

[18] ح(6412)

[19] فتح الباري (11/230)

==============

# هل يستهدف الإسلام الغرب (*)

فهمي هويدي 9/3/1425

28/04/2004

حين ألقيَّ عليَّ هذا السؤال، لم أجد له إجابة حاضرة في ذهني، وبالتالي فلم استطع أن أؤيد استهداف الغرب للإسلام كدين وعقيدة، ولم أستطع أن أنفي عنه ذلك. ووجدت أن عرض المشكلة والتفكير فيها بصوت عال قد يفيدني في التوصل إلى إجابة واضحة لها، على الأقل من حيث إنه قد يبين لماذا يتعذر اعتبار الغرب مستهدفاً للإسلام كعقيدة، ولماذا لا نستطيع أن ننفي عنه هذه التهمة، لكنني أحسب أنه من المهم قبل هذا وذاك أن نتفق على مجموعة من المسائل، الذي يتصل بعضها بتحرير الغرب الذي نعنيه، ويتصل البعض الآخر بجملة من المسلمات التي يتعين استحضارها في هذا المقام.

فنحن ينبغي أن نتنبه إلى حقيقة أن الغرب ليس شيئاً واحداً، لا على المستوى الأفقي ولا على المستوى الرأسي. ذلك أن الولايات المتحدة غير أوروبا، والأمزجة متفاوتة في أوروبا ذاتها؛ فإنجلترا غير فرنسا، والبلدان مختلفان عن ألمانيا وإيطاليا.. وهكذا وإذا لاحظنا أن مشكلة الحجاب مثلاً مثارة في ألمانيا وفرنسا، في حين أن إنجلترا سمحت للمتحجبات بالانخراط في سلك الشرطة، وصممت لهن غطاء رأس خاصاً؛ فإن ذلك يعكس تفاوت الرؤى والمواقف التي نشير إليها.

وفي داخل كل بلد هناك نخبة سياسية وهناك مؤسسات علمية وبحثية ودينية، وهناك جماهير ورأي يعبئه الإعلام في هذا الاتجاه أو ذاك، في هذا الخضم الواسع؛ فإن الغرب الذي نعنيه هو النخبة القابضة على السلطة، في الولايات المتحدة بوجه أخص باعتبارها صاحبة اليد الطولى الآن فيما أسمته بالحرب ضد الإرهاب، وبالسياسة التي تتبعها والضغوط التي تمارسها على أوروبا، فإنها تعد بمثابة القاطرة التي تجر وراءها بقية الدول الأوروبية، أو أغلبها إن شئت الدقة.

لقد مللنا من كثرة التأكيد في كل مناسبة – وأحياناً بغير مناسبة- على أننا لا نتحدث عن الغرب ككل، وإنما نتحدث عن أهل القرار السياسي، فيه عموماً وفي الولايات المتحدة خصوصاً لهذا فإني سأكتفي بتلك الإشارة في هذه الجزئية، وأنتقل إلى نقطة أخرى.

مسلَّمات خلفية الثقافة الغربية

لنتفق أيضاً على أن صورة الإسلام والمسلمين في الوجدان الغربي سلبية بوجه عام منذ الحروب الصليبية، التي بلغت جهود التنفير من الإسلام ذروتها، وكان ذلك التنفير جزءاً من حملة التعبئة المضادة التي استهدفت استنفار شعوب أوروبا وتحريضها للانضمام إلى الجيوش التي اتجهت نحو القدس لتخليص مهد المسيح من أيدي المسلمين"البرابرة" و"الأشرار".

هذه الخلفية تركت بصماتها على ثقافة المواطن الغربي، وانعكست على مناهج التعليم ومختلف المراجع الثقافية وساعدت على تشكيل إدراك غربي لا يكنّ وداً للإسلام والمسلمين، عند الحد الأدنى. ومن ثم كان ذلك الإدراك مستعداً لاستقبال البث الإعلامي الذي كان أغلبه معادياً للاثنين، سواء بسبب التأثير الصهيوني أو بتأثير من بعض العناصر المتعصبة التي تعاملت باستعلاء وازدراء مع العرب والمسلمين.

لنتفق كذلك على أن العقل الغربي بعد الذي بلغه من شأو وعلو، ثم وهو يرى تخلف المسلمين وتدهور أوضاعهم، اكتسب ثقة في النفس مبالغاً فيها، أقنعت المواطن الغربي بأنه الأرقى والأرفع والأكمل، وأن حضارته هي "نهاية التاريخ" ولا تقبل منافسة من أي أحد بسبب من ذلك فإن العقل الغربي وهو في مكانته العملية تلك أصبح رافضاً لفكرة الندية مع الحضارات الأخرى، ثم إنه لم يعد قادراً على استساغة فكرة أن مجتمعاً آخر –متخلفاً مثلنا – يمكن أن يكون عصياً على الاحتواء أو رافضاً للنموذج الغربي، وهذه مشكلة لم يستطع كثيرون من الغربيين استيعابها حتى الآن. وقد فاقمها أن المجتمعات الإسلامية بطبيعة تكوينها يتعذر قولبتها في النموذج الغربي، ببساطة لأن لها منظومة قيم مغايرة، وبنيان فكري وفلسفي ونظر إلى الكون والحياة مختلف عنه تماماً في الغرب، وهي مشكلة تتبدى بتلك في بعض الدول الغربية التي ما زالت تصر على "اندماج" المسلمين المقيمين فيها مع المجتمع الفرنسي أو الألماني مثلاً، حيث لا يكتفون بتفاعل المسلمين مع المجتمع واحترامهم لقيمه وتعاليمه وقوانينه، ولكنهم يصرون على أن يصير المسلمون مثلهم تماماً واستنساخاً لهم. وهو ما ثبت تعذره من الناحية العملية.

هذا الاستعصاء على الاحتواء لا يزال يثير حفيظة كثير من الغربيين، الذين عجزوا أو رفضوا أن يتهموا خصوصية القيم الإسلامية، التي تقبل التفاعل وترفض الذوبان والانسحاق.

لنتفق بعد ذلك على ثلاثة أمور: الأول أن العالم الغربي بعد انهيار سور برلين وسقوط الشيوعية راح يبحث عن "عدو" وتضافرت ظروف متعددة رشحت الإسلام كي يشغل ذلك الموقع بديلاً عن الشيوعية ويبدو أن هذه الفكرة راقت لأغلبية النخبة في الولايات المتحدة.

الأمر الثاني: أنه بعد غياب الاتحاد السوفيتي وتفرد الولايات المتحدة بصدارة "العالم الأول" فإن دعاة تمدد الإمبراطورية الأمريكية في فضاء الساحة التي خلت انتعشوا، الأمر الذي دعاهم إلى بلورة مشروعهم في كتابات عدة بينها المذكرة الشهيرة التي قدمت إلى الرئيس السابق بيل كلينتون في عام 1997م حول القرن الأمريكي الجديد.

وكان موقعو المذكرة خليطاً من الأصوليين الإنجيليين المتعصبين المخالفين مع غلاة الصهاينة في الولايات المتحدة وإسرائيل.

الأمر الثالث: أن أحداث 11 سبتمبر وفرت لفريق الأصوليين المتعصبين والمتصهينين في الإدارة الأمريكية حجة قوية لاعتبار العالم الإسلامي عدواً يجب قهره وتطويعه، حتى لا يظل مصدراً يهدد الأمن القومي الأمريكي، ولأن هذا العالم يكره الأمريكيين – كما ادّعوا- فقد يخرج من بين أبنائه يوماً ما في المستقبل من يكرر ما جرى في 11 سبتمبر.

لسنا هنا بصدد تقييم هذه الرؤية، التي صممت بحيث تخدم في النهاية هدف قهر المسلمين وتطويعهم باسم مكافحة الإرهاب، بعدما قامت بتبسيط وتسطيح مسألة كراهية المسلمين للولايات المتحدة مع التجاهل التام لدور السياسة الأمريكية في زرع بذور الكراهية والسخط، ولكننا أشرنا إلى تلك النقطة باعتبار أنها شكلت خلفية للسياسات الأمريكية التي اتبعت في المنطقة واستخدمت السلاح في بعض الحالات (إسقاط نظامي طالبان في أفغانستان، والبعث العراقي، وقصف مصنع الشفاء في السودان) ثم لجأت إلى ما سمي بحرب "الأفكار" في بقية الدول العربية والإسلامية.

مفهوم المواجهة

كانت فكرة "صراع الحضارات" التي أطلقها المستشرق اليهودي الأمريكي برنارد لويس، وقام بتأصيلها والترويج لها عالم السياسة الأمريكي صمويل هنتجتون ابتداء من عام 1993م، جاهزة لتسويغ وتبرير المواجهة بين الغرب وعلى رأسه الولايات المتحدة وبين العالم الإسلامي، ذلك أن هنتجتون بعد أن ميز بين سبع حضارات في العالم: (الغربية، الأمريكية اللاتينية، الأرثوذوكسية، الإسلامية، الكونفوشيوسية، الهندوسية، اليابانية، ورشح الأفريقية كحضارة ثامنة محتملة)؛ فإنه دعا إلى الاحتشاد في مواجهة الحضارة الإسلامية بوجه أخص، في الأغلب بسبب أنها أكثر استعصاء على الاحتواء من أي حضارة أخرى على وجه الأرض، من ثم فإن رسالته التي تعبر عن رأي مدرسة كاملة للنخبة الأمريكية ذات الانتماء اليميني هي التأكيد على أن الصراع ليس محله المصالح فحسب ولكنه أصبح بعد انتهاء الحرب الباردة صراع ثقافات وأديان.

على الصعيد النظري تلاحقت الأدبيات التي وسعت من مفهوم المواجهة بين الغرب والعالم الإسلامي، وكان كتاب "البرابرة والحضارة في العلاقات الدولية"، لمؤلفه مارك سالز حلقة في هذا الاتجاه، إذ قسم العالم إلى متحضرين يمثلون النموذج واجب الاحتذاء، وهؤلاء هم الغربيون أساساً، وبرابرة متخلفين يقفون على الشاطئ الآخر المواجه لهم، وهم مصدر العنف والفوضى في العالم.

هذه الأفكار تشبع بها تيار اليمين الديني المحافظ في الولايات المتحدة وشاءت المقادير أن يكون أبرز عناصر الإدارة الأمريكية في عهد الرئيس بوش الابن من المنتمين إلى ذلك التيار، الأمر الذي هيأ فرصة مواتية مكنت هؤلاء من إسقاط أفكارهم ورؤاهم على مجال التطبيق العملي، خصوصاً في مجال العلاقات الدولية.

منذ تسلمت الإدارة الأمريكية الحالية مسؤولياتها في بداية عام 2001م تكدس التحالف بين اليمين الديني السياسي وكانت أهم نقاط الالتقاء بينهما في مجال السياسة الخارجية هي: بسط الهيمنة الأمريكية على العالم والدفاع عن المصالح الإسرائيلية وحين وقعت أحداث 11 سبتمبر احتلت فكرة تطريح العالم الإسلامي عنواناً رئيساً في مشروع الهيمنة.

لقد استدعت أحداث 11 سبتمبر مجموعة من الأفكار ذات الجذور الدينية التي أصبحت حاكمة للأداء السياسي الأمريكي حتى الآن وهو ما عبرت عنه حزمة من المصطلحات والمعاني من قبيل أن الولايات المتحدة واجهت "الشر" وينبغي أن ترد هجومه وتتخلص منه وأن ذلك قدر الولايات المتحدة ومسؤوليتها أمام التاريخ، وهي حرب صليبية سوف تستغرق وقتاً لأن صانعي الشر يكرهون قيمنا، وقد دقت أجراس صراع الحضارات الذي لابد أن ينتصر فيه الغرب.

ومما كانت له دلالته في هذا السياق أن القس الذي قام بالصلاة على أرواح ضحايا الهجوم على برجي مركز التجارة العالمي هو بيلي جراهامك، الذي يعد أهم وأعظم رجل دين في الولايات المتحدة وهو في الوقت ذاته أحد قيادات الرابطة الوطنية للإنجيليين وله مواقفه المشهودة في إشهار العداء للإسلام وفي التأييد المفرط لإسرائيل.

الانطباع الرسمي حول معضلة سبتمبر

لعلنا لا نبالغ إذا قلنا إن أحداث 11 سبتمبر فتحت ملف العداء للإسلام على مصراعيه وأعطت الضوء الأخضر لخصومه من المتعصبين الإنجيليين أو الكائدين الموالين لإسرائيل لكي يجروا بتجريمهم له والنيل منه حتى إن وزير العدل الأمريكي جون أشكروفت وهو ابن لقسيس قال في إحدى خطبه في معرض تجريحه للإسلام إن إله المسيحيين يضحي بابنه في حين أن إله المسلمين يحثهم على أن يرسلوا أبناءهم إلى الموت "كان يعلق على العمليات الاستشهادية في الأرض المحتلة". ورغم أنه من غير المألوف أن يتحدث أحد كبار المسؤولين في الإدارة الأمريكية بهذه اللغة، إلا أن أجواء التحامل على المسلمين واستباحة عقائدهم تكفلت بتمرير الكلام، وهو ما تكرر في وقت لاحق ، حين تحدث أحد كبار موظفي وزارة الدفاع – الجنرال ويليام بويكيني نائب وكيل الوزارة لشؤون الدفاع – عن إله المسلمين "سبحانه وتعالى" وقال إنه "مجرد وثن"..

إذا كان ذلك كلام الرسميين الذين يفترض أنهم يمثلون الإدارة والسياسة العليا، فإننا نستطيع أن نتصور المدى الذي ذهب إليه آخرون ممن لا يحسبون على الإدارة ولا على السياسة العليا، ولا يحتاج الأمر لأن يبذل المرء جهداً في قدح الذهن لكي يتصور الموقف لأن الصحف اليومية ما برحت تنقل إلينا بين الحين والآخر تلك الآراء الجارحة التي تتردد في المحافل ووسائل الإعلام الأمريكية من بذاءات القس نالويل، إلى مقالات كتاب أعمدة الصحف، مروراً ببرامج التلفزيون الوثائقية وغير الوثائقية، من أننا لا نبالغ إذا قلنا إنه ما من شيء في الإسلام إلا وتعرض للتجريح من الله -سبحانه وتعالى- إلى شخص النبي -عليه الصلاة والسلام- إلى القرآن الكريم، الذي جرى التشكيك في مصدره وصياغته، فضلاً عن التنديد بقيمه ومعانيه "خصوصاً الجهاد" وذلك بالإضافة إلى الهجوم الحاد على الشريعة، وتسفيه تعاليمها ومقاصدها.

وإذا كان ذلك حظ الإسلام كدين؛ فإن حظوظ المسلمين لم تكن أفضل، حيث تعرضوا لحملة شرسة استهدفت اغتيالهم معنوياً، الأمر الذي كان له صداه بين قطاعات غير قليلة من الجمهور الأمريكي الذي نجحت إلى حد كبير، حملة تنفيرهم من الإسلام والمسلمين، الأمر الذي أدى إلى تكرار وقوع حوادث الاعتداء عليهم وعلى بيوتهم على نحو لافت للنظر، رصدته المؤسسات الإسلامية المعنية وفضحته في حينه.

تحامل الإعلام الغربي

قرأت وصفاً لتلك الأجواء في مقالة نشرتها مجلة "المنار الجديد" للدكتور محمدي حامد الأحمري رئيس مجلس أمناء التجمع الإسلامي في أمريكا الشمالية؛ قال فيه: إن الإعلام الأمريكي صار يربط بسخرية لافتة بين مفردات مثل قرآن وباكستان وأفغانستان، وجهاد وعرب وإسلام وشرق أوسط وفلسطين وطالبان، في خلطة من مجموعة من العبارات المكروهة والمستبعدة، التي أصبحت تكرر بطريقة تثير القرف لدى السامع وتعرض غالباً مرتبطة بصورة لنساء أفغانيات يضربن رجل في الشارع، أو بصورة زانية يقام عليها الحد في ملعب في كابل، أو قصة الحكم بإعدام زانية أخرى في نيجيريا، أو بالمباني المهدمة في نيويورك، أو دماء يهودية في الشارع، ومطعم يهودي أو سيارة مفجرة. ولا يتردد كبير المذيعين في "سي. ان . ان" لاري كينج أن يقول: إن حربنا هذه مع سكان الكهوف، وغالباً تقدم في سياق يتجاوز أفغانستان ليشمل العرب والمسلمين في العالم أجمع.

على صعيد آخر تنشر صحيفة مثل "نيويورك تايمز" مقالات صريحة دعت إلى تجنب الحرب على الإسلام واعتماد استراتيجية الحرب من داخل الإسلام.

لا يزال الخط السياسي الرسمي والموقف المبدئي المعلن للإدارة الأمريكية يدعو إلى احترام الإسلام والتشديد على أن الولايات المتحدة ليست لها معركة ضد الإسلام، ولكن معركتها ضد التطرف والإرهاب المنسوب إليه، وتمثل تصريحات رسمية صدرت عن الرئيس بوش وبعض مساعديه عبرت عن هذا المعنى، كما أن الرئيس الأمريكي حاول أكثر من مرة أن يجامل المسلمين في حفل للإفطار وفي عدة مناسبات أخرى، لكن ذلك لم يوقف الحملة ضد الإسلام والمسلمين في وسائل الإعلام، كما أنه لم يغير من الصورة السلبية التي استقرت في الأذهان عن موقف إدارته إزاء المسلمين في داخل الولايات المتحدة وخارجها.

تبعات تحملها يتحملها المسلم في الغرب

لقد تمثلت أهمية الإجراءات التي اتخذت بحق المسلمين في الداخل فيما يلي:

- إخضاع الجميع للرقابة وإصدار أحكام بالحد الأقصى – الذي يصل إلى الطرد من البلاد – إذا ما ارتكب أحدهم أي مخالفة صغيرة، حتى وان كانت مرورية!

- التنصت على الاتصالات واختراق أجهزة الكمبيوتر ومراقبة الموارد المالية، والحرمان من دراسة مجالات معينة في الجامعات وحرمانهم من بعض التخصصات.

- تحريض المواطنين الأمريكيين على مراقبتهم ورصد تحركاتهم، والتشدد المفرط في إجراءات الإقامة والدخول والهجرة.

- حرمان الموقوفين في أبسط ضمانات الصداقة والحقوق الإنسانية، من قبيل احتجازهم لفترات طويلة دون أن يسمح لهم بالاتصال بالمحامين أو حتى الاتصال بعوائلهم.

- التحقيق معهم لساعات طويلة في حال وصولهم إلى الموانئ الأمريكية وممارسة التمييز بحقهم في وسائل النقل، بحيث لا يسمح لأكثر من عدد منهم بركوب طائرة واحدة وإجلاسهم في مقاعد خلفية خاصة لأمثالهم.

- مداهمة مراكز نشاطهم ومصادرة محتوياتها، وإغلاق مقار ومصادرة الجمعيات الخيرية والإغاثية التي شكلوها للتضامن ومساعدة ضحايا الاحتلال الصهيوني من الأيتام والعجزة والأرامل.

بالتوازي مع ذلك، تبنت الولايات المتحدة سياسة الدعوة إلى ضرورة إحداث تغيير شامل في البنية الثقافية للعالم الإسلامي، وتكرر في التصريحات الرسمية مصطلح "حرب الأفكار" بحجة تجفيف منابع الإرهاب واستئصال جذوره، واستخدمت كل ما تملك من عناصر الضغط وأساليب الغواية والتهديد لتحقيق الأهداف التالية:

- التضييق على مراكز التعليم الإسلامي، في الأقطار الإسلامية المختلفة، والإصرار على إخضاعها لسيطرة الحكومات (الرئيس اليمني علي عبد الله صالح قال في تصريح صحافي: إن بلاده هددت بالقصف الأمريكي ما لم يتم إلحاق المعاهد الدينية بوزارة التعليم وفرض الإشراف الحكومي عليها).

- تغيير مناهج التعليم لإضعاف التدين وتعزيز قيم العلمنة في المجتمعات الإسلامية وقد وجدنا أن دولاً عربية حذفت من مناهج الثقافة الدينية ما يتعلق بالجهاد وبتغيير المنكر وبإسرائيل، وإلى جانب تقليص دروس الدين ، تم تدريس منهج آخر للأخلاق ، لا يستند ولا يشير إلى أي مرجعية دينية، بحيث يصلح لمخاطبة أي مجتمع ينتمي لأي ملة أو جنس.

- ملاحقة أنشطة المؤسسات المالية الإسلامية ، الاقتصادية منها والخيرية واستخدام سلاح المصادرة لشل حركة تلك الأنشطة ووقف نشاط الجمعيات الإنمائية الإسلامية خارج حدود بلادها.

هل هذه تعد حرباً على الإسلام

إذا قلنا إن هذه الإجراءات مرتبطة بهيمنة اليمين الإنجيلي المتعصب والمتحالف مع الصهيونية التي تؤرقها المقاومة الإسلامية في فلسطين؛ فربما قائل يقول إن الموقف قد يتغير إذا تغيرت الإدارة في الانتخابات القادمة – أو التي تليها – حين ينحسر تأثير اليمين الإنجيلي على القرار السياسي.

أضيف إلى ما سبق أن الولايات المتحدة بما تتخذه من إجراءات وما تمارسه من ضغوط ليست في حقيقة الأمر ضد العقيدة الإسلامية، وإن كان بعض أركانها المتعصبين كذلك. وإنما هي تريد إسلاماً مروضاً مطيعاً لا يقاوم هيمنة ولا يعترض على احتلال ولا يستنفر طاقات المسلمين لأي معركة.

فضلاً عن هذا وذلك؛ فإن الدين في الدول الغربية أصبح يلعب دوراً ثانوياً وهامشياً للغاية. وبالتالي فليست لديها على الجملة حساسيات عقدية ولا ثأرات ضد الإسلام، هذا إذا استثنينا مجتمع المتدينين المتعصبين في الولايات المتحدة، وإذ كان الإنصاف يقتضينا أن نقرر أن اسم الإسلام أصبح مخيفاً لكثيرين الآن في الغرب ، وهذا الخوف نابع من انطباعات زمنية وليس من تأثيرات عقدية.

هذه الخلفيات تسوغ لنا أن نقول: إن الغرب بالمفهوم الذي تحدثنا عنه ليس ضد الإسلام كعقيدة ودين، ولكنه متمسك بإضعاف الإسلام وتقليص دوره في المجتمع.

لكننا إذا نظرنا إلى المشهدين من زاوية المقاصد والمآلات؛ فلا مفر من أن نعترف بأن عملية الإضعاف هي في حقيقة الأمر نوع من إماتة الإسلام وتضييق الخناق عليه إلى حد خنقه في نهاية المطاف ، وقد يجوز ذلك أن نقول إن العبرة ليست بالنوايا ولكنها بالنتائج؛ فالإماتة في النتيجة لا تختلف كثيراً عن القتل، إذ في الحالتين تشل حركة الإسلام ويفقد "روحه" حتى وإن استغرقت عملية الإماتة وقتاً أطول.

والله أعلم.(*) ورقة قدمت في مؤتمر (الإسلام والغرب في عالم متغير) والذي عقد في جمهورية السودان في الفترة من 19 إلى 21 شوال 1424هـ.

==============

#القضايا النقدية عند المفكر أنور الجندي

محمد شلاّل الحناحنة 10/3/1425

29/04/2004

أقامت ندوة (الوفاء) لعميدها الشيخ أحمد باجنيد في الرياض محاضرة للأستاذ الباحث محمد العصيمي بعنوان : ( أنور الجندي وقضايا نقدية)، وأدار اللقاء الذي حضره جمهور من المهتمين والمثقفين والأدباء، الدكتور محمد الهواري؛ إذ عرّف بداية بالمحاضرة، وبيّن أهمية الموضع الذي يطرحه في ظل ما تتعرّض له الأمة في محاولة تشويه هويتها وثوابتها وقيمها الإسلامية.

القمة الشامخة

تحدّث المحاضر عن حياة أنور الجندي الذي ولد في ديروط بصعيد مصر سنة 1335هـ، ودرس فيها حتى أخذ الشهادة الابتدائية، وحفظ القرآن الكريم، ثم حصل على الثانوية التجارية، وتزوج مبكّراً وعمره لم يتجاوز سبعة عشر عاماً، وهو رجلٌ عصامي اعتمد على نفسه في تحصيل الثقافة والفكر والأدب، ونشر أول مقالة له في هذا السن عن شاعر النيل حافظ إبراهيم، ثم انتقل إلى القاهرة ليعمل في الصحافة، واتصل بالشيخ حسن البنّا، وعمل بصحيفة (الإخوان المسلمون) وأشرف على النواحي الإدارية والمالية فيها، كما كتب على صفحاتها حتى تم إغلاقها عام 1949م. وقال الأستاذ العصيمي: سيظل أنور الجندي قمّة شامخة وإن تجاهله الإعلام العربي مما يحزننا جميعاً، وهذا من مآسي الأمة، وقد عاش أكثر من ثمانين عاماً منافحاً عن الإسلام وفكره وأدبه ولغته العربية، وحين توفي في 14/11/1422هـ قال الشيخ العلامة يوسف القرضاوي: "علمت أن الكاتب الإسلامي المرموق أنور الجندي توفي منذ أسبوع.. يا سبحان الله، يموت مثل هذا الكاتب الكبير ولا نعرف عن موته إلا بعد عدة أيام، لو كان أنور الجندي مطرباً لامتلأت الصحف بالثناء عليه".

مصادر ثقافته

نشأ الكاتب أنور الجندي رحمه الله في بيئة تراثية، اهتمت بالقرآن الكريم والسنة المطهرة، والثقافة الأصيلة للأمة، واتصل بالأدباء والعلماء، مما زاده ثقافة وعلماً وأدباً مثل زكي مبارك، كما التقى بالإمام الشيخ حسن البنّا حين كان يأتي إلى ديروط، واهتم أنور الجندي بالحضارة الإسلامية، واللغة العربية، وتأثر بأعلام الفكر الإسلامي وأدبائه وكتّابه، وكان يقول رحمه الله: "ليست أدوات الكاتب هي المحابر والأقلام؛ بل أدواته مصادره ومراجعه التي تمدّه بالمضمون والبيان، وإذا كانت الثقافة في حق المثقف زاداً فهي في حق الكاتب تكون عتاداً".

القضايا النقدية

وقف أنور الجندي يدافع في كتاباته الكثيرة المتعددة عن فكر الأمة وتراثها ولغتها بكل صدق وقوة أمام علم من أعلام التغريب هو طه حسين.

وعرض ي كتابه "محاكمة فكر طه حسين" منهج طه حسين في دراساته للأدب العربي حين نادى بمذهب الشك لا سيما في كتابه عن الشعر الجاهلي، واعتمد على الذوق بعيداً عن المنهج العلمي، ولذلك فآراؤه متناقضة ذاتية لا تستند إلى تحليل وتعقّل ورؤية ناضجة، مما يجعله يناقض نفسه، وينقض بعض القصص في القرآن الكريم، وكان غرضه إنكار كُلّ قطعي، والقضاء على النصوص الإسلامية المقدسة كما يقول الكاتب أنور الجندي. ويجعل طه حسين الذوق علماً، ويُدرس الأدب في رأيه فقط من أجل تذوق الجمال، ويطفح أسلوبه في دراساته وكتاباته بالسخرية، وغلبة العاطفة والبعد عن العدل، والاعتماد على الإثارة مما يناقض المنهج العلمي. كما نادى طه حسين بحرية الأديب، وينبغي في رأيه أن يتحرر الأدب من الدين، واللغة من القدسية، ويبتعد عن الأخلاقية، وقد أفاض في دراسة الشعراء الماجنين في العصر العباسي، وجعلهم هم الأصل، وحاول تدمير الأدب العربي من خلال تقديس الشعر الماجن، كما حاول أن يجعل الأدب العربي صورة للأدب الغربي، والأدب الإغريقي؛ بل زعم أن الأدب العربي متأثر بهذه الآداب الدخيلة.

وقد استطاع الكاتب أنور الجندي أن يردّ على افتراءات وشبهات طه حسين في عدة مقالات في كتبه المتنوعة؛ فالأدب العربي صورة عن المجتمع العربي المتميز بالأخلاق ونظرة العرب للأدب بعد الإسلام جاءت من منهج هذا الدين، ولذا فأدب المسلمين مرتبط بدينهم وفكرهم وأخلاقهم، ويتميز هذا الأدب بالوضوح والجمال، والبعد عن الإيهام والأفكار المنحرفة.

كما حرص الكاتب أنور الجندي في كثير من كتبه على الوقوف مع اللغة العربية الفصحى لا سيّما في كتابه: "أخطاء المنهج الغربي الوافد"؛ لأن الفصحى لها ميزات عظيمة، والأخذ بالعامية يقطع العرب عن دينهم وتاريخهم وماضيهم، بينما تزيد الفصحى من اتصالهم بدينهم وتراثهم وحضارتهم، كما أن اللغة الفصحى لغة خالدة ومحفوظة بالقرآن الكريم الخالد المحفوظ، وهي واسعة منتشرة واضحة ومفهومة، بعكس العامية الضيقة في انتشارها، وغير المفهومة في كثير من قرى وأقاليم القطر الواحد، فكيف ستفهم في أقطار متعددة؟! كما أن العامية مندثرة لا حياة فيها من عصر لآخر، وهناك الكثير من عيوب العامية، وأصالة الفصحى وتميّزها بخصائص مشهودة وعظيمة!.

============

# هل الأصل في علاقة المسلمين بغيرهم السلم أم الحرب؟

عبد الرحمن بن عبد العزيز العقل 8/8/1425

22/09/2004

الحمد لله والصلاة على رسول الله .. وبعد :

فإن دين الإسلام، دين الرحمة بالناس أجمعين "هذا بصائر للناس وهدى ورحمة لقوم يوقنون" [سورة الجاثية 20] ."وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين" [سورة الأنبياء 107]وهو دين الخير للعالمين مؤمنهم وكافرهم، لا يجحد ذلك إلا من جهل الحقيقة "ذلك الدين القيم ولكن أكثر الناس لا يعلمون" [سورة الروم 30] أو كان من المستكبرين "وما يجحد بآياتنا إلا كل ختار كفور" [سورة لقمان 32] .أما خيرية الإسلام للمسلمين فهي كما قال الأول :

فليس يصح في الإفهام شيء ... إذا احتاج النهار إلى دليل

وأما خيريته لغير المسلمين، فلأنه حفظ حقوقهم، وصان كرامتهم وعاملهم بالحسنى ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن". [ سورة العنكبوت 46 ]. ولم يتخلف هذا التعامل الراقي حتى في ساعة الانتصار، ونشوة الشعور بالعزة والغلبة .

وكانت وصية رسول الله صلى الله عليه وسلم لأمرائه الذين يبعثهم على الجيوش والسرايا : اغزوا ولا تغلوا، ولا تغدروا، ولا تمثلوا، ولا تقتلوا وليداً" (1) .

وأما خليفته الصديق رضي الله عنه فقد أوصى مبعوثه قائد جيش الشام يزيد بن أبي سفيان بقوله : إني موصيك بعشر : لا تقتلن امرأة، ولا صبياً، ولا كبيراً هرماً، ولا تقطعن شجراً مثمراً، ولا تخربن عامراً، ولا تعقرن شاة ولا بعيراً إلا لمأكله، ولا تحرقن نخلاً، ولا تفرقنه ولا تغلل، ولا تجبن (2) . وهذا السمو في التعامل في ساعة الحرب، هو ما امتثله المسلمون في عصورهم المختلفة، وبالأخص في العصور الزاهية الأولى.

وهو ما اعترف به عقلاء ومنصفوا أعدائهم، قال "ول ديورانت" : (لقد كان أهل الذمة المسيحيون والزردشتيون واليهود والصابئون يتمتعون في عهد الدولة الأموية بدرجة من التسامح لا نجد نظيراً لها في البلاد في هذه الأيام، فلقد كانوا أحراراً في ممارسة شعائر دينهم، واحتفظوا بكنائسهم ومعابدهم ... وكانوا يتمتعون بحكم ذاتي يخضعون فيه لعلمائهم وقضاتهم وقوانينهم) (3) .

وقال الفيلسوف المؤرخ الفرنسي"غوستاف لوبون" : (ما عرف التاريخ فاتحاً أعدل ولا أرحم من العرب) (4) .

وهذه المعاملة الحسنة من المسلمين لمخالفي دينهم، ليست طارئة ولا غريبة، لأنها منبعثة من أسس دين الإسلام الذي يقوم على حفظ كرامة الإنسان لكونه إنساناً، ولهذا لما جهلت هذه الحقيقة في هذه الأيام، سمعنا أصواتاً نشازاً تتعالى في الإعلام باتهام دين الإسلام وأهله بانتهاك حقوق الإنسان، ومن هنا تأتي أهمية بحث هذه المسألة [هل الأصل في علاقة المسلمين بغيرهم الحرب أم السلم ؟!!] .

وقبل الخوض في غمار هذه المسألة الهامة، أشير إلى بعض الوقفات التي أرى أهميتها قبل البدء بالمقصود :

الوقفة الأولى :

حاجة البشرية الماسة لدين الإسلام ومُثُلِه وأخلاقه وتعاليمه وقيمه، إذ هو وحده الكفيل بحل أزمات وصراعات الحضارات، وهو القادر – دون غيره – على علاج مشكلات الأمم، ومعاناة الشعوب، ومستعصيات الزمن، لأنه دين يُعنى بالفرد والمجتمع، وبالروح والجسد، وهذا ما تفتقر إليه جميع المجتمعات التي تئن تحت وطأة الظلم والضياع، وتكتوي بلهيب فقده كل الأمم التي لا تعرف إلا الشقاء والضنك في الحياة، بل لقد أصبح الإسلام ضرورة من ضروريات الحياة الهانئة السعيدة، وهذا ما صرح به بعض الأوربيين الذين درسوا الإسلام أو قرأوا عنه، يقول المستشرق الفرنسي "غستاف دوكا" (5) : (للدين الإسلامي أثر كبير في تهذيب الأمم وتربية مشاعرها ووجدانها، وترقية عواطفها، فإذا قرأت تاريخ العرب قبل البعثة، وعلمت ما كانت عليه، اعتقدت أن للشريعة السمحة في تهذيب الأخلاق التأثير الأكبر، إذ ما كاد يتصل بالأمة العربية ذلك الإصلاح الروحي المدني، حتى انتشر العدل وزال النفاق والرياء والعدوان) (6) .

الوقفة الثانية :

عالمية الإسلام، وأنه دعوة إسلامية لكل الإنسانية، هو دين الله إلى الناس كافة، ورسالته عالمية بكل ما تحمله معاني العالمية ،” قل يا أيها الناس إني رسول الله إليكم جميعاً” [سورة الأعراف 158]. ورسول هذا الدين العالمي بعث إلى كافة البشر" وما أرسلناك إلا كافة للناس بشيراً ونذيراً، ولكن أكثر الناس لا يعلمون" [سورة سبأ 28 ]، وإنما كانت دعوة هذا الدين عالمية، لأنه جاء لتحرير البشرية كلها من الانحرافات والضلالات والعبوديات لغير الله، ولم يكن الإسلام يوماً من الأيام خاصاً بقبيلة أو جنس أو طائفة، وإنما هو دين الله إلى الناس كافة. ولأنه دين مشتمل على منهج حياة متكامل في جميع مناحي الحياة، لم يكن هذا المنهج ناتجاً عن ردة فعل لسوء أوضاع بيئة معينة، كما هو شأن المناهج البشرية الوضعية، وإنما هو منهج عام شامل كامل، أراده الله ليكون للبشرية جمعاء في كافة ديارها وشتى أقطارها، قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله : (وعلى كل أحد أن يصدق محمداً صلى الله عليه وسلم فيما أخبر به، ويطيعه فيما أمر تصديقاً عاماً وطاعة عامة، وقد بعث الله رسوله محمداً -صلى الله عليه وسلم- بأفضل المناهج والشرائع، وأنزل عليه أفضل الكتب، وأرسله إلى خير أمة أخرجت للناس، وأكمل له ولأمته الدين، وأتم عليهم النعمة، وحرم الجنة إلا على من آمن به وبما جاء به، ولم يكن يقبل من أحد إلا الإسلام) (7) .

الوقفة الثالثة :

تتجلى عظمة الإسلام وشموليته وعالميته في جوانب كثيرة من التشريعات، منها جانب تنظيم العلاقات، سواء في علاقة المسلمين بربهم، أو علاقة بعضهم ببعض، أو علاقتهم بالآخرين ممن لم يعتنقوا دينهم على أي وجه كان، وصدق الله إذ يقول: ونزلنا عليك الكتاب تبياناً لكل شيء وهدى ورحمة وبشرى للمسلمين"( سورة النحل – 89)، وقد جاء تنظيم العلاقة مع الآخرين في منتهى الروعة والكمال والجلال، في كافة شؤون الحياة، وفي مختلف الظروف والأحوال سواء في حال الحرب، أو في حال السلم، وسواء كانوا أهل ذمة أو مستأمنين أو معاهدين أو حربيين أو مرتدين، نظمها تنظيماً دقيقاً راعى فيه تحقيق المصالح والعدل، وحفظ حق الدين والإنسان، ومن أتي في شئ من هذا الباب، فإنما أتي لعدم تنزيله النصوص على الأشخاص أو الأحوال على وجهٍ صحيحٍ.

الوقفة الرابعة :

تعاملات المسلمين مع الكفار – وبالأخص في هذا الزمن – لا يلزم أن تمثل منهج الإسلام في التعامل معهم، لأن نظرات الناس وتصوراتهم نحو العلاقة بالكفار متباينة، كما أن واقعهم الفعلي متفاوت بين انفتاح وانغلاق، وبين انقباض وانبساط، من المسلمين اليوم من لا يفرق بين الكافر الحربي، وبين الذمي والمستأمن، ويرى أن العلاقة معهم جميعاً، قائمة على العنف والغلظة والمباينة المطلقة في كل معاملة، حتى في العقود المالية، والبيع والشراء، ولربما استند من هذا شأنه إلى قول الله تعالى :” محمد رسول الله والذين معه، أشداء على الكفار" [سورة الفتح 29] وإلى قول رسول الله صلى الله عليه وسلم : "لا تبدؤا اليهود والنصارى بالسلام، وإذا لقيتم أحدهم في طريق فاضطروهم إلى أضيقه"(8).

ومنهم من يرى أن العلاقة بالكافر كالعلاقة بالمسلم في الجملة، وهذا الفهم يكثر عند من يعيش من المسلمين في أحضان الكفار، بسبب الانصهار في مجتمعاتهم، والاندماج في بيئاتهم .

كما يوجد هذا التمييع والتفريط عند بعض المسلمين في بلاد الإسلام بسبب الجهل أو رقة الديانة، أو الإعجاب بالكفار وا لانبهار بحضارتهم، ولذلك وجدنا من المسلمين اليوم من ينادي بالمساواة بين الأديان السماوية، وعدم التفرقة بين اليهودية والنصرانية والإسلام، والمؤمن المنصف يعرف – بداهة – تساقط هذين الرأيين، فأما الرأي الأول المتبني للغلظة والعنف مطلقاً، فهو يتنافى مع سمو الإسلام وسماحته وعالميته، ويتنافى أيضاً مع سيرة النبي صلى الله عليه وسلم وسيرة أصحابه، وعموم تعاملات النبي صلى الله عليه وسلم وتعاملات صحابته مع اليهود والمشركين تثبت تهافت هذا الرأي وسقوطه من ذلك :

1- قصة الرهط من اليهود الذين دخلوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا : السام عليكم، فرد" وعليكم" فقالت عائشة - رضي الله عنها -:"وعليكم السام واللعنة" فقال صلى الله عليه وسلم "مهلاً يا عائشة إن الله يحب الرفق في الأمر كله (9) .

2- ولما قيل له صلى الله عليه وسلم ادع على المشركين قال :” إني لم أبعث لعاناً، وإنما بعثت رحمة" (10) .

3- ولما قدم طفيل بن عمرو الدوسي وأصحابه على النبي صلى الله عليه وسلم قالوا : يا رسول الله إن دوساً عصت وأبت فادع الله عليها، فقيل : هلكت دوس قال : اللهم اهد دوساً وات بهم" وفي رواية قال : "لا ينبغي لصديق أن يكون لعاناً (11).

وأما حديث” لا تبدؤا اليهود والنصارى بالسلام، وإذا وجدتموهم في طريق، فاضطروهم إلى أضيقه"(12).

فهو كناية عن عزة المسلم، فلا يكون ذليلاً أمام الكافر، فإذا لقيه فلا يبدأ بالسلام، ولا يفسح له في الطريق ويذل نفسه .

قال الحافظ ابن حجر رحمه الله : (والمراد منع ابتدائهم بالسلام المشروع، فأما لو سلم عليهم بلفظ يقتضي خروجهم عنه، كأن يقول : السلام علينا، وعلى عباد الله الصالحين فهو جائز، كما كتب النبي -صلى الله عليه وسلم - إلى هرقل وغيره : سلام على من اتبع الهدى .. قال القرطبي في قوله :" وإذا لقيتموهم في طريق ...." معناه لا تتنحوا لهم عن الطريق الضيق إكراماً لهم واحتراماً، وعلى هذا فتكون الجملة مناسبة للجملة الأولى في المعنى، وليس المعنى إذا لقيتموهم في طريق واسع فألجئوهم إلى طرفه حتى يضيق عليهم، لأن ذلك أذى لهم، وقد نهينا عن أذاهم بغير سبب) (13) . هذا ما يتعلق بالرأي الأول .

أما الرأي الثاني – الذي تبدو فيه الميوعة والتمييع لأصول الإسلام وثوابته، فهو أظهر ضعفاً، وأبين عوارا،ً ومصادمته لثوابت الشريعة لا تخفى على ذي إنصاف، إذ البراءة من الكفر وأهله، من المعلوم من دين الإسلام بالضرورة قال تعالى : وإذ قال إبراهيم لأبيه وقومه إنني براء مما تعبدون. إلا الذي فطرني فإنه سيهدين. وجعلها كلمة باقية في عقبه لعلهم يرجعون" [سورة الزخرف 26-28] .

والكلمة الباقية : هي لا إله إلا الله في قول كثير من المفسرين (14) .

يقول ابن كثير : (يقول تعالى مخبراً عن عبد الله ورسوله وخليله إمام الحنفاء ووالد من بعث من بعده من الأنبياء الذي تنتسب إليه قريش في نسبها ومذهبها أنه تبرأ من أبيه وقومه في عبادتهم الأوثان فقال: "إنني براء مما تعبدون. إلا الذي فطرني فإنه سيهدين. وجعلها كلمة باقية في عقبه” أي هذه الكلمة وهي عبادة الله وحده لا شريك له، وخلع ما سواه من الأوثان، وهي لا إله إلا الله، أي جعلها دائمة في ذريته يقتدي به فيها من هداه الله تعالى من ذرية إبراهيم عليه الصلاة والسلام)(15) .

وجاء تفصيل موقف إبراهيم من أبيه وقومه في سورة الممتحنةفي قوله سبحانه :” قد كانت لكم أسوة حسنة في إبراهيم والذين معه إذ قالوا لقومهم إنا برءاء منكم ومما تعبدون من دون الله كفرنا بكم وبدا بيننا وبينكم العداوة والبغضاء أبداً حتى تؤمنوا بالله وحده إلا قول إبراهيم لأبيه لأستغفرن لك وما أملك لك من الله من شيء" [سورة الممتحنة 4] .

والبراءة المذكورة في هذه الآية تعني الأمور الآتية :

1- إنكار الباطل والتبري منه :

والباطل وإن كان يشمل كل ما ضاد الحق مما لا يريده الله ورسوله من كفر وفسوق وعصيان، إلا أن المراد به هنا : الكفر، فلا بد من إنكاره باليد أو باللسان أو بالقلب .

هذا مع أن الإنكار القلبي هو الأساس، وهو مستقر في قلب المؤمن، وإن لم يستطع الإنكار باللسان أو باليد .

2- البغض والعداوة، وهما من أهم معالم البراءة :

وقد دلت عليهما نصوص كثيرة، كقوله تعالى في موقف إبراهيم عليه السلام من قومه: "وبدا بيننا وبينكم العداوة والبغضاء أبدا حتى تؤمنوا بالله وحده” [الممتحنة 4] .

وقوله : "لا تجد قوماً يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله ولو كانوا آباءهم أو أبناءهم أو إخوانهم أو عشيرتهم” [المجادلة 22] .

3- عدم الموالاة مطلقاً :

قال الله عز وجل : "يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا الكافرين أولياء من دون المؤمنين أتريدون أن تجعلوا لله عليكم سلطاناً مبيناً" [سورة النساء 144] .

وقال : "يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء بعضهم أولياء بعض ومن يتولهم منكم فإنه منهم إن الله لا يهدي القوم الظالمين" [ سورة المائدة 51] .

وقال : لا يتخذ المؤمنون الكافرين أولياء من دون المؤمنين ومن يفعل ذلك فليس من الله في شيء إلا أن تتقوا منهم تقاة ويحذركم الله نفسه وإلى الله المصير" [سورة آل عمران 28] والآيات كثيرة .

أما الموالاة، فقال الراغب في مفرداته (16) : (الولاء والتولي أن يحصل شيئان فصاعداً حصولاً ليس بينهما ما ليس منهما، ويستعار ذلك للقرب من حيث المكان ومن حيث النسبة، ومن حيث الدين، ومن حيث الصداقة والنصرة والاعتقاد، والولاية : النصرة) أ.هـ.

فهي تشمل : الموالاة القلبية، وهي ميل القلب إلى الكافر تعظيماً وحباً أو اعتقاداً بصحة ما هو عليه، ومن ذلك التشبه به .

والموالاة العملية : وهي الميل والاقتراب من الكافر في الأمور العملية : كمعاشرته، ومداهنته، وتقريبه، وجعله بطانة، وطاعته في غير ما شرع الله ومناصرته، والإقامة بين ظهراني المشركين من غير حاجة، ومشاركتهم في الأعياد. وهذه الموالاة متفرعة من الموالاة القلبية، لأنها - أي الموالاة العملية – لا تتم في الغالب إلا بميل القلب وإصغائه .

فكل ذلك موالاة ممنوعة، وهي تتفاوت في المفسدة، ولذلك كان منها ما هو مخرج من الملة، ومنها ما هو معصية كبيرة، ومنها ما هو صغيرة(17)، ولا شك أن مقتضى البراءة عدم الموالاة مطلقاً .

الوقفة الخامسة :

يجب اعتبار حال المسلمين في القوة والضعف، وحال ظروف زمانهم، وملابسات قضاياهم، والنظر في مصالحهم الكبرى، وبذل الجهد في دفع المفاسد العظمى عنهم .

ولذلك نجد القرآن زاخراً وحاشداً بالآيات التي فصلت العلاقة بالكفار، وراعت أحوال الظروف والمواطن والزمن واتخذت المواقف المتناسقة معها، والمتأمل في ذلك يلحظ أن هذه المواقف جاءت على مرحلتين :

المرحلة الأولى : العهد المكي، وجملة الموقف منهم يتلخص في :

أ - المفاصلة الشعورية و تنافر القلوب بين المؤمنين والكافرين .

ب- الهجر الجميل، أو المقاطعة للكفار .

كما في قوله تعالى: "فاصبر على ما يقولون واهجرهم هجراً جميلاً" [سورة المزمل 10] .

ج- أمر المؤمنين بالصبر على الأذى .

كما في الآية السابقة، وكما في قوله تعالى : واصبر وما صبرك إلا بالله ولا تحزن عليهم ولا تك في ضيق مما يمكرون" [سورة النحل 127] .

د - الأمر بالعفو والصفح .

كما في قوله تعالى: فاصفح عنهم وقل سلام فسوف يعلمون [ سورة الزخرف 89] .

هـ- الأمر بكف اليد وعدم القتال .

كما في قوله تعالى: "ألم تر إلى الذين قيل لهم كفوا أيديكم وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة فلما كتب عليهم القتال إذا فريق منهم يخشون الناس كخشية الله أو أشد خشية وقالوا ربنا لم كتبت علينا القتال لولا أخرتنا إلى أجل قريب" [سورة النساء 77](18) . الآية .

و - الاستمرار في الدعوة والنذارة، كما في قوله : "فاصدع بما تؤمر وأعرض عن المشركين" [سورة الحجر 94] .

المرحلة الثانية : العهد المدني :ويتلخص الموقف في :

أ - تمييز المسلمين واستقلالهم في إقليم، وإعلان وحدتهم، ولذلك تكاملت التشريعات والأحكام العملية مع قصر هذا العهد .

ب- المواجهة مع الكفار، بالقوة البيانية، والقوة الاجتماعية، والقوة المادية .

ج- تشريع الجهاد .

وبه تحددت العلاقة مع الكفار على اختلافهم إلا أن هذا التشريع جاء على مراتب كما ذكر ابن القيم- رحمه الله - (19) ، وقد روعي في هذه المراتب واقع حال المسلمين وظروفهم وإمكانياتهم، ثم استقر أمر الكفار مع النبي صلى الله عليه وسلم بعد نزول "براءة" على ثلاثة أقسام : محاربين له، وأهل عهد، وأهل ذمة .

د-منع موالاة المؤمنين للكافرين مطلقاً.

الوقفة السادسة :

لا بد من معرفة أنواع الكفار من حيث علاقة المسلمين بهم وأنهم :

1- إما أهل عهد .

2- وإما من ليس له عهد .

وأهل العهد ثلاثة أصناف :

أ - أهل الذمة (20) :

وهم الذين يعطون عقداً مستمراً للبقاء في دار الإسلام إذا أعطوا الجزية والتزموا أحكام الإسلام .

ب- المستأمنون :

وهم الذين يعطون عقداً مؤقتاً للبقاء في دار الإسلام لغرض شرعي، كسماع كلام الله، أو تجارة أو سفارة .

ج- أهل الصلح والهدنة :

وهم الكفار الذين بينهم وبين دولة الإسلام عهد، إما عهد هدنة، وهو الاتفاق على إيقاف الحرب لمدة معلومة، وإما معاهدة مطلقة (21).

والذين لا عهد لهم صنفان في الجملة :

أ - إما كفار أصليون محاربون(22):

وهم الذين لا عهد لهم ولا ذمة، سواء أكانوا محاربين فعلاً أم لا، فإن من ليس له عهد لا يستبعد منه الحرب للمسلمين .

ب - وإما مرتدون عن الإسلام (23) .

هذه هي أنواع الكفار من حيث علاقة المسلمين بهم، ومسألة هل الأصل في علاقة المسلمين بالكفار السلم أو الحرب شامل لجميع هذه الأنواع السابقة .

والآن قد حان الشروع إلى المقصود وأقول مستعيناً بالله :

اختلف أهل العلم في هذه المسألة على قولين :

القول الأول :

أن الأصل في علاقة المسلمين بغيرهم هو الحرب، وبهذا قال كثير من علماء المالكية والحنفية والشافعية والحنابلة(24).

واستدل أصحاب هذا القول بأدلة كثيرة من القرآن والسنة والمعقول .فأما الأدلة من القرآن فهي على نوعين :

النوع الأول :

آيات تأمر بقتال الكفار مطلقاً كقوله تعالى : "أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا وإن الله على نصرهم لقدير" [سورة الحج 39]، وقوله : " كتب عليكم القتال وهو كره لكم" [سورة البقرة 216]، وقوله : " يا أيها النبي حرض المؤمنين على القتال"[سورة الأنفال 65]، وقوله :"واقتلوهم حيث ثقفتموهم" [سورة البقرة 191] ، وقوله : " وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين لله" [سورة البقرة 193]، وقوله "واقتلوا المشركين حيث وجدتموهم" [سورة التوبة 5 ]، وهذه تسمى آية السيف، قيل إنها نسخت مائة وأربعاً وعشرين آية من الآيات التي تأمر بالإعراض عن المشركين والصفح عنهم(25)، وكقوله تعالى أيضاً : وقاتلوا المشركين كافة كما يقاتلونكم كافة" [سورة التوبة 36] وهذه الآية من أهم أدلة أصحاب هذا القول لأن فيها الأمر – كما يرون – بالقتال الجماعي للمشركين كافة، وشبيه بها قوله تعالى : " يا أيها الذين آمنوا قاتلوا الذين يلونكم من الكفار" [سورة التوبة 123]، وكذلك قوله عز وجل: "قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر، ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله ..."[ سورة التوبة 29] .فهذه الآيات وما شابهها مما لم يذكر، تدل على وجوب قتال الكفار مطلقاً دون قيد أو شرط، لأن هذا الفريق يرون أن قتال الكفار هو دعوة إلى الإسلام، وحمل للمخالفين على نبذ كفرهم، واعتناق الإسلام.فإذا كان القتال دعوة إلى الدين فلا يحل تركه مع القدرة عليه بحال من الأحوال .

النوع الثاني :

الآيات التي ورد فيها النهي عن اتخاذ الكافرين أولياء أو القاء المودة إليهم مطلقاً كقوله تعالى:" لا يتخذ المؤمنون الكافرين أولياء من دون المؤمنين" [سورة آل عمران 28]، وقوله :"يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء بعضهم أولياء بعض، ومن يتولهم منكم فإنه منهم" [سورة المائدة 51]، وقوله : "يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء تلقون إليهم بالمودة" [سورة الممتحنة 1]، وقوله :"لا تجد قوماً يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله ..." [سورة المجادلة] .

ففي هذه الآيات دلالة على وجوب أن لا يكون للمسلمين مع الكفار محالفة أو موالاة أو مودة واطمئنان وثقة. لانطوائهم على الغدر والحقد، وتبييتهم الخيانة والنقض، وانتظار الفرصة المواتية للنيل من المسلمين .

-وأما الأدلة من السنة، فقد ورد الأمر فيها بالقتال حتى تتحقق الغاية من القتال وهي اعتناق الإسلام، ومن الأحاديث الواردة في ذلك قوله صلى الله عليه وسلم : بعثت بين يدي الساعة بالسيف حتى يعبد الله وحده لا شريك له، وجعل رزقي تحت ظل رمحي، وجعل الذلة والصغار على من خالف أمري"(26) ، ومعنى هذا – عند أصحاب هذا القول - أن للسيف المقام الأول في تقرير دعوة التوحيد، ومنها قوله صلى الله عليه وسلم : "أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله ... (27) .

وهذا يدل على أن الأمر بقتال الناس هو من أجل الدخول في الإسلام، فالقتال إذن هو الطريق الأول للدعوة إلى الإسلام وترك الكفر، إلى غير ذلك من الأحاديث الواردة بهذا المعنى .

- وأما الاستدلال بالمعقول، فتقريره : أن من دعوا إلى الإسلام على وجه صحيح لا عذر لهم في البقاء على كفرهم، لأن الله أقام الأدلة القاطعة على وجوده ووحدانيته، وأن دين الإسلام هو دين الحق الذي لا يقبل الله سواه، فلا بد من حملهم عليه قسراً امتثالاً لما ورد في النصوص التي سبق ذكرها .

القول الثاني :

أن الأصل في علاقة المسلمين بغيرهم هو السلم، وبهذا قال سفيان الثوري وسحنون من المالكية، ونسب لابن عمر – رضي الله عنه -، وبه قال شيخ الإسلام ابن تيمية وابن القيم ،ومن المعاصرين محمد رشيد رضا، ومصطفى السباعي .واستدل أصحاب هذا القول بأدلة من الكتاب والسنة والإجماع والمعقول .

فأما الأدلة من كتاب الله فهي على أربعة أنواع :

النوع الأول :

الآيات التي أمر الله تعالى فيها بالسلم، وحث فيها على قبوله من الكفار حين اللجوء إليه كقوله تعالى : يا أيها الذين آمنوا ادخلوا في السلم كافة ..." [سورة البقرة 208]، وقوله : وإن جنحوا للسلم فاجنح لها وتوكل على الله [سورة الأنفال 61]، وقوله : فإن اعتزلوكم فلم يقاتلوكم، وألقوا إليكم السلم، فما جعل الله لكم عليهم سبيلاً" [ سورة النساء 90]، وقوله :” ولا تقولوا لمن ألقى إليكم السلام لست مؤمناً تبتغون عرض الحياة الدنيا” [سورة النساء 94] .

فهذه الآيات البينات، جاء فيها الأمر بقبول السلم من الكفار إذا جنحوا إليه .

النوع الثاني :

الآيات التي قيد الله فيها الأمر بقتال الكفار في حال اعتدائهم وظلمهم للمسلمين كقوله تعالى : وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم ولا تعتدوا، إن الله لا يحب المعتدين، واقتلوهم حيث ثقفتموهم، وأخرجوهم من حيث أخرجوكم، والفتنة أشد من القتل، ولا تقاتلوهم عند المسجد الحرام حتى يقاتلوكم فيه، فإن قاتلوكم فاقتلوهم كذلك جزاء الكافرين، فإن انتهوا، فإن الله غفور رحيم، وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة، ويكون الدين لله، فإن انتهوا فلا عدوان إلا على الظالمين [سورة البقرة 190-193]، وقوله : "وما لكم لا تقاتلون في سبيل الله والمستضعفين من الرجال والنساء والولدان الذين يقولون ربنا أخرجنا من هذه القرية الظالمي أهلها، واجعل لنا من لدنك ولياً واجعل لنا من لدنك نصيراً" [سورة النساء 75]، وقوله :"أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا، وإن الله على نصرهم لقدير، الذين اخرجوا من ديارهم بغير حق، إلا أن يقولوا ربنا الله" [سورة الحج 39 – 40] .

النوع الثالث :

الآيات التي أباح الله فيها صلة وبر الكفار الذين لم يقاتلونا كقوله تعالى :” لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين، ولم يخرجوكم من دياركم، أن تبروهم وتقسطوا إليهم إن الله يحب المقسطين” [سورة الممتحنة 8] .

النوع الرابع :

قوله تعالى : "لا إكراه في الدين، قد تبين الرشد من الغي .." قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله :

(جمهور السلف على أنها ليست بمنسوخة ولا مخصوصة، وإنما النص عام فلا نكره أحداً على الدين، والقتال لمن حاربنا، فإن أسلم عصم ماله ودينه، وإذا لم يكن من أهل القتال لا نقتله، ولا يقدر أحد قط أن ينقل ان رسول الله صلى الله عليه وسلم اكره أحداً على الإسلام، لا ممتنعاً ولا مقدوراً عليه، ولا فائدة في إسلام مثل هذا، لكن من اسلم قبل منه ظاهر الإسلام) (28).

أما الأدلة من السنة لأصحاب هذا القول – الذين قالوا بأن الأصل مع الكفار السلم – فكثيرة منها :

1-قول النبي صلى الله عليه وسلم :” لا تتمنوا لقاء العدو، وسلوا الله العافية، فإذا لقيتموهم فاصبروا (29) . حيث نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن الرغبة في الحرب وتمني لقاء العدو، وهذا يدل على أن حالة الحرب حالة طارئة، لا يشرع للمسلم أن يتمناها إلا إذا قامت أسبابها، وتوافرت دواعيها، كما أمر النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث بسؤال الله العافية والسلامة، فإن قدر للمسلم لقاء عدوه فالمشروع حينئذ الصبر والثبات، وكل هذا يفيد أن الأصل في العلاقة مع الكفار السلم .

2- حروب النبي صلى الله عليه وسلم التي خاضها ضد المشركين، [27 غزوة] كان المشركون فيها هم المعتدين أو المتسببين بأسباب مباشرة أو غير مباشرة، وهذا يؤكد أن الأصل مع الكفار السلم لا الحرب، ولو كان الأصل معهم الحرب لكان النبي صلى الله عليه وسلم يبدؤهم بذلك والمتواتر من سيرته صلى الله عليه وسلم أنه لم يبدأ أحداً بالقتال (30).

3- رسائل النبي صلى الله عليه وسلم إلى الملوك والأمراء، ودعوته لهم بالدخول إلى الإسلام (31)، يدل على أن الأصل السلم، ولو كان الأصل الحرب لما أرسل إليهم رسائل، وإنما بعث إليهم جيوشاً للمحاربة .- واستدلوا أيضاً بالإجماع، حيث نقل اتفاق المسلمين(32) عملاً بالثابت من السنة، انه لا يجوز قتل النساء والصبيان – وزاد الحنفية والمالكية والحنابلة ـ: الرهبان والشيوخ، والعميان والزمنى والعجزة والأجراء والفلاحين في حرثهم، إلا إذا قاتلوا أو شاركوا برأي أو إمداد، قالوا لوكان الأصل مع الكفار الحرب لحملهم على الإسلام، ما ساغ استثناء هؤلاء، واستثناؤهم برهان على أن القتال إنما هو لمن يقاتل دفعاً لعدوانه، قال شيخ الإسلام رحمه الله : (الصواب أنهم لا يقاتلون، لأن القتال هو لمن يقاتلنا، إذا أردنا إظهار دين الله فلا يباح قتلهم لمجرد الكفر) (33) .

- واستدلوا أيضاً بالمعقول : ووجهه : ان وسائل الإكراه والقهر لا يمكن أن تنجح لفرض الدين في النفوس، لأن الدين أساسه القناعة، وهو شيء قلبي، واعتقاد داخلي، وما كان كذلك فطريقه الحجة والبرهان والإقناع لا القوة والقهر قال تعالى :” ولو شاء ربك لآمن من في الأرض كلهم جميعاً، أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين [سورة يونس 99] .

وقال تعالى : لا إكراه في الدين، قد تبين الرشد من الغي [سورة البقرة 256] .

هذه أبرز أدلة أصحاب القولين، ولهم عليها مناقشات وردود، أغضيت عنها اختصاراً، والذي يمكن استنتاجه بعد هذا الاستعراض السريع لنصوص الكتاب والسنة وأقوال أهل العلم، أن الأصل في علاقة المسلمين بغيرهم هو دعوتهم إلى دين الإسلام كمرحلة أولى لا يسبقها غيرها، بل هي البوابة لتحديد نوع العلاقة (34)، لأن الأمة مخاطبة بنشر دينها وعقيدتها، فإذا ما قامت بهذا الحمل الدعوي الكبير، ودعت أمم الكفر لدين الإسلام ففي هذه الحالة ينقسم الكفار إلى أقسام ثلاثة :

القسم الأول :

من يستجيب منهم لدعوتنا، ويعتنق ديننا، فهؤلاء اخواننا لهم ما لنا، وعليهم ما علينا، قال تعالى : (( فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فإخوانكم في الدين )) {سورة التوبة ـ 11} وقال تعالى: (( فإن تابوا واقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فخلوا سبيلهم إن الله غفور رحيم)) {سورة التوبة ـ 5}.

القسم الثاني :

من لا يقبل الدخول في الإسلام، لكن لا يقف في طريق دعوته، ولا يقاتل من يدعو إليه، ويلقي الينا السلم سواء كان من أهل العهد أو لم يكن فهؤلاء الأصل في حقهم المسالمة، ما لم يعتدوا بقول أو فعل، وعلى هؤلاء تحمل الآيات التي أمر الله فيها بالسلم، وأباح فيها الإحسان للكفار كقوله تعالى :"لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين، ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم إن الله يحب المقسطين” [سورة الممتحنة 8]، وقوله :” وإن جنحوا للسلم فاجنح لها” [سورة الأنفال 61]، وقوله: "فإن اعتزلوكم، فلم يقاتلوكم، وألقوا إليكم السلم، فما جعل الله لكم عليهم سبيلاً" [سورة النساء 90] .

قال الشوكاني رحمه الله على هذه الآية : ( فإن اعتزلوكم ولم يتعرضوا لقتالكم وألقوا إليكم السلم أي استسلموا لكم وانقادوا، "فما جعل الله لكم عليهم سبيلاً” أي طريقاً، فلا يحل لكم قتلهم ولا أسرهم ولا نهب أموالهم، فهذا الاستسلام يمنع من ذلك ويحرمه)(35) .

القسم الثالث :

من يرفض الدخول في الإسلام، ويقف في طريق دعوته، أو ينقض عهداً مع المسلمين، أو يعتدي على أحد منهم بقول أو فعل، أو يخطط لذلك مستقبلاً، فهؤلاء الأصل في حقهم الحرب – وهي المرحلة التالية لدعوتهم إلى دين الإسلام – وعلى هؤلاء تحمل الآيات الواردة بقتال المشركين كقوله تعالى :"وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين لله" [سورة البقرة 193]، وقوله : "قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ..." [سورة التوبة 29]، وقوله : "واقتلوا المشركين حيث وجدتموهم" [سورة التوبة 5]، وقوله : "واقتلوهم حيث ثقفتموهم" [سورة البقرة 193] والمراد بهؤلاء الذين أمر الله بقتالهم في هاتين الآيتين كفار مكة الذين قاتلوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وصحابته وأخرجوهم منها (36)، لأنه قال بعد قوله :"واقتلوهم حيث ثقفتموهم" :"واخرجوهم من حيث أخرجوكم" فأمر الله بقتالهم أنى كانوا، لأنهم آذوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وصحابته – رضي الله عنهم-، و أخرجوهم من ديارهم، ووقفوا في طريق دعوتهم للإسلام .

قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله : (القتال هو لمن يقاتلنا، إذا أردنا إظهار دين الله، كما قال تعالى : "وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم، ولا تعتدوا، إن الله لا يحب المعتدين” [سورة البقرة 190])(37) وقال أيضا (وأما النصارى فلم يقاتل أحداً منهم حتى أرسل رسله بعد صلح الحديبية إلى جميع الملوك يدعوهم إلى الإسلام .... فدخل في الإسلام من النصارى وغيرهم من دخل فعمد النصارى بالشام فقتلوا بعض من قد أسلم، فالنصارى هم حاربوا المسلمين أولاً، وقتلوا من أسلم منهم بغياً وظلما فلما بدأ النصارى بقتل المسلمين أرسل سرية أمَّر عليها زيد بن حارثة ثم جعفر ثم ابن رواحة، وهو أول قتال قاتله المسلمون للنصارى بمؤتة من أرض الشام ،واجتمع على أصحابه خلق كثير من النصارى، واستشهد الأمراء رضي الله عنهم)(38).

وقال الإمام النووي رحمه الله : (الناس صنفان فأما الذين قاتلوا أهل الإسلام أو أجلوهم عن أوطانهم أو أعانوا على شيء من ذلك فمن الظلم المنهي عنه أن يتولاهم المسلمون، ويحسنوا إليهم، ولهؤلاء وأمثالهم شرع القتال ليفسحوا للدعوة سبيلها، وأما الذين لم يفعلوا شيئاً من ذلك فلا على المسلمين في الإحسان إليهم والبذل لهم، ولو كان هؤلاء ممن أمر بقتالهم لما ساغ ذلك، فعسى أن يكون فيه قوة لهم، مع أن إضعاف العدو بكل وسيلة من أخص ما يعنى به المحاربون) (39) .

وأما قوله تعالى : وقاتلوا المشركين كافة كما يقاتلونكم كافة [سورة التوبة 36 ] فهذا من طريق المقابلة الجماعية أمام تكتل المشركين الجماعي وهو أمر لكافة المسلمين المُقاتلين بمحاربة كافة المشركين المقاتلين .

قال ابن كثير رحمه الله على هذه الآية : (كما يجتمعون لحربكم إذا حاربوكم، فاجتمعوا أنتم أيضاً لهم إذا حاربتموهم، وقاتلوهم بنظير ما يفعلون، ويحتمل أنه أذن للمؤمنين بقتال المشركين في الشهر الحرام إذا كانت البداءة منهم) (40).

وقال ابن عطية رحمه الله : (لم يعلم قط من شرع النبي صلى الله عليه وسلم، أنه ألزم الأمة جميعاً النفر، وإنما معنى الآية الحض على قتالهم والتحزب عليهم وجمع الكلمة، ثم قيدها بقوله :” كما يقاتلونكم” فبحسب قتالهم واجتماعهم لنا يكون فرض اجتماعنا لهم) (41) .

وقال الشيخ عبد الرحمن السعدي – رحمه الله - : (قاتلوا جميعكم المشركين، فيكون فيها وجوب النفير على جميع المؤمنين، وقد نسخت على هذا الاحتمال بقوله : وما كان المؤمنون لينفروا كافة )(42).

وهذا هو رأي ابن عباس رضي الله عنهما كما ذكر ذلك ابن أبي حاتم في تفسيره 6/1803 – والبيهقي في سننه (ح17938) – وروى أبو داود في سننه في الجهاد، باب في نسخ نفير العامة بالخاصة (ح2505) – والبيهقي في سننه أيضاً، في السير، باب النفير وما يستدل به على أن الجهاد فرض على الكفاية (ح17937) – من طريق يزيد النحوي عن عكرمة عن ابن عباس قال في قوله : "إلا تنفروا يعذبكم عذاباً أليماً "[سورة التوبة 39]، وقوله : "ما كان لأهل المدينة ومن حولهم من الأعراب أن يتخلفوا عن رسول الله" [سورة التوبة 120] قال نسختها الآية التي تليها : "وما كان المؤمنون لينفروا كافة" [سورة التوبة 122] .

وبهذا التفصيل السابق تجتمع الأدلة، ويتم إعمالها جميعاً، وتُنزل النصوص في محالِّها، فأما كون الأصل الأول الذي يتحدد به نوع العلاقة، دعوتهم إلى الإسلام قبل قتالهم فهذا محل اتفاق بين أهل العلم (43) لأدلة كثيرة منها :

1- قول النبي صلى الله عليه وسلم لعلي بن أبي طالب يوم خيبر : انفذ على رسلك حتى تنزل بساحتهم، ثم ادعهم إلى الإسلام وأخبرهم بما يجب عليهم من حق الله تعالى فيه فوالله لأن يهدي الله بك رجلاً واحداً خير لك من حمر النعم" (44) .

2-كان صلى الله عليه وسلم إذا أمر أميراً على جيش أو سرية أوصاه في خاصته بتقوى الله، ومن معه من المسلمين خيراً ثم قال :اغزوا باسم الله، في سبيل الله، قاتلوا من كفر بالله، اغزوا ولا تغلوا ولا تغدروا، ولا تمثلوا، ولا تقتلوا وليداً، وإذا لقيت عدوك من المشركين، فادعهم إلى ثلاث خصال أو خلال فأيتهن ما أجابوك، فاقبل منهم، وكف عنهم، ادعهم إلى الإسلام، فإن أجابوك فاقبل منهم وكف عنهم ..."(45) .

3- قال ابن عباس رضي الله عنهما : (ما قاتل رسول الله -صلى الله عليه وسلم - قوماً قط إلا دعاهم)(46). قال الطبري : (أجمعت الحجة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -لم يقاتل أعداءه من أهل الشرك إلا بعد إظهاره الدعوة، وإقامة الحجة، وأنه صلى الله عليه وسلم كان يأمر أمراء السرايا بدعوة من لم تبلغه الدعوة)(47) . ومعنى هذا أن دعوة الكفار إلى الإسلام قبل قتالهم أمر واجب إن كانت دعوة الإسلام لم تبلغهم، ومستحبه إن تكن قد بلغتهم، هذا إذا كان المسلمون هم الذين قصدوا الكفار في ديارهم، أما إذا كان الكفار هم الذين قصدوا المسلمين ففي هذه الحالة للمسلمين أن يقاتلوهم من غير دعوة، لأنهم بذلك يدافعون عن أنفسهم وحريمهم .(48).

وإلى هنا انتهى المقصود – باقتضاب شديد – والله أعلم .

(1) أخرجه مسلم في صحيحه 5/139، والترمذي (ح 1617)، وابن ماجه (ح2858) من حديث سليمان بن بريدة عن أبيه .

(2) أخرجه مالك في الموطأ، في الجهاد، النهي عن قتل النساء والولدان في الغزو (ح1292) عن يحيى بن سعيد مرسلا.

(3) حقوق غير المسلمين في بلاد الإسلام، للعايد ص 6 – نقلاً عن قصة الحضارة 13/131.

(4) معاملة غير المسلمين في الإسلام 1/256 – إعداد : المجمع الملكي لبحوث الحضارة الإسلامية – الأردن .

(5) مستشرق فرنسي، كان يدرس اللغات الشرقية في باريس، له العديد من المقالات عن جغرافية البلدان الإسلامية، وألف كتاباً اسمه :"تاريخ فلاسفة المسلمين وفقهائهم". انظر : الأعلام للزركلي 5/120 .

(6) ينظر : هداية المرشدين، لعلي محفوظ ص 531، ومنهج الداعية في دعوته لغير المسلمين، لأسماء الوهيبي ص 13 .

(7) الحسبة في الإسلام، لشيخ الإسلام ابن تيمية ص 13 .

(8) أخرجه مسلم في صحيحه، في السلام، باب النهي عن ابتداء أهل الكتاب بالسلام (ح2167) – من حديث أبي هريرة .

(9) أخرجه البخاري في صحيحه في الأدب، باب 35- ومسلم في صحيحه في السلام (ح10) – من حديث عائشة .

(10) أخرجه مسلم في صحيحه في البر والصلة (ح87) – من حديث أبي هريرة .

(11) أخرجه البخاري في صحيحه، في المغازي، باب قصة دوس والطفيل بن عمرو (ح4392) ، ومسلم في صحيحه في فضائل الصحابة (ح2524) – من حديث أبي هريرة .

(12) أخرجه مسلم في صحيحه في السلام، باب النهي عن ابتداء أهل الكتاب بالسلام (ح2167) – من حديث أبي هريرة .

(13) فتح البارىء 11/40 .

(14) انظر : تفسير الطبري 25/63 .

(15) تفسير ابن كثير 4/136 .

(16) ص 533 .

(17) يراجع في تفاصيل ذلك : الولاء والبراء في الإسلام / للقحطاني . والموالاة والمعاداة في الشريعة الإسلامية / للجلعود . والاستعانة بغير المسلمين ص 51 – 86، وفقه الاحتساب على غير المسلمين ص 33 – 36 كلاهما للدكتور عبد الله الطريقي .

(18) ويراجع في تفسير الآية : تفسير ابن كثير 1/538 .

(19) زاد المعاد 3/158- 161 .

(20) الذمة : بمعنى العهد والأمان والضمان والحرمة والحق . ومثلها : الذمام . ( انظر : النهاية في غريب الحديث 2/168 ) .

(21) على أنه ينبغي أن يعلم بأنه لا يجوز عند الفقهاء عقد معاهدة أبدية، انظر أحكام المعاهدات في الفقه الإسلامي، دراسة مقارنة د / إسماعيل العيساوي .

(22) يجوز عند المالكية والحنفية عقد الذمة مع جميع أصناف الكفار واستثنى الحنفية منهم عبدة الأوثان من العرب، انظر حاشية الدسوقي للدردير 2/206، شرح السير الكبير للسرخسي 5/1692، الموسوعة الفقهية – مصطلحات أهل الذمة - .

(23) ينظر : مجموع الفتاوى لابن تيمية 28/414، وفقه الاحتساب على غير المسلمين ص 4 – 5 – 14 – 15 .

(24) انظر : كشاف القناع 3/28، 32 – 36، فتح القدير لابن الهمام 4/277-282، البدائع للكاساني 7/100، مغني المحتاج للشربيني 4/2-9 – 219، اللباب في شرح الكتاب للميداني 4/115، معاملة غير المسلمين في الإسلام 1/249 .

(25) الناسخ والمنسوخ في القرآن لابن خزيمة ص 264، والناسخ والمنسوخ لابن حزم 2/179، والناسخ والمنسوخ للنحاس ص 264، وتفسير المنار 10/199 .

(26) أخرجه أحمد (ح5115)، وابن أبي شيبة 5/313، والبيهقي في الشعب (ح1199) – من حديث ابن عمر، وإسناده ضعيف لأنه من رواية عبد الرحمن بن ثابت بن ثوبان وهو ضعيف .

(27) أخرجه البخاري في صحيحه في الاعتصام بالكتاب والسنة (ح7284)، ومسلم في الإيمان (ح20 – 21) – من حديث أبي هريرة .

(28) السياسة الشرعية ص 123 – 125 .

(29) أخرجه البخاري في صحيحه، في الجهاد (ح2966)، ومسلم في صحيحه في الجهاد (ح1741) – من حديث أبي هريرة .

(30) انظر : رسالة القتال لابن تيمية ص 125 .

(31) كهرقل وكسرى والمقوقس والمنذر بن ساوى وملك عمان وصاحب اليمامة هوذة بن علي والحارث الغساني وغيرهم من ملوك وأمراء المناطق انظر : نصوص هذه الرسائل في صحيح مسلم بشرح النووي 12/103، 111 زاد المعاد3/688ـ697، وحياة الصحابة للكاندهلوي 1 / 31، 124 .

(32) انظر مجموع فتاوى ابن تيمية 28/ 414، ومراتب الإجماع لابن حزم ص 201.

(33) السياسة الشرعية ص 123 .

(34) ويرى بعض الباحثين المعاصرين أنه لا يسوغ طرح هذه المسألة على أن العلاقة مع الكفار سلم أو حرب، لأن فيه إيهاماً يؤدي إلى اللبس في شأن هذه العلاقة هل هي قبل تبليغ الدعوة ورفض الاستجابة أو بعد ذلك، لأن الفرق بينهما مختلف . انظر : أحكام المعاهدات في الفقه الإسلامي للعيساوي ص 50 – 51، والجهاد والقتال في السياسة الشرعية 1/828 – رسالة دكتوراه، د محمد خير هيكل .

(35) فتح القدير 1/742 .

(36) تفسير الطبرى 2/109، تفسير ابن عطية 8/132، تفسير البغوي 1/162 .

(37) الفتاوى 28/354 .

(38) رسالة القتال لابن تيمية ص 125 .

(39) شرح مسلم 1/98 – 99 .

(40) تفسير ابن كثير 2/469 .

(41) المحرر الوجيز 8/178 .

(42) تفسير السعدي 2/244 .

(43) انظر : المبسوط 10/3، البحر الرائق 5/81، حاشية ابن عابدين 4/128، المغني 9/172-173، كشاف القناع 3/40، مطالب أولي النهى 2/509، روضة الطالبين 9/259، الفواكه الدواني 1/396، شرح صحيح مسلم للنووي 1/197 – 12/36، سبل السلام 4/45، الموسوعة الفقهية 16/143، موسوعة الإجماع لابن تيمية ص 340 .

(44) البخاري (ح3701)، ومسلم (ح2406)، وأحمد 5/333– من حديث سهل بن سعد .

(45) أخرجه مسلم في صحيحه 5/139، والترمذي (ح1617)، وابن ماجه (ح2858) – من حديث سليمان بن بريدة عن أبيه .

(46) أخرجه أحمد (ح2105)، والدارمي (ح2444)، وأبو يعلى (ح2591) – من طريق ابن أبي نجيح عن أبيه عن ابن عباس، وسنده صحيح .

(47) اختلاف الفقهاء ص 2 .

(48) انظر : أحكام أهل الذمة لابن القيم 1/5 .

=============

#المخاوف الأمريكية من الإسلام السياسي

علي البلاونة 7/10/1425

20/11/2004

نشرت مجلة تايم الأمريكية في 20/9/2004 تحقيقا صحفياً مطولاً عن بوادر نشوب حرب وصراعات قوى داخل الدين الإسلامي، وعبر مكوناته التنظيمية، وقالت إن مستقبل الإسلام السياسي، يدور الآن بين فكي النزاع الذي يقوده المتطرفون والراديكاليون من جهة وبين المعتدلين من جهة أخرى، وقالت: إن أحداث 11 أيلول أحدثت مزيداً من الانقسام والصراع بين الطرفين، وبخاصة فيما يتعلق بعلاقة الدين الإسلامي بالغرب، وهي علاقة برأيينا تشهد بالطبع انقساماً وتضاداً واضحاً على خلفيات سياسية، استغل فيها العامل الديني استغلالاً متميزاً، لدرجة تم فيها استنزاف القوى الإسلامية، لمستوى الانفعال والتفاعل مع الحدث، في إطار مجموعة الفواعل والمصالح الأمريكية في العالم الخارجي، ونعتقد أن الولايات المتحدة وفي الفترة الممتدة من 1979 ولغاية 1990 -أي قبل غروب الاتحاد السوفيتي- أسهمت في صيرورة الإسلام السلفي الجهادي عبر البوابة الأفغانية، وهي التي تنكره اليوم وتحاربه بقوة كما توضحه مجلة التايم.

وكشفت التايم عن إن الحرب والصراع لم يكن ناجماً عن أحداث 11 أيلول الأمريكية، و إنما أسهمت هذه الاحداث في ظهوره إلى العلن، وكشف المستور في داخل الدين الإسلامي ، الذي اعتبرته انعكاساً لحالة التناقض في الجوانب الفكرية والتنظيمية وفي مسألة بناء الدولة، ويذهب المحلل السياسي (ميكائيل دوران) إلى أن الحرب بين قوى الاعتدال والتطرف يمكن وصفها بأنها أشبه ما تكون بنزاعات داخلية حادة، قد يكون لها آثارها العنيفة والمدمرة على العالم الإسلامي مستقبلاً، الأمر الذي قد يدفع الآباء للوقوف في وجه أبنائهم الذين اعتنقوا الأفكار السلفية المتطرفة.

هذه المخاوف تتعزز في ضوء الصورة التي يحاول أن يرسمها الغرب عموماً عن الإسلام مختزلاً الحضارة الإسلامية في مجموعة من الأحداث غير الناضجة والمفصولة عن السياق العام للسلوك الحضاري والإنساني للإسلام، والتي جاءت بشكل فج بسبب مجموعة الظروف المختلفة التي وضع أو مرّ بها العالم الإسلامي، والناجمة عن سلسلة من الضغوط الخارجية والداخلية أيضاً.

وتضيف التايم في تحقيقها الى أن نسبة المتطرفين في العالم الإسلامي ازدادت بعد احداث 11 ايلول الأمريكية، فالحرب على الإرهاب واحتلال أفغانستان والعراق، وما يتعرض له الفلسطينيون من دمار وقتل يومي، اذكيا نار التطرف والعنف (الجهاد) لدى الحركات الإسلامية، حيث ترى هذه الجماعات أن الإسلام أصبح مستهدفاً ويتعرض للهجوم، فيما يرى المعتدلون أن احتلال العراق وما حدث في سجن أبو غريب جعل جهودهم في الدعوة إلى الاعتدال والانفتاح ونبذ العنف وقيم التطرف مجرد صرخة في الهواء.

ولعل أحداث عدة تكشف عن حالة التناقض الغربي حيال العالم الإسلامي، ويجعل من طروحاتهم بضرورة تبني القيم الديمقراطية والانفتاح الليبرالي الفاقدة للظروف الموضوعية، عملاً بيزنطياً وخضاً للماء، حيث جاءت النداءات الأمريكية بإقامة الحرية والديمقراطية في العراق مخيبة للآمال، ومؤكدة في الوقت ذاته أن الغرب مازال يجهل أو يتجاهل كيفية التعامل مع العالم الإسلامي وقواه الحية.

"الديلي تلغراف" الصحيفة البريطانية الواسعة الانتشار والتي ساندت الحرب على العراق تكشف النقاب وفي 23/10/2004 عن أبرز معالم التناقض الغربي حيال العالم الإسلامي، في بعض مظاهرها الحديثة الطابع، فقد كشفت الصحيفة النقاب وعلى لسان ضابط أمريكي عن أن شخصية الزرقاوي قد جرى تضخيمها واستخدامها كإطار ومبرر للإعمال الأمريكية الوحشية، وأن شخصية الزرقاوي كانت مجرد أكذوبة تم تصنيعها لتؤدي دورين محوريين داخلي وخارجي، إذ إن السياسة الأمريكية بحاجة دائماً لمطاردة شرير!. وأضاف: "كنا ندفع لرجال العصابات والمجرمين عشرات الآلاف من الدولارات للقيام بأعمال وحشية ضد مدنيين، ومن ثم لصق هذه الأعمال بالزرقاوي، لقد كنا نخشى الرأي العام وما زلنا لا نستطيع الاعتراف بقوة المقاومة العراقية، إلا أننا بمستطاعنا الاعتراف بقوة شخصية مجرمة لتبرر لنا أمام الرأي العام أية أخطاء نقترفها".

إذًا هناك قصدية وراء مجموعة الأفعال المشينة والتي يرفضها الإسلام، غير أن الهدف من هذا الربط بين هذه الأعمال والإسلام هو مسخ لصورة الإسلام السمحة لدى الرأي العام الغربي، وتأسيس دوافع للعداء بين الطرفين، وهذا العمل من شأنه مضاعفة قيم التطرف والعنف والتقاطع مع المشروع الغربي الأمريكي، الأمر الذي يجعلنا نؤكد ما ذهب البعض إليه من ظاهرة الإسلام فوبيا ظاهرة تم إنتاجها في مجمعات المعلومات والمختبرات السياسية لخدمة الأهداف والمصالح البعيدة والاستراتيجية.

هذا المنطق جرى التفكير فيه عقب تصاعد المد الإسلامي في المجتمع الأوروبي من ناحية، واعتراف العديد من الأوروبيين بصحة المنهجية الإسلامية الإنسانية والعلمية، وكانت ظاهرة الإسلام فوبيا ليست الخوف من الظاهرة الجهادية في الإسلام أو الأصولية الإسلامية، و إنما كان الخوف الحقيقي من جاذبية الإسلام في الأوسط الأوروبية حتى بعد أحداث 11 أيلول 2001 والتي شكلت لدى البعض منهم تحولاً داخلياً إيجابياً نحو حقيقية الإسلام على عكس الهدف الحقيقي للرسالة السياسية للحدث. ومن ناحية أخرى يرى بعض المحللين أن السياسة الخارجية الأمريكية وتحديداً باتجاه العالمين العربي والإسلامي تتحرك في إطار الأجندة الإسرائيلية.

وفي تقرير المعهد الدولي للدراسات الاستراتيجية ( iiss ) عن العام 2004 – 2005 قد كشف التقرير جملة من التناقضات الأمريكية حيث أشار إلى ما يلي:

إن الحرب على الإرهاب ضاعفت من نشاط تنظيم القاعدة، وبخاصة قيادات الدرجة الثانية، والتي عملت على ما بوسعها لاستخدام كافة والوسائل للتمويه وحرية الحركة والفعل والتأثير، وقد أصبحت القاعدة منتشرة في 60 دولة من العالم.

إن الحرب على العراق فاقمت من مخاطر الإرهاب على العالم الغربي، حيث أصبحت المصالح الغربية عرضة للتهديد المباشر، الأمر الذي يؤثر على الاستقرار السياسي والاقتصادي والأمني لهذه الدول.

إن احتلال العراق أوجد دافعاً حقيقياً لقوى التطرف الإسلامي للتنامي والظهور والبروز بمظهر المدافع عن الإسلام والثروة، والعمل على طرد الاحتلال الأجنبي، وكلها أهداف مشروعة بنظر الشارع العربي والإسلامي.

إن تنامي الظاهرة الأصولية في العالم العربي والإسلامي عموماً ناجم عن المعايير المزدوجة التي تتعامل بها السياسات الأمريكية والغربية مع العالم الإسلامي.

ويقول التقرير: إن تنظيم القاعدة يحاول العمل على تطهير العالم العربي والإسلامي من الهيمنة الأمريكية، فقد عزز الاحتلال الأمريكي في العراق من منطق القاعدة، وجعلها أكثر قدرة على التحرك وكسب أعضاء جدد وتجنيدهم في خدمتها.

إذًا وعلى الرغم من المبررات التي تساق في مجال محاربة ومكافحة الإرهاب، والعمل على تجفيف منابع التطرف والأصولية في العالم وتحديداً العربي والإسلامي، بحاجة لإعادة النظر، كون التطرف والإرهاب ليس إسلامياً فقط، وإنما هناك إرهاب إسرائيلي وأمريكي، يتجاوز القانون الدولي والأخلاقيات الدولية والإنسانية، كما وأن هذه المبررات تعمل و بطريقة ما -وعلى المدى الاستراتيجي- على استنزاف عقل الأمة الاستراتيجي، ودفعه نحو مزيد من الانفعال والعنف والتطرف كوسيلة وخيار متاح وبديل للغة حوار المصالح المتبادلة بين الطرفين.

هذه الصورة النمطية عن العالم العربي والإسلامي وعن الإسلام على الخصوص لم تأت من فراغ، بل جرى ويجري التأسيس والتعبئة الدائمة لها في الذهنية الغربية اليمينية، بشكل يومي وشحنها بمزيد من الطرف والصور والنماذج، ونسيان النموذج الحضاري الإسلامي بتعمد واضح، والعمل على تهميش دوره، الأمر الذي يسهم في ايجاد البيئة والبنية التحتية لانتعاش الظاهرة الأصولية المتطرفة، والتي تعتقد بأهمية إفشال المشروع الغربي في المنطقة من خلال استهداف رموزه أو مصالحه ، واستنزافه في معارك مختلفة.

إن ابن لادن والزرقاوي لا يعبران عن حضارة الأمة الإسلامية، ويجعل الغرب من الاستثناء القاعدة للحكم والقياس والتصرف، وكذلك فإن رامسفيلد وكوندليزا رايس وبوش لا يعبّرون عن الشعب الأمريكي، ولكنهما بالطبع إفرازات اجتماعية سياسية، بحاجة للقراءة والتحليل لبيان أسباب ظهور مثل هذه النماذج وسيطرتها وتأثيرها على الرأي العام.

المطلوب منا البحث عن أدوات جديدة لخطاب سياسي وثقافي حضاري وعقلاني يكون مؤهلاً وقادراً على مخاطبة الرأي العام الغربي والأمريكي؛ فهناك متسع وهامش للحوار والتأثير في العقل السياسي الأمريكي، ونعتقد أن ثمة تحولات إيجابية رافقت أحداث 11 أيلول لدى قاعدة واسعة من الأمريكيين، وبخاصة من هم على صلة بالواقع العربي والإسلامي، الذي دفعهم للتفكير المنطقي بضرورة إعادة النظر في سياسات بلادهم حيال العالم الإسلامي تحديداً، وهي قوى بحاجة للدعم والمساندة.

إن هذا الرأي ينطق به باحثون أمريكيون تجولوا في عدد من الدول العربية؛ حيث تعتقد هذه الشخصيات أن حركة الإخوان المسلمين هي من الحركات المعتدلة، وإنها تنتظم في إطار مجموعة القوانين ولديها القدرة والقابلية للحوار والمساهمة والمشاركة الديمقراطية، وإنها تؤمن بالحق في الاختلاف، وإن كان لها رأي متطرف إزاء السياسات الأمريكية، إلا أنها عبّرت عن أن الضغط المتزايد على خزان الإخوان سيؤدي إلى إنعاش القاعدة السلفية التي تمتد وتنتشر بسرعة كبيرة، ولكنها ليست منتظمة أو مشروعة التنظيم وفيها نفس راديكالي، يمكن أن يكون مستقبلاً مشروعاً لتنظيم إرهابي، وأكد الباحثون على أن الرؤية الأمريكية للعالم الإسلامي فيها جانب كبير من القصور كونها رؤية كانت تمر عبر البوابة الإسرائيلية فقط.

اليوم، هناك دراسات أمريكية ميدانية اكتشفت العالم الإسلامي على حقيقته، وكشفت النقاب عن زيف الصورة التي كان الأمريكيون يتصورونها عن هذا العالم ، غير أنهم أنحوا باللائمة على المثقفين العرب الذين وجدوا في المشجب الأمريكي مكاناً مناسباً لتبرير عجزهم عن الفعل والتأثير في المجتمع الأمريكي ونخبه، وتركوا المجال للآخر لقيوم بعملية ملء الفراغ، وبما يتناسب ومصالحه. وعلقوا أيضاً على الخطب المنبرية في المساجد والتي تدعو إلى انكسار أمريكا وتراجعها بالقول: إن المنطق العلمي يؤكد بأن الفعل الكلامي غير المقرون بالعمل دلالة عجز، وليس دلالة إيمان، بالرغم من أن القران الكريم ينادي بضرورة وأهمية الحوار والجدال بالتي هي أحسن ، كأسلوب حضاري في التعامل مع الآخر.

===============

#التربية على حقوق الإنسان

عبدالله محمد السهلي 2/6/1427

28/06/2006

لقد كرم الله الإنسان, واصطفاه على سائر خلقه, وجعله سيدًا في الأرض وأمده بالوحي السماوي: (وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً). [الإسراء:70]. والإنسان يُعدّ من القضايا الكبرى في أي فلسفة تربوية، بل هو قطب رحاها وحجر الزاوية فيها. وإذا كانت التربية أداة التغيير، والانتقال بالإنسان إلى المثل العليا فإن العلاقة بينها وبينه علاقة دائرية، فالإنسان ينتج التربية ويتأثر بها في الوقت نفسه. والتربية نمط حضاري تعكس غاية المجتمع من أبنائه؛ لذا فهي الأداة الاجتماعية المحققة للانسجام والترابط بين أفراد المجتمع، وحين تُصاب التربية باضطراب وعدم وضوح، فإنها تنعكس على النشء متمثلاً في اضطراب ثقافته، وضعف انتمائه واستلابه ثقافياً؛ مما يؤثر سلباً في حركة البناء الحضاري (1)

وقد تنامى في العقدين الأخيرين الحديث عن قضية حقوق الإنسان، وارتبطت مبادئ حقوق الإنسان والدفاع عنها في العصر الحديث بالغرب الذي أصبح مرجعاً للحقوق الإنسانية، وقد ساهم الاستعمار في تأطير النظرية الغربية للمفاهيم المكونة للحقوق الأساسية للإنسان، ثم ظهرت العولمة امتداداً للاستعمار الثقافي من خلال أوعيتها الإعلامية النافذة إلى قلب العالم الإسلامي، والتي تسعى إلى قولبة الشعوب على النمط الغربي، فكانت الوسيلة المُثلى لتسويق حقوق الإنسان.

إن التطوّر التاريخي لفكرة حقوق الإنسان يؤكد على تحقيق الأهداف والقيم الغربية، والتي ترتبط بالخبرة التاريخية لسياق حضاري معين، فالانطلاق الفعلي لفكرة حقوق الإنسان جاء مع الثورة الفرنسية، وهدف إلى التخلص من استبداد الملوك، وتزامن مع كتابات مفكري تيار الإصلاح الديني البروتستانتي في أوروبا والتي سعت لإزالة سلطان الكنيسة وكتابات الوضعيين، وهي التي أكدت على فكرة المجتمع المدني وكون الإنسان ذا حقوق طبيعية لا إلهية، "فالطبيعي" يحل محل "الإلهي" أو "الوحي".(2) مما يعني أن مفهوم حقوق الإنسان هو تركيز للقيم والمبادئ التي انتهى إليها الفكر الأوروبي والرأسمالي في تطوره التاريخي (3)، كما أنه نموذج للمفاهيم التي يحاول الغرب فرض عالميتها على الشعوب الأخرى في إطار محاولته فرض سيطرته ومصالحه القومية.

وخلاصة ما سبق فإن قضية حقوق الإنسان من وجهة النظر الغربية مرتبطة ارتباطاً وثيقًا بالنظرية الرأسمالية الغربية وبالإرث الكنسي البروتستانتي متدثرةً بعباءة البرجماتية الذرائعية، وبالتالي خطورة تعميمها أو الانخداع بها في ظل ضغط الواقع المعيش في بعض الأقطار الإسلامية, الأمر الذي ينتج نوعًا من الصراع الثقافي وغياب الهوية الإسلامية وازدواج المعايير، مما يولد أجيالاً شوهاء بعيدة عن مصدر عزتها، مغيبة عن هويتها الإسلامية. الأمر الذي استحث عدداً من المفكرين والكتاب المسلمين للكتابة في هذا الموضوع وإبراز موضوع حقوق الإنسان في الإسلام ومقارنتها بالفكر الغربي, إلاّ أن هذه الكتابات كانت في المجال الحقوقي والفكر السياسي والتشريع الإسلامي ومقارنته بالقانون الوضعي. وعلى الرغم من أهمية التربية في حياة الأمة؛ إذ هي التعبير الصريح عن عقيدتها وفلسفتها تنعكس من خلالها تصوراتها وأهدافها من الإنسان، وتعكف على تحقيق غايتها منه، وعلى الرغم من أهمية دراسة هذا الموضوع من الجانب التربوي ( ) لمسيس الحاجة إلى إبراز القواعد والأسس التربوية التي يُبنى عليها موضوع حقوق الإنسان في الإسلام وارتباطها بمقاصد الشريعة الإسلامية، وتوضيح اختلافها، ومباينتها للفكر والتصور الغربي للموضوع، على الرغم من هذا كله لا نجد إلاّ عدداً يسيراً من الدراسات التربوية تناولت هذا الموضوع، وهذا اليسير من الدراسات - مقارنة بحجم القضية وزخمها العالمي- تنطلق من حقوق الإنسان بتقنينها الغربي، وقد جاءت في مجملها محاولات باهتة غايتها صب الأفكار الإسلامية في أطر وقوالب غربية بعيدة عن التأصيل التربوي الإسلامي الذي يعكس جوهر المنظومة القيمية الإسلامية متجاهلةً اختلاف و تباين الأنساق المعرفية بين النموذج الغربي والنموذج الإسلامي(4)، ذلك أن هذه الممارسات والتطبيقات مرتبطة ـ بوصفها نظامًا فكريًا محدداً ـ بمنظومة الأفكار والمفهومات التي تقوم عليها, والمناداة بتسويق هذه التطبيقات والممارسات في بلاد المسلمين، يعني تقبل هذا الوعاء الفكري الذي تقوم عليه. في ظل غياب إطار مرجعي تربوي يوضّح المبادئ والأسس النظرية للتربية الإسلامية على حقوق الإنسان، ويُجلّي أهدافها ومصادرها وطرقها وخصائصها المميزة لها.

وقد انبنت مضامين الحقوق المعتمدة حالياً على مرجعيات فلسفية يمكن العودة بأصولها إلى عصر النهضة الأوروبي الذي أعلى من شأن الإنسان الفرد واعتبره غاية في حد ذاته، وأسمى الكائنات جميعها. ومع تنامي الطبقة البرجوازية، وفي خضم مواجهتها للكنيسة ونظام الإقطاع وحقوق الملوك الإلهية، تبلورت نظرية "الحق الطبيعي" والتي تعني "أن للإنسان حقوقاً يحميها القانون الطبيعي، وُلدت معه، وهي لصيقة به، ولا يملك حتى الإله ذاته أن يغيرها، وهذا يترتب عنه التزام القوانين الوضعية بها، ويعتبر فلاسفة القرنين السابع عشر والثامن عشر "حرية الأفراد ومساواتهم" هي أصل الحقوق الطبيعية كلها. وهي حقوق تجد مرجعيتها العقلية وعالميتها وشموليتها في القول بـ"حالة الطبيعة" للإنسان، على اعتبار أن هذا الأخير يشكل جزءاً لا يتجزأ من الطبيعة ويخضع لقوانينها، ولكي يحافظ الأفراد على حقوقهم الطبيعية ضمن الاجتماع الإنساني فإن فلاسفة أوروبا الحديثة أقروا ما يسمى بـ"العقد الاجتماعي"، وهو ميثاق يتنازل بموجبه الأفراد عن سيادتهم وحريتهم للحاكم، من أجل تحقيق السلم والأمن بينهم، أما (جان جاك روسو) (1712-1778) الذي يُعدّ أكثر فلاسفة أوروبا الحديثة تقريراً لفرضية العقد الاجتماعي، فهو يرى أن: "الإنسان بطبعه لا يستطيع أن يعيش بمفرده، بل لا بد من اجتماعه مع غيره من بني جنسه، ولمّا كانت إرادتهم تختلف وتتضارب، فإن اجتماعهم لا يستقيم له حال إلاّ إذا كان مبنياً على "تعاقد" في ما بينهم يتنازل بموجبه كل واحد منهم عن حقوقه كافة للجماعة التي ينتمي إليها، والتي تجسمها الدولة كشخص اعتباري ينوب عن الناس في تنظيم ممارستهم لحقوقهم، وبذلك تتحول تلك "الحقوق الطبيعية" إلى "حقوق مدنية": وتبقى الحرية والمساواة هما جوهر هذه الحقوق" (5) .

لقد كانت أفكار ومضامين نظرية الحق الطبيعي وفلسفة العقد الاجتماعي من بين الدواعي الرئيسية لإقرار "إعلان حقوق الإنسان والمواطن" خلال الثورة الفرنسية لسنة 1789. فهذا الأخير نص "على أن الناس يولدون أحراراً ويظلون أحراراً متساوين قانوناً (المادة الأولى)، وألاّ تُفرض حدود الحريات إلا بقانون (المادة الرابعة)، وأن السيادة للأمة (المادة الثانية)، وأن القانون هو التعبير عن الإرادة العامة (المادة السادسة)" هذه المبادئ الأساسية، والأفكار بما عرفته من تحليلات وتعثرات وانتقادات ونجاحات أو إخفاقات على مستوى التطبيق، وإضافات كانت الموجه الأساس والإطار العام الذي اعتمده واضعو "الإعلان العالمي لحقوق الإنسان" 1948 والاتفاقيات الدولية التي جاءت بعهده(6).

وإذا كانت بعض الكتابات الغربية تحاول تأكيد هذه "العالمية" للمفهوم، فإن دراسات أخرى، خاصة في إطار علم الأنثروبولوجيا، تؤكد على نسبية المفهوم وحدوده الثقافية مؤكدة أهمية النظر في رؤية حضارات أخرى للإنسان وحقوقه، انطلاقًا من الفلسفة التي تسود الدراسات الأنثروبولوجية الحديثة، وهي التأكيد على التباين والتعددية في الثقافات والخصوصيات الحضارية لكل منطقة. (7)وقد أدّى هذا الاختلاف إلى هجوم بعض الكتابات الغربية على الإسلام واتهامه بأنه هو العدو والتحدي الحقيقي لحقوق الإنسان بمفهومها "العلماني" و"العالمي"، فهذه الكتابات لم تدرك اختلاف المفاهيم الإسلامية عن غيرها، ومرجعيتها المتميزة نتيجة ارتباطها بالشرع، وبحث أصحابها عن مفهوم "حقوق الإنسان" بعناصره الغربية ولفظه اللغوي فلم يجدوه، وغفلوا عن خصوصية اللغة وخصوصية الرؤية الإسلامية للإنسان وحقوقه، فالإسلام قد بالغ في رعايته حقوق الإنسان إلى الحد الذي جعلها في نظره ضرورات، ومن ثَمَّ أدخلها في إطار الواجبات، فالمأكل والملبس والمسكن والأمن وحرية الفكر والاعتقاد والتعبير والمشاركة في صياغة النظام العام للمجتمع ومحاسبة أولي الأمر، كل هذه أمور نظر إليها الإسلام لا باعتبارها فقط حقوقًا للإنسان "يمكن" السعي للحصول عليها والمطالبة بها، بل هي ضرورات واجبة للإنسان، والمحافظة عليها هي محافظة على ضرورات وجوده التي هي مقاصد الشرع، فضلاً عن حفظ حاجيَّات هذا الوجود بوضع أحكام العلاقات الإنسانية في سائر المعاملات، وأخيرًا، حفظ تحسينيات الوجود الإنساني من مكارم الأخلاق ومحاسن العادات (8).

إن منطلق حقوق الإنسان في الخطاب الغربي هو الحق الطبيعي المرتبط بذاتية الإنسان من الناحية الطبيعية - بغض النظر عن الفكر والمنهج - بينما الحق الشرعي للإنسان في الإسلام يستند إلى التكريم الإلهي، ويرتبط بمفاهيم الأمانة والاستخلاف والعبودية لله وعمارة الأرض، ولا ينفصل عن حقوق الله لارتباطه بالشريعة التي تنظمه، وهو ما يجعله غير قابل للإسقاط بعقد أو صلح أو إبراء، فحقوق الإنسان الشرعية ليس من حق الفرد أو الجماعة التنازل عنها أو عن بعضها، وإنما هي ضرورات إنسانية توجب الشريعة الحفاظ عليها من قبل الدولة والجماعة والفرد، فإذا قصَّرت الدولة وجب على الأمة أفرادًا وجماعات تحملها؛ لذا كان مدخل "الواجب الشرعي" في الرؤية الإسلامية هو المدخل الأصح لفهم نظرة الإسلام للإنسان ومكانته وحقوقه، خاصة السياسي منها، تحقيقًا للمنهج الذي يربط بين الدراسة الاجتماعية السياسية والمفاهيم الشرعية من أجل بلورة رؤية إسلامية معاً (9).

وفي ظل غياب أو- تغيب -الوعي الإسلامي خلال القرنين الماضيين وتخلّف المسلمين, وتقهقر الحضارة الإسلامية, وفرض الفكر الأجنبي والغزو الثقافي والقوانين المستوردة التي جاء بها المستعمر. اختل وضع الإنسان, وظهرت انتهاكات الحقوق, وتنادى العلماء والدعاة والمصلحون لبيان تكريم الله للإنسان, وأن مقاصد الشريعة المقررة أساسًا هي المنطلق الرئيس لإنسانية الإنسان, مما يحتم أولاً العودة إلى حظيرة الدين, لينعم الإنسان بظلال الشريعة الوارفة, ويمارس عمليًا حقوق الإنسان ويطبقها فعلاً وليس دعاية أو شعارًا(10).

ولهذا فإن من الأهمية بمكان بحث هذا الأمر وتأصيله شرعيًا وتربويًا، ولذا لابد من تقرير أن من أهم أهداف الشريعة الإسلامية هو "تحرير الإنسان ورفع شأنه وتوفير أسباب العزة والشرف والكرامة له(11). كما أن من أهداف التربية الإسلامية المتعلقة بهذا المجال "مساعدة الإنسان المسلم، وفهم معنى وأبعاد الكرامة التي قررها القرآن الكريم, وتبصير الإنسان المسلم بضرورة احترام الحقوق العامة التي كفلها الإسلام وشرع حمايتها حفاظًا على الأمن وتحقيقًا لاستقرار المجتمع المسلم في الدين والنفس والنسل والعقل والمال"(12). كما أن العدل والإحسان في علاقة الإنسان بالإنسان يحققان شعار فلسفة التربية الإسلامية" بقاء النوع البشري ورقيّه "(13) وقد أولت التربية الإسلامية اهتماماً بالإنسان وتحديد حقيقته ، ووجوده وغايته.،... ومنهجه الذي يجب أن يكون عليه في حياته لتحديد ما ينبغي أن تكون عليه تلك الحياة من أنماط معرفية وسلوكية واجتماعية تحقق له الخير والسعادة"(14)

ولعلي في ختام هذه المقالة أبرز بعض النقاط التي تؤكد أهمية التربية على حقوق الإنسان:

1. نظراً لأهمية التربية في حياة الأمة إذ هي التعبير الصريح عن عقيدتها وفلسفتها تنعكس من خلالها تصوراتها وأهدافها من الإنسان وتعكف على تحقيق غايتها منه.

2. إن أولى المختصين بالحديث والاهتمام بحقوق الإنسان، وتأصيلها هم التربويون ذلك أن التربية صنعة مادتها وخامتها الأولى الإنسان وغايتها بناؤه.

3. عدم وجود إطار مرجعي تربوي يوضح المبادئ والأسس النظرية للتربية الإسلامية على حقوق الإنسان، ويجلّي أهدافها ومصادرها وطرقها وخصائصها المميزة لها.

4. ندرة الدراسات التربوية التي تناولت هذا الموضوع - مقارنة بحجم القضية وزخمها العالمي- وهذه الدراسات تنطلق من حقوق الإنسان بتقنينها الغربي، وقد جاءت في مجملها محاولات باهتة، غايتها نقل التطبيقات والممارسات، و صبّ الأفكار الإسلامية في أطر وقوالب غربية بعيدة عن التأصيل التربوي الإسلامي الذي يعكس جوهر المنظومة القيمية الإسلامية متجاهلةً اختلاف و تباين الأنساق المعرفية بين النموذج الغربي والنموذج الإسلامي.

5. استجابةً لتوصيات منظمة المؤتمر الإسلامي، وبرنامجها العشري في قمتها الاستثنائية الثالثة المنعقدة في مكة المكرمة في الفترة 5 - 6 ذو القعدة 1426هـ والمتضمنة الدعوة لوضع ميثاق إسلامي لحقوق الإنسان، وتدريس التربية والثقافة والحضارة الإسلامية وتطوير مناهج دراسية تعزّز قيم التسامح وحقوق الإنسان.

الهوامش :

(1) نقد المعرفة التربوية المعاصرة. د.على خليل أبو العينين. ص7 بحوث مؤتمر نحو بناء نظرية تربوية إسلامية. عمان. الأردن. 1411هـ

(2) المرأة والعمل السياسي. رؤية إسلامية. هبة عزت. المعهد العالمي للفكر الإسلامي.1995 .ص 84

(3) النظرية السياسية الإسلامية في حقوق الإنسان. دراسة مقارنة د. مفتي والوكيل.كتاب الأمة .1410هـ ص 41.

(4) استناداً على قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة عام 1966م وتوصية اللجنة الدولية لحقوق الإنسان قامت منظمة اليونسكوعام1972م باقتراح يحث الدول الأعضاء على تبني تدريس مبادئ تدريس حقوق الإنسان ضمن المناهج الدراسية. (حقوق الإنسان في الإسلام - إبراهيم المرزوقي - 1997م). وانظر (إعداد وثيقة التربية على حقوق الإنسان) ورشة عمل عُقدت في الدوحة دولة قطر مابين 24- 28/12/1424هـ حضرها ممثلو الدول من معدي السياسات التربوية في وزارة التربية والتعليم، وأشرف على إدارتها خبراء عرب وأجانب برعاية المفوضية السامية لحقوق الإنسان واليونسكو واليونيسيف. وأوصت بالتوسع في تضمين مبادئ وأهداف التربية على حقوق الإنسان في التعليم (المعرفة -127- شوال- 1426هـ).

(5) موقع الدورة الاستثنائية الثالثة لمؤتمر القمة الإسلامي 7-8 ديسمبر 2005م

http://www.oic-oci.org/ex-summit/arabic/ex-summit.htm . وقد كان الاهتمام واضحاً بموضوع حقوق الإنسان فقد ورد في البيان الختامي وتقرير الأمين العام وفي البرنامج العشري تحت مادة ثالثاً: الإسلام دين الوسطية وفي ثامناً: حقوق الإنسان والحكم الرشيد، وفي ديباجة البرنامج.. قرّرنا نحن ملوك ورؤساء الدول الأعضاء وحكوماتها في منظمة المؤتمر الإسلامي المصادقة على برنامج العمل العشري التالي من أجل تنفيذه فوراً، والالتزام بمراجعته في منتصف هذه الفترة العشرية.

(6) إشكالية حقوق الإنسان ضمن الوضع العربي الراهن,حميد مجدي, مركز أمان للدراسات الأردن ص3 www.amanjordan.org .

(7) يذكر الدكتور معروف الدواليبي أن (جان جاك رسو) كان له أستاذ عربي مسلم اسمه (أبوزيد)، وأن (روسو) أخذ مقولة عمر بن الخطاب: "متى استعبدتم الناس، وقد ولدتهم أمهاتهم أحراراً"، وانطلق يتكلم في حقوق الإنسان، وأصدر عقده الاجتماع في أوروبا الإقطاع. مذكرات الدواليبي. عبدالقدوس أبو صالح. العبيكان. 1425هـ

(8) إشكالية حقوق الإنسان ضمن الوضع العربي الراهن,حميد مجدي, مرجع سابق ص5

(9) المرأة والعمل السياسي. رؤية إسلامية. .هبة عزت. مرجع سابق .ص 84، وانظر خطاب إلى الغرب. مجموعة مؤلفين. غيناء للنشر .1424 . ص 210

(10) الإسلام وحقوق الإنسان. ضرورات لا حقوق.محمد عمارة. القاهرة دار الشروق .1989 . ص14

(11) حقوق الإنسان في الإسلام. النظرية العامة. جمال الدين عطية. 1987 ص 20.

(12) حقوق الإنسان محور مقاصد الشريعة. أ. د. الريسوني وآخرون, كتاب الأمة ــ عدد 87, محرم 1423هـ.

( 13) حقوق الإنسان في الإسلام ، زكريا البدري, دار الكلمة الطيب, القاهرة, 1997, صـ 7.

(14) فلسفة التربية الإسلامية . ماجد عرسان الكيلاني .دار القلم .1423 هـ .ط2 ، ص 155

(15) نقد المعرفة التربوية المعاصرة . علي أبو العينين مؤتمر نحو بناء نظرية تربوية معاصرة .عمان . الأردن .1411هـ

==============

#لسنا الطّرف الأضعف في صراعٍ يُفرض علينا

د. محمد بن سعود البشر 28/12/1425

08/02/2005

لسنا مع القائلين بالصراع بين الحضارات، ولسنا مأمورين في شريعتنا الإسلامية التي جاءت رحمة للعالمين بالدخول في صراع من أي نوع مع من لم يعتد علينا، ولسنا –أيضًا- متربّصين بمن أخطأ في حقّنا لكننا رغم ذلك لسنا الطرف الأضعف في أي صراع قد يُفرض علينا.

أقول هذا بعد ما هالني الكم الكبير من الأُطروحات والمقالات وحتى الرسائل العلمية التي قدمها المفكرون والمثقفون من العرب والمسلمين في إعلان موقف الإسلام الرافض لنظريّة (صمويل هنتجتون) والقائلة بصراع الحضارات، والمرجِّحة أن الصراع القادم أو لنقل الحالي هو بين حضارة الغرب والحضارة الإسلاميّة.

ومع كل الاحترام للكتابات القيّمة والموضوعيّة التي تعرض الأدلة العقليّة والنقليّة على أن الحضارات لا تتصارع بل تتفاعل وتتلاقى وتتلاقح لخير الإنسانية، إلا أنه مما يُؤسف له أن كثيراً من الكتابات والأُطروحات وضعتنا ووضعت حضارتنا الإسلاميّة وديننا الإسلاميّ في موقف المتهم الذي يقبع خلف ا لقضبان، ويجتهد قدر استطاعته لتقديم أدلّة براءته.

وإذا كانت القاعدة الفقهيّة والقانونيّة تقول: إن البينة على من ادّعى فإن (صمويل هنتجتون) ومن يقول مثل قوله هم المطالبون بأن يقدموا الأدلة التي تفيد تورّط الحضارة الإسلاميّة في أي صراع آنيٍّ أو مستقبليٍّ مع غيرها من الحضارات، أو حتى وجود نوايا لدى المسلمين لقهر حضارة الغرب، عبر صراع من أيّ نوع، ولتكن دعوتنا نحن المسلمين بعد ذلك، للعالم أن يصدر في موضوعيّة ومصداقيّة هذه الأدلة، وهل تديننا أم تدين قائلها، وتكشف نواياه ونوايا بعض المنتسبين لحضارة الغرب في إشعال نار صراع بين المسلمين والغرب؛ لأسباب لن تبدو ساعتها بخافية على ذي لبّ... لكن ما حدث أن المدّعي ألقى تهمته وأشعل قتيل الصّراع دون دليل، وانساق المتحمسون من أبناء أمتنا لدفعها قبل أن يطالبوا بإثبات صحة الاتّهام.. والدلائل التي لا بد أن تتوافر لقبول الدعوى شكلاً أو موضوعًا.

وإنما كان من البدهيّات أن الصراع بين أي طرفين لا يعني أن كليهما راغب فيه، فيكفي أن يكون أحدهما هو الساعي إليه مغترًا بقوته، أو باحثاً عن مصلحة، أو مدفوعًا بأحقادٍ انتقامية، أو غير ذلك من أسباب الصراع، فعندها لن يجد الطرف الآخر سوى الدفاع عن نفسه بكل ما أوتي من قوّة.

إنّ الترويج لنظريّة الصراع بين الحضارات، وجعل الحضارة الإسلامية الخصم الرئيس لحضارة الغرب، نذير سوء بأن ثمّة محاولات جادّة لتوريطنا في صراع مع الغرب، أو بالأدق فُرِض هذا الصراع علينا، ظنًا من القائلين بالصراع أننا الطرف الأضعف، وأن هزيمتنا وانكسارنا نتيجة حتمية مسلَّم بها.

ولا شك أن التفوق للحضارة الغربيّة الماديّة يُرجّح –بالمفهموم المادي الصرف- هزيمتنا الحضاريّة لو أصبح هذا الصراع حتميًا ومباشرًا وهو ما دفع بكثير من مفكّرينا ومثقفينا إلى الإسراع في دفع هذه التهمة.

لكن القارئ المدقق لوقائع التاريخ يدرك أن تفوّق الغرب أو لنقل تفوق الحضارة الأمريكيّة -إن جاز التعبير- لا يجعلنا الطرف الأضعف في حالة نشوب الصراع. ولا يجب أن توهم بذلك، فصراع الحضارات ليس معركة عسكريّة، وقوة السلاح لا تبيد حضارة إنسانيّة، وإن دمّرت مظاهرها؛ لأن الحضارة هي الإنسان بتاريخه وأفكاره وثقافته قبل أن تكون بمنجزاته الماديّة.

وميراثنا من هذه الحضارة يتجاوز أربعة عشر قرنًا تشكلت خلالها قواعد الشخصيّة الإسلاميّة وترسّخت من جيل إلى جيل، ربما دون وعي أو التفات إلى ملامح هذه الشخصيّة، لكن في لحظات الخطر والتحدي تظهر الملامح القويّة لشخصيّة المسلم رغم كل محاولات تشويهها، وفصلها عن قواعدها الحضاريّة لتقول لكل من أرادها بسوء: إنّنا لسنا الطرف الأضعف.

==============

#شباب الأمة .. وتحديات المرحلة !

رضا عبد الودود / القاهرة 15/7/1426

20/08/2005

طالب المشاركون في الدورة الحادية عشر لمخيم التضامن الإسلامي الذي نظمته الندوة العالمية للشباب الإسلامي في مدينة بور سعيد المصرية ، خلال الأسبوع الأول من أغسطس الجاري تحت عنوان "الشباب الدور الغائب والفاعلية المطلوبة" بضرورة اضطلاع مؤسسات وحكومات العالم الإسلامي بتفعيل دورهم الحضاري نحو صياغة مناهج تربوية وتعليمية تتسق مع القيم الإسلامية من اعتدال ووسطية

وجاءت الدورة الحادية عشر لمخيم التضامن الإسلامي لتؤكد حقيقة أساسية مفادها أنَّ الالتزام بمنهج الإسلام الصحيح الوسطي ضرورة لسلامة السلوك وانضباط الأخلاق واضطلاع الشباب بدروهم الحضاري في بناء الحضارة الإسلامية.

وفي بداية المخيم طالب د. حمدي المرسي- مدير مكتب الندوة العالمية بالقاهرة- صياغة استراتيجية إسلامية لتخليص الشباب المسلم من حالة عجز الثقة التي تحول دون الاستفادة من طاقات الأمة، مؤكدًا على أهمية البناء الشامل في الأمة ومحذرًا من دعوات الهدم الكثيرة التي تواجهها.

تنقية عقيدة التوحيد أساس للنهضة

وفي هذا الإطار أكد أ. د. صلاح الصاوي- أستاذ الشريعة بجامعة الأزهر والأمين العام للمجمع الفقهي الإسلامي ومفتي أمريكا الشمالية- ضرورة تفعيل دور التوحيد الذي قام عليه أمر الدين، لمواجهة التحديات التي تواجه الأمة الإسلامية بمعناها الواسع والذي يشمل الأرض كلها؛ انطلاقًا من عالمية الإسلام التي رعت العلم والعلماء.

وأضاف الصاوي أنَّ الشريعة الإسلامية ليست مجرد خطاب موجه للحكام فقط، بل هي موجهة لكل الأفراد في العلاقات والمعاملات، ومن ثمَّ فمن الظلم اختزال الشريعة كقضية كبرى لمجرد تكليف يتجه به الخطاب للقيادة السياسية.

وطالب الصاوي علماءَ الأمة وقادتها بضرورة صياغة أُسس صحيحة لمناهج التربية والتعليم؛ لكونها هي الحافظة لشباب الأمة من الانحراف، وحذر من أنه ما لم ينضبط المنهج في فهم أصول الدين فسيظهر الكثير والكثير من مظاهر الانحراف والاختلالات السلوكية التي ستصيب الأمة في مقتل، من أعمال عنف أو تكفير أو تشدد وغلو أو انحراف وتساهل واستهانة بأمور الدين.

أزمات الأمة وبشائر التمكين

وعلى الرغم من حجم الأزمات والإحباطات التي تُحيط بالمسلمين إلا أنَّ محاضرة الأستاذ الدكتور عبد الله حسن بركات أستاذ قسم الأديان والمذاهب بكلية الدعوة الإسلامية بجامعة الأزهر جاءت كالماء البارد على الظمأ؛ حيث ساق الكثير من المبشرات التي تحيط بالأمة الإسلامية بالرغم من التحديات التي تواجه المسار الحضاري للأمة الإسلامية، ومن المبشرات تجمع كثير من البشر باختلاف ألوانهم وألسنتهم في ظل الدين الإسلامي الحنيف باعتباره الرسالة الخاتمة ،

ومن ضمن هذه المبشرات أيضًا حالة الواقع الغربي ذاته من إفلاسٍ أخلاقي وشذوذ فكري وسلوكي؛ مما زاد عدد المرضى النفسيين ومن ثمَّ الأطباء النفسيين، وكثرة اليأس في قلوب الغربيين (فالسويد مثلاً بها أعلى نسبة دخل قومي في العالم، ومع ذلك فهي أعلى دولة في نسبة الانتحار).

ويضيف بركات: وحتى نكون أكثر واقعيةً في التعامل مع المبشرات التي تؤكد سيادة الأمة الإسلامية وتقدمها لا بد أن نوقن بضرورة التضحية وبيع النفس لله تعالى، وإدراك حقيقة العبادة لله ومعرفة حقيقة خلق الله لعباده، وكذا ضرورة اعتماد التعاون الجاد والإيجابي رافعين شعار ما استحق الحياة من عاش لنفسه أبدًا مع الإخلاص لله في الأقوال والأفعال.

قاب قوسين من النصر

وفي هذا الإطار أيضًا أكد أ. د. راغب السرجاني المفكر الإسلامي وخبير التربية في محاضرته التي جاءت بعنوان "زمن وضوح الرؤية" على أن الأمة الإسلامية باتت قاب قوسين من تحقيق النصر، وما على الشباب إلا الإعداد المتين لمرحلة التمكين والتي ستظهر قبلها فتن ومحن شديدة نحن بصددها الآن، وبالرغم منها فإنَّ أهل الباطل يخافون أهل الحق برغم صغر عددهم إلا أنَّ تماسك أهل الحق هو سر قوتهم ورهبة عدوهم منهم، كما الوضع في فلسطين؛ حيث تخشى الترسانة الصهيونية بكل جبروتها من قوة المقاومة برغم صغر عددها وقلة إمكانياتها.

كما أكد السرجاني أهمية عدم التعجل في التربية لأنها هي أساس التمكين وبقدر جودتها وعمقها يحفظ الصف المسلم من الفتن والمحن التي تواجهه الآن ومستقبلاً.

إصلاح الخطاب الديني

كما أكد الدكتور جمال عبد الستار- الأستاذ بكلية الشريعة بجامعة الملك خالد في أبها بالسعودية- أنَّ موجات الإصلاح والتغيير التي تموج بالساحة العربية والإسلامية تستلزم تطوير الخطاب الدعوي ، وذلك لكي يتواصل المسلمون مع العالم الخارجي الذي بات أكثر طلبًا للتعرف على الإسلام، وكذا فعلى الدعاة أيضًا أن يُفعِّلوا من أسلوبهم لإقناع المسلمين بالوسطية والرشادة التي نحن في أمس الحاجة إليها في ظل حملات التشويه والتحريف الموجهة للإسلام كدين.

ولكي لا يصبح الدعاة إلى الله مجرد سهام موجهة للدين يُساء فهمها لا بد من أن يرتكز الخطاب الدعوي على مرتكزات عدة.

أولها: فهم مقاصد الإسلام، والتي رعاها الإسلام في كل ما جاء من أمور ونواهٍ، وتلك المقاصد مجرد بوصلة لا بد الالتزام بها والسير حسب اتجاها، وما من حكمٍ شرعي إلا ويحقق مصلحة (حفظ العقل- كمال الدين....).

ثانيًا: مراعاة آداب الاختلاف: فالخلاف أمر طبيعي، فكما أنَّ العقول مختلفة فلا بد وأن الآراء ستختلف، فطرة الله التي فطر الناس عليها.

فلا إرغام على أحد بفكرٍ معين والقرآن نفسه ثلاثة أرباعه ظني الدلالة يقيني الثبوت، أي أنَّ العقول تختلف في فهم الإسلام نفسه، لذا فعلى الدعاة إلى الله احترام المخالفين لهم في الرأي سواء كانوا مسلمين أم كفارا.

ثالثًا: مراعاة فقه الأولويات: فلنبدأ بالمتفق عليه، ومراعاة ظروف الناس وعاداتهم وأن نخاطب الناس قدر عقولهم وأفها مهم.

رابعًا: التفريق بين الدعوة والفتوى: فالدعوة واجبة على كل مسلم، "بلغوا عني ولو آية"، وللأسف لم يقم المسلمون بواجب الدعوة وتفرَّغ كثيرٌ منهم للفتوى، بدليل بقاء أربعة أخماس العالم غير مسلمين، مع أنَّ معظم أهل الغرب يتوق لمعرفة صحيح الإسلام، إذ أسلم أحد السويديين لما سمع أحد المسلمين يقسم بالله الذي رفع السماء بلا عمدٍ، قائلاً: "والله أول مرة أعلم أنَّ السماء بلا عمد".

ويأتي في هذا المضمار دور الإعلام غير النزيه الذي يشوه الإسلام بتقديمه لغير المسلمين على أنه دين العنف ، متجاهلين سماحة الإسلام وعدله ، ومنهج خاتم الأنبياء والمرسلين – صلى الله عليه وسلم - باعتبار بعثته هداية ورحمة للعالمين !

============

#بين عقليّتين ونهجَين

د. عدنان علي رضا النحوي 13/8/1426

17/09/2005

انطلق العقل الغربي في العصور الحديثة من خلال تاريخ طويل استغرق قروناً، وتفاعلت فيه عوامل كثيرة وأحداث متعاقبة، لكنها كلها انطلقت من الوثنية اليونانية، وما حملت من علم ونظرة خاصة بالفنون والأدب، ونظرة خاصة للحياة والكون، اجتمعت كلها لتكوّن الفلسفة اليونانية الوثنية.

ولكن لابد أن نسرع فنقول: إن هذه الوثنية لم تكن هي أول أمر هذه الشعوب.

قد كان أول أمرهم الذي يعنينا هو رسالة الإيمان والتوحيد التي لا شك أنها بلغتهم كما بلغت كل أمة أخرى في التاريخ البشري، فقد بعث الله برحمته رسولاً إلى كل أمة أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت:

(وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ)] النحل: 36[

وكما كان شأن كثير من الأمم، فقد انحرفت اليونان عن التوحيد وغلبتها الوثنية بصورة شديدة، وعبدوا آلهة ابتدعوها من أنفسهم، وأقاموا لها التماثيل، ودخلت هذه الوثنية في جميع ميادين حياتهم وتصوّراتهم وأدبهم.

ولما قامت دولة الرومان لم يكونوا أهل أدب أو فكر، فأخذوا كل ذلك عن اليونان، وأصبح فكرهم وأدبهم امتداداً لفكر اليونان وأدبهم، ولما جاءت النصرانية إلى أوروبا اصطدمت بهذه الوثنية الطاغية على الحياة، وعانى رجال النصرانية معاناة شديدة مدة تزيد على ثلاثمائة سنة، أمكن بعدها التفاهم مع "قسطنطين" على أن يعينوه على الوصول إلى سدة الإمبراطورية الرومانية، مقابل تنازلات، ومقابل رفع الأذى عنهم.

خلال هذه المدة تأثرت النصرانية بالوثنية، ووقع خلاف بين النصرانيين أنفسهم، فريق يدعو إلى عقيدة التثليث، وفريق يرى أن عيسى عليه السلام ليس ابن الله ولا شبيها لله، ولكنْ رسول من عند الله، ونالت طائفة التثليث الدعم من الدولة، وأخذت بعض طقوسها من الوثنية الرومانية، وبدأت التساهل مع النصرانية الجديدة التي انحرفت عن رسالة عيسى عليه السلام، وفي سنة 311م وقع الإمبراطور جاليريوس مع ثلاثة آخرين بإعطاء حرية العبادة للنصارى.

ولما أصبح قسطنطين الأول (280 – 337م ) هو الإمبراطور اعترف بالدين الجديد، الذي لم يكن لديه النص الرباني الأصلي الذي جاء به عيسى عليه السلام، وإنما كان ما تناقله أتباعه وما دوَّنه علماؤه بعد عيسى عليه السلام بزمن غير قصير.

دعا الإمبراطور قسطنطين رجال الكنيسة إلى اجتماع في "نيقية Nicaea " سنة 325م في محاولة لتصفية النزاع بينهم وبين الأريوسيين الذين يقولون بأن عيسى عليه السلام ليس مشابهاً لله في الجوهر، والذين ينتسبون إلى آريوس الإسكندرية (ت:326م)، ولكن المجمع المنعقد في "نيقيه" أصدر قراراً يتبنى الطبيعة الثلاثية لعيسى عليه السلام (trinity) وتسمى هذه" بعقيدة نيسين Nicene Creed" .

هذه العقيدة كانت نتيجة التأثر بالتصورات الوثنية تأثراً انحرف بها عن التوحيد الخالص الذي جاء به عيسى عليه السلام.

ولما جاء الإمبراطور ثيودوسيس ( 346 – 395 ) فرض الكنيسة الكاثوليكية في جميع الإمبراطورية، وفرض القرار النيسيني، والتطور الثلاثي لطبيعة عيسى عليه السلام، ولإنهاء الصراع مع الأريوسيين دعا إلى لقاء كنسي سُمِّي فيما بعد "المجمع العالمي Ecumenical council " سنة 381م في مدينة القسطنطينية، وأقر هذا المجمع التصور الثلاثي والعقيدة النيسينية، وأخذ في مطاردة الأريوسيين واعتبرهم هراطقة.

لقد انتهى الصراع بين الوثنية والنصرانية إلى قيام الكنيسة الكاثوليكية التي تتبنى العقيدة النيسينية، وتطور الطبيعة الثلاثية لعيسى عليه السلام، والذي أصبح مذهب الإمبراطورية الرومانية كلها، وأصبح للكنيسة سلطان كبير على السلطة المدنية.

وبدأ صراع جديد بين الكنيسة والسلطة الزمنية من ناحية، وصراع بين الكنيسة والعلماء امتد زمناً غير قليل، ولقد حملت هذه الأحداث كلها امتداد التأثير الواضح للوثنية اليونانية في عصور أوروبا المختلفة: العصور الوسطى، أو عصر الظلمات، عصر النهضة، عصر التنوير، والعصر الحديث، وامتد التأثير إلى أعماق الفكر الأوروبي، وكان من أهم آثار هذا الصراع الممتد أن برزت العلمانية في أوروبا تحمل الرغبة الحاسمة للتحلل من الدين وعزله عن حياة المجتمع، وحصره بين جدران الكنيسة، ولقد حمل هذا الاتجاهَ عددٌ غير قليل من الفلاسفة الأوروبيين، واستقرَّت العلمانية في العالم الغربي توجِّه الفكرَ والأدب والأخلاق، والسياسة والاقتصاد، وأعطت الحرية الفرديةَ تفلُّتاً واسعاً في الجنس، وحرية في الرأي لا تعطِّل القرار الذي يتخذه القادة بين الكواليس، ويستغلون الدين كلما احتاجوا إليه.

وقد جعلت العلمانية رأس الأمر كله ومدار اهتمامهم الأول هو المصالح المادية الدنيوية الخاصة، فمن أجلها تدور الحروب أوالسلام، والوفاق أو الشقاق.

ولكن هذه الشعارات كانت تغلف بشعارات عامة مزخرفة كالديموقراطية والحرية وحقوق الإنسان ومساواة الرجل بالمرأة وغير ذلك.

إلا أن الديموقراطية في حقيقتها لم تشهد إلاّ الحروب التي تشعلها المصالح الخاصة والتنافس عليها واستغلال الشعوب بالإغراء أو القوة والبطش، ولا أظن أن تاريخ البشرية شهد استبداداً أشد من استبداد الأسلحة المدمرة الفتاكة التي تطلقها أمريكا على أجزاء كبيرة من العالم لفرض ما تسميه " الديموقراطية والحرية" ، ثم لا تجد إلا الخداع والكذب، والأشلاء والجماجم.

من خلال مسيرة العقل الأوروبي والغربي مع مسيرة العلمانية قدَّر الله أن ينهض الغرب بنهضة علمية وصناعية كبيرة، زوّدتهم بالقوة المادية الكبيرة والسلاح المدمر، وكان أساس هذا التطور ما أخذوه عن المسلمين عندما كان المسلمون في أوج تطورهم وازدهارهم العلمي، وأوروبا في ظلال الجهل.

وفي الوقت نفسه قدَّر الله أن يقع المسلمون في غفوة طويلة وغفلة كبيرة من خلال تاريخ طويل من الانحراف.

وعندما كانت أوروبا تغطُّ في ظلمات الجهل والتخلف، كان المسلمون هم قادة العالم بالعلم في ميادينه المختلفة، وقدّموا العلم ونشروه مع نشر رسالتهم ودينهم حيثما امتدوا.

برزت عبقريات المسلمين في شتى أنواع العلوم كالرياضيات والطبيعيات والطب والفلك والجغرافية، والاكتشافات الجغرافية، وفنِّ العمارة، وغيرها من العلوم.

كانت العبقريات قد انطلقت من الإسلام من الإيمان، من جميع الشعوب الإسلامية، لتخدم البشرية كلها نوراً وهداية، وعلماً وعدالة، وحرية ومساواة.

مهما وقعت انحرافات أو أخطاء في مسيرة المسلمين، فإنها لم تصل أبداً إلى ما بلغه الغرب من إفناء وتدمير ووحشية، لقد كان الإسلام يكبح نزعات الفتك الإجرامي، ولقد وجدت الشعوب التي دخلها الإسلام عدالة لم تعهدها في تاريخها، وحرية كريمة منضبطة تسود الجميع، وديناً يجمع البشرية كلها في ظلال الإسلام وأنداء الإيمان، ويضع الحقوق الصادقة لكل فئة أو طائفة، لينسجم الجميع تحت حكم الإسلام وشريعة الله الحقة.

لقد جمع الإسلام شعوباً مختلفة الأجناس واللغات لأول مرة في التاريخ البشري، عندما أعاد الإنسان إلى الفطرة التي فطره الله عليها، إلى حقيقة الفطرة السليمة غير المشوهة أو المنحرفة.

فانطلقت قوى الشعوب كلها منسجمة متآلفة، وجمع الإسلام بذلك طاقات الشعوب ومواهبها بعد أن آمنت وأسلمت لله رب العالمين، وبعد أن ذابت العصبيات الجاهلية من حزبية أو عائلية أو قومية، وبعد أن وجد كل شعب أنه آمن، ينال حقوقه كما تناله الشعوب الأخرى، على ميزان رباني عادل أمين.

فانطلقت بذلك الحضارة الإسلامية تصب فيها مواهب الشعوب كلها وقدراتها، وخيرات بلادها في مجرى واحد صافٍ، تقودها عقلية إسلامية صاغها القرآن الكريم وسنَّة رسول الله صلى الله عليه وسلم، عقلية تنطلق من الفطرة السليمة التي أعاد الإسلام الناس إليها.

هذه الحضارة الإسلامية، ليست حضارة شعب واحد ولا حضارة بيئة واحدة، إنها حضارة الشعوب كلها، الشعوب التي تآلفت على الإسلام فطرةً وإيماناً وتوحيداً، وعلماً بمنهاج الله، وصراطاً مستقيماً واحداً، يجمع الناس كلهم على استقامته التي لا يضلُّ عنها مؤمن، وعلى تفرُّده بأنه سبيل واحدة لا سبل شتَّى، فلن يختلف عليه المؤمنون.

هذه الحضارة وهذه العقلية تميزت أيضاً بأنها جمعت المؤمنين كلَّهم على مدار التاريخ البشري أمة واحدة، على أسس واحدة وحق واحد.

فسورة الأنبياء، بعد أن تستعرض مسيرة عدد من الأنبياء والرسل عليهم السلام، وتبيِّن أنَّهم كلهم كانوا يدعون إلى دين واحد هو الإسلام، ولعبادة رب واحد هو الله الذي لا اله إلا هو، تختم السورة الكريمة هذا العرض بالآية الكريمة:

(إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ) ]الأنبياء: 92[

ويتكرر هذا المشهد العظيم في سورة "المؤمنون"، حيث تستعرض السورة مسيرة الرسل والأنبياء الذين دعوا إلى دين واحد هو الإسلام، وإِلى عبادة رب واحد هو الله، تختم هذا العرض والمشهد بقوله سبحانه وتعالى:

(يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحاً إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ * وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ) ] [المؤمنون: 51-52[

هذه هي معركة التاريخ البشري تدور بين عقليتين ونهجين: عقلية تنطلق من الفطرة السليمة، ونهج رباني من عند الله على سبيل واحدة وصراط مستقيم، تتلقاه الفطرة السليمة بالإيمان والاتباع، وعقلية تنطلق من عواطف الأهواء وصراع المصالح، ومناهج بشرية تتلون من أرض إلى أرض، ومن مصلحة مادية إلى مصلحة، فيصارع بعضها بعضاً، كلٌّ يغلف أهواءه ومصالحه بزخارف كاذبة وزينة خادعة، سرعان ما يكشف الواقع كذبها وخداعها.

من هنا يعتبر الإسلام أن الحقَّ الأول للإنسان هو حماية فطرته التي فطره الله عليها، حمايتها من أن تفسد أو تلوَّث أو تنحرف، وجعل هذه الحماية مسؤولية الوالدين أولاً في الأسرة والبيت، ثم مسؤولية الأمة كلها بمختلف مؤسساتها، ابتداءً من المدارس والمسجد وامتداداً إلى سائر المؤسسات، ولنتدبَّر هذه الآيات الكريمة تعرض لنا خطورة أمر الفطرة:

( فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ) ]الروم: 30[

ولنتدبر حديث رسول الله –صلى الله عليه وسلم- يرويه أبو هريرة رضي الله عنه:

"ما من مولود إلاَّ ويولد على الفطرة وأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه، كما تنتج البهيمة بهيمة جمعاء، هل تحس فيها من جدعاء" [أخرجه الشيخان وأبو داود ، صحيح الجامع الصغير:5784]

هذه القضية، قضية الفطرة وحمايتها، أهملتها جميع المؤسسات التي تدّعي أنها ترعى حقوق الإنسان، وأهملتها نظريات التربية المادية المختلفة، وأنى لهذه المؤسسات كلها بعد هذا الإهمال أن تصدق في رعاية حقوق الإنسان، أو في تربيته وتعليمه وبنائه.

بعد إهمال الفطرة وحمايتها، ستخرج عقليات مختلفة متعددة متناقضة مضطربة، وستُخرِج هذه العقليات تبعاً لذلك مناهج شتّى وسبلاً شتّى ومصالح شتى يدور بينها الصراع، ليمثل هذا الصراع الجزء الأكبر من التاريخ البشري بين بحار من الدماء وأكوام هائلة من الجماجم والأشلاء.

ولذلك كانت هذه العقلية ومنهجها منذ بدايتها التي أشرنا إليها في الوثنية اليونانية، قد أهملت فطرة الإنسان وأهملت حمايتها في مسيرة طويلة حتى يومنا هذا.

ويبين الله لنا هذا الاختلاف الواسع بين هذين النهجين والعقليتين بقوله سبحانه وتعالى:

(وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) ]الأنعام: 153[.

فهنا صراط مستقيم وسبيل واحدة، وهناك سبلٌ شتى ودروب معوجة، هنا يلتقي الناس على دين واحدٍ و إيمان وتوحيد، وشريعة واحدة تنظم الحياة كلها وتبين الحقوق والواجبات والحدود، وهناك يلتقي الناس على مصالح ويفترقون عليها، وعلى شرائع شتى لا تلتقي إلاَّ على فتنة وفساد يخفونها تحت زخارف من شعارات الحرية والديموقراطية وغير ذلك.

تسعى أمريكا اليوم حسب دعوة بوش إلى جمع الناس على ما تسميه الديموقراطية، وما تدّعيه من حرية.

وفي هذه وتلك لا يوجد من حقيقة ثابتة إلاَّ الزخرف الذي سرعان ما ينكشف عن أقسى ما عرفته البشرية من مآس نشاهدها جليّة في بقاع متعددة من الأرض.

أنى التفتنا لا نجد إلاّ الأطماع الهائجة المتصارعة التي لا يكون اللقاء معها إلاَّ لقاءً آنيًّا قد ينقلب بعد حين إلى عداء و صراع.

فلا يمكن لدعوة الديموقراطية ولا الاشتراكية ولا العلمانية، مهما زينوها بالزخارف أن تجمع الشعوب كلها، وإن جمعت أحداً فإنها تجمعه تحت قهر القوة الجبارة والسلاح المدمر ليكون جمعاً آنيّا.

لا يمكن أن تجتمع البشرية إلاّ على الحق البين، إلاّ على دين الله الحق، دين الإسلام بجلائه وسموِّه وصدقه، فهو النهج الوحيد لدى البشرية كلها، النهج الذي يمكن أن يجمعها لتجد في ظلاله العدالة الأمينة غير المزيفة، والحقوق الصادقة لكل إنسان: للرجل والمرأة والتوازن الدقيق بين الحقوق والواجبات، والحرية المنضبطة للرجل والمرأة، للناس كافة.

إنه النهج الوحيد الذي يضع المرأة في ميادينها الحقيقية، والرجل في ميادينه الحقيقية، ويبني المجتمع على نظام دقيق، يعرف الرجل فيه مكانه و تعرف المرأة مكانها، ويعرف الجميع ميادين التعاون، عندما تعرف المرأة دينها وتؤمن به وتخضع له، ويعرف الرجل دينه ويؤمن به ويخضع له، سيعرف كلٌّ حدوده على صورة تتكامل فيها الجهود.

أما إذا غلب الجهل وثار الهوى، فتصدر عندئذ الفتاوى والآراء والاجتهادات مضطربة متناقضة لا تخضع إلى ميزان أمين، وتنحرف الآراء حتى تطلب المرأة أن تتساوى مع الرجل في كل نشاطاته، وربما ينقلب الوضع فيصبح الرجل يطلب المساواة بالمرأة، يسعى كثير من المفسدين في الأرض أن يحرفوا دين الله ويؤوِّلوه، حتى يكاد يصبح ديناً جديداً منبت الصلة عن دين الله. وسيدرك بعض المسلمين الذين يدعون إلى شعار مساواة المرأة بالرجل، عاجلاً أم آجلاً، أنهم إِنما يدعون إلى هلاك المرأة وهلاك الرجل وهلاك المجتمع.

ومهما حاول المفسدون والضعفاء أن يغيروا في دين الله فإن الله قد تعهد بحفظ دينه ولغة دينه، وإنما هي سنن لله في هذه الحياة الدنيا، يُبتلى بها الإنسان ويُمحَّص حتى تقوم الحجة له أو عليه يوم القيامة.

ولحكمة يريدها الله جعل من أوجه الابتلاء والتمحيص في هذه الحياة الدنيا بروز المفسدين والمجرمين، ليميز الله الخبيث من الطيب، فكم من الناس يخفون الوهن والانحراف في صدورهم، فتأتي سنن الله فتكشف هؤلاء وما يحملون وما يخفون.

إننا نعيش اليوم في مرحلة من مراحل التاريخ البشري، يقف فيها المسلمون موقف الوهن والضعف والهوان، والمجرمون في الأرض ملكوا القوة القاهرة والتطور المادي الكبير، على تخلّف خطير في قيم الدين، وعلى كبر واستكبار.

وفي الوقت نفسه جعل الله ما في السماوات والأرض مسخَّراً للإنسان، لكل من يسعى ويبذل، ويظل السعي والبذل باب ابتلاء واختبار، الميدان مفتوح للجميع، للمؤمنين وغير المؤمنين، كل يجني ثمرة سعيه:

(أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلا هُدىً وَلا كِتَابٍ مُنِيرٍ) ] لقمان: 20[

وكذلك قوله سبحانه وتعالى:

(وَلَوْلا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَجَعَلْنَا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفاً مِنْ فِضَّةٍ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ * وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْوَاباً وَسُرُراً عَلَيْهَا يَتَّكِئُونَ * وَزُخْرُفاً وَإِنْ كُلُّ ذَلِكَ لَمَّا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةُ عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ)]الزخرف: 33 – 35[

فالمؤمنون يسعون في الحياة الدنيا، أو يجب أن يسعوا، ليمتلكوا القوة من العتاد والعلم، ليوفوا بالأمانة التي خُلِقوا للوفاء بها، وليس لزخرفٍ في الحياة الدنيا ومتاعها، إنَّ المؤمنين يحملون أمانة عظيمة في الأرض ولا بد أن تكون في يدهم أسباب القوة والمنعة، ليبلِّغوا دين الله للناس كافة كما أُنزل على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ولتكون كلمة الله هي العليا، وشرعه هو الذي يحكم، ليأخذ كل إنسان حقه العادل، ويقف عند حدوده العادلة، وأما المجرمون في الأرض فيسعون ليمتلكوا القوة من عتاد وعلم، ليفسدوا في الأرض، ويعتدوا ويظلموا، وينهبوا ويقتلوا، ظلماً وعدواناً.

( فَلَوْلا كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُو بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ إِلَّا قَلِيلاً مِمَّنْ أَنْجَيْنَا مِنْهُمْ وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَا أُتْرِفُوا فِيهِ وَكَانُوا مُجْرِمِينَ) ] هود: 116[

أيها الناس إنكم تحملون أمانة عظيمة فانهضوا إليها، واصدقوا الله في أمركم كله، وكونوا صفاً واحداً لتوفوا بأمانتكم، ولا عذر لكم أن تقولوا: إن المجرمين يملكون القوة، فانهضوا واصدقوا يمكِّنكم الله من القوة ما آمنتم وأطعتم وصدقتم:

( إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ) [غافر: 51[ (وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ) ] الصف: 13 ] (...وَكَانَ حَقّاً عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ) ] الروم:47[ أيها المسلمون كونوا مؤمنين ينصركم الله ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ ....) [النساء: 136[.

============

#حول قداسة الحكّام في تاريخنا

أ. د. عماد الدين خليل 21/9/1426

24/10/2005

[ 1 ]

طالما ردّد الكثير من الباحثين في دوائر الاستشراق النصراني أو الماركسي، بأن هناك صعوبة كبيرة تقف في وجه الدارس للتاريخ الإسلامي، وهي أن الشخصيات الإسلامية أُحيطت بالقدسية ولاسيما الخلفاء، بل إنه حتى أولئك الخلفاء الذين بلغوا أقصى حدّ من الانهيار والانحراف، ظلّوا محاطين بالتقديس ما داموا يستمدون سلطتهم من الدين بصفتهم منفّذين للشريعة ومفسّرين لكلمة الله!

والحق أن هذه المقولة قد لا تعني شيئاً على الإطلاق إن لم تُضبط وتُحدّد تحديداً

دقيقاً، ومن ثم فإن إطلاقها على عواهنها قد يكون نوعاً من التعميم الذي هو نقيض البحث العلمي الجاد.

فإذا أُريد بالقدسية: العصمة أو التنزيه عن الخطأ والنقد والاعتراض ـ وهذا هو الراجح ـ فإن الشخصيات الإسلامية، بما فيها الخلفاء، كانت تجتهد رأيها فتصيب وتخطئ. وكلنا يذكر عبارة مالك بن أنس (رحمه الله): " كل بني آدم يُؤخذ منه ويردّ عليه إلاّ صاحب هذا القبر" ويعني النبيّ المعصوم عليه أفضل الصلاة والسلام. بل إن الخلفاء الراشدين (رضي الله عنهم) قالوها مراراً وأعلنوها تكراراً: إنهم جاؤوا لكي ينفذوا أمر الله، ويلتزموا شريعته المتضمنة في كتاب الله وسنة رسوله ( صلى الله عليه وسلم ) فإن أصابوا فبها، وإن أخطؤوا فإن من حق الأمة التي ارتضتهم أن تقوّمهم وتردّهم إلى الطريق.

وكلّنا يذكر خطبة أبي بكر الصديق (رضي الله عنه) التي استهلّ بها خلافته "أيها الناس، إني قد وُليت عليكم ولست بخيركم، فإن أحسنت فأطيعوني، وإن أسأت فقوّموني .. أطيعوني ما أطعت الله ورسوله، فإذا عصيت الله ورسوله فلا طاعة لي عليكم .." .. ويذكر خطبة عمر بن الخطاب (رضي الله عنه): "ولست أدع أحداً يظلم أحداً حتى أضع خدّه على الأرض، ثم أضع قدمي على الخدّ الآخر. ثم إني أضع خدّي على الأرض لأهل العفاف وأهل الكفاف".

ويذكر غير هذا وذاك الكثير من الوقائع في هذا الاتجاه. قال حذيفة بن اليمان: دخلت على عمر بن الخطاب ـ يوماً ـ فرأيته مهموماً حزيناً فقلت له: ما يهمك يا أمير المؤمنين؟ قال: إني أخاف أن أقع في منكر فلا ينهاني أحد منكم تعظيماً. فقلت: والله لو رأيناك خرجت عن الحق لنهيناك!! ففرح عمر وقال: الحمد لله الذي جعل لي أصحاباً يقوّمونني إذا اعوججت!

ويوماً صعد على المنبر وقال: يا معشر المسلمين ماذا تقولون لو ملْتُ برأسي إلى الدنيا كذا؟ فقام إليه رجل فقال: أجل .. كنا نقول بالسيف كذا (وأشار بالقطع). فقال عمر: إياي تعني بقولك؟ أجاب الرجل : نعم إياك أعني بقولي. فقال عمر: رحمك الله! الحمد لله الذي جعل في رعيّتي من إذا تعوّجت قوّمني!

وعن الحسن بن علي (رضي الله عنهما) قال: كان بين عمر بن الخطاب وبين رجل كلام في شيء، فقال له الرجل: اتّق الله. فقال رجل من القوم: أتقول لأمير المؤمنين اتق الله؟ قال عمر: دعه، فليقلها لي، نِعْم ما قال. لا خير فيكم إذا لم تقولوها، ولا خير فينا إذا لم نقبلها!

ويوماً نادى: الصلاة جامعة .. فلما اجتمع المسلمون صعد المنبر وقال: أيها المسلمون، لقد تذكرتني وأنا أرعى لخالات لي من بني مخزوم فيقبّضنني القبضة من التمر أو الزبيب. ثم نزل. فقال له عبد الرحمن بن عوف: ماذا أردت بهذا يا أمير المؤمنين؟ فأجاب: ويحك يا ابن عوف ، لقد خلوت إلى نفسي فقالت لي: أنت أمير المؤمنين، وليس بينك وبين الله أحد؛ فأنت أعلى الناس، فأردت أن أعرّفها قدرها!

وعثمان بن عفان ( رضي الله عنه ) وقف ـ فيما يحدثنا الطبري في تاريخه ـ يدافع عن نفسه أمام جموع الثائرين، ويدلي بحججه واحدة تلو أخرى وهم يثنّون عليها، وأبى أن تُسفك من أجله قطرة دم واحدة ، فضلاً عن أن يحتمي ـ وحاشاه ـ بقدسية مزعومة تضع بين خلفاء رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وبين جماهير أمتّهم سدًّا ، وتدمّر حقهم في الاعتراض.

وعلي بن أبي طالب (رضي الله عنه) وقف متهماً جنباً إلى جنب مع المدّعي

عليه، وهو أمير المؤمنين، والمدّعي يهودي من غير أبناء الأمة المتفوّقة .. يقف قبالة القاضي لكي يدفع التهمة عن نفسه.

وعمر بن عبد العزيز (رحمه الله) يعلن عن جائزة قدرها ثلاثمائة دينار لكل

من يقطع الطريق الطويل، ويجيء إلى دمشق ـ قاعدة الخلافة ـ لكي يقول هناك كلمة

(الحق) في مواجهة أمير المؤمنين!

[ 2 ]

تجاوز الخلفاء الراشدون (رضي الله عنهم) ما يسمى بالديمقراطية التي عرفها الغرب والتي كانت في كثير من الأحيان لا تعبّر سوى عن مصالح شرائح محدّدة من

المجتمع .. تجاوزوها إلى نوع مركّب من الديموقراطية (إذا استخدمنا تعبير مالك بن نبي رحمه الله) .. فكانوا يطلبون من جماهير أمتهم أن تنقدهم وتقوّمهم، ويحضّونها على ذلك، ويربّونها عليه.

بل إن الراشدين يمضون إلى ما هو أبعد من هذا، فيقاتلون شبح الافتتان في أنفسهم وعند الآخرين .. والافتتان وجه من وجوه القداسة، ومقاتلته تعني إشهار الحرب ضد القداسة الموهومة التي لا تقوم على أساس، والتي تقترب بالناس ـ أحياناً ـ من حافات الصنمية التي جاء الإسلام ثورة حاسمة لاستئصالها من الضمائر والنفوس.

لقد عزل عمر بن الخطاب (رضي الله عنه) قائده الفذّ خالد بن الوليد خشية افتتان الناس به بسبب من انتصاراته العجيبة فيما تذهب إليه أرجح الروايات.

وهو يلاحق جذور الافتتان في أعماق نفسه من أجل أن يستأصلها، وهو من أجل ذلك يمارس نوعاً من تعرية الذات في مواجهة (الآخر) كي يحقق هدفه بأكبر قدر من الدفع والتكشّف، فيما مرّ بنا قبل قليل.

والمواقف كثيرة مزدحمة، والراشدون يمنحون تاريخ البشرية غنى عجيباً في دائرة حرية التعبير، والنقد، والمعارضة. وغير الراشدين ممن ساروا على هديهم، واقتفوا خطواتهم حكاماً وخلفاء وأمراء، قدّموا مثلاً عملياً على إسقاط مفهوم القداسة بمعنى التنزّه عن النقد والمعارضة والإدانة .. وبمعنى الافتتان بالذات، والارتفاع فوق رؤوس الناس، وتدمير تحرّرهم الوجداني الذي هو قاعدة شهادة (لا إله إلا الله) كما يفهمها المسلمون بعفوية وصدق بالغين!

وإننا لنذكر ها هنا ـ فضلاً عما أوردناه ـ ما فعله السلطان المجاهد نور الدين محمود ( 541-569 هـ ) في أعقاب انتصار من انتصاراته الحاسمة ضد الصليبيين عند قلعة حارم في شمالي الشام عام 559 هـ؛ إذ يتقدّم منه قاضي قضاته الشيخ النيسابوري ويقول له: لولا بلاؤك ما تحقّق لنا النصر! فماذا يكون الجواب؟: " مَنْ نور الدين محمود الكلب

حتى تقول له هذا؟ قبلي من حفظ الإسلام وبعدي من سيحفظه، ذلك هو الله الذي لا إله إلاّ هو !!".

وفي فترات زمنية سابقة كان الخليفة العباسي قد اعتقل مالك بن أنس وأبا حنيفة النعمان (رحمهما الله) لأنهما أصدرا فتوى بشرعية إحدى الثورات ضده!! وضرب خليفة عباسي آخر الإمام أحمد بن حنبل بالسياط؛ لأنه رفض الاعتراف بالمذهب الاعتزالي

الذي أعلنته الدولة مذهباً رسمياً!! وهؤلاء هم فقهاء الأمة وممثلوها أمام الله .. والسلطان .. والحق .. فلو كان الخليفة العباسي "مقدّساً" أو "محاطاً بهالة من القدسية" -كما يدّعي العلمانيون والماركسيون ونصارى الاستشراق ويهوده - فكيف يبيح هؤلاء الفقهاء لأنفسهم خرق قدسية تستمدّ مقوّماتها من الدين الذي يعبّرون عنه ويذودون؟

وليس مهمّا أن يدّعي بعض خلفاء بني العباس قدسية ما أنزل الله بها من سلطان، يذودون بها عن سلطتهم .. وليس مهّما ـ أيضاً ـ ادّعاؤهم حق التفويض الإلهي بحكم المسلمين حكما مطلقاً .. ولكن المهم هو موقف الخلفاء الأكثر تمثيلاً لحقيقة هذا الدين إزاء هذه القضية، وقد أشرنا إلى نماذج منه .. كما أن من المهم موقف جماهير الأمة وقادتها من المسألة نفسها، وقد عرضنا لشاهد منه ..

وما لنا ألاّ نرجع إلى الرسول المعلّم نفسه (عليه أفضل الصلاة والسلام) وهو النبيّ المبعوث، لنعاين بعض مواقفه إزاء القدسية المزعومة هذه .. تلك المواقف التي تصفع مقولات كذَبَة العصر الحديث ودجّاليه من أعداء هذا الدين ..

رأى (صلى الله عليه وسلم) رجلاً يرتعد أمامه تعظيماً وخوفاً فقال له: هوّن عليك فإنما أنا ابن امرأة كانت تأكل القديد وتمشي في الأسواق!

وكان يقول لأصحابه: لا تقوموا لي كما تقوم الأعاجم لأكاسرتها! وعندما خرج لتشبيع ابنه الصغير إبراهيم .. حدث وأن تعرّضت الشمس لكسوف جزئي فقال بعض المشيعين: إنها كسفت لموت إبراهيم .. فردّ رسول الله: إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله لا تنكسفان، ولا تنخسفان لموت أحد من الناس ..

وعندما دخل مكة فاتحاً .. وهو حلمه الكبير الذي انتظره السنوات الطوال، دخلها وهو يطأطئ رأسه حتى مسّت لحيته الشريفة ظهر ناقته القصواء شكراً لله سبحانه، وعرفاناً بالنصر الذي منحه إياه ..

نقارن هذا بصورة نابليون بونابرت المعلّقة على جدران اللوفر في باريس، لحظة دخوله برلين فاتحاً بعد معركة (ينّا) ضد الألمان عام 1807م .. كان منتفخ الأوداج .. مصعّر الخدّ .. دافعاً بصدره إلى الأمام غروراً واستكباراً ..

فأين هو ادّعاء القدسية يا أدعياء البحث العلمي في التاريخ ؟!

[ 3 ]

فماذا عن موقف "مؤرّخينا" من مسألة القدسية المزعومة هذه؟

مع اعترافنا المحتوم بحشود الأخطاء التي وقع فيها معظمهم، مبالغة أو تحزّباً أو تحريفاً أو قبولاً للأكاذيب، مما دفع مؤرّخاً كابن خلدون إلى وضع (مقدمته) المعروفة لصياغة معايير منهجية من أجل حصر وتجاوز هذه الأخطاء في التعامل مع المرويات التاريخية .. رغم هذا، فإن معظم هؤلاء المؤرخين حكوا عن الأسود والأبيض في سير الخلفاء وغير الخلفاء .. والتقديس الذي أحاط به بعض الخلفاء أنفسهم، لم يمنع العديد من المؤرخين من سرد الحقائق كما هي حتى وإن كشفت عن عيب أو نقيصة في هذا الخليفة أو ذاك .. بل إن مؤرخاً كبيراً كالطبري رفض قبول أي هدية من السلطة من أجل ألاّ يكون ذلك على حساب تحرّره من أي ضغط، وقدرته على سرد الحقيقة كما هي دون زيادة أو نقصان.

وثمة فرق كبير بين اعتبار الخليفة محوراً أساسياً تتمحور عنده الرواية التاريخية بسبب من دوره الأساسي في صناعة الحدث التاريخي، وبين إحاطته بالقدسية التي تخرجه بالكلية عن دائرة النقد والتقويم، وتحيطه بالهالة التي يخدع بها عامة المسلمين، والتي تجعل المؤرخ أو دارس التاريخ الإسلامي لا يستطيع أن يتناسى هذه القدسية التي أُضفيت على الخلفاء وغير الخلفاء، ولا يستطيع أن يجرّدهم من الهالة الدينية التي زادها مرور الزمن شدة وقوة! كما يزعم خصوم هذه الأمة!

وبمقدور أي قارئ عادي، فضلاً عن الدارس المتخصّص، أن يرجع إلى أي من مصادرنا التاريخية: ( المسعودي في مروج الذهب، أو الطبري في تاريخ الرسل والملوك، أو الدينوري في الأخبار الطوال، أو ابن الأثير في الكامل، أو ابن كثير في البداية والنهاية .. وغيرهم) لكي يرى بأم عينيه حشوداً من الروايات التي تمدح هذا الخليفة أو ذاك، وحشوداً أخرى تقدح فيه، وتنشر مثالبه أمام الأجيال! وهو أمر قد لا يحتاج بأكثر من إلقاء نظرة عجلى على معطيات تلك المصادر.

وثمة ما يجب أن نقف عنده لحظات ها هنا، ذلك أن تراث الأجداد في ميدان البحث التاريخي لا يقتصر على نمط واحد فحسب هو التاريخ السياسي العام، كالذي أنجزه المؤرخون الذين أشرنا إليهم، لكي نبني عليه حكماً عاماً ينطوي على كونه تاريخاً للفئة الحاكمة أولاً، وعملاً يتجاوز النقد ويتحاشى الكشف عن العيوب والأخطاء بسبب من إحاطة أفرادها بالقدسية، من جهة ثانية .. فنحن ـ حتى على فرض التسليم بهاتين المقولتين اللتين قد ترتبطان بمصنّفات التاريخ السياسي العام ـ فإن علينا أن ننتبه إلى الأصناف الأخرى من التآليف في حقل التاريخ والحضارة الإسلامية. وأوّل ما يلفت النظر في هذا السياق، ذلك الصنف المعروف "بكتب التراجم"، والتي تمثل الصنف الأكثر كثافة وازدحاماً في المكتبة التاريخية الإسلامية؛ إذ تكاد تغطي نسبة سبعين إلى ثمانين بالمائة من رفوف هذه المكتبة.

وكتب التراجم هذه، بمساحتها الواسعة تلك، لا تتعامل -إلاّ في حالات محدودة- مع الفئة الحاكمة، وتقف عندها، ولكنها تمضي إلى قلب المجتمع، إلى كل أولئك الذين أغنوا الحياة الفكرية والثقافية في تاريخ الأمة المسلمة، علماء وفقهاء ونحاة وأطباء وقضاة ولغويين ومحدّثين وشعراء ومعماريين ومهندسين وفلاسفة وفلكيين ومفسّرين وجغرافيين ومؤرخين .. إلى آخره .. بصرف النظر عن قربهم أو بعدهم عن السلطة .. وبالتالي بصرف النظر عن كل محاولات القداسة التي يدّعي الباحثون إياهم أن رجالات السلطة قد أحاطوا أنفسهم بها، فصدّوا البحث التاريخي بالتالي، عن أن يمضي قدماً للكشف عن الحقائق بشكل موضوعي غير متحيّز.

إننا، في دائرة كتب التراجم هذه، نلتقي بمئات، بل بألوف الناس الذين جاؤوا من قاع المجتمع حيناً، ومن طبقاته الوسطى حيناً آخر، والذين ما كانت لهم أيما علاقة مباشرة أو غير مباشرة بمراكز الحكم والسلطان، ومن ثم فإن بمقدور الباحث في العصر الحديث أن يجد أمامه واحدة من أوسع الشرائح في مجموعة المصادر التاريخية بعداً عن ادّعاءات التأثيرات الخاصة بقدسية الحكام!

فإذا أضفنا إلى كتب التراجم، الأنماط الأخرى التي تغذّي البحث التاريخي، والتي لا ترتبط هي الأخرى بمراكز الحكم والسلطان، من مثل كتب الجغرافيا والرحلات، والتاريخ المحلّي، وتواريخ المدن والأقاليم، وكتب الخطط، ومصادر التاريخ الأدبي، والمصنفات الموسوعية .. إلى آخره .. أدركنا كم أن القياس على مصادر التاريخ السياسي العام وحدها يتضمن قدراً من التعميم الخاطئ الذي هو نقيض المطالب المنهجية. هذا رغم أنه ـ مما يتناقض مع هذه المطالب كذلك ـ اعتبار مصادر التاريخ السياسي العام انعكاساً لحالة التقديس ـ المبالغ فيها ـ والتي قال الأدعياء بأن الخلفاء والحكام أحاطوا بها أنفسهم، فصدّوا المؤرخين عن إنجاز أعمال تتسم بالدقة والموضوعية كما خُيّل إليهم ..

[ 4 ]

ثمة ما يرتبط بما ذكرناه لدى قساوسة الاستشراق وحاخامات التفسير المادي للتاريخ وأنصاف الملاحدة من العلمانيين .. وكلهم من خصوم هذه الأمة وعقيدتها وتاريخها، رغم أن بعضهم من المحسوبين على الجغرافيا الإسلامية ويحملون في دفاتر نفوسهم أسماء إسلامية!!

إنهم يخلطون بين الخلفاء الراشدين ومن تبعهم بإحسان، وبين غيرهم من سلاطين المسلمين وخلفائهم وحكامهم .. ثم هم يخلطون هؤلاء جميعاً بأباطرة النصرانية وملوكها وباباواتها في القرون الوسطى؛ إذ لا اعتراض ولا نقد؛ لأن الاعتراض يعني الكفر،

والنقد يعني الهرطقة .. وصكوك الغفران تمضي بهؤلاء وهؤلاء إلى حافات الذّل والعذاب في الحياة الدنيا، وتدمغهم بالطرد من الجنة في الآخرة .. ثم هم يمضون خطوة أخرى فيعلنون أن أوروبا قدرت على فصل الدين عن السياسة في نهاية الأمر، فحرّرت السلطة هناك من القداسة، ومكنّت المؤرخين ـ بالتالي ـ من أن يكتبوا تاريخاً أشد دقة وإحكاماً، بينما عجز الشرق الإسلامي عن تحقيق هذا الفصل فامتلأ تاريخه بالتزوير والتحوير! وأصبح من ثم بحاجة-بعد إذ تحقق الفصل الموعود- إلى أن يُكتب من جديد!

لقد كان اقتران الديني بالدنيوي في أوروبا ـ ولأسباب تاريخية ليس هذا مجالها ـ نقيضاً لحرية التعبير الفكري أو المذهبي أو الذاتي، بل نقيضاً حتى لحرية التعبير العلمي، ومن ثم جاءت خطوة فك الارتباط بين الحلقتين -وبعد صراع مرير- لصالح الحرية الإنسانية في مجالاتها كافة، بما فيها البحث العلمي والتاريخي على وجه الخصوص؛ إذ لم يعد ثمة ما يصدّ الباحث عن المضي قدماً في التحقق بأكبر قدر من الموضوعية.

وعلى العكس تماماً، فإن اقتران الديني بالدنيوي في عالم الإسلام، كان تأسيساً للحرية وتأكيداً لها في سائر السياقات الفكرية والمذهبية والذاتية، ودفعة قوية في مجال حرية التفكير وإنشاء مؤسسات وتقاليد ومناهج البحث العلمي الذي يؤكد الغربيون اليوم كم أنهم في حضارتهم المتفوّقة الراهنة مدينون بصدده لعالم الإسلام وحضارته وتقاليده.

وهؤلاء الأدعياء يتوهمون، أو يتعمدون التوّهم، بأن هناك توازياً بين التجربتين النصرانية والإسلامية، ويصرّون على استخدام عبارة "العصور الوسطى" كإطار زمني للتجربتين من أجل تأكيد وهمهم هذا، وهو أسلوب في التعميم لا يستند إلى أساس سليم. فليس المهم أن تحدث التجارب في زمن واحد، وإنما المهم هو طبيعة التجربة ومكوّناتها الأساسية، وتوجّهاتها الرئيسة. فها هنا بصدد الطبيعة والمكونات والتوجهات، نجد التجربتين تفترقان ابتداء، وعلى زاوية مائة وثمانين درجة، فتذهب إحداهما في اتجاه وتمضي الأخرى في اتجاه معاكس تماماً، ومن ثم فإن أي مقارنة بين التجربتين تحترم العلم والمنهج، يجب أن تلحظ هذا، وإلاّ فإنه التعصّب الأعمى، أو الجهل، مما يجعل أدعياء العلمية هؤلاء يخلطون بين التجربتين، ويضعون البيض كلّه في سلة واحدة.

لقد كانت إحدى أهم نقاط الارتكاز في العقيدة والتصور الإسلاميين هو التحرّر العقلي والسلوكي والوجداني من أي شبهة قد تقود إلى القداسة والصمنية والافتتان، وإقامة الأسلاك الشائكة ضد النقد والتقويم. ولقد كان هذا أمراً طبيعياً؛ لأنه ينبثق عن قاعدة الإسلام الأساسية: التوحيد المطلق لله سبحانه، وضرب كل صور الشرك والعبودية لغيره. حتى إننا لنجد رسول الله (صلى الله عليه وسلم) يبذل جهداً صعباً مع أصحابه الكرام (رضي الله عنهم) فيربّي فيهم هذا الحسّ بدءًا من التعامل معه كنبيّ، وأن عليهم أن يفرّقوا بشكل حاسم بينه كرسول ينقل إليهم تعاليم السماء، ويفسّرها، ويوضحها، وبينه كإنسان (بشر) فيما أكده القرآن الكريم أكثر من مرة: (قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ...)[الكهف: من الآية110]، (...قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَراً رَسُولاً)[الإسراء: من الآية93].

بينما في التجربة النصرانية المحرّفة تصير القاعدة هي الشرك والتثليث، وتصبح قداسة الأشخاص وصنميات التسلسل الكهنوتي حاجزاً عالياً صعباً يصدّ المنتمين للنصرانية عن أي محاولة للتحاوز بالنقد والتقويم والاحتجاج؛ لأنهم ـ ابتداءً ـ انكسروا من الداخل .. اعتادوا الانحناء للرموز النصرانية وعدم مواجهتها بسبب من أنهم مُرّرت عليهم أسطورة التثليث والقداسة فتكيّفوا عقلياً وسلوكياً ووجدانياً وفق مطالبها الموهومة.

ولقد انعكست كل من التجربتين الإسلامية والنصرانية على التاريخ.. على معادلات الزمان والمكان، فتشكلت أولاهما وفق مبادئ ومنطلقات تختلف في جوهرها عما تشكلت به الأخرى

============

#كيف واجهت الحضارة الإسلامية مشكلة المياه؟

عرض : طارق ديلواني 8/5/1427

04/06/2006

- تأليف :د. خالد عزب

- صدرعن المنظمة الإسلامية للتربية والثقافة والعلوم (الاسيسكو).

صدر مؤخراً عن المنظمة الإسلامية للتربية والثقافة والعلوم (الاسيسكو) في المغرب، كتاب «كيف واجهت الحضارة الإسلامية مشكلة المياه؟»، للدكتور خالد عزب مدير إدارة الاعلام بمكتبة الإسكندرية، وقدمه الدكتور عبد العزيز التويجري مدير عام (الاسيسكو).

الكتاب حاول أن يلخص تعدد مجالات الإبداع في الحضارة الإسلامية، حيث ازدهرت العلوم والمعارف والآداب والفنون، وفي مقدمتها علم المياه الذي يبحث في خصائص الماء، وفي تصريفه، وفي استغلاله.

وفي استخراجه من باطن الأرض، وفي بناء السدود، وتشييد الجسور، وفي كل شأن من الشؤون المتعلقة بالمياه، وأكد "التويجري" أن العرب تفوقوا في هذا الحقل العلمي تفوقاً باهراً، ووجّه الشكر لمؤلف الكتاب على جهوده؛ إذ سبر غوْر علم صعب المنال للكثيرين.

ويعنون (خالد عزب) الفصل الأول من كتابه «الماء في الشرع الشريف» وذكر فيه أن الرؤية الإسلامية للماء على كونه أصل الحياة، هبة من الله، وشراب المعرفة، وله أيضاً معنى تطهيرياً؛ لأنه يطهر المسلم خارجياً (جسده)، وداخلياً (روحه)، وأن إمداد الآخرين بالماء، سواء كان إنساناً أو حيواناً، يعد زكاة في الإسلام.

ثم يتناول المؤلف علم استنباط المياه عند المسلمين، مستعرضاً مؤلفات علماء المسلمين في علم استنباط المياه، وأول كتاب عُرف في هذا العلم «علل المياه وكيفية استخراجها واستنباطها في الأرضين المجهولة» الذي ألفه ابن وحشية، من أهل المئة الثالثة الهجرية.

ويكشف الكتاب عن أن مدينة مدريد الإسبانية تدين بفضل وجودها لشبكة المياه التي مدها العرب ببراعة من خارج المدينة إلى طرقاتها، وهي ممدودة بمناسيب محسوبة بدقة، واسم مدريد نفسه يدل على ذلك (مجري ـ يط) وهما كلمتان عربية ولاحقة لاتينية دارجة تدل على التكثير أي تكثير المياه.

ويطوف بنا المؤلف في الفصل بين العديد من تجارب المدن الإسلامية في مواجهة مشكلة المياه من فاس إلى مراكش إلى الجزائر إلى بلغراد ثم سمرقند، ومستعرضاً الأساليب التقنية الخاصة لحل مشكلات المياه، سواء الأفلاج في الإمارات وعمان، أو الخيول في اليمن أو المواجل في تونس.

لكن الكتاب يفتح الباب للجدل حول قضية في غاية الأهمية، وهي قضية الأمن المائي العربي في عصر العولمة حالياً؛ إذ تتسارع الخطا لأن تكون حروب العالم المقبلة على قطرة الماء.

ولا يمكن لنا أن ننكر أن ثمة تحدياً قادماً يواجه أمتنا العربية هو تحدي المياه، ففي غضون الـ (20) عاماً المقبلة ستصل أزمة المياه إلى ذروتها، وستعاني الأمة –برمتها- من "الفقر المائي".

و"إسرائيل" التي استولت على 60% من احتياجاتها المائية بقوة السلاح من العرب منذ عام 1967 لم تكتف بذلك، بل إنها تحاول العبث بمقدرات العرب بتشجيع أوغندا وتركيا على إقامة السدود حتى لا تصل المياه إلى الدول العربية من خارجها!

وعلى هذا فإن الأمن المائي في هذا القرن سيكون عنصراً أساسياً في تحديد مسار الأمن السياسي لكثير من الدول.

وتوضح التقارير أن استهلاك المياه في العالم قد ارتفع من (1360) مليار كيلو متر مكعب عام 1950 إلى (4310) مليار كيلو متر مكعب عام 1990، وتستهلك الصناعة 23% ثم الاستخدامات المنزلية 8%، ويرى الكثيرون أن العالم مقبل على مشكلة نقص المياه في القرن الحادي والعشرين، ومن هنا أوصت المؤتمرات المعنية بإنشاء وكالات متخصصة لحماية أحواض الأنهار مثل حوض النيل وحوض الفرات، لتطرح حلولاً دبلوماسية هادئة تستأصل جذور الصراع حول المياه وتحويلها إلى عنصر جاذب لدول الحوض ..وتوحّد جهودها من أجل احترام حصصها وحمايتها من التلوث.

ويعاني الوطن العربي من ندرة موارده المائية، فالجزء الأكبر منه يقع في المناطق الجافة .. التي تتميز بأن معدلات هطول الأمطار فيها غير منتظمة وغير متوقعة، وعلى الرغم من أن مساحة العالم العربي تشكل نحو 10% من إجمالي مساحة الكرة الأرضية، إلاّ أن معدلات هطول الأمطار بها لا تزيد عن 2% فقط من أمطار العالم، كما أن حوالي 55% من إجمالي الطلب على المياه في الدول العربية يتم توفيره من الموارد المائية (السطحية ـ الجوفية) المشتركة مع الدول المجاورة خارج المنطقة العربية، مما سيؤدي إلى حدوث عواقب سلبية داخل الوطن العربي، فضلاً عما يصاحب هذه المشكلة من تعقيدات سياسية واقتصادية واجتماعية، ويُقدّر حجم إجمالي الموارد المائية في الدول العربية بحوالي (328) مليار م 3/ سنة، والذي يمثل حوالي 0.8% من إجمالي الموارد المائية المتجددة في العالم، وتمثل المياه الجوفية ما يقرب من 14 % من الموارد المائية.. ويصل متوسط نصيب الفرد من المياه المتاحة المتجددة في الإقليم إلى حوالي (1.278) م3/فرد/سنة، بينما يصل هذا المتوسط في غالبية دول هذا الإقليم إلى أقل من خط "الفقر المائي"؛ إذ يُقدّر الحد الأدنى للحاجة من المياه بمقدار (1000) م3/فرد/سنة.

وفي ظل الندرة النسبية للموارد المائية المتاحة بالوطن العربي ومحدودية هطول الأمطار، وبداية بوادر استنزاف المياه وتدهور نوعيتها، إلى جانب ارتفاع معدلات النمو السكاني بالإقليم العربي.. والنمو الحضري السريع في مشروعات الري ستؤدي كل هذه العوامل إلى تفاقم المشكلة المائية عاماً بعد عام.

يشير الباحث أحمد سيلمان في دراسته القيمة "مستقبل الأمن المائي العربي في عصر العولمة: رؤية حضارية" إلى أن إسرائيل تطمع في زيادة مواردها من خلال مشروعات تعاون إقليمية مع الدول المحيطة بها لتحقق لها أمنها القومي، وتستوعب الزيادة السكانية المقدرة بنحو (1.6) مليون نسمة من المهاجرين الجدد فضلاً عن التوسع الزراعي بنحو (2.16) مليون فدان جديدة، الأمر الذي يساعد إسرائيل على زيادة قوتها البشرية والعسكرية وقدرتها الشاملة على حساب الدول العربية.

وبالعودة إلى الرؤية الإسلامية التي يطرحها الكاتب الدكتور خالد عزب نجد إن نصوص الشريعة الإسلامية أجمعت على المحافظة على موارد المياه، وعلى حمايتها من كل العوامل التي تسبب فسادها.

وجاءت أحكام الشرع لتنبه إلى أهمية الماء في الحياة، وتحظر من الإسراف في استهلاكه في أغراض الشرب والصناعة والزراعة وفي مجال العبادات سواء أكانت هذه المياه متوفرة بكثرة أو محدودة الكمية؛ لأن العبرة بالتصرف الأخلاقي المتوازن فيها وليس بالنظر إلى كثرتها أو قلتها حتى تحتفظ البيئة بهذا المورد المهم.

=============

# شهادة التاريخ..ما الذي فعلناه وما الذي فعلوه؟

أ. د .عماد الدين خليل 1/12/1426

01/01/2006

[ 3 ]

وما هي إلا لمحات فحسب مما تحدّث عنه توماس أرنولد فأطال الحديث، ولن تغني الشواهد هنا عن متابعة هذا الكتاب ـ الوثيقة ـ الذي يجيء على يد باحث يحترم العلم بالقدر الذي لم نألفه لدى الغربيين في تعاملهم مع عقيدتنا وتاريخنا إلا نادراً(1).

ما الذي كان يحدث في المجتمعات الأخرى بين أبناء الدين الغالب وبين المنتمين للأديان والمذاهب الأقل انتشاراً؟

يقول غوستاف لوبون: "لقد أُكرهت مصر على انتحال النصرانية، ولكنها هبطت بذلك إلى حضيض الانحطاط الذي لم ينتشلها منه سوى الفتح العربي. وكان البؤس والشقاء مما كانت تعانيه مصر التي كانت مسرحاً للاختلافات الدينية الكثيرة في ذلك الزمن. وكان أهل مصر يقتتلون ويتلاعنون بفعل تلك الاختلافات، وكانت مصر، التي أكلتها الانقسامات الدينية وأنهكها استبداد الحكام، تحقد على سادتها الروم، وتنتظر ساعة تحريرها من براثن قياصرة القسطنطينية الظالمين"(2).

ويقول الندوي: "ثارت حول الديانة النصرانية وفي صميمها مجادلات كلامية شغلت فكر الأمة واستهلكت ذكاءها وتحولت في كثير من الأحيان إلى حروب دامية، وقتل وتدمير وتعذيب ، وإغارة وانتهاب واغتيال، وحوّلت المدارس والكنائس والبيوت إلى معسكرات دينية تتنافس، وأقحمت البلاد في حرب أهلية، وكان أشد مظاهر هذا الخلاف الديني ما كان بين نصارى الشام والدولة الرومية، وبين نصارى مصر، أو بين الملكانية والمنوفيسية بلفظ أصح. وقد اشتد الخلاف بين الحزبين في القرنين السادس والسابع حتى صار كأنه حرب بين دينين متنافسين، أو كأنه خلاف بين اليهود والنصارى، كل طائفة تقول للأخرى: إنها ليست على شيء... وشهدت مصر من الفظائع ما تقشعر منه الجلود، فرجال كانوا يُعذّبون ثم يُقتلون إغراقاً، وتوقد المشاعل وتسلط نارها على الأشقياء حتى يسيل الدهن من الجانبين إلى

الأرض، ويُوضع السجين في كيس مملوء من الرمال ويُرمى به في البحر، إلى غير ذلك من الفظائع "(3).

وحدث بين اليهود والنصارى ما هو أشد هولاً، ففي السنة الأخيرة من حكم فوكاس

(610م) على سبيل المثال، أوقع اليهود بالمسيحيين في أنطاكية، فأرسل الإمبراطور قائده أبنوسوس ليقضي على ثورتهم، فذهب وأنفذ عمله بقسوة نادرة، فقتل الناس جميعاً،

قتلاً بالسيف، وشنقاً وإغراقاً وتعذيباً ورمياً للوحوش الكاسرة. وحدث ذلك بين اليهود والنصارى مرة بعد مرة. وهذه واحدة من نماذج التعامل بين الطرفين يوردها المؤرخ المصري المقريزي: " في أيام فوقا ملك الروم بعث كسرى ملك فارس جيوشه إلى بلاد الشام ومصر فخرّبوا كنائس القدس وفلسطين وعامة بلاد الشام، وقتلوا النصارى أجمعهم، وأتوا إلى مصر في طلبهم، وقتلوا منهم أمة كبيرة، وسبوا منهم سبياً لا يدخل تحت حصر، وساعدهم اليهود في محاربة النصارى وتخريب كنائسهم، وأقبلوا نحو الفرس من كل مكان فنالوا من النصارى كل منال، وأعظموا النكاية فيهم، وخرّبوا لهم كنيستين في القدس، وأحرقوا أماكنهم وأسروا بطريك القدس وكثيراً من أصحابه... وكان هرقل قد ملك الروم، وغلب الفرس، ثم سار من قسطنطينية ليمهد ممالك الشام ومصر ويجدد ما خربه الفرس، فخرج إليه اليهود من طبرية وغيرها وقدموا له الهدايا الجليلة، وطلبوا منه أن يؤمنهم ويحلف لهم على ذلك، فأمّنهم وحلف لهم، ثم دخل القدس وقد تلقاه النصارى بالأناجيل والصلبان، فوجد المدينة وكنائسها خراباً، فساءه ذلك، وأعلمه النصارى بما كان من ثورة اليهود مع الفرس، وأنهم كانوا اشد نكاية لهم من الفرس، وحثوا هرقل على الوقيعة بهم وحسنوا له ذلك، فاحتج عليهم بما كان من تأمينه لهم وحلفه، فأفتاه رهبانهم وبطاركتهم وقسيسوهم بأنه لا جرم عليه في قتلهم، فمال إلى قولهم وأوقع باليهود وقيعة شنعاء أبادهم جميعهم فيها، حتى لم يبق في ممالك الروم بمصر والشام منهم إلا من فر واختفى"(4).

أما ما فعله النصارى بالمسلمين عندما تمكنوا منهم، فيكفي أن نشير إلى ما نفذته السلطة والكنيسة الاسبانيتين عن طريق محاكم التحقيق مع بقايا المسلمين في الأندلس بعد سقوط آخر معاقلهم السياسية: غرناطة، مما قصه علينا بالتفصيل العلمي الموثق محمد عبد الله عنان في كتابه القيم (نهاية الأندلس وتاريخ العرب المتنصرين)(5)، وما فعلته قوى الاستعمار الصليبي في آسيا وإفريقية مع الشعوب الإسلامية عبر القرون الأخيرة، وما تفعله القيادات الإفريقية النصرانية مع المسلمين.

[ 4 ]

في العصر الأموي والعصور العباسية التالية، حين ازداد المجتمع الإسلامي تعقيداً واتساعاً، و أخذت منحنيات الإبداع الحضاري تزداد صعوداً واطراداً، وتزداد معها المؤسسات الإدارية نضجاً ونمواً، أخذ الموقف من غير المسلمين يتألق بالمزيد من صيغ التعامل الإنساني أخذاً وعطاء.

لقد فتح المسلمون، قواعد وسلطة، صدورهم لغير المسلمين يهوداً ونصارى ومجوساً وصابئة، وأتاحوا للعناصر المتميزة من هؤلاء وهؤلاء احتلال مواقعهم الاجتماعية والوظيفية في إطار من مبدأ تكافؤ الفرص، لم تعرفه أمة من الأمم عبر تاريخ البشرية كله: لقد ساهم غير المسلمين في صنع الحضارة الإسلامية وإغنائها، دونما أي عقد أو حساسيات من هذا الجانب أو ذاك، كما فُتح الطريق أمامهم للوصول إلى أعلى المناصب، بدءاً من الكتابة في الدواوين وانتهاء بمركز الوزارة الخطير نفسه، وأُتيح لأبناء الأديان والمذاهب الأخرى أن يتحركوا في ساحات النشاط الاقتصادي والمالي بحرية تكاد تكون مطلقة، فنمّوا ثرواتهم وارتفعوا بمستوياتهم الاجتماعية بما يوازي قدراتهم على العمل. والنشاط، وملؤوا بهذا وذاك مساحة واسعة في ميدان النشاط الاقتصادي والمالي جنباً إلى جنب مع مواطنيهم المسلمين، بل إن بعض الأنشطة المالية والاقتصادية كادت تصبح من اختصاص أهل الكتاب، تماماً كما كانت الترجمة في المجال الثقافي من نصيبهم، وكما كانت بعض الوظائف الإدارية والكتابية في المجال الإداري من نصيبهم كذلك.

إنه مجتمع تكافؤ الفرص، والحرية العقديّة، والانفتاح. لقد استجاب المسلمون للتحدي الاجتماعي، وكانوا في معظم الأحيان عند حسن ظن رسولهم - صلى الله عليه وسلم- بهم، وهو يوصيهم قبل انتقاله إلى الرفيق الأعلى أن يكونوا رفقاء بأهل الذمة!!

الوقائع كثيرة، تيار من المعطيات التاريخية نفذت في ساحة المجتمع الإسلامي عبر القرون الطوال، نفذت على مختلف الجبهات ووفق سائر الاتجاهات الحضارية والإدارية والاقتصادية، والاجتماعية عموماً.. ونلتقي بشهادة فيليب حتي في كتابه (تاريخ العرب المطول) فهي تحمل دلالتها ولا ريب كشاهد على معطيات هذا التيار الواسع: " تمتع أهل الذمة بقسط من الحرية لقاء تأديتهم الجزية والخراج. وارتبطت بالفعل قضاياهم في الأمور المدنية والجنائية برؤسائهم الروحيين، إلا إذا كانت القضية تمسّ المسلمين... ".

" لقد كانت ميسون زوجة معاوية نصرانية، كما كان شاعره نصرانياً، وكذلك كان طبيبه وأمير المال في دولته... "(6).

"وأقام الذميون في مزارعهم ومنازلهم الريفية، وتمسكوا بتقاليدهم الثقافية، وحافظوا على لغاتهم الأصلية؛ فكانت لهم الآرامية والسريانية لغة في سوريا والعراق، والإيرانية في فارس، والقبطية في مصر... وفي المدن تقلد النصارى واليهود مناصب هامة في دوائر المال والكتابة والمهن الحرة، وتمتعوا في ظل الخلافة بقسط وافر من الحرية، ونالوا كثيراً من التساهل والعطف. وشهد بلاط العباسيين مناقشات كتلك التي جرت في بلاط معاوية

وعبد الملك، وقد ألقى تيموتاوس بطريك النساطرة في سنة (781 م) دفاعاً عن النصرانية أمام المهدي، لا يزال محفوظاً نصه إلى اليوم. كذلك تحدّرت إلينا رسالة للكندي تصرح أنها بيان لمناقشة جرت سنة (819 م) في حضرة المأمون في مقابلة بين محاسن الإسلام والنصرانية...

" وكان للعهدين القديم والجديد من الكتاب المقدس ترجمات عربية معروفة، وهناك أخبار تذكر أن رجلاً يُدعى (أحمد بن عبد الله بن سلام) كان قد ترجم التوراة إلى العربية منذ ولاية هارون الرشيد. ولدينا ما يثبت أيضاً أقساماً من التوراة كانت قد نُقلت إلى العربية في القسم الأخير من القرن السابع.

" ثم إننا نعرف وزراء نصارى قاموا في الشطر الثاني من القرن التاسع منهم عبدون بن صاعد.. وكان للمتقي وزير نصراني، كما كان لأحد بني بويه وزير آخر. أما المعتضد فقد جعل في المكتب الحربي لجيش المسلمين رئيساً نصرانياً. وقد نال أمثال هؤلاء النصارى من أصحاب المناصب العالية ما ناله زملاؤهم المسلمون من الإكرام والتبجيل... وكانت أكثرية أطباء الخلفاء أنفسهم من أبناء الكنيسة النسطورية. وقد نُشر أخيراً براءة منحها المكتفي سنة ( 1138 م ) لحماية النساطرة، وهي توضح مدى العلاقات الودية بين رجال الإسلام الرسميين وبين رجال النصرانية.

" ومن أعجب الظواهر في حياة النصرانية في ظل الخلفاء، أنه كان لها من القوة والنشاط ما دفع بها إلى التوسع فافتتحت لها مراكز تبشيرية في الهند والصين..".

" ولقد لقي اليهود من محاسن المسلمين فوق ما لقيه النصارى بالرغم مما في بعض الآيات القرآنية من تنديد بهم. والسبب أنهم كانوا قليلي العدد فلم يُخش أذاهم. وقد وجد المقدسي سنة (985م) أن أكثر الصيارفة وأرباب البنوك في سورية يهود، وأكثر الكتبة والأطباء نصارى. ونرى في عهد عدد من الخلفاء وأخصهم المعتضد أنه كان لليهود في الدولة مراكز هامة. وكان لهم في بغداد مستعمرة كبيرة ظلت فيها مزدهرة حتى سقوط المدينة. وقد زار هذه المستعمرة بنيامين التطيلي حوالي سنة (1169م) ، فوجد فيها عشر مدارس للحاخامين، وثلاثة وعشرين كنيساً، وأفاض بنيامين في وصف الحفاوة التي لاقاها رئيس اليهود البابليين من المسلمين، بصفته سليل بيت داود النبي عليه السلام ورئيس الملة الإسرائيلية، وقد كان لرئيس الحاخامين هذا من السلطة التشريعية على أبناء طائفته ما كان للجاثليق على جميع النصارى.

وقد روى إنه كانت له ثروة ومكانة وأملاك طائلة فيها الحدائق والبيوت والمزارع الخصبة.

وكان إذا خرج إلى المثول في حضرة الخليفة ارتدى الملابس الحريرية المطرزة، وأحاط به رهط من الفرسان، وجرى أمامه ساع يصيح بأعلى صوته: " أفسحوا درباً لسيدنا ابن داود .."(7).

وما يُقال عن العصرين الأموي والعباسي، يمكن أن يُقال عن العصور التي تلتهما: الفاطميون والأيوبيون والمماليك والعثمانيون، لولا بعض ردود الأفعال الغاضبة التي

اعتمد فيها العنف لأول مرة بسبب من مواقف عدائية معلنة اتخذتها هذه الفئة أو تلك من

أهل الكتاب، فمالأت خصوم المسلمين، ووضعت أيديها بأيدي الغزاة الذين قدموا لإبادتهم وإفنائهم، وتآمرت سراً وجهراً لتدمير عقيدتهم وإزالة ملكهم من الأرض. ويمكن أن يذكر المرء ـ ها هنا ـ المواقف العدائية العديدة التي اتخذها نصارى الشام والجزيرة والموصل والعراق عامة، خلال محنة الغزو المغولي؛ إذ رحبت جماعات منهم بالغزاة، وتآمرت معهم ضد مواطنيهم المسلمين، فاحتضنهم الغزاة واستخدموهم في فرض هيمنتهم، واتخذوهم مخالب لتمزيق أجساد المسلمين الذين عاشوا معهم بحرية وإخاء عبر القرون الطوال، ويمكن أن نتذكر كذلك التجارب المرة نفسها التي مارستها جماعات من اليهود والنصارى في العصر العثماني، وردود الأفعال العثمانية إزاءها.. الخ. لكن هذه الحالات لم تكن في نهاية التحليل، ومن خلال نظرة شمولية لحركة المجتمعات الإسلامية عبر التاريخ، سوى استثناءات أو نقاط سوداء محدودة على صفحة واسعة تشع بياضاً، على العكس تماماً مما شهدته المجتمعات الأخرى؛ حيث كانت حالات الحرية والعدالة وتكافؤ الفرص بين أصحاب الدين الحاكم ومخالفيه نقاطاً استثنائية بيضاء في صفحة تنفث حقداً ودخاناً.

ومن عجب أن مرحلة الحروب الصليبية نفسها، تلك التي دامت حوالي القرنين من الزمن، وكان الغزاة فيها يحملون الطائفية والكراهية ضد كل ما هو إسلامي، والتي

جاءت لكي تدمر على المجتمع الإسلامي أمنه واستقراره، وتفتنه عن دينه لصالح الكنيسة المتعصبة، هذه التجربة المرة لم تسق القيادات والمجتمعات الإسلامية إلى ردود فعل طائفية تقودهم إلى عدم التفرقة، وهم يتحركون بسيوفهم، بين الغزاة وبين النصارى المحليين، رغم أن فئات من هؤلاء تعاونت علناً مع الغزاة ووضعت أيديها في أيديهم، وتآمرت معهم على إنزال الدمار بالإسلام والمسلمين.

ولحسن الحظ فإن الغزاة الذين انطلقوا أساساً من نقطة التعصب والمذهبية، مارسوا الطائفية نفسها إزاء رفاقهم في العقيدة ممن ينتمون لأجنحة نصرانية أخرى، بدءاً من البيزنطيين الأرثوذكس، وانتهاء بجل الفئات النصرانية المحلية، ممن لم تدن بالمذهب الكاثوليكي الذي انضوى تحت لوائه معظم الغزاة، ولولا ذلك لامتدت مساحة التعاون بين الطرفين، فيما كان يمكن أن يؤدي إلى نتائج أكثر وخامة.

المهم إننا لم نشهد عبر مرحلة الحروب الصليبية هذه، بثوراً طائفية، في نسيج المجتمع الإسلامي، كرد فعل لغزو وهو في أساسه ديني متعصب.. لم نسمع بمذبحة ارتكبها المسلمون ضد رفاقهم في الأرض، ولا بعمل انتقامي غير منضبط نفذوه ضد مواطنيهم وأهل ذمتهم!!

وما من شك في أن هذا الانفتاح الذي شهده المجتمع الإسلامي إزاء العناصر غير الإسلامية، والفرص المفتوحة التي منحها إياهم، قاد بعض الفئات ـ كما رأينا ـ إلى ما يمكن عدّه استغلالاً للموقف السمح، ومحاولة لطعن المسلمين في ظهورهم، وتنفيذ محاولات تخريبية على مستوى السلطة حيناً، والعقيدة حيناً، والمجتمع نفسه حيناً ثالثاً،

وإننا لنتذكر هنا ـ على سبيل المثال كذلك ـ ما فعلته الطوائف اليهودية بدءاً من محاولات السبئية، وانتهاء بمؤامرة الدونمة لإسقاط الخلافة العثمانية، وما فعلته بعض الطوائف المجوسية في العصر العباسي فيما يشكل العمود الفقري للحركة الشعوبية، التي استهدفت العرب والمسلمين على السواء.

لكن هذه الخسائر التي لحقت بالمسلمين، من جراء تعاملهم الإنساني، مع مخالفيهم في العقيدة، والمخاطر التي تعرضوا لها عبر تاريخهم الطويل، من قبل هؤلاء الخصوم الذين استغلوا الفرصة، وسعوا إلى ممارسة التخريب والتآمر والالتفاف، لا تسوّغ البتة، اعتماد صيغ في التعامل، غير تلك التي اعتمدها المسلمون في تاريخهم الاجتماعي الطويل .. وتقاليد غير تلك التي منحهم إياها، ورباهم عليها كتاب الله، وسنة رسوله عليه السلام، وتجارب الآباء والأجداد.

إن الخسائر الجزئية ـ مهما كانت فداحتها ـ لأهون بكثير من الخسارة الكبرى ذات البعد الإنساني، وإن الإسلام نفسه - قبل غيره من الأديان- كان سيخسر الكثير، لو حاول أن يسعى إلى تحصين نفسه بالحقد والطائفية، والردود المتشنّجة التي تجاوز حدودها المعقولة والمسوّغة.

وإن الإنسان نفسه كان سيغدو الضحية، لو أن المجتمع الإسلامي خرج على التقاليد النبيلة المتألقة التي علّمه إياها رسول الله - صلى الله عليه وسلم- ؛ لأنه ـ فيما عدا التاريخ الإسلامي ـ فإنه ليس ثمة في تاريخ البشرية، قديماً وحديثاً، مرحلة كتاريخ الإسلام احترم فيها فكر المخالفين وصينت عقائدهم، وحُميت حقوقهم، بل كانوا ـ على العكس تماماً ـ هدفاً للاستعباد والهوان والضياع، بل التصفية والإفناء.

لم يكن هدف الفتوحات الإسلامية جميعها، منذ عصر الرسول القائد - صلى الله عليه وسلم- وحتى سقوط العثمانيين، فرض العقيدة الإسلامية بالقوة كما يتعمد البعض أن يصور أو يتصور.

إنما نشر السيادة والمنهج الإسلامي في العالم. إنها محاولة جادة لتسلم القيادة من الأرباب والطواغيت، وتحويلها إلى أناس يؤمنون بالله واليوم الآخر، ولا يريدون علواً في الأرض ولا فساداً.

وتحت ظلال هذه القيادة، كان بمقدور الناس، وقد حُرّروا تماماً من أي ضغط أو تأثير مضاد أن ينتموا للعقيدة التي يشاؤون، ولما كانت عقيدة الإسلام هي الأرقى والأجدر والأكثر انسجاماً مع مطالب الإنسان بأي مقياس من المقاييس، كان من الطبيعي أن تنتشر بين الناس، وأن ينتمي إليها الأفراد والجماعات بالسرعة التي تبدو للوهلة الأولى أمراً محيراً، ولكن بالتوغل في الأمر يتبين مدى منطقية هذا الإقبال السريع الذي يختزل الحيثيات، انتماءً إلى الإسلام وتحققاً بعقيدته.. إنه الجذب الفعّال الذي تملكه هذه العقيدة، والاستجابة الحيوية لحاجات الإنسان في أشدها اعتدالاً وتوازناً وانسجاماً، تلك التي يحققها هذا الدين.

إن سير توماس أرنولد، وهو رجل من الغرب سبق وان أشرنا إليه، يتفرغ السنين الطوال لمتابعة هذه المسألة، ثم يعلنها في كتابه المعروف (الدعوة إلى الإسلام) بوضوح لا لبس فيه، واستناد علمي على الحقائق وحدها بعيداً عن التأويلات والتحزّبات والميول والأهواء. ونكتفي هنا ببعض الشهادات التي قدمها هذا الباحث كنماذج تؤكد البعد الإنساني للسلوكية التي اعتمدها الإسلام في الانتشار. يقول الرجل: "يمكننا أن نَحكُم من الصلات الودية التي قامت بين المسيحيين والمسلمين من العرب بأن القوة لم تكن عاملاً حاسماً في تحويل الناس إلى الإسلام. فمحمد نفسه عقد حلفاً مع بعض القبائل المسيحية، وأخذ على عاتقه حمايتهم ومنحهم الحرية في إقامة شعائرهم الدينية، كما أتاح لرجال الكنيسة أن ينعموا بحقوقهم ونفوذهم القديم في أمن وطمأنينة"(8). "إن الأخبار الخاصة بزوال المسيحية من بين القبائل العربية النصرانية التي كانت تعيش في بلاد العرب الشمالية، لا تزال بحاجة إلى شيء من التفصيل، والظاهر أنهم قد انتهوا إلى الامتزاج بالمجتمع الإسلامي الذي كان يحيط بهم عن طريق ما يسمونه الاندماج السلمي، والذي تم بطريقة لم يحسسها أحد منهم، ولو

أن المسلمين حاولوا إدخالهم في الإسلام بالقوة عندما انضووا بادئ الأمر تحت الحكم الإسلامي، لما كان من الممكن أن يعيش المسيحيون بين ظهرانيهم حتى عصر الخلفاء العباسيين"(9) ، "ومن هذه الأمثلة التي قدمناها عن ذلك التسامح الذي بسطه المسلمون الظافرون على العرب المسيحيين في القرن الأول من الهجرة، واستمر في الأجيال المتعاقبة، نستطيع أن نستخلص بحق أن هذه القبائل المسيحية التي اعتنقت الإسلام إنما فعلت ذلك عن اختيار وإرادة حرة، وإن العرب المسيحيين الذين يعيشون في وقتنا هذا بين جماعات مسلمة لشاهد على هذا التسامح"(10) ، "لما بلغ الجيش الإسلامي وادي الأردن وعسكر أبو عبيدة في فحل، كتب الأهالي المسيحيون في هذه البلاد إلى العرب يقولون: (يا معشر العرب أنتم أحب إلينا من الروم وإن كانوا على ديننا، أنتم أوفى لنا وأرأف بنا وأكف عن ظلمنا وأحسن ولاية علينا. ولكنهم غلبونا على أمرنا وعلى منازلنا) ، وأغلق أهل حمص مدينتهم دون جيوش هرقل، وأبلغوا المسلمين أن ولايتهم أحب إليهم من ظلم الإغريق وتعسفهم"(11) ، " أما ولايات الدولة البيزنطية التي سرعان ما استولى عليها المسلمون ببسالتهم، فقد وجدت أنها تتمتع بحالة من التسامح لم تعرفها طوال قرون كثيرة، بسبب ما شاع بينهم من الآراء اليعقوبية والنسطورية، فقد سُمح لهم أن يؤدّوا شعائر دينهم دون أن يتعرض لهم أحد، اللهم إلا إذا استثنينا بعض القيود التي فُرضت عليهم منعاً لإثارة أي احتكاك بين أتباع الديانات المتنافسة. ويمكن الحكم على مدى هذا التسامح ـ الذي يلفت النظر في تاريخ القرن السابع ـ من هذه العهود التي أعطاها العرب لأهالي المدن التي استولوا عليها، وتعهدوا لهم بحماية أرواحهم وممتلكاتهم وإطلاق الحرية الدينية لهم في مقابل الإذعان ودفع الجزية(12) " وقد زار عمر الأماكن المقدسة يصحبه البطريق، وقيل: إنه بينما كانا في كنيسة القيامة- وقد حان وقت الصلاة- طلب البطريق إلى عمر أن يصلي هناك، ولكنه بعد أن فكر اعتذر وهو يقول: إنه إن فعل ذلك فإن أتباعه قد يدعون فيما بعد أنه محل لعبادة المسلمين"(13) " وكان المسيحيون يؤدون الجزية مع سائر أهل الذمة الذين كانت تحول ديانتهم بينهم وبين الخدمة في الجيش مقابل الحماية التي كفلتها لهم سيوف المسلمين"(14) ، " ولما كان المسيحيون يعيشون في مجتمعاتهم آمنين على حياتهم وممتلكاتهم، ناعمين بمثل هذا التسامح الذي منحهم

حرية التفكير الديني، تمتعوا- وخاصة في المدن- بحالة من الرفاهية والرخاء في

الأيام الأولى من الخلافة"(15) ، " زار راهب دومنيكاني من فلورنسا ويدعى

(Ricoldos de Monre Crucis) بلاد الشرق حوالي نهاية القرن الثالث عشر وبداية القرن الرابع عشر، وتحدث عن روح التسامح التي تمتع بها النساطرة إلى عصره في ظل الحكم الإسلامي فقال: "قرأت في التاريخ القديم وفي مؤلفات للعرب موثوق بها أن النساطرة أنفسهم كانوا أصدقاء لمحمد وحلفاء له، وأن محمداً نفسه قد أوصى خلفاءه أن يحرصوا على صداقتهم مع النساطرة، التي يرعاها العرب أنفسهم حتى ذلك اليوم بشيء من العناية"(16) ، وإذا نظرنا إلى التسامح الذي امتد على هذا النحو إلى رعايا المسلمين من المسيحيين في صدر الحكم الإسلامي، ظهر أن الفكرة التي شاعت بأن السيف كان العامل في تحويل الناس إلى الإسلام بعيدة عن التصديق"(17) ، "إننا لم نسمع عن أي محاولة مدبرة لإرغام الطوائف من غير المسلمين على قبول الإسلام، أو عن أي اضطهاد منظم قُصد منه استئصال الدين المسيحي. ولو اختار الخلفاء تنفيذ إحدى الخطتين لاكتسحوا المسيحية بتلك السهولة التي أقصى بها فرديناند وإيزابيلا دين الإسلام من أسبانيا، أو التي جعل بها لويس الرابع عشر المذهب البروتستانتي مذهباً يعاقب عليه متبعوه في فرنسا، أو بتلك السهولة التي ظل بها اليهود مبعدين عن إنجلترا مدة خمسين وثلاثمائة سنة. وكانت الكنائس الشرقية في آسيا قد انعزلت انعزالاً تاماً عن سائر العالم المسيحي الذي لم يوجد في جميع أنحائه أحد يقف في جانبهم بصفتهم طوائف خارجة عن الدين. ولهذا فإن مجرد بقاء الكنائس حتى الآن ليحمل في

طياته الدليل القوي على ما قامت عليه سياسة الحكومات الإسلامية بوجه عام من تسامح نحوهم"(18) ، " جلب الفتح الإسلامي إلى الأقباط في مصر حياة تقوم على الحرية الدينية التي لم ينعموا بها قبل ذلك بقرن من الزمان. وقد تركهم عمرو أحراراً على أن يدفعوا الجزية، وكفل لهم الحرية في إقامة شعائرهم الدينية، وخلصهم بذلك؛ من التدخل المستمر الذي عانوا من عبثه الثقيل في ظل الحكم الروماني.. وليس هناك شاهد من الشواهد يدل على أن ارتداد الأقباط عن دينهم ودخولهم في الإسلام على نطاق واسع كان راجعاً إلى اضطهاد أو ضغط يقوم على عدم التسامح من جانب حكامهم الحديثين. بل لقد تحول كثير من هؤلاء القبط

إلى الإسلام قبل أن يتم الفتح، حين كانت الإسكندرية حاضرة مصر وقتئذ لا تزال تقاوم الفاتحين، وسار كثير من القبط على نهج إخوانهم بعد ذلك بسنين قليلة"(19).

هذه لمحات عن منطقة محدودة فحسب هي العراق والشام، ومصر إلى حد ما، من العالم الذي امتد إليه الإسلام وتعامل معه، فهنالك بلاد فارس وأواسط آسيا، وإفريقية، وأسبانيا، وجنوبي أوروبا وشرقيها، والهند والصين، وجنوب آسيا، مما تحدث عنه أرنولد فأطال الحديث.

(1) ينظر المرجع نفسه للإطلاع على المزيد من الشواهد.

(2) حضارة العرب ، ترجمة عادل زعيتر ، ط3 ، دار إحياء الكتب العلمية ، القاهرة

ـ 1956 م ، ص 336.

(3) ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين ، ط5 ، مكتبة دار العروبة ، القاهرة ـ 1964 م ،

ص 29 ـ 30.

(4) المرجع نفسه ، ص 36 ـ 37.

(5) وهو الكتاب الرابع من دولة الإسلام في الأندلس ، ط2 ، مطبعة مصر ، القاهرة

ـ 1958 م.

(6) تاريخ العرب المطول ، ط4 ، دار الكشاف ، بيروت ـ 1965 م ، 1/ 301 ـ 302.

(7) المرجع نفسه 2 / 432 ـ 438 وينظر : ول ديورنت : قصة الحضارة ، ترجمة

محمد بدران وآخرين ، ط2 ، لجنة التأليف والترجمة والنشر ، القاهرة ـ 1964 ـ 1967 م، 13 / 131 ، وآرثر ستانلي تريتون : أهل الذمة في الإسلام ، ترجمة وتعليق د. حسن حبشي، ط2 ، دار المعارف ، القاهرة ـ 1967 م ، ص 170.

(8) الدعوة إلى الإسلام ، ص 65.

(9) المرجع نفسه ، ص 68.

(10) المرجع نفسه ، ص 69 ـ 70.

(11) المرجع نفسه ، ص 73.

(12) المرجع نفسه ، ص 74.

(13) المرجع نفسه ، ص 75.

(14) المرجع نفسه ، ص 79.

(15) المرجع نفسه ، ص 81.

(16) المرجع نفسه ، هامش 1 ، ص 81.

(17) المرجع نفسه ، ص 88.

(18) المرجع نفسه ، ص 98 ـ 99.

(19) المرجع نفسه ، ص 123 ـ 124.

==============

#حول الوحدة والتنوّع في تاريخنا

أ. د. عماد الدين خليل 4/10/1426

06/11/2005

[ 1 ]

عندما تُطرح قضية التعدّدية في واقعنا المعاصر على بساط البحث، فإنها ستثير العديد من الأسئلة، قد يأخذ بعضها طابع التحدّي الذي يتطلب استجابة ما وينتظر جواباً

مقنعاً، وقد يبرز من بين هذه سؤالان أساسيان، يمضي أحدهما صوب المستقبل لكي يتابع طبيعة المتغيّرات التي يمكن أن تتمخّض عن أي محاولة جادّة تدخل في حوار فعّال مع ظاهرة التنوّع أو التعدديّة في الحياة العربية الإسلامية، ويمضي ثانيهما عائداً باتجاه الماضي موغلاً فيه حتى الجذور، لكي يتفحص حجم المحاولة على مستوى التاريخ، ولكي يضع يديه على مصداقيتها المتحققة في الزمان والمكان، ويؤشر بالتالي على فاعلية وخصوصيات التعامل الإسلامي مع الظاهرة على مستويي النوع والعدد.

وبالتأكيد، فإن القضية لا تتخلّق في الفراغ، كما أنها إذا استندت –فحسب- على أصولها العقديّة التصوّرية بعيداً عن تماسّها مع الواقع، وقدرتها على إعادة تشكيله، فإنها قد لا تمنح ـ بالنسبة لفئة من الناس ـ القناعات المتوخّاة.

بعبارة أخرى، إننا إذا قدرنا على وضع أيدينا على مجموع الوقائع التي شهدها التاريخ في هذا السياق، بعد إضافة المؤثرات الإسلامية على الظاهرة .. إذا قدرنا على تحديد النتائج المتميزة التي تمخّضت عن هذا التعامل بين العقيدة والتاريخ، فإننا سنعطي القضية المزيد من المسوّغات، وسنمنحها عمقاً تاريخياً واقعياً يُعدّ واحدة من الفرص الأساسية في اختبار الأفكار والعقائد والتصوّرات، وفي امتحان المحاولات التي تسعى إلى تشكيل المستقبل المنظور على هدْيها.

إن البُعد التاريخي لأي دعوى سيظل مطلباً لاختبار مصداقيّتها جنباً إلى جنب مع البعد التصوّري، ومدى ما يملكه من شمولية وتماسك وقدرة على الاستمرار بموازاة المطالب الإنسانية وتحديات التاريخ.

ولطالما دَرَسْنا التاريخ الإسلامي أو دُرِّسناه وفق منطلقات خاطئة متعمَّدة حيناً، وغير متعمدة أحياناً، ولكن النتيجة كانت في معظم الأحيان تعميق الخندق بين طرفي القضية، وكأن ليس هناك تأثير ذو فاعلية عالية يلتقي فيه التصوّر مع الواقع لكي يعيد بناءه أو

تشكيله، أو لكي يجري في تركيبه على الأقل تغييراً من نوع ما يعبّر في نهاية الأمر ليس فقط عن رغبة هذا الدين في إعادة صياغة العالم وفق منظوره ومقولاته، ولكن ـ أيضاً ـ عن قدرته على تحقيق هذا الهدف العزيز.

ومنذ بداية تشكّله الأولي وحتى العصر الحديث، تضمّن مجرى التاريخ الإسلامي خبرات وحدوية غنية متواصلة تجعل المرء يميل إلى الاعتقاد بأن التوجّه الوحدوي للأمة الإسلامية، على مُستويَي القواعد والقيادات، ليس مجرد خصيصة من خصائصها، بل هو محرك أساسي لمساحات واسعة من تحقّقها التاريخي.

لكن هذا ليس سوى أحد وجْهَي الظاهرة أو الحالة التاريخية، وإن كان هو الوجه الأكثر ثقلاً وامتداداً، فهناك بموازاته، بل في نسيجه، تعدّدية من نوع ما .. تنوّع هنا

وهناك، في السياسة، وفي الاجتماع، وفي الثقافة، وفي الفكر والمذهب، بل حتى في الدين. ( لنتذكر ـ أيضاً ـ أحادية الماركسية ومصادرتها لفكر الآخر وعقيدته ودينه. لنتذكر أيضاً محاولة الكاثوليكية الإسبانية المسيّسة على يد فرديناند وإيزابيلا ورجال الدين، تلك التي ألغت أمة كاملة من الحساب. لنتذكر هذا قبالة تنوّع النسيج الديني في معظم مساحات التاريخ الإسلامي، حيث أُتيح للنصراني واليهودي والمجوسي والصابئي والبوذي والهندوسي .. إلى آخره .. أن يعبّر عن نفسه وأن يقول كل ما يريد أن يقوله، وأن يمتلك مقوّمات الديمومة والبقاء والامتداد في بيئة إسلامية لم تمارس-في الأعم الأغلب- أي مصادرة أو قسر أو نفي لعقائد الآخرين).

ولكن ـ أيضاً ـ وبمتابعة متأنية للتعددية أو التنوع في خبرتنا التاريخية، فإننا سنجد كيف أنها تتناغم ـ أحياناً ـ مع التوجّه الوحدوي بل قد ترفده وتدعمه وتغذَّيه، جنباً إلى جنب مع حالات الانشقاق والتضادّ والتنافر التي شكلتها بعض صيغ التعددية المتطرفة في موقفها إلى حدّ الخصومة والعزلة والانغلاق، بل ـ ربما ـ الإفساد والتخريب.

[ 2 ]

لنتابع ـ بالإيجاز المطلوب الذي يتيحه مقال كهذا ـ ثنائية العام والخاص، أو الوحدة والتنوع، في تاريخنا، في محاولة للإمساك ببعض خيوطها على الأقل.

فمنذ لحظات الرسالة بدا بوضوح ذلك التدرّج المرسوم من الخاص إلى العام: الإنسان والدولة والأمة؛ إذ يغدو التوحّد هدفاً عقدياً وسياسياً وتشريعياً.

أما في العصر الراشدي فقد شهد التوجّه الوحدوي للأمة الناشئة تحركاً

على مستويين: تمثل أوّلهما في التصدّي الحاسم للردّة والتمزق والتفوّق عليهما، على الرغم من ضراوتهما، إزاء انحسار القدرات السياسية والعسكرية للدولة الإسلامية. وتمثل ثانيهما في حركة الفتوحات الشاملة التي استهدفت تكوين الوحدة الإسلامية العالمية، وتمكنت ـ بالفعل ـ من تحقيقها، فيما لم يشهد التاريخ مثيلاً له في كثافة معطياته واختزاله الزمني.

وكما كانت حركة الردّة حالة عارضة طارئة باتجاه التمزّق، ما لبثت القيادة الراشدة أن طوتها لكي تواصل الطريق صوب العالمية، فإن الفتنة التي شهدتها دولة الإسلام في أواخر خلافة عثمان (رضي الله عنه) قدمت نموذجاً لحالة اعتراضية أخرى، مارست فيها (القبلية) تأثيراً ملحوظاً، وكادت تُلحق بوحدة المسلمين أذى كبيراً، ثم ما لبثت أن طُويت فيما سُميّ بعام الجماعة ( 41 هـ ) وهي تسمية تحمل دلالتها ولا ريب، حيث أُتيح للقيادة الأمويةـ بغض النظر عن الجدل حول مسألة الحكم أو الشرعيةـ أن توحّد الأمة، وأن تمضي خطوات أخرى باتجاه توحيد العالم تحت ظلال الإسلام.

ثم جاءت العصور التالية لكي تشهد صيغاً متنوعة للممارسة الوحدوية يمكن تصنيفها وفق السياقات الأساسية الآتية:

أولاً: مجابهة محاولات الانشقاق والتفكك (التحدّيات الداخلية).

ثانياً: الدفاع عن وحدة الأرض الإسلامية (التحديات الخارجية).

ثالثاً: ظهور التنوّع في القيادات السياسية والإقليمية وتأكّده، مع الحفاظ على الوحدة في الأسس والأهداف والملامح العامة.

وإذا كان السياقان الأوّلان واضحين إلى حدّ كبير في توجّهاتهما الوحدوية فضلاً عن أنهما قيل فيهما الكثير، فإن من الضروري أن نقف لحظات عند السياق الثالث لتبيّن طبيعة العلاقة بين الثوابت الوحدوية وبين التنوّع والتغاير الذي قد يتحرك في إطار هذه الثوابت، وقد يخرج عنها ـ بدرجة أو أخرى ـ إلى حالة من التفكّك الذي يندفع باتجاه التشرذم العرقي حيناً، أو التعبير عن طموح فرديّ أو سلاليّ حيناً آخر.

وفي الحالتين كانت الظاهرة التعدّدية تتحرك بشكل عام باتجاه مضادّ لوحدة الأمة والدولة، وتضع الخلافة (الأم) أمام الأمر الواقع، فتقرّ بقبولها حيناً فيما يصطلح عليه الفقهاء بـ (إمارة الاستيلاء)، أو تعلن الحرب عليها حيناً آخر. وثمة حالة ثالثة كانت الخلافة تستبق فيها المتغيرات التاريخية الضاغطة فتسارع في تصميم أو قبول (الكيان الإقليمي) الذي يعينها على مجابهة هذه المتغيّرات أو التخفيف من نتائجها، ويكون (لها) بدلاً من أن يكون (عليها).

ولقد انطوت التعدديّة السياسية في تاريخ الإسلام على الإيجاب والسلب معاً، ذلك أن التفكك ـ ابتداءً ـ ظاهرة تتعارض مع التوجّهات الوحدويّة التي سهر الإسلام وقياداته السياسية على صياغتها وحمايتها، بل إنها قد تندفع ـ كما ألمحنا ـ باتجاه التشرذم العرقي أو السلالي، وقد تعبّر عن طموح فردي، هذا فضلاً عن أنها فتحت الطريق لخصوم الأمة لكي يدلوا بدلوهم ويقيموا دولهم وكياناتهم السياسية التي رفعت سيف المذهب أو القوّة في مواجهة قناعات الأمة وثوابتها العقدية والسياسية ( كما هو الحال في بعض التجارب الإسماعيلية والباطنية).

لكن هذا كله ليس الوجه الوحيد للظاهرة، فهناك الوجه الآخر الذي ينطوي على معطيات إيجابية، بدءًا من قبول الخلافة والأمة للتعدّديّة في بعض الأحيان وعدم رفضها أو إعلان الحرب عليها، وانتهاءً بالجهد العقديّ والسياسيّ الذي نفذه العديد من الكيانات الإقليمية لصالح الأهداف العامة للأمة والخلافة، دفاعاً عن دار الإسلام، ونشراً للعقيدة خارج الأرض الإسلامية، أو تأكيداً لحيثياتها في مواجهة الخصوم في الداخل، هذا فضلاً عن إثراء حضارة الإسلام بمفردات خصبة في هذا السياق أو ذاك.

ويصعب على المرء أن يخضع الحركة التاريخية للقياس بالمسطرة، وبالتالي فإننا لا نستطيع أن نصدر حكماً أحادي الرؤية على التنوّع أو التعدّديّة السياسية في تاريخنا؛ فهي قد تضمنّت ـ كما رأينا ـ السلب والإيجاب معاً، فلم تكن شراً كلها، كما أنها لم تبلغ

الحالة الإيجابية التي تختار فيها الجماعات ـ في إطار الثوابت الإسلامية بطبيعة الحال ـ

(تنظيمها) لحياتها بما يضمن لها حقوقها وحرّياتها في الرأي والتعبير والاجتماع والمشاركة في تقرير السياسة على قدم المساواة مع غيرها، مهما كان حجمها، مع التزامها ـ مرة أخرى ـ بالواجبات التي يفرضها عليها انتماؤها للأمة الواحدة.

وعلى الرغم من ذلك فإن بمقدور المرء أن يلحظ كيف أن التعدّديّة السياسية في تاريخنا لم تبلغ- إلاّ في حالات استثنائية لا يُقاس عليها- أن تدخل عنق الزجاجة أو تصل إلى الطريق المسدود، فتكشف عن وجه عرقي يميل إلى اعتزال قضايا الأمة أو ربما إعلان الحرب عليها، فيما يضعه في خط التشرذم الإقليمي الذي عانت منه أمتنا، ولا تزال في أعقاب الصدمة الاستعمارية وقبول فكر الغالب.

[ 3 ]

إن حضارة الإسلام وتاريخه عموماً- كما لاحظ كثير من المؤرخين والمستشرقين- هي حضارة (الوحدة والتنوّع)، ولقد انعكس ذلك على ظاهرة نشوء الدويلات والكيانات الإقليمية في عالم الإسلام، فصرنا نجد تنوّعاً في التشكيلات السياسية التي انشقت عن جسد الدولة، ونجد في الوقت نفسه وحدة وتجانساً وتكاملاً في العطاء الحضاري، وفي الأساليب والأهداف الكبرى.

وفيما عدا حالات محدودة شاذة عن القاعدة الشاملة، حالات ظهر فيها عدد من الدويلات تبنّت مبادئ وعقائد باطنية وشعوبية ذات جذور غريبة عن عقيدة الإسلام وتصوّراته وقيمه، ومارست قواها الذاتية لا في الدفاع عن أرض الإسلام وعقيدته ووحدة مقدّراته، وإنما ضدّها (كما فعلت دولة قرامطة البحرين على سبيل المثال) ، بل إن بعضها (كالدولة البابكية في أذربيجان) سعت إلى عقد محالفات ومواثيق مع الأعداء الخارجيين المتربّصين على الحدود .. فيما عدا هذه الحالات فإن معظم التشكيلات السياسية التي شهدها عالم الإسلام، شاركت حسب قدراتها وطاقاتها في خدمة وحدة هذا العالم عقدياً وسياسياً وحضارياً، ولن تغني الأمثلة الموجزة هنا عن واقع تاريخنا نفسه.

إن حضارة الإسلام إذ تقوم على قاسم مشترك من الأسس والثوابت والخطوط العريضة، بغض النظر عن موقع الفعالية الحضارية في الزمان والمكان، وعن نمطها وتخصّصها، فإنها تنطوي ـ في الوقت نفسه ـ على حشد من الوحدات المتنوعة بين بيئة ثقافية وأخرى في إطار عالم الإسلام نفسه، بحكم التراكمات التاريخية التي تمنح خصوصيات معينة لكل بيئة، تجعلها تتغاير وتتنوّع فيما بينها في صنوف من الممارسات والمفردات الثقافية.

إنها جدلية التوافق بين الخاص والعام، أو ما يمكن عدّه أممية إسلامية تعترف بالتمايز بين الجماعات والشعوب والأمم، ولكنها تسعى في الوقت نفسه لأن تجمعها على صعيد الإنسانية، وهي محاولة تختلف في أساسها عن الأممية الماركسية التي سعت ـ ابتداءً وبحكم قوانين التنظير الصارمة- إلى إلغاء التنوع، ومصادرته، وإلى تحقيق وحدة قسرية ما لبثت أن تأكد زيفها وعدم قدرتها على التحقّق تاريخياً. وبمجرد إلقاء نظرة على خارطة الاتحاد السوفياتي حتى قبل حركة (البرسترويكا) والرفض المتصاعد الذي جوبهت به الأممية الماركسية من قبل الجماعات والأقوام والشعوب التي تنتمي إلى بيئات ثقافية متنوعة، ومقارنة هذا بما شهده التاريخ الإسلامي من تبلور كيانات ثقافية إقليمية متغايرة في إطار وحدة الثقافة الإسلامية وثوابتها وأسسها الواحدة وأهدافها المشتركة، يتبين مدى مصداقية المعالجة الإسلامية وواقعيتها في التعامل مع هذه الثنائية كواحدة من حشود الثنائيات التي عولجت بالقدرة نفسها من الانفتاح في الرؤية والمرونة في العمل.

لقد شهد عالم الإسلام ـ بموازاة التنوع السياسي ـ أنشطة ثقافية متمايزة على مستوى الأعراق التي صاغتها: عربية وتركية وفارسية وصينية ومغولية وبربرية وإسبانية وزنجية وكردية وأفغانية وسلافية .. إلى آخره. كما شهدت أنماطاً ثقافية على مستوى البيئات والأقاليم: عراقية وشامية ومصرية وسودانية ومغربية وإسبانية وبحر متوسطية وإفريقية وأوروبية شرقية وإيرانية وتركية وتركستانية وصينية وهندية .. إلى آخره.

وكانت كل جماعة ثقافية تمارس نشاطها بحرية، وتعبر من خلاله عن خصائصها، وتؤكد ذاتها، ولكن في إطار الأسس والثوابت الإسلامية، بدءًا من قضية اللغة والأدب، وانتهاء بالعادات والتقاليد، مروراً بصيغ النشاط الفكري والثقافي بأنماطه المختلفة. ولم يقل أحد إن في هذا خروجاً عن مطالب الإسلام التوحيدية، كما إن أحداً لم يسع إلى مصادرة حرية التغاير هذه. وفي المقابل فإن أياً من هذه المتغيّرات لم يتحول ـ إلاّ في حالات شاذة ـ إلى أداة مضادّة لهدم التوجهات الوحدويّة الأساسيّة لهذا الدين

===============

# محاولة خائبة لجاهليّ معاصر

"قسّ ونبي: بحث في نشأة الإسلام"

أ. د. عماد الدين خليل 2/11/1426

04/12/2005

[ 1 ]

هذا هو عنوان بحث صدر حديثاً لرجل يدّعي أن اسمه ( أبو موسى الحريري )! يعالج فيه قضية تاريخية تنطوي على بعدها الديني بكل تأكيد، إلاّ أنها ـ ابتداءً ـ حلقة تاريخية تتطلب، للتعامل العلمي الجادّ مع مفرداتها، منهجاً تاريخياً يستقصي المرويّات

كافة حول الموضوع بأكبر قدر من الأمانة، ويحذر عن مظنة الانتقاء الكيفي لتأكيد استنتاج مسبق، فيما هو ضد المنهج أساساً.

وبإحالة هذا الذي كتبه (أبو موسى الحريري) في (قس ونبيّ: بحث في نشأة الإسلام) على عشرات، بل مئات الدراسات التي شهدتها مكتبة السيرة النبوية، سيجد المرء نفسه إزاء حالة استثنائية شاذة لا تدعمها المرويّات التاريخية واليقين العلمي، وإنما تستند إلى جملة من الأوهام والظنون والتخمينات التي تنتقي وتستبعد وتفترض، وأحياناً ترغم الواقعة التاريخية على ما لم يكن في تكوينها أساساً.

ليس بحثاً جاداً هذا الذي أنجزه الرجل، وإنما عبث بالحقائق التاريخية التي أجمع عليها الباحثون في الشرق والغرب بخصوص هذه المفردة الصغيرة في سيرة رسول الله

(صلى الله عليه وسلم)؛ إذ لم يكن قد التقى ورقة قبل أن تأخذه إليه زوجته البارّة خديجة

(رضي الله عنها) لتلقّي جوابه إزاء هزة الوحي الأولى التي أصابته بالحمى لوقعها المفاجئ الثقيل، وحيث أكّد ورقة، وهو الرجل الذي كان قد قرأ العهدين القديم والجديد بالعبرانية حتى كلّت عيناه، وعرف من خلال ما تبقى من معطياتهما الأصيلة، أن هذا الرجل هو النبي الذي بشّر به عيسى (عليه السلام)، والذي سيتلقى الناموس الذي تلقاه موسى (عليه السلام)، والذي يعرفه اليهود والنصارى من كتبهم كما يعرفون أبناءهم!

إن هذا الذي يتخيّله (أبو موسى الحريري) ويفرضه على الواقعة التاريخية لكي يطوّعها لاستنتاجاته المسبقة، ليس كشفاً جديداً، لقد قاله العرب الأميّون قبله، زمن رسول الله (صلى الله عليه وسلم)، وحاولوا - من أجل حماية وثنيتهم- اتهام الرسول (صلى الله عليه وسلم) بتلقّي كتابه عن القسس والرهبان، دون أن يدركوا أنهم وضعوا أنفسهم في مفارقة لا يمكن قبولها: إن هؤلاء الذين يلقّنون رسول الله (صلى الله عليه وسلم) (أعاجم) في أصولهم أو في ثقافتهم ولغتهم، وإن القرآن يتنزّل بأسلوب عربي معجز مبين: (وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ). [النحل:103] وها هو ذا (أبو موسى الحريري) يعيد الدور نفسه، ويقع في الأكذوبة ذاتها. فإذا كان القدماء قد فاتتهم المفارقة المذكورة، فإن هذا الباحث المحدث، وهو يحاول أن يدعم نصرانيته في مواجهة الإسلام، فاتته مفارقة لا تقل ثقلاً: تلك هي أن المضامين القرآنية تنطوي على جملة خصائص تجعل مسألة التلقّي المزعومة عن (القسّ ورقة) مستحيلة بكل المقاييس. ولن يتسع المجال للاستفاضة فيها، ولذا سيتم الاكتفاء بمجرد التأشير على ثلاثة منها فحسب.

[ 2 ]

إن القرآن الكريم نفسه، بسبب من مطابقته التامة للحقيقتين التاريخية والدينية، يؤكد في حوالي عشرين موضعاً، أنه مصدّق لما بين يديه من التوراة والإنجيل، أي مطابق لبعض ما ورد في هذين الكتابين. ولكنه لا يقف عند هذا الحدّ قبالة كتابيْن تعرّضا لتحريف خطير، وإنما يمضي لتأكيد وظيفته الأخرى: تعديل الانحراف وكشف الزيف، واستئصال الأكاذيب، وإعادة الخطاب الديني الذي جاء به الأنبياء جميعاً (عليهم السلام) إلى قاعدته التوحيدية التي هي أسّ الأسس في النبوات جميعاً: ()وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ...) [المائدة: من الآية48].

فها هو ذا كتاب الله يحقّ الحق، ويبطل الهوى، ويدعو إلى الالتزام بهذا الحق، وعدم اتباع أهواء الآخرين من اليهود والنصارى (أي المغضوب عليهم والضالين) ، ولن يتحقق هذا على يد نبيّ أريد له أن يكون تلميذاً مخلصاً لقسّ يبشر بموروث أهل الكتاب.

وامتداداً لهذا الصدق الرّباني، يدعو القرآن الكريم المؤمنين كافة إلى الإيمان، ليس بالقرآن فقط، وإنما بالكتب التي نزلت قبله. ولكن أية كتب هذه؟ إنها الكتب الأصيلة قبل أن تطالها يد التزوير، وليست تلك المساحات الواسعة من الكذب والتحريف التي تولّى كبرها اليهودي السابق: (القدّيس بولص) وكل المحرّفين الذين سبقوه وأعقبوه: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالا بَعِيداً) [النساء:136]

ليس هذا فحسب، بل إن القرآن الكريم يكشف، بمعطياته الإلهية المنزّهة عن المداخلات البشرية الوضعية، ما كان أهل الكتاب أنفسهم يخفونه من كتبهم: (يا أهل الكتاب قد جاءكم رسولنا يبيّن لكم كثيراً مما كنتم تخفون من الكتاب ويعفو عن كثير، قد جاءكم من الله نور وكتاب مبين) ( سورة المائدة 15 ).

ويمضي القرآن الكريم لكي يؤكد علم أهل الكتاب السابقين بأن القرآن منزّل من الله سبحانه بالحق، وليس بالتلقّي عن قسّ يحمل في موروثه الصدق والكذب .. الأصيل والمحرّف.. اليقيني والظنّي على السواء، بغض النظر عن أن مؤلف الكتاب يسعى لإعادة تشكيل شخصية القسّ (ورقة) بما يشتهي لكي يحقق المطابقة الجاهزة بين الدعوتين:

(أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَماً وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَابَ مُفَصَّلاً وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقاً وَعَدْلاً لا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ) [الأنعام:114-116]. مهما يكن من أمر فان السؤال الذي يتبادر إلى الذهن هو: ألم يكن الأولى بالنسبة لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - من أجل التعتيم على تلقّيه عن كتب السابقين، ألاّ يشير إلى تصديقه لهذه الكتب والأخذ عنها؟!

هذا إلى أن القرآن الكريم محّض مساحات واسعة لسياقات ثلاثة لا نكاد نجد لها مكاناً في العهدين القديم والجديد، ولاسيما آخرهما، وهي:

أ ـ التشريع.

ب ـ يوم القيامة: البعث والحساب والجنة والنار.. إلى آخره ..

جـ ـ الإبداع الإلهي في الخلق الكوني ..

فإذا كان النبي -صلى الله عليه وسلم- عاجزاً عن أن يأتي بمواعظ التوراة

والإنجيل وقصصهما التاريخي، فكيف كان قديراً، وبالأسلوب نفسه من الأداء اللغوي والبياني المعجز، على أن يأتي بهذه المساحات الواسعة، والمؤكدة في كتاب الله، بخصوص السياقات الثلاثة المذكورة؟ وأين هو القسّ الذي تعلمّ منه النبي؟ أم لعل (الحريري) يعمل فكره في البحث عن قسّ آخر تلقى منه النبي هذا الجانب من القرآن الذي لا نكاد نجد له أثراً في التوراة والإنجيل؟!

[ 3 ]

أخيراً .. لنفترض مع أبي موسى الحريري أن محمداً - صلى الله عليه وسلم- تلقى كتابه عن القسّ ورقة، فمن الذي أعطاه القدرة التي تتجاوز الحدود البشرية بكل المقاييس على إخضاع الكتب الدينية السابقة بخصوص المعطيات المعرفية، للاختبار الدقيق الصارم في ضوء كشوف لم يزح عنها النقاب وتدخل دائرة الضوء إلاّ بعد ثلاثة عشر قرناً من لقاء النبي بالقس؟!

إن الباحث الفرنسي المعاصر (موريس بوكاي) في دراسته المقارنة للكتب السماوية الثلاثة، والتي استغرقت عشرين عاماً، وصدرت بعنوان: (القرآن الكريم والتوراة والإنجيل والعلم: دراسة الكتب المقدسة في ضوء المعارف الحديثة) (عن دار المعارف ، القاهرة ـ 1978 م) يمارس مهمته كما يقول بعقل علماني ملحد لا يؤمن بأي من الأديان، ولا يسلّم بكتبها، ولكنه يخلص إلى جملة من الحقائق والاستنتاجات التي سأورد بعضها نصّاً نظراً لأهميتها البالغة فيما نحن بصدده:

(1) " لقد قمت أولاً بدراسة القرآن، وذلك دون أي فكر مسبق، وبموضوعية تامة، باحثاً عن درجة اتفاق نصّ القرآن ومعطيات العلم الحديث. وكنت أعرف ، قبل هذه الدراسة، وعن طريق الترجمات، أن القرآن يذكر أنواعاً كثيرة من الظاهرات الطبيعية، ولكن معرفتي كانت وجيزة. وبفضل الدراسة الواعية للنصّ العربي استطعت أن أحقق قائمة أدركت بعد الانتهاء منها أن القرآن لا يحتوي على أية مقولة قابلة للنقد من وجهة

نظر العلم في العصر الحديث. وبنفس الموضوعية قمت بنفس الفحص على العهد

القديم والأناجيل. أما بالنسبة للعهد القديم فلم تكن هناك حاجة للذهاب إلى أبعد من الكتاب الأول، أي سفر التكوين. فقد وجدت مقولات لا يمكن التوفيق بينها وبين أكثر معطيات العلم رسوخاً في عصرنا. وأما بالنسبة للأناجيل.. فإننا نجد نصّ إنجيل متي يناقض بشكل جليّ إنجيل لوقا، وأن هذا الأخير يقدم لنا صراحة أمراً لا يتفق مع المعارف الحديثة الخاصة بقدم الإنسان على الأرض" (صفحة 13).

(2) لقد أثارت الجوانب العلمية التي يختص بها القرآن دهشتي العميقة في البداية. فلم أكن أعتقد قط بإمكان اكتشاف عدد كبير إلى هذا الحدّ من الدعاوى الخاصة بموضوعات شديدة التنوّع، ومطابقته تماماً للمعارف العلمية الحديثة، وذلك في نصّ كتب منذ أكثر من ثلاثة عشر قرناً. في البداية لم يكن لي أي إيمان بالإسلام. وقد طرقت: دراسة هذه النصوص بروح متحررة من كل حكم مسبق وبموضوعية تامة " (صفحة 144).

(3) تناولت القرآن منتبهاً بشكل خاص إلى الوصف الذي يعطيه عن حشد كبير من الظاهرات الطبيعية. لقد أذهلتني دقة بعض التفاصيل الخاصة بهذه الظاهرات، وهي تفاصيل لا يمكن أن تدرك إلاّ في النص الأصلي. أذهلتني مطابقتها للمفاهيم التي نملكها اليوم عن نفس هذه الظاهرات، والتي لم يكن ممكناً لأي إنسان في عصر محمد أن يكوّن عنها أدنى فكرة" (صفحة 145).

(4) " كيف يمكن لإنسان ـ كان في بداية أمره أمّياً ـ.. أن يصرح بحقائق ذات طابع علمي لم يكن في مقدور أي إنسان في ذلك العصر أن يكوّنها، وذلك دون أن يكشف تصريحه عن أقل خطأ من هذه الوجهة؟" (صفحة 150).

(5) إن اليهود والمسيحيين والملحدين في البلاد الغربية يجمعون على الزعم، وذلك دون أدنى دليل، بأن محمداً كتب أو استكتب القرآن محاكياً التوراة. مثل هذا الموقف لا يقل استخفافاً عن ذلك الذي يقود إلى القول بأن المسيح أيضاً قد خدع معاصريه باستلهامه للعهد القديم. فكل إنجيل متي يعتمد على تلك الاستمرارية مع العهد القديم. أي مفسّر هذا الذي تعنّ له فكرة أن ينزع من المسيح صفته كرسول لله، لذلك السبب؟ ومع ذلك فهكذا يعلن في الغرب .. " (صفحة 148 ـ 149) وذيوله من أمثال الحريري!!

(6) " مقارنة العديد من روايات التوراة مع روايات نفس الموضوعات في القرآن تبرز الفروق الأساسية بين دعاوى التوراة غير المقبولة علمياً، وبين مقولات القرآن التي تتوافق تماماً مع المعطيات الحديثة.. وعلى حين نجد في نصّ القرآن .. معلومات ثمينة تُضاف إلى نصّ التوراة .. نجد فيما يتعلق بموضوعات أخرى فروقاً شديدة الأهمية تدحض كل ما قيل من ادّعاء ـ دون أدنى دليل ـ على نقل محمد للتوراة حتى يعدّ نصّ القرآن".(صفحة 285 ـ 286).

(7) لو كان كاتب القرآن إنساناً، كيف استطاع في القرن السابع (الميلادي) أن يكتب ما اتضح أنه يتفق مع المعارف العلمية الحديثة، في الخلق وعلم الفلك وعلوم الأرض والحيوان والنبات والتناسل الإنساني، التي تعكس التوراة أخطاء علمية ضخمة بشأنها؟ ليس هناك أي مجال للشك، فنصّ القرآن الذي نملك اليوم هو فعلاً نفس النص الأول.. وليس هناك سبب خاص يدعو للاعتقاد بأن أحد سكان شبه الجزيرة العربية.. استطاع

(يومها) أن يملك ثقافة علمية تسبق بحوالي عشرة قرون ثقافتنا العلمية فيما يخص بعض الموضوعات" (صفحة 145).

هذه التأشيرات تكفي، وهناك عشرات غيرها لن يتسع لها المجال، والأفضل

ألاّ يتسع؛ إذ ليس مقبولاً أن يضيّع المسلم الجاد وقته وجهده في الردّ على ترّهات كهذه التي نجدها في كتاب رجل يوحي حتى اسمه بالتعتيم والتزييف لتمرير اللعبة الماكرة، وهي ـ مرة أخرى ـ لعبة سبق وأن مارسها الجاهليون القدماء، وها هم الطائفيون الجدد يعيدون تمثيلها من جديد:(وقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا إِفْكٌ افْتَرَاهُ وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ فَقَدْ جَاءُوا ظُلْماً وَزُوراً وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلاً قُلْ أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ غَفُوراً رَحِيماً) [لفرقان:4-6].

==============

# الحوار بين الحضارات

د. خالد بن عبد الله القاسم 25/7/1427

19/08/2006

أولاً: الإسلام دين الحوار:

ثانيًا: أهم أهداف الحوار في الإسلام:

ثالثاً: آداب الحوار:

وقبل الدخول في حوار الحضارات نمهد بتعريف الحوار والحضارات.

أما الحوار في اللغة من الحور وهو الرجوع ويتحاورون أي يتراجعون الكلام(1).

وقد ورد في ثلاثة مواضع في القرآن الكريم كلها تظهر الاختلاف بين المتحاورين ومحاولة إقناع بعضهم بعضاً، الأول ورد في قصة أصحاب الجنة "فَقَالَ لِصَاحِبِهِ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مَالاً وَأَعَزُّ نَفَراً" [الكهف:34]، والثاني فيها أيضاً "قَالَ لَهُ صَاحِبُهُ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلاً" [الكهف:37]. والثالث في أول سورة المجادلة "قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا" [المجادلة:1]. ونفهم من هذه المواضع الثلاثة أن الحوار مراجعة الكلام وتداوله بين طرفين مختلفين.

ويتفق الحوار مع الجدل والمناظرة والمحاجة في كونه مراجعة الكلام وتداوله بين عدة أطراف إلا أن الجدل يأخذ طابع القوة والغلبة والخصومة وهو مأخوذ من معناه اللغوي حيث يسمى شدة القتل جدل، والجدال من الإبل الذي قوي ومشى مع أمه(2).

ولفظة الجدل مذمومة في غالب آيات القرآن الكريم، حيث وردت في تسعة وعشرين موضعاً(3)، مثل قوله سبحانه: "مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلاً" [الزخرف:58]، ولم يمدح الجدل إلا إذا قيد بالحسنى وجاء ذلك في موضعين، في قوله سبحانه: "وَلا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ" [العنكبوت:46]، وقوله سبحانه وتعالى: وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ [النحل:125].

وأما الحضارة فهي في اللغة من الحضر وهي الإقامة في المدن والقرى وهي ضد البداوة، قال القطامي:

فمن تكن الحضارة أعجبته فأي رجال بادية ترانا(4)

وفي العصر الحديث أطلق البعض هذا المصطلح على كل نتاج مادي لأمة من الأمم من عمران ومخترعات وابتكارات وتنظيمات. وتوسع النطاق ليشمل بالإضافة على النتائج المادية القيم الدينية والثقافية(5).

وعليه فكل أمة تشترك في هذه المعاني لها حضارة تخصها، فهناك الحضارة الإسلامية، والحضارة الأوروبية الغربية المسيحية، والحضارة الأوروبية الشرقية المسيحية، والحضارة الهندية، وحضارة الشرق الأقصى(6) وغير ذلك.

أولاً: الإسلام دين الحوار:

الحوار منهج قرآني, فقد كلم الله ملائكته واستمع منهم "وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ" [البقرة:30] وكذلك رسله "وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ" [المائدة:116]، وحتى مع الكافرين "قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيراً قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى" [طه:125-126]. وحتى مع إبليس "قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ" [الأعراف:12]. والقرآن مليء بمحاورات الرسل مع أقوامهم "قَالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي اللَّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ" [إبراهيم:10] .

وتأمل حوار إبراهيم عليه السلام مع مدعي الربوبية "أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ" [البقرة: 258].

وحوار موسى مع فرعون مدعي الألوهية والربوبية في سور عديدة في القرآن وكذلك بقية الرسل عليهم صلوات الله وسلامه حيث يحاورون أقوامهم بالحكمة لدعوتهم إلى الله وبيان الحق لهم والرد على شبهاتهم.

وهذا القرآن يحكي حوار النبي –صلى الله عليه وسلم - مع امرأة "قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ" [المجادلة: 1].

وحضارتنا الإسلامية على مدى التاريخ هي حضارة الحوار فقد حاور علماء المسلمين كافة أهل الملل والنحل بالمنهج القرآني والدعوة إلى الخير(7).

ثانيًا: أهم أهداف الحوار في الإسلام:

1 – الدعوة إلى الإسلام, وعبادة الله وحده لا شريك له وهذا أسمى هدف "وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحاً وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ" [فصلت: 33] ومعرفة الله هي أعظم حقيقة وعبادته هي الحكمة من خلق البشر "وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ" [الذاريات: 56], ويترتب عليها سعادة البشرية في الدنيا والآخرة " فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى" [طه: 123, 124].

ويدخل في ذلك إبراز محاسن الإسلام والرد على شبهات أعدائه وإيضاح الحقيقة العظيمة في الحكمة من خلق البشر وما يُراد منهم وما يراد بهم وما مصيرهم.

فالحوار مطلب إسلامي لكي نقوم بواجبنا تجاه الأمم الأخرى ليس لافادة أنفسنا فحسب بل لفائدة الأمم الأخرى أيضًا لنوصل إليها الخير الذي أمرنا به.

فالأمة الإسلامية هي صاحبة الرسالة الأخيرة, وعليها واجب البلاغ، قال تعالى: "كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ" [آل عمران: 110].

2- تحقيق وظيفة الإنسان في الأرض وهي الخلافة وعمارة الأرض "وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً" [البقرة: 30] (8).

3- تبادل العلوم النافعة، وحل الإشكالات القائمة والتعاون على الخير "وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الْأِثْمِ وَالْعُدْوَانِ" [المائدة: 2].

وليس من أهداف الحوار موالاة الكفار ومودتهم من دون المؤمنين، فقد جاءت النصوص القطعية في النهي عن ذلك، قال الله تبارك وتعالى: "لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ" [آل عمران: 28].

كما أن الحوار لا يهدف إلى التنازل عن شيء من ثوابتنا العقدية أو الشرعية، أو المشاركة في الدعوات المغرضة لوحدة الأديان التي تساوي الإسلام بغيره وخلط الحق بالباطل، أو مشاركة الكفار في باطلهم، وقد نهى الله نبيه عن ذلك فقال سبحانه: " قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ لا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ وَلا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ وَلا أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدْتُمْ وَلا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ [الكافرون: 1-6]، وقال أيضاً: "وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ" [القلم: 9] وقال سبحانه: "وَلَوْلا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلاً" [الإسراء: 74] كما يجب التفريق بين الكفار المحاربين الذي يجب معهم الجهاد في سبيل الله "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ إِنْ كُنْتُمْ خَرَجْتُمْ جِهَاداً فِي سَبِيلِي وَابْتِغَاءَ مَرْضَاتِي تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَأَنَا أَعْلَمُ بِمَا أَخْفَيْتُمْ وَمَا أَعْلَنْتُمْ وَمَنْ يَفْعَلْهُ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ" [الممتحنة: 1]، وقال سبحانه: "يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ" [التوبة: 73]، والمسالمين الذين قال الله فيهم: "لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ" [الممتحنة: 8].

ثالثاً: آداب الحوار:

من أهم آداب الحوار:

1- حسن القصد من الحوار: وذلك بالإخلاص لله والرغبة في طلب الحق، قال تعالى: "وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ " [البينة: 5].

2- العلم: فلا حوار بلا علم، والمحاور الجاهل يفسد أكثر مما يصلح، وقد ذم الله سبحانه وتعالى المجادل بغير علم "وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلا هُدىً وَلا كِتَابٍ مُنِيرٍ" [الحج: 8]، وذم أهل الكتاب لمحاجتهم بغير علم كما في قوله تعالى: "هَا أَنْتُمْ هَؤُلاءِ حَاجَجْتُمْ فِيمَا لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِيمَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ [آل عمران: 65-66].

العلم عام في كافة مواضع الحوار، فيشمل العلم بالإسلام وعقيدته وحضارته والعلم بالمحاورين وخلفياتهم وكافة ما يحتاج إليه في الحوار.

فالمحاور المسلم داع إلى الله يجب أن تكون دعوته بعلم وبصيرة كما قال سبحانه "قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي" [يوسف: 108].

فالعلم بالإسلام وحضارته وشبهات المخالفين في غاية الأهمية في حوار غير المسلمين لإقناعهم ورد شبهاتهم فضلاً عن عدم الانخداع والتأثر بها.

3- التزام القول الحسن، وتجنب منهج التحدي والإفحام، حيث أن أهم ما يتوجه إليه المحاور التزام الحسنى في القول والمجادلة، ففي محكم التنزيل: "وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ" [سورة الإسراء: 53] "وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ" [سورة النحل: 125] (9).

وعلينا أن ننأى بأنفسنا عن أسلوب الطعن والتجريح والهزء والسخرية، وألوان الاحتقار والإثارة والاستفزاز.

4- التواضع واللين والرفق من المحاور وحسن الاستماع وعدم المقاطعة والعناية بما يقوله المحاور، فهو أدعى للوصول إلى الحقيقة واستمرار الحوار، وهذا ما علمناه القرآن، فقد أمر الله نبيه موسى وأخاه هارون عليهما السلام عند مخاطبة فرعون الذي طغى وتجبر وادعى الألوهية والربوبية، فقال سبحانه : "فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى" [طه: 44].

5- الحلم والصبر، فالمحاور يجب أن يكون حليماً صبوراً، فلا يغضب لأتفه سبب، فإن ذلك يؤدي إلى النفرة منه والابتعاد عنه، والغضب لا يوصل إلى إقناع الخصم وهدايته، وإنما يكون ذلك بالحلم والصبر، والحلم من صفات المؤمنين قال تعالى: "وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ" [أل عمران: 134]. وعندما قال رجل للنبي – صلى الله عليه وسلم - أوصني، قال: (لا تغضب) (10) وكررها مراراً.

ومن أعلى مراتب الصبر والحلم مقابلة الإساءة بالإحسان، فإن ذلك له أثره العظيم على المحاور، وكثير من الذين اهتدوا لم يهتدوا لعلم المحاور واستخدامه أساليب الجدل، وإنما لأدبه وحسن خلقه واحتماله للأذى ومقابلته بالإحسان، وقد نبه الله عز وجل الداعين إليه إلى ذلك الخلق الرفيع وأثره وفضل أصحابه، فقال تعالى: "وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحاً وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ" [فصلت: 33-35].

6- العدل والإنصاف؛ يجب على المحاور أن يكون منصفاً فلا يرد حقاً، بل عليه أن يبدي إعجابه بالأفكار الصحيحة والأدلة الجيدة والمعلومات الجديدة التي يوردها محاوره وهذا الإنصاف له أثره العظيم لقبول الحق، كما تضفي على المحاور روح الموضوعية.

والتعصب وعدم قبول الحق من الصفات الذميمة في كتاب الله فإن الله أمرنا بالإنصاف حتى مع الأعداء فقال: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى" [المائدة: 8]، ومن تدبر القرآن الكريم وذكره لأهل الكتاب وصفاتهم الذميمة يجد أن المولى عز وجل لم يبخسهم حقهم، بل أنصفهم غاية الإنصاف، ومن ذلك قوله تعالى: "وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلَّا مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِماً" [آل عمران: 75]، وقوله تعالى: "لَيْسُوا سَوَاءً مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ" [آل عمران:113]. يقول ابن القيم:

وتعر من ثوبين من يلبسهما *** يلقى الردى بمذمة وهوان

ثوب من الجهل المركب فوقه *** ثوب التعصب بئست الثوبان

وتحل بالإنصاف أفخر حلة *** زينت بها الأعطاف والكتفان(11)

ويأمر الله بمحاورة أهل الكتاب بلغة الإنصاف والعدل: "قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً" [آل عمران: 64].

والإسلام ينطلق في الحوار من التكافؤ بين البشر لا تفاضل لعرق كما حكى الله عن اليهود قولهم: "نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ" [سورة المائدة: 18] أو لون كما يدعى العنصريون البيض في أوروبا، أو طبقية كما هي عند الهندوس، وإنما بصلاحهم، ولنتأمل آية قرآنية مفتتحة بالمبدأ ومقررة وجود الاختلاف ومبينة أهمية التعارف وخاتمة بميزان التفضيل "يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ" [الحجرات: 13].

وهذا الاختلاف من آياته سبحانه "وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِلْعَالِمِينَ" [الروم: 22].

فالإسلام يقرر أن الاختلاف حقيقة إنسانية طبيعية ويتعامل معها على هذا الأساس "لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ" [المائدة: 48].

فوجود الاختلاف أمر واقع وله حكم إلاهية ويجب التعايش وفق ما أمر الله من الدعوة والنصيحة(12).

وأخيراً هذه نظرتنا للحوار والاختلاف، ولكن عندما ننظر إلى الواقع ودعوات الحوار الصادرة من الغرب لنا أن نتساءل: كيف يؤتي الحوار ثماره في العالم اليوم بين الشرق والغرب أو بين الشمال والجنوب وهو يصاحب الهيمنة والاستعلاء، والظلم والجور، والاحتلال ولغة السلاح.

إن التكافؤ بين المتحاورين مهم جدًّا ليحقق الحوار أهدافه(13).

أن الحوار لا يحقق أهدافه مع المجازر المستمرة في فلسطين والاحتلال في العراق وأفغانستان؛ بل كيف تتفق لغة الحوار ع الجدار العنصري في الأرض المحتلة على الرغم من إدانة العالم في الأمم المتحدة (باستثناء بعض دول الغرب المنحازة للصهيونية).

أي حوار ينادي به الغرب مع هذا العدوان والظلم ولغة الاستعلاء، وفرض المصطلحات واستغلال التفوق الإعلامي لتشويه الآخرين.

كيف نثق بهذا الحوار الذي يهدف إلى نمط جديد من الدبلوماسية لتكريس الظلم ومصالح تتعلق بالاقتصاد والسياسة ومواصلة الحرب والصراع والاحتلال(14).

إن الغرب مطلوب منه قبل أن يتحدث عن الحوار ونشر الديموقراطية (والشرق الأوسط الكبير) إن كان يريد خيرًا بالآخرين يجب تقليص الهوة السحيقة بين البلدان الغنية والفقيرة, وعليه مساعدة البلدان على التنمية لا توريطها في الديون والفقر، وفرض الإملاءات عليها، ومساعدة البلدان التي خربتها الحروب كالصومال وأفغانستان وغيرها على إنهاء ذلك الوضع, بل أن تكف يدها عن إشعال الفتن في تلك البلدان.

بعد ذلك يُقال أننا نرفض الحوار والتسامح؛ ومن يتهمنا بذلك؟ إنه المستعلي الظالم المحتل لأرضنا والساعي لتشويه ديننا وثقافتنا، ومع ذلك فلا نزال نقول إننا مع دفاعنا عن ديننا وثقافتنا وأرضنا وأنفسنا فإننا نرى أن الحوار هو خيار مهم لتحقيق أهدافنا العليا القائمة لمصلحة البشرية.

(1) لسان العرب، ابن منظور (4/217-218).

(2) لسان العرب، ابن منظور (11/103).

(3) انظر: أصول الحوار، الندوة العالمية للشباب الإسلامي، الطبعة الثانية، 1408هـ - 1987م، ص: 9. وانظر: الحوار مع أهل الكتاب، د. خالد بن عبدالله القاسم، دار المسلم، الطبعة الأولى، 1414هـ، ص: 104.

(4) لسان العرب، (4/196).

(5) انظر: الحضارة والعالم الآخر، د. عبدالله الطريقي، دار الوطن، الرياض، الطبعة الأولى، 1415هـ، ص: 16-17.

(6) انظر: الحضارة، حسين موسى، عالم المعرفة، 1998م، ص: 220.

(7) انظر: موقف الإسلام من الحضارات الأخرى، د. محمد نورد شان، بحث مقدم إلى ندوة الإسلام وحوار الحضارات، غير منشور، مكتبة الملك عبد العزيز، الرياض – السعودية، محرم 1423هـ، ص: 6.

(8) انظر: مدخل إسلامي لحوار الحضارات، لمحمد السعيد عبد المؤمن ص(11-12)، بحث مقدم لندوة الإسلام وحوار الحضارات، مكتبة الملك عبد العزيز، 1423هـ غير مطبوع.

(9) أصول الحوار وآدابه في الإسلام، صالح بن عبدالله بن حميد، ص: 13.

(10) أخرجه البخاري، ك الأدب، باب الحذر من الغضب، رقم (5765).

(11) الكافية الشافية في الانتصار للفرقة الناجية، ابن القيم، دار المعرفة، بيروت، 1345هـ، ص: 19.

(12) انظر: مجلة العرفة، العدد 101 شعبان 1424هـ، موضوع قيم الإسلام، الحوار الانفتاح على العالم، ص: (18 – 26).

(13) انظر: من أجل حوار بين الحضارات (9) روجيه جارودي دار النفائس، الطبعة الأولى 1411هـ.

(14) انظر: حوار الحضارات، محمد خاتمي (50) ضمن كلمة الرئيس الإيراني في اليونسكو (بتصرف) في فرنسا 30/10/91 دار الفكر دمشق الطبعة الأولى 1423هـ.

==============

#أمتنا وشخصيتها الحضارية التاريخية

د. غازي التوبة 15/11/1427

06/12/2006

عرّفت الموسوعات السياسية الأمة فقالت: "أمة (Nation) مجموعة بشرية يكون تآلفها وتجانسها القومي عبر مراحل تاريخية تحققت خلالها لغة مشتركة، وتاريخ وتراث ثقافي ومعنوي وتكوين نفسي مشترك، والعيش على أرض واحدة ومصالح اقتصادية مشتركة، مما يؤدي إلى إحساس بشخصية قومية، وتطلعات ومصالح قومية موحدة ومستقلة.

ومع هذا فهذه الشروط ليست نهائية ولا قاطعة؛ فهناك أمم لا تتوفر فيها كل هذه الشروط، وهناك شعوب توفرت فيها ولم تبرز إلى حيّز الوجود كأمم، بل جماعات قومية داخل أمم متفرقة أخرى" (موسوعة السياسة، ج1 ص305).

إذا دققنا في التعريف السابق لنرى مدى مواءمته للأمة الإسلامية، ومدى مناسبته لها لوجدناه منطبقاً عليها، متحققاً فيها، وقد جاء التجانس والاشتراك والوحدة في الثقافة والتراث واللغة والمصالح والتكوين النفسي، جاء كل ذلك من الوحدة الثقافية التي كانت تقوم على الدعامتين الرئيسيتين: القرآن والسنة اللتين أعطتا المسلمين تصوراً واحداً عن الكون والحياة والإنسان، ورسمتا لهم أهدافاً واحدة تزاوج بين التطلع إلى الآخرة وإعمار الدنيا، وحددتا لهم قيماً واحدةً تقوم على التطهّر والتزكّي، وأوجبتا عليهم واجبات واحدة تعود على الفرد والمجتمع بالخير في الدنيا قبل الآخرة، وملأتا قلوبهم بتعظيم الله ورجائه وحبّه، مما أورثهم غنًى نفسياً وامتلاءً معنوياً تجسّد في أوقاف بلغت ثلث ثروة العالم الإسلامي، ووجهتا عقولهم إلى التفكر والتدبر والأخذ بالتجريب، والابتعاد عن الأوهام والظنون، مما جعلهم يبتكرون مخترعات تغني الحياة البشرية في مختلف العلوم والمجالات: كالفيزياء والكيمياء والميكانيكا والرياضيات والفلك والطب والأدوية والصناعة والزراعة...الخ

إنّ وعْي علماء الأمة وقادتها أهميةَ الوحدة الثقافية في استمرارية وحدة الأمة جعلهم يتوجهون إلى دعامتي الوحدة الثقافية الأساسية: القرآن والسنة، فيحرصون على جمعهما، ويبتكرون العلوم التي تساعد على ضبطهما، ويخترعون الأدوات التي تساعد على توحيد فهم حقائقهما، فكانت علوم المكي والمدني، والناسخ والمنسوخ، والنحو والصرف والبلاغة والبديع ومصطلح الحديث، وترجمة الرجال وعلوم الدراية والرواية، وعلم أصول الفقه ومدارس التفسير ومعاجم اللغة... الخ

من هذه الزاوية يمكن أن نقرر أنّ اهتمام علماء الأمة لنصي القرآن والسنة لم يكن لقدسيتهما فقط، ولكنه اهتمام مرتبط بوعي أهميتهما في حفظ وحدة الأمة وتعزيزها، وتحقيق استمرارية وجودها.

وإنّ مقارنة وضع الأمة الإسلامية التاريخية بالتعريف الذي ورد في الموسوعة السياسية السابقة نجد أنّ الأمة الإسلامية لم تحقق الوحدة فقط بل حققت آفاقاً أخرى رسمها الإسلام لها وهي:

الأول: أفق الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الذي جاء في قوله سبحانه وتعالى: (كنتم خَيرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ للناسِ تَأْمُرونَ بالمعروفِ وتَنْهَوْنَ عنِ المنكرِ) (آل عمران،110). وقد أورث ذلك الأفق الأمة حيوية في مواجهة أمراضها الداخلية، وقد تجسدت تلك الصفة بمؤسسة الحسبة التي كان المقصود منها ضبط السلوك العام للمسلمين، وجعل السلوك المستقيم سجيةً وطبعاً عندهم وليس أمراً خارجياً؛ لأنّ الحدود كان المقصود منها أن تكون رادعة للمسلم، لذلك أناطتها الحكومة الإسلامية بالقاضي، وهي تحتاج إلى إقامة البينة والشهود، وتدرأ عند الشبهات، أما الحسبة فهي تشجيع على الخير وتوجيه وتنبيه وتأديب وزجر وردع، ثم تأتي العقوبات والتعزير، ويجب ألاّ تصل بحال من الأحوال إلى مستوى حد من الحدود، وللمحتسب واجبات متعددة منها: منع التعديات على الشوارع، والحفاظ على قواعد الاحتشام، ومراقبة الأسواق، والاطمئنان على النظافة العامة...الخ

الثاني: أفق الشهادة الذي يتمثل في قوله سبحانه وتعالى: (وكذلك جَعَلناكُم أُمَّةً وَسَطاً لتكونوا شُهداءَ على الناسِ ويكونَ الرسولُ عليكم شَهيداً). [البقرة:143]. وقد تجسدت الشهادة بوعي واقع الآخرين والحرص على هدايتهم، لذلك أصبح المسلم داعياً إلى الله في كل أحواله: حين يتاجر، وحين يسافر، وحين يتعبد، وحين يتعلم... الخ وقد كانت النتيجة انتشار الإسلام عن طريق الدعوة أكثر من انتشاره عن طريق الفتوح. ففي الواقع انتشر الإسلام في إفريقية من الصومال شرقاً إلى السنغال غرباً عن طريق التجارة، فقد قامت شبكة القوافل التي كانت تعبر الصحراء الكبرى بهذا الدور، ولم يكن العرب هم الذين قاموا بالدور الحاسم في غرس الإسلام في هذه المناطق، لكن الفضل الأكبر يعود إلى البربر أصحاب الجمال الذين كانت قوافلهم تجوب دروب الصحراء، وفي الشمال الشرقي من إفريقية لعب الصوماليون دوراً مماثلاً كتجار قوافل في الركن الشمالي من القرن الإفريقي، وكان هناك جماعات محلية أخرى مثل الهوسا وريولا في غرب إفريقية قامت بعد اعتناقها الإسلام بنشر الدين من خلال علاقاتها التجارية الواسعة.

أما شرقي آسيا فوصل الإسلام فيه إلى إندونيسيا وماليزيا والفلبين عن طريق التجار المسلمين في الهند، ووصل إلى سهولها الداخلية عن طريق المتصوفة والمبشرين الدعاة المسلمين، وعندما جاء القرن السادس عشر كانت جميع الشعوب التركية في أوراسيا مسلمة تقريباً، وبهذا يكون الإسلام قد حل مكان الأديان التي كانت منافسة مثل المسيحية والمانوية والبوذية.

الثالث: أفق العالمية: وقد تحقق هذا الأفق؛ لأنّ الرسول صلى الله عليه وسلم بُعِث إلى الناس كافة وليس للعرب وحدهم، قال سبحانه وتعالى: (وما أرسلناكَ إلا رَحمةً للعالمين) (الأنبياء،107)، وقال سبحانه وتعالى أيضاً: (وما أرسلناك إلا كافَةً للناسِ بشيراً ونذيراً) (سبأ،28)، وقال سبحانه وتعالى أيضاً: (قُلْ يا أَيُّها الناسُ إني رَسولُ اللهِ إليكم جَميعاً) (الأعراف،158). وأكد الرسول صلى الله عليه وسلم ذلك في أحد أحاديثه فقال: "فُضّلت على الأنبياء بست: أُعطيت جوامع الكلم، ونُصرت بالرعب، وأُحلّت لي الغنائم، وجُعلت لي الأرض طهوراً ومسجداً، وأُرسلت إلى الخلق كافة، وخُتم بي النبيون" (رواه مسلم).

وقد تحقق أفق العالمية لأنّ القرآن الكريم كتاب الله إلى الناس جميعاً فقال سبحانه وتعالى: (إنْ هو إلا ذِكْرٌ للعالمينَ) [ص:87]، ولأنّ الإسلام أقام الرابطة بين الناس على أساس الإيمان بالله ولم يقمها على جنس أو نسب أو قبيلة فقال سبحانه وتعالى: (إنما المؤمنونَ إخوةٌ) [الحجرات:10]، وقال الرسول صلى الله عليه وسلم: "يا أيها الناس إنّ أباكم واحد، كلكم لآدم وآدم من تراب، لا فضل لعربي على أعجمي إلاّ بالتقوى".

لذلك مزجت الأمة الإسلامية مختلف الأجناس والأعراق والقبائل والشعوب في بوتقتها، وهذا المزج هو ما حلم به الفيلسوف أرسطو وتلميذه القائد العسكري اسكندر المقدوني، وسعياً إلى تحقيقه بمزج العرقين: اليوناني والفارسي في بابل من خلال زواج اسكندر المقدوني بابنة كسرى ملك الفرس، وزواج كبار ضباطه بشريفات الأسر الفارسية، لكن هذه المحاولة انتهت بوفاة الاسكندر المقدوني.

وقد أثمرت عالمية الأمة الإسلامية حضارة عالمية كان للعرب دور مستقل في بداية ظهور الإسلام ولفترة وجيزة، لكن الشعوب الأخرى شاركتهم بعد ذلك في كل عناصرها العلمية والثقافية والاجتماعية والسياسية والاقتصادية...الخ، لذلك نجد أنّ الصرح العلمي في الحضارة الإسلامية بناه علماء من العرب والفرس والهنود...الخ، وأنّ الأرض الإسلامية دافعت عنها قبائل وأسر سلجوقية وزنكية وكردية وتركمانية وشركسية وعثمانية...الخ، وأنّ القيادة السياسية تسلمها العرب والبربر والترك والفرس...الخ

ومما ساعد في تحقيق هذه الحضارة العالمية اعتبار الإسلام الأمة الإسلامية مع أمم الأنبياء السابقين أمة واحدة فقال سبحانه وتعالى: (وإنَّ هذه أُمَّتُكُم أُمَّةً واحِدَةً وأنا رَبُّكُم فاتَّقونِ) (المؤمنون،52)، وقال سبحانه وتعالى: (إنَّ هذه أُمَّتُكُم أُمَّةً واحِدةً وأنا رَبُّكُم فاعْبُدونِ) (الأنبياء،92)، وقد جاء الوصف بالأمة الواحدة في السورتين بعد حديث تفصيلي عن معظم الأنبياء السابقين ومنهم: موسى، وهارون، وإبراهيم، ولوط، وإسحاق، وداود، وسليمان، وأيوب، وإسماعيل، وإدريس، وذو الكفل، وذو النون، وزكريا، ويحيى، وعيسى...الخ

ومما عزز هذه العالمية إفراد مساحة تشريعية خاصة في التعامل مع أهل الكتاب: أتباع موسى وعيسى عليهما السلام؛ إذ أباح الإسلام أكل ذبائحهم والزواج من نسائهم فقال سبحانه وتعالى: (وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ) (سورة المائدة: من الآية 5)

إنّ هذه الآفاق الحضارية التي حققتها الأمة الإسلامية في التاريخ جديرة بأن تكون محل بحث تفصيلي لكي نحسن فهم واقعنا، ونحسن التعامل معه حاضراً ومستقبلاً

==============

#كلمات في الفن الإسلامي

أ. د. عماد الدين خليل 9/5/1428

26/05/2007

لم تنفصل الفنون الإسلامية عن العقيدة التي صاغتها، والبيئة التي تخلقت في رحمها، بخلاف العديد من الاستنتاجات الخاطئة التي تشبثت بها بعض الدراسات الحديثة حول

الموضوع، ولذا سنقف عند هذه المسألة بعض الوقت.

إن عقيدة الإسلام، بانقلابها على سائر الجاهليات والوثنيات منحت الفن منظوراً توحيدياً أصيلاً كان في نهاية الأمر بمثابة كسب مهم لمفاهيم التجريد التي لم تبلغها الفنون الأخرى في العالم إلاّ في القرن الأخير.

لقد وضع الإسلام ضوابط ومعايير ألزم بها فنانيه، فدفعهم إلى التخلي عن بعض صيغ التعبير، ولكنه ـ بهذا ـ فتح أمامهم مجالات أخرى لم يسبقه إليها أحد، وشهد عالم الإسلام مهرجاناً خصباً من معطيات فن ينبثق عن رؤية عقديّة متميزة يلتزم بمفرداتها ومطالبها، فيبدع ويتفوق.

إن الطاقة الإبداعية تبحث ـ بالضرورة ـ عن متنفسها.. عن فرصتها للتحقق. ولقد كان الفنان المسلم أهلا لإيجاد البدائل المناسبة، ومن ثم فإن غياب فنون كالنحت والرسم ـ إلى حد كبير ـ قاد بالمقابل إلى حضور فاعل في مجالات أخرى كالخط والزخرفة والمعمار. وكما يقول الباحث الإنكليزي (روم لاندو): "فمن حيث حُرّم على المسلمين الاهتمام بالفن التشبيهي، فقد تعين على مواهبهم الفنية أن تلتمس منافذ لها في اتجاهات أخرى. ومن خلال هذا السعي أحدثوا فناً يستطيع أن يدعي ـ بصرف النظر عن محاسنه أو نقائصه الأخرى ـ أنه واحد من أصفى الفنون التي نعرفها ". وهو ـ أي روم لاندو ـ يضع يديه على بعض مقومات هذا الفن: التجريد الجمالي الخالص، رفض التشخيص احتراماً للمنظور العقدي، تجاوز الطبقية، والقدرة على الانتشار الجغرافي.

وهو يتحدث عن إبداعية الخط العربي والمساحة الواسعة التي غطاها في الحياة الفنية الإسلامية بتعاشقه مع فن الزخرفة "ذلك النظم المعقد للأشكال الهندسية والعناصر النباتية المكيفة وفقاً لطراز بعينه والخطوط العربية. النظم الذي انتهى إلى أن يصبح بمثابة "دمغة المصوغات" بالنسبة إلى الفن الإسلامي والذي شغل حيزاً هائلا من العبقرية الفنية في الإسلام".

وهو يستنتج أن "العنصرين اللذين يشكلان المحتوى الرئيس لفن الزخرفة العربي ـ النمط والكلمة، الشكل والمعنى ـ يفيدان على التعاقب مبدأ الحقيقة المادية ومبدأ الحياة، وبكلمة أخرى: مبدأ الوجود كما يراه الله.. وهكذا يصبح هذا الفن رمزاً حقيقياً لموقف صاحبه من الله ومن العالم الذي يحيا فيه".

وثمة ملمح آخر يكتشفه (روم لاندو) وهو يتحدث عن فن الزخرفة والخط ذلك الإيقاع المتوحد في حضارة الإسلام بين الفنان والمفكر والعالم، ذلك العشق للتناغم والتناسق، وذلك الولوع بالنظام: "إن الفنان المسلم شارك المفكر والعالم المسلمين ولوعهما بالنظام والجدولة Tabulation والتناغم. فقد التمس الفلاسفة كما نعلم تفسيرات عقلانية لخلق الله الكون، ولم تكن قلوبهم لتطمئن إلاّ إذا أظهرت تفسيراتهم منطق التناغم الكامل. أما الرياضيون وعلماء الفلك فالتمسوا أكمل شكل من أشكال التناغم، أعني المعادلة الرياضية. وبطريقة مماثلة اهتم الفنان المسلم بتنسيق التصاميم والأنماط التي كانت صفتها الهندسية الطاغية تساعد بصورة رائعة على النظم ..".

وبصمات الإسلام ورؤيته للكون والعالم تمتد في مجال الفن لكي تشمل التكوين المعماري نفسه، انطلاقاً من المسجد الذي هو البدء والمنتهى، والذي اكتسب ملامحه الأساسية من طبيعة وظيفته التي أُريد له أن يؤديها، وانتهاء بالمدن الإسلامية المنتشرة في مشارق الأرض ومغاربها : بخارى وسمرقند ودلهي وأصفهان وبغداد وأسطنبول ودمشق والقاهرة وفاس وقرطبة وغرناطة وأشبيلية، تلك التي وضعت حجارتها الأساسية باسم الله، بدءاً من أعماق تركستان وانتهاء بالحمراء في الأندلس، مروراً بحافات الصحراء حيث أقيمت المدن الأولى بمواجهة تحديات الامتداد والفناء: البصرة والكوفة والفسطاط والقيروان…

يصف روجيه جارودي في كتابه المعروف (وعود الإسلام) الجامع بأن "حجارته نفسها تكاد تصلي" وأنه "مركز الإشعاع لجميع فعاليات الأمة الإسلامية، ونقطة الالتقاء لجميع فنونها" وأن "كل الفنون في البلاد الإسلامية تؤدي إلى المسجد، والمسجد إلى الصلاة ".

وجارودي بملاحظاته الدقيقة هذه يؤكد الارتباط الحميم بين الرؤية والمعمار، وهي تذكرنا بما سبق وأن قاله (روم لاندو)، من "أن حافزاً لا إرادياً نحو دمج السماوات دمجاً رمزياً في بيت العبادة، هو الذي قاد المسلمين إلى تبني القبة وإلى إتقانها حتى الكمال. وفي إمكاننا القول بأن المكعب والقبة معا يمثلان رمزاً كاملاً لماهية الإسلام: وحدة العالمين المنظور وغير المنظور، عالمي الأرض والسماء". وبعبارة جاك ريسلر، وهو يرى ويسمع إيقاع العقيدة في المعمار:

"في المسجد ينبض قلب الإسلام.. وفي أرجائه يحس المرء إحساساً حياً أنه بحضرة الله. الحق أنه لا شيء في المسجد إلاّ البساطة والجمال والتجانس".

وفيما كان بناء المساجد ينتشر شرقاً حتى بلغ الصين، وغربا حتى وصل الأندلس "كان نمط البناء يتأثر بعناصر محلية من غير أن تتبدل خطته الأساسية تبدلاً يُذكر. ولما كان المسجد مكاناً للعبادة فإن بناءه عموماً ظل معبراً عن الإسلام تعبيراً عظيماً. وأما في أثناء تطوره في التاريخ فإنه كان صورة مصغرة لتطور الثقافة الإسلامية، تلك الثقافة التي كان المسجد تعبيراً صحيحاً عنها ـ فيما يتعلق بالأمم المختلفة ـ إذ هو يمثل بصورة ملموسة ذلك التفاعل بين الإسلام و جيرانه".

ليس الجامع وحده، وإنما المعطيات المعمارية كافة كانت تخفق بالنبض نفسه وتعبر عن رؤية إسلامية أصيلة ومتميزة. وعلى أية حال، كما يؤكد مؤرخ الفن المعروف جورج مارسيه فإنه "يكاد لا يوجد في البلاد الإسلامية منشآت عامة أو خاصة لا تحمل طابع الدين، فلقد تغلغل الإسلام في الحياة البيئية، كما دخل حياة المجتمع، وصاغت الطبائع التي نشرها شكل البيوت والنفوس". وهكذا "فإن الإسلام وضع طابعه على إطار الحياة اليومية، وحتى عندما يكون الفن مطبقاً في أمور دنيوية، فإن فن البلاد الإسلامية يبقى فناً مسلماً" بل إن غارودي يذهب إلى أبعد من هذا وهو يعاين ذلك الإيقاع المتصادي العميق المتبادل بين الإسلام وفنونه كافة، فيقول: "لا مندوحة لي من أن أشهد بتجربتي الشخصية: ذلك أنني انطلاقاً من تأمل فنون الإسلام ومساجده إنما شرعت أفهم العقيدة الإسلامية بتأكيدها الجذري على التعالي.."، مشيراً إلى رحلة الصعود للمسلم الفرد وللأمة الإسلامية عبر محطات الإسلام والإيمان والتقوى والإحسان.. إلى حركة الخروج بالناس من ضيق الدنيا إلى سعتها..

و على الرغم من أن المعماريين المسلمين تأثروا بالنماذج الرومانية والفارسية والبيزنطية فإنهم "مع ذلك وُفّقوا دائماً إلى إبداع آثار لا ريب في سمتها الإسلامية الخالصة". وتمكنوا من امتصاص عناصر منبثقة من أشد الينابيع تنافراً لكي يدمجوها في تركيب Synthesis جديد متجانس. ليس هذا فحسب، بل إنهم عادوا لكي يعطوا الأمم الأخرى الكثير من إبداعاتهم المعمارية فيما تحدث عنه الباحثون ومؤرخو الفن فأطالوا الحديث.

باختصار شديد، فإن فن المعمار الإسلامي، ارتبط بشكل حميم، وكما هو الحال بالنسبة للعديد من مفردات الحضارة الإسلامية، برؤية هذا الدين الأمر الذي دفع (أوليغ غرابار) إلى القول بأنه "نقل بصري لرؤية العقيدة الإسلامية الكونية

============

#التعايش مع الآخر حقيقة تاريخية وضرورة واقعية

محمد الحسن الددو 13/6/1428

28/06/2007

خلق الله الإنسان وسخر له الكون ليكون خليفة الله في الأرض ، قال الله تعالى : { إنا عرضنا الأمانة على السماوات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وحملها الإنسان.. }

ومن قديم الزمان انقسم بنو الإنسان إلى مؤمن وكافر وبر وفاجر، ولم يمنع ذلك من عيشهم على هذا الكوكب ؛ بل وتعاونهم في شؤونهم اليومية في غير أوقات الحروب والنزاعات .

وبحكم الاختلاف الحتمي والطبيعي بين الناس فليس أمامهم من خيار غير التعاون في المتفق فيه الذي يفترض أن يتوصل إليه بواسطة حوار بناء أطرافه متكافئة ومتسامحة وبهذا يمكن التعايش بين الناس وإن اختلفت عقائدهم وتعددت مشاربهم وتباينت أهدافهم وبغيره يقع ما لا تحمد عقباه من تنافر وتناحر يقطع الأرحام ويهلك الحرث والنسل ويأتي على الأخضر واليابس ومحاولة لبيان هذا الموضوع أكثر أورد النقاط التالية :

المحور الأول: من نحن ومن الآخر ؟

أما المقصود بعبارة ( نحن ) فهم من عنتهم الآية الكريمة { يأيها الذين امنوا اركعوا واسجدوا واعبدوا ربكم وافعلوا الخير لعلكم تفلحون وجاهدوا في الله حق جهاده هو اجتباكم وما جعل عليكم في الدين من حرج ملة أبيكم إبراهيم هو سماكم المسلمين من قبل وفي هذا ليكون الرسول شهيدا عليكم وتكونوا شهداء على الناس فأقيموا الصلوة وآتوا الزكوة واعتصموا بالله هو موليكم فنعم المولى ونعم النصير}

وأي فرد شهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله وعمل بمقتضى ذلك ، داخل في هذا التعريف ، ولما كان محمد صلى الله عليه وسلم آخر نبي وآخر رسول وكانت أمته آخر أمة أنزل إليها وحي من الله – لما كان ذلك كذلك – اقتضت حكمة الله أن تكون هذه الأمة متميزة عن غيرها من الأمم وهذا التميز شامل لمناحي الحياة ، عقدية واقتصادية وسياسية واجتماعية .

إذ ليس مقبولا شرعا ولا مستساغا عقلا أن تكون آخر أمة أخرجت للناس لتأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر وتؤمن بالله تابعة لأمة أخرى مهما علا شأنها قال تعالى : { وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا }

أما الآخر فنعني به من لا يعتقد عقيدتنا ولا يؤمن بديننا وهذا التعريف يشمل أتباع الديانات السماوية السابقة يهودا ومسيحيين كما يشمل من يدينون بديانات أخرى ، ومن لا يدينون بشيء مع استحضار واستدراك المكانة الخاصة لأهل الكتاب لدى المسلمين والفروق بين الفريقين (المسلمين وغيرهم)؛ عديدة لكنها لا تصل إلى التضاد والتناقض المطلق، ولا تمنع التعايش ولذا لزم البحث عن أرضية مشتركة يمكن أن يقف عليها الفريقان ليعيشا في سلام وأمان ويعملا لتعمير الأرض وسعادة الإنسان …

المحور الثاني: أرضية التعايش

لا يخفى على دارس تعدد وتنوع واختلاف عقائد وعادات وتقاليد البشرية ، فلكل قوم ملتهم ومذهبهم ونظرتهم إلى الكون وإلى الحياة وهذا التنوع الذي قد أوجد هذا الاختلاف يمكن فهمه والتعايش معه إذا وجد الجميع أرضية صلبة يقفون عليها يرتضونها جميعا .

وللوصول إلى تلك الأرضية أقترح ما يلي :

أ. أن ينطلق الجميع من حقيقة لا جدال فيها وهي أن الناس لا يمكن أن يكونوا نسخة مكررة لأن الله لم يفطرهم على ذلك بل جعل الاختلاف سنة فيهم قال تعالى : { ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة ولا يزالون مختلفين إلا من رحم ربك ولذلك خلقهم ...}الآية 118 و 119 من سورة هود ، أي لو شاء الله لجعل الناس كلهم مؤمنين مهتدين على ملة الإسلام ولكنه لم يفعل ذلك لحكمة.

( ولا يزالون مختلفين إلا من رحم ربك ) أي ولا يزالون مختلفين على أديان شتى وملل متعددة ما بين يهودي ونصراني ومجوسي إلا ناسا هداهم الله من فضله وهم أهل الحق ( ولذلك خلقهم ) اللام لام العاقبة أي خلقهم لتكون العاقبة اختلافهم مابين شقي وسعيد ، قال الطبري : المعنى للاختلاف بالشقاء والسعادة خلقهم ..

ب. احترام المعتقدات والمبادئ الأساسية لكل طرف :

وهذه مسألة بالغة الأهمية ولها أثرها الطيب على العلاقات بين الأمم والمجتمعات فلكل أمة عقيدة أو مبادئ تقدسها وتلتزم بها وتعتبرها أسمى من غيرها ويدخل في هذا أركان الإيمان عند المسلمين ، من إيمان بالله وملائكته ، وكتبه ، ورسله ، واليوم الآخر ، والقدر خيره وشره .. ولغير المسلمين ما يقدسونه ويحتفون به من آلهة يعبدونها ، أو مبادئ يعتزون بها .. ومبدأ الاحترام مبدأ قرآني أصيل دل عليه قوله تعالى : { ولا تسبوا الذين يدعون من دون الله فيسبوا الله عدوا بغير علم ..} الآية 108 من سورة الأنعام .

أي لا تسبوا آلهة المشركين وأصنامهم فيسبوا الله جهلا واعتداء لعدم معرفتهم بعظمة الله ، قال ابن عباس : قال المشركون لتنتهين عن سبك آلهتنا أو لنهجون ربك فنهاهم الله أن يسبوا أوثانهم .

ومعاملة أي من الطرفين للآخر بعدم احترام وخاصة في هذا الجانب لها آثار مأساوية ، وأنصع مثال على ذلك ما اقترفته الصحيفة الدانمركية ورساميها من تعريض وسخرية بمحمد صلى الله عليه وسلم وهو المكر الشنيع الذي أوقد نارا لا تزال مشتعلة ، وقد أتى حريقها على الأرواح والأموال ... وسبب هذا المنكر الشنيع شرخا يصعب تجاوزه بين المسلمين والغرب مالم يبادر الغرب إلى الاعتذار وتشريع ما يحول دون فعل مماثل .

ج. العمل على إرساء مبدأ التعاون والتشارك بدل الاستعمار والاستغلال والقهر ..

وفي هذا السياق على الغرب أن يقنع أن ثروات المسلمين وبقية العالم الثالث ليست ملكا للغرب ينهبها مباشرة أو عن طريق أعوان يصنعهم على عينه ويتعاهد هم بحمايته ورعايته بل هي ملك للشعوب التي جعلها الله في أرضها وخصها بها ... وليس خافيا أن نهب الدول الغربية لثروات الغير في الماضي والحاضر سبب مجاعات وكوارث لا حصر لها .

د. احترام المبادئ الإنسانية المشتركة كالحرية والديموقراطية وحقوق الإنسان :

فهذه قيم إنسانية سامية إن لم تتخذ مطية للإساءة إلى الغير والتهجم عليه بحجة حرية التعبير ... ويؤخذ على الغرب ترسيخه لهذه القيم في دوله وتشجيعه للاستبداد والظلم في الدول الأخرى ، وخاصة في بلاد المسلمين وهو أمر له ضرره البين على الجانبين .

هـ. احترام إرادة الشعوب في الاختيار :

اختيارها لدساتيرها وقوانينها ... ومن يحكمها ولا مجال لوصاية أمة على أخرى فكما لا تقبل الدول الأوربية مثلا أن تحكم بشريعة الإسلام ، عليها أن لا تحاول فرض نموذجها العلماني الليبرالي على المسلمين وما الضجة الكبرى التي أعقبت الفوز الساحق لحركة المقاومة الإسلامية ( حماس ) في فلسطين وما رافقها من تهديد ووعيد إلا دليل صارخ على النفاق والأنانية وحتى العنصرية المتنامية في الدول الغربية .. وقد آن الأوان لاعتراف الرجل الأبيض أنه ليس وحده القاطن في هذا الكوكب .. وليس وحده المؤهل للتفكير والتنظير والتنفيذ أصالة عن نفسه ونيابة عن غيره، فتلك مرحلة في طريقها إلى الانتهاء بعد عودة المسلمين إلى أصالتهم وحضارتهم وبزوغ نجم الصين والهند كدولتين تزداد قوتهما البشرية والاقتصادية.. ليستمر التدافع والتوازن الذي إذا اختفى اختفت الحياة ، قال تعالى:

{ ولولا دفاع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض }

و. إعادة النظر في المؤسسات الدولية القائمة :

كالأمم المتحدة ومؤسساتها المختلفة من مجلس أمن .. إلخ لأن النظام الذي تقوم عليه يخدم الأقوى ولا مصلحة فيه للضعيف ، والعلاقة بين البشر لا يمكن أن تكون قائمة على ذلك ، وقد باتت المؤسسات الدولية تابعة لدولة واحدة هي الولايات المتحدة تغزو بها من تشاء ، وتحاصر من تريد ، وتكافئ من يدور في فلكها .. وهو أمر أفقد المؤسسات الدولية مصداقيتها ومبرر وجودها .

ز. وضع أسس جديدة للاقتصاد العالمي :

بخلاف ما هو قائم من سيطرة البنك وصندوق النقد الدوليين على مقدرات الشعوب المختلفة لتسخيرها لخدمة دول بعينها هي أمريكا وأوروبا ولو هلك بقية الخلق عن بكرة أبيهم .. ولابد أن تكون الأسس الجديدة مبنية على ما يخدم مصلحة الجميع وأن تتيح للأمم المختلفة إبراز مبادئها وخصوصياتها ، وفي هذا السياق ليس من حق النافذين في العالم العربي أن يفرضوا على المسلمين التعامل بالربا ... وهو في دينهم من أعظم المحرمات قال تعالى : { يأيها الذين آمنوا اتقوا الله وذروا ما بقي من الربا إن كنتم مؤمنين فإن لم تفعلوا فأذنوا بحرب من الله ورسوله ... } الآية

وفي الصحيحين : «اجتنبوا السبع الموبقات ، قالوا وما هي يا رسول الله ، قال : الشرك بالله ، والسحر ، وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق ، وأكل الربا ، وأكل مال اليتيم ، والتولي يوم الزحف، وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات».

ح. إتاحة فرص التطور التكنولوجي والاقتصادي والسياسي .. أمام كل الأمم :

فالسياسة الحالية التي يحتكر فيها الغرب الصناعي إبراز العلوم والتقنيات ، والسعي الحثيث بوضع القواعد الصارمة لحرمان المسلمين خاصة من التكنولوجيا المتقدمة .. تنكر لأيادي المسلمين البيضاء وأنانية وعنصرية يتحتم التخلي عنها واستبدالها بنشر أسرار العلوم التجريبية لتعم فائدتها الجميع .

ط. معالجة الأزمات الكبرى : بعدالة تزيل أو تقلل الشعور بالظلم والمهانة السائد بين المسلمين بسبب سلب أرضهم وانتهاك عرضهم ونهب ثرواتهم واستهداف مقدساتهم ... والأمثلة على هذا أوضح من الشمس في رابعة النهار:

ففلسطين مغتصبة والأقصى مدنس والعراق تسيل الدماء فيه كالأنهار وأفغانستان مستباحة والشيشان مستلبة ... والاستمرار في هذا الطريق لا يترك للمسلمين إلا خيارا واحدا هو خيار الجهاد والمقاومة قال تعالى : { ولولا دفاع الله الناس بعضهم ببعض لهدمت صوامع وبيع وصلوات ومساجد يذكر فيها اسم الله كثيرا ..... } .

ي. أن لا تكون التكتلات الكبرى حكرا على غير المسلمين

فالولايات المتحد موحدة ، والاتحاد الأوروبي مجتمع ، والصين تجمع شملها ... أما المسلمون فيفرض عليهم التشرذم والتفرق والتجزؤ .... لإبقائهم ضعافا مفككين عاجزين .... رغم أن دينهم لا يقرهم على ذلك ولا يقبله منهم قال تعالى : { ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم } .

المحور الثالث: فوائد التعاون

التعايش والتفاهم والتعاون بين الأمم المختلفة أمر تحتاجه الإنسانية حاجة ماسة ، وقد شرع الإسلام التسامح وأمر بالعدل والرحمة والبر بين البشرية ، قال تعالى : { لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم إن الله يحب المقسطين } الآية 8 من الممتحنة .

وقال : { إن الله يأمر بالعدل ولإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي }

وقد ضرب المسلمون طيلة تاريخهم أنصع مثال على حسن معاملة غيرهم فلم يفعلوا ما فعلته أوروبا باليهود ، كما لم يقتر فوا الأسبان بالمسلمين .

وامتدت معاملة المسلمين الحسنة لغير المسلمين قرونا عديدة ولا تزال إلى اليوم ويشهد لذلك وجود النصارى وغيرهم بين المسلمين في أماكن كثيرة ...

والتعاون بين بني الإنسان لا غنى عنه وفيه فوائد كثيرة منها :

- انتشار المبادئ والأخلاق الأكثر إقناعا وجاذبية كالمساواة والحرية والديمقراطية والعدالة .. والصدق والأمانة .. والوفاء .

- استفادة كل فريق من خبرات وتجارب الفريق الثاني في كل مناحي الحياة : سياسية ، اقتصادية ، اجتماعية ، وإعلامية .

- تنمية وتعزيز القوا سم المشتركة بين الفرقاء جميعا لأن مركبا واحدا يجمعهم وأي خلل فيه سيدفع الجميع ثمنه غاليا .

- ازدهار العلوم والفنون المختلفة بتلاقح الحضارات وإثراء بعضها للبعض الآخر .

- سرعة التطور العلمي والتكنولوجي لما فيه مصلحة الإنسانية .

- تكامل الموارد الاقتصادية بتبادل السلع والخدمات بشكل منصف يكفل للكل العيش الكريم للفرقاء جميعا .

- حرية التنقل والتملك .

- الشعور بالأمان والسلام .

المحور الرابع: أضرار التصادم

التصادم بين الحضارات والأمم عواقبه مدمرة لا تخفى على أحد ولا يسعى إليها عاقل وقد روج العديد من المنظرين الغربيين لصراع الحضارات كالأمريكي هنكتتن وغيره ، والهدف الأول لهم المسلمون والحضارة الإسلامية وإن عدوا معها أحيانا الحضارة الصينية .

ومالم يبادر العقلاء إلى استدراك الأمر والسعي للسير بالبشرية في الطريق الآخر طريق تعاون وتكامل الحضارات فإن الحياة على هذه الأرض لن تكون سعيدة، بل ستكون مليئة بالأحزان والأحقاد التي هي حتمية للظلم والجور والقهر ...

خاتمة :

مرت حتى الآن حقب طويلة على الجنس البشري على هذا الكوكب الأرضي تراوحت العلاقة فيها – بين بني الإنسان – بين التفاهم والتكامل ، والتعاون ... وبين الخلاف والنزاع والشقاق ..

وكانت نتيجة الأولى إيجابية على الجميع ، أما الثانية فكانت سلبية بكل المقاييس ، ولذا من المصلحة بل من المتحتم أن يعمل المخلصون لمبادئهم وأوطانهم .. للوصول إلى قواسم مشتركة يتفق عليها الجميع ويعمل من أجلها لتقل أسباب ودواعي صراع وتصادم الحضارات الذي أباد أمما وشعوبا في الماضي والحاضر، وقد يبيدها في المستقبل – لاقدر الله – مالم يتدارك الموقف..

والمسلمون – من جانبهم – ممثلين في التيار الوسطي العقلاني المعتدل جاهزون للتعاطي إيجابيا مع أي قوم يعاملونهم باحترام ، ويضعون قدراتهم وإمكانياتهم معهم في خدمة الإنسانية

==============

#الإنسان والكون

منصور الزغيبي 11/7/1428

25/07/2007

(مدارك البشر ومعارفهم، هي مقربات الرؤية الكاشفة لأبعاد هذا الكون، ويتسع مجال الرؤية لهذه المقربات بقدر اتساع المعارف، ونضج المدارك).

د. راشد المبارك.

إن الكون والإنسان من أعظم المخلوقات الموجودة، ومن أكثر الكائنات الأخرى اتصالاً وارتباطاً بينهما، والعلاقة بينهما جدلية، منها الواضح، ومنها الغامض وهو الأكثر نسبة..!

إن (الكون) كلمة ضخمة تشمل كل ما في الوجود من المخلوقات الحية والجامدة..

وهي لم ترد في القرآن الكريم بهذه الصياغة تماماً، ولكن وردت بأسلوبٍ آخر.. (كن ) من التكوين.. (إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فَيَكُونُ) [سورة آل عمران:47].

فالكون في التعريف: هو (الفضاء الواسع وهو السماء). وعند اللغويين: (هو كل ما علاك فأظلك). وفي علم الفلك: (هو كل ما يحيط من أجرام ومجرات ونجوم وسدم وكواكب وفراغ بينهما) وعند الجرجاني هو: (عبارة عن وجود العالم). وإن كان البعض من العلماء المتخصصين وغيرهم، يرى أن إطلاق كلمة (كون) في العصر الحديث تختلف عن إطلاقها في الزمن التراثي المتقدم، والفارق هنا، أن المتأخرين من المعاصرين يقصدون بالكون كل ما هو متعلق ومتصل بعلم الفلك، وأما المتقدمون من التراثيين فيطلقونها على كل الموجودات في الكون.

إن العقل البشري يعيش قلقاً فكرياً منذ القدم من أجل اكتشاف هذا العالم الكوني، فمن ضمن الأسئلة التي أشغلته كثيراً: ما هو عمر الكون؟

طبعاً تبقى آراء العلماء مختلفة في التحليل، فمنهم من قدره بحوالي (15-20) مليار عام، وهناك حساب آخر حوالي (12.7) مليار سنة. وهذا من خلال التحليل الدقيق لأقدم نجوم المجرة وقياس عمرها، وهذا النجم الذي يُعرف باسم (31082- csool)، ورأي آخر كذلك على حسب نظرية الانفجار العظيم هو: (7-13) مليار سنة.

ومن ضمن الأسئلة متى وُجد الكون؟

لقد خلق الله هذا الكون من العدم، وبكلمة واحدة (كن) (إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) [سورة يس: 82] وكان مدة الخلق في ستة أيام: (وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِن لُّغُوبٍ)[سورة ق:38] وبالنسبة للأيام المذكورة في الآية مختلف فيها بين العلماء، هل هي مساوية لهذه الأيام التي نعيشها؟ أَتختلف؟! والصحيح من رأي أهل العلم أنها تختلف.. والمقصود بالسموات في هذه الآية من كلام المفسرين كالرازي: أنها أفلاك السيارات السبعة وهي الشمس، والقمر، وعطارد، والزهرة، والمريخ، والمشتري، وزحل.

والإنسان كذلك مساوٍ لخلق الكون من هذه الناحية السابقة، وهي إيجاده من العدم، قال تعالى (هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنسَانِ حِينٌ مِّنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُن شَيْئًا مَّذْكُورًا) [سورة الإنسان:1]. وهو في الحقيقة من الطين وروح الله (وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِّن صَلْصَالٍ مِّنْ حَمَإٍ مَّسْنُونٍ، فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي فَقَعُواْ لَهُ سَاجِدِينَ) [الحجر:28- 29].

والإنسان دوره في الأرض عمارتها بالعدل وكل ما فيه رقي يعود له وللطبيعة. وحياته محدودة في الأرض التي هي جزء من الكون: (وَلَكُمْ فِي الأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ) [سورة البقرة:36]. والإنسان أكثر الكائنات تكريماً من الرب (وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ) [سورة الإسراء:70].

وكان اتصال الإنسان بالكون حسب أدوات بسيطة، كانت العين المجردة هي الأداة الرئيسة التي يتعامل بها مع علامات الكون في تنقّله وترحاله، ومعرفة ظروف تغير المناخ، مع الفارق أساساً في أداة الإنسان (العين) ورموز الكون. مع تقدم الزمن يتطور تفكير الإنسان وتواصل الحضارات اكتشافاتها العلمية التي تكمل بعضها بعضاً، والحضارة الإسلامية استفادت كثيراً من الحضارات الأخرى في دراسة الكون، حتى طُوّرت آلة (الإسطرلاب) وغيرها من الإنجازات التي كانت في ظل الحضارة الإسلامية، والعقلية الغربية اهتمت أكثر من غيرها في اكتشاف وتطوير هذه الآلات المساعدة للإنسان في فهم نظام هذا الكون، لقد اكتشف العالم الفيزيائي الرياضي نيوتن (ت 1727م) التلسكوب العاكس. والفلكي وليم هرشل (ت 1822م) ساهم في تطوير جهاز التلسكوب، والاكتشافات متوالية لكنها تبقى مجهولة، ولم تُعطَ حقها في التعريف، ولو بشكل قريب للأذهان.

إن الإنسان مطالب شرعاً وكوناً بالبحث عن المعرفة التي تجعله يدرك ويفهم نظام الكون: (وَقُل رَّبِّ زِدْنِي عِلْمًا) [سورة طه:114].

كان الاعتقاد السائد أن الكرة الأرضية هي مركز الكون، والشمس كالكواكب الأخرى تدور حول الأرض، وبعد اكتشاف العالم الفلكي البولندي نيكولاي كوبر نيكوس (1473-1543م) الذي عكس النظرية، وأصبحت الشمس مركز الكون، والأرض كالكواكب الأخرى في الكون، التي تدور حول الشمس؛ هذا الانفجار العلمي غيّر الكثير من المفاهيم في عالم الفلك.

إن النظام الكوني في حالة توسّع وتغيّر مستمرين، وأول من اكتشف هذا القانون هو الفلكي الأمريكي (أدوين هابل)، والعالم الفيزيائي الرياضي (ألبرت اينشتاين) (1879-1954). أخذ بقانون (هابل).

ومن ضمن الأسئلة التي تواجه العقل البشري كذلك: أيهما أعظم الإنسان أم الكون؟

فعملية الكون أقدم من عملية الإنسان: (لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ) [سورة غافر:57].

التعمق في المسائل العلمية الكونية، واكتشاف أسرار الكون وفق القوانين الطبيعية من قبل العلماء في مختلف التخصصات مطلب ديني وحضاري وعلمي، لكن البعض يرفض ذلك بحجج واهية، كدخول الإنسان في عالم الشك والحيرة والتناقض، والحقيقة أن عمليتي البحث والتأمل تغذيان الإيمان والطمأنينة لدى الإنسان:

(سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ) [فصلت:53].

إن المتابع للحركة العلمية المهتمة بعلم الكون يجد أن الفيلسوف أكثر من غيره من المتخصصين في ميادين المعرفة غوصاً واشتغالاً في الأبحاث المرتبطة بالكون والإنسان والحياة والغيبي وغير الغيبي، أمثال فلاسفة اليونان أفلاطون وأرسطو وبطليموس وغيرهم من الفلاسفة، وأما الآن فأصحاب التخصصات الأخرى من الفيزيائيين والفلكيين، هم الأكثر بحثاً من غيرهم.

هذا الكون المتكامل والمتناسق في تراكيبه وصوره الرائعة وضوئه الساحر، ينتظر من العلماء والباحثين تقريب جماله وتناسقه وتراكيبه وصوره وسحره إلى العقل البشري أكثر، في الاجتماعات، والقاعات الدراسية، ووسائل الإعلام

=============

# محاور الإلحاد العلمي في الحضارة الغربية

العلم هو وسيلة للمعرفة بهدف الوصول إلى الحقيقة؛ لاستخدامها في مصلحة الإنسان في ظل احترام القيم والكرامة الإنسانية، وفي الحضارة الغربية نجد أن العلم يُعرِض عن الحقيقة الوحيدة التي يدل عليها وجود هذا الكون؛ وهي خالق هذا الكون وفاطره ومبدعه - سبحانه وتعالى، ويعتبر العلماء الغربيون أن الحياة في الأرض إنما نشأت بمحض الصدفة، وتبعاً لذلك فلا يوجد أي هدف محدد للوجود الإنساني في نظر هؤلاء العلماء، والأخلاق الإنسانية ليست مطلقة؛ بل هي خاضعة للمعرفة العلمية، ويعني ذلك إقصاء الدين عن الحياة وعدم الخضوع للأخلاق الإنسانية المبنية على الدين.

والعلماء الغربيون وغيرهم يعتمدون على العقل المجرد والتكنولوجيا التي توصلوا إليها وسيلةً وحيدة للبحث عن أسرار ونشوء هذا الكون وتفسير الوجود الإنساني، ونتج عن ذلك ظهور العديد من النظريات التي تتحدث عن نشوء هذا الكون، مثل نظرية «الانفجار الكبير» (Big Bang Theory)؛ ونظرية «كل شيء» (Everything Theory)؛ وأحدث نظرية كونية وهي نظرية «الأوتار الفائقة» (Superstring Theory)، وكل هذه النظريات تحيد عن حقيقة أن هناك خالق عظيم لهذا الكون، وأنه سبحانه وتعالى واحد لا شريك له وقادر على كل شيء، وأنه لم يَخلق هذا الكون عبثا ولعباً، وإنما خلقه لحكمة يعلمها هو سبحانه وتعالى.

ولقد احتارت عقول العلماء الغربيين في تفسير كثير من الأشياء، فالعقل البشري عاجز عن إدراك حقائق الكون، والعلماء – برغم هذا التطور الهائل في التكنولوجيا التي أوصلتهم إلى تحديد الخارطة الجينية للإنسان– يعجزون عن إدراك حقائق جسم الإنسان ونفسه، ويعجزون عن تفسير العديد من الظواهر البسيطة التي يدور رحاها في جسم الإنسان في كل لحظة. والعقل البشري - المحدود - إنما يتحرك ضمن نطاق القوانين الفيزيائية للعالم الذي نعيش فيه والذي استطاع الإنسان أن يتوصل إلى قوانينه بحواسه وبمساعدة التكنولوجيا التي صنعها، وكلما توفرت لدى العلماء أدوات تكنولوجية ومعرفية جديدة تعَّرف هؤلاء العلماء على المزيد من الحقائق المذهلة عن هذا الكون، وكلما أدى ذلك إلى زيادة علامات الاستفهام حول الكثير من الظواهر الكونية، مما يجعل العلماء في تعطش إلى المزيد من المعرفة والدراسة والبحث، وإعادة النظر فيما توصلوا إليه من نظريات علمية.

ولقد توصل العلماء إلى نظرية الانفجار الكبير بعد تحقق قدرتهم على تحليل ألوان الطيف وأشعة جاما، حيث اتضح للعلماء أن كل شيء في هذا الكون يبتعد عن كل شيء، فالكون يتسع باستمرار، وقد يكون هذا مطابقا لما جاء في لقرآن الكريم؛ حيث يقول الله تعالى: {وَالسَّمَاء بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ} (سورة الذاريات: 47)، ولكن لا بد من ملاحظة أن الاسم: «الانفجار الكبير»، الذي اختاره العلماء لهذه النظرية هو اسم مُضلل، وفيه إلحاد بعلم الله وقدرته ودقة صنعه، فالانفجار يكون عشوائيا - هكذا يعتقد العلماء الغربيون - وبذلك فإن وجود ظروف مناسبة للحياة بشكل دقيق جداً جاء من قبيل الصدفة، والأمر الآخر في التضليل هو أن الانفجار لا بد له من زمان ومكان، وحسب ما يقول العلماء فإن المكان والزمان وكل القوانين الفيزيائية هم جميعاً من آثار هذا الانفجار ومقتضياته، لذلك فإن القوانين الفيزيائية تتبدل وتتغير، كما يرى هؤلاء العلماء.

والعجيب أن العلماء المسلمين يستشهدون بنظرية الانفجار الكبير للتدليل على الإعجاز العلمي المتمثل في قوله تعالى: {أَولَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقاً فَفَتَقْنَاهُمَا وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلا يُؤْمِنُونَ} (الأنبياء:30)، دون مراعاة لما تقتضيه هذه النظرية من إنكار لوجود الله تعالى، فلماذا لا يضع العلماء المسلمون التصور الإسلامي لنشأة الكون في ضوء ما توصل إليه العلم من حقائق ونظريات؟ وأقل ما يمكن أن يقوم به العلماء المسلمون هو تقييم هذه النظرية وأمثالها تبعاَ للتصور الإسلامي، ويمكن للعلماء المسلمين أن يقوموا بأكثر من هذا بكثير، فمثلا لو كانت الآية الكريمة المذكورة تتوافق مع نظرية الانفجار الكبير، فالأولى أن يسميها المسلمون «نظرية الرتق» بدلا من نظرية الانفجار الكبير المضللة.

والقوانين الفيزيائية التي عرفها الإنسان لا تستطيع تفسير العالم الذي نعيش فيه، ولكنها تعمل على وصفه، فهناك أسئلة عادية في مظهرها وليس لها معنى فيزيائياً مثل: «ماذا كان يوجد قبل بداية الكون؟» أو «ما هو الحيز الذي ولد فيه الكون؟»، وهذا ما تحاول أن تجيب عليه نظرية «كل شيء» التي تنص على أن كل شيء في هذا الوجود يمكن تفسيره بنظام (أو مجموعة مترابطة) من المعادلات الرياضية التي توحد بين الأشكال المتعددة للطاقة، وهذه النظرية تبحث عن الشرارة الأولى التي أحدثت الانفجار الكبير - على حد زعم العلماء، علما بأن المكان والزمان لم يوجدا قبل المادة، وإنما وجدا بعد خلق هذا الكون.

أما نظرية الأوتار الفائقة فقد نجحت في التوحيد بين صور القوى (الطاقات) الأربعة في عالمنا: الجاذبية؛ الكهرومغناطيسية؛ النووية؛ والنووية الضعيفة المتمثلة في الاضمحلال الإشعاعي، ونجحت هذه النظرية في التوفيق بين «نظرية الكم» و «نظرية النسبية العامة» في انسجام عجيب، وبحسب هذه النظرية فإن الكون ما هو إلا سيمفونية أوتار فائقة متذبذبة، والوتر المتذبذب يجعل الفضاء المكاني الزماني المحيط به يلتوي حوله، وبحسب هذه النظرية فإن الكون له عشرة أبعاد بالإضافة إلى البعد الحادي عشر وهو بعد صغير جدا.

وبحسب نظرية الأوتار الفائقة فإن الكون الذي نعيش فيه ليس وحيدا، وإنما هناك أكوان عديدة متصلة ببعضها البعض كالعنقود، ويرى العلماء أن هذه الأكوان متداخلة ولكل كون قوانينه الخاصة به، بمعنى أن الحيز الواحد في عالمنا قد يكون مشغولاً بأكثر من جسم ولكن من عوالم مختلفة، وقد يكون هذا صحيحا في التصور الإسلامي حيث نؤمن نحن المسلمون بالجن والملائكة الذين لهم طبيعة خاصة بهم تختلف عن طبيعة ما نعرفه في عالمنا المحسوس، ومشكلة هذه النظرية من المنظور الإسلامي أنها تقتضي ضمنياً شركاً وكفراً بوحدانية الله تعالى، على كل حال على العلماء المسلمين والعلماء الشرعيين أن يبينوا للناس وجهة النظر في كل هذه النظريات ذات الطابع الإلحادي المتمثل في الفوضى الكونية، والعشوائية للوجود الإنسانية، وأن الإنسان وباقي الأشياء ما هي إلا أوتار متذبذبة بترددات مختلفة ... الخ.

لذلك فإن الإلحاد المتمثل في الإعراض عن حقيقة الخالق العظيم لهذا الكون؛ والذي هو نتاج التفكير الضيق الذي يعتمد على الإدراك البشري المحدود بما توصل إليه العلم من اكتشافات؛ والذي هو نتاج التفكير العقلي المحدود بقدرة الإنسان على الإدراك، هو سبب التيه والضلال الذي يعاني منه البشر، ولقد ضل العلماء الغربيون وتاهوا بحثاً عن الوهم الإنساني القديم عن الخلود في هذه الأرض بدلاً عن الإيمان بخالق هذا الكون؛ لأن هذه الأرض ليست مكاناً لهذا الخلود ولا محلاً له، ولن تجدي الإنسان محاولة البحث عن حياة أخرى في هذا الكون؛ بسبب حاجزي الزمان والمكان، ولن يصل إلى أي شيء طالما تجاهل حقيقة أن الله وحده هو خالق هذا الكون، يقول تعالى: {وَكَأَيِّن مِّن آيَةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ} (يوسف: 105)، {وَمَا تَأْتِيهِم مِّنْ آيَةٍ مِّنْ آيَاتِ رَبِّهِمْ إِلَّا كَانُوا عَنْهَا مُعْرِضِينَ}، ومن يعرض عن آيات الله فمصيره التيه والضلال.

المحور الأول للإلحاد (نشوء الحياة صدفةً):

اعتقد العلماء طويلا أن الحياة نشأت على الأرض في ظروف خاصة جدا وغير متوقعة، ثم اكتشف العلماء بعد ذلك أن الحمض النووي DNA - الذي لا تنشأ الحياة بدونه – لم يتكون في الأرض وإنما جاء من السماء، وأثبت العلماء وجود هذا الحمض النووي فعلا في السماء، ثم بدأ العلماء البحث عن كيفية وصول هذا الحمض النووي إلى الأرض، وفي العصر الحالي يعتقد العلماء الغربيون أن الشهب التي تأتي من السماء لتسقط على الأرض، هي التي أتت بالكربون والأكسجين والهيدروجين إلى الأرض، ثم كونت هذه المواد فيما بعد البروتين والماء، ثم تحول البروتين إلى الحمض النووي من نوع RNA ثم تحول هذا إلى حمض نووي من نوع آخر وهو DNA، وبحسب ما يقول العلماء الغربيون بدأت الحياة صدفة في لحظة غير متوقعة، حيث ظهرت أول خلية حية، ثم يمضي السيناريو قدما حسب نظرية داروين التي تدعي أن الإنسان إنما هو نتاج تطور الخلايا الأولى التي نشأت بالصدفة.

وهذا هو أسوأ محور للإلحاد في الحضارة الغربية، والله سبحانه وتعالى لا يخفى عليه هؤلاء العلماء، ولا يخفى عليه ما يضعون من نظريات لهذا الكون، إذ يقول سبحانه وتعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آيَاتِنَا لَا يَخْفَوْنَ عَلَيْنَا أَفَمَن يُلْقَى فِي النَّارِ خَيْرٌ أَم مَّن يَأْتِي آمِنًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} (فصلت: 40)، وأيضا {مَا أَشْهَدتُّهُمْ خَلْقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَا خَلْقَ أَنفُسِهِمْ وَمَا كُنتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُدًا} (الكهف: 51)، والغريب أن المحطات الفضائية العربية لا تكف عن الحديث عن كل هذه النظريات وعن تطور الإنسان، بل وتعتبرها من المسلمات التي يجب أن نؤمن بها، وهنا يكمن الخطر على المثقفين وعلى الأجيال الناشئة الذين لا يعرفون - أو لا يلتزمون - التصور الإسلامي في هذه الأمور، مما يؤدي إلى تشكيكهم في دينهم وعقيدتهم الإسلامية، علماً بأن نظرية التطور غير مسًّلم بها في الأوساط العلمية في العالم.

المحور الثاني للإلحاد (الثورة على السنن الكونية):

تنظر الحضارة الغربية إلى الإنسان على أنه مجرد جسد تدب فيه الحياة، وأن هذه الحياة هي مجرد تفاعلات كيماوية تجري في خلايا الجسم، ويؤمن العلماء الغربيون بأن طريقة تطور الإنسان يمكن أن تأخذ أي شكل آخر غير الشكل الحالي، ولهذا فهم يعتقدون بأن تبادل الأدوار بين المرأة والرجل، أو توزيع هذه الأدوار بطريقة مختلفة هو شيء طبيعي، ومعنى هذا التمرد على الفطرة التي فطر الله الناس عليها، وعلى السنن الكونية التي وضعها الله تعالى في هذا الكون، فالغربيون ينظرون إلى السنن الكونية على أساس أنها قوانين الطبيعة التي يمكن أن يفسروها بالقوانين والنظريات الفيزيائية، وبالتالي يمكن أن يثوروا عليها ويغيروها، ولذلك فهم يحاولون التخلص من مقتضيات الفروق البيولوجية بين المرأة والرجل، ليعيدوا توزيع الأدوار بينهما فيما يتعلق بالحمل والولادة والأمومة عند المرأة، وهم - بالفعل - يحاولون الحصول على طرق أخرى للتكاثر مثل أطفال الأنابيب، والاستنساخ، وغير ذلك.

وأخطر توابع هذا الإلحاد هو قيام العلماء الغربيين بإجراء التجارب على البشر بدون أي ضوابط أخلاقية أو إنسانية، فهم يحاولون - من خلال تعديل الجينات الوراثية - الحصول على كائن بشري ذي خصائص يطمحون في تحققها، ليستخدموا هذا الكائن البشري في الحروب وفي الاقتصاد، وغير ذلك من الأفكار الشيطانية، التي تهدف إلى الهيمنة على العالم، ويحاول العلماء الغربيون في هذا الوقت تخليق الأعضاء البشرية في مختبراتهم ليبيعوها إلى الشركات، ولا ندري كيف سيتم استخدام هذه الأعضاء! أضف إلى ذلك الآثار التخريبية التي تصاحب التجارب التي يقومون بها على البشر، وعلى سبيل المثال هناك من يعزو انتقال مرض نقص المناعة المكتسبة «الإيدز» من القرود إلى البشر نتيجة عن محاولة تلقيح بويضة امرأة أمريكية بنطفة قرد أفريقي مصاب بالإيدز، وفي كل هذا يقول الله تعالى عن اتخاذ الغرب الشيطان ولياً لهم من دون الله تعالى: {وَلأُضِلَّنَّهُمْ وَلأُمَنِّيَنَّهُمْ وَلآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذَانَ الأَنْعَامِ وَلآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللّهِ وَمَن يَتَّخِذِ الشَّيْطَانَ وَلِيًّا مِّن دُونِ اللّهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَانًا مُّبِينًا} (النساء: 119).

المحور الثالث للإلحاد (الفوضى الكونية):

وهو الزعم بأن الحياة على هذه الأرض مهددة بسبب فوضى في الكون، مثل الاقتراب من ثقب أسود، أو ارتطام كواكب أخرى بالأرض، أو سقوط شهب محملة بالماء في المحيطات، ... الخ. ويصور العلماء الأمريكيون أنهم قادرون على حماية هذه الأرض من كل ما يحيط بها من تلك المخاطر، ولكن الله سبحانه وتعالى يقول في ذلك: {إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ أَن تَزُولَا وَلَئِن زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِّن بَعْدِهِ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا} (فاطر: 41)، إن ادعاء العلماء الغربيون أن الحياة على الأرض دمرت قبل ملايين السنين، حيث انتهت حقبة الديناصورات على الأرض، هو مجرد ظن لا دليل عليه، وحتى لو حدث هذا، فإنه ما كان قد حدث إلا بأمر الله تعالى وإرادته، ومحاولة العلماء الأمريكيين حفظ الحياة في الأرض هو من قبيل الغرور والكفر بقدرة الله تعالى على حماية الأرض، وعلى إنفاذ أمره إن شاء بتدمير البلاد التي تحتضن محاور الإلحاد، إذاً فالعملية هي تحدٍ لله عز وجل.

المحور الرابع (الكفر بقدرة الله على الرزق):

يدعي الغرب وخاصة الولايات المتحدة الأمريكية أن الغذاء غير كافٍ لمليارات البشر الذين يعيشون في الأرض، وهم يطلقون التحذيرات تلو التحذيرات لإجبار الناس على الخوف على مستقبلهم، ولإجبارهم على التسليم بما تمليه عليهم الولايات المتحدة من قوانين للحفاظ على الحياة، والله تعلى يقول {وَمَا مِن دَآبَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلاَّ عَلَى اللّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ} (هود: 6)، ويقول تعالى: {وَفِي السَّمَاء رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ} (الذاريات: 22)، وفي هذه الآية الكريمة إشارة إلى دور الشمس في إمداد الأرض بالماء والطاقة اللازمة لنمو النبات وتكوين المواد التي يتغذى عليها الإنسان والحيوان، وقد يستطيع الإنسان في المستقبل استغلال الطاقة الشمسية في الحصول على كميات هائلة من الغذاء تكفي للتخلص من الجشع الذي يعاني منه الأمريكيون والأوروبيون الغربيون.

والولايات المتحدة تنظر إلى أن الإنسان - حتى يكون كريما منعما - لا بد له من أن يكون مستهلكا بنفس درجة استهلاك الغربيين والأمريكيين، حيث لا يشعر هذا الإنسان بالشبع إلا بتوفر الفواكه واللحوم وجميع ما يعرفه الإنسان من أغذية بحرية ونباتية وحيوانية على مدار السنة، ولا بد أن يأكل اللحوم ثلاث مرات يوميا على الأقل، بالإضافة إلى الخمور والمخدرات وكل أدوات التلذذ والتمتع، وبالإضافة إلى امتلاك كل شيء من السيارات وأدوات الترفيه والأدوات التكنولوجية التي توفر الراحة لهم وتجعلهم متفرغين لطلب المتع والملذات، بدون أي أخلاق أو هدف.

الخلاصة:

ينظر كثير من مثقفي هذه الأمة إلى الولايات المتحدة على أنها قدوة في مجال التقدم العلمي والتكنولوجي، ويستشهد هؤلاء بإحصائيات تنشرها الولايات المتحدة عن النسب العالية للإنفاق على البحث العلمي، وفي ذلك تضليل للأجيال الناشئة لهذه الأمة، إذ أن معظم الأبحاث العلمية التي تجريها الولايات المتحدة هي لخدمة الأغراض العسكرية التي تهدف إلى الهيمنة، وهي غير مقيدة بأي ضوابط أخلاقية ولا شرعية، وأغلب هذه النفقات تذهب إلى ما يضر الحياة البشرية مثل الأبحاث على الطاقة الهيدروجينية والنووية (التي أدت إلى تلوث البيئة وإحالتها إلى مكان غير مناسب للحياة في البحر وعلى الأرض وفي الجو)، ويجدر النظر إلى كيف أن هذه الدول تقوم بدفن النفايات النووية في مناطق دول العالم الثالث؛ للتدليل على انحطاط الحضارة الغربية، ولا بد من معرفة كيف أن الأغذية المعدلة وراثيا واستخدام المبيدات الحشرية أدى إلى انتشار أمراض السرطان وغيرها من الأمراض التي تفتك بعشرات بل بمئات الألوف من البشر سنويا، وكذلك الإنفاق على حرب النجوم، وعلى أشعة الليزر والبلازما لاستغلالها في الهيمنة على الآخرين، واستغلال ثرواتهم وخيرات بلادهم.

إن هذا الإنفاق الهائل على البحث العلمي يأتي في إطار ضمان امتلاك أسباب القوة والتفوق على الآخرين بعيداً عن أي قيم وأخلاق إنسانية، بل على العكس تماماً؛ يأتي كل ذلك في إطار النظرة المادية إلى الحياة والإنسان الذي تعتبره الحضارة الغربية على أنه آلة، وفي إطار اقتصادي استغلالي لا يرحم الشعوب المظلومة المغلوبة على أمرها.

إن على المثقفين من الأمة العربية والإسلامية أن يوجهوا الأجيال الناشئة - التي هي مستقبل هذه الأمة - لإتباع المنهج الإسلامي في البحث والعلم والتعلم، ويجب أن يصبغ العلماء المسلمون أبحاثهم بالصبغة الإسلامية وأن لا يكونوا مجرد متبعين للعلماء الغربيين؛ ينصهرون في بوتقة الحضارة الغربية الظالمة، ويجب أن يقوموا بنشر التصور الإسلامي عن الكون والإنسان والحياة في الأرض، بهذا يصبح هؤلاء الباحثون والعلماء منتمين إلى الإسلام العظيم.

د. محمد الغزي

كاتب واستاذ جامعي فلسطيني

=============

#فاعلية المسلم المعاصر

رؤية فى الواقع والطموح

إن الحمد لله ، نحمده ونستعينه ونستغفره ، ونعوذ بالله من شرور انفسنا ومن سيئات اعمالنا ، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادى له .

وأشهد ان لا إله إلا الله ، وحده لا شريك له ، وأشهد ان محمداً عبده ورسوله.

( يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون) آل عمران :102]

( يا أيها الناس اتقوا ربكم الذى خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منهما رجالاً كثيراً ونساءاً واتقوا الله الذى تساءلون به والأرحام إن الله كان عليكم رقيبا) [ النساء : 1]

( يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وقولوا قولاً سديداً يصلح لكم أعمالكم ويغفر لكم ذنوبكم ومن يطع الله ورسوله فقد فاز فوزاً عظيماً) [الأحزاب :71]

أما بعد :

فإن أصدق الحديث كلام الله ، وخير الهدى هدى محمد صلى الله عليه وسلم ، وشرّ الأمور محدثاتها ، وكل محدثة بدعة ، وكل بدعة ضلالة.

تقديم

فهذا الكتاب الاول من سلسلة كتاب الإعتصام التى تنهض بإصدارها جمعية الكتاب والسنة يحمل القائمين عليها توجه صادق ، وأمل واثق فى تقديم ما يمكن ان تكون مضامينه محملة بإضافات حقيقة فى عالم الفكر والمعرفة ، وميادين الدعوة والحركة ، إذ أن كثيراً من الإنتاج التأليفى الإسلامى المعاصر ، يغلب عليه التكرار والاجترار ، فهو فى غالبه لحم جمل غث على رأس جبل وعر ، لا سهل فيرتقى ، ولا سمين فينتقى .

يفترض فيمن يتصدى للكتابة والتأليف ان يتحسس إشكاليات معرفية قائمة ، واضطرابات فكرية سائدة ، ومشاكل عملية مائلة ، فيعالجها معالجة علمية هادئة ، تجيد توظيف آليات البحث العلمى الشرعى مع معرفة مناهج البحث الععلمى المعاصرة ، أما ذاك النمط من الكتابات ( التجارية ) التى يهجم فيها على التأليف ، ويتجرأ على الكتابة من لم يمتلك أدوات البحث ، ولم يتسوعب مادة العلوم ، وما غاب عنه يفوق ما اطلع عليه بأضعاف مضاعفة ، فهو تكريس لجمود العقل المسلم ، وتمكين لواقع الركود الفكرى ، وتثبيت لأركان التخلف فى مجتمعاتنا.

إن الكتابة والأعمال التأليفية إن لم تسهما فى توثيق عرى مشاريع النهضة والتغيير فما ثمرتها إذا ؟ هل ثمة حاجة حقيقة لكثير من الرسائل ، والكتب التى تخرج من رحم المطابع تباعاً ؟ إن ساحة العمل الإسلامى تفتقر الى دراسات نوعية ومؤلفات إبداعية ، وهى التى تتطلب طول نفس فى البحث والدرس واطلاعاً واسعاً على المعلومات فى مظانها ، يعجب المرء كثيراً حينما يقرأ أو يسمع ان أحدهم كتب رسالة او كتابا فى ظرف أيام لا تبلغ أيام الأسبوع !

كم هى القضايا والمسائل والإشكالات ، سواء منها القديم ( التراثى ) ، أو الحديث ( المعاصر) التى يقف امامها المسلم المعاصر حائراً ، فما منهجية المعرفة ، أو ما هى ضوابطها ؟ وهل ثمة تعارض بين العقل والنقل ؟ وما هى الحدود التى يسمح للعقل التحرك فيها لدراسة النصوص ؟ لماذا لا نجد عقائد اهل السنة محررة بوضوح وتكامل ، حتى يتسنى للمنتسب لهم ان يتبنى عقائدهم دون كبير عناء وطول بحث وتنقيب ؟ وهل تغنى محاولات بعضهم – فى هذا الصدد – التى تتخذ من تراث شيخ الإسلام ابن تيمية مرجعية تجيد العزو إليه ، وتحسن النقل منه ، بيد انها تقصر عن استيعابه ، وتمثله ، لافتقارها الى الآليات التى امتكلها ابن تيمية رحمه الله ، لأنه – على سبيل المثال – حينما تصدى للرد عل المنطقين ، واتجه لنقض المنطق ، كان عالماً بالمنطق ، وبمبباحثه وموضوعاته ، ومتمكناً من موضوعات الفلسفة ، ومذاهب الفلاسفة ، فكيف يتسنى لمن يروم والمعرفة ، ومن ثم إبطال عقائد المخالفين المبنية فى كثير من اصولها ، وطرق الاستدلال عليها ، على المنطق اليونانى ، والفلسفة الإغريقية ، وليس له من المعرفة بالمنطق والفلسفة إلا السماع باسميهما ؟ . . . الخ

أين هى الدراسات التاريخية التحليلة والتفسيرية ، التى تقدم احداث التاريخ الإسلامى وفق رؤية منضبطة بأصول اهل السنة ؟ كيف يفهم المسلم المعاصر احداث الفتنة بين الصحابة رضى الله عنهم ؟ وكيف يسلم من مسالك الاتجاهات التى تجنح بعضها الى عصمة علىّ رضى الله عنه ! ويتجه الآخر منها الى تفسيق معاوية رضى الله عنه ! وكيف يقرأ الحركات المعارضة والخارجة على حكم الأمويين والعباسيين ؟ فما هى اسباب المعارضة ؟ وما هى عوامل الخروج ؟ . . .. الخ

أين يقف المسلم المعاصر من إشكالية الأصالة والمعاصرة ؟ فهل تستغرق دراسة ( التراث) ، والعناية به كل اوقاته ، وتستنفد جميع طاقاته ؟ فيعيش واقعه وهو غارق فى الماضى ، فيصدق فيه حينذاك قول الشانئنين من العلمانيين بأنه ينتسب الى فكر( ماضوى) منطقع الصلة بالواقع ، غائب عن همومه المعاصرة ، غير مكثرت بقضاياه الراهنة ، أم يتحرر من تلك الوشائج ، التى تربطه بالماضى ، وتصله بالجذور ، وينعتق من اصوله ، ويتنكر لتراث اجداده وأسلافه ، وتصله بالجذور ، بحق يعيش العصر بروحه ، ويتقن لغته ، ويجيد اساليبه ! !.

إن الأنموذجين السابقين جانحان عن جادة الصواب ، فالذين انغلقوا على الدراسات التراثية ، وتقوقعوا فيها ، وغابوا عن العصر وهمومه ، وانخلعوا من مشاكله وقضاياه ، ليسوا بمنأى عن القصور والتقصير ، كما إن الذى تضيق صدورهم بمطالعة ( الكتب الصفراء) ويعرضوا عن قراءة مؤلفات السلف الاقدمين ، ويحسبون انهم قادرون على مقاطعة التراث ، غارقون فى الخيالات والأوهام ، ذلك أنه ( لا سبيل الى الانفكاك عن حقيقة التراث التاريخية ، ولو سعى المرء الى ذلك ما سعى ، لأنها ، وإن بدت فى الظاهر حقيقة بائنة ومنفصلة بحكم ارتباطها بالزمان الماضى ، فهى فى جوهرها حقيقة كائنة ومتصلة ، تحيط بنا من كل جانب وتنفذ فينا من كل جهة ، كما أنه لا سبيل الى الإنقطاع عن العمل بالتراث فى واقعنا ، لأن اسبابه مشتغلة على الدوام فينا ، آخذة بأفكارنا وموجهة لأعمالنا ، ومتحكمة فى حاضرنا ومستشرفة لمستقبلنا ، سواء أأقبلنا على التراث إقبال الواعى بآثاره التى تنمحى أم تظاهرنا بالإدبار عنه ، غافيلن عن واقع استيلائه على وجودنا ومداركنا(1)

لقد كتب فى فقه الإختلاف وآدابه كتابات عديدة ، غير ان الرسالة لم تبلغ المعنيين ، فما زالت الحركية الاستعلائية عالية ، كما ان المنطق الدعوى الاحتكارى سائد قائم ، ودعاة الوعى السياسى يشمخون بوعيهم على غيرهم ، أولئك يرون أنهم الجماعة (الأم) ، والآخرون يعتقدون انهم ( الفرقة الناجية والطائفة المنصورة) وثالثتهم يشتط منهم من يرمى الأمة بالضلال المنهجى ، ذلك أنه لم يفهم الإسلام بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم والصحابة الكرام ، فهماً عميقاً صحيحاً ، حتى نهض مؤسس حزبهم فأفقام الأمة على فهم سوى مستقيم !! الكل منهم يدعى انه يمتلك النهج الأصوب ، والطريقة الأكمل ، والعمل الأشمل ، ولو انصفوا وأقاموا موازين القسط والعدال فى الحكم والتقييم والمراجعة ، لأدركوا بلا تردد ، وقرروا من غير تهيب ، أن ما ينقص كل طائفة منهم لا يقل عما حسبوه الأكمل والأصوب والأشمل.

تلك الاختلالات فى التصورات ، والسلبيات فى الممارسات ، ينبغى لكتابات ( النقد الذاتى) أن تتكفل بتصويبها ، مع تعميق المفهومات التى تسعى لتقرير (بشرية) مناهج العمل الإسلامى المعاصر ( وإنسانية ) اجتهادات الإسلاميين ، إذ أنها خاضعة للنقد ، لا تستعلى على الأخذ والرد ، وتكتسب الصواب والحق بموافقتها الأصول المعصومة من الكتاب والسنة ، وإجماع سلف الأمة.

تلك موضوعات ورد ذكرها للتقريب والتمثيل ، وثمة قضايا ومسائل أخرى توقع العقل المسلم فى حيرة واضطراب ، ذلك ان مادتها متناثرة هنا وهناك ، كما ان الأقوال فيها متضاربة ، والإجتهادات بشأنها متباينة ، وهذا هو الحقل والميدان الذى يتوجب على حملة الأقلام من المفكرين والعلماء ان يلجوه ، ويقتحموا ساحاتة.

تسعى جمعية الكتاب والسنة من خلال سلسلة كتاب الإعتصام الى تبنى وانتقاء الدراسات والكتابات التى تصب بهذا الاتجاه ، وهى تهيب بالفقهاء والعلماء وطلبة العلم ان يمدوا لها يد العون العلمى ، بتقديم دراساتهم وأبحاثهم الجاهزة او التى يتفق على إعدادها وإنجازها ، لتقوم لجنة البحوث والدراسات الإسلامية فى الجمعية بدراستها ، ومن ثم نشر ما يستوفى شروط ( السلسلة) منها ويحقق مقاصدها.

يتصدى الكتاب الأول من هذه السلسلة ، فاعلية المسلم المعاصر رؤية فى الواقع والطموح للدكتور ابن عيسى باطاهر ، لمعالجة قضية لها ارتباط وثيق بمشاريع النهضة ، وتعلق مباشرة بمناهج التغيير ، ولا أحسب أننا نجانب الحقيقة ، أو نغرب فى القول إذا ما قررنا أن محدودية إنتاجية تلك المشاريع ، وعجز المناهج إياها عن إحداث التغيير المنشود ، يعود الى جملة اسباب وعوامل ، يأتى فى مقدمتها انطفاء فاعلية العاملين فى ساحة العمل الإسلامى ، إذ ثمة ظاهرة بارزة تتمثل فى تراجع الهم الدعوى ، وغلبة الهموم الذاتية والحياتية فى اوساط آلئك العاملين ، كما أن الدوافع الإيمانية الرافعة للهمم ، والحاملة على العمل قد غشاها الضعف واعتراها الوهن.

إن الروح السلبية المستشرية فى أواسط المسلمين ، والتى أنتجت حالة مزرية يتحلل فيها المسلم من أية التزامات تخدم عملية التغيير ، وتسهم فى مشاريع إنهاض الأمة ، جاء بفعل شيوع وتحكم أنماط من التدين طغت فى بلاد المسلمين ، كالفكر الإرجائى ، ومقولات الجبرية ، والتدين الصوفى.

يقوم الفكر الإرجائى فى قاعدته الأساسية على الاعتقاد بانه لا يضر مع الإيمان شئ ، وأن الإيمان إقرار باللسان ، وتصديق بالجان ، مع إخراج العمل مع مسمى الإيمان وقد ساهم هذا الفكر بشكل سئ فى توسيع دائرة التفلت مع الإلتزام الشرعى ، والتحلل من تكاليف الإيمان ، والتغافل عن مقتضيات التوحيد ، وقديما أنكر أئمة السلف على من أخرج العمل من الإيمان إنكاراً شديداً ، وجعلوه من الأقوال المحدثة المردودة على اصحابها ، يقول سفيان الثورى – رحمه الله : (هو رأى محدث أدركنا على غيره )(2) ، يقول الإمام الأوزاعى – رحمه الله : ( وكان من مضى من السلف لا يفرقون بين العمل والإيمان(3) ، وقيل لسفيان بن عينية – رحمه الله -: ( إن قوماً يقولون : الإيمان كلام ، فقال : كان هذا قبل ان تنزل الأحكام ، فأمر الناس ان يقولوا لا إله إلا الله ، فإذا قالوها عصموا دمائهم وأموالهم ، فلما علم الله صدقهم امرهم بالصلاة ففعلوا ولو لم يفعلوا ما نفعهم الإقرار (4) . . فذكر الأركان الى ان قال : فلما علم الله ما تتابع عليهم من الفرائض وقبولهم قال : ( اليوم اكملت لكم دينكم . . . )(الآية) ، فمن ترك شيئاً من ذلك كسلاً او مجوناً أدبناه عليه وكان ناقص الإيمان ، ومن تركها جحوداً كان كافراً(5) ، وكتب عمر بن عبد العزيز الى عدى بن عدى ( عامله على الجزيرة) : ( إن للإيمان فرائض وشرائع وحدوداً وسنناً ، فمن استكملها استكمل الإيمان ، ومن لم يستكملها لم يستكمل الإيمان . . . (6) ، ويقول ابن تيمية : ( والسلف اشتد نكيرهم على المرجئة لما أخرجوا العمل من الإيمان ، وقالوا إن الإيمان يتماثل الناس فيه ، ولا ريب ان قولهم بتساوى إيمان الناس من أفحش الخطأ ، بل لا يتساوى الناس فى التصديق ، ولا فى الحب ، ولا فى الخشية ، ولا فى العلم ، بل يتفاضلون من وجوه كثرة(7)

حقاً إن دراسة حياة الصحابة رضى الله عنهم ، والتابعين ؛ توصل الى نتيجة يقينة بأنهم لم يكونوا يفرقون بين الإيمان والعمل ، بل أن صدق الإيمان وعمق اليقين ، الذين استقرا فى قلوبهم ، اطلقا جوارحهم بالعمل البناء المثمر ، وجعلهم يسطرون بفاعليتهم وحركيتهم صفحات فى ميادين الفضيلة ، ودروب البر والخير.

فما الذى حمل حنظلة (غسيل الملائكة) – رضى الله عنه – على مفارقة فراش زوجه الوثير ، فى ليلة عرسه ؟ وهو القادر لو شاء أن يلتمس من الأعذار ما يعفيه من اللحاق بقافلة المجاهدين ؟ .

وما هى الدوافع التى حملت ألئك الكرام على التسابق فى الإنفاق ، والتنافس فى البذل والعطاء ؟ يقول عمر – رضى الله عنه -: ( أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نتصدق ، فوافق ذلك مالاً عندى ، فقلت : اليوم اسبق ابا بكر إن سبقتة يوماً ، فجئت بنصف مالى ، وأتى ابو بكر بكل ما عنده ، فقال له النبى صلى الله عليه وسلم : يا أبا بكر ما أبقيت لأهلك ؟ قال : أبقيت لهم الله ورسوله(8) .

وما الذى حدا بأبى طلحة حينما وقف على قوله تعالى : ( انفرا خفاقاً وثقالاً وجاهدوا بأموالكم وأنفسكم فى سبيل الله . . . ) [التوبة : 41] ، أن يقول لأبنائه : أرى ربما استنفرنا شيوخاً وشباناً ، جهزونى يا بنى ، فقال بنوه : يرحمك الله ، قد غزوت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى مات ، ومع ابى بكر حتى مات ، ومع عمر حتى مات ، فنحن نغزو عنك ، فأبى ، فركب البحر فمات ، فلم يجدوا له جزيرة يدفنونه فيها إلا بعد تسعة ايام ، فلم يتغير ، فدفنوه بها(9) .

وهذا الصحابى عمرو بن الجموح – الأعرج شديد العرج – كان له أربعة بنين – شباب – يغزون مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا غزا ، فلما توجه رسول الله صلى الله عليه وسلم الى أحد ، أراد ان يتوجه معه ، فقال له بنوه : إن الله قد جعل لك رخصة ، فلو قعدت ونحن نكفيك ، وقد وضع الله عنك الجهاد ، فأتى عمرو بن الجموح رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال : يا رسول الله ، إن بنى هؤلاء يمنعونى أن أخرج معك ، والله إنى لأرجوا ان استشهد ، فأطا بعرجتى هذه الجنة ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أما أنت فقد وضع عنك الجهاد ، وقال لبنيه : وما عليكم أن تدعوه ، لعل الله عز وجل أن يرزقه الشهادة ، فخرج مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فقتل يوم أحد (10)

إن الإيمان قوة دافعة ومحركة ، وحينما يفهم على أنه مصدر إشعاع ، ومفجر للطاقات ، فإن رياحه حينما تهب تأتى بالأعاجيب ، وتغير مجرى التاريخ ، وتحدث انعطافاً حاداً فى مسيرة الزمن ، ( فإذا هبت ريح الإيمان جاءت بالأعاجيب فى العقيدة ، والأعمال ، والأخلاق ، ورأى الناس روائع من الشجاعة واليقين ، والعفة والأمانة ، والإيثار وهضم النفس ، وروح التطوع والإحتساب ، والتواضع فى المظاهر ، وكبر النفس ، وسمو النظر ، ورأوا آيات من العدل والرحمة ، والمحبة والوفاء ، كادوا ينسونها ، ويقطعون منها الرجاء(11) .

وماذا يبقى للإيمان من دور فاعل فى الحياة ، حينما يحصر فى التصديق والإقرار ؟ وهل ثمة إيمان قلبى تام لا يلازم عمل بدنى ظاهر ؟ ثم أليس الإيمان القلبى يستلزم الأعمال الظاهرة ؟ يقول شيخ الإسلام ابن تيمية : ( فأصل الإيمان فى القلب وهو قول القلب وعمله ، وهو إقرار بالتصديق والحب والانقياد ، وما كان فى القلب فلابد ان يظهر موجبه ومقتضاه على الجوارح ، وإذا لم يعمل بموجبه ، ومقتضاه دل على عدمه أو ضعفه ، ولهذا كانت الأعمال الظاهرة من موجب إيمان القلب ومقتضاه ، وهى تصديق لما فى القلب ، ودليل عليه ، وشاهد له ، وهى شعبة من مجموع الإيمان المطلق ، وبعض له . . . )(12)

كيف يتحقق الإيمان ؟ وكيف يظهر صدق ذلك ؟ أيتحقق الإيمان بتصديق قلبى مع امتناع الجوارح عن العمل ؟ أم بإقرار لسانى مع مقارفة جميع المنكرات ، وموافقة كافة الموبقات والمهلكات ؟ يقول ابن تيمية : ( والله سبحانه فى غير موضع يبين ان تحقيق الإيمان تصديقه بما هو من الأعمال الظاهرة والباطنة ، كقوله : ( إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم ، وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيماناً وعلى ربهم يتوكلون . والذين يقيمون الصلاة ووما رزقناهم ينفقون أولئك هم المؤمنون حقاً )، قال : ( إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله ثم لم يرتابوا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم فى سبيل الله أولئك هم الصدقون) ، وقال تعالى : ( فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا فى انفسهم حرجاً مما قضيت ويسلموا تسليماً)(13).

ويقول رحمه الله : ( فلا يجوز ان يدعى أنه يكون فى القلب إيمان ينافى الكفر بدون أمور ظاهرة ، ولا عمل وهو المطلوب – وذلك التصديق – وذلك لأن القلب إذا تحقق ما فيه أثر فى الظاهر ضرورة ، لا يمكن انفكاك أحدهما عن الآخر ، فالإدارة الجازمة للفعل مع القدرة التامة توجب وقوع المقدور ، فإذا كان فى القلب حب الله ورسوله ثابتاً استلزم موالاة أولياته ، ومعاداة أعدائه ، ( لا تجد قوماً يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله . ولو كانوا آبائهم أو أبنائهم أو إخوانهم أو عشيرتهم ) ، ( ولو كانوا يؤمنون بالله والنبى وما أنزل إليه ما أتخذوهم أولياء ) فهذا اللازم أمر ضرورى (14)

وفى بيان التلازم بين الإيمان القلبى ، والعمل البدنى ، يقول ابن تيمية : ( وإذا قام بالقلب التصديق به والمحبة له ، لزم ضرورة أن يتحرك البدن بموجب ذلك من الأقوال الظاهرة ، والأعمال الظاهرة ، فما يظهر على البدن من الأقوال والأعمال هو موجب ما فى القلب ولازمه ، ودليله ومعلومه ، كما أن ما يقوم بالبدن من الأقوال والأعمال له ايضا تأثير فيما فى القلب ، فكل منهما يؤثر فى الآخر ، لكن القلب هو الأصل والبدن فرع له ، والفرع يستمد من أصله ، والأصل يثبت ويقوى بفرعه ، كما فى الشجرة التى يضرب بها المثل لكلمة الإيمان ، قال تعالى : ( وضرب الله مثلاً كلمة طيبة كشجرة طيبة اصلها ثابت وفرعها فى السماء تؤتى اكلها كل حين بإذن ربها ) وهى كلمة التوحيد ، والشجرة كلمة قوى أصلها ، وعرق وروى قويت فروعها ، وفروعها ايضا إذا اغتذت بالمطر والريح اثر ذلك فى اصلها(15)

لقد كان لاختلال مفهوم الإيمان وتسرب مقولات الإرجاء الى تصورات المسلمين ، ومن ثم انعكاسها على سلوكهم ، تأثير بالغ وكبير فى انطفاء فاعليتهم ، وجمود حركتهم ، ويقوى ذلك ويزيده استقراراً ورسوخاً ذلك النمط من المفكرين ذوى السوابق غير الإسلامية حينما يتحولون الى دائرة الفكر الإسلامى ، حيث انهم يسلمون فكرياً مع عدم التحرر الكامل من أصولهم الفكرية السابقة ، فيبقى إسلامهم مشوباً بكدورات الماركسية والعلمانية واليبرالية ، أما إسلام العمل والإلتزام فغالبهم فيه من غلاة المرجئة.

مقولات الجبرية : ما دمنا نتحدث عن الإصابات والعلل التى أدت بهذه الامة الى واقع (القصعة) فإن الحاجة تبدو ملحة لإظهار الصلة الوثيقة بين عقيدة الجبر وما ترتب على انتشارها ، وتمكنها من قلوب عامة المسلمين من آثار شنيعة ، دفعت بالأمة الى حالة (اللافاعلية) الأمر الذى أسهم بقوة فى إيصال الأمة الى حالة من الجمود والتراجع ، قد طالت وامتدت الى واقعنا المعاصر .

لقد عرف الشهر ستانى( الجبر) بأنه : ( نفى الفعل حقيقة عن العبد ، وإضافته الى الله (16) فالعبد – عند الجبرية – مجبور فى افعاله ، ويعتقدون انه لا فاعل على الحقيقة إلا الله ، وأما العباد فإن الفعل ينسب اليهم مجازاً !! وهذا القول أدى فيما أدى إليه الى القول بوحدة الوجود ، الى جانب إلغاء (قانون السببية) ، أى : ربط الأسباب بمسبباتها ، والنتائج بمقدمتها . وهذا الإلغاء هو علة قادحة وسوؤة ظاهرة تنافى عقيدة عقيدة الإسلام القائمة على هذا القانون ، قال شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله - : (فليس فى الدنيا والآخرة شئ إلا بسبب ، والله خالق الأسباب والمسببات(17)

وفى توضيح ( قانون السببية) وتوكيده ، قال ابن القيم – رحمه الله -: ( . . . والقرآن الكريم مملوء من تريتب الأحكام الكونية والشرعية ، والثواب والعقاب ، على الأسباب بطرق متنوعة ، فيأتى بباء السببية تارة ، كقوله تعالى : (كلوا وشربوا هنيئاً بما اسلفتم فى الأيام الخالية ) ، ويأتى باللآم تارة ، كقوله تعالى : ( كتاب أنزلناه إليك لتخرج الناس من الظلمات الى النور بإذن ربهم) ويأتى بذكر الوصف المقتضى للحكم تارة ، كقوله تعالى : ( ومن يتق الله يجعل له مخرجاً) ، فالله تعالى اقتضت حكمته ربط المسببات بأسبابها(18)

إن مذهب (الجبر) الضال الذى ابتدعه الاجهم بن صفوان ، ما كان له أن يستقر فى قلوب عامة المسلمين ، لولا وقوع الأمة زمن الإنحطاط والتخلف فى حماة الفكر الأشعرى ، حين اصبح أئمة المسلمين هم ممن يحمل المنهج الأشعرى ، فاجتمع لهم قوة وسلطان ، والناس على دين ملوكهم ! .

لقد كان لمنهج الأشاعرة أسوأ الأثر فى تشويه حقيقة التوحيد ؛ شرعية : إذ جاء بالإرجاء وقدريه : إذ قال ( بالكسب ) و ( الكسب) ليس سوى (الجبر) وإن ظهر فى اللفظ وكأنه شئ آخر ، فمفهوم (الكسب) عند الأشاعرة مضطرب متباين التعريف بين منظرى الأشاعرة ، إلا أن قاعدته التعريفية العريضة تعنى : احترام وجود إرادة قلبية للإنسان ، لكنها لا تأثر لها ، ولا قيمة لوجودها !؟ إى أنها إرادة غير مؤثرة !

وهنا يظهر التوافق بين جوهر مقالة الجبرية ، ونظرية الكسب الأشعرية ، وإن بدا ان هناك اختلافا صوريا فى اللفظ وتركيب العبارات ، فإن نظرية الكسب بدورها نفت اى قدرة او تأثير للعبد.

ولكشف صورة الاضطراب الملازم لأى بدعة ، نلقى الضوء على واقع الحيرة بين ائمة الاشاعرة ، فى التفريق بين الفعل الاختيارى ، وبين الفعل الاضطراى للإنسان ، فقد ذهب الرازى فى إيضاح الأمر الى القول : ( بأن الإنسان مجبور فى صورة مختار)(19) أما الغزالى فقد انتهى الى : ( أن العبد مضطر فى جميع افعاله ومشيئته ، وإنه مجبور على الاختيار ، وأنه محل لإرادة حدثت فيه جبراً(20) ثم شبه أفعال المخلوقات بالدمى ، التى يراها الناظر وهى تتحرك فيظن انها تتحرك من تلقاء نفسها (21)

وكأى بدعة ؛ خضعت فكرة (الجبر) و (الكسب) للزيادة والنقصان ، والتعديل والتنميق لتكيف بحسب الواقع الذى توجد فيه ، والحالة التى يراد التطبيق عليها ، ولن يحرم صاحب ضلالة ما يستشهد به على ضلالته !

وقد وفق الله تعالى آئمة الهدى والسنى ، لرد عادية أهل الكلام والهوى ، فقاموا بتنفيذ مزاعمهم الباطلة ، إحقاقاً للحق ، وبقاءاً على العهد ، فإن كان الإنحراف قد طال الأمة ولا زال ، فإن نفراً من الطائفة المنصورة فى كل عهد ، اختصها فى كل عهد ، اختصها الله للذب عن هذا الدين ، بالقلم واللسان والسنان ، ليبقى هذا الدين محفوظاً من الزوال ، قال ابن تيمية – رحمه الله – فى بيان حقيقة القدرة والإرادة البشرية : ( الذى عليه السلف واتباعهم وأئمة اهل السنة وجمهور اهل الإسلام المثبون للقدر، المخالفون للمعتزلة : إثبات الأسباب ، وإن قدرة العبد مع فعله ، لها تأثير كتأثير سائر الأسباب فى مسبباتها ، والله تعالى خلق الأسباب والمسببات ، بل لابد لها من اسباب أخر تعاونها ، ولها مع ذلك أضداد تمانعها ، والسبب لا يكون حتى يخلق الله جميع اسبابه ، ويدفع عنه اضداده المعارضة له ، وهو سبحانه يخلق جميع ذلك بمشيئته وقدرته كما يخلق سائر المخلوقات ، فقدرة العبد سبب من الأسباب ، وفعل العبد لا يكون بها وحدها ، بل لابد من الإرادة الجازمة مع القدرة ، وإذا أريد بالقدرة القوة القائمة بالإنسان فلا بد من إزالة الموانع كإزالة القيد والحبس ونحو ذلك، والصاد عن السبيل كالعدو وغيره(22) ومن أقوالهم الدالة على أن السبب إنما يستوجب مسببه عند تحقق شروط العمل بهذا السبب ، واستدعاءه لمسببه ، وأنه لابد من انتقاء الموانع المعيقة لهذا العمل ، قول الفقيه الشاطبى : ( وأما إذا لم تفعل الأسباب على ما ينبغى ، ولا استكلمت شرائطها ، ولم تنتف موانعها فلا تقع مسبباتها شاء المكلف أو أبى ، لأن المسببات ليس وقوعها أو عدم وقوعها لاختياره . . وايضا فإن الشارع لم يجعلها اسباباً مقتضية لمسبباتها إلا مع وجود شرائطها وانتفاء موانعها ، فإذا لم تتوفر لم يستكمل السبب أن يكون سبباً شرعياً ، سواء علينا أقلنا إن الشروط ، وانتفاء الموانع اجزاء أسباب ام لا ، فالثمرة واحدة (23) ، وقد حث أئمة اهل السنة على مباشرة الأسباب ، وعدم إسقاطها ، قال ابن القيم – رحمه الله -: ( . . . والله أمر بالقيام بالأسباب ، فمن رفض ما أمره الله ان يقوم به فقد ضاد الله فى امره ، وكيف يحل المسلم ان يرفض الأسباب كلها ؟(24)

وفيما يتصل بالأثر الحاصل نتيجة إسقاط الأسباب والإعراض عنها ، فإنه يمكننا تصوير حالة المسلم المنكوب بهذه العقائد الفاسدة ، بإنسان يعتقد ان من تمام التوكل على الله ، ألا يحمل الزاد فى سفره فيدخل الصحراء بلا زاد ولا ماء !؟ وصورة أخرى تتجلى فى مسلم امتلآ قلبه بحكايات الأولياء ، الذين ساروا على الماء ، وطاروا فى الفضاء ، وبلغوا أعلى الدرجات ، ونالوا الكرامات ، لأنهم ما تدنسوا بمخالطة الناس ، ولأنهم كانوا أحلاس بيوتهم وزواياها !؟ . يتسامران مع الأموتا ، ويقيموا الحضرات بحضرة الأنبياء ! . . . وصورة أخرى لمسلم يتعب نفسه فى طلب شئ من العلم ، يعزل نفسه به ترفعاً عن المجتمع الذى يعيش فيه ، بدعوى ( أن من السياسة ترك السياسة) وأن ( أقم دولة الإسلام فى قلبك تقم على أرضك)!

إن من أسباب تمكين عقيدة (الجبر) السالبة للإنسان قدرته على الفعل والتغيير ، والمجمدة لفاعلية الأمة ، تلك الأفكار ، والدعوات التى ينادى بها علماء ومشايخ ، حيث يقول قائلهم : ( إن مصائر الأمة ومقاليدها صارت الى ايدى أعدائها ، وإنها لذلك لا تملك لنفسها معهم نفعاً ولا ضراً)!!.

أليس مؤدى هذه الأفكار والمقولات هو حمل الأمة بعلمائها ودعاتها ومفكريها ومجموع أبنائها على الاستسلام ، والرضوخ للواقع الآليم ؟ وهل اصبحت مهمة العلماء المعاصرين او غدى واجبهم تنويم الأمة ، وقتل إرادتها ، وشل حركتها ، وتكريس خضوعها لما يريده اعدائها منها ؟!.

إننا أمام هذه الأفكار ، والمقالات ، نستذكر طوداً شامخاً ، وعلماً سامقاً ، من أعلام العلم والفكر ، والحركة والجهاد ، يستحضره المعاصرون فى جزيئات العبادات وفروزع المسائل ، ويغيبونه فى الأصول وجليل المواقف ، وعظيم التضحيات، لقد نشأ شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله – فى عصر علا فيه سلطان التتار الغزاة علاى امصار بلاد الإسلام ، فهل كان موقفه متخاذلاً مثبطاً مرجفاً ؟ ينادى فى الناس ان استكينوا واستسلموا للقضاء والقدر ، فإن مصائركم ومقاليد اموركم صارت الى أيدى أعدائكم ، وأنتم أعجز من أن تملكوا لأنفسكم معهم نفعاً أو ضراً ؟ ! لقد تولى الشيخ مهمة التحريض على القتال ، وحث المسلمين على الثبات ، وعدم الفرار من دمشق امام التتار ، وسافر الى مصر لحث السلطان على المجئ ، وإرسال الجيش ، وقد اثمرت جهوده ، وآتت أكلها ، ونفع الله به وبجهاده وحركته الإسلام والمسلمين ، وأمام كل هذا نتساءل : لماذا يغيب نفس شيخ الإسلام الثائر على الظلم والظالمين ، المستنهض لهمم الحكام والعلماء ، والمحرض لأبناء الأمة للتصدى للأعداء الغازين ، ومجابهتهم بهمم عالية ، ومجاهدتهم بنفوس شامخة ؟

أني جهود علماء الأمة فى مواجهة مقولات الجبر التى تسربلت حديثا فى جبرية معاصرة تروم تسكين الأمة وتخذيلها امام اعدائها وإشاعة روح اللآمبالاة تجاه مظاهر الظلم والإنحراف والتسلط والإستبداد ؟ إن الأمة بأمس الحاجة الى نمط مميز من العلماء والفقهاء ، ينفضون عن واقعها روح اليأس والقنوط ، ويحمونها من تأثير مقولات دعاة الجبرية المعاصرين ، الذين حملهم سوء فهمهم للقدر على الاستكانة والتخاذل.

التدين الصوفى : اختلف الناس كثيراً بشأن الصوفسة والتصوف ، كما أن المكتبة الإسلامية أتخمت بدراسات وكتابات عديدة ، منها ما تمتدح الصوفية وتثنى عليها ، وتجتهد فى دفع شبهات خصومها ، والاتجاه الآخر ؛ رأى فى الصوفية شراً كبيراً ، وخطراً عظيماً ، يتهدد المسلمين فى عقائدهم وعباداتهم ، فكثف خطابه فى مجابهتها ، وكشف زيفها ، وبيان ضلالاتها وشطحات اربابها ، وليس من اهداف هذه المقدمة التعرض لبيان تلك الإنحرافات والشطحات والضلالات ، وما تهدف إليه ينحصر فى تقرير وتوكيد مدى تأثير التدين الصوفى فى إشاعة روح التعبد الذاتى – على ما يصاحبه من بدع وضلالات – والتقوقع فى الزاويا ، والاستغراق فى الأذكار والمداومة على الأوراد ، مع غياب تام عن واقع الأمة.

ان الصوفية فى زماننا تعدت عن كونها ابتداعاً فى الإيمان والعقيدة ، وابتداعاً فى العبادات والنسك الى كونها طريقة حياة ، ومنهج تفكير ، واسلوب عمل ، ولم تعد محصورة فيمن ينتسب الى طريقة او مشيخة صوفية فحسب ، بل قد يقع بعض من يكثر الحديث عن انحرافات التصوف ، وضلال الصوفية ، فى منهج التفكير الصوفى ، فى فهمه للحركة والحياة .

فما هو هذا المنهج ؟ وما هى اركانه ؟ أو كيف كان تأثيره على حركة المسلم فى حياته ؟ والأمة فى مجموعها ؟

لن تكون الإجابة على هذه التساؤلات بمعزل عما قدمنا عند حديثنا عن الفكر الإرجائى ، ومقولات الجبرية ، إذ أن منهج التفكير الصوفى تكون من تداخل افكار ومناهج زائغة منحرفة ، انتسبت للإسلام زوراً وبهتاناً.

واهم ما توسلت به فى صياغة مناهجها ؛ فكرة الإرجاء المناقضة لتوحيد الشرع ، وعقيجة الجبر المناقضة لتوحيد القدر ، وبذلك تبلور مفهوم هذا المنهج ، واصبح من اليسير تحديد معالمه ، التى تناقض مبادئ الإسلام على الجملة !؟

لقد سعى الصوفى للتحرر من الإرادة البشرية ، كأسمى شئ يحققه فى وجوده ، وجاهد نفسه لينعق من أغلال الطباع الإنسية !؟ كحاجته للمأكل والمشرب ، وحاجته للنكاح . . . الخ . إن سعى الصوفى الدائم للتفلت من إنسانيته ، يعطينا الحق ، فى إطلاق وصف الجنون على كل من تصوف ، وهذا عين ما فعل الإمام الشافعى – رحمه الله – إذ يقول : ما تصوف رجل عاقل قط واتت عليه صلاة العصر إلا وهو مجنون !؟

فالعاقل صاحب إرادة ، وهو مكلف بالتزام الشريعة ، ولا ينقض هذا الإلتزام سوى ذهاب العقل عن المكلف ، وبه يسقط عنه التكليف.

إن منهج التفكير الصوفى ، يفرز الوانا متعددة ، واشكالا مختلفة ، لكنها تعكس حقيقة الصوفية الفكرية ، فإذا كانت الصوفية فيما مضى قد اسلبت المنتسبين لها الفاعلية تحت شعار (اريد ان لا اريد) فإن صوفية هذا الزمان تلتقى مع هذا الشعار ، ولكن بصياغات مختلفة ، لا تأثير لها على جوهر منهج التصوف ، الذى يربأ بالإنسان المتطلع لمرضاة ربه ان يأبه لما يحدث على هذه الأرض ، كيما يذهل عما فوق السماء ، وعما فى باطن الأرض !؟ وللأسف ؛ فإن التدين الصوفى هذا قد استوعب قطاعات كبيرة من الأمة ، وأغرى فئات ممن ينتمون ال الفكر ، ويدعون العلم والوعى ! وليس البسطاء والسذج فقط!

فى ضوء ذلك يمكن ان نفسر قابلية الأمة ، واستمرارها لتحييد شرع الله عن شوؤن الحكم فى مجتمعاتهم ، واستبداله بالقانون الوضعى.

لقد هان على أمة جعلت وظيفة الدين فى الحياة تنحسر لتصبح جزءاً من عبادة فردية ، لا ثمرة لها فى نفس المسلم ، ولا فى مجموع الأمة ، أن ترفع شعارات تقرر العلمانية ، وتعيدنا الى الجاهلية ، من امثال : (دع ما لقيصر لقيصر وما لله لله ) و ( وقيصر ظل الله فى الأرض ، من اهان سلطان الله ، أهانه الله) ، والقائمة فى هذا تطول.

إن الإسلام جاء ليضع البشرية فى المسار الذى تستقيم معه الحياة ، ولن تستقيم إلا حين تنسجم من السنن الإلهية ، ويحدث التوافق معها ، وعند وقوع تصادم معها فإن ثمة فساد واختلال يؤثر فى المسار سلباً.

وهذا هو قانون الله فى هذا الوجود ، والكل خاضع ومنقاد لهذا القانون ، لا يستطيع منه فكاكاً أو خلاصاً ، وهذا فى حقيقته إذعان وخضوع للملك الجبار ( له اسلم من فى السماوات والأرض طوعاً وكرها وإليه ترجعون) [آل عمران:83]

ومن السنن الإلهية التى لا تتبدل ولا تتغير ؛ سنة الله فى التدافع بين اصحاب الحق ، واصحاب الباطل ، وانه لابد للباطل من قوة تطغى اهله ، وانه لابد للحق من قوة تحمة ذويه . . ومن سننه تعالى : ان ينصر المؤمنين المستوفين عوامل النصر ، وأن النصر للمؤنين قد يسبقه أذى من العدو وغلبة له . . ومن سننه جل وعلا : ان ترك الجهاد مدعاة الى العذاب ، وأن إعداد القوة من فروض الإسلام . ..

إن منهج التفكير الصوفى قد تجافى عن هذه السنن الإلهية وغيرها ، وولى عنها مدبراً ولم يعقب !؟ الأمر الذى دفع المنتمين الى هذا (المنهج) – وهم كثر – لاعتقاد ان الابتعاد عن شؤون الحياة ، مع القيام ببعض اعمال التعبد ، كالصلاة ، والصيام ، والحج ، الذكر ، وطلب العلم ، . . . الخ بعيداً عن السعى الجاد والحقيقى لاستئناف حياة إسلامية والذى يستوجب مجاهدة الظلمة ، ومقاومة الكفر ، هو غاية التدين وحقيقة الدين !؟ بل تعدى الأمر هذا الاعتقاد الى تبنى أراء جديدة تحرم الاهتمام بشؤون الواقع ، وقضايا السياسة ، بحجة انها تشتت الهمة ، وتفرق القلب ، وتحبب فى الدنيا ، وتصرف الناس عن العلم النافع ، والعمل الصالح !؟ وزاد بعض المخرفين للتدليل على رأيهم الباطل انه لم تكن امور السياسة والواقع ضمن دائرة اهتمام السلف الصالح ، بل انهم كانوا ابعد ما يكونون عن السلطان ، والاشغال بأمور السياسة !! وهذا القول إضافة الى ما فيه من تزوير للحقيقة ، وافتراء وخجاع ، فهو فى غاية القبح والتشويه لمنهج السلف الصالح ، الذين ما فتئوا يبنون للأمة الحق ، ويقودونها فى سبيل إحقاقة.

ولعل من أسوء إفوازات هذا المنهج المنحرف ، ذلك الأنموذج (المأزوم) الذى يتسربل بالعلم – زوراً – ويتبجح باتباع السلف – بهتاناً- فما هو إلا نابتة سوء اغتدت من معين منهج التصوف الفكرى – رغم عدائها الظاهر للمتصوفة التقليديين – فما ظنكم بمن يستدعى أمواتاً ، ومقولات بدعية غائبة منسية ، ماتت بموت أصحابها وقائليها . . ثم يأخذ يناوش ويصارع ويقاتل اشباحاً لا حقيقة لها !؟ والأدهى والأمر ، ان تصل الحماقة بهؤلاء حدا يستنهضون معه الأمة لتلتف حولهم فى خوض معركتهم الكبرى ، فى مقابر التاريخ ، وعلى مشارف او مجاهل الماضى السحيق !؟

إننا اليوم ؛ أمام من ينكر القرآن جملة وتفصيلاً ، ولسنا امام من يقول بخلق القرآن ! ونحن نعيش فتنة فصل الدين عن الحياة، وحبسه تحت قباب المساجد ، وحصره ببعض حصص مادة التربية الإسلامية فى المدارس ، ولسنا فى زمن جود بعض الإنحرافات فى الفكر والسياسة والإقتصاد والإجتماع فحسب !؟

نحن أمة دلفت الى حالة التبعية والخذلان امام كل الأمم والشعوب ، ولسنا فى وقت نبحث فيه عن ضعف الفتوحات ، وقلة الانتصارات !؟

وبعد : فالكتاب الذي بين يديك أيها الأخ الكريم ، يلقى الضوء على مشكلة الفاعلية عن المسلم المعاصر ، بذل فيه الأخ د. ابن عيسى باطاهر ، جهداًُ طيباً ، وارتاد ميداناً قل سالكوه ، وقد جاء بحثه معتمداً فى غالب افكاره ومضامينه على كتابات الأستاذ المفكر / مالك بن نبى – رحمه الله – والذى يعتبر بحق أحد رواد هذا الميدان المبدعين – عفا الله عنه ، وغفر لنا وله – وشكر للمؤلف سعية وجهده.

لجنة البحوث

والدراسات الإسلامية

مقدمة

الحمد لله الذى انزل على عبده الكتاب ولم يجعل له عوجاً ، والصلاة والسلام على سيد الأولين والآخرين وعلى آله صحبه الطيبين الطاهرين ، وبعد :

فإن الأمة الإسلامية تعيش الأن أزمة حضارية جعلتها تتخلف عن اداء دور الشهادة على الناس ، ووظيفة الإيمان والأمر بالمعروف والنهى عن المنكر ، كما هيأها الله لذلك فى قوله ( وكذلك جعلناكم امة وسطاً لتكونوا شهداء على الناس) [ البقرة : 143] وقوله تعالى : كنتم خير امة اخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله) [آل عمران : 110] .

وهناك تحديات كثيرة تحاصر الأمة فى هذا الواقع الجديد ، واسباب مختلفة تقف عائقاً امام استرجاعها لمركز الريادة من جديد ، وتبوئها لمكانة سامقة فى هذا العالم المتغير ، بعد نزعها وخلعها للباس الغثائية الذى التصق بها منذ فترة من الزمن.

وهذه الدراسة تبحث فى أحد الأسباب المساهمة فى صحة الأمة وقوتها ، وهو ما يسمى بالفاعلية Efficancy وهى مبدأ حضارى قل او انعدم من مجتمعاتنا الإسلامية ، فى حين اصبح على راس سلم القيم فى المجتمعات المتحضرة.

وقد قسمت هذه الدراسة الى تمهيد وخمسة فصول ، تناولت فى الفصل الأول مفهوم الفاعلية فى اللغة والاصطلاح . محدداً مفهوماً جديداً لها ، وبسطت الحديث فى الفصل الثانى عن الفاعلية فى التاريخ الإسلامى مركزاً على التفسير الإسلامى للتاريخ ، وقيمة الإنسان فى الإسلام ، وفاعلية الرسول صلى الله عليه وسلم ، وفاعلية صحابته رضوان الله عليهم ثم تجدد الفاعلية عبر التاريخ الإسلامى.

اما الفصل الثالث فقد خصصته لبحث واقع الفاعلية فى امتنا الإسلامية ، وذلك بعرض أبرز المعوقات التى تحول دون تحقيق شروط الفاعلية .

وأما الفصل الرابع فقد تناولت فيه مقومات الفاعلية ، وهى تمثل الطموح الذى نرجوه حتى تعود العافية الى الأمة . وأما الفصل الخامس فقد خصص لبعض التوصيات التى قد تفيد امتنا فى واقعها المعاصر.

لقد تمت هذه الدراسة بعون الله وتوفيقه وهى – باعتبارها جهداً بشرياً – بحاجة الى قدر من التمحيص والنقد حتى تستفيد منها مدارس التغيير التى تسعى لإنهاض الأمة عن طريق الخطاب الإسلامى المتكامل المؤصل اعتماداً على منهج السلف فى تلقى مصدرى الوحى ، الكتاب والسنة ، والتفاعل معهما ، لأعادة بناء الأمة المسلمة ودروها الريادى فى القيادة من خلال إعادة تحكيم شرع الله سبحانه وتعالى فى الحياة . والله الموفق الى الصواب.

وأنا سعيد الى الإشارة الى تلك الجهود والتوجيهات التى بذلها اخى وزميلى الدكتور (إبراهيم احمد العسعس ) فى إخراج هذه الدراسة فى صورتها النهائية فجزاه الله خير الجزاء .

وختاماً أسأل الله سبحانه وتعالى ان يكون عملى المتواضع هذا خالصاً لوجه الكريم ، وأسأله ان يرزقنا السداد فى القول ، والإخلاص فى العمل ، والحمد لله رب العالمين ، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

د. ابن عيسى باطاهر

عمان 15 / 8 / 1995م

تمهيد

يقرر المفكر الفرنسى الشهير ألكسيس كاريل Alexis karel أن الحياة جد وعمل ، وأن العضلات والأعضاء والذكاء والإرادة وكل اجزاء الكائن البشرى لا تقوى إلا بالعمل(25) . وحين صنف العالم الأمريكى مايكل هارت Micheal Hart كتابه المشهور (المائة الأوائل) جعل الرسول صلى الله عليه وسلم على رأس قائمة صانعى التاريخ فى العصر القديم والحديث ، وقد استحق محمد صلى الله عليه وسلم هذا التقديم لتحقيقه شروط صناعة الحياة ، ومقاييس الريادة على المستوى الدينى والدنيوى ، وكان مقياس الفاعلية فى الحياة هو المقياس الأساسى فى التقويم(26).

والأمة الإسلامية التى مارست دور الشهادة على الناس يوماً ما ، ورثت مقوم الفاعلية عن رسولها صلى الله عليه وسلم ، فكان أن دخلت التاريخ من ابوابه الواسعة ، وكونت حضارة متميزة فى مستوياتها الدينية والدنيوية ، وقد عرفت بتقديرها للعمل ، وحرصها على النفع ، وتوجيهها للطاقات نحو عمل الخير ، فاستحقت بذلك التكريم الإلهى ( وكذلك جعلناكم أمة وسطاً لتكونوا شهداء على الناس) [ البقرة :143]

ومرت الأمة الإسلامية فى دورتها الحضارية ببعض المعوقات التى جعلتها تتخلف عن اتجاهها الروحى ، وتتجه اتجاهاً عقلياً ، ثم انفصلت نهائيا عن دائرة العقل والروح لتهوى فى مكان سحيق سيطرت فيه الغرائز والأهواء ، وتمثل هذه المراحل رحلة الحضارة الإسلامية منذ شروقها الى ان فتر توهجها ، وكاد ينطفئ سراجها ، ولكنها فى كل الأحول خرجت من التاريخ لتترك زمام المبادرة لأمم أخرى عرفت كيف تستفيد من تراثها ، وتراث امتنا الإسلامية على وجه التحديد ، وعرفت كيف توجه سنن الله فى الكون ، وعرفت قدر العمل ، وأهمية الفاعلية فى البناء والتكوين ، فكانت بداية مدنية جيدة لكنها لم تحقق الضمانات الكافية لسعادة الإنسان فى هذه الحياة.

والأمة الإسلامية مع هذا كله مازالت تسعى بشوق وتلهف الى ان تأخذ مكانها الريادى مرة أخرى ، وهى تبذل فى سبيل هذا الهدف جهوداً كبيرة ، وتعمد الى وسائل مختلفة ، ولكن مع هذه النهضة التى عقبت النوم الطويل ما زال الجهد المقدم غير كاف ، وما زال الوهن يحد من الجهود الكثيرة ، ولا زالت ترى كثيرا من الطاقات المعطلة تحتاج الى توجيه وإرشاد.

وإن الدعاة والمفكرين ما فتئوا يشكون من مرض اللافاعلية الذى اصاب أبناء الامة الإسلامية فعطل من طاقاتهم ، وقلل من نشاطهم ، فهذا الشيخ (محمد الغزالى) – رحمه الله تعالى – ينقد حال الأمة قائلاً : ( إن الرجل عندنا قد ينال أعلى الأجازات العلمية فى الطب او القانون ، وقد يعين فى أعلى المناصب بأوروبا وأمريكا ، لكن صلته بدينه صفر ، وعلاقته بحنسه هواء ، على حين يكون زميله اليهودى كالإعصار فى خدمة الصهيونية ، وزميله النصرانى أسرع من البرق فى خدمة الاستعمار ، فهل هذا المسلم البارد الشعور ، أو المرتد القلب يجدى على أمته شيئاً . ، أنه كالجندى المرتزق بسلاحة يخدم أى مبدأ على ملء بطنه وإيثار عاجلته(27)

وهذا مالك بن نبى – رحمه الله – يأسف لواقع الأمة فيقول : (العالم الإسلامى لم يبلغ بعد درجة النشاط ، أو العمل الفنى الذى يعد وحده كفيلاً بتحديد مكانه فى العالم الحديث الذى يحتل مبدأ (الفاعلية) اول درجة فى سلم القيم ، وهذا المبدأ من أحوج الأمور بالنسبة لنا)(28)

ويقول ايضا : (ألسنا نشعر مثلاً بأن ديننا وهو أوضح – من حيث الصحة – من شمس النهار ، إنه الى حد ما وبسببنا نحن ، وبسبب تقاعسنا وتكاسلنا ونومنا فى النهار فقد بعض صلاحيته(29)

ويقول محمد قطب : ( لقد وعت اوروبا ان الإنسان هو القوة العاملة فى الأرض ، وان الطاقة البشرية هى أداة الإصلاح ، من اجل ذلك اتجهت هتمهم لتجنيد هذه الطاقة ، وتوجيهها الى العمل المنتج فى واقع الحياة ، ووصلوا فى ذلك الى درجة معجبة من النشاط والتنظيم والدأب المنتج المعجيب ، ذلك ما نسيه المسلمون اليوم وهم يتواكلون ويتقاعسون وينتظرون وهم قاعدون(30)

ويقول أيضاً : ( إن أمام المسلمين الكسالى اليوم قدوة فى رسول الله تنفعهم إذا فتحوا لها بصائرهم ، وتدبروا معنيها ، إن عليهم ان يعملوا دائما ولا يكلو .. . يعملوا جهد طاقتهم ، وفوق الطاقة ليعوضوا القعود الطويل ، يعملوا فى كل ميدان من ميادين العمل : فى ميدان العلم ، وميدان الصناعة ، وميدان التجارة ، وميدان الاقتصاد ، وميدان السياسة ، وميدان الفن ، وميدان الفكر )(31)

وتجمع أغلب الآراء على ان الخلل الذى اصاب الأمة الإسلامية فى سعيها نحو النهضة والحضارة هو إنعدام الفاعلية وقلة النشاط والعمل ، وعدم الاستفادة من الوسائل المتاحة ، فلم يكن ينقص الفرد المسلم منطق الإخلاص بقدر ما كان ينقصه منطق العمل والحركة ، فهو يفكر ولكن لا ليجسد فكرته فى عمل مثمر ، وإذا عمل لا يقدم الجهد المطلوب لتحقيق النتائج المرغوبة.

والذى يؤسف له ان وضع الأمة الإسلامية فى قلة فاعليتهما – مقارنة مع غيرها من الأمم التى سلكت سبيل التحضر – قد عزى الى الإسلام نفسه كما ذهب الى ذلك المفكران الغربيان (رينان) و (لامانس) فقد قالا عن الإسلام : إنه دين الركود والتخلف ، ونسبا الفاعلية للأوروبيين(32) وهذا الرأى ليس غربيا كذلك على دعاة الحداثة والتغريب اليوم ، لأنهم ينظرون الى الإسلام من خلال معطيات الواقع الذى يعيشه المسلمون اليوم ، ومن خلال فهمهم للتفسير الإسلامى للتاريخ ، ونظرته الى الإنسان فالنظرة المتداولة عندهم هى ان التاريخ فى نظر المسلمين هو قضاء وقدر ، وان الإنسان ريشة فى مهب الريح لا يملك من امر نفسه شيئاً ، فكيف يملك صناعة التاريخ ؟!

والمتأمل فى تاريخ الأمة الإسلامية يدرك ان كثيرا من هذه الأفكار القاتلة فد تسربت الى المسلمين منذ زمن بعيد ، وكان أن امتزجت بعقول وقلوب الناس مما ادى بعد فترة من الزمان الى هذا الانحصار الحضارى الذى نعيشه اليوم ، والى الابتعاد عن دور الشهادة على الناس ، وقد كان للاستعمار الذى عرفته الشعوب الإسلامية درو فى بث الأفكار الميتة ، وبعث روح الهزيمة ، ومركبات النقص فى النفوس ، مما ساهم فى نقص الفاعلية عند ابناء الأمة ، غير اننا لا يمكن بأى حال ان نحمل الاستعمار تبعة ما نحن فيه ، لأن قضية الفاعلية قضية نفسية مرتبطة بالبناء النفسى والرؤية الحضارية عند ابناء الأمة ، فهى تقع حقيقة حيث تتحقق مبررات وجودها.

وإذا كانت الأمة الإسلامية قاطبة تتحمل مسئولية هذا العجز ، فإن الصحوة الإسلامية تتحمل جانباُ كبيرا من هذه المسئولية ، لأنها أخذت على عاتقها إعادة المشروع الإسلامى الكبير ، والعودة بالأمة الإسلامية الى ميدان الصدارة ، والسير من جديد فى ركب الحضارة ، وكان ان تحملت مسئوليات جسام لتغيير الواقع بدءاً من تغيير النفوس ، ولكن عقبات الطريق ، وصعوبة المسلك ، وطبيعة التغيير النفسى ، كل هذه الأمور جعلت المشروع الحضارى الكبير يتأخر لأسباب كثيرة نعد منها قلة الفاعلية فى اداء الواجبات المنوطة بعاتق العاملين للإسلام ، فلم تكن الاعمال الفردية والجماعية فى مستوى الجهد المطلوب الذى ينبغى ان نصل إليه ، ولم تستخدم جميع الوسائل ، ولم تجند كل الطاقات للوصول الى العمل المثمر الناجح وكل ما تحقق ليس كافيا لإقلاع الحضارى ، وكان التخلف عن ادءا دور الشهادة على الناس نتيجة حتمية لعدم انسجامنا مع سنن التغيير المطلوبة ، قال تعالى ( ان الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم) [الرعد : 11] وقال ايضا : ( يا أيها الذين آمنوا إن تنصروا اتلله ينصركم ويثبت اقدامكم ) [ محمد :7]

فمبدأ الفاعلية فى الفكر والعمل – الذى اصبح ظاهرة عند الأمم التى دخلت التاريخ الحاضرى – ليس مبدأ مناسباً للإمكانيات المتاحة فى العمل الإسلامى ، فالواقع يشهد بقلة الفاعلية ، والطموح ، فى أن يصبح العمل عندنا قراراً فردياً وجماعياً يصل الى أعلى درجات الحركة والنشاط.

أم المجتامع الإسلامى المعاصر إنما هو الآن فى مرحلة ما قبل التحضر (33) غير انه مجتمع عرف الحضارة فى يوم من الأيام ، وقد ورث تراثاً زاخراً من الأفكار والثقافات ، واصبح مع هذه الظروف لزاماً عليه ان يعيد توجيه ثقافته من جديد ، وبناء قدراته وفق منهج مؤصل يجمع بين الأصالة والتجديد ، ويستفيد من تجارب الأمم المتحضرة التى ركزت على بناء الإنسان وتوجيه فكره وثقافته نحو الأهداف السامية للأمة ، وتعليمة لغة الفاعلية فى التعامل مع الأشياء.

إن العقيدة الإسلامية التى يعد بثها من أولويات العمل الإسلامى قد أخذت حيزاً كبيراً فى الأبحاث والدراسات ، مع ان حجمها يسير ، ولكنها للأسف لم تتحول الى قوة دافعة ، وحركة تصنع الأحداث ، ذلك ان التركيز لم يكن منصباً على توضيح رسالة العقيدة بقدر ما انصب على بيان العقيدة فى صورتها التجريدية ، مع ان العقيدة الإسلامية ينبغى لها ان تعرض فى صورتها التجريدية ، وصورتها الحركية ، كى يصبح صاحب العقيدة إنساناً ذا رسالة فعالة فى التاريخ يستطيع من خلالها ان يسعى سعياً دؤوبا نحو تحقيق وظيفة الشهادة على الناس.

والعمل الإسلامى اليوم ينطلق من مبدأ فهم الكتاب والسنة باعتباره المرجع الأساس فى النظرية والتطبيق ، وباعتباره الدواء الحقيقى لجميع الأمراض التى لحقت بالأمة الإسلامية ، ومن هنا كان واجباً عليه ان يستخلص من هذا الفهم طريقة المعالجة التى لا تأتى إلا من خلال العمل الدؤوب ، والفاعلية المتوقدة فى جميع قطاعات الأمة ، وان تربى الناشئة على كيفية استثمار الوسائل المتوفرة لصنع شئ له قيمة فى الحياة ، وكيفية التعامل مع الأفكار النافعة ، والأفكار القاتلة ، وإيجاد الإنسان الذى يفكر ليعمل ، لا ليقول كلاماً عاطفياً لا يقدم ولا يؤخر شيئاً فى عملية البناء والتغيير ، وعليه كذلك ان يربى ابناء الأمة على سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم التى اتسمت بالفاعلية فى الفكر والعمل منذ اليوم الأول الذى سمع فيه الرسول صلى الله عليه وسلم كلمة ( إقرأ ) التى تبعتها كلمة ( قم ) فكان ان مارس القراءة التى تعنى الفهم عن الله طيلة حياته ، وماس القيام يعنى التطبيق لهذا الفهم حتى التحق بالرفيق الأعلى ، يقول الرازى : ( إنه عليه السلام تحمل فى أداء الرسالة انواع المشاق والمتاعب ، فلم يتغير عن المنهج ولم يطمع فى مال احد ، وفى جاهه ، بل صبر على تلك المشاق والمتاعب ، ولم يظهر فى عزمه فتور ، ولا ف اصطباره قصور )(34)

وإذا كان الاستاذ مالك بن نبى – رحمه الله – يرى ان نقصان الفاعلية فى العمل الإسلامى ناتج عن مواقفنا تجاه الأشياء فنحن إما ان ننظر إليها على انها سهلة وإما أنها مستحيلة وكلتا النظرتان تنقصان من الحركة والنشاط ، لأن السهولة تقود الى نشاط اعمى ، وأما الاستحالة فتصيب النشاط بالشلل(35) ، فنحن نرى ان نقصان الفاعلية ناتج عن اسباب كثيرة معقدة يتصل بعضها بالنفس البشرية وبالمحيط الذى تربت فيه ، وبالثقافة التى رتعت منها.

والفاعلية تتصل بداية بالبناء النفسى الذى تحتمه مبررات شرعية واجتماعية تجعل من الحركة والنشاط غاية أولى فى السير نحو مثل أعلى تنوى تحقيقه ، ولكن مع صعوبة تدريب النفس على الفاعلية فإن تحقيق هذا الهدف ليس مستحيلاً فى المجتمعات الإسلامية ، وبخاصة ونحن نرى نماذج للفاعلية تستحق الإشادة والتقدير فى جميع الميادين الاجتماعية والعلمية والفكرية وغيرها ، وإن كان

طابع الفردية يغلب عليها ، ولا يمكن بأية حال تحقيق الأهداف الكبرى إلا بتضافر هذه الجهود الفردية لتصبح جهوداً جماعية تصب فى المصلحة الكبرى للعمل الإسلامى.

الفصل الأول

مفهوم الفاعلية

1. الفاعلية فى اللغة :

الأصل اللغوى للفاعلية هو الفعل (فعل) الذى مشتقاته (فاعل) و(فعال) والفاعلية مصدر صناعى ، اختاره مجمع اللغة العربية بالقاهرة ، للدلالة على وصف الفعل بالنشاط والاتقان(36) .

وورد فى القرآن الكريم لفظ : (فعال) فى قوله تعالى ( فعال لما يريد) [البروج : 16] وهو اسم من اسماء الله الحسنى يدل على ان ما يريده تعالى وما يفعله فى غاية الكثرة(37) ، وصيغ من هذا الاسم مصدر آخر هو (الفاعلية) الذى كثيراً ما كان يتسعمله المفكر الإسلامى المعروف (مالك بن نبى) فى كتاباته.

ويبدو أن مصطلح (الفاعلية ) هو الأكثر استخداماً وشيوعاً بين المثقفين ، ولذلك اخترناه على غيره فى هذه الدراسة.

2. الفاعلية فى الاصطلاح:

تقابل كلمة (الفاعلية) العربية كلمة( Efficancy)

فى المعاجم الغربية وهى تتحدد عندهم بكونها وصفاً لكل شئ فعال(38) وجاء فى كتاب البحث التحليلى لأوروبا ان الروح – ويقصد بها الفاعلية – هى ذلك الشعور الفردى فى الإنسان الذى تصدر عنه مخترعاته وتصوراته ، وتبليغه لرسالته ، وقدرته الخفية على إدراك الأشياء(39)

ويعرف مالك بن نبى الفاعلية بأنها : حركة الإنسان فى نصاعة التاريخ ، قال – رحمه الله – (إذا تحرك الإنسان تحرك المجتمع والتاريخ ، وإذا سكن سكن المجتمع والتاريخ ، وهذا يضعنى امام مشكلة تتصف تحت عنوان الفاعلية)(40).

والفاعلية عند (مالك) هى جزء من الثقافة التى يتصف بها الفرد والمجتمع ، فعناصر الثقافة اربعة هى : المبدأ الأخلاقى ، والذوق الجمالى ، والمنطق العملى ، والتوجيه الفنى او الصناعة ، وتشكل هذه العناصر السلوك الاجتماعى للفرد فى المجتمع ، والمنطق العملى هو الفاعلية فى مستواها الفردى والجماعى يقول مالك بن نبى: ( لسنا نعنى بالمنطق العملى ذلك الشئ ) الذى دونت اصوله ووضعت قواعده منه ارسطو ، وإنما نعنى به كيفية ارتباط العمل بوسائله ومقاصده ، وذلك حتى لا نستهل او نستصعب شيئاً دون مقياس ، يستمد معايير من الوسط الاجتماعى وما يشتمل من إمكانيات ، وليس من الصعب على الفرد المسلم ان يصوغ مقياساً نظرياً يستخرج به نتائج من مقدمات محددة غير انه من النادر جداً أن يعرف المنطق العملى ، اى اتسخراج ما يمكن من الفائدة من وسائل معينة ونظرة الى ما حولنا تكفينا لكى نلاحظ ان ضروب نشاطنا غالباً ما تتسم بالشلل وانعدام الفاعلية فى الجانب الخاص والعام(41)

وارتباط الفاعلية بالثقافة هى حقيقة نشاهدها اليوم فى البلاد المتحضرة حيث يوجه الفرد منذ نشاته الأولى الى الاستفادة من وقته ، واستثمار جميع الوسائل لاستخلاص الفائدة من الاشياء التى لها قيمة ، حتى اصبح ذلك سلوكاً اجتماعياً يرتبط بجميع نشاطات الحياة.

ويعرف (جودت سعيد) الفاعلية بقوله : ( هى قدرة الإنسان على استعمال وسائله الآولية واستخراج اقصى ما يمكن ان يستخرج منها من النتائج (42).

فالإنسان الفعال هو القادر على استخدام الوسائل المتوفرة مهما قل شأنها فى صنع شئ له قيمة فى الحياة وهذا مرتبط بالثقافة التى يحملها ، والفكر الذى يتبناه ، ولذلك حرص (جودت سعيد) على اعتبار الإنسان هو المحرك الأول للطاقات ، والإمكانيات التى يملكها ، واستند فى هذا على منهج القرآن الذى فرق بين صنفين من البشر فقال تعالى( أفمن يمشى مكباً على وجهه أهدى أمن يمشى سوياً على صراط مستقيم)[الملك:23] وقال تعالى: ( وضرب الله مثلاً رجلين أحدهما ابكم لا يقدر على شئ وهو كلُّ على مولاه اينما يوجهه لا يأتى بخير هل يستوى هو ومن يأمر بالعدل وهو على صراط مستقيم) [النحل :76]

فكلمة (الكل) هى الكلمة القرآنية المقابلة لمصطلح اللافعالية والسلبية ، بل كلمة القرآن أدل على هذا المعنى بحيث ان كلمة (الكل ) لا تدل على اللافعالية فحسب بل تدل على انه عبء على من يتولاه سواء كان فرداً او مجتمعاً ، كما وأن كلمة (العدل) فى القرآن تقابل مصطلح الفعالية بشكل أدق ، لأن الفعالية لا تشترط دائما ان تكون فيما بل قد يكون المرء فعالاً فيما يضر ، أما كلمة العدل ففعاليته فىالحق دائماً(43)

فالفاعلية التى نريد هى الفاعلية التى يتحرك بها الإنسان مع ما لديه من وسائل أولية ليحقق نفعاً خاصاً أو عاماً ، وهذا هو المعنى الذى حرص عليه المنهج القرآنى ، وبيته أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم ، المذموم فى الشريعة الإسلامية التى من ابرز مقاصدها درء المفاسد وجلب المنافع.

3. الفاعلية فى مفهوم جديد :

إن الفاعلية هو نوع من القوة التى تمنح للإنسان ليتحرك فى الحياة مبلغاً لرسالته ، وصانعاً لتاريخه ، وناشراً لفكره ، ودينه يستفاد هذا من قوله تعالى ( يا يحيى خذ الكتاب بقوة) [مريم : 21] والقوة المراد بها قوة معنوية ، وهى العزيمة والثبات ، فى العمل بالكتاب وحمل الأمة على اتباعه ، فقد أخذ الوهن يتطرق الى الأمة اليهودية فى العمل بدينها(44) فأمر يحيى – عليه السلام – ونودى ليحمل هذه الأمانة فوة وعزم ، وبمفهومنا الحديث بفاعلية ونشاط حتى يحقق مراد الله تعالى.

ويبين الرسول صلى الله عليه وسلم هذه القوة فى الحديث المشهور الذى رواه أبو هريرة – رضى الله عنه – قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( المؤمن القوى خير واحب اللى الله من المؤمن الضعيف ، وفى كل خير ، احرص على ما ينفعك واستعن بالله ولا تعجز ، وإن اصابك شئ فلا تقل : لو أنى فعلت كذا وكذا ، ولكن قل قدر الله وما شاء فعل ، فإن لو تفتح عمل الشيطان)(45)

قال النووى فى شرح معنى القوة : ( المراد بالقوة عزيمة النفس ، والقريحة فى أمور الآخرة ، فيكون صاحب هذا الوصف اكثر إقداماً على العدو فى الجهاد ، وأسرع خروجاً إليه ، وذهاباً فى طلبه ، وأشد عزيمة فى الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر ، والصبر على الأذى فى كل ذلك ، واحتمال المشاق فى ذات الله تعالى ، وأرغب فى الصلاة والصوم ، والأذكار وسائر العبادات وأنشط طلباً لها ، ومحافظة عليها ، ونحو ذلك)(46) .

والحديث بجملته يتحدث عن فاعلية الؤمن وعلاقة هذه الفاعلية بقضاء الله وقدره وقد فسر الرسول صلى الله عليه وسلم هذه الفاعلية بأنها الحرص على النفع وترك العجز بعد الاستعانة بالله تعالى ، ومن هنا يتحدد المفهوم النبوى للفاعلية بأنها العمل والحرص على ما ينفع ، وترك الكسل والعجز ، ومن هذا المفهوم تخرج كل المعانى الأخرى للفاعلية التى قد يستخدمها الإنسان فى حركته نحو الفساد والإضرار بنفسه وبالآخرين ، كالفاعلية التى نراها عند يهود للإضرار بالإنسانية ، وعند غيرهم من الأمم والشعوب الكافرة.

ويمكن ان نصل الى مفهوم شامل جديد للفاعلية اعتماداً على هذا الحديث فنقول : إنها قوة فى النفس تستوجب الحرص على النفع وترك العجز.

.:. .:. .:.

الفصل الثانى

الفاعلية فى التاريخ الإسلامى

1. التفسير الإسلامى للتاريخ

إن النظرة الإسلام الى التاريخ قضية ذات اهمية كبيرة فى تحديد الموقف العملى للإنسان المكلف تجاه الأحداث التى يتفاعل معها كل يوم ، سواء أكان صانعاً لها بإرادته ام خاضعاً مستقبلاً لها دون اى تدخل من تلك الإرادة.

وأهمية هذه النظرة تكمن فى ارتباطها بقضايا العقيدة وبخاصة عقيدة القضاء والقدر ، التى تشكل الأساس الفكرى الذى يحدد موقف الإنسان المسلم من العمل فى الحياة الدنيا وتصوره للدائرة التى يمكل حرية التحرك فيها ، والدائرة التى لا يملك فيها اية إرادة للحركة والعمل .

إن عقيدة القضاء والقدر التى اختلف المسلمون – باستثناء سلفنا الصالح – فى فهمها وتفسيرها ، كانت عنصراً من عناصر الخلاف الذى استمر قروناً وما زال مستمراً الى الآن ، تعد من أهم الأسباب الموصلة الى تفسير التاريخ ، وفهم موقع الإنسان فيه ، وبناء تصور عنه يعطى للإنسان مكانة اللائق به كصانع للتاريخ ، ومساهم مساهمة حقيقة فى توجيه الأحداث ، وأن هذا كله لا ينافى الإرادة الإلهية ، وسيرورة قضاء الله وقدره فى هذا الكون .

لم يكن عدم فهم عقيدة القضاء والقدر فهماً سلمياً سبباً فى الخلاف الذى وقع بين المسلمين فحسب ، بل إنه ومع مرور الوقت اصبح يشكل اتجاهاً يبعث السلبية واللافاعلية ، والركون الى التواكل ، والتقليل من قيمة العمل ، وبخاصة ذلك الذى يتعلق بالأمور الحياتية المهمة ، كتلك التى ترتبط بمصير الأمة.

والخلل الذى وقع فى فهم هذه العقيدة انعكست أثاره على الواقع العملى للمسلمين ، فى فترات زمنية معلومة وبخاصة فى العصر الحديث ، الذى عرف أشكالاً جديدة من التحديات الاستعمارية ، وانواعاً من الأخطار والمشكلات الحضارية ، واصبح المسلم مع هذا الفهم الخاطئ ينتظر الخوارق ، ويرنو الى المعجزات ليحل مشكلاته المستعصية ، وذلك بعد تقزيمة للبعد الايمانى ، وتشويهه لمفهوم العبادة ، وتجسد لديه المبدأ الحياتى القائل : ( آكل القوت وانتظر الموت)(47) وأصبح جزءاً من ثقافته.

ما هى النظرة التى يفسر بها الإسلام التاريخ اعتماداً على عقيدة القضاء والقدر ؟ ، هل التاريخ فى نظر الإسلام مجرد أحداث تتعاقب دون ان يكون للإنسان أية مساهمة فى صنع او توجيه هذه الأحداث ؟ أم انه يشارك فى صنعها مشاركة حقيقة ويكون مسؤولاً عنها ؟ وبعبارة أخرى هل التاريخ قضاء وقدر لا يد للإنسان فيه ؟ أم ان الإنسان هو المسؤول الحقيقى عما يجرى فى التاريخ ؟

إن الإجابة عن هذه الأسئلة لا تؤدى الى مواقف نظرية فحسب بل الى نتائج عملية تتصل بحركة الإنسان فى هذه الحياة ، لأن التصور العقدى الذى سينبنى على هذه الإجابة سيكون له أكبر الأثر فى تحديد الإرادة البشرية ، ومواقفها امام المشكلات التى تواجهها فى الحياة ، وإن كان كثير من الناس يعتقدون ان هذه القضية هى قضية نظرية فلسفية ليس لها اى بعد اجتماعى ونفسى فى الواقع ، وهى على العكس من ذلك قضية خطيرة لما ينبنى عليها من تصورات تحدد مواقف الإنسان وحركته فى الحياة.

إننا إذا نظرنا الى التاريخ باعتباره مجرد حوادث تتعاقب دون ما ربط جدلى بينها ، فإن هذه نظرة تؤدى الى نتائج معينة ليست هى التى تنتج عن نظرنا إليه حينما نعتبره سيراً مضطرداً تترتب فيه الحوادث ترتيباً منطقياً كما تترتب عن الأسباب مسبباتها ، فإن النظرة الأولى تؤدى الى تسجيل ما يضطرد من حوداث فى انفسنا ، وفى مذكراتنا على انه من حكم القضاء والقدر اى من حكم لا يد للإنسان فيه ، ولا يسعه امامه سوى الإذعان ومسايرة الظروف أو كما يعبر البعض الاستسلام للواقع ، فهذه النظرة تجلعنا نطأطئ الرؤوس امام الأحداث لأن جهلنا بأسبابها ونتائجها يؤدى بنا الى ان نحنى لثقلها ظهورنا ، فإذا ما وضعتها عن ظهورنا يد الموت ألقتها على كاهل الأجيال من بعدنا . أما نظرتنا الثانية إليه فإنها بدلاً من ان تلقى على اكتافنا ثقل الأحداث ، تجلعنا نحدد إزاءها مسؤولياتنا ، فبقدر ما ندرك اسبابها ، ونقيسها بالمقياس الصحيح ، نرى فيها منبهات لإرادتنا وموجهات لنشاطنا ، وبقدر ما نكشتف من اسرارها نسيطر عليها ، بدلاً من أن تسيطر علينا ، فنوجهها نحن ، ولا توجهنا هى ، لأننا حينئذ نعلم ان الأسباب التاريخية كلها تصدر عن سلوكنا وتنبع من انفسنا(48)

إن الإسلام يفسر التاريخ تفسيراً يتبوأ فيه الإنسان مكانة عظيمة ، باعتباره المنفذ الحقيقى لقضاء الله وقدره فى هذه الأرض ، فالتاريخ هو صناعة بشرية بإرادة الله وعلمه وقدره ، والإنسان المستخلف فى هذه الأرض مكلف بالحركة والنشاط وفق النواميس الإلهية حتى ينسجم مع الكون الذى من حوله ، وحتى يحقق وجوده كإنسان مستحق للتكريم الإلهى.

والمنهج القرآنى واضح فى تحديد المسؤولية البشرية فى صناعة التاريخ ، فقد بينت الآيات أن الإنسان خلق ليعمل وفق منهج محدد وضع له ، أما إذا تجاوز ذلك فسيكون مسؤولاً امام الله وامام التاريخ وأمام البشرية كلها لينال جزاء ما فعل قال تعالى: ( ظهر الفساد فى البر والبحر بما كسبت أيدى الناس ليذيقهم بعض الذى عملوا لعلهم يرجعون) [الروم : 41]

فهذا الفساد الذى ظهر على هذه الأرض وشمل برها وبحرها هو من صنع الناس ، لأنهم هم الخلفاء عليها ، وهم اصحاب الإرادات العاملة فيها ،إن كل ما على هذه الأرض من كائنات إنما تتحرك حركة منبعثة من طبيعتها التى اودعها الله سبحانه وتعالى فيها دون ان تخرج عليها ، وقوله تعالى : ( بما كسبت أيدى الناس ) إشارة الى ان هذا الفساد والاعوجاج الذى ظهر على هذه الأرض هو مما كسبته ايدى الناس ، فهو من صنعهم ، ومن فعل إرادتهم الحرة ، ولهذا فهم محاسبون عليه مؤاخذون به)(49)

ويشغل الحديث عن الأمم السابقة حيزاً كبيراً فى القرآن الكريم ، حتى إنه اخذ مساحة كبيرة تمثل الربع تقريباً ، وذلك راجع لأهمية عرض أحداث التاريخ امام البشر لأخذ العبرة وربط النتائج بالأسباب ، والأشباه بالنظائر ، ولتوجيه الإنسان لمعرفة السنن الإلهية المضطردة فى بناء الحضارات وخرابها ، وفى تقدم الأمم وتخلفها ، ولاعطائه الوقود الروحى الكافى كى يتحرك ويأخذ بالأسباب المتاحة ، والوسائل المتوفرة حتى يحقق مهمة الخلافة وعمارة الأرض التى كلف بها.

وكثيراً ما يأتى قوله تعالى : ( تلك امة قد خلت لها ما كسبت ولكم ما كسبتم ولا تسألون عما كانوا يعملون ) [البقرة :134] فى سياق السرد التاريخى لرسالات الأنبياء التى لم تعرف سوى العمل المتواصل ، والجهد المستمر ، تحقيقاً للنفع ، ودفعاً للضرر ، وربطاً للأرض بالسماء ، والمادة بالروح ، كما فى قوله تعالى : ( وإذ رقع ابراهيم القواعد من البيت واسماعيل ربنا تقبل منا انك انت السميع العليم ) [البقرة : 127] ، وفى قوله تعالى : ( قل اتحاجوننا فى الله وهو ربنا وربكم ولنا اعمالنا ولكم اعمالكم ونحن له مخلصون) [البقرة:139]

وتأتى كلمة الكسب وكلمة العدل وما كان فى معناهما فى سايق حيدث القرآن عن التاريخ لبيان الأهمية الكبرى للجهد البشرى فى صناعة التاريخ ، ولإبعاد فكرة (الجبر) عن الناس حتى لا تأخذ طريقها الى عقولهم وقلوبهم ، فتبعث فيهم السلبية والركون ، وتكبلهم بأغلال العجز والقعود ، قال تعالى : ( يا أيها الرسل كلوا من الطيبات واعملوا صالحاً إنى بما تعلمون عليم) [ المؤمنون :51] ، وقال تعالى : ( ومن آياته خلق السماوات والأرض وما بث فيهما من دابة وهو على جمعهم إذا يشاء قدير وما اصابكم من مصيبة فبما كسبت ايديكم ويعفوا عن كثير )[الشورى : 29 -30] ، وقال تعالى ايضا: ( قالوا أوذينا من قبل ان تأتينا ومن بعد ما جئتنا قال عسى ربكم ان يهلك عدوكم ويتسخلفكم فى الأرض فينظر كيف تعلمون )[ الأعراف : 129]

فالتاريخ هو عمل وكسب ، وحركة ونشاط ، وهو سلسلة من الأسباب والأحداث التى تصنع بجهد البشر ، (وإن صنع الأسباب يكون بالاختيار لا بالحتم ، كما ان الإنسان حين يغفل عن سنن الله ، فإن سنن الله لا تغفل ان تأخذ طريقها دون شعور من الإنسان الغافل ، وحينئذ لن يتمكن الإنسان ان يرى للتاريخ أسباباً وإنما يرى أحداث حتمية ، لا دخل لجهد الإنسان فيها ، فمن هذه النظرة تنشأ (القدرية) ، ويتبين مما قدمنا ان القرىن يؤكد تدخل جهد البشر فى صناعة أحداث التاريخ ، بمقدار وضوح هذه الحقيقة فى آيات القرآن فإنها غامضة بالنسبة للمسلمين(50)

يقول سيد قطب – رحمه الله – فى التفسير الإسلامى للتاريخ : ( هو التفسير الذى جعل ( الإنسان ) – ومن ورائه قدر الله – هو المؤثر الأول فى خط سير التاريخ ، وفى الأطوار التى تنقلب فيها الحياة ، والذى يجعل كل تغيير وكل تطور إنما يبدأ أولاً فى ضمير الإنسان وعقله ، ثم يتخذ طريقه للتحقق فى عالم الواقع ، باعتبار أن الإنسان هو الكائن المستخلف فى هذه الأرض ، الذى ينفذ قدر الله فى الأرض ، وفى الحياة الأرضية من خلال نشاطه الشعورى والحركى . . . والدليل على هذا هو الواقع التاريخى الذى أنشأه الرسول صلى الله عليه وسلم(51)

وقال فى مكان أخر مبينا أهمية الجهد البشرى فى صنع التاريخ : ( هناك حقيقة أولية عن طبيعة هذا الدين وطريقة عمله فى حياة البشر ، حقيقة أولية بسيطة مع بساطتها كثيراً ما تنسى ، أو لا تدرك ابتداء . فينشأ عن نسيانها او عدم إدراكها خطأ جسيم فى النظر الى هذا الدين : حقيقة الذاتية وواقعه التاريخى ، حاضره ومستقبله كذلك ، إن البعض ينتظر من هذا الدين مادام منزلاً من عند الله ، إن يعمل فى حياة البشر بطريقة سحرية خارقة غامضة الأسباب ، ودون اى اعتبار لطبيعة البشر ولطاقاتهم الفطرية ، ولواقعهم المادى فى أية مرحلة من مراحل نموهم ، وفى أية بيئة من بيئاتهم ، وحين لا يرون أنه يعمل بهذه الطريقة ، وحين يرون ان الطاقة البشرية المحدودة ، والواقع المادى للحياة الإنسانية ، يتفاعلان معه فيتأثران به – فى فترات – تأثيراً واضحاً ، على حين انهما فى فترات اخرى يؤثران تأثيراً مضاداً لاتجاهه . . . وحين يرون هذا فإنهم يصابون بخيبة امل لم يكونوا يتوقعونها ، أو يصابون بخلخلة فى ثقتهم بجدية لمنهج الديتى وواقعيته ، او يصابون بالشك فى الدين إطلاقاً، وهذه السلسلة من الأخطاء تنشأ كلها من خطأ واحد اساسى ، هو عدم إدراك هذا الدين وطريقته او نسيان هذه الحقيقة البسيطة الأولية(52) .

والقضية المهمة التى يشير إليها سيد قطب فى ثنايا كلامه هى ان تعطيل الطاقة البشرية ، والتقليل من أهمية الجهد البشرى فى صناعة التاريخ من شأنهما ان يساهما فى إنعدام الفاعلية عند الناس وبخاصة أولئك الذين يحملون رسالة تغييرية حضارية لإسعاد البشرية.

إن فهم أحداث التاريخ بهذا التاريخ بهذا الشكل الذى يتدخل فيه جهد البشر ، يساهم مساهمة كبيرة فى إيجاد شرط اساسى من شروط الفعالية ، وذلك لأن ذهه النظرة لا تؤدى الى نتائج نظرية فحسب ، بل تتداخل فى تكييف سلوك الإنسان امام الأحداث ، وتضع الإنسان فى المكان المناسب له فى هذا الكون(53) .

وفى السنة النبوية منهج واضح يبين العلاقة بين التاريخ وحركة الإنسان فيه ، وعلى غرار القرآن الكريم يضع الرسول صلى الله عليه وسلم الإنسان فى مكان يليق به كمستخلف فى هذه الأرض ، ونراه يوجهه نحو العمل وبذل الجهد لصناعة التاريخ الذى يرضى عنه الله ورسوله صلى الله عليه وسلم وينهاه عن الكساد والتواكل ، والركون الى فلسفات العجز التى تفسر القضاء والقدر تفسيراً خاطئاً يجعل الإنسان ريشة فى مهب الريح ، جاء فى صحيح مسلم ان رسول الله صلى الله عليه وسلم كان ذات يوم جالساً وفى يده عود ينكت به ، فرفع رأسه فقال : ( ما منكم من نفس إلا وقد علم منزلها من الجنة والنار ). وقالوا : يا رسول الله : فلم نعمل ؟ ألا نتكل ؟ قال : لا اعملوا فكل ميسر لما خلق له )(54)

وفى السنن انه ( قيل : يا رسول الله : أرأيت أدوية نتداوى بها ، ورقى نسترقى بها ، وتقاة نتقيها ، هل ترد من قدر الله شيئاً ؟ ، فقال : ( هى من قدر الله) . ولهذا قال العلماء : ( الالتفات الى الأسباب شرك فى التوحيد ، ومحو الأسباب أن تكون اسباباً تغير فى وجه العقل ، والإعراض عن الإسباب بالكلية قدح فى الشرع)(55)

إن إنكار الأسباب الذى مؤداه التقليل من قيمة العمل هو قدح فى الشرع كما يقول ابن تيمية – رحمه الله – وهو إضافة الى ذلك جهل الشرع يجلب عجزاً يقيد النشاط ويعطل الحركة ، ويؤدى الى فقد الوجود الاجتماعى ، روى ابو داود فى سننه ان النبى صلى الله عليه وسلم قضى بين رجلين فقال المقضى عليه : حسبى الله نعم الوكيل ، فقال النبى صلى الله عليه وسلم ( إن الله يلوم على العجز ، ولكن عليك بالكيس ، فإن غلبك امر فقل : حسبى الله ونعم الوكيل)(56)

فهذا الرجل الذى وجهه الرسول صلى الله عليه وسلم الى الاعتماد على وسائله المتاحة ، والتحرك ضمن الدائرة التى يملك فيها حرية الحركة باختياره وإرادته ، وأمره بترك العجز ، فإذا فقد هذه الوسائل بعد تقديمه للجهد والطاقة المطلوبين اصبح ضمن الدائرة التى يملك فيها حرية الحركة باختياره وإرادته ، وأمره بترك العجز ، فإذا فقد هذه الوسائل بعد تقديمه للجهد والطاقة المطلوبين اصبح ضمن دائرة أخرى لا يملك فيها سوى التسليم والخضوع لقضاء الله تعالى ، وفى هذا الموقف ينسجم قوله (حسبى الله ونعم الوكيل) مع عمله وفعله.

وروى ابو عبد الرحمن السلمى قال : حدثنا الذين كانوا يقرئوننا القرآن ، كعثمان بن عفان ، وعبد الله بن مسعود ، وغيرهما : أنهم كانوا إذا تعلموا من النبى صلى الله عليه وسلم عشر آيات لم بجاوزوها حتى يتعلموا ما فيها من العلم والعمل ، قالوا : فتعلمنا القرآن والعلم والعمل جميعاً(57)

لقد كان العمل عنصرا اساسياً فى التربية النبوية لكونه عاملاً يجسد القيم الى حقائق واقعية ، ولأهميته الأكيدة فى عملية البناء والتكوين الحضارى ، ومن هنا حرص الرسول صلى الله عليه وسلم على ربط المفاهيم بالعمل ، والعقائد بالسلوك ، وكان هذا كله منبثقاً من فهمه للمنهج القرآنى الذى يرى ان التاريخ صناعة بشرية بقضاء الله وقدره ، وأن الإنسان هو المنفذ الحقيقى للقضاء والقدر ، وأنه يجب عليه ان يعمل بفاعلية مع له لديه من وسائل لتحقيق المنافع ، وجلب المصالح التى يقتضيها الإستخلاف وعمارة الأرض.

2. قيمة الإنسان فى الإسلام :

إن موضوع (قيمة الإنسان فى نظر الإسلام ) له علاقة وطيدة بالموضوع السابق ( التفسير الإسلامى للتاريخ ) لأن صناعة التاريخ تقتضى وجود صانع فعال ، ومحرك رئيس للأحداث ، وهو الإنسان الذى يختلف حضوره الاجتماعى من مجتمع الى مجتمع ، ومن بيئة الى بيئة حسب تكوينه الثقافى ، وحسب التوجيه الذى يخضع له.

فالإنسان باعتباره صانعاً للتاريخ او باعتباره معطلاً له ، هو العنصر والمقوم الحضارى الأول الذى اهتمت به جميع الرسالات الروحية ، والفلسفات المادية قديماً وحديثاً ، فهو البانى للحضارات ، والمؤثر الحقيقى فى سير المدنيات ، وهو ايضا المتسبب الرئيس فى جميع المشكلات التى تواجه الأمم والمجتمعات.

إن مشكلة كل شعب هى فى جوهرها مشكلة الإنسان بالدرجة الأولى ( ولا يمكن لشعب ان يفهم او يحل مشكلته ما لم يرتفع بفكرته الى الأحداث الإنسانية ، وما لم يتعمق فى فهم العوامل التى تبنى الحضارات او تهدمها ، وما الحضارات المعاصرة ، والحضارات الضاربة فى ظلام الماضى ، والحضارات المستقبلة إلا عناصر للملحمة الإنسانية منذ فجر القرون الى نهاية الزمن ، فهى حلقات لسلسلة واحدة تؤلف الملحمة البشرية منذ أن هبط آدم على الأرض الى آخر وريث له فيها ، ويا لها سلسلة من النور ، تتمثل فيها جهود الأجيال المتعاقبة فى خطواتها المتصلة فى سبيل الرقى والتقدم(58)

وإذا كان الإنسان هو المؤثر الحقيقى فى سير احداث التاريخ ، فقد اختلفت المذاهب والنظريات الدينية والوضعية وغيرها من الفسلفات البشرية فى كيفية التعامل مع هذا الكائن المتميز ، وكيفية توجيهه التوجيه الذى يحقق له قيمته الاجتماعية .

وتميزت النظرة الإسلامية عن غيرها من النظريات والمذاهب الأخرى ، حيث رأت فى الإنسان كائناً مستحقاً للتكريم الإلهى منذ الخلق الأول ، وكائناً له قيمة فى الحياة بما يقوم به من دور اجتماعى بناء يساهم فى البناء الحضارى ، ويحقق السمو للنوع البشرى ، وإذا تخلف هذا الإنسان عن اداء دوره المنوط به فإن الإسلام ينزله من قمة التشريف والتكريم الى اسفل سافلين ، وهذا ما دلت عليه الآيات فى قوله تعالى : ( لقد خلقنا الإنسان فى احسن تقويم ثم رددناه اسفل سافلين إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات فلهم أجر غير منون) [ التين : 4 -6 ]

فالإنسان فى نظر الإسلام له قيمتان : ( قيمته كإنسان ، وقيمته ككائن اجتماعى ، قيمة توهب له فى طينته بما وضع الله فيها من تكريم ، وليس لظرف من الظروف ، ولا لأحد من الناس ان يغير منها شيئاً كما انه لا يمكن لآى ظرف ان يغير شيئاً من خصائص عينة الزنك ، وقيمة اخرى تعطى له بعمليات اجتماعية معينة ، تماما كما تعطى العمليات الصناعية لعينة من الزنك فيمتها العملية ، وبعبارة أخرى إن الأنسان يمثل معادلتين , معادلة تمثل جوهره كإنسان صنعه من أثقن كل شىء صنعه , ومعادلة ثانية ثمثله ككائن اجتماعى يصنعه المجتمع ؛ ومن الواضح أن هذه المعادلة الأخيرة هى التى تحدد فعالية الإنسان ، كإنسان فى جميع أطوار التاريخ لا يتغير فيه شئ ، بل تتغير فعاليته من طور الى طور(59) .

إن القيمة الأولى هبة من الله , لكن ليس لها علاقة بفاعلية الإنسان فى الأرض ، لأنها تمثل تكريماً إلهياً يعطى الإنسان الاستعداد الضرورى لأداء الدور ، ويبقى العمل بفاعلية لأداء هذا الدور منوطاً بالإنسان نفسه ، فقد خلق الإنسان مزوداً بالعقل ، ومسلحاً بالإرادة ، وفوق ذلك كله سخر له الكون ، ومهدت له الأرض ، ووضعت أمامه السنن ، كى يؤدى وظيفته ، قال تعالى : ( لقد خلقنا الإنسان فى أحسن تقويم ) [التين :4] ، وقال تعالى ايضا : ( ولقد كرمنا بنى آدم وحملناهم فى البر البحر ورزقناهم من الطيبات وفضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلاً ) [الأسراء : 70] ، وقال تعالى ايضاً : ( ولقد مكناكم فى الأرض وجلعنا لكم فيها معايش قليلاً ما تشكرون) [الأعراف : 10]

أما القيمة الثانية فهى التى تزود الإنسان بالفاعلية والعزم لأداء دوره ووظيفته ، لأنها قيمة تتعلق بالرسالة الاجتماعية التى يقوم بها فى الحياة ، ومن هنا قوم الإسلام الإنسان على أساسها ، وربط مصيره الدنيوى والأخروى بها ، قال تعالى : ( والعصر إن الإنسان لفى خسر إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر) [ العصر : 1- 3]

إن الإنسان من خلال هذه الأبيتا ليس له قيمة تذكر ، بل هو فى خسر وضلال حتى يؤمن ويعمل صالحاً ويتزود بالأخلاق والقيم المشروعة ، وهذا كله يعبر عنه بالحضور الاجتماعى الذى يحقق مصلحة الإنسان ومصلحة مجتمعه ، فالإنسان مكلف بأداء رسالة فى مجتمع ، وإذا تخلى عن هذه الوظيفة فقد أبرز المقومات فى البناء ولن تفيده شيئاً فى حياته ومسيرته الحضارية .

ويأخذ حديث القرآن عن رسالة المسلم الاجتماعية طابع التنوع والإسهاب ، لأهمية هذا المبدأ فى بناء التصور الإسلامى عن الإنسان وعلاقته بالكون الذى من حوله ، فكثيراً ما يعرض الإيمان مقروناص بالعمل ، والعقيدة ممزوجة بالسلوك ، ويرفع فى اثناء ذلك من قيمة العمل الصالح الذى يمثل الوظيفة الاجتماعية ، ويجعله سبباً للنجاح الدنيوى والأخروى ، وأساساً للاستحقاق والرفعة ، قال تعالى : ( كنتم خير امة اخرجت للناس تأمرون بالمعروف ، وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله ) [ آل عمران : 110] وقال تعالى ايضا : ( ولتكن منكم امة يدعون الى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وأولئك هو المفلحون) [ آل عمران : 104]

والمعروف فى أعم صورة ، والمنكر فى اشمل معانية ، يكونان جوهر الأحداث التى تواجه المسلم يومياً كما يكونان لب التاريخ(60)، ومن هنا حرص القرآن على تذكير المسلم برسالته دائماً ، وحثه على اداء هذه الرسالة الاجتماعية بفعالية ليكون عنصراً إيجابياً يحقق الخير والنفع للبشرية فى جميع مستويات الحياة ، قال تعالى : ( يا يحيى خذ الكتاب بقوة ) [ مريم : 12] وقال تعالى ايضا: (فاستبقوا الخيرات) [ البقرة :148] وقال تعالى ايضاً : ( وسارعوا الى مغفرة من ربكم ) [ آل عمران:133] .

وفى السنة النبوية أحاديث كثيرة تبين أهمية البعد الاجتماعى لدور المسلم ورسالته الحضارية ، فكثيراً ما وجه الرسول صلى الله عليه وسلم المسلم لأداء وظيفته بتقديم الجهد المطلوب ، والعمل الصائب ، وفضل صلى الله عليه وسلم المسلم الفعال على المسلم غير الفعال ، قال عليه الصلاة والسلام : ( المؤمن القوى خير واحب الى الله من المؤمن الضعيف ، وفى كل خير ، أحرص على ما ينفعك واستعن بالله ولا تعجز)(61) وقال صلى الله عليه وسلم : ( من رأى منكم منكراً فليغيره بيده ، فإن لم يتسطع فبلسانه فإن لم يستطع فبقلبه ، وذلك أضعف الإيمان)(62)

وقيمة العمل فى المنهج النبوى – أيضاً – لا تضاهيها قيمة ، لأن العمل هو الحركة فى الحياة ، وهو الذى يجسد الحقائق النظرية فى قوالب تطبيقية تعود بالخير والنفع على الإنسان ومجتمعه ، قال صلى الله عليه وسلم : ( مثل ما بعثنى الله به من الهدى والعلم ، كمثل غيث أصاب أرضاً فكانت منها طائفة قبلت الماء فأنبتت الكلآ والعشب الكثير ، وكان منها أجادب امسكت الماء فنفع الله بها الناس ، فشربوا ، وسقوا ، وزرعوا ، وأصاب منها طائفة أخرى ، إنما هى قيعان لا تمسك ماء ، ولا تنبت كلأ ، فذلك مثل من فقه فى دين الله ، ونفعه ما بعثنى الله به ، فعلم وعمل . . . ومثل من لم يرفع بذلك رأساًًَ)(63)

وهو المنهج الذى تبناه أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم ، فقد روى عن عبد الله بن عمر – رضى الله عنهما – أنه قال : كان الفاضل من اصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فى صدر هذه الأمة ، لا يحفظ من القرآن إلا سورة أو نحوها ، ورزقوا العمل بالقرآن ، وأن آخر هذه الأمة يقرأون القرآن ، منهم الصبى والأعمى ولا يرزقون العمل به )(64)

ويظهر هذا المبدأ بوضوح فى الحديث الذى رواه الإمام احمد فى مسنده قال : ذكر النبى صلى الله عليه وسلم شيئاً فقال : ( وذلك عند ذهاب العلم) قلنا : يا رسول الله ، كيف يذهب العلم ، ونحن قرأنا القرآن ، ونقرئه أبنائنا ، وأبناؤنا يقرئونه أبنائهم ؟ فقال : ( ثكلتك أمك يا ابن لبيد ، إن كنت لأراك من أفقه رجل فى المدينة ، أوليست هذه اليهود والنصارى بأيديهم التوراة والإنجيل ، ولا ينتفعون مما فيها بشئ)(65)

إن العجز المقصود فى هذا الحديث هو (عدنم القدرة على الإفادة من المنهج النبوى ، فى مجال التغيير والبناء الحضارى . . . والأزمة الحقيقة التى نعانى منها ، أو الأزمة الفكرية هى أزمة فهم عملى ، وأزمة تعامل مع قيم الكتاب والسنة ، وتحويلها الى برامج ، من خلال مسيرة السيرة النبوية ، أو بكلمة مختصرة : أزمة تعامل مع معرفة الوحى بشكل عام ، أو استيعاب المنهج النبوى فى البناء والتغيير )(66).

والإنسان حين يفقد قيمته الإجتماعية يتحول من إنسان فعال ، الى كائن عاجز لا يحسن استثمار الوسائل التى بين يديه فى تحصيل احسن النتائج ، لأنه فقد اساساً حسن التعامل مع السنن الإلهية ، ويصبح حينئذ عالة على المجتمع(67) ، وهذا العجز هو الذى تشير إليه الاية القرآنية : ( أفمن يمشى مكباً على وجهه أهدى أمن يمشى سوياً على صراط مستقيم) [ الملك : 22]

لقد ذكرنا – فيما سبق – أن البعد الاجتماعى فى حياة الإنسان هو الذى يمنحه الفاعلية والتوتر اللازمين للقيام بدوره ورسالته ، فنراه ينقلب من إنسان خارج التاريخ الى إنسان صانع للتاريخ ، ويبقى السؤال الملح ، ما هى الظروف التى تجعل المجتمع يمنح الفرد القيمة التى تبعث فيه الفاعلية ؟

يقول مالك بن نبى – رحمه الله - : ( إن المجتمع يكون احياناً فى حالة ركود وكساد ، ولو أننا قد حللنا فى مثل هذه الحالة الوضع النفسى الذى يكون عليه الفرد فإننا نراه يتمتع بصورة واضحة بشعور الاستقرار ، فلا يحتويه اى قلق ، وبالتالى فإنه لا يبذل أى محاولة لتغيير الوضع من حوله : إذ تسير الأشياء والحوادث دونما تدخل من إرادته ، وهنا يصبح التاريخ سيلاً يجرفه الى حيث لا يدرى مستسلماً له الاستلام المطلق ، فإذا ما حدثت فى المجتمع حالة جديدة غيرت هذه الأوضاع كلها ، فإن موقف الإنسان هنا يتغير امام الحوداث والأشياء ، وبالتالى يتغير مجرى التاريخ)(68)

وحالة القلق هذه التى يتحدث عنها مالك هى ظاهرة إيجابية ضرورية فى اى إقلاع حضارى ، فهى تشبه التيار الكهربائى الذى ينطلق فى الجهاز السليم فيبعث الحياة فى كامل اجزائه ، اما كيف نصل الى هذا المستوى من القلق الذى سيكون سبباً فى الفاعلية التى تشمل جميع افراد المجتمع ، فهذا ما سنحاول الإجابة عنه فى فصل قادم – إن شاء الله تعالى .

ويبقى ان نشير الى ان السيرة النبوية تمثل نموذجاً لقيمة المسلم الفردية ، وقيمته الاجتماعية ، فالرسول صلى الله عليه وسلم قبل البعثة لم يكن سوى إنسان ضال ، أى بلا رسالة فى الحياة ( ووجدك ضالاً فهدى) [ الضحى :7] ، وأما ما ذكر التاريخ من قيم أخلاقية تجسدت فى شخصه صلى الله عليه وسلم فلم يكن لها سوى بعد فردى ، لقد كان إنساناً خارج التاريخ حتى إن كتب السير والتاريخ حتى ان كتب السير والتاريخ اعطتنا صورة مقتضبة لفترة تقدر بأربعين سنة ، بل انها فى كثير من الأحيان تعجز عن ذكر أية أحداث خلال سنوات كثيرة من حياة الرسول صلى الله عليه وسلم(69) ولا تحسبن ان هذا يعد نقصاً فى السيرة النبوية ، ولا تقصيراً من الناقلين والمؤرخين ، لأن السنن الإلهية تجعل ميلاد العظماء ساعة يحملون رسالة التغيير والبناء فى الحياة ومن هنا يبدأ التاريخ.

لقد دخل الرسول صلى الله عليه وسلم التاريخ ساعة كلف بالرسالة فأصبح بذلك إنساناً آخر يتحرك فى مجتمع ، يربى ويوجه ، ويقوم ويبنى ، ويسعى بكل ما لديه من طاقة فى سبيل تحقيق رسالته فى الحياة ، قال تعالى : ( يا أيها المدثر قم فأنذر) [ المدثر : 1 ، 2] ، وقال تعالى : ( إنا سنلقى عليك قولاً ثقيلاً) [ المزمل : 5]

فالقيام لأداء اعباء الرسالة التى عبر عنها فى الآية الكريمة بالقول الثقيل ، يحتاج الى جهد كبير ، وعمل دؤوب وفاعلية متوقدة ، وهذه هى الأبواب التى يدخل منها الى التاريخ.

وقد كان الرسول صلى الله عليه وسلم بعد حمل الرسالة مثالاً رائعاً للإنسان المستخلف ذى القيمة الاجتماعية التى تحقق الخير والنفع للمجتمع ، وللإنسان العامل الفعال الذى يعمل للدنيا والأخرة بثقة وعزم ، واضعاً امام عينية هداية السماء ، وإعانة الله ، وبين يديه اسباب النصر والنجاح ، حتى ترك لنا تاريخاً شهد له الأعداء قبل الأصدقاء بالفضل والخيرية ، واستحق صلى الله عليه وسلم بذلك تزكية الله له عل مر القرون والأجيال ( لقد كان لكم فى رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر وذكر الله كثيراً) [الأحزاب : 21]

3. فاعلية الرسول صلى الله عليه وسلم

يعد الأنموذج الإسلامى الذى مثله الرسول صلى الله عليه وسلم وصحابته من بعده خير مثال يمكن ان تنطلق منه لتفسير الظروف الاجتماعية والنفسية التى حدثت لتلك الفئة المؤمنة ، فى بيئة لم تكن تملك من مبررات الانطلاق ، وعوامل النهضة ، وشروط التحضر شيئاً ، حتى حدثت تلك ( الثورة) التى هزت المشاعر الجامدة ، وفجرت الطاقات المكبلة ، فانطلقت النفوس مزودة بفاعلية فى الفكر والعمل لتغير مجرى التاريخ ، ولتمد الإنسانية بفيض من القيم المادية والروحية مشكلة الأنموذج الحضارى ، الذى يتطلع إليه كل إنسان سليم القلب والروح.

لقد كانت الفاعلية من أبرز الخصائص الإجتماعية والنفسية للمجتمع الإسلامى فى تلك الفترة ، وكانت توجيهات القرآن ، وتطبيقات الرسول صلى الله عليه وسلم هى الوقود الذى يمنح النفوس المؤمنة تلك القوى الانفجارية التى غيرتها فجأة من حال الى حال ، من حال الركود الى حالة الحركة ، ومن حال الجمود والسبات الى حال العمل والنشاط.

وما من ريب أن تأثير القرآن كان له اكبر الأثر فى حدوث التغيير الذى غير مسار التاريخ ، وبخاصة انه اختار الزمان والمكان المناسبين ، ونزل فى بيئة تحترم الكلمة ، وتقدس الأدب ، فكان أن (سحر العرب منذ اللحظة الأولى ، سواء منهم فى ذلك من شرح الله صدره للإسلام ، ومن جعل على بصره منهم غشاوة ، وإذا تجاوز عن النفر القليل الذين كانت شخصية محمد صلى الله عليه وسلم وحدها هى داعيتهم الى الإيمان فى أول الأمر ، كزوجة خديجة ، وصديقه ابى بكر ، وابن عمه على ، ومولاه زيد وأمثالهم ، فإننا نجد القرآن كان العامل الحاسم أو أحد العوامل الحاسمة فى إيمان من آمنوا أوائل أيام الدعوة(70) قال تعالى : ( وكذلك أوحينا إليك روحاً من أمرنا ما كنت تدرى ما الكتاب ولا الإيمان ولكن جعلناه نوراً نهدى به من نشاء من عبادنا وإنك لتهدى الى صراط مستقيم) [ الشورى :52]

وتسمية القرآن بالروح لها دلالات اجتماعية ونفسية ، على اعتبار ان الروح هى التى تمنح الحياة للجسد ،ولا قوام له إلا بها ، وكذلك القرآن الذى يبعث فى النفوس روحاً فيهبها الحياة ويحييها من جديد( أو من كان ميتاًَ فأحييناه وجعلنا له نوراً يمشى به فى الناس)[الأنعام : 122] الى جانب وجود الرسول صلى الله عليه وسلم الاجتماعى كان له دور كبير فى إيمان واستجابة كثير من الناس قال تعالى : ( ولو كنت فظاً غليظ القلب لانفضوا من حولك) [آل عمران: 159] وقال ايضا ( محمد رسول الله والذين معه اشداء على الكفار رحماء بينهم) [الفتح :29]

لقد كان صلى الله عليه وسلم بتطبيقه العملى لتوجيهات الوحى يعلم ان الرسالة التى كلف بتبليغها ، هى رسالة تحتاج الى جهد وعمل ، وقيام وحركة ، وعلم انه مسؤول عن التلبيغ ومقتضياته ، فلم يلبث ان تسلح بسلاح الفاعلية وانطلق بإيمانه وعقيدته يصنع التاريخ مع الفئة التى آمنت برسالته ، واقتنعت بمبدئه ، كانت الأهداف التى يصبو إليها صعبة المنال – بل مستحيلة فى نظر العيان الساذج – ولكن صدق المبدأ ، وقوة الحرص عليه ، أبعدتا العجز والكسل عن ان يكون لهما طريق الى الحسن والشعور وبهذه الفعالية المكتسبة من تعلميات الوحى استطاع الرسول صلى الله عليه وسلم بتأييد من الله ان يحقق مع الفئة القليلة التى كانت معه النصر تلو النصر ، والنجاح تلو النجاح حتى ظن كثير من الناس ممن يجهل سنن الله فى الكون ان الخوارق والمعجزات تدخلت لتعمل بطريقتها السحرة الخارقة فى صنع الأحداث ، وتوجيه التاريخ ، الذى عرفته تلك الفترة من سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم .

إن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يقدم سوى الجهد البشرى المطلوب ، ولم يعمل وإلا وفق سنة الله فى التغيير والبناء ، فقد اقتضت هذه السنة أن من يعمل ويجتهد يصل الى شئ ( من كان يريد الحيوة الدنيا وزينتها نوف إليهم اعمالهم فيها وهم فيها يبخسون)[هود : 15] . . وإن كانت سنته قد اقتضت كذلك ان يضيع هذا الشئ فى النهاية ما لم يسر فى الطريق الذى رسمه الله(71)

وقد تحدثنا ـ فيما سبق ـ أن الإسلأم يحرم الإنسان بقيمته الإجتماعية لإنه خليفة الله فى الأرض , فكهذا اقتضت إرادة الله , وهكذا فهم الرسول عن ربه بأن الإنسان هو القوة العاملة فى هذا الوجود , وهو الذى يغير الواقع , وهو الذى ينشىء النظم ويقوم الأوضاع , فهو القوة الإيجابية فى الأرض ذات اللحظة التى يسلم كيانه كله لله , بل من هذا الإسلام الكامل لله , يستمد الإنسان طاقته الإيجابية كلها فى الأرض(72) ومن هذا الفهم تكتسب صلى الله عليه وسلم فاعليته التى تجسدت فى عمله الصائب المخلص.

إن المتأمل فى السيرة النبوية فى كل حلقة من حلقاتها يدرك مدى الجهد الذى بذله الرسول صلى الله عليه وسلم فى سبيل انجاح رسالته ، وتجلى ذلك واضحاً فى جميع المستويات الدينية والدنيوية ، قال الرازى : (إنه عليه السلام تحمل فى اداء الرسالة انواع المشاق والمتاعب ، فلم يتغير عن المنهج البتة ، ولم يطمع فى مال أحد ، وفى جاهه ، بل صبر على تلك المشاق والمتاعب ولم يظهر فى عزمه فتور ، ولا فى اصطباره قصور(73).

وهذا هو الجهاد بمعناه الواسع الذى ورد فى قوله تعالى : ( وجاهدوا فى الله حق جهاده هو اجتباكم وما جعل عليكم فى الدين من حرج) [الحج :78] ، وهو بمعنى : ( استفراغ الطاقة لتحقيق الأهداف التى توجه إليها الرسالة الإسلامية فى ميادين الحياة الفكرية والاجتماعية والاقتصادية والعلمية والعسكرية وغيرها فى أوقات السلم والحرب سواء . . . فهو : ( تكنولوجيا الإسلام) التى توفر العمل والإنتاج فى أوقات السلم ، والمنعة فى أوقات العدوان(74)

فالجهاد ليس مقصوراً على (القتال) فقط – وقد ترسب فى اذهان كثير من المسلمين اليوم ان الجهاد هو القتال بالسيف – بل هو نوع من الفاعلية التى تشمل جميع ميادين الحياة ،وهو الشئ الذى تمثل فى سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم ، منذ اليوم الذى كلف فيه بأداء الرسالة ، يقول ابن قيم الجوزية – رحمه الله – فى هديه صلى الله عليه وسلم فى الجهاد : ( لما كان الجهاد ذروة سنام الإسلام وقبته ، ومنازل أهله أعلى المنازل فى الجنة ، كما لهم الرفعة فى الدنيا ، فهم الأعلون فى الدنيا والآخرة ، كان رسول الله صلى الله عليه وسلم فى الذروة العليا منه ، واستولى على انواعه كلها ، فجاهد فى الله حق جهاده بالقلب ، والجنان ، والدعوة ، والبيان ، والسيف ، والسنان ، وكانت ساعاته موقوفة على الجهاد بقلبه ، ولسانه ، ويده ، ولهذا كان أرفع العالمين ذكراً ، وأعظم عند الله قدراً(75)

ثم يتحدث ابن القيم عن جهاده صلى الله عليه وسلم خلال مسيرة الدعوة ، ويورد صوراً حية كثيرة تدل كلها على الفاعلية المتوهجة التى كان يتميز بها صلى الله عليه وسلم ومدى صبره وقوة بأسه فى مواجهة المشكلات التى تعترض طريق الرسالة.

عن جابر ان النبى صلى الله عليه وسلم لبث بمكة عشر سنين يتبع الناس فى منازلهم فى المواسم ، ومجنة ، وعكاظ ، يقول : ( من يؤوينى؟ من ينصرنى ، حتى أبلغ رسالات ربى ، وله الجنة ، فلا يجد أحداً ينصره ولا يؤويه ، حتى ان الرجل ليرحل من مضر او اليمن الى ذى رحمه ، فيأتيه قومه فيقولون له : ( أحذر غلام قريش لا يفتنك ، ويمشى بين رجالهم ويدعوهم الى الله عز وجل ، وهم يشيرون إليه بالأصابع ، حتى بعثنا الله من يثرب ، فيأتيه الرجل منا فيؤمن به ويقرئه القرآن ، فينقلب الى اهله ، فيسلمون بإسلامه ، حتى لم يبق دار دور الأنصار إلا وفيها رهط من المسلمين يظهرون الإسلام ، وبعثنا الله إليه ، فأتمرنا واجتمعنا وقلنا : حتى متى رسول الله صلى الله عليه وسلم يطرد فى جبال مكة ويخاف ، فرحلنا حتى قدمناه عليه الموسم ، فواعدنا بيعة العقبة ، فقال له عمه العباس : يا ابن أخى . ما ادرى ما هؤلاء القوم الذين جاؤوك ، إنى ذو معرفة بأهل يثرب ، فاجتمعنا عنده من رجل ورجلين ، فلما نظر العباس فى وجوهنا ، قال : هؤلاء قوم لا نعرفهم ، هؤلاء أحداث ، فقلنا : يا رسول الله علام نبايعك ؟ قال : ( تبايعونى على السمع والطاعة ، فى النشاط والكسل ، وعلى النفقة فى العسر واليسر ، وعلى الأمر بالمعروف ، والنهى عن المنكر ، وعلى ان تقولوا فى الله لا تأخذكم لومة لائم ، وعلى ان تنصرونى إذا قدمت عليكم ، وتمنعونى مما تمنعون منه أنفسكم وأزواجكم وأبناءكم ولكم الجنة)(76)

فهذا نموذج واحد من سيرته صلى الله عليه وسلم المليئة بالعطاء والجهد ، والفاعلية والحزم ، وقد اخترناه فى هذا المقام للدلالة على جوانب من جهاده وحرصه على التزام انصاره واتباعه بالقيم والمبادئ التى يتبناها كما هو من ظاهر فى شروط البيعة مع الأنصار ، فقد اشترط عليهم السمع والطاعة والإنفاق لتحقيق الوحدة والتكامل فى شبكة العلاقات الاجتماعية ، وطلب منهم القيام بواجب الجهاد الذى يتمثل فى الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر ، وقول الحق ، ونصرة الرسول صلى الله عليه وسلم ، وكل هذا يمثل جوهر الأحدث اليومية التى تحقق للمجتمع تماسكه واستقراره ، ورضوخه لمنهج الإسلام فى عمارة الأرض ، وإسعاد البشرية.

ونخلص من هذا البحث الى ان فاعلية الرسول صلى الله عليه وسلم حقيقة تاريخية نتج عنها أبرز الحضارات التى عرفها التاريخ البشرى ، من حيث تميزها فى جميع المستويات ، ومن حيث ربطها بين المادة والروح ، والدنيا والأخرة، وإعطاء الإنسان المكانة التى يستحقها ، وان الواجب الذى ينتظر ابناء الأمة الإسلامية اليوم هو الاقتداء بالرسول صلى الله عليه وسلم فى هذه القيم التى تبنى الحضارات ، وتصنع التاريخ ، وبخاصة فى مبدأ الفاعلية الذى يعد فى واقعنا المعاصر أحد الأسباب الأساسية فى نهضة أية أمة .

إن الاقتداء بالرسول صلى الله عليه وسلم سينتج عند ابناء الأمة المبررات الكافية للعمل والحركة لأداء رسالتهم الحضارية فى هذه الحياة وسيرته صلى الله عليه وسلم ينبغى ان تمتزج بعقولهم وقلوبهم لما فيها من معالم هادية ، يقول محمد عبد الله دراز – رحمه الله -: ( ما ظنك بهذه الحياة النبوية التى تعطيك فى كل حلقة من حلقاتها مرآة صافية لنفس صاحبها ، فتريك باطنه من ظاهره ، وتريك الصدق والإخلاص ماثلاً فى كل قول من أقواله ، وكل فعل من افعاله ، بل كان الناظر إليه إذا قويت فطنته ، وحسنت فراسته ، يرى اخلاقه العالية تلوح فى محياه ولو لم يتكلم او يعمل (77)

4. فاعلية الجيل الفريد :

ترك رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد وفاته جيلاً فريداً من البشر اجتمعت فيهم جميع خصائص الخيرية والفضل ، والوسطية والعدل ، وكان قرنهم خير القرون ، وجيلهم من احسن الاجيال التى عرفها التاريخ الإسلامى ، فقد قال صلى الله عليه وسلم : ( خير القرون قرنى ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم(78)

وتميز هذا الجيل من الصحابة ، واختصاصهم بالخيرية والفضل فى الزمان والمكان ، امر افرزته اسباب كثيرة لم تتوفر لغيرهم من الأجيال ، نذكر منها وجود النبى صلى الله عليه وسلم بشخصه بينهم ، فقد كان اسوتهم فى كل شئ ، وكانوا يستمدون من حياته وشخصيته كل الصفات والقيم التى تكون شخصية المسلم ، ولعل من ابرز تلك الصفات فاعليته وحرصه الشديد على اداء دوره ورسالته فى هذه الحياة ومن هنا نشأ هذا الجيل وهو يملك رصيداً حياً من مبررات الانطلاق والحركة التى أخذها وتربى عليها فى مدرسة النبى صلى الله عليه وسلم.

وإن اقتناع الصحابة برسالة نبيهم صلى الله عليه وسلم الذى نشأ عنه ذلك الانطلاق الحضارى الكبير فى التاريخ الإسلامى ، يعد عاملاً اساسياً فى توفير البناء النفسى الكافى الذى سيعطى النفوس مبررات الحركة لعلم شئ له قيمة فى الحياة.

وهذا البناء النفسى الذى يعد شرطاً ضروياً للفاعلية استمده الصحابة من توجيهات القرآن ، وتطبيقات الرسول صلى الله عليه وسلم وقد انسجم مع عنصر آخر اكثر أهمية هو الرؤية الحضارية ، الذى يوجه الطاقات نحو ما ينفع البشرية ، ويجعل الفاعلية سبيلاً ايجابياً يحقق الخير والمصلحة للناس.

وبهذه الروية الحضارية انطلق الصحابة – رضى الله عنهم – لتغيير العالم كله ، بعدما ترسخ لديهم ان الرسالة التى يحملونها هى المنقذ الوحيد لهذا العالم ، فهذا ربعى بن عامر – رضى الله عنه – البدوى القادم من الصحراء يخاطب رستم قائد الفرس قائلاً : (الله ضيق الدنيا الى سعة الدنيا والآخرة ، ومن جور الأديان الى عدل الإسلام).

ولكن يبقى السؤال : كيف وصل الصحابة الى هذا المستوى من البناء النفسى والرؤية الحضارية ؟ ولماذا لم يتكرر هذا الوضع باضطراد فى الأجيال التى جاءت بعدهم؟(79) والإجابة تقتضى ان نعرف الظروف الاجتماعية والنفسية التى توفرت لذلك الجيل الفريد.

( إنهم – فى الجيل الأول – لم يكونوا يقرؤون القرآن بقصد الثقافة والاضطلاع ولا بقصد التذوق والمتاع . لم يكن أحدهم يتلقى القرآن ليستكثر به من زاد الثقافة لمجرد الثقافة ولا ليضيف الى حصيلته من القضايا العملية والفقهية محصولاً يملأ به جعبته ، إنما كان يتلقى القرآن ليتلقى امر الله فى خاصة شأنه وشأن الجماعة التى يعيش فيها ، وشأن الحياة التى يحياها هو وجماعته ، يتلقى ذلك الأمر ليعمل به فور سماعه ، كما يتلقى الجندى فى الميدان ( الأمر اليومى ) ليعمل به فور تلقيه ، ومن ثم لم يكن احدهم ليستكثر منه فى الجلسة الواحدة ، لأن كان يحس انه يستكثر من واجبات وتكاليف يجعلها على عاتقه ، فكان يكتفى بعشر آيات حتى يحفظها ويعمل بها . . . هذا الشعور .. . شعور التلقى للتنفيذ . . . كان يفتح لهم من القرآن آفاقاً من المتاع وآفاقاً من المعرفة ، لم تكن لتفتح عليهم لو أنهم قصدوا إليه بشعور البحث والدراسة والاضطلاع ، وكان ييسر لهم العمل ، ويخفف عنهم ثقل التكاليف ، ويخلط القرآن بذواتهم ، ويحوله فى نفوسهم وفى حياتهم الى منهج واقعى(80)

لقد كان النبع الذى استبقى منه ذلك الجيل صافياً لم تكدره بعد فلسفات وثقافات الأمم الأخرى . من فرس ويونان ويهود ونصارى وغيرهم ، كما حدث فى فترات متأخرة من التاريخ الإسلامى ، إضافة الى ذلك معايشتهم الواقعية لسيرة الرسول صلى الله عليه وسلم ، وتعلمهم منه ربط الفكر بالعمل ، والثقافة بالسلوك ، فقد ذكروا مراراً انهم تعلموا القرآن والعلم والعمل جميعاً(81)

والأمثلة على فاعلية الصحابة – رضى الله عنهم – كثيرة متنوعة ، ومن يتأمل فى سيرتهم وجهادهم لا يرى سوى صفحات مشرفة من التاريخ الذى صنعوه بجهدهم وكفاحهم ، وذلك بحصرهم الشديد على اداء رسالتهم الحضارية فى هذه الحياة ، مع توفيق الله لهم ، وقد تعتريك الدهشة والإعجاب حين تعلم ان قبور كثير منهم موجودة خارج الجزيرة العربية.

وسنختار لك مثالاً واحداً لصاحبى جليل هو ( أبو ايوب الأنصارى) – رضى الله عنه – الذى كان شعاره الذى يردده دائماً ، فى ليله ونهاره ، فى جهره وإسراره قوله تعالى : ( انفروا خفاقاً وثقالاً) [التوبة : 41]

لم يختلف أبو ايوب عن معركة كتب على المسلمين أن يخوضوها ، مهما يكن بعد الشقى ، وفداحة المشقة ، مرة واحدة فقط تخلف عن جيش جعل الخليفة اميره واحداً من شباب المسلمين ، لم يقتنع (ابو ايوب) بإمارته ، ومع هذا فإن الندم على موقفه هذا ظل يزلزل نفسه طول حياته.

وفى غزوة القسطنطينية لم يكد يبصر ( ابو ايوب) جيش المسلمين يتحرك ، حتى ركب فرسه ، وحمل سيفه ، وراح يبحث عن الشهادة فى سبيل الله مع كبر سنه ، وقلة زاده.

وفى هذه المعركة اصيب ، وذهب قائد الجيش يعوده ، وكانت انفاسه تسابق اشواقه الى لقاء الله ، فسأله القائد ، وكان ( يزيد بن معاوية ) ما حاجتك أبا ايوب؟ ترى ، هل فينا من يستطيع ان يتصور ، او يتخيل ماذا كانت حاجة ابى ايوب؟ لقد طلب من ( يزيد) إذا هو مات ان يحمل جثمانه فوق فرسه ، ويمضى به اطول مسافة ممكنة فى ارض العدو ، وهناك يدفنه ، ثم يزحف بجيشه على طول هذا الطريق ، حتى يسمع وقع حوافز خيل المسلمين فوق قبره ، فيدرك آنئذ ، أنهم قد أدركوا ما يبتغون من نصر وفوز !!

وفى قلب القسطنطينية – وهى اليوم اسطانبول – يثوى جثمان هذا الرجل العظيم ، وإنك لتعجب إذ ترى جميع المؤرخين الذين يسجلون تلك الوقائع يقولون : ( وكان الروم يتعاهدون قبره ، ويزورونه ، ويستقون به إذا قحطوا (82)

لقد حقق هذا الصحابى الجليل شروط الفاعلية حيا طيلة حياته ، وحققها وهو ميت يرنو الى انتصار الإسلام ، وعزة المسلمين وإسعاد البشرية بالدين الجديد ، وسيبقى التاريخ شاهداً على هذه النماذج البشرية الحية التى لم تكن تعرف فى حياتها سوى الحركة والجهاد والفاعلية.

5. تجدد الفاعلية عبر التاريخ الإسلامى :

بلغت الفاعلية فى زمن الرسول صلى الله عليه وسلم وصحابته – رضى الله عنهم – أقصى درجات التوهج ، واستمر هذا الوضع بعد ذلك فى جيل التابعين ومن تبعهم بإحسان ، ولكن مع مرور الوقت ، ولأسباب سياسية واجتماعية ونفسية كثيرة بدأت الفكرة الدينية تفقد وظيفتها الاجتماعية شيئاً فشيئاً ، وبدأ مرض الكساد ينتشر فى جسم الامة.

إن الظروف التى اوصلت الأمة الإسلامية الى تفضيل جانب الغريزة على جانب الروح ، أدت الى نتائج خطيرة كان من ابرزها انقسام العالم الإسلامى الى دويلات ، وانفكاك القاعدة الاجتماعية للأمة ، حتى سقطت بغداد فى ايدى المغول ، وبدأت مشكلات السقوط الحضارى تظهر فى الآفاق ، واصبحت التحديات والأخطار تحاصر المجتمع الإسلامى من كل الجهات.

حين تفقد الفكرة الدينية وظيفتها الاجتماعية تبدأ القيم الروحية بالانحسار لتترك المجال مفتوحاً للغرائز والشهوات التى تقوم بدور المخدر الذى يدخل الجسم السليم فيسلبه كل طاقاته الايجابية ويحوله من جسم فعال متحرك الى جسم عاجز عن أداء أية حركة ، وهو الشئ الذى حدث للمجتمع الإسلامى فى فترة سقوطه الحضارى.

يقول ابن الأثير ( 630هـ) واصفاً حالة المجتمع الإسلامى زمن الحروب الصليبية : ( كانوا كجاهلية ، همة احدهم بطنه وفرجه ، لا يعرف معروفاً ولا ينكر منكراً (83)

وكنا نجد من يقول متذمراً :

كيف يرجى الصلاح من أمر قوم .:. .:. .:. ضيعوا الحزم فيه اى ضياع

فمطاع الكلام غير سديد .:. .:. .:. وسديد المقال غير مطاع

وعلى الرغم من هذه الأسباب المعطلة للطاقات ، المكبلة للقدرات التى عرفها التاريخ الإسلامى ، كنا نشهد من فترة الى اخرى تجدد الفاعلية بين ابناء الأمة لمواجهة المشكلات الصعبة التى تعترض طريقهم ، وبخاصة حيث يحسون ان الأخطار التى تهدد الأمة تمس كيانهم الدينى الذى يحفظ وجودهم ، كما حدث فى عصر الحروب الصليبية ، وما تبعه من حروب ضد الهجمة المغولية وما حدث فى العصر من ثورات ضد الاستعمار الغربى.

فإذا أخذنا مثلاً ما حدث فى فترة الحروب الصليبية نجد أن الفاعلية قد انتشرت بين ابناء الأمة كلها ، كانتشار الدم فى الجسم ليغذى جميع اجزائه ، وهذه الفاعلية الجماعية هى التى تبنى التحضر ولا مناص لمن يبتغيها ان يستخدم كل وسائل التوجيه للوصول إليها وهو ما فعله ( نور الدين زكى ) وصلاح الدين الأيوبى من بعده.

ولعل مما ساهم فى زيادة الفاعلية بين افراد الأمة فى تلك الفترة ، التزام القائمين على الأمور من الحكام والأمراء بمبادئ الرسالة التى يحملونها ، وحرصهم على ان يكونوا قدوة الناس فى الجهاد والعمل والصبر ، مما حفز الناس على زيادة العطاء والجهد.

فهذا ( نور الدين زنكى) يعيد للأمة سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم وصحابته فى تطبيقاته العملية ، حتى عدة المؤرخون سادس الخلفاء الراشدين ، يقول ابن الأثير : ( قد طالعت سير الملوك المتقدمين فلم ار فيها بعد الخلفاء الراشدين ، وعمر بن عبد العزيز ، سيرة احسن من سيرته ، ولا أكبر تحرياً منه العدل . . . . وقد اتسع ملكه فشمل الشام وديار الجزيرة ومصر ، وخطب له بالحرمين الشريفين وباليمن ، وأبلى فى حروبه للفرنج ، وأسر بنفسه فى بعض الغزوات بعض ملوكهم ، وكان يعظم الشريعة ، ويقف عند حدودها ، وأنشأ من المدارس والجوامع والطرق ، والجسور ، ودور المرضى ، والبائسين ، والخانات ، والحصون ما لم يسبق الى مثله (84)

وفى فترة ( نور الدين زنكى) نجد ان سياسة الدولة اتجهت الى الأمور التالية كى تعيد الفاعلية للأمة: (85)

أولاً : إعداد الشعب إعداداً إسلامياً وتطهير الحياة الدينية والثقافة من التيارات الفكرية المنحرفة كالباطنية وآثار الفلسفة اليونانية، والممارسات الفاطمية للعبادات والشعائر.

ثانيا : صبغ الإدارة بالصبغة الإسلامية ، وإشاعة العدل والتكافل الاجتماعى

ثالثاً: نبذ الخصومات المذهبية ، وتعبئة القوى الإسلامية ، وتنسيق جهودها ضمن منهاج عمل موحد ، وقيادة متكاملة متعارفة .

رابعاً: ازدهار الحياة الاقتصادية ، وإقامة المنشآت والمرافق العامة

خامساً: بناء القوة العسكرية ، والعناية بالصناعات الحربية

سادساً: القضاء على الدويلات المتناثرة فى بلاد الشام ، وتحقيق الوحدة الإسلامية بين الشام ومصر والجزيرة العربية .

لقد ركزت السياسة فى زمن ( نور الدين) على الإنسان المسلم باعتباره اسسا النهضة ، ودعامة البناء فى الأمة المسلمة، ولذلك الإعداد والجاهزية لمواجهة التحديات ، ( وفى هذه الخطة تكاملت المؤسسات والهيئات ، فاشتملت على التعليم الذى ركز بالدرجة الأولى على الأجيال الناشئة ، واشتلمت على التوجيه والإرشاد الذى استهدف توجيه جماهير العامة ، واشتملت على الإعداد العسكرى الذى استهدف تعبئة قوى الأمة تعبئة عامة لمواجهة الأخطار والتحديات القائمة(86).

إن الإهتمام بالجوانب الفكرية عند ابناء الأمة – وهو ما يسمى بتوجيه الثقافة – من شأنه ان يعيد الروح فى طاقات الأمة التى كبلها العجز والتواكل ، كما حدث فى زمن الدين زنكى ، ومن بعده صلاح الدين الأيوبى ، فكان ان تجددت الفاعلية ، وعادت العافية الى الأمة لكى تواجه الأخطار التى هددت هويتها ووجودها.

وتجدد الفاعلية عبر التاريخ الإسلامى القديم والحديث دلالة عل ان الأمة المسلمة قد تعرف المرض والوهن ، ولكنها لا تعرف الفناء والذوبان ، وهى خصيصة تعود الى الإسلام العظيم الذى سيبقى فى حلبة الصراع مع الباطل الى يوم الدين ، قال صلى الله عليه وسلم : ( لا تزال طائفة من امتى ظاهرين حتى يأتيهم امر الله وهم ظاهرون.)(87)

الفصل الثالث

معوقات الفاعلية ( الواقع )

لقد قررنا فى بداية هذه الدراسة ان الخلل الذى اصاب الأمة الإسلامية اليوم فى سعيها نحو المشروع الحضارى الكبير هو قلة الفاعلية فى العمل ، وعدم تقديم الجهد المطلوب ، وعدم الاستفادة من الوسائل المتاحة ، فلم يكن ينقص الفرد المسلم منطق الإخلاص بقدر ما كان ينقصه منطق العمل والحركة ، فهو يفكر ولكن لا ليجسد فكرته فى عمل صائب ، وإذا عمل لا يقدم الجهد المطلوب.

وإن من يعقد مقارنة بسيطة بين حال الأمة الإسلامية ، وحال غيرها من الأمم التى سلكت سبيل التحضر يدرم مدى الفرق الواضح فى هذا المقوم الحضارى بين ما هو عندنا ، وما هو عند غيرنا ، فالفرد المسلم عندنا ما زال لا يحسن التعامل مع الأشياء بفاعلية – باستثنار حالات فردية خاصة – أما فى تلك المجتمعات فإنه يقدم اعلى درجات الفاعلية ، حتى إننا نسمع عن موت الأفراد عندهم من كثرة العمل كما هو الحال فى المجتمع اليابانى.

والذى يؤسف له ان كثيراً من المسلمين يعزون قلة الفاعلية فى الأمة الى قلة الوسائل المتاحة ، والإمكانيات الموجودة بين أيديهم ، ويرون ان الإنطلاق الحضارى لابد له من وسائل كبيرة للتغلب على مشكلات الحياة كالفقر ، والأمية ، والبطالة والكساد ، وغيرها من المشكلات ، ويجلهون ان تلك المجتمعات المتحضرة لم تكن تملك ساعة انطلاقها سوى الأشياء الآولية الضرورية لأى إقلاع حضارى، وينسون بذلك سنن الله فى التغيير التى تبدأ من الإنسان نفسه ، حين يعرف كيف يستثمر المعطيات الموجودة عنده لحيقق بها احسن النتائج فى ميدان الحضارة والبناء .

وبعضهم يعلل هذا العجز بالقضاء والقدر كما هو الحال عند اكثر العزام الحيارى ، وهو ما جعل الأمير شكيب أرسلان يصرخ قائلا:

( المسلم الجامد لا يدرى انه بهذا المشرب يسعى الى بوار ملته وحطها عن درجة الأمم الأخرى ، ولا يتنبه لشئ من المصائب التى جرها على قومه اهمالهم للعلوم الكونية حتى اصبحوا بهذا الفقر الذى هم فيه وصاروا عيالاً على اعدائهم الذين لا يرقبون فيهم إلا ولا ذمة ، فهو إذا نظر الى هذه الحالة عللها بالقضاء والقدر بادئ الرأى ، وهذا شأن جميع الكسالى فى الدنيا يحيلون على الأقدار(88)

لابد ان نعلم ان الوهن الذى اصاب المسلمين اليوم هو ما كسبت ايديهم ، وهو نتيجة حتمية لتقاعسهم عن اداء رسالتهم فى الحياة ، ومهما كانت اسباب هذا الوهن ، فهو مرض مزمن يحتاج الى علاج فعال ، يقضى عليه من جذوره.

إن هناك اسباباً نفسية واجتماعية كثيرة تقف عائقاً امام تحقيق شروط الفاعلية عند المسلمين ، وهى اسباب موضوعية منسجمة مع سنن الله فى التغيير ، اى ان توفير الظروف المناسبة ، وتوجيه المسلمين التوجيه الصحيح ، مع شأنهما ان يبعثا الحركة والحياة فى النفوس الجامدة ، ويعطيها المبررات الكافية للانطلاق من جديد .

وهذه الدراسة تحاول ان تكشف عن بعض المعوقات التى وقفت فى طريق الفاعلية عند المسلمين ، وهى معوقات كثيرة لها علاقة مباشرة بالنواحى النفسة والاجتماعية وحسبنا ان نشير الى بعض تلك المعوقات التى نراها اكثر تأثيراً فى النفوس من غيرها.

1. الخلل فى فهم العبادة :

العبادة هى حركة المسلم فى الحياة وفق النواميس الإلهية ، وهى تعنى الاعتراف لله بحق من حقوقه على العباد ( ألا له الخلق والأمر) [الأعراف : 54] وهى فى المنهج القرآنى السبب الذى قام عليه الخلق كله ( وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون) [ الذاريات : 56] ، قال انب تيمية – رحمه الله -: العبادة اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأعمال الباطنة والظاهرة(89)

ومن أهم خصائص العبادة فى الإسلام الشمول ، اى انها تتسع للحياة كلها ، فلا تقتصر على الشعائر التعبدية المعروفة من صلاة وزكاة وصيام وحج ، بل تشمل كل حركة ، وكل عمل ترتقى به الحياة ويسعد به الناس(90)

إن كل نشاط يقوم به المسلم يدخل فى باب العبادة إذا تحقق فيه شرطا الأخلاص والصواب ، قال الفضيل بن عياض : ( لا يقبل الله عملاً حتى يكون مخلصاً صواباً )(91)

ومن هنا يتسع مفهوم العبادة ليشمل كل حركة يقوم بها المسلم ، سواء أكانت شعائر تعبدية محضة ، أم أعمالاً يومية فى مجالات الحياة المختلفة ، المهم ان تتحقق فيها النية الصادقة ، والمنهج الصائب ، وهذا هو معنى الإحسان الذى أشار إليه النبى صلى الله عليه وسلم فى قوله : ( الإحسان ان تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك)(92)

وحين يدرك المسلم هذا البعد الكبير للعبادة ، وأن حركته فى الحياة كلها عبادة ، فإن هذا الفهم يمنحه تصوراً إيجابيا عن الحياة ، يصبح به شديد الحرص على تقويم اعماله وتوجيهها نحو أهداف نبيلة تحقق الخير والنفع له ولمجتمعه ، وتتسم حركته بفاعلية اكثر لوجود الحوافز المادية والمعنوية التى وضعها الشرع للعبادة.

أما حين لا يصبح للعبادة هذا المعنى الشمولى فى حياة المسلم ، تصبح العبادة فى نظره مجرد شعائر وطقوس يقوم بها يومياً ، وهى تأخذ من وقته جانباً ضئيلاً ، فإن سلوكه الاجتماعى فى الحياة سيختلف ، لأن مفهوم العبادة تقزم عنده ، فالحياة التى يعيشها كل يوم ، والنشاطات الحيوية التى يمارسها فى كل حين ، وتأخذ جانبا كبيراً من وقته ليس لها اى وزن فى مقاييس الدين عنده ، ومن هنا بدأ الخلل يتسرب الى الفكر ، وينعكس على الفاعلية.

إن الخلل فى فهم العبادة الذى تسرب الى المسلمين جعلهم يفصلون بين عمل الدنيا وعمل الآخرة ، ويقيمون جداراً فاصلاً بينهما ، ويجعلون العمل الآخروى فى مرتبة عليا لا يرتقى إليها بأية حال العمل الدنيوى من حيث القيمة المعنوية والأجر الأخروى ، وترتب على هذا الخلل فى الفهم عدم الاهتمام بقضايا الدنيا الهامة التى لها علاقة مباشرة بواقعهم الاجتماعى المعاش ، ومن هنا قل نشاطهم ، وتراجعت فاعليتهم اعتماداً على هذا التصور الخاطئ.

إن غياب الأبعاد الحقيقة لمفهوم فروض الكفاية ، وموقعها كواجبات اجتماعية ، تساهم بتماسك نسيج الأمة الاجتماعى ، وتشعر بالمسؤولية التضامنية ، وتنتهى بها الى مرحلة الاكتفاء الذاتى ، على مختلف الأصعدة ، لقد همشت فروض الكفاية ، حتى كادت تقتصر على قضايا المصير وكل ما يتعلق بحالات الوفاة ولوازمها من التغسيل والتكفين ، وحمل الجنازة ودفنها ، بعيداً عن إبراز دورها فى آفاق الحياة المتعددة فى كل ماله علاقة بمهمة الاستخلاف الانسانى والتعمير الحضارى ، واهمية تقديمها على الفروض الفردية ، وإدراك دورها فى حياة الأمة(93)

لقد ظل المسلمون قروناً طويلة يزهدون فى فروض الكفاية التى تتصل اتصالا مباشرا بالقضايا الحياتية الهامة مثل الواجبات اليومية ، والأعمال المنوطة بعاتق كل فرد ، والزهد فى الشئ والتقليل من شأنه يورث نوعاً من التقاعس فى أدائه ، ولهذا السبب لم يعمل المسلمون بفاعلية تامة فى هذه الميادين الخطيرة ، لفقدهم الحوافز المعنوية اللازمة التى يملكونها حيث يمارسون بعض الاعمال التعبدية المحضة.

فالخلل فى فهم العبادة بمفهومها الشامل قلل من فاعلية المسلمين فى هذا العصر ، على العكس فهم سلفنا الصالح للعبادة الذى جمع بين البعد الدنيوى والآخروى ، هو المستفاد من سيرة الرسول صلى اللهعليه وسلم  الذى كان اتقى الناس فى ربطه بين الدنيا والآخرة ، وهو القائل : ( إن قامت الساعة وبيد احدكم فسيلة ، فاستطاع ألا تقو حتى يغرسها ، فليغرسها فله بذلك أجر)(94)

إنه طريق واحد أوله فى الدنيا واخره فى الآخرة ، وهو طريق لا يفترق فيه العمل عن العبادة ولا العبادة عن العمل ، كلاهما طريق لا يفترق فيه العمل عن العبادة ولا العبادة عن العمل ، كلاهما شئ واحد فى نظر الإسلام ، وكلاهما يسير جنباً الى جنب فى هذا الطريق الواحد الذى لا طريق سواه .. . وتوكيد قيمة العمل وإبرازه والحض عليه فكرة واضحة شديدة الوضوح فى مفهوم الإسلام ولكن الذى يلفت النظر هنا ليس تقدير قيمة العمل فحسب ، وإنما هو إبرازه على انه الطريق الى الآخرة الذى لا طريق سواه(95)

إن الفكرة تحتاج الى فاعليو لتأخذ مكانها فى الواقع ، ولا سبيل امام المسلمين اليوم إلا الربط بين الفكر والعمل ، والعبادة والفاعلية ، ليتنبوؤا مكاناً لائقاً بين الأمم التى سلكت سبيل التحضر .

2. فقدان المبررات :

المبررات هى الأسباب والدوافع القريبة والبعيدة التى تدفع الى إيجاد نشاط فعال فى المجتمع ، فهى إذن شروط الفاعلية لأن الإنسان حين يملك المبررات يحدث عنده شعور خاص يحس من خلاله بأن لديه شيئاً يمكن ان يقدمه للأخرين ، فحدوث هذا الشعور عنده يكون سبباً لفعاليته ونشاطه(96)

والمبررات عنصر ضرورى لقيام أية حضارة لأنها توجد العمل والفاعلية ، وتحرك الطاقات الاجتماعية ، وتدفع النشاط الفردى والجماعى الى اعلى قمة ، يقول مالك بن نبى – رحمه الله -: ( إن المبررات هى التى تحرك الطاقات الاجتماعية وتوجهها الى مستوى أعلى من مستوى الحيوان الذى يحيا حياة فردية ، وهى التى تدفعها اتلى مستوى مصلحة الأخرين ، فإن فكرة الفاعلية او التوتر تمس الواقع الاجتماعى فى كل الظروف ، بحيث يضعها كل مجتمع او لا يضعها وراء اعماله وسلوكه ، فالتوتر حالة اجتماعية دل التاريخ على انها تنشأ فى ظروف معينة ثم تزول فى ظروف أخرى ، وان المبررات هى التى تكون الدوافع الإنسانية التى يدفع النشاط الى اعلى قمة(97)

وحين يفقد المجتمع مبرراته فإنه يفقد وجوده الاجتماعى وينقلب من مجتمع متحرك فعال الى مجتمع جامد ، لأن كل فرد فيه يصبح عاجزاً عن تقديم اى شئ للأخرين ، بل إنه قد يفقد الرغبة فى الحياة ويفضل الاستقالة منها عن طريق الانتحار ، سواء أكان هذا الانتحار مادياً ، كما هو الحال فى بعض الدول الغربية – أم روحياً كاتباع طريق العزلة والتصوف وفك الروابط التى تربطه بالمجتمع كما هو حال بعض ( الدراويش) فى مجتمعاتنا الإسلامية ، ومن هنا فإن فقدان المبررات فى اى مجتمع يعنى السقوط فى هاوية العجز والوهن ، وبداية الدخول فى ليل التاريخ.

وهناط ظروف اجتماعية ، واسباب دينية – فى غالب الأحيان – وراء بروز المبررات فجأة فى مجتمع من المجتمعات ، فينطلق افراده بدوافع نفسية قوية لأداء رسالة فى التاريخ ، وهذا الحال ينطبق على جميع المجتمعات التى عرفت الحضارة ، فإذا أخذنا مثلا المجتمع الإسلامى فى بداية رحلته الحضارية نجد ان المسلمين اكتسبوا من المبررات ما جعلهم ينطلقون بفاعلية كبيرة لم يشهد التاريخ مثلها ، لأنهم اقتنعوا بأنهم يملكون شيئاً فيه الخير والنفع للإنسانية ، فكان الواحد منهم يشعر بأن لديه رسالة عظيمة فى التاريخ لا يجوز ان يقوم بها احد غيره ، انها رسالة تخرج الناس وتحررهم من قيود العبودية للبشر الى عز العبودية لرب البشر.

لقد حدث فى المجتمع الإسلامى الأول انفجار للطاقات الاجتماعية التى توجهت كلها نحو العمل ، كخلية النحل ، تعمل بدقة ونظام ، كل واحد من عناصرها يقوم بعمله ووظيفته ، وتجتمع كل هذه الطاقات لتصب فى مصب واحد هو مصلحة الخلية ، لقد كنت ترى المسلم يندفع بقوة وعزم ليجسد فكره فى عمل مثمر فى ميادين الحياة المختلفة ، وتراه يتسفرغ طاقته كلها ليحصل على اجر الجهاد فى سبيل الله ، وحب الجهاد عنده جعله يسأل بتوتر منقطع النظير عن الشئ الذى يعدله او يفوقه حتى يعمل به ، فعن أبى هريرة – رضى الله عنه – قال : قيل يا رسول الله ، ما يعدل الجهاد فى سبيل الله ؟ قال : لا تستطيعونه ، فأعادوا عليه مرتين او ثلاثتً ، كل ذلك يقول: لا تستيطعونه ثم قال : مثل المجاهد فى سبيل الله كمثل الصائم القائم لا يفتر من صلاة وصيام ، حتى يرجع المجاهد فى سبيل الله(98)

ومن هذا الفهم للعبادة ، ولرسالة الجهاد يبدو لنا الجهد الكبير فى موقف الصحابى الجليل ( عمار بن ياسر) الذى حمل حملين بدل حمل واحد كما كان يعل كل صحابى فى مشروع بناء المسجد النبوى(99) ، وهذا مثال واحد من فيض كثير من المواقف البطولية التى سجلها التاريخ للمسلمين الأوائل.

لقد كان للمبررات التى جاء بها الإسلام دور كبير فى إحداث التوتر الاجتماعى الذى يدفع الى العمل والحركة بقوى وفاعلية ، ولهذا السبب كون ابناء الإسلام حضارة متميزة خلال فترة قصيرة من الزمان.

ولكن – مع الأسف – ومع مرور الزمن بدأ الفتور يمتد الى عزائم المسلمين وبدأت نفوسهم تفقد شيئاً فشيئاً توهج الروح ، كل ذلك نتج عن فقدان المبررات ، حتى وصل بهم الأمر الى الخروج من دائرة التحضر ، وقديماً حاول العلماء المجددون إعادة المبررات النفقودة الى المجتمع الإسلامى ، كشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله وحديثاً حاول ويحاول رجال الإصلاح وحركات الصحوة الإسلامية إعادة تلك المبررات الى ابناء الأمة ، وتوجيه الطاقات نحو بناء المشروع الإسلامى من جديد.

إن توفر عنصر المبررات فى الأمة الإسلامية يعنى حياة جديدة لها ( يا ايها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم) [الأنفال : 24] لأن المبررات هى بمثابة الوقود الذى يبعث الحياة فى الأجسام الخاملة، وهى السبب فى ارتفاع درجة الفاعلية التى تشيع فى جميع افراد الأمة من صغيرها الى كبيرها ، ومن رجالها الى نسائها فإن هذه المفاهيم كالغيث إبان الربيع يساهم فى تحريك النباتات والبراعم فى كل مكان(100)

ونخلص الى ان فقدان المبررات هو أحد المعوقتا الأساسية التى جعلت المسلم فى هذا العصر يشعر أنه لا يملك شيئاً يمكن ان يقدمه للآخرين مما ساهم فى تقليل نشاطه ، وتفتير عزائمه ، وجعله مسلماً عاجزاً لا يقدر على جلب احترام الاخرين له.

3. ضعف الإيمان :

الإيمان هو المنبع الوحيد للطاقة الإنسانية ، وهو الذى يبث إشعاع الروح فى الضمائر والنفوس فينقلها من عالم الموت الى عالم الحياة ، وقد قرر بعض علماء الاجتماع ( أن الحضارة تولد مرتين: أما الأولى : فميلاد الفكرة الدينية ، وأما الثانية : فهى تسجيل هذه الفكرة فى الأنفس (الإيمان) اى دخولها فى أحداث التاريخ(101)

فأية حضارة فى طور النشوء لابد ان تنبنى على فكرة دينية يؤمن بها اناس بدائيون ، وهذا الإيمان يمنحهم من المبررات ما يجعهم بنطلقون بحرارة وقوة لتحقيق رسالتهم الحضارية ، وينطبق هذا على جميع الحضارات التى عرفتها البشرية ، ومن هنا كان الإيمان مقوماً حضارياً ، وليس فلسفة نظرية ليست لها أية أبعاد اجتماعية.

وإذا أخذنا الحضارة الإسلامية – مثلاً – نجد ان الإيمان بالفكرة الجديدة قلب هؤلاء العرب البسطاء من أجلاف متناحرين ، الى دعاة اسلاميين تتمثل فيهم رسالة الإسلام بما فيها من قيم حضارية ، ومبادئ اخلاقية تنفذ الإنسان من ضيق الأرض وترفعه الى سعة السماء ، لأنهم اقتنعوا بأن ايمانهم يجعل منهم اصحاب رسالة خالدة ، وليس مجرد إيمان بارد ليس له أية رسالة فى الحياة.

إن الإيمان رسالة فى الحياة ، وليس مجرد فلسفة نظرية – كما هو الحال عند كثير من الناس – وبما انه رسالة فى الحياة فإن له ابعاداً اجتماعية كثيرة لعل ابرزها توفير المبررات اللازمة للإنطلاق الجماعى نحو التحضر ، ومنح المسلم الفاعلية الكافية لتغيير الواقع الفاسد ( كنتم خير امة اخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله) [ آل عمران :110]

أما حين يصبح الإيمان إيماناً جذبياً – اى مادياً – دون إشعاع ، أعنى نزعة فردية ،فإن رسالته التاريخية تنتهى على الأرض إذ يصبح عاجزاً عن دقع الحضارة وتحريكها , إنه يصبح إيمان رهبان , يقطعون صلاتهم بالحياة , ويتخلون عن واجباتهم ومسؤولياتهم(102)

فالإيمان قوة روحية تدفع المجتمع بكامله نحو أداء رسالته الحضارية ، وذلك بدينهم ، فهم بلا شك مقتنعون – على الأقل من الناحية النظرية – بأن دينهم حق ، ومن يحاول ان يقنع المسلمين فى هذا الجانب فإنما يضيع وقته ، ولكن الذى ينقصهم هو الاقتناع بأن لهم رسالة يقتضيها ويتطلبها هذا الإيمان ، وبذلك اصبح الإيمان عندهم مجرد عقيدة باردة ليس لها اى بعد اجتماعى.

ومن هنا ينبغى لنا ألا نخلط بين الايمان كعقيدة فردية تطلب النجاة فى الأخرة ، والإيمان كرسالة اجتماعية تسعى نحو النجاح فى الدنيا والآخرة ، يقول مالك بن نبى – رحمه الله -: ( إن الإيمان لم يفقد مطلقاً سيطرته فى العالم الإسلامى ، حتى فى عهود الانحطاط ، بل ان هذه الملاحظة تصبح جوهرية حين يكون الأمر امر تقويم أخروى للقيم الروحية ، أما حين نتناول المشكلة من الوجهة التاريخية والاجتماعية فينبغى ألا نخلط بين نجاة المرء فى عاقبة امره ، بتطور المجتمعات(103)

إن المسلمين اليوم فقدوا الرغبة فى العمل والعطاء ، وتسرب إليهم الوهن والعز لضعف إيمانهم ، وفتور هممهم، فالقوة الإيمانية التى دفعت اسلافهم نحو البناء الحضارى ، لم تعد تملك الوقود اللازم الذى يتمثل فى شرارة الروح ، ووضوح الفكرة ، وبذلك اصبح المسلمون عاجزين عن اداء رسالتهم الحضارية ، لأن من يفقد قوة الدفع اللازمة ، سيبقى ثابتاً فى مكانه يدور حول نفسه.

ويبين الرسول صلى الله عليه وسلم فى حديث القصعة المشهور حالة الأمة حين تفقد رسالتها الإيمانية فيقول : ( يوشك ان تداعى الأمم عليكم كما تداعى الأكلة الى قصعتها) قالوا : أومن قلة نحن يومئذ يا رسول الله ؟ قال : ( لا ، بل أنتم كثير ولكنكم غثاء كغثاء السيل : ولينزعن الله فى صدور أعدائكم المهابة منكم ، وليقذفن فى قلوبكم الوهن ، قيل : وما الوهن يا رسول الله ؟ قال : حب الدنيا وكراهية الموت(104)

إن هذا الحديث يقدم تفسيراً واضحاً للأزمة الحضارية التى تمر بها الأمة الإسلامية فى هذا العصر ، مع ما لديها من كثرة فى العدد ، ووفرة فى الوسائل ، فالرسول صلى الله عليه وسلم وصف الأمة بالغثائية ، وهى تعنى فقدان الفكر والمنهج ، لأن السبيل المتدافع ليس له هدف يسير إليه ، وهو فى سيره يحمل ركاماً من الأشياء التى ليس لها اية قيمة فى نظر الإنسان ، وهذه الغثائية التى تتجلى فى فقدان الفكر والمنهج هى نتيجة حتمية للوهن او اللافاعلية ( وليقذفن فى قلوبكم الوهن) ، أما الظروف الكامنة وراء وصول الأمة الى حالة الغثائية فهى بتعبير الرسول صلى الله عليه وسلم : ( حب الدنيا وكراهية الموت) وبتعبيرنا نحن ( ضعف الإيمان) او فقدان الرسالة الاجتماعية.

إن حب الدنيا وكراهية الموت يعنى التخلى عن رسالة الجهاد ، والأمر بالمعروف والنهى عن المنكر ، وهى الرسالة الاجتماعية التى يقتضيها الإيمان بالله تعالى ، ومن هنا كان ( ضعف الإيمان) أحد المعوقات الأساسية امام المسلمين فى هذا العصر ، فقد دب فيهم مرض الوهن ، وتسرب إليهم العجز ، واصبحوا يشعرون بأن رسالتهم فى هذا الزمان محدودة ، وأنهم لا يملكون شيئاً يمكن ان يقدموه للأخرين ، وهذا العجز اطمع الأمم الأخرى فيهم ، لأن الضعف – كما يقول المثل – يغرى بالعدوان .

4. التقليد :

التقليد هو الصورة المضادة للاجتهاد ، وهو يعنى اخذ القول دون دليل او برهان ، قال ابن قيم الجوزية – رحمه الله -: ( التقليد ثلاثة انواع ، احدها : الإعراض عما أنزل الله وعدم الالتفات إليه اكتفاء بتقليد الآباء ، الثانى : تقليد من لا يعلم المقلد انه اهل لأن يؤخذ بقوله ، الثالث : التقليد بعد قيام الحجة ، وظهور الدليل على خلاف قول المقلد(105)

والتقليد مذموم فى الشريعة الإسلامية لأنه من الظواهر السلبية فى الحياة الفكرية للأمة – وقد ذمه القرآن الكريم وعبر عنه بالآبائية التى تعنى اتباع الآباء ، أو من لهم رأى أو سلطة دون دليل او برهان ، قال تعالى : ( وإذا قيل لهم اتبعوا ما أنزل الله قالوا بل نتبع ما وجدنا عليه آباءنا أولو كان أباؤهم لا يعقلون شيئاً ولا يهتدون) [ البقرة : 170] ، وقال تعالى : ( وإذا قيل لهم تعالوا الى ما أنزل الله والى الرسول قالوا حسبنا ما وجدنا عليه آباءنا أو لو كان آباؤهم لا يعلمون شيئاً ولا يهتدون) [ المائدة:104]

أما الإجتهاد فقد عبر عنه القرآن الكريم ( بالبرهانية) أى الدعوة الى اتباع الدليل والبرهان للوصول الى الحقيقة ، وترك التقليد المذموم الذى يقود الى الجهل والعصبية ، قال تعالى : ( قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين) [ البقرة : 111]

إن التقليد عامل طارئ على العالم الإسلامى ، فلم يكن معروفاً فى القرنين الأول والثانى ، وقد توافرت جملة من الأسباب النفسية والاجتماعية التى أدت الى ظهوره فى العصور المتأخرة ولعل أبرز هذه الأسباب قصور الهمم عن الاجتهاد بعد ان بدأ المجتمع الإسلامى يفقد شيئاً فشيئاً مبرراته الاجتماعية(106)

لقد كان علماء السلف يحذرون من خطر التقليد حتى انتشرت بينهم المقولة الشائعة : ( لا تقلدنى ولا تقلد مالكاً ولا الشافعى ، ولا الاوزاعى ، ولا الثورى ، وخذ من حيث اخذوا)(107)

وحين اصبح التقليد يهدد ثقافة الأمة قامت صيحات كثيرة تدعو الى الاجتهاد وترك التقليد ، كما حدث مع ( ابن حزم الظاهرى) الذى صرخ بأعلى صوته ( التقليد حرام)(108) ، لأنه شعر بأن التقليد المذهبى قيد الكثير من الطاقات الفكرية ، وجعلها تدور فى دائرة ضيقة لا تخرج عنها ، وكما حدث مع ابن تيمية – رحمه الله – الذى كثيراً ما ذم التقليد واتباعه ، وهو الذى يقول ( لا يجب على احد من المسلمين تقليد شخص بعينه من العلماء فى كل ما يقول ، ولا يجب على احد من المسلمين التزام مذهب شخص معين غير الرسول صلى الله عليه وسلم فى كل ما يوجبه ويخبره به ، بل كل أحد من الناس يؤخذ من قوله ويترك إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم(109)

وقد حذر كثير من العلماء فى عصرنا الحديث من خطر التقليد الذى اضعف القاعدة الفكرية للأمة ، منهم محمد رشيد رضا – رحمه الله – الذى يقول : ( إن فى تحريم التقليد) وتصريح الكتاب العزيز بأن الله تعالى لا يقبله ، ولا يعذر صاحبه به فى الآخرة لتأكيداً شديداً لإيجاب العلماء الاستقلالى الاستدلالى فىالدين(110) ، وقال مالك بن نبى – رحمه الله -: ( ان التقليد الخلفى يقتضى التخلى عن الجهد الفكرى حتماً ، أى عن الأجتهاد الذى كان الوجهة الاساسية للفكر الإسلامى فى عصره الذهبى(111)

إن التقليد هو مرض من الأمراض الفكرية التى أثرت بشكل مباشر فى مسيرة الأمة الإسلامية ، وكانت من العوامل المساهمة فى اقولها ، وإن من يستقرئ تاريخ الاجتهاد فى حياة الأمة الإسلامية ( يلاحظ ان هناك علاقة عنصرية بين ازدهار هذا الاجتهاد وتقدم الأمة وقوتها ، وإن ضعف الأمة وتخلفها كان من وراء تخلف الاجتهاد وضعفه ، وهذا يعنى ان الاجتهاد مناط القوة والتقدم للأمة الإسلامية ، لأن مدلوله لا ينصرف الى استنباط الأحكام العلمية فحسب ، ولكنه يشمل كل مجالات الحياة المختلفة من حيث إنه قوة تحرك كل الطاقات نحو العمل المتقن فى شتى الميادين(112).

وإذا كان الاجتهاد قوة محركة للطاقات الفكرية نحو العمل والفاعلية ، فإن التقليد عامل يصيب الأمم بالسلبية والكساد ، ويؤثر تأثيراً سلبياً فى التفاعل الحضارى وتقدمه ، وإن من يتأمل فى حال بعض الأمم التى سلكت سبيل التحضر يدرك أنها تخلصت من الافكار الميتة الموروثة ، وجددت قاعدتها الفكرية والثقافة بتوفير كل الظروف للاجتهاد والبحث العلمى الجاد حتى يبقى المجتمع متجدداً فى فكره وفاعليته ، وهو ما حدث (لليابان) حين اتخذ موقفاً تاريخياً من الأفكار الموروثة من عهد ( الشوغون)(113)

وفى الواقع المعاصر ما زال التقليد منتشراً بين الكثير من ابناء الأمة الإسلامية حتى على مستوى المذاهب الفقهية ، ومع حداثة الوسائل فى نشر ( التراث) ، وتحقيق المصادر القديمة ، وطبع المراجع الحديثة ، ما زالت الهمم مقيدة بحبل التقليد والتبعية ، وباستثناء بعض الأنماذج الفردية التى تسير فى طريق الاجتهاد – ما زال العمل الاجتهادى بعيداً عن اداء رسالته الحضارية الجماعية .

ونخلص الى نتيجة مهمة وهى ان التقليد بمظاهره المختلفة هو احد الاسباب المعطلة للفاعلية فى الأمة ، وإنه لا سبيل الى التحضر إلا بنبذه وبث روح الاجتهاد والبحث العلمى الجاد بين جميع المسلمين خاصتهم وعامتهم.

5. التعصب المذهبى والحزبى :

إن وحدة الأمة الإسلامية فى العلم والمنهج ، والثوابت والأهداف هى الركن الأساس الذى قامت عليه الدعوة الإسلامية الموجهة الى الناس اجمعين ، ولقد استجاب لها المسلمون فى اول عهدهم فاكسبتهم قوة وغلبة عزت بها الدينية فانتشرت ، وانتصرت وصدت من عارضها ، ففتحت امامها الطرق ، واتسع لها الأفق ، واصبحت عنواناً للإسلام ومصدراً لتفجير الطاقات المعلطة ، ووسيلة لتوجيه النفوس المكبلة.

ولقد دعا القرآن الكريم الى اجتماع الأمة كلها على منهج واحد ، وعدم الاختلاف والتفرق فيه قال تعالى : ( إن هذه امتكم أمة واحدة وانا ربكم فاعبدون ) [ الأنبياء :92] ، وقال ايضاً : ( واعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا واذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم اعداء فألف بين قلوبكم فاصبحتم بنعمته إخواناً) [ آل عمران :103] وقال ايضا : ( ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم البيات) [ آل عمران:105]

وقد شبه الرسول صلى الله عليه وسلم المؤمنين بأعضاء الجسد الواحد(114)، ولم يكن شئ ابغض إليه بعد الكفر بالله من الاختلاف والتنازع ، ولو فى الأمورالعادية والاختلاف الذى ذمه صلى الله عليه وسلم ليس ذلك الاختلاف الطبيعى الذى جبل عليه الناس ، وإنما ما كان داعياً الى الخصومة والنزاع ، يقول محمد رشيد رضا – رحمه الله -: ( لما كان الاختلاف فى الفهم والرأى من طباع البشر ( ولا يزالون مختلفين إلا من رحم ربك ولذلك خلقهم )[هود : 118 – 119] خص الاختلاف المذموم فى الإسلام بما كان عن تفرق او سبباً للتفرق ، وجرى على ذلك السلف الصالح ، فحظروا فتح باب الآراء فى العقائد واصول الدين ، وحتموا الاعتصام فيها بالمأثور من غير تأويل ، وخصوا الاجتهاد بالأحكام العملية ، ولا سيما المعاملات ، وكان بعضهم يعذر كل من خلفه فى المسائل الاجتهادية ولا يكلفه موافقته فى فهمه(115)

لقد جاء التوكيد فى مصادر الوحى على أن ملة الإسلام هى ملة واحدة ، وان المستحق للعبادة والخضوع هو الله وحده ، وعلى اساس هذه القاعدة يجب الاجتماع والوحدة ولكن الذى أحدثه المسلمون – بعد القرنين الأول والثانى – هو تمزيق هذه الوحدة الجامعة ، حيث جعلوا دينهم مجموعة من المذاهب والأحزاب و ( كل حزب بما لديهم فرحون) [ المؤمنون :53] ، وكان هذا التفرق سبباً رئيساً فى تردى الأمة وضعفها ، وأدى الى مشكلات حضارية وفكرية ما زالت تعانى منها الأمة الإسلامية حتى الان .

إن هناك اسباباً اجتماعية وفكرية وسياسية كثيرة كانت وراء ظهور المذهبية والحزبية فى تاريخ الأمة الإسلامية لعل ابرزها الاختلاف فى نظرية المعرفة بتن المسلمين , مما أدى إلى ذلك الخلل فى فهم مراد الله , وهذا أدى بدوره إلى تفكيك القاعدة الفكرية , وتجزئة التصور الإسلامى , حتى وصل الأمر بالمسلمين إلى تكفير القاعدة والإصل , وانتشر بينهم الحديث الموضوع :" اختلاف أمتى رحمة "(116) الذى كان له دور سلبى فى

ضعف الأمة , وزعزعة تماسكها الداخلى 0

يقول ابن تيمية ـ رحمه الله ـ :" إن سبب الاجتماع والألفة جمع الدين والعمل به كله , وهو عبادة الله وحده لا شريك له , كما أمر به باطناً وظاهراً , وسبب الفرقة ترك حظ ما أمر العبد به , والبغى بينهم , ونتيجة الجناعة رحنة الله ورضوانه وصلواته , وسعادة الدنيا والأخرة , وبياض الوجوه , ونتيجة الفرقة عذاب الله ولعنته وسواد الوجوه "(117) 0

فسبب الانسجام والوحده بين المسلمين ـ كما يرى ابن تيمية ـ هو الولاء المطلق لله ولرسوله وللمؤمنين الذين ينتمون إلى المبدأ نفسه لأن هذا الولاء من شأنه أن يؤسس شبكة العلاقات الاجتماعية التى تجتمع لتصب فى مصب واحد هو مصلحة الدين والأمة 0

وإذا كانت المذهبية الفكرية سبباً أساسياً فى الفرقة بين المسلمين قديماً , فإن الحزبية التى اتخذت أشكالاً سياسية ودينية وعرقية وغيرها 000 هى من أهم عناصر الاختلاف فى هذا العصر , حتى إنك تجد الخلاف عميقاً ضمن الاتجاه الواحد , وقد يصل أحياناً إلى المجابهة المادية (118) , مما أوهن قوى الأمة الإسلامية ، وقلل من احترامها امام الأمم الأخرى التى تتربص بها الدوائر.

إن التجمع الحزبى هو فى حقيقتهخ وسيلة من الوسائل التى يلجأ إليها لتحقيق اهداف كبرى ، والمتأمل فى تاريخ الأحزاب عامة يجد ان اى حزب منها هو فى الغالب ثمرة فكر رجل واحد تجلت لديه بعض القدرات الاجتهادية ، ثم يتجمعه حوله مجموعة من الأتباع يتخذون من تجمعهم وسيلة لتحقيق غايات زعيمهم النظرية ، ولكن الذى يحدث مع مرور الزمن – وبخاصة بعد وفاة الزعيم – هو تقليد الأتباع لزعيمهم ودورائهم فى فلك افكاره ، ويحدث عن هذا التقليد نوع من التعصب للأفكار يصبح بعدها الحزب غاية فى حد ذاته ، الأفكار التى تخالف مبدأه ، ويصبح لسان حاله وقاله يقول: لن أبنى نفسى إلا إذا هدمت غيرى !.

وإذا كانت الأحزاب فى بعض الدول المتحضرة أدوات فعالة تتاسبق كلها لخدمة المجتمع ، فإنها فى بلادنا الإسلامية عاجزة عن توجيه الطاقات – باستثناء بعض النماذج الإسلامية – وهى فى اغلبها بؤر لتجميد تلك الطاقات ، حيث انها تقيدهم بقيود الحزبية ولا تعطيهم مجالاً للتحرك خارج إطارها ، حتى وإن كان ذلك إبداعاً أو إجتهاداً او نقداً ذاتياً بناء.

إن توجيه العمل والفاعلية فى مرحلة التكوين الاجتماعى عامة يعنى سير الجهود الجماعية كلها فى اتجاه واحد(119) ، ومع وجود التعصب الحزبى والمذهبى لا يمكن تحقيق الوحدة الفكرية والثقافية بين المسلمين.

6. فقدان الحرية ( القهر ) :

يعد مصطلح (الحرية) من اكثر المصطلحات شيوعاً فى هذا العصر ، ومن اكثرها دوراناً على الألسنة ، واستخداماً بين الناس ، فما من مذهب دينى او علمانى او لاهوتى ، وما من زعيم مخلص أو مقهور او مخادع . إلا وتجده داعياً الى مبدأ الحرية ، واضعاً إياه على رأس قائمة الأولويات ، وذلك لما لكلمة (الحرية) من سحر وجذب وسيطرة على النفوس ، ولا شك أن توجيه الجماعات فى هذا العصر اصبح يعتمد على تلك الوعود بتوفير الحرية ، وكسر قيود العبودية والأذلال.

ولقد ظلت ( الحرية) على مدار التاريخ عرضة لعلميات ( تحجيم) ماكرة يراد منها ان تخدم مصالح بعض اصحاب القرار ، الذين لا يؤمنون اصلاًَ بالحرية إلا بمقدار ما تمنحهم هذه الحرية من (سلطات) إضافية ، تضاف الى رصيدهم من التسلط والطغيان والجبروت(120) ، ولم تعرف البشرية معنى (الحرية) الحقة إلا فى ظل الإسلام الذى جعل العبودية لله طريقاً لتحرير الإنسان ، كما شهد بذلك المنصفون من علماء الغرب - ، يقول جوستاف لوبون : ( تشتق سهولة الإسلام العظيمة من التوحيد المحض ، وفى هذه السهولة سر قوة الإسلام ، والإسلام وإدراكه سهل ، خال مما نراه فى الأديان الأخرى ، ويأباه الذوق السليم ، خالياً من التناقضات والغوامض ، ولا شئ اكثر وضوحاً وأقل غموضاً من اصول الإسلام القائلة بوجود إله واحد ، وبمساواة جميع الناس امام الله)(121)

ومبدأ مساواة الناس جميعاً امام الله هو اساس التحرر البشرى من عبودية الإنسان ، هذه العبودية التى تتخذ ألواناً شتى ، وإن من أشدها خطراً ، وأبعدها أثراً من خضوع الإنسان لإنسان مثله ، يحل له ما شاء متى شاء ، ويحرم عليه ما شاء كيف شاء ، ويأمره بما اراد ، فيأتمر ، وينهاه كما يريد فينتهى ، وبعبارة اخرى يضع له ( نظام حياة )(122)

لقد جاء الإسلام ليعلن تحرير الإنسان من عبودية البشر ، قال تعالى : ( يا أهل الكتاب تعالوا الى كلمة سواء بيننل وبينكم ألا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئاً ولا يتخذ بعضناً بعضا أرباباً من دون الله ، فإن تولوا فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون) [آل عمران:64] ، وهذا هو المفهوم الإسلامى للحرية ، المفهوم الذى يجعل الإنسان حراً كلما خضع فى تصوراته ومناهجه لله ، وإن هناك فرقاً كبيراً بين هذا المفهوم ، ومفهوم الفلسفة الغربية الحديثة التى تجعل الإنسان حراً فى كل شئ ، ولا توجد قيود تقيده ما دام هو واضع المناهج والتصورات ، وقد قادت هذه الحرية التى التناقض والاختلاف ، والى سيطرة الأهواء البشرية والشهوات الإنسانية وما زال الإنسان عبداً للإنسان.

إن شعور المسلم بالحرية فى العصور الأولى للإشعاع الروحى كان يمنحه نوعاً من العزة والثقة بالنفس ، وفى الوقت نفسهخ كان يعيطه دافعاً معنوياً قوياً نحو العمل لانقاذ البشر المكبلين بحبال العبودية ، وقد كان قولهم : ( جئنا لنخرج الناس من عبادة العباد الى عبادة رب العباد) رصيداً حضارياً يجوبون به الأفاق ، ويحررون به البشر.

لم تكن ( الحرية) عند المسلمين شعاراً براقاً ليس له أية علاقة بالواقع العملى ، ولم تكن أكذوبة يضحكون بها على الناس ، كما تفعل القوى الكبرى اليوم مع الشعوب المقهورة ، وكما هو الحال فى مبادئ حقوق الإنسان التى خلفتها الثورة الفرنسية ، التى أثبت الواقع العملى انها فكرة تجسد سيطرة الإنسان القوى على الإنسان الضعيف.

إن الحرية تربى وتطلق الطاقات(123) ، وهى وقود ضرورى للفاعلية فى اى مجتمع من المجتمعات المتحضرة ، وحين تفقد (الحرية) يحل محلها القهر والاستعباد وتتراجع النفوس عن أداء دورها ورسالتها الحضارية.

وإن نظرة فاحصة الى واقع ( الحريات) فى المجتمعات الإسلامية المعاصرة تقودنا الى تسجيل بعض الملاحظات منها:

أولاً: كان لخروج الاستعمار من البلاد الإسلامية إيجابيات كثيرة منها : عودة الشعور بالحرية ، وعودة الأمل عند المسلمين لبناء حياة جديدة يسودها الخير والعدل والمساواة ، ولكن لم يكتمل الشعور ، ولم يتحقق الأمل لوجود عقبات أخرى انشأتها الظروف الجديدة.

ثانياً: الأنظمة المختلفة التى قامت بعد الاستعمار وعدت المسلمين بالحرية شريطة الرضا بالأوضاع القائمة حتى وإن كان فيها مخالفة واضحة للإسلام ، وحين قامت قوى الرفض تطالب بتصحيح الاوضاع قوبلت بالقهر المادى والمعنوى ، ودفنت الحرية فى ليل الزفاف بثوبها.

ثالثاً : أصبح المسلم يشعر بنوع من القهر الاجتماعى يقيد حركته ويعطل نشاطه وبخاصة حين يحمل فكرة تغييرية فى المجتمع ، بحيث يمارس المجتمع ضده نوعاً من القهر ، ليجعله فى نظر الناس إنساناً شاذاً يعيق حركة المجتمع نحو التقدم والتطور ، ومن هنا استطاعت بعض الأنظمة والأوضاع ان تقيم حاجزاً بين الناس وبين الدعاة العاملين.

رابعاً: كان القهر الاجتماعى والسياسى سبباً فى هجرة كثيرة من المسلمين الى بلد تشيع فيها بعض الحريات مما أعطاهم دوافع جيدة للفاعلية والإبداع ، فى مجالات مختلفة من الحياة ، وتسبب هذا فى تفريغ بلاد المسلمين من طاقاتها العاملة .

ويبقى أن نشير الى أن فقدان الحرية هو أحد معوقات الفاعلية الأساسية التى تعيق الحركة ، وتقلل النشاط ، وتكبل الطاقات.

7. حالات نفسية سلبية :

ذكرنا فيما سبق ان البناء النفسى هو من اهم مقومات الفاعلية ونقصد بالبناء النفسى جاهزية النفس من حيث توفر المبرر ، ووجود الوقود لأداء رسالتها الحضارية فى الحياة.

وعملية البناء النفسى هذه ليست بالعملية السهلة ، لأن النفس البشرية هى ذات تركيب معقد ، ويتطلب بناؤها وتغييرها شروطاً كثيرة ، ولكنها شروط موضوعية تخضع للسنن الاجتماعية التى بينها الله سبحانه فى كتابه حيث قال : ( إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم )[الرعد:11]

وقد تشترك اسباب وظروف اجتماعية كثيرة فى نشأة بعض الحالات النفسية السلبية التى تقف عائقاً امام الشروط اللازمة لبناء نفسى متكامل، ولعل أخطر هذه الحالات تأثيراً فى النفوس حالة اليأس والقنوط التى تسبب السلبية ، وتفقد مبررات العمل ، وتقلل من الفاعلية ، وقد تقود احياناً الى العزلة والتصوف ، أو الى الانتحار والاستقالة من الحياة.

وحلاة اليأس والقنوط تقود كذلك الى فقد الثقة بالنفس ، والرضا بالواقع بما فيه من سلبيات وعيوب ، ولخطر هذه الحالة على الأمة الإسلامية لا زال كثير من العلماء والدعاة يحذرون منها ، ويدعون الى القضاء على اسبابها ، يقول الأمير شكيب ارسلان: ( قد انضم الى الجبن والهلع اللذين اصابا المسلمين اليأس والقنوط من رحمة الله ، فمنهم فئات قد وقر فى انفسهم ان الإفرمج هم الأعلون على كل حال ، وإنه لا سبيل لمغالبتهم بوجه من الوجوه ، وإن كان مقاومة عبث ، وإن كل مناهضة خرق فى الرأى ، ولم يزل هذا التهيب يزداد ويتخمر فى صدور المسلمين امام الأوروبيين الى ان صار هؤلاء ينصرون بالرعب ، وصار الأقل منهم يقومون للأكثر من المسلمين(124)

ويقول محمد احمد الراشد : ( وفى المسلمين اليوم إحباط وتراجع وانسحابية ونفسية انهزامية لا يعالجها إلا وجود مثل هؤلاء القدوات الذين يتركون الخنادق والمعتزلات وينزلون الى مخالطة الناس_(125)

إن هذه الحالات النفسية السلبية التى أصابت المسلمين فى هذا العصر ، هى نتيجة حتمية لفقد المبررات ، فأصبح المسلم مع هذا الفقدان يشعر بأنه لا يملك شيئاً يمكن ان يقدمه للآخرين ، وبدل ان يبحث عن مبررات جديدة راح يلعن الواقع ، ويفرغ سخطه على الإعداء ، مما اكسبه نفسية انهزامية وافقده الرغبة فى الحركة نحو التغيير.

وإن من أخطر النتائج المترتبة على حالات اليأس والقنوط التى اصابت بعض المسلمين فقدان الثقة بالإسلام نفسه . ونسب العجز له لا لأتباعه ، وترتب على ذلك نشوء جماعة من أبناء المسلمين يدعون جهاراً الى الحداثة والتغريب ، وهم يرمون من وراء الدعوة الى الحداثة والتجديد ، الاستغناء عن قيم الإسلام التى يرونها لا تتناسب مع العصر ، وانه لا سبيل الى الحضارة إلا بالسير على منهج ( الغرب) ، واقتفاء اثرهم فى كل شئ ، وإن هذه الدعوة الخطيرة هى فى حقيقتها محاولة لإيجاد مبررات جديدة ، ولكن بمنهج خاطئ.

إن الإسلام لا يمكن ان يكون سبباً فيما اصاب المسلمين من تخلف وتراجع وانهزامية ، بل إنه قوة دافعة ، وعامل محرك ، يحارب العجز ، ويمقت التواكل ، وينبذ القنوط ( قل يا عبادى الذين اسرفوا على انفسهم لا تقنطوا من رحمة الله) [ الزمر :53] ، (ولا تيأسوا من روح الله إنه لا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرين) [ يوسف :87] وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يستعيذ فى إصباحه وإمسائه من الهم والحزن ، والعجز والكسل(126) ، ولحرصه الشديد على نفسية المسلمين الإيجابية ، كان يستعمل كل وسائل التربية والتوجيه حتى تبقى النفوس مؤمنة فعالة ، يقول عبد الله بن سمعود – رضى الله عنه : ( كان رسول صلى الله عليه وسلم يتخولنا بالموعظة خشية السآمة )(127)

هذا فى مستوى الوعظ الذى كان يراعى فيه صلى الله عليه وسلم مقامات النفوس ، شخية ان تتسرب إليها السآمة والملل واليأس ، وحتى لا تفقد الوقود الروحى الذى يمنحها الدوام والاستمرارية والفاعلية .

ونخلص الى ان اليأس والقنوط والانهزامية هى رحالات نفسية نتجت عن فقدان المبررات فى المجتمع ، فالمسلم مع ابتعاده عن حرارة الايمان ، وإشعاع الروح ، اصبح يشعر انه إنسان لم يخلق لأداء رسالة فى الحياة ، وان الواقع الذى يعيشه ناقم عليه ، ولم يجدد سبيلاً للخروج من هذا المأزق سوى اللعن والقنوط ، ونسى انه يدل ان يلعن الظلام فليوقد شمعة.

إن الفاعلية تتعلق أساساً بقضايا نفسية معقدة ، وقد حاولنا فى هذا الفصل ان نذكر بعض المعوقات التى رأينا أنها اكثر تأثيراً فى نفوس المسلمين من غيرها ، ولا شك ان هناك عوامل أخرى تساهم فى قلة الفاعلية او إنعدامها ، تتعلق بالبيئة والمحيط الاجتماعى ، وبالثقافات السائدة ، والثقافات المستوردة ، وبالأفكار الميتة ، والأفكار القائلة ، وبنظرة المسلم عامة ، وبمركزه فى الحضارة الحديثة.

الفصل الرابع

مقومات الفاعلية ( الطموح )

1. الإقتناع أولاً:

الفاعلية حركة ، والحركة تحتاج الى وقود يعطى النفوس دفعاً الى الأمام ، وقوة نحو العمل والإنتاج ، وبما أن الإرتفاع الى مستوى الشهادة لا يكون إلا بفاعلية – اى بمساهمة كل فرد فى المجتمع بنصيبه فى البناء – فإن البحث عن الوقود الضرورى لها هو من اهم الغايات التى تسعى نحوها جميع الحركات السائرة فى طريق التحضر.

وإذا بحثنا عن هذا الوقود الضرورى للفاعلية فى جميع الحضارات التى عرفتها البشرية ، فإننا سنجده فى ذلك الإشعاع الروحى الذى يدخل النفوس فسيحولها من نفوس حائرة كاسدة ، الى نفوس مؤمنة متحركة ، تعرف طريقها ، وتسعى بوعى لأداء رسالتها الحضارية فى الحياة .

والحضارة الإسلامية انموذج واضح لدور القيم الايمانية فى تغيير النفوس ، وبناء الحضارات ، فحين مست شرارة الروح أولئك العرب البسطاء حولتهم من بدو متناحرين الى دعاة اسلاميين ، يحملون رسالة الخير والعدل لإنقاذ البشرية الضالة ، وقد استطاعوا فى فترة قصيرة ان يكونوا حضارة متميزة فى مستواها الدينى والدنيوى.

ولم يكن الإيمان فى حس المسلمين الأوائل الذين صنعوا الحضارة فكرة نظرية ، او عقيدة لاهوتية ، او دعوة انعزالية ، او ثقافة ترفية - بل كان رسالة تغييرية ، وفكرة واقعية ، ودعوة حضارية لها دور تريد تجسيده فى الواقع ، وبهذا الفهم يصنع التاريخ ، وتبنى الحضارات ، وهو فهم غائب عن كثير من المسلمين فى واقعنا المعاصر.

لقد قمنا – فى فصل سابق – إن المسلمين اليوم لا ينقصهم منطق الإيمان كعقيدة فردية ليس لها اى بعد اجتماعى ، ولكن ينقصهم الحياة ، والحركة اى ان يتحول هذا الإيمان الى رسالة تغييرية فى الحياة ، ويمكننا ان نقول ان شروط الإقناع لم تتحقق بكاملها عندهم ، اى ان هناك خللاً فى عملية الإقناع بالرسالة الاجتماعية للإيمان لدى الغالبية العظمى منهم.

إننا نرى ان المسلمين اليوم لم يحققوا شروط الإقناع الكامل برسالة الإيمان الاجتماعية والحضارية ، لأن الاقتناع عملية نفسية تشارك فيها جميع قوى النفس ، ولا يمكن فى هذه العملية ان نفصل بين العقل والعاطفة ، لأن إرضاء أحدهما لا يعنى بالضرورة رضا الأخر ، فقد يميل العقل الى حجة او برهان فى حين تجد العاطفة مضطربة غير مطمئنة لذلك الموقف(128)

فالمسلمون يدركون بالعقل ان الايمان ضرورة حياتية ، ولكنهم فى الوقت نفسه يشبعوا جانب العاطفة والضمير بفكرة ان الايمان رسالة اجتماعية ، وذلك راجع الى سيطرة الغرائز على الأفكار ، ومن هنا لم يتحول اقتناعهم الناقص الى إرادة وعمل ، ويمكننا فى هذه الحال ان نشبههم بحالة الإنسان المدخن الذى تجده مقتنعاً بعقله بضرر التدخين ، ومع ذلك لا يستطيع تركه والإقلاع عنه لسيطرة قوى العاطفة عليه بتسجيلها الإحساس باللذة ، ولهذا كانت عملية الإقناع ناقصة لوجود الموانع كالشهوة وغيرها.

إن الإقتناع هو امتزاج الأمر الشرعى بالعقول والقلوب ، بحيث يتحول هذا الاقتناع مباشرة الى إرادة وعمل ، واى خلل فى هذه العملية سيعطل الإرادة ، ويفقد العمل ، وهذا الاقتناع ضرورى للمسلمين فى هذا العصر ، لأن فاقد الشئ لا يعيطه ، ولأن الفكرة الكامنة فى النفوس إذا لم تتحول الى رسالة متحركة فى الحياة ، فهى كالماء المخزون فى سنام البعير .

كالعيس فى البيداء يقتلها الظمأ

والماء فوق ظهورها محمول

ويقول مالك بن نبى – رحمه الله – إن المسلم لا يستطيع ان يقوم برسالته فى الثلث الأخير من القرن العشرين إلا إذا حقق كمنطق خاص لرسالته كل شروط الإقتناع ، وكل شروط الأقناع(129)

وهو يقصد بشروط الاقتناع ، ان يقتنع المسلم بأنه له رسالة يجب ان يقدمها للآخرين ، ولا يكون ذلك إلا بتغيير فى داخله ، وفى أغوار نفسه ، وحوله فى محيطه الخاص او فى محيطه العالمى(130)

وإن المسلم الذى يكره الموت ويحب الدنيا – كما جاء فى حديث القصعة – وهو مسلم انحرف عن مسار الرسالة التى خلق من اجلها ، وهو عاجز عن اداء دوره الاجتماعى ، واستحق بذلك وصف ( الغقائية) ووصم ( الوهن) .

وإنه لا سبيل الى الحياة عاملة نشيطة إلا بعودة الشعور الحركى للمسلم ، الشعور الذى يرفعه من مستوى (الأنا) الى مستوى (النحن) ، والذى يمنحه الوقود اللازم للانطلاق نحو كسب احترام الاخرين له بما يؤدى من عمل ، وبما يزرع من خير ، وبما يقدم من جهد ، وهذا هو دورالشهادة على الناس الذى ينتظره منه كل الناس .

إن المسلم اليوم فى حاجة ماسة الى الاقتناع برسالته وبدوره الحضارى ، وهذا الاقتناع الذى سيمنحه وقوداً لأداء وظيفته بفاعلية وثبات ، وسيكون بذلك واراثاً للنبوة ، وداعياً الى الوسيطية والعدل ، ومنقذاً للبشرية التائهة ، ومنفذاً لأمر الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم : ( لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر أو ليبعثن الله عليكم قوماً ثم تدعونه فلا يستجاب لكم)(131)

2. المبررات والبناء النفسى :

المبررات هى الدوافع التى تحرك الطاقات الاجتماعية وتدفعها الى اعلى مستوى من النشاط والفاعلية ، وهى أحد العوامل الأساسية فى البناء النفسى لأى شعب يريد التحضر ، وهى مثل الكريات الحمراء فى الدم إذا فقدت لسبب من الأسباب ، أصيب الجسم كله بمرض (فقر الدم) الذى يكسب الجسم ضعفاً ووهناً .

والإسلام هو مجموعة من المبادئ والقيم الروحية التى جاءت لتزود البشرية بمبررات جديدة ، لتحيا حياة حقيقة وفق منهج إلهى شامل ( يا أيها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم) [ الأنفال : 24] ( وكذلك اوحينا إليك روحاً من آمرنا ما كنت تدرى ما الكتاب ولا الايمان ولكن جعلناه نوراً نهدى به من نشاء من عبادنا) [الشورى :52] ، فهذه الروح الموحى بها والتى لا قوام للجسد إلا بها ، ما هى إلا تلك المبررات التى تعطى للإنسان قيمته الاجتماعية ، وتحوله من إنسان ضال الى إنسان يسير على هدى وبصيرة( ووجدك ضالاً فهدى) [ الضحى :7] .

والمتأمل فى القرآن الكريم يدرك انه دعوة عالمية محدودة التكاليف يسيرة الرسالة ، وإنما كثرت سوره ، واستبحرت اياته لكى يتسنى عرض الحقائق الدينية فى اسلوب عامر بالإقناع ، فياض بالأدلة (132) ، ولأنه يريد ان يهدم الأسس الفكرية للمناهج الباطلة ، ويبنى النفوس بناءاً نفسياً قائماً على مبررات جديدة ، فيها كل مقومات العمل الايجابية.

وكذلك جاءت السنة النبوية لتزود المسلم بمبررات وجوده ولتذكره دائما بدوره ورسالته فى الحياة يقول الرسول صلى الله عليه وسلم لأحد الصحابة : ( لئن يهدى الله بك رجلاً واحداً خير لك من حمر النعم)(133)

ويقول محمد المبارك : ( إن الله أمرنا ألا نرضى بالظلم والفساد ، والشرك والجهل والتغيير ، بل محاربة هذه الظاهرات الاجتماعية لإحلال العدل والفضيلة والإيمان والعلم محلها ، وما يصاب به الإنسان من مرض او هلاك نفس او مال ، عليه ان يدفعه عن نفسه(134) وهذه المفاهيم الإسلامية هى التى تحدد مركز المسلم فى هذا العالم المتصارع ، كشاهد على الناس فى فكرة وسلوكه ، بما لديه من قيم حضارية ، فيها الخير والسعادة للاخرين.

ومرت الأمة الإسلامية – بعد عصرها الذهبى – بظروف اجتماعية وسياسية ونفسية سيطرت فيها الغرائز والإهواء ، وسادت فسيها العصبية والشحناء ، حتى تكالبت عليها الأمم ، وطمع فيها الأعداء ، وظهر هذا الإنحراف بشكل واضح فى طبقة القائمين على امور المسلمين ، حتى قال فيهم ابن الأثير قولته المشهورة : ( كانوا كالجاهلية ، همة احدهم بطنه وفرجه ، لا يعرف معروفاً ، ولا ينكر منكراً)(135)

وهذا الوضع الذى وصلت إليه الأمة بعد فقدها للمبررات التى كانت تمنحها الحركة ، والحياة فى اول امرها ، جعل الدعاة المصلحين والمجددين ينهضون بعزم وثبات لأعادة الأمة الى وضعها الطبيعى ، ولتغيير تلك المبررات المفقودة بأخرى جديدة ، مثلما يجدد العود حياته بعد يبسه ، ومثلما يغير الفجر ثوبه بعد غسله.

وما الصحوة الإسلامية التى شهدها العالم الإسلامى كله إلا ثورة لأعادة تلك المبررات المفقودة الى الأمة ، وبناء الجيل الجديد بناءاً نفسياً يتجاوز كل العقبات والمعوقات للسعى نحو إعادة المشروع الإسلامى الكبير ، واستئناف الحياة الإسلامية من جديد ، وما زالت الجهود المقدمة لا تصل الى مستوى الطموح الذى تسعى إليه الصحوة ، وهو ان يحمل كل مسلم هم تبليغ رسالته ، والإرتفاع بسلوكه الى مستوى الحضارة.

إن على المسلم اليوم ان يشعر بأنه يملك شيئاً يمكن ان يقدمه للأخرين ، وبخاصة فى هذا العصر ، الذى تتصارع فيه الأفكار والثقافات ، واصبح لزاماً على كل شعب ان يقدم ما يملك من امكانيات حتى يعلم حظه بين الشعوب(136)

ودور المسلم يتمثل فى تحقيق الممارسة التطبيقة والسلوك العملى للآية الكريمة ( ولتكن منكم امة يدعون الى الخير يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وأولئك هم المفلحون) [ آل عمران: 104] ، فإذا ما تحقق هذا المبدأ فى سلوكه فإنه سيوفر لرسالته شروط الفاعلية والنشاط ، وسيجلب احترام الاخرين له بما لديه من قيم شرعية.

إن الفاعلية تكون اقوى فى الوسط الذى ينتج اقوى الدوافع ، وأقوم التوجيهات ، وأنشط الحركات(137) وهى نتيجة طبيعية للمبررات التى تدفع المسلم نحو العمل ، وتحرره من القيود التى تشل تفكيره وحركته ، وإنه لا سبيل امام المسلم اليوم إذا أراد ان يمارس دور الشهادة على الناس ، فى هذا العصر الى تتهاوى فيه القيم والأخلاق ، إلا العودة الى ينابيع الوحى ليغرف منها مادة الحياة ، ويمزجها بشعوره وفكره ، ثم ينطلق الى الواقع ليعمل بيده ، وقلبه ، وفكره ، ليصنع تاريخاً مشرفاً فيه ارضاء لله ورسوله ، وللأجيال القادمة من بعده.

ومسؤولية هذه الأزمة الحضارية التى تعانى منها الأمة الإسلامية اليوم تقع عل عاتق كل مسلم يؤمن برسالته فى الحياة ، وبخاصة ذلك المسلم الذى تهيأ نفسياً وعملياً لقيادة الأمة ، وتوجيه الطاقات ، وتفجير القدرات ، وهو الدور الغائب فى واقعنا المعاصر .

3. النظرة الإيجابية:

النظرة الايجابية فى الحياة هى التى تحدد موقف المسلم تجاه الأشياء ، وهى التى تحدد ايضا مكانته وقيمته الاجتماعية فى الحياة ، لأنها سبب فى العمل والحكرة ، وعامل فى الفاعلية والعزم ، وهى فى حقيقتها تجسيداً لمبدأ التوكل على الله الذى يربط فيه المسلم بين الثقة بقدر الله ، وبين الأخذ بالأسباب التى نصبها الله لعباده .

يقول ابن قيم الجوزية – رحمه الله - : ( من تمام التوكل استعمال الأسباب التى نصبها الله لمسبباتها قدراً وشرعاً ، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم واصحابه اكمل الخلق توكلاً ، وإنما كانوا يلقون عدوهم وهم متحصنون بأنواع السلاح ، ودخل رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة والبيضة على رأسه ، وقد انزل الله عليه ( والله يعصمك من الناس) [المائدة :67] (138)

والمسلم اليوم ؛ إما انه يخطئ فى فهم التوكل على الله ، فيركن إلى التواكل ، ويترك العمل بالأسباب ، وإما انه يعمل بالأسباب ولكن يمنهج خاطئ ، وذلك حي? ينظر الى الأشياء بنظرة فيها تساهل وغباء مما يقود مالك بن نبى – رحمه الله : ( نحن ننظر الى الأشياء على انها (سهلة) وهو قائد ولا شك الى نشاط اعمى ، وإما ان يأخذ النظرة إليها على انها ( مستحيلة) فيصاب النشاط بالشلل(139)

فالنظرة الى الاشياء عند المسلم ينبغى ان تتسم بالإيجابية التى لا تعرف إفراطاً ولا تفريطاً ، ومثل هذه النظرة المعتدلة ستمكنه من التفاعل مع الواقع بثقة وحزم ، وفاعلية وعزم ، وأن عليه تقديم العمل الصائب ليحصل على أحسن النتائج ، أما إذا تخلفت النتائج فسيكون مطمئناً راضياً بقضاء الله وقدره.

ولنا فى القرآن الكريم انماذج حية لمواقف المؤمنين الإيجابية تجاه الأشياء ، فمن ذلك قصة ( ذى القرنين) ذلك الرجل الذى طاف مشارق الأرض ومغاربها ناشراً للعدل والفضيلة ، قامعاً للظلم والرذيلة وهو يمثل انموذجاً رائعاً للمسلم الفعال الذى لا يعرف عجزاً ولا جبناً ، وانظر معى الى موقفه الايجابى تجاه المشكلات التى واجهته ، قال تعالى : ( ثم اتبع سبباً . حتى إذا بلغ بين السدين وجد من دونهما قوماً لا يكادون يفقهون قولاً . قالوا يا ذا القرنين إن يأجوج ومأجوج مفسدون فى الأرض فهل نجعل لك خرجاً على ان تجعل بيننا وبينهم سداً . قال ما مكنى فيه ربى خير فأعينونى بقوة أجعل بينكم وبينهم ردماً . آتونى زبر الحديد حتى إذا ساوى بين الصدفين قال انفخوا حتى إذا جعله ناراً قال أتونى افرغ عليه قطراً . فما استطاعوا ان يظهروه وما استطاعوا له نقباً . قال هذا رحمة من ربى فإذا جاء وعد ربى جعله دكاً وكان وعد ربى حقا) [ الكهف: 81 – 89]

إن موقف ( ذى القرنين ) متسم – كما هو ملاحظ – بالايجابية فى التعامل مع هذه المشكلة وتظهر الايجابية اولاً فى التوكل على الله ( قال ما مكنى فيه ربى خيرا) ثم فى الأخذ بالأسباب ( آتونى زبر الحديد) ، ثم فى الاستعانة بالسنن ( ثم اتبع سبباً) ، وهذا الموقف الايجابى هو الذى حقق تلك النتائج العظيمة ، التى لم يحققها فاتح فى تاريخ البشرية.

إننا لم نلاحظ فى موقف هذا العبد الصالح اى نوع من انواع التبرير او السلبية او العجز ، فهو لم يلجأ الى الدعاء مثلاً لتبرير عجزه ، ولتخليص هؤلاء الكسالى من بغى يأجوج ومأجوج ، وهو ايضا لم يعتمد على منطق الاستحالة لرد عدوان هؤلاء المفسدين ، بل انطلق لحل الأزمة معتمداً على الله ثم على ما بين يديه من وسائل بشرية.

وهناك قضية اخرى تتعلق بموقف المسلم تجاه الأشياء ، وهى ان بعض المسلمين يعتقدون ان العمل الناجح لا يؤدى بالضرورة الى النتائج المرجوة ، وهذه النظرة قد تؤدى بهم الى تقديم العمل دون فاعلية كافية لأنهم لا ينتظرون نتيجة إيجابية لجهدهم المقدم.

يقول جودت سعيد : ( إن اعتقاد المسلمين بأن النجاح ليس نتيجة حتمية للسعى الصالح هو من اشد المعوقات التى تمنع المسلمين من مراجعة اعمالهم ونقدها ، لأنهم لا يفرضون فيها الخطأ بل يفرضون انها كانت صائبة ولكن لم تأت النتيجة لأمر اراده الله(140)

ولا ينبغى ان نخلط هنا بين من يعتقد بأنه يملك العمل ولا يملك النتائج ، وبين من يعمل اى عمل دون مراعاة شروط الصواب ، ثم يقول: إن النتائج بيد الله ، ويحمله تعالى تبعة اخطائه.

إن على المسلمين اليوم إذا ارادوا ان يزيلوا عنهم وصف الغثاثية – وهم بهذا الكم الهائل- ان ينطلقوا الى الحياة بأفق حضارى واسع ، ويخلعوا عنهم لباس الوهن ، وينظروا الى الواقع نظرة إيجابية تبعد كل دواعى اليأس والقنوط ثم ليوقنوا بأن نصر الله لن يتخلف عنهم إذا هم حققوا النصر على انفسهم و ( إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم ) [ الرعد : 11]

وهذه النظرة الإيجابية من شأنها تزويد المسلمين بالطاقة والفاعلية ، لأنها جزء من الإيمان ، ( هذا الايمان الذى لا يمس قلب شخص إلا ويكون أول اعماله تقديم ماله وروحه فى سبيل الايمان ، لا يراعى فى ذلك عذراً ولا تعله ، وكل اعتذار فى القعود عن نصرة الله فهو اية النفاق ، وعلامة البعد عن الله )(141)

4. التوتر والحماس الذاتى :

التوتر هو نوع من الحيوية الدافعة التى تميز اى مجتمع فى بداية حضارته ، وتستمر معه هذه الحالة طيلة رحلته الحضارية ، وهو ايضا حماس ذاتى يدب فى المجتمع فينطلق جميع افراده لانقاذ انفسهم ، وتحقيق وجودهم ، وتطوير مجتمعهم .

ويرى مالك بن نبى – رحمه الله – ان التوتر الذى يمد المجتمع بالفاعلية ما هو إلا حالة نفسية يمكن ان نسميها قلق ، وليس المقصود هنا الحالة النفسية المرضية ، وإنما هو حالة صحية لأنه علامة الحياة الأولى ، وعلامة الولادة الجديدة ، فإن الطفل يستبشر أهله بولادته ولادة سليمة حينما يبكى ، يقول – رحمه الله - : ( نحن إذ يعترينا القلق فى حياتنا نشعر بأنا قد ولدنا ولادة جديدة ، فقد عشنا قرونا طويلة لا نشعر فيها بأى قلق ، فحياة جدى رحمه الله كان يحتويها جو من الطمأنينة فقد كان رجلاً فاضلاً مؤمنا يقوم بواجباته كمسلم ، ولكنه لا يشعر فى يوم من الأيام بوجود المشكلات تواجهه رويداً رويداً وبدأ يشعر شيئاً ما بالقلق ، ثم أتى جيلنا فتعلقت على رأسه الاف من المشكلات ، ونقط الاستفهام ملحة للجواب عليها ، ملحة لدارستها لأنها تتصل بجوهر الحياة كيانناً(142)

ولكن كيف يحدث هذا الشعور بالقلق ، وما هى الظروف التى تنشئ حالة التوتر التى تبعث الحياة فى المجتمع.

إن الشعور بالخطر هو السبب الذى يضع الإنسان امام تحدى مشكلاته ، ويشكل عنده ما يسمى بحالة ( إنقاذ) وأول ما يكون من اثر هذه الحالة فى فنسه أنها تحرمه الشعور بالإستقرار بما يعتريه ويسيطر على مشاعره من قلق لا يمكن دفعه إلا بتغيير الوضع ، بتغيير الأشياء بالوقوف امام الحوادث لتوجيهها لغايات واضحة وقريبة فى شعور الفرد ، سواء اكان الواقع يؤيد هذا الشعور أو لا يؤيده(143)

والشعور بالخطر ليس باعثاً دائماً لحالة القلق التى تدعو الى الحركة نحو التغيير ، إلا إذا صاحب هذا الشعور دافع ايمانى قوى ، لأن كثيراً من الأمم والشعوب تحاصرها المشكلات ، وتهددها الأخطار ، ولا تجد عندها اى شعور بالقلق يدفعها الى تغيير وضعها ، وذلك لفقدها الطاقة الايمانية الضرورية فى مثل هذه الظروف.

وقد ظهرت حالة التوتر بشكل واضح فى بداية الإنطلاقة الإسلامية ، وكان الرسول صلى الله عليه وسلم ، أول إنسان مسته شرارة الروح ، فكان ان شعر بالقلق بعد نزول الوحى عليه ، هذا القلق الذى سيكون من اقوى الدوافع لديه نحو الحركة ، والتغيير وقد سجل القرآن الكريم والسنة النبوية هذه الظاهرة التى حدثت للرسول صلى الله عليه وسلم ، قال تعالى ( فلعلك باخع نفسك على آثارهم إن لم يؤمنوا بهذا الحديث أسفاً ) [ الكهف :6] ، وقال تعالى : ( فلا تذهب نفسك عليهم حسرات) [ فاطر : 8] ، فسلوك النبى صلى الله عليه وسلم هنا ناتج عن حرصه الشديد على إنقاذ أمته ، وقلقه المستمر على تغيير الوضع الجاهلى السائد ، ولذلك وصف فى القرآن بأنه ( حريص عليكم بالمؤمنين رؤوف رحيم ) [ التوبة : 128]

وتسجل كتب السيرة ان الرسول صلى الله عليه وسلم عانى من القلق فى نفسه فى بداية امره ، هذا القلق الذى سيقوده الى مواجهة المشكلات التى يعانى منها مجتمعه وسيظهر صلى الله عليه وسلم عبقرية ذات رحابة لا مثيل لها ، مستهدياً بالوحى الذى يجئ حاملاً دائماً الشعاع العلوى ، والكلمة الأخيرة، وسيكشف الرجل عن ذكاء عجيب ، وعن حكم على قيم الأشياء ، وعلى نفسية الرجال ، منزه تقريباً عن الخطأ ، كما يكشف عن إرادة لا يعتريها الوهن (145)

إن هذه الإرادة التى لا يعتريها الوهن ، وهذا الحماس والحيوية والتوتر الذى تجسد فى شخصية الرسول صلى الله عليه وسلم سيكون أحد مقومات الفاعلية فى الأمة الإسلامية التى ورثت كل صفات الكمال عن نبيها صلى الله عليه وسلم ويبقى وقوداً دائماً لها لمينحها الحياة المتجددة.

وإذا كانت حالة التوتر والحماس لأداء الرسالة الحضارية قد قلت او انعدامت فى الأمة الإسلامية اليوم ، فإنها فى امم اخرى اكثر حرارة وتوقداً ، ومثال ذلك ما يشهده شعب يهود من فاعلية وتوتر وحماس لتحقيق اهدافه الكبرى ، فهو قد استمد هذه المقومات الأساسية من طبيعة الديانة اليهودية ، وواقعها التاريخ ، واستوحى العديد من التعاليم والعقائد الدينية التى تداخلت فى نسيج الحركة الصهيونية الرامية الى الاستيلاء على فلسطين ، وجعلها قاعدة انطلاق لاستعمار يهود فى العصر الحديث(146) يقول: (هرتزل) مؤسس دولة يهود : ( نحن نشعر برابطتنا التاريخية فقط عن طريق إيمان الأباء والأجداد . .. فالإيمان يوحد فميا بيننا ، والمعرفة تمنحنا الحرية(147) وهو يقصد أن إيمان بالعقيدة اليهودية سيبقى المحرك للطاقات ، والموحد للصفوف عند جميع يهود.

وهناك شعب أخر ما زال يحقق التفوق تلو التفوق فى ميادين الحضارة وهو الشعب اليابانى الذى عرف منذ انظلاقه فى القرن الماضى ( سنة 1868) توتراً وفاعلية وحماساً بين جميع افراده ، وحقق بذلك انتصارات كبيرة فى ميادين الحياة المختلفة ، وجلب احترام الأمم والشعوب له ، ,اصبح عندهم أنموذجاً يقتدى به.

إن التوتر والحماس الذاتى هما شرطان أساسيان للفاعلية المرجوة عند المسلمين فى هذا العصر ، ولن يحصل ذلك إلا بالإيمان والإرادة ، وكما يقول الأمير شكيب ارسلان – رحمه الله : ( إن ملاك الأمر هو الإرادة فمتى وجدت الإرادة وجد الشئ المراد(148)

5. المحيط الاجتماعى ( الثقافة) :

المحيط الاجتماعى هو الثقافة التى تعكس حضارة معينة ، وكل مجتمع له ثقافته التى تميزه عن بقية المجتمعات ، من حيث العادات والتقاليد والقيم ، ومن حيث – وهذا هو المهم – السلوك الحضارى ، والذوق الجمالى ، والعمل الحركى.

فالثقافة التى تيمز الحضارات ليست مجموعة من المعارف النظرية التى يتعملها الإنسان – كما يعتقد كثير من الناس – ولكنها سلوك عملى فى المجتمع يحدد مستواه الفكرى وقيمته الاجتماعية ، ومن هنا كان المبدأ الاخلاقى والذوق الجمالى من العناصر الأساسية فى الثقافة ، لأنهما ينتجان الفاعلية ، أو ما يسميه مالك بن نبى ( بالمنطق العملى ) .

إن كل ثقافة تتضمن علاقة ( مبدأ اخلاقى – ذوق جمالى ) تكون ذات دلالة عن نوع عبقرية مجتمع معين ، وهى ليست تطبع إنتاجه الأدبى بطابع خاص فحسب ، وإنما تحدد اتجاهه فى التاريخ ايضا(149) لأن المبدأ الأخلاقى هو الذى يكون شبكة العلاقات الاجتماعية التى تتجه كلها فى اتجاه واحد نحو البناء والتكوين الحضارى ، أما الذوق الجمالى فهو الذى تنبع منه الأفكار ، وتتجه نحوه الأعمال.

وإذا كان للثقافة هذا البعد الاجتماعى ، فينبغى ان نوضح الخلاف الجوهرى بين الثقافة التى تتضمن كشرط اولى تحديد الصلات بين الأفراد ، وبين العلم الذى لا يهتم إلا بالصلات الخاصة بالمفاهيم والأشياء ( فالرجل العالم قد يكون عنده إلمام بالمشكلة كفكرة غير انه لا يجد فى نفسه الدوافع التى تجعله يتصورها كعمل ، فى حين ان الرجل المثقف يرى نفسه مدفوعاً بالمبدأ الأخلاقى الذى يكون أساس ثقافته الى عمليتين : عملية هى مجرد علم ، وعملية أخرى فيها تنفيذ وعمل(150)

إن من أبرز الملاحظات فى القرن العشرين ان الفرد اصبح يؤثر بثلاثة مؤثرات هى : الثقافة ، والعمل ، والمال ، وتعد الثقافة احد الأسلحة الفعالة المستخدمة فى قضية الصراع الفكرى بين الشرق والغرب ، بل إننا نشهد صراعاً ثقافياً بين المجتمعات الغربية نفسها.

وإن أمام المسلم فى هذا القرن تحديات حضارية كبيرة منها التحدى الثقافى الذى يفرض عليه منطق الفاعلية ان ينتصر فيه ، لأنه كى يتمكن من مجابهة الثقافات الخاصة بمجتمعات اليوم المتحركة يجب عليه ان يعيد الفاعلية للدين الإسلامى لتأخذ مكانها بين الأفكار التى تبنى الحضارة وتصنع التاريخ.

ومع ان المحيط الاجتماعى الذى يتربى فيه المسلم اليوم اكسبه بعض العادات السيئة كحب الراحة والسكون ، وتفضيل العجز والتواكل نظراً للخلل الموجود فى شبكة العلاقات الاجتماعية ، إلا أن التحديات الحضارية تفرض عليه توجيه ثقافته وسلوكه نحو العمل الذى وحده يخط مصير الأشياء فى الإطار الاجتماعى ، ولا يكون ذلك إلا بتغيير نفسه اولاً ، والارتفاع بها الى مستوى الحضارة.

لابد للمسلم اليوم ان يعرف ان المعرفة التى يملكها لا قيمة لها إذا لم تتحول الى ثقافة متحركة ، وقوة دافعة ، وإذا لم تساهم فى توحيد العلاقات الاجتماعية ، واجتماع الجهود الفردية والجماعية لتصب كلها فى خدمة الأمة الإسلامية ، والعمل على إخراجها من الأزمة الحضارية التى تعانى منها.

6. الاجتهاد وروح المبادرة:

لقد تحدثنا فى مبحث سابق عن العلاقة العضويى بين ازدهار الاجتهاد وتقدم الأمة وقوتها ، وان ضعف الأمة وتخلفها كان من ورائه تخلف الاجتهاد وضعفه ، وذلك باتباع ( التقليد) الذى اصاب القاعدة الفكرية للأمة بالسلبية والكساد.

والاجتهاد عملية عقلية وفق ضوابط خاصة تتوخى استنباط الأحكام الشرعية العملية من أدلتها التفصيلية ، فالمجتهد ينظر فى الأدلة النصية كالقرآن والسنة ، او يستهدى روح الشريعة ومقاصدها ويبذل جهده فى سبيل التعرف على الحكم الشرعى (151)

وهو عملية تتطلب أقصى الجهد فى معرفة الحقيقة سواء أكانت شرعية ام اجتماعية ام ثقافية ام سياسة وغيرها ، اى انه نشاط فكرى يشمل جوانب الحياة المختلفة ، من حيث انه قوة تحرك كل الطاقات نحو العمل المتقن فى شتى الميادين.

لقد كان الاجتهاد سمة بارزة للفكر الإسلامى فى عصره الذهبى ، وكان قوة دافعة نحو الفاعلية والعمل فى كل الفترات التى عرفت نهضة وازدهاراً فى التاريخ الإسلامى ، وقد دلت التجارب الاجتماعية ان الاجتهاد بالنسبة للأمة الإسلامية لا يعدو كونه جامعاً بين الفكر والواقع فحسب ، بل هو روح تبعث الحياة المتجددة فى الأمة ، وترقى بها الى مستوى الأمم التى تصنع التاريخ.

وفى هذا القرن وقعت الأمة الإسلامية فى خطأ كبير من حيث لا تدرى ، فقد اعتقدت ان طريق التطور والاجتهاد يكمن فى تقليد الغرب ، يقول مالك بن نبى – رحمه الله - : ( حينما استيقظت الشعوب العربية الإسلامية على خطر الاستعمار ، فقد كانت يقظتنا الفجائية دافعاً من دوافع الحياة ، وفى الوقت نفسه دافعاً من دوافع الخطأ ، فكان مثلنا كنائم استيقظ فجأة فوجد النار فى غرفته ، ودون اى تفكير ألقى بنفسه من نافذة الغرفة التى هى فى الدور الرابع أو الخامس لينجو من النار ، فنحن قد ألقينا بأنفسنا من حيث لا نريد فى هوة التقليد حتى ننجو من الاستعمار ، اننا لم نفكر فى الخلاص تفكيراً معقداً ، وإنما دفعتنا دوافع لا شعورية لتقليد حضارة الاستعمار حتى نعصم انفسنا منه(152)

إن التقليد – سواء أكان للغربيين ام لغيرهم – قد جمد الكثير من الطاقات الفكرية المتعطشة الى الإبداع وتقديم الجهد الفكرى الذى يجسد شخصية الأمة وطابعها الحضارية ، وما على الأمة الإسلامية اليوم ان هى أرادت الخروج من ازمتها الحضارية إلا إعادة روح الاجتهاد الى ابنائها ، وذلك بتشجيع روح المبادرة ، وتوفير ظروف الابداع ، واطلاق الحريات ، وإعطاء الحوافز المادية والمعنوية ، فكل هذه الأسباب من شأنها ان تعيد للأمة حيويتها وفاعليتها.

فالاجتهاد المطلوب اليوم هو ذلك سيعيد للأمة عافيتها فى جميع مجالات الحياة ، وينبغى ان يهتم بالجوانب التالية:

اولاً: تصفية الأفكار الميتة ( وهى بعض الأفكار الموروثة التى ليس لها اى سند شرعى ، أو بعد حضارى )

ثانياً : تنقية الأفكار القاتلة ( وهى بعض الافكار المستوردة التى فيها نوع من التهور وليس التطور)(154)

ثالثاً: تشجيع موهبة النقد الذاتى – وبخاصة فى ميدان العمل الإسلامى – حتى تقوم الأعمال ، وتصحح الأخطاء.

7. الحافز والحرية :

إن الحرية تربى وتفجر الطاقات ، وهو وقود ضرورى للفاعلية فى اى مجتمع من المجتمعات المتحضرة ، وقد ذكر فى مبحث سابق ان شعور المسلم بالحرية فى العصور الأولى للإشعاع الروحى كما يمنحه نوعاً من العزة والثقة بالنفس ، وفى الوقت نفسه كان يعطيه دافعاً معنوياً قوياً نحو العمل لإنقاذ البشر المكبلين بحبال القهر والعبودية.

أما فى واقعنا المعاصر فإن المسلم اصبح يشعر بنوع من القهر ، ولم يعد يملك الحرية الكافية للحركة والعمل ، وذلك للقيود التى وضعها الواقع الاجتماعى والسياسى فى المجتمعات الإسلامية بعد خروج الاستعمار منها ، وإن المتتبع لمسيرة الصحوة الإسلامية يدرك مدى القيود والعقبات التى وضعت فى طريقها من قبل اعدائها فى الداخل والخارج حتى تشل حركتها ، وتقيد حريتها ، وتجهضها فى مهدها.

ومع هذه الظروف كلها مازال المسلم يطمح فى ان يحال بينه وبين الواقع ، وان ترفع عنه تلك القيود التى تكبله ، وانه لينظر احترام الى تلك المجتمعات التى حققت لأفرادها بعض الضمانات الاجتماعية مثل العدل والحرية ، ويرجو ان تعود الفاعلية الى الأمة الإسلامية بعودة الحس الإيمانى وقيم الخير والعدل والحرية.

والى جانب اهمية الحرية فى تفجير الطاقات ، وتوجيهها نحو العمل المبدع ، والنشاط المتقن ، لابد من توفير عنصر آخر ضرورى لتحقيق شروط الفاعلية وهو الحافز المادى والمعنوى الذى يساهم فى خلق المبررات التى تحرك الطاقات الاجتماعية ، وتدفع النشاط الفردى والجماعى الى اعلى قمة.

إن الحافز المعنوى يأتى فى الدرجة الأولى من حيث الأهمية ، فهو الباعث للشعور الذى يدفع الإنسان نحو الحركة والعمل ، وهو عامل اساس فى إيجاد الإرادة ، وتوجيه الثقافة ، ومن هنا يلاحظ فى الشريعة الإسلامية ذلك الربط القوى بين المبادئ والحوافز المعنوية لمنح الإنسان جملة من الدوافع المؤدية الى العمل ، ومن هذا الجانب يفهم حديث الرسول صلى الله عليه وسلم فى مبايعة الأنصار حديث قال : ( تبايعونى على السمع والطاعة فى النشاط والكسل وعلى النفقة فى العسر واليسر ، وعلى الأمر بالمعروف ، والنهى عن المنكر ، وعلى ان تقولوا فى الله لا تأخذكم لومة لائم ، وعلى ان تنصرونى إذا قدمت عليكم ، وتمنعونى مما تمنعون منه انفسكم وازواجكم وابناءكم ولكم الجنة )(155) والوعد بالجنة حافز كرره الرسول صلى الله عليه وسلم مع كثير من الوفود التى قدمت لمبايعته ونصرته.

أما الحافز المادى الذى يقلل كثير من المسلمين من اهميته ، فهو على درجة كبيرة من الأهمية فى رفع مستوى الفاعلية ، لأن له ابعاداً اجتماعية كثيرة منها توفير الأمن الاجتماعى والإطمئنان النفسى ، وقد أغنى الله نبيه صلى الله عليه وسلم بمال خديجة حتى يستطيع تأدية رسالته قال تعالى : ( ووجدك عائلا فأغنى) [ الضحى : 8] ، ويأتى وعد الله للمؤمنين بالتأييد المادى فى ساعات الشدة كما فى قوله تعالى : ( وإن خفتم عليه فسوف يغنيكم الله من فضله)[التوبة: 28] ، وقوله تعالى فى مقام الإمتنان : ( وإن خفتم إذ أنتم قليل مستضعفون فى الأرض تخافون ان يتخطفكم الناس فئاواكم وأيدكم بنصره ورزقكم من الطيبات لعلكم تشكرون)( [الأنفال :26]

إن الإسلام دين واقعى يراعى حالات النفوس ، ويلبى حاجات الناس الفطرية ، وما اهتمامه بتوفير الحافز المادى للنفس البشرية إلا دليل على واقعيته ووسطيته ، وإنا نظن ان كثيراً من المسلمين حين فقدوا الحوافز المادية لسبب من الأسباب قل نشاطهم ، وخف تحمسهم للعمل ، مع العمل ان الواحد منهم حين يتوفر لديه هذا الحافز فى اى ظرف من الظروف تجده يقدم اقصى الجهد ، ويعمل ليلاً ونهاراً كى يحقق شيئاً فى حياته ، وإن كثيراً من العقول المهاجرة ترفض الرجوع الى بلادها الإسلامية لجملة من الأسباب لعل ابرزها فقدان الحوافز المادية ، ومن هنا فقد العالم الإسلامى كثيراً من طاقاته الإبداعية لهذا السبب.

ونخلص الى ان توفير الحافز والحرية يساعد فى رفع مستوى الفاعلية عند المسلمين ، وإنه لا سبيل الى تحسين المسلم إلا بتوجيهه نحو العمل ، وإقداره على ان يتجاوز وضعه المألوف.

8. الوقت وسنة التغيير:

الوقت بالنسبة للإنسان المتحضر عملة نادرة لا يضاهيها الذهب ولا الفضة ، لأنه يعلم انه الحياة التى يحيا ، والواقع الذى يعيش ، وهو يعرف ان قيمته الاجتماعية ، ودوره الحضارى مرتبطان بالساعات اليومية التى يقدم فيها عملاً ، ويبذل فيها جهداً.

لقد عد الوقت من العناصر الأساسية التى تكون الحضارات ، فما من شعب يستيقظ ليبدأ رحلة التحضر إلا ويصبح للوقت عنده قيمة لا تقدر بثمن ، ولا تقوم بمال ، وتستمر قيمة الزمن ، لأنه يتحول الى عدم ، وقد اقتضت سنة التغيير الاجتماعى ان يكون الوقت احد الوسائل الهامة فى قلب الأحوال ، وتغيير الظروف ، ومن هنا كان لزاما على الإنسان الراغب فى تغيير نفسه ان يصبح الوقت لديه اغلى شئ فى الحياة.

إن الشعوب التى دخلت التاريخ المعاصر قد عرفت الفاعلية فى مجالات الحياة المختلفة بسبب تقديرها لقيمة الوقت ، وأهميته فى اللحظات الحاسمة التى تخطط مصير المجتمعات ، وإننا لنشهد الأن صراعات حضارية يعد الوقت فيها احد مقومات الرقى والتحضر لكونه يخط مصير الأشياء ويرتبط بمستقبل اية امة تطمح الى صناعة التاريخ.

وإننا لنعجب مثلاً للشعب اليابانى الذى بدأ نهضته فى القرن الماضى ، وجلب احترام الأمم والشعوب له بما حقق من مكاسب وانتصارات فى ميادين العلم والتحضر ، كل ذلك كان نتيجة قراره التاريخى بالتوجيه نحو الحضارة والاستفادة من الوقت ، ومنح الإنسان اليابانى جميع الضمانات كى يحقق وجوده.

أما العالم الإسلامى اليوم فإن الوقت لديه شكل ثقباً فى مشروعة الحضارى ( فحظ الشعب العربى والإسلامى من الساعات كحظ اى شعب متحضر ، ولكن . . . عندما يدق الناقوس منادياً الرجال والنساء والاطفال الى مجالات العمل فى البلاد المتحضرة .. . اين يذهب الشعب الإسلامى ؟ تلكم هى المسألة المؤلمة . . . فنحن فى العالم الإسلامى نعرف شيئاً يسمى ( الوقت) ولكنه الوقت الذى ينتهى الى عدم ، لأننا لم ندرك معناته ولا تجزئته الفنية ، لأننا لا ندرك قيمة اجزائه من ساعة ودقيقة وثانية ، ولسنا نعرف الى الأن فكرة ( الزمن ) الذى يتصل اتصالاً وثيقاً بالتاريخ(156)

إذن لم يتحدد مفهوم الوقت عند المسلم من حيث دخوله فى الفكرة والنشاط ، مع ان شعائر الإسلام كلها تؤكد قيمة الوقت(157) ولهذا كان واجب الإنسان المسلم نحو وقته ان يحافظ عليه كما يحافظ على ماله ، بل اكثر منه ، وان يحرص على الاستفادة من وقته كله ، فيما ينفعه فى دينه ودنياه ، وما يعود على أمته بالخير والسعادة ، والنماء الروحى والمادى ، وقد كان السلف – رضى الله عنهم – أحرص ما يكونون على اوقاتهم لأنهم كانوا أعرف الناس بقيمتها ، يقول الحسن البصرى : أدركت أقواماً كانوا على اوقاتهم اشد منكم حرصاً على دراهمكم ودنانيركم(158)

ويقول مالك بن نبى – رحمه الله - : ( نحن فى حاجة ملحة الى توقيت دقيق وخطوات واسعة لكى نعوض تأخرنا(159) وإن الفاعلية التى نرجو ان يتصف بها المسلم فى واقعنا المعاصر لا يمكن ان تكتمل شروطها إلا بنظرة جديدة تعيد الوقت قيمته فى الحياة.

الفصل الخامس

توصيات

1. دور العلماء :

العلماء هم ورثة الأنبياء – كما ورد فى الحديث الصحيح(160) ووراثة النبوة تعنى استمرار الوظيفة النبوية بعد وفاته صلى الله عليه وسلم ، وذلك بقيام العلماء بالدور نفسه الذى أداه طيلة حياته الجهادية ، وهو دور حمل الرسالة ثم تبليغها ، قال تعالى : ( إنا سنلقى عليك قولاًَ تقيلاً) [المزمل :5] وقال ايضا : ( يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك وإن لم تفعل فما بلغت رسالته) [ المائدة :67]

ومن هذا الواجب الثقيل اصبح العالم مكانة عظيمة فى الإسلام باعبتاره وراثاً للنبوة ، وقائداً وموجهاً للأمة ، قال تعالى : ( يا أيها الذين امنوا أطيعوا الله واطيعوا الرسول واولى الأمر منكم ) [المائدة : 67]

وأولى الأمر الذين تجب طاعتهم هم العلماء العاملون ، وهو تفسير جمهور السلف – رضى الله عنهم (161)

وقبل الحديث عن الدور الذى ينتظر العلماء لابد من توضيح أمرين :

أولاً : تحديد صفة العالم الذى يريده الإسلام ، لأن نظرة كثير من المسلمين اليوم الى العالم قد شابها كثيراً من الخطأ ، وعدم الوضوح ، فكثيراً ما يخلطون بين العالم وغير العالم ، ويترتب على ذلك مواقف فى غاية الخطورة ، فالعالم الذى يريده الإسلام هو العالم العامل – بتعبير الأقدمين – وهو المهيأ نفسياً وعلمياًَ لقيادة الأمة – بتعبيرنا الحديث – وبدون صفة العمل التى تجعل منه وريثاً للنبوة ، لا يمكن بأية حال اعتباره من علماء الأمة الموثوق بهم.

ثانياً : إزالة تلك المفهومات الخاطئة التى ترسبت فى عقول كثير من المسلمين عن العلماء ، وذلك بربطهم بين العلم والكم المعرفى ، أو ما يمكن ان نسميه ( بالبنكية ) فى المعرفة ، اى كثرة المعلومات ددون ان يكون لها أية وظيفة حياتية ، يقول سيد قطب – رحمه الله -: ( اليوم لا قيمة للمعرفة التى لا تتحول لتوها الى حركة ، لا قيمة للدراسات الإسلامية فى شتى مناهجها وشتى معاهدها ، لا قيمة لاكتظاظ رفوف المكتبات بالكتب الدينية ولا باكتظاظ الأدمغة بمضومنات هذه الكتب ، إذ ليس هذا هو الإسلام ، وليس هذا هو العلم الدينى ، العلم شئ يزاول فى الحياة ، ويطبق فى المجتمع ، ويعيش فى الواقع ، ويتمثل فى نظام(162)

فالعلم الذى تحتاج إليه الأمة وهى تعيش أزمتها الحضارية هو ذلك العلم الذى يزاول حياة المسلمين ، ويحدد مصير الأشياء عندهم ، ويوجه سلوكهم نحو العمل والفاعلية ، أما إذا اصبح العلم ترفاً فكرياً أو وسيلة للانتفاع والتنافس الفردى فإنه لن يقدم للأمة شيئاً ، بل سيكون عاملاً سلبياً يساهم فى ترسيخ العجز والضعف.

إن الدور المنتظر من العلماء هو تحريك الأمة والارتفاع بها الى مستوى الشهادة وذلك بالتركيز على جانبين :

أولاً: البناء النفسى : وهو ربط المسلمين بدينهم ربطاً نفسياً يجعل منهم اصحاب رسالة تغييرية فى الحياة ، ويحفزهم نحو العمل بفاعلية وحزم لتحقيق اهداف دعوتهم.

ثانياً : الرؤية الحضارية : وهى إقتناع المسلمين بأنهم دعاة حضارة متميزة فى مستواها الدينى والدنيوى ، وانهم يملكون وسائل النجاة والسعادة للبشرية كافة.

ولو أدى العلماء هذا الدور الكبير لارتفع مستوى الأمة الفكرى ، ولأصبحت تنافس الأمم الأخرى فى قيم الحضارة ، يقول الشيخ محمد عبده – رحمه الله : ( لو قام العلماء الاتقياء وأدوا ما عليهم من النصيحة لله ولرسوله وللمؤمنين ، وأحيوا روح القرآن ، وذكروا المؤمنين بمعانيه الشريفة ، واستلفتوهم الى عهد الله الذى لا يخلف لرأيت الحق يسمو ، والباطل يسفل ، ولرأيت نوراً يبهر الأبصار ، وأعمالاً تحار فيها الأفكار(163)

ولكن فى واقعنا المعاصر يلاحظ ان هناك عجزاً واضحاً للعلماء ، وهذا العجز افقد الكثير من المسلمين الرؤية الصافية ، والتوجه الصادق نحو الإسلام ، لأن من يفقد المرجعية يعطل طاقاته الإبداعية ويسير على غير هدى ، ورحم الله الشهيد عن القادر عودة ( الذين بين هذا العجز فى كتابة المشهور بين الجهل أبنائه وعجز علمائه) حيث قال : ( علماء الإسلام يحملون وزر ما نحن فيه ، وإثم ما اصيب به الإسلام . . . يحملون اوزار المستعمرين الغافلين عن الإسلام والخارجين عليه . .. وعلماء الإسلام أغمضوا أعينهم وأطبقوا افواههم ، ووضعوا اصابعهم فى آذانهم ، وناموا عن الإسلام ، ولما يستيقظوا من عدة قرون ، فنام وراءهم المسلمون ، وهم يعتقدون ان الإسلام فى آمان ، وإلا ما نام عنه علماؤه الأعلام . إن علماء الإسلام ناموا عن الإسلام زمناً طويلاً فما هاجموا وضعاً من الأوضاع المخالفة للإسلام ، ولا حاولوا إيقاف امر او حكم مخالف لأحكام الإسلام ، وما اجتمعوا مرة يطالبون بالرجوع الى احكام الإسلام(165)

إن العلماء هم القدرة والمرجع للأمة ، فينبغى ان يحققوا فى انفسهم أولاً كل صفات الفضل ، وقيم الحضارة ، كالفاعلية والحزم والثبات ، ثم ينطلقوا لقيادة الأمة نحو الريادة والشهادة على الناس ، وبذلك كله سيكونون اهلاً لوراثة النبوة.

2. الواجبات قبل الحقوق :

إذا كان العلماء هم قادة الأمة وقدوتها ، فإن الأمة الإسلامية بأبنائها المخلصين هى القاعدة الأساسية التى ينطلق منها اى إقلاع حضارى ، لأنها منبع الطاقات ، ومستودع القوى ، ولا يمكن بأية حال ان نتوقع السلامة من المرض فى اى جسم بشرى إلا إذا تعافت جميع الأجزاء المكونة له ، وأدى كل جزء دوره اللائق به.

وإن الاستخلاف يبدأ فى حقيقته من مرحلة الواجبات التى يقوم بها كل فرد من افراد الأمة ، هذه الواجبات التى تجتمع كلها لتشكل الجسم السليم والمعافى والنشيط ، الذى يؤدى رسالته الحضارية بثقة ووعى ، وحزم وثبات . يقول مالك بن نبى – رحمه الله - : ( إن التاريخ لا يبدأ من مرحلة الحقوق ، بل من مرحلة الواجبات المتواضعة فى ابسطة معنى الكلمة ، الواجبات الخاصة بكل يوم ، بكل دقيقة ، لا فى معناها كما يعقده عن قصد أولئك الذين يعطلون جهود البناء اليومى بكلمات جوفاء ، وشعارات كاذبة ، يعطلون بها التاريخ ، بدعوى انهم ينتظرون الساعات الخطيرة ، والمعجزات الكبيرة(166)

إن المتأمل فى الشريعة الإسلامية يدرك انها تؤكد على تقوية روح المسؤولية فى المسلم ، وهى تحفزه دائما الى ضرورة ربط الفكر بالعمل ، والواجب بالسلوك وتنبهه الى اهمية القيام بواجبه الدينى والدنيوى ، وأن يعمل بجد حتى لا يكونم كلاً على الآخرين ، وعالة على المجتمع ، قال تعالى : ( وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون وستردون الى عالم الغيب والشهادة فينبئكم بما كنتم تعلمون) [ التوبة: 105] وقال صلى الله عليه وسلم : ( لأن يأخذ أحدكم حبله فيأتى بحزمة من الحطب على ظهره فيبيعها فيكف الله بها وجهه ، خير له من ان يسأل الناس اعطوه او منعوه)(167)

قال ابن حجر العسقلانى – رحمه الله – فى شرح هذا الحديث : ( فيه الحص على التعفف عن المسألة والتنزه عنها ، ولو امتهن المرء نفسه فى طلب الرزق ، وارتكب المشقة فى ذلك(168) ، وفيه ايضا دعوة صريحة الى القيام بالواجب ، وبذل الجهد ، والشعور بالمسؤولية الاجتماعية ، حتى يكون المسلم فعالاً نشيطاً ، نابذاً للعجز والكساد.

والمسلم العاجز هم اداء دوره فى هذا العصر يتطلع الى مستقبل مشرق يستعيد فيه وظيفة الشهادة على الناس ، ولكنه لا يقوم بواجبه بشكل سليم ، وكما يقتضيه الواقع المتسارع من حوله ، بل إنه فى كثير من الأحيان يطالب بحقوقه الحياتية دون ان يبادر الى تقديم الى جهد يستحق الإشادة والتقدير ، وهناك فكرة خاطئة ترسخت عنده، وعند الكثير من ابناء الأمة ، وهى المطالبة بالحقوق ، وانتظار المعجزات ، وكأن المشكلات لا تحل لديه إلا بطريقة سحرية تحول الواقع من سئ الى احسن ، ونسى ان الواجبات هى اللبنات الأولى فى بناء أية حضارة متفوقة.

إن الأهتمام بالواجبات اليومية – حتى فى ابسط صورها – كفيل بأن يعيد الفاعلية الى مستويات عليا عند المسلم ، ويصبح بذلك مهيمناًُ حقيقياً لأبناء الحضارات الأخرى التى تسود الآن ، التى اتخذت من العمل وروح المبادرة والفاعلية سبيلاً نحو إثبات الذات ، وتحقيق الوجود الحضارى.

وطموح المسلمين جميعهم الآن من ان تعود شرارة الروح إليهم ، وأن يعودوا الى مركزهم الريادى ، ولا سبيل الى ذلك إلا بالجهاد ، يقول الأمير شكيب أرسلان – رحمه الله -: ( فلننفض غبار اليأس ، ولنتقدم الى الأمام ، ولنعلم أننا بالغوا كل امنية بالعمل والدأب والأقدام ، وتحقيق شروط الإيمان التى فى القرآن ( والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا وإن الله لمع المحسنين ) [ العنكبوت :69)(169)

3. التغيير النفسى المطلوب :

إن تغيير الحال التى نحن عليها اليوم من العجز والضعف واللافاعلية لا يمكن ان يتم إلا بتغيير نفسى شامل وفق السنة الاجتماعية التى قررها الله سبحانه وتعالى فى كتابه حيث قال : ( إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم) [ الرعد : 11] . إن تغيير ما بأنفسنا يعنى إقدارها على أن تتجاوز الوضع المألوف ، وهو كما يقول مالك بن نبى – رحمه الله – علم تجديد الصلة بالله (170) أى أن يعود الوقود الروحى الى النفوس من جديد فيغيرها من حال الى حال ، من حال الكسل والخمول الى حال الحركة والتوتر ، وهذا هو التغيير النفسى المطلوب ، الذى هو بعبارة أخرى فكرة دافعة للنفوس والمجتمعات.

ويرى مالك ان هذه الفكرة الدافعة لا يمكن تعليمها بنظرية ولا بأى شكل تعليمى ، ولا يدعى العلم أنه يصنعها فى النفوس (171) غير أن سيرة الأنبياء والوقائع التاريخية المختلفة وحوادث التاريخ المعاصر تثبت غير هذا ، ويكفى ان نشير الى ما صنعه كتابات ( ابن تيمية) و ( سيد قطب ) فى تاريخنا القديم والحديث ، وما فعلته المدرسة النظامية فى زمن الحروب الصليبية ، ويكفى ان نشير ايضا الى ما فعلته كتابات ( جان جاك روسو) و ( فولتير ) وغيرها فى قيام الثورة الفرنسية ، وما فعله بعض الزعماء المعاصرين فى تحريك روح الجماعات.

ومن أهم شروط التغيير النفسى ان يكون جماعياً لا فردياً وهو ما أشارات إليه الآية الكريمة فى كلمة ( ما بقوم) و ( حتى يغيروا) يقول جودت سعيد : ( إن مجال التغيير الذى يحدثه الله ، هو ما بالقوم والتغيير الذى اسنده الله الى القوم ، مجاله ما بأنفس القوم . . . ما بقوم (يشمل الكثير ، ويشمل اول ما يشمل ما يمكن أن يلاحظ ويرى من اوصاف المجتمع ، من الغنى والفقر ، والعزة والذلة ، والصحة والسقم ، وينبغى ان نتذكر هنا ان القصد ليس الفرد ، كل فرد بذاته ، وإنما المجتمع العام ، وأن التغيير الذى يحدثه الله من الصحة والسقم ، والغنى والفقر ، والعزة والذلة إنما يعود الى القوم بمجموعهم لا الى فرد محدد)(172)

ومن شروط التغيير النفسى المطلوب تجديد الصلة بالله ، ويعنى اقتناع المسلم برسالته الاجتماعية ، ودروه فى الحياة وهذا هو الكفيل وحده باسترجاع المبررات المفقودة التى تمنح للمسلم ولادة جديدة يشعر فيها ان البشرية كلها فى حاجة إليه ، وأن لديه ما يقدمه لها.

ومن الشروط ايضا التى تساهم فى تغيير النفوس توحيد شبكة العلاقات الاجتماعية ، وذلك ببث الفكر الإسلامى بعد تأصيله وربطه بالفاعلية ، ونبذ الاختلاف المذموم ، والاجتماع على الدين والاعتصام بحبل الله ، وتوحيد الثوابت والأهداف.

ولعل من الشروط الضرورية لتغيير النفوس إدراك المسلم للبعد الايمانى للعمل ، وقيمته الكبيرة فى حياته ، وبدون هذا الإدراك سيبقى هذا المسلم عاجزاً عن صنع تاريخه ، يقول الأمير شكيب أرسلان – رحمه الله - : ( كيف ترى فى أمة ينصرها الله بدون عمل ، ويفيض عليها الخيرات التى كان يفيضها على آبائها ، وهى قد قعدت عن جميع العزائم التى قد كان يقوم بها آباؤها ، وذلك يكون ايضا مخالفاً للحمة الإلهية والله هو العزيز الحكيم)(173)

فلن نستطيع إنقاذ انفسنا وذريتنا المتعطشة افق حضارى متميز إلا بالعمل الشاق المتقن الذى نقوم به فى كل يوم ، وفى كل ساعة ، وفى كل دقيقة ، وعندها فقط سنستحق عناية الله وتوفيقه وتأييده.

4. التضحية:

التضحية مصطلح حديث يعنى بذل اقصى الجهد لتحقيق شئ ما فى الحياة ، وهو مبدأ ضرورى فى حياة كل من يسعى الى السيادة والعز والسلطان ، يقول (ألكسيس كاريل) : ( من المستحيل ان نوفق بين انفسنا ونظام العالم دون تضحية ، فالتضحية احد قوانين الحياة، فإنجاب الأطفال يفرض على المرأة سلسلة لا نهاية لها من التضحيات ، وعلى المرء ان يخضع نفسه لزهد قاس ليصبح بطلاً رياضياً ، أو فناناً او عالماً ، ولا يحصل الإنسان على الصحة والقوة وطول العمر إلا برفض الاستسلام لبعض الرغبات ، ليس هناك عظمة او جمال او قداسة دون تضحية)(174)

ويعبر عن التضحية فى الإسلام بلفظ ( الجهاد) بمعناه الواسع الذى يعنى استفراغ الطاقة لتحقيق الأهداف التى توجه إليها الرسالة الإسلامية فى ميادين الحياة المختلفة ، قال تعالى( والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا وإن الله لمعى المحسنين ) [ العنكبوت : 69]

وهذا الجهاد الذى يحقق هداية الله ، وينير الطريق هو ذروة سنام الإسلام كما ورد فى الحديث الصحيح(175) ، ولذلك عد من الواجبات الضرورية ، والفروض العينية التى تلازم المسلم فى حياته كلها ، يقول الأمير شكيب ارسلان : (إن الواجب على المسلمين لينهضوا ويتقدموا ويعرجوا فى مصاعد الجهد ، ويترقوا كما ترقى غيرهم من الأمم هو الجهاد بالمال والنفس الذى أمر به الله فى قرآنه مراراً عديدة وهو ما يسمونه اليوم بالتضحية فلن يتم للمسلمين ولا لأمة من الأمم نجاح ولا رقى إلا بالتضحية(176)

إن الأزمة الحضارية التى نعيشها لايوم تقتضى منا نحن المسلمين تضحيات كثيرة فى ميادين الحياة المختلفة ، ومطلوب من كل مسلم ان يستفرغ جهده وطاقته فى ميدان تخصصه ، وأن يكون نموذجاً للإحسان ، والإتقان والصواب ، وعندما تتحقق هذه الغاية سوف نرى أيى رسالة حضارية نحن منتدبون إليها ، لأننا نكون قد شرعنا فى بناء حياة جديدة ، وإعادة الفاعلية الى الآمة ، وتفجير الطاقات من جديد ، وسنكون وقتئذ جديرين بتحقيق دور الشهادة على الناس الذى خصنا الله به فى كتابه حيث قال: ( وكذلك جعلناكم امة وسطاً لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيداً ) [ البقرة : 143]

.:. .:. .:.

المصادر والمراجع

1. الاجتهاد والتقليد فى الشريعة الإسلامية – محمد الدسوقى – دار الثقافة – قطر

2. الاجتهاد ومقتضيات العصر – محمد هشام الأيوبى – ط دار الفكر عمان – الاردن

3. الإحكام فى اصول الأحكام – على بن حزم الظاهرى (456هـ) ط دار الافاق الجديدة – بيروت

4. إخراج الأمة المسلمة وعوامل صحتها ومرضها – ماجد عرسان الكيلانى كتاب الأمة رق (30)

5. أزمتنا الحضارية فى ضوء سنه الله فى الخلق – احمد محمد كنعنان كتاب الأمة رقم (26)

6. أساليب الإقناع فى القرآن الكريم – ابن عيسى باطاهر – رسالة ماجستير مكتبة الجامعة الاردنية – عمان – الآردن

7. الإسلام بين جهل ابنائه وعجز علمائه – عبد القادر عودة – ط الاتحاد الاسلامى العالمى للمنظمات الطلابية – الكويت .

8. إعلام الموقعين عن رب العالمين – ابن قيم الجوزية ط دار الجيل – بيروت

9. الإنسان حين يكون كلا وحين يكون عدلاً – جودت سعيد – ط مطعة زيد بن ثابت الانصارى – سوريا

10. البرهان القاطع فى إثبات الصانع – محمد بن ابراهيم الوزير الصنعانى (840هـ ) المطبعة السلفية – القاهرة.

11. تأملات – مالك بن نبى – ط دار الفكر – دمشق

12. تأملات فى سلوك الإنسان ( الحضارة الحديثة فى الميزان ) – الكسيس كاريل – ترجمة محمد القصاص – ط مكتبة مصر – القاهرة

13. التصوير الفنى فى القرآن – سيد قطب – ط دار الشروق – بيروت

14. تفسير التحرير والتنوير – محمد الطاهر بن عاشور – ط الدار التونسية للنشر

15. تفسير الطبرى ( جامع البيان) – ابن جرير الطبرى ( 310هـ) ط دار المعارف – مصر

16. التفسير القرآنى للقرأن – عبد الكريم الخطيب – دار الفكر العربى – مصر

17. تفسير القرطبى ( الجامع لأحكام القرآن ) – محمد بن أحمد القرطبى ( 671هـ ) ط داتر الكتب المصرية 1952

18. تفسير الكشاف – محمود بن عمر الزمخشرى (528هـ) ط دار الريان للتراث – القاهرة

19. تفسير المنار – محمد رشيد رضا – ط دار المعرفة – بيروت

20. حتى يغيروا ما بأنفسهم – جودت سعيد – ط دار الثقافة للجميع

21. حضارة العرب –جوستاف لوبون – ط مطبعة عيسى الباب الحلبى- القاهرة

22. حلية الأولياء وطبقات الأصفياء – احمد بن عبد الله الأصفهانى ( 430 هـ) ط دار الكتب العلمية – بيروت

23. الخصائص العامة للإسلام – يوسف القرضاوى – ط مؤسسة الرسالة – بيروت .

24. دور المسلم ورسالته فى الثلث الأخير من القرن العشرين – مالك بن نبى – ط دار الفكر دمشق .

25. الدولة والدين فى إسرائيل – أسعد رزوق – ط مركز الأبحاث الفلسطينية 1968.

26. رجال حول الرسول – خالد محمد خالد – ط دار الكتاب العربى – بيروت

27. الروضتين فى أخبار الدولتين – أبو شامة المقدسى (665هـ) ط دار الجيل – بيروت

28. زاد المعاد فى هدى خير العباد – ابن قيم الجوزية ( 751هـ ) ط مؤسسة الرسالة 1992.

29. سلسلة الأحاديث الضعيفة والموضوعية – محمد ناصر الدين الألبانى – ط دار المكتب الإسلامى – بيروت.

30. شروط النهضة – مالك بن نبى – ط دار الفكر – دمشق

31. صحيح ابى داود – محمد ناصر الدين الألبانى – ط مكتب التربية العربى لدول الخليج 1989م

32. صحيح البخارى – محمد بن اسماعيل البخارى ( 256هـ) ط دار إحياء التراث العربى – بيروت

33. صحيح الترمذى – محمد ناصر الدين الالبانى – ط مكتب التربية العربى لدول الخليج 1988م

34. صحيح مسلم – مسلم بن الحجاج القشيرى (261هـ) تحقيق محمد فؤاد عبد الباقى – ط دار الفكر – بيروت

35. صحيح مسلم بشرح النووى – يحيى بن شرف النووى ( 677هـ ) ط دار إحياء التراث العربى – بيروت

36. صناعة الحياة – محمد احمد الراشد – ط دار المنطلق الإمارات العربية المتحدة.

37. الظاهرة القرآنية – مالك بن نبى – ط دار الفكر – دمشق

38. العبودية – شيخ الإسلام احمد بن عبد الحليم بن تيمية (728هـ) ط دار الكتب العلمية – بغداد

39. العمل قدرة وإرادة جودت سعيد – ط دار الثقافة للجميع 1980م

40. الفتاوى – شيخ الإسلام احمد بن عبد الحليم بن تيمية (728هـ) جمع وترتيب : عبد الرحمن بن محمد العاصمى وابنه.

41. فتح البارى بشرح صحيح البخارى – ابن حجر العسقلانى (825هـ) ط دار الريان للتراث – القاهرة

42. فى مهب المعركة – مالك بن نبى – ط دار الفكر – دمشق

43. قبسات من الرسول صلى الله عليه وسلم – محمد قطب – ط وزارة المعارف – السعودية 1986م

44. لماذا تأخر المسلمون ولماذا تقدم غيرهم – الأمير شكيب ارسلان – ط دار البشير – القاهرة

45. المائة الأوائل – مايكل هارت – ترجمة خالد أسعد عيسى – وأحمد غسان سباتو – ط 3 دار قتبية 1984م

46. المسند – الإمام أحمد بن حنبل (241هـ ) ط دار الكتب العلمية – بيروت

47. مشكلة الأفكار فى العالم الإسلامى – مالك بن نبى – ط دار الفكر – دمشق

48. مشكلة الثقافة – مالك بن نبى – ط دار الفكر – دمشق

49. مشكلات فى طريق الحياة الإسلامية – محمد الغزالى – ط دار الأمة – قطر

50. معالم فى الطريق – سيد قطب – ط دار الشروق – بيروت

51. مقدمة فى اصول التفسير – لشيخ الإسلام احمد بن عبد الحليم بن تيمية (728هـ) ط القرآن الكريم – بيروت 1971م

52. مقومات التصوير الإسلامى – سيد قطب – ط دار الشروق – بيروت

53. النبأ العظيم – محمد عبد الله دراز – ط دار القلم – الكويت

54. نظام الإسلام ( الإقتصاد ) – محمد المبارك – ط دار الفكر – بيروت 1980

55. نظرت فى القرآن – محمد الغزالى – ط دار الشهاب – الجزائر

56. هذا الدين – سيد قطب – ط دار الشروق – بيروت

57. هكذا ظهر جيل صلاح الدين وهكذا عادت القدس – ماجد عرسان الكيلانى – ط دار السعودية للنشر والتوزيع.

58. وجهة العالم الإسلامى – مالك بن نبى – ط دار الفكر – دمشق

59. الوحدة الإسلامية والأخوة الدينية – محمد رشيد رضا – ط دار المنار – مصر

60. الوقت فى حياة المسلم – يوسف القرضاوى – ط المؤسسة الرسالة - بيروت

المراجع

1. تجديد المنهج فى تقويم التراث ، د. طه عبد الرحمن

2. جامع العلوم والحكم : 24

3. جامع العلوم والحكم : 24

4. إذ ما ثمرة إقرار لا يتبعه العمل والإلتزام ؟

5. فتح البارى : 1 – 128

6. المرجع السابق : 60

7. مجموع الفتاوى : 1- 557

8. أبو داود والترمذى ، والحاكم

9. تفسير ابن كثير : 2 – 343

10. المرجع السابق

11. إذا هبت ريح الإيمان ، أبو الحسن الندوى :7

12. مجموع الفتاوى : 7 / 645

13. المرجع السابق

14. مجموع الفتاوى : 7/541 – 542

15. الملل والنحل : 109

16. مجموع الفتاوى : 8 /70

17. انظر : مدارج السالكين : 3/ 478

* من أئمة الأشاعرة

18. معالم اصول الدين : 107

19. إحياء علوم الدين : 4 /4

20. انظر : إحياء علو الدين : 4/96

21. مجموع الفتاوى : 8/478 – 488

22. الموافقات : 1/218

23. مدارج السالكين : 3/478

24. تأملات فى سلوك الإنسان ( الحضارة الحديثة فى الميزان ) ترجمة محمد القصاص ص40ط مكتبة مصر – القاهرة

25. المائة الأوائل – ترجمة خالد أسعد عيسى وأحمد غسان سباتو – ص 19 – 20ط 3/ دار قتيبة 1984م

26. مشكلات فى طريق الحياة الإسلامية – ص47 – طبعة دار الأمة –قطر

27. وجهة العالم الإسلامى – ص 166 ط دار الفكر – دمشق

28. دور المسلم ورسالته فى الثلث الأخير من هذا القرن – ط دار الفكر – دمشق

29. قبسات من الرسول صلى الله عليه وسلم – ص 58 – ط وزارة المعارف – السعودية 1986

30. المرجع نفسه – ص26

31. ينظر وجهة العالم الإسلامى – مالك بن نبى – ص 86

32. مشكلة الأفكار فى العالم الإسلامى – مالك بن نبى – ص97

33. البرهان القاطع فى اثبات الصانع – محمد بن ابراهيم الوزير الصنانعى – ص 30ط المطبعة السلفية – القاهرة

34. وجهة العالم الإسلامى – ص 88

35. اختار مجمع اللغة العربية بالقاهرة كلمة (الفاعلية) فى مقابل كلمة Efficancy فى اللغات الاوروبية – ينظر المعجم الوسيط – مادة (فعل) ط دار احياء التراث العربى

36. تفسير الكشاف – للزمخشرى – ج4 ص 733 – ط الريان للتراث

37. ينظر ( Efficace ) Grand Larousse Encyclopeidique

38. ينظر شروط النهضة – مالك بن نبى – ص 63 ط دار الفكر- دمشق

39. تأملات – ص 125 – 126 ، ط الفكر – دمشق

40. مشكلة الثقافة – ترجمة عبد الصبور شاهين – ص 85 ، 86 ط دار الفكر – دمشق

41. الإنسان حين يكون كلاً وحين يكون عدلاً – ص9 – ط مطبعة زيد بن ثابت الأنصارى.

42. ينظر الإنسان حيث يكون كلاً وحين يكون عدلاً – جودت سعيد ، ص6

43. تفسير التحرير والتنوير – محمد الطاهر بن عاشور – ج 16 ص75 ط دار التونسية للنشر .

44. صحيح مسلم – باب القدر – ج4 ص2052 – تحقيق محمد فؤاد عبد الباقى – ط دار الفكر – بيروت.

45. صحيح مسلم بشرح النووى – ج 16 ص 215 – ط دار إحيار التراث العربى

46. مثل جزائرى انتشر زمن الاستعمار الفرنسى للجزائر بين طائفة من الناس كانت ترى ان الاستعمار قضاء وقدر.

47. تأملات – مالك بن نبى – ص 126

48. التفسير القرانى للقرآن – عبد الكريم الخطيب – ج6- ص529 ، 350 ط دار الفكر العربى.

49. الإنسان حين يكون كلاً وحين يكون عدلاً – جودت سعيد – ص38

50. مقومات النصور الإسلامى – ص21 ، 22ط دار الشروق 1986

51. هذا الدين ، ص3 ، 4 ط دار الشروق بيروت

52. الإنسان حين يكون كلاً وحين يكون عدلاً – جودت سعيد –ص 41

53. صحيح مسلم – كتاب القدر

54. الفتاوى – ابن تيمية – ج8 ص 138 ، 139

55. رواه أبو داود والبيهقى والطبرانى والإمام أحمد ، وضعفه الشيخ الألبانى وإن كان معناه صحيحاً

56. تفسير الطبرى – ابن جرير الطبرى – ج1 ص80 وانظر مقدمة فى اصول التفسير لابن تيمية – ص36 دار القرآن الكريم بيروت 1971

57. شروط النهضة – مالك بن نبى – ص 21 ، 22

58. تأملات – مالك بن نبى – ص 131

59. انظر تأملات – مالك بن نبى – ص126

60. رواه مسلم ( باب القدر )

61. رواه مسلم وأحمد واصحاب السنن الأربعة

62. متفق عليه

63. تفسير القرطبى – محمد بن احمد القرطبى – ج1 ص40 ط دار الكتب المصرية 1952

64. رواه احمد فى مسند وابن ماجة فى سننه فى باب ما جاء فى ذهاب العلم

65. انظر مقدمة عمر عبيد حسنه – كتاب الأمة رقم 43

66. انظر كتاب (حتى يغيروا ما بأنفسهم) ، جودت سعيد ص 141 وما بعدها

67. تأملات – ص 132

68. مثال ذلك فترة ما بعد الخامسة والعشرين من عمره وحتى بعثته صلى الله عليه وسلم

69. التصوير الفنى فى القرآن – سيد قطب – ص11 ط دار الشروق

70. انظر : قبسات من الرسول – محمد قطب – ص59

71. انظر : قبسات من الرسول – محمد قطب – ص49

72. البرهان القاطع فى إثبات الصانع – لابن الوزير – ص30

73. إخراج الأمة المسلمة وعوامل صحتها ومرضها – ماجد عرسان الكيلانى – ص 52( كتاب الأمة رقم30)

74. زاد المعاد فى هدى خير العباد – ج3 ص5 ط مؤسسة الرسالة سنة 1992

75. المصدر السابق – ج 3 ص 45، 46

76. النبأ العظيم – ص35 ط دار القلم الكويت

77. رواه الترمذى ( انظر صحيح الترمذى ج2 ص 244)

78. لم يعرف التاريخ الإسلامى جيلاً مثل جيل الصحابة الذى اجتمعت فيه صفات الخيرية كلها.

79. معالم فى الطريق – سيد قطب – ص17 ، 18ط دار الشروق

80. انظر تفسير الطبرى – لابن جرير الطبرى – ج1 ص 80ط دار المعارف – مصر

81. انظر ( رجال حول الرسول) – خالد محمد خالد – ص 511 وما بعدها ط دار الكتاب العربى – بيروت 1987

82. الروضتين فى اخبار الدولتين – أبو شامة المقدسى – ج1 ص6 ط دار الجيل – بيروت

83. الروضتين فى اخبار الدولتين – ابو شامة المقدسى – ج1 ص4 ،5

84. انظر كتاب (هكذا ظهر جيل صلاح الدين وهكذا عادت القدس) – ماجد عرسان الكيلانى ص214 ط الدار السعودية للنشر والتوزيع.

85. المرجع السابق – ص 215

86. متفق عليه

87. لماذا تأخر المسلمون ولماذا تقدم غيرهم – ص103 ط دار البشير القاهرة

88. العبودية – ص 4 ط دار الكتب العلمية بيروت

89. انظر الخصائص العامة للإسلام – يوسف القرضاوى – ص116 ط مؤسسة الرسالة – بيروت

90. حلية الأولياء وطبقات الأصفياء – احمد بن عبد الله الأصفهانى – ج8 ص95 ط دار الكتب العلمية – بيروت

91. رواه مسلم ، باب امارات الساعة

92. انظر مقدمة عمر عبيد حسنة – كتاب الأمة رقم (30)

93. رواه احمد فى المسند

94. قبسات من الرسول – محمد قطب – ص16

95. انظر الإنسان حين يكون كلاً وحين يكون عدلاً – جودت سعيد – ص42

96. تأملات – ص38

97. رواه الترمذى وقال : حديث حسن

98. انظر تأملات – مالك بن نبى – ص37

99. انظر الإنسان حين يكون كلاً وحين يكون عدلاً – جودت سعيد – ص44

100. شروط النهضة – مالك بن نبى – ص61

101. وجهة العالم الإسلامى – مالك بن نبى ص32

102. المرجع نفسه – ص32

103. رواه ابو داود ( انظر صحيح ابى داود – ج3 ص810)

104. إعلام الموقعين – لابن قيم الجوزية – ج2 ص302

105. انظر الاجتهاد ومقتضيات العصر – محمد هشام الأيوبى – ص147 وما بعدها ط دار الفكر الأردن

106. إعلام الموقعين – لابن قيم الجوزية – ج2 ص302

107. الإحكام فى اصول الأحكام – ج2 ص 793 ومابعدها – ط دار الآفاق الجديدة – بيروت

108. الفتاوى – ج20 ص 209

109. تفسير المنار – ج1 ص114 ط دار المعرفة

110. وجهة العالم الإسلامى – ص86

111. الاجتهاد والتقليد فى الشريعة الإسلامية – محمد الدسوقى –ص 9 دار الثقافة – قطر

112. انظر ( فى مهب المعركة ) مالك بن نبى – ص 134

113. متفق عليه

114. الوحدة الإسلامية والأخوة الدينية – ص130 ط دار المنار – مصر

115. حديث لا اصل له ، انظر سلسلة الأحاديث الضعيفة والموضوعة – محمد ناصر الدين الألبانى ج1 ص 86ط المكتب الإسلامى.

116. انظر مثلاً ما حدث فى افغانستان بعد انهزام الشيوعيين فيها.

117. انظر شروط النهضة – مالك بن نبى – ص114

118. انظر ( ازمتنا الحضارية فى ضوء سنة الله فى الخلق – احمد محمد كنعان – ص107 ( كتاب الأمة رقم 26)

119. حضارة العرب – ص125ط مطبعة عيسى البابى الحلبى القاهرة

120. انظر ( الخصائص العامة للإسلام – يوسف القرضاوى – ص54

121. صناعة الحياة – محمد احمد الراشد – ص59 ط دار المنطق

122. لماذا تأخر المسلمون – ص77

123. صناعة الحياة – ص66

124. متفق عليه

125. رواه البخارى ( كتاب العلم)

126. انظر ( اساليب الإقنع فى القرآن – ابن عيسى باطاهر (رسالة ماجستير) مكتبة الجامعة الاردنية – عمان – ص5

127. دور المسلم ورسالته فى الثلث الاخير من القرن العشرين – ص53 ط دار الفكر – دمشق

128. المرجع نفسه – ص54

129. رواه احمد فى مسنده

130. انظر ( نظرت فى القرآن ) محمد الغزالى – ص 121 – ط دار الشهاب الجزائر

131. متفق عليه.

132. نظام الإسلام ( الاقتصاد ) – ص130 – ط دار الفكر – بيروت

133. الروضتين – ابو شامة المقدسى – ج1-ص6

134. تأملات – مالك بن نبى – ص203

135. المرجع نفسه – ص34

136. زاد المعاد – ج3ص 480

137. وجهة العالم الإسلامى – ص88

138. العمل قدرة وإرادة – ص92 – 93

139. تفسير المنار – محمد رشيد رضا – ج10 ص46

140. تأملات مالك بن نبى – ص122

141. المرجع نفسه – ص132

142. انظر الطاهرة القرآنية – مالك بن نبى – ص 130 ط دار الفكر – دمشق

143. انظر ( الدولة والدين فى اسرائيل) اسعد رزوق – ص9 ط مركز الأبحاث الفلسطينية 1968

144. المرجع نفسه – ص17

145. لماذا تأخر المسلمون ص 79

146. شروط النهضة – مالك بن نبى – ص110 ، 111

147. تأملات – مالك بن نبى – ص145

148. انظر ( الاجتهاد والتقليد فى الشريعة الإسلامية (محمد الدسوقى – ص19)

149. تأملات – ص 211

150. انظر وجهة العالم الإسلامى – مالك بن نبى – ص83

151. زاد المعاد فى هدى خير العباد – ابن قيم الجوزية – ج3 ص46

152. شروط النهضة – مالك بن نبى – ص 146

153. الوقت فى حياة المسلم – يوسف القرضاوى – ص6 ط مؤسسة الرسالة

154. المرجع نفسه ص 12

155. شروط النهضة – ص146

156. رواه البخارى والترمذى وغيرهما

157. انظر الفتاوى لابن تيمية – ج19 ص67

158. مقومات التصور الإسلامى – ص25

159. تفسير المنار – ج10 ص46

160. الإسلام بين جهل ابنائه وعجز علمائه – ص73 – 74 –ص 5 الاتحاد الإسلامى العالمى للمنظمات الطلابية – الكويت

161. فى مهب المعركة – ص 78

162. رواه البخارى ( باب الزكاة)

163. فتح البارى بشرح صحيح البخارى – ج 3 ص 394 – ط دار الريان للتراث – القاهرة

164. لماذا تأخر المسلمون – ص 164

165. وجه العالم الإسلامى – ص54

166. مشكللة الأفكار – ص54

167. حتى يغيروا ما بأنفسهم – ص48

168. لماذا تأخر المسلمون – ص 43

169. تأملات فى سلوك الإنسان – ص 44،45

170. رواه الترمذى ( انظر صحيح الترمذى) ج2ص 329

171. لماذا تأخر المسلمون – ص164 – ط عيسى البابى الحلبى – مصر

===============

#العنصرية والخطاب الإسلامي

السبت 14 ذي الحجة 1426هـ – 14 يناير 2006م

الصفحة الرئيسة

د. محمد يحيى

مفكرة الإسلام: ثارت منذ سنوات قضية تغيير أو تجديد الخطاب الديني الإسلامي بحجة أن هذا أمر ضروري لتحسين صورة الإسلام في الغرب التي شوهها المتطرفون والإرهابيون الإسلاميون المزعومون.

وطرحت القضية بأسرها في إطار يصور الغرب كله وبالذات أوروبا في وضع المجني عليه الذي يتعرض للهجوم والعدوان الإسلامي بينما صور الإسلام والمسلمين في وضع الجاني والمعتدي الذي انتابته لوثة فثار يدمر الحضارة الإنسانية الراقية المتقدمة.

وفي حدود هذا التصور طرحت على المسلمين ومن خلال الحكومات والنخب الثقافية العلمانية قضية ما أسمي بتجديد وتحديث الخطاب الديني ومنها قضايا أخرى تسربت تحت مسمى الاجتهاد الفقهي ومواكبة العصر وترمي كلها إلى إحداث تغيير كبير في بنية الفكر والدعوة الإسلامية وحتى في بنية العقيدة ذاتها بهدف طرح نسخة من الإسلام لا تعادي الحضارة الغربية بل تنسجم وتتسق معها وتندمج في معطياتها وتتمشى مع عملية العولمة التي تمثل أساس الطرح الفكري العالمي لتلك الحضارة في الوقت الراهن.

ولكن بينما شغل العالم الإسلامي عن بكرة أبيه بهم لتعديل وتنقيح الإسلام، بما يرفع عنه تهمة العدوان على الغرب، كانت تدور في العالم الغربي نفسه عملية أخرى جرى لفت الأنظار بعيداً عنها في إعلام البلاد العربية والإسلامية هذه العملية هي تصاعد وتكرّس التيارات العنصرية واليمينية والدينية [الصليبية الكنسية والتنصيرية] في الغرب نفسه والتي انطلقت لتمارس نشاطها ليس في الغرب وحده بل في سائر أنحاء الدنيا ولاسيما في العالم الإسلامي مستغلة العولمة ووسائل الاتصال والمواصلات الحديثة والتحرر العام في التجارة وشتى أنواع التبادل بما فيها الفكري والسياحي والثقافي بطبيعة الحال.

صحيح أن الإعلام في البلاد العربية تحدث عن صعود التيار المحافظ في السياسة الأمريكية لكنه تحدث عنه فقط في إطار النقل عن الإعلام الأمريكي وبدون إبداء أية تحليلات مستقلة وبدون أن يصور الأمر كظاهرة عامة متأصلة سواء في أمريكا نفسها أو على امتداد الساحة الغربية وصولاً إلى روسيا. وتحدث الإعلان عن هذه الظاهرة كتحول سياسي محدود وليس كظاهرة اجتماعية فكرية ثقافية عامة كاسحة عميقة الجذور واسعة التأثير ممتدة الأثر.

وإذا كنا سمعنا الكثير في هذا الصدد عن اليمين الأمريكي والمسيحية الصهيونية في أمريكا فإننا لم نسمع في المقابل الكثير عن تغوّل وتوّسع نشاطات الكنائس الغربية الكاثوليكية والبروتستانتية الكبرى وتدخلاتها المتزايدة في دنيا السياسة والمجتمع والثقافة بل والاقتصاد والتنمية والتجارة. ولم نسمع عن تحول الكنائس الأرثوذكسية في شرق أوروبا وبالذات في دول البلقان ثم روسيا إلى كيانات كبيرة متحفزة ونشطة تستوعب الدول والمجتمعات داخلها وتحركها لصالح أهدافها وتتحكم في المجريات المهمة للسياسة بل تصل إلى حد تحديد هويات تلك الدول الواقعة على امتداد شرق أوروبا على أنها هويات مسيحية أرثوذكسية وتندمج الهوية القومية والعرقية داخل الهوية الدينية.

وحتى عندما كان الإعلام العربي والإسلامي ينقل على مدى التسعينات أحداث البلقان في البوسنة وكوسوفو ومقدونيا والصرب وكرواتيا كان يصور الأمر كله على أنه ناتج من الطموحات الشخصية أو التطرف القومي لبعض القادة من الصرب والكروات وليس على أنه تحرك ضد الإسلام والمسلمين في شرق أوروبا من جانب المذهب المسيحي الحاكم في ذلك الجزء من العالم، وعندما سادت اتجاهات دينية [صليبية كنسية] معادية للإسلام بدول أوروبا الغربية في السنوات القليلة الماضية راح الإعلام الغربي يصورها على أنها مجرد أحداث محدودة يحركها حفنة من الساسة العنصريين بل ذهب العلمانيون المسيطرون على هذا الإعلام إلى حد القول والترويج لفكرة أن هذه الأحداث ليست سوى ردود أفعال منطقية ومبررة للإرهاب والتطرف الإسلامي الذي بدأ العدوان على أوروبا.

وظل هذا هو الرأي السائد في الإعلام الغربي، حتى والعديد من الحكومات الأوروبية تتحدث الآن صراحة وكجزء من السياسة الثابتة عن ضرورة إدخال تعديلات جذرية على الإسلام بما يشمل عقيدته لكي يخرج في النهاية إسلام أوروبي يخضع للثقافة السائدة هناك وهي ذات الطابع المسيحي العلماني، بل ونسمع الآن ليس فقط عن ضرورة خروج إسلام أوروبي عام متسق مع معايير الغرب بل عن إسلام خاص بكل بلد أوروبي على حدة [إيطالي / فرنسي/ ألماني/ هولندي/ دانمركي/ بريطاني] ونسمع التأكيدات بأن أي إسلام لن يسمح له بالوجود في أوروبا إلا إذا اتسق مع هذه المعايير المفروضة عليه من خارجه بل المفروضة من مخالفيه ورافضيه سواء كانوا ينتمون إلى الدين المسيحي أو إلى الفكر العلماني [اللا ديني].

وبهذا التصور تنكشف الحالة التي سيطرت على البلاد العربية والإسلامية لما يصل إلى العقد من السنين على أنها في الواقع عنصرية مستأصلة ومعتدية أفلحت بفضل السيطرة على وسائل الإعلام في تصوير الواقع على عكس ما هو عليه وأوهمت المسلمين بأنهم المعتدون وهم الذين يجب أن يحدثوا تغييرات في بنيتهم العقيدية والفكرية لكي يتوقفوا عن العدوان على الغرب في الوقت الذي كان فيه هذا الغرب نفسه هو الذي يمارس العدوان والتوسع سواء من خلال العولمة أو غيرها من العمليات السياسية والعسكرية والاقتصادية والثقافية والإعلامية.

ولكن الأحداث الأخيرة في فرنسا حيث انفجر بركان الغضب الشعبي للمواطنين الفرنسيين ذوي الأصول غير البيضاء ضد الممارسات العنصرية البيضاء كشف حقيقة الأمر على امتداد أوروبا كلها وكشف زيف ما يقال عن المبادأة الإسلامية المتطرفة بالعدوان

===============

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

الفهرس العام

 

الباب السابع   1

الحضارة الإسلامية  وأسباب سقوطها وعوامل النهوض بها (4) 1

#هويتنا والعولمة كتاب يدعو إلى تحديث الأصالة وتأصيل الحداثة   1

#ل ندع الغد يصنع بدوننا؟    4

#المسلمون في ألمانيا بين رغبة التعايش والتحديات الداخلية  11

#نحو صورة وسطية حضارية نقدم بها الإسلام للعالم  20

#الوقف الخيري يحل المشكلات الاقتصادية في بلاد المسلمين    25

#الأمريكان وجريمة التخريب الثقافي للعراق    31

#فقه التغيير .. دراسة جديدة لفكر مالك بن نبي   41

#خمس مؤامرات كبرى على الإسلام .. أخر ما كتبه أنور الجندي 42

#مفكرة الإسلام تحاور المفكر د. جعفر شيخ إدريس  45

#كيف غير الإسلام الطب؟ مقال منشور في مجلة بريطانية 54

#الأمة الإسلامية والخروج من المأزق   56

#السقوط الحر 61

#أسس الحضارة الاسلاميه   64

#خصائص الحضارة الإسلامية  67

#الوظيفة العامة في الإسلام... فكر إداري    74

#انظروا عمَّن تأخذون دينكم ؟! 76

#المرأة الأمريكية والتاريخ!! 91

#صنعة الخط والمخطوط والوراقة والفهرسة في الحضارة الإسلامية 93

#محمد كرد علي ..علامة الشام ومؤسس أول المجامع العربية  96

#جهود العلماء المسلمين في تقدم الحضارة الإنسانية    101

#كيف يستطيع المسلمون الإفلات من طوق التخلف؟ 106

#الحرب ضد الإسلام قديمة ولا علاقة لها بأحداث سبتمبر   114

#د.محمد يحي يتحدث للمفكرة عن المشروع الإسلامي وهموم الصحوة.   123

#مصطفى صادق الرافعي- أديب كتب تحت راية القرآن 129

#خصال الشباب المتهمين بالإرهاب   134

#الإسلام والغرب .. تعاون أم مواجهة ؟!    137

#من سيملأ الأكواب لبنًا..؟؟! 149

#البرقع مقابل البكيني في سوق المرأة الأمريكية   156

#تصدير الحضارات على ظهور الدبابات    159

#قواعد التغيير   169

#أمريكا والانهيار الحضاري...حقيقة أم وهم؟!   172

#معوقات وعوامل نهضة الأمة.. قراءة تحليلية نقدية لنخبة من المفكرين والدعاة [1/2]   191

#التربية طريق التغيير الحضاري   222

#كيف تصبح شخصية فعالة - أنت مفتاح النهضة  226

#فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ  232

#خطابات الظواهري وملامح الطريق الثالث    238

#أمجادنا    243

#الفكر الغربي مارس أبشع أنواع الإرهاب تحت قناع الحضارة 247

#مُقوِّمات الأمة وأَسباب النهوض بها 255

#الوقت في حياة المسلم   267

#في التاريخ .. فكرة ومنهاج 273

#حوار الحضارات الجذور والتاريخ   281

#تأسيس جيل النصر.. نور الدين زنكي نموذجًا  286

#كيف تجعل ابنك قائدًا؟ 290

#نحن والغرب...هل لدينا رؤية صحيحة؟    294

#الجالية الإسلامية في الغرب- ومسؤولياتها في المجتمع الغربي 300

#أسباب تصدع الأسر وتفككها   314

#ليس 'آلام المسيح' بل جهل المتعالمين    318

#وفاة رفاعة الطهطاوي ـ رائد التغريب    322

#سُكَّانُ القِمَمِ  327

#الغرب أستاذ الخداع   340

#حركة التغريب تقود بناتنا للهاوية!   346

#الخوف من الإسلام القادم   361

#كتاب [الإسلام والغرب بين التعاون والمواجهة]   375

#العولمة بين أحلام مشروعة وأوهام ممنوعة 378

#من روائع الحضارة الإسلامية .. النظام الاقتصادي في الحضارة الإسلامية 391

#الصحة الإيمانية .. وأثرها على واقع الأمة [2]   400

#وفاة طه حسين – الأكذوبة الكبرى   417

#صدور الجزء الثامن من كتاب في البناء الحضاري للعالم الإسلامي 422

#وثيقة المدينة المنورة.. كتاب عن عقد اجتماعي مبكر في تاريخ البشرية  424

#الإسلام والحضارة الغربية والصدام الحتمي    427

#الانهيار الحضاري يقع على عاتق حكام وعلماء الأمة  430

#حدود التعددية التي يسمح بها الإسلام    438

#الإحسان في الحضارة الإسلامية  445

#الخيانات العربية... محاولة للتفسير  448

#مفكرة الإسلام تفند دعاوى الرافضين للحل الإسلامي   452

#الإصلاح ... ضرورة  463

#موقف الغرب من الإسلام   472

#شاهين: أحفاد أتاتورك يمارسون مهمتهم    475

#صراع الحضارات أكذوبة غربية  479

#العولمة والإسلام   485

#قراءة في كتاب الرئيس الأميركي الأسبق " نيكسون " 502

# مركز الثقافة الإسلامية في اسطنبول..شعاع ينبعث من أرض الخلافة الإسلامية   508

#لماذا فشل مشروع النهضة التغريبي ؟    514

#الصّفقة الخاسرة   519

#مستقبل الإسلام السياسي   525

#لا بد من المبادرة  532

#(هل يمكن أن نتعايش؟) رسالة مثقفي أمريكا الجوابية   538

#تهميش الأمة:عطل مشاريع النهضة 547

#مستقبل الإسلام في الغرب !(1/2)   554

#أسلمة العلوم .. ضرورة يفرضها الواقع الراهن   557

#تحالف عسكرى استراتيجى على أرضية صراع الحضارات ضد العرب والمسلمين    560

# أخر ماكتبه أنور الجندى    563

#السلطة السياسية في الفكر الإسلامي    566

#في المسألة الحضارية .. 571

#الحق الإسلامي في الاختلاف الفكري    586

#الاستراتيجية المقبلة لما بعدالعراق (1/2)    593

#بعث الحضارة الإسلاميّة من جديد... دور النُّخبة   602

# الأبعاد السياسية لحوار الأديان   605

#أمتنا وبعض إنجازاتها الحضارية 613

#الطريق الروحي إلى مكة (1/3)  618

#وقفات في تعاقب السنين 637

# هل يستهدف الإسلام الغرب (*) 644

#القضايا النقدية عند المفكر أنور الجندي    653

# هل الأصل في علاقة المسلمين بغيرهم السلم أم الحرب؟ 655

#المخاوف الأمريكية من الإسلام السياسي    676

#التربية على حقوق الإنسان 681

#لسنا الطّرف الأضعف في صراعٍ يُفرض علينا 689

#شباب الأمة .. وتحديات المرحلة !   691

#بين عقليّتين ونهجَين 695

#حول قداسة الحكّام في تاريخنا 703

#كيف واجهت الحضارة الإسلامية مشكلة المياه؟   712

# شهادة التاريخ..ما الذي فعلناه وما الذي فعلوه؟   715

#حول الوحدة والتنوّع في تاريخنا 727

# محاولة خائبة لجاهليّ معاصر 734

# الحوار بين الحضارات  740

#أمتنا وشخصيتها الحضارية التاريخية    748

#كلمات في الفن الإسلامي    752

#التعايش مع الآخر حقيقة تاريخية وضرورة واقعية   756

#الإنسان والكون 763

# محاور الإلحاد العلمي في الحضارة الغربية    766

#فاعلية المسلم المعاصر  774

#العنصرية والخطاب الإسلامي 877 .

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

حمل القران بصغتيه

 حمل القران الكريم وورد وPDF.