حمل القران

 حمل القران وورد وPDF.

القرآن الكريم وورد word doc icon تحميل سورة العاديات مكتوبة pdf

الأحد، 2 أكتوبر 2022

ج6.الحضارة الإسلامية بين أصالة الماضي وآمال المستقبل (6)

 

 



الحضارة الإسلامية بين أصالة الماضي وآمال المستقبل

(6)

الباب السابع

الحضارة الإسلامية  وأسباب سقوطها وعوامل النهوض بها

(2)

 

 

جمع وإعداد

الباحث في القرآن والسنة

 

علي بن نايف الشحود 

الباب السابع

الحضارة الإسلامية  وأسباب سقوطها وعوامل النهوض بها (2)

 

#ماذا يريدون من الإسلام؟

محمد حسن يوسف

إن الغرب يتبعون الآن استراتيجية منهجية، يهدفون من خلالها ضرب الإسلام في مقتل والقضاء عليه بلا رجعة. وقد قام الغرب بتفويض الولايات المتحدة – بصفتها زعيمة العالم الغربي حاليا - لأداء هذه المهمة. لذا يحسن بنا الآن قراءة الخطوط العامة للاستراتيجية التي تتبنى الولايات المتحدة تحقيقها، لنتعرف من خلالها على الذي يريدونه بالضبط من الإسلام!!

تقوم الولايات المتحدة، بدعم من التحالف الصهيوني الصليبي، بوضع الخطط الرامية لإحداث التطور الذي تنشده في بلدان المسلمين، وخاصة تلك التي تقع في منطقة الشرق الأوسط. وقد دشنت لتحقيق ذلك الدراسات العديدة، والتي يأتي على رأسها: تقرير مؤسسة راند، ومشروع الشرق الأوسط الكبير.

وقد انتهج هذا التحالف الصهيوني الصليبي – وفق هذه الاستراتيجيات - أخطر الوسائل والأساليب التي من شأنها تمزيق أوصال الأمة الإسلامية، وتحويلها إلى دويلات صغيرة لا تستطيع الصمود أمام الكيان الإسرائيلي، الذي يسعى لتكوين دولته الكبرى التي تمتد لتشمل جميع الأراضي الواقعة فيما بين نهري النيل والفرات.

وأهم الرؤى التي تتبناها هذه الاستراتيجيات، هي إما دخول قوات التحالف الصهيوني الصليبي في حروب طاحنة لا هوادة فيها مع الدول الإسلامية، وإما إعداد السياسات الإصلاحية التي ينبغي على تلك الدول تطبيق أجندتها بالكامل. وإذا ما حاولت تلك الدول في التملص من أحد بنود هذه الأجندة الإصلاحية، يتم التلويح لها باستخدام الخيارات العسكرية ضدها.

ونستعرض أولا أشكال الحروب العسكرية التي تبنتها استراتيجيات هذا التحالف الصهيوني الصليبي. فقد اتبعت هذه الحرب الضروس ثلاثة أساليب[1] مختلفة في منهجيتها وشكلها، وإن اتحدت في مضمونها، وذلك على النحو التالي:

الأسلوب الأول: وهو أسلوب التصادم المباشر:

وذلك على كافة الأصعدة، اقتصادية وسياسية، أم فكرية وثقافية، بل وعسكرية كذلك إذا لزم الأمر، ليتحول الأمر إلى احتلال عسكري صريح للدول الإسلامية. وأوضح مثال على ذلك، ما حدث في دولة العراق، حيث تمثل التحالف الصهيوني الصليبي في اتفاق الولايات المتحدة وبريطانيا بالأساس، وبعض الحلفاء الصليبيين، على غزو العراق واحتلال أراضيه. وتم اختلاق أسباب وهمية لهذا الغزو، ثبت كذبها – وليس خطئها – فيما بعد.

ولكن وجدت قوات ذلك التحالف نفسها وقد غرقت في مستنقع دامي لا تستطيع الخروج منه، ومُنيت بخسائر فادحة زلزلت أركانها. لتوقن بعد فوات الأوان أن الصدام المباشر مع الإسلام يخلق في نفوس أبنائه قوة جبارة هائلة على تحدي الموت والاستهانة بالحياة، لتتحول الأسلحة البدائية في أيديهم – مع تفجر هذه الروح – إلى أسلحة فتاكة لا تستطيع أية قوة في العالم الصمود أمامها.

وهكذا فشل أسلوب التصادم فشلا ذريعا في تحقيق التحالف الصهيوني الصليبي لأهدافه في تفتيت دولة العراق المسلمة وفق المخطط الذي أرادوه لها. وها هي الولايات المتحدة وبعد مرور ثلاثة أعوام من غزو العراق، لا تستطيع توفير الأمن لقواتها على أرض العراق، بل تؤكد الوقائع على الأرض أن عمليات المقاومة من الداخل في ازدياد يوما بعد يوم.

وثبت بوضوح خطأ المقولة الأمريكية عن الحروب السريعة التي لا يسقط فيها أي أمريكي. فمنذ أعلنت الولايات المتحدة عن انتهاء عملياتها العسكرية في العراق، ولا يكاد يمر يوم إلا ويسقط قتلى وجرحى من أفراد الجيش الأمريكي في كمائن وهجمات متنوعة. وتقوم المقاومة العراقية باستخدام وسائل أقوى وأسلحة غير متوقعة يوما بعد يوم.[2]

الأسلوب الثاني: وهو أسلوب تشجيع النزاع بين الأطراف المتنازعة، مع تبني أحد أطراف النزاع، والتدخل عسكريا لصالحه:

يبتعد هذا الأسلوب عن التصادم المباشر، ويقوم على إثارة المشاحنات والنزاعات العرقية والمذهبية والنزعات القبلية بين أفراد الدولة الواحدة، مع تشجيع تطور الأمور وتصعيدها للوصول إلى حرب أهلية بين الطوائف المتنازعة. ويكون موقف قوات التحالف الصهيوني الصليبي هو تبني موقف إحدى هذه الطوائف، ودعمه بالمال والسلاح، ثم التدخل عسكريا لنصرته وتمكينه من السيطرة على مقاليد الحكم في هذا البلد، فيقيم نظام حكم عميل يوالي قوات هذا التحالف ويدور في فلكها.

وأوضح مثال لذلك ما حدث في أفغانستان. فقد أرادت الولايات المتحدة وحلفائها إسقاط نظام حكم طالبان على خلفية إيوائه لقادة تنظيم القاعدة، الذي ادعت من قبل أنه المدبر للتفجيرات التي حدثت على أراضيها في أحداث سبتمبر الشهيرة! وهكذا قامت قوات هذا التحالف بالاتفاق مع قبائل الطاجيك والأوزبك والتركمان التي تقطن في شمال أفغانستان، لكي تدخل في حرب مع قبائل البشتون – التي ينتمي إليها حكام طالبان – والتي تقطن جنوب البلاد.

واستطاعت القبائل الشمالية، بمساعدة من قوات التحالف الصهيوني الصليبي ماليا وعسكريا، هزيمة نظام حكم طالبان، وإجلائه عن جميع المدن الأفغانية، بما فيها العاصمة كابول. وهكذا سقطت حكومة طالبان، لتقوم مكانها حكومة حليفة للولايات المتحدة وللتحالف الصهيوني الصليبي. وأنشأت الولايات المتحدة عدة قواعد عسكرية لها في مدينة كابول، وقاعدة باجرام الجوية في الجنوب.

وبذلك نجد أن التحالف الصهيوني الصليبي استطاع تحقيق هدفه بأقل قدر ممكن من الخسائر في صفوفه، بل إن الخسائر الحقيقية كانت تلك التي وقعت في صفوف قوات القبائل الشمالية، التي كانت بمثابة درع واقٍ للقوات الأمريكية والقوات المتحالفة معها. كما مكّن هذا الأسلوب في النهاية من إقامة حكومة أفغانية موالية للتحالف الصهيوني الصليبي.

الأسلوب الثالث: وهو أسلوب تشجيع النزاع بين الأطراف المتنازعة، مع تبني أحد أطراف النزاع، ودفعه لعمل عسكري ضد الطرف الآخر، مع الاكتفاء بمساعدته تسليحيا وماديا:

ويتشابه هذا الأسلوب مع الأسلوب الثاني في إثارة الخلافات والنزاعات بين أبناء الوطن الواحد، وفي تبني وجهة نظر أحد أطراف النزاع وتعضيدها والعمل على تمديدها. إلا أنه يختلف عنه في اكتفاء التحالف الصهيوني الصليبي بمساعدة هذا الطرف المدعوم من حيث توفير السلاح والمال والدعم السياسي له في المحافل الدولية، دون التدخل عسكريا لمصلحة هذا الفريق.

ومثال هذا الأسلوب هو ما حدث في جنوب السودان، حيث اختار التحالف الصهيوني الصليبي رجلا له من جنوب السودان، هو جون جارانج، وقدّم الدعم له من أجل إثارة مشكلة تعصب الحكومة الإسلامية في شمال السودان ضد المواطنين من المسيحيين في الجنوب. وظلت هذه الضغوط تتصاعد على مدى ما يزيد عن ثلاثين عاما، واتخذت أشكالا عدة، بدءا من توفير السلاح والتدريب العسكري والمعونات الغذائية والدعم السياسي لمواطني الجنوب، ثم ممارسة الضغوط السياسية والاقتصادية على نظام الحكم في السودان.

وآتت تلك الجهود ثمارها، ولو بعد فترة طويلة نسبيا، حيث تمكن دعاة الانفصال في الجنوب من إجبار الحكومة السودانية على توقيع اتفاق " ماشاكوس " في نيروبي عاصمة كينيا، يقضي بإعطاء بعض الحقوق لأبناء الجنوب، مثل وجوب تعيين نائب لرئيس السودان منهم، بل والأخطر من ذلك هو النص على عقد استفتاء بين سكان الجنوب وذلك بعد ست سنوات من إبرام هذا الاتفاق، يتم بمقتضاه تقرير مصير الجنوب: إما الانفصال والاستقلال بذاته، وإنشاء دولة مستقلة له تبعا لذلك، وإما بقائه في ظل الاتحاد مع الشمال.

وهذا الأسلوب، وإن نجح في مخططه مع عدم تدخل القوات الصهيونية والصليبية في النزاع مطلقا وعدم تعرضها لأي مخاطر من أي نوع، سواء في الأرواح أو في السلاح، إلا أن مدته الزمنية كانت طويلة للغاية، ولا تتناسب مع السرعة التي يريدون إتمام عملياتهم بها.

حقيقة الإصلاح الذي يريدونه:

واكب تبني التحالف الصهيوني الصليبي للعمل باستراتيجيات التدخل العسكري التي ناقشناها أعلاه، إعداد استراتيجية أخرى لفرض السياسات الإصلاحية على بقية الدول الإسلامية التي تبدو " مسالمة " من وجهة نظر هذا التحالف، ولكن بشرط تطبيق أجندتها بالكامل من جانب تلك الدول. وإذا ما حاولت تلك الدول التملص من أحد بنود هذه الأجندة الإصلاحية، يتم التلويح لها باستخدام أحد الخيارات العسكرية السابقة ضدها. لذا قد يكون من المناسب الحديث الآن عن أجندة الإصلاح التي يحاول هذا التحالف فرضها على بقية دول العالم الإسلامي:

قال نيكولا ساركوزي، وزير الداخلية الفرنسي: " الإسلام الذي تريده فرنسا هو إسلام فرنسي وليس إسلاما في فرنسا ".[3] أي أن فرنسا تريد تطويع الإسلام وفقا لما يتناسب مع مجتمعها بحيث يصطبغ بالصبغة الفرنسية ( العلمانية بالطبع )، ولا تريد الإسلام الذي يفرض نصوصا يحكم بها المجتمع.

هذا هو الإسلام الذي يريدون تطبيقه في دولهم، ومن ثم فرض أجندته على الدول الإسلامية. وهم يقولون بضرورة تشجيع الديمقراطية في الدول الإسلامية، على خلفية أن الممارسات الاستبدادية هي التي تقف وراء العمليات " الإرهابية " المزعومة! وبالطبع فلا يخلو هذا الطرح من الخطأ. فالعمليات " الإرهابية " المشار إليها تعود في معظمها إلى ضياع حقوق المسلمين واغتصابه بأيدي دول التحالف الصهيوني الصليبي.

فالعمليات الاستشهادية التي يقوم بها الفلسطينيون – على سبيل المثال - تعبر عن حق مشروع لهم تجاه مستعمر احتل الأرض وتملص من أداء الحقوق لأصحابه، ويسانده في غيه وطغيانه كل قوى التحالف الصهيوني الصليبي، مما أدى بأبناء هذا الوطن لليأس من أي طرح باتجاه إنهاء معاناتهم أو حتى تسويتها. والعمليات الشهيرة التي تمت في قلب الولايات المتحدة – إن كانت فعلا على أيدي مسلمين – فهذا يرجع ليأسهم من الانحياز الأمريكي المطلق ضد الثقافة الإسلامية والعمل بكل السبل على إنهائها وإزالتها من الوجود.

وهكذا تدعو أجندات الإصلاح التي يتبناها التحالف الصهيوني الصليبي للعمل بمقتضاها في محيط الدول الإسلامية، تدعو إلى إجراء إصلاح شكلي، فارغ الجوهر أو المضمون. في حين أن الإصلاح الحقيقي الذي يركز على الضرورات، قد يؤدي إلى نتائج تتعارض مع المصالح الأمريكية وقد تهددها، خصوصا في ظل استمرار الشعور المعادي للسياسة الأمريكية في المنطقة، الأمر الذي يوفر جوا مواتيا لانتخاب قوى معبرة عن ذلك الشعور، إذا ما كانت الانتخابات حرة ونزيهة.

وقد نبّه إلى ذلك بعض الكتّاب الأمريكيين، أحدهم توني كارون، أحد كتّاب مجلة تايم، الذي نشرت له صحيفة " ها آرتس " – عدد 18/3/2005 – مقالة حذر فيها من التفاؤل بإمكانية حلول الديمقراطية في العالم العربي، فيما وصفه بالسقوط الثاني لحائط برلين. وذكر أن 53% من مقاعد المجلس الوطني العراقي ذهبت للشيعة الموالين لإيران، الأمر الذي ينبغي ألا يكون مصدر فرح للولايات المتحدة وحلفائها. وخلص إلى أن العالم العربي بغير ديمقراطية حقيقية هو أفضل كثيرا للولايات المتحدة والعالم الغربي بعامة. ألا تشم من الكلام أن الإصلاح السياسي الذي تدعو إليه واشنطن له " سقف " ينبغي عدم تجاوزه، وأن ذلك السقف إلى عمليات التحسين والتجمل أقرب؟![4]

زد على ذلك ما صرح به الرئيس الأمريكي جورج بوش مؤخرا، في أعقاب نجاح حركة حماس في الانتخابات الفلسطينية وقيامها بتشكيل الحكومة الفلسطينية الجديدة، من عزمه عدم إجراء اتصالات مع تلك الحكومة الجديدة. وأعلن جورج بوش أن واشنطن تدعم الديمقراطية وإجراء الانتخابات، لكن هذا لا يعني أنه يتعين عليها دعم كل الحكومات المنتخبة نتيجة الديمقراطية!!!

طبيعة العداء الأمريكي للعالم الإسلامي:

يعمل التحالف الصهيوني الصليبي بحرية كاملة في دول العالم الإسلامي، وذلك وفق استراتيجيات معدة ومجهزة للتعامل مع كل كبيرة وصغيرة قد تحدث في هذا الشأن. ويقوم هذا التحالف بإنفاق الأموال الطائلة والوقت والجهد في سبيل تحقيق أهدافه. ومن بين دول هذا التحالف، تبرز الولايات المتحدة كقوة عظمى مهيمنة على إدارة هذا الصراع وتوجيهه وفقا لرؤاها الخاصة.

فوفقا لما جاء بصحيفة الإندبندنت[5]، كشف البنتاجون عن قيام قوات التحالف بإنفاق الملايين من الدولارات لإنشاء ست قواعد " دائمة " على الأقل في العراق، لتزيد بذلك من التوقعات بإمكانية استمرار نشر القوات الأمريكية والبريطانية لقواتها لفترة طويلة الأمد في العراق. ومن المعلوم أن حجم القوات الأمريكية في العراق الآن يصل إلى 130 ألف جندي، وبالنسبة للقوات البريطانية نحو ثمانية آلاف جندي.

ويعتقد بعض المحللين أن الرغبة في إقامة تواجد عسكري أمريكي طويل الأمد في العراق كان دائما أحد الأسباب وراء غزوها للعراق في عام 2003. ويقول أحد مؤرخي القواعد العسكرية الأمريكية، ويدعى جوزيف جيرسون: " إن نية إدارة الرئيس بوش هي إقامة تواجد عسكري بعيد المدى في هذه المنطقة ... ولقد كان استخدام الولايات المتحدة لعدد من الخيارات التي تمكنها من فرض هيمنتها على الشرق الأوسط مثار بحث دؤوب لعدة سنوات مضت ... وقد انتهت إلى اعتبار العراق بمثابة أفضل الأماكن المتاحة لقواتها ولقواعدها خلال السنوات القليلة القادمة ".

أما زولتان جروسمان، أحد الباحثين في علم الجغرافيا بجامعة Evergreen State، فقد قال: " بعد كل تدخل عسكري للولايات المتحدة منذ عام 1990، يترك البنتاجون وراءه مجموعات من القواعد في المناطق التي لم يكن له فيها موطأ قدم من قبل فيها. ولذلك فيمتد طابور القواعد الجديدة من كوسوفو ودول البلقان المجاورة، إلى العراق وغيره من دول الخليج العربي، وحتى أفغانستان وغيره من دول وسط آسيا ... والعقبتان الوحيدتان اللتان تقفان في وجه مجال التدخل الأمريكي في هذه المنطقة هما إيران وسوريا ".

وهذا يفسر سر العداء الأمريكي حاليا تجاه النظامين السوري والإيراني. كما أن هذه الخلفية تفسر لنا أيضا السر وراء إحالة الملف الإيراني لمجلس الأمن. أما السر في عدم تسارع الخطوات بشأن هذين الملفين، على نحو ما حدث في أفغانستان والعراق، فهو بالطبع ما تكبدته القوات الأمريكية والقوات المتحالفة معها من خسائر باهظة، دفعت بها إلى التأني وعدم التعجل مرة أخرى. وغالب الظن أن الأمور لو كانت قد استقرت بالعراق، كما تحقق بأفغانستان – حتى وإن كان استقرارا شكليا – لما كانت انتظرت الولايات المتحدة كثيرا للقيام بغزو هاتين الدولتين والانقضاض عليهما.

إن الراصد لاستراتيجية الولايات المتحدة الأمريكية في منطقة الخليج العربي منذ عقد الخمسينات وحتى يومنا هذا، يلاحظ بوضوح أن الاستراتيجية الأمريكية في المنطقة لم يطرأ عليها أي تغيير في المضمون، وإنما التغير كان دائماً يدخل في مجال المنهج. وإن أسس هذه الاستراتيجية قائمة على استمرارية تدفق النفط لأمريكا وحلفائها الغربيين والشرقيين وبالكمية التي يريدونها، وبالأسعار التي لا تهدد اقتصادهم. كما أن من ركائز هذه الاستراتيجية أيضا اعتبار الاتحاد السوفيتي الخطر الأول الذي يتهدد المنطقة، وإن هذه المنطقة لا تستطيع تأمين دفاعها الذاتي، ومن هنا نصّبت الولايات المتحدة نفسها مسئولة عن أمن هذه المنطقة.[6]

أما بخصوص التطورات على صعيد الاستراتيجية الأمريكية بشأن حروبها القادمة، فقد أدار الرئيس الأمريكي ظهره للسياسة أحادية الجانب، مشدداً على أهمية السياسة متعددة الأطراف فيما يتعلق بالشؤون الخارجية ( أو الحروب التي ينتويها مستقبلا ). وبطبيعة الحال، جدد الرئيس بوش التزامه بما سمّاه بالحرب ضد الإرهاب وحماية أمن الشعب الأمريكي. جاء ذلك في الوثيقة التي صدرت مؤخرا بعنوان: " استراتيجية الأمن القومي للولايات المتحدة ".[7]

*****

إن طبيعة الصراع بين العالم الإسلامي والتحالف الصليبي الصهيوني له أبعاد مختلفة وجذور عميقة. وفي ذلك يقول " يوجين روستو " مستشار الرئيس الأمريكي الأسبق جونسون: " يجب أن ندرك أن الخلافات القائمة بيننا وبين الشعوب العربية ليست خلافات بين دول أو شعوب، بل هي خلافات بين الحضارة الإسلامية والحضارة المسيحية. لقد كان الصراع محتدما بين المسيحية والإسلام منذ القرون الوسطى، وهو مستمر حتى هذه اللحظة، بصور مختلفة. ومنذ قرن ونصف خضع الإسلام لسيطرة الغرب، وخضع التراث الإسلامي للتراث المسيحي. إن الظروف التاريخية تؤكد أن أمريكا إنما هي جزء مكمل للعالم الغربي: فلسفته، وعقيدته، ونظامه. وذلك يجعلها تقف معادية للعالم الشرقي الإسلامي بفلسفته وعقيدته المتمثلة في الدين الإسلامي. ولا تستطيع أمريكا إلا أن تقف هذا الموقف في الصف المعادي للإسلام وإلى جانب العالم الغربي والدولة الصهيونية، لأنها إن فعلت عكس ذلك فإنها تتنكر للغتها وفلسفتها وثقافتها ومؤسساتها ".

إن روستو يحدد أن هدف الاستعمار في الشرق الأوسط هو تدمير الحضارة الإسلامية، وأن قيام إسرائيل هو جزء من هذا المخطط، وأن ذلك ليس إلا استمرارا للحرب الصليبية.[8]

5 من ربيع الأول عام 1427 من الهجرة ( الموافق في تقويم النصارى 3 من أبريل عام 2006 ).

----------------------------------------

[1] راجع في ذلك تفصيلا: أزمة دارفور ... بين حقيقة الأوضاع وآفاق المستقبل، د/ رضا الطيب، مجلة التبيان،عدد: 5، ص: 25-26.

[2] الأمريكان يعترفون: سقطنا في وحل الرافدين، بهاء حبيب، جريدة الأسبوع، العدد 470، 27/3/2006، ص: 12.

[3] مجلة البيان، العدد 188، ربيع الآخر 1424، نقلا عن: السبيل، 29/4/2003.

[4] عن الديمقراطية: تغيير الطلاء ليس حلا، فهمي هويدي، جريدة الأسبوع، العدد (418)، 28/3/2005.

[5] راجع المقال الذي كتبه Andrew Buncombe، بعنوان: US and UK forces establish "enduring bases" in Iraq، جريدة The Independent، يوم 2/4/2006.

[6] تطور الاستراتيجية الأمريكية في الخليج العربي، د/ فؤاد شهاب.

[7] مستقبل الأزمة العراقية إذا تراجعت أمريكا عن الأحادية، جون هيوز، صحيفة الإتحاد الإماراتية ( بترتيب خاص مع خدمة "كريستيان ساينس مونيتور)، 26/3/2006.

[8] الإسلام والغرب، عبد الودود شلبي، ص: 55-56.

================

#الأوقاف وأثرها في دعم الأعمال الخيرية في المجتمع

الأستاذ/ عبد الله بن ناصر السدحان

مقدمة

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله.. وبعد :

لقد فتح الإسلام منابع عديدة لنفع الآخرين، فمنها ما هو واجب كالزكاة والكفارات والنذور. وهذه لا حديث عنها باعتبارها واجبا لازما على المسلم ومن المنابع ما هو ذو طابع تطوعي بحت مثل الصدقات التطوعية والوقف، فالمسلم حين يتنازل عن حر ماله طواعية فهو يتمثل الرحمة المهداة في الإسلام للبشر أجمع و يتحرر به من ضيق الفردية و الأنانية متجاوزا الأنا إلى الكل شاملاً المجتمع بخيرية الفرد وبانياً الجسد الواحد بكرم العضو، وهذا التفاعل تحقيقاً لحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم (ترى المؤمنين في تراحمهم وتوادهم وتعاطفهم كمثل الجسد إذا أشتكى منه عضو تداعى له سائر جسده بالسهر والحمى) (رواه البخاري).

ويعد الوقف بمفهومه الواسع أصدق تعبيراً وأوضح صورة للصدقة التطوعية الدائمة، بل له من الخصائص والمواصفات ما يميزه عن غيره، وذلك بعدم محدوديته واتساع آفاق مجالاته، والقدرة على تطوير أساليب التعامل معه، وكل هذا كفل للمجتمع المسلم التراحم والتواد بين أفراده على مر العصور بمختلف مستوياتها السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي مرت بها الأمة الإسلامية خلال الأربعة عشر قرناً الماضية، فنظام الوقف مصدر مهم لحيوية المجتمع وفاعليته وتجسيد حي لقيم التكافل الاجتماعي التي تنتقل من جيل إلى آخر حاملة مضموناتها العميقة في إطار عملي يجسده وعي الفرد بمسؤولياته الاجتماعية ويزيد إحساسه بقضايا إخوانه المسلمين ويجعله في حركة تفاعلية مستمرة مع همومهم الجزئية والكلية.

وينظر كثير من الباحثين إلى نظام الوقف باعتباره أحد الأسس المهمة للنهضة الإسلامية الشاملة بأبعادها المختلفة الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والعلمية، لذا فقد اتجهت الأنظار إليه مرة أخرى بعد تغيب دوره العظيم لعقود طويلة باعتباره البذرة الصحيحة لبداية النهضة الشاملة لجميع مجالات الحياة في الأمة المسلمة ولعل من المبشرات في ذلك أن الندوات عن الوقف أخذت تترى على امتداد العالم الإسلامي فما أن تختم ندوة إلا وتبدأ أخرى، ولاشك أن البداية الصحيحة لعودة الوقف إلى مكانه الفاعل في دولاب العجلة التنموية الشاملة هو إثارة الشعور واستنهاض الهمم نحو تجلية حقيقته والدور الذي قام به سابقاً.

وستحاول هذه الورقة الإشارة إلى شئ من ذلك وتوضيح الأثر الاجتماعي للوقوف والدور الذي أداه في حياة المجتمعات الإسلامية على مر العصور السابقة وإبراز سمات التكاتف والتعاضد التي تفرد المجتمع المسلم وتميزه بها عن غيره من المجتمعات، كما تحاول هذه الورقة طرح تصور عملي لكيفية إعادة الأثر الفعال للوقف في التنمية الاجتماعية الشاملة، والله أسأل إعانته وهو المأمول فيها والمسؤول لها هو على كل شئ قدير.

وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين

أولاً: الوقف في الإسلام

يعرف الوقف في اللغة بأنه: الحبس والمنع، ويقال: وقفت الدابة إذا حبستها على مكانها ، وفي تعريف الفقهاء الوقف هو: تحبيس الأصل وتسبيل الثمرة.

والأصل في مشروعية الوقف في الإسلام السنة والإجماع في الجملة، ولقد اتفق جمهور علماء السلف على جواز الوقف وصحته بناء على أدلة ومنها حث القرآن الكريم في آيات عدة علي فعل الخير والبر والإحسان وهو ما يرمي إليه الوقف ومن ذلك قوله تعالى: (لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون وما تنفقوا من شيء فإن الله به عليم) (آل عمران آية: 92) وقوله تعالى: (وما تنفقوا من خير يوف إليكم وأنتم لا تظلمون) (البقرة آية: 272).

كما ورد في العديد من الآثار القولية والفعلية للرسول صلى الله عليه وسلم ما يؤكد مشروعية الوقف، ومن ذلك حديث ابن عمر- رضي الله عنهما- الذي يقول فيه: (أصاب عمر بخيبر أرضا فأتى النبي !يه فقال: أصبت أرضا، لم أصب مالأ قط أنفس منه، فكيف تأمرني به؟ قال: (إن شئت حبست أصلها وتصدقت بها)، فتصدق عمر: أنه لا يباع أصلها، ولا يوهب، ولا يورث في الفقراء والقربى، والرقاب وفي سبيل الله والضيف وابن السبيل، لا جناح على من وليها أن يأكل منها بالمعروف، ويطعم صديقا غبر متمول فيه) (متفق عليه).

ويدخل الوقف في قوله عليه الصلاة والسلام ( إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له) (رواه مسلم).

ومن الأدلة العملية فعله عليه الصلاة والسلام في أموال مخيريق وهي سبعة حوائط بالمدينة أوصى إن هو قتل يوم أحد فهي لمحمد صلى الله عليه وسلم يضعها حيث أراه الله تعالى، وقد قتل يوم أحد وهو على يهوديته فقال النبي عليه الصلاة والسلام (مخيريق خير يهود) وقبض النبي صلى الله عليه وسلم تلك الحوائط السبعة وجعلها أوقافاً بالمدينة لله وكانت أول وقف بالمدينة . ثم وقف عمر رضي الله عنه، وبعد ذلك تتابع الصحابة رضوان الله عليهم في الوقف حتى إن جابراً رضي الله يقول: (لم يكن أحد من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ذو مقدرة إلا وقف). وهذا إجماع منهم، فإن الذي قدر منهم على الوقف وقف واشتهر ذلك فلم ينكره أحد فكان إجماعاً .

ونظام الوقف باعتباره نظاماً خيرياً موجود منذ القدم بصورة شتى، إلا أنه من المؤكد أن نظام الوقف في الإسلام بشكله الحالي يبقى خصوصية إسلامية لا يمكن مقارنتها بصور البر في الحضارات أو الشعوب الأخرى وهذا عائد إلى عدة أمور:

1- التعلق الشعبي به وامتداد رواقه ومظلته إلى أمور تشف عن حس إنساني رفيع.

2- عدم اقتصار الوقف على أماكن العبادة كما هو في الأديان السابقة، بل امتد في نفعه إلى عموم أوجه الخير في المجتمع.

3- شمول منافع الوقف حتى على غير المسلمين من أهل الذمة، فيجوز أن يقف المسلم على الذمي لما روي أن صفية بنت حيي- رضي الله عنها- وقفت على أخ لها يهودي .

ويتميز الوقف بخصائص وميزات متعددة قد لا توجد في المشاريع الخيرية الأخرى، وهذه المزايا أكسبته تلك الحيوية التي استمر أثرها في الأمة على مدى قرون طويلة، لأجل ذلك لا عجب أن نرى ذلك الإقبال الكبير من لدن أفراد المجتمع المسلم على الوقف وتحبيس جزء كبير من أملاكهم لأعمال الخير، وقدوتهم في ذلك نبيهم محمد عليه الصلاة والسلام ثم صحبه الكرام (فقد وقف مجموعة من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم منهم: أبو بكر وعمر وعثمان وعلي والزبير بن العوام ومعاذ بن جبل وزيد بن ثابت وعائشة وأم سلمة وصفية زوجات الرسول صلى الله عليه وسلم وأسماء بنت أبي بكر وسعد بن أبي وقاص وخالد بن الوليد وجابر بن عبدالله وغيرهم) ومن بعدهم من التابعين وتابع التابعين ومن بعدهم من المسلمين.

ثانياً: دور الوقف في الحياة الاجتماعية

إن الدارس للوقف في الحضارة الإسلامية ليعجب من التنوع الكبر في مصارف الأوقاف، فكان هناك تلمس حقيقي لمواطن الحاجة في المجتمع لتسد هذه الحاجة عن طريق الوقف، من خلال الأوقاف، فالوقف من حيث بعده الاجتماعي يبرهن على الحس التراحمي الذي يمتلكه المسلم ويترجمه بشكل عملي في تفاعله مع هموم مجتمعه الكبير ويبدو هذا جليا في رصد التطور النوعي للوقف على امتداد القرون الأربعة عشر فلقد كان المسجد أهم الأوقاف التي عني بها المسلمون، بل هو أول وقف في الإسلام، كما هو معلوم في قصة بناء مسجد قباء أول مقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة المنورة، ولعل من أبرز شواهد اهتمام المسلمين بذلك الجانب في الوقف: الحرمين الشريفين بمكة المكرمة والمدينة المنورة، والجامع الأزهر بالقاهرة، والمسجد الأموي بدمشق والقرويين بالمغرب، والزيتونة بتونس وغيرها كثير، ثم يأتي في المرتبة الثانية من حيث الكثرة العددية والأهمية النوعية المدارس، فلقد بلغت الآلاف على امتداد العالم الإسلامي وكان لها اثر واضح في نشر العلم بين المسلمين وقد أدى توافد طلاب العلم من جميع أنحاء العالم إلى مراكز الحضارة الإسلامية والعواصم الإسلامية إلى إنشاء الحانات الوقفية التي تؤويهم، إلى جانب تهيئة الطرق، وإقامة السقايات والأسبلة في هذه الطرق للمسافرين، وكذا دوابهم.

وصاحب ذلك إنشاء الأربطة ودور العلم للطلاب الغرباء لإيوائهم، واستتبع ذلك ظهور الوقف للصرف على هؤلاء الطلاب باعتبارهم من طلاب العلم المستحقين للمساعدة في دار الغربة، ولا تخلو كل هذه المراحل والأنواع من جوانب اجتماعية للوقف لها دلالتها وأهميتها وأثرها في المجتمع بشكل عام.

إلا أن الدور الفاعل للوقف في مجال الرعاية الاجتماعية يتمثل في المدارس والمحاضن التي أنشئت خصيصاً للأيتام يوفر لهم فيها المأكل والأدوات المدرسية كما يتمثل دور الوقف في مجال الرعاية الاجتماعية في الأربطة والزوايا، والتكايا بالإضافة إلى الأسبلة التي يقصد بها توفير ماء الشرب للمسافرين وعابري السبيل وجموع الناس سواء داخل المدن أو خارجها ويمكن أن نعد كل ذلك مؤسسات اجتماعية أدت دورها الاجتماعي باقتدار رغم صعوبة استمرار مثل هذه المؤسسات الاجتماعية وبقائها فترات طويلة وعلى مدى أجيال متوالية، ويعود ذلك إلى حاجتها الكبيرة إلى موارد مالية دائمة لا تتوقف ولا تنضب وقد تحقق لها ذلك بفضل من الله ثم بفضل نظام الوقف الذي ازدهر في تصاعد مع ازدهار الحضارة الإسلامية ذلك أن الملاحظ في كثير من حلقات التاريخ وفي العديد من بلاد الأوقاف وأثرها في العالم توقفت مؤسسات خيرية ضخمة عن أداء رسالتها بعد فترة من الزمن، بسبب نضوب مواردها المالية وإفلاسها مما يضطرها إلى طلب مساعدة الخيرين بين حين وآخر، أما في الحضارة العربية الإسلامية فإنه قل أن تجد مثيلاً لهذه الظاهرة.

ويمكن أن نجعل المجالات الرئيسية لعمل الأوقاف في الجوانب الاجتماعية في المجالات الآتية:

أ) مجال رعاية الأيتام:

نجد الحرص الكبير من المسلمين على رعاية الأيتام وتربيتهم من خلال الأوقاف بحثاً عن الأجر والمثوبة وطلباً لمرافقة نبيهم محمد عليه الصلاة والسلام في الجنة، ففي الحديث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ( أنا وكافل اليتيم في الجنة كهاتين وأشار بالسبابة والوسطى، وفرج بينهما شيئاً) (رواه البخاري).

ومن أشهر الأوقاف لرعاية الأيتام إنشاء مكاتب لتعليمهم ورعايتهم، ومن ذلك ما نقل في مآثر صلاح الدين الأيوبي أنه أمر بعمارة مكاتب ألزمها معلمين لكتاب الله عز وجل يعلمون أبناء الفقراء والأيتام خاصة ويجري عليهم الجراية الكافية لهم ويقصد بالجراية الكاملة مأكلهم وكسوتهم وأدوات درا ستهم ومن صورة رعاية الأيتام مكتب السبيل الذي أنشأه السلطان الظاهر بيبرس بجوار مدرسته وقرر لمن فيه من أيتام المسلمين الخبز في كل يوم، بالإضافة إلى الكسوة في الشتاء والصيف، كذلك أنشأ السلطان قلاوون مكتباً لتعليم الأيتام ورتب لكل طفل كسوة في الشتاء وأخرى في الصيف. ولقد استرعت ظاهرة كثرة المدارس التي تعنى بالأيتام الرحالة ابن جبير، فقد عدها من أغرب ما يحدث به من مفاخر البلاد الشرقية من العالم الإسلامي.

ولعل مما تحسن الإشارة إليه أن دار الأيتام القائمة حالياً في المدينة المنورة تعد من الأوقاف التي أنشأها حجاج القارة الهندية قبل قرابة سبعين عاماً لأيتام المدينة المنورة ففي عام1352هـ قام الشيخ عبدالغني دادا- يرحمه الله- بتأسيس مكان يأوي أيتام المدينة المنورة وأوقف عليها دارا له واستمر الصرف عليها من غلة ذلك الوقف بالإضافة إلى المساعدات التي كانت تصله من الهند إلى أيتام الدار، حتى أنشئت وزارة العمل والشئون الاجتماعية وتولت الإشراف الكامل عليها، وما زال مبناها الحالي وقفاً على أيتام المدينة المنورة، وهذا مثبت في صك شرعي صادر من محكمة المدينة المنورة عام (1356 هـ) (8).

وخلاصة القول فيما يذكر من جوانب عملية آنفة تجاه رعاية الأيتام والعناية بهم توفير حياة كريمة لهم مثل باقي أفراد المجتمع يدل على أن الوقف كان له دور كبير في سد ثغرة اجتماعية كان سيعاني منها المجتمع المسلم في حالة إهمالها، وهذا يؤكد أهمية الوقف في علاج بعض المشكلات الاجتماعية في المجتمع.

ب) في مجال رعاية الغرباء والعجزة:

لقد أدت الأوقاف دورا مهماً في تحقيق الرعاية الاجتماعية الشاملة للغرباء والعجزة بشكل عام، فما من مدرسة ينشئها الواقفون إلا ويوضع بجوارها بيت خاص للطلاب المغتربين ويجري عليهم فيها ما يحتاجونه من غذاء. لذا لا عجب أن نجد تلك الحركة البشرية المتواصلة بين المدن والقرى في العالم الإسلامي، طلباً للعلم في المدارس الوقفية، فلا يوجد ما يعوق طلب العلم فالطرق قد أمنت بالأسكنة الوقفية، والمدارس قد تم تجهيزها بالغرف الخاصة بالغرباء، وقد تزايدت تلك الظاهرة بشكل ملفت للنظر، وقد أبدى ابن جبير إعجابه الشديد لما لمسه في بلاد المشرق الإسلامي من عناية بالغرباء، فقال: (إن الوافد من الأقطار النائية يجد مسكناً يأوي إليه ومدرساً يعلمه الفن الذي يريد تعلمه، واتسع عناية السلطان بالغرباء حتى أمر بتعيين حمامات يستحمون فيها ونصب لهم مارستاناً لعلاج من مرض منهم، ولقد عين لهم السطان خبزتين لكل إنسان في كل يوم وزكاة العيد لهم) وحسبك من هذا أن صلاح الدين قد خصص للغرباء من المغاربة جامع ابن طولون في مصر يسكنونه وأجرى عليهم الأرزاق في كل شهر.

أما الربط وهي الأماكن التي تم إعدادها على الثغور للمجاهدين وصد هجمات الأعداء فقد تحولت مع الوقت هي والحانات والتكايا والزاويا إلى أماكن للمتفرغين للعبادة من الجنسين، فكان ينقطع فيها من يرغب التفرغ للعبادة، ويجري عليها الواقفون الجرايات اليومية من غذاء وكساء، وهذا النوع من الأوقاف ينتشر بشكل كبير جدا في مدن وقرى العالم الإسلامي فمن يطلع على رحلة ابن بطوطة فسيجد العجب فما مر على قرية أو مدينة في البلدان الإسلامية التي زارها في رحلته إلا ويذكر مثل هذه الأربطة والزوايا بل كان من المستفيدين منها وسكن في بعضها، ومع تطور الوقت تحولت بعض هذه الأربطة إلى ملاجئ مستديمة للذين يستحقون الرعاية، وخاصة أصحاب العاهات وكبار السن والعميان والمطلقات وهذا التحول أدى بها إلى تحقيق رسالة اجتماعية، ذلك أنها غدت مأوى للغرباء والعجزة وضعفاء المجتمع، وجميع هذه المنشآت وجدت في نظام الوقف أكبر رافداً مكنها من مواصلة رسالتها. ولازالت بعض هذه الأربطة تؤدي هذه الرسالة في العالم الإسلامي ويمكن رؤية العديد منها في كل من مدينة مكة المكرمة والمدينة المنورة، حيث أصبحت مأوى للعديد من العجزة، والمرضى، والمعاقين، وكبار السن وأحياناً العاطلين، وهذا ما أظهرته الدراسة التي قامت بها وزارة العمل والشئون الاجتماعية عام 1419 هـ عن الأربطة في منطقة مكة المكرمة (مكة المكرمة، جدة الطائف) ومنطقة المدينة المنورة.

ج) في مجال رعاية الفقراء والمعدمين:

لاشك أن الأوقاف باعتبارها صدقة جارية قد قامت بدور كبير في مجال الرعاية الاجتماعية والضمان الاجتماعي في المجتمع المسلم، فمن اللافت للنظر أن وثائق الأوقاف في غالبها تنص على مساعدة الفقراء والمحتاجين، بل إن هذا يعد ركنًا أساسياً في الوقف، إلا أن المساعدات تكون بأشكال وأنواع مختلفة، فمن ذلك توزيع المساعدات النقدية، وأحياناً أخرى العينية ومما يذكر في هذا المجال أن السطان الظاهر بيبرس أوقف وقفاً لشراء الخبز وتوزيعه على المعدمين.. وتجاوز الأمر إلى رعاية أولئك الفقراء حتى بعد وفاتهم ويكون ذلك بتحمل تكاليف تغسيلهم وتكفينهم ودفنهم، ومن أشهر هذه الأوقاف (وقف الطرحاء) الذي جعله الظاهر بيبرس برسم تغسيل فقراء المسلمين وتكفينهم ودفنهم.

ومن وجوه البر التي اهتم الواقفون بالصرف عليها من ريع أوقافهم كسوة العرايا والمقلين وستر عورات الضعفاء، والعاجزين وإرضاع الأطفال عند فقد أمهاتهم ووفاء دين المدينين، وفكاك المسجونين المعسرين وفك أسرى المسلمين العاجزين وتجهيز من لم يؤد الحج من الفقراء لقضاء فرضه، ومداواة المرضى غير المقتدرين وكان مما حدده السلطان المملوكي الأشرف شعبان لمصاريف أوقافه أن جعل منها نفقات خيرية سنوية تشمل تأمين الإبر والخيوط للفقراء بمكة المكرمة.

كما كان هناك أوقاف خيرية تنفق على اسر السجناء وأولادهم، حيث يقدم لهم الغذاء والكساء وكل ما يحتاجونه لحين خروج عائلهم من السجن، كما وجد مؤسسات وقفيه لتجهيز البنات إلى أزواجهن ممن تضيق أيديهم أو أيدي أوليائهم عن نفقات تجهيزهن.

ثالثا: الدور ا لاجتماعي للأوقاف

لا تخلو أي دراسة عن الوقف من ذكر الآثار المترتبة عليه، إلا أن التركيز غالباً ما يكون على الأدوار الاقتصادية أو الأدوار التعليمية للأوقاف رغم أن الدور الاجتماعي للأوقاف لا يقل عن الأدوار الاقتصادية والثقافية والصحية إن لم يفارقها ولا يكاد يوجد جانب من جوانب الحياة في المجتمع المسلم إلا ولها صلة بنظام الأوقاف من قريب أو بعيد، بل يرى أحد الباحثين أن الأوقاف عمل اجتماعي دوافعه في أكثر الأحيان اجتماعية وأهدافه دائماً اجتماعية، فالأوقاف الإسلامية في الأصل عمل اجتماعي، ويمكن أن نورد بعض الآثار الاجتماعية المترتبة على الوقف، أو التي كان للوقف دور في تعزيزها في حياة المجتمع وترسيخها على مدى القرون الماضية، فلقد ساعد الوقف على تحقيق الاستقرار الاجتماعي وعدم شيوع روح التذمر في المجتمع وذلك نوع من المساواة بين أفراده فقد تمكن الفقير من الحصول على حقه من المتطلبات الأساسية في الحياة من خلال نظام الوقف بل إن بعض الأوقاف كان يخصص ريعها للفقراء ويشير بعض الباحثين إلى أن (الآلاف الكبيرة من المجتمع من العلماء المبرزين في مختلف التخصصات كانوا من فئات اجتماعية واقتصادية رقيقة الحال).

كما تمكن الوقف بما يمتلكه من مرونة من بسط مبدأ التضامن الاجتماعي وشيوع روح التراحم والتواد بين أفراد المجتمع وحمايته من الأمراض الاجتماعية التي تنشأ عادة في المجتمعات التي تسود فيها روح الأنانية المادية وينتج عنها الصراعات الطبقية بين المستويات الاجتماعية المختلفة، وهناك من يرى أن الولايات المتحدة الأمريكية قد حمت مجتمعها من امتداد ثورة العمال التي برزت مع الثورة البلشفية في روسيا إلى المجتمع العمالي في الولايات المتحدة الأمريكية من خلال التوسع في فتح أبواب العمل الخيري وتشجيع الشركات والأثرياء بإعفاءات كبيرة لمن تقدم منهم على الأعمال الخيرية فزادت المؤسسات الخيرية وتضاعفت الهبات حتى بلغت مئات الملايين في وقت مبكر من هذا القرن.

كما أن في الوقف توزيعا عادلاً في الثروات وعدم حبسها بأيد محدودة مما يجعلها أكثر تداولاً بين الناس لأن الواقف عندما يوصي بتوزيع غلة موقوفاته على جهة من الجهات، يعني توزيع المال على الجهة المستفيدة وعدم استئثار المالك به.

إن المتأمل لنظام الوقف في الإسلام يرى بوضوح كيف عمل ذلك النظام المتكامل علي تعزيز روح الانتماء بين أفراد المجتمع وشعورهم بأنهم جزء من جسد واحد تحقيقاً لحديث الرسول صلى الله عليه وسلم ( ترى المؤمنين في تراحمهم وتوادهم وتعاطفهم كمثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى) (رواه البخاري).

وهذا الشعور بالانتماء يشمل الطرفين الواقف والمستفيد من الوقف فالواقف استشعر دوره المناط به في المجتمع وخصص جزءاً من ماله لسد حاجة من حاجات المجتمع والمستفيد من الوقف يستشعر بعين التقدير مدى حاجته للانتماء لجسد المجتمع الواحد الذي قام أثرياؤه بإسعاد فقرائه من خلال نظام الوقف.

إن الدارس للأثر الاجتماعي للوقف لابد أن تستوقفه نوعية الطبقة الاجتماعية التي استفادت بشكل كبير من الوقف وكيف استطاع تغييرها وتحقيق ما يسمى بظاهرة (الحراك الاجتماعي) في بنية المجتمع. والحراك الاجتماعي يقصد به: انتقال الأفراد من مركز إلى آخر في نفسي الطبقة.. وقد يكون رأسياً وهو انتقال الأفراد من طبقة اجتماعية إلى طبقة اجتماعية أعلى ولقد مكن التعليم الوقفي و الرعاية الاجتماعية والوقفية من تغير طبقات المستفيدين منه أفقياً رأسيا وفق مفهوم الحراك الاجتماعي، فساعد نظام الوقف على تحسين المستويات الاقتصادية، والعلمية والثقافية لكثير من أفراد المجتمع، فالتعليم الجيد الذي قد يحمله شخص موهوب قد ينقله ليس! لأن يتسلم مرتبة الإفتاء والقضاء فحسب، بل يتمرس في العمل الإداري وتيسير أمور الدولة أو في أي مهنة متخصصة كالطب أو الإدارة أو غيرها والتي قد لا تتاح له لولا أن أموالا موقوفة قد سهلت له سبيل التعليم.

وإضافة لكل ما سبق فقد كان لنظام الوقف ومصارف غلالها الدور الكبير في تعزيز الجانب الأخلاقي والسلوكي في المجتمع من خلال التضييق على منابع الانحراف، فقد كانت توجد العديد من الأوقاف لرعاية النساء اللاتي طلقن أو هجرهن أزواجهن حتى يتزوجن أو يرجعن إلى أزواجهن صيانة لهم وللمجتمع ويكون ذلك بإبداعهن الرباط، حيث ينقطعن عن الناس، وفيها من شدة الضبط وغاية الاحتراز، وتؤدب من خرجت عن الطريق بما تراه، وتجرى عليهن من الأوقاف. فتنقطع حاجتهن التي قد تلجئهن إلى سلوك دروب الانحراف بسبب الحاجة.

كما وجدت أوقاف خاصة لتخليص السجناء ووفاء ديونهم، وفكاك أسرى المسلمين، كما وجدت أوقاف خيرية تنفق على أسر السجناء وأولادهم، حيث يقدم لهم الغذاء والكساء وما يحتاجونه من أمور أخرى. وعلاوة على الصرف على المساجين وعوائلهم من أموال الوقف كانت هناك بعض الأوقاف مخصصة للصرف على الفقهاء بشرط أن يؤموا المساجين أوقات صلواتهم وأن يدرسوا ويفقهوا السجناء ويقودوهم في حياتهم العملية ليخرج هؤلاء من السجن وقد استفادوا علماً من العلوم أو حرفة من الحرف، وهذا ما يسمى في الوقت الحاضر بالرعاية اللاحقة وهي الرعاية التي تقدم للسجين وأسرته في أثناء سجنه، حتى لا يعود إلى الانحراف مرة أخرى، وحتى لا ينحرف أحد أفراد أسرته بسبب غيبته عنهم وعدم وجود الولي والرقيب عليهم.

وجماع القول في هذا المبحث أن للوقف دوراً اجتماعياً كبيراً ومهما، ورغم عدم وضوحه في بعض الأحيان وذلك يعود إلي تأخر ظهور الآثار الاجتماعية في حياة المجتمعات واحتياجها إلى سنوات وأحياناً إلى عقود طويلة من السنين والأعوام لتتضح للعيان، وهذه الآثار في جملتها آثار إيجابية نافعة، وهذا ما يؤكد ضرورة العودة بالوقف إلى دوره الفعال في المجتمعات المسلمة لجني ثماره الاجتماعية والاقتصادية والثقافية بشكل متوازن ومتكامل.

رابعاً: كيف يعاد دور الوقف في مجال الرعاية الاجتماعية؟

لعل فيما ذكر في المباحث السابقة ما يوضح الأثر الكبير المتوقع من الوقف في مجال الرعاية الاجتماعية وليس ذلك بغريب، فإن المتأمل في تاريخ الأمة ليجزم وبقوة أن الرعاية الاجتماعية في المجتمع المسلم طوال القرون الماضية لم توجد إلا عن طريق الوقف.

وفي عصرنا الحالي، ورغم وجود مفهوم الدولة القائم بشكله المعاصر، بكثير من الخدمات الاجتماعية التي كانت تقدم بها الأوقاف سابقاً، إلا أن الظروف المالية للدول توجب إعطاء الوقف دوره الحقيقي في المساهمة في جوانب الرعاية الاجتماعية وهذه المشاركة من قبل أثرياء الأمة لا تعني تقليل الأعباء عن الحكومات بقدر ما تؤدي إلى ترسيخ قيم الانتماء في النفوس للمجتمع المسلم الكلي وجعل أفراد الأمة أكثر استعدادا للمشاركة الفعالة في تبني هموم المجتمع والتخفيف من الإتكالية الشائعة لدى الناس اعتماداً على جهود الدولة، والدولة فقط.

وهذا الأمر ليس بدعاً من القول، فلقد كانت الأوقاف على مر التاريخ إحدى الروافد الأساسية لبيت المال يصرف ريعه على جهات البر المختلفة من مؤسسات دينية وصحية إلى جانب كثير من المنشآت التعليمية والصحية والمرافق العامة الأخرى. ومما يدعو إلى الأخذ بهذا الاتجاه هو النتائج الإيجابية المتوقعة من اضطلاع الوقف بدوره في مجال الرعاية الاجتماعية، ذلك أن الأوقاف وإدارتها يمكنها أن تملك من المرونة الإدارية والاجتماعية مالا تملكه الإجراءات الرسمية وهذه المرونة هي ما تحتاجه برامج الرعاية الاجتماعية بشكل عام بعيداً عن الجمود الروتيني والأنظمة المقيدة.

وهذا لا يعني أن عدم الاستفادة من الوقف في الوقت الحالي عائد إلى كون الأوقاف تسيرها الأنظمة الروتينية المقيدة في كثير من الأحيان، بل إن معوقات الاستفادة من الأوقاف في مجال الرعاية الاجتماعية في العصر الحالي قد يكون من الواقفين أنفسهم وذلك بجعل مصارف الوقف في أشياء قد تكون الحاجة الحقيقية للمجتمع قد تجاوزتها، ومن هذا كله فإن الحاجة ماسة لتكثيف الدعوة نحو إعادة الوقف لموقعه الطبيعي في نهضة الأمة الإسلامية بشكل عام، والمملكة العربية السعودية بشكل خاص فهي كيان مهم في العالم الإسلامي، فما يتم على الأوقاف في المملكة يعد مثالاً يحتذى به لاعتبارات عدة لا تخفى.

وفيما يلي طرح لبعض المقترحات عن كيفية إرجاع في دور الوقف في مجال الرعاية الاجتماعية واقتراحات أخرى تتعلق بوضع الأوقاف في المملكة، وهي مقترحات عامة أجزم أن في مناقشتها إثراء لها للوصول إلى ما يطمح إليه الجميع بإذن الله فمن ذلك:

1- تنفيذ حملة إرشاد وتوعية تهدف إلى إبراز قيمة الصدقات وأجر الإنفاق في سبيل الله، وبخاصة ما كان منها صدقة جارية (الوقف) للإقبال على إحياء هذا النظام وجعله يؤدي دوره.

2- استمرار عقد الندوات العلمية المتخصصة في الأوقاف وطرحها بشكل موسع بحيث تكون المشاركات من دول العالم الإسلامي وعدم قصرها على المستوى المحلي.

3- إبراز دور الوقف الاجتماعي في النهضة الإسلامية وطرحها عبر القنوات الإعلامية، مع التركيز على ضرورة التنوع في مصارف غلال الأوقاف وفق حاجات المجتمع التي تسد الثغرات الاجتماعية.

4- طباعة أبحاث الندوات التي أقيمت عن الوقف في كتب وطرحها إلى الأسواق للبيع وعدم الاقتصار على التوزيع المجاني لها.

5- تحويل جميع عمليات الوقف من مبادرات فردية إلى عمل مؤسسي منظم من خلال إنشاء صناديق وقفية متخصصة يندرج ضمنها الأوقاف القائمة حالياً، وما يستجد من أوقاف في إطار واحد تحدده شروط الواقفين ويؤكد هذا أن مؤسسات الرعاية الاجتماعية لا يمكن أن تنهض برسالتها إلا في ظل موارد مالية ضخمة ودائمة باستمرار، وهذا يتحقق بجلاء في نظام الوقف والتجربة التاريخية السابقة أثبتت ذلك.

وتخصص هذه الصناديق المقترحة للقيام بالأنشطة الشرعية، والثقافية والصحية بالإضافة إلى الأنشطة الاجتماعية من خلال إنفاق ريع الأموال الواقفين بما يحقق أغراض الواقفين، وتتكون موارد كل صندوق من ريع الأموال والأعيان الوقفية ويقوم على إدارة كل صندوق لجنة متخصصة، وتساعد مثل هذه الصناديق على توفير رأس مال كبير من مجموع الأوقاف المتناثرة، مما يعطي فرصة أكثر لتنمية رؤوس الأموال وإنشاء مشاريع تحقق تنمية واسعة.

ويمكن لتلك الصناديق دعم المشاريع الخيرية التي تتوافق مع شروط الواقفين بحيث تقدم أية جهة بمشروع متكامل من حيث الدراسة والتنفيذ ونوعية ومقدار المستفيدين منه، ليقوم الصندوق بدراسة المشروع وتحديد مدى إمكانية دعمه وفق معايير واضحة، بذلك نضمن تحقيق أكثر فائدة من الأوقاف في المجالات المختلفة ومنها جهات الرعاية الاجتماعية.

6- من المعلوم أن الأربطة الخيرية هي الجانب الظاهر من دور الوقف في مجالات مختلفة ومنها الرعاية الاجتماعية في المملكة حيث تشتهر منطقة مكة المكرمة ومنطقة المدينة المنورة بكثرة الأربطة الخيرية بها، إلا أنه أصابها ما أصاب غرها من الأوقاف نتيجة عوامل عدة، فلقد أظهرت دراسة لوزارة العمل والشئون الاجتماعية العديد من النتائج التي تؤكد تناقص دور الأربطة، بل وعدم تحقيق شروط العديد ممن أوقفوها، وخراب العديد منها، كما ظهر لبعضها آثار سلبية من الجوانب الأمنية والأخلاقية في ظل وضعها الحالي وهذا الأمر يتطلب إعادة النظر في وضعها، فقد تحتاج إلى دراسة شرعية خاصة بها للنظر في كيفية تحقيق الاستفادة منها بشكل يتوافق مع شروط الواقفين ويحقق البعد الاجتماعي والهدف الخيري الذي قصده الواقف منها.

ويمكن تحقيق ذلك بإسناد هذه الأوقاف في نظرتها إلى بعض الجمعيات الخيرية لتتولى متابعتها وصرف ريعها وفق شروط الواقف، ووضع شروط لتسكين المستفيدين تتفق مع شروط الواقف وعدم تركها مجالاً لتشجيع البطالة بين ضعاف النفوس ممن ألفوا الدعة والراحة

والله الموقف والهادي إلى سواء السبيل وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

المراجع :

(1) ابن بطوطة، تحفة النظار في غرائب الأمصار وعجائب الأسفار، دار إحياء العلوم، 1417 هـ.

(2) ابن جبير، رحلة ابن جبر، دار صادر، بيروت، بدون تاريخ.

(3) ابن قدامة، المغني، مكتبة الرياض الحديثة، 1401 هـ.

(4) جمال برزنجي، الوقف الإسلامي وأثره في تنمية المجتمع، ضمن أبحاث ندوة (نحو دور تنموي للوقف) وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية، ا لكويت 1993 م.

(5) راشد القحطاني، أوقاف السلطان الأشراف شعبان على الحرمين، الرياض، 1414 هـ.

(6) سعيد عاشور، المؤسسات الاجتماعية في الحضارة العربية في (موسوعة الحضارة العربية الإسلامية) المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت، 1987 م.

(7) شوقي دنيا، أثر الوقف في إنجاز التنمية الشاملة، مجلة البحوث الفقهية المعاصرة، الرياض 1415 هـ.

(8) عبدالله بن سليمان المنيع، الوقف من منظور فقهي، ضمن أبحاث ندوة المكتبات الوقفية في المملكة العربية السعودية- المدية المنورة، 1420 هـ.

(9) عبدالله بن ناصر السدحان، رعاية الأيتام في المملكة العربية السعودية، الأمانة العامة للاحتفالات بمرور مائة عام على تأسيس المملكة، الرياض، 1419 هـ.

(10) وزارة العمل و الشؤون الاجتماعية، تقرير عن الأربطة في مكة المكرمة والمدينة المنورة.

ملاحظة : حذفت الحواشي نظراً لعدم وضوحها .

==============

#انهزام داخلي.. داء ودواء!

د. أميمة بنت أحمد الجلاهمة

أكاديمية سعودية .. جامعة الملك فيصل الدمام

لا أدري ما الذي سيخلفه هذا الانهزام الداخلي الذي يحاول بعضنا تمكينه في نفوس الشبيبة، ولا أدري هل سيترك خلفه توجهاً سلبي المنحى، أم سيقع منا موقع التحفيز فنبرع كما لو لم يبرع غيرنا

لقد تحدث الغرب بعظيم التقدير عن إنجازات حاول بعضنا تهميشها، إنجازات حضارة استمدت قوتها من كلمة التوحيد لا إله إلا الله محمد رسول الله، بالتالي لم يكن من الممكن أن أتغاضى عن تلك المحاولات التي تعمل على النيل منها ،مهاترات تكرر ظهورها بشكل مقزز عبر إعلامنا على اختلاف قنواته، وقد اخترت وضع دفة الحديث بين يدي الإنسان الغربي لعل شهادته في حق هذه الحضارة الموسوعية والعالمية تكون أوقع للمصابين بانهزام داخلي، لعل ذلك الإنسان يحدثهم بما لا يعلمون:

قال الدكتور "فيليب حتي": "خلال القسم الأول من القرون الوسطى لم يساهم شعب من شعوب الأرض بقدر ما ساهم به المسلمون في التقدم البشري، وظلت اللغة العربية هي لغة العلوم والآداب والتقدم الفكري لمدة قرون في جميع أنحاء العالم المتمدن آنذاك، وكان من آثارها أيضا أنه فيما بين القرنين التاسع والثاني عشر الميلاديين - الثالث والسادس الهجريين - فاق ما كتب بالعربية عن الطب والتاريخ والإلهيات والفلك والجغرافيا كل ما كتب بأي لسان آخر".

أما العلامة جورج سارتون (1884-1995م) فقد قال: "إن شراح الثقافة الغربية كثيرا ما يهملون ما قام به الهنود والصينيون من تطوير للرياضيات، ولكن إهمال ما استحدثه العرب المسلمون من تطوير في هذا الجانب من شأنه أن يفسد مفاهيم كاملة ويجعلها غامضة ..لقد كانت اللغة العربية هي لغة الرياضيات بما لم تبلغه أي لغة - سوى الإغريقية - ولن تبلغها أي لغة أخرى". كان طبيعيا أن يذهب علامة كجورج سارتون إلى هذا وهو يدرك تماما أن المسلمين هم من أوجدوا علم الجبر على يد العلامة المسلم محمد بن موسى الخوارزمي، وعن طريق مؤلفاته أدخلت الأعداد العربية إلى أوروبا بما فيها الأعداد التي ما زال الغربيون يتعاملون بخطها.. أما الصفر الذي كان لوجوده ثورة في علم الرياضيات، فلا أحد ينكر أنه نتاج للحضارة الإسلامية.

كما قال البروفيسور جورج سارتون عن الحضارة الإسلامية: "إن القدرة على إبداع حضارة عالمية وموسوعية بهذا الحجم، في أقل من قرنين من الزمان أمر يمكن وصفه ولكن لا سبيل إلى تفسيره تفسيرا كاملا".

كما تحدث البروفيسور سارتون أيضا عن تفوق مدارس الطب في عهد الحضارة الإسلامية فقال: "إن مدارس الطب في العالم الإسلامي أنشئت في العصر العباسي وكانت تلك المدارس تنتهج المنهاج النظري ثم العملي" وهو النظام الذي ما زال معتمدا من قبل أعظم الجامعات العالمية، بل إن التاريخ المدون من قبل الغرب يؤكد أن المدارس الطبية في الأندلس كانت الوحيدة في أوروبا التي تخرج أطباء مؤهلين في الجراحة، بل إنهم يؤكدون أن الطب الأوروبي الحديث مستنبط من بدايته من الطب العربي الإسلامي، وأنهم أول من أنشأ صيدلية عرفها التاريخ، لقد كانت العقاقير الإسلامية ترسل للشرق كما للغرب، فوصلت شرقا إلى بلاد الهند والصين كما وصلت إلى أوروبا عبر البندقية التي ازدهرت في القرون الوسطى تجاريا بسبب تجارتها في العقاقير الإسلامية .

كما ذكرت زيغريد هونكة : " قبل 600 عام كان لكلية الطب الباريسية أصغر مكتبة في العالم، إذ لم تكن تحتوي إلا على كتاب واحد كان للطبيب المسلم أبي بكر الرازي، وكان هذا الأثر العظيم ذا قيمة كبيرة بدليل أن ملك الفرنجة لويس الحادي عشر اضطر إلى دفع مبالغ طائلة لقاء استعارة هذا الكنز الغالي رغبة منه في أن ينسخ له أطباؤه نسخة منه، يرجعون إليها إذا ما هدد مرض أو داء صحته أو صحة عائلته .

(زيغريد هونكة )في كتابها " شمس الله تستطع على الغرب " قالت: "اهتم العرب بالجراحة فقاموا بعمليات جراحية كثيرة في البطن، كما نجحوا في شق القصبة الهوائية ووقف نزيف الدم بربط الشرايين الكبيرة، وهذا الإنجاز العلمي الكبير ادّعى تحقيقه الفرنسي "امبراواز باري" عام 1552م، في حين أن الطبيب المسلم أبا القاسم الزهراوي في قرطبة والذي توفي عام 1013م قد اكتشفه قبله بستمائة سنة، وذكره في مؤلفه " التصريف لمن عجز عن التأليف " أي قبل باري بستة قرون.

لقد تملك العجب ملك الفرنجة شارلمان وحاشيته من رؤيتهم الساعة التي كانت ضمن هدايا هارون الرشيد ردا على الهدايا التي وصلت له مع وفد جاء من قبل شارلمان والهادفة لتوثيق العلاقات بين الدولة الإسلامية وفرنسا، لقد اعتقد الملك شارلمان وحاشيته أن هذه الساعة سحر، فقد كانت تدق كل ساعة بسقوط كراتها النحاسية على قرص معدني، مهارات المسلمين الميكانيكية كانت سحرا عند هؤلاء .

يؤكد ويل ديورانت: "أن ابن سيناء أعظم من كتب في الطب في العصور الوسطى، وأن الرازي أعظم أطبائها، والبيروني أعظم الفلكيين فيها، والإدريسي أعظم الجغرافيين فيها، وابن الهيثم أعظم علماء البصريات، وجابر بن حيان أعظم الكيميائيين فيها، وأن العلوم العربية نمت في علم الكيمياء بالطريقة التجريبية العملية، وهي أهم أدوات العقل الحديث، وأعظم مفاخره،" بل أكد ديورانت أن روجر بيكن الذي أعلن هذه الطريقة في أوروبا، اكتشفها جابر بن حيان قبله بخمسمائة عام، (خمسة قرون).

ولأن الهندسة من أبرز ظواهر الحضارة الإنسانية، لذا سأذكر هنا هذه القصة: "عندما سمع الإمبراطور الروماني (آليون) أن المسلمين قد بنوا مسجدا في دمشق، اعتبر اكبر معجزة في عصره لم يصدق ذلك، فشكل بعثة من المهندسين والمعماريين الرومان، وقال لهم: "إن المسلمين قد غلبونا في حروب البر.. ثم غلبونا في حروب البحر، ولكن أن يستطيع رعاة الغنم وسكان الخيام أن يغلبونا في فن العمارة فهذا لا أصدقه أبدا، فاذهبوا إلى دمشق وزوروا المسجد الأموي وأخبروني بحقيقة الأمر " وتقول القصة إن المعماريين الرومان عندما شاهدوا الرسوم التي وضعها المسلمون للمسجد لم يصدقوا أنه بالإمكان تنفيذها، إلا أن الذهول كان نصيبهم عندما زاروا المسجد ووقفوا على روعة الفن والعمارة الإسلامية، بل إن رئيس المعماريين الرومان شهق شهقة عالية أمام هذا الإبداع الإنساني.

وكل ما آمله من المعدين والقائمين على المقابلات الحوارية، هو القيام بواجباتهم على أكمل وجه، فالثقافة المتعلقة بعظم الحضارة الإسلامية متوفرة بشكل كبير، ولا يستغرق الإلمام بها إلا عدة أيام، فمن المهم للمحاور ليكون مقنعا أن يكون ملما بموضوع الحوار، فمع الأسف تبين من خلال بعض البرامج الحوارية، أن القائمين عليها لا يبذلون الجهد الكافي لذلك، فالرغبة والغيرة على الحضارة الإسلامية لا تكفي لإقامة الحجة على من يدعي معرفة إسرار الكون، على من بهرته القشور، فأصبح يغرد على آثارها.

الحضارة الأوروبية والأمريكية لا يمكن لعاقل أن ينكرها إذا ما قورنت بمعطيات عصرها، ولكنه من غير المستبعد أن تقدم لنا الحضارة اليابانية أو الصينية أو الهندية، بل والإسلامية ما يفوقها تقدما وتطورا في المستقبل القريب.. وعليه فمن الإجحاف إنكار الحضارة المعاصرة وتقليص معطياتها مقارنة بما سيستحدث من غيرها مستقبلا، فهي في عصرها الحالي متميزة، ولكنها ليست فريدة وموسوعية وعالمية كحال الحضارة الإسلامية في العصور الوسطى، فهي بشهادة علماء الغرب، ظهرت وتربعت وبقيت متفردة خلال ستة قرون.

لا أدري ما الذي سيخلفه هذا الانهزام الداخلي الذي يحاول بعضنا تمكينه في نفوس الشبيبة، ولا أدري هل سيترك خلفه توجهاً سلبي المنحى، أم سيقع منا موقع التحفيز فنبرع كما لو لم يبرع غيرنا.. إنه سبحانه ولي ذلك والقادر عليه.

==============

# التقنية والعمل الدعوي ضرورة شرعية ملحة

د. سليمان بن محمد بن فالح الصغيّر

المتأمل واقعََ العمل الدعوي ومناشطه يرى ولله الحمد أنه يجري من خلال قنوات عديدة ونشاطات متميزة في الدعوة والإرشاد إلى دين الحق، وتمثله هيئات ومؤسسات حافلة بالأعمال الإسلامية المختلفة، وساحاته الإعلامية آخذة في شق طريقها بقوة وثبات ترعاها بتوفيق الله أيدٍ مخلصة حتى علا بعضها منابر دعوية انتشر صيتها وارتفع ذكرها، ولا نملك إزاء تقصيرنا تجاهها إلا أن ندعو لهؤلاء بأن يخلص الله لهم العمل، ويحقق الهدف الذي يؤمَّل من رجالها وأنصارها بل وعامة الأمة الإسلامية.

ولكن الملاحظ أن الساحة الإعلامية الإسلامية قلما تتطرق في صحفها ومنابرها إلى الحديث عن التقنية ومنجزاتها، وإن تطرقت فبشكل نادر؛ وغالباً ما يكون ذلك من جهة عامة باعتبار أنها ليست الغاية أو الجانب الأهم في حياة الإنسان، وهي وإن كانت كذلك، فليس معناه أن يكون موقف العمل الدعوي سلبياً، وفي المقابل حينما نتأمل الأعمال المهنية والتقنية وساحاتها الإعلامية نجدها بعيدة عن ربط مبادئ الإسلام وقيمه وآدابه وأحكامه في ذلك الشأن، وبمعنى أدق: لماذا نرى النشاطات التقنية تكاد تخلو من ربط التقنية بمفاهيم الإسلام وآدابه وأحكامه وبخاصة في المجلات والصحف التي تعنى بالجوانب التقنية، وغالباً ما يصطبغ طرح الموضوعات المهنية والتقنية فيها بصبغة دنيوية جافة ليس فيها ذكر للإيمان والنية وابتغاء وجه الله والدار الآخرة.

إن ذلك فيما أرى يستوجب مضاعفة الجهود وتكاتف فئات المجتمع. ويعظم دور العلماء والدعاة في ضرورة توجيه أعمال المهن في منظومة العمل الدعوي ومجالاته الرئيسة، والسعي إلى ترابط الجهود الدعوية والتنسيق التعاوني بين ساحاتها الإعلامية ومع جهود رجالات الدعوة وإسهاماتهم من خلال مجالات تخصصاتهم التقنية والمهنية والفنية، وتشجيع البحث العلمي والتقني بين المسلمين بإنشاء المراكز للبحوث العلمية والتقنية، والعمل على نشر العلوم التطبيقية والتقنية انطلاقاً من تصور إسلامي صحيح، وإحياء المفهوم الصحيح للبحث العلمي والتقني في الإسلام وتعميقه في نفوس المسلمين، وإبراز الإشارات العلمية في القرآن الكريم، ووضع سياسات علمية وتقنية دقيقة ومستقرة للعالم الإسلامي.

أليس الإسلام دين العلم؟ بل لم يعرف التاريخ أمة من الأمم رفعت من شأن العلم وأهله كأمة الإسلام؟ فَلِمَ لا تُربَط العلوم الحديثة بأهداف الإسلام وغاياته ومبادئه وأحكامه كلما طرحت؟ ولماذا لا يركز العلماء والدعاة على هذا الجانب الهام في العمل الدعوي؟ لا نجد مسوغاً يجعل العمل الدعوي بمنأى عن العمل المهني والتقني؛ فالعصر عصرها، وضرورة توضيح قيمة هذه الأعمال المهنية والتقنية في الإسلام قائمة وملحة؛ فإن تعزيز العلاقة وتنمية روابطها بين كل من العملين من شأنها أن توحد الجهود ويعظم تأثيرها. نعم! قد نرى شيئاً من ذلك الربط في مجلة (الإعجاز) مثلاً التي تصدر عن هيئة الإعجاز العلمي في القرآن والسنة برابطة العالم الإسلامي في مكة المكرمة، وإن كانت ذات توجه تخصصي أكثر؛ مما قد يكون أثَّر على انطلاقها المأمول في الساحة الإعلامية والدعوية.

فمن هنا تبرز أهمية طرح المفهوم الإسلامي للعمل التقني والمهني وربطهما بالمفهوم الإسلامي والمبادئ والقيم والآداب والأحكام التي جاء بها حتى تتبين أهدافه وتتضح غاياتهُ وتَمَيُّزُ أحكامِهِ واختصاصه بالشمولية. ونظرة الإسلام إلى العلم بعامة والحِرَف والمهن التقنية بخاصة نظرة كلها تكريم وإجلال تكمن في أنه جعلها ضرورة من ضروريات الحياة، كما رتب عليها الأجر وجعلها من أفضل وسائل الكسب، ورفع من شأن تعلمها وتعليمها حتى جعلها في ذاتها عبادة ما دامت في حدود ما شرعه الله تعالى، وجعل أداءها وإتقانها والإخلاص فيها غاية يجب أن يسعى إليها المسلم، وإذا أدرك الإنسان حقيقة الإيمان وجد باعثاً من داخل نفسه إلى العمل في مجالات الحياة المختلفة ليقوم بمهمته في عمارة الأرض؛ وأعرض على سبيل المثال بعض ما تضمنته مبادئ الإسلام وما جاء به من قيم وأحكام في أداء العمل، وبخاصة العمل المهني الذي هو أصل التقنية ويلتحق به كل جديد في عالمها اليوم.

إن ارتباط السعادة بالعمل في الإسلام ليس مقصوراً على الدار الآخرة وحدها، بل يجري الجزاء عليه في الدنيا؛ فمن سنن الله فيها أن يُعطي كل عامل مجدٍّ ثمرة عمله؛ فالطالب أو المدرس أو الصانع أو المزارع أو التاجر يدعوه دينه إلى أن يكون عاملاً مثابراً مخلصاً متقناً لعمله؛ لأن الله يحب إذا عمل أحدنا عملاً أن يتقنه، ولهذا نستطيع أن نقول: إن العمل التقني سبب لحصول ثمرته من سعادة وأجر دنيوي وأخروي فيما إذا سُخِّر لصالح الأمة.

ولقد كان الصحابة رضوان الله عليهم يتقنون مهن الحياة: زراعة، وتجارة، وصناعة، ولم يكن إيمانهم بالآخرة مانعاً لهم من العمل للدنيا، قال تعالى : وابتغ فيما آتاك الله الدار الآخرة ولا تنس نصيبك من الدنيا {القصص: 77}.

وقيمة العمل اليدوي والمهني والتقني استمراريته حتى آخر لحظة من العمر؛ فالأخذ بأسباب عمارة الأرض حتى آخر لحظة من العمر هو شأن المسلم؛ إذ يقول صلى الله عليه وسلم : "إذا قامت الساعة وفي يد أحدكم فسيلة فإن استطاع ألا يقوم حتى يغرسها فليغرسها"(1).

العمل التقني ضرورة شرعية وحضارية حيوية؛ فقد نظر الإسلام إليه نظرة كلها تكريم وإجلال تكمن في أن جعل العمل ضرورة من ضرورات الحياة بها ينعم الإنسان ويعمر الأرض، ومما يدل على ذلك أن الإسلام قرن العمل بالجهاد؛ حيث قال تعالى : وآخرون يضربون في الأرض يبتغون من فضل الله وآخرون يقاتلون في سبيل الله {المزمل: 20}.

وقد فُسِّر الضرب بأنه التقلب في التجارة، والتجارة تُعَدُّ من أصول الأعمال المهنية والفنية.

ومما يؤكد ذلك أيضاً اقترانه بالصلاة والحج، كما في قوله تعالى : فإذا قضيت الصلاة فانتشروا في الأرض وابتغوا من فضل الله {الجمعة: 10}.

وفسر بعض العلماء (المنافع في الحج) في قوله تعالى : ليشهدوا منافع لهم {الحج: 28} بأنها "الأجر في الآخرة والتجارة في الدنيا"، ولم يكتف الإسلام بهذا القدر في بيان قيمة العمل والحث عليه بل اعتبر العمل جهاداً؛ فقد قال بعض الصحابة حين رأوا شاباً قوياً يسرع إلى عمله: لو كان هذا في سبيل الله! فرد رسول الله صلى الله عليه وسلم عليهم بقوله: "لا تقولوا هذا؛ فإنه إن كان خرج يسعى على ولده صغاراً فهو في سبيل الله، وإن كان خرج يسعى على أبوين شيخين كبيرين فهو سبيل الله، وإن كان خرج يسعى على نفسه يعفُّها فهو في سبيل الله، وإن كان خرج يسعى رياء ومفاخرة فهو في سبيل الشيطان"(1).

أجر العمل اليدوي والمهني في الإسلام دنيوي وأخروي: إذ حث الإسلام على العمل ووعد صاحبه بالأجر العظيم في قوله صلى الله عليه وسلم : "من بنى بنياناً من غير ظلم ولا اعتداء، أو غرس غرساً في غير ظلم ولا اعتداء كان له أجرٌ جارٍ ما انتفع به من خلق الله تعالى"(2).

وقال أيضاً: "ما من مسلم يغرس غرساً، أو يزرع زرعاً فيأكل منه طير أو إنسان أو بهيمة إلا كان له به صدقة"(3)؛ فالزراعة أصل من أصول الأعمال الفنية المهنية.

أما حكم العمل المهني والتقني فيعد من فروض الكفاية التي إذا قام بها بعض أفراد المجتمع قياماً يسد حاجة المجتمع ويدفع عجلته للتقدم والرقي سقط الإثم عن الباقين، وإلا أثمت الأمة كلها، وتحوَّل فرض الكفاية هذا إلى فرض عين على كل من يستطيع. والأعمال التقنية من أولويات ذلك؛ ولذلك قال الإمام ابن تيمية رحمه الله : "لهذا قال غير واحد من الفقهاء من أصحاب الشافعي، وأحمد ابن حنبل وغيرهم كأبي حامد الغزالي وأبي الفرج ابن الجوزي وغيرهم: إن هذه الصناعات فرض على الكفاية؛ فإنه لا تتم مصلحة الناس إلا بها"، ثم يقول: "والمقصود هنا أن هذه الأعمال التي هي فرض على الكفاية متى لم يقم بها غير الإنسان صارت فرض عين عليه، لا سيما إن كان غير عاجز عنها".

والعمل ضده البطالة والكسل، وكان موقف الإسلام منهما أن حاربهما وسعى إلى القضاء عليهما بجميع أشكالهما سواء كانت البطالة بطالة ظاهرة أو بطالة مقنعة، بطالة إجبارية كعدم الحصول على العمل مع وجود الرغبة والقدرة، أو بطالة اختيارية بسبب عدم الرغبة وتفضيل الكسل والخمول. وهناك عدد من الأحاديث الصحيحة الصريحة في النهي عن البطالة والقعود بلا عمل كقوله صلى الله عليه وسلم : "لأن يأخذ أحدكم حبله فيأتي بحزمة الحطب على ظهره فيبيعها فيكفَّ الله بها وجهه خير له من أن يسأل الناس أعطوه أو منعوه"(4).

وقد ذم السلف الصالحُ العاطلَ عن العمل، كقول ابن مسعود رضي الله عنه : "إني لأكره الرجل فارغاً لا في عمل الدنيا ولا في عمل الآخرة"(5).

يقدم لنا الإسلام القدوة والمثل الأعلى على الاهتمام بالعمل وبيان شرفه حتى إن الله تعالى جعل العمل نوعاً من الشكر له؛ فبه تتحقق فائدة ما أنعم به وما أوجده في هذا الكون. قال تعالى : اعملوا آل داوود شكرا وقليل من عبادي الشكور {سبأ: 13}. والرسول صلى الله عليه وسلم ربى المسلمين على هذا الاهتمام، فبين شرف العمل وأهميته عند الله في مناسبات شتى.

إن احترام العمل وتقديره والنظر إليه بصفته مبدأ إسلامياً بحد ذاته سبب رئيس في قيام الحضارة الإسلامية؛ فالعمل هو الثروة الدائمة لأية أمة من الأمم، وهو الطريق الأقوى لبناء الاقتصاد والتقدم العلمي وتحقيق القوة والسيادة، ولقد أدرك المسلمون الأولون ذلك جيداً وطبقوه في شكل ممارسات واقعية لم يُستثن أحد لمكانته أو ثروته مما أدى بهم إلى بناء مجتمع إسلامي قوي استطاع أن يفرض وجوده على العالم أجمع.

وإحياء مثل هذا المبدأ واجب لتخليص الأمة الإسلامية من الافتقار إلى موارد الغذاء والآلات والمصنوعات.

إن إصلاح النظرة الدونية تجاه العمل والعمال يكمن في سيادة القيم الدينية الإسلامية داخل برامج التعليم العام وبخاصة برامج التعليم اليدوي والمهني والتقني.

إن العمل التقني في الإسلام يتطلب مهارة ودقة وإتقاناً، بل إن الإتقان والإحكام مطلوب في كل شيء يعمله الإنسان، ولا تستقر الحياة، ولا تتقدم الأمم، ولا تنضبط الأمور إلا عندما تكون متقنة ومحكمة، والإسلام حث على الإتقان؛ ففي الحديث: "إن الله تعالى يحب إذا عمل أحدكم عملاً أن يتقنه"(1)، وفي رواية: "إن الله يحب من العامل إذا عمل عملاً أن يحسن"(2).

ولقد كان من أهم أسباب نجاح الصناعات الحديثة في بعض الدول وتفوقها على غيرها اهتمامها بمراقبة الجودة النوعية، ثم انتشار أسلوب وجود قسم متخصص في كل مصنع لمراقبة جودة الإنتاج واستبعاد أي قطعة ليست في غاية الإتقان، ثم عقد اجتماعات دورية للجان الجودة النوعية لاقتراح ما يرونه مناسباً لتحسين نوعية المنتجات، بل تطور الأمر فيما بعد إلى إيجاد فريق متابعة الجودة خارج المصنع، وذلك باكتشاف أي خلل أو قصور في أي سلعة، واستبدالها وتعويض المستهلك عن أية خسارة تحملها نتيجة لذلك.

وقد أوجدت تلك الدول جائزة سنوية تمنح للشركات التي تحقق أعظم تحسن في الجودة والنوعية؛ ولأهمية ذلك فقد أنشئت رابطة دولية لحلقات مراقبة الجودة النوعية(3).

وإذا كان هذا حال الإنسان الذي لا يهمه إلا الكسب المادي في هذه الحياة فما أحرانا نحن المسلمين بمثل هذا السلوك، لننال القوة في الدنيا والفوز في الآخرة.

إن كل عمل لا بد له من هدف في هذه الحياة؛ فالإنسان وجد في هذه الحياة لهدف وغاية، ولم يوجد عبثاً، ولذا يجب أن تكون أعماله لأهداف وغايات، ولا يمكن تحقيق هذه الأهداف إلا بإتقان العمل.

اهتم الإسلام بالعمل المهني والتقني بمفهومه العام والاصطلاحي، وجعله من القيم التي حرص عليها؛ وذلك أنه يدفع إلى تطور البلاد وزيادة الإنتاج؛ ففي مخاطبة الله سبحانه وتعالى نبيه نوحاً عليه السلام مغزى صريح لأهمية الصناعة في حياة الإنسان والمجتمع. قال تعالى : فأوحينا إليه أن اصنع الفلك بأعيننا ووحينا {المؤمنون: 27}. وفي قصص الأنبياء وأحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم توجيهات تربوية تقدم ذكر بعضها نستوحي منها أهمية الصناعة والزراعة والتجارة والمهن الأخرى في حياة المجتمعات، وقد حرص الغرب على أن يبقى المسلمون محتاجين إلى علومهم وصناعاتهم وإنتاجاتهم التقنية التي غزت أسواقنا ووفرت الاحتياجات الأساسية والكمالية، ولا سيما الكمالية منها، مما أضعف اشتغالنا بالصناعة، ولئلا يكون ذلك هدماً لحضارتهم. ولنستمع إلى أحد الساسة الفرنسيين في هذا الشأن؛ إذ يقول: "إن العالم الإسلامي يقعد اليوم فوق ثروة خيالية من الذهب الأسود والمواد الأولية الضرورية للصناعة الحديثة؛ فلنعط هذا العالم ما يشاء، ولنقوِّ في نفسه عدم الرغبة في الإنتاج الصناعي والفني؛ فإذا عجزنا عن تحقيق هذه الخطة وتحرر العملاق من قيود جهله وعقدة الشعور بعجزه عن مجاراة الغرب في الإنتاج، فقد بؤنا بالإخفاق السريع، وأصبح الخطر الذي يصيب العالم العربي وما وراءه من الطاقات الإسلامية الضخمة خطراً داهماً يتعرض به التراث الغربي لكارثة تاريخية ينتهي بها الغرب وتنتهي معه وظيفته القيادية"(1).

وقد اعتنى القرآن الكريم بالعمل المهني وجعله نعمة تستوجب الشكر؛ حيث قال تعالى : ليأكلوا من ثمره وما عملته أيديهم أفلا يشكرون {يس: 35}، قال الإمام الرازي: "يحتمل أن تكون (ما) موصولة بمعنى: وما عملته، أي: بالتجارة كأنه ذكر نوعي ما يأكل الإنسان بهما وهما الزراعة والتجارة"(2). يقول سيد قطب رحمه الله : "مشيئة الله في عمارة هذه الأرض اقتضت أن تكون للناس حاجات لا ينالونها إلا بالعمل والكد، وفلاحة هذه الأرض، وصناعة خاماتها، ونقل خيراتها من مكان إلى مكان، وتداول هذه الخيرات وما يقابلها من سلعة أو نقد أو قيم تختلف باختلاف الزمان والمكان"(3).

وقد نوه القرآن الكريم بشأن كثير من الصناعات، ومن ذلك:

- صناعة الحديد: وأنزلنا الحديد فيه بأس شديد ومنافع للناس {الحديد: 25}، وقوله تعالى : يعملون له ما يشاء من محاريب وتماثيل وجفان كالجواب وقدور راسيات {سبأ: 13}.

- صناعة الأكسية: ومن أصوافها وأوبارها وأشعارها أثاثا ومتاعا إلى" حين {النحل: 80}.

- صناعة الدروع: وألنا له الحديد 10 أن \عمل سابغات وقدر في السرد {سبأ: 10، 11} .

- قالوا: درع سابغ تام واسع(4)، والسرد: خرز ما يخشن ويغلظ كنسج الدروع وخرز الجلد، واستعير هنا لنظم الحديد(5).

- صناعة الجلود: وجعل لكم من جلود الأنعام بيوتا تستخفونها يوم ظعنكم ويوم إقامتكم {النحل: 80}.

- صناعة السرابيل: وجعل لكم سرابيل تقيكم الحر وسرابيل تقيكم بأسكم {النحل: 81}، وقوله تعالى : وعلمناه صنعة لبوس لكم لتحصنكم من بأسكم فهل أنتم شاكرون {الأنبياء: 80}.

- قالوا: السربال: القميص من أي شيء كان(6)، فقد يكون من القطن والكتان وغيرها، وقيل: هي ما لبس من قميص ودروع فهو سربال"(7).

- الصناعات الإنشائية: وبوأكم في الأرض تتخذون من سهولها قصورا وتنحتون الجبال بيوتا.

{الأعراف: 74}.

- صناعة السفن والمراكب: فأوحينا إليه أن اصنع الفلك بأعيننا ووحينا {المؤمنون: 27}. يقول الفارابي: "إن فضيلة العلوم والصناعات تكون بإحدى ثلاث: إما بشرف الموضوع، وإما باستقصاء البراهين، وإما بعظم الجدوى التي فيه. وأما ما يفضل على غيره بعظم الجدوى التي فيه فالعلوم الشرعية والصنائع"(8).

ومن خلال ذلك تتبين قيمة تعلم الصناعات والحرف والأعمال اليدوية والتقنية، وأنها مطلب شرعي قبل أن تكون ضرورة حضارية وأرضاً خصبة للعمل الدعوي.

دور القيم في تطوير أداء العمل:

وإنه ليتحقق دور هذه المبادئ والقيم في تطوير أداء العمل التقني وتسخيره لصالح الدعوة وإقامة بناء المجتمع الإسلامي على أصول ثابتة وأسس حضارية من خلال القنوات والاعتبارات الآتية:

1 - الإخلاص في العمل يجعل العمل الدنيوي قربة وعبادة إلى الله تعالى وهذا بدوره حافز لمضاعفة الجهد والإنتاج.

2 - إيجاد الشخصية الإنسانية الصالحة المسلمة السوية التي تؤدي عملها وتقدر دورها التنموي في المجتمع الذي تعيش فيه وتتعامل معه.

3 - التوصل إلى جهود علماء المسلمين في مجال ترسيخ قيمة العمل المهني، ومن ثم إبراز هذه المجهودات في هذا المضمار؛ إذ استطاعت النظرة الإسلامية من خلال هذه المجهودات أن تفتح ذراعيها لجميع التجارب الإنسانية الصالحة.

4 - إذا أدرك الإنسان حقيقة الإيمان وجد باعثاً من داخل نفسه يدعوه إلى العمل في مجالات الحياة المختلفة ليقوم بمهمته في الأرض، وسعادة الإنسان في الدنيا والآخرة مرهونة بعمله، ولا مجال في الإسلام أن يعيش المسلم على الأماني.

5 - سد الاحتياجات المعرفية والمتطلبات من الطاقات المهنية والفنية التي تحتاجها الأمة لتنفيذ خططها الإنمائية في شتى مجالات الحضارة الإنسانية وتطبيقاتها العملية.

6 - الإسهام في تطوير المجتمع وزيادة إنتاجية المنتجين للعمل على تقليل نسبة البطالة المبطنة والواضحة.

7 - التخصص في الأعمال يعني المهارة لدى المختصين؛ وهذا بلا شك يعني أن إنتاج المتخصص فيما تخصص به أجود من إنتاج غير المتخصص، وفي هذا العصر تبرز وتتأكد أهمية التخصصات التقنية والفنية في تجويد الإنتاج الذي حض عليه الرسول صلى الله عليه وسلم بقوله: "إن الله يحب إذا عمل أحدكم عملاً أن يتقنه"(1).

8 - القيم الإسلامية للعمل تجعل المجتمع يرتكز على قاعدة صلبة من الدراسات العملية والتطبيقية القادرة على التعاون مع التكنولوجيا ومنجزاتها تعامل المدرك لأسرارها والعالم بمكنوناتها.

9 - قيمة احترام العمل وتقديره تخلِّص الأمة الإسلامية من الافتقار إلى موارد الغذاء والآلات والمصنوعات؛ فاحترام العمل وتقديره وإتقانه والنظر إليه بصفته مبدأً إسلامياً سبب رئيس وطريق قوي لبناء الاقتصاد والتقدم العلمي، واللبنة الأولى في إصلاح القيم السلبية تجاه العمل والعمال.

10 - إن إدراك الإنسان لمسؤوليته عن نفسه وسعيه وكسبه ومجتمعه وعن مواهبه أيضاً وملكاته واستعداداته العقلية والجسمية النفسية يجعله يعمل بروح عالية فيما يعود على نفسه ومجتمعه ووطنه وأمته بالخير، ورفع مستويات ذلك من الناحية المادية والمعنوية، كما يجعله مجالاً خصباً للدعوة.

11 - إتقان العمل من قيم الإسلام التي تعد من أهم أسباب نجاح الصناعات التقنية الحديثة.

12 - ومن آثار القيم الإسلامية أنها يوجب الاهتمام بالعمل المهني والفني والتقني؛ إذ سيسهم ذلك في الحد من نمو القوى العاملة غير المسلمة، كما يؤدي الاعتماد على قوة العمل الإسلامية إلى رفع درجة تأهيلها للتكيف مع المتطلبات التقنية الحديثة.

13 - إدراك قيمة المسؤولية يوجب على المسؤولين تحديد احتياجات المجتمع الإسلامي تحديداً واضحاً وفق استراتيجية مرسومة على المدى الطويل تراعي النواحي التنموية والتطورات الحضارية؛ لتتضح الرؤية تماماً، وتتحدد الأهداف الكمية والنوعية، وتأتي الخطط المرحلية وافية بحاجات المجتمعات الإسلامية.

إن هذه القنوات والاعتبارات لتؤكد مسؤولية القائمين على العمل الدعوي بخاصة والأمة الإسلامية بعامة دولاً ومجتمعات وأفراداً أن تتدارك هذا التهور التقني؛ فقد خصها الله وميزها بخصائص ومزايا تؤهلها لكبح جماح ذلك التهور والوقوف به على تطويره وتسخيره في عمارة الأرض. ولكن السؤال المطروح هو: كيف يتم ذلك وهي في مؤخرة الركب، ويسود معظم أفرادها ومجتمعاتها التخلف والرضا بالواقع المكاني دون ركب التقنية الذي يقوده تطوره إلى تهوره؟ والإجابة عن هذا السؤال تدعونا أن نتأمل أولاً موقف غالبية الأمة من التطور التقني المعاصر إعلامياً وعملياً! والواقع أنه موقف مرير؛ فنحن بين مهتمين بنظريات ودعوات وندوات وخطب ومواعظ ليس للتقنية وجود فيها ولا ذكر، وبين مهتمين بالتقنية غير مبالين بالآداب والمبادئ والأخلاق الإسلامية. وثانياً ما حال العمل الدعوي؟ وأين مكان التقنية الشاغر في ساحاته الإعلامية ومؤسساته الخيرية والتربوية؟ وماذا أعدت لشباب الأمة: هل استهدفت تأهيلهم ليملكوا زمام كبح جماح التهور التقني وضبطه في عالم اصطبغ بملوثاته، وعانى من أضراره التي باتت تخيم في سماء البشرية أجمع؟

أسباب التخلف:

ومما يتوجب على القائمين بالعمل الدعوي دراسة أسباب التخلف، ودراسة مقومات التقنية ووسائل ضبطها وإبقائها في مستوى التطور بما يخدم البشرية جمعاء؛ وذلك بالعمل الجاد لإعداد أبناء الأمة لمعرفة أسرار التقنية ومنجزاتها، وإدراك أسرارها وخفاياها. وأشير هنا إلى بعض عوائق التقدم وأسباب التخلف والتأخر التقني في عالم المسلمين المعاصر؛ علها تفتح أبواب العمل الدعوي لدراسة جادة لمقومات التقدم التقني ووسائله ضمن مشروعاته ونشاطاته واهتماماته.

فمن العوائق ما يكون مادياً مثل:

1 - الأمية المنتشرة بين المسلمين وتمزق العالم الإسلامي المعاصر إلى دول وأقليات.

2 - إهمال الدراسات التقنية في دول العالم الإسلامي، واعتمادهم على الغرب والشرق في ذلك نظراً لعدم توفر وسائل البحث العلمي والتقني من الأجهزة والمواد والقوى الفنية.

3 - فقدان التنسيق والتعاون والتشاور بين المؤسسات الدعوية والعلمية والتقنية.

وإذا تجاوزنا هذه العوائق المادية وجدنا أهم العوائق المتصلة بذات المسلمين ومن أهمها غياب التطبيق الصحيح للإسلام بصفته التشريع الشامل لجميع شؤون الحياة، وغياب الفهم الصحيح لدور الإنسان المسلم، وانعدام الشعور بالمعنى الحقيقي للأخوة الإسلامية ومتطلباتها.

إننا إذا أدركنا ذلك وأدركنا أن العالم الإسلامي يمتلك من المقومات المختلفة للتقدم ما يؤهله للقيام بدوره فليس من العسير استخلاص الوسائل والطرق الكفيلة باللحوق بركب الحضارة بل والتقدم التقني في عالمنا الإسلامي.

--------------------------------------------------------------------------------

(@) أستاذ الثقافة الإسلامية في الكلية التقنية بالرياض.

(1) رواه أحمد في المسند، تحقيق محمد سليم سمارة وزملائه، المكتب الإسلامي، بيروت، 1413ه، والبخاري في الأدب المفرد، تحقيق كمال الحوت، عالم الكتب، بيروت، 1405ه. وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة رقم (9).

(1) أخرجه: الطبراني في المعجم الكبير، وصححه الألباني في صحيح الجامع، رقم (1441).

(2) المسند للإمام أحمد، مرجع سابق، ج 2، ص 438، وضعفه الأرناؤوط في تحقيقه للمسند، رقم (15616).

(3) أخرجه: البخاري، في كتاب الحرث والمزارعة، فتح الباري، ج 5، ص 2.

(4) متفق عليه. (5) المقاصد الحسنة، للسخاوي.

(1، 2) صححه الألباني في السلسلة الصحيحة، رقم (1113).

(3) كيف تصبح غنياً وسعيداً، للأستاذ- مصطفى أبو طحيش، ص 54.

(1) انظر المرتكزات الأساسية والمضامين التربوية لمكانة العمل من المنظور الإسلامي، للدكتور عطية عبد الصادق، بحث ضمن الكتاب السادس للجمعية السعودية للعلوم النفسية والتربوية، جامعة الملك سعود، 1416ه.

(2) الفخر الرازي، التفسير الكبير، 7- 80، دار الفكر، بيروت، 1398ه، (طبعة مصورة).

(3) في ظلال القرآن، 2970. (4) الراغب الأصفهاني، مفردات غريب القرآن، 228.

(5) المصدر السابق، 235. (6) الراغب الأصفهاني، مفردات غريب القرآن، 237.

(7) المصدر السابق. (8) التربية عبر التاريخ، لعبد الله عبد الدائم، دار العلوم، 1973م، ص 210.

(1) صحيح الجامع، للألباني، رقم 1876.

===============

#التغريب في ديار الإسلام

محمد حسن يوسف

عن أبي سعيد الخدري، رضي الله عنه، أن النبي – صلى الله عليه وسلم – قال: لتتبعن سَنَنَ من كان قبلكم، شبرا بشبر وذراعا بذراع، حتى لو سلكوا جحر ضب لسلكتموه. قلنا: يا رسول الله! اليهود والنصارى؟ قال: فمن؟!! [1]

قال ابن حجر العسقلاني في شرح هذا الحديث: " ضب ": دويبة معروفة ... والذي يظهر أن التخصيص إنما وقع لجحر الضب لشدة ضيقه ورداءته. ومع ذلك فإنهم - لاقتفائهم آثارهم وإتباعهم طرائقهم – لو دخلوا في مثل هذا الصغير الرديء لتبعوهم .[2]

مظاهر التبعية

إن إتباع آثار اليهود والنصارى، ممثلا في اقتفاء آثار الغرب في طرائق معايشهم ومناهج حياتهم، أصبح من الأمور المميزة لحياة المسلمين في هذا الزمان. وتتعدد مظاهر هذه التبعية في أمور شتى، أحاول استعراض أغلبها أو أهمها فيما يلي:

إعطاء أسماء أجنبية للمحال التجارية: فالسائر في الشارع يهوله هذا الكم الخطير من الإعلانات التي تحمل أسماء أجنبية، إما مكتوبة باللغة العربية أو - وهو الأمرّ – مكتوبة باللغة الإنجليزية. واستعرض فيما يلي طائفة لهذه المسميات: فهذا محل للسيارات يطلق على نفسه " الألفي موتورز "! بدلا من أن يقول " الألفي للسيارات ". ومؤسسة تعليمية تُسميّ نفسها " مودرن أكاديمي " بدلا من " الأكاديمية الحديثة ". ومحل تنظيف ملابس اسمه " فاست كلين "!! ولماذا يُسميّ محل تنظيف الملابس نفسه بهذا الاسم؟!! ومحل أدوات كهربائية اسمه " جمال إليكتريك هاوس ". ومحل ألعاب اسمه " Royal Club ". و" ميوزيك سنتر " اسم محل لبيع الشرائط. ومحل " Blue Eyes " لبيع المستلزمات الطبية للعيون. ومحل إنشاءات اسمه " نيو ديزاين ". ومحل أجهزة تبريد اسمه " كول لاين ". ومحل للصرافة اسمه " كونتيننتال للصرافة ". ومحل للتحف يسمي نفسه " رياضكو للتحف " – ولا أدري ماذا تعني " كو " بإضافتها لاسم رياض. إن هذه مجرد أمثلة لأسماء عديدة غيرها تصدم المتجول بالشارع، وتجعله يشعر بأنه في بيئة غربية غير البيئة العربية التي يحيا فيها!!!

ومن مظاهر التغريب التي تصدمك في الشارع، تقليد سلوكيات الغرب وعاداتهم شبرا بشبر وذراعا بذراع. تجد البنت ترتدي الملابس على الموضة الغربية، فتمشي في الشارع شبه عارية. وقلما تجد بنتا بدون أن يصاحبها ولد. فالبنت تمشي متأبطة بذراع الولد، ويتسكعان سويا في الطرقات. وأصبح من النادر رؤية بنت تمشي محتشمة تظهر زيها الإسلامي. بل أصبحت رؤية من ترتدي النقاب أو الخمار ومن يرتدي الجلباب ويطلق لحيته، أصبح ذلك محلا للسخرية والتهكم.

وفي أسلوب الحوار، تجدهم يحاولون إقحام كلمة باللغة الإنجليزية أثناء الحديث، حتى يبدو المتكلم وكأنه " مثقف "!! فلا يخلو الحديث من كلمات مثل " أوكيه " أو " هاي " أو " باي باي " أو " آلو " أو " صباح الخير " ... الخ. وفي ذلك هجران للغتنا وتقليل من شأنها، خاصة مع وجود البدائل لكل تلك الكلمات والعبارات في ديننا وفي ثقافتنا.

وبعد يوم العمل، تأتي أوقات الفراغ التي يحاولون " قتلها "، فتجدهم أمام شاشات التلفاز يشاهدون المسلسلات أو الأفلام التي تبث القيم الغربية البعيدة أو المنافية للإسلام، أو يتابعون المباريات، والتي غالبا ما تتعارض أوقات إذاعتها مع مواقيت الصلاة، فتجدهم يهدرون الصلاة في سبيل إتمام المشاهدة والمتابعة.

وفي التفكير والسلوك، هيمن النمط الغربي للسلوك على أفراد أمة الإسلام. فتجدهم يغرقون في الديون طويلة الأجل من أجل شراء بيت كبير أو سيارة فارهة أو غير ذلك من الكماليات. ولا يهتمون بما إذا كانت هذه المعاملات تَحْرُم لارتباطها بالربا أم لا. فإذا تكلمت مع أحدهم من أجل التصدق على بعض الفقراء أو غير ذلك من أوجه الجهاد بالمال وجدته يشيح عنك بعيدا مبديا تأففه وتبرمه.

وفي المأكل والمشرب. وضع لنا الإسلام آدابا تنظم طريقة الأكل والشرب. ولكننا هجرناها واستعرنا مفاهيم الغرب عوضا عنها. فانتشرت في شوارعنا ثقافة محلات تقديم الوجبات السريعة والسندوتشات والتي يمشي الناس يأكلونها في الشارع. أو يجلسون في تلك المحال فيأكلون على أنغام الموسيقى الصاخبة والأغاني الهابطة.

كل هذه المظاهر هي مجرد نماذج لما أصاب هويتنا في مقتل. ذلك أن أهم شيء فطن إليه أعداؤنا هو ما تضيفه إلينا هويتنا من عزة وفخار. فكانت محاولاتهم الدءوبة والمتكررة لمسخ تلك الهوية وتشويه صورتها. والآن وبعد وضوح هذه المخططات وآثارها على مجتمعاتنا، فإما أن نظل ملتزمين بهويتنا الإسلامية، وإما أن ننجرف مع التيار فيبتلعنا ونهلك وتكون الهاوية.

خطورة هذا النموذج على أمة الإسلام

إن التقدم له أسباب ومظاهر. لم يتقدم الغرب بسبب أن شعوبه كانت تمشي تأكل في الشارع، أو لأن أولادها كانوا يأخذون بأيدي البنات ويهيمون على وجوههم في النوادي والملاهي، أو لأنهم كانوا يُقحمون كلمات غريبة عنهم في أحاديثهم. وإنما كان التقدم في الغرب لأسباب انتهجوها: تشجيع البحث العلمي، والتزام الأمانة والجدية في المعاملات، وإعطاء كل ذي حق حقه، وتشجيع الموهوبين وإفساح المجال لهم، والتخلي عن النفاق، والاهتمام بالشباب ... إلى غير ذلك من القيم التي شجعوها وعملوا بها، فكانت سببا في تقدمهم.

فلما تحقق لهم ما يريدون من تقدم، أرادوا أن تكون لهم حضارة وقيم خاصة بهم، فكانت تلك المظاهر التي انتشرت بينهم في المأكل والمشرب والملبس والمعاملات بين البنات والأولاد. ولذلك فإن اقتباس هذه المظاهر دون العمل بالأسباب الدافعة للتقدم هو مجرد وهم وسراب، ولن يجلب تقدم أو يؤدي إلى تنمية.

إن الفرق بين الحضارة الإسلامية وبين غيرها من سائر الحضارات الأخرى، أن الحضارة الإسلامية عُنيت ببناء الفرد أولا بناءً شاملا، ثم بعد ذلك انتقلت إلى العمران المادي. كما أن حضارة الإسلام هي حضارة تقوم على الجانب الوجداني والقيم، ومنها الجمال والسمو. أما الحضارات الأخرى فقد عُنيت بالتشييد المادي وإعمار الحياة في ميادينها المختلفة، لكنها تتجاهل بناء الفرد من داخله، بل وتعجز تماما عن القيام بهذا الدور الذي تفرد به الإسلام دين الفطرة. كما تقوم الحضارات المستحدثة الدخيلة على ثقافة العشوائية، وليس لها جذور. ويتضح ذلك في شكل الملابس والسلوكيات وطريقة الكلام. وللأسف فالشباب عندنا اتخذوا النموذج الغربي " العشوائي " قدوة، واعتبروا الخروج عن القيم إبداعا وموضة.

وإننا إذا أردنا أن ننهض بأمتنا وأن نعيد إليها عزها المسلوب، علينا أن نقتدي بالرسول صلى الله عليه وسلم الذي أحيا الله به موات العرب، وأن نأخذ أنفسنا بالتربية الإيمانية فهي وحدها سبيل التغيير والتحويل [3].

يقول " يوجين روستو " مستشار الرئيس الأمريكي الأسبق جونسون: " يجب أن ندرك أن الخلافات القائمة بيننا وبين الشعوب العربية ليست خلافات بين دول أو شعوب، بل هي خلافات بين الحضارة الإسلامية والحضارة المسيحية. لقد كان الصراع محتدما بين المسيحية والإسلام منذ القرون الوسطى، وهو مستمر حتى هذه اللحظة، بصور مختلفة. ومنذ قرن ونصف خضع الإسلام لسيطرة الغرب، وخضع التراث الإسلامي للتراث المسيحي.

إن الظروف التاريخية تؤكد أن أمريكا هي جزء مكمل للعالم الغربي: فلسفته، وعقيدته، ونظامه. وذلك يجعلها تقف معادية للعالم الشرقي الإسلامي بفلسفته وعقيدته المتمثلة في الدين الإسلامي. ولا تستطيع أمريكا إلا أن تقف هذا الموقف في الصف المعادي للإسلام، وإلى جانب العالم الغربي والدولة الصهيونية، لأنها إن فعلت عكس ذلك فإنها تتنكر للغتها وفلسفتها وثقافتها ومؤسساتها ".

إن روستو يحدد أن هدف الاستعمار في الشرق الأوسط هو تدمير الحضارة الإسلامية، وأن قيام إسرائيل هو جزء من هذا المخطط. وأن ذلك ليس إلا استمرارا للحرب الصليبية [4].

إن التغريب، في أحد أوجهه، ليس إلا اللباس الثقافي للتصنيع. لكن تغريب العالم الثالث ( والذي تتكون معظم دوله من الدول المسلمة ) هو أولا، عملية محو للثقافة، بمعنى أنها تدمير بلا قيد ولا شرط للبنيات الاقتصادية والاجتماعية والعقلية التقليدية، لكي لا يقوم مقامها في حينه سوى كومة كبيرة من الخردة، مصيرها إلى الصدأ ... إن هذا الذي يُعرض على سكان العالم الثالث، لكي يحل محل هويتهم الثقافية الضائعة، إنما يتضمن صنع شخصية وطنية عابثة، ذات انتماء خدّاع إلى مجتمع عالمي ( هو الغرب ) ... إن ضياع الهوية الثقافية الذي ينتج عن ذلك، أمر لا يقبل الجدل، وهذا يساهم بدوره في عدم استقرار الشخصية الوطنية سياسيا واقتصاديا. وما يتبقى بعد ذلك من الإبداع الوطني، يكمن في حالة تبعية إزاء ثقافة تبدو لها أجنبية، وإنها لكذلك [5].

سبل العلاج

? إن أولى خطوات العلاج في سبيل تأصيل هويتنا الإسلامية، هو تمسك الإدارات المحلية والبلدية بعدم إعطاء ترخيص للمحلات إلا إذا كان اسمها عربيا خالصا له معنى في اللغة العربية. ولنا في التجربة الفرنسية أسوة في هذا الموضوع. فقد تشددت فرنسا في عدم استخدام لغات أخرى غير اللغة الفرنسية في جميع المجالات، بل وصل الأمر إلى حد محاولة استخدام اللغة الفرنسية في تطبيقات الحاسب الآلي، حفاظا على الهوية الفرنسية من الضياع أو الاندماج في الثقافة الأمريكية. فيمكن استخدام الأسماء العربية في جميع ميادين الحياة. فتطلق هذه الأسماء على أسماء الشوارع والميادين والمدارس، بل وأسماء الفصول الدراسية في هذه المدارس. فبدلا من القول فصل ثالثة أول أو فصل ثالثة ثاني مثلا، يمكن أن يكون اسم الفصل خالد بن الوليد أو فصل الشجاعة أو فصل " القدس " ... الخ.

? تخلي الأسر عن الطموح الجامح، وذلك بأن تعيش في حدود إمكانياتها، والتخلي عن مظاهر الاستهلاك الترفي والمظهري والعودة إلى الدين الصحيح بالالتزام بتعاليم الإسلام فيما يتعلق بعدم الجنوح والإغراق في الديون بغير داعٍ.

? وضع خطة للمبعوثين للدراسة بالخارج في دول أوربا الغربية أو الولايات المتحدة وغيرها، بحيث يكون لكل وفد رئيس من الواعظين ممن يستطيع أن يدحر الشبهات التي تلقى في وجه شبابنا أثناء تلقيهم العلوم بالخارج. كما يجب أن يكون من بين شروط الابتعاث للخارج حفظ قدر معين من القرآن، وليكن خمسة أجزاء على الأقل. كما يفضل تنظيم دورة سريعة لمدة ستة أشهر على الأقل لجميع الأفراد الذين وقع عليهم الاختيار للسفر للدراسة بالخارج يتم فيها دراسة علوم الدين والشريعة وبلغة البلد التي سيتم السفر إليها.

? على الإعلام التوقف عن الترويج للنموذج الغربي بكل قيمه الأخلاقية. فكيف تتحول " مغنيات الهبوط "إلى قدوة لفتياتنا؟ كما أننا نرى المذيعات في بعض المحطات الفضائية بغير الاحتشام المطلوب. فعلى كل المؤسسات أن تقنن الحرية داخلها حتى نعود للاعتدال، لأنه الوسيلة الوحيدة لحياة كريمة ومحترمة.

? كما أننا نفتقد لبيوت أزياء واعية باحتياجات الشباب تستطيع أن تعادل بين احتياجات الشباب والموضة والتقاليد وتطوعها حسب ظروف العصر. فنحن في أشد الحاجة إلى مؤسسة كبرى تدرس مطالب الشباب وتصنع لهم ما يرغبون في ارتدائه وبما يتناسب مع حضارتهم وهويتهم. [6]

? الاهتمام داخل الأسرة بحماية الأخلاق. فيجب على الأب أن يعود لدوره الأصلي في قوامة جميع أفراد أسرته. ذلك أن دور الأب انحصر في الآونة الأخيرة دور " الممول " المتمثل في مجرد جلب المال للأسرة، وترك جميع مقدرات الأسرة تدار بعيدا عنه.

? معرفة أهداف أعدائنا ومخططاتهم والعمل على التصدي لها. ذلك أن معرفة أن كل ما يحدث من حولنا إنما هو بتخطيط واعٍ وتدبير مدروس من القوى الغربية والصهيونية التي لا تريد لراية الإسلام أن ترتفع أبدا، إن معرفة ذلك والوعي به يضعنا جميعا أمام الطريق الصحيح للعلاج.

21 من جمادى الآخرة عام 1425 من الهجرة ( الموافق في تقويم النصارى 7 من أغسطس عام 2004 ).

-------------------

[1] متفق عليه: صحيح البخاري، 3456، و7320، وصحيح مسلم: 2669(6).

[2] فتح الباري بشرح صحيح البخاري، الحافظ/ ابن حجر العسقلاني، المكتبة السلفية، 1407 هـ. ج: 6، ص: 574.

[3] القدوة منهاج ونماذج، د/ سعيد قابل، دار التوزيع والنشر الإسلامية، ص: 97.

[4] الإسلام والغرب، د/ عبد الودود شلبي، مكتبة الآداب، 2004. ص ص: 55 – 56.

[5] التغريب: طوفان من الغرب، لواء/ أحمد عبد الوهاب، مكتبة التراث الإسلامي، 1990. ص ص: 13 – 14. نقلا عن: تغريب العالم، سيرج لاتوش، باريس، 1989.

[6] جريدة الأهرام، عدد يوم 27/7/2004.

===============

# د.شوقي أبو خليل فارس فكر ورحّالة تاريخ

د.عبد المعطي الدالاتي

فارس من فرسان الفكر، وجوّابٌ في آفاق المعرفة ، ورحّالة في دروب التاريخ ..

إلى مدرسة الأرقم ينتمي، فهولايدين بالأستاذية لغير معلم الأرقم..

و لا يغريه من التاريخ مثلُ سيرتِه ..

ولا يعجبه من الجغرافية مثل مدينتِه ..

ولايبهره من الأخلاق غير شمائلِه..

لقد استطاع قلم د.شوقي أن يصل بتوفيق الله إلى المعادل الموضوعي لطرح أقوى الأفكار، وأعمق المعاني ، بمنطق مقنع، و أسلوب ممتع..

فإنتاجه يجمع حرارة الإيمان ، وروعة الفكر ، وجمال الأدب ، في كأسٍ واحدة لذّة للشاربين ..

وأسلوبه عذب رقراق ، ينحدر كالغدير المتسلسل متسلّلاً إلى مسارب الروح ، وأعماق الفكر ، ليزرع فيهما القناعة والرضا ..

وفي كلمة واحدة ، لقد جمع د.شوقي أبوخليل الإنتاج الجليل والإخراج الجميل ..

كان رائده في الحياة محبة الله والرسول ، هذه المحبة التي تزداد مع الزمن نقاوة ونضارة وعمقا ..

وكانت قبلته التي يتجه إليها في البحث العلمي هي الحقيقة ، والموضوعية والعدل ..

ومن هنا حالفه التوفيق في إقناع الطلاب والقراء على السواء..

انظر إليه وهو على منصة الأستاذية يلقي محاضراته في" السيرة النبوية"، يحفّ به طلابه وحواريوه، وقد تلاقت عنده نظراتهم، وحامت حواليه أرواحهم الصغيرة ، لتجد في روحه الكبيرة أجوبة لتساؤلات كثيرة .

لم يكن الطلاب يستمعون إلى محاضرة ، وإنما كانوا يحلقون بوجدانهم وعقولهم في فضاءات السيرة المطهرة.

مكتبة د.شوقي أبو خليل:

أرأيت قوس السماء يزين بألوانه الوفيرة الفضاء!

ذلك مثله ، ومثل مكتبته العامرة التي رفد بها المكتبة العربية الإسلامية ..فمن التاريخ ورجاله وأحداثه وأطالسه ؛ إلى الأديان وخصائصها وحواراتها ، إلى الحضارة الإسلامية وعالميتها ، إلى الفكر الإسلامي وآفاقه وتجلياته ، إلى المرأة المسلمة ودورها ،إلى الأطفال وعالمهم الرحيب .

وفي كتابه الجامع " الحضارة العربية الإسلامية " تجلت ثقافة الدكتور شوقي الواسعة ، وإضاءاته الكاشفة للمعمار الكبير الجميل لحضارتنا العربية الإسلامية العريقة .

إنه كتاب فريد في بابه،أضعه باطمئنان إلى جانب كتاب " شمس الله تسطع على الغرب " للباحثة الألمانية زيغريد هونكه.

" الحوار دائما وحوار مع مستشرق":

في هذا الكتاب يتربع أسلوب د.شوقي على عرشه ، وفيه يتجلى دماثة الخلق ، وبراعة الفكر ، وعمق الوعي، فيه ترى المؤلف الواثق بما يمتلك من أفكار ، فهو لا يخاف من الحق إذا كان مع الآخر ، لأن الحق مطلبه .

لقد كان هذا الكتاب مِفصلا لكلماته التي صمم أن يقولها للأجيال، وقد تألق في تفعيل النقد الذاتي الداخلي، ليكشف عوار الأفكار المهترئة ، والبدع والخرافات والضلالات التي طالما رفعنا عليها لافتة القداسة .

كما تألق في حواره مع الآخر الغربي، تاركاً في جعبة وجدانه أسئلة كبيرة تنتظر الجواب ، ومهما تأخر الجواب فالدكتور شوقي ليس على عجلة من أمره ويمكنه الانتظار!

" الإسلام نهر يبحث عن مجرى":

عنوان معبر جميل ،لكتاب صغير كبير.. يستهله د.شوقي أبوخليل بقلم المؤرخ والمفكر والأديب ، فيرسم هذا المنظور العلوي لتاريخ الحضارة الإسلامية :

" رأيت الإسلام نهرا منبعه ( حراء) ، ومعينه (اقرأ)، ومنهله رحمة للإنسانية ، وقطراته ومياهه لأولي الألباب الذين يتفكرون ويعقلون، ومجراه شعب اختاره الله لحمل الإسلام للناس كافة ..

نبع منطلقه(حراء) ، انسابت فروعه وسواقيه إلى الصين وإفريقية وأوربةأيام الفتوح في العصر الأموي ، فأينعت غراس ضفتيه الخصيبت ين الخيرتين ثمار نهضة علمية، وحضارة إنسانية..

علمني التاريخ ان المعين غزير متدفق، فالإسلام نهر خالد لن يجف مجراه..

ونظرت إلى واقع الم دنية الغرب اليوم ، فرأيتها مجرى جف ماؤه، يبحث عن مياه نهر صاف يرفده ، ورأيت في الوقت ذاته الإسلام نهر يبحث عن مجرى..".

الإثراءات التي أضافها إلى الفكر الإسلامي:

1- ابتكار فكرة الأطلس القرآني ، وأطلس السيرة النبوية والحديث الشريف ، وإثراء أطلس التاريخ العربي الإسلامي.

2- الدفاع عن الحضارة العربية الإسلامية مع الكشف عن خصائصها ومنطلقاتها ، وآثارها في الحياة والتاريخ الإنساني.

3- التجديد الفكري ، ومحاربة التعصب الأعمى للأشخاص ..

4- تصحيح المفاهيم المغلوطة، ومحاربة الخرافات والأفكار المنحرفة الخطيرة، كالاتحاد والحلول ووحدة الوجود.

5- الوزن بميزان الاعتدال للشخصيات المثيرة في التاريخ ،سواء الهدّامة كجرجي زيدان، أو إنصاف الشخصيات التي حيف عليها في تاريخنا العريق مثل القائد العباسي هارون الرشيد."سلسلة في الميزان".

6- الانتقال في معترك الأفكار من مرحلة الدفاع والتبرير إلى الهجوم الواثق المطمئن،وإلى كشف عوار الآخر.

وهاهو يتساءل :" أما آن لنا – نحن المسلمين- أن نترك موقف الدفاع الذي نقفه لرد شبهات الاستشراق وافتراءاته، ونقف موقف الطارح في ساح البحث عيوبهم ومخازيهم؟!".

7- ويبقى الميدان الأثير لرحالة التاريخ هو التاريخ الإسلامي ، حيث هاجر في آفاقه وفي دروبه ،وعاش في ظلاله فقدم لناقراءة جديدة للتاريخ الإسلامي عامة، وللسيرة النبوية خاصة باعتبارها الفترة المعصومة من تاريخنا، وأعظم هجرة له كانت مع الهجرة..

================

#منهج المحدِّثين بين نظرية المنهج وتاريخ العلوم

رضا أحمد صمدي

بسم الله الرحمن الرحيم

يقول الأستاذ محمود شاكر: " إن الغموض إذا أحاط بلفظ "المنهج" أدي إلى خلط كثير في فهم الآداب وفي تفسيرها وفي شرحها ثم في تصوير أحداث العصر وأفكاره ورجالاته وأحواله بوجه عام".1

إن قضية المنهج من أكثر القضايا خصوبة في العصر الحديث، وقد شُيِّد تحت اسمها مدارس ونَعَى على أنقاضها ناعون، وما زالت تحظى قضية المنهج بزَخَمٍ وجدل واسع الأرجاء وفي مختلف العلوم حتى إنها شغلت معاهد علمية عريقة، واستنفذت الكثير من مجهودات الباحثين.

وبينما كانت تتفاعل هذه القضية في أولى حركاتها البدائية في العصر الهلليني – اليوناني - حينما وجدت عند اليونان معالم واضحة لما يسميه الناس اليوم بالمنهج العلمي، كان النتاج الحضاري لحضارات الأنهار القديمة في مصر وبابل والصين والهند وسوريا يحظى بزخمه أيضا لكنها اتهمت -أي تلك الحضارات- بأنها أفرزت نتاجا على غير منهج علمي.

وعندما انتقلت الحضارة الإنسانية نَقْلَتَها الواسعة على أيدي المسلمين كانت قضية المنهج تحتل مكانتها العادية في العقل المسلم، ولم تشتغل الحضارة الإسلامية بإثارة جدال - غير ذي نفع - على قضية المنهج، ربما لأنها كانت حضارة عملية إذا جاز التعبير، فكانت لدى كل العلوم الإسلامية – أعني التي نشأت ونمت في حُجر الحضارة الإسلامية – مناهج واضحة المعالم، لكن لم يُجْلِب أحد من أساطين العلم في ذلك الحين، أو يحدث ضجيجا لأنه وصل إلى منهج أو طريقة بحث، بل كانت الأمور تمضي بشكل عادي، دون صخب أو طنين.2

حتى إذا ما بدأت أوربا نهضتها وشقت طريقها نحو العلم والتحضر، التفتت إلى أهمية رسم طريق واضحة لتحصيل المعرفة، فارتسمت لنهضتها فكرا يقوم على "معيارية المنهج"، أي جعل المنهج العلمي معيارا لقيمة البحث العلمي حتى أضحت هذه المعيارية روحا تسري في كل أوصال النهضة الأوروبية، وصوتا عاليا لم يَعْلُ عليه أي صوت آخر.

ومنذ أن فجر "ديكارت" قنبلة مقالته في المنهج، وارتسم "بيكون" منهجه التجريبي، تسارع خَطْوُ التقدم، وتسابق سَعْيُ التَّمَدُّن فما دخلت أوروبا قرنها الثامن عشر إلا والمنهج العلمي هو دستور كل معهد أو مدرسة تتبنى البحث العلمي.

وليس بِجَافٍ أثرُ هذه المنهجية في مستوى البحث العلمي لدى الغربيين، فالمنهجية أسبغت سربالا بَهِيَّا على أبحاث الغربيين بحيث صارت تختال بين أمم الشرق بحللها التي لم يعهدها الشرقيون بادي الرأي.

وتحت وطأة الانبهار وضغط الرغبة في التقليد وبتأثير قانون اتباع المغلوب للغالب اجْتَرَّتْ المعاهد العلمية في الشرق تلك المناهج العلمية في الغرب وصارت تتباهى بتلك المنهجية المستوردة باعتبارها آخر صيحة من صيحات الحضارة والمدنية.

وقد كان مما تم التباهي به من مناهج الأوروبيين: منهجهم في النقد التاريخي، حيث وَجَدَ صَدَىً واسعاً بين الباحثين المسلمين واحتل مكانة مقدسة في أبحاثهم وأطروحاتهم.

وعندما أصدر "لانجلوا" و"سينيوبوس " كتابهما في النقد التاريخي، غدا منهجهما -الذي أودعاه فيه- ترنيمةَ الباحثين في الجامعات العربية، وكان ذلك حتى أوائل الثلث الأول من القرن العشرين.

ولكن أول صوت علا لينبه إلى سبق المسلمين إلى هذا المنهج كان من الأستاذ "أسد رستم " - وهو باحث نصراني - حيث ألف كتابه "مصطلح التأريخ" الذي ارتسم فيه قواعد المنهج الأوروبي في النقد، لكنه نبه في بعض فصوله إلى جهود أبي "عمرو بن الصلاح " في وضع قواعد للنقد التاريخي عبر مجهوداته في عرض منهج النقد عند المحدثين من خلال كتابه: "علوم الحديث".

وتنبه الأستاذ "حسن عثمان " – وهو من دعاة المنهج الأوروبي في النقد التاريخي – إلى فائدة المصطلحات المحدثين ونوه بها بين ثنايا كتابه : "النقد التاريخي" الذي يمكن اعتباره عرضا جديدا لكتاب "لانجلوا وسينيوبوس" .

وفي أوائل السبعين من القرن العشرين أجرى الأستاذ "عثمان موافي " بحثا أكثر استقصاء في الموازنة بين المنهج الأوروبي والمنهج الإسلامي، لكن فصوله كانت قلقة حائرة، فخلط بين منهج المحدثين في نقد السند ومنهج المعتزلة في النقد العقلي للمتن ليُلَفِّقَ ما سماه بالمنهج الإسلامي الذي جمع - في زعمه - بين نقد السند ونقد المتن ليظهره منهجا مشابها وسابقا للمنهج الأوروبي.

وفي تلك الغضون ظهر بحث للأستاذ "نور الدين عتر "يعرض فيه منهج المحدثين في النقد بدون موازنة مع المنهج الأوروبي، لكن بُغْيَتَه - كما صرح هو – هو إظهار علوم الحديث في صورةِ نظريةٍ نقدية متكاملة، لكنه في الواقع لم يصنع شيئا غير إعادة تبويب مصطلح الحديث ثم سماه "منهج النقد في علوم الحديث".

ومن بعده جاء الأستاذ "محمد الأعظمي " وعرض "منهج النقد عند المحدثين" من خلال تحقيق جزء من كتاب "التمييز "للإمام "مسلم بن الحجاج النيسابوري".

وقد أتى بسبْق حقيقي في إثبات أن ما نزعم أنه منهج النقد من خلال كتب المصطلح إن هو إلا نتيجة منهج النقد عند المحدثين، وليس هو منهج النقد نفسه، فدراسة الإسناد تبدأ بالبحث في أحوال الرجال وما قيل فيهم، وهذه البداية التي يبدأ بها الباحث الآن كانت نهاية بحث المتقدمين، فكون الرجل ضعيفا ليس هو ما بدأ به المحدثون القدامى، بل كانت نتيجة منهج في نقد هذا الرجل.

ويرى الأستاذ الأعظمي أن منهج النقد عند المحدثين يقوم أساسا على المعارضة بين مرويات الراوي ومرويات الثقاة، وقد تعرّض في كتابه: " منهج النقد عند المحدثين" إلى هذه القضية وإلى قضية النقد العقلي فأثبتها - مترددا - ووازن بين منهج المحدثين والمنهج الأوروبي في النقد التاريخي وتناول بعض الجهود الاستشراق في نقد الحديث وبَيَّن قيمتها العلمية من خلال دراسة منهجية متعمقة ، لكن عرضه لم يكن مستقصيا لأمرين :

الأول: تفاصيل أسلوب المحدثين في المنهج النقدي.

الثاني: منهج المحدثين في توثيق الرواية منذ نشأتها.

فخلا البحث في عمق التاريخ الزماني للمنهج ومن عمق تفاصيله الدقيقة، لكنه يعد - بحق - أول محاولة جادة لعرض المنهج العلمي للنقد عند المحدثين من خلال جانب تطبيقي وهو علم العلل.

ولاحظتُ أن من تكلم في منهج النقد عند المحدثين لم يعرض فلسفة المنهج - إن جاز التعبير - ومقوماته وروحه، بحيث إن من أراد مدارسة منهج النقد عند المحدثين قد لا يفهم العلل الأولى لخطواته ومراحله.

كما أن هناك مُفارَقة سجَّلها أحد الباحثين في قضية المناهج وهي مفارقة " فصل المقال في المنهج عن المقال في العلم" ، وهي مفارقة يقوم عليها - أردنا أم لم نرد - كلُّ مُؤَلَّفٍ يحمل عنوان: "مناهج البحث العلمي".3

والملاحظ الذي يجب أن نسجله هنا أيضا أن جهود الباحثين لم تنصب في عرض منهج النقد عند المحدثين على صورة نظريات علمية حديثة بحيث تتقبلها الأوساط العلمية التي جهلت اصطلاح المتقدمين فأنكرت علومهم ومناهجهم، والإنسان عَدُوُّ ما يجهله كما يقولون.

وقد تطور منهج النقد عند المحدثين عبر آلاف المؤلفات في الاصطلاح والجرح والتعديل والعلل، مع آلاف من المصنفات في التطبيقات ككتب الرواية والتخريج ونحوها، بيد أن هذا التطور ظل حبيس المصطلح القديم وبالتالي حبيس المعاهد التي ما فتئت تحافظ على تقاليد المصطلح القديم كأنها نصوص مقدسة لا يجوز تجاوزها.

فما الذي يحول دون إعادة عرض منهج المحدثين في النقد مع تلافي أوجه القصور السالفة التي تعرضنا لها؟! قد تكون محاولة جديدة ليس غير، تسْري عليها كل مُسَوِّغات النقد والذم والعيب، لكنها ستظل محاولة جديرة بالإقدام حرية أن يجترأ على امتحانها.

علم الحديث وعلم التاريخ

إن التاريخ كعلم مستقل لم يحظ بالاعتراف التام إلا في الأزمنة الحديثة جدا كما يقول روزنتال، واعتبر أن تصنيف العلوم عند الإغريق والمسلمين وعند الأوروبيين في العصور الوسطى يشترك في اتجاه واحد هو: عدم استقلالية علم التاريخ.

ويرى أيضا أن عدم استقلالية علم التاريخ عند العرب منشؤه اعتمادهم على تصنيف العلوم في العصر الهلليني والذي لم يحط للتاريخ مكانا خاصا، فسرت هذه النظرة إلى العرب من هذا الاقتباس.

لكن أدنى تأمل لمنهج تصنيف العلوم عند الحضارتين اليونانية والإسلامية سيعطينا نتيجة حاسمة: أن التأثر لم يحدث.

إن الحضارة اليونانية تصنف التاريخ في زمرة المعارف الإنسانية، وهو يندرج – بحكم تصنيف الكثير من فلاسفتهم – تحت إطار الفلسفة العام الذي استوعب كل العلوم في تلك العصور.4

أما في الحضارة الإسلامية فإن التاريخ علم نشأ في محيط حملة الشرع من المحدثين والفقهاء الذين كانوا في عداء صارم مع الزحف الفلسفي اليوناني على المحيط الإسلامي.

لقد استعرض روزنتال تاريخ تصنيف العلوم منذ الكندي ومرورا بابن سينا وابن عبد البر وابن بدرون وابن الأكفاني والذهبي ورسائل إخوان الصفا وانتهاء بابن خلدون، واستنتج أن كل هؤلاء بما فيهم ابن خلدون لم يشيروا إلى استقلال علم التاريخ لأن كتبهم لم تدخل صنعة التاريخ من ضمن المنتجات العقلية المستقلة.5

لكنه يرصد كتابا للآملي، ويشيد بكتاب الكافيجي والسخاوي باعتبار عصرهم هو بداية ظهور التاريخ كعلم مستقل.

والغريب أن روزنتال على تبحره في التراث العربي وتعمقه في تحليل النصوص يرصد هذا النمو المفاجئ وغير المنتظر على - حد تعبيره -لعلم التاريخ اعتمادا على أن الآملي أطلق على التاريخ: "علم التواريخ والسير" ، وأن السخاوي سمى كتابه: "الإعلان بالتوبيخ لمن ذمه التاريخ"، وأن الكافيجي صنف كتابا سماه: "المختصر في علم التاريخ".

والصحيح الثابت أن علم التاريخ باعتباراته الفنية وأبعاده المعرفية الحديثة لم يكن موجودا ، لكن باعتباره العام الذي اعتبره المسلمون أنفسهم أو يعتبره مطلق مصطلح التاريخ فقد وجد مبكرا جدا لكنه لم يَتَسَمَّ نصا بعلم التاريخ، بل كان منضويا في علم الحديث. وكان المؤرخون في الحقيقة هم علماء الحديث.

يقول مرغليوث:" تفرعت دراسة التاريخ … من دراسة الحديث … ثم صار التاريخ فرعا متميزا تدريجيا وصار الإخباري غير المحدث" .6 وهذا التميز الذي ادعاه مرغليوث لا يختلف عما توهمه روزنتال، والثابت أن علم التاريخ لم يجد ملاذا تحته إلا ملاذ المحدثين ومنهجهم.

فالكافيجي والسخاوي -الذي ترجم وحقق كتابهما روزنتال7 يقرران بوضوح أن صفات المؤرخ التي يجب أن تتوافر فيه هي نفس صفات المحدث.8

يقول السخاوي: " شروط المؤرخ. وأما شرط المعتبر به -أي بالتاريخ- فالعدالة مع الضبط التام الناشئ عن مزيد الإتقان والتحري، سيما فيما يراه في كلام كثير من جهلة المعتنين بسير الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، وقد قال الخطيب في جامعه: ويجمعون " أي أهل الحديث أيضا ما روي عن سلف المسلمين من أخبار الأمم المتقدمين وأقاصيص الأنباء وسيرهم" والذي نستحبه ألا يتعرض لجمع شيء من ذلك إلا بعد الفراغ من أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم.9

وهذا النص الجلي من كلام الخطيب البغدادي "الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع" وهو من علماء القرن الخامس الهجري، والسخاوي وهو من علماء القرن التاسع الهجري، دليل على أن علم التاريخ وعلم الحديث كانا شأنا واحدا يتناوله المحدث.

لقد كان التاريخ شأنا "حديثيا "محضا لا يقوم به إلا مشاهير المحدثين، وبمطالعة عابرة – غير متكلفة ولا استثنائية – لقائمة أعلام المؤرخين التي استعرضها المستشرقون أمثال مرغليوث في "دراساته عن المؤرخين العرب" وروزنتال في "علم التاريخ عند المسلمين" ثم الباحثون المسلمون أمثال حسين نصار10 ومحمد عبد الغني حسن11 وشاكر مصطفى12 سنجد أن معظمهم – أي المؤرخين - إن لم يكن كلهم محدثون جهابذة ، بل إن العلامات المضيئة في تاريخ المؤرخين المسلمين لم تكن سوى نماذج واضحة لأئمة الحديث في تلك العصور مثل محمد بن إسحاق والطبري والخطيب البغدادي وابن عساكر وابن الجوزي والذهبي وابن حجر والسخاوي.

ويقول السخاوي في الإعلان – أيضا - : "وكان مما قلته في مقدمة "التبر": علم التاريخ من فنون الحديث النبوي وزين تقربه العيون… إلى أن قال: وبهذا صرح غير واحد من علماء المذاهب أولي الأمانات بأنه من فروض الكفايات " 13.

ويقول أيضا: " فائدتان: الأولى: قال العز بن جماعة: ومما يشكل ويحتاج إليه معرفة التفرقة بين علم التاريخ وعلم الطبقات ومعرفة الافتراق بين موضوعهما وغايتهما، قال: والحق عندي انهما بحسب الذات يرجعان إلى شيء واحد وبحسب الاعتبار يتحقق ما بينهما للتغاير، قلت - أي السخاوي-: بينهما عموم وخصوص وجهي، فيجتمعان في التعريف بالرواة وينفرد التاريخ بالحوادث والطبقات".14

واضح من هذا الكلام التسليم بأن علم الطبقات من التاريخ، ومعلوم أن علم الطبقات من فنون الحديث بإجماع.

وفي المقابل نرى بعض الباحثين لا يعترف بكيان لعلم التاريخ أصلا عند المسلمين، ويقرر " أن التاريخ فاعلية تنتج معرفة توظف في أطر شتى من حديث وفقه وتفسير وتصوف ووعظ، ولكنها معرفة تنتج من أصول ليست خاصة بهذه الفاعلية فأصول التاريخ ليست من التاريخ بل هي من خارجه فهي من مفهوم الخبر".15

ويبدوا أن مثل أولئك الباحثين يظنون التاريخ عند المسلمين مجرد قصص من أمثال ما في "ألف ليلة وليلة" أو "الأغاني" أو ما احتطبه الرواة بليل في ثنايا كتب التاريخ، وأن العلوم الأخرى ما كانت تصنع شيئا إلى انتقاء ما طاب لها من أخبار تناسبها، كما يبدو أيضا أن أولئك الباحثين يصدرون في الحقيقة من منطلقات معرفية وحضارية معاصرة ولا أقول حديثة يحاكمون بها مناهج علمية نشأت ونمت منذ أكثر من ألف عام.

ومثل أولئك الباحثين حينما يتغنون بأمجاد العلوم الإنسانية وعبقريتها فإنهم يغضون الطرف عن فضائح القوم التي وقع فيها أساطينهم مثل "هيرقليطس "الذي كان يعتقد أن غروب الشمس هو انطفاؤها في الماء وأنها تتجدد كل يوم16 أو كاعتقاد "أرسطو "المعلم الأول أن أسنان المرأة أقل من الرجل17 وكان يُعتذر دوما بأن هذا لا يقدح في مجموع مناهجهم وأنه يجب أن يُنظر إليه في ضوء إمكانياتهم وما يناسب عصورهم.18 وفي المقابل فإن هؤلاء عند تناول الحضارة الإسلامية يُعمِلون مِبْضَع الجراح الحاد،ّ ويضعون كل جزئية تحت مجهر ثم يفسرون من منطلقات حضارية مغايرة متهمين المسلمين بما شاءوا من أوصاف.19

والثابت أن تصنيف العلوم عند العرب والمسلمين الأوائل من واضعي العلوم ومؤصليها لم يأخذ حيزا كبيرا من اهتماماتهم شأنهم في ذلك شأن اليونان أنفسهم في بداية نشأت الفلسفة بل عند أفلاطون وأرسطو وهما أول من فصل الكلام في تصنيف العلوم ،كان التصنيف عندهم يناسب عصورهم فلا غزو أن يعتبروا الفلسفة بوتقة العلوم كلها، وأن يسوغوا للفيزيقي أن يتداخل مع الميتافيزيقي مع أن علماء المناهج يعتبرون ذلك مرحلة بدائية من مراحل تطور العلوم.20

وكان حال العرب والمسلمون أحسن بكثير في هذا المضمار ، إذ كان للعلوم الشرعية التي نشأت في الصدر الأول دور كبير في عملية التصنيف التي جرت تلقائيا لتسارع التراكم المعرفي والتطور العلمي الذي شهدته الحضارة الإسلامية في كل فروع المعارف والعلوم.

ولقد كان المحدثون موضوعيون لحد بعيد حينما اعتبروا التاريخ علمهم هم وحيزهم الذي لا يجوز لأحد أن ينازعهم فيه لأنهم هم الذين وضعوا مناهج البحث فيه بل هم الذين أرخوا وجمعوا مادة التاريخ لغيرهم.

ولقد أشار مرغليوث في دراساته عن المؤرخين العرب21 إلى أن علم التاريخ اصطلح على تسميته خبرا ، وأن المؤرخ وهو الإخباري22 صار شيئا غير المحدث ويضيف استنتاجا من عنده أن الإخباري كان أقل رتبة من المحدث.

كما يعالج روزنتال مصطلح الخبر ويؤرخ لتداوله قائلا: " تقديم لنا سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم عناصر لأقدم وثائق الخبر الثابتة المقررة ".23

لكننا نأخذ الخيط من روزنتال ونشير إلى أن مصطلح الخبر مصطلح حديثي محض24،والتفريق بين الخبر والأثر والحديث بحث اصطلحي متداول في علم الحديث، وهذا يرغم كل من أراد أن يعتبر مصطلح "الخبر" أول صورة ساذجة للتاريخ أن يعتبر علم الحديث هو المهد الذي ترعرع فيه علم التاريخ.

كما أن نزول مرتبة الإخباري عن المحدث أو تميزه عنه ليس منشؤه تصنيفه العلوم ولكن سببه أن الإخباري كان قليل كان قليل الاعتداد بالإسناد في رواية الأخبار، ولم تنصرف همته لجمع حديث الرسول صلى الله عليه وسلم بقدر جمع أخبار الأمم فحصل التمييز لهذا الاختلاف في المنهج وهو تمييز وجيه25.

وفي الحقيقة فإن أي باحث لا يستطيع أن يفر من هذه الحقيقة، وهي أن علم التاريخ صنيعة علم الحديث، وروزنتال بعد تطواف يقرر أن علم التاريخ، ولكن هذه المقاييس أغفلت كثيرا في بحوث التاريخية الحديثة26.

لم يكن التاريخ في الحقيقة إلا ميدانا من ميادين علم الحديث، ولم يكن منهج النقد فيه إلا منهج نقد المحدثين نفسه، ولم يكن مشاهير المؤرخين غالبا إلا رواة الحديث ونقاده.

إنها الحقيقة التي آن الأوان للاعتراف بها وإن سخط الساخطون ومارى المتمارون، فليس من المعقول أن تكون مادة التاريخ الإسلامي مأخوذة من التواريخ التي جمعها المحدثون ثم نتحدث عنهم بصفة المؤرخين ، موهمين من لا تمييز له أن هناك طائفة أخرى كبيرة غير المحدثين هي التي جعلت لنا تاريخنا، وليس من المعقول أن نقول عن الخطيب البغدادي وابن عساكر وابن الجوزي والذهبي وابن كثير وابن حجر إنهم مجرد مؤرخين، بينما الحقيقة التاريخية تنطق بوضوح أنهم علامات مضيئة في علم الحديث بل من بناة منهج النقد عند المحدثين. كما أنه ليس من المعقول أن نصطنع مناهج للنقد التاريخي من غير منهج المحدثين، في الوقت الذي لا يوجد في التاريخ الإسلامي منهج للنقد إلا منهج المحدثين، وبات واضحا- إذا كان الأمر كذلك- أن منهج النقد التاريخي الذي يصلح أن نباهي به العالمين بل ونزري به المنهج الأوروبي في نقد التاريخ هو منهج النقد عند المحدثين.

================

# فن الاتصال والحضارة الإسلامية

د/علاء إسماعيل الحمزاوي

فن الاتصال

تقاس أعمار الأمم، وتعرف حضاراتها بما أنجزته من إبداعات ومبتكرات وبما فيها من علماء ومبدعين في مختلف العلوم وألوان المعرفة، وكل ما تنتجه الأمة إنما ينتقل من عصر إلى عصر ومن جيل إلى جيل عبر الاتصال، بل إن الاتصال كان وسيلة الرسل والأنبياء في تبليغ دعواتهم إلى الأمم.

ومن هنا تأتي أهمية الاتصال، وهو نوعان: شفهي عن طريق الإلقاء ومكتوب (تحريري)، وكلاهما مهم نال شرفا إلهيا، فعن الأول قال تعالى: (وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه ليبين لهم) وقال: (وما على الرسول إلا البلاغ)، وعن الثاني قال تعالى: (اقرأ وربك الأكرم الذي علم بالقلم علم الإنسان ما لم يعلم)، حيث أضاف تعليم الكتابة إلى نفسه، وامتنّ به على عباده، وفي ذلك شرف لهم.

والاتصال يتطلب من صاحبه (كاتب أو متحدث) أن يكون على درجة عالية بالمهارات اللغوية والأسلوبية وقواعد اللغة العربية؛ ولذا عُرّف التحرير بأنه فن الكتابة الصحيحة التي تعبر بصورة مباشرة عن المعنى المراد.

والمعرفة باللغة الأم والاعتزاز بها واجب ديني وقومي، لأنه مظهر من مظاهر الانتماء للوطن، لاسيما إذا كانت اللغة وسيلة للعبادة، فهي لغة القرآن وباقية ببقائه، ولقد رأينا مدى اعتزاز الغرب بلغاتهم (المجتمع الفرنسي والمجتمع الألماني).

والمعرفة باللغة تسهم في وضوح المعنى المراد من فكر الكاتب أو المتحدث، وتلك المعرفة تتطلب من الكاتب والمتحدث سعة اطلاع بقواعد اللغة وقواعد الكتابة وتنمية ثروته اللفظية من خلال تنمية معجمه الخاص، فكل إنسان له معجمان: معجم عام، وهو يضم كل ما يسمعه ويقرؤه الفرد منذ إدراكه الكلمات، ومعجم خاص، وهو ما يستخدمه فعلا في التعبير عما يريد، وهو أقل من نصف المعجم العام، ولتنمية هذا المعجم لابد من الاطلاع والقراءة في مختلف مناحي المعرفة، وبخاصة في المعاجم القديمة.

وإذا كان المعجم الخاص كبيرا فإن صاحبه يستطيع أن يفرق بين الكلمات التي بينها فروق دقيقة، وربما تحمل معنى عاما واحدا، ولنأخذ مثالا على ذلك الكلمات التي تدل على الجمال: (الصباحة، الوضاءة، الجمال، الحلاوة، الملاحة، الظَرف، الرشاقة)، نقول: (وجه صبيح، بشرة وضّاءة، وأنف جميل، وعين حلوة، وقَدّ رشيق).

بفضل تنمية الثروة اللفظية يستطيع الكاتب أو (الخطيب أو المحاضر) أن يفرق بين الكلمتين اللتين يقع فيهما الاشتباه، ونعرض هنا جملة من الكلمات من هذا النوع، نقول: تسلم الخطاب أي أخذه، لا (استلم الخطاب)؛ لأن (استلم) بمعنى (لمس)، وجاء زيد وعمرو معا، لا (جاءا سوياً)، وحلّ زيد بمنزلنا ضيفا، لا (حلّ في منزلنا)، ونقول: أثبت محمد كِفاية في العمل أي تفوقا، لا (أثبت كفاءة)؛ لأن الكفاءة هي المساواة؛ ولذا فهي شرط فقهي في الزواج، واشترى زيد ظَرْفا كبيرا لا (مظروفا)، واستوقف الطالب أستاذه فاستأذنه لا (استأذن منه)، وأثّر زيد في عمرو لا (أثر عليه)، وهذه شريعة سمحة لا (سمحاء)؛ لأنه لا يوجد منها (أسمح)، وهذا التمر مبيع لا (مباع) والأصل (مبيوع)، وبلغت المشتريات مبلغا كبيرا لا (المشتروات)؛ لأن الفعل (يشتري)، ويباح الفطر للمرضع لا (المرضعة)، وقاسى المريض ألما لا قاسى من ألم).

بفضل إثراء المعجم الخاص يستطيع الكاتب أن يكتب كتابة إملائية صحيحة، فيفرق بين الضاد والظاء في الكلمات، لاسيما أن الدلالات مختلفة، فمثلا: المرض: الداء، والمرظ: الجوع، المضرة ضد المنفعة، والمظرة: الأرض المتحجرة. وكذلك يفرق بين التاء المفتوحة والمربوطة وهاء الضمير، (دخلت الطالبة قسم الحاسب؛ لتدرس علومه).

بالإضافة إلى إثراء المعجم الخاص للكاتب أو الخطيب ينبغي عليه أن يلمّ بقواعد اللغة العربية التي تعينه على استقامة لغته حديثا وكتابة، فيعرف ـ على الأدنى ـ قواعد المبتدأ والخبر والفاعل والمفعول والجمع والمثنى والأسماء الستة، فلا يقول: انتصر المسلمين على المشركين في بدر وكان المشركين أكثر من المسلمون، وهكذا. بالإضافة إلى أهمية فهم معنى الجملة، فإن الفصل بين القواعد والمعنى يوقع في خطأ شديد، وقد حدث بالفعل أن طالبا سئل في الاختبار: هات اسما من الأسماء الستة مرفوعا، فأجاب: (سافر هنوك إلى الرياض)!!

ولابد أن يلم الكاتب بعلامات الترقيم ودلالاتها، فلكل علامة دلالتها التي تميزها عن غيرها. (تُعرض أمثلة لذلك تضم علامات الاستفهام والتعجب والفاصلة المنقوطة).

ومن تتمة المعرفة بالقواعد معرفة الأساليب الصحيحة في اللغة، فمن الخطأ تكرار كلمتي (بين وكلما) في الجملة، فلا نقول: لابد من السلام بين العرب وبين إسرائيل، ولا نقول: كلما صليت كلما أحسست بالراحة. كذلك من الخطأ استعمال (إلا أن) مع (على الرغم من، أو مع أن)، فلا نقول: مع أن الأمر واضح إلا أنه يخفى على الكثير، والصواب (فإنه)، وكذلك لا نقول: اصطف الطلاب وراء بعض، والصواب (بعضهم وراء بعض)، ولا نقول: الاتفاق سيكون لاغيا إذا لم يتم الانسحاب، والصواب (مُلغَى)، ولا نقول: الحضارة الإسلامية كان لها ضوء مبهر، والصواب (باهر)، ولا نقول: موقف أمريكا من إسرائيل ملفت للنظر، والصواب (لافت)، ولا نقول: الزعيمان العربيان دعيا إلى عقد مؤتمر للسلام، والصواب (دعوا).

من المهم أيضا للكاتب والخطيب أن يحرص على أن يكون كلامه مقنعا وممتعا، وذلك باستخدام الأساليب البلاغية (التصوير والخيال) والتنوع بين الخبر والإنشاء وبين الجملة الفعلية والجملة الاسمية، ومن خلال التأييد لرأيه بالاقتباس من نصوص أخرى تعضد رأيه. ولا ينبغي أن يقتبس نصا إلا إذا اقتضت الضرورة؛ حتى لا يكون حشوا. وكذلك عليه أن يتجنب تكرار الجمل والكلام المعروف سلفا، وألا يطيل في المقدمة، وقد تسيء للموضوع إذا كانت محفوظة وخارج الموضوع.

ومن ألوان الكتابة المهمة:

ـ التقرير: يكتبه شخص ليبدي رأيه في شخص ما أو عمل ما، وهو يقوم به مسئول في جهة حكومية عن موظف ما أو مشروع ما؛ ولذا يجب أن يكتب بموضوعية ولا دخل للعواطف فيه بعد جمع الحقائق والمعلومات التي تمس الشخص أو العمل.

ـ الرسالة: وهي قد تكون شخصية من شخص لآخر، وهي من أنواع الكتابة العاطفية أو الأدبية، وتسمى (رسالة شخصية)، وقد تكون من شخص لجهة حكومية (معروض) أو العكس أو من جهة لجهة أخرى، وتسمى بالرسالة الإدارية، وهي من الكتابة الموضوعية، وتبدأ بالبسملة واسم المرسل إليه (صفته الإدارية) ثم التحية ثم الموضوع ثم التحية ثم اسم المرسل والتاريخ والتوقيع.

ـ المقال: وهو عبارة عن فكرة ما يتناولها صاحبها بعرض لافت للنظر جذاب للقراء من خلال أسلوبه المتميز. وأنواعه (ديني اجتماعي أدبي سياسي وغير ذلك).

حضارة ذات آفاق

لعل المقصد من العنوان هو الحديث عن الحضارة الإسلامية التي سادت العالم شرقا وغربا في فترة العصور الإسلامية الزاهية بفضل الكتاب الذي أرسي منهجا قويما مستقيما يتفق والقيم الإنسانية السامية والعقل الإنساني الراشد. وأود قبل الخوض في هذا الحديث أن أعرض لمفهوم الحضارة والمفاهيم المتقاربة التي توشك أن تكون مترادفة وهي المدنية والثقافة.

مفهوم الحضارة :

لم يتفق المتخصصون علي تعريف ما للحضارة أو الثقافة أو المدنية، بل وضع أصحاب كل علم مفهوما يتفق مع منهجهم ، فمنهم من رأي أن الحضارة أعم من الثقافة والمدنية، ومنهم من جعل الثقافة أعم من الحضارة والمدنية، وهذا الاختلاف لا يعنينا بقدر ما يعنينا مفهوم الحضارة كمدخل للحضارة الإسلامية.

الحضارة من الحضر بمعني الوجود ضد الغيبة ، والوجود هنا هو الوجود الذي يقتضي الاستقرار ؛ لذلك فالحضارة هي صفة للمجتمع المستقر في مكان ما، يتمتع برقي ما في الجانب المادي والمعنوي. ويعرف ابن خلدون الحضارة بأنها "نمط من الحياة المستقرة يقتضي للعيش فنونا من العلم والعمل والصناعة وإدارة شئون الحياة وأسباب الرفاهية ، وهي تعبر عن قمة التقدم الإنساني، وقد تصل الحضارة بعد تقدم مذهل إلي حالة من الترف يعقبه فساد، فتنزلق رويدا رويدا حتى تصل إلي السفح ؛ فهي غاية العمران ونهاية عمره ومؤذنة بفساده". ويري البعض أن "الحضارة نظام اجتماعي يعين الإنسان علي الزيادة من إنتاجه الثقافى، ومقوماتها أربعة عناصر: القيم الأخلاقية، النظم السياسية، الموارد الاقتصادية العلوم والمعارف".

والحضارة لها جانبان: جانب مادي وجانب نظري، الجانب المادي متمثل في كل المبتكرات، كفنون العمارة والهندسة والطب ووسائل التقنية، وغير ذلك مما يبتكره الإنسان ويجسده ، وهذا الجانب المادي يطلق عليه المدنية، وأعتقد أن الغرب أقرب إلي المدنية منه إلي الحضارة . والجانب الآخر متمثل في العلوم النظرية المتعلقة بالفكر والعقل والروح والإيمان والأدب واللغة والفلسفة والأخلاق والمشاعر والتعامل وغير ذلك، وهذا الجانب يطلق عليه الثقافة. وعلي ذلك فالحضارة هي الحصيلة الشاملة للمدنية والثقافة ، بمعني أنها مجموع الحياة الإنسانية في صورتيها المادية والنظرية .

الحضارة الإسلامية :

هي الحضارة الوحيدة الفريدة التي تتناسق فيها الماديات والروحانيات، وذلك يعود إلي أنها حضارة قامت علي عقيدة ثابتة في المسلم بأنه خليفة الله في أرضه، فلابد أن يكون صالحا مؤهلا علي قدر المسئولية المكلف بها ، جديرا بهذه الصفة العظيمة؛ ومن ثم سعي بكل ما يمتلك لتحقيق ذلك ، وقد ساعده القرآن علي أن يكون إنسانا حضريا يدرك الغاية من خلقه ، فأرسي له منهجا سليما قويما ، يتسم بجملة من القيم عمل بها المسلمون فارتفعت بهم ففتحوا العالم وصنعوا حضارة عظيمة تشرفهم في كل مكان وزمان، أقامت عليها أوربا حضارتها الحديثة. ويمكننا أن نوجز أهم القيم التي وضعها المنهج القرآني لبناء الحضارة الإسلامية العظيمة والتي يحاول البعض طمسها، ويأبي الله إلا أن يتم نوره ولو كره الكافرون، فيما يلي:

ـ القيادة القدوة :

تتمثل لا شك في شخص رسول الله e فهو القائد الأول للمسلمين وللعرب، عُيّن واختير منتقيا من رب العزة ، وحدد وظيفته في البداية فقال: "هو الذي بعث في الأميين رسولا منهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين". ولك أن تقول ما تشاء عن العرب في وصف القرآن لهم بأنهم في ضلال مبين، ولاحظ تعبير القرآن (رسولا منهم) بمعني أنه يعرف كل شيء عن شخصياتهم في السلوك والتعامل والفكر والعقيدة، يعرف مداخلهم كما يعرف صفاتهم الحسنة والسيئة، ولنا أن نقف هنا لنستفيد درسا في اختيار القائد.

ـ الاهتمام بالعلم :

يكفينا أن أول أمر إلهي للنبي e وللمسلمين كان أمرا بالتعلم والحث على العلم؛ حيث قال تعالي (اقرأ باسم ربك الذي خلق)؛ ولم يذكر المفعول، وتركه يدل علي العموم والشمول1، وهذا يعني أن الأمر هنا الدعوة إلي المعرفة بمعناها الواسع في مختلف مجالات الحياة الإنسانية ، إضافة إلي هذا فقد رفع الله مكانة العلماء فجعلهم مع المؤمنين{ ويرفع الله الذين آمنوا والذين أوتوا العلم درجات} ؛ ومن هنا برع العلماء المسلمون في مختلف علوم الدين والدنيا من تفسير وفقه ولغة وأدب وفلسفة وتاريخ وجغرافيا وطب وهندسة وفلك وترجمة وغير ذلك .

ـ الدعوة إلى استعمال العقل :

دعا القرآن إلي استخدام العقل في كثير من الأمور في كثير من آياته (إن في خلق السموات والأرض ...) والحديث (ويل لمن يلوكها بلسانه ولم يعقلها بقلبه)، بل إن القرآن وضع العقل في منزلة متقاربة إن لم تكن متساوية مع التبليغ والاستماع، قال القرآن على لسان أهل النار: (وقالوا لو كنا نسمع أو نعقل ما كنا في أصحاب السعير)؛ وذلك لأن استخدام العقل مركز الفكر، يجعل الإنسان يبدع فيبتكر، فيصنع الحضارة.

ـ حسن الخلق والمظهر:

ركز الإسلام علي حسن الخلق وجعله الدين كله، ولا تنفع العبادات مع سوء الخلق، لأن سوء الخلق يؤثر علي الآخرين سلبيا، ولعل أعظم صفة لرسول الله من ربه (وإنك لعلي خلق عظيم)2 ، وإذا نظرنا للمجتمع الغربي الآن وقد انحل أخلاقيا نحمد الله علي أن هدانا للإسلام الذي أمرنا بحسن الخلق، والحديث عن ذلك طويل، لكنْ حسبنا القانون النبوي: "كل المسلم علي المسلم حرام .." فهنا احترام كامل لحقوق الإنسان. كما أمر الإسلام بحسن المظهر، لأن الله جميل يحب الجمال و(خذوا زينتكم عند كل مسجد).

ـ العمل قيمة حضارية:

العمل روح الحضارة الإسلامية، يقول رسول الله :« إن قوما غرتهم الأماني أحسنوا الظن بالله وكذبوا، فلو أحسنوا الظن لأحسنوا العمل" ؛ لأن الإسلام ركز علي العمل تركيزا شديدا، فربطه بالإيمان، فلا نجد آية تدعو إلي الإيمان إلا وهي مقرونة بالعمل، وحدد المنهج القرآني نوع العمل وكيفيته ، أما النوع فهو العمل الصالح للفرد والمجتمع دون ضرر علي أي منهما، سواء عمل دنيوي أو عمل أخروي، ففي آيات كثيرة يقول تعالى: (إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات)، وأما الكيفية ففي إتقانه "إن الله يحب إذا عمل أحدكم عملا أن يتقنه" وإتقانه أداؤه بإحسان؛ لذلك يقول تعالي: (إنا لا نضيع أجر من أحسن عملا).

ـ المساواة والعدالة:

جاء الإسلام بعد ظلم وظلام في العالم أجمع، حتى الشعوب الحضارية (فارس والروم) ؛ ومن ثم كان من مبادئه الإنسانية السامية العظيمة الدعوة إلي العدل والمساواة بين الناس؛ فالكل من آدم وآدم من تراب، لا فضل لعربي علي أعجمي ولا لأبيض علي أسود إلا بالتقوى والعمل الصالح؛ (إن أكرمكم عند الله أتقاكم)، والإنسان إذا أحس بالمساواة والعدالة بينه وبين الآخرين أخلص في كل شيء، في عمله في علاقاته في حبه للوطن.

ـ الاتحاد والتعاون المثمر :

جاء الإسلام بعد تفرق وتشتت بين العرب ؛ حيث سادة روح الذاتية والقبلية العدائية، ولا شك أن هذه السمة تضعف قوة المجتمع، في حين أن الاتحاد قوة شديدة ؛ فجاء الإسلام داعيا إلي الحب والسلام بين الناس وجعل ذلك شرطا لدخول الجنة، وهذا يقتضي التسامح والعفو والحلم، وهذه الصفات الجليلة نواة مبادئ أساسية لتقدم أي مجتمع، هي مبادئ الاتحاد والترابط والتعاون المثمر بين أفراد المجتمع، ومن ثم حرص المنهج الإسلامي علي إفشاء هذه الصفات الحميدة؛ من أجل الترابط والتعاون المثمر بين أفراد المجتمع الإسلامي، بل أمر بالتحلي بهذه المبادئ؛ يقول تعالى: (واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا واذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم علي شفا حفرة من النار فأنقذكم منها فأصبحتم بنعمته إخوانا)، ويقول تعالى: (وتعاونوا علي البرّ والتقوى ولا تعاونوا علي الإثم والعدوان).

ـ التكافل الاجتماعي :

أرسى الإسلام مبدأ التكافل الاجتماعي بين أفراد المجتمع من خلال فرضية الزكاة، وفي الوقت نفسه طهرهم من المال الحرام من خلال مكافحة الربا، والحديث عن هذا يطول.

ـ حب الوطن والانتماء له:

حب الوطن والانتماء له والذي يترجم إلي الدفاع عنه والعمل من أجل تقدمه قيمة عظيمة أسهمت في بناء الحضارة الإسلامية؛ ذلك لأن هذا الحب والانتماء جزء من إيمان المسلم بالله وعقيدته الراسخة بداخله، وقد أرسى هذه القيمة في نفوسنا رسول الله e ، وذلك من خلال حبه الشديد لوطنه مكة المكرمة، كما يتضح من عبارته المشهورة (إنك لأحب بلاد الله إلىّ، ولولا أن أهلك أخرجوني منك ما خرجت)، ولذلك وعده رب العزة بالعودة إليها؛ فقال له: (إن الذي فرض عليك القرآن لرادك إلي معاد)، وكان وعده بفتح مكة (إنا فتحنا لك فتحا مبينا).

وإذا ما استعرضنا معاركنا الفاصلة في التاريخ بدءا من بدر نجد أنها كانت دفاعا عن الوطن عقيدة وأرضا ومالا وأهلا؛ ومن هنا كانت فرضية الجهاد علي المسلمين للدفاع عن العقيدة والوطن، ولم يدعُ الإسلام إلي استخدام القوة إلا في حالة الدفاع، لكنه أمر بالتسلح الذي يرهب العدو من أجل ألا يقع الاعتداء (وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم).

ـ إفشاء الأمن والسلام:

نعمة الأمن تمثل ثلث متاع الدنيا للإنسان؛ لأن متاعها في نعم ثلاث: الصحة والأمن والطعام؛ "يا ابن آدم إذا أصبحت معافى في بدنك، آمنا في سربك، عندك قوت يومك، فقد حيزت لك الدنيا". وإعلاءً لقدر هذه النعمة ذكرها القرآن بمختلف اشتقاقاتها تسع عشرة مرة ، صفة للبيت الحرام وأهله {وإذ جعلنا البيت مثابة للناس وأمنا} و{لتدخلن المسجد الحرام إن شاء الله آمنين} وصفة لمصر {ادخلوا مصر إن شاء الله آمنين} صفة للجنة وأهلها {وهم في الغرفات آمنون}. وإذا زال الخوف حل الأمن؛ حيث لا يجتمعان أبدا، قال تعالى لموسى: {يا موسي أقبل ولا تخف إنك من الآمنين}. ولكن لكي يتمتع الإنسان بنعمة الأمن لا بد من توافر نعمة أخرى هي نعمة السلام.

وهو السلام الدولي والتعايش السلمي، فالأمن لا يتحقق إلا بتوافر نعمة السلام، سواء علي مستوى الأفراد أو المجتمعات؛ لأن السلام ضد الحرب، وإعلاءً لمكانة هذه النعمة وأهميتها للمجتمع الإنساني ركز عليها القرآن؛ إذ وردت بمختلف اشتقاقاتها إحدى وثلاثين مرة، منها أنها صفةٌ لله تعالي { الملك القدوس السلام}، وصفة للأنبياء والرسل { وسلام علي المرسلين} وصفة للمؤمن { ولا تقولوا لمن ألقي إليكم السلام لست مؤمنا}؛ ومن أجل هذا فإن الله أمرنا أن نبذل ما نستطيع لننعم بهذه النعمة، فقال تعالى: {ادخلوا في السلم كافة} وقال: {إن جنحوا للسلم فاجنح لها}، هنا أمر بالسلام الدولي، وهذا مسئولية صانعي القرار في الدول، بيد أن هذا السلام لا يغني عن التعايش السلمي بين أفراد المجتمع الواحد، وهو مسئولية كل إنسان يعيش فوق تراب الوطن؛ ولأهميته أمر به النبي في قوله: "السلام اسم من أسماء الله فأفشوه بينكم"، وسيادة السلام يقتضي العدل بين الناس علي مستوى الأفراد والدول.

ـ الإعلاء من مكانة المرأة :

فقدت المرأة مكانتها عند العرب في الجاهلية وهُضمت حقوقها وأهينت كثيرا، وخير مثال علي إهدار مكانتها وأد البنات الذي حرمه الإسلام ، فضلا عن إنصافها بإعطائها حقها في الميراث والتعليم والعمل الصالح لها وللمجتمع بمختلف أشكاله مادام في استطاعتها.

ـ حرية الفكر والتعبير:

دعا الإسلام إلي حرية الفكر؛ لأن الحرية من أقوى مبادئ التقدم لأي مجتمع وأمة، فأي أمة ينظر إلي تقدمها من خلال مساحة الحرية التي يتمتع بها أفراده في التعبير والتنفيذ، والإنسان إذا أحس بالحرية أبدع فأنتج فتقدم المجتمع ، ولذا نجد أن أي استعمار يفعل أول ما يفعل أن يطمس حرية الشعب المستعمر من خلال الكبت والظلم والقهر، ليحل ظلامه محل نور الحرية، وبذلك يهدم حضارته المعاصرة. والحرية المعنية هي الحرية البنّاءة التي تُلزم الفرد أن يحترم حقوق الآخرين، وأن يعرف ما له من حقوق وما عليه من واجبات، لا الفوضى الهدامة التي تضر بالمجتمع لصالح الفرد، فالمصلحة العامة تعادل المصلحة الخاصة.

ـ مبدأ الشورى :

الشورى هي الديمقراطية في اتخاذ القرار الصالح للمجتمع ، وقد أرسي القرآن هذا المبدأ بعد سيطرة القبلية على المجتمع العربي، فقال تعالى لرسوله: {وشاورهم في الأمر } ووصف المؤمنين بقوله: { وأمرهم شوري بينهم}.

لكل هذه القيم السامية ـ وغيرها كثير ـ صنع المسلمون حضارة إسلامية باهرة، وقد بدأت من الصفر؛ حيث كان العرب أميين في ضلال مبين، ونجح المسلمون بفضل الله ومنهجه المستقيم المستمد من القرآن والسنة النبوية أن يفتحوا العالم وينيروه ويشعلوا مشاعل الحضارة في معظم بلدانه في الوقت الذي كانت أوربا فيه تعيش في ظلام تحت وطأة أدعياء الدين والكنيسة الذين أشبعوهم من الجانب الروحي إلي درجة الرهبانية وأفقدوهم الجانب المادي من الحضارة فكانت حضارة ذات جانب واحد؛ ومن ثم فلم تكن كالحضارة الإسلامية التي أقامت عليها أوربا حضارتها الحديثة .

وصلت حضارة المسلمين إلي أوربا من خلال جامعات أسبانيا ؛ حيث أفاق الأوربيون علي أصوات علماء المسلمين في مساجد الأندلس يدرّسون العلوم المختلفة من طب وهندسة وفلك وفقه وتفسير ولغة وأدب وفلسفة وتراجم، بل إن أوربا لم تعرف الفلسفة اليونانية إلا من خلال العلماء العرب المسلمين عن طريق ترجمتها إلي العربية ثم إلي اللاتينية، وظلت الاستفادة من حضارة العرب حتى جلاء الحملة الفرنسية من مصر.

هاهي حضارة المسلمين أضاءت العالم بفضل المنهج الذي سار عليه المسلمون في دعوتهم، وأعتقد أننا افتقدنا هذه الحضارة العظيمة اليوم بسبب تركنا لقيم هذا المنهج القويم، وأخذت أوربا بعض قيم المنهج القرآني وأقامت حضارتها الحديثة، وإن كانت في الجانب المادي. ونعود فنقول : إذا كنا فقدنا كثيرا من قِيَم حضارتنا اليوم، فمازلنا نحتفظ بالجانب الأخلاقي منها، وهذا ما تفتقده حضارة الغرب اليوم، فما أفدح الانحلال الأخلاقي والتفكك الاجتماعي في الغرب.

وحق لنا أن نؤكد أن انتقال الحضارة من أمة إلي أمة أمر طبيعي بصرف النظر عن الأسباب؛ لأن الحياة متداولة، كما قال تعالى: (وتلك الأيام نداولها بين الناس)، وما أحسن أن نختم حديثنا بقول الشاعر:

لكل شيء إذا ما تمّ نقصانُ فلا يُغرّ بطيب العيش إنسانُ

هي الأمور كما شاهدْتها دولٌ من سرّه زمنُ ساءته أزمانُ

تنبيه

للمؤلف العديد من الدراسات المنشورة في مكتبة صيد الفوائد وعدة مواقع أخرى يمكن الوصول إليها من خلال البحث باسم المؤلف في G00gle

أرجو من القراء الأعزاء أن يطلعوا على تلك الدراسات ويفيدوني بآرائهم من خلال الاتصال الهاتفي 009665573869 أو من خلال البريد الإلكتروني:

alaahamzawy@gmail.com

hamzawyalaa@hotmail.com

مع تحياتي وتقديري

المؤلف د/علاء إسماعيل الحمزاوي

==================

#سبل التقدم العلمي والتقني في البلاد الإسلامية

إعداد: خبَّاب بن مروان الحمد

(1ـ2)

المشاركون في الإجابة عن أسئلة التحقيق:

1 ـ د. إيهاب الشاعر: فلسطيني مقيم بأمريكا، متخصص في الحاسوب والاتصالات.

2 ـ د. باسم خفاجي: مصري، متخصص في الهندسة المدنيَّة.

3 ـ أ. د. زغلول النجار: مصري، متخصص في علم التربة والجيولوجيا.

4 ـ د. عبد الله الضويان: سعودي، متخصص في علم الفيزياء.

5 ـ د. عبد الوالي العجلوني: أردني، متخصص في علم الفيزياء.

6 ـ أ. د. نعمان الخطيب: فلسطيني مقيم بالسودان، متخصص في هندسة البترول والتعدين.

7 ـ د. محمد المدهون: فلسطيني، متخصص في تنمية الموارد البشرية.

لا ريب أنَّ من أبرز التحديات التي تواجه أمتنا الإسلامية ذلك الضعف العلمي والتقني إلى حد أن صرنا ندعى بأننا (العالم المتخلف) أو (النامي)، فأصبحنا عالة على غيرنا وللأسف.

(البيان) ألقت الضوء على هذه القضية قناعة بأهمية مناقشة هذا الموضوع بأبعاده المختلفة، وتوجهنا لضيوفنا الكرام بالعديد من الأسئلة:

لماذا تأخرنا ولماذا تقدم غيرنا؟ وما سبل التقدم العلمي والتقني للأمة الإسلامية؟ وهل هناك محاولة احتكار لحصار العالم الإسلامي؟ وكيف نتعدى هذه العقبة إن وجدت؟ وما دور صناعة الرأي والمشورة في عملية الاختراعات؟... إلى غير ذلك من المحاور العديدة بإذن الله التي ستناقش هذا الموضوع.

? مدخل مفيد لكنَّه مؤلم:

هكذا استهلَّ الدكتور الضويان حديثه حول واقع العالم الإسلامي مقارنة مع العالم الآخر، من حيث الأميَّة وميزانيَّة التعليم بالنسبة لحجم الدخل القومي، وميزانيَّة البحث العلمي.

كما أبدى عدد من المشاركين استياءهم لقلَّة المخصَّصات لوسائل التقنية في العالم الإسلامي، ورأى الدكتور إيهاب الشاعر أنَّ تخلُّف العالم الإسلامي في المجال التقني والمعلوماتي أقل من الحد الأدنى الذي بدونه لا تعيش الشعوب عزيزة.

في حين يقول الدكتور العجلوني: إنَّ ميزانيات البحث العلمي في الدول العربية والإسلاميَّة هزيلة للغاية، ولا تُذكر ضمن ميزانيات المؤسسات العلمية العربية كالجامعات إلا من باب استعمال الديكور أو المظاهر؛ فهي للأسف لأغراض الزينة وليس للبحث العلمي الحقيقي.

وعودة لأطروحة الدكتور الضويان؛ حيث يتحدث قائلاً: لا يتجاوز ما تنفقه الدول الإسلامية على البحث والتطوير 0.2% من إجمالي الدخل القومي، وهو أقل بكثير مما تنفقه شركة عملاقة واحدة كشركة سوني اليابانية مثلاً على البحث والتطوير. وباستقراء التغيُّر الحاصل في الدول الإسلامية في هذا الجانب خلال السنوات الثلاثين الماضية نجد أنه ـ مع الزمن ـ يتجه إلى الأسوأ؛ مع كل أسف.

ويدلي الدكتور باسم خفاجي دلوه في هذه القضية فيقول: أبسط معطيات التقدم لدى العالم العربي والإسلامي، تفترض إجادة الشعوب لمبادئ القراءة والكتابة في عالم اليوم، بينما تظهر الإحصاءات ـ الصادرة أخيراً عن المنظمة العربية للثقافة والعلوم ـ أن عدد الأميين في العالم العربي قد وصل إلى سبعين مليون شخص خلال العام الميلادي (2005م). كما أن نسبة ما ينفَق عربياً على التعليم العالي لا تتجاوز 1% من ميزانيات الدول الإجمالية، وهي نسبة متدنية، خصوصاً مع واقع الأمة الإسلامية.

وقد أظهر تقرير صدر أخيراً عن منظمة اليونسكو أن العالم العربي الذي يصل عدد سكانه إلى 290 مليون نسمة، يوجد فيه أكثر من 40 مليون تلميذ في سن المرحلة الابتدائية، كما يوجد أيضاً ما يقارب من 8 ملايين طفل في سن المرحلة الابتدائية خارج المدارس، أي أن ما يقارب 20% من أطفال العالم العربي هم ممن لا يتلقون التعليم الأساسي اللازم لإجادة القراءة والكتابة. وهذه المشكلة تزداد تفاقماً عندما نعرف أن المجتمع العربي مجتمع شاب، فأكثر من 37% من أبناء العالم العربي أعمارهم دون أربعة عشر عاماً، تبعاً لتقرير اليونسكو نفسه عام 2005م.

ويضيف الدكتور باسم قائلاً: بلغت نسبة الإنفاق على التعليم الأساسي في العالم العربي أرقاماً متدنية مقارنة بباقي دول العالم؛ فإجمالي الإنفاق على التعليم الأساسي في مصر لا يتجاوز 0.6% من ميزانية الدولة أي أقل من 1%، وفي المغرب يصل إلى 2.6%. ويقارن ذلك بالكيان الصهيوني الذي ينفق 2.8% على التعليم الأساسي (أي ما يقارب خمسة أضعاف ما تنفقه مصر). أما إجمالي الإنفاق على التعليم تبعاً لتقرير اليونسكو عن عام 2005م، فإنه يتراوح بين 1% ولا يزيد عن 6% في معظم الدول العربية.

ويذكر الدكتور زغلول النجار أنَّ السبب الرئيسي لهذا التباين الكبير في متوسط دخل الدول الإسلامية يرجع إلى عامل التجزئة، والكيانات المصطنعة التي رسمت حدودها الراهنة القوى الاستعمارية العالمية (وفي مقدمتها بريطانيا وفرنسا) وحافظت عليها، لتبقى الأمة الإسلامية على هذه الصورة من التفتت الذي لا يمكِّن أياً من دولها من القيام بذاته.

? سبب إهمال دراسات العلوم التقنية في العالم الإسلامي:

يقدم لنا الدكتور محمد المدهون رأيه باختصار حول ذلك في ثلاث نقاط: التبعيَّة، غياب الحوافز، عدم رعاية المبدعين والأفذاد.

بينما يسهب الدكتور زغلول النجَّار في ذكره لأسباب إهمال دراسات العلوم التقنية فيقول:

1 ـ تفشّي الأميّة بين المسلمين البالغين في هذا العصر بصورة مزعجة تتراوح نسبتها بين 50% و 80% (بمتوسط حوالي 58%).

2 ـ كثرة ما تحتاجه دراسات العلوم والتقنية من تجهيزات، ومختبرات، وأجهزة، ومعدات، وما وصلت إليه تكلفة ذلك في هذه الأيام من مبالغات.

3 ــ انعدام التخطيط والتنسيق والتعاون بين مختلف المؤسسات العلمية والتقنية في العالم الإسلامي المعاصر.

4 ـ هجرة أعداد كبيرة من العلماء والفنيين إلى خارج حدود العالم الإسلامي؛ وهذا في حد ذاته يمثل استنزافاً لأهم طاقات المسلمين ولأعظم إمكاناتهم.

5 ـ تمزُّق العالم الإسلامي المعاصر إلى أكثر من خمسين دولة بالإضافة إلى أقليات منتشرة في كل دولة من الدول غير الإسلامية تفوق أعدادها مئات الملايين في بعض هذه الدول، واحتلال أجزاء عديدة من أراضي المسلمين؛ مما أدى إلى تشتيت المقومات المادية والروحية والطاقات البشرية للمسلمين.

6 ـ اعتماد الدول الإسلامية على الاستيراد من الدول الأخرى بدلاً من التكامل الاقتصادي والصناعي والزراعي فيما بينها؛ مما أدى إلى خنق كثير من النشاطات الصناعية والزراعية في العالم الإسلامي، وإلى استنزاف أموال المسلمين، واستغلالهم، وفرض السيطرة عليهم من قِبَل الدول الموردة وتكتلاتها الصناعية والزراعية والتجارية المختلفة.

وتجدر الإشارة إلى أن حجم التبادل التجاري بين الدول الإسلامية لا يمثل أكثر من 1% من تجارتها الدولية، وأن هناك أسعاراً خاصة تفرض اليوم على واردات العالم الإسلامي بصفة عامة، كما أن ما تدفعه تلك الدول سنوياً في الاستيراد يكفي لإقامة أكبر الصناعات، ولدعم أضخم المشروعات الزراعية والإنتاجية التى يمكن أن تسد حاجة المسلمين كافة، وتغنيهم عن تحكم التكتلات العالمية المستغلة فيهم.

ويضيف الدكتور العجلوني شيئاً من الأسباب التي يرى أنَّ لها دوراً في إهمال الدراسات للعلوم التقنية؛ حيث قال: عدم معرفة الأولويات، وانشغال الشعوب بالملهيات، وأحياناً الشعور بالعجز المطبق عند مشاهدة الهوة الواسعة بين مستوانا التقني والمستوى التقني في الغرب واليابان.

ويرى الدكتور نعمان الخطيب رؤية مغايرة لما رآه بعض المشاركين؛ حيث يرى أنَّه ليس هناك إهمال في دراسات العلوم التقنيَّة؛ فيقول: لكن الدراسات في العالم الإسلامي سواء كانت علوماً نظرية (إنسانيَّة واجتماعية) أو علوماً تقنية؛ فإنها لا تُدرّس بالطريقة الصحيحة، وتعتمد على التلقين وليس على البحث والتفكير والابتكار. أما إذا كان المقصود إهمال الأبحاث في الدراسات التقنية؛ فإن السبب هو صعوبة إجراء هذه الدراسات، واعتمادها على أجهزة متطورة غير متوفرة في معظم الأحيان في الجامعات ومراكز الأبحاث في العالم الإسلامي، والتركيز على الأبحاث النظرية التي تحتاج إلى ورقة وقلم فقط.

? هل تعاني الدول الإسلامية من احتكار التقنية؟

كان العلم متقدماً عندنا في السابق؛ فقد ذكر (سارتون) أن الحضارة الغربية كان مفتاحها الوحيد لغة العرب التي ملَّكتهم ناصية العلم والتقنية، والآن الدول المتقدمة تقنياً تحاول عرقلة التنمية التقنية للدول الإسلاميَّة، ولا أدل على ذلك من تدمير أمريكا بواسطة اليهود المفاعلَ النووي العراقي، وأوضح من ذلك منع بعض التخصُّصات العلمية في بريطانيا بأن تُدرَس من قِبَل طلاَّب دول معيَّنة، بل ما زالت بعض الدول الصناعيَّة تحتكر سوق التقنية وكأنَّه لها فحسب؛ فكيف نتعدى هذه العقبة ونتغلب عليها؟

حول هذه القضيَّة انطلق عدد من المختصين بالتحدث حول الحلول العمليَّة لتعدِّي مرحلة الاحتكار والتبعيَّة في السوق العالميَّة، فيتحدَّث الدكتور محمد المدهون ملخصاً رأيه باختصار حول هذه القضيَّة قائلاً:

نتجاوز تلك العقبة بإذن الله ـ تعالى ـ من خلال: السرية في العمل، الانتقائيَّة والتركيز الدقيق، نشر العلوم التقنية، تبنّي المواهب والقدرات الخاصة.

ويرى الدكتور الضويان أنَّ احتكار التقنية ليس مشكلة إن وُجد، ويوضح مراده بقوله: فالنظرة المادية بشكل عام هي التي تحكم الشركات المصنّعة خاصة العابرة للقارات، كما أن التقنية مستويات، والاحتكار إن وُجد على المستويات المتقدمة جداً منها والباهظة التكاليف والتي يمكننا تأجيلها، لكننا لا نملك التقنية على مستويات أدنى وإن كانت في مجالات تخصنا وهذه هي مشكلتنا.

ويضرب الدكتور الضويان مثالاً على رأيه بقوله: انظر إلى صناعة النفط؛ هل نحن نصدِّر تقنيتها إلى غيرنا؟ وما الشركات البارزة في عمليات التنقيب على سبيل المثال؟ على الرغم من أن امتلاك التقنية مرتبط بالقدرة الصناعية؛ فلا أقل من أن تتميز الدول الإسلامية المنتجة منذ عقود للنفط في مجال التنقيب وتقنياته وصناعة النفط.

ويختتم حديثه بقوله: المهم أنَّ امتلاك التقنية مسألة حضارية يُنظر إليها بشكل متكامل مع قضايا أخرى، وحين تتخلف هذه القضايا تتخلف مسألة التقنية تبعاً لها؛ على الرغم من انتمائها لهذا الدين العظيم.

ويلفت الدكتور الضويان انتباه المتابع بقوله: انظر لحال الأمة المزري: الدكتاتوريات السياسية تخنق الإبداع، وضياع الصدق والأمانة والانضباط يطرد الإنتاج البحثي الناجح، وانتشار الفقر والأنانية والجهل؛ كل هذا عدو للتقدم العلمي. والإباحية الإعلامية وتسطيح الاهتمامات لا تتناسب مع المنافسة التقنية... إلى غير ذلك من الأمراض الحضارية.

ويقدم الدكتور باسم خفاجي تفسيراً وتحليلاً آخر حول هذه القضية، فيذكر أنَّ المنظمة الإسلامية للتربية والعلوم والثقافة، ذكرت ضمن تقريرها عن واقع التعليم ومستقبله في العالم العربي أنَّ «تطوير التعليم في بلداننا، الذي هو الشرط الأساس لتحقيق النقلة النوعية الحقيقية المطلوبة في النهوض الحضاري، يتوقف على المشاركة الشعبية الواسعة في تحمّل تكاليف التعليم التي تَتَزَايَدُ أعباؤها سنة بعد سنة، وبذلك ستتمكّن الدولة من القيام على نحو أفضل بدور الإشراف والرعاية، وضبط الاتجاهات العامة لمسيرة التعليم وفق المصالح العليا للوطن، وبما يحقق الأهداف الوطنية، ويمهد السبيل نحو الاندماج في المسيرة العالمية.

وفي محاولة ناقدة يقول الدكتور باسم: إننا كثيراً ما نلقي باللائمة على الدول والأنظمة، وأحياناً على الغرب وأمريكا في التعامل مع مشكلة التعليم وارتباطه بالتقنية في عالمنا العربي والإسلامي، ولكن الحقيقة أن الشعوب مسؤولة أيضاً بالدرجة نفسها. وكما علمنا الخالق ـ جل وعلا ـ عندما يُذكِّرنا {قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنفُسِكُمْ} [آل عمران: 165]، فهنا مفتاح الحل. لا شك أن خصوم الأمة يكيدون لها، ولكن هذا الكيد لم يوقف الأمة على مر التاريخ عن التقدم والازدهار عندما أخذت بالجد والحزم وعلو الهمة، وهو ما نفتقده اليوم.

ويؤكد الدكتور باسم أنَّ احتكار سوق التقنيات بالنسبة للغرب لم يمنع الصين وتايوان وسنغافورة، وحتى ماليزيا المسلمة والهند من المسابقة، بل والتقدم إلى الدرجة التي أصبحت معها هذه الدول مصدرة للتقنية إلى البلاد الأوروبية والأمريكية، ويضيف قائلاً: رغم أن أمريكا ومن يحالفها حاربوا هذه الدول بالأمس كما يحاربوننا اليوم. فليس من اللائق عقلاً ولا شرعاً أن نلقي باللائمة على الخصوم كمبرر لتخلفنا، وكأننا نتوقع من خصوم الأمة أن يرفقوا بنا، وأن يعاونونا على النجاح والتقدم.

وينبِّه الدكتور باسم إلى أنَّ الغرب يحاول احتكار أسواق التجارة العالمية ويضيف: والشركات متعددة الجنسية صار لها تأثير كبير في علاقات التبادل التجاري بين الدول؛ فمن جملة (50) أكبر شركة متعددة الجنسية في العالم تمتلك الولايات المتحدة الأمريكية (33) شركة، بينما تمتلك بريطانيا (5) شركات، واليابان وسويسرا تمتلكان (3) شركات، وألمانيا تمتلك شركتين، وفرنسا شركة واحدة؛ وبقية الدول (3) شركات فقط، وذلك بحسب ما أورده موقع إسلام أون لاين في مقال (الاحتكار.. مزايا للشركات وأضرار للمستهلك). ولكن بالمقابل فإن هذه الشركات تحتاج إلى أسواق، وهنا تكمن قوة المستهلك الذي يمكنه اختيار من يريد أن يتعامل معه، ممن يساعده على التقدم التقني.

? الاحتكار عقبة.. كيف نتعداها؟

وعن الطرق الكاسرة لسوق الاحتكار يقدم الدكتور باسم وجهة نظره بقوله: إننا في حاجة إلى أن نربط أسواقنا الاستهلاكية ـ وهي قوة لا يستهان بها ـ بمن يساعدوننا على التقدم التقني، وليس فقط من يريدون تصدير التقنيات لنا.

ويوضح الدكتور زغلول النجار رأيه في المسألة قائلاً: نستطيع التغلب على هذه العقبة بوحدة المسلمين وعن طريق الاستغلال الصحيح لمقومات العالم الإسلامي المعاصر في اتباع الخطوات المؤدية للتقدم العلمي والتقني في العالم الإسلامي. أما الدكتور الخطيب فيرى أنه لا يمكن كسر هذا الاحتكار إلا بالاعتماد على الذات، واتخاذ قرار سياسي سيادي بالخروج من الهيمنة السياسية والاقتصادية والتقنية الغربية الاستعمارية، ولا يكون ذلك إلا عندما تصبح الحكومات الإسلامية من الشعب وللشعب.

ويستند الدكتور نعمان إلى أن العالم العربي يمتلك من الموارد البشرية والطبيعية (نفط، زراعة، معادن) أكثر مما تمتلك الدول الغربية (أوروبا وشمال أمريكا)؛ فلو كان يملك المقدرة التكنولوجية لأصبح متقدماً على الدول الغربية اقتصادياً وتكنولوجياً، ولفقدت تلك الدول هيمنتها الاقتصادية والسياسية على العالم.

? هل تحاصر التقنية بلادنا؟

هناك عدد من المحللين الاستراتيجيين يرون أنَّ هناك محاولة لحصار العالم الإسلامي. فمن الملاحظ مساعدة الدول الغربية للبرنامج الهندي النووي، ومحاربة البرنامج الباكستاني النووي، كما يخالفهم آخرون في ذلك كل حسب الزاوية التي ينظرون من خلالها.

فالدكتور نعمان الخطيب يقول: نعم! هناك حصار للعالم الإسلامي؛ وهو حصار متعمد ومدروس ومخطط له؛ حتى يبقى العالم الإسلامي متخلفاً تقنياً ويعتمد على الغرب.

ويضرب الدكتور الخطيب على ذلك مثلاً فيقول: الولايات المتحدة الأمريكية لا تسمح ببيع الحاسبات المتطورة التي يمكن استخدامها في برامج معينة إلا للدول التي تثق بها، والتي تكون متأكدة أنها لن تستخدمها في برامج مثل: تصميم الصواريخ أو تقنية الفضاء والذرة.

أمَّا الدكتور الضويان فيختلف في نظرته لهذه القضية مع الدكتور الخطيب حيث يوضح مراده بقوله: لا أعتقد أن هناك حصاراً على العالم الإسلامي من الخارج، لكنه فرض الحصار على نفسه. أما موضوع البرنامج النووي الهندي والباكستاني فالمنطلقات فيه مصالح استراتيجية، ولا تُلام الدول على السعي لتحقيق مصالحها ولو أغضبت مواقفها هذا الشعب أو ذاك. وبالمناسبة: من الذي أتى بحكومة البلدين؟ أحدهما اختيار الشعب والأخرى الدبابة والعمالة للأجنبي، وهنا التخلف عينه. الهند تصنع جميع ما تحتاج داخلياً، بينما باكستان لا تستغني عن الدول الأخرى.

? صناعة الرأي والمشورة في عملية الاختراعات لنقل التقنية:

يبتدئ الدكتور العجلوني الحديث حول هذه القضية؛ إذ يقول: ليس الأساس المشاورة بمعناها المعروف وإنما العمل الجماعي، وهذه يجب تربية الأجيال عليها منذ الصغر قبل تكليفهم بمهام البحث العلمي وهم كبار، وبناء قاعدة علمية في الدولة حتى لو كان مستواها دون مستوى تلك التي في الدول الغربية، ومن ثم تحديد ما يلزم أو الضروري من التكنولوجيا ضمن جدول أولويات والسعي الحثيث لامتلاكها.

كما يؤكد الدكتور نعمان على أهميَّة استشارة ذوي الاختصاص والمعرفة، وأن يتم الأخذ بآرائهم والعمل بها، ويضيف: يجب العمل على تشكيل مجالس استشارية متخصصة من ذوي الخبرة والكفاءة، وأن يعطَوا الصلاحية الكاملة في اتخاذ القرارات الملزمة لكافة القطاعات لتنفيذ هذه التوصيات والتوجيهات.

ويضيف الدكتور المدهون عدَّة نقاط تؤكد على أهميَّة المشورة؛ حيث يلخصها في الآتي:

ـ إنَّ صناعة الرأي تفتح الطريق أمام المبدعين والمتميزين.

ـ توفر المناخ الحيوي للتطور.

ـ يمكن تطويرها بنشر حرية الرأي واعتماد المنهج الإسلامي الذي احترم العقل.

ويختتم الدكتور الضويان الحديث حول هذه الفقرة بقوله:

أما صناعة الرأي في عملية الاختراعات، فلا بد قبلها أن يكون للأمة رأي في أبجديات القضايا يُسمح لها أن تُعبر عنه، قبل أن نقفز إلى مسألة الاختراعات.

ويختتم رأيه متأسفاً ومتأسياً بقوله: شعوب جائعة لا تشارك في قراراتها المصيرية كيف تخترع؟ لا بد من الواقعية العملية وترتيب الأولويات.

? التقنية لها خطوات فعَّالة... فما هي؟

في المقدمة نبتدئ بتقديم رأي الدكتور زغلول النجَّار حيث يقول:

لا بد من تطوير التقنية في بلادنا لنساير التطورات العالمية من حيث المستوى؛ فالوسائل والكتب والطرائق والمختبرات وغيرها أساس من أسس التقدم العلمي، كما تتطلب حسن التنسيق بين الجامعات ومراكز البحوث الإسلامية، وبينها وبين الصناعة في المنطقة العربية والإسلامية؛ وهذا التنسيق مهم بالنسبة للاستفادة من كفاءاتنا العلمية، وكذلك نقل التقنية الحديثة ممن سبقونا فيها.

ثم يضرب الدكتور النجار مثالاً في التأسي بمن قبلنا من المسلمين في خطوات نقلهم للتقنية فيقول: ففي عصر الحضارة الإسلامية التي امتدت قروناً طويلة، تحرك المسلمون من منطلق حب الحكمة الذي غرسه الإسلام في نفوسهم، فجمعوا تراث الحضارات السابقة وترجموه ونقدوه بمعيار الحق الإسلامي، وأضافوا إليه إضافات أصيلة في مختلف مجالاته، فأخذوا صناعة الورق وطوروها، وأضافوا الصفر، ونشروا الأرقام، وابتكروا علوم الجبر وحساب المثلثات واللوغاريتمات.

كما أبدى الدكتور الضويان رأيه في هذه الفقرة، ملخصاً إياه في كلمة قصيرة؛ فيقول: خطوات نقل التقنية موضوع كبير قد كُتبت فيه كتب وأبحاث، لكنها لا تتجاوز الأطر النظرية. وبالجملة: نحتاج لتحديد التقنية اللازمة سواء أكانت مادية (hardware) أو معلوماتية (information) أو فنية (know-how) إلى التعامل الأمثل مع الأجهزة والمعلومات، ومن ثَمَّ وضع خطة على المستوى الفكري والاقتصادي والإداري.

من جهة أخرى يسوق الدكتور باسم خفاجي فكرته حيث يقول: أرى أن الخطوة الأولى في مشروع (نقل التقنيات) تتركز في تغيير طريقة التفكير لدى النخب العلمية والمثقفة في العالم العربي، والتأكيد على أهمية تطوير العقل العربي والإسلامي في مجالات الإبداع والابتكار، وليس فقط في سبل الاستهلاك والاستخدام لما يصنعه الآخرون.

ويعقب خفاجي على حديثه مضيفاً: ينبغي التركيز على فكرة الانتقائية في التعامل مع التقنيات المراد نقلها؛ فليس كل ما أنتجه الغرب صالح لعالمنا، أو حتى صالح للبشرية بوجه عام، فلا يجب أن ننقل إلا ما يثبت لنا صلاحه لأمتنا ليس فقط على المستوى التقني، وإنما على المستوى الأخلاقي والثقافي والعقدي أيضاً.

ويضيف الدكتور باسم قائلاً: أما في مجال الخطوات اللازمة لنقل التقنيات؛ فقد ذكر أهمها أحد الباحثين العرب، وننقل عنه هنا أهم هذه الخطوات:

أولاً: إيجاد قاعدة علمية قادرة على التطوير والابتكار العلمي.

ثانياً: إيجاد قاعدة صناعية متميزة تأخذ بأحدث ما وصلت إليه التقنية مع قبولها التطوير المستمر.

ثالثاً: الترابط الوثيق بين القاعدة العلمية والقاعدة الصناعية، لتحويل الإنجازات العلمية إلى واقع صناعي. ويفضَّل أن يكون هذا الترابط ناشئاً عن مركز بحوث رئيس مُلِمٍّ باحتياجات البلاد وأهدافها التنموية، قادر على الدعم السخي، له صلاحية التنسيق والتنظيم مع وحدات البحث العلمي المختلفة في البلاد والقطاع الصناعي المتطور، وقد أشار إلى مثل هذا الأستاذ سليمان بن صالح الخراشي في مقال له نشر في موقع (صيد الفوائد) بعنوان: (نقل التقنية المتطورة إلى الدول الإسلامية/عوائق وحلول).

? مقومات التقدم العلمي وسبل تنميته:

يبتدئ المشاركة في هذه الفقرة الدكتور إيهاب الشاعر، حيث يقول: قبل البدء بالتحدث عن مقومات التقدم العلمي والتقني لا بد من تسليط الضوء على قياس معيار التقدم العلمي؛ فهو يكمن في معيارين:

1ـ قدرة العالم العربي والإسلامي على أن يكون مستقلاً بصناعة ما يحتاجه للقيام بضرورات الحياة المدنية والعسكرية.

2ـ قدرة العالم الإسلامي والعربي على تطوير ما هو موجود من تقنية وتوظيفها في مصالحه العامة: اقتصادياً، وسياسياً، وعسكرياً، وغير ذلك.

ويشير الدكتور إيهاب إلى أنَّ مجرد استيراد التقنيات واستخدامها أمر استهلاكي وليس أمراً جوهرياً يمس التقدم العلمي.

ثم انطلق الدكتور إيهاب الشاعر مجيباً عن هذه القضيَّة بنوع من التفصيل والبسط؛ وذلك لأهميتها في نظره؛ حيث قال: مقومات التقدم العلمي تكمن في الآتي:

أولاً: الجامعات ومراكز البحوث: وهي القلب النابض للتقدم العلمي في كل الدول وبغيرها لا يمكن عمل شيء، ويكون ذلك عبر عدَّة نقاط هي:

أ ـ استقطاب المؤهلين من ذوي الخبرات التعليمية والتطويرية وتوظيفهم في الجامعات، وإعطاؤهم حرية البحث.

ب ـ إنشاء صندوق دعم مالي للبحوث، يكون من الدولة والتجار وأهل الخير والشركات المحلية والأجنبية؛ لدعم بحوث الأساتذة في الجامعات.

ج ـ إعطاء المدرسين والأساتذة العاملين في مجال البحث امتيازات خاصة لإشعارهم بالأمن والاستقرار، وليس على أساس عقود وتجديدات.

د ـ منع هؤلاء الأساتذة وتحذيرهم من الانتقال إلى مجالات أخرى إدارية أو غيرها قبل مدة دنيا من البحث والإنتاج.

هـ ـ تشجيع البحث والتفكير منذ عمر مبكر (الثانوية)، وصياغة المواد التعليمية على هذا الأساس.

و ـ الاهتمام بالموهوبين والنابغين من الطلاب، وإنشاء جمعيات خاصة لهم، وإعطاؤهم منحاً خاصة للدراسة والتطوير.

ز ـ إنشاء نوادٍ صيفية لتحفيز العمل الابتكاري والإبداعي وعمل مسابقات في ذلك.

ثانياً: ربط الشركات والصناعة المحلية بالجامعات ربطاً قويما علمياً عن طريق: بحوث مشتركة، وورش عمل، ودعم مالي مفروض على الشركات الكبرى بالذات.

ثالثاً: الدعم الحكومي الرسمي ويتمثل بالتالي:

أ ـ إنشاء، ومن ثمَّ الإشراف على صندوق دعم وطني لبحوث الجامعات.

ب ـ ربط الجامعات بمثيلاتها من العالم العربي والإسلامي والغربي عن طريق ندوات وورش عمل مدعومة.

ج ـ إنشاء القوانين التي تحث الجامعات والشركات على الاتصال والعمل البحثي، وسنِّها.

د ـ تشجيع الصناعات المحليَّة، حتى ولو كانت جدواها الاقتصادية أقل في البداية.

واختتم الدكتور إيهاب ما قدم بقوله: فهذه خطة متكاملة، ولكنها تحتاج إلى مخلصين؛ وهو الشرط الرابع.

ويقدم الدكتور نعمان الخطيب مقومات يرى أنَّها ذات أهميَّة بقوله:

تحرير مراكز الأبحاث من البيروقراطية والرتابة، ووضع الشخص المناسب في المكان المناسب، والتخلص من المحسوبية والواسطة في التعيينات والترقيات والقرارات، ولا يكون ذلك إلا بإصلاح سياسي شامل.

ومن زاوية أخرى يلمح الدكتور زغلول النجَّار إلى أنَّ مقومات التقدم تكمن في الآتي:

ـ مقومات بشرية: (يفوق تعدادها الألف مليون نسمة تتوزع في أكثر من خمسين دولة مستقلة وعلى هيئة أعداد متباينة من الأقليات في كافة دول العالم، ويمثل هذا العدد قرابة ربع سكان العالم، ويضم ملايين من العلماء والأطباء والأدباء والمفكرين)

ـ مقومات أرضية: (مساحة الدول المكونة للعالم الإسلامي تمثل أكثر من ربع مساحة اليابسة وتقدر بـ 148.354.000 كيلو متراً مربعاً)، ويزيد فى قيمة تلك المساحة الشاسعة اتصال بعضها مع بعض، وتوسطها دول العالم، وتكاملها من ناحية المناخ والتضاريس وطبيعة الأرض، وتعدد ثرواتها، وتنوع مصادر المياه فيها.

ـ مقومات بحرية: (يطل العالم الإسلامي على مسطحات مائية عديدة تخترقها أهم خطوط المواصلات البحرية في العالم، وله موانئ هامة على كل من: المحيط الأطلسي، والمحيط الهندي، والمحيط الهادي، وكل من: البحر الأحمر، والبحر الأبيض، والبحر الأسود، وبحر قزوين).

ـ مقومات اقتصادية: (الثروة الزراعية، الثروة الحيوانية، مصادر الطاقة، الثروة التعدينية).

ـ مقومات تعليمية: (تضم دول العالم الإسلامي اليوم الكثير من الجامعات والمعاهد المتخصصة، بالإضافة إلى ما يفوق التسعمائة من مراكز البحوث، وأكاديميات العلوم والتقنية، ومراكز للطاقة الذرية والنظائر المشعة).

? لا يشترط في التقنية أن تكون منافسة لتقنية الآخرين:

كانت هذه إجابة الدكتور إيهاب الشاعر؛ إذ سألته: هل يشترط للتقنية المأمولة من الدول الإسلامية أن تكون منافسة لتقنية الآخرين؟ أم يكفي أن تحقق هذه الدول المسلمة من التقنية ما يحفظ لها كيانها، ويحميها من كيد العدو؟

وتابع حديثه قائلاً: ذلك الاشتراط يكون في البداية، حتَّى نقوم بالحد الأدنى لاستبدال التقنية الغربية. بينما يرى الدكتور الضويان خلاف رأي الدكتور الشاعر؛ حيث يقول: التقنية المأمولة من الدول الإسلامية لا بد أن تكون منافسة بكل تأكيد وإلاَّ فلا مكان لتقنية رديئة، لكن لا بد أن تكون هذه التقنية ملائمة لهذا البلد أو ذاك من جهةِ: التكاليف، وحجم اليد العاملة، والمردود الاقتصادي المباشر، والآثار الاجتماعية؛ فبعض التقنيات استهلاكية وتُعمّق التبعية للثقافة الغربية مثلاً.

ويتقارب الدكتور العجلوني والمدهون في إجابتيهما؛ حيث إنَّ فيهما جمعاً بين الرأيين السابقين؛ حيث يقول الدكتور المدهون: مرحلياً يكفي أن تحقق هذه الدول المسلمة من التقنية ما يحفظ لها كيانها، ويحميها من كيد العدو، واستراتيجياً عليها أن تكون منافساً كبيراً لتقنية الآخرين.

وفي الحلقة القادمة ـ إن شاء الله ـ نستكمل دوائر ومحاور التحقيق، نسأل الله أن ينفع به.

ملاحظة:

نشر هذا التحقيق في مجلة البيان عدد(237)

سبل التقدم العلمي والتقني في البلاد الإسلامية

(2ـ 2)

إعداد: خباب بن مروان الحمد

المشاركون في التحقيق:

1 ـ د. إيهاب الشاعر: فلسطيني مقيم بأمريكا، متخصص في الحاسوب والاتصالات.

2 ـ د. باسم خفاجي: مصري، متخصص في الهندسة المدنيَّة.

3 ـ أ. د. زغلول النجار: مصري، متخصص في علم التربة والجيولوجيا.

4 ـ د. عبد الله الضويان: سعودي، متخصص في علم الفيزياء.

5 ـ د. عبد الوالي العجلوني: أردني، متخصص في علم الفيزياء.

6 ـ أ. د. نعمان الخطيب: فلسطيني مقيم بالسودان، متخصص في هندسة البترول والتعدين.

7 ـ د. محمد المدهون: فلسطيني، متخصص في تنمية الموارد البشرية.

تحدث مُعدُّ هذا التحقيق ـ وفقه الله ـ في الجزء الأول من هذا التحقيق عن العديد من الملفات المتعلقة بالتقدم العلمي؛ سبله ووسائله، وما العوائق والعراقيل التي تعترضه؟ وفي هذا الجزء يستكمل الحديث ـ إن شاء الله ـ عن عدد من القضايا المتعلقة بالتقدم التقني؛ فما الجوانب التقنية ذات الأولوية جَلْباً إلى العالم الإسلامي؟ وما أسباب التخلف التقني؟ وهل لطرائق التدريس أثر في تنمية الإبداع؟ وما دور الأمة تجاه المبدعين من المخترعين المسلمين؟ وإلى غير ذلك من المحاور العديدة التي سيتطرق لها أثناء هذا التحقيق) .

? آثار التخلف التقني على مستوى الشعوب والجامعات:

يتحدَّث في هذا الصدد الأستاذ الدكتور زغلول النجَّار قائلاً: أدى تفتيت العالم الإسلامي إلى إفقاره على الرغم من ثرواته البشرية والطبيعية الهائلة، فالغالبية العظمى من سكان الدول الإسلامية اليوم ـ باستثناء الدول النفطية ـ تعيش تحت الحد الأدنى للكفاف اللازم لصون كرامة الإنسان، وذلك بتباين واضح في متوسط نصيب الفرد من الدخل القومي والذي يتراوح بين (20،0) سنتاً في اليوم للفرد ـ أي: في حدود (73) دولاراً في السنة ـ في دولة إسلامية مثل تشاد، وبين (63) دولاراً في اليوم للفرد في كل من دولة الإمارات العربية المتحدة وسلطنة بروناي ـ مثلاً ـ (أي: في حدود 23000 دولار في السنة).

من جهته يرى الدكتور الخطيب أنَّ التخلف التقني والعلمي يؤدي إلى التخلف الاقتصادي والعسكري، وبهذا تبقى الشعوب خاضعة للهيمنة الغربية، ولا تمتلك القرار المستقل، وتكون ناقصة الكرامة، ولا تستطيع الدفاع عن حريتها واستقلالها؛ حسب قوله.

ويضيف الدكتور الضويان أنَّ آثار التخلف تشمل جميع نواحي الحياة، والتخلف جالب للفقر والجهل وهما مرتع خصب لكل بلاء.

ومن ناحيته يرى الدكتور المدهون أنَّ من آثار التخلف الشعور بالهزيمة والتبعيَّة وعدم القدرة على صدِّ العدوان أو إيقاف النيران.

ويختم العجلوني هذه الآثار بقوله: ومن آثار التخلف التقني شعور المواطن بالضعف والهوان وقلة القيمة حتى لو كان هذا المواطن وزيراً أو أكثر من ذلك أو أقل. ويتحمل السياسيون وأصحاب الرأي في الأمة مسؤولية هذا الشعور؛ إذ إنهم ساهموا في تكوينه. ولأن يكون المواطن مواطناً بسيطاً في دولة قوية ومتقدمة خير ألف مرة من أن يكون قائداً أو مسؤولاً في دولة لا قيمة لها.

? أسباب التخلف التقني:

يرى جميع الدكاترة المشاركين في التحقيق أنَّ أهم سبب في ذلك هو الناحية السياسية؛ فهي الوزن الكبير في معادلة التخلف كما يقول الدكتور الضويان. وهناك أسباب أخرى يتفق عليها جمع من المشاركين، وقد أجملها الدكتور الشاعر بقوله:

1 ـ عدم وجود الرغبة من المسؤولين والسياسيين للخوض في ذلك.

2 ـ هجرة العقول إلى العالم الغربي.

3 ـ ضعف وانعدام الحريات وشيوع العنصريات.

4 ـ الضعف الاقتصادي والتحفيزي.

5 ـ أنظمة الجامعات قديمة ومتخلفة ولا تواكب الواقع.

6 ـ التخطيط معدوم وهو آخرها وليس أولها.

ويدلي الأستاذ الدكتور زغلول النجَّار بدلوه إزاء هذه القضيَّة حيث يقول: ما يحدث الآن من إهمال للبحث العلمي في القضايا التقنيَّة إنما هو بسبب:

1 ـ كثرة ما تحتاجه من تجهيزات ومختبرات وأجهزة ومعدات، وما وصلت إليه تكلفة ذلك في هذه الأيام من مبالغات، وما يلاقيه الباحثون من عناء ومشقة مما يجعلهم ينصرفون عن البحث والدراسة.

2 ـ انعدام التنسيق بين الجامعات ومراكز البحوث الإسلامية، وبينها وبين الصناعة في المنطقة العربية والإسلامية.

? خنق الإبداع والابتكار.. كيف نتخطاه في واقعنا الإٍسلامي؟

هناك من يقول بأنَّ بعض البلاد الإسلامية تتعامل تجاه من يقوم بتطوير بعض الأعمال التقنية بتكميم فاه فيخنق الإبداع والابتكار! فكيف نتخطَّى هذه المرحلة ونتربى على ممارسة الإبداع والابتكار في خدمة أمَّتنا؟

أجمع المشاركون في الإجابة عن هذا السؤال حول قضيَّة اعتبروها مهمَّة وملحَّة، وهي أنَّ ذلك لا يكون إلاَّ بالارتقاء بالنظام السياسي وإصلاحه وتولي الشعوب أمورها بنفسها في ظلِّ الشورى الإسلاميَّة، كما نصَّ على ذلك الدكتور المدهون وكذا الخطيب في جوابهما.

ويضيف المدهون: ومن النقاط المهمَّة في ذلك أن يصبح الارتقاء والتطور مطلباً جماهيرياً، وأن نحسن صناعة الإبداع فهو طريق للتحدي لا للخنوع.

بينما يختلف الدكتور الضويان مع من يرى بأنَّ أفواه المخترعين تُكمَّم في عالمنا الإسلامي، ويقول: تكميم أفواه بعض المخترعين لم أسمع عنه شخصياً ولا أظن حدوثه؛ لأن الحكومات لا تستفيد من ذلك.

أمَّا الأستاذ الدكتور زغلول النجَّار فيتحدَّث حول هذه القضيَّة بقوله: في ظل الحكومات المستبدة لا يمكن أن يظهر أي إبداع، فلا بد من المطالبة بإطلاق الحريات وإلغاء القوانين الاستثنائية واحترام آدمية الإنسان؛ حتى تتمكن الأمم من إفراز الكوادر القادرة على الإبداع، ففي المسلمين في العالمين الغربي والشرقي مئات الآلاف من العلماء الذين هربوا من بلادهم؛ إما نتيجة للاضطهاد السياسي أو جرياً وراء توفر إمكانات البحث العلمي.

? أيها أولى في المجال التقني؟

هناك جوانب تقنية من المهم أن يتقنها أبناء العالم الإسلامي ويتطوروا فيها؛ فما هذه الجوانب؟ وما الأولويات في ذلك؟

حول هذا السؤال أفاض جمع من المشاركين بالجواب عنه، فالأستاذ الدكتور زغلول النجَّار لخَّص رأيه في هذه القضيَّة بقوله: الأولويات كالتالي:

ـ الاستخراج الثلاثي والرباعي لكل من النفط والغاز، التقنيات المتقدمة في تحلية المياه، علم الحياة الجزئي، الحواسيب فائقة السرعة، المواصلات فائقة القدرة، استزراع الصحراء، استزراع البحر، ومصادر الطاقة البديلة؛ مثل: الطاقة الشمسية، الطاقة الهوائية، وطاقة الحرارة الأرضية.

من جهته يقول الدكتور باسم خفاجي: أرى - والله تعالى أعلم - أن الأهم في هذه المرحل هو الإلمام بأساسيات العلوم الحديثة وكيفية تطويعها في الصناعات المختلفة، فقد بعدت الأمة كثيراً خلال العقود الماضية عن مواكبة أصول العلوم والتقدم الحادث في هذه المجالات، ولذلك يصعب علينا كثيراً إنشاء أية صناعات حقيقية؛ لفقداننا الأسس التي تقوم عليها تلك الصناعات، لذلك يجب أولاً التركيز على العلوم الأساسية في المجالات الهندسية والطبية والعلوم الحيوية.

أما المجالات التي يجب أن ينصب الاهتمام الأولي على التميز التقني فيها؛ فأرى أنها المجالات التي تخدم رسالة الأمة أولاً قبل أن تخدم رفاهيتها. ويعني ذلك أمرين؛ الأول: هو ما يتحقق به أمان الأمة من خصومها من تقنيات عسكرية وأمنية، والثاني: هو التقنيات الحديثة في مجالات التواصل والإنترنت وعلوم الحاسبات التي تخدم البنية التحتية لكافة وسائل الدعوة المستقبلية.

أمَّا الدكتور إيهاب الشاعر فيقول: لا أنصح في الوقت الحالي بالتركيز على التقنية العسكرية، بل التقنية المدنية والتطبيقات السلمية، فهذه هي الخطوة الأولى لحل الكثير من المشاكل المتراكمة، فنحن لسنا بحاجة إلى عوائق إضافيَّة، والكثير من هذه التقنيات يمكن توظيفها في مجالات أخرى والاستفادة منها عندما يكون المجتمع قد نضج والوقت قد حان، ومع ذلك فإنَّ الدكتور إيهاب يشير إلى أنَّ رأيه لا يعني إهمال التقنية العسكريَّة بالكليَّة ولكن يعني عدم التركيز عليها وجعلها هدفاً لذاتها، وأنَّ الكثير من مشاكلنا الاقتصادية والاجتماعية هي مرهونة بالتقدم العلمي المدني وليس العسكري، وذلك لنكون متوازنين في هذه القضية.

ويتوافق الدكتور العجلوني مع الدكتور الضويان بأن الجوانب التقنية التي يجب على العالم الإسلامي أن يتقنها تبدأ من شعور قادة هذه الدول بالمسؤولية ومن ثم ضرورة التكامل؛ فدول الخليج ـ مثلاً ـ تجعل الصناعات البتروكيمياوية والنفطية اهتمامها الأول، ومصر تتميز بالصناعات الإلكترونية؛ لوفرة اليد العاملة وهكذا بقية المجالات.

? تجارب الأمم الأخرى في التقنية هل يمكن الاستفادة منها؟

لا ريب أنَّ (الحكمة ضالة المؤمن أنَّى وجدها فهو أحق بها) كما جاء في الحديث، ومن هذا المنطلق ساءلت العديد من الدكاترة المشاركين في التحقيق السؤال التالي: كيف تستفيد أمَّتنا من تجارب الأمم الأخرى بالأعمال المتواصلة للتقدم العلمي كاليابان مثلاً؟ وما تقييمكم للتجربة الماليزية والباكستانية؟ والمقارنة كذلك بين مسيرة التطور التقني بين اليابان ومصر؟

اتفق الجميع على ضرورة الاستفادة من تجارب الأمم الأخرى وبخصوص تقويم التجارب، فقد أجاب الدكتور باسم خفاجي قائلاً: إن تجربة اليابان تعكس بلا شك الإرادة القوية في التغلب على الهزيمة والنهوض من جديد، وهي تؤكد فكرتي الأساسية أن العزيمة والإرادة أهم بكثير مما نعتقد في عالمنا العربي المعاصر.

ويرى الدكتور العجلوني أنَّ التجربة الماليزية مقارنة مع باقي العالم الإسلامي تجربة رائدة، ويضيف: وأظن أنَّ أهم سبب لها هو الوعي والتصميم والإرادة التي تحلت بها القيادة السياسية هناك. أمَّا التجربة الباكستانية فهي ممتازة في مرحلة مضت وإن كانت السياسة سبباً في تقهقرها، أما تجارب الشعوب الأخرى كاليابان وكوريا الجنوبية فقد كانت الإرادة والتصميم دافعين لها، ونحن بحاجة إلى هذه الإرادة وهذا التصميم أكثر من حاجتنا لأي شيء آخر.

ويتحدث الدكتور الخطيب قائلاً: بالنسبة للتجربة الباكستانية فهذا يدل على أن تركيز الموارد وإعطاء الحرية للباحثين وإمدادهم باحتياجاتهم المادية يؤدي إلى الوصول إلى الأهداف الموضوعة، ولكن للأسف التجربة الباكستانية على الرغم من أهميتها إلا أنها مقتصرة على تركيز التقدم التكنولوجي في مجال واحد ولم تتم على أساس بناء قاعدة صناعية تكنولوجية متقدمة تستخدم في كافة الأغراض الصناعية.

وحول مقارنة مسيرة التنمية والتطور التقني بين اليابان ومصر يرى الدكتور الضويان أنَّها مفيدة لكنها تؤدي إلى الإحباط بكل تأكيد، فهي صاعدة مع الزمن في اليابان هابطة في مصر. والسبب في رأيه أنَّ الأولى دولة مؤسسات والثانية لأفراد. ولما كان اقتصاد بلد لا ينفك عن تقدُّمه التقني نُذكِّر بقيمة الجنيه المصري وكمية ديون مصر الآن وقبل خمسين سنة، وكذا الحال بالنسبة لليابان التي أصبحت يباباً إثر خروجها مهزومة ذليلة من حربها الخاسرة ضد الحلفاء ومقارنة ذلك بوضعها الحالي حيث تملك ثاني أضخم اقتصاد وما صاحبه من تقدم تقني مشهود.

من جهته يقول الدكتور العجلوني متحدثاً عن المقارنة بين تجربة اليابان ومصر: هو كما تقارن بين نملة تسير على غير هدى وصاروخ كروز موجه إلى هدفه بدقة، أو كما تقارن بين مخلوق ضعيف غارق في بحر تتلاطم فيه الأمواج وأحد الطيور المهاجرة يحلِّق في السماء يعرف جيداً نقطة انطلاقه ونقطة وصوله.

? أثر طرائق التدريس في تنمية الإبداع والحث على الاختراع:

يؤكد الدكتور الضويان على أهميَّة طرائق التدريس ودورها في صناعة روح الإبداع، ولكنَّه تساءل قائلاً: لكن من سيحتضن المبدع؟ ويجيب: إنَّ من يحضنه بالتأكيد الشركات والجامعات الأجنبية في الخارج؛ لأنَّ فاقد الشيء (من الحكومات الإسلاميَّة ومؤسساتها) لا يعطيه!

ومن ناحيته تحدث الدكتور العجلوني قائلاً: التدريس هو الأساس، ولكن يجب تربية المدرِّسين قبل تربية من بين أيديهم، وذلك على احترام الآخر والرغبة في العمل الجماعي وتنمية روح الإبداع...

أما الدكتور نعمان الخطيب فإنه يرى أن الإشكاليَّة تكمن في طرائق التدريس منذ المرحلة الابتدائيَّة إلى الجامعيَّة، فهي تعتمد على التلقين والحفظ وليس على الإبداع والابتكار، ولذا يقول: تحتاج طرائق التدريس إلى إعادة نظر وإلى تأهيل المدرِّسين منذ البداية، ويجب تشجيع المدرِّسين ووضع الحوافز المادية لهم بحيث ينخرط في سلك التدريس الطلبة المتفوقون، ولا تقتصر مهنة التدريس على فئة من متوسطي وقليلي الكفاءة.

وينهي الأستاذ الدكتور زغلول النجار الحديث حول هذه القضيَّة مبيِّناً أفضل أساليب طرائق التدريس فيقول: لطرائق التدريس أثر كبير في بناء فكر التلاميذ والدارسين، إلاَّ أن طرائق التدريس التي تنمي الإبداع في الدارسين تعتمد أسلوب التحليل والتفكير وأسلوب البحث عن المعلومة لغرس كيفية البحث العلمي والتفكير المنطقي داخل عقل الطالب.

وقد أكَّد جمع من الدكاترة المشاركين بأنَّ المجالات العلميَّة لم تعد تصلح للعمل الفردي بل لا بدَّ فيها من العمل الجماعي المنظَّم، ويضيف الدكتور الضويان بأنَّ إدارات الأبحاث والتطوير لا تعمل بالفردية والأنانية (كما هو حال الحكومات الإسلامية) ولكن بروح الفريق، ويسوق على ذلك مثلاً بقوله: شركة (تويوتا) استفادت من آلاف الاقتراحات من موظفيها في تطوير منتجاتها من السيارات. ويستحيل دفع البحث العلمي بعقلية الفرد الواحد.

? المخترعون المسلمون.. دورهم ودورنا تجاه أمَّتنا:

نسمع كثيراً عن المخترعين المسلمين، وبراءات الاختراع التي نالوها، ولكن ينتهي سماعنا بهم مع نهاية ما قيل عنهم؛ فكيف السبيل لتنشيط إبداع هؤلاء؟ وما السبيل كذلك لاحتضانهم؟ وما دور الحكومات وأصحاب الأموال في رعايتهم وتشجيعهم على الابتكار والاختراع؟

بهذه الأسئلة توجَّهنا للدكتور نعمان الخطيب فأجاب بقوله: المخترعات وبراءات الاختراعات العربية بهرجة إعلامية وغالباً ما تكون عديمة الفائدة.

أمَّا الأستاذ الدكتور زغلول النجَّار فأجاب عن سبل احتضان المبدعين وتشجيعهم بعدَّة نقاط على النحو التالي:

ـ إنشاء مراكز للبحوث العلمية والتقنية المتخصصة، ومراصد فلكية وأرضية ومؤسسات للطاقة على أرفع المستويات العالمية في دول العالم الإسلامي في غير تكرار أو ازدواجية أو عشوائية.

ـ العمل على إعادة كتابة العلوم البحتة والتطبيقية من تصور إسلامي صحيح عن الإنسان والكون وعلاقتهما بالخالق العظيم.

ـ وضع البرامج الزمنية المحددة لترجمة أمهات الكتب العلمية والتقنية المختلفة إلى اللغة العربية وغيرها من اللغات الرئيسية في العالم الإسلامي، والتعليق على ما قد يرد فيها من أخطاء تتعارض مع قضية الإيمان.

ـ العمل على إصدار مؤلفات ودوريات وموسوعات علمية وتقنية إسلامية عامة ومتخصصة باللغة العربية وبغيرها من اللغات المحلية في العالم الإسلامي.

ـ التعاون في إنشاء مراكز للإعلام والتوثيق العلمي والتقني والصناعي، ومصارف للمعلومات ولخدمات تجهيز البيانات ومكتبات شاملة إقليمية وعامة.

ـ التعاون يإنشاء مركز عام ومراكز إقليمية للملكية الصناعية ووثائق براءات الاختراع تقوم بتنسيق تشريعات الملكية الصناعية في العالم الإسلامي، وحماية حقوق المخترعين المسلمين، ودراسة الاتفاقيات الدولية بهذا الخصوص، وتبادل تلك الوثائق مع المراكز المشابهة في العالم.

ـ ربط الصناعة بالبحث العلمي وحرص الحكومات على تشجيع المخترعين وأصحاب براءات الاختراع.

ويتطرق الدكتور الضويان للموضوع ذاته قائلاً: المخترع مكسب للأمة أياً كان اختراعه، ويقيّم اختراعه أهل التخصص من خلال إدارة براءات الاختراع. والمهم هو ترجمة فكرة المخترع إلى واقع من خلال الشركات وأصحاب رؤوس الأموال. وشركاتنا لا زالت استهلاكية وليس صناعية تقنية إنتاجية بمعنى الكلمة، كما أن طموح أصحاب رؤوس الأموال الربح السريع والمريح من خلال ممارسات تجارية تقليدية.

أمَّا الدكتور العجلوني فيقول: السبيل إلى ذلك بتوفير الاحترام لهم وتشجيعهم قبل توفير الإمكانات المادية لهم، أما الحكومات في واقعها الحالي فقد ترى فيهم عبئاً عليها فلا مكان لمبدع لديها، والأفضل لها أن يذهبوا إلى الغرب. أما أصحاب الأموال فيمكن تشجيعهم من خلال تحصيل جزء من أموال الزكاة أو الصدقات للبحث العلمي أو استغلال البحث العلمي لأغراض تحقق لهم ربحاً مادياً وهذا ممكن مما يجعلهم يستثمرون في البحث العلمي بدلاً من الاستثمار في مشاريع لا تحقق ربحاً مادياً إلا لهم، بينما باقي الأمة تخسر.

? وأعدّوا لهم ما استطعتم من قوَّة:

لعل ما يوجد من تطوير للأسلحة والصواريخ على مدى عدَّة أميال في فلسطين وبعض الدول الإسلامية المحتلة؛ ما يشرح النفس من ناحية التقدُّم العلمي في صناعة الأسلحة، فهل لنقل العلوم التقنية والاستفادة منها أثر في نصرة أمَّة الإسلام؟ ثمَّ ألا يدخل في قوله ـ تعالى ـ: {وَأَعِدُّوا لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ..} [الأنفال: 60]؟ وإمكانيَّة التقدُّم بإمكانات ضعيفة؟ وهل المشكلة عدم وجود الطاقات أم عدم تفعيلها؟

يختلف المشاركون في تشخيص الجواب عن هذه القضية؛ فبينما يرى الدكتور نعمان الخطيب أنَّ المشكلة ليست في عدم وجود الطاقات، فإنه في المقابل يرى أنَّ المشكلة في عدم تفعيلها، وفي قبالة رأيه يرى الدكتور باسم خفاجي أنَّ المشكلة ليست في عدم وجود طاقات أو حتى في عدم تفعيلها، ويضيف: المشكلة هي في الانتقال من دائرة الضعف إلى دائرة المبادرة، ومن دوائر التقليد إلى دوائر الإبداع. إن الأمة الإسلامية كانت دائماً أمة مبدعة، وما سيرة غزوة الخندق عنا ببعيد. الأمر في المجال العسكري لا يتوقف فقط على الإبداع في صنع السلاح، ولا شك أن هناك حاجة إلى تعلم التقنيات الحديثة في مجالات التسلح، ولكن لا يجب أن نغفل عن السلاح الحقيقي لكسب المعارك، وهو الإرادة والإيمان، ولا ننسى أن الله ـ تعالى ـ قد طلب منا «ما استطعتم» وليس أكثر من ذلك كونه طريقاً للنصر.

? مراكز الأبحاث التقنيَّة.. دورها وتقويمها:

يرى الدكتور المدهون أنَّ مراكز الأبحاث لها أكبر الأثر في دفع التقنيَّة ودعمها، ولكنَّها بحاجة إلى رعاية صانعي القرار، إلاَّ أنَّ مخرجاتها محدودة ومبعثرة ومتباعدة وأحياناً ركيكة.

وبصيغة حزينة يعبِّر الدكتور الخطيب عن رأيه فيقول: مراكز الأبحاث يجب أن يكون لها الدور الأساسي في نقل وتطوير وتقدم التقنية، ولكن هذه المراكز في العالم العربي والإسلامي ـ في الغالب ـ لا تتعدى أن تكون مجرد تسميات واستكمال لهيكلية الجامعات أو الوزارات، والمصاريف الإدارية والبيروقراطية في هذه المراكز تفوق الصرف على دعم البحث العلمي وتشجيعه.

ويحاول الدكتور الضويان أن يوضح الدور المرجوّ والمأمول من مراكز الأبحاث بقوله: لا يكون لمراكز الأبحاث دور مؤثر ما لم يسبقها إرادة وتخطيط وتحديد أهداف ودعم مالي وفني وبشري وتعاون الشركات معها. ودورها ليس مالياً ولكنه تنسيق بين العقول التقنية والمستفيد المالي من ترجمة أفكار هذه العقول.

وينهي الدكتور العجلوني الحديث حول هذه الفقرة بقوله عن مراكز الأبحاث: لها دور مهم، ولكن واقع الحال لدينا ـ للأسف ـ أن هذه المراكز لا يختلف حالها عن أحوال الأمة في كثير من المجالات السياسية والاقتصادية، حيث تحكمها النزعة الفردية، وتُدار بواسطة الأصدقاء والمحاسيب، ولهذا لا نرى أيّ مردود حقيقي لمراكز الأبحاث في العالم الإسلامي؛ فمخرجاتها هزيلة، وإنتاجها ركيك، فهل سمعت يوماً أن مركز أبحاث إسلامي طوّر منتجاً؟ أو تبنّى مبدعاً؟ أو هل سمعت بمبدع عربي خرج من هذه المراكز؟!

? لغتنا العربية لم لا تستثمر لترجمة كتب التقنية المهمَّة؟!

كان للدولة الصهيونيَّة دور في الاختراعات والتنمية العلميَّة الصناعية، بل ترجموا في جامعاتهم بلغتهم (العبريَّة) كثيراً مما يحتاجون إلى ترجمته، وكذا كان الوضع في كوريا الجنوبية، فلِمَ لا تُترجم الكتب التي تشرح بعض الأعمال التقنيَّة والتنموية والصناعيَّة إلى اللغة العربية، وخصوصاً أنَّ لغتنا العربية تستوعب بمفرداتها اللغوية شتَّى الفنون؟ وهل اللغة عائق في الإبداع والتطور؟ وهل يمكن للأمة أن تتعلم بلغة غيرها؟

حول هذا الأمر يقول الدكتور الضويان: الدولة الصهيونية دولة مؤسسات، وللفرد كلمته فيها، وهي نموذج مكرر من الدول الغربية الصناعية التقنية، فقياداتها قادمة أو مستنسخة من هناك. والترجمة مع غيرها أحد الوسائل الضرورية لتوطين التقنية، لكنها مبعثرة لدينا بلا تخطيط وتحديد أهداف وتنسيق بين مراكز الترجمة إضافة إلى ضعف الدعم لها. واللغة ليست عائقاً دون امتلاك التقنية، بل إن العربية أقدر على مجاراة التقنية من غيرها، ونؤكد هنا ضرورة تعلم اللغات الأخرى المفيدة للمختصين؛ لضمان استمرار التواصل مع الدول ذات الخبرة حسب المجال المطلوب.

من جهته يقول الدكتور باسم خفاجي: إن اللغة العربية ليست عائقاً أمام التقدم التقني، فلا تكاد تخلو مدينة أمريكية من طبيب سوري بارز، والطب في سورية يدرس باللغة العربية، فاللغة لا تمثل عائقاً أمام المنتصرين، ولكنها دائماً شماعة يلقي عليها المتخاذلون همومهم. إن الإعلاء من شأن اللغة هو عنوان للاستقلال الحقيقي وتعميق للشعور بالانتماء، ودليل على الثقة والرسوخ.

ويختلف الدكتور إيهاب الشاعر مع بعض نقاط السؤال المذكور سلفاً قبل عدَّة سطور، حيث يقول: ما زالت الجامعات المرموقة في الدولة الصهيونية تستخدم اللغة الإنجليزية لغةً علميَّة وليست العبرية. ثمَّ يقول: أنا أظن أن اللغة ليست العائق بل إنَّ الخطَّة تكون في مسارين:

الأول: تعلم اللغات الأجنبية لمواكبة العلم والتقدم.

الثاني: الترجمة للمستويات الدنيا كالثانوية والمعاهد.

وإذا صرنا على مستوى الإنتاج والاختراع والاكتفاء بما نصنع فسنعتمد على لغتنا فقط ونترجم كل شيء يخرج.

وفي ختام الحديث عن هذه النقطة يرى الدكتور العجلوني أنَّ الوقوف في وجه الترجمة إلى العربية واستخدامها في العلوم في وطننا الكبير هو أحد أهم وسائل الغرب في إبقائنا منهزمين ومتخلفين. وقد ساهم الكثير من الدارسين بالخارج في هذا الوقوف؛ لأن تعلمهم للغة الإنجليزية ـ مثلاً ـ يعطيهم ميزة على غيرهم ممن لا يعرفها، وإذا كنا نعرف تميز العلماء والباحثين العراقيين وهؤلاء درسوا مناهجهم الجامعية باللغة العربية، فإننا نعلم أيضاً أن الكثير من أبناء الدول العربية الأخرى يدرسون باللغة الإنجليزية؛ فلا هم أتقنوا لغة ولا هم أحسنوا تعلماً.

? العقول المهاجرة والابتعاث.. بين رأيين:

يبتدئ الدكتور إيهاب الشاعر التحدث عن الخطوات الأساسيَّة للاستفادة من جهود المبتكرين المسلمين في العالم الغربي فيقول: هذا السؤال في منتهى الأهميَّة، حيث تُعدّ هذه الخطوة جوهرية في تنشيط الجو الإبداعي والبحث، ويمكن تنفيذها كما يلي:

1ـ إنشاء جمعيات خاصة لجمع المعلومات عن المبتكرين من المسلمين في العالم الغربي، وعناوينهم ومجالات بحوثهم.

2ـ إنشاء دورات وندوات وورش عمل تجمع بين أهل الاختصاص الواحد دورياً.

3ـ إنشاء جسور وحلقة وصل بين هذه الجمعيات والجامعات أو حكومات الدول العربية والإسلامية.

وعند الحديث عن تقويم ظاهرة الابتعاث للخارج هل أفادت الأمة في قضايا التقنية؟ وما دورها في نقل التقنية؟ وكيف نشجع قدوم وتوطين العقول المهاجرة للعودة لبلادهم وخدمتها؟ يجيب الأستاذ الدكتور زغلول النجَّار قائلاً: المسلمون في العالمين الغربي والشرقي يتجاوز عدد العلماء فيهم مئات الآلاف الذين قد هربوا من بلادهم إما نتيجة للاضطهاد السياسي أو جرياً وراء توفر إمكانات البحث العلمي. وفي ظل الحجر الشديد على أبناء العالمين العربي والإسلامي في العالم الغربي لم تعد هناك فائدة حقيقية في الابتعاث والبحث العلمي كالشجرة التي لا بد من نموها في أرضها. ونتيجة الابتعاث لعقود طويلة كانت مخيبة للآمال، ويمكننا تشجيعهم بتوفير الإمكانات اللازمة للبحث العلمي.

من ناحيته ينفي الدكتور إيهاب الشاعر أنَّ الابتعاث أفاد العالم العربي والإسلامي حيث يقول: لا يظهر لي أنَّ الابتعاث أفاد العالم العربي بقدر ما أفاد العالم الغربي إلاَّ ما ندر، وذلك للأسباب التي قلناها من أسباب التخلف التي تمنع المبتعثين من الطموح للأحسن.

وحول دور المبتعثين في نقل التقنية إلى العالم الإسلامي يقول الدكتور المدهون: دورهم كبير في نقل التقنية إذا تم إحسان العمل والسير في الطريق إلى منتهاه، ويتم تشجيعهم بالحوافز، والاستقرار السياسي، وبخلق الانتماء، وبالتواصل معهم.

ومن جهته يقول الدكتور الضويان: لا شك أن الابتعاث للخارج له أهميّة كبيرة، فهو وسيلة للانفتاح التقني وتنمية العقول باحتكاكها بالتجارب المتقدمة الأخرى.

ويضيف قائلاً: لكن لا بد من التخطيط له بشكل جيد من خلال تحديد الأهداف والتخصصات المطلوبة ومساهمة الشركات المعنية لنقل الأفكار التقنية وتوطينها. وقد أفاد هذا الابتعاث الأمة من جانب وأضرَّ بها من جانب آخر، ذلك أنها كانت تسير بشكل فوضوي ولا زالت، فالابتعاث للابتعاث أياً كان التخصص والجهة المبتعث إليها، ولذا عادت بعض العقول بفضلات الحضارة الغربية مع الأسف، وبعضها بقمة إبداعات تلك الحضارة لكن دون رعاية جادة من القطاع الحكومي والخاص. ولذا رأت بعض العقول المبتعثة البقاء هناك لمواصلة تحقيق ذاتهم وإبداعاتهم فهاجرت إلى الأبد، ولا أعتقد بالإمكان استرجاع تلك العقول في الظروف المرئية وليس ذلك من المصلحة؛ لأن البشرية ستُحرم من إسهاماتهم التقنية، فلندع الدول الغربية تستثمرهم بما فيه فائدة لازدهار البشرية.

? هل يمكن توطين العقول المبدعة في بلادنا الإسلاميَّة؟

يتحدث الدكتور باسم خَفَاجِي حول هذه القضيَّة قائلاً: إن من المحزن أن قوانين بلداننا العربية لا تزال تنظر إلى استقطاب العقول على أنه (جلب عمالة) من الخارج، ومن ثم يعامل صاحب العقل الراشد كالعامل في بلداننا العربية، وفي المقابل يعامل كالعالم في بلدان الغرب. لذلك لا غرابة في أن الأمة الإسلامية تعاني من استنزاف قدراتها الفكرية التي تهاجر بلا عودة إلى الغرب بحثاً عن فرصة علمية أو اقتصادية أو بحثاً عن تقدير الذات الذي يفتقد إليه كثير من علماء الأمة في بلادهم.

ويبدي الدكتور باسم تعجُّبه من حال أوضاع بعض المسؤولين في بلادنا الإسلاميَّة بقوله: أليس من المضحك أن تولي دولة من أكبر دول العالم العربي مسؤولية التعامل مع العلماء المهاجرين بالخارج إلى وزير لا يحمل إلا شهادة الابتدائية في دولة عرفت بأنها من أعرق دول العالم العربي في التعليم. كيف يمكن تفسير أن عالماً حاصلاً على شهادة نوبل يجد مسؤولاً عنه في بلده لم يحصل إلا على شهادة الابتدائية، ونحن في مطلع القرن الحادي والعشرين؟!

ويضيف: استقطاب الطاقات يبدأ من التقدير الحقيقي لها، وليس من امتهانها على أبواب السفارات. إن الولايات المتحدة تفتح ذراعيها لعلماء العالم الإسلامي، وتستثنيهم من كثير من قيود الهجرة، بل وتمنحهم الجنسية الأمريكية لكي تجذبهم إلى الاستقرار في الغرب. ولكننا في العالم العربي لا نسمح للعالم ـ في بعض الدول العربية ـ أن يدخل أبناءه لكي يدرسون في الجامعة نفسها التي يدرِّس هو بها؛ لأنهم من (الأجانب). نرفض أحياناً أن نعطيهم إقامة طويلة المدى في بلداننا الإسلامية؛ لأن القوانين تساوي بينهم وبين كل العمال، ولكننا نتحدث كثيراً أفراداً وجماعات عن تكريم العلم والعلماء، وأن المعلم كاد أن يكون رسولاً، ويسأل الكثير من العلماء العرب والمسلمين أنفسهم في بلادنا: ألا يقرأ هؤلاء قوله ـ تعالى ـ: {كَبُرَ مَقْتًا عِندَ اللَّهِ أَن تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ} [الصف: 3]؟!

ويذكر الدكتور المدهون عدة نقاط تساهم في توطين العقول في بلادنا الإسلامية، وهي:

1 ـ التكامل والتوازن يقتضي استيعاب العقول والآلات معاً، وللعقول أولوية.

2 ـ الرعاية المؤسساتية الكاملة.

3 ـ يمكن المساهمة في ذلك من خلال بناء الخطط وبناء المؤسسات.

ومن جهته يؤكد الدكتور الضويان على أهمية توطين العقول الإسلامية في بلدانها، ويشير إلى أنَّ الدول المحترمة تسعى إلى توطين العقول لتوظيفها في دعم عجلة التصنيع وتنمية شعوبها ورفاهيتها، وتستطيع الدول الإسلامية ذلك.

إلاَّ أنَّ الدكتور الضويان تساءل في ختام جوابه بقوله: ولكن الواقع يقول: ماذا ستُقدم هذه الدول لتلك العقول لو هاجرت إليها سوى الكبت والتهميش وتقييد الحريات إضافة إلى الفقر والمرض؟!

وحول تأكيده على أهميَّة جلب العقول وتوطينها يشير الدكتور الخطيب إلى أنَّ الولايات المتحدة استطاعت استقطاب معظم العقول النابهة من العالم الثالث، وأن معظم التطور العلمي والتقدم التكنولوجي في الولايات المتحدة هو ثمرة تلك العقول التي استقطبتها الولايات المتحدة في مدى الأعوام السبعين الماضية منذ بداية الحرب العالمية الثانية، ومعظمها كان من العالمين الإسلامي والعربي.

? كيف نكسر قاعدة التبعية في المجال الاقتصادي؟

التكامل والتعاون الاقتصادي يحمل مؤشرات الانتقال إلى مرحلة الاعتمادية الذاتية، وبذلك نكسر قاعدة التبعية؛ كان هذا جواب الدكتور المدهون عن سؤالنا له عن دور التكامل الاقتصادي بين الدول الإسلامية (التجارة البينية).

ومع تأكيد الدكتور الضويان على أهمية التكامل الاقتصادي الذي يصاحبه التكامل البشري والفني بين الدول الإسلامية وعدّه مطلباً ضرورياً لامتلاك التقنية، إلاَّ أنَّه يقول متأسفاً: ولكن مع كل أسف الحاصل بينها نوع من التكامل الأمني؛ لأنها ليست دول مؤسسات تنظر بعين تنمية الشعوب ورفاهيتها.

ويختم الأستاذ الدكتور زغلول النجَّار الجواب عن هذه النقطة بإجابة مستوعبة فيقول: التكامل الاقتصادي بين الدول العربية والإسلامية هو أحد وسائل الانتعاش الاقتصادي، والذي بدونه لا يمكن تحقيق أية نهضة علمية. ومن الأمور المخزية أن الدول الإسلامية اعتمدت على الاستيراد من الدول الأخرى بدلاً من التكامل الاقتصادي والصناعي والزراعي فيما بينها، مما أدى إلى خنق كثير من النشاطات الصناعية والزراعية في العالم الإسلامي، وإلى استنزاف أموال المسلمين واستغلالهم، وفرض السيطرة عليهم من قِبَل الدول الموردة وتكتلاتها الصناعية والزراعية والتجارية المختلفة. وتجدر الإشارة في ذلك إلى أن حجم التبادل التجاري بين الدول الإسلامية لا يمثل أكثر من (2%) من تجارتها الدولية! وأن هناك أسعاراً خاصة تفرض اليوم على واردات العالم الإسلامي بصفة عامة، كما أن ما تدفعه تلك الدول سنوياً في الاستيراد يكفي لإقامة كبرى الصناعات، ولدعم أضخم المشروعات الزراعية والإنتاجية التي يمكن أن تسد حاجة المسلمين كافة، وتغنيهم عن تحكم التكتلات العالمية المستغلة فيهم. وتكفي الإشارة هنا إلى المبالغ التي دفعت ولا تزال تدفع لاستيراد السيارات والشاحنات والطائرات والأعتدة الحربية.

بهذه الإجابة تكون أجوبة المشاركين في التحقيق قد انتهت، ونسأل الله ـ تعالى ـ أن ينفع بها، وأن يكون هذا التحقيق قد استكمل دوائر الحديث ومحاوره حول هذا الموضوع الحيوي في هذه الحقبة الزمنية، وأنه كان مفيداً لاستطلاع آراء المختصين فيه، والله ولي التوفيق.

ملاحظة:

نشر هذا التحقيق في مجلَّة البيان عدد (238)

================

# حقيقة العلمانيين العرب

حامد بن عبدالله العلي

مما يحير المرء في شأن معشر العلمانيين : جماعات الشغب الثقافي ، والتفلت الأخلاقي في العالم العربي :

أن مشاغباتهم تأتي دائما في مغامرات من اللغو الذي لاطائل تحته ، ويحاولون أن يصنعوا من أنفسهم أبطالا للحرية ، من بطولات وهمية ليس من ورائها اختراع نافع ولا نقد بناء ولا كلمة حق أمام سلطان جائر ولا موقف شجاع ينصر فيه المظلوم من الظالم ، فمن أين يريدون أن يصيروا أبطالا ؟ لا أدري .

يقول محمد عابد الجابري في كتابه تكوين العقل العربي ( وانه لمما له دلالة خاصة في هذا الصدد أن تخلو الحضارة العربية الإسلامية مما يشبه تلك الملاحقات والمحاكمات التي تعرض لها العلماء ، علماء الفلك والطبيعيات ، في أوربا بسبب آرائهم العلمية ، ويكفي التذكير بما تعرضت له مؤلفات كبلر من بتر ومنع من طرف لاهوتيي عصره بسبب تأييده لنظرية كوبرنيك الفلكية المبنية على القول بثبات الشمس ودوران الأرض حولها ، عكس ما كان يعتقد قبل 00 أما في الحضارة العربية الإسلامية فعلى الرغم من أن فكرة كروية الأرض ودورانها كانت شائعة كغيرها من الأفكار العلمية المماثلة فإنها لم تثر أية ردود فعل لا من طرف الفقهاء ولا من جانب الحكام ) ص 345 مركز دراسات الوحدة .

وهذه ملحوظة مهمة جدا ، وهي من الأدلة والبراهين القاطعة على أن صراع العلمانيين مع الشريعة الإسلامية في بلادنا العربية ، ليس بسبب الجدل حول موقف الإسلام من التقدم الحضاري ولا العلوم العصرية النافعة ، وهي العلوم التي تدور في فلك دراسة الطبيعة واكتشافها واختراع ما يفيد الإنسان ، وتعتمد على المنهج التجريبي ، لان الشريعة الإسلامية لا تفرض أي تعارض بين الدين وبين هذه العلوم النافعة ـ بعكس ما كانت الكنيسة تفعل في افتراضها هذا التعارض في أوربا قبل الثورة على سلطان الكنيسة ـ بل الشريعة الإسلامية تدعو إلى تلك العلوم وتحض عليها ، وكلما كان العالم ملتزما بالإسلام كان أزكى عقلا فيها ، وأعظم نفعا للناس .

ولهذا لانكاد نجد أحدا في العالم العربي ــ مثلا ــ في مجال هذه العلوم النافعة نصب عداء للدين ، والسبب ببساطة أنه لم ير في الإسلام ما يشكل عائقا أمامه البتة ، وان وقع من أحد منهم مثل هذا العداء فانه بسبب انتماءاته السياسية أو الثقافية الأخرى لا بسبب الاكتشافات النافعة.

وانما غالب المعادين للشريعة الإسلامية وللتيار الإسلامي في العالم العربي هم قلة من جماعة (تجار الكلام ) ، جل ما لديهم مجرد الكلام المستمر، الممل والمكرور، في الصحف في السخرية والاستهزاء بالدين وأحكام الشريعة والتباهي بأنهم أصحاب قلم يدافعون عن التقدم والعصرنة.

فإذا فتشت عن عصر نتهم وتقدميتهم وجدتها تدور حول الدفاع عن كاتب طعن في القرآن لا من أجل أنه اكتشف شيئا يحرم القرآن اكتشافه ، بل لان المفكر الحر جدا !! الذي يدافعون عنه اكتشف فجأة أنه لم يرق له الإيمان بالبعث بعد الموت مثلا لانه تربى وهو صغير في مدرسة أجنبية أو تلقى ثقافة ملحدة ، فغرس في قلبه أن الأيمان بالغيبيات هو شيء سخيف لا يناسب الإنسان العصري .

كما تدور حول الدفاع عن حرية بيع كتب عن الجنس الرخيص ، أو أفلام من هذا النوع ، أو احترام رأي يدعو إلى اعتبار الرقص بين الجنسين اكتشاف عصري مذهل يعبر عن تقدم الدولة ، ونحو ذلك من القضايا في هذا المستوى أو دونه ، فلاجرم أن ينصبوا العداء للدين إذن .

وقد أهدروا أوقاتهم في اختلاق صراع مع الدين بلا فائدة ، ويضيعون أوقاتنا معهم في قراءة ما يكتبون والرد عليهم خوفا على ضعفاء الأيمان من شبهاتهم .

أما الاكتشافات العلمية النافعة فلا ناقة لهم فيها ولا جمل ، ولاحتى يحسنون أن يضيفوا إليها شيئا مفيدا ، أولا لان هذه ليست صنعتهم إذ لو كانت لهم صنعة مفيدة لحجزتهم عن مشكلة الفراغ التي جعلتهم من تجار الكلام .

وثانيا لانهم انشغلوا بشيء آخر ، انشغلوا بمعاداة دينهم متوهمين أنهم أبطال المعركة مع التخلف يقودون الشعب إلى النور والمستقبل ، متخيلين أنهم سينقذون أمتنا من مثل قوى الظلام التي اضطهدت (جاليلو)00 مساكين !

قرأت لواحد منهم ذات مرة مقالا يبكي فيه على العلماء ـ كما زعمهم ـ الذين قتلوا لانهم صرحوا بمعتقدا تهم في غابر التاريخ ، وينادي من قلب يعتصر ألما لإنقاذ الأمة من اضطهاد العلماء والمفكرين ، أتدرون أي علماء يقصد ؟؟ مثل الحلاج والسهر وردي وابن عربي 00 حفنة من الزنادقة والسحرة لم يحسنوا سوى الدعوة إلى الإلحاد ، ويعدونهم طليعة التفكير الحر في التاريخ الإسلامي 00 لعمرك انهم لفي سكرتهم يعمهون .

فقلت في نفسي لاتخف أيها المخترع الكبير المضطهد والبطل القومي !!! انك متى قررت أن تكون مثل العلماء من الخوارزمي إلي السموأل في علوم الجبر ، وابن الهيثم في علوم البصريات ، وكل من اشتغل بالنافع من علوم الطب والفلك والجغرافيا 00الخ فلن يمسك سوء ، كما لم يمس أولئك سوء في تاريخ الإسلام كله ، بل كانت الحضارة الإسلامية هي التي احتضنتهم ـ حتى غير المسلمين منهم ـ وهيئت لهم أجواء حرية البحث العلمي ، لكن مصيبتنا معكم أنكم لا تحسنون سوى السخرية من الدين وحجاب المرأة ونحو ذلك وتعدون هذه علومكم الباهرة التي تخافون على أنفسكم من الاضطهاد بسبب اكتشافها؟؟

انهم لا يزيدون على استنساخ التناقض الغربي نفسه الذي صفق لنجيب محفوظ لاكتشافه العظيم !! في رواية (أولاد حارتنا) ، وصفق لنصر أبو زيد لاكتشافاته المذهلة في الاستهزاء باليوم الآخر !! وفعل مثل ذلك لسلمان رشدي ، وسائر الأذناب ، زاعما أنهم مفكرون أحرار ، ثم هذا الغرب نفسه يقتل 6000 طفل عراقي كل شهر بسبب الحصار ، ويسحق بدعمه للكيان الصهيوني شعبا بأكمله ، وينفق على التسلح لإرهاب العالم آلاف المليارات ، ويلقي بمليارات الأطنان من منتجاته الغذائية في المحيطات حفاظا على أسعارها ، بينما تموت شعوب تحت الفقر والجوع والتخلف ، ويدعي مع ذلك أنه العالم الحر المتحضر .

وخلاصة وصفهم أن الغرب أرادهم أحرارا عندما يطعنون في دينهم ، وأرادهم عبيدا له في كل ما سوى ذلك ، فكانوا كما أرادهم في كلا الأمرين ، ثم يتفاخرون علينا متباهين أنهم أبطال الحرية !!

المصدر موقع الشيخ حامد العلى حفظه الله تعالى

=============

#{ وقل اعملوا .. }

أ.د. عبدالكريم بكار

خلق الله تعالى الجنة داراً لتكريم أوليائه ، فوفر فيها كل شروط التكريم ؛ وخلق النار داراً لإهانة أعدائه ، فوفر فيها كل شروط الإهانة ؛ وخلق الدنيا داراً لابتلاء الفريقين ، فوفر فيها كل شروط الابتلاء .

إن هذا الدين يعلمنا أن كل ما يحيط بنا في دائرتي الزمان والمكان يمثل بالنسبة لنا ضرورة تتحدانا ، وعلينا أن نعيه ، ونتصرف معه التصرف اللائق بالإنسان المكرم المبتلى .

إن كل لحظة تمر على الإنسان في هذه الحياة هي لحظة اختبار ، وهي في الوقت ذاته ضرورة تتحدى ، وهي (كم) يتطلب منا تكييفاً مناسباً ، فإذا لم نستطع تكيف تلك اللحظة مضت تاركة وراءها قيداً على حرياتنا ووجودنا ! وإن التكييف في موازين هذا الدين السمح قد يأخذ في بعض الأحيان صورة اعتبارية محضة ، كما هو الشأن مع الذي يبادر إلى فراشه فيما يتمكن من حضور صلاة الفجر مع الجماعة ؛ فإنه قد كيف كل لحظه نوم بما انطوت عليه سريرته من قصد . وعلى هذا فإن البطالة والنوم - غير المكيف - ضربان من ضروب الفناء والعبودية المكبلة بالأغلال !

إن كل ما حولنا من فكر ومادة وضرورات هي الأخرى تنادي الإنسان المبتلى كي يتحرر من قيودها بتكييفها ؟ إن الفكرة الصحيحة تتحدانا كي نعممها ، وإن الفكرة الخاطئة تتحدانا كي نفندها ونحجمها ، وإن الفكرة الغامضة تتحدانا ؛ لننفذ إلى جوهرها ، كما أن الفكرة القاصرة تتحدانا لنطورها .

إن الأرض تتحدانا لنزرعها ، فإذا قبضنا على منتوجها تحدانا هو الآخر كي نصنعه على الوجه الأمثل . إن نديف القطن يتحدى النساجين ، فإذا ما صار قماشاً دخل في طور من التحدي جديد ، فلئن كان النساجون قد تحرروا من قيود النديف فقد وقع الخياطون في ضرورة النسيج إلى أن يحيلوه ثوباً جميلاً . فإذا ما عجزت أمة عن أن تخيط نسيجها بين يديها ، أو تزرع أرضاً خصبة تملكها تحول ذاك وهذا إلى قيود على حريتها ووجودها ، وإن من القيود ما يقتل ، ومنها ما يشل ، ومنها ما يشوه ...

وليس انتقال الإنسان من ضرورة إلى أخرى انتكاساً أو زجاً له في دائرة مغلقة - كما قد يتوهم - فنحن إذ نتردد بين مشكلاتنا وحلولها إنما نمضي في حركة لولبية صاعدة تمنحنا المزيد من الحرية والقدرة والتأنق .

إن كل سلعة مصنعة نستوردها هي عبارة عن ضرورة نطوق بها أعناقنا ، وإن أشد المستوردات خطراً على حريتنا تلك التي تكون أكثر إلغاء للعمل عند مستوردها ؛ لأن العمل هو الحرية ، والذي يلغيه يلغي الحرية . ذلك لأن السلعة المصنعة كانت من قبل مادة غفلاً وكان لإمكاننا أن نمارس حريتنا في تصنيعها وتحويلها ، وقد صودرت هذه الحرية حين قام بتشكيلها غيرنا .

وقد أدركت الأمم المتقدمة هذه الحقيقة فتسابقت إلى استيراد المواد الخام ، ووضعت القيود على استيراد السلع المصنعة ؛ فهي لا تبادل الدول الأخرى منها إلا قدراً بقدر حتى تمارس حريتها كاملة ؛ وترى ثمار ما عملته أيديها ..

إن حرية الفرد في المجتمع على قدر عمله ، فإذا ما أخذ من الآخرين أكثر مما يعطيهم فقد من حريته مقدار ما يزيد لهم عنده . وإن أقسى ما يواجهه الحر الكريم أن يرى نفسه غارقاً في عطاء الآخرين دون أن يكون لديه ما يعطيهم ؛ لشعوره بأن ذلك على حساب حريته ، أي : على حساب وجوده ! !

إن العمل هو طريق الخلاص ، وهو طريق تحقيق الذات ؛ ولكن هل كل حركة بركة ، وهل كل عمل هو كسر للقيود وإعتاق للرقاب ؟ ؟

لاريب أن الأمر ليس كذلك ، فالسكون في أيام الفتن - مثلاً - خير من الحركة ، ورب حركة متعجلة قصد منها كسب الحرية أدت إلى الرسف في أغلال العبودية سنين طويلة ، ذلك لأن العمل عبارة عن غزو الصورة للمادة ، وإذا ما شكلت مادة ما على صورة خاطئة فإن هذا قد يعني الحرمان منها باعتبارها كماً ، وباعتبارها كيفاً ؛ لأن أشياء كثيرة قد لا تقبل أن تتشكل إلا مرة واحدة ! ! إنه لا بد من توفر شرطين أساسيين في العمل الكريم ، هما الصواب والإخلاص ، أي القوة والأمانة ، أو القدرة والإرادة ، وإن كان بعض الأعمال يعتمد على أحدهما أكثر من اعتمادها على الآخر ؛ فأعمال الآخرة تعتمد على الإخلاص أكثر من اعتمادها على الصواب ، وإن يكن الصواب أساسياً . وأعمال الدنيا تعتمد على الصواب أكثر من اعتمادها على الإخلاص ، فكلما كان الإخلاص أعظم كانت المثوبة أكبر ، وكلما كان الصواب أكبر كان النجاح أكثر ، تلك هي سنة الله .

وتقاس حيوية المجتمع بقدر ما يمور به من حركة الفكر واليد ؛ وعلى هذا الصعيد فقد فجر الإسلام طاقات المسلم على مستوى القيم ، وعلى مستوى الأداء بصورة قل نظيرها في التاريخ ، فشيد المسلمون في قرن من الزمان حضارة زاهرة ظلت تعطي وتقاوم عوامل الفناء نحواً من عشرة قرون ، ثم صارت المجتمعات الإسلامية ، من أقل مجتمعات الأرض حراكاً وعطاء ، فما هو السبب الذي أفضى إلى هذه الحالة المنكورة ؟

في مقاربة أولية للوقوف على جواب هذا التساؤل الكبير ، يمكن أن نقول أولاً : إن ظاهرة كبرى كظاهرة الركود الحضاري أكبر من أن تفسر بعامل واحد ؛ ولكن بإمكاننا أن نسلط الضوء على عامل نحسب أنه كان على جانب كبير من التأثير في هذه الظاهرة ، هذا العامل هو انخفاض مستوى الإيمان بالله - تعالى - أو انخفاض جوهر ذلك الإيمان ، أعني (الصلة بالله تعالى) . حقاً لقد ظلت قيمة الإيمان في أعلى السلم القيمي للمسلمين ، ولكن ذلك وحده غير كاف لإطلاق الطاقات وتوجيهها نحو بؤرة محددة ما لم تتوفر شروط موضوعية في الإيمان نفسه ، وفي البيئة التي يعمل فيها .

وإنما كان ذلك هو السبب في تصورنا ، لأن بنية الثقافة الإسلامية تتمحور داخلها العلاقات حول ثلاثة أقطاب هي : الله - سبحانه - ، الإنسان ، الطبيعة .

وإذا أردنا تكثيف هذه العلاقات حول قطبين اثنين لكانا : ( الله ، الإنسان ) .

وأما الطبيعة فإنها هامشية نسبياً ما أن وظيفتها تتركز في كونها إحدى الدلائل على وجود الله ، وكونها مجالاً للابتلاء ؛ فالمسلم يكتشفها ويعمرها امتثالاً لأمر الله تعالى ، وهذا على خلاف ما هو مستقر في العقل اليوناني الأوربي الذي تتمحور العلاقات فيه على الإنسان والطبيعة . أما فكرة (الإله) فيه فهي عون على كشف الطبيعة ، أي إنها تقوم بالوظيفة نفسها التي تقوم بها الطبيعة في الثقافة الإسلامية .

ومن هنا فإن تعامل المسلم مع الطبيعة ليس مباشراً ، ونظرته إليها معيارية قيمة ؛ فعلى مقدار ما يتوهج الإيمان في صدره يكون تفاعله مع الطبيعة ويكون عطاؤه الحضاري ، فإذا ما خبا الإيمان في صدره - لسبب من الأسباب - انحبس جهده في البناء الحضاري ، أو فتر . وليس كذلك الشأن عند أهل الحضارة المادية . ولا يكفي أن يتوهج الإيمان في صدور أفراد قليلين في المجتمع الإسلامي لاستئناف مسيرة الحضارة الإسلامية ؛ لأن الحضارة ظاهرة اجتماعيه لا ظاهرة فردية .

ونلمح هذا المعنى شائعاً في الخطاب القرآني كله ؛ فكثيراً ما تفتتح آيات الأوامر والنواهي بـ { يَا أَيُّهَا الَذِينَ آمَنُوا .. } وكثيراً ما تختتم بـ { إن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ .. } { لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ .. } ؛ تذكيراً بأن الايمان المتألق هو الذي يطلق طاقات المسلم ، ويفعل القيم لديه . ولم تشذ الآية الكريمة التي نحن بصددها عن هذا النسق حيث يقول سبحانه : { وقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ ورَسُولُهُ والْمُؤْمِنُونَ وسَتُرَدُّونَ إلَى عَالِمِ الغَيْبِ والشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ } فقد ربطت العمل برؤية الله تعالى لهذا العمل ومجازاته عليه في الآخرة .

وقد أدى الضعف في فاعلية المسلم وحركته اليومية إلى وجود خلل كبير في حياة المسلمين فصارت بلادهم أفقر بلاد الله ، كما أن نظامهم الرمزي الذي كان في يوم من الأيام أغنى نظم العالم بالأبطال العظام صار اليوم مجدباً على مستوى الكم والكيف ! !

ولم يقتصر الأمر على هذا ، بل إن الأزمة على صعيد الفعل أدت إلى وجود أزمة خطيرة على صعيد (الفكر) ؛ ذلك لأن العقل عقلان على حد تعبير (لالاند) عقل فاعل ، وعقل سائد . أما العقل الفاعل فهو النشاط الذهني الذي يقوم به الفكر حين البحث والدراسة ، وهو الذي يصوغ المفاهيم ويقرر المبادئ . وأما العقل السائد فهو مجموع القواعد والمبادئ التي نستخدمها في استدلالاتنا . فليس العقل السائد شيئاً غير الثقافة . والعقل الفاعل أشبه شيء بالرحى ، والعقل السائد أشبه شيء بالقمح يلقى فيها ؛ وماذا تصنع رحى لا قمح فيها ؟ ! ومن أين ستأتي الثقافة لأمة لا تحرك يداً ، ولا تبني نموذجاً إلا في نطاق الضرورات إن كل انحباس في حركة اليد سيؤدي الى انحباس في حركة الفكر ، وكل انخفاض في وتيرة الإيمان سيؤدي - لدى المسلم - إلى انخفاض في تردد اليد . فهل كتبنا الحرف الأول في أبجدية البداية ؟

============

#الاستشراق ومكانته بين المذاهب الفكرية المعاصرة

د. مازن صلاح مطبقاني

Mazen_mutabagani@hotmail.com

المقدمة

عرف المسلمون في القديم الكتابة في الأديان والفرق والمذاهب اهتماماً منهم بمعرفة هذه الفرق وبيان موقف الإسلام منها، وحرصاً منهم على الدفاع عن الإسلام كما يعتنقه أهل السنّة والجماعة أو الغالبية العظمى من الأمة. ومن هذه الكتب الفصل في الملل والنحل وكتاب الفرق للبغدادي ومقالات الإسلاميين للأشعري وغيرها كثير.

وظهرت في تاريخ الأمة اتجاهات فكرية كثيرة جداً ومذاهب وطوائف كالشيعة والباطنية والأشاعرة والمعتزلة والمناطقة وغيره ولقد تصدى لها العلماء المسلمون بحثاً في معتقداتها وأفكارها وأعلامها والرد على الانحرافات في تلك المعتقدات دفاعاً عن الكتاب والسنّة.

وظهرت في العصر الحاضر كتابات تحت عنوان الغزو الفكري أو الاتجاهات الفكرية المعاصرة وأصبحت هذه الاتجاهات إحدى المواد الدراسية في المرحلة الجامعية. وقد نال الاستشراق مكانة بارزة ضمن الحديث عن الغزو الفكري وكذلك ضمن الاتجاهات الفكرية المعاصرة أو التيارات الفكرية المعاصرة.

وتعود بداية الاهتمام بالاستشراق إلى المرحلة التي وقعت فيها معظم البلاد العربية الإسلامية تحت وطأة الاحتلال الغربي وكان للمستشرقين والاستعماريين اهتمام كبير بثقافة الأمة الإسلامية وعقيدتها وتاريخها ومختلف المجالات المعرفية الخاصة بها. كما تولى المستشرقون مسؤوليات وزارات التربية والتعليم فكان لهم اليد الطولى في وضع المناهج الدراسية حتى أصبح التعليم في العالم العربي والإسلامي ينقسم إلى نوعين من التعليم: التعليم الشرعي والتعليم المدني. وظهرت في العالم الإسلامي الحركات التحررية الحقيقية على أيدي العلماء العاملين فكان في الجزائر على سبيل المثال جمعية العلماء المسلمين الجزائريين وعلى رأسها الشيخ عبد الحميد بن باديس فكتب يرد على كثير من افتراءات المستشرقين والمسؤولين الفرنسيين في تهجمهم على الإسلام كما كان يتابع الصحافة الفرنسية حتى إنه كتب ذات مرة ( جريدة الطان وسياسة وخز الدبابيس)

ولكن لم يظهر تخصص أو كتابات متخصصة في الرد على المستشرقين حتى مع وجود بعض الكتابات المحدودة كرد الشيخ محمد عبده على الفيلسوف الفرنسي رينان وهناتو وما كتبه الأستاذ محمد كرد علي وغيرهم عن الاستشراق.

ولعل أول من تنبه إلى أهمية دراسة الاستشراق دراسة منتظمة هو الشيخ الدكتور مصطفى السباعي الذي يمكن أن نعدّه بحق رائد دراسة الاستشراق في العصر الحاضر حيث زار المستشرقين في معاقلهم وكلياتهم وجامعاتهم ودخل معهم في محاورات ومناظرات. وكم كتب رحمه الله في مجلته (حضارة الإسلام) كما نشر كتاباً مهماً في هذا المجال يرد على جولدزيهر وهو كتابه ( السنّة ومكانتها في التشريع الإسلامي). الذي صدرت طبعته الأولى عام 1368هـ(1949م) هذا بالإضافة إلى كتابه القيم الصغير حجماً الكبير في أهميته وقيمته العلمية (الاستشراق والمستشرقون ما لهم وما عليهم). وبإمكاننا أن نضيف كذلك كتابه القيم عن المرأة بعنوان ( المرأة بين الفقه والقانون) ولعل ممن شارك في الريادة كذلك الدكتور محمد البهي رحمه الله في كتابه: الفكر الإسلامي الحديث وصلته بالاستعمار الغربي الذي صدرت طبعته الأولى عام 1376هـ (1957م)

ولكن ما أهمية دراسة الاستشراق وما موقعه بين المذاهب الفكرية المعاصرة؟ صحيح أن الغرب ألغى مصطلح استشراق في المؤتمر الدولي للجمعية الدولية للمستشرقين (عام 1973م) التي أصبحت تسمى " الجمعية الدولية للدراسات الإنسانية حول آسيا وأفريقيا" ثم أصبحت "الجمعية الدولية للدراسات الأسيوية والشمال أفريقية" ، ولكننا في العالم الإسلامي ما نزال نصر على هذا المصطلح. وقد يكون للغرب مبرره في رفض التسمية وللمسلمين مبرّراتهم في الاحتفاظ بهذا الاسم. ومهما يكن الأمر فإننا في العالم الإسلامي نَعُدُّ الاستشراق (الدراسات العربية والإسلامية في الغرب) من المواد التي تدرس ضمن مقررات الدراسات الإسلامية بصفته أحد المذاهب الفكرية الهدّامة، ولذلك فإن العديد من الكتب المتخصصة في الاتجاهات الفكرية أو المذاهب الفكرية المعاصرة تجعل الاستشراق أحد هذه المذاهب أو الاتجاهات. وتتناول الاستشراق بصورة نمطية مكررة نشأة الاستشراق، دوافع الاستشراق، وأهدافه، ومدارسه الجغرافية أو الفكرية.

ولكن الحقيقة أن مصطلح استشراق ما زال قائماً في الغرب حتى وإن تخلوا عنه رسمياً فهذه شبكة المعلومات العالمية أو الشبكة العنكبوتية (الإنترنت) تقدم آلاف المواقع المتخصصة في الاستشراق قديماً وحديثاً. فهم وإن تخلوا عنه في العلن فإنه ما زال قائماً في أدبياتهم وفي نشاطاتهم الفكرية المعاصرة.

فهل الاستشراق حقاً أحد المذاهب الفكرية أو الاتجاهات الفكرية ؟ وهل ينطبق على الاستشراق ما ينطبق على الوجودية أو الماركسية أو العولمة أو الماسونية ؟ هل يمكن البحث في الاستشراق بعيداً عن مثل هذا التصنيف ؟وهل يمكن البحث فيه دون الأفكار المسبقة بأن الاستشراق شر كله؟

ينوي الباحث في هذا البحث محاولة التوصل إلى أسباب تصنيف الاستشراق ضمن الأفكار الهدّامة بهدف الخروج من الأفكار المسبقة محاولاً التوصل إلى جعل الاستشراق ضمن دراسة الغرب دراسة شاملة بحيث لا تأخذ دراستنا لهم في مجال الدراسات العربية الإسلامية أكثر مما يجب. ويمكن أن نتساءل هل يشغل الغرب نفسه بما نقوله عنه ،وهل جعل لهذا الأمر أقساماً علمية ؟

وينبغي أن ندرك أنّ الدراسات العربية الإسلامية في الغرب تستمد قوتها وانتشارها من خلال الإمكانات الضخمة المتوفرة لها التي تكفل لها الانتشار في أنحاء العالم ، فرابطة دراسات الشرق الأوسط الأمريكية تضم آلاف الباحثين من شتى أقطار الأرض، فهل نسعى نحن في العالم الإسلامي إلى دراسة أنفسنا وتكوين الرابطات المتخصصة في ذلك ويكون لنا يد في توجيهها الوجهة التي توضح الصورة الحقيقية للإسلام والمسلمين مع اعتبار أن دراسة الإسلام والمسلمين حق من حقوق أي شعب يريد أن يقوم بهذه الدراسة.

هذا وسوف ينقسم هذا البحث إلى مبحثين أحدهما موقف العلماء المسلمين في كتاباتهم حول الغزو الفكري والاتجاهات الفكرية المعاصرة من الاستشراق. أما المبحث الثاني فهو أين يجب أن تقع دراسة الاستشراق في العصر الحاضر.

المبحث الأول

الاستشراق والغزو الفكري والاتجاهات الفكرية المعاصرة

يمكننا أن نبدأ بتعريف التيارات الفكرية المعاصرة بأنها المذاهب التي يتخذها مجموعة من الناس ويعتنقوها ويسعون إلى نشرها وترويجها بكل الوسائل المتاحة لهم. ولهذه المذاهب أدبياتها وأعلامها ومصادرها ومناهجها. وقد تكون هذه التيارات فلسفية أو اجتماعية أو دينية. ولعل من المذاهب الفكرية المعاصرة التي اتفقت معظم الكتب في دراستها الوجودية والبهائية والقاديانية والشيوعية والاشتراكية والرأسمالية. ولهذه المذاهب أعلامها الذين لا يمكن فهمها إلاّ من خلال سيرهم ( كما فعل العقاد بالشيوعية) وكتاباتهم ونشاطاتهم.

وقبل أن نحدد فيما إذا كان الاستشراق أحد المذاهب الفكرية المعاصرة نتناول أولاً بعض ما كتبه عدد من الباحثين المسلمين حول الاستشراق. وقد وجدت أن جامعة الإمام محمد ابن سعود الإسلامية حينما عقدت مؤتمراً حول الفقه الإسلامي عام 1396هـ جعلت محوراً من محاوره الغزو الفكري ونشرت هذه البحوث في كتاب تحت عنوان (الغزو الفكري والتيارات المعادية للإسلام ) وقد جاء الحديث عن الاستشراق في أكثر من بحث حيث جاء في أحدها قول الباحث عن الدراسات الاستشراقية بأنها " دراسات في كثير من نواحيها تتميز بالصبر والجلد ومحاولة الاستيعاب والتحليل، ولكنها في نفس الوقت تحتوي على أخطاء جسيمة : عمداً أو جهلاً ثم هي في غالبها لم يقصد بها خدمة العلم والفكر، ولإشباع رغبة خاصة أو عامة في البحث والاطلاع، وإنما كانت في جملتها خدمة مباشرة للدول الاستعمارية أو للكنائس الأوروبية، بغرض تطويق الإسلام وضربه على وعي به وبصر به واقتلاع جوهره الحي النابض الذي يشكل أكبر الأخطار بالنسبة لهم."(1)

ويضيف الباحث قائلاً: "ومن ثم حفلت هذه الدراسات بضروب التشكيك، والنقد الجائر ، وانطلقت منها الشبهات المدروسة واحدة تلو الأخرى، طعناً في كل نواحي الإسلام بدءاً بالقرآن العظيم ذاته، وانتهاءً بسنة النبي صلى الله عليه وسلم ورواتها وما بين ذلك من اتهام النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، وكمس لكل معالم المجد والخير في التاريخ الإسلامي المشرق، حتى لنستطيع القول أنه لم تسلم ناحية واحدة من نواحي الإسلام: عقيدة ومنهجاً ونظاماً وتطبيقاً وتاريخاً وأمة بل أرسلت عليها سهام حاقدة من هذه الدراسات المنظمة..." (2)

وكتب عبد الكريم الخطيب في بحثه المقدم للمؤتمر السالف الذكر يذكر أن الاستشراق "حركة ولدت في هذا العصر الحديث ، وهي – في ظاهرها- حركة علمية يراد بها دراسة التراث الشرقي في معتقداته وآدابه، ولكنها تبغي من وراء هذا التعرف على منابع هذا التراث، محاولة صرف أهله عنه ليولوا وجوههم شطر الغرب ويتعلقوا بركاب حضارته."(3) ويشير فيما بعد إلى أن معظم المستشرقين " قد غلبتهم العصبية على أن يقولوا كلمة الحق وأن ينطقوا بما في أيديهم من شواهد، فقد كابروا ، ولجّوا في الضلال، ورموا الإسلام بكل ما تحمل صدورهم من غل، وما تنفث أقلامهم من سم، حتى فضح ذلك عند من لا يعرفون الإسلام من قومهم حين رأوا سباباً وشتائم لا تتفق مع منهج العلم، الذي من شأنه أن يعرض الحقائق، ويترك للناس الحكم عليها، دون أن يمزجها بمرارة الحقد ، ونفثات عداوته.."(4)

وكتب أحمد بشير حول " الغزو الفكري الاستشراقي" حيث ذكر أن أهداف الاستشراق تتلخص فيما يأتي:

” 1 - تفتيت وحدة المسلمين وإضعافها.

2. التمهيد لاستعمار العالم الإسلامي

3. استغلال الثروات والانتقام من المسلمين الذين قاموا في القرون الوسطى في وجه المسيحية" . ويضيف قائلاً :" وإننا لنجد في دراسات المستشرقين الأدبية والإسلامية تركيزاً حول أهدافهم لإيجاد التخاذل الروحي والشعور بالنقص في نفوس المسلمين وحمهلم على الخضوع للتوجيهات الغربية."(5)

وتناولت الدكتورة عائشة عبد الرحمن ( بنت الشاطئ ) هذا الموضوع بأسلوب مختلف حيث جاء في كتابها القيم (تراثنا بين ماض وحاضر) عن المستشرقين قولها (وعلماء الاستشراق بشر مثلنا، يتعصبون لدينهم وقومياتهم مثلما نتعصب لديننا وقوميتنا . وما ينبغي أن نلومهم على هذا التعصب أو نغضب لعجزهم عن التجرد من أهوائهم، وإنما نحن هنا بصدد قضية علمية وتاريخية، تلزمنا بأن نكون على وعي بما لابس عمل أكثر المستشرقين من انحراف لم يكن منه بد، بحكم ما استهدف الاستشراق في نشأته الأولى من خدمة الكنيسة."(6)

وتضيف المؤلفة قولها:" وليس عليهم بأس في أن يقولوا فينا ما يقولون، متى كانت أقوالهم معبرة عن رأي لهم أو صدى لاستهوائهم بما راج في بيئاتهم من أقاويل عنّا، لكن البأس كل البأس أن يحمل " البحث العلمي" وزر هذه الأهواء فتخرج بحوث لهم مشحونة بأباطيل يزعمون أنها مما هدى إليه استقراؤهم لتراثنا، ويفرضون له حرمة علمية حين يسوقون وشواهد من نصوص في التراث انحرف بها الهوى والتعصب، فضلوا ضلالاً بعيداً".(7)

ولعل نموذج الدكتورة عائشة عبد الرحمن لا يتكرر في محاولة الفهم العميق للاستشراق والاعتذار عنهم بأنهم يخدمون أهدافهم القومية والدينية فنعود إلى كتّاب آخرين فنحد باحثاً آخر يرجع نشأة الاستشراق إلى الحروب الصليبية فيذكر أن من أخطر نتائجها " الحرب العلمية والفكرية التي شنّها المستشرقون على المسلمين وظهور عدد من تلامذتهم والمعجبين بأفكارهم من المسلمين ممن أخذوا يرددون آراءهم ويروجون لمفترياتهم."(8)

وتظهر الحماسة في كتابة الشيخ محمد الغزالي وكيف لا وهو في معرض الدفاع عن الشريعة ضد مطاعن المستشرقين( وهذا عنوان كتابه) فيكتب قائلاً :"إن الاستشراق كهانة جديدة تلبس مسوح العلم والرهبانية في البحث ، وهي أبعد ما تكون عن بيئة العلم والتجرد، وجمهرة المستشرقين مستأجرين لإهانة الإسلام وتشويه محاسنه والافتراء عليه."(9) ويزيد الأمر توضيحاً عند حديثه عن المستشرقين الأمريكيين بقوله:"والأمريكيون منذ دخلوا ميدان التبشير والاستشراق زادوا القوى المناوئة للإسلام شراسة وإصراراً وأمدوها بسيل موصول من المال والرجال فهي لا تني تواصل هجومها العلمي والعملي ودعايتها الماهرة ، ونحن نعرف أن من حق غيرنا التمسك بدينه والدعوة إليه واستقبال الداخلين فيه ، إلاّ أننا نقيّد هذا الحق بشرط واحد أن يكون بوسائل شرعية وصريحة. أما اختلاس عقائد الآخرين بالرغبة، أو الرهبة ، واستباحة الغش والكذب والمكر والرشوة فذلك ما نقف له بالمرصاد."(10)

ويعد باحث مسلم يعيش في بريطانيا الاستشراق ضمن القوى التي حاولت تدمير حضارات الأمم الشرقية بقوله:" ويجب أن نتذكر بأن الاستشراق لم يكن هو الاتجاه الوحيد الذي حاول أن يدمر حضارات الأمم الشرقية فهناك مجال آخر تعاون تعاوناً شديداً مع الاستشراق لخدمة الأهداف الاستعمارية ألا وهو علم الإنسان الذي غدا ابناً آخر للإمبريالية."(11)

ولم يغفل الباحثون المسلمون نظرة الغربيين لهذا المجال المعرفي فذكر محمد أحمد دياب أن الاستشراق "علم له أصوله ومقوماته وخططه وأهدافه ، ولا ننكر ما قام به المشتغلون به من بحوث ودراسات في الميادين العلمية المختلفة وفي العلوم الإسلامية بخاصة كانت بحق لها دورها الإيجابي وقيمتها العلمية كما كان لها أيضاً دورها السلبي."(12) ولكنه مع ذلك يرى أن " علم الاستشراق إنما هو حرب الكلمة التي شنها الغرب المسيحي على الشرق الإسلامي منذ القرن الثامن عشر وما زال يستخدمها ضدنا حتى الآن ، وإن لبست أثواباً مختلفة على مر العصور تحت شعار الموضوعية والمنهجية كي يحقق أهدافه."(13)

ويتنبه دياب إلى نظرة الغربيين أنفسهم إلى هذا المجال فيذكر أنه عندهم "مادة علمية معترف بها عالمياً ويكاد يكون ممثلاً في كل جامعة من الجامعات الغربية مع وجود أعداد كبيرة من الكوادر التخصصية في الميادين الاستشراقية."(14)

وكما ذكرنا أن الاستشراق عند كثير من الباحثين المسلمين إنما هو أسلوب من أساليب الغزو الفكري فقد كتب محمد عبد الفتاح عليان حول ذلك قائلاً:" ومن بين أساليب الغزو الفكري كان الاستشراق مغلفاً خطورته بشكل علمي واضعاً سمّه في عسل المنهج، والجديد فيه، غير أن خلق المسلم يقتضينا أن نقرر أن استغلال الاستعمار للاستشراق ليس معناه أن الاستشراق كله جملة وتفصيلاً دار في هذا الفلك، إذ لم نعدم من أدى به إنصافه إلى بيان الحقيقة ، ولئن كان هؤلاء قد نقلوا من حقيقة الحضارة الإسلامية أصالتها وأفادوا بها الغرب في نهضته فإن هذا قد اعترف به منصفون منهم وإن قلّوا."(15)

ويتناول عدنان الوزان الاستشراق على أنه اتجاه فكري يعني بدارسة الحياة الحضارية للأمم الشرقية بصفة عامة ودراسة حضارة الإسلام بصفة خاصة.كما يتناوله من ناحية أهداف الاستشراق حيث يرى أن الاستشراق انطلق من فكرة واحدة إنما هي فكرة الغزو الاستعماري والعقائدي " بقصد التمكين للحضارة الغربية المسيحية المادية من السيطرة على الحضارة الإسلامية وإلغاء دورها في الحياة الاجتماعية والسياسية والأخلاقية والاقتصادية وتشكيك المسلمين بدينهم ومحاولة إبعادهم وغيرهم عنه."(16) ويؤكد الوزان هذا الأمر في مواقع أخرى من كتابه حيث يقول في موضع آخر:" إن من أهداف المستشرقين الوقوف في وجه الشعوب التي لا تدين بالإسلام ليمنعوهم من الدخول في دين الحق الدين الإسلامي بما يعملون جاهدين في تشويه الإسلام وتغيير الصورة الحقيقية لهذا الدين الحنيف وإن إظهار الإسلام بصورة محرفة مستكرهة أمام الشعوب غير المسلمة بقصد صدهم عن سبيل الله وما نزل من الحق."(17)

ولئن كانت الكتابات السابقة ركزت على الجوانب السلبية في الاستشراق لأنها رأت أن الدراسات الاستشراقية التقليدية التي يرى البعض أنها بدأت بمدرسة اللغات الشرقية الحية التي أسست في باريس عام 1795 وترأسها في البداية المستشرق الفرنسي المشهور سلفستر دي ساسي ولم يعرفوا من الاستشراق أكثر من كتابات جولدزيهر وشاخت ومارجليوث ولامانس وغيرهم من كبار الباحثين الغربيين في الدراسات الإسلامية فإن رد الفعل اتسم في كثير من الأحيان بالحدة والقسوة والعنف. ولعل ذلك حق لهم حيث إن العقيدة والهوية هما أهم ما يملك الإنسان فكيف يرضى أن يسكت على الطعن فيهما. ولذلك قال عدنان الوزان:" وأيقنت أن ما كتب ضد هؤلاء المستشرقين إنما هو حق ، ولا أحد يلومنا إذا عزمنا على مقاومة هؤلاء المستشرقين وأخرجناهم من مكانتهم وأزحنا الأغشية التي يلفونها على وجوههم ومنازلتهم منازلة الند للند في ميدان الجدل العلمي والمناظرة الموضوعية."(18)

ومن خلال دراسة كتابات العرب والمسلمين الذين درسوا في الغرب أو تأثروا بالمناهج الفكرية الغربية فإن الاستشراق وإن كان لا يمكن تصنيفه ضمن المذاهب الفكرية كالماسونية أو الوجودية أو الشيوعية ولكنه اتجاه فكري معين يعتمد على الأسس الفكرية الغربية والمسلمات الغربية. فالغربي الذي مرّ بمرحلة " التنوير" الغربية التي دعت إلى الفصل بين الدين والحياة أو العلمانية بأوسع معانيها، الغرب الذي حارب ما يسمى بالمقدس فأخذوا يناقشون كتبهم المقدسة ويخضعونها للتحليل والنقد، كما أن هذا الغرب الذي ظهرت فيه التيارات الفكرية التي تسمى الحداثة وما بعد الحداثة وانعكست هذه الأفكار والتيارات على الدراسات العربية الإسلامية فإنه أقرب إلى أن يكون اتجاه فكري معاصر يصلح أن يدرس ضمن الاتجاهات الفكرية المعاصرة.

ومما يؤيد هذا الأمر أنه ظهر عدد من الكتاب في العالم العربي لا يرون في التاريخ الإسلامي إلاّ سلسلة من الدكتاتوريات الحاكمة وأن العالم الإسلامي لم يعرف الحكم العادل فهم قد أخذوا عن المستشرقين النظرة السلبية للتاريخ الإسلامي ولو أنهم نظروا بعين العدل والإنصاف لهذا التاريخ لرأوا أن الأمة الإسلامية رغم بعض الصفحات المظلمة في تاريخها شأنها شأن أي أمة عظيمة إلاّ أن المواطن المسلم كان عزيزاً وتمتع بكرامته الإنسانية إلى أبعد حد وإلاّ فكيف ظهرت هذه الإبداعات العلمية التي ما زلنا لم نكشف كل كنوزها. كيف استطاع المسلمون أن يبنوا حضارة سامقة وهم كما تصورهم الكتابات الاستشراقية أو المتأثرة بالروح الاستشراقية مجموعة من المواطنين الذين يخضعون لحكام جبابرة كالحجاج أو غيره. ولعل من الطرائف أن تخصص كاتبة في مجلة سيّارة مقالتين أو أكثر للشعراء السود ومأساتهم –كما تزعم- لتخرج من هذين المقالين أن الإسلام الذي حرم العنصرية نظرياً فإن المجتمع المسلم ظل عنصرياً قلباً وقالباً.

المبحث الثاني

مكانة دراسة الاستشراق في العصر الحاضر

معرفة الآخر أمر نبه إليه القرآن الكريم في أكثر من موضع حيث أكد على أهمية الدعوة إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة والمجادلة بالتي هي أحسن.(ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن) كما أكد على أهمية الدعوة إلى الله وأوضح القرآن الكريم عقائد الأمم الأخرى وبخاصة أهل الكتاب فبين ما هم عليه من اعتقادات وسلوك. كما بيّن معتقدات المشركين وسلوكهم وأخلاقهم. وفي هذا إشارة قوية إلى أهمية معرفة الآخر حتى يستطيع أن يدعو المسلم إلى ربه على بصيرة كما جاء في قوله تعالى: (قل هذه سبيلي أدعو إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعني)

وقد أدرك علماء المسلمين منذ القرون الأولى أهمية معرفة الأمم والشعوب الأخرى ليس فقط من النواحي العقدية ولكن أيضاً من النواحي الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والفكرية والثقافية وتعرفوا إلى الحضارات الأخرى وأخذوا منها ما ناسبهم وتركوا ما خالفهم. وكان من أهم الكتابات في المجالات العقدية ما كتبه ابن حزم في الملل والنحل وما كتبه البغدادي في الفرق وما كتبه الأشعري في مقالات الإسلاميين وما كتبه بعد ذلك ابن تيمية في اقتضاء الصراط المستقيم وغيره وما كتبه ابن قيم الجوزية كذلك. ويمكن أن نضيف إلى هذه الكتابات ما كتبه الجغرافيون العرب في وصف البلدان المختلفة.

ولما كان العصر الحاضر وبدأ احتكاك المسلمين بالاستشراق من خلال بدأ البعثات العلمية إلى دول أوروبا المختلفة والتي بدأت في فرنسا ثم غيرها من الدول الأوروبية ثم جاء العصر الحاضر وانطلقت البعثات إلى الولايات المتحدة الأمريكية وتجمع مئات الآلاف من الطلاب العرب والمسلمين هناك. كما كان للاحتلال الأجنبي لديار المسلمين دور في التعرف إلى الاستشراق وكتابات المستشرقين حول الإسلام والمسلمين.

ولكن دراسة الاستشراق بدأت من علماء الشريعة المسلمين الذين أخذوا على عاتقهم الذب عن هذا الدين فكان زعماء الحركات الإصلاحية وأعلام العلماء المسلمين هم الذين تصدوا للهجمة الاستشراقية على عقيدة هذه الأمة وتاريخها وتراثها الفكري والثقافي والحضاري. وبرز من هؤلاء كثير منهم الدكتور مصطفى السباعي ومحمد البهي وعبد الحميد بن باديس وغيرهم كثير.

وقبل حوالي عشرين سنة ظهر كتاب إدوارد سعيد حول الاستشراق فكان هذا إيذاناً بأن ثمة آخرون من خارج العلوم الشرعية يمكن أن يكتبوا في نقد الاستشراق والتعرف إليه عن قرب. فأحدث كتاب إدوارد سعيد ضجة في الغرب كما تناوله علماء المسلمين بالدراسة والنقد. فأصبح من اللافت للانتباه أن دارسة الاستشراق لم تعد مقتصرة على علماء الشريعة والدراسات الإسلامية المختلفة كالفقه والحديث والتفسير واللغة العربية فقد انضم إلى هؤلاء في السنوات الماضية أساتذة في مجال اللغة الإنجليزية وعلم الاجتماع والاتصالات والعلوم السياسية. ولعل أبرز من كتب حول الاستشراق من خارج التخصص في الدراسات الإسلامية إدوارد سعيد المتخصص في الأدب الإنجليزي المقارن. وهذا كتاب عدنان الوزان كذلك وهو متخصص في اللغة الإنجليزية، كما كتب عن الاستشراق الدكتور أبو بكر باقادر وهو متخصص في علم الاجتماع، أما في العلوم السياسية والإعلام فقد كتب الدكتور جمال الشلبي عدة بحوث تناول فيها الاستشراق المعاصر(19).

وقد وجه النقد إلى الكتابات الإسلامية بأنها تنطلق من العداء للاستشراق كما في كتابات أنور الجندي أو بعض الكتابات الأزهرية أو غيرها كتلك التي أشرنا إليها في بداية الموضوع. وقد أفاض فؤاد زكريا في نقد ما أسماه الاتجاه الديني في نقد الاستشراق حتى إنه أخذ على بعض الباحثين "الإسلاميين" أنهم لا يعرفون التوثيق العلمي في كتاباتهم أو أن أمانتهم العلمية ليست كما ينبغي. وقد يكون محقاً في بعض هذا النقد. ولكن الحقيقة أن علماء الشريعة المسلمين من المفترض أنهم ينطلقون في نقدهم للاستشراق أو للغرب عموماً من قوله تعالى (ولا يجرمنّكم شنآن قوم على ألاّ تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى واتقوا الله)

كما أن السيد محمد الشاهد تناول هذه القضية في بحث له حول نقد الاستشراق في الكتابات الإسلامية المعاصرة ولعله أضاف إن كثيراً من الكتابات التي تتناول الاستشراق لا تعرف من الاستشراق إلاّ بعض الكتابات القليلة للمستشرقين التي تمت ترجمتها إلى اللغات الإسلامية فتأتي كتاباتهم نقلاً عن بعضهم البعض. فما أكثر الكتابات التي انتقدت جولدزيهر ومعظمها إن لم يكن كلها تنتقد ما ترجم لهذا المستشرق للغة العربية أما ما ترجم له إلى اللغة الإنجليزية أم ما كتبه في لغته الأصلية فإن هذه الكتابات لا تكاد تكون موجودة. كما انتقد هؤلاء في عدم معرفتهم بجهود المستشرقين المعاصرين في التعريف بالإسلام ونقد النصرانية وضرب كثيراً من الأمثلة على ذلك من الاستشراق الألماني المعاصر. وللدكتور قاسم السامرائي ملاحظات شبيهة بحكم احتكاكه بالاستشراق الهولندي ومعرفته بهم معرفة وثيقة.

ولعل الكتابات في العصر الحاضر تناولت العلاقة بين الإسلام والغرب أو العالم العربي والغرب وبخاصة في ضوء ازدياد قوة وسائل الإعلام وانتشار نفوذها حتى أصبحت كما ذكر الرئيس البوسني علي عزت بيجوفيتش في كتابه القيم ( الإسلام بين الشرق والغرب) أكثر خطورة من الدكتاتوريات السابقة لقدرته الطاغية على التأثير في الجماهير. ولعل هذا ما يفسر لنا دخول علماء السياسية والاتصال لهذا المجال الحيوي. فهذا غسان سلامة ( المتخصص في العلوم السياسية ) يرى أن انتشار مراكز البحث والمعاهد وأقسام الدراسات الشرق أوسطية والمكتبات إنما هي " نوع من الامتداد الطبيعي والمنطقي لظاهرة الاستشراق وأطلق عليها "مرحلة الاستشراق الجديدة."(20)

ولكن التساؤل الذي يطرح نفسه بإلحاح في أي مجال من مجالات المعرفة ينبغي أن ندرس الاستشراق؟ وهل الاستشراق شيء واحد أو إنه متعدد؟ الحقيقة إن الاستشراق لم يعد شيئاً واحداً من ناحية الدراسة والتخصص فقد توزعت اهتمامات المستشرقين القدماء إلى عشرات التخصصات حيث أصبحت دراسة الإسلام والعالم الإسلامي تتم من خلال أقسام الاجتماع والجغرافيا والتاريخ وعلم الإنسان والأديان ومن خلال أقسام دراسات المناطق والدراسات الإقليمية وغيرها من الأقسام.

فبالرغم من تعدد الأقسام التي تدرس العالم الإسلامي وقضاياه لكن كثيراً من الجامعات تحافظ على وجود قسم دراسات الشرق الأدنى أو الشرق الأوسط للتنسيق فيما بينها وكأنه الرابط الأخير بالدراسات الاستشراقية القديمة والتي يتم فيها دراسة كتابات المستشرقين التقليديين مثل بروكلمان وجولدزيهر وشاخت وبوزوورث وبرنارد لويس وغيرهم. وفي هذه الأقسام يتم تسجيل رسائل الدراسات العليا كما يحدث في كل من جامعة برنستون وجامعة كولومبيا وجامعة كاليفورنيا في بيركلي وفي جامعة كاليفورنيا بمدينة لوس أنجلوس.

وقد أصبح يشارك الاهتمام بالدراسات العربية والإسلامية مراكز البحوث والمعاهد المتخصصة في دراسة الشرق الأوسط وهذه وإن لم تكن أكاديمية في مناهجها ولكنها تستعين بالأكاديميين أو إن الأكاديميين هم الذين يقومون بالعمل فيها وإدارتها. وإن كانت بعض المعاهد تستعين بالسياسيين أو الدبلوماسيين القدامى مثل معهد الشرق الأوسط بواشنطن العاصمة أو معهد دراسات الشرق الأدنى في واشنطن أيضاً.

والسؤال كيف ندرس الاستشراق هل هو اتجاه فكري يتم دراسته من خلال أقسام كليات الشريعة واللغة العربية والعلوم الاجتماعية أو يمكن أن نفرد دراسة الاستشراق من خلال كليات يمكن أن نطلق عليها كليات الدراسات الأوروبية والأمريكية؟ ما دام الاستشراق قد انتقل من الوضع القديم إلى وضع أصبح فيه يتناول العالم الإسلامي من جميع الجوانب ويستخدم مناهج البحث الخاصة بالعلوم المختلفة كالعلوم الاجتماعية وعلوم الاتصال وعلوم اللغة وغيرها. وما دام الباحث الغربي الذي ينطلق لدراسة العالم الإسلامي إنما هو ابن بيئته ولا يختلف تكوينه الفكري والمنهجي عن أي أكاديمي غربي في أي مجال من المجالات المختلفة.

ولذلك فإن المطلوب في مواجهة الهجمة الاستشراقية أن نعرف الغرب معرفة دقيقة في جميع جوانب الحياة فلا بد أن يتم دراسة الغرب في أقسام علم الاجتماع والتاريخ واللغة وعلم النفس والاتصال وقد حضرت مؤتمراً في عمّان (10-12 أبريل 2000م) حول العلاقات العربية الأمريكية وقد تناول عدد من الباحثين صورة العرب والمسلمين في الإعلام الأمريكي ولكنهم لم يتعمقوا في فهم هذا الإعلام وعلاقته بالحكومة الأمريكية وهل تستطيع الحكومة الأمريكية التأثير في وسائل الإعلام. فقد فعلت هذا الأمر في حرب الخليج الثانية حيث أصرت على أن تكون أخبار هذه الحرب صادرة عن غرفة عمليات تابعة للقوات الأمريكية أو قوات الحلفاء. ولم تشر أي من الأوراق المقدمة لارتباط الحكومة الأمريكية بعقود تسلح مع عدد من كبريات الشركات الأمريكية التي تمتلك بعض كبريات وسائل الإعلام الأمريكية كما أشار مؤلفا كتاب( مصادر غير موثوقة.)(21)

ولتكن البداية في دراسة الاستشراق في العصر الحاضر أن ينطلق الباحث المسلم بمعرفة الإسلام معرفة حقيقية من مصادره الأصلية فيعرف كيف دوّن القرآن الكريم وكيف دوّن الحديث الشريف وما مصطلح الحديث كما عليه أن يعرف أساسيات الإسلام وثوابته الكبرى كما لا يمنع أن يعرف بعض التفاصيل في الفقه والحديث والتفسير واللغة فكيف يمكن لنا أن ننتقد الكتابات الغربية حول الإسلام والمسلمين ونحن لا نعرف إسلامنا معرفة أصيلة.

أما الأمر الثاني فعلينا أن نعرف اللغات الأوروبية معرفة تمكننا من قراءة ما كتبه الغربيون بلغاته الأصلية حتى نستطيع أن نفهم فهماً دقيقاً ما قالوه فلا نقع في التأويل والتفسير بدون أساس علمي صحيح. وعلينا أن نفهم المجتمعات الغربية ذلك أن الباحثين الغربيين في قضايا العالم الإسلامي إنما هم نتاج بيئتهم وإن كثيراً من القضايا التي ينتقدون فيها الإسلام إنما هم أولى بنقد أنفسهم فيها. ويحضرني في هذه المناسبة حواراً رواه منصر بينه وبين أحد المغاربة حيث قال المغربي للمنصّر لماذا تأتوننا تدعوننا للأخلاق والإيمان بالمسيح أليس من الأولى أن تدعوا بني قومكم لمنع الانحرافات الأخلاقية وشرب الخمور وغير ذلك من المعاصي؟

ولعل الدراسة الصحيحة للاستشراق أن لا تتوقف معرفتنا بما يدور في الأوساط العلمية في الغرب عن طريق قراءة بعض الإنتاج العلمي فلا بد أن يكون لنا وجود فاعل في المؤتمرات والندوات وأن نشارك في الإصدارات العلمية باللغات الأوروبية المختلفة. فكم مادة تدرس في الجامعات الغربية باسم مدخل إلى الدين الإسلامي ويكون الكتاب المنهجي في هذه المادة كتبه مسلم باللغات الأوروبية؟

الخاتمة

من الصعب تصنيف الاستشراق ضمن المذاهب الفكرية المعاصرة كالماسونية والبهائية أو غيرها رغم أن الموسوعات التي تصدر في العالم الإسلامي تصنفه ضمن هذا التصنيف كما أنها تصنفه ضمن وسائل الغزو الفكري. ولا بد أن لهذا الرأي بعض الوجاهة ولكن الحقيقة أن الاستشراق يمكن أن يشكل تياراً فكرياً في جميع مجالات الحياة في العقيدة وفي اللغة وفي التاريخ وفي الاجتماع وفي السياسة وفي الاقتصاد. حتى إن كثيراً من الذين يكتبون في العالم العربي لا يختلفون في منطلقاتهم عن الكتابات الغربية. ولعل من هذه التأثيرات أن وسائل الإعلام العربية تطلق باستمرار على الحركات الإسلامية أو الإسلاميين مصطلح الأصوليين أو الأصولية الإسلامية أو المتشددين وكأن وسائل الإعلام العربية الإسلامية إنما هي مرآة تعكس ما تكتبه الصحف ووسائل الإعلام الغربية.

ويمكننا أن نضيف إن ما قدمته السينما العربية لمحاربة الثوابت الإسلامية في الأسرة والأخلاق يتفوق بمئات المرات ما قدمته وسائل الإعلام الغربية فإن الأفلام الأمريكية مثلاً وبخاصة التي لا تترجم- قبل أن تظهر الشو تايم (Show Time )التي تعتز بأنها تستطيع أن تنقل إلينا الفكرة والصورة معاً واستطاعت أن تتغلب على موضوع صعوبة قراءة الترجمة- لا يعد شيئاً مذكوراً مقابل ما قدمته السينما العربية أو وسائل الإعلام العربية الإسلامية من تشويه حقيقة الإسلام ومسلماته. ومن الموضوعات الأثيرة في وسائل الإعلام هذه موقف الإسلام من المرأة أو حقوقها، وكذلك قضية الإسلام والسياسة والعلمنة.

إننا بحاجة إلى أن نعرف الاستشراق القديم وكذلك الدراسات العربية والإسلامية والدراسات الإقليمية أو دراسات المناطق الموجودة في الغرب في الوقت الحاضر، ونحن بحاجة أكثر إلى أن نعرف الغرب معرفة وثيقة حتى نستطيع أن نحافظ على هويتنا في وجه التيارات الفكرية التي تستطيع وسائل الإعلام الغربية نشرها بما لديها من أجهزة قوية وإمكانات ضخمة.

فلعلنا في المستقبل لا تتوقف جهودنا على حضور المؤتمرات والندوات التي تعقد للحديث عن العالم العربي والإسلامي وقضاياه بل نشارك معهم في مؤتمراتهم وندواتهم التي تخص المجتمعات الغربية فنقدم لهم الاقتراحات والحلول فنكون بذلك قد انتقلنا إلى مرحلة جديدة في نقل الإسلام من الوضع الدفاعي إلى الوضع الذي جاء من أجله الإسلام ( ليخرج الله به من شاء من عبادة العباد إلى عبادة الله الواحد الأحد ومن ضيق الدنيا إلى سعة الآخرة ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام.) فهل نحن فاعلون والحمد لله رب العالمين

==============

#الدولة الأموية نموذجا لتشويه التاريخ الإسلامي

بقلم / أسامة إبراهيم سعد الدين

محمد جلال القصاص

ادعى بعض المؤرخين أن بني أمية أرهقوا البلاد وظلموا العباد ، وهذا الإدعاء من جملة اللغط الكثير الذي أثير حول بني أميه ، وفيه مبالغة شديدة .

ولعل بعضهم قد قارن بين خلافتهم وبين الخلافتين الراشدة والعباسية فظنوا أنها لم تقدم أي تطور للحياة الإسلامية بمفهومها الحضاري ، غير تلك الفتوحات التي امتدت شرقا وغربا .

وبالغ بعض مؤرخينا المعاصرين والمتأثرين بالنظرة الاستشراقية في تفسير أحداث التاريخ الإسلامي فاعتبروها دولة مغتصبة للخلافة ، مَتوقة للزعامة ، قامت دعائمها قوية وطيدة بعد أن شردت آل البيت وأبعدتهم عن الحياة السياسية ثم حولت الخلافة إلى ملك عضوض يتوارث . والأنكى من ذلك أن يذهب بعض هؤلاء ( المؤرخين ) إلى الاعتداء على خلفاء تلك الدولة بالتشريح والتجريح لمواقفهم وأفعالهم تجاه الأمة الإسلامية ، كمعاوية بن أبي سفيان ـ رضي الله عنه ، وابنه يزيد بن معاوية وعبد الملك بن مروان .. وغيرهم . ثم يقفون عند عمر بن عبد العزيز ـ رحمه الله ـ ويعدونه النقطة الوحيدة المضيئة في تلك البقعة الزمنية المظلمة ، ناسين أو جاهلين أدوار الخلفاء الآخرين في نشر الإسلام وإعلاء كلمته في أنحاء الدنيا .

ولنا مع هؤلاء وقفه بسيطة بما يسمح به المقام ..

إذا نظرنا إلى الخلافتين السابقة واللاحقة لخلافة بني أمية لوجدنا الآتي .

الخلافة الراشدة وهي تلك الفترة السابقة لعهد بني أمية فهي فترة ربانية بحق لما فيها من ولع بالدين وحب للعلم وشغف بالدراسة وزهد في الدنيا فرعاياها تلاميذ مدرسة النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وأعظم بها من مدرسة !

وخلفاؤها أبو بكر وعمر وعثمان وعلي ـ رضي الله عنهم أجمعين ـ وكم يتشوق الناس لتلك الخلافة .

والخلافة العباسية . وهي اللاحقة لعهد بني أمية ، امتازت تلك الخلافة وعصرها بالبحث العلمي والنهضة العلمية والأدبية وذلك بعد أن اتسعت رقعة الدولة الإسلامية شرقا وغربا ، وحدث الامتزاج بين الحضارات القديمة ليبرز في النهاية الحضارة الإسلامية بصورتها الرائعة وبريقها الأخاذ وفي تلك الخلافة تم تدوين التاريخ وكتابته ، وإن كانت إرهاصاته بدأت في نهاية عهد بني أمية إلا أن حركة التأليف والتأريخ ظهرت بوضوح في ذلك العصر .

ويكفينا أن نعرف أن تاريخ بني أمية قد كتب في عهد بني العباس ( ألد أعدائهم ) فكان في هذا نظرة مجحفة ظالمة لهم .

ومن هنا نجد أن لكل حقبة من التاريخ مزاياها الخاصة .

فدولة رائدة عادلة صنعتها يد النبي ـ صلى الله عليه وسلم وساسها خيرة أصحابه ـ رضوان الله عليهم ـ ، ثم دولة فتوحات ثم دولة حضارية بالمعنى المادي والمعنوي .

فما الثانية إلا نتيجة للأولى وما الثالثة إلا خلاصة المرحلتين الأولى والثانية .

وما كتبه الحانقين على هذه الدولة في عصرنا الحاضر مستمد من مصدرين .

الأول : كتابات المستشرقين الحاقدين على الإسلام وتاريخه وحضارته . وخاصة دولة بني أمية التي أدخلت الإسلام بلادهم حتى كادت أن تدخل باريس من الغرب وحاصرت القسطنطينية وأخذت كثيرا من ملك الدولة البيزنطية من جهة الشرق .

الثاني : الروايات الشيعية الملفقة والموجودة في بعض كتب التاريخ . كتلك الروايات التي نقلها الطبري عن أبي مخنف ذلك الشيعي الكذاب وغيرها كثير .

وكيف لهم يجهلون قدر تلك الدولة العظيمة التي اتسعت رقعتها من الصين شرقا إلى جنوب فرنسا غربا ، كل هذا تحت خلافة واحدة تعلي كلمة التوحيد وتدافع عنه وتنشر الإسلام في كل مكان فإن كان لبعض خلفائها هنات ، فلا نقف عندها لنحلل ونعطي الأمر أكثر مما يستحق ، ونذهب نعمم ونقول للناس بأنهم كانوا ظالمين ومعتدين ، فهذا خطأ بين وخطب فادح .

وهذه النظرة المغلوطة للتاريخ الإسلامي وأحداثه قد بدت جلية واضحة في القرن الماضي حيث العلمانية تطبق ذراعيها على عالمنا الإسلامي ، وحيث الصحوة الإسلامية التي لاحت بوادرها في الأفق ، وراحت تعيد البعث في الأمة من جديد لتعود سيرتها الأولى كما كانت في عهدها الأول ( خير أمة أخرجت للناس ) . مما يشي بأنه حقد على الإسلام لا حقد على بني أمية .

============

#العلمانية

إعداد الندوة العالمية للشباب الإسلامي

التعريف:

العلمانية SECULArISM وترجمتها الصحيحة: اللادينية أو الدنيوية، وهي دعوة إلى إقامة الحياة على العلم الوضعي والعقل(*) ومراعاة المصلحة بعيداً عن الدين(*). وتعني في جانبها السياسي بالذات اللادينية في الحكم، وهي اصطلاح لا صلة له بكلمة العلم SCIENCE وقد ظهرت في أوروبا منذ القرن السابع عشر وانتقلت إلى الشرق في بداية القرن التاسع عشر وانتقلت بشكل أساسي إلى مصر وتركيا وإيران ولبنان وسوريا ثم تونس ولحقتها العراق في نهاية القرن التاسع عشر. أما بقية الدول العربية فقد انتقلت إليها في القرن العشرين، وقد اختيرت كلمة علمانية لأنها أقل إثارة من كلمة لا دينية.

ومدلول العلمانية المتفق عليه يعني عزل الدين عن الدولة وحياة المجتمع وإبقاءه حبيساً في ضمير الفرد لا يتجاوز العلاقة الخاصة بينه وبين ربه فإن سمح له بالتعبير عن نفسه ففي الشعائر التعبدية والمراسم المتعلقة بالزواج والوفاة ونحوهما.

تتفق العلمانية مع الديانة النصرانية في فصل الدين عن الدولة حيث لقيصر سلطة الدولة ولله سلطة الكنيسة (*). وهذا واضح فيما يُنسب إلى السيد المسيح(*) من قوله: "إعط ما لقيصر لقيصر وما لله لله". أما الإسلام فلا يعرف هذه الثنائية والمسلم كله لله وحياته كلها لله {قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [سورة الأنعام : آية: 162].

التأسيس وأبرز الشخصيات :

انتشرت هذه الدعوة في أوروبا وعمت أقطار العالم بحكم النفوذ الغربي والتغلغل الشيوعي. وقد أدت ظروف كثيرة قبل الثورة (*) الفرنسية سنة 1789م وبعدها إلى انتشارها الواسع وتبلور منهجها(*) وأفكارها وقد تطورت الأحداث وفق الترتيب التالي:

- تحول رجال الدين إلى طواغيت (*) ومحترفين سياسيين ومستبدين تحت ستار الإكليروس(*) والرهبانية(*) والعشاء الرباني(*) وبيع صكوك الغفران.

- وقوف الكنيسة (*) ضد العلم وهيمنتها على الفكر وتشكيلها لمحاكم التفتيش واتهام العلماء بالهرطقة، مثل:

1- كوبرنيكوس: نشر سنة 1543م كتاب حركات الأجرام السماوية وقد حرمت الكنيسة هذا الكتاب.

2- جرادانو: صنع التلسكوب فعُذب عذاباً شديداً وعمره سبعون سنة وتوفي سنة 1642م.

3- سبينوزا: صاحب مدرسة النقد التاريخي وقد كان مصيره الموت مسلولاً.

4- جون لوك طالب بإخضاع الوحي(*) للعقل(*) عند التعارض.

ظهور مبدأ العقل والطبيعة(*): فقد أخذ العلمانيون يدعون إلى تحرر العقل وإضفاء صفات الإله(*) على الطبيعة.

- الثورة(*) الفرنسية: نتيجة لهذا الصراع بين الكنيسة(*) من جهة وبين الحركة الجديدة من جهة أخرى، كانت ولادة الحكومة الفرنسية سنة 1789م وهي أول حكومة لا دينية تحكم باسم الشعب. وهناك من يرى أن الماسون استغلوا أخطاء الكنيسة والحكومة الفرنسية وركبوا موجة الثورة لتحقيق ما يمكن تحقيقه من أهدافهم.

- جان جاك روسو سنة 1778م له كتاب العقد الاجتماعي الذي يعد إنجيل الثورة، مونتسكيو له روح القوانين، سبينوزا (يهودي) يعتبر رائد العلمانية باعتبارها منهجاً(*) للحياة والسلوك وله رسالة في اللاهوت(*) والسياسة، فولتير صاحب القانون الطبيعي كانت له الدين(*) في حدود العقل وحده سنة 1804م، وليم جودين 1793م له العدالة السياسية ودعوته فيه دعوة علمانية صريحة.

- ميرابو الذي يعد خطيب وزعيم وفيلسوف الثورة الفرنسية.

- سارت الجموع الغوغائية لهدم الباستيل وشعارها الخبز ثم تحول شعارها إلى (الحرية(*) والمساواة والإخاء) وهو شعار ماسوني و"لتسقط الرجعية" وهي كلمة ملتوية تعني الدين وقد تغلغل اليهود بهذا الشعار لكسر الحواجز بينهم وبين أجهزة الدولة وإذابة الفوارق الدينية وتحولت الثورة(*) من ثورة على مظالم رجال الدين إلى ثورة على الدين نفسه.

- نظرية التطور: ظهر كتاب أصل الأنواع سنة 1859م لتشارلز دارون الذي يركز على قانون الانتقاء الطبيعي وبقاء الأنسب وقد جعلت الجد الحقيقي للإنسان جرثومة صغيرة عاشت في مستنقع راكد قبل ملايين السنين، والقرد مرحلة من مراحل التطور التي كان الإنسان آخرها. وهذه النظرية أدت إلى انهيار العقيدة الدينية ونشر الإلحاد(*) وقد استغل اليهود هذه النظرية بدهاء وخبث.

- ظهور نيتشة: وفلسفته التي تزعم بأن الإله(*) قد مات وأن الإنسان الأعلى (السوبر مان) ينبغي أن يحل محله.

- دور كايم (اليهودي) : جمع بين حيوانية الإنسان وماديته بنظرية العقل الجمعي.

- فرويد (اليهودي) : اعتمد الدافع الجنسي مفسراً لكل الظواهر. والإنسان في نظره حيوان جنسي.

- كارل ماركس (اليهودي): صاحب التفسير المادي للتاريخ(*) الذي يؤمن بالتطور الحتمي(*) وهو داعية الشيوعية ومؤسسها الأول الذي اعتبر الدين أفيون الشعوب.

- جان بول سارتر: في الوجودية وكولن ولسون في اللامنتمي : يدعوان إلى الوجودية والإلحاد.

- الاتجاهات العلمانية في العالم العربي والإسلامي نذكر نماذج منها:

1- في مصر: دخلت العلمانية مصر مع حملة نابليون بونابرت. وقد أشار إليها الجبرتي في تاريخه – الجزء المخصص للحملة الفرنسية على مصر وأحداثها – بعبارات تدور حول معنى العلمانية وإن لم تذكر اللفظة صراحة. أما أول من استخدم هذا المصطلح العلمانية فهو نصراني يُدعى إلياس بقطر في معجم عربي فرنسي من تأليفه سنة 1827م. وأدخل الخديوي إسماعيل القانون الفرنسي سنة 1883م، وكان هذا الخديوي مفتوناً بالغرب، وكان أمله أن يجعل من مصر قطعة من أوروبا.

2- الهند: حتى سنة 1791م كانت الأحكام وفق الشريعة الإسلامية(*) ثم بدأ التدرج من هذا التاريخ لإلغاء الشريعة بتدبير الإنجليز وانتهت تماماً في أواسط القرن التاسع عشر.

3- الجزائر: إلغاء الشريعة الإسلامية(*) عقب الاحتلال الفرنسي سنة 1830م.

4- تونس : أدخل القانون الفرنسي فيها سنة 1906م.

5- المغرب : أدخل القانون الفرنسي فيها سنة 1913م.

6- تركيا: لبست ثوب العلمانية عقب إلغاء الخلافة(*) واستقرار الأمور تحت سيطرة مصطفى كمال أتاتورك، وإن كانت قد وجدت هناك إرهاصات ومقدمات سابقة.

7- العراق والشام: ألغيت الشريعة أيام إلغاء الخلافة العثمانية وتم تثبيت أقدام الإنجليز والفرنسيين فيهما.

8- معظم أفريقيا: فيها حكومات نصرانية امتلكت السلطة بعد رحيل الاستعمار(*).

9- أندونيسيا ومعظم بلاد جنوب شرقي آسيا: دول علمانية.

10- انتشار الأحزاب(*) العلمانية والنزعات القومية: حزب البعث، الحزب القومي السوري، النزعة الفرعونية، النزعة الطورانية(*)، القومية العربية.

11- من أشهر دعاة العلمانية في العالم العربي والإسلامي: أحمد لطفي السيد، إسماعيل مظهر، قاسم أمين، طه حسين، عبدالعزيز فهمي، ميشيل عفلق، أنطون سعادة، سوكارنو، سوهارتو، نهرو ، مصطفى كمال أتاتورك، جمال عبد الناصر، أنور السادات صاحب شعار "لا دين في السياسة ولا سياسة في الدين"، د. فؤاد زكريا. د. فرج فودة وقد اغتيل بالقاهرة مؤخراً، وغيرهم.

الأفكار والمعتقدات :

بعض العلمانيين ينكرون وجود الله أصلاً.

- وبعضهم يؤمنون بوجود الله لكنهم يعتقدون بعدم وجود أية علاقة بين الله وبين حياة الإنسان.

الحياة تقوم على أساس العلم المطلق وتحت سلطان العقل(*) والتجريب.

إقامة حاجز سميك بين عالمي الروح والمادة(*)، والقيم الروحية لديهم قيم سلبية.

- فصل الدين(*) عن السياسة وإقامة الحياة على أساس مادي.

- تطبيق مبدأ النفعية Pragmatism على كل شيء في الحياة.

- اعتماد مبدأ الميكيافيلية في فلسفة الحكم والسياسة والأخلاق(*).

- نشر الإباحية والفوضى الأخلاقية وتهديم كيان الأسرة باعتبارها النواة الأولى في البنية الإجتماعية.

- أما معتقدات العلمانية في العالم الإسلامي والعربي التي انتشرت بفضل الاستعمار(*) والتبشير فهي:

- الطعن في حقيقة الإسلام والقرآن والنبوة(*).

- الزعم بأن الإسلام استنفذ أغراضه وهو عبارة عن طقوس وشعائر روحية.

- الزعم بأن الفقه (*) الإسلامي مأخوذ عن القانون الروماني.

- الزعم بأن الإسلام لا يتلاءم مع الحضارة ويدعو إلى التخلف.

- الدعوة إلى تحرير المرأة وفق الأسلوب الغربي.

- تشويه الحضارة الإسلامية وتضخيم حجم الحركات(*) الهدامة في التاريخ الإسلامي والزعم بأنها حركات إصلاح.

- إحياء الحضارات القديمة.

- اقتباس الأنظمة والمناهج اللادينية عن الغرب ومحاكاته فيها.

- تربية الأجيال تربية لا دينية.

إذا كان هناك عذر ما لوجود العلمانية في الغرب فليس هناك أي عذر لوجودها في بلاد المسلمين لأن النصراني إذا حكمه قانون مدني وضعي(*) لا ينزعج كثيراً ولا قليلاً لأنه لا يعطل قانوناً فرضه عليه دينه وليس في دينه ما يعتبر منهجاً للحياة، أما مع المسلم فالأمر مختلف حيث يوجب عليه إيمانه الاحتكام إلى شرع الله. ومن ناحية أخرى فإنه إذا انفصلت الدولة عن الدين بقى الدين النصراني قائماً في ظل سلطته القوية الفتية المتمكنة وبقيت جيوشها من الرهبان(*) والراهبات والمبشرين والمبشرات تعمل في مجالاتها المختلفة دون أن يكون للدولة عليهم سلطان بخلاف ما لو فعلت ذلك دولة إسلامية فإن النتيجة أن يبقى الدين(*) بغير سلطان يؤيده ولا قوة تسنده حيث لا بابوية له ولا كهنوت(*) ولا أكليروس(*)، وصدق الخليفة الثالث عثمان بن عفان رضي الله عنه حين قال: "إن الله يزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن".

الجذور الفكرية والعقائدية:

العداء المطلق للكنيسة(*) أولاً، وللدين ثانياً أيًّا كان، سواء وقف إلى جانب العلم أم عاداه.

لليهود دور بارز في ترسيخ العلمانية من أجل إزالة الحاجز الديني الذي يقف أمام اليهود حائلاً بينهم وبين أمم الأرض.

يقول ألفرد هوايت هيو: "ما من مسألة ناقض العلم فيها الدين إلا وكان الصواب بجانب العلم والخطأ حليف الدين" وهذا القول إن صح بين العلم واللاهوت(*) في أوروبا فهو قول مردود ولا يصح بحال فيما يخص الإسلام حيث لا تعارض إطلاقاً بين الإسلام وبين حقائق العلم، ولم يقم بينهما أي صراع كما حدث في النصرانية. وقد نقل عن أحد الصحابة قوله عن الإسلام: "ما أمر بشيء، فقال العقل(*): ليته نهى عنه، ولانهى عن شيء، فقال العقل: ليته أمر به". وهذا القول تصدقه الحقائق العلمية والموضوعية وقد أذعن لذلك صفوة من علماء الغرب وأفصحوا عن إعجابهم وتصديقهم لتلك الحقيقة في مئات النصوص الصادرة عنهم.

- تعميم نظرية (العداء بين العلم من جهة والدين من جهة) لتشمل الدين الإسلامي على الرغم من أن الدين الإسلامي لم يقف موقف الكنيسة ضد الحياة والعلم بل كان الإسلام سباقاً إلى تطبيق المنهج(*) التجريبي ونشر العلوم.

إنكار الآخرة وعدم العمل لها واليقين بأن الحياة الدنيا هي المجال الوحيد للمتع والملذات.

لماذا يرفض الإسلام العلمانية:

- لأنها تغفل طبيعة الإنسان البشرية باعتباره مكوناً من جسم وروح فتهتم بمطالب جسمه ولاتلقي اعتباراً لأشواق روحه.

- لأنها نبتت في البيئة الغربية وفقاً لظروفها التاريخية والاجتماعية والسياسية وتعتبر فكراً غريباً في بيئتنا الشرقية.

- لأنها تفصل الدين(*) عن الدولة فتفتح المجال للفردية والطبقية والعنصرية والمذهبية والقومية والحزبية والطائفية.

- لأنها تفسح المجال لانتشار الإلحاد(*) وعدم الإنتماء والاغتراب والتفسخ والفساد والانحلال.

- لأنها تجعلنا نفكر بعقلية الغرب، فلا ندين العلاقات الحرة بين الجنسين وندوس على أخلاقيات المجتمع ونفتح الأبواب على مصراعيها للممارسات الدنيئة، وتبيح التعامل بالربا وتعلي من قدر الفن للفن، ويسعى كل إنسان لإسعاد نفسه ولو على حساب غيره.

- لأنها تنقل إلينا أمراض المجتمع الغربي من إنكار الحساب في اليوم الآخر ومن ثم تسعى لأن يعيش الإنسان حياة متقلبة منطلقة من قيد الوازع الديني، مهيجة للغرائز الدنيوية كالطمع والمنفعة وتنازع البقاء ويصبح صوت الضمير عدماً.

- مع ظهور العلمانية يتم تكريس التعليم لدراسة ظواهر الحياة الخاضعة للتجريب والمشاهدة وتُهمل أمور الغيب من إيمان بالله والبعث والثواب والعقاب، وينشأ بذلك مجتمع غايته متاع الحياة وكل لهو رخيص.

الانتشار ومواقع النفوذ :

بدأت العلمانية في أوروبا وصار لها وجود سياسي مع ميلاد الثورة(*) الفرنسية سنة 1789م. وقد عمت أوروبا في القرن التاسع عشر وانتقلت لتشمل معظم دول العالم في السياسة والحكم في القرن العشرين بتأثير الاستعمار(*) والتبشر.

يتضح مما سبق:

أن العلمانية دعوة إلى إقامة الحياة على أسس العلم الوضعي والعقل(*) بعيداً عن الدين الذي يتم فصله عن الدولة وحياة المجتمع وحبسه في ضمير الفرد ولا يصرح بالتعبير عنه إلاَّ في أضيق الحدود. وعلى ذلك فإن الذي يؤمن بالعلمانية بديلاً عن الدين ولا يقبل تحكيم الشرعية الإسلامية(*) في كل جوانب الحياة ولا يحرم ما حرم الله يعتبر مرتداً ولا ينتمي إلى الإسلام. والواجب إقامة الحجة عليه واستتابته حتى يدخل في حظيرة الإسلام وإلا جرت عليه أحكام المرتدين المارقين في الحياة وبعد الوفاة.

----------------------------------------------------------

مراجع للتوسع :

- جاهلية القرن العشرين، محمد قطب.

- المستقبل لهذا الدين، سيد قطب.

- تهافت العلمانية، عماد الدين خليل.

- الإسلام والحضارة الغربية، محمد محمد حسين.

- العلمانية، سفر بن عبد الرحمن الحوالي.

- تاريخ الجمعيات السرية والحركات الهدامة، محمد عبدالله عنان.

- الإسلام ومشكلات الحضارة، سيد قطب.

- الغارة على العالم الإسلامي، ترجمة محب الدين الخطيب ومساعد اليافي.

- الفكر الإسلامي في مواجهة الأفكار الغربية، محمد المبارك.

- الفكر الإسلامي الحديث وصلته بالاستعمار الغربي، محمد البهي.

- الإسلام والعلمانية وجهاً لوجه، د. يوسف القرضاوي.

- العلمانية: النشأة والأثر في الشرق والغرب، زكريا فايد.

- وجوب تحكيم الشريعة الإسلامية للخروج من دائرة الكفر الاعتقادي، د. محمد شتا أبو سعد، القاهرة، 1413هـ.

- جذور العلمانية، د. السيد أحمد فرج دار الوفاء المنصورة 1990م.

-علماني وعلمانية، د. السيد أحمد فرج – بحث ضمن المعجمية الدولية بتونس 1986م.

==============

#أمة في خطر مداخلة عن مناهج التعليم في الوطن العربي

سالم مبارك الفلق

لا يخفى على المتتبع لمسيرة التعليم في الدول المتقدمة جهود الولايات المتحدة الأمريكية في تطوير محتوى وطرق وأساليب تدريس كل من العلوم والرياضيات منذ أن فوجئت في العام 1957م بإطلاق القمر الاصطناعي سبوتنيك Sputnik من قبل الاتحاد السوفيتي. ومنذ ذلك العهد خضعت مناهج الرياضيات في الولايات المتحدة الأمريكية لعدد من التغيرات و الاجتهادات بغرض التطوير ورفع أداء الطلاب في هذه المادة. ويمكن تقسيم فترات التغيير إلى فترات الستينات ثم السبعينات ثم الثمانينات التي ظهرت الدعوة فيها قوية للتطوير, ففي هذه الفترة ظهر تقرير "أمة في خطر"(a nation at risk)عام 1983 ، أهم وثيقة عن التعليم في أمريكا خلال العقود الماضية. الذي يؤكد أن مشكلات الأمة الأمريكية في التعليم ترجع بالدرجة الأولى إلى انخفاض المستويات الأكاديمية للطلاب، وإلى تدني نوعية التعليم وأشار أيضا بأصابع الاتهام للمعلم نفسه. وواكبه عدد من التقارير في مجال الرياضيات مثلAgenda for Action تلاها تقرير Everybody Counts ثم وثيقة معايير منهج وتقويم الرياضيات المدرسيةStandards for Curriculum and Evaluation for School Mathematics , وهذه الوثيقة الأخيرة كان لها الأثر البالغ على تطوير تدريس الرياضيات في مدارس التعليم العام في الولايات المتحدة . وظلت اللجنة التي أصدرت تقرير "أمة في خطر" منعقدة حتى نهاية القرن العشرين ذلك التقرير مهد أيضا لظهور الخطوة التي رسمها الرئيس بوش عام1990بعنوان أمريكا عام 2000 استراتيجية للتعليم المتضمنة الكثير من اتجاهات الإصلاح التي نادى بها تقرير 1983.

ومنذ أربع سنوات اكتشفت الولايات المتحدة أن نظام التعليم في اليابان وكوريا الجنوبية يتفوق على نظام التعليم عندها؛ فأقامت الوزارة مؤتمراً دُعي إليه كبار رجال الدولة والمؤثرون في المجتمع تحت عنوان "أمة في خطر"؛ وذلك لأنه إذا كان خريجو الجامعات من هذين البلدين سيتفوقون على خريجي الجامعات في أمريكا؛ فإنها ستكون في خطر بعد عشر سنوات أو عشرين سنة. وعزته إلى قصور نسبي في نظامها التعليمي، فأجرت الإصلاحات اللازمة. كما أن الأوروبيين أيضا يجرون تعديلات على نظامهم التعليمي (مثلاً برنامج أوريكا). جدير بالذكر أن التعليم يحتل قائمة أجندة اليونسكو، ويشغل اهتمام صانعي السياسة في كل دول العالم .

في نفس التوقيت أقامت إحدى الدول النامية مؤتمرًا عن التعلم في بلادها، وعلى الرغم من المشاكل الهائلة في هذه الدولة التي تتعلق بالمناهج والمدارس والطالب والجو العام للعملية التعليمية وعدم الاعتناء بالنابغين وغير ذلك من العوامل المتداخلة ــــ فإن عنوان المؤتمر كان "أمة لها مستقبل"... فإذا كان حال الأمم المتقدمة تجاه منظومتها التعليمية بهذا القدر من التخوف على نوعيتها ومدى ملاءمتها باعتبارها أهم المشاكل التي تواجه كيانها وتهدد وجودها ؛ فإن البلدان العربية أحوج ما تكون إلى مثل هذه المراجعة المستندة إلى التحليل الاقتصادي وإلى قيم اكتساب المعرفة في التطور الإنساني. إن الفارق الأساسي بين البلدين هو الفارق بين النظرتين على هذا المستوى؛ الفارق بين من يخاف من مشكلة قد تحدث بعد عدة سنوات؛ فيعد لها العدة ومن يغفل عن مشكلة تحيط به من جميع جوانبه..

إننا في موقف خطير ينبغي للمسئولين عن التعليم في كل بلد عربي أن يتداركوه فقد نمنا وأدلج أعداؤنا وتكاسلنا وجدّوا وقنعنا بالثقافة الشكلية والمعلبة التي هي سرّ تخلفنا في كل جوانب الحياة , وأي تقدم يأتي بغير تعليم ...

أننا نقبل منجزات الغرب الحضارية وتقنياته التي أصبحت جزءا لا يتجزأ من حياتنا.بينما كان أجدر بنا أن نرصد طرق التفكير وأسلوب الحضارة والتعليم السائدة في الغرب. الأحرى أن نعود إلى القرون الوسطى عندما لم يكن لأمريكا وجود. حين نقل العرب إرث فارس واليونان الحضاري والثقافي والعلمي إلى اللغة العربية ليس فقط بتعريبها وترجمتها، بل بإدخالها في صلب الثقافة العربية تعديلاً وتجاوزاً وتطويراً بحيث تنسجم مع روح العصر فلم يكن غريبا أن يأتي الناس من أوربا وغيرها لتعلم اللغة العربية، كما نذهب اليوم لنتعلم اللغات الأجنبية ؛ فتم ما يعرف بالمثاقفة (acculturation) بين الحضارات المختلفة عن طريق الجدل الواسع والعلني في كل الشؤون الدينية والمذهبية واللغوية والعلمية... دون أي تهديد أو تخوف من الآخر أومن ثقافته.

أما قبل ...

فقد غدت العاصمة العباسية بغداد معملاً يزود العالم بآخر منجزات العصر على المستوى التربوي والعلمي وقف إلى جانبها عدد آخر من المؤسسات التعليمية التي تميزت بصفتها العلمية المنهجية , والتي تعد بحق جامعات أو أكاديميات في العصور الماضية نذكر منها على سبيل المثال لا الحصر : جامع الأزهر في القاهرة , وجامع الزيتونة في تونس , والمسجد الأقصى في القدس, المدرسة المستنصرية التي بناها الخليفة العباسي المستنصر بالله عام 1227م وبدأ التدريس فيها عام 1233, و بيت الحكمة في بغداد ,.ودار الحكمة في القاهرة أنشأها الحاكم بأمر الله الفاطمي سنة 975م.....الخ ثم بدأت بعدها مرحلة جديدة من مراحل الانحدار والتخلف عاشتها البلاد العربية لمدة أربعة قرون من الزمن ركدت فيها الحضارة الإسلامية وجمدت لعدم قدرة الدولة العثمانية على تغذيتها بالتشجيع المعنوي والمادي وإغلاق الشرايين التي كانت تصل بينها وبين الثقافات الأخرى ؛ فاقتصر دور المدرسين على التلقين والتقليد وزيادة عدد الكتاتيب زيادة كمية على حساب نوعية التعليم.

أما بعد ...

فإذا كانت الحملة الفرنسية عام 1798م قد عرّفت المصرين بآلة الطباعة وبالمدارس الأوربية حديثة الطراز إضافة إلى المناهج التعليمية العلمية الحديثة، فقد ترتب على ذلك أيضا تشديد قبضة الاحتلال على واقع التعليم والنظام التعليمي بما يخدم مصالحه السياسية والاقتصادية وممارسة أهدافه الاستعمارية.

مع نهاية القرن السابع عشر وهزيمة الدولة العثمانية عسكريا أمام الجيوش النصرانية الغربية , بدأت السفارات إلى الغرب , وبدأ استقدام متخصصين في العلوم البحتة , ولأول مرة جرى استقدام غير مسلمين للتخطيط والتدريس في المدارس الإسلامية . ثم عمل الأعداء على شطر نظم التعليم إلى شقين : التعليم الديني والتعليم المدني مع احتواء الأخير على بعض المناهج الشرعية , التي عملوا بعد ذلك على إضعافها من خلال عدة طرق منها :ـ طريقة وضع المنهج , وطريقة تدريسه , وموقع الحصص في اليوم الدراسي , والحط من مدرسيه , وتخفيض عدد ساعات هذه المناهج .. ثم عمدوا بعد ذلك إلى تعديل في هذه المناهج وفق الرؤى العولمية والاتجاهات العلمانية .

إن فكرة العلاقة بين الهيمنة والتعليم في الغرب أساسية ؛ لذا فهم يحاولون الهيمنة والسيطرة والإخضاع عبر التعليم , عبر تغيير مناهج التعليم الديني في مصر والسعودية وباكستان واليمن ,وعبر القضاء على المدارس الدينية والمعاهد والجمعيات الخيرية التي تدعمها , ويغري أمريكا بهذا صداقتها لهذه البلدان .

لقد أصبح واضحا أن قضية المناهج التعليمية لم تعد شأنا داخليا ترتبه الحكومات متى وكيف شاءت , وتهمله أو تؤجله متى وكيف شاءت ؛ وإنما أصبحت شأنا عالميا في ظل ثقافة العولمة وبفعل أدواتها , وأصبح في منطقتنا العربية له أبعاد ثقافية واقتصادية وسياسة بل وعسكرية إذا لزم الأمر .

إن قضية تغيير المناهج التعليمية في المنطقة الإسلامية لم تفتر منذ معاهدة كامب ديفيد , ومرورا باتفاقيات مدريد وما تلاها , إلا أنها ازدادت جرأة ووضوحا وصراحة بعد أحداث 11 سبتمبر اذ شنت الدوائر الرسمية ووسائل الإعلام في الغرب حربا ضروسا على مناهج التعليم في العالم الإسلامي متهمة إياها بأنها المسئول الأول عن ظاهرة تفريخ الإرهاب , وقد وضعوا الخطط للتدخل في التعليم في عدة بلدان وتعد مصر وباكستان والسعودية واليمن نماذج على ذلك , حيث قدمت الولايات المتحدة الأمريكية دعما لباكستان مقداره 100مليون دولار لبناء بنك معلومات عن طلاب المدارس القرآنية يهدف لتأمين معلومات أساسية عن كل طالب ومدرس في هذه المدارس .

ترتبط المناهج بهوية الأمة , وتشكل عاملا مهما في إعدادها وتربيتها , ومن ثم فالتعامل معها لا يخضع لتصريحات طائشة ومواقف مندفعة , وإنما تحتاج إلى أن يتعامل معها في ظل أوضاع هادئة بعيدا عن التشنج والانفعال وبعيدا عن الاستجابة لردود الأفعال .

ورغم أن أمريكا تمارس التدخل في خصوصيات الشعوب الأخرى إلا أنها لا ترضى ذلك لنفسها وهي القائلة قبل عشرين عاما على لسان الرئيس الأمريكي رونالد ريجان :" " لو أن هذه المناهج التي بين أيدينا فرضتها علينا أمة من الأمم لاعتبرنا ذلك اعتداءً سافراً علينا " "(( إن الدهشة سوف تلجمنا إذا علمنا أن مؤسسة تسمى (كير) تتبع المخابرات المركزية الأمريكية هي التي تقوم بالتخطيط للمناهج في وزارة التربية والتعليم المصرية ، والدهشة سوف تمسك بتلابيبنا إذا علمنا أن وفد F.B.I قد التقى شيخ الأزهر , ووفود الكونجرس تلتقيه للاطمئنان على مناهج الأزهر ))[1] .

نستطيع أن نقول إن هناك تدنيا في مستوى التعليم في معظم البلدان العربية هذا إذا لم نقل جميعها. وأن أبناءنا في خطر.. والسبب نوعية التعليم الذي يتلقونه، والذي يخرجون بسببه من سوق العمل، وتزيد معدلات البطالة في أغلب الدول العربية، ويتوقع لها أن تزيد أكثر وأكثر إذا لم يسرع القائمون على التعليم بتغيير سياساتنا التعليمية فورًا. و يمكن دراسة ذلك ضمن ما يسمى بالتخطيط التربوي وصعوباته في الوطن العربي. حيث تواجه مدارسنا في مراحلها الأولى ضعفا وضحالة و بهما يتدرج الناشيء حتى يصل إلى الجامعة وهو غير مؤهل للدراسة الجامعية , ولا تستطيع جامعاتنا وهو تواجه هذا العدد الهائل من الطلاب الضعاف أن ترسبهم جميعا بل هي مضطرة ـــ وهم في مستوى متقارب ـــ إلى أن تعتبرهم جميعاً ناجحين . ويمرون من عام إلى عام حتى يفرغوا من دراساتهم الجامعية وعقلياتهم ليست أكبر من عقليات التلاميذ في المدارس الابتدائية والمتوسطة ؛ فجامعاتنا إذا تمنح شهادات ولا تخرج متعلمين .

نحن اليوم في عصر التخصص وقد مضى الوقت الذي يمكن أن نجد فيه من يعرف كل شيء ويتحدث في كل فن . وأن العلوم الحديثة والتقنية هي التي تسيطر في الألفية الثالثة وما سبقها من قرون ثلاثة، على موازين الأحداث، وتهيمن على مصائر الأمم، وتصنع الفرق بين الرفاهية والازدهار والمنعة، وبين التخلف والهزيمة واستجداء إنتاج الآخرين. خصوصا إذا عرفنا أن الثقافة العربية بطبيعتها (ثقافة أدبية)، ويهيمن عليها (الفكر الأدبي) بمعطياته وتفرعاته وأنساقه . ومن البدهي أن الأمم المتقدمة عندما تقلق على نظامها التعليمي من واقع المنافسة الشرسة بين بعضها بعضا، فإن اهتمامها ينصب في الحال على المناهج العلمية، وبرامج التدريب المهني، ووسائل تطوير المهارات التقنية، ولذا كانت الصيحة في أمريكا،عندما اكتشفت في الثمانينيات تحول التلاميذ من القسم العلمي إلي القسم الأدبي بسبب انخفض أداء الطلاب الأمريكان في الرياضيات والعلوم . و أن كوريا الجنوبية عندما توجه تعليمها وتدريبها نحو عصرها ومتقضياته، استطاعت أن تتحول إلى نمر آسيوي، وأن تتمكن خلال عشرين عاما من تسجيل 16380 براءة اختراع في المجال الصناعي والتقني فقط، وأما العالم العربي، الذي يضج بالشعراء والأدباء وأصحاب التخصصات الإنسانية، فلم يسجل سوى 170 براءة اختراع ؛ فمن الضرورة بمكان أن يتحول التعليم في الوطن العربي من مجرد تعليم تلقيني إلى تعليم يقوم على الابتكار والإبداع واستخدام تكنولوجيا العصر؛ حتى يصبح خريجو هذا النوع من التعليم قادرين على اللحاق بسوق العمل الذي لا يقبل الآن خريجي تعليم القرن العشرين.

وأضيف أيضاً أن كتاب "أمة في خطر" الذي كشف ساعتها عن تدني المستوي العلمي للطلاب في ذلك الوقت أكد أنَّ أهم أسباب النهوض هي اللغة الإنجليزية ثم الرياضيات والفيزياء، وأخيرًا الحاسب الآلي، أما عندنا فإن الصورة مقلوبة تمامًا؛ حيث هناك تركيز رسمي على أهمية الحاسب الآلي واللغة الأجنبية في الوقت الذي يتم فيه إهمال اللغة العربية إهمالاً كبيرًا، فاللغات الأجنبية لها أهمية بلا شك، ولكن هذا ليس على حساب اللغة العربية، فاللغة الوطنية أداة فكر، أما اللغة الأجنبية فهي أداة تواصل وهناك فارق كبير بين الأمرين.

التربية والتعليم عملية تغيير مستمرة وشاملة تنتقل بالفرد أو المجتمع من الواقع الذي هو عليه إلى المثل الأعلى الذي ينبغي أن يكون عليه , وتتكامل مؤسسات تربوية كثيرة في تحقيق ذلك : كالأسرة والمدرسة والمسجد ... وهذه المؤسسات التربوية تتكامل مع مؤسسات أخرى كالإعلام والثقافة دون أن تعوق احداهما الأخرى في أداء وظائفها , وأن التلاعب به من قبل قوة خارجية هو خطر لا يمكن الاستهانة به أو التقليل من شأنه . إنها حرب صليبية وان الخطر داهم على الأمة حكاما وشعوبا , ويجب على الكل أن يستيقظ ويرفض المساومة على الثوابت أو التلاعب بالعقائد , وان يعرف الجميع أن روح الأمة أقوى من كل شيء , و أن كل الحلول التي تأتينا مرة من أمريكا وأخري من انجلترا وثالثة من دول أخرى قد ثبت فشلها وسبب ذلك أن التعليم لابد أن ينبع من واقع المجتمع الذي يخرج منه .

الأستاذ /

سالم مبارك الفلق

1/11/2005م

alfalagg@yahoo.com

-----------------------

[1] مجلة البيان العدد173المحرم1423هـ(مناهج التعليم الديني في العالم الإسلامي) كمال حبيب ص/49 .

=============

#أسرار وراء كلام البابا عن الإسلام ونبيّه

عبد الله بن عبد العزيز الزايدي

يعجب بعض المتابعين من الحملة المتزايدة على الإسلام من بعض الزعماء الدينيين والسياسيين النصارى في السنوات الأخيرة، وتساءل بعضهم عن سر التوقيت والتزامن، فمن كلام بوش عن المسلمين الفاشيّين، إلى كلام البابا بندكت السادس عن النبي - صلى الله عليه وسلم- وقبلهما كلام رئيس الوزراء الايطالي عن الحضارة الإسلامية، وبعده الرسوم المسيئة، وغير ذلك من حملات التشويه.

وربما تساءل البعض عن الأسباب الكامنة في هذه الحملات المتوالية، وريما حمّل بعض الكتَّاب إخوانه المسلمين وِزر هذه الحملات نظراً لما حدث من بعضهم من أعمال تفجير وقتل.

وأقول: إن ثمة سراً مهماً ينبغي ألاّ نغفل عنه في السر الحقيقي وراء هذه الحملات، ألا وهو الانتشار الواسع لدين الإسلام في معاقل النصرانية، الذي أقضّ مضاجع الرؤساء الدينيين والسياسيين، مما حدا ببعضهم للكلام الصريح عن ضرورة التصدي لانتشار دين الإسلام، وهذه بعض الإحصاءات والأخبار التي تشهد بهذا الانتشار:

أ - زيادة أعداد المساجد في دول الغرب:

ففي قلب أوروبا بدأت أعداد المساجد فيها تنافس أعداد الكنائس في باريس ولندن ومدريد وروما ونيويورك، وصوتُ الأذان الذي يرفع كل يوم في تلك البلاد خمس مرات، خيرُ شاهد على أن الإسلام يكسب كل يوم أرضاً جديدة وأتباعاً جدداً.

فقد أصبح للأذان من يلبيه في كل أنحاء الأرض، من طوكيو حتى نيويورك، وعند نيويورك ومساجدها نتوقف، ففي أوقات الأذان الخمس ينطلق الأذان في نيويورك وحدها في مائة مسجد، و بلغ عدد المساجد في الولايات المتحدة الأمريكية ما يقرب من (2000) مسجد والحمد لله، وترتفع في بريطانيا مئذنة نحو (1000) مسجد، وتعلو سماء فرنسا وحدها مئذنة (1554) مسجداً ولا تتسع للمصلين، وأما ألمانيا فتُقدّر المساجد وأماكن الصلاة فيها بـ(2200) مسجد ومصلى، وأما بلجيكا فيُوجد فيها نحو (300) مسجد ومصلى، ووصل عدد المساجد والمصلّيات في هولندا إلى ما يزيد عن (400) مسجد، كما ترتفع في إيطاليا وحدها مئذنة (130) مسجدًا، أبرزها مسجد روما الكبير، وأما النمسا فيبلغ عدد المساجد فيها حوالي (76 ) مسجداً.

هذه فقط بعض الدول في أوروبا الغربية، عدا عن أوروبا الشرقية، والإقبال على الإسلام يزداد يوماً بعد يوم، ومن هذه المساجد يتحرك الإسلام، وينطلق في أوروبا، لذلك ليس غريباً أن تشدّد أوروبا وأمريكا في أمر المساجد ومراقبة أهلها، والتضييق في إعطاء الرخص لبنائها، ومن المفارقات العجيبة أن كثيراً من هذه المساجد كانت كنائس فاشتراها المسلمون وحولوها إلى مساجد!!

ب - تحذير الصحف الغربية من انتشار الإسلام:

فقد بدأت الصحف الغربية تطلق صيحات تحذير من انتشار واسع لدين الإسلام بين النصارى، ومن ذلك ما جاء في مقال نُشر في مجلة (التايم) الأمريكية "وستشرق شمس الإسلام من جديد، ولكنها في هذه المرة تعكس كل حقائق الجغرافيا، فهي لا تشرق من المشرق كالعادة، وإنما ستشرق في هذه المرة من الغرب".

أما جريدة (الصانداي تلغراف) البريطانية فقالت في نهاية القرن الماضي: "إن انتشار الإسلام مع نهاية هذا القرن –يعني الذي مضى- ومطلع القرن الجديد –يعني الذي نحن فيه- ليس له من سبب مباشر إلاّ أن سكان العالم من غير المسلمين بدؤوا يتطلعون إلى الإسلام، وبدؤوا يقرؤون عن الإسلام، فعرفوا من خلال اطلاعهم أن الإسلام هو الدين الوحيد الأسمى الذي يمكن أن يُتبع، وهو الدين الوحيد القادر على حل كل مشاكل البشرية".

مجلة (لودينا) الفرنسية قالت بعد دراسة قام بها متخصصون: "إن مستقبل نظام العالم سيكون دينياً، وسيسود النظام الإسلامي على الرغم من ضعفه الحالي؛ لأنه الدين الوحيد الذي يمتلك قوة شمولية هائلة".

ج – انتشار بيع نسخ القرآن الكريم والكتب الإسلامية

وبعد تفجيرات الحادي عشر من سبتمبر، التي كان لها آثار سيئة واسعة على النشاطات الإسلامية في الغرب وعلى دول الإسلام، إلاّ أنه مع ذلك ازداد في العالم الغربي الإقبال على التعرف على الإسلام بصورة غير متوقعة، وأصبحت نسخ القرآن الكريم المترجمة من أكثر الكتب مبيعاً في الأسواق الأمريكية والأوروبية حتى نفدت من المكتبات، لكثرة الإقبال على اقتنائها، وتسبب ذلك في دخول الكثير منهم في الإسلام، وفي ألمانيا وحدها بيعت خلال سنة واحدة (40) ألف نسخة من كتاب ترجمة معاني القرآن الكريم باللغة الألمانية. كما أعادت دار نشر )لاروس) الفرنسية الشهيرة طباعة ترجمة معاني القرآن الكريم بعد نفادها من الأسواق.

د- تزايد أعداد الداخلين في الإسلام

ففي عام 2001 نشرت صحيفة (نيويورك تايمز) مقالاً ذكرت فيه أن بعض الخبراء الأمريكيين يقدرون عدد الأمريكيين الذين يعتنقون الإسلام سنوياً بـ (25 ) ألف شخص، وأن عدد الذين يدخلون دين الله يومياً تضاعف أربع مرات بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر حسب تقديرات أوساط دينية. والمدهش أن أحد التقارير الأمريكية الذي نُشر قبل أربع سنوات ذكر أن عدد الداخلين في الإسلام بعد ضربات الحادي عشر من سبتمبر قد بلغ أكثر من ثلاثين ألف مسلم ومسلمة، وهذا ما أكده رئيس مجلس العلاقات الإسلامية الأمريكي؛ إذ قال: "إن أكثر من (24 ) ألف أمريكي قد اعتنقوا الإسلام بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر، "وهو أعلى مستوى تَحقق في الولايات المتحدة منذ أن دخلها الإسلام".

أما في فرنسا فقد أوردت صحيفة (لاكسبرس) الفرنسية تقريراً عن انتشار الإسلام بين الفرنسيين جاء فيه: "على الرغم من كافة الإجراءات التي اتخذتها الحكومة الفرنسية مؤخرًا ضد الحجاب الإسلامي وضد كل رمز ديني في البلاد، أشارت الأرقام الرسمية الفرنسية إلى أن أعداد الفرنسيين الذين يدخلون في دين الله بلغت عشرات الآلاف مؤخرًا، وهو ما يعادل إسلام عشرة أشخاص يوميًا من ذوي الأصول الفرنسية، هذا خلاف عدد المسلمين الفعلي من المهاجرين ومن المسلمين القدامى في البلاد".

وقد أشار التقرير إلى أن أعداد المسلمين في ازدياد من كافة الطبقات والمهن في المجتمع الفرنسي، وكذلك من مختلف المذاهب الفكرية والأديان، من علمانيين إلى بوذيين إلى كاثوليك وغيرهم، كما أشار التقرير إلى نشاط بعض الجاليات المسلمة وجماعات مثل جماعة التبليغ في الدعوة إلى الإسلام في المجتمع الفرنسي.

كما ورد في التقرير إلى أن عدد المعتنقين الجدد للإسلام من الفرنسيين يصل إلى(60) ألفًا مؤخرًا، سواء أولئك الذين أسلموا بدافع حبهم وإعجابهم بهذا الدين، أو بدافع البحث عن الهوية والبحث عن الذات، الكثير منهم من شباب المدن، ويتراوحون ما بين 'الأصولية' والاعتدال. منهم مهندسون.. جامعيون.. رؤساء شركات.. مدربون.. مدرسون.. طلاب.. عاطلون.. متحفظون أو متدينون بشكل واضح... كل هؤلاء الأشخاص يشكلون لبنة جديدة في المجتمع الإسلامي الجديد، وهم بمثابة الأسرة الكبيرة في مختلف مجالات الحياة بالمجتمع الفرنسي .ومن هؤلاء على سبيل المثال: فنان الراب في مدينة مرسيليا المسمى إخناتون، ولاعب الكرة (فرانك ريبري)، ومصمم الرقصات (موريس بيجار) وأيضًا (كليمون) -أصغر أبناء رئيس وزراء الحزب الاشتراكي السابق- موريس توريز'.. كل هؤلاء أعلنوا إسلامهم منذ فترة ليست بالبعيدة.. ومعتنقو الإسلام من الجيل الأول من بينهم فنانون وحاملو شهادات رفيعة، ومعظمهم يفضلون ممارسة الإسلام النقي الصافي، كما أنزله الله على نبيه محمد ..انتهى ما ورد في التقرير..

ونظراً لهذه الشواهد المؤكدة لإقبال الغربيين على الإسلام فقد حذّر أسقف إيطالي بارز من (أسلمة أوروبا)، وفي مدينة بولونيا الإيطالية حذّر أسقف آخر من أن الإسلام سينتصر على أوروبا إذا لم تغدُ أوروبا مسيحية مجددًا.. يحدث هذا الإقبال وهذا التخوف من الإسلام على الرغم من ملاحظة أمور مهمة:

أولها: أن الأوضاع الحاضرة ليست في مصلحة الإسلام والمسلمين؛ فالأحداث السيئة في بلاد الإسلام قد تعطي البعض نظرة سيئة تجاه هذا الدين بسبب أوضاع أهله.

وثانيها: تلك الجهود الهائلة والإمكانات الضخمة التي يبذلها النصارى في سبيل نشر الديانة النصرانية، على كافة الأصعدة، حتى بلغت ميزانيات بعض مجالس الكنائس العالمية أكثر من مليار دولار للسنة الواحدة.

وثالثها: التضييق على النشاطات الإسلامية والمراكز والجمعيات الخيرية الإسلامية في كثير من الدول.

ومع ذلك لا يزال هذا الدين الحق دين الإسلام ينتشر ويعتنقه الكثيرون، ونظراً لأن النصارى خصوصاً رجال الدين ينظرون للإسلام بصفته ديناً منافساً، فقد رأوا فيه خطراً على أوروبا، ولذا حرصوا على إثارة الشبهات حوله لحماية النصارى من خطره كما يتصورون.

وقد جاءت الأحداث الأخيرة ليتخذوا منها أدلة يؤيدون به مزاعمهم الباطلة عن الإسلام، فزعم كثير من غلاة النصارى أن حوادث الإرهاب سببها دين الإسلام، و يمكن لكل عاقل أن يجيب عن هذه الشبهة بحوادث التاريخ القريب، والواقع الذي نعيشه؟ فهل نقول: إن دين النصارى هو سبب الإرهاب لأنهم خلال الحربين العالميتين قتلوا الملايين من أبناء جلدتهم النصارى؟ فضلاً عمن قتلوهم من المسلمين أثناء حروبهم الاستعمارية. هل ننسب القتل والتدمير إلى دينهم؛ لأن الأمريكان النصارى قتلوا مئات الآلاف بالقنبلة الذرية؟

هل نقول: إن دين النصارى يدعو للقتل واحتلال البلدان الأخرى؛ لأن الرجل المتدين المحافظ ربيب القسس (بوش)، غزا العراق ودمرها وقت آلاف المدنيين العزل، وأحدث فيها فوضى يجني مرارتها ملايين العراقيين؟ هل نقول: إن دين النصارى دين القتل والإرهاب؛ لأن قسس ورهبان الهوتو في إفريقية ساهموا في المذابح التي حدثت للتوتسي. وقد طُلب بعضهم كمجرمي حرب للأمم المتحدة؟ هل ما حدث في البوسنة والهرسك من مذابح واغتصاب للمسلمين على أيدي الصرب يُحسب على دين النصارى وعلى المسيح عليه السلام؛ لأنه جاء في الإنجيل "ما جئت لألقي سلاماً على الأرض"؟ هل مذابح المسلمين في ليبريا وسيراليون التي قام بها النصارى ننسبها للمسيح ودينه؟

إن على البابا بندكت أن يصلح حال كنائسه التي زكمت فضائح شذوذ رجال الدين فيها الأنوف قبل أن يتحدث عن الإسلام ونبيه بتلك اللهجة المتحاملة؛ فمن كان بيته من زجاج لا يرمي الناس بحجر.

المصدر : الإسلام اليوم

==================

#الابتعاث ومخاطره

تأليف

محمد بن لطفي الصباغ

توزيع

رئاسة إدارة البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد

بالمملكة العربية السعودية

http://www.saaid.net/

بسم الله الرحمن الرحيم

الابتعاث ومخاطره (*)

إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره , ونعوذ بالله من شرور أنفسنا , ومن سيئات أعمالنا , من يهده الله فلا مضل له , ومن يضلل فلا هادي له , وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له , وأشهد أن محمد عبده ورسوله .

أما بعد

فقد آثرت أن أبحث في موضوع الابتعاث لما أرى له من الأهمية العظمى والخطورة البالغة , ذلك أن مستقبل بلاد العالم الإسلامي – يتوقف إلى حد بعيد – على هذه البعثات التي سيكون من أفرادها رجال المستقبل , وحكام هاتيك البلاد , والقيادات الفكرية فيها .

وإنني أشكر للقائمين على هذا المؤتمر إدراجهم هذا الموضوع في جملة الموضوعات التي يعالجها المؤتمر , فذلك يدل على تنبه بخطر هذه الظاهرة التي لا ييتطيع الدعاة تجاهلها , لأن ما يبنيه الداعية في مجال , يهدمه المنحرفون من المبتعثين , لاسيما إن كانت في أيديهم السلطة والصلاحيات .

حوادث صارخة تستلفت النظر :

سمعت مرة من أحد رجالات اليمن أن آلافاً من الشباب من أبناء هذا البلد المسلم الشقيق المؤمن , أُرسلوا إلى الدول الشيوعية , ليدرسوا هناك جوانب مختلفة من المعرفة والاختصاصات .

وعلمتُ في الصيف المنصرم , خلال رحلتي إلى أوربا , أن الصومال ترسل الألوف من أبنائها أيضاً , إلى الدول الشيوعية والاشتراكية ليدرسوا هناك العلوم والمعارف .

وحدث أنني منذ عشر سنوات اجتمعت في الطائرة بشاب من بلد عربي يتوقد ذكاءً , قص عليَّ قصة دراسته , وخلاصتها : إنه كان الأول في امتحان الشهادة الثانوية , فاتصلت دولة من الدول الاشتراكية بوزارة التربية في ذلك البلد , وعرضت عليها الرغبة في أن تعطي هذا الطالب الذكي منحة دراسية في أي فرع نادر من فروع التخصص يرغب فيه , وذهب إلى المدرسة , ولكنه – كما بدا من حديثه – لم يتلق العلم فقط هناك وإنما تلقى الفكر الشيوعي الماركسي وأصبح من المؤمنين به والمدافعين عنه .

مكر مدبر :

ليست عداوة الكافرين للمسلمين خافية على ذي بصيرة , فهم لا يألوننا خبالا , وما أصدق وصف القرآن الكريم لهم , وذلك في قوله تبارك وتعالى : «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ بِطَانَةً مِّن دُونِكُمْ لاَ يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً وَدُّواْ مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاء مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الآيَاتِ إِن كُنتُمْ تَعْقِلُونَ * هَاأَنتُمْ أُوْلاء تُحِبُّونَهُمْ وَلاَ يُحِبُّونَكُمْ وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ كُلِّهِ وَإِذَا لَقُوكُمْ قَالُواْ آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْاْ عَضُّواْ عَلَيْكُمُ الأَنَامِلَ مِنَ الْغَيْظِ قُلْ مُوتُواْ بِغَيْظِكُمْ إِنَّ اللّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ * إِن تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِن تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُواْ بِهَا وَإِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ لاَ يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً إِنَّ اللّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ * » سورة آل عمران 118-120

فهم منذ أن جاء محمد صلى الله عليه وسلم , بهذه الرسالة وهم في مكر مستمر , وقد صفا لهم الجوُّ عندما ضعفنا وأصبحوا أقوياء , وخيم علينا الجهل وتقدموا هم , في مجال العلوم المادية , واستطاعوا احتلال بلادنا , فزين لهم ذلك المضيَّ في عدوانهم علينا , والإمعان في الإستيلاء على بلادنا وثرواتنا , ولكنهم رأوا أن جذور الإسلام عميقة في كيان المسلم مهما كان هذا الفرد المسلم مقصراً , ووجدوا أن روح الإسلام ومعانيه ومثله العليا , مستولية أشد الاستيلاء على مشاعر الناس وتصوراتهم .....

فواجهوا هذا الواقع بالمكر والتدبير , وخططوا لإزالة هذه العقبة من طريقهم ... وهي هذا الإسلام الذي لن يمكنهم من تحقيق أغراضهم وأطماعهم , مادام حياً في نفوس المسلمين وسلوكهم .

فمن ذلك كلمة غلادستون أحد زعماء بريطانيا : " مادام هذا القرآن في أيدي المسلمين فلن يقر للاستعمار قرار في ديار الإسلام " وأمثال هذه الكلمة كثير .

وفكروا وقدروا , ثم فكروا وقدروا , ودرسوا كيف يمكنهم أن يزحزحوا الإسلام عن مكانته في صدور المسلمين ؟ وكيف يقتلعون هاتيك الجذور بهدوء ويسر ونجاح ؟ وقادهم تفكيرهم وتقديرهم إلى وسائل عدة ... استخدموها بإتقان وإحكام .

وكان من ذلك الابتعاث , والتبشير ونشر التحلل والإفساد الخلقي والحملات العسكرية المسلحة , والتشكيك , والإلحاد , ومحاربة اللغة العربية , وبعث القوميات العنصرية , والنزعات الوطنية الضيقة لتحل محل الدين , وإفساد مناهج التعليم , ووسائل الإعلام .

ونحن في بحثنا هذا , نود أن ننظر في موضوع الابتعاث , لنبين كيف أنه كان من أفتك الأسلحة لزلزلة الإسلام من القلوب , ومحاولة اقتلاع جذوره العميقة من أعماق نفوس المسلمين , وبين أيدينا حقائق يجب أن لا تغيب عن أذهاننا , من أهمها أنهم أعداء ألداء , فلا يمكن أن يكون منهم حرص على أن نتعلم ونتقوى , وأنهم أنانيون ماديون فلا يمكن أن يكون عندهم مثل هذا الإيثار والتضحية من أجلنا , وقد حرصوا على سلوك كل سبيل لإخفاء هذه الأنانية وذاك المكر , ولكنهم – على الرغم من جهودهم في كتمان ذلك – غلبوا على أمرهم , لأنه أقوى من أن يستر , وظهر ذلك في مواقف عديدة . ولو أنهم دروا أن تعليمنا لا يقودنا إلى أفخاخهم , لما رضوا أن يعلمونا حرفاً واحداً , فمثل هذه البعثات دفع إليها , وكان سبباً من أسبابها :

* الرغبة في أن يكون تجانس وتطابق في التفكير بين المستعمرين وأبناء البلاد بين المسلمين .

وينشأ عن هذا بالضرورة ضعف سلطان الدين , وزحزحة مكانته عند كثير من هؤلاء المتعلمين من المبعوثين .

وستتضح هذه الأسباب عندما نبين نتائجه وآثاره .

وقد يقول قائل : هل هناك مانع من الارتحال لأخذ النافع من علوم القوم ؟

والجواب : لا ... بشروط .

والرحلة في طلب العلم مما درج عليه علماء سلفنا الأفاضل منذ الصدر الأول , امتثالاً لأمر الله عز وجل : {وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنفِرُواْ كَآفَّةً فَلَوْلاَ نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَآئِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُواْ فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُواْ قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُواْ إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ }التوبة122

قال حماد بن زيد : ( فهذا في كل من رحل في طلب العلم والفقه , ورجع به إلى من وراءه يعلمهم إياه )(2)

وقال عبد الرزاق : (هم أصحاب الحديث)(3)

وأخرج الإمام أحمد وأبو داود الترمذي وابن ماجه والدارمي(4) , في كتبهم : أن رجلاً قدم من المدينة على أبي الدرداء – وهو بدمشق – فقال : ما أقدمك يا أخي ؟

قال : حديث بلغني أنك تحدث به عن رسول الله صلى الله غليه وسلم .

قال : أما جئت لحاجة ؟

قال : لا .

قال : أما قدمت لتجارة ؟

قال : لا .

قال : ما جئت إلا في طلب هذا الحديث .

قال : نعم .

قال : فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " من سلك طريقاً يلتمس فيه علماً سلك الله له به طريقاً إلى الجنة , وإن الملائكة تضع أجنحتها لطالب العلم رضى بما يطلب , وإن العالم ليستغفر له من في السموات والأرض حتى الحيتان في الماء . وفضل العالم على العابد كفضل القمر ليلة بدر على سائر الكواكب , وإن العلماء ورثة الأنبياء وإن الأنبياء لم يورثوا ديناراً ولا درهماً ، وإنما ورثوا العلم , فمن أخذه أخذ بحظ وافر " (5)

وقال عبد لله بن مسعود : (لو أعلم أحداً أعلم بكتاب الله مني تبلغه الإبل لأتيته )(6) .

وهكذا فقد بدأت الرحلة في طلب العلم منذ أيام الصحابة رضوان الله عليهم , فرحل أبو أيوب , وجابر بن عبد الله إلى مصر (7), وكذلك التابعون وتابعوهم حتى عصرنا الحاضر .

إذن فنحن قوم نؤيد الرحلة في طلب العلم ونحثُ عليها ولعلنا نحن أول الأمم التي جعلت الرحلة في ذلك من مقدمات العلم ومقومات التعلم , ولكننا لا نترك أمر الرحلة سائباً يقوم على الفوضى ويؤدي إلى النتائج السيئة التي تؤدي إليها الفوضى بل نشترط فيها – كما أشرنا – شروطاً :

وأهم هذه الشروط هي :

1. أن نأخذ في رحلتنا ما تحتاج إليه أمتنا ... أن نأخذ العلم التجريبي وتطبيقاته . فالعلم بحقائقه المجردة لا جنسية له ولا لون , والمخترعات لا تلتزم بدين ولا تعبر عن تصور .

2. أن نأخذ ما نأخذ ونحن محافظون على ذاتنا وكياننا وأنفسنا , معتزون بما أكرمنا الله به من الدين , لأن مثل هذا الإعتزاز يسهل علينا معرفة ما نأخذ وما ندع , ومعرفة مصلحتنا وتحديدها , ولنا الأسوة الحسنة في صنيع أجدادنا , عندما اقتبسوا بعض العلوم النافعة التي كانت عند الأقوام الأجنبية الأخرى .

فلقد أقبل أولئك الأجداد في العصر الذهبي للثقافة والتدوين والتبحر العلمي , أقبلوا على الترجمة والابتكار والإبداع , فترجموا كثيراً من الكتب وأبدعوا وابتكروا ... وكان لهم أدب راق يحمل الأصالة العربية في البيان , والوجه الإسلامي إذ جعل وجهته القرآن , وكان لهم طب يتسم بهذه السمة , ورياضيات , وفلسفة , وجغرافيا , وفيزياء , وكيمياء , وكانت هذه العلوم المختلفة مصطبغة بالروح الإسلامية .

3. أن يكون هناك اختيار لمن يذهب , فيختار لهذه المهمة من كان صلب الدين , قوي الإرادة , متقدم السن , محصناً من التأثر .

4. أن يحاط المبعوث هناك بالجو الإسلامي النظيف الذي يذكره إن غفل , ويعينه إن ذكر .

5. أن تكون مناهجنا التعليمية تجعل ممن يذهب لتلك البلاد , واعياً مؤثراً غير متأثر

وسيمر بنا تفصيل لهذه الشروط في ثنايا البحث .

ويقتضينا البحث أن نتساءل عن حكم الإقامة في بلاد الكفار , لأن الابتعاث اليوم – مع الأسف –إنما هو في الأعم الأغلب إلى بلاد الكفار .

***

الإقامة في بلاد الكفار :

قرأت بحثاً قيماً كتبه شيخ الإسلام ابن تيمية في هذا الموضوع , وقد قال فيما قال رحمه الله :

(الإقامة في كل موضع تكون الأسباب فيه أطوع لله ورسوله وأفعل للحسنات والخير – بحيث يكون (المسلم) أعلم بذلك وأقدر عليه , وأنشط له – أفضل من الإقامة في موضع يكون حاله في طاعة الله ورسوله دون ذلك )(8)

وقال كلاماً مضمونه أن الحكم على الإقامة أمر نسبي يتعلق بالشخص والظروف , فمثلا قد تكون إقامة الرجل في أرضٍ يسود بها الضلال ويستعلن فيها الكفر , أفضل إذا كان هذا الرجل مجاهداً في سبيل الله , أو داعياً إلى دينه القويم بلسانه وقلمه , وقد تكون إقامته هناك أحسن من إقامته في أرض الإيمان والطاعة .

ومن هنا كانت المرابطة في الثغور على حدود الكفار أفضل من المجاورة بالمساجد الثلاثة باتفاق العلماء .قال تعالى وهو أصدق القائلين – {أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللّهِ لاَ يَسْتَوُونَ عِندَ اللّهِ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ } {الَّذِينَ آمَنُواْ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِندَ اللّهِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ }التوبة:19| 21.

إذن فالجهاد مع الإيمان أعظم درجة عند الله , من عمارة المسجد الحرام , وسقاية الحجاج , وبركة البيت الحرام وفضل العبادة فيه أمر مسلّمٌ معروف بيِّن لا جدال فيه .

فأفضلية مقام المسلم في دار الكفر مجاهداً في سبيل الله – في تصوري – عائداً إلى أمرين 1- أحوال الشخص , وإمكانياته , ومواهبه , وطاقاته , وأوضاعه الخاصة به .

2- الظروف العامة التي تسود بقعة ما من بقاع الدنيا .

فإذا كان إنسان من الناس متَّزن الشخصية قوياً , مسموع الكلمة موهوباً , يمتلك أداه من أدوات التأثير في الناس عملية كانت أو فكرية , كالكتابة والخطابة وإنشاء المدارس وفتح المستشفيات وما إلى ذلك , مما تقتضيه مصلحة الإسلام في ذلك البلد , وكان يستطيع أن يؤدي رسالته على وجه حسن , وكان يحتمل ما يصيبه من الأذى المتوقع , فلا شك في أن إقامته حيث يقوى على الدعوة , خير له من الحياة في الوسط الطيب الصالح . أما إذا كان هذا الإنسان شخصاً عادياً , يتأثر بالوسط الذي يحيا فيه , وليس لديه شيء من المواهب والطاقات , وكان تعرضه للأذى والفتنة أمراً محققاً , فلا شك في أن مثل هذا يجب عليه أن يختار البيئة الصالحة الفاضلة وأن يقيم فيها , فذلك أروح قلباً وأسلم عاقبة .

وأود أن أقرر أيضاً :

إن وجود المرء مدة طويلة في مجتمع كافر منحرف , وتعايشه معه يجعله يتأثر بأعراف هذا المجتمع وقيمه شاء أم أبى ... ولا يمكن أن يشذ عن هذه السنة فرد , وإن كان التأثر يختلف قوة وضعفاً , سلباً وإيجاباً ... ولكنه موجود على أية حال . ونسبة الذين يسلمون من هذا التأثير نسبة قليلة , وهذا ما جعل الإقامة في بلاد الكفار , أمراً مقيتاً لا تستريح النفس إليه , ومحظوراً إن لم يكن له داعٍ , ولم تتوافر في المسلم المقيم الشروط الذي ذكرناها آنفاً .

ولقد دعت الآية الكريمة أولئك الذين يلتصقون بالأرض , ولا يهاجرون من ديار الكفر ظالمي أنفسهم[ إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلآئِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُواْ فِيمَ كُنتُمْ قَالُواْ كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ قَالْوَاْ أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُواْ فِيهَا فَأُوْلَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءتْ مَصِيراً إِلاَّ الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاء وَالْوِلْدَانِ لاَ يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلاَ يَهْتَدُونَ سَبِيلاً فَأُوْلَئِكَ عَسَى اللّهُ أَن يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللّهُ عَفُوّاً غَفُوراً ] النساء: 97|99.

والله تبارك وتعالى يفتح الآفاق أمام عباده ليختاروا الأرض التي يستطيعون فيها إقامة حكم الله . قال تعالى : {يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ } العنكبوت56

وقال : {وَمَن يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللّهِ يَجِدْ فِي الأَرْضِ مُرَاغَماً كَثِيراً وَسَعَةً وَمَن يَخْرُجْ مِن بَيْتِهِ مُهَاجِراً إِلَى اللّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلى اللّهِ }النساء: 100

ولكن هل الابتعاث في أوضاعنا القائمة هو من هذا القبيل ؟

لماذا الابتعاث وماذا يدرس المبتعثون ؟

إن الابتعاث إلى الغرب (رأسمالية وشيوعية) أمر درجنا عليه , منذ أن بدأ الاحتكاك بأوروبا في مطلع القرن الثالث عشر الهجري (أي مطلع القرن التاسع عشر الميلادي)كما سنبين ذلك في فصل خاص بتاريخ الابتعاث .

وكان أمراً له مسوغاته دون شك , فلقد ذهب أنصار الابتعاث إلى القول : بأنه لا بد منه , حتى نستطيع أن نواكب عصرنا ونشارك أهله العيش في قضاياه . وقال هؤلاء الأنصار المتحمسون :

إننا في ذهابنا إلى ديارهم نسترد ديناً سلف منا , فلقد كنا في يوم مضى أساتذة الدنيا , عنَّا يتلقى العلم كل راغب فيه , ومنهم أجداد هؤلاء الغربيين , ومن كُتُبِنا كانوا يستمدون المعرفة , حتى أضحت مصادرهم الوحيدة , وكان مثقفوهم ومفكروهم يتخرجون في جامعاتنا , قالوا : فنحن نسترد ما سلف منا إليهم , عندما نتتلمذ على أيديهم ونستمد من كتبهم المعرفة ، وهكذا الأيام يوم لك ويوم عليك , وتلك الأيام نداولها بين الناس .

وإن صح كثير مما قاله هؤلاء الأنصار , فإن هناك شيئاً لا بد من إضافته إلى كلامهم وهو :

إن الرحلة في طلب العلم وسيلة , ولكنها ليست الوسيلة الوحيدة , لاسيما بعد أن مضى على اتصالنا بحضارتهم وعلومهم الزمن الطويل . وحتى لو تعينت الر حلة وسيلة وحيدة , فقد كان يمكن أن تنضبط ويقضى على محذوراتها .

وسيتضح لنا من دراسة تاريخ الابتعاث وواقع المبتعثين هناك , مدى التفريط والمجازفة بنفر من أبنائنا , وستنكشف بعض الأسرار المهمة في هذا الموضوع .

ونودُّ أن نفرق بين نوعين من العلوم والمعارف :

أما أولهما فلا بد من أخذه وإتقانه بالرحلة أو غيرها , وكلما تفادينا الرحلة ضمنا واقعاً أفضل , خلافاً لما يدعيه الذين يتحمسون للابتعاث , وهذا النوع من المعارف هو ما يتصل بالعلوم البحتة والتطبيقية : كالرياضيات , والكيمياء , والفيزياء , والهندسة , والطب , وما إلى ذلك . إنها علوم تصلنا بأسباب الحضارة والتقدم , بل إن الإسلام ليجعل تحصيل هذا النوع وإجادته , فرض كفاية على المسلمين , إن لم يقوموا به أثموا(9) ولو نظرنا في واقعنا الحاضر لوجدنا أن من أسباب ضراوة الغزو الفكري وشراسته علينا ما قوبلت به حضارة أوربا في بادئ الأمر من سلبية من قبل أكثر أهل العلم والتوجيه في ديار المسلمين , ذلك لأنه إن لم يكن الاقتباس من هذه الحضارة يتم عن إرادة واختيار وبصيرة فإن هذه الحضارة تزحف علينا وعلى معتقداتنا وأخلاقنا لتزلزلها وتغتالها ... أجل إنها تزحف بقضها وقضيضها , وخيرها وشرها ، وصالحها وفاسدها ومثلنا عندئذ مثل قوم جياع أمامهم مائدة حافلة بصحاف مختلفة من الطعام , بعضها في السم القاتل وبعضها طيب جيد , وبعضها حلو , وبعضها حامض .... وقد زينت أتم زينة , ورتبت أفضل ترتيب .

فإن اختار العارفون الطيب النافع لهؤلاء الجياع المحتاجين , تجنبوا السُّم والأذى واستجابوا شاكرين .

وإلا فإن هؤلاء الجياع لا يستطيعون أن يصبروا على الجوع طويلاً لمجرد التحذير والخطر وسيقبلون على هاتيك المائدة المحظورة ثائرين متمردين , يأكلون طعامها النافع والضار . وإذن العلوم التجريبية والتطبيقية هي النوع الذي لا بد من أخذه .

وأما النوع الثاني من المعارف والعلوم فهو قسمان :

1. قسم يتضمن العلوم الإسلامية وعلوم اللغة العربية وآدابها , فليس هناك فائدة ترجى من أخذه عن الغرب , والضرر ظاهر في الابتعاث من أجله , ولا يمكن لأمة تملك الغيرة على ذاتها وكيانها ومثلها العليا , أن ترضى بمثل هذا الوضع الزري .

أليس أمراً مخجلاً أن يذهب رجل من المسلمين إلى اليهود والنصارى , فيتعلم منهم أمور دينه , أو يذهب إلى الأعاجم فيتعلم لغته !!؟؟

وما ثقتنا بعلم رجل تلقى علومه على اليهود والنصارى الموتورين الحاقدين على دين الإسلام وأهله ؟

وما تقديرنا لمن يتخرج في اللغة والأدب على أيدي الأعاجم المستشرقين الذين لا يبينون ولا يتذوقون ؟

إن دراسة هذه العلوم يجب أن تمنع في ديار الكفار , ويجب أن تتم في بلاد المسلمين , وهذا أمر واضح .

2. وقسم يتضمن دراسة الفنون من رقص , ومسرح , وسينما , ونحت , وموسيقى , وما إلى ذلك .

فدراسة مثل هذه الأمور , ومحظور في أي مكان في بلادنا أو في بلاد أعدائنا , ودراستها هناك أشدُّ خطراً .

ويمكن أن يلحق بهذا كل دراسة تنتهي بالدارس إلى الشك والزيغ .

ومما يدل على انحراف الابتعاث وارتباطه بغايات هدامة , أن معظم الابتعاث , إنما كان في العلوم النظرية والآداب واللغات وما إلى ذلك , ولم يكن هناك عدد كاف من المبتعثين لدراسة العلوم التجريبية .

ويذكر الدكتور محمد محمد حسين أمر البعثات فيقول : (وأصبح أكثرها يُوجّه توجيهاً أدبياً أو فلسفياً تربوياً بعد أن صارت المجالات الصناعية والخبرات الفنية وقفاً على المستعمرين الأوربيين الذين حولوا المستعمرات وأهلها إلى مزارع ومناجم وعمال لإنتاج المواد الأولية )(10) .

والذي كانت تتطلبه بلاد المسلمين هو العكس من ذلك , فتأخر المسلمين إنما نشأ عن أمور من أهمها إهمالهم للعلوم التجريبية والتطبيقية , وبعدهم عن مجالات الإنتاج والتصنيع الاقتصادي والعسكري .

والابتعاث لدراسة العلوم الدينية واللغوية يتصل لدى التأمل بعمل المستشرقين . فما هو هذا العمل ؟

المستشرقون والدراسات الدينية واللغوية :

إن أي دراسة دينية أو لغوية في ديار الغرب , ترتبط ارتباطاً حتمياً بالمستشرقين , وموضوع الاستشراق جدير بأن يبحث بشكل موضوعي وفي بحث مفرد , وأن يدرس ماله وما عليه , ولكنني – هنا- أحب أن أقول : إن الذي لا ينقضي منه عجبي أن يبقى هذا الموضوع الخطير وهو من أكثر الأمور تأثيراً في تفكيرنا وثقافتنا في العصر الحاضر أن يبقى حتى الآن دون دراسة وافية من وجهة النظر الإسلامية , ذلك لأن الدراسات التي ظهرت فيه دون المطلوب بمراحل .

والذي نريد أن نشير إليه هو أن المستشرقين بلغوا من المكر والدس والحقد منزلة بعسر تصورها , والخطورة فيها أنهم غير مكشوفين , وأن تأثيرهم على تلامذتهم بطيء , فلا يكاد يشعر هذا المبعوث بالخطر العظيم الذي يواجهه في أستاذه .

إذن الابتعاث كان له أكثر من دافع , بعضها دعت إليه حاجة بلادنا , وبعضها كان عند أعدائنا الذين أرادوا أن يصوغوا قيادات فكرية لا تعطي الإسلام الأهمية الكبرى في الحياة , ثم وجهوا دراسة المبعوثين الوجهة التي تحقق لهم أهدافهم ولا تنتهي بنا إلى التطور التقني (التكنولوجي) المطلوب .

وكان للابتعاث أكثر من مظهر , وبعضها إيجابي بناء وهو مسايرة الحضارة الإنسانية والاكتساب من علومها , وبعضها سلبي هدام سنتحدث عنه عندما نتحدث عن آثار الابتعاث .

تلك جوانب من بحث (الابتعاث) تقودنا إلى موضوع حال المبتعثين :

واقع المبعوثين :

سأقدم فيما يأتي خلاصة ما توصلت إليه من دراسة واقعية (ميدانية) قمت بها مع عدد من المبتعثين الذين أقاموا في جهات مختلفة من ديار الغرب , وفي أوقات مختلفة , ونريد من وراء هذه الدراسة أن ننصف هؤلاء الشباب الذين هم فلذات أكبادنا ، وهم في معظم الأحيان الصفوة المنتقاة من شباب الإسلام . لقد تبين لي أن شبابنا المبتعثين يواجهون في الواقع مشكلات كثيرة جداً لا يتسع الوقت لعرضها كلها , أما أهم المشكلات التي يواجهونها فهي ما يلي :

1. الصعوبات التي يتعرض لها الطالب قبل سفره من ناحية الاتصال بالجامعات , وغالباً ما يترك أمر الاتصال بالجامعة للطالب ولجهوده الشخصية , ولذا تراه مستعداً للالتحاق بأية جامعة تقبله , وأسوأ الجامعات مستوى هي عادة أسرعها رداً على طلبات الطلاب وقبولهم

ويمكن تلافي هذه الصعوبات بأن تقوم الجهات الرسمية والجمعيات الإسلامية باختيار المكان الأصلح ومساعدة الطالب على القبول ليضمن المستوى الجيد والدراسة المثلى .

2. الصعوبات التي يلقاها المبعوث من ناحية السكنى ... إنه غريب لا يتكلم لغة البلد الذي يقصده بطلاقة ، والغريب _عادة_ لا يستطيع الحركة لعدم معرفته وكثيراً ما تعمد جهات تبشيرية أو استعمارية لتلقي الوافدين , لتفسد دينهم وأخلاقهم وتستخدمهم بالتالي في مآربها وغاياتها . وتعالج هذه الصعوبات بأن يقوم الصالحون الموجودون من قبل في تلك البلاد – ولاسيما اتحادات الطلاب المسلمين – بتهيئة الوضع المناسب للطالب المبتعث .

3. صعوبة اختيار البحث المناسب وصعوبة موافقة المشرف على الموضوع الذي يرى الدارس حاجة أمته ودينه وبلاده له , ومن ذلك ما جاء في كتاب أستاذنا السباعي رحمه الله "السنة" , قال عن دكتور محمد أمين المصري : "وما كاد يطلع على برامج الدراسة , وخاصة دراسة العلوم الإسلامية فيها حتى هاله ما رآه من تحامل ودس في كتب المستشرقين وخاصة (شاخت) فقرر أن يكون موضوع رسالته نقد كتاب شاخت . تقدم إلى البروفسور أندرسون ليكون مشرفاً على تحضير هذه الرسالة وموافقاً على موضوعها , فأبى عليه هذا المستشرق أن يكون موضوع رسالته نقد كتاب شاخت , وعبثاً حاول أن يوافق على ذلك . فلما يئس من جامعة لندن ذهب إلى جامعة كمبردج وانتسب إليها وتقدم إلى المشرفين على الدراسات الإسلامية فهي برغبته في أن يكون في موضوع رسالته للدكتوراه هو ما ذكرنا , فلم يبدوا رضاهم عن ذلك , وظن أن من الممكن موافقته أخيراً , ولكنهم قالوا له بصريح العبارة : إذا أردت أن تنجح في الدكتوراه فتجنب انتقاد شاخت فإن الجامعة لن تسمح بذلك )(11)

4. عدم الإلمام الجيد باللغة الأجنبية , وقد مر ذكر هذه المشكلة الثانية . وكثيراً ما يتعرض الطالب للأخطار المحققة في خلقه ودينه وفكره من أجل التمكن من اللغة الأجنبية , إذ ينصحه بعضهم باتخاذ صديق أو أكثر من أبناء البلد الأجنبي الذي يقصده , وغالباً ما يفضلُ له – مع الأسف الشديد- أن يكون هذا الصديق من الجنس الآخر !! وهناك تكون الطامة التي قد تفسد على الطالب دراسته نفسها , بل دينه وخلقه وكيانه كله . وقد يزينون له أن يسكن مع أسرة من أهل تلك البلاد , وفي ذلك ما فيه .

وعلاج هذه المشكلة يكون في أن يستعد الطالب قبل سفره استعداداً لغوياً مناسباً وذلك بأن يدخل بعض الدورات التي تقويه في اللغة , وكذلك فإن عليه أن يدخل بعض المعاهد الخاصة في البلد الذي يسافر إليه , ويحسن أن يكون ذلك بالاتفاق والتشاور مع بعض الجمعيات والمؤسسات الإسلامية القائمة في بلاد الغرب , والقائمون على هذه الجمعيات لهم تجارب سابقة في هذا المجال , فبإمكان الطالب أن يستفيد من ذلك الاستفادة التي تجنبه كثيراً من المزالق .

5. الوسط السيئ الذي يحل فيه , ذلك أن الصالحين في بلاد المسلمين قليلون , فما بالك هناك من ديار الكفار , وغالباً ما يكون أبناء بلدته الموجودون هناك من نوعية سيئة فكراً وتديناً وخلقاً .

إن بعض الطلاب لا تغريهم بالرحلة إلا سهولة دخولهم في جامعات أوربا ذات المستوى السيئ وصعوبة دخولهم في جامعات بلادهم لاشتراط معدل معين لم يستطيعوا إحرازه . فإذا كان هؤلاء من ذوي السلوك المنحرف ساعدهم هذا الواقع على السقوط الخلقي وسهل لهم أسبابه , ولذلك فأنت ترى عدداً ليس بالقليل من أبناء المسلمين هناك ساقطين منكبين على الملذات والشهوات ولا يكادون يلتفتون إلى دراستهم , إن أمثال هؤلاء الطلاب يضاف إليهم زملاء الطالب من الأجانب يشكلون وسطاً يغريه بالفساد .

وعلاج هذه المشكلة يكون بإعداد الوسط الإسلامي المناسب , واختيار الجامعة الجيدة التي يستطيع أن يجد فيها التجمع الإسلامي المنشود .

6. انقطاع الصلة بين المبعوث وبلده : وهذا يساعد كثيراً على التحول من الولاء لبلده ودينه وأمته إلى ولاء للمجتمع الجديد الذي يضمه , وقد نتج عن هذا الانقطاع تخلي عدد من النابغين عن جنسياتهم والاندماج في المجتمع الجديد لقاء إغراءات مادية كبيرة . إن هؤلاء النابغين يكونون بمنزلة الدم الجديد يزيد في قوة الأعداد ويمد من أجل حضارتهم .

ولو أن الصلة معقودة لما خسرت البلاد طاقات وإمكانيات كثيرة , هذا وقد كنت من سنوات سمعت إحصاء مذهلاً يتحدث عن فرار الطاقات والإمكانات والعقول من بلاد المسلمين إلى بلاد الكفار التي كانوا يدرسون فيها .

وعلاج ذلك أن تقوم الدولة المبتعثة والجمعيات الإسلامية بوصل هؤلاء الشباب ببلدهم , واستقدامهم إليها الحين بعد الحين بدعوتهم وتحمل نفقات سفرهم , وبنقل الأخبار ولاسيما أخبار بلدهم من وجهة النظر الإسلامية , وبتزويدهم بالمجلات الرصينة , والجرائد الجيدة , وبالنشرات الهادفة , وبالاستمرار بمراقبة المبتعث , وبإنشاء نوع من الروابط الصالحة الهادفة بين المبعوثين أنفسهم .

7. صعوبات دراسية في التخصص , وهذه ناحية في غاية الأهمية , وأبرز ما تكون واضحة في المبعوثين الرسميين الذين يوفدون على حساب الدولة التي تحدد تخصصات معينة وترسل المبتعثين لدراستها . ويحدث كثيراً –لأسباب متعددة- أن المبتعث لا يستطيع مواصلة دراسته في التخصص الذي اختير له , ولكنه لا يستطيع تغييره ... حتى إن بعض الدول إذا علمت أن الطالب غيّر تخصصه تقطع عنه المنحة وتطلب عودته .

ويجب مواجهة مثل هذه الأمور أن تُدرس كل حالة على حدة , ويُنظر إليها بعين العدل والإنصاف , فإن ثبت أن الطالب جاد , ولكن لأسباب لا تعود إلى إهماله وانصرافه عن التحصيل تعثر في دراسة هذا التخصص الملائم له . فالواجب إتاحة الفرصة له ليعمل على دراسة التخصص الملائم له , وكان يمكن تدارك ذلك لو أن هناك هيئة إسلامية تمدُّ للطالب يد المساعدة والعون والنصح والإرشاد .

8. وهناك صعوبات أخرى مثل معاناة الصوارف الكثيرة عن الدراسة تعود إلى طبيعة الحياة المنحلة , والشهوات المبذولة , بعد انتقال من جو محافظ إلى جو منحل , ومثل الانشغال ببعض الأمور الأساسية التي لا يستطيع قضاءها إلا على حساب الدراسة , ويصعب استقصاء هذه الصعوبات وتحديدها .

هذا واقع المبتعثين وفيه حقائق من الحاضر وحقائق من الماضي , ولا شك في أن حاضر الابتعاث متأثر بماضيه , كما أن حاضره مؤثر في المستقبل , وللابتعاث ماض وتاريخ , فلننظر في تاريخ الابتعاث .

***************

من تاريخ الابتعاث :

إن دراسة تاريخ الابتعاث بأناة وتأمل , والنظر في آثاره على المبعوثين السابقين أمر في غاية الأهمية في موضوعنا هذا . وإنه لخليق أن يلقي نوراً كشافاً يظهر أغراض الابتعاث جلية صريحة . وهو موضوع طويل يصلح أن يكون رسالة دكتوراه تستقل بدراسة هذا التاريخ وتلك الآثار . ولقد قرأت كثيراً مما كتب فيه ولم أستطع قراءة كثير مما تاقت نفسي إلى المضي في الاطلاع عليه . وأنا هنا لا أستطيع التفصيل في هذا الموضوع لأن ذلك يخرج بي عن حدود البحث التي رسمتها له .

أول بعثة :

من الأمور التي تزل فيها أقدام كثير من الباحثين تقرير الأوليات بجزم دون استقصاء , وبناء على هذا فلا أستطيع الجزم بأول مبعوث أو بأول بعثة ذهبت من بلاد المسلمين إلى ديار الكفار لتلقي العلم , ولكننا نستطيع أن نقول : إن أشهر هذه البعثات هي تلك التي كانت أيام محمد علي والي مصر , وفي النصف الأول من القرن الثالث عشر الهجري (أي في مطلع القرن التاسع عشر النصراني) يقول الأستاذ محمد عبد الغني حسن :

( يجمع المؤرخون لعصر محمد علي – مصريين وأجانب- على أن بعثة 1826 هي البعثة الأولى , ويخالفهم في ذلك الأمير عمر طوسون الذي يجعل بعثه نقولا مسابكي وزملائه إلى إيطاليا سنة 1813هي أول بعثة لمحمد علي , ويجعل بعثة عثمان باشا نور الدين وزملائه إلى فرنسا سنة 1818 هي البعثة الثانية , ويجعل بعثة سنة1826 إلى فرنسا ثالثة البعثات المصرية )(12) .

فهذا النص يؤيد ما ذهبنا إليه من صعوبة تحديد البعثة التعليمية الأولى إلى ديار الغرب لأننا رأينا مثل هذا التحديد بالنسبة إلى محمد علي كان موضع اختلاف ... من أجل ذلك نؤثر أن نقول : إن بعثات محمد علي (13) التي هي أشهر البعثات وأكثرها تأثيراً في حياتنا كانت في مطلع القرن التاسع عشر أو الربع الأول منه .

البعثات إلى فرنسا :

ويستوقف الباحث تساؤل مريب بالنسبة إلى مكان ذهاب البعثات المصرية لماذا كان إلى فرنسا دون غيرها ؟ ونحن نعلم أن فرنسا غزت مصر أيام نابليون (14) قبل تولي محمد علي بسنوات , وأن خيل الفرنسيين دخلت الأزهر وأن جنودهم جاسوا خلال الديار وأتوا بفظائع مستنكرة ... فكيف تعمد حكومة مصر- بعد أن تخلصت ديارها من الاحتلال الفرنسي- إلى أن ترسل أبناءها إلى فرنسا الغازية ؟ وبلد الغزاة المعتدين الذين ولغوا في دماء الآمنين من السكان , لا يصلح أن يكون محلاً لدراسة أبناء الأمة المظلومة المعتدى عليها , لأن الحقد الذي يغلي في الصدور على الظلمة المجرمين لا يتيح للوافدين مناخاً ملائماً للدراسة , ولأن هذا الوضع العدائي لا يقنع المبعوثين بالأمن هناك .

قد يقول قائل : إن العلاقات السياسية هي التي قضت بهذا وفرضته , ولكن أمراً واضحاً لا بد أن نذكره , وهو إن إفساد الطلبة المبعوثين لم يكن ليتحقق في بلد من البلاد الأوروبية كما كان يمكن أن يتحقق في فرنسا التي خرجت من الثورة الفرنسية وهي تسبح في بحور من الفوضى الخلقية والفكرية والاجتماعية ... من أجل ذلك كانت فرنسا محل البعثات .

ومن المفيد أن نذكر أول وزير لوزارة المعارف المصرية هو أحد أفراد بعثة 1826 وهو مصطفى مختار المولود سنة 1802 والمتوفى سنة 1839 وقد عاد إلى بلاده سنة 1832 أي رحل إلى فرنسا وهو ابن أربع وعشرين سنة وأقام هناك ست سنوات , وهي الفترة التي يتم فيها تكوين شخصية المرء وثقافته , وكان في سن هي ذروة التهاب الشباب .

ويبدو أنه كان هناك في فرنسا يستجيب لرغبات من رغبات نفسه , فقد ذكر مترجموه أنه كان لديه ميل إلى الموسيقى ,فأرسلت له ساعة دقاقة تحدث نغماً موسيقياً كما اشتريت له آلتان موسيقيتان ب184 فرنكاً على حساب الدولة أثناء إقامته هناك (15) وكما يدل هذا الخبر على ميل مصطفى للطرب والموسيقى واشتغاله بهما في فرنسا أثناء طلبة العلم يدل أيضاً على رغبة الدولة في ذاك العهد المبكر المتقدم من اتصالنا بالحضارة على مسايرة الشباب في رغباتهم , ومسارعتها لتحقيق ما يريدون من وسائل اللهو والعبث فلو أن دولة إسلامية قامت الآن بإرسال مثل ذلك إلى بعض المبتعثين لاستغربنا ذلك منها . والموسيقى الآن وموقف الناس منها يختلف عن موقفهم منها قبل مائة وخمس وسبعين سنة , قطعنا خلالها أشواطاً من التطور قد تعادل ما قطعناه خلال ألف ومائتين من السنين قبل ذلك .

ولم يلتزم المبتعثون الحدود التي أرادها مرسلوهم , وعندما حاول بعضهم أن يتشدد في إلزام المبعوثين بعدم مجاوزة المهمات الأصلية باءت محاولتهم بالإخفاق(16) .

يقول الدكتور محمد محمد حسين :

( وكان هؤلاء المبعوثين الذين أرسل أكثرهم إلى فرنسا يقرؤون الكتب الفرنسية ويشاهدون الحياة الفرنسية في أحفل العصور بالصراع الفكري الذي يصحب الثورات وكانت فرنسا تعيش في أعقاب الثورة الفرنسية وما صاحبها وتلاها من قلق فكري وروحي لم يبلغ نهاية مداه , وقد احتل هؤلاء المبعوثين من بعد مكان الصدارة والقيادة في مختلف الميادين )(17)

ولو أن الأمر وقف عند حد احتلال هؤلاء مناصب الوزارة والقيادة لهان الأمر شيئاً ما ولكن الأمر كان أعظم رُزءاً وأجل كارثة , فقد كان المجلس الذي أشرف على التعليم أيام محمد علي من الأجانب والأرمن ومن المصريين الذين أتموا دراستهم في الخارج .

وقد ذكر الأستاذ محمد عبد الغني حسن من أسماء أعضاء المجلس الأسماء الآتية : ( كلوت بك – كياني بك – وأرتين أفندي – واسطفان أفندي - ورفاعة الطهطاوي – وبيومي أفندي – وفارين- وحكاكيان- ولامبر- وهامون- ودوزول )

إن , هذا الخبر التاريخي المثير ليكشف لنا عن خبئ كان يتوارى خلف الابتعاث , ولو أننا درسنا حياة رفاعة ومؤلفاته لتبين لنا – مع الأسف الشديد – أن أعداءنا قد وصلوا إلى كثير مما يريدون . فالرجل كان معجباً غاية الإعجاب بحياة القوم , ورجع يمجد لأول مرة الفراعنة الكفار , ويذكرهم كما يذكر الرجل أبطاله وصانعي مجده , مع أن المسلمين في أقطار الدنيا كافة كانوا ولا يزالون يسمون عهد ما قبل الإسلام بالجاهلية . وإذا كان هذا حال الرجل الأزهري المعمم الذي أوفد ليكون إماماً للطلبة ومرشداً لهم . فما بالك بالآخرين الذين كانوا معه ؟؟؟؟ .

ونستطيع – كما يقول الدكتور صديقنا محمد محمد حسين – أن نجد فيما كتبه رفاعة صدى لتفكير القرن الثامن عشر في أوروبا وفي فرنسا الثائرة بوجه خاص ... أن نجد آراء تظهر للمرة الأولى في المجتمع الإسلامي .

* للمرة الأولى في البيئة الإسلامية نجد كلاماً عن الوطن والوطنية وحب الوطن بالمعنى القومي الحديث في أوربا الذي يقوم على التعصب لمساحة محدودة من الأرض يراد اتخاذها وحدة وجودية يرتبط تاريخها القديم بتاريخها المعاصر ليكونا وحدة متكاملة ذات شخصية مستقلة تميزها عن غيرها من بلاد المسلمين وغير المسلمين .

* وللمرة الأولى نجد اهتماماً بالتاريخ القديم يوجه لتدعيم هذا المفهوم الوطني الجديد .

* ولأول مرة تنقل إلى المسلمين النظريات الثورية .

* ولأول مرة نرى عرضاً للنظم الاقتصادية الغربية التي تقوم على المصارف والشركات .

*ولأول مرة نرى كلاماً عن المرأة ليس من شك في أنه من وحي الحياة الاجتماعية الأوروبية مثل إنكار تعدد الزوجات , والمطالبة بتحديد الطلاق والمطالبة باختلاط الجنسين .

***

ويبدو أن الحدة في الابتعاث كادت تهدأ , وذلك عندما قامت حركة نشيطة في نقل العلوم التجريبية والتطبيقية إلى اللغة العربية غير أن أقوى آثمة خائنة أوقفت هذه الحركة ودعت إلى الابتعاث .

يقول الأستاذ محمود محمد شاكر : (... فإن كثيراً من الكتب قد ترجم يومئذ إلى العربية في أنواع العلوم كالطب والهندسة والرياضيات والعلوم الحربية , وطبع أيضاً بمصر طباعة جديدة , ولكن يظهر أن القناصل خوفوا هذا الطاغية الجريء عقى تيسير العلوم لطلابها من أبناء مصر , ينشرها بلسانهم , وزينوا له أن يقتصر على البعثات التي تدرس في الخارج )(18)

آثار الابتعاث ونتائجه

لاشك في أن للابتعاث وجهاً إيجابياً , غير أننا ههنا نودُّ أن نذكر آثاره السلبية ونتائجه الوخيمة لنحذر وننذر أقوامنا من مغبة التساهل في هذا الأمر .

ونقرر في الوقت ذاته أن أثمن ما لدى القوم هو ذاك المنهج التجريبي الذي أورثهم هذه الحضارة العظيمة والمهارات اليدوية والفنية . وما المنهج التجريبي في ذاته إلا هدية الحضارة الإسلامية إلى العالم ... يجب أن يتذكر أبناؤنا أن أسلافهم المسلمين هم الذين استخدموا هذا المنهج وعلموه الناس , وأن الحضارة الإسلامية انتقلت إلى أوروبا عن طريق ثلاث :

1. اتصال الأوروبيين بالمسلمين في الأندلس وصقلية .

2. التجارة .

3. الحروب الصليبية .

ونود أن نورد فيما يلي أهم آثار الابتعاث من الناحية السلبية : إن من آثار الابتعاث والاستسلام له والمبالغة فيه تأكيد العبودية للغرب التي أرادوها في بادئ الأمر , وتحققت لهم في نفر من المبعوثين . إن اله عز وجل حرم علينا مطلقاً التبعية للكفار , وحظر علينا أن نكون ذيولاًَ لغيرنا , والاستسلام لفكرة الابتعاث والمضي فيها إلى أبعد مدى يؤثر مثل هذا التأثير الهدام , ومن أجل ذلك وجب علينا أن نحول دون وقوع هذه الكارثة ما استطعنا إلى ذلك سبيلا . قال تعالى [كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللّهِ ] آل عمران 110 . وقال : [وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً ] البقرة 143 . وأمرنا عز وجل أن ندعوه في صلاتنا مرات ومرات أن يهدينا صراطاً متميزاً بأنه صراط الذين أنعم عليهم غير صراط اليهود وغير صراط النصارى (19).

فلا بد من أن يكون الابتعاث بشروطه إجراء مؤقتاً , لاسيما وقد مضى علينا أكثر من قرن ونصف ونحن على اتصال بالحضارة الغربية وأصولها , وقد كان هذا كافياً لو كانت الخطة محكمة . ويجب أن تكون سياسة الابتعاث في نطاق ضيق وأن يستعاض عن ذلك بالزيارات العلمية ذات الهدف المحدد .

إن صفوة الأذكياء وخيرة الشباب من أبناء المسلمين يدرسون الثقافة العصرية في أوربا وأمريكا ويخوضون خلال ذلك في لجة الحضارة الغربية ويعيشون الانطلاق الأخلاقي والتحلل السلوكي , والنظرة المادية المسرفة والاتجاهات الإلحادية والسياسية من قومية واشتراكية وليبرالية فيرجع معظم دعاة متحمسين إلى تقليد الحضارة الغربية ونشر قيمها ومفاهيمها وتصوراتها .

بل رجع كثير منهم مشبعين بروح الغرب , يتنفسون برئة الغرب , ويفكرون بعقل الغرب ويرددون في بلادهم صدى أساتذتهم المستشرقين وينشرون أفكارهم ونظرياتهم بإيمان عميق وحماسة زائدة ولباقة وبلاغة وبيان , ومن هنا يكون خطر هؤلاء أعظم من خطر أساتذتهم .

والخطورة البالغة تكمن – كما سبق أن أشرنا – في أن يتسلم هؤلاء المبتعثون بعد عودتهم مسئوليات التوجيه والتربية والإعلام ...

إنهم عندئذ يسلخون أمتهم عن دينها وقوميتها , ويقومون بعملية مسخ لواقعها وقيمها ومثلها .

وإننا لنشاهد دائماً أن الإنسان يتأثر بالبلد الذي يدرس فيه ويحاول دائماً وأبداً أن ينقل ما رآه أثناء الدراسة إلى بلده , مع تفاوت بين هؤلاء الدارسين . تقول الكاتبة المسلمة الأمريكية مريم جميل في كتابها " الإسلام في مواجهة الغرب " :

( إن الحضارة الغربية بقوتها الاقتصادية والسياسية القائمة استطاعت أن تبسط نفوذها على العالم كله , ولما استطاعت الشعوب الآسيوية والأفريقية أخيراً أن تنصر في صراعها للحرية السياسية وتحررت من النير الأجنبي كانت حضارتها قد تحطمت قديماً إن قادة هذه الشعوب من غير استثناء تلقوا ثقافتهم في معاهد أوربا وأمريكا , وكانت هذه المعاهد وأساتذتها قد علموهم أن ينظروا إلى تراثهم الثقافي القومي بنظر الاحتقار والازدراء , وكانوا قد خضعوا عقلياً لفلسفات الحضارة المادية .

وهكذا فإن قادة آسيا وأفريقيا متفقون مع القادة الأوربيين والأمريكيين على أن الهدف الأسمى والمثل الأعلى للمجتمع البشري هو تقدمه عن طريق الصناعات الثقيلة ورفع مستوى الحياة المادية وتوسيع القوة الاقتصادية والسياسية ) (20).

والمثال القوي على ذلك الدكتور طه حسين , الذي رجع إلى مصر فآلت إليه قيادة فكرية للمجتمع , بسبب قيامه بالتدريس في الجامعة وتولية الوزارة , فقد كان عميد كلية الآداب بالقاهرة ومديراً عاماً للثقافة بوزارة المعارف ومستشاراً فنياً فيها وكان مديراً لجامعة الإسكندرية ثم وزيراً للمعارف (21) وبسبب الكتب الكثيرة التي ألفها وأذاعها بين الناس , ومما ضاعف خطره أسلوبه , ذاك الأسلوب الرائع المبين السهل البليغ , فقد نادى في كتابه " مستقبل الثقافة في مصر " بالأمور الآتية :

1. الدعوة إلى حمل مصر على الحضارة الغربية وطبعها بها وقطع ما يربطها بقديمها وبإسلافها .

فهو يقول :

( إن سبيل النهضة واضحة بينه مستقيمة ليس فيها عوج ولا التواء , وهي أن نسير سيرة الأوروبيين , ونسلك طريقهم لنكون لهم أنداداً , ولنكون لهم شركاء في الحضارة خيرها وشرها , حلوها ومرها , وما يحب منها وما يكره , وما يحمد منها وما يعاب )(22) .

يدعي في هذا الكتاب بأن صلة مصر إنما هي بأوربا لا بالشرق يقول :

( إن العقل المصري منذ عصوره الأولى عقل إن تأثر بشيء فإنما يتأثر بالبحر الأبيض المتوسط , وإن تبادل المنافع على اختلافها فإنما يتبادلها مع شعوب البحر الأبيض المتوسط ) .

وينعى على المصريين أن يروا أنفسهم شرقيين فيقول :

( فأما المصريون أنفسهم فيرون أنهم شرقيون , وهم لا يفهمون من الشرق معناه الجغرافي وحده , بل معناه العقلي والثقافي , فهم يرون أنفسهم أقرب إلى الهندي والصيني والياباني منهم إلى اليوناني والإيطالي والفرنسي , وقد استطعت أن أفهم كثيراً من الغلط وأن أفسر كثيراً من الوهم ولكني لم أستطع قط – ولن أستطيع في يوم من الأيام – أن أفهم هذا الخطأ الشنيع أو أسيغ هذا الوهم الغريب ) .

2. وكذلك دعا الدكتور طه حسين إلى إقامة شؤون الحكم على أساس مدني لا دخل فيه للدين , أي دعا إلى قيام حكومة لا دينية , يقول في كتابه المذكور : ( وحدة الدين ووحدة اللغة لا تصلحان أساساً للوحدة السياسية ولا قواماً لتكوين الدول ) .

ويدعي : ( أن المسلمين قد أقاموا سياستهم على المنافع العملية , وعدلوا عن إقامتها على الوحدة الدينية واللغوية والجنسية أيضاً قبل أن ينقضي القرن الثاني للهجرة حين كانت الدولة الأموية في الأندلس تخاصم الدولة العباسية في العراق ) .

3. وكذلك دعا طه حسين إلى إخضاع اللغة العربية لسنة التطور ويقترح أن تكون الفصحى التي نزل بها القرآن لغة دينية فحسب كالسريانية والقبطية واللاتينية واليونانية , عند أرباب النحل .

يقول : ( وفي الأرض أمم متدينة كما يقولون , وليست أقل من إيثاراً لدينها ولا احتفاظاً به ولا حرصاً عليه , ولكنها تقبل من غير مشقة ولا جهد أن تكون لها لغتها الطبيعية المألوفة التي تفكر بها وتصطنعها لتأدية أغراضها , ولها في الوقت نفسه لغتها الدينية الخاصة التي تقرأ بها كتبها المقدسة وتؤدي فيها صلاتها . فاللاتينية مثلاً هي اللغة الدينية لفريق من النصارى , واليونانية هي اللغة الدينية لفريق آخر , والقبطية هي اللغة الدينية لفريق ثالث , والسريانية هي اللغة الدينية لفريق رابع ) .

وهذا شيء خطير حقاً , وإن كان يخفى ضرره على كثير من الناس .

ويقول الدكتور محمد محمد حسين تعليقاً على هذا النص وكشفاً عن خبيئة :

( ومن هذا نرى أن المؤلف لا يرى بأساً من أن تتطور لغة الكتابة والأدب في العربية حتى يصبح الفرق بينها وبين عربية القرآن الكريم مثل الفرق بين الفرنسية واللاتينية) (23) ومثال آخر يصلح أن يكون برهاناً على ما يترك الابتعاث من تبعية للغرب في نفس بعض المبتعثين , وهو ما ذكره أستاذنا الدكتور الشيخ مصطفى السباعي عن تجربته مع واحد من هؤلاء التابعين , فقال :

( لما كنا طلاباً في نفس تخصص المادة في الفقه والأصول وتاريخ التشريع في كلية الشريعة وكان ذلك عام 1939 عينت مشيخة الأزهر في عهد الشيخ المراغي رحمه الله , الدكتور علي حسين عبد القادر أستاذاً لنا يدرس تاريخ التشريع الإسلامي , وكان قد أنهى دراسته في ألمانيا حديثاً , وهو مجاز من كلية أصول الدين ومكث في ألمانيا أربع سنوات حتى أخذ شهادة الدكتوراه ...

وكان أول درس تلقيناه عنه أن بدأه بمثل هذا الكلام :

( إني سأدرس لكم تاريخ التشريع الإسلامي , ولكن على طريقة علمية لا عهد للأزهر بها , وإني أعترف لكم بأني تعلمت في الأزهر قرابة أربعة عشر عاماً فلم أفهم الإسلام , ولكنني فهمت الإسلام حين دراستي في ألمانيا ) .

فعجبتا _نحن الطلاب _ من مثل هذا القول , وقلنا فيما بيننا : لنسمع إلى أستاذنا لعله حقاً قد علم شيئاً جديراً بأن نعلمه عن الإسلام مما لا عهد للأزهر به . وابتدأ درسه عن تاريخ السنة النبوية ترجمة حرفية عن كتاب ضخم بين يديه , علمن فيما بعد أنه كتاب جولد تسهير " دراسات إسلامية " وكان أستاذنا ينقل عباراته ويتبناها على أنها حقيقة علمية , واستمر في دروسه , نناقشه فيما يبدو لنا – نحن الطلاب – أنه غير صحيح ، فكان يأبى أن يخالف جولد تسهير بشيء مما ورد في هذا الكتاب)(24) .

* ومن أخطر الآثار أن يعود المبعوث يحقق أغراض أعداء الأمة , فمن المعلوم _ كما أشرنا _ أن حاجة المسلمين إلى العلوم التطبيقية حاجة ماسة , ومع ذلك فإن السيد أحمد خان (المولود 1232 _ 1817 والمتوفي سنة 1315 _ 1898) – وهو نموذج من المبتعثين _ كان يعارض في إنشاء دراسات علمية تجريبية في الجامعة التي أنشأها في الهند , وهو من الذين قضوا حقبة في بلاد الانكليز , وهو كما يقول الأستاذ الندوي : ( أول مسلم هندي سافر إلى الجزائر البريطانية في هذا العهد المبكر )(25) وقد عاد وهو من أشد الناس حماسة للدعوة للأخذ بالحضارة الغربية خيرها وشرها .

قال من مقال نشره في " مجلة عليكرة " في تاريخ 19 فبراير سنة 1898 :

( إن الهند نظراً إلى حالتها الراهنة ليست في حاجة إلى تعليم الصنائع , إن الأهم المقدم هو الثقافة الفكرية من المستوى الأعلى ) (26)

وقد عارض أن يكون مشروع تعليم العلوم الصناعية على حساب تعليم الآداب الإنجليزية والدراسات الأدبية .

* ومن أخطر الآثار الانحراف العقيدي والانهيار الخلقي , اللذان يصاب بهما كثير من أبناء الطلبة , ذلك لأن عوامل الإفساد والإغراء , والتشكيك والإغواء التي يتعرضون لها قد تتغلب على عناصر المقاومة التي تكون لدى بعضهم , فالانطلاق من جو مجتمع مغلق إلى جو مجتمع مفتوح يحدث هزة عنيفة لا يمكن أن تتجاهل .

وهناك سببان رئيسيان للانحراف هما : الناحية الفكرية والناحية الخلقية :

فالطالب الناشئ يذهب إلى مجتمع يقوم نظام الحياة فيه على أساس تنحية الدين جانباً والتحلل من قيوده , ويرى في هذا المجتمع ما يبهره من مظاهر التقدم والنظام , فيكون ف حالة نفسية تؤهله لقبول الشبهات , وتُلقى إليها الشكوك بشكل مدروس منظم , ويكون هناك وحيداً يعيش بعيداً عن جماعة المسلمين , فلا يتاح له أن يؤدي الصلوات في جوها المؤثر , ولا أن يحضر موسم العبادة العظيم في شهر رمضان , مما يسهل على الكائدين إيقاع الانحراف عليه .

وهناك الناحية الخلقية التي قد تكون أشد ظهوراً بالنسبة إلى الطلاب المسلمين في ديار الغرب , إذ ينتقل هذا الشاب من بلاد درج الناس فيها على سلوك معين , وأعراف خاصة , فمن ذلك أن المرأة المحترمة لا تكون إلا أما أو أختاً أو بنتاً أو زوجة أو امرأة أجنبية عفيفة صينة . ويسافر الفتى وهو في ذروة التهاب الغريزة الجنسية .ويذهب إلى مجتمع لا يلتزم ذاك السلوك , ولا يعترف بهاتيك الأعراف , ويلقى المرأة فيه متاحاً مباحاً لمن شاء من الناس , ولا يرى كثير من الناس هناك في ذلك شيئاً كبيراً .

وليس هناك فتنة أضر على الرجال من النساء كما يقول النبي صلى الله عليه وسلم .

هذان هما السببان الرئيسيان في الانحراف .

* ومن الآثار الخطيرة تخلف المبتعث في لغته الأم , وقد يكون تخلفه هذا سبباً يدعوه إلى أن يقف مسيئة للغته وأمته , فيؤكد _ مثلا _ بقاء تدريس العلوم التجريبية والتطبيقية باللغة الأجنبية , وذلك ليغطي عجزه وليؤدي العمل المطلوب منه بأسهل سبيل وأقل جهد .

* ومن الآثار الخطيرة أن يعود بعض هؤلاء العابثين جهلة فارغين , وهم يحملون شهادات , ولكنهم لم يستطيعوا التفرغ لطلب العلم لأنهم كانوا عنه في شغل ... هذا ، إذا عادوا ... وإن لم يعودوا فالأمر معروفة خسارته .

*********************

ملاحظة لا بد منها :

إن هذا حال معظم الراحلين إلى ديار الغرب من أبناء المسلمين , وليس هذا الحكم كلياً مطرداً ينسحب على كل مبعوث وراحل , بل لقد رأيت في رحلتي الأخيرة إلى أوروبا شباباً يحقر المرء نفسه واجتهاده في العبادة إذا قاس نفسه إليهم , لقد رأيتهم شباباً صالحين يندر وجودهم في هذا العصر صلاحاً وديناً وتقوى وابتعاداً عن المحرمات .

ورأيت هناك زوجات هؤلاء الشباب فتيات مسلمات محافظات على الحجاب وقراءة القرآن وحضور مجالس العلم الديني , وهن يصلحن أن يكنَّ مثالاً وقدوة صالحة للنساء في عصرنا هذا .

ولكن عدد هؤلاء بالنسبة إلى مجموع الطلاب المبتعثين عدد قليل يجعلهم شواذ , والشاذ يؤيد القاعدة ولا يخرقها .

يتلخص لنا من هذا البحث , أن الابتعاث إلى ديار الغرب ظاهرة رافقت تخلف المسلمين وتقدم الكفار , في مجال المادة والعلوم التجريبية , وأن الابتعاث شجعته أيد أثيمة استغلت دوافعه السليمة البناءة , وأصرت أن يستمر حتى بعد مرور ما يزيد على قرن ونصف من الزمان , لأنها رأت آثاره الهدامة الخطيرة التي تفتك بالأمة وكيانها وكرامتها .

وقد ألممنا بنبذة تاريخية سريعة , وعرضنا لبعض النماذج التي انهزمت أمام حضارة الغرب , فعادت معولا يهدم في بناء أمتها ويقوض صرح كرامتها , وقررنا أن آثاره اعتقادية وخلقية وعلمية وسياسية , وضربنا على ذلك بعض الأمثلة , وأشرنا خلال البحث إلى بعض المشكلات وما نراه في حلها .

المقترحات

إزاء هذه المخاطر الجمة نرى ما يلي :

1. لا ابتعاث إلا عند الضرورة , ويمنع الابتعاث في علوم الدين واللغة إلى ديار الكفار , ويقتصر على ما تدعو إليه الضرورة في العلوم التجريبية والتطبيقية .

2. لا ابتعاث إلا بعد الماجستير .

3. انتقاء الطالب المراد ابتعاثه .

4. تعريف الطالب المبتعث بدينه وتسليحه بسلاح العلم , وإظهار عوار الديانات الأخرى , والأنظمة السياسية القائمة على أساس غير الإسلام .

5. تعريف الطالب بالمشكلات التي سيواجهها عند السفر , مثل أنواع الأطعمة والأشربة المحرمة وما إلى ذلك .

6. مساعدة الطلاب في اختيار الجامعات الجيدة .

7. إرسالهم إلى البلاد التي فيهم تنظيمات طلابية إسلامية وتعريفهم بها وربطهم بعناصرها .

8. إلزام الطالب المبتعث بأن يكون متزوجاً , وأن تكون زوجته معه ,

وإذا استطاعت الدول الإسلامية بما آتاها الله من إمكانات مادية , وأن تأتي بالطاقات العلمية إلى بلدها , وتكون الدراسة هنا في بلاد المسلمين , فإن ذلك أفضل وأكمل .

وينبغي أن نقتنع بأن هذا الابتعاث إجراء مؤقت حتى تقوم في دنيا المسلمين دراسات عليا أصلية , ويمكن لنا إذا قامت مثل هذه الدراسات , أن نستعيض بالزيارات العلمية على الدراسة الطويلة , فيطلع الزائرون _ بين حين وآخر _ على ما جدَّ من العلوم والمخترعات .

كلمة أخيرة :

أيها السادة إن مؤتمركم يناقش موضوعاً من أخطر موضوعات الإسلام في هذا العصر , وهو موضوع الدعوة إلى الله , ولقد سبق أعداؤنا إلى مؤتمرات عدة للكيد للإسلام فإن أنتم كنتم على مستوى الحاجة , وخرجتم بتوصيات جادة , تأخذ طريقها إلى التنفيذ , أحسنتم لأنفسكم وأمتكم وإلا فإني أخشى أن يكون ضرر هذا المؤتمر أكبر من نفعه .

فلنتصور عظم هذه المسؤولية التي نتصدى لحملها , ولنعِ حقيقة موقفنا في عصرنا , ولنتذكر أن لنا وقفة بين يدي الله يحاسب كلا منا عن عمله ماذا عمل فيه .

وأسأل الله أن يوفقكم ويسدد خطواتكم على طريق الحق وينفع بكم إنه سبحانه سميه مجيب . والحمد لله رب العالمين .

محمد بن لطفي الصباغ

==============

#اعترافات الدكتور محمد عماره .. !

سليمان بن صالح الخراشي

فتن بعض المسلمين خلال سنين مضت بقضية " الحوار مع الأديان الأخرى " أو مع " الغرب " بغية الوصول إلى تعايش سلمي - كما يقال - من خلال نبذ الصراعات والاعتراف المتبادل بين الجميع ، مغترين بالجهود الحثيثة التي يبذلها الآخرون بدعوى الوصول لهذا الهدف ؛ عن طريق إقامة المؤتمرات الحوارية واللقاءات .

وكان هذا البعض ينتقد كل من يحذره من هذه الدعوات واللقاءات المشبوهة المخادعة المخالفة لسنة الله الكونية والشرعية ، التي يستغلها الآخرون لاستدراج المسلمين لباطلهم ، أو دفعهم للتنازل عن شيئ من دينهم ؛ كما قال تعالى ( ودوا لو تُدهن ) . متغافلين عن إخبار الله تعالى بأن الصراع بين الحق والباطل مستمر إلى قيام الساعة ، وعن قوله ( ولا يزالون يقاتلونكم ) ، وقوله ( ولئن أتيت الذين أوتوا الكتاب بكل آية ما تبعوا قبلتك . وما أنت بتابع قبلتهم . ولئن اتبعت أهواءهم بعد الذي جاءك من العلم مالك من الله من ولي ولا نصير ) . وقوله ( ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى حتى تتبع ملتهم ) .

إلا أن العقلاء منهم اكتشفوا بعد جهد ضائع زيف هذه المؤتمرات ودعوات الحوار ؛ عندما وجدوها لا تختلف كثيرًا عن المؤسسات التنصيرية ! رغم التضليل الخارجي المتخفي خلف الشعارات .

وأسوق هنا اعتراف فارس من فرسان هذه الحوارات واللقاءات ؛ هو الدكتور محمد عمارة ؛ الذي كان في يوم ما مخدوعًا بها ، مؤملا عليها آمالا كثيرة ؛ إلى أن اكتشف في النهاية أن آماله تتبخر مثل السراب بعد كل مؤتمر يحضره أو يشارك فيه .

ولعل في نشر اعترافه - الذي يشهد لشجاعته - عبرة لمن لازالوا يؤملون أن يجنوا من الشوك العنب .

يقول الدكتور في مقدمة كتيبه " مأزق المسيحية والعلمانية في أوربا " ( ص 5-14) : ( مع كل ذلك، فتجربتي مع الحوارات الدينية –وخاصة مع ممثلي النصرانية الغربية- تجربة سلبية، لا تبعث على رجاء آمال تُذكر من وراء هذه الحوارات التي تُقام لها الكثير من اللجان والمؤسسات، وتُعقد لها الكثير من المؤتمرات والندوات واللقاءات ، ويُنفق عليها الكثير من الأموال.

وذلك أن كل هذه الحوارات التي دارت وتدور بين علماء الإسلام ومفكريه وبين ممثلي كنائس النصرانية الغربية، قد افتقدت ولا تزال مفتقدة لأول وأبسط وأهم شرط من شروط أي حوار من الحوارات ؛ وهو شرط الاعتراف المتبادل والقبول المشترك بين أطراف الحوار، فالحوار إنما يدور بين "الذات" وبين "الآخر"؛ ومن ثم بين "الآخر" وبين "الذات"، ففيه إرسال وفيه استقبال، على أمل التفاعل بين الطرفين، فإذا دار الحوار –كما هو حاله الآن- بين طرف يعترف بالآخر، وآخر لا يعترف بمن "يحاوره"، كان حواراً مع "الذات"، وليس مع "الآخر"، ووقف عند "الإرسال" دون "الاستقبال"، ومن ثم يكون شبيهاً –في النتائج- بحوار الطرشان! ..

موقف الآخرين من الإسلام والمسلمين هو موقف الإنكار، وعدم الاعتراف أو القبول، فلا الإسلام في عرفهم دين سماوي، ولا رسوله صادق في رسالته، ولا كتابه وحي من السماء، حتى لتصل المفارقة في عالم الإسلام إلى حيث تعترف الأكثرية المسلمة بالأقليات غير المسلمة، على حين لا تعترف الأقليات بالأغلبية!

فكيف يكون، وكيف يثمر حوار ديني بين طرفين، أحدهما يعترف بالآخر، ويقبل به طرفاً في إطار الدين السماوي، بينما الطرف الآخر يصنفنا كمجرد "واقع"، وليس كدين، بالمعنى السماوي لمصطلح الدين؟!

ذلك هو الشرط الأول والضروري المفقود، وذلك هو السر في عقم كل الحوارات الدينية التي تمت وتتم رغم ما بُذل ويُبذل فيها من جهود، وأنفق ويُنفق عليها من أموال، ورُصد ويُرصد لها من إمكانات!

أما السبب الثاني لعزوفي عن المشاركة في الحوارات الدينية –التي أُدعى إليها- فهو معرفتي بالمقاصد الحقيقية للآخرين من وراء الحوار الديني مع المسلمين، فهم يريدون التعرّف على الإسلام، وهذا حقهم إن لم يكن واجبهم، لكن لا ليتعايشوا معه وفقاً لسنة التعددية في الملل والشرائع، وإنما ليحذفوه ويطووا صفحته بتنصير المسلمين!

وهم لا يريدون الحوار مع المسلمين بحثاً عن القواسم المشتركة حول القضايا الحياتية التي يمكن الاتفاق على حلول إيمانية لمشكلاتها، وإنما ليكرسوا –أو على الأقل يصمتوا- عن المظالم التي يكتوي المسلمون بنارها، والتي صنعتها وتصنعها الدوائر الاستعمارية التي كثيراً ما استخدمت هذا الآخر الديني في فرض هذه المظالم وتكريسها في عالم الإسلام.

فحرمان كثير من الشعوب الإسلامية من حقها الفطري والطبيعي في تقرير المصير واغتصاب الأرض والسيادة في القدس وفلسطين والبوسنة والهرسك وكوسوفا والسنجق وكشمير والفلبين .. إلخ .. إلخ .. كلها أمور مسكوت عنها في مؤتمرات الحوار الديني.

بل إن وثائق مؤتمرات التدبير لتنصير المسلمين التي تتسابق في ميادينها كل الكنائس الغربية، تعترف –هذه الوثائق- بأن الحوار الديني –بالنسبة لهم- لا يعني التخلي عن "الجهود القسرية والواعية والمتعمدة والتكتيكية لجذب الناس من مجتمع ديني ما إلى آخر" بل ربما كان الحوار مرحلة من مراحل التنصير!

وإذا كانت النصرانية الغربية تتوزعها كنيستان كبريان، الكاثوليكية، والبروتستانتية الإنجيلية، فإن فاتيكان الكاثوليكية –الذي أقام مؤسسات للحوار مع المسلمين، ودعا إلى كثير من مؤتمرات هذا الحوار- هو الذي رفع شعار: "إفريقيا نصرانية سنة 2000م"، فلما أزف الموعد، ولم يتحقق الوعد، مد أجل هذا الطمع إلى 2025م !!

وهو الذي عقد مع الكيان الصهيوني المغتصب للقدس وفلسطين معاهدة في 30-12-1993م تحدثت عن العلاقة الفريدة بين الكاثوليكية وبين الشعب اليهودي، واعترفت بالأمر الواقع للاغتصاب، وأخذت كنائسها في القدس المحتلة تسجل نفسها وفقاً للقانون الإسرائيلي الذي ضم المدينة إلى إسرائيل سنة 1967م!!

بل لقد ألزمت هذه المعاهدة كل الكنائس الكاثوليكية بما جاء فيها، أي أنها دعت وتدعو كل الملتزمين بسلطة الفاتيكان الدينية –حتى ولو كانوا مواطنين في وطن العروبة وعالم الإسلام- إلى خيانة قضاياهم الوطنية والقومية!

وباسم هذه الكاثوليكية أعلن بابا الفاتيكان أن القدس هي الوطن الروحي لليهودية، وشعار الدولة اليهودية، بل وطلب الغفران من اليهود، وذلك بعد أن ظلت كنيسته قروناً متطاولة تبيع صكوك الغفران !

أما الكنيسة البروتستانتية الإنجيلية الغربية، فإنها هي التي فكرت ودبرت وقررت في وثائق مؤتمر كولورادو سنة 1978م:

"إن الإسلام هو الدين الوحيد الذي تناقض مصادره الأصلية أسس النصرانية، وإن النظام الإسلامي هو أكثر النظم الدينية المتناسقة اجتماعياً وسياسياً، إنه حركة دينية معادية للنصرانية، مخططة تخطيطاً يفوق قدرة البشر، ونحن بحاجة إلى مئات المراكز تؤسس حول العالم بواسطة النصارى، للتركيز على الإسلام ليس فقط لخلق فهم أفضل للإسلام وللتعامل النصراني مع الإسلام، وإنما لتوصيل ذلك الفهم إلى المنصِّرين من أجل اختراق الإسلام في صدق ودهاء"!!

ولقد سلك هذا المخطط –في سبيل تحقيق الاختراق للإسلام، وتنصير المسلمين- كل السبل اللا أخلاقية- التي لا تليق بأهل أي دين من الأديان- فتحدثت مقررات هذا المؤتمر عن العمل على اجتذاب الكنائس الشرقية الوطنية إلى خيانة شعوبها، والضلوع في مخطط اختراق الإسلام والثقافة الإسلامية للشعوب التي هي جزء وطني أصيل فيها، فقالت وثائق هذه المقررات:

"لقد وطّدنا العزم على العمل بالاعتماد المتبادل مع كل النصارى والكنائس الموجودة في العالم الإسلامي، إن النصارى البروتستانت في الشرق الأوسط وإفريقيا وآسيا، منهمكون بصورة عميقة ومؤثرة في عملية تنصير المسلمين. ويجب أن تخرج الكنائس القومية من عزلتها، وتقتحم بعزم جديد ثقافات ومجتمعات المسلمين الذي تسعى إلى تنصيرهم، وعلى المواطنين النصارى في البلدان الإسلامية وإرساليات التنصير الأجنبية العمل معاً، بروح تامة من أجل الاعتماد المتبادل والتعاون المشترك لتنصير المسلمين".

فهم يريدون تحويل الأقليات الدينية في بلادنا إلى شركاء في هذا النشاط التنصيري، المعادي لشعوبهم وأمتهم !

كذلك قررت "بروتوكولات" هذا المؤتمر تدريب وتوظيف العمالة المدنية الأجنبية التي تعمل في البلاد الإسلامية لمحاربة الإسلام وتنصير المسلمين، وفي ذلك قالوا:

"إنه على الرغم من وجود منصرين بروتستانت من أمريكا الشمالية في الخارج أكثر من أي وقت مضى، فإن عدد الأمريكيين الفنيين الذين يعيشون فيما وراء البحار يفوق عدد المنصرين بأكثر من 100 إلى 1، وهؤلاء يمكنهم أيضاً أن يعملوا مع المنصرين جنباً إلى جنب لتنصير العالم الإسلامي، وخاصة في البلاد التي تمنع حكوماتها التنصير العلني"!

كذلك دعت قرارات مؤتمر كولورادو إلى التركيز على أبناء المسلمين الذين يدرسون أو يعملون في البلاد الغربية، مستغلين عزلتهم عن المناخ الإسلامي لتحويلهم إلى "مزارع ومشاتل للنصرانية"، وذلك لإعادة غرسهم وغرس النصرانية في بلادهم عندما يعودون إليها، وعن ذلك قالوا:

"يتزايد باطراد عدد المسلمين الذين يسافرون إلى الغرب؛ ولأنهم يفتقرون إلى الدعم التقليدي الذي توفره المجتمعات الإسلامية، ويعيشون نمطاً من الحياة مختلفاً –في ظل الثقافة العلمانية والمادية- فإن عقيدة الغالبية العظمى منهم تتعرض للتأثر.

وإذا كانت "تربة" المسلمين في بلادهم هي بالنسبة للتنصير "أرض صلبة، ووعرة" فإن بالإمكان إيجاد مزارع خصبة بين المسلمين المشتتين خارج بلادهم، حيث يتم الزرع والسقي لعمل فعال عندما يعاد زرعهم ثانية في تربة أوطانهم كمنصرين"!

بل إن بروتوكولات هذا المؤتمر التنصيري لتبلغ قمة اللا أخلاقية عندما تقرر أن صناعة الكوارث في العالم الإسلامي هي السبيل لإفقاد المسلمين توازنهم الذي يسهل عملية تحولهم عن الإسلام إلى النصرانية! فتقول هذه البروتوكولات:

"لكي يكون هناك تحول إلى النصرانية، فلابد من وجود أزمات ومشاكل وعوامل تدفع الناس، أفراداً وجماعات، خارج حالة التوازن التي اعتادوها. وقد تأتي هذه الأمور على شكل عوامل طبيعية، كالفقر والمرض والكوارث والحروب، وقد تكون معنوية، كالتفرقة العنصرية، أو الوضع الاجتماعي المتدني. وفي غياب مثل هذه الأوضاع المهيئة، فلن تكون هناك تحولات كبيرة إلى النصرانية .. إن تقديم العون لذوي الحاجة قد أصبح عملاً مهماً في عملية التنصير! وإن إحدى معجزات عصرنا أن احتياجات كثير من المجتمعات الإسلامية قد بدلت موقف حكوماتها التي كانت تناهض العمل التنصيري ؛ فأصبحت أكثر تقبلا للنصارى " !

فهم –رغم مسوح رجال الدين- يسعون إلى صنع الكوارث في بلادنا، ليختل توازن المسلمين، وذلك حتى يبيعوا إسلامهم لقاء مأوى أو كسرة خبز أو جرعة دواء! وفيما حدث ويحدث لضحايا المجاعات والحروب الأهلية والتطهير العرقي –في البلاد الإسلامية- التطبيق العملي لهذا الذي قررته البروتوكولات، فهل يمكن أن يكون هناك حوار حقيقي ومثمر مع هؤلاء؟!

تلك بعض من الأسباب التي جعلتني متحفظاً على دعوات ومؤتمرات وندوات الحوار بين الإسلام والنصرانية الغربية، وهي أسباب دعمتها وأكدتها "تجارب حوارية" مارستها في لقاء تم في "قبرص" أواخر سبعينيات القرن العشرين، ووجدت يومها أن الكنيسة الأمريكية –التي ترعى هذا الحوار وتنفق عليه- قد اتخذت من إحدى القلاع التي بناها الصليبيون إبان حروبهم ضد المسلمين، "قاعدة" ومقراً لإدارة هذا الحوار ؟!

ومؤتمر آخر للحوار حضرته في عمّان –بإطار المجمع الملكي لبحوث الحضارة الإسلامية- مع الكنيسة الكاثوليكية في الثمانينيات وفيه حاولنا –عبثاً- انتزاع كلمة منهم تناصر قضايانا العادلة في القدس وفلسطين، فذهبت جهودنا أدراج الرياح! على حين كانوا يدعوننا إلى "علمنة" العالم الإسلامي لطي صفحة الإسلام كمنهاج للحياة الدنيا، تمهيداً لطي صفحته –بالتنصير- كمنهاج للحياة الآخرة !

ومنذ ذلك التاريخ عزمت على الإعراض عن حضور "مسارح" هذا "الحوار"! . انتهى كلام الدكتور عمارة .

قلتُ : ويحسن بالقارئ لمعرفة المزيد عن زيف مؤتمرات حوارات الأديان أن يطلع على رسالة قيمة مطبوعة في أربعة مجلدات للدكتور أحمد القاضي بعنوان " دعوة التقريب بين الأديان " . وكذا رسالة " تسامح الغرب مع المسلمين في العصر الحاضر - دراسة نقدية في ضوء الإسلام " . أما عن المؤتمر الشهير الوحيد ! الذي شارك فيه بعض العلماء بحسن نية فقد ذكر تفاصيله الأستاذ مطيع النونو في كتابه الجديد " حوار الحضارات بين المملكة العربية السعودية والفاتيكان - في إطار الحوار الإسلامي المسيحي " .

================

#الأمة بين الإفراط والتفريط

محمد محمود عبد الخالق

لقد امتازت أمتنا بأنها أمة وسطا في كل شيء وكان ذلك من أهم ما يميزها عن الأمم وهذا ما قرره القرآن حين قال : ( وكذلك جعلناكم أمة وسطا .....) ولكن للأسف أن أمتنا في هذا الزمان تخلت عن تلك الميزة بعد أن كانت مطبقة في أوج عصور الحضارة الإسلامية فإذ بنا نجد أمتنا تنقسم بين إفراط وبين تفريط وهذا الإفراط والتفريط أصبح موجودا في كافة شئون حياتنا بصورة تدعو إلى الأنتباه وحتمية العودة إلى الوسطية من جديد .

وإذا أردنا أن نوضح ما ندعو إليه فإننا نضرب لذلك العديد من الأمثلة التي توضح بجلاء أننا نصبح إما مُفرِطين أو مُفَرطين ومن هذه الأمثلة :-

1) تربية الأبناء : فبدلا من أن يسلك الآباء سلوكا وسطا في تربية آبناءهم كما دعاهم القرآن والسنة إلى ذلك إذ بنا نجد الآباء ينقسمون بين إفراط في تربية أيناءهم على الإسلام وبين تفريط في تلك التربية ، فكثير من الأباء قد يدعوهم إلتزامهم غير المضبوط إلى تربية أبناءهم على الحق بصورة تتمثل في الأمر والنهي غير المناقش فيه بصورة تدعوا ألأبناء إلى كراهية الدين ومحاولة التمرد عليه في أقرب وقت ممكن إذ أن الأبناء لن يظلوا تحت أعين آباءهم في كل الأوقات فتربيتهم على الخوف فقط من الآباء لن يجعل الأبناء يلتزمون شريعة الإسلام ، وكم رأينا من شباب كانوا من أسر متدينه ولكن لتضييق آباءهم على حريتهم وللإلزامهم بالأمور دون نقاش أو حوار جعلهم حين يبتعدون عن آباءهم يفعلون كل ما يريدونه وما يرغبون فيه , وعلى الجانب الأخر نجد آباء لا يربون أولادهم ولا يهتمون بهم ويكون كل همهم في جمع المال وفي إعتلاء المناصب ظانين بذلك أنهم يوفرون لأبناءهم حياة سعيدة ولك للأسف أنها لا تكون كذلك ، فكما أن الآباء مطالبون بالسعي نحو المعيشة فإنهم مطالبون في الأساس بتربية آبناءهم على الحق وحمايتهم من الغواية والأنحراف ولقد رأينا وسمعنا كثيرا عن آباء تركوا أبناءهم للأنحراف لإنشغالهم بالسعي وراء المال ، ولعل هذا التفريط في التربية موجود بصورة كبيرة للغاية في أمتنا الإسلامية نظرا للأننا نعيش في زمن انشغل فيه بالسعي وراء المعيشة التي أصبحت صعبة وغير ميسرة نظرا للأننا نطبق أنظمة اقتصادية وضعية تقدم المصلحة الخاصة على المصلحة العامة وتعاني من ظلم في توزيع الدخول بين الأفراد وعموما فإن الأفراط والتفريط أمران يرفضهما الإسلام بكل قوة لأنه يدعو إلى الوسطية في تربية الأبناء والتي من أهم سماتها على سبيل المثال لا الحصر :-

1) قال تعالى : ( يا أيها الذين آمنوا قوا أنفسكم وأهليكم نارا وقودها الناس والحجارة ..) فإسلامنا يدعونا إلى أن نقي أنفسنا وأهلينا نار جهنم وهذا لن يكون إلا بالتربية على الإسلام تربية سليمة .

2) يقرر الإسلام بأن تربية الأبناء يجب أن تكون على أساس الخشية من الله وليس من الأباء فقط فالأبن الذي تدرب وتعلم وتربى على الخوف من الله لن يرتكب ذنبا أو معصية سواء كان ذلك في حضور الأب أم في غيابه .

3) يقرر الإسلام بأن يكون هناك حوار دائم بين الأباء وأبناءهم في كافة الأمور وأن يكون الأقناع هو السبيل الوحيد للحوار والنقاش لا الإلزام مع ضرورة أن لا توضع الحواجز بين الأباء وأبناءهم والتي من شأنها لجوء الأبناء إلى غير آباءهم للسؤال عن أمور يتعرضون إليها ويكون من نتيجة ذلك الضلال خاصة عندما يكون السؤال موجها إلى جماعة من الفسقة وما أكثرهم في هذا الزمان .

4) يقرر الإسلام بأن تربية الأبناء يجب أن تأخذ منحنى في التدرج وأن تتناسب التربية المرحلة التي يمر بها الأبناء فتربية ذوي السبع سنيين ليست كتربية ذوي العشر سنين ولعل ذلك ملاحظ في قوله صلى الله عليه وسلم " مروا أولادكم بالصلاة لسبع واضربوهم عليها لعشر " فلعلنا نلاحظ تغير أسلوب التربية حيث كان الأمر بالصلاة على سبع سنين ثم إن لم يطبق وينفذ الأمر يكون الضرب غير المبرح ولكن لعشر سنين فتغيرت التربية بتغير المرحلة التي يمر بها الأبن كما أن تربية الأبن ليست كتربية البنت نظرا لما بينهما من إختلاف وهذا من جميل وعظيم أمر الإسلام .

وغير ذلك من السمات الوسطية التي تميز التربية في الإسلام .

2) الدعوة إلى الله :-

انقسم الناس إلا من رحم ربي إلى قسمين في الدعوة إلى الله فنجد :-

1) قسم أفرط في الدعوة إلى الله فتجده يصرف كل وقته في الدعوة ولكن على غير علم فيضل ويُضل فنجده يفتي هنا وهناك ويتحدث عن الدين هنا وهناك آخذا بالظاهر من الدين دون أن يتعمق في مقاصد الشريعة وما تسموا إليه فنجده يحرم ما أحله الله وتجده يتشدد في أمور يسرها الدين فيفر الناس منه ومن دعوته وهذا بسبب قلة فهمه وعلمه وسوء تطبيقه .

2) فسم فرط في الدعوة إلى الله فنجده يعيش ويحيا لا يتعلم العلم الشرعي ولا يدعو إلى الله ولو بأية أو حديث أو حتى بحسن أخلاقه وجميل عبادته فهو يعيش ليأكل ويتمتع ولا هم له إلا الدنيا وآخر ما يخطر بباله أمر هذا الدين وواقعه فيموت ولا أثر له يذكره به الناس وبذلك يكون ممن خذل الإسلام في حياته وما أكثر تلك الطائفة من الناس ولا حول ولا قوة إلا بالله .

وهذا الإفراط والتفريط في الدعوة إلى الله أمرا غير مرغوب فيهما أيضا فإن دعوتنا يجب أن تتسم بالوسطين من حيث الشكل والمضمون والأشلوب فيجب على المسلم أن يتعلم دينه تعليما صحيحا ويأخذه عن العلماء الثقات ويحسن فهم الدين ويعرف مقاصد الشريعة ثم يدعوا الناس بالحكمة والموعظة الحسنة دون تغليظ أو قسوة أو إكراه بل بيسر وود ومحبة ورغبة في الخير وبهذا يستطيع أن بقطف ثمار دعوته ويحقق غايته من الدعوة إلى ربه فإسلامنا قضية رابحة تحتاج إلى محام ناجح يحسن عرضها وإيصالها إلى الناس .

وغير ذلك من الأمور التي أبتعدت عنها الوسطية كالتعامل مع المرأة والعلاقة مع غير المسلمين وغير ذلك .

==============

#لماذا البراء من الكفار

من عقيدة أهل السنة و الجماعة البراء من الكفار من يهود و نصارى و مشركين قال تعالى : ( لا تجد قوماً يؤمنون بالله و اليوم الآخر يوادون من حاد الله و رسوله )0

و قال تعالى ( يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء بعضهم أولياء بعض ومن يتولهم منكم فإنه منهم إن الله لا يهدي القوم الظالمين ) وعن جرير بن عبد الله البجلي أن رسول الله صلى الله عليه و سلم بايعه على : ( أن تنصح لكل مسلم و تبرأ من الكفار ) رواه الإمام أحمد بسند حسن .

فالولاء و البراء قاعدة من قواعد الدين وأصل من أصول الإيمان ، فلا يصح إيمان شخص بدونهما ، فيجب على المسلم أن يوالي في الله ويعادي في الله ويحب في الله و يبغض في الله فيوالي أولياء الله ويحبهم ويعادي أعداء الله ويتبرأ منهم ويبغضهم ، قال صلى الله عليه وسلم : ( أوثق عرى الإيمان الموالاة في الله والمعادة في الله والحب في الله والبغض في الله )

و قد يطرح السؤل لماذا البراء من الكفار ؟

و يمكن الجواب على هذا السؤال من خلال النقاط التالية :

أولاً : نتبرأ من الكفار لأن الله عز و جل أمرنا بذلك في كتابه ورسول الله صلى الله عليه و سلم أرشد إليه في سنته كما في النصوص السابقة و غيرها كثير .

ثانياً : لأنهم أعداء لله محادين له سبحانه و عدو الله عز و جل عدوٌ للمؤمنين قال تعالى : ( يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء تلقون إليهم بالمودة ) قال تعالى : (لا تجد قوما يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله …الآية .

فالكفار أعداء الله محادين له حزب الشيطان و نحن أولياء الله مؤمنين به حزب الرحمن و ما كان لولي الله أن يحب و يوالي عدو الله و ما كان لحزب الرحمن أن يحب و يوالي حزب الشيطان .

ثالثاً : لأن ألله أخبرنا أنهم يضمرون العداوة و البغضاء و الكراهية للمؤمنين قال تعالى : (وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً ...) النساءالآية 89 قوله تعالى : ( وَلا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا ... ) البقرة 217 وقال تعالى: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لا يَأْلُونَكُمْ خَبَالا وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الآيَاتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ ) آل عمران 118 .

رابعاً : لأنهم يصرحون بعدائهم للإسلام و المسلمين على لسان ساستهم و مفكريهم :

* يقول بن غريون رئيس وزراء إسرائيل سابقاً : يجب أن نزيل القرآن العربي من وجودهم و نقتلع اللسان العربي حتى ننتصر عليهم .

* و يقول لورنس بران : إن الإسلام هو الجدار الوحيد في وجه الاستعمار الأوربي .

* و يقول : لكننا وجدنا الخطر الحقيقي علينا موجود في الإسلام و في قدرته على التوسع و الإخضاع و في حيويته المدهشة .

* و يقول سالازار : إن الخطر الحقيقي على حضارتنا هو الذي يمكن أن يحدثه المسلمون حين يغيروا نظام العالم .

* ويقول فيليب فوندارس :إن من الضروري لفرنسا أن تقاوم الإسلام في هذا العالم وأن تنتهج سياسة عدائية للإسلام و أن تحاول على الأقل إيقاف انتشاره .

* و يقول السفاح بيجن : مهمتنا سحق الحضارة الإسلامية و إحلال الحضارة العبرية محلها و المهمة شاقة .

* و يقول وليم جيفور ويلجراف : متى توارى القرآن و مدينة مكة عن بلاد العرب يمكننا حينئذ أن نرى العربي يتدرج في سبيل الحضارة التي لم يبعده عنها إلا محمد و كتابه و لا يمكن أن يتوارى القرآن حتى تتوارى لغته .

خامساً : و نتبرأ منهم لأنهم ترجموا تلك الأقوال إلى واقع عملي فأفرغوا ما في قلوبهم من البغض و الكراهية و الحقد و الكيد للإسلام و المسلمين على بلاد المسلمين فأخذوا يبطشون بالمسلمين في كل مكان بل و يرتكبون ضدهم أبشع الجرائم من تقتيل و تشريد و حرق و تدمين ضرب بالصواريخ و الدبابات و المروحيات حتى الأسلحة المحظورة دولياً فهي مباحة إذا كان المستهدفون هم المسلمون و صدق عليهم قول من قال :

قتل امرئ في غابة جريمة لا تغتفر *** و قتل شعب مسلم مسألة فيها نظر

ماذا فعل النصارى بالمسلمين في البوسنة و الهرسك و ماذا فعلوا بهم في كوسوفا و ماذا فعلوا بهم في الصومال و ماذا فعلوا بالمسلمين في جز الملوك بأندنوسيا و ماذا فعلوا و يفعلون بالمسلمين في أفغانستان ماذا يفعل الروس بالمسلمين في الشيشان وماذا فعل اليهود و النصار و يفعلون بالمسلمين في أرض فلسطين .

و أهل الكتاب اليوم يتكالبون على الإسلام و المسلمين في كل مكان و يرمونهم عن قوس واحدة و يشنون حرباً شرسة إعلامية و عسكرية و اقتصادية وصدق الله تعالى : (لا يرقبون في مؤمن إلا ولا ذمة وأولئك هم المعتدون) التوبة-10

نسأل أن يرد كيدهم في نحورهم اللهم إنا ندرأ بك في نحورهم و نعوذ بك من شرورهم لهذه الأسباب نبغض الكفار و نتبرأ منهم .

كتبه :

شائع محمد الغبيشي

=============

#وإذا لم يعتذر البابا..فكان ماذا ؟.

د. لطف الله بن ملا عبد العظيم خوجه

- سؤال مشروع ؟.

لما صدر عن البابا اتهام المسلمين والإسلام بأنه شرير وغير إنساني، وغير عقلاني: طالبه جمع كبير من الشخصيات والمنظمات الإسلامية بالاعتذار العلني الصريح، وألحوا في ذلك جدا، وأكدوا، وأصروا، ولم يقبلوا تصريحه الثاني، ولا الثالث، الذي تضمن أسفا على سوء فهم كلامه؛ إذ لم يكن سوى أسفا، وليس اعتذارا. وتفاعل كثير من المسلمين غيرة على دينهم مع هذه المطالبة، وقد كانت حالة تجسدت فيها المعاني الإيمانية، والغيرة، والاعتزاز بالانتماء إلى الإسلام.

غير أنه وسط هذه الموجة من الغضب لم يسأل أحد: ما المقصود والغاية من اعتذار البابا ؟.

وإذا لم يعتذر – كما هو الحال – فكان ماذا ؟.

هل سيتضرر الإسلام والمسلمون من ذلك ؟.

وإذا اعتذر هل سيكون ذلك خيرا للإسلام والمسلمين ؟.

* * *

- الأحداث.

في محاضرة له في جامعة جنيسبرج بولاية بفاريا بألمانية، في 12/11/2006م، والتي كانت بعنوان: "العقل والإيمان"، أورد البابا حوارا جرى بين الإمبراطور مانويل الثاني (1350-1425) ومثقف فارسي قال فيه: "أرني شيئا جديدا جاء به محمد، فلن تجد إلا ما هو شرير ولا إنساني، مثل أمره بنشر الدين، الذي كان يبشر به بحد السيف".

وفي المحاضرة أكد البابا على:

- رسوخ العنف في بنية الدين الإسلامي، من خلال إفادته بأن آية البقرة: {لا إكراه في الدين}، إنما نزلت في بداية الدعوة، حين لم يكن لمحمد صلى الله عليه وسلم قوة ولا منعة.

- أن الإسلام يخلو من العقل، واستدل عليه بأن مشيئة الرب في العقيدة الإسلامية وإرادته ليست مرتبطة بمقولاتنا، ولا حتى بالعقل، وأن ابن حزم ذهب في تفسيره إلى حد القول بأن الله ليس لزاما عليه أن يتمسك حتى بكلمته، ولا شيء يلزمه أن يطلعنا على الحقيقة.

وحينما عرج على المسيحية سبغها بكل ما جرد الإسلام منه؛ بالسماحة والعقلانية، واستدل عليه بأول نص في الكتاب المقدس، في سفر التكوين: "في البدء كانت الكلمة"، فالرب يتحاور بالكلمة، والكلمة هي عقل وكلمة في نفس الوقت.

في نهاية كلمته دعا إلى المحاورة بين الحضارات، بالعقل والإيمان وبالكلمة؛ ليكون موافقا لطبيعة الرب.

ويلاحظ في كلمته هذا: محاولة الاستئثار المسيحي بالرب والعقل والتسامح معا، وتجريد الإسلام منها، فالمسيحية هي التي تعمل وفق إرادة وطبيعة الرب، ووفق العقل، والإسلام يعمل معارضا لطبيعة إرادة الرب والعقل؛ كونه يتخذ العنف والسيف طريقا للإقناع، ولأنه يلصق بالرب الاستعلاء المطلق، والمشيئة المطلقة، التي لا تتغير ولا تتبدل، ولا ترتبط بمقولاتنا ولا العقل..؟!!.

إثر هذه المحاضرة انطلقت ردود الفعل – المعتادة !! – من المسلمين، تمثلت في التعبيرات التالية:

- غضب إسلامي عبرت عنه: دول، ومنظمات، وشخصيات، ومظاهرات جماهيرية.

- استنكار جهات إسلامية، ونصرانية شرقية خصوصا من هذا التصريح.

- مطالبة بالاعتذار العلني الصريح، وطلب توضيح موقف البابا من الإسلام.

- أن التصريح كان في سياق تبرير الحملات الصليبية الأخيرة على بلاد الإسلام.

- الرد على الإدعاء البابوي حول العنف واللاعقلانية المنسوبة إلى الإسلام، وذلك من طريق:

o نفي جهاد الطلب، وقصره على جهاد الدفع.

o رسم عقلانية الإسلام من خلال موقف الأشعرية في رفض إيمان المقلد، وإيجاب النظر. وموقف المعتزلة في إيجاب الأصلح على الله تعالى.

o بيان تسامح الإسلام مع الديانات بعد الفتح الإسلامي.

o فضح السلوك المسيحي في العالم؛ احتلالا، ونهبا، وتقتيلا، واضطهادا.

وقد كان الصوت الأعلى هو صوت المطالب بالاعتذار، الحاث على غضبة إسلامية كبرى، ومحاولة دفع التهمة عن الإسلام والمسلمين. والذين قاموا بالرد بالمثل؛ أي ببيان فضائح الاعتقاد والسلوك النصراني في العالم كانوا قليلين، وليست لهم من الشهرة كالتي للذين اكتفوا بطلب الاعتذار، دون نقد للمسيحية عقيدة أو تاريخا.!!.

* * *

الاعتذار ؟.

نعود إلى السؤال المشروع، فنقول:

يطلب الاعتذار في العادة من المخطئ، بقصد الحد من الآثار السلبية التي تنجم عن الخطأ، من رد فعل غير ملائم، يضر بالجانبين: المخطئ، والمخطئ عليه.

فالاعتذار ينزع فتيل أزمة تكاد أن تقع بسبب ذلك الخطأ.

والأزمة ورد الفعل يقع من شعور المخطئ عليه بالإهانة، التي لحقت به، فيسعى في رد الاعتبار، وإزالة التشويه، وذلك بتقرير المخطئ بخطئه، أو بطريق آخر هو الرد بالمثل. فإن لم ينجح لجأ إلى التصادم، ورد الاعتبار بالقوة، ومن هنا تتدخل أطراف أخرى لمنع مثل هذا التصادم.

وفي حالة تصريح البابا، فإنه تسبب في الطعن في الإسلام والمسلمين، وتشويه الصورة، وفتح بابا ، المفتوح أصلا - للتصادم بين الإسلام والمسيحية، أو المسلمين والمسيحيين.

وهنا نفهم لم تصدت كل هذه القوى الإسلامية للرد، إنهم يقصدون: رد الاعتبار، وإزالة التشويه الذي لحق بالإسلام والمسلمين، ومنع التصادم بين الحضارة الإسلامية والمسيحية. ولأجلها طالبوا بالاعتذار، فكان الاعتذار وسيلتهم الوحيدة – تقريبا – في تحصيل هذه المقاصد.

لكن ألم يكن ثمة وسيلة أخرى لتحصيل هذه المقاصد ؟.

وبصورة أخرى: هل كانت وسيلة الاعتذار هي الوسيلة المثلى، التي لا تحمل معها أية آثار سلبية ؟.

في هذا التساؤل إثارة لمسألة سلبية الاعتذار، أو لنقل المحتوى الآخر للاعتذار غير ما ذكر، فإن للاعتذار وجها آخر غير تلك التي ذكرت في المقاصد، أغفلت، فلم يذكرها إلا القليل، وهي:

- أن على الطرفين ألا يبادرا بأي فعل فيه نقد وطعن تجاه الآخر، وهكذا يستطيع كل طرف أن يحاج الآخر، إن هو بادر بنقد أو طعن، بأنه خرج عن القاعدة والأصل، وعليه أن يعتذر.

وفي حالة تصريح البابا، فإن مطالبته بالاعتذار يحتوي ضمنا التعهد بعدم الطعن والنقد في المسيحية، فلا ينتقد المسلمون النصرانية، ولا يتكلمون في بطلانها، وتحريف كتابها، ومصادمتها للمعقول.

مع أن هذا النقد أمر من صميم دين الإسلام، وصميم الواجبات على المسلمين، لبيان الحق، والدعوة إليه، ودحض الباطل المبين، وعليه درج العلماء حينما ألفوا في بطلان النصرانية، كابن حزم، وابن تيمية، وابن القيم، ومن المعاصرين: رحمت الله الهندي، وأبو زهرة..

فهذا هو الأساس الذي بنيت عليه فكرة الاعتذار، سكوت كل طرف عن الآخر، من مبدأ التساوي، وبه يمكن للمسيحيين أن يكفوا، وأن يطالبوا المسلمين بالمثل. لكن إذا كان نهج الإسلام هو الرد ونقض النصرانية، واتهامها بمخالفة المعقول والمنقول، فإن ذلك يضعف موقف المطالبين بالاعتذار.

فهل كان هؤلاء مدركون لمثل هذه النتيجة، أم إنهم مستعدون للكف عن نقد النصرانية ؟.

إن كانوا غير مدركين، فعليهم أن يدركوا.

وإن كانوا مدركين، وهم مستعدون للكف وعدم الخوض في بطلان النصرانية، فتلك هي الداهية!!.

ويسأل عن سببها: هل هو إيمان بفكرة وحدة الأديان، أم شعور بالضعف ؟.

أما وحدة الأديان، فنبرؤهم منها، ونعيذهم، لكنا ذكرنا بها؛ لأن موقفهم ينسجم تماما مع فكرة وحدة الأديان، التي تقوم على اعتبار صحة جميع الأديان، وتساويها، ومن ثم فلا وجه لنقد أو طعن يوجه تجاه إحداها.

لكنه شعور بالضعف، يبدو، يحمل على السكوت أمام عدو نصراني كبير، يحمل معه كل أدوات التدمير، ويتحكم في مصير ملايين المسلمين. محاولة للإبقاء على المسلمين، نظرا إلى عدم تكافؤ القوى. وهذا هدف نبيل لا شك ..

غير أن المتابعة للأحداث تدل على: أن هذه الطريقة غير نافعة في تحصيل الهدف، بل ضارة، فإن على أهل الحق بيان الحق، وإن عذروا حينا، فلا يعذرون كل حين في السكوت على الباطل.

ومداراة المسيحيين ومحاباتهم، طلبا للسلامة وكف شرورهم، بهذه الطريقة لم تنجح، بل زادت شرهم، فمنذ عقود وبعض المسلمين في محاولة لمد جسور التواصل، والتقارب، والحوار، والتعايش.. إلخ، ولو بالسكوت عن نقد المسيحية، ودعوة المسيحيين للإسلام. لكن لم يظهر في الأفق المسيحي سوى العدوان الصريح، فهم الذين احتلوا: أفغانستان، والعراق، والشيشان، ودمروا البوسنة، وكوسوفا، ولبنان، وهم الداعمون لإسرائيل، وقد عبروا عن صليبيتهم في كلمة الرئيس الأمريكي جورج بوش الابن الأخيرة: "إنها حرب صليبية"، وموقفهم من الرسومات المسيئة للنبي واضح، فدول أوربية كثيرة حذت حذوا الدنمارك، آخرها النرويج قبل أيام، أعادت نشر الصور، ثم هذا البابا يخرج بمثل هذه التصريحات، مع أن الفاتيكان هي الراعية للحوار بين الحضارات.

فكل ما بذله هؤلاء المسلمون من الحوار، والتقارب، والتعايش، والذي حملهم على السكوت عن نقد النصرانية، لم يفد بشيء، بل زاد من هجمتهم ضد الإسلام، وصدق ربنا إذ يقول:

- {ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى حتى تتبع ملتهم }.

فهذا موقف خاطئ من هذه المنظمات والشخصيات المطالبة بالاعتذار، خطأ واقعا، كما تقدم، وخطأ شرعا، فإن الشرع يأمر بقولة الحق، والصدع بها، لا عقد تحالفات لغض النظر عن فساد المعتقدات، والسكوت عن بيان الحق، مهما كانت الدعاوى، من ضعف أو عجز، فإنه إذا نظرنا في تاريخ الدعوة، فإن الدين كان ضعيفا، ثم مازال يقوى بالدعوة والبلاغ؛ ببيان محاسن الإسلام، ومساوئ ما سواه، ومن ذلك النصرانية، وعلى هذا درج القرآن. فإذا ما اتخذ مبدأ السكوت بداعي الضعف، فمتى يهدى الناس إلى الإسلام، ومتى ينتشر ويقوى، وقد علم أن قوته إنما تتحصل بالدعوة والبلاغ، التي تزيد من أتباعه المتمسكين به ؟!.

* * *

إن الموقف الصحيح في الرد على البابا، وكل تصريح من هذا النوع، هو:

الرد بالمثل، وفي التاريخ والدين النصراني من النقاط السوداء الكبيرة ما لا تعجز ناقدا، حتى لو كان عاميا؛ ببيان فساد المعتقد النصراني، ومعارضته للعقل، وللرحمة، وتأييد ذلك بالتاريخ المسيحي:

- فالتلثيث، والصلب، والفداء، والعشاء الرباني، عقائد مسيحية معارضة للعقل، كانت سببا في ردة طائفة من النصارى، ورفضها للمسيحية.

- وتاريخ الحروب الصليببية شاهد على دموية، وعنف، وإرهاب المسيحيين، منذ أيام الحاكم الروماني قسطنطين، ونيرون، واضطهاد الكاثوليك – حزب البابا- للآرذثوكس في مصر وغيرها، والآريوسيين، وما حدث في حقهم من مجازر أمر لا يخفى.

- كما أن محاكم التفتيش في أسبانيا، والتي قتل فيها مئات الآلاف من المسلمين على الهوية الإسلامية، تركت ندبة سوداء في تاريخ أوربا المسيحية.

- ومثلها ما حدث من تطهير عرقي في البوسنة، وتحديدا في سربرنتشا، تحت سمع وبصر، بل وعون النيتو، والأمم المتحدة، ودول أوربا، وأمريكا، سفك الدم الحرام لما يزيد عن ثمانية آلاف مسلم، قتلوا بدم بارد، ودفنوا في مقابر جماعية، هذا عدى إجرام أمريكا الصليبية في أفغانستان، والعراق، حيث قتل مئات الآلاف.

فبعد كل هذا، ألا يستحي البابا من اتهام المسلمين بالعنف واللاعقلانية ؟!.

وألم يجد الذين غضبوا من تصريحه حلا لرد الاعتبار سوى المطالبة الاعتذار ؟!.

إن صفحة المسيحيين سوداء مخزية مليئة بالإجرام، كان يكفي هؤلاء المخلصين أن يسلطوا الضوء على إحداها، بدل المطالبة بالاعتذار. الاعتذار يعطيه قيمة، ويرسخ مفهوم التساوي والسكوت عن بيان الحق فيهم، وهذه هي الداهية ؟!.

كان عليهم بعده التعريج على محاسن الإسلام، وصنائعه المباركة في العالم وتاريخه أجمع، حتى شهد بعدله وبره وإحسانه وقسطه المنصفون من أتباع الديانات، من كاثوليك، وآرثوذكس.

إنها لفرصة تاريخية لإحياء الدعوة إلى الإسلام من جديد، في العالم كله، وفضح الدين المسيحي في عقيدته وتاريخيه، كان من الواجب استغلالها؛ بنشر المؤلفات الميسرة للذكر والفهم، بكافة اللغات، وبالبرامج والمحاضرات والندوات الفضائية المكثفة، على نطاق شامل وواسع؛ لتكون تصريحات البابا أداة وصولها إلى الإسماع في الأصقاع.

لكن وبدلا من ذلك، اتجه الحل إلى المطالبة بالاعتذار، واستنفد هؤلاء المخلصون جهدهم ورأيهم وكلمتهم فيه، مع تمنع وتمتع نصراني بهذا الإلحاح، ثم لم يخرجوا من البابا بشيء يذكر، ففي كل مرة يخرج فيها، يربت على أكتاف الغاضبين، يهدئ من روعهم، ويقول لهم كمعلم: هذه الحقيقة، فاسمعوها، ولو غضبتم.. فنحن نعمل على ترشيدكم، وترقيتكم إلى ما هو أسمى. !!..

هذا هو معنى أسفه من سوء فهم المسلمين كلامه، وعدم اعتذاره..

لدينا خلل في التعاطي مع المخالفين، بين من لا يرى إلا السيف معهم، حلا وحيدا، وبين من لا يرى سوى التقارب والكف حتى عن بيان الحق فيهم، تحت ذرائع شتى.

لكن أين من يقول لهم: نحن لا نتعدي عليكم، لكن دينكم باطل.. نحن لا نظلمكم، لكنكم ضالون.. نحن نحب لكم الخير، فتعالوا إلى الإسلام.. أنتم في شقاء، فتعالوا إلى الراحة والنعيم.. أنتم في ضيق وظلمة.. فتعالوا إلى السعة والنور.. وصدق الله تعالى إذ يقول:

- {ولا تهنوا ولا تحزنوا وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين}.

==============

#عبير نورة

د. أميمة بنت أحمد الجلاهمة

أكاديمية سعودية .. جامعة الملك فيصل الدمام

فتاتنا تقول إن أمها الكتاب المفتوح الذي تستسقى منه العلم والمثابرة، وإنها مهما فعلت أو قدمت فلن يكون ذلك في مقام قطرة من بحر عطائها وحبها، وأن وقوف والدها وأسرتها وتقديمهم الدعم لها، كان له أكبر الأثر في نجاحها بعد الله

كانت ليلة استنشقت فيها عبير نورة في وقت كنت في أمس الحاجة لعبير ونور يسعدان القلب والعقل معا، هذه كانت الليلة التي تشرفت فيها بالتواجد على أرض "الأربعائيات" المنتدى الثقافي النسائي في المنطقة الشرقية، نهاية الأسبوع المنصرم، حنين لا أخفيه لروح هذا المنتدى ولصاحبته "سارة بنت محمد الخثلان" التي ما فتئت توجه أنظارها لدعم الكوادر النسائية الوطنية وحتى العربية، سيدة أدركت أن الثروة الباقية لهذه الأرض الطيبة، وللأمة العربية بكاملها هي أبناؤها وبناتها، سيدة أدركت أن دعم الشباب واجب لا مناص منه، وأن دعمها للكوادر النسائية الوطنية والعربية، لا يتعارض مطلقا مع خصوصيتنا كمجتمع اعتمد الإسلام دستورا، مجتمع تتحرك النساء فيه بحرية متناهية في نطاقهن الخاص، حيث لا تقبل النساء والبنات فيه.. اقتحامه من قبل الرجال، ففيه ننصت ونعلق ونضحك دون حرج أو تردد.. خصوصية أعتقد يقينا أن الرجال تهفو نفوسهم إليها، ولذا نجدهم دوما يحتالون في البحث عن مبررات لمجالسة بعضهم بعضا.

أما "عبير نورة " فكان نابعاً من ضيفتين رئيستين لتلك الليلة، المتحدثة الأولى الدكتورة "عبير بنت حسام الدين اللحام" إحدى أعضاء هيئة التدريس بكلية العمارة والتخطيط، بجامعة الملك فيصل في الدمام، التي أقبلت إلينا في ثوب رائع استمد خطوطه وتصميمه من التراث الأردني، أقبلت حاملة باقة من رحيق الماضي الذي أبى أن يندثر، إذ اختارت أن تتحدث عن "ماهية العمارة الإسلامية" فكان العشق لسانها والعلم بيانها.

تابعت - كغيري - حديثها القيم في مضامينه، البسيط في مفرداته ومعانيه، ولأجل أننا مجحفون تجاه عمارة أعطتنا الكثير فقابلنا عطاءها بما لا يليق، فلن نجد بيننا على الأغلب إلا معمارياً أو ممولاً غيوراً نقل الماضي دون مراعاة منه لمستجدات ومتطلبات الحاضر، وإما معماري أو ممول ناكر ومنكر لجمال عمارة فاض به تاريخنا الإسلامي.. في تلك الليلة كنا كحضور نتابع على شاشة العرض صورة من عمارة الماضي الرائعة، لتوقفنا الدكتورة "عبير" موضحة الجوانب المميزة في كل منها، مؤكدة أن هناك تبايناً في كثير من التفاصيل فما تم بناؤه في الشرق مختلف عما أنشئ في الغرب، وأن هذا الاختلاف المعماري لا يلامس البتة أساسيات حرصت عليها العمارة الإسلامية منذ البداية، أساسيات استمدتها من تعاليم إسلامية تصر على مراعاة حق الجوار.. فلا ضرر ولا ضرار، عمارة تأثر بها سكانها كما تأثرت هي بهم في المقام الأول.

وفي تلك الليلة شاهدنا عمارة حديثة نقلت وبشكل يكاد يكون مطابقا لعمارة لا شك أنها مميزة، خلفتها لنا الحضارة الإسلامية، إلا أن بعضاً منها كما بينت الدكتورة "عبير" لم تراع فيها متطلبات العصر، وبالتالي كانت الفائدة المرجوة منها قاصرة نوعا ما، ولتنتهي المتحدثة إلى أن حنيننا إلى الماضي لا يبرر هذا التوجه، فالعمارة الإسلامية غنية، ومتشعبة، ورائعة الجمال، وبالإمكان تواجدها واستحداث بعض جوانبها لتتماشى مع عصرنا وغيره من العصور، عمارة تتعامل مع البيئة التي تظهر على أرضها، وتراعي طبيعة كل منها على حدة، فهي تتوقف بعظيم الاهتمام أمام البيئة الحارة، والبيئة الجبلية وسهلية الإطراف.. أما وصيتها الختامية للحاضرات، فكانت ألا ننسى الماضي ولا نتجاهل الحاضر، ولنستمتع نحن والأجيال القادمة بعبير الماضي الممزوج بمتطلبات ومستجدات الحاضر.. هذه المهندسة الأكاديمية الآتية إلينا من المملكة الهاشمية الأردنية، حصلت على جائزة الملك حسين للطلبة المتفوقين في الأردن، وهي بحق جديرة بها.

أما ذاك النور الذي اكتسى قاعة "الأربعائيات" فكان لشابة من بلادي، شابة سعودية لم تتجاوز الثامنة عشرة من عمرها، ظهرت لتمثل مزيجاً رائعاً من الخجل والثقة، فتاة حددت أهدافها وتطلعاتها، ومع ذلك لم يكن ليخطر على بالي أنها المعنية بحديث دار بيني وبين صاحبة المنتدى الأخت سارة، والذي جاء فيه على لسانها: (ستجدين ما يسرك ويثلج صدرك، ستجدين شابة سعودية تملك موهبة، تستحق التقدير..).

هذه هي ابنة هذه الأرض الطيبة "نورة بنت علي العجمي" التي اضطرت للتوجه لمملكة البحرين ولـ"الجامعة الخليجية" "لإكمال دراستها الجامعية في مجال الهندسة المعمارية، وهناك وجدت الرعاية والدعم وعلى أعلى المستويات، لقد استطاعت هذه الجامعة استثمار قدرات ابنتنا نورة، وبعثتها لتمثل الجامعة و"مملكة البحرين" في "المؤتمر الأول لشباب الجامعات العربية" عام 2006هـ، الذي انعقد على أرض الكنانة، والذي انعقد بدعم "جامعة المنصورة"، وشارك فيه (38) جامعة تنتمي إلى (14) دولة عربية.

لقد حصلت "نورة بنت علي العجمي" التي لم تتجاوز آنذاك السابعة عشرة من عمرها، والتي كانت الأصغر سنا من بين المشاركين والمشاركات، وبعد عديد من الاستفسارات وجهت لها من قبل اللجنة المحكمة، على المرتبة الثالثة "الميدالية البرونزية" في مجال الابتكارات العلمية، كما حصلت على المرتبة السابعة، في نظم وإلقاء الشعر.. بالله عليكم أليست رائعة ابنتنا نورة؟.

أما ابتكارها فكان بطبيعة الحال فريداً من نوعه، وله علاقة بتخصصها المعماري.. لقد استطاعت "نورة" صناعة الزجاج من مواد نباتية، معلنة أن هذا النوع من الزجاج يتمتع بالصلابة، والجمال، وأن استخدامه كبديل للزجاج - في بعض استخداماته - ممكن ومتحقق، وأن التجارب مستمرة حول إمكانية استخدامه بشكل أوسع.

لقد كرمتنا مملكة البحرين باختيارها لابنتنا لتمثلها في مؤتمر إقليمي، كما كرمنا ملك البحرين "الملك حمد بن عيسى آل خليفة" بنفسه بتكريمه لابنتنا "نورة" والاحتفاء بها وبنبوغها، بارك الله فيه، وفي البحرين، وأدام الود بيننا.

أما الغالية "نورة" فكرمت المملكة العربية السعودية بإعلانها المتكرر انتمائها لبلادها، وبالتزامها بالحجاب الشرعي، الذي ظهر على كل أرض وقفت عليها سواء في البحرين أوفي مصر، وسواء على منصة التكريم في جامعة المنصورة، أو في قاعة المحاضرات في الجامعة الخليجية، فالتزامها بالحجاب، وغطاء الوجه لم يكن ليعيقها على الإبداع والتميز.

وجدير بالإشارة هنا ما سمعته منها من أبيات شعرية ألقتها أمامنا في منتدى "الأربعائيات" تلك الليلة، وهي من قصيدة نالت إعجاب وتقدير لجنة التحكيم في المؤتمر المصري الذي نوهت عنه سابقا، ونالت عليها جائزة المرتبة السابعة في مجال اللغة العربية والشعر، وإليكم بعض من أبياتها:

بكيت دجلة والفرات بكاني *** والنيل في وضح النهار شفاني

كما قالت:

مادامت الخرطوم تشكو حالها *** والقدس تذرف دمعه وتعاني

ستظل عيني في السماء رقيبة *** ويظل قلبي ثابت البنيان

كما أزف للقارئ الفاضل أن ابنتنا "نورة" أكملت دراستها النظامية ابتدائي ومتوسط وثانوي، في وطنها المملكة العربية السعودية، وحصلت عام 1425- 1426هـ، على شهادة وشكر من إدارة الإشراف التربوي لمشاركتها في معرض (أنشطتي ترعى موهبتي) كما فازت في مسابقة (انطلاقة في عالم الفيزياء) المعدة من قبل شؤون الطالبات والاختبارات على مستوى محافظة الخبر.

فتاتنا هذه تقول إن أمها الكتاب المفتوح الذي تستسقى منه العلم والمثابرة، وأنها مهما فعلت أو قدمت فلن يكون ذلك في مقام قطرة من بحر عطائها وحبها، وإن وقوف والدها وأسرتها وتقديمهم الدعم لها، كان له أكبر الأثر في نجاحها بعد الله، كما تؤكد انتماءها لمدرساتها اللآتي ما زلن على اتصال دائم بها، على سبيل المثال ذكرت المرشدة الطلابية الأستاذة "هدى الشويل" بعظيم الامتنان، وكذا تحدثت بحب عن الأستاذة المفكرة "عصمت المهندس" التي تعدت علاقتها بها علاقة المدرسة بطالبتها، فهي وبشهادة نورة في مقام الأم بعطائها، كما لم تخنها الذاكرة فوجهت عظيم التقدير لمديرة جامعة البحرين الدكتورة "منى بنت راشد الزياني"، التي قدرت إمكانياتها وشجعتها، وما زال هذا حالها معها...

لقد كنت أتابع حديث نورة.. وأتخيل كم كنت سأكون محظوظة لو شرفت بتدريسها، بارك الله فيها، وفي أم أنجبتها ورعتها، وفي أسرة ساندتها، وفي مجتمع يفتخر بها ويدعمها..

ولا أدري هل من الممكن أن تنال ابنتنا "نورة بنت على العجمي" الطالبة في السنة الثانية، بالجامعة الخليجية، تقدير وزير التعليم العالي معالي الدكتور "خالد بن محمد العنقري" فيوجه بحسه الأكاديمي بتمكينها من الحصول على منحة دراسية، هل من الممكن أن تتكفل الوزارة بتكاليف دراستها؟. يقينا أؤكد ذلك.. فمن عرف معالي الدكتور خالد، يدرك أن ذلك ممكن بحول الله وقوته.

=============

#هل حصل انحطاط في الحضارة الإسلامية ؟

يتحدّث بعض الباحثين, وبعض المستشرقين الغربيين, عن انحطاط تاريخي ألمّ بالحضارة الإسلامية، أدى إلى انهيارها, وإلى بقاء واستمرارية هذا الانهيار, وهو الانحطاط الذي عرقل ويعرقل إعادة قيام الحضارة الإسلامية من جديد. وتعد هذه القضية واحدة من أهم القضايا التي دارت حولها العديد من النقاشات الثقافية والتاريخية الهامة, وما زالت إلى اليوم تثير مثل هذا النقاش, الذي لن يتوقف ما دام العالم الإسلامي يتطلع إلى نهضة حضارية إسلامية جديدة في هذا العصر.

ولعل المستشرق الأمريكي المعروف مارشال هودجسون المتوفى عام 1968م, من أكثر الباحثين والمستشرقين الغربيين المعاصرين, تشكيكاً في مقولة انحطاط الحضارة الإسلامية والثقافة الإسلامية, وقد اعتبر في كتابه الموسوعي الشهير: (مغامرة الإسلام.. الوعي والتاريخ في حضارة عالمية), الصادر في ثلاثة مجلدات, بعد وفاته عام 1974م, بعناية من زوجته وتلامذته وزملائه, أن هذه فكرة خاطئة وليست صائبة, ومردها حسب نظره, إلى أنه لم تجر حتى الآن أية إعادة نظر حقيقية في الثقافة الإسلامية ككل, ولهذا يرى أن مقولة الانحطاط الإسلامي لا يمكن التسليم بها جدياً.

ويأتي هذا الرأي بعد أن كان من المألوف لدى العلماء المحدثين,

التخلف أصاب ثقافة المسلمين وبقي الإسلام يبعث حيوية ودينامية ويقظة

الافتراض كما يقول هودجسون, بأن الثقافة الإسلامية دخلت في حالة من التقهقر أو الانحطاط بعد انهيار الخلافة في الحقبة العليا, أو في أقصى تقدير زمني في فترة الاحتلال المغولي في القرن الثالث عشر. النتيجة التي يترتب عليها في نظر هودجسون, اعتبار أن أية أدلة على حيوية وعظمة الثقافة الإسلامية في الفترات اللاحقة, خصوصاً في القرن السادس عشر نادرة بمعنى ما, وكأنها ليست جزءاً من الثقافة الإسلامية بل سلسلة من الأحداث التي لا تربطها بها صلة.

وما يخلص إليه هودجسون, أن مصير الحضارة الإسلامية ليس مثالاً عن قانون بيولوجي يقضي بأن على كل عضو أن يزدهر ثم ينحط, فالحضارة ليست بنية عضوية.

لذلك تقوم أطروحة هودجسون على ضرورة قراءة تاريخ الإسلام وثقافته وحضارته من منظور عالمي شامل, واعتبار أن دراسة تاريخ النهوض الأوروبي الاقتصادي والصناعي والعلمي والإنساني لا يستقيم بدون قراءة تاريخ قرون الإسلام ما بين القرن العاشر والسابع عشر, ومعرفة دور الإسلام في تاريخ العالم وحضارته الحديثة.

وقد وجد الدارسون الغربيون قيمة معرفية وتاريخية هامة وكبرى, في النظر لعمل هودجسون لتميز أطروحته, وجديته في البحث, حيث أمضى ما يقارب عشرين عاماً وهو يبحث ويسجل ملاحظاته وتأملاته في تاريخ الإسلام وحضارته.

وهناك من أثار مثل هذه المقولة في داخل الفكر الغربي نفسه, وذلك عندما أصدر المفكر الألماني الشهير أزوالد اشبنغلر في العقود الأولى من القرن العشرين كتابه الذائع الصيت: (انحطاط الغرب), أو (أفول الغرب), أو (تدهور الغرب), على اختلاف الترجمات, حيث اعتبر أن الغرب تجاوز مرحلة خلق الثقافة, وانتقل إلى مرحلة الحضارة أو المدنية التي تعني مرحلة الرفاه المادي, وهذا يعني في نظر اشبنغلر أفول الغرب أو انحطاطه. وقد أحدث هذا الكتاب في وقته ومازال صدمة وفتح نقاشات سجالية لم تنته إلى اليوم, وأدخل في الثقافة الأوروبية ما بات يعرف بمفهوم التشاؤمية الثقافية.

ولعل من الأصح القول أن الانحطاط أصاب الدولة في التاريخ الإسلامي, ويمكن أن نبرهن على هذه الفكرة بمقدمة ابن خلدون التي وضعت التجربة الإسلامية في نطاق التحليل وفق قواعد وأصول علم الاجتماع وعلم التاريخ. فابن خلدون بحث عن أفول الدولة في التجربة الإسلامية, وليس أفول الثقافة أو الحضارة. ولذلك يمكن القول أن التخلف أصاب ثقافة المسلمين وليس الإسلام. وبقي الإسلام ومازال يبعث حيوية ودينامية ويقظة في المجتمعات الإسلامية

===============

#هكذا أسلمنا – (1)

د.عبد المعطي الدالاتي

العلامة الدكتور عبد الكريم جرمانوس

عالم مجري ، وصفه العقاد بأنه:"عشرة علماء في واحد".

أتقن ثماني لغات وألف بها ، وهي العربية والفارسية والتركية والأوردية والألمانية والمجرية والإيطالية والإنجليزية ..

وكان عضوا في مجامع اللغة العربية في دمشق والقاهرة وبغداد والرباط، وله أكثر من مائة وخمسين كتاباً بمختلف اللغات .

منهاكتاب "معاني القرآن" .. و"شوامخ الأدب العربي".. و"الله أكبر"..

و"الحركات الحديثة في الإسلام".

يقول الدكتور عبد الكريم جرمانوس :

" حَبّب لي الإسلام أنه دين الطهر والنظافة : نظافة الجسم والسلوك الاجتماعي والشعور الإنساني ، ولا تستهن بالنظافة الجسمية فهي رمز ولها دلالتها"(1).

" كم أَلفيت في قلوب المسلمين كنوزاً تفوق في قيمتها الذهب ، فقد منحوني إحساس الحب والتآخي ، ولقّنوني عمل الخير والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ..

وعلى المسلمين أن يعضّوا بالنواجذ على القيم الخلقية التي يمتازون بها ، ولا ينبهروا ببريق الغرب ، لأنه ليس أكثر من بريقٍ خاوٍ زائف"(2).

الإسلام دين الحضارة:

"لا يوجد في تعاليم الإسلام كلمة واحدة تعوق تقدم المسلم ، أو تمنع زيادة حظه من الثروة أو القوة أو المعرفة ..

وليس في تعاليم الإسلام ما لا يمكن تحقيقه عمليا ، وهي معجزة عظيمة يتميز بها عن سواه ، فالإسلام دين الذهن المستنير ، وسيكون الإسلام معتقد الأحرار" .

ويكتشف جرمانوس العلاقة الوثيقة بين اللغة العربية وبين الإسلام ، ويتعلق بلغة القرآن إلى درجة الهيام بها ، فيقول:

"لقد تمنيت أن أعيش مائة عام ، لأحقق كل ما أرجوه لخدمة لغة القرآن الكريم ، فدراسة لغة الضاد تحتاج إلى قرن كامل من الترحال في دروب جمالها وثقافتها"(3) .

* * *

مالكولم إكس

زعيم من الملوّنين الأمريكيين .

كان يُلقَّب قبل إسلامه بالشيطان و "أحمر دويترويت" إذ كان زعيما عنصريا متطرفا في عداوته للبيض .ولكنه عدل عن هذا النهج بعد إسلامه .

وبعد رحلته للحج خاصة إذ غمرته أخوّة المسلمين البيض تحت مظلة الإسلام ، فأرسل إلى أتباعه من مكة رسالة يبين فيها انعطاف مساره ، يقول فيها:

"ما رأيت قط كرماً أصيلاً ، ولا روحاً غامرة من الأخوة كهذه التي تسود هنا بين الناس من كل لون وجنس ، في هذه الأرض المقدسة ، وطن إبراهيم ومحمد

فها هنا عشرات الألوف من الحجاج قدموا من كل أنحاء العالم ، ليؤدّوا المناسك نفسها بروح من الوحدة والأخوة ، ما كنت أظن – بحكم خبراتي في أمريكا – أنها يمكن أن تنشأ بين البيض والسود

وإن أمريكا في حاجة إلى أن تفهم الإسلام ، لأنه هو الدين الوحيد الذي يمكن أن يمحو المشكلة العنصرية في مجتمعها

لقد تقابلت مع مسلمين بيض وتحدثت معهم ، بل تناولت الطعام معهم ! ولكن النزعة العنصرية محاها من أذهانهم دين الإسلام ..

إننا هنا نصلي لإله واحد ، مع أخوة مسلمين لهم أعين زرقاء كأصفى ما تكون الزرقة ، ولهم بشرة بيضاء كأنصع ما يكون البياض .." (4).

فيا عجباً لأمر الإسلام ! كيف حوّل الحقد الأسود في قلب هذا الزعيم إلى حب أبيض فياض .. لم يستطع أن يعبر عنه إلا بهذه التداعيات التي ختم بها رسالته ؟!

لقد غدت نيته بالإسلام بيضاء ، وأشد بياضاً من لون بشرة أعدائه السابقين ، إنه الإسلام دين الإنسان .

"في مجتمع الإسلام لا يشعر أي إنسان بأي تمييز ، فلا توجد في الإسلام عقدة الاستعلاء ، ولا عقدة النقص" (5).

**

المهندس اللورد هيدلي

من أغنى البريطانيين ، ومن أرفعهم حسبا ، درس الهندسة في كامبردج ، أسلم وأصدر مجلة(The Islamic Renew )..

وأصدر كتاب (إيقاظ العرب للإسلام) و كتاب (رجل غربي يصحو فيعتنق الإسلام) ، وقد كان لإسلامه صدى كبير في إنكلترا .

يقول هيدلي معبرا عن ساعة اعتناقه الإسلام:

"لا ريب إن أسعد أيام حياتي هو اليوم الذي جاهرت فيه على رؤوس الأشهاد بأنني اتخذت الاسلام ديناً(6)..

فإذا كنت قد ولدت مسيحياً ، فهذا لا يحتم عليّ أن أبقى كذلك طوال حياتي ، فقد كنت لا أعرف كيف أستطيع أن أؤمن بالمبدأ القائل : إذا لم تأكل جسد المسيح ، وتشرب دمه ، فلن تنجو من عذاب جهنم الأبدي !

إنني بإسلامي أعتبر نفسي أقرب إلى النصرانية الحقة مما كنت من قبل ، ومن يعادي النصرانية الحقة فلا أمل فيه

لم أولد في الخطيئة ، ولست مولود سخط وغضب ، ولا أحب أن أكون مع الخاطئين(7)..

لقد تملك الإسلام لبي حقا ، وأقنعني نقاؤه ، فأصبح حقيقة راسخة في عقلي وفؤادي ، اذ التقيت بسعادة وطمأنينة ما رأيتهما قط من قبل(8)" .

السنة النبوية هي القدوة لنا:

"بما أننا نحتاج إلى نموذج كامل ليفي بحاجاتنا في خطوات الحياة ، فحياة النبي تسد تلك الحاجة ، فهي كمرآة نقية تعكس علينا الأخلاق التي تكون الإنسانية، ونرى ذلك فيها بألوان وضاءة(9)..

خذ أي وجه من وجوه الآداب ، تتأكد بأنك تجده موضحاً في إحدى حوادث حياة الرسول صلى الله عليه وسلم".

ويعبر عن مفهوم العبادة الشامل للحياة:

"الإسلام هو الدين الذي يجعل الإنسان يعبد الله حقيقة مدى الحياة ! لا في أيام الآحاد فقط

أصبحت كرجل فر من سرداب مظلم إلى فسيح من الأرض تنيره شمس النهار ، وأخذ يستنشق هواء البحر النقي الخالص"(10).

وكم ذا شردتُ ، وها إنني *** هجرتُ إليكَ جميع الدروبْ

وأثبتُّ قلبي بدرب الهوى *** مناراً يَلُمُّ شتات القلوبْ

أيُرضيك عني فؤادٌ غدا *** بحبك – ربي – غريق الطيوبْ(11)

***

الفنان الفرنسي ناصر الدين دينيه

الفونس إيتان دينيه ، من كبار الفنانين والرسامين العالميين ، دُوّنت أعماله في معجم (لاروس) ، وتزدان جدران المعارض الفنية في فرنسة بلوحاته الثمينة ، وفيها لوحته الشهيرة (غادة رمضان).. وقد أبدع في رسم الصحراء .

كما ألّف بعد إسلامه العديد من الكتب القيمة ، منها كتابه الفذ :(أشعة خاصة بنور الإسلام) وله كتاب (ربيع القلوب) و(الشرق كما يراه الغرب) و(محمد رسول الله) و(الحج إلى بيت الله الحرام)..

وقد أحدثت كتبه دويّا في دوائر المستشرقين . يقول دينيه :

" لقد أكد الإسلام من الساعة الأولى لظهوره أنه دينٌ صالحٌ لكل زمان ومكان ، إذ هو دين الفطرة ، والفطرة لا تختلف في إنسان عن آخر ، وهو لهذا صالح لكل درجة من درجة الحضارة(12)…

وبما أن دينيه كان فنانا موهوبا ،فقد لفت نظره الجانب الجمالي والذوق الرفيع للحياة النبوية ، يقول:

لقد كان النبي يُعنى بنفسه عناية تامة ، وقد عُرف له نمط من التأنق على غاية من البساطة ، ولكن على جانب كبير من الذوق والجمال" .

"إن حركات الصلاة منتظمة تفيد الجسم والروح معاً ، وذات بساطة ولطافة وغير مسبوقة في صلاة غيرها".

تعدد الزوجات مابين الإسلام والنصرانية:

"إن تعدد الزوجات عند المسلمين أقل انتشاراً منه عند الغربيين الذين يجدون لذة الثمرة المحرمة عند خروجهم عن مبدأ الزوجة الواحدة !

وهل حقاً إن المسيحية قد منعت تعدد الزوجات ؟!

وهل يستطيع شخص أن يقول ذلك دون أن يأخذ منه الضحك مأخذه ؟!

إن تعدد الزوجات قانون طبيعي ، وسيبقى ما بقي العالم ، إن نظرية الزوجة الواحدة أظهرت ثلاث نتائج خطيرة : العوانس ، والبغايا، والأبناء غير الشرعيين" (13) .

***

الداعية عبد الله كوليام

أول مسلم إنجليزي دعا إلى الإسلام ، أسلم على يديه اللورد هيدلي ، واللورد ستانلي أولدرلي ، وأصدر كتاب (العقيدة الإسلامية) ..

وقد لقي عبد الله بعد إسلامه من الأذى الكثير الكثير ! وهذه صورة يرسمها لنا :

" ومما أوذينا به أن أولئك الأشرار كانوا يلقون الأقذار على المصلين في أثناء الصلاة ، وينثرون الزجاج المكسور على السجاد ليجرحوا جباهنا !

ولقد دخلت المسجد مرة أنا وأخواني لأُلقي عليهم محاضرة ، فرأيت في المسجد وجوهاً غريبة سبقتنا ، فلم أبال بهم وشرعت في تلاوة وتفسير آيات من القرآن ، فلما انتهيت من المحاضرة قام أحد أولئك المريبين وأخرج من جيبه حجارة وألقاها على الأرض ، وقال لأصحابه : من كان منكم يريد أن يرجم المسلمين بالحجارة فليرجمني معهم فأنا مسلم ، فألقوا حجارتهم وأعلنوا إسلامهم !

وهذا الرجل الذي كان رئيسا لهم ، ما لبث أن صار عضدي الأيمن وتسمى بـ (جمال الدين )(14).

* * *

" من كتاب " ربحت محمدا ولم أخسر المسيح"

تابع .. هكذا أسلمنا – (2)

----------------------------------

(1) (النهضة الإسلامية في سير أعلامها المعاصرين) د. محمد رجب البيومي (2 / 421) .

(2) (هؤلاء المثقفون اختاروا الإسلام) محمد عثمان ص (35) .

(3) نفسه ص (36) .

(4) عن مجلة (الفيصل) العدد 270 – عام 1999 .

(5) موسوعة (مقدمات العلوم والمناهج) للعلامة أنور الجندي – مجلد(8 )– ص (140) .

(6) (آفاق جديدة للدعوة الإسلامية) أنور الجندي ص(139) .

(7) موسوعة (النهضة الإسلامية) د. محمد رجب البيومي (1 / 120 ) .

(8) (الإسلام في قفص الاتهام) الدكتور شوقي أبو خليل ص(16) .

(9) (رجاء جارودي وحضارة الإسلام) ص (9) .

(10) نفسه ص (8) .

(11) الأبيات للمؤلف – ديوان (أحبك ربي – نجاوى شعرية) ص(24) .

(12) (محمد رسول الله) ناصر الدين دينيه ص (345) .

(13) عن (المرأة والأسرة المسلمة من منظور غربي) د. عماد الدين خليل (66-97) .

(14) عن (النهضة الإسلامية في سير أعلامها المعاصرين) د. محمد رجب البيومي (1/110) .

==============

#هكذا أسلمنا – (2)

د.عبد المعطي الدالاتي

الحاج إبراهيم أحمد

(القس إبراهيم فيلوبوس)

ماجستير في اللاهوت من جامعة برنستون الأمريكية .

من كتبه (محمد في التوراة والإنجيل والقرآن) و(المسيح إنسان لا إله) و(الإسلام في الكتب السماوية) و(اعرف عدوك اسرائيل) و(الاستشراق والتبشير وصلتهما بالإمبريالية العالمية) و(المبشرون والمستشرقون في العالم العربي الإسلامي).

وقد كان راعياً للكنيسة الإنجيلية ، وأستاذاً للاهوت ، أسلم على يديه عدد كبير من الناس .

ردّه العقل الحر :

يحدثنا الحاج إبراهيم عن رحلته إلى الإسلام ، فيقول :

"في مؤتمر تبشيري دعيت للكلام ، فأطلت الكلام في ترديد كل المطاعن المحفوظة ضد الإسلام ، وبعد أن انتهيت من حديثي بدأت أسأل نفسي : لماذا أقول هذا وأنا أعلم أنني كاذب ؟! واستأذنت قبل انتهاء المؤتمر ، خرجت وحدي متجهاً إلى بيتي ، كنت مهزوزاً من أعماقي ، متأزماً للغاية ، وفي البيت قضيت الليل كله وحدي في المكتبة أقرأ القرآن ، ووقفت طويلاً عند الآية الكريمة :

( لَوْ أَنزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَّرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُّتَصَدِّعًا مِّنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ )(1) ..

وفي تلك الليلة اتخذت قرار حياتي فأسلمت، ثم انضم إلي جميع أولادي ، وكان أكثرهم حماساً ابني الأكبر (أسامة) وهو دكتور في الفلسفة ويعمل أستاذاً لعلم النفس في جامعة السوربون"(2).

وبإسلامهم زادت بيوت الإسلام بيتاً .

أتيتك – ربي – بفلْذات قلبي *** وفدنا عليكَ بشوقٍ وحبِّ

أتينا جميعاً كباراً صغاراً *** نصلي ، نصوم ، نزكّي ، نلبّي(3)

***

البروفسور خالد ميلاسنتوس

(آرثر ميلاسنتوس) دكتوراه في اللاهوت ، وكان الرجل الثالث في مجمع كنائس قارة آسية .

قصته مع الإسلام:

في أثناء عمله بالتنصير عام 1983 قال لنفسه : أي ضير في قراءة القرآن من أجل الرد على المسلمين ؟ فتوجه إلى أحد المسلمين سائلاً إياه أن يعيره كتاب المقدس ، فوافق المسلم مشترطاً عليه أن يتوضأ قبل كل قراءة ، ثم شرع آرثر يقرأ القرآن خفية ، ولنستمع إليه يحدثنا عن تجربته الأولى مع القرآن :

"عندما قرأت القرآن أول مرة ، شعرت بصراع عنيف في أعماقي ، فثمة صوت يناديني ويحثني على اعتناق هذا الدين ، الذي يجعل علاقة الإنسان بربه علاقة مباشرة ، لا تحتاج إلى وساطات القسس ، ولا تباع فيها صكوك الغفران !! وفي يوم توضأت ، ثم أمسكت بالقرآن فقرأت : (( أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ علَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا ))(4) فأحسستُ بقشعريرة ، ثم قرأت : (( الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينًا ))

فحلّت السكينة في الروح الحيرى ، وشعرت أني قد خُلقت من جديد .

في تلك الليلة لم يصبر آرثر حتى تطلع الشمس ، بل اتجه حالاً إلى منزل صديقه المسلم ليسأله عن كيفية الدخول في الإسلام ، وبين حيرة الصديق ودهشته نطق آرثر بالشهادتين(5).

* * *

البروفسور عبد الأحد داود

(بنجامين كلداني) أستاذ في علم اللاهوت ، وقسيس الروم الكاثوليك لطائفة الكلدانيين الموحدة ، يتكلم عدة لغات .

اعتزل الدنيا في منزله شهراً كاملاً ، يعيد قراءة الكتب المقدسة بلغاتها القديمة وبنصوصها الأصلية مرة بعد مرة ، ويدرسها دراسة متعمقة مقارنة ضمّن بعضها في كتابه الفذ (محمد في الكتاب المقدس) وأخيراً اعتنق الإسلام في مدينة استانبول ومن مؤلفاته (الإنجيل والصليب) . يقول عبد الأحد داود :

"في اللحظة التي آمنت فيها بوحدانية الله ،وبنبيه الكريم صلوات الله عليه ، بدأت نقطة تحولي نحو السلوك النموذجي المؤمن"(6).

=لا إله إلا الله محمد رسول الله+ هذه العقيدة سوف تظل عقيدة كل مؤمن حقيقي بالله حتى يوم الدين … وأنا مقتنع بأن السبيل الوحيد لفهم معنى الكتاب المقدس وروحه ، هو دراسته من وجهة النظر الإسلامية"(7) .

***

القس والباحث محمد فؤاد الهاشمي

ألّف كتاب (الأديان في كفة الميزان) يقول فيه : "لقد كان قصدي من البحث في الإسلام استخراج العيوب التي أوحى إلي بها أساتذتي ، لكن وجدت أن ما زعموه في الإسلام عيوباً هو في الحقيقة مزايا ! فأخذ الإسلام بلبي ، فانقدت إليه ، وآمنت به عن تفكّر ودراسة وتمحيص ، وبها كلها رجحت كفة الإسلام ، وشالت كفة سواه"(8)..

* * *

" من كتاب " ربحت محمدا ولم أخسر المسيح"

تابع .. هكذا أسلمنا – (3)

----------------------------------

(1) قرآن كريم (59/21) .

(2) (القبس) الكويتية) العدد 1540 .

(3) البيتان للمؤلف من ديوان (عطر السماء – حداء للبنين والبنات ) .

(4) قرآن كريم (47/24) .

(5) (لمَ أسلم هؤلاء الأجانب) محمد عثمان (1 / 147) .

(6) (عظماء ومفكرون يعتنقون الإسلام) محمد طماشي (94) .

(7) (محمد في الكتاب المقدس) عبد الأحد داود ص (162) .

(8) عن ( الإسلام) الدكتور أحمد شلبي ص (288)

===============

#الجزية في الإسلام

د. منقذ بن محمود السقار

تمهيد

استشكل البعض ما جاء في القرآن من دعوة لأخذ الجزية من أهل الكتاب، وذلك في قوله تعالى: { قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون } (1) ، ورأوا – خطأً - في هذا الأمر القرآني صورة من صور الظلم والقهر والإذلال للشعوب التي دخلت في رعوية الأمة المسلمة.

ولا ريب أن القائل قد ذهل عن الكثير من التميز الذي كفل به الإسلام حقوق أهل الجزية، فقد ظنه كسائر ما أثر عن الحضارات السابقة واللاحقة له، فالإسلام في هذا الباب وغيره فريد عما شاع بين البشر من ظلم واضطهاد أهل الجزية، كما سيتبين لنا من خلال البحث العلمي المتجرد النزيه.

أولاً : الجزية في اللغة

الجزية في اللغة مشتقة من مادة (ج ز ي)، تقول العرب: "جزى ، يجزي، إذا كافأ عما أسدي إليه"، والجزية مشتق على وزن فِعلة من المجازاة، بمعنى "أعطوها جزاء ما منحوا من الأمن"، وقال ابن المطرز: بل هي من الإجزاء "لأنها تجزئ عن الذمي". (2)

ثانياً : الجزية قبل الإسلام

لم يكن الإسلام بدعاً بين الأديان، كما لم يكن المسلمون كذلك بين الأمم حين أخذوا الجزية من الأمم التي دخلت تحت ولايتهم، فإن أخذ الأمم الغالبة للجزية من الأمم المغلوبة أشهر من علم ، فالتاريخ البشري أكبر شاهد على ذلك.

وقد نقل العهد الجديد شيوع هذه الصورة حين قال المسيح لسمعان: " ماذا تظن يا سمعان؟ ممن يأخذ ملوك الأرض الجباية أو الجزية، أمن بنيهم أم من الأجانب؟ قال له بطرس من الأجانب.قال له يسوع: فإذاً البنون أحرار " (متى 17/24-25).

والأنبياء عليهم السلام حين غلبوا على بعض الممالك بأمر الله ونصرته أخذوا الجزية من الأمم المغلوبة، بل واستعبدوا الأمم المغلوبة، كما صنع النبي يشوع مع الكنعانيين حين تغلب عليهم "فلم يطردوا الكنعانيين الساكنين في جازر.فسكن الكنعانيون في وسط افرايم إلى هذا اليوم وكانوا عبيداً تحت الجزية" (يشوع 16/10)، فجمع لهم بين العبودية والجزية.

والمسيحية لم تنقض شيئا من شرائع اليهودية، فقد جاء المسيح متمماً للناموس لا ناقضاً له (انظر متى 5/17)، بل وأمر المسيح أتباعه بدفع الجزية للرومان، وسارع هو إلى دفعها ، فقد قال لسمعان: " اذهب إلى البحر وألق صنارة، والسمكة التي تطلع أولا خذها، ومتى فتحت فاها تجد أستارا، فخذه وأعطهم عني وعنك" (متى 17/24-27).

ولما سأله اليهود (حسب العهد الجديد) عن رأيه في أداء الجزية أقر بحق القياصرة في أخذها "فأرسلوا إليه تلاميذهم مع الهيرودسيين قائلين: يا معلّم نعلم أنك صادق، وتعلّم طريق الله بالحق، ولا تبالي بأحد لأنك لا تنظر إلى وجوه الناس. فقل لنا: ماذا تظن ، أيجوز أن تعطى جزية لقيصر أم لا؟ .. فقال لهم: لمن هذه الصورة والكتابة.قالوا له: لقيصر. فقال لهم: أعطوا إذاً ما لقيصر لقيصر، وما للّه للّه" (متى 22/16-21).

ولم يجد المسيح غضاضة في مجالسة ومحبة العشارين الذين يقبضون الجزية ويسلمونها للرومان (انظر متى 11/19)، واصطفى منهم متى العشار ليكون أحد رسله الاثني عشر (انظر متى 9/9).

ويعتبر العهد الجديد أداء الجزية للسلاطين حقاً مشروعاً، بل ويعطيه قداسة ويجعله أمراً دينياً، إذ يقول: "لتخضع كل نفس للسلاطين، السلاطين الكائنة هي مرتبة من الله. حتى إن من يقاوم السلطان يقاوم ترتيب الله، والمقاومون سيأخذون لأنفسهم دينونة... إذ هو خادم الله، منتقم للغضب من الذي يفعل الشر. لذلك يلزم أن يخضع له ليس بسبب الغضب فقط، بل أيضا بسبب الضمير. فإنكم لأجل هذا توفون الجزية أيضاً، إذ هم خدام الله مواظبون على ذلك بعينه، فأعطوا الجميع حقوقهم، الجزية لمن له الجزية، الجباية لمن له الجباية، والخوف لمن له الخوف، والإكرام لمن له الإكرام" (رومية 13/1-7).

ثالثاً : الجزية في الإسلام

لكن الإسلام كعادته لا يتوقف عند ممارسات البشر السابقة عليه، بل يترفع عن زللهم، ويضفي خصائصه الحضارية، فقد ارتفع الإسلام بالجزية ليجعلها، لا أتاوة يدفعها المغلوبون لغالبهم، بل لتكون عقداً مبرماً بين الأمة المسلمة والشعوب التي دخلت في رعويتها. عقد بين طرفين، ترعاه أوامر الله بالوفاء بالعهود واحترام العقود، ويوثقه وعيد النبي صلى الله عليه وسلم لمن أخل به ، وتجلى ذلك بظهور مصطلح أهل الذمة، الذمة التي يحرم نقضها ويجب الوفاء بها ورعايتها بأمر النبي صلى الله عليه وسلم.

وقد أمر الله بأخذ الجزية من المقاتلين دون غيرهم كما نصت الآية على ذلك { قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون } (3) قال القرطبي: "قال علماؤنا: الذي دل عليه القرآن أن الجزية تؤخذ من المقاتلين... وهذا إجماع من العلماء على أن الجزية إنما توضع على جماجم الرجال الأحرار البالغين، وهم الذين يقاتلون دون النساء والذرية والعبيد والمجانين المغلوبين على عقولهم والشيخ الفاني".(4)

وقد كتب عمر إلى أمراء الأجناد: (لا تضربوا الجزية على النساء والصبيان، ولا تضربوها إلا على من جرت عليه المواسي)(5) أي ناهز الاحتلام.

ولم يكن المبلغ المدفوع للجزية كبيراً تعجز عن دفعه الرجال، بل كان ميسوراً ، لم يتجاوز على عهد النبي صلى الله عليه وسلم الدينار الواحد في كل سنة، فيما لم يتجاوز الأربعة دنانير سنوياً زمن الدولة الأموية.

فحين أرسل النبي معاذاً إلى اليمن أخذ من كل حالم منهم دينارا، يقول معاذ: (بعثني النبي صلى الله عليه وسلم إلى اليمن، فأمرني أن آخذ من كل ثلاثين بقرة تبيعا، أو تبيعة، ومن كل أربعين مسنة (هذه زكاة على المسلمين منهم)، ومن كل حالم ديناراً، أو عدله مَعافر(للجزية))(6)، والمعافري: الثياب.

وفي عهد عمر بن الخطاب- رضي الله عنه- ضرب الجزية على أهل الذهب: أربعة دنانير، وعلى أهل الورِق: أربعين درهما؛ مع ذلك أرزاق المسلمين، وضيافة ثلاثة أيام.(7)

1- التحذير من ظلم أهل الذمة

يأمر الله في كتابه والنبي في حديثه بالإحسان لأهل الجزية وحسن معاملتهم، وتحرم الشريعة أشد التحريم ظلمهم والبغي عليهم، فقد حثّ القرآن على البر والقسط بأهل الكتاب المسالمين الذين لا يعتدون على المسلمين { لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم إن الله يحب المقسطين }(8) ، والبر أعلى أنواع المعاملة ، فقد أمر الله به في باب التعامل مع الوالدين ، وهو الذي وضحه رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديث آخر بقوله : (( البر حسن الخلق ))(9) .

ويقول صلى الله عليه وسلم في التحذير من ظلم أهل الذمة وانتقاص حقوقهم: (( من ظلم معاهداً أو انتقصه حقه أو كلفه فوق طاقته أو أخذ منه شيئاً بغير طيب نفس فأنا حجيجه يوم القيامة)) (10)، ويقول: ((من قتل معاهداً لم يرح رائحة الجنة ، وإن ريحها توجد من مسيرة أربعين عاماً )). (11)

وحين أساء بعض المسلمين معاملة أهل الجزية كان موقف العلماء العارفين صارماً، فقد مرّ هشام بن حكيم بن حزام على أناس من الأنباط بالشام قد أقيموا في الشمس، فقال: ما شأنهم؟ قالوا: حبسوا في الجزية، فقال هشام: أشهد لسمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((إن الله يعذب الذين يعذبون الناس في الدنيا)). قال: وأميرهم يومئذ عمير بن سعد على فلسطين، فدخل عليه، فحدثه، فأمر بهم فخُلوا. (12)

وأما الأمر بالصغار الوارد في قوله: { وهم صاغرون }، فهو معنى لا يمكن أن يتنافى مع ما رأيناه في أقوال النبي صلى الله عليه وسلم من وجوب البر والعدل، وحرمة الظلم والعنت، وهو ما فهمه علماء الإسلام ، ففسره الشافعي بأن تجري عليهم أحكام الإسلام، أي العامة منها، فالجزية علامة على خضوع الأمة المغلوبة للخصائص العامة للأمة الغالبة.

وفسره التابعي عكرمة مولى ابن عباس بصورة دفع الجزية للمسلمين، فقال: "أن يكونوا قياماً، والآخذ لها جلوساً"، إذ لما كانت اليد المعطية على العادة هي العالية، طلب منهم أن يشعروا العاطي للجزية بتفضلهم عليه، لا بفضله عليهم، يقول القرطبي في تفسيره: "فجعل يد المعطي في الصدقة عليا، وجعل يد المعطي في الجزية سفلى، ويد الآخذ عليا". (13)

2- بعض صيغ عقد الذمة في الدولة الإسلامية

وقدم الإسلام ضمانات فريدة لأهل الذمة، لم ولن تعرف لها البشرية مثيلاً، ففي مقابل دراهم معدودة يدفعها الرجال القادرون على القتال من أهل الذمة، فإنهم ينعمون بالعيش الآمن والحماية المطلقة لهم من قبل المسلمين علاوة على أمنهم على كنائسهم ودينهم .

وقد تجلى ذلك في وصايا الخلفاء لقادتهم ، كما أكدته صيغ الاتفاقات التي وقعها المسلمون مع دافعي الجزية، ونود أن نلفت نظر القارئ الكريم إلى تأمل الضمانات التي يضمنها المسلمون وما يدفعه أهل الجزية في مقابلها.

ونبدأ بما نقله المؤرخون عن معاهدات النبي صلى الله عليه وسلم لأهل الجزية، ونستفتح بما أورده ابن سعد في طبقاته من كتاب النبي لربيعة الحضرمي، إذ يقول: " وكتب رسول الله e لربيعة بن ذي مرحب الحضرمي وإخوته وأعمامه، أن لهم أموالهم ونخلهم ورقيقهم وآبارهم وشجرهم ومياههم وسواقيهم ونبتهم وشِراجهم (السواقي) بحضرموت ، وكل مال لآل ذي مرحب ، وإن كل رهن بأرضهم يُحسب ثمره وسدره وقبضه من رهنه الذي هو فيه ، وأن كل ما كان في ثمارهم من خير فإنه لا يسأل أحد عنه ، وأن الله ورسوله براء منه ، وأن نَصْرَ آل ذي مرحب على جماعة المسلمين ، وأن أرضهم بريئة من الجور ، وأن أموالهم وأنفسهم وزافر حائط الملك الذي كان يسيل إلى آل قيس ، وأن الله جار على ذلك ، وكتب معاوية" (14)

وقوله: (( وأن نصر آل ذي مرحب على جماعة المسلمين )) فيه لفتة هامة، وهي أن المسلمين يقدمون حياتهم وأرواحهم ودماءهم فدىً لمن دخل في حماهم ، وأصبح في ذمتهم ، إنها ذمة الله تعالى وذمة رسول الله صلى الله عليه وسلم . يقول القرافي: "فعقد يؤدي إلى إتلاف النفوس والأموال صوناً لمقتضاه عن الضياع إنه لعظيم". (15)

كما كتب النبي صلى الله عليه وسلم كتاب ذمة وعهد إلى أهل نجران النصارى، ينقله إلينا ابن سعد في طبقاته، فيقول: " وكتب رسول الله صلى الله عليه وسلم لأسقف بني الحارث بن كعب وأساقفة نجران وكهنتهم ومن تبعهم ورهبانهم أن لهم ما تحت أيديهم من قليل وكثير، من بيعهم وصلواتهم ورهبانهم وجوار الله ورسوله، لا يغير أسقف عن أسقفيته ، ولا راهب عن رهبانيته ، ولا كاهن عن كهانته ، ولا يغير حق من حقوقهم ، ولا سلطانهم ولا شيء مما كانوا عليه، ما نصحوا وأصلحوا فيما عليهم غير مثقلين بظلم ولا ظالمين ، وكتب المغيرة". (16)

وانساح أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يطبقون ما تعلموه من نبيهم العظيم، ويلتزمون لأهل الجزية بمثل الإسلام وخصائصه الحضارية، وقد أورد المؤرخون عدداً مما ضمنوه لأهل الذمة، ومن ذلك العهدة العمرية التي كتبها عمر لأهل القدس، وفيها: "بسم الله الرحمن الرحيم ؛ هذا ما أعطى عبد الله عمر أمير المؤمنين أهل إيلياء من الأمان ، أعطاهم أماناً لأنفسهم وأموالهم ، ولكنائسهم وصلبانهم وسقيمها وبريئها وسائر ملتها، أن لا تُسكن كنائسهم ولا تُهدم ولا يُنتقص منها ولا من حيزها ، ولا من صليبهم ولا من شيء من أموالهم .

ولا يكرهون على دينهم، ولا يُضار أحد منهم ، ولا يُسَكَّن بإيلياء معهم أحد من اليهود ، وعلى أهل إيلياء أن يعطوا الجزية كما يعطي أهل المدائن، وعليهم أن يُخرجوا منها الروم واللصوص ، فمن خرج منهم فإنه آمن على نفسه وماله حتى يبلغ مأمنه ، ومن أقام منهم فهو آمن، وعليه مثل ما على أهل إيلياء من الجزية ...ومن شاء سار مع الروم ، ومن شاء رجع إلى أهله فإنه لا يؤخذ منهم شيء حتى يحصد حصادهم.

وعلى ما في هذا الكتاب عهد الله وذمة رسوله وذمة الخلفاء وذمة المؤمنين إذا أعطوا الذي عليهم من الجزية ، شهد على ذلك خالد بن الوليد ، وعمرو بن العاص ، وعبد الرحمن بن عوف، ومعاوية بن أبي سفيان ، وكتب وحضر سنة خمس عشرة". (17) ، وبمثله كتب عمر لأهل اللد.(18)

وحين فتح خالد بن الوليد دمشق كتب لأهلها مثله، "بسم الله الرحمن الرحيم ، هذا ما أعطى خالد بن الوليد أهل دمشق إذا دخلها أماناً على أنفسهم وأموالهم وكنائسهم وسور مدينتهم لا يهدم، ولا يسكن شيء من دورهم ، لهم بذلك عهد الله وذمة رسول الله صلى الله عليه وسلم والخلفاء والمؤمنين، لا يُعرض لهم إلا بخير إذا أعطوا الجزية". (19)

ويسجل عبادة بن الصامت هذه السمات الحضارية للجزية في الإسلام، وهو يعرض الموقف الإسلامي الواضح على المقوقس عظيم القبط ، فيقول: "إما أجبتم إلى الإسلام .. فإن قبلت ذلك أنت وأصحابك فقد سعدت في الدنيا والآخرة ، ورجعنا عن قتالكم، ولم نستحل أذاكم ولا التعرض لكم ، فإن أبيتم إلا الجزية، فأدوا إلينا الجزية عن يد وأنتم صاغرون، نعاملكم على شيء نرضى به نحن وأنتم في كل عام أبداً ما بقينا وبقيتم ، نقاتل عنكم من ناوأكم وعرض لكم في شيء من أرضكم ودمائكم وأموالكم، ونقوم بذلك عنكم إن كنتم في ذمتنا ، وكان لكم به عهد علينا ...". (20)

ونلحظ ثانية كيف يتقدم المسلم بنفسه لحماية أهل الجزية وأموالهم، ونرى فداءه لهم بماله ودمه "نقاتل عنكم من ناوأكم وعرض لكم في شيء من أرضكم ودمائكم وأموالكم، ونقوم بذلك عنكم" .

3- حرص المسلمين على الوفاء بعقد الذمة

وقد خشي الخلفاء أن يقصر المسلمون في حقوق أهل الذمة ، فتفقدوا أحوالهم، ومن ذلك ما رواه الطبري في تاريخه، في سياقه لحديث عمر إلى وفد جاءه من أرض الذمة " قال عمر للوفد: لعل المسلمين يفضون إلى أهل الذمة بأذى وبأمور لها ما ينتقضون بكم؟ فقالوا:ما نعلم إلا وفاء وحسن ملكة". (21)

ولما جاءه مال الجباية سأل عن مصدره مخافة العنت والمشقة على أهل الذمة، ففي الأثر عنه رضي الله عنه "أنه أتي بمال كثير، أحسبه قال من الجزية فقال: إني لأظنكم قد أهلكتم الناس؟ قالوا: لا والله ما أخذنا إلا عفوا صفوا. قال: بلا سوط ولا نوط؟ قالوا: نعم. قال: الحمد لله الذي لم يجعل ذلك على يدي ولا في سلطاني ". (22)

ولما تدانى الأجل به رضي الله عنه لم يفُته أن يوصي المسلمين برعاية أهل الذمة فقال: " أوصي الخليفة من بعدي بأهل الذمة خيراً، وأن يوفي لهم بعهدهم ، وأن يقاتلوا من ورائهم ، وألا يكلفوا فوق طاقتهم ". (23)

وكتب علي رضي الله عنه إلى عماله على الخراج: "إذا قدمت عليهم فلا تبيعن لهم كسوة، شتاءً ولا صيفاً، ولا رزقاً يأكلونه، ولا دابة يعملون عليها، ولا تضربن أحداً منهم سوطاً واحداً في درهم، ولا تقمه على رجله في طلب درهم، ولا تبع لأحد منهم عَرَضاً في شيء من الخراج، فإنا إنما أمرنا الله أن نأخذ منهم العفو ، فإن أنت خالفت ما أمرتك به يأخذك الله به دوني، وإن بلغني عنك خلاف ذلك عزلتك". (24)

وأجلى الوليد بن يزيد نصارى قبرص مخافة أن يعينوا الروم فردهم يزيد بن الوليد الخليفة بعده، يقول إسماعيل بن عياش عن صنيع الوليد: فاستفظع ذلك المسلمون، واستعظمه الفقهاء، فلما ولي يزيد بن الوليد ردهم إلى قبرص ، فاستحسن المسلمون ذلك من فعله، ورأوه عدلاً.(25)

ولما أخذ الوليد بن عبد الملك كنيسة يوحنا من النصارى قهراً، وأدخلها في المسجد، اعتبر المسلمون ذلك من الغصب، فلما ولي عمر بن عبد العزيز شكى إليه النصارى ذلك، فكتب إلى عامله يأمره برد ما زاد في المسجد عليهم.(26)

4- من أقوال الفقهاء المسلمين في حراسة وتقرير حقوق أهل الذمة

ونلحظ فيما سبق الإسلام لحراسة حقوق أهل الذمة في إقامة شعائر دينهم وكنائسهم ، جاء في قوانين الأحكام الشرعية : "المسألة الثانية: فيما يجب لهم علينا، وهو التزام إقرارهم في بلادنا إلا جزيرة العرب وهي الحجاز واليمن، وأن نكف عنهم، ونعصمهم بالضمان في أنفسهم وأموالهم، ولا نتعرض لكنائسهم ولا لخمورهم وخنازيرهم ما لم يظهروها". (27)

وينقل الطحاوي إجماع المسلمين على حرية أهل الذمة في أكل الخنازير والخمر وغيره مما يحل في دينهم، فيقول: "وأجمعوا على أنه ليس للإمام منع أهل الذمة من شرب الخمر وأكل لحم الخنازير واتخاذ المساكن التي صالحوا عليها، إذا كان مِصراً ليس فيه أهل إسلام (أي في بلادهم التي هم فيها الكثرة)".(28)

وتصون الشريعة نفس الذمي وماله ، وتحكم له بالقصاص من قاتله ، فقد أُخذ رجل من المسلمين على عهد علي رضي الله عنه وقد قتل رجلاً من أهل الذمة، فحكم عليه بالقصاص، فجاء أخوه واختار الدية بدلا عن القود، فقال له علي: "لعلهم فرقوك أو فزّعوك أو هددوك؟" فقال: لا ، بل قد أخذت الدية، ولا أظن أخي يعود إلي بقتل هذا الرجل، فأطلق علي القاتل، وقال: "أنت أعلم، من كانت له ذمتنا، فدمه كدمنا، وديته كديّتنا". (29)

وصوناً لمال الذمي فإن الشريعة لا تفرق بينه وبين مال المسلم، وتحوطه بقطع اليد الممتدة إليه، ولو كانت يد مسلم، يقول المفسر القرطبيُّ: "الذمي محقون الدم على التأبيد والمسلم كذلك، وكلاهما قد صار من أهل دار الإسلام، والذي يحقِق ذلك أنّ المسلم يقطع بسرقة مال الذمي، وهذا يدل على أنّ مال الذمي قد ساوى مال المسلم، فدل على مساواته لدمه، إذ المال إنّما يحرم بحرمة مالكه". (30)

قال الماورديّ: "ويلتزم ـ أي الإمام ـ لهم ببذل حقَّين: أحدهما: الكفُّ عنهم. والثانِي: الحماية لهم، ليكونوا بالكفِّ آمنين، وبالحماية محروسين". (31)

وقال النوويّ: "ويلزمنا الكفُّ عنهم، وضمان ما نُتلفه عليهم، نفسًا ومالاً، ودفعُ أهلِ الحرب عنهم". (32)

وتوالى تأكيد الفقهاء المسلمين على ذلك، يقول ابن النجار الحنبلي: "يجب على الإمام حفظ أهل الذمة ومنع من يؤذيهم وفكُّ أسرهم ودفع من قصدهم بأذى". (33)

ولما أغار أمير التتار قطلوشاه على دمشق في أوائل القرن الثامن الهجري، وأسر من المسلمين والذميين من النصارى واليهود عدداً، ذهب إليه الإمام ابن تيمية ومعه جمع من العلماء، وطلبوا فك أسر الأسرى، فسمح له بالمسلمين، ولم يطلق الأسرى الذميين، فقال له شيخ الإسلام: "لابد من افتكاك جميع من معك من اليهود والنصارى الذين هم أهل ذمتنا، ولا ندع لديك أسيراً، لا من أهل الملة، ولا من أهل الذمة، فإن لهم ما لنا، وعليهم ما علينا" ، فأطلقهم الأمير التتري جميعاً. (34)

وينقل الإمام القرافي عن الإمام ابن حزم إجماعاً للمسلمين لا تجد له نظيراً عند أمة من الأمم، فيقول: "من كان في الذمة، وجاء أهل الحرب إلى بلادنا يقصدونه، وجب علينا أن نخرج لقتالهم بالكراع والسلاح، ونموت دون ذلك، صوناً لمن هو في ذمة الله تعالى وذمة رسوله صلى الله عليه وسلم، فإن تسليمه دون ذلك إهمال لعقد الذمة". (35)

5- صور ناصعة من معاملة المسلمين لأهل الذمة

وحين عجز المسلمون عن أداء حقوق أهل الذمة وحمايتهم من عدوهم ردوا إليهم ما أخذوه من الجزية لفوات شرطها، وهو الحماية، فقد روى القاضي أبو يوسف في كتاب الخراج وغيره من أصحاب السير عن مكحول أن الأخبار تتابعت على أبي عبيدة بجموع الروم، فاشتد ذلك عليه وعلى المسلمين ، فكتب أبو عبيدة لكل والٍ ممن خلَّفه في المدن التي صالح أهلها يأمرهم أن يردوا عليهم ما جُبي منهم من الجزية والخراج ، كتب إليهم أن يقولوا لهم: إنما رددنا عليكم أموالكم، لأنه قد بلغنا ما جمع لنا من الجموع ، وإنكم قد اشترطتم علينا أن نمنعكم، وإنا لا نقدر على ذلك، وقد رددنا عليكم ما أخذنا منكم، ونحن لكم على الشرط وما كان بيننا وبينكم إن نصرنا الله عليهم". (36)

وحين قام أهل الذمة بالمشاركة في الذود عن بلادهم أسقط عنهم المسلمون الجزية، كما صنع معاوية رضي الله عنه مع الأرمن، يقول لوران المؤرخ الفرنسي في كتابه "أرمينية بين بيزنطة والإسلام" : "إن الأرمن أحسنوا استقبال المسلمين ليتحرروا من ربقة بيزنطة، وتحالفوا معهم ليستعينوا بهم على مقاتلة الخزر، وترك العرب لهم أوضاعهم التي ألفوها وساروا عليها، والعهد أعطاه معاوية سنة 653م، إلى القائد تيودور رختوني ولجميع أبناء جنسه ماداموا راغبين فيه، وفي جملته: ((أن لا يأخذ منهم جزية ثلاث سنين، ثم يبذلون بعدها ما شاؤوا، كما عاهدوه وأوثقوه على أن يقوموا بحاجة خمسة عشر ألف مقاتل من الفرسان منهم بدلا من الجزية، وأن لا يرسل الخليفة إلى معاقل أرمينا أمراء ولا قادة ولا خيلا ولا قضاة... وإذا أغار عليهم الروم أمدهم بكل ما يريدونه من نجدات. وأشهد معاويةُ الله على ذلك)). (37)

ولا يتوقف حق أهل الذمة على دفع العدو عنهم، بل يتعداه إلى دفع كل أذى يزعجهم، ولو كان بالقول واللسان، يقول القرافي: "إن عقد الذمة يوجب لهم حقوقاً علينا لأنهم في جوارنا وفي خفارتنا (حمايتنا) وذمتنا وذمة الله تعالى، وذمة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ودين الإسلام، فمن اعتدى عليهم ولو بكلمة سوء أو غيبة، فقد ضيع ذمة الله وذمة رسوله صلى الله عليه وسلم، وذمة دين الإسلام". (38)

وواصل المسلمون بهدي من دينهم عطاءهم الحضاري حين تحولوا من آخذين للجزية إلى باذلين للمال رعاية وضماناً للفقراء من أهل الذمة، فقد روى ابن زنجويه بإسناده أن عمر بن الخطاب رأى شيخاً كبيراً من أهل الجزية يسأل الناس فقال: ما أنصفناك إن أكلنا شبيبتك، ثم نأخذ منك الجزية، ثم كتب إلى عماله أن لا يأخذوا الجزية من شيخ كبير.(39) وكان مما أمر به رضي الله عنه : "من لم يطق الجزية خففوا عنه، ومن عجز فأعينوه". (40)

وأرسل الخليفة عمر بن عبد العزيز إلى عامله على البصرة عدي بن أرطأة يقول: "وانظر من قبلك من أهل الذمة، قد كبرت سنه وضعفت قوته، وولت عنه المكاسب، فأجرِ عليه من بيت مال المسلمين ما يصلحه". (41)

أما إذا امتنع الذمي عن دفع الجزية مع القدرة عليها فإنه يعاقب، من غير أن تنقض ذمته، يقول القرطبي: "وأما عقوبتهم إذا امتنعوا عن أدائها مع التمكين فجائز، فأما مع تبين عجزهم فلا تحل عقوبتهم، لأن من عجز عن الجزية سقطت عنه، ولا يكلف الأغنياء أداءها عن الفقراء". (42)

لقد أدرك فقهاء الإسلام أهمية عقد الذمة وخطورة التفريط فيه، وأنه لا ينقض بمجرد الامتناع عن دفع الجزية، يقول الكاساني الحنفي: "وأما صفة العقد (أي عقد الذمة) فهو أنه لازم في حقنا، حتى لا يملك المسلمون نقضه بحال من الأحوال، وأما في حقهم (أي الذميين) فغير لازم". (43)

رابعاً : شهادة المؤرخين الغربيين

ولسائل أن يسأل : هل حقق المسلمون هذه المثُُل العظيمة ، هل وفوا ذمة نبيهم طوال تاريخهم المديد؟ وفي الإجابة عنه نسوق ثلاث شهادات لغربيين فاهوا بالحقيقة التي أثبتها تاريخنا العظيم.

يقول ولديورانت: "لقد كان أهل الذمة، المسيحيون والزرادشتيون واليهود والصابئون يتمتعون في عهد الخلافة الأموية بدرجة من التسامح، لا نجد لها نظيرا في البلاد المسيحية في هذه الأيام، فلقد كانوا أحراراً في ممارسة شعائر دينهم، واحتفظوا بكنائسهم ومعابدهم، ولم يفرض عليهم أكثر من ارتداء زيّ ذي لون خاص، وأداء ضريبة عن كل شخص باختلاف دخله، وتتراوح بين دينارين وأربعة دنانير، ولم تكن هذه الضريبة تفرض إلا على غير المسلمين القادرين على حمل السلاح، ويعفى منها الرهبان والنساء والذكور الذين هم دون البلوغ، والأرقاء والشيوخ، والعجزة، والعمى الشديد والفقر، وكان الذميون يعفون في نظير ذلك من الخدمة العسكرية..ولا تفرض عليهم الزكاة البالغ قدرها اثنان ونصف في المائة من الدخل السنوي، وكان لهم على الحكومة أن تحميهم..." (44)

يقول المؤرخ آدم ميتز في كتابه "الحضارة الإسلامية": "كان أهل الذمة يدفعون الجزية، كل منهم بحسب قدرته، وكانت هذه الجزية أشبه بضريبة الدفاع الوطني، فكان لا يدفعها إلا الرجل القادر على حمل السلاح، فلا يدفعها ذوو العاهات، ولا المترهبون، وأهل الصوامع إلا إذا كان لهم يسار". (45)

ويقول المؤرخ سير توماس أرنولد في كتابه "الدعوة إلى الإسلام" موضحاً الغرض من فرض الجزية ومبيناً على مَن فُرضت: "ولم يكن الغرض من فرض هذه الضريبة على المسيحيين - كما يردد بعض الباحثين - لوناً من ألوان العقاب لامتناعهم عن قبول الإسلام، وإنما كانوا يؤدونها مع سائر أهل الذمة. وهم غير المسلمين من رعايا الدولة الذين كانت تحول ديانتهم بينهم وبين الخدمة في الجيش في مقابل الحماية التي كفلتها لهم سيوف المسلمين".

وهكذا تبين بجلاء ووضوح براءة الإسلام بشهادة التاريخ والمنصفين من غير أهله، ثبتت براءته مما ألحقه به الزاعمون، وما فاهت فيه ألسنة الجائرين.

هذا والله أسأل أن يشرح صدورنا لما اختلفنا فيه من الحق بإذنه إنه ولي ذلك والقادر عليه، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

----------------

(1) سورة التوبة : 29 .

(2) الجامع لأحكام القرآن (8/114)، المغرب في ترتيب المعرب (1/143)، وانظر مختار الصحاح (1/44).

(3) سورة التوبة : (29) .

(4) الجامع لأحكام القرآن (8/72).

(5) انظره في إرواء الغليل ح (1255).

(6) رواه الترمذي في سننه ح (623)، وأبو داود في سننه ح (1576)، والنسائي في سننه ح (2450)، وصححه الألباني في مواضع متفرقة ، منها صحيح الترمذي (509).

(7) مشكاة المصابيح ح (3970)، وصححه الألباني.

(8) الممتحنة ( 8 ).

(9) رواه مسلم برقم (2553) .

(10) رواه أبو داود في سننه ح (3052) في (3/170) ، وصححه الألباني ح (2626)، و نحوه في سنن النسائي ح (2749) في (8/25).

(11) رواه البخاري ح (2295) .

(12) رواه مسلم ح (2613)

(13) الجامع لأحكام القرآن (8/115) ، وتفسير الماوردي (2/351-352).

(14) طبقات ابن سعد (1/266) .

(15) الفروق (3/14-15)

(16) الطبقات الكبرى لابن سعد (1/ 266) .

(17) تاريخ الطبري (4 / 449) .

(18) انظر: تاريخ الطبري (4/ 449).

(19) فتوح البلدان للبلاذري (128) .

(20) فتوح مصر وأخبارها لابن عبد الحكم (68) .

(21) تاريخ الطبري (2/503).

(22) المغني (9/290)، أحكام أهل الذمة (1/139).

(23) رواه البخاري برقم (1392) في (3/1356).

(24) الخراج (9).

(25) فتوح البلدان (156).

(26) فتوح البلدان (132).

(27) قوانين الأحكام الشرعية (176).

(28) اختلاف الفقهاء (233).

(29) مسند الشافعي (1/344).

(30) الجامع لأحكام القرآن (2/246).

(31) الأحكام السلطانية (143).

(32) انظر: مغني المحتاج (4/253).

(33) مطالب أولي النهى (2/602).

(34) مجموع الفتاوى (28/617-618).

(35) الفروق (3/14-15).

(36) الخراج (135) ، وانظره في: فتوح البلدان للبُلاذري ، وفتوح الشام للأذري.

(37) وانظر فتوح البلدان (210- 211).

(38) الفروق (3/14).

(39) الأموال (1/163).

(40) تاريخ مدينة دمشق (1/178).

(41) الأموال (1/170).

(42) الجامع لأحكام القرآن 8/73-74.

(43) بدائع الصنائع (7/112).

(44) قصة الحضارة (12/131).

(45) الحضارة الإسلامية (1/96).

=============

# لماذا تقدم الغرب ؟ ، ولماذا تأخرنا ؟ !!..

لماذا الغرب متقدم في العلوم الدنيوية، والصناعات، والقوة الحربية، والنظام؟..

ولماذا نحن المسلمون متأخرين في كل ذلك ؟!!!!!…

المسلمون كانوا أسبق من الغرب في التقدم، فحضارتهم العلمية سبقت بقرون عدة، أما الغرب فلم ينهض ويتقدم إلا منذ ثلاثة قرون، فما الذي كان ليتقدم المتخلف، ويتأخر المتقدم؟!!..

وفي الوقت الذي بدأ في الغرب بالنهوض، كانت الحضارة الإسلامية في خفوت، وبسرعة هائلة تقدموا، وبمثلها تأخرنا… فما السبب في ذلك؟!..

عاشت أوربا ظلاما قرونا متطاولة، اعتنقت خلالها النصرانية المحرفة ودانت بها شعوبها، ولما كان دينها محرفا لم ينفعها بشيء، فلم تفد منه في محو التخلف عن نفسها، بل زادها جهلا وظلاما، حيث منعت من التفكير إلا من خلال الكنيسة، وضمن الحدود التي ترسمها، وخضعت للقسس والبابوات خضوعا مطلقا، في نشاطها الفكري، فبقيت كما هي لم تتقدم خطوة إلى الأمام..

ثم طرأ عليها حدث مهم، كان نقطة تحول في تاريخ أوربا، وبداية لمرحلة جديدة، مختلفة كلية عن مراحلها السابقة، كان ذلك سقوط الإمبراطوية الرومانية في المشرق، تحديدا بلاد الشام، على يد الصحابة رضوان الله عليهم، ثم بعد ذلك توسع الفتح الإسلامي في بلاد الروم، حتى تم فتح القسطنطينية عاصمة الكنيسة الشرقية الأرثوذكسية، في القرن التاسع.

هذا التحدي الجديد الذي صار يهدد عروش الملوك والبابوات في أوربا كان حافزا لإعلان الجهاد المقدس ضد المسلمين، فبدأت الحروب الصليبية، و من خلال الحروب والفتوحات احتك نصارى أوربا بالمسلمين..

وقع الاحتكاك:

بين أمة لا تعرف الغلو ولا التبعية المطلقة، وتؤمن بأهمية العقل والتفكير الصحيح، وتنزل الإنسان منزلته اللائقة، فلا تهدر كرامته في بدنه أو عقله، باسم الدين، أو الخضوع للسيد أو الملك أو القسيس..

وبين أمة لا تعرف شيئا من ذلك، ولم تفكر يوما أن لها حقوقا، هضمت ومحيت من كتب القانون وشريعة البابوات..

كان ذلك الاحتكاك سببا مهما في استفاقة نصارى أوربا، وشعورهم بمهانة إنسانيتهم على يد الملوك والبابوات، فكانت تلك نقطة البداية لاشتعال نار التمرد على السيطرة الجائرة ضد عقل الإنسان..

عمق هذا الفهم الجديد تتلمذ كثير من الأوربيين على يد علماء المسلمين، في جامعات الأندلس وصقلية والشام، في شتى العلوم الدنيوية، وإدراكهم مدى التحرر العقلي الذي ينعم به المسلمون في غير ما يضر.. بخلاف شعوب أوربا..

ولهذه العوامل بدأ العقل الأوربي مستحسنا طريقة عمل العقل الإسلامي، معجبا بتحرره من التبعية والخضوع الجبري بغير حق، والاستحسان والإعجاب باب التقليد والمحاكاة، وهذا ما كان:

فقد نشط العقل الأوربي في التفكير، خارج الحدود المرسومة له بأمر الكنيسة، فاصطدم بها، وناله العقاب الرادع، فقد قتلت الكنيسة وحرقت كل من يسول له عقله أن يفكر بأمر يخالف ما قررته فجعلته حقيقة لا تقبل الجدل، وكحال كل الثورات، فإن الثورة العقلية أخضعت وقطعت في أول أمرها، لكنها في نهاية الأمر انتصرت، فسقطت أمامها كل عائق كان يعوقها، سقطت عروش البابوات والملوك، وسقط معها الدين النصراني المحرف، فانطلق العقل الأوربي، متحررا، بلا قيود..

إذن، لم يتقدم الغرب إلا بعد أن نجح في التخلص من معوق الفكر (= الكنيسة)، وكان احتكاكهم بالمسلمين دافعا لمثل هذه الثورة، تعلموا فيه إنسانية الإنسان، وزرع فيهم الأمل لاسترداد تلك الإنسانية، التي فقدوها مع حكم الإقطاع والكنيسة.

وعقلاء الغرب ومفكروه يشهدون بفضل المسلمين على أوربا في النهضة الحديثة، تقول الألمانية "زيغريد هونكه" في كتابها "شمس العرب تسطع على الغرب":

"إن هذا الكتاب يرغب أن يفي العرب دينا استحق منذ زمن بعيد".. ص14

وإذا كان من أهم أسباب تقدم الغرب هو التخلص من الدين المحرف وإزاحته من طريق التفكير، فإنه على العكس من ذلك، قد كان من أهم أسباب تأخر المسلمين هو ضعفهم في أخذهم دينهم بقوة، كما أمر الله تعالى: {خذوا ما آتيناكم بقوة واذكروا ما فيه لعلكم تتقون}..

فقد تراخت قبضتهم على الدين، فكثر فيهم البدع، والخرافات، والتواكل والتقصير وترك العمل، والحرص على الدنيا..

إن الدين المنزل الحق المحفوظ من التبديل لا يمكن أن يعوق البشرية عن مصالحها، من تفكير صحيح، وإنتاج مفيد، إنما الذي يعوق الدين المحرف، وهذا فرق ما بين الإسلام والنصرانية، في هذه القضية..

لما كان المسلمون يقبضون على دينهم تقدموا، فلما تركوه تخلفوا، ولما كان النصارى يتبعون دينا محرفا تخلفوا، فلما تركوه تقدموا..

واليوم المسلمون في رجوع إلى نقاء الدين وصفائه، لكنهم يجدون عوائق جمة أمام استرداد الأمجاد ومنافسة حضارة الغرب، فهم وإن طبقوا الإسلام على وجه مقبول إلى حد ما، إلا أنهم لم يستطيعوا التخلص من سلبيات لصقت بهم، وللغرب دور في ذلك، فحالهم كحال الجاني التائب المسجون، لايجد طريقا للخروج، ليستعيد نشاطه ويصلح ما مضى، فحبسه مؤبد..

الغرب القوة الأولى في الأرض اليوم حكم على الأمة الإسلامية بالسجن المؤبد في التخلف والتبعية المطلقة في كل شيء، فهو يخطط لقمع كل حركة استرداد لتراث الأمة وحضارتها، ويئد كل عمل للارتقاء والتقدم، ويستعمل لأجل ذلك وسائل كثيرة..

فمن أساسيات مراكز القرار في الغرب اليوم، العمل على ضمان تفوق الغرب الدائم المطلق، في كل الميادين الحيوية، مهما كلف ذلك من ثمن، ولو كان الثمن الإفساد والإفقار، بل ولو كان الثمن إزهاق الأرواح وسفك الدماء بغير حق، يستوي في ذلك الأطفال والشيوخ والنساء والضعفاء.

نعم إن المسلمين يتحملون جزءا كبيرا من سبب التخلف، لكن ذلك لا يعفي الغرب من التهمة، فالكل يشهد، في كل بلاد الإسلام، ما يخطط له الغرب، بكل عناية وحرص، لتبقى هذه البلدان متخلفة:

بدأ ذلك منذ سقوط دولة الإسلام، وتمزقها على يد الغرب إلى دويلات، لها حدود وجارات، بعضها غنية، وبعضها فقيرة، فأما الفقيرة فزادوها فقرا، وأما الغنية فخططوا لإفقارها، تسعى في سداد ديونها الربوية المتراكبة، وتلك الحدود خلقت جوا من الاضطراب والقلق الدائم بين الجارات، فبين كل دولة ودولة مناطق متنازع عليها، هي فتيل حرب في أية لحظة، بالإضافة إلى تصدير الفساد الأخلاقي وترويجه وجبر الناس عليه والاضطلاع بمهمة تحرير المرأة.

فالفتن تحيط بدول الإسلام من داخلها وخارجها، فقد زرع الغرب في دول الإسلام من يحمل الولاء الكامل له، وليس فيه أدنى ولاء لبلده وأهله، فهو وطني في الظاهر، لكنه مستغرب، من بني الجلدة، لكنه غربي الهوى، ليس له قصد إلا إلحاق الأمة بالغرب، ولو كان في ذلك تحطيمها في قوتها واقتصادها وأخلاقها.. فهذه الفئة تسعى دائما لإضعاف الأمة، وضمان تفوق الغرب.

وقد أنشأ الغرب منظمات دولية:

- كهيئة الأمم المتحدة ولجانها..

- وصندوق النقد الدولي.

- والبنك الدولي.

- ومنظمة التجارة العالمية.

لتكون أداة لضمان تفوقه على كافة شعوب الأرض..!!!!!.....

فهي تستخدم للتدخل في سياسات الدول، واقتصادياتها، تفتعل الأزمات السياسية والاقتصادية، ثم تتدخل هذه الهيئات في صورة الناصح المشير والمنقذ، وليس لها قصد إلا تعميق المشكلة، فهي تقرض مثلا دولة فقيرة، لكن بشروط وزيادات ربوية تعمق المشكلة وتزيد الدولة فقرا إلى فقرها، كل يوم، فالزيادات الربوية لا تقف عند حد، وهكذا تصبح هذه الدول المقترضة في الدين إلى الأبد، وذلك يستنزف الناتج القومي.

وفي مثل هذه الأحوال العصيبة، والمشاكل التي لا تنتهي، تفتقر بلاد الإسلام إلى أهم أسباب التقدم، من استقرار وأمن ورخاء، ويكون بدلا عنها الاضطراب وقلق الحرب والفقر..

كما ينصرف جهدها في الحفاظ على القيم، ودفع أولئك المستغربين من بني الجلدة، الذين يشغلون الأمة كل يوم بما لا يعود عليها بالنفع، بل بالضرر، الذين لا هم إلا الكلام عن المرأة وحقوقها المزعومة، ودعواهم وفريتهم العريضة أنها مظلومة، يحكمون على الأمة أن تعيش حالة حرب مع الأخلاق الوافدة الفاسدة الدخيلة على المجتمع، تستنزف جهدها وطاقتها في ذلك..

فهؤلاء الأعداء من الداخل ومن الخارج هم من أكبر أسباب تخلف الأمة، والعدو الخارجي هو الأكبر، وإنما الذي في الداخل تبع له، ولولاه ما وجد.

إن الإنسان هو الإنسان في كل مكان في الأرض، فالإنسان الشرقي ليس أقل من نظيره الغربي، من حيث ملكة التفكير والعقل...

فكل ما في الأمر أن الغرب من سياسته تبني العقول الذكية، بفتح المجال لها لتبدع وتنتج، على العكس من سياسة الشرق، خاصة بلاد الإسلام، إلا ما ندر، الغارق في مشاكله الخاصة، الذي لا يفكر في تبني العقول الموهوبة، مما يدفع بكثير منها إلى الهجرة إلى حيث الاحتضان والرعاية العلمية (= الغرب)، وليس من العسير أن نبحث عن أعداد ليست بالقليلة من العلماء العباقرة من المسلمين يديرون مراكز علمية غربية، طبية وفلكية وصناعية، وغير ذلك..

نعم هناك محاولات جادة من بعض الدول الإسلامية، مثل دولة ماليزيا، للتقدم، وقد قطعت شوطا مهما في هذا المجال، فتحررت من هيمنة الغرب، إلى حد ما، واستفادت من الطاقات في الداخل، فبدأت عملية التطوير تؤتي ثمارها، فذلك يعلمنا أن التقدم الإسلامي غير محال، وأن التحرر من الهيمنة الغربية ممكنة، بشرط:

صدق العزيمة، والقوة في العمل، والتميز في الأداء، حتى تكون الصبغة إسلامية، والتخلص من المصالح الشخصية، والتخلص كذلك من الفئات الفارغة التي تشغل الأمة ولا تفيدها بشيء.

ولا يعني ذلك أن الغرب سيسكت، بل سيمارس كل ما يضمن له التفوق، لذا على المسلمين الاستعداد للرد على كل وسيلة يتخذها، فعليهم إذن حسن التخطيط للتقدم، كما أن عليهم حسن التخطيط لصد كل ما يتخذه الغرب لعزلهم عن المقدمة..

أبو سارة

=============

#معايير النصر

الشيخ الدكتور محمد موسى الشريف

لقد جرى ما جرى في العراق، وضاقت صدور قوم مؤمنين، وامتلأت قلوبهم غيظًا وحنقًا، ليس بسبب ما جرى لصدام وحزبه، ولكن لأسباب أخرى، منها:

1- انهيار الوضع فجأة بحيث تمكن المعتدون من العاصمة دون مقاومة تُذكَر، ولا نكاية كانت متوقعة فيهم، وهذا بسبب التعبئة الكبيرة الكاذبة التي قام بها النظام، وما كانوا يدَّعونه من أن بغداد ستكون مقبرة للغزاة، وتعاطفت الشعوب الإسلامية تعاطفًا كبيرًا جدًّا مع هذا الطرح، وبنت عليه الآمال العظام، ثم فوجئوا بما جرى مما لم يكن في حسبانهم أبدًا، وهذا أورث كثيرًا من الناس إحباطًا كبيرًا ويأسًا عظيمًا، وانهارت آمال كثير من الشباب المتحمس المتوقد والفتيان المتوثبين.

2- تمكُّن المعتدين من البلاد العزيزة على قلوبنا، ومن مهد الحضارة الإسلامية، وبدء تهديدهم لسورية وإيران، وغيرهما من بلاد الإسلام، وفي ذلك خوف كبير على هذه البلاد العزيزة الغالية.

3- أثر هذه الأحداث العالمية في ترسيخ الطغيان الأمريكي- الصهيوني، وما تطبعه في أذهان الناس من سيطرة هؤلاء على مقاليد الأمور، وما تضخمه في قلوبهم وعقولهم من هذه القوة والغاشمة، وكل مردود ذلك سلبيا جدًّا.

4- اجتراء القوى الأخرى على المسلمين، وخاصة إخوان القردة والخنازير، على إخواننا في فلسطين، واجتراء الهنادكة عُبَّاد البقر على إخواننا في كشمير، والصليبيين الفلبينيين على إخواننا هنالك.

بسبب ذلك كله تمتلئ قلوب المؤمنين بالغيظ والحنق وتضييق صدورهم مما جرى في العراق مما يتصورنه هزيمة منكرة.

هل ما حدث هزيمة ؟

والسؤال المهم:

هل ما حدث في العراق هزيمة؟

والجواب عليه يظهر في ضوء التالي:

أ - إن المعركة لم تنتهِ بعد، وإن هؤلاء قد أعماهم الغرور، فاستعجلوا إعلان النصر، وأتصور أن المعركة ستبدأ من جديد على شكل حرب عصابات، لكنها عصابات مؤمنة مطهرة، تذيقهم شيئًا من الألم والنكال، والله أعلم.

ب - يفهم أكثر الناس في العالم الإسلام اليوم أن تلك المعركة هي مقدمة لمعارك أخرى، وهذا الشعور يغذي مشاعر المؤمنين بالكراهية لأولئك المعتدين المحتلين، ويعبئ الجماهير من المسلمين استعدادًا للمعركة القادمة، وارتفاع الروح المعنوية على هذا الوجه يُعَد جزءًا من النصر القادم إن شاء الله تعالى.

ج- إن ما حدث من أعمال السلب والنهب والثأر في العراق، لهو من فعل الغوغاء العوام الطغام الذين لا قيمة لهم، فليس لأفعال هؤلاء المخالفة للشرع اعتبار في موازين النصر أو الهزيمة، ولا ينبغي أن يحزن المؤمن أو ينكسر أو ييأس، عندما يتناهى إلى سمعه مثل هذه الأمور، فهي في السنن الربانية أمر طبيعي.

د- كل ما حدث في العراق ويحدث في فلسطين والشيشان وكشمير والفلبين، إنما هو في سياق واحد عندنا معشر المسلمين، ألا وهو سياق البلاء والفتنة والتمحيص، ويدخل في قوله تعالى: (وليمحص الله الذين آمنوا ويمحق الكافرين)، وقوله تعالى: (ويتخذ منكم شهداء)، وقوله تعالى: (أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنَّا وهم لا يفتنون ولقد فتنا الذين من قبلهم فليعلمن الله الذين صدقوا وليعلمن الكاذبين)، وقوله تعالى: (ونبلوكم بالشر والخير فتنة وإلينا ترجعون)، وقوله تعالى: (ولنبلونكم بشيء من الخوف والجوع ونقص من الأموال والأنفس والثمرات وبشر الصابرين الذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا إنا لله وإنا إليه راجعون أولئك عليهم صلوات من ربهم ورحمة وأولئك هم المهتدون)، وقوله تعالى: (ولنبلونكم حتى نعلم المجاهدين منكم والصابرين ونبلو أخباركم).

فكل ما أصابنا ويصيبنا وما سوف يصيبنا، نفهمه على هذا الوجه ، فليست المسألة مسألة هزيمة، بل هي تمحيص وابتلاء قبل النصر الأعظم.

هـ- ثم لا ننسى أن أولئك الغزاة يُعذَّبون أيضًا، وننال منهم مقتلة، ونصيبهم بأذى في نفوسهم وأموالهم ونفسياتهم، ونفهم كل ذلك أيضًا في ضوء قوله تعالى: (إن تكونوا تألمون فإنهم يألمون كما تألمون وترجون من الله ما لا يرجون).

وإن من أبرد ما يصيب أكبادنا من الأخبار قوله تعالى: (وترجون من الله ما لا يرجون)، فنحن نرجو الجنة وهم مأواهم النار، ولسنا سواء. ونفهم ما يجري أيضًا في ضوء قوله تعالى: (إن الذين كفروا ينفقون أموالهم ليصدوا عن سبيل الله فسينفقونها ثم تكون عليهم حسرة ثم يغلبون والذين كفروا إلى جهنم يحشرون ليميز الله الخبيث من الطيب ويجعل الخبيث بعضه على بعض فيركمه جميعًا فيجعله في جهنم أولئك هم الخاسرون)، الله أكبر ما أحسن هذا! وما أعظمه! وما أحسن دلالته على موازين المعركة اليوم.

و- أخيرًا، العبرة في النصر بالخواتيم، وهذه كلها جولات قد ينتصر فيها الباطل حينًا، لكنه حتمًا في النهاية مهزوم، يقول تعالى: (وكان حقًّا علينا نصر المؤمنين) ويقول سبحانه: (إنا لننصر رسلنا والذين آمنوا في الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد)، ويقول تعالى: (إن تنصروا الله ينصركم ويثبت أقدامكم)، ويقول تعالى: (والعاقبة للمتقين)، ويقول جل من قائل: (إن الله لا يصلح عمل المفسدين) ويقول سبحانه: (إنه لا يفلح المجرمون).

وقد بشرنا رسولنا الأعظم بالنصر عليهم في نهاية المطاف: (لتقاتلن اليهود حتى يقول الشجر والحجر: يا مسلم، يا عبد الله، ورائي يهودي تعالَ فاقتله)، وبشرنا صلى الله عليه وسلم بفتح روما، وبشرنا ببشائر كثيرة من نزول عيسى صلى الله عليه وسلم، وكسر الصليب، وقتل الخنزير، وكل ذلك نصر واضح لا ريب فيه، ونقول لهؤلاء المنتفشين بنصرهم الوقتي المشكوك فيه: ( فليضحكوا قليلاً وليبكوا كثيرًا جزاء بما كانوا يكسبون)، والله أكبر ولله الحمد.

============

# قراءةٌ نقديةٌ لبحث سعود السرحان:

«الحكمة المصلوبة : مدخل إلى موقف ابن تيمية من الفلسفة»

1428

عبدالله بن عبدالعزيز الهدلق

بسم الله الرحمن الرحيم

قَبْل البَدْء:

إضاءةٌ لمدخلٍ آخَر

«علم الاستغراب ليس حديثاً؛ لأن علاقتنا بالغرب أيضاً ليست فقط وليدة العصر الحديث، بل تمتد جذورها منذ نشأة الأنا الحضارية المتمثل للتراث الإسلامي عبر أربعة عشر قرناً أو يزيد. ففي علاقتنا باليونان كما فعل القدماء تمتد جذور علم الاستغراب. اليونان جزءٌ من الغرب، جغرافياً، وتاريخياً، وحضارياً، وإلى اليونان والرومان تَمتدّ مصادر الوعي الأوربيّ»[1].

هل لي أن أذهبَ ـ من خلال هذا النص لحسن حنفي ـ إلى أنّ افتتانَ بعضِ مثقفينا بالمثال الغربيِّ ليس وليدَ هذا العصر الحاضر، وأنَّ متقدمي الفلاسفة في تاريخنا الثقافي إنما كانوا يمهِّدون لهذا الشعور بالنقص الحضاريِّ الذي نحياه؛ حين فُتنوا بالمثال الغربي في أسمى صُوَره الثقافية آنذاك: «الفلسفة اليونانية»؟

وهل كان حسن حنفي يعلم وهو يكتب «مقدمته في علم الاستغراب» أنه ـ وإن لم يقصد إلى ذلك ـ سينير لأحد الباحثين رؤيةً جديدةً لتراث ابن تيميّة قَلَّ أن تنبَّه لها دارسوه؟

«لماذا تُعَدُّ أبحاث وكتاباتُ ابن تيمية حول الفلسفة اليونانية عامةً، والمنطق الأرسطي خاصةً، جذوراً أو إرهاصاتٍ لعلم الاستغراب؟

ابتداءً أُقرّر أن قراءتي لكتاب «مقدمة في علم الاستغراب» للدكتور حسن حنفي منذ أربع سنوات؛ أوحت إليَّ بفكرة إعداد دراسة خاصة عن «الرد على المنطقيين» للإمام ابن تيمية وربطه بعلم الاستغراب.

فجذور هذا العلم ترجع ـ في نموذجه القديم ـ إلى علاقة الحضارة الإسلامية بالحضارة اليونانية، عندما كانت الحضارة الإسلامية ذاتاً دارساً، استطاعت أن تحوِّل الحضارة اليونانية إلى موضوع

دراسة .. فإذا أضفنا إلى ذلك الأهدافَ التي توخّاها ابن تيمية والتي يسعى إليها علم الاستغراب المعاصر ـ عند بنائه واكتماله ـ نجد الاتفاق إن لم يكن المطابقة.

فأهداف علم الاستغراب؛ السيطرةُ على الوعي الأوربي، التقليلُ من إرهابه، وأنه ليس بالوعي الذي لا يقهر.

أما ابن تيمية فإنه نموذج من نماذج الفكر الإسلامي، الذي استطاع تمثُّل الحضارات السابقة دون أن يفقد هويته؛ ثم قام بنقدها.

وإذا كنا نعترف أنه طالما أن الغرب قابعٌ في قلوب الكثير منا كمصدرٍ للمعرفة، وكإطارٍ مرجعيٍّ يحالُ إليه كلُّ شيءٍ للفهم والتقييم؛ فسنظلُّ قاصرين وفي حاجة دوماً إلى أوصياء.

نقول قبل ذلك ومعه: إن ابن تيمية كان يهدف إلى إزاحة الرهبة من الآخر وكشفه وتحجيمه، والتصدي لأي وصاية فكرية تصدر منه.

لقد أراد ابن تيمية للإنسان المسلم أن يفكر بعقله ولا يدع أفلاطون أو أرسطو أو أفلوطين يفكرون له.» [2].

.. قرأتُ ما كتبه سعود السرحان في بحثه «الحكمة المصلوبة: مدخل إلى موقف ابن تيمية من الفلسفة»، ومع أني تهيَّبتُ أوَّلَ أمري ولوجَ «مدخل مظلم» عُلِّقتْ على بابه «حكمة مصلوبة» تقطر دماً! إلا أني اتخذتُ شيئاً يشبه ذاك الذي يضعه مرتادو الأغوار والكهوف على رؤوسهم فينير لهم الطريق.. ودخلتُ.

تكمُنُ مشكلة بعض زملائنا الذين تسرّبوا من مدرستنا السلفية في تَوَهُّمه أنه حين يكتب شيئاً ثقافياً؛ إنما يؤسس لمرحلة مهمة من تاريخ حياتنا الثقافية، وتظلُّ تُداعب خيالَه أسماءُ: الطهطاوي، والأفغاني، وقاسم أمين، ومحمد عبده، وعلي عبدالرازق، وأحمد لطفي السيد، وطه حسين... فيلقي في «شيئه الثقافي» هذا بعض الكلمات؛ عسى أن يهتدي إليها دارسو تراثه في المهرجان الذي سيقام بمناسبة الاحتفال بالمئوية الأولى لولادته!

وذلك كقول صاحبنا في مقدمة بحثه: «تتجاوز أهمية هذا البحث مجرد كونه عرضاً لموقف ابن تيمية من الفلسفة إلى توضيح آثار هذا الموقف على الواقع العلمي والثقافي في السعودية»، وقوله: «وحسبي أن أكون مهدت الطريق أمام هذه الدراسات، التي سيكون لها الأثر الكبير ليس على الفكر السلفي فقط، بل وعلى الفكر الإسلامي بصورة عامة». [3]

هنا أسئلةٌ تتردد في ذهني كثيراً حين أرى بعض من فشلوا في مشروعهم السلفيِّ يعودون فيشغبون على مدرستنا:

ما بالهم لا يذهبون إلى المدارس المجاورة فيقذفون نوافذهم بالحجارة كما يفعلون معنا؟

أهي نظرية الثَّأْر التي تملكُ على الإنسان عقلَه فتُحيلَه إلى مَوْتورٍ يحمل سلاحه ويمشي يترنَّحُ به في الطرقات على غير هدى؟

أشعورٌ بالنقص ينتاب هذه الأنفس كحال كلِّ من عَجَزَ عن تحقيق كمالٍ كان ينشُدُه؛ يحملها على أن تعْمَدَ في تفكيرها إلى شيءٍ من الشذوذ، حتى يكون لها نوعٌ من خصوصية الذات وتفرُّدها؟

أم هي نشوة المعرفة المُتوهَّمة تمشَّتْ في عقول هؤلاء؛ فأرادوا للطُّهْر أن يشاركهم اللذة الأثيمة، بكأس المخرج الإباحي فاديم، على ألحان اغتراب الوجودي كافكا، لنشيد نيرودا الذي ترنَّم به قيفارا مع الرِّفاق في أحراش بوليفيا؟

ستة محاور رئيسة في هذا البحث أَودُّ أن أقرأها مع صاحبنا، ثم أعرض بَعْدُ لشيءٍ من مثل ما نحن بسبيله. [4]

المحور الأول: النظرةُ التقليديَّةُ الجامدة التي تعامل بها السلفيُّون مع تراث ابن تيمية في الفلسفة.

المحور الثاني: تأخُّر دراسة ابن تيمية للفلسفة.

المحور الثالث: اعتمادُ ابن تيمية على مصادر غير دقيقة في حكايته لمقالات فلاسفة اليونان.

المحور الرابع: بناءُ ابن تيمية دراستَه للفلسفة على «التلفيق» و«النفعية».

المحور الخامس: مآخذُ أخَذها الباحثُ على ابن تيمية.

المحور السادس: موقفُ ابنِ تيمية من المنطق.

المحور الأول: النظرةُ التقليديَّة الجامدة التي تعامل بها السلفيّون مع تراث ابن تيمية في الفلسفة:

يريد صاحبنا أن يثبت أن ابن تيمية الذي تحسبه السلفية أربحَ ورقةٍ لها في التراث العقليّ عامة، [5] وفي الرد على الفلسفة التي لا تفهمها على وجه الخصوص؛ هذا الذي تحسبه كذلك؛ ليس كذلك.. فما هو إلا فقيه حنبلي احتاج في بعض ردوده إلى دراسة الفلسفة فدرسها على كِبَر، ملفِّقاً تارة، ونفعياً تارة أخرى، ثم إننا خُدعنا بقوله فصدقناه، لأن نظرتنا التقليدية وجمودنا الفكري حالا دون رؤية هذه الحقيقة.

قال ص1: «فقد ظلت نظرة ابن تيمية الحراني.. إلى كثير من المسائل، والفلسفة واحدة منها، هي الحَكَمُ عند السلفيين على شتى توجهاتهم، ولم تتعرض مواقف ابن تيمية للدراسة والتمحيص، بل بقيت أسيرة التقليد من الأتباع».

وكان من آثار هذه الرَّزِيَّة التي بُليتْ بها السلفيةُ الجامدةُ أنه: «توجد في السعودية قرابة عشر جامعات وعشرات الكليات لا تحوي بين جنباتها قسماً واحداً لدراسة الفلسفة، واعتماداً على نظرة ابن تيمية إلى الفلسفة التي تراها كفراً وضلالاً لم تتجرأ أي جامعة سعودية على فتح قسم للفلسفة.. وإن مرَّ ذكر الفلسفة عَرَضاً فينبغي وصفها بالكفر والضلال، والتأكيد على أن طريق العقل هو طريق الهلاك».

ما ذكره هنا قولٌ مكرور، كان ردَّده عبدالمتعال الصعيدي قديماً؛ قال: «كان لابن تيمية مدرسة بعده جارته في تلك النواحي من الجمود، فعادتْ علوم الفلسفة كما عاداها، ولم تهتم بغير الفقه والتفسير والحديث وما إليها من العلوم، وكان ابن رشد الفيلسوف الفقيه أولى أن يكون له مدرسة بعده من ابن تيمية، ليسير المسلمون بها في سبيل التجديد الصحيح، ويجمعوا بها بين علوم الدين وعلوم الفلسفة، فهذا كان خيراً من مدرسة ابن تيمية التي جمدت بعده على تقليده .. على أن طابع الدعوة الوهابية كان متأثراً بطابع دعوة ابن تيمية، وقد كانت دعوة ابن تيمية تنافر أو تهمل الفلسفة وعلومها، وكان هذا نقصاً كبيراً فيها، وهو في الدعوة الوهابية أشدّ ضرراً .. »[6].

أعلم من قراءتي هذا البحث أن كاتبه يظن أن حجم الإبداع يقاس بمُطلق الجرأة على الثوابت، وليس بالقيمة الفكرية التي تحملها هذه الجرأة، لذا لن أنزلق معه في مهوىً خطابيٍّ يضادُّ هذه الخطابية التي أنشأها، وهو الذي يزعم أنه يؤسس لمرحلة عقلية مهمة في تاريخ حياتنا الثقافية.

وسأُورد شيئاً من أقوال بعض دارسي الفلسفة في القيمة الفكرية لتراث ابن تيمية الفلسفي، [7] وهؤلاء ممن لا ينتمون للسلفية التقليدية المغرَّرة، بل إن بعضهم قد وجَّه لابن تيمية في هذه الكتب المنقول عنها ما لا يرضاه أتباع مدرسته بحالٍ من الأحوال.

1- مصطفى عبدالرازق: «نَظَر ابن تيمية في الكلام والتصوف والفلسفة نظراً عميقاً: فكتبه تدل على سعة اطلاع على المذاهب الفلسفية وتاريخها؛ وحسن تصويره لما يَعرِض للرّد عليه من مذاهب الفلسفة ينبئ عن علم وفهم.. إنا نرجو أن تتوجه همم المشتغلين بالفلسفة وعلوم الكلام والتصوف إلى درس آراء ابن تيمية في الفلسفة والكلام والتصوف.

وهذه الدراسة نافعة في توضيح آراء كلامية وصوفية وفلسفية، كشف ابن تيمية غموضها بفكره النفاذ، وردها إلى أصولها وأحسن بيانها بقوله الواضح المبسوط.

ولابن تيمية في ثنايا ردّه على الفلاسفة والمتكلمين والصوفية نظرات فلسفية طريفة قد تفتح لدراساتنا الفلسفية الناشئة آفاقاً جديدة». [8]

2- أبويعرب المرزوقي: «وإذن فتاريخ الفلسفة العربية والكلام العربي هو تاريخ محاولات التخلص هذه من الأفلاطونية المحدثة والتوراتية المحدثة.. سعياً إلى الملائمة بين ما بعد العلم، وما بعد العمل المطلقين، والعلم والعمل النسبيين، وإدراك هذا الانفجار وعدم الملائمة التي أبرزناها هما اللذان انطلق منهما ابن تيمية في ردوده على الفلسفة والتصوف والكلام، لوضع نظرية العلم الاسمي، وهي التي انطلق منها ابن خلدون كذلك لوضع نظرية العمل الاسمي». [9]

3- محمد جلال شرف: «هذا مظهرٌ آخر من مظاهر النقد الفلسفي للمشائية الإسلامية بعد ابن سينا، يتجلى بوضوح في شخصية ابن تيمية المتكلم السلفي، وكان من الممكن أن نتخذ منه نموذجاً فريداً لهذا النقد نستغني به عن كل ما سلف، فلم يترك فكرة أو شخصية إلا وتعرض لها بالتحليل والفحص على أساس من العقل والنقل.

ويرجع الفضل في ذلك كله إلى ظهوره في عصر متأخر بعد أن نضج الفكر الإسلامي واتخذ طريقاً واضحاً، مما أعان ابن تيمية على الاطلاع الكامل لهذا التراث الفلسفي، فكان يستعين بالمتكلمين على الفلسفة والعكس صحيح». [10]

4- عبد الحكيم أجهر: «إن رؤيته للعالم تتمتع بتماسك ذاتي كافٍ يقوم على أسس فلسفية ومنطقية واضحة وصلبة.. ابن تيمية صعب ثانياً: بسبب تعرضه لقضايا فلسفية عويصة تعكس معرفة هذا الرجل بالتراث الفلسفي السابق عليه، والذي أتى على الأغلب من مصادر عربية إسلامية، والأمر هنا لا يقتصر على مناقشته تلك القضايا فحسب، بل في تبنّيه هو لقضايا فلسفية معقدة يريد تأسيسها وتقديمها كبديل عن الخطابات العقلانية السابقة عليه». [11]

5- عبد الفتاح أحمد فؤاد: «كان الشيخ خبيراً بمذهب فلاسفة اليونان القدماء، فضلاً عن معرفته الواسعة بآراء فلاسفة الإسلام، ولا يتضح ذلك فقط عندما يكون بصدد عرض الخطوط العريضة لمذاهب الفلاسفة، وإنما يتضح أيضاً عندما يورد التعريفات الدقيقة للمعاني الفلسفية كتعريف أرسطو للمكان على سبيل المثال.. وها نحن نجدّد الدعوة إلى إنشاء كرسي للإمام ابن تيمية في بعض أقسام الفلسفة في جامعاتنا»! [12]

لو ذهبت أتتبع مثل هذه الأقوال لجاء من ذلك كتيّب لا بأس به.

أريد أن أصل؛ إلى أنه إذا كنا نحنُ دراويشَ السلفية - وفينا عبد الصمد شرف الدين، ومحمد رشاد سالم، ومحمد خليل هراس - قد أُصبنا بما أصبنا به، فكيف جاز أن يُخدع هؤلاء بالقيمة الفكرية لتراث ابن تيمية في الفلسفة؛ ثم لا ينكشف أمره إلا لصاحب هذا العقل الفَرْد؟

المحور الثاني: تأخُّر دراسة ابن تيمية للفلسفة:

قال ص10: «نشأ ابن تيمية نشأة علمية حنبلية سلفية، فقد اعتنى بسماع الحديث، وبدروس التفسير والفقه، ولم نجد له أي دراسة أو اعتناء بكتب الفلسفة والمنطق، إلا أن دخوله في صراعات كثيرة مع المتكلمين، والشيعة لاسيما الباطنية منهم، وغلاة الصوفية؛ قاده إلى البحث عن جذور مقالاتهم عند الفلاسفة، والتفتيش عن عضد «عقلي» يستعين به على إثبات العقائد «السلفية».

سأحاول أنا تلميذ السلفية استعمال العقل هذه المرة؛ لأثبت من نصوص صاحبنا - ومن غيرها - أن ابن تيمية عرف الفلسفة مبكراً، مبكراً جداً.

1- إنما درس ابن تيمية الفلسفة لتكون له عضداً عقلياً يستعين به على إثبات العقائد السلفية.. ماذا لو علمنا أن ابن تيمية قد ألّف مصنفاً قديماً يردّ به على المتكلم الرازي وهو دون الثلاثين من عمره؟ فما دام أنه درس الفلسفة لتكون له عضداً عقلياً.. فيكون قد درسها في العشرينات من عمره لا ريب.

قال ابن تيمية: «وقد بسطنا الكلام على ما زعمه هؤلاء من أن الاستدلال بالأدلة السمعية موقوف على مقدمات ظنية، مثل نقل اللغة والنحو والتصريف ونفي المجاز والإضمار والتخصيص والاشتراك والنقل والمعارض العقلي بالسمعي، وقد كنا صنفنا في فساد هذا الكلام مصنفاً قديماً من نحو ثلاثين سنة». [13]

قال محمود الكردي: «يذكر ابن تيمية في كتابه «درء تعارض العقل والنقل» أنه صنف مصنفاً قديماً من نحو ثلاثين سنة.. فإذا كان الدكتور محمد رشاد سالم يرجح أن يكون كتاب «درء تعارض العقل والنقل» قد كتب بين سنتي (713-717).. معنى ذلك أنه يمكن أن نفترض أن كتابه الأول وضع وعمره عشرون سنة». [14]

قال ص10: «لو حاولنا تحديد هذا التاريخ بدقة؛ فإننا قد نجد أنه كان بعد سنة 710، واستمر هذا الاعتناء إلى وفاة ابن تيمية في السجن. ومما يدل على صحة هذا الرأي أن أهم كتب ابن تيمية التي حوت مناقشاته للفلاسفة، أو إيراده لأقوالهم، كتبت بعد سنة 710 تقريبا، مثل: «درء تعارض العقل والنقل».. ».

2- كيف يكون اعتناء ابن تيمية بكتب الفلسفة بعد سنة (710)، والدليل على صحة ذلك أن أهم كتبه التي حوت مناقشاته للفلاسفة كتبت بعد سنة (710) تقريباً؟

أليس من «الفكر المنطقي» ونحن نحاول تحديد التاريخ بدقة أن يكون هذا التاريخ قبل سنة (710) وليس بعدها، ولاسيما أن صاحبنا قد نبّهنا إلى أن قدرات ابن تيمية العقلية ليست بتلك التي كنا نظن..

لا بد أنه احتاج إلى زمن قبل هذا التاريخ يفتّش فيه عن عضد عقلي يستعين به..

ص10: «وفي النصيحة الذهبية، المنسوبة للذهبي، نص يفيدنا كثيراً في هذا الأمر، إذ يقول الذهبي مخاطباً ابن تيمية: «فإلى كم ننبش دقائق الكفريات الفلسفية لنرد عليها بعقولنا، يا رجل قد بلعت سموم الفلاسفة ومصنفاتهم مرات، وبكثرة استعمال السموم يدمن عليها الجسم وتكمن والله في البدن».

ويقول فيها: «أما أنت في عشر السبعين وقد قرب الرحيل».

فهذا يدل على تأخر قراءة ابن تيمية لهذه الكتب، فالعقد السابع من عمر ابن تيمية كان بعد سنة 720 إلى وفاته سنة 728 عن 68 سنة».

3- أ- «وفي النصيحة الذهبية المنسوبة للذهبي.. يقول الذهبي»؟ ألا يقال: «جاء في النصيحة المنسوبة للذهبي: فإلى كم»؟

ب- ها هنا عقلٌ يريد أن يمهِّد لدرس فلسفي: «سيكون له الأثر الكبير على الفكر الإسلامي بصورة عامة»، لكن استظهارات هذا العقل تكشف عما يُمنى به الإنسان حين لا يوفَّق في الموازنة بين طموحه وإمكاناته.. أيفهم صبيٌّ يتوسَّم فيه أهله النَّجابةَ من هذا النّص أنه: «يدل على تأخر قراءة ابن تيمية لهذه الكتب»؟

ناصح يصرخ ويقول لابن تيمية: «إلى كم ننبش دقائق الكفريات الفلسفية» اتركها يا رجل فقد أفنيت عمرك فيها: «إلى كم»، «قد بلعت سموم الفلاسفة ومصنفاتهم مرات» لكثرة ما قرأتها وتوافرت عليها، أما آن لك: و«أنت في عشر السبعين» وقد كَبَرت سنُّك فليس يليق بك أن تشتغل بالفلسفة في هذه السن إن كان يليق بك الاشتغال بها زمن الشباب.. أما آن لك أن تنزع عنها: «وقد قرب الرحيل».

أفهذا الصراخ الذي يوقظ العقول: «يدل على تأخر قراءة ابن تيمية لهذه الكتب»؟ أعانك الله على عقلك.

4- ما في كلام ابن تيمية هنا يغنينا عن كلِّ ما كنا فيه، لولا ما بُلينا به من هذه الرُّعونة، قال ابن تيمية: «وقد كنت (في أوائل معرفتي بأقوال الفلاسفة بعد بلوغي بقريب) ، وعندي من الرَّغبة في طلب العلم، وتحقيق هذه الأمور، ما أوجب أني كنت أرى في منامي ابن سينا وأنا أناظره في هذا المقام، وأقول له: أنتم تزعمون أنكم عقلاء العالم وأذكياء الخلق، وتقولون مثل هذا الكلام الذي لا يقوله أضعف الناس عقلاً؟ وأورد عليه مثل هذا الكلام فأقول: العقل الأول إن كان واحداً من جميع الجهات فلا يصدر عنه إلا واحد، لا يصدر عنه عقل ونفس وفلك، وإن كان فيه كثرة، فقد صدر عن الواحد أكثر من واحد، ولو قيل: تلك الكثرة هي أمور عدمية، فالأمور العدمية لا يصدر عنها وجود ..». [15]

المحور الثالث: اعتمادُ ابن تيمية على مصادر غير دقيقة في حكايته لمقالات فلاسفة اليونان.

قال ص16: «وسبب هذه المعرفة المشوهة هو أن ابن تيمية لم يطلع على النصوص الأصلية للفلاسفة اليونانيين، سواءً بلغتهم (لعدم معرفته باليونانية) ولا على النصوص المترجمة لفلاسفة اليونان. وواضح أن ابن تيمية اعتمد على مصادر غير دقيقة في حكايته لمقالات فلاسفة اليونان».

وصاحبُنا باحث؛ لكن عن حتفِه بِظَلْفِه، فهو يضرب نصوص كتابه بعضها ببعض فلا يدري من أين يؤتى:

قال ص3: «الموضوع كبير جداً ويحتاج إلى دراسات كثيرة معمقة وتفصيلية، تناقش مدى فهم ابن تيمية للمسائل الفلسفية التي تعرض لمناقشتها، وكذلك مدى دقته في عزوه للمسائل والأقوال إلى أصحابها، ودراسة أثر بعض كبار المفكرين من الفلاسفة والمتكلمين على ابن تيمية، كالغزالي، وفخر الدين الرازي، وأبي البركات البغدادي، وشهاب الدين السهروردي، وابن رشد وغيرهم».

ص20: «وقد اعتمد ابن تيمية أيضاً على نقل ابن ملكا عن هذا الكتاب؛ حيث قال عن أرسطو: «وكلامه في مسألة العلم معروف مذكور في كتابه (ما بعد الطبيعة) وقد ذكره بألفاظه أبو البركات صاحب (المعتبر) وغيره».

ص28: «ابن ملكا: وهو أعظم الفلاسفة تأثيراً في ابن تيمية».

ص21: «أكثر ابن تيمية من النقل عن كتب ابن رشد، بل يكاد يكون نقلها كاملة في كتبه».

ص27: «ما الذي استفاده ابن تيمية من الفلسفة، وماالذي أخذه منها؟ هذا جانب مهم من جوانب ابن تيمية الفكرية؛ أغفله الدارسون، فلا نكاد نجد من دراسات في هذا الجانب إلا دراسة عبد المجيد الصغير « مواقف رشدية عند ابن تيمية»، وبعض الإشارات عند باحثين وعلماء آخرين، مثل الشيخ محمد زاهد الكوثري، [16] ود. محمد علي أبو ريان».

لو كان صاحبنا على شيءٍ من النباهة، والاطلاع على تاريخ الفلسفة الإسلامية؛ لما ذكر: « أن ابن تيمية اعتمد على مصادر غير دقيقة في حكايته لمقالات فلاسفة اليونان»؛ ثم ذهب في هذه النصوص التي سقتُها عنه يثبت ـ في سذاجة ـ الأثر البالغ لأبي البركات هبة الله ابن ملكا وابن رشد في ابن تيمية.

أيّ خير لك في أن تثبت أثر هذين الفيلسوفين في ابن تيمية وتدعو إلى دراسة ذلك؛ وأنت تزعم أن معرفته بمقالات فلاسفة اليونان: «معرفة مشوهة»؟ ألا تعلم أن ابن ملكا وابن رشد هما الفيلسوفان اللذان خلَّصا التراث اليوناني من اشتباكه، وحرّرا النص الأرسطي كما لم يحرره أحد؟ فإثباتُ أثرهما في ابن تيمية والحديثُ عن شدَّة عنايته بمؤلفاتها؛ فيه أن ابن تيمية قد عرف مقالات فلاسفة اليونان - ولاسيما أرسطو - في أدق صُوَره وأجلاها؟

لو قد كددتُ ذهني وأجهدت خاطري لأُثبت دقّة اطلاع ابن تيمية على تراث فلاسفة اليونان؛ لما تيسّر لي بمثل ما أفادنيه صاحبنا من هذه الطريقة هنا، فاللهم كثِّر في الثالبي تراث ابن تيمية من أمثاله!

قال محمد علي أبوريان: «إن الاتجاه الأول في الفلسفة الإسلامية لم يكن مشائياً كما اعتقد جمهرة المؤرخين بصدد ما كان أفلاطونياً مستتراً تحت ستار أرسطي مزعوم، إذ أن لبّ نظرية الفيض إنما يرجع إلى أفلاطون الحقيقي، وكان لا بد من الكشف عن هذا التيار الأفلاطوني الكامن في بناء الفلسفة الإسلامية الأولى.

وقد تصدى لهذا العمل النقدي الكبير فيلسوف هو أبوالبركات البغدادي [ابن ملكا] الذي يعتبر (عمانويل كانت الفلسفة الإسلامية)، [17] إذ أنه كان على مفترق الطرق إلى ظهور مدرسة أفلاطونية واضحة المعالم تتعصب لأفلاطون وهي المدرسة الإشراقية، ومدرسة أرسطية يتزعمها ابن رشد». [18]

جاء النص المشائيُّ في بداية معرفة العرب بالفلسفة اليونانية متداخلاً مع غيره، يصعب فيه تبيّن أفلاطون من أرسطو، وأرسطو من أفلوطين، وبدا ذلك واضحاً عند الفارابي في «الجمع بين رأيي الحكيمين» أفلاطون وأرسطو، وهو يجمع بين أفلاطون ونفسه! وابن سينا وهو يشرح «أثولوجيا» أفلوطين ظاناً أنها لأرسطو، والغزالي الناقد للإنجاز الفلسفي دون النص المنطقي الذي تبع فيه ابن سينا، حتى قام ابن رشد بجِلاء النص الأرسطي المثقل بالشرح العربي، وحرّره من اشتباكه بعد أن اختلط فيه النص بالشرح، وأفلاطون بأرسطو، وأرسطو بالفارابي، وأفلاطون بأفلوطين، فتحددت ملامح أرسطو. [19]

كان ابن تيمية يعلم هذه المزية في كتب هذين الفَيلسوفيْن فأولاهما من العناية ما لم يوله غيرها، قال: «فهذا من كلام أبي البركات على قول أرسطو، وهو أقرب إلى تحرير النَّقل وجودة البحث في هذا الباب من ابن رشد، وابنُ رشد أقرب إلى جودة القول في ذلك من ابن سينا، مع غلوّه في تعظيم أرسطو وشيعته». [20]

وقال: «بل وهذا هو المنقول عن أكثر الفلاسفة أيضاً، كما ذكر أبو الوليد ابن رشد الحفيد، وهو من أتبع الناس لمقالات المشائين: أرسطو وأتباعه، ومن أكثر الناس عناية بها، وموافقة لها، وبياناً لما خالف فيه ابن سينا وأمثاله لها». [21]

وما ذكرته هنا ليس إلا دليلاً واحداً ـ في جملة أدلةٍ كثيرةٍ نواهض ـ تشهد على زُور ما ذهب إليه.

وهنا معنى مهمٌّ أودُّ أن أُنبه عليه: حاولتُ في قراءة بعض المحاور أن أُرتِّب الجواب على نصوص صاحبنا نفسه، فربمّا جاء الجواب ضيِّقاً، فلم تكن معرفة ابن تيمية بالفلسفة هو ما أفاده من طريق هذين الفيلسوفَيْن ثم ينتهي الأمر، فله من الاستدارك عليهما، والبصر بأقوال الفلاسفة، وتحقيق النقول عنهم، والعناية بموارد كلامهم.. ما يحارُ له قارئ تراثه. وعندنا من النصوص في ذلك خيرٌ كثير .. فإن عاد صاحبنا عدنا له!

لست أزعم أن ابن تيمية لم يتطرق إليه الخطأ في بعض كلامه على الفلسفة اليونانية وفلاسفتها، فهو كغيره من العلماء يصيبه ما يصيبهم، لكن فرقٌ بين أفراد الأخطاء التي لا يسلم منها مؤلف؛ وبين الاتهام: «بالمعرفة المشوهة» الذي يسقطه الاطلاع على مجموع كلام ابن تيمية في الفلسفة.

وإنشاء الكلام هكذا عفوَ الخاطر كلُّ أحدٍ يستطيعه، فليس أكثر من هذر العامة في مجالسهم.

قبل أن أختم الحديث عن هذا المحور ـ وهو عندي من أهم المحاور ـ سأكشف عن حيلة أخَّرتُ الكلام عليها، كان صاحبنا تحيَّلها ليتوصل بها ـ مع غيرها ـ إلى ضعف معرفة ابن تيمية بالفلسفة، وأنه اطلع عليها في مصادر غير دقيقة، لكن هذه الحيلة تكشّفت بحمد الله.

مارس صاحبنا في هذا «المدخل المظلم» نوعاً من التعتيم الإعلامي في حق شخصية فلسفية سيفسدُ عليه ذكرُها كثيراً مما أراد أن يتحيَّفه من عقل القارئ.

كنت اصطنعت أَوَّلَ ولوجي هذا المدخلَ شيئاً يشبه ذاك الذي يضعه مرتادو الأغوار والكهوف على رؤوسهم فينير لهم الطريق..

وقد وجَّهتُ النور إلى هذه الظلمات فألفيتهُ من خَلَلِها بعمامته، قاعداً ثمَّ على حصير في إحدى مدارس دمشق يأخذ في درسٍ للفلسفة؛ سيفَ الدين الآمديَّ، قد أبصرتك...

قال ص5: «لم تخرج الشام فيلسوفاً كبيراً، مع أنه دخلها جمع من الفلاسفة، لاسيما متفلسفة الصوفية، أما في عصر ابن تيمية ما بين عامي 651-750 فلا نكاد نجد فيلسوفاً كبيراً سواءً في مصر أو الشام أو العراق إلا ما ندر بل إننا نعجب من قلة المشتغلين بالعقليات من فلسفة ومنطق وطبيعيات في ذلك العصر، وقد جردت جملة من الكتب التي أرخت لتلك الفترة، وبحثت عن كل من قيل عنه أنه فيلسوف أو منطقي، فلم أجد إلا عدداً قليلاً سأذكرهم هنا».

لقد تحدَّث صاحبُنا عن أثر بعض الفلاسفة في ابن تيمية فيما سقناه من نقول عنه وفيما لم نسقه، لكنه في بحثه كله لم يغلط مرة فيذكر سطراً واحداً عن أثر الآمدي في ابن تيمية، إلا أن يكون: «شديدُ ظهوره أخفاه»!

لن أُخدع بما بين عامي (651-750) هذه، وسأرجع قليلاً إلى عام (631) تاريخ وفاة الآمدي في دمشق قبل ولادة ابن تيمية بثلاثين سنة (661)، لأن ثلاثين سنة ليست تجعله من أهل القرن الثاني فلا يذكر في جملة الفلاسفة في عصر ابن تيمية، ولأن من يدعو جاهداً إلى دراسة أثر بعض الفلاسفة في ابن تيمية كابن ملكا وابن رشد لا يستقيم له أن يتجاهل الفيلسوف الآمدي المتوفى في دمشق، ولاسيما وأن ابن تيمية نفسه كان من المعتنين بتراثه والمثنين عليه. [22]

لقد تحيَّل هذه الحيلة في مادة بحثه؛ ليقطع الصلة بين ابن تيمية الدمشقي، والإرث الفلسفي الذي خلَّفه الآمديُّ إنْ في كتبه أو في تلامذته في دمشق، وليصل إلى أن ابن تيمية إنما كان فقيهاً حنبلياً احتاج إلى سند عقلي..

عُرف أبو الحسن علي: «سيف الدين الآمدي» عند كثير من القراء أصولياً متكلماً بكتابه «الإحكام في أصول الأحكام» و«غاية المرام في علم الكلام» و «أبكار الأفكار».. لكنه أيضاً فيلسوف بكتابه «دقائق الحقائق» و«رموز الكنوز» و«كشف التمويهات»، وبكتابه «المبين في شرح ألفاظ الحكماء والمتكلمين»: الذي يمثِّل النضج الفلسفي بعدَّة ألفاظه ودقة قراءته الفلسفية على اصطلاح الفلاسفة، وفق نظام ميسّر مستمد من أعمال أرسطو والفارابي وابن سينا. [23]

توجّه الآمدي إلى دمشق سنة (617) بعد وفاة أمير حماة، واستقر فيها إلى أن توفي سنة (631)، وقام فيها بتدريس الفلسفة في دروس خاصة، وكان ممن تلمذ له فيها ابن أبي أصيبعة [24] الذي قرأ عليه كتابه «رموز الكنوز»، لما كان بينه وبين أبيه من صلة.

كان الآمدي واحداً ممن قرأهم ابن تيمية بعناية، [25] ولعل هذا الذي حجبتْه عنا ظلُمات الهوى فأريد له أن يغيب، يكشفُ بَعد رؤيته عن جانب مهم من جوانب البناء المعرفي عند ابن تيمية.

لم لا يكون ابن تيمية أخذ عن تلامذة هذا الفيلسوف، إن لم يكن في درس منتظم، فلا أقلَّ من مذاكرة واستفادة؟

أما معرفة ابن تيمية بتراثه فهذا ثابت من أقواله نفسها وكثرة تردد ذكره في كتبه: «حتى إن من الحكايات المشهورة التي بلغتنا أن الشيخ أبا عمرو بن الصلاح أمر بانتزاع مدرسة معروفة من أبي الحسن الآمدي، وقال: أخذُها منه أفضل من أخذ عكّا، مع أن الآمدي لم يكن أحد في وقته أكثر تبحراً في العلوم الكلامية والفلسفية منه، وكان من أحسنهم إسلاماً وأمثلهم اعتقاداً». [26]

المحور الرابع: بناءُ ابن تيمية دراستَه للفلسفة على «التلفيق» و«النفعية»:

فُتِنَ صاحبنا بهذا الكشف فكرَّر هذا المعنى في بحثه عدة مرات، ما إن يضعف نَفَسُ البحث عنده؛ حتى يلقي بهذا القول ليفجأَ به القارئ فيصرفه بجرأته عن قيمة ما يقرأ.

قال ص11: «فابن تيمية لم يدخل عالم الفلسفة دارساً محايداً أو متعلماً، بل دخله مخاصماً مجادلاً، حيث درس الفلسفة دراسة «نفعية»، فابن تيمية بنى دراسته للفلسفة على «التلفيق» ففي أي مسألة يريد أن يرد على خصومه فيها يبحث عن أي قول لأي فيلسوف يرد على هذا القول؛ سواء كان الفيلسوف مشائياً أو إشراقياً أو غير ذلك، وفي المسألة التي يقول بها يبحث ابن تيمية عن أي قول لأي فيلسوف يؤيدها مهما كان مذهبه».

ص22: «والملاحظ على نقد ابن تيمية للفلاسفة المشائين اعتماده على التلفيق، فهو يلفق ردوده من ردود الغزالي والشهرستاني عليهم..».

ص28: «واستفاد ابن تيمية من رد بعض الفلاسفة على بعض، فاستفاد من ردود ابن رشد على ابن سينا، وردود السهروردي على كثير من الفلاسفة، وردود ابن ملكا على الفلاسفة، وردود ابن سبعين على غيره، فابن تيمية يأخذ من كلام الراد ليبطل به كلام المردود عليه؛ هذا في المسائل التي يكون الراد موافقاً لابن تيمية فيها، أي أن ابن تيمية عندما يريد الرد على قول لأحد الفلاسفة يأخذ أي رد على هذا القول لأي فيلسوف آخر ».

1- أتعبني تتبُّع نصوص البحث وضمُّها إلى نظائرها حتى أُحسنَ قراءتها، ففي النصوص السابقة التي أوردتُها من بحثه وفي هذه؛ نرى أن المعنى الواحد يفرّق ويوزّع ويكرّر في البحث كله حتى يملَّه القارئ، فما هنا: ص11ثم ص22 ثم ص28، والمعنى في كُلٍّ واحد. وعهدي بأن للمفكرين عنايةً بالمنهج وطرائق التنظيم الفكري، إلا أن يكون صاحبنا ما حُنّك بَعْدُ «بأرجانون» بيكون، و«مقال» ديكارت، و «إصلاح» اسبينوزا، و «فن التفكير» عند فلاسفة «بورريال»، [27] فسنمهله إلى أن يَلْثَغَ بها ثم نقبل منه شيئاً من كلامه على المنهج.

2- هل يظن صاحبنا أني أجَّرتُ عقلي له، يقسمني مع القراء في فريقين: يقول لهذا الفريق: قل: كان ابن تيمية؛ فيردّ الفريق الآخر: ملفقاً نفعياً يأخذ من هذا فيردُّ به على هذا؟

إنه لم يورد في هذه المواضع كلها نصاً يستشهد به على ما ذهب إليه.

3- الهدمُ أيسرُ من البناء لا شك، وأنا فأستطيع أن أُورد على صاحبنا شبهةً من الكلام يكلِّفه ردُّها ثلاث سنوات من البحث الجادّ، وحتى أكون صادقاً مع نفسي وصاحبي وقارئي؛ فإن الكلام في المنهج من أعقد مشكلات المعرفة، فكيف إذا كان عن ابن تيمية؟ بل كيف إذا كان عن منهج ابن تيمية في ردوده على الفلاسفة؟

فدراسة منهج ابن تيمية في ردوده على الفلاسفة تحتاج إلى:

1- دراسة تراث ابن تيمية في هذا الجانب بعناية.

2- دراسة ما يتّصل بهذا التراث من كتب ابن القيم فهي تشرحه وتتمِّمه.

3- دراسة ما يتصل بهذا المنهج من نظريات المعرفة.

4- دراسة المنهج في التراث الفلسفي خاصة.

5- دراسة مناهج أبرز الفلاسفة في ردودهم.

فهل قام صاحبنا بهذا وهو يتحدث عن منهج ابن تيمية في ردوده على الفلاسفة؟ كلا، وكلامه يشهد على هذا، وأنا أيضاً لم أقم به، وهو حريٌّ بدراسة مفردة جادة.

لذا فإن قراءتي لكلام صاحبنا هنا لن تعدو ما أَوْرَده، فهي قراءة لمنهج ابن تيمية في هذه الجزئية، وهذا الذي اصطنعناه هنا، منهجٌ أفدناه من بعض ما قرأناه من ردود، وهو مثَلٌ على الاستفادة من نتاج العقول بضابطه.

هل ما كان يقوم به ابن تيمية «تلفيقاً» كما فهم صاحبنا، أم هو عملٌ ينمُّ على عمق اطلاع ابن تيمية على مناهج الفلاسفة؟

لما أراد ابن تيمية أن ينقض على الفلاسفة أقوالهم؛ عمد إلى الفلسفة من الداخل فنقضها بأدواتها وليس بشيءٍ خارج عنها، وكان من المنهج سلوك طريق الفلاسفة أنفسهم مع بعضهم البعض في جدلهم: «هذه الحركة الديالكتيكية هي ماهية الفلسفة».

إن شأنه شأنُ كلِّ المفكرين، ينقد وجهات نظر من قبله ثم هو يأخذ منهم في الوقت نفسه، وهذا يشبه قانون الفكر..

ولأن من أصل المغالبة إظهارَ مواطن الضعف في دعاوى الخصم إذا سنحت الفرصة، ولاسيما وأنه لم يكن يلتزم مقتضيات العرض المنهجي، بل كانت دواعي المجادلة هي الحاكمة لأن المسلك الطبيعي لديه كان أقوى من المسلك الصناعي. [28]

قال عبدالرحمن بدوي في كلام يذهب فيه إلى إثبات شيءٍ آخر مغاير تماماً لما نحن فيه، لكنه يوضّحه: «قال هيجل إن تفنيد الفلاسفة بعضهم لبعض يحدث: «دون أن تختفي الفلسفات السابقة في مذاهب الفكر اللاحقة». فمثلاً تفنيد أرسطو لمثالية أفلاطون لم تمنع أرسطو من الاحتفاظ بفكرة الصورة في نظرية العلل عنده.. وتفنيد كَنْت لمذهب ديكارت لم يمنع كَنْت من الحفاظ على مقالة «أنا أفكر، فأنا إذن موجود» في مذهبه هو. والذي يحدث هو أن المبدأ الأساسي في فلسفة ما ينزل إلى مرتبة ثانوية في مرتبة لاحقة.. هذا التغيير للمكانة يكفي لإبعاد شبهة «التلفيق» [!] عنها..

ولنضرب مثلاً بفلسفة أفلاطون: «إننا لو أخذنا محاورات أفلاطون، لوجدنا في بعضها طابعاً إيليّاً، وفي بعضها الآخر طابعاً فيثاغوريّاً، وفي بعضها الثالث طابعاً هيرقليطيّاً، ومع ذلك فإن فلسفة أفلاطون قد وحّدت بين هذه الفلسفات المختلفة معدّلة من نقائصها».. وعلى الرغم من أن كل مذهب لاحق لا بد له لتبرير وجوده أن يفند آراء المذهب أو المذاهب السابقة عليه، فإن «هذه الحركة الديالكتيكية هي ماهية الفلسفة نفسها». [29]

5- هل كان ابن تيمية إلا واحداً من العلماء؛ ليس ينفكُّ عن نظرية التراكم المعرفي وأثرِها في صياغة العقل الإنساني؟

وهذا المعنى هنا واحد من أعظم الفروق بين نتاج العقل التراكمي و «الوَحْي» المؤسِّس.

هذا الوحي الذي كان ابن تيمية عظيمَ الاحتفاء به، حتى إنه صارع هذا الصراع العقليَّ العنيفَ ليخضع عقولَ الفلاسفة الآبقة ويردَّها لسلطته.

أين هذا من عمل أذلِّ عقلٍ في تاريخنا الحضاري؛ ابن رشد، وهُوَ يقول عن متألَّهه أرسطو: «إن مؤلف هذا الكتاب هو أعقل اليونان، أرسطوطاليس بن نيقوماخس، الذي وضع علوم المنطق والطبيعيات وما بعد الطبيعة وأكمَلها، وقد قلتُ: إنه وضعها، لأن جميع الكتب التي أُلِّفت قبله عن هذه العلوم لا تستحق جُهد الحديث عنها، ولأنها توارتْ بمؤلفاته الخاصة، وقد قلت: إنه أكملها، لأن جميع الذين خلفوه حتى زمننا، أي في مدة خَمسَةَ عَشر قرناً، لم يستطيعوا أن يضيفوا شيئاً إلى مؤلفاته أو أن يجدوا فيها خطأً ذا بال، والواقع أن جميع هذا اجتمع في رجل واحد، وهذا أمرٌ عجيبٌ خارق للعادة، وهو إذ امتاز على هذا الوجه يستحق أن يدعى إلهيًّا أكثر من أن يدعى بشرياً، وهذا ما جعل الأوائل يسمُّونه إلهيًّا»![30]

وفي ضوء هذا النص نعرف معنى القول الساقط الذي مرّ معنا لعبدالمتعال الصعيدي: «وكان ابن رشد الفيلسوف الفقيه أولى أن يكون له مدرسة بعده من ابن تيمية، ليسير المسلمون بها في سبيل التجديد الصحيح، ويجمعوا بها بين علوم الدين وعلوم الفلسفة، فهذا كان خيراً من مدرسة ابن تيمية التي جمدت بعده على تقليده.. ».

أين التقليد يامولانا الشيخ عبدالمتعال؟

متابعة عقل مستعبد كان أكبر أوصافه أنه: «شارح أرسطو »، أم التوافر على درس تراث عالم أحد أوصافه أنه: «ناقض أرسطو»؟

6- هذه «النفعيّة» ما وصفها من مذاهب الفلاسفة؟ أهي نفعية السوفسطائيين، أم نفعية البراجماتية، أم نفعية بنتام؟

أم هي لفظة يهمسُ بها عاميٌّ في أذن صديق له في مجلس لينال بها من أحد الداخلين؟

إنه لمن الشناعة أن يوصف في دراسة كاتب مسلم؛ جُهد مَن كان يناضل عن «الوحي» لينقذ العقل من أسر تلك التصورات اليونانية الوثنية المضحكة؛ من الشناعة أن يوصف هذا الجهد السامي الغاية، والبالغ الأثر، بكلمة توحي في بعض ظلالها: «باللؤم العقلي».

«وابن تيمية بهذا الموقف يكشف عن غيرة دينية منقطعة النظير، كما يكشف في نفس الوقت عن الفيلسوف العملي الذي يرى أحقية الأشياء وصدقها في «نفعها» العام لبني البشر، وأكثر القضايا التي تقررها الأديان من قبيل القضايا التي دافع عنها ابن تيمية». [31]

ما هنا لا يفي بدراسة منهج ابن تيمية في ردوده على الفلاسفة، لكنها إشارة إلى هذا المنهج، وإن طبيعة القراءة والبحث لا تسمح بأكثر من هذا.

المحور الخامس: مآخذُ أَخَذها الباحثُ على ابن تيمية:

أعلمُ أن المؤلف حين يكتب فهو يقول: هاؤم عقلي فانظروا فيه، وأنا قد نظرتُ فوجدت شيئاً يشبه العقل وما هو به:

لأنه من العقل إذا ما أردت أن تقوّض مدرسة من المدارس؛ أن تعمد إلى ضعيف ممن يمثِّل هذه المدرسة فتفترسه..

لا أدري ما الذي صرف صاحبنا عن هذه الخطة؟ أمّا أن يبتلى فيُجادِل في العلم واحداً من أكبر العلماء في تاريخ العلم، ويجالِده بعدُ في الفهم؛ فهذه والله ورطة ما أعدّ لها صاحبنا عدّتها.

ومن أراد أن يجادِل ويجالِد ابنَ تيمية في العلم والفهم، فعليه أن يكون حذراً غاية الحذر من أن يجادَل ويجالَد، فيراجع علمه مرّات، ويعود على فهمه بالتهمة كرّات.

والحقُّ أنه ليس «يَغُضُّ» من قيمة عالم متماسك البنيان المعرفي عندي؛ أَنْ جَهِل ونسي هنا، أو أخطأ هناك، لأن المعرفة المطلقة التامة مستحيلة، فأفراد العلوم لا تتناهى، ولأن الإنسان مهما بلغ من العلم والفهم فإنه يجري عليه من الخطأ والغفلة ما هو من لازم كونه إنساناً.

فما جئتُ هنا لأقول: إن ابن تيمية لا يغلط كحال من لا أحبُّ له أن يقول ذلك، لكن جئتُ لأقول: إن شهوة النقد ضربتْ عقل صاحبنا فأصابته بالحَوَل الفكريِّ فلا حَوْل ولا قوّة إلا بالله!

وبسبب هذا سأبدأ القراءة بالمقلوب، أعني بصفحة 22، ثم ص15 ليكون أيسر على صاحبنا:

أولاً: قال ص22: «قال ابن تيمية عن فلاسفة الصوفية: «.. وأما الإيمان بالرسل: فقد ادعوا أن خاتم الأولياء أعلم بالله من خاتم الأنبياء، وأن خاتم الأنبياء هو وسائر الأنبياء يأخذون العلم بالله من مشكاة خاتم الأولياء، وهذا مناقض للعقل والدين».

وبالنسبة لمسألة تفضيل الولي على النبي؛ ففي كلام ابن عربي ما يبين أنه يريد خلاف ما نقله عنه ابن تيمية، حيث يقول: «إذا رأيت النبي يتكلم بكلام خارج التشريع؛ فمن حيث هو ولي وعارف، ولهذا مقامه من حيث هو عالم وولي أكمل وأتم من حيث هو رسول أو ذو تشريع وشرع، فإذا سمعت أحداً من أهل الله يقول، أو ينقل إليك عنه أنه قال: الولاية أعلى من النبوة، فليس يريد ذلك القائل إلا ما ذكرناه، أو يقول: إن الولي فوق النبي والرسول؛ فإنه يعني بذلك في شخص واحد: وهو الرسول عليه السلام من حيث هو ولي أتم منه من حيث هو نبي ورسول، لا أن الولي التابع له أعلى منه، فإن التابع لا يدرك المتبوع أبداً فيما هو تابع له فيه، إذ لو أدركه لم يكن تابعاً له، فافهم».

فابن عربي يبين أن قول الصوفية بتفضيل الولي على النبي، يريدون به أن النبي من حيث كونه ولياً لله أفضل من حيث كونه نبياً له، ولا يريدون أن الولي (من غير الأنبياء) يكون أفضل من النبي، كما فهم ابن تيمية».

أصابت شهوةُ النقد صاحبنا بالحَوَل الفكريّ فما عاد يفرّق بين كلام ابن تيمية عن: «خاتم الأولياء» و: «الولي». ولو كان يريد أن يذبَّ القول عن عقله؛ لاتَّهم فهمه للكلام ألفَ مرَّة قبل أن يتَّهم فهمَ أكبرِ ناقدٍ للتراث الصوفي في تاريخ الإسلام.

قال ابن تيمية: «الناظر في الدليل بمنزلة المترائي للهلال قد يراه، وقد لا يراه «لعشىً في بصره»، وكذلك أعمى القلب. وأما الناظر في المسألة: فهذا يحتاج إلى شيئين: إلى أن يظفر بالدليل الهادي، وإلى أن يهتدي به وينتفع، فأَمره الشرع بما يوجب أن ينزل على قلبه الأسباب الهادية، ويصرف عنه الأسباب المعوقة».[32]

«ولا يريدون أن الولي .. كما فهم ابن تيمية».

من أين يستمدُّ هؤلاء هذه الجرأة والقدرة على الصَّفاقة؟ إن أحدنا إذا كان في مجلسٍ فيه بعض طلبة العلم أدار المعنى في ذهنه مراتٍ قبل أن يقول به خوفَ أن يُزرى عليه، والواحد من هؤلاء يكشف للناس عن عورة عقله ويسير بها فلا يخجل ولا ينكسر.. فلله هذه الأنفس ما أشدَّ تباينها في منازعها وأطوارها وشأنها كلِّه!

1- قال ابن تيمية: «وهذا من جنس قول شيخهم الطائي [ابن عربي].. ويقول أيضاً: إن الولاية أفضل من النبوة، وولاية النبي عنده أفضل من نبوته ورسالته، لأنه بزعمه من حيث الولاية يأخذ من الله بلا واسطة، ومن حيث النبوة يأخذ بواسطة. وهذا الكلام قد يقولونه مطلقاً، وتوجيهه على أصولهم: أن النبوة هي مقام تخييل المعقولات، والولاية هي المعقول الصرف، فالولي ترِد عليه المعقولات صرفاً، والنبي من جهة ولايته له هذه المعقولات، لكن من جهة نبوته هي تخييل هذه المعقولات، فيأخذ بواسطة الخيال، وجهة رسالته عندهم أنزل الدرجات وهي جهة تبليغه للناس.. وهذا قلب للحقيقة التي اتفق عليها المسلمون، وهو أن الرسول أفضل من النبي الذي ليس برسول، والنبي أفضل من الولي الذي ليس بنبي، والرسالة تنتظم النبوة والولاية، كما أن النبوة تنتظم الولاية، وأن أفضل الأولياء أكملهم تلقياً عن الأنبياء». [33]

فابن تيمية «يفهم» هذا ويوجهه على أصولهم وينقضه.

2- ثم يزيد عليه فيقول: «ويقولون: إن ولاية النبي أعظم من نبوته، ونبوته أعظم من رسالته، ثم قد يدّعي أحدهم أن ولايته وولاية سائر الأولياء تابعة لولاية خاتم الأولياء، وأن جميع الأنبياء والرسل من حيث ولايتهم هي عندهم أعظم من نبوتهم ورسالتهم، وإنما يستفيدون العلم بالله الذي هو عندهم القول بوحدة الوجود من مشكاة خاتم الأولياء، وشبهتهم في أصل ذلك أن قالوا: الولي يأخذ عن الله بغير واسطة، والنبي والرسول بواسطة، ولهذا جعلوا ما يفيض في نفوسهم ـ ويجعلونه من باب المخاطبات الإلهية، والمكاشفات الربانية ـ أعظم من تكليم موسى بن عمران، وهي في الحقيقة إيحاءات شيطانية،ووساوس نفسانية (وإن الشياطين ليوحون إلى أوليائهم)، (الأنعام:121)، ولو هُدوا لعلموا أن أفضل ما عند الولي: ما يأخذه عن الرسول لا ما يأخذه عن قلبه، وأن أفضل الأولياء الصديقون، وأفضلهم أبوبكر، وكان هو أفضل من عمر، مع أن عمر كان مُحَدَّثاً كما ثبت في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( قد كان في الأمم قبلكم محدثون، فإن يكن في أمتي أحد فعمر)[34]».

3- ما ذَكَره ابن تيمية في النص الذي ساقه صاحبنا عنه: «وأما الإيمان بالرسل: فقد ادعوا أن «خاتم الأولياء» أعلم بالله من خاتم الأنبياء، وأن خاتم الأنبياء هو وسائر الأنبياء يأخذون العلم بالله من مشكاة خاتم الأولياء»؛ هو قول ابن عربي نفسه.

قال في «فصوص الحكم»: «وهذا هو أعلى عالم بالله، وليس هذا العلم إلا لخاتم الرسل وخاتم الأولياء، وما يراه أحد الأنبياء والرسل إلا من مشكاة الرسول الخاتم، ولا يراه أحد من الأولياء إلا من مشكاة الولي الخاتم، حتى إن الرسل لا يرونه ـ متى رأوه ـ إلا من «مشكاة خاتم الأولياء»[35].

ثانياً: قال ص15: «فقدماء الفلاسفة قبل أرسطو كما يرى ابن تيمية، كانوا..». فذكر مآخذ أخذها على ابن تيمية ومنها:

«يثبتون عالماً فوق هذا العالم يصفونه ببعض ما وصف النبي صلى الله عليه وسلم به الجنة = واضح أن هذه صورة مشوهة وساذجة عن نظرية «المُثُل» التي قال بها أفلاطون».

أ- قال عبد الجليل الوالي في كتابه « نظرية المثل، البناء الأفلاطوني والنقد الأرسطي»: «نظرية المثل لم تنشأ من العدم، بل هي مزيج فلسفي من مفكرين سابقين، موضوعة بعقلية وقادة، مضاف إليها إبداعات خارقة».

فقوله: «نظرية «المثل» التي قالها بها أفلاطون»، غير دقيق.

ب- أما ذكر الجنة في «المثل الأفلاطونية» فأحيل صاحبنا إلى الكتاب السابق ليفتش فيه مع: «تاريخ الفلسفة اليونانية» ليوسف كرم [36]، وكتاب لحسام الألوسي عنوانه: «بواكير الفلسفة قبل طاليس»، ولينظر فيما قالوه عن: «الجنة» وأثر: «الأورفيَّة» في الفكر اليوناني وفي المثالية بكل أشكالها .. أحيله إليهما دون ذكر الصفحات حتى يشتدَّ عُوده في البحث، لأننا وقَفْنا على ما نذكره في هذه القراءة بعرق الجبين وسهر الليل، ولم نتلقَّها عن الشيخ «قوقل» عفا الله عنه!

هل كان ابن تيمية صاحبَ صورة ساذجة عن نظرية «المثل الأفلاطونية»؟ سأسوق كلاماً لابن تيمية عن «المثل الأفلاطونية» ومناقشته لها حتى تتبين لنا هذه السذاجة بوضوح.

قال ابن تيمية: «لما أثبت قدماؤهم الكليات المجردة عن الأعيان التي يسمونها «المثل الأفلاطونية» أنكر ذلك حُذّاقهم، وقالوا: هذه لا تكون إلا في الذهن، ثم الذين ادعوا ثبوت هذه الكليات في الخارج مجردة قالوا: إنها مجردة عن الأعيان المحسوسة، ويمتنع عندهم أن تكون هذه هي المبدعة للأعيان، بل يمتنع أن تكون شرطاً في وجود الأعيان؛ فإنها إما أن تكون صفة للأعيان، أو جزءاً منها. وصفة الشيء لا تكون خالقةً للموصوف، وجزء الشيء لا يكون خالقاً للجملة، فلو قُدِّر أن في الخارج وجوداً مطلقاً بشرط الإطلاق امتنع أن يكون مبدعاً لغيره من الموجودات، بل امتنع أن يكون شرطاً في وجود غيره، فإذن تكون المحدثات والممكنات المعلوم حدوثها وافتقارها إلى الخالق المبدع مستغنية عن هذا الوجود المطلق بشرط الإطلاق، إن قيل: إن له وجوداً في الخارج، فكيف إذا كان الذي قال هذا القول هو من أشد الناس إنكاراً على من جعل وجود هذه الكليات المطلقة المجردة عن الأعيان خارجاً عن الذهن؟ وهم قد قرروا أن العلم الأعلى والفلسفة الأولى هو العلم الناظر في الوجود ولواحقه، فجعلوا الوجود المطلق موضوع هذا العلم، لكن هذا هو المطلق الذي ينقسم إلى واجب وممكن، وعلّة ومعلول، وقديم ومحدث. ومَورد التقسيم مشترك بين الأقسام. فلم يمكن هؤلاء أن يجعلوا هذا الوجود المنقسم إلى واجب وممكن هو الوجود الواجب، فجعلوا الوجود الواجب هو الوجود المطلق بشرط الإطلاق الذي ليس له حقيقة سوى الوجود المطلق، أو بشرط سلب الأمور الثبوتية، ويعبرون عن هذا بأن وجوده ليس عارضاً لشيءٍ من الماهيات والحقائق. وهذا التعبير مبنيٌّ على أصلهم الفاسد، وهو أن الوجود يعرض للحقائق الثابتة في الخارج، بناء على أنه في الخارج وجود الشيء غير حقيقته، فيكون في الخارج حقيقة يعرض لها الوجود تارة، ويفارقها أخرى»![37]

قال أبويعرب المرزوقي في التعليق على قول ابن تيمية: «كانوا قد بنوا ذلك على .. قول من جعل الكليات ثابتة في الخارج زائدة على المعينات ... وهو قول القونوي صاحب ابن عربي». قال المرزوقي: «وإذا اعتبر التعدد العقلي أصلاً، والتعدد الحسي ظلاًّ له، كان الحل قائلاً بواقعية الكليات المعقولة، التي ينسبها ابن تيمية إلى تلميذ ابن عربي وربيبه أعني القونوي، معتبراً إياها من جنس نظرية «المُثُل الأفلاطونية»[38]».

لو أن البحث الذي بين يديَّ عملٌ علميٌّ متماسك، فيه أصالةُ رأي، ودقة فهم، وسعة اطلاع؛ لما «غَضَّ» من قيمته عندي أن أخطأ كاتبه هنا، أو وهم هناك.. لكن أن يكون البحث بمثل هذه الضّحالة العلمية الفاضحة، وهذا العمل العقليّ المخجل، ثم يزيد صاحبه الطين بِلَّةً بهذه الجرأة على علم ابن تيمية وفهمه؛ فإن أخطاءه وأوهامه مما كان قال فيها الطناحي: «لا أقول كما يقول بعض المناقشين إن هذه الملحوظات لا تَغُضُّ من قيمة الرسالة، بل «تَغُضُّ وسِتِّين تَغُضُّ»! [39]

قال صاحبنا وهو في فسحة من أمره وهي أمثلة على أوهامه الساذجة ولم أستقصِ:

1- ص5: «ولد ابن تيمية سنة 661، لكن لم تبق في ذاكرته عنها [حران] إلا ذكرى فظيعة عندما وضعه أهله في عربة .. وتوجهوا إلى دمشق سنة 666».

وهم قدموا إلى دمشق سنة (667).[40]

2- ص11: «فالعقد السابع من عمر ابن تيمية كان بعد سنة 720 إلى وفاته سنة 728 عن 68 سنة».

ومن ولد ـ كما في النص السابق ـ سنة (661)، وتوفي سنة (728)، يتوفى عن (67) سنة وليس عن (68).

3- ص6: «الحسين بن يوسف بن المطهر الشيعي». اسمه الحسن [41].

4- ص5: «نصير الدين الطوسي: أبوعبدالله محمد بن محمد بن حسن الطوسي، الفيلسوف الكبير، والفلكي المشهور .. وتوفي في ذي الحجة سنة 672 ـ وقد نيف على الثمانين».

أ- نصيرالدين الطوسي: «الفيلسوف الكبير»، وأما ابن تيمية فلم يكن يفهم في الفلسفة شيئاً.

ب- كنية نصيرالدين: أبوجعفر، وليس «أبوعبدالله».

ج- توفي عن خمس وسبعين سنة ولم: «ينيف على الثمانين»، لأن ولادته كانت سنة 597.[42]

5- تطرق الخطأ إلى صاحبنا:

أ- لأنه رجع في ترجمة الطوسي إلى: «شذرات الذهب في أخبار من ذهب» لابن العماد، تحقيق: محمود الأرناؤوط.

قال عبدالرحمن العثيمين: «واشتهر ابن العماد بكتابه «شذرات الذهب».. ثم أعاد تحقيقه محمود الأرناؤوط وطبع منه حتى سنة 1410هـ أربع مجلدات [تمَّ فيما بعد] .. ولنا على تحقيقه ملاحظات لا يتسع المقام لذكرها. ولعل من أهم هذه الملاحظات أن محققه لم يعتمد على نسخة المؤلف التي بخطه، وهي موجودة في مكتبة مدينة بتركيا ..»[43].

ب- ورجع في ترجمة ابن المطهر الحلي إلى: «الدرر الكامنة في أعيان المائة الثامنة» لابن حجر، تحقيق: محمد سيد جاد الحق.

قال الطناحي: «... معرفة القراء الكبار على الطبقات والأعصار: طبع طبعة وحيدة بمصر [هذا وقت تأليف الكتاب] وهي طبعة رديئة جداً، وغفر الله لناشرها، فهو رجل من أهل الفضل والوعظ، ولكن تحقيق الكتب ليس من صناعته.. الدرر الكامنة في أعيان المائة الثامنة: طبع طبعتين .. والثانية بمصر .. وهي طبعة غير جيدة، ويقال فيها ما قيل في طبعة كتاب «معرفة القراء الكبار» السابق، فناشرهما واحد، ومحققهما واحد» [44].

6- ليس يُرجع في تحرير تراجم الفلاسفة ـ في بحث فلسفي ـ إلى «الشذرات» و «الدرر الكامنة» ولو إلى مخطوطات أصلية بخط مؤلفيها. وكلما كان المرجع مما أُفرد في ترجمة العَلَم كان أوفى وأدقّ.

7- عندما يذهب المرء إلى المختبر، يأخذون عيِّنة من دمه، فإن كانت العيِّنةُ فاسدةً كان الدَّمُ فاسداً كلّه، وهذه «عيّنة» من علم صاحبنا وفهمه..«ومن أراد أن يجادِل ويجالِد ابن تيمية في العلم والفهم، فعليه أن يكون حذراً غاية الحذر من أن يجادَل ويجالَد».

المحور السادس: موقفُ ابنِ تيمية من المنطق:

قال ص26: «موقف ابن تيمية من المنطق هو أكثر الجوانب استحواذاً على دراسات الباحثين، لذا فإني لا أجد حاجة إلى الإطالة في هذا الجانب، لاسيما بعد دراسات كثير من الباحثين من السنة والشيعة في هذا الجانب، كدراسة محمد حسن الزين «منطق ابن تيمية» وهي في قرابة 600 صفحة، ودراسات علي سامي النشار، وسأحاول هنا تلخيص رأيه في المنطق، مع بيان ارتباط نقده للمنطق بنقده للفلسفة عموماً». ثم تحدَّث في اثني عشر سطراً عن المنطق عند ابن تيمية.

«لا أجد حاجة إلى الإطالة في هذا الجانب»، فيم العجلة؟ سنمكث هنا بعض الوقت مع ابن تيمية والمنطق:

1- محمود يعقوبي: «نريد أن نثبت بهذا البحث ثلاث قضايا: أولاها أن الإمام ابن تيمية نقد المنطق المشائي نقداً مذهبياً شاملاً كما لم ينقده أحدٌ من المفكرين الإسلاميين لا قبله ولا بعده». [45]

2- محمد عبدالله الشرقاوي: «تفجرت في القرن السابع عشر ـ الذي بدأت منه وبه الفلسفة الحديثة ـ النزعة التجريبية على يد فلاسفة علماء كبار، يقف على رأس صفهم الطويل فرنسيس بيكون (1561-1626). ولم يدخر بيكون وسعاً في مهاجمة الفلسفة التقليدية والحط من شأنها، وتحميلها أوزار الجمود العلمي والقحط العقلي الذي آل الأمر إليه. وإنه ليتعجب من ضحالة الفلسفة التقليدية وعقمها، وعجزها عن الإسهام الفاعل في رفاهية الإنسان وتقدمه وسعادته.. قد برز لبيكون ـ مثلما برز لمعاصره ديكارت [46] ـ الحاجة الماسّة إلى إصلاح المنهج العلمي، فوضع بيكون المنهج الاستقرائي التجريبي، وضمنه كتابه «الأورجانون الجديد» أي: المنطق الجديد والآلة الجديدة في مقابل «الأورجانون القديم» الذي يتضمن منطق أرسطو الذي أفسد العلم وأصاب العقل البشري بالجدْب والعقم.

ولنلاحظ أن فرنسيس بيكون قد نقد منطق أرسطو ونقضه بما نقده به ونقضه المفكر المسلم (ابن تيمية) في كتابيه «نقض المنطق» و «الرد على المنطقيين». وإنا لنتطلع إلى دراسة العلاقة بين هذين المفكرين العملاقين: ابن تيمية وهو السابق، وبيكون وهو اللاحق في ضوء نقد كل منهما لأرسطو». [47]

3- مصطفى طباطبائي: «جان لوك وابن تيمية: ولد جان لاك الفيلسوف الشهير الإنجليزي في عام 1632م قرب مدينة بريستول في إنجلترا، وتوفي في عام 1704. وهذا المفكر الشهير له دور كبير في نقد منطق أرسطو في العالم الغربي .. الكتاب المشهور لجان لاك يسمى: «رسالة في فهم البشر»، كما هو ظاهر من اسمه، كتب في مباحث تتعلق بمعرفة الذهن وقوانينه .. جان لاك – بخلاف بعض المناطقة – اعتبر المعاني الكلية أو الكليّات مخلوقاً من قدرة الفهم والعقل البشري، ولم يكن يعتقد لها وجود مستقل خارجي، ويقول في هذا الصدد: «واضح أن العمومي والكلي لا يتعلقان بالوجود الواقعي للأشياء، بل هما من اختراع الفهم الإنساني وخلقه».

هذا الرأي هو الذي بيّنه ابن تيمية قبل جان لاك بشكل أوضح وقال: «ومن أخصّ صفات «العقل» التي فارق بها «الحس» [إذ الحس] لا يعلم إلا معيّناً، والعقل يدركه كلياً مطلقاً». وعندئذٍ يوضح ابن تيمية: «وفصل الخطاب: أنه ليس في الخارج إلا جزئي معيّن، ليس في الخارج ما هو مطلق عام مع كونه مطلقاً عاماً..».[48]

4- فضل قائد علي: «لم يقل جون ستيوارت مل أكثر مما قال به ابن تيمية؛ وهو يقرر أن القياس الأرسطي تحصيل حاصل، لأن النتيجة «سقراط فان» متضمنة في مقدمة القياس الكبرى «كل إنسان فان» طالما وأن «سقراط إنسان» كما تقول المقدمة الصغرى». [49]

5- عفاف الغمري: «على صفحات هذا الكتاب بيان لمحاولة ابن تيمية المنطقية، وهي من المحاولات القليلة للنقد العلمي الموضوعي من عقلية عربية لمنطق أرسطو، فهي محاولة لم تكتف بالرفض دون تقديم الأسباب، أو القبول دون التوصّل إلى أدلة أو براهين على الصدق بالصحة. فلم يكن نقد ابن تيمية للمنطق لمجرد الهدم، أي هدم طريقة قديمة في التفكير بل كان لإظهار عدم كفاية هذه الطريقة في بلوغ المعرفة، أو في عصمة التفكير الإنساني عن الوقوع في الخطأ، لأن طرق الاستدلال الصحيحة موجودة في القرآن، ومن ثم فلا حاجة بنا إلى المنطق التقليدي طالما أننا نستغني عنه بما هو أكثر دقة .. جاء رفضه واعياً عن دراسة وفهم، فناقش المنطق القديم بصفة عامة ونظرياته، وأهمها نظرية القياس وقواعده وبراهينه وأوضح بطلانها أو عدم كفايتها في الوصول إلى المعرفة الحقة. فقدم بذلك محاولة نقدية مكتملة .. وكانت من المحاولات النقدية القليلة في تاريخ الفكر الإسلامي التي رفضت المنطق الأرسطي بناء على نقد ومناقشة لا عن إسقاط أو إحجام أو تكفير .. في دراستنا لحجج ابن تيمية التي وجّهها للمقام الموجب في الحد؛ وافقنا الدكتور عزمي إسلام في إثبات وجود تشابه بين بعض ما قاله ابن تيمية في هذه الحجج من نقد للمنطق الأرسطي، وبين الوضعيين المنطقيين أو التحليليين المعاصرين، خاصة: كارناب، وبرتراند رسل، وفتنجشتين، فابن تيمية في نقده لفكرة الماهيات الثابتة، وقوله بعدم وجود الماهيات والكليات إلا في الأذهان؛ يستخدم منهجاً تحليلياً لا يقل في دقته ووضوحه عن تحليلات فلاسفة ومناطقة التحليل المعاصرين أمثال رسل وفتنجشتين».[50]

لِمَ أغَذَّ صاحبُنا السير عند الحديث عن المنطق وابن تيمية، فلم يعد به حاجة إلى الإطالة؟

أيكون الكلام عن قيمة تراث ابن تيمية في المنطق ينقض عليه بحثه كله ويهدمه على رأسه، لذا آثر السلامة وأسرع السير مخافةَ أن يصيبه مكروه؟ إن القول بعدم معرفة «الفقيه الحنبلي» ابن تيمية بالفلسفة، وعدم اطلاعه عليها في مصادرها الأصلية وتلقيه لها عن شيوخها، والقول بقيام منهجه فيها على التلفيق والنفعية؛ يقال في المنطق أيضاً فما الفرق؟

لاسيما أنه قد جرى على لسانه غفلةً منه: «ارتباط نقده للمنطق بنقده للفلسفة عموماً».

إنه ليس يصح في الذهن أن يبلغ ابن تيمية في نقده للمنطق المشائي هذا المبلغ؛ ثم هو يفشل بعد ذلك في الفلسفة الفشل الذريع الذي يريده له هذا المتعجّل.

يرى جون ديوي: أن علاقة المنطق بالفلسفة كعلاقة المنطق بالبحث ذاته، فأيّ تغيير في أحدهما لا بد أن ينعكس على الآخر، والمؤلفون في المنطق حين لا يفصحون عن ميولهم في اتجاهاتهم الفلسفية؛ فإن التحليل يكشف عن الرابطة بين الميول وما يذهبون إليه من نظرية منطقية. [51]

قال ابن تيمية: «لما كنت بالإسكندريّة اجتمع بي مَنْ رأيتُه يعظم المتفلسفة بالتهويل والتقليد، فذكرتُ له بعضَ ما يستحقونه من التجهيل والتضليل، واقتضى ذلك أني كتبتُ في قعدة بين الظهر والعصر من الكلام على المنطق ما علّقتُه تلك الساعة، ثم تعقّبتُه بعد ذلك في مجالس إلى أن تمّ. ولم يكن ذلك من همّتي، فإن همّتي إنما كانت فيما كتبتُه عليهم في «الإلهيات». وتبين لي أن كثيراً مما ذكروه في أصولهم في الإلهيات وفي المنطق هو من أصول فساد قولهم في الإلهيات .. فأراد بعض الناس أن يكتب ما علقته إذ ذاك من الكلام عليهم في المنطق، فأذنتُ في ذلك، لأنه يفتح باب معرفة الحق، وإن كان ما فُتح من باب الردّ عليهم يحتمل أضعاف ما علّقتُه تلك الساعة».[52]

«كتبتُ في قعدة بين الظهر والعصر .. ولم يكن ذلك من همّتي»...

كان صاحبنا قد قال في مقدمة بحثه: «تتجاوز أهمية هذا البحث مجرد كونه ..» وقال: «وحسبي أن أكون مهدت الطريق أمام هذه الدراسات..»؛ زائرٌ ينصب خيمةً قديمةً وسط ناطحات السحاب في نيويورك، ثم يذهب يتحدَّث ـ بلا خَجلٍ ـ عن شيءٍ يشبه بداية تأسيس الهندسة المعماريّة!

إنك فشلت في أن تكون مشروعَ شيخٍ في الإسلام، وتريد ـ ويْحَكَ ـ أن تَنْقُضَ شيخَ الإسلام كلِّه..

أما بعد: فقد كان شيخ الإسلام تقي الدين أبو العباس أحمد ابن تيمية ـ رحمه الله ورضي عنه ـ واحداً من أكبر العقول العلمية التي عرفها تاريخ الإنسان، ورائدَ دعوة تجديدية تنويرية قلَّ أن بلغتْها دعوةُ مجدّد في الإسلام، وهو حجة الله على أهل العقول: {يُؤتِي الْحِكْمَةَ مَن يَشَاءُ وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُواْ الأَلْبَابِ} البقرة: 269.

وإن بلداً طيباً شعاره التوحيد، ودثاره منهج السلف الصالح؛ ليس يسمحُ بأن تُعرّيَه منهما أقلامٌ غِرَّةٌ مغرضةٌ، لم تجد نفسها في الحق، فبحثتْ عنها في الباطل، ومن رام دَرْسَ الفلسفة الوثنيّة ففي تلك البلاد متَّسع.. ما دام قد ضاق صدره بلا إله إلا الله تعلو بها مآذن المساجد في جامعاتنا.

شيءٌ من مثل ما نحن بسبيله:

كثُر حديث المتحدِّث عن: «الانفتاح العالمي» وأثرِه في الصحوة الإسلامية، لكن قلّ الحديث عن أثر هذا الانفتاح العالمي في: «انتكاسات الصحوة».

كان غايةُ منتكس الصحوة قبل عدة سنوات: سيجارةً يشربها في تخفٍّ، أو أغنيةً يسارق سماعها، فإذا تفلَّتَ؛ أكثر من السهر.. أفعالٌ تحكمها براءة المجتمع ويتوب الله على من تاب.

وأما اليوم؛ فثمَّ ـ مع الشهوة ـ تلوُّثٌ فكريٌّ، وجماحٌ عقليٌّ غالب، وشططٌ بالغ السوء؛ جعل منتكسَ الصحوة يواجه الصحوةَ نفسَها بوجه صفيق بعد أن كان يتوارى منها خجلاً.. صار ينازعها أصولَها وثوابتها في سَوْرةٍ محمومةٍ، وأصبحتَ تسمعُ أصواتاً مبحوحةً تتحدث عن: «المفصل الثقافي» والعروي، والجابري، و«الحراك الاجتماعي» وصادق العظم، وأركون، وابن تيمية الذي لا يفهم في الفلسفة.. فعسى أن أوفَّقَ للعَوْد وبسط هذا الموضوع، لأن السلفية ليست تطامن من العقل، ولا ترفض أن يُعْمَل العقل فيما حَقُّه أن يُعْمَل فيه، ولأن العقل الغربيَّ بمنهاجه ليس أقدَرَ على الدَرْس الحضاري من عقلٍ بمنهاجٍ سَلفيٍّ.

والعقل، هذا العقل ويلٌ له إن هو تَلَعَّبَ به صاحبه.

ونحن، نعم نحن: متى ندرك أن سرعة تغيّر الأفكار من خصائص العقل الناشئ، وأننا إن لم نحرص على هذه العقول تخَطَّفتْها عصاباتُ المعرفة فأحدثتْ بها عاهاتٍ فكرية؛ ثم أعادتها لتتسوّل بها على حسابنا!

عبدالله بن عبدالعزيز الهدلق

1428

--------------------------

الهوامش

[1] حسن حنفي، مقدمة في علم الاستغراب، ص57.

والاستغراب: دراسة الغرب برؤية شرقية.

[2] محمود ماضي، جذور علم الاستغراب، وقفة مع الرد على المنطقيين لابن تيمية، ص5، 6. وقارن هذا بقول باسمة جاسم: «وهنا نلاحظ أن ابن رشد يظهر مع عموم الفلاسفة والمناطقة والشراح مدافعاً بذلك عن المذهب الأرسطي، ويؤاخذهم لأنهم خرجوا على المعلم الأول ونصوصه، وهذا الموقف نابع من استحكام تأثر ابن رشد الشديد بأرسطو». النقد المنطقي لابن رشد، ص8.

[3] في: الإمتاع والمؤانسة، لأبي حيان التوحيدي، 1/66: «..أول من أفسد الكلام أبو الفضل[ ابن العميد]، لأنه تخيّل مذهب الجاحظ وظن ّ أنه إن تبعه لحقه، وإن تلاه أدركه، فوقع بعيداً من الجاحظ، قريباً من نفسه؛ ألا يعلم أبو الفضل أن مذهب الجاحظ مدبَّرٌ بأشياء لا تلتقي عند كل إنسان، ولا تجتمع في صدر كلِّ أحد: بالطبع والمنشأ والعلم والأصول والعادة والعمر والفراغ والعشق والمنافسة والبلوغ؛ وهذه مفاتح قلما يملكها واحد، وسواها مغالق قلما ينفك منها واحد».

عن التوحيدي في بعض تراث ابن تيمية: عبد الأمير الأعسم، أبو حيان التوحيدي في كتاب المقابسات، ص22.

[4] أود أن أنبه على:

أ – أن البحث غير مرقم الصفحات، فآمل ترقيمها بتجاوز صفحة الغلاف ووضع الرقم (1) للمقدمة حتى تتفق الإحالة.

ب- أن هوامش البحث تنتهي في الأوراق التي بين يديّ بالهامش رقم (40)، مع أن إحالة الهوامش في المتن بلغت رقم (154)، فما في هذه القراءة لا يتجاوز البحث بهوامشه الأربعين.

ج- أن البحث غير مؤرخ.

[5] قال ابن بسام عن الشيخ إبراهيم ابن جاسر : «حدَّثَني أحد تلاميذه وهو الشيخ عبدالرحمن السعدي.. أنه [ابن جاسر] كان يدرس للطلبة في ـ المنهاج ـ لشيخ الإسلام ابن تيمية في بريدة، فقرأ القارئ أمام الدرس كلام المعارض ـ ابن المطهر ـ وأخذ القارئ يسرد أقواله في الرفض والضلال، فما انتبه الطلبة إلا على بكاء الشيخ ونشيجه وترحُّمه على شيخ الإسلام، فلمّا سكن قال: «أيها الإخوان لو لم يقيِّض اللهُ لهذا الطاغية وأمثاله مثل هذا الإمام الكبير، فمن الذي يستطيع الرد والإجابة على هذه الحجج والشبهات». علماء نجد خلال ثمانية قرون، 1/281. ويرى الشيخ ابن سعدي أن ابن تيميّةَ من لطف الله بعباده في أثناء قرون هذه الأمة: المواهب الربانية من الآيات القرآنية، ص149.

[6] المجددون في الإسلام، ص266، 439.

[7] لست مع حسن حنفي في قوله في مراجعة كتاب الصادق النيهوم: إسلام ضد الإسلام: «كما أن كثرة الاعتماد على النصوص المنتقاة تقلل من ثقل الحجج العقلية». هموم الفكر والوطن، 2/402. إلا أن يُقيَّد قوله فيقال: إن كثرة الاعتماد على النصوص المنتقاة تقلّل من ثقل الحجج العقلية؛ إذا كان موضوع النقاش من مجال الحجة العقلية. ماذا لو قال دارسٌ للحضارة المصرية لحسن حنفي: إن لفظة «فرعون» لم ترد في القرآن؟

ولرياض الريس في: آخر الخوارج، أشياء من سيرة صحافية، ص195، رسالة عن الصادق النيهوم ومنع كتابه في لبنان.

[8] فليسوف العرب والمعلم الثاني، ص123،120.

[9] تجليات الفلسفة العربية، منطق تاريخها من خلال منزلة الكلي، ص147.

[10] الله والعالم والإنسان في الفكر الإسلامي، ص140.

[11] ابن تيمية واستئناف القول الفلسفي في الإسلام، ص26،13.

[12] ابن تيمية وموقفه من الفكر الفلسفي، ص269،266.

[13] درء تعارض العقل والنقل، 1/22.

[14] أثر القرآن على منهج التفكير النقدي عند ابن تيمية، ص67. لو أخذنا سنة (717) على أعلى تقدير لوقت كتابته «الدرء»، وحذفنا من هذا التاريخ «نحواً من ثلاثين سنة»، يكون ابن تيمية المولود سنة (661)، قد ألف هذا الكتاب وهو دون الثلاثين بيقين.

[15] بيان تلبيس الجهمية، 1/37. عن: صالح الغامدي، موقف شيخ الإسلام ابن تيمية من آراء الفلاسفة ومنهجه في عرضها، ص207.

قال الكردي: «لقد بدأ تحصيله للفكر الفلسفي بداية مبكرة جداً حتى كون لنفسه فكرة عن الفلاسفة والمتكلمين وهو صبي في عمر البلوغ.. وهذا واضح باعترافه هو في مصنفه عن رد المنطق [ص24] فهو يقول: « وأذكر أني قلت مرة لبعض من كان ينتصر لهم (الفلاسفة والمتكلمين) من المشغوفين بهم ـ وأنا إذ ذاك صغيرٌ قريب العهد من الاحتلام ـ كل ما يقوله هؤلاء ففيه باطل إما في الدلائل وإما في المسائل..». أثر القرآن، ص67.

ألم يتعثّر صاحبنا في بحثه اللاهث بشيءٍ من هذه الأقوال وهو يفتش في تراث ابن تيمية؟

[16] الإشارة هنا إلى «الشيخ الكوثري»، «إشارةٌ سرحانيَّة».. فالكوثريُّ يقول في كتابه: من عبر التاريخ، عن ابن ملكا ص38: «تظاهر بالإسلام ابتعاداً عن الهوان والله أعلم بما في قلبه، وهو الفيلسوف الوحيد الذي وجد ابن تيمية بغيته عنده واتخذه قدوةً لنفسه في القول بجواز حلول الحوادث في الله سبحانه، تعالى الله عن إفك الأفاكين».

ليس بي هنا مناقشة كلامه في ابن تيمية فقد كُفِيناه، لكن قوله عن ابن ملكا: «تظاهر بالإسلام..»، ردّه عليه أحمد الطيب في: الجانب النقدي في فلسفة أبي البركات البغدادي، ص38.

ما أحسن ما ختم به محمد أحمد عبد القادر دراسته: الشيخ زاهد الكوثري وجهوده في مجال الفكر الإسلامي، حيث قال:

« يؤخذ على الكوثري في إطار حماسه الزائد اندفاعه إلى تخطئة غيره ممن لا يتفق معه إلى حد رَمْيه بالكفر، أو يصف خصمه بأوصاف لا يليق أن تصدر عن عالم أو مفكر مثله».

[17] «وخطتي في بحث موقف أبي البركات من الفلسفة المشائية.. تحليل الفكرة المنقودة، وذلك بتعقبها عند القائلين بها، وفي مظانها التي قيلت فيها، سواء عند أرسطو أو عند الأفلاطونية المحدثة، أو عند المشائية الإسلامية ممثلة في الفارابي وابن سينا، وقد كان أبو البركات ينقل في ذلك نقلاً غاية في الدقة والضبط والأمانة». أحمد الطيب، الجانب النقدي، ص10.

[18] منهج جديد لدراسة الفلسفة الإسلامية، ضمن: المشكاة، مجموعة مقالات في الفلسفة والعلوم الإنسانية مهداة إلى اسم المرحوم الدكتور علي سامي النشار [ت 1980]، ص20.

[19] مقدمة تحقيق: الشرح الكبير لمقولات أرسطو، لأبي الفرج ابن الطيب، ص11. ولعبدالأمير الأعسم في: دراسة منطق ابن رشد، ضمن: ابن رشد فيلسوف الشرق والغرب في الذكرى المئوية الثامنة لوفاته: «ابن رشد كان يمتلك الوعي بالنص الأرسطوطاليسي بحيث استطاع أن يكُون الحكم العقلاني التاريخي على كل أقوال المفسرين والشراح والمتأولين لأقوال أرسطوطاليس». 1/81.

[20] درء تعارض العقل والنقل، 9/434.

[21] المرجع السابق، 6/210.

[22] في: دليل الرسائل الجامعية في علوم شيخ الإسلام ابن تيمية، لعثمان شوشان، ص77:موقف شيخ الإسلام ابن تيمية من سيف الدين الآمدي في الإلهيات، ليحيى الهنيدي، جامعة أم القرى، 1407هـ. وفي هذا الدليل (صدر سنة 1424) مئة وسبع وسبعون رسالة علمية، منها مئة وثلاثون رسالة درستْ تراث ابن تيمية، والباقي في تحقيقه.

[23]عبد الأمير الأعسم، المصطلح الفلسفي عند العرب، ص118. نُشر «المبين» ضمن الكتاب السابق، وأفرده الأعسم في: الفيلسوف الآمدي، دراسة وتحقيق.

[24] هنا تعتيمٌ إعلامي آخر وربط لخيوط الحيلة، فهذه شخصيةٌ فلسفية أخرى كانت تدرس الفلسفة في دمشق، وليس ذلك فحسب، بل هو صاحب أهم كتاب في تراجم الفلاسفة في تاريخنا الإسلامي: عيون الأنباء في طبقات الأطباء. ولا تغترَّ «بطبقات الأطباء» هذه، فما أكثر ما صَرَف عن هذه الكتب أسماؤُها.

لما كان كثير من الفلاسفة يشتغلون بالطب، وكان عصر ابن أبي أصيبعة يمقت الفلاسفة، أخفى عقول فلاسفته بأردية الطب، فعوقب بأن أخفاه صاحبنا فلم يذكره ولا كتابَه في بحثه قط.

توفي ابن أبي أصيبعة سنة (668).

[25]حسن الشافعي ،الآمدي وآراؤه الكلامية، ص40، 43، 166.

[26]نقض المنطق، ص156، فهرس: الدرء، 11/149. وفهرس: منهاج السنة، 9/222.

[27] علي جواد الطاهر، منهج البحث الأدبي، ص19. عثمان أمين، ديكارت: «ضرورة المنهج وماهيته» ص76.

[28] عبد الحكيم أجهر،ابن تيمية واستئناف القول الفلسفي في الإسلام، ص82. محمود يعقوبي ،ابن تيمية والمنطق الأرسطي، ص7. قال إبراهيم عقيلي: «حاولت من خلال ما سبق التدليل على مفهوم التكامل المنهجي عند ابن تيمية، وكيف أنه حاول الاستفادة من جميع طرق المعرفة الممكنة فلم يلغ بعضها لحساب بعض، وإنما عمل بكل طريق في مجاله، ونظر إلى كل مصادر العلم على أنها متكاملة ومتداخلة لا مستقلة ومتباينة، وألغى المحاولات السابقة «للتلفيق» بينها على أساس أن بعضها تابع لبعض مطلقاً». تكامل المنهج المعرفي عند ابن تيمية، ص383.

[29] مدخل جديد إلى الفلسفة، ص53.

[30] إرنست رينان، ابن رشد والرشدية، ترجمة عادل زعيتر، ص70. محمد عبدالستار أحمد، المدرسة السلفية وموقف رجالها من المنطق وعلم الكلام، ص248. ولزينب الخضيري: «لقد فعل ابن رشد لأرسطو مالم يفعله المؤلفون المسلمون إلا للقرآن ». أثر ابن رشد في فلسفة العصور الوسطى، ص7.

[31] محمد عبد الستار أحمد، المدرسة السلفية، ص433.

[32] نقض المنطق، ص34.

[33] الرسالة الصفدية، ص252.

[34] بغية المرتاد، ص387.

[35] فصوص الحكم، 1/61. عن محقِّقَيْ: الرسالة الصفدية، ص253. ولعبد الرحمن بدوي في: تاريخ التصوف الإسلامي، ص78، إشارة لموقف ابن تيمية من ابن عربي.

[36] «للتوماويّ» يوسف كرم (ت 1959)، و«للراهب» الدومينيكاني جورج شحاته قنواتي (ت 1994)؛ أثرٌ بالغ السوء في كثير من مثقفي مصر، ولا سيما من أصبحوا فيما بعد أساتذة الفلسفة في مصر والعالم الإسلامي: محمد عبدالهادي أبوريدة، وعثمان أمين، وعبدالرحمن بدوي، وعاطف العراقي، وزينب الخضيري...

هذا الأثر يحتاج إلى توسّع لا تفي به هذه الإشارة.

وفي كتاب: أبونا قنواتي، ص 83: «والطريف أن الأب قنواتي عندما كان يرأس قدّاس الصباح في الدير، كان يضع فوق المذبح بطاقة صغيرة تحتوي على أسماء الذين في فكره وحسبانه ليذكرهم في صلاته، وكان يقرأ حوالي ثلاثمائة وعشرين اسماً .. منهم على سبيل المثال: طه حسين ..»!

وفي: العقل والتنوير، لعاطف العراقي، ص 475: «جثمان الأب الدكتور جورج قنواتي .. وقد وقف بجوار الجثمان تلميذه عاطف العراقي».

ولنا مع الفيلسوف «الكذَّاب» عاطف العراقي تلميذ الأب جورج؛ وقفة مع «كذبه المخزي» على ابن تيمية ومصطفى عبدالرازق في غير هذا القراءة إن شاء الله.

[37] رفيق العجم، موسوعة مصطلحات ابن تيمية، ص448.

[38] تجليات الفلسفة العربية، ص438.

[39] تركي بن سهو العتيبي، الليلة الأخيرة، ضمن كتاب: محمود الطناحي .. ذكرى لن تغيب، ص38.

[40] محمد عزير شمس، وعلي بن محمد العمران، الجامع لسيرة شيخ الإسلام ابن تيمية خلال سبعة قرون، الفهرس التفصيلي: «انتقاله مع أسرته من حران إلى دمشق ـ تاريخه»، ص751.

[41]صالح مهدي هاشم، المشهد الفلسفي في القرن السابع الهجري، دراسة في فكر العلامة ابن المطهر الحلي ورجال عصره، ص335. وفي: الأعلام 2/228: «الحسن كما هو هنا ويخطئ من يسميه الحسين».

[42]عبدالأمير الأعسم، الفيلسوف نصيرالدين الطوسي، مؤسس المنهج الفلسفي في علم الكلام الإسلامي، ص23، ص25.

وفيه ص41: «ومن هنا اختصه هولاكو به فأكرمه «غاية الإكرام» كما يشير إلى ذلك البحراني والخوانساري، ولم يمر وقت طويل على هذه الصلة التي أثارت في نفس النصير سعادة المطمئن بعد أن لاذ بالوحش من الوحش نفسه، أن أعلن بشكل رسمي أنه شيعي (اثنا عشري)؛ فأزاح عن وجهه قناع التقيّة التي لازمته طوال ثمانية وعشرين عاماً في قلاع الإسماعيلية، وكان ذلك الإعلان المدهش في الرابع عشر من شوال سنة 654هـ.. ليصبح فيما بعد الزعيم العقلي للفكر الشيعي بلا منازع حتى يومنا هذا، والفيلسوف الشيعي الأول الذي يفخر به التراث الشيعي بكامله».

[43] السحب الوابلة على ضرائح الحنابلة، 2/460.

[44] الموجز في مراجع التراجم والبلدان والمصنفات وتعريفات العلوم، ص53، 73. واللوم يقع ـ مع الناقل ـ على محقق «الشذرات» ومحقق «الدرر»، لأنهما لم ينبها على الوهم.

[45] ابن تيمية والمنطق الأرسطي، ص5.

[46] قال ديكارت: «معظم من أرادوا في هذه القرون الأخيرة أن يكونوا فلاسفة قد تابعوا أرسطو متابعة عمياء.. أما من لم يتابعوه ـ وفيهم كثيرون من ذوي العقول الراجحة ـ فلم يبرأوا من التشبع بآرائه في شبابهم، لأنه لا يُعَلَّم في المدارس سواها، وقد شغلهم ذلك شغلاً حال دون وصولهم إلى معرفة المبادئ الحقة». مبادئ الفلسفة، ترجمة عثمان أمين، ص35.

[47] مدخل نقدي لدراسة الفلسفة (1988)، ص143. وفي: دليل الرسائل الجامعية في علوم شيخ الإسلام، ص145: نظرية المنطق بين شيخ الإسلام ابن تيمية وفلاسفة الغرب، لجلال أحمد عبد النبي، جامعة القاهرة، 1989.

[48] المفكرون المسلمون في مواجهة المنطق اليوناني، ترجمة عبدالرحيم البلوشي، ص135ـ 137.

[49] نقد نظرية القياس الأرسطية عند ابن سينا وابن تيمية، ص136. عن ابن تيمية وجون ستيوارت مل: علي سامي النشار، المنطق الصوري منذ أرسطو وتطوره المعاصر، ص424.

قال توفيق الطويل: «كان طبيعياً أن يفيد «مل» من الدراسات العلمية التي أدت إلى قيام الاستقراء وبيان خطواته ومراحله، وقد بدأت هذه الدراسات على يد روّاد الفكر الحديث». جون ستيورت مل، ص133. لاحظ قوله: «بدأت هذه الدراسات على يد روّاد الفكر الحديث».

[50] المنطق عند ابن تيمية، ص10، 333. ونؤكد أن بعض من أوردنا نقولهم لم يسلّموا لابن تيمية بكل أقواله، بل ناقشوه في كثير منها.

[51] محمد تقي المدرّسي ،المنطق الإسلامي، أصوله ومناهجه، «العلاقة بين الفلسفة والمنطق»، ص33.

[52] الرد على المنطقيين، ص45.

===============

#الإسلام والغرب شقاق أم وفاق

إعداد : نصر بن محمد الصنقري

المقدمة :

إن الحمد لله تعالى نحمده ونستعينه ونستغفره ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا من يهد الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادى له واشهد أن لا اله إلا الله وحده لا شريك له واشهد أن محمداً عبده ورسوله.

{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ }

{ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا}

{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا ( 70 ) يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا } أما بعد:

تردد في الآونة الأخيرة مصطلح (صدِام الحضارات) وأخذ هذا المصطلح يطفو على سطح الوسائل الإعلامية المسموعة والمرئية والمطبوعة وكأن العالم قاب قوسين أو أدنى من حرب كونية ثالثة سوف تأتي على السلالة البشرية بأكملها وراح البعض يرّوج لفكرة أن الدين سيكون شرارة هذه الحرب..

وما أن طغى مصطلح (صدِام الحضارات) على السطح، حتى ظهر مصطلح آخر وهو بمثابة الند أو الضد للمصطلح الأول وهو مصطلح (حوار الحضارات) ويرى أصحاب هذا المصطلح أو التيار أن الحضارات لا تتصارع ولا تتصادم وإنما تتكامل وتتبلور بحيث تعتمد كل حضارة على ما عند الحضارات الأخرى من علوم ومعارف وثقافات وعقائد، ويرى أصحاب هذا التيار أيضاً أن الأديان لا يمكن أن تكون بذاتها وسيلة للصدِام والمجابهة بل هي بذاتها وسيلة لتقارب الإنسان من أخيه الإنسان. وكما أن الدين وسيلة للتفاهم فإن الحضارة أيضاً هي خير وسيلة للتعبير عن احتياجات ورغبات الإنسان في العيش الهانئ دون اللجوء إلى لغة العنف مع الآخر.

غير أن الشاعر يقول :

أرى خلال الرماد وميض نار وأخشى أن يكون لهم ضرام

فإن النار بالعودين تذكى وإن الحرب مبدؤها كلام

ويقول الدكتور عبد الوهاب المسيري في ( الإسلام والغرب ) : من الموضوعات التي طرحت نفسها وبحدة خاصة بعد 11 سبتمبر/ أيلول 2001، موضوع علاقة الغرب بالعالم الإسلامي. ففي الغرب يسألون لماذا يكرهنا المسلمون؟!.

وفي محاولة الإجابة عن هذا السؤال يقولون : "إن المسلمين يحقدون على الغرب بسبب الاستقرار السياسي والتقدم التكنولوجي والاقتصادي اللذين يتمتع بهما، وإنهم وقعوا أسرى الماضي بدلاً من بذل الجهد اللازم ليلحقوا بركب الحداثة والتقدم، ولذا أخفقوا في تحديث مجتمعاتهم، الأمر الذي يزيد من عدائهم للغرب."

وفي المقابل يحاول بعض المسلمين تفسير العداء الغربي بالقول إن اللوبي الصهيوني -وأحيانا اليهودية العالمية- هي التي تحرض الغرب ضدنا. وهناك من يرى أن الغرب لا يزال صليبياً يحاول تحطيم الإسلام وإذلال المسلمين وربما تنصيرهم. ......................................الجزيرة 4/11/2004.

ثم يقول : وقد يكون هناك شيء من الصحة في كل هذه العناصر، ولكنها قاصرة عن تفسير ظاهرة في شمول وعمق التوتر المتصاعد في العلاقة بين الغرب والعالم الإسلامي.

فكان أن انقسمت الناس فهناك الغرب وأمريكا وبعض القوى المحلية عندنا تدعونا إلى الالتحاق بالركب الحضاري الغربي والاندماج في الحضارة الغربية والتخلي عن ديننا وحضارتنا وقيمنا أو على الأقل قصر علاقتنا به على العبادة الفردية والضمير وهؤلاء يقولون إنه قد ثبت أن الحضارة الغربية حضارة عظيمة ويجب أن تسود العالم ، أو يقولون إنه لا أمل ولا فرصة للمواجهة ومن الأفضل أن ننصاع لها ، وهؤلاء بالطبع منافقون ومخادعون فلا الحضارة الغربية حضارة عظيمة ، ولا هي حضارة ذات أخلاق ، ولا هي قدر مقدور لا يمكن الفكاك منه ، هؤلاء بالتحديد يدعوننا إلى الاستمرار في أداء دور الضحية والذبيحة خاصة بعد أن شحذ الجزار سكينه وأصيب الآكلون بنهم شديد ، وفضلاً عن أننا سنكون مجالا للنهب فإنهم يطلبون منا أن نتخلى عن قيمنا وذاتيتنا ومبادئ ديننا وحضارتنا وهذا بالطبع مرفوض .

واتجاه آخر يقول بأن الحضارات تتفاعل مع بعضها البعض أو تتزاوج وإن الحضارة الغربية ليست غربية فقط بل إنسانية أي أنها استفادت من كل الحضارات التي سبقتها وتفاعلت وتزاوجت معها وخرجت في النهاية لتكون حضارة الإنسانية كلها.

ومن هنا ألينا على أنفسنا صبر غور هذا التوتر ووضعه في حجمه الطبيعي ، وبيان ما إذا كانت العلاقة مع الغرب هي علاقة الحوار أم علاقة الحرب والدمار ، ويمكن القول إن ثمة عناصر يمكن أن تؤدي إلى توتر العلاقة بين الإسلام والغرب، لكنها في الوقت ذاته يمكن أن تشكل أساساً للتفاهم والتعاون.

ولكن قبل الوصل إلى هذه النتيجة لابد من استعراض الصراع الغربي مع الإسلام ، ولا بد كذلك من توضيح بعض معايير الغرب في نظرته إلى العالم الإسلامي السياسي والديني ، وإلى الفرد المسلم والجماعة المسلمة ، كما لابد أن نبين الأخطاء التي يقع فيها الكثير من المسلمين فيعطوا بذلك الفرصة للغرب ليشنع على الإسلام والمسلمين ، سواء كان ذلك حقاً أو مكراً ودهاءً.

غير أنه يجب التأكيد في الوقت نفسه على أن حرية التعبير وحرية الإعلام شيء، والإساءة والتحريض على الآخر ومعتقداته الدينية وقيمه الروحية شيء آخر...... هذا ونسأل الله تعالى السداد والتوفيق ............

وكتبه /نصر بن محمد الصنقري .......مرسى مطروح .

التمهيد :

إن الإسلام هو الرسالة الخاتمة للرسالات السابقة يدعو إلى الإيمان بالله وحده لا شريك له وبملائكته وبرسله وبكتبه المنزلة وباليوم الآخر، وبالقدر خيره وشره ، حلوه ومره ، عاجله وآجله ، ويدعو إلى القيم الخلقية النبيلة التي دعت إليها الأديان، يقول الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم: " إِنَّمَا بُعِثْتُ لأُتَمِّمَ مَكَارِمَ الأَخْلاقِ "(1).

من هذا المنطلق نرى أن الإسلام منهج "منهج حياة" حياة بشرية واقعية بكل مقوماتها. منهج يشمل التصور الاعتقادي الذي يفسر طبيعة (الوجود)، ويحدد مكان (الإنسان) في هذا الوجود، كما يحدد غاية وجوده الإنساني.. ويشمل النظم والتنظيمات الواقعية التي تنبثق من ذلك التصور الاعتقادي وتستند إليه، وتجعل له صورة واقعية متمثلة في حياة البشر. كالنظام الأخلاقي والينبوع الذي ينبثق منه، والأسس التي يقوم عليها، والسلطة التي يستمد منها. والنظام السياسي وشكله وخصائصه. والنظام الاجتماعي وأسسه ومقوماته. والنظام الاقتصادي وفلسفته وتشكيلاته. والنظام الدولي وعلاقاته وارتباطاته.. ..............................من كتاب المستقبل لهذا الدين لسيد قطب.

وهذا الدين من الوضوح في هذا المعنى - ومن العمق والقوة كذلك - بحيث يبدو أن ليس هنالك أمل في نجاح أية محاولة لتصويره في صورة العقيدة الوجدانية المنعزلة عن واقع الحياة البشرية، والتي لا علاقة لها بتنظيمات الحياة الواقعية، وتشكيلاتها وأجهزتها العملية. أو العقيدة التي تعد الناس فردوس الآخرة إذا هم أدوا شعائرها وعباداتها، دون أن يحققوا – في واقع مجتمعهم– أنظمتها وشرائعها وأوضاعها المتميزة المتفردة الخاصة ! فهذا الدين ليس هكذا. ولم يكن هكذا. ولا يمكن أن يكون هكذا.. ربما استطاعت أية نحلة في الأرض تزعم لنفسها أنها (دين) ويزعم لها أهلها أنها (دين) أن تكون كذلك! أما (هذا الدين) فلا. ثم لا. ثم لا..

إن هذا الدين أضخم حقيقة، وأصلب عوداً، وأعمق جذوراً، من أن تفلح في معالجته تلك الجهود الغربية والتغريبية ، ولا هذه الضربات الوحشية كذلك. كما أننا نعلم أن حاجة البشرية إلى هذا المنهج أكبر من حقد الحاقدين على هذا الدين؛ وهي تتردى بسرعة مخيفة في هاوية الدمار السحيقة؛ ويتنادى الواعون منها بصيحة الخطر، ويتلمسون لها طريق النجاة.. ولا نجاة إلا بالرجوع إلى الله.. والى منهجه القويم للحياة.

إن هتافات كثيرة من هنا ومن هناك تنبعث من القلوب الحائرة. وترتفع من الحناجر المتعبة.. تهتف بمنقذ، وتتلفت على (مخلِّص). وتتصور لهذا المخلص سمات وملامح معينة تطلبها فيه. وهذه السمات والملامح المعينة لا تنطبق على أحد إلا على هذا الدين!

فمن طبيعة المنهج الذي يرسمه هذا الدين، ومن حاجة البشرية إلى هذا المنهج، نستمد نحن يقيننا الذي لا يتزعزع، في أن المستقبل لهذا الدين، وأن له دوراً في هذه الأرض هو مدعو لأدائه - أراد أعداؤه كلهم أم لم يريدوا - وأن دوره هذا المرتقب لا تملك عقيدة أخرى- كما لا يملك منهج آخر- أن يؤديه. وأن البشرية بجملتها لا تملك أن تستغني طويلاً عنه....المستقبل لهذا الدين بتصرف وبعض الزيادات .

لقد وقف الفيلسوف الإنجليزي توماس كارليل عام 1864 في جامعة أدنبره العريقة في الدراسات الصليبية وبالرغم من أنه هاجم القرآن إلا أنه عندما جاء ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم قال 'لقد أصبح من العار على أي فرد متمدين أن يستمع أو يصدق ما يقال من أن محمداً كان دجالا وكذابا. فكيف بالله عليكم يستطيع الكذاب أن يبني أمة عظيمة تمتد جذورها في هذه المساحة الشاسعة؟. وكيف بالله عليكم للكذاب أن يأتي بكتاب يستطيع أن يسيطر على نفوس وعقول وقلوب معظم سكان الأرض؟'.

ومن هنا اختاره الله لنا اسماً ورسماً ، ومظهراً وجوهراً ، وقلباً وقالباً.

أولاً : يقول تعالى في حق الدين الإسلامي ، وموقف الغرب منه : {الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن دِينِكُمْ فَلاَ تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينًا } (3) سورة المائدة،

ويقول تبارك وتعالى :{إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللّهِ الإِسْلاَمُ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوْتُواْ الْكِتَابَ إِلاَّ مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمُ الْعِلْمُ } (19) سورة آل عمران ،

ويقول عز من قال : {وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ } (85) سورة آل عمران ،

ويقول أيضاً : {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءهُمْ وَإِنَّ فَرِيقاً مِّنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} (146) سورة البقرة، ويقول عز جاهه : {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءهُمُ الَّذِينَ خَسِرُواْ أَنفُسَهُمْ فَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ} (20) سورة الأنعام

ينقل الشيخ سفر الحوالي في كتابه كشف الغمة عن علماء الأمة خطط الغرب للسيطرة على منطقة الخليج وحقول النفط ، ومن ضمن ما نقل أيضاً حرص الغرب على حرب الإسلام واعتباره الخطر الأكبر عليهم في العالم الثالث ، وأنقل من كلامه بعض المقتطفات التي نقلها ذات الطابع الهجومي يقول في صـ 32 ـ " والواقع إن جوهر القضية في هذه التحالفات قديمها وحديثها واحد وهو أن مصلحة الغرب تقتضي تناسي خلافاته الداخلية والتوحد لمقاومة الخطر الخارجي الذي يَعُدُ الإسلام رأس الحربة فيه ، فقد تحالفت أوروبا المتناحرة ضد الدولة العثمانية فيما سُمي (الحلف المقدس) كما ظلت تركيا -رغم إنها دولة أوروبية من جهة الموقع- خارج الاتفاقيات الدولية الأوروبية إلى عهد قريب لسبب واحد هو أنها مسلمة ، و سُئل الرئيس التركي عن سبب عدم قبول تركيا عضواً في الوحدة الأوروبية رغم أنها عضو في حلف الناتو - فأجاب بأن السبب هو أن الغرب لا يزال ينظر إلى تركيا باعتبارها دولة إسلامية !!.

ونقل الشيخ أيضاً صـ 37ـ " وفي الوقت نفسه جرى الإعلان أيضاً عن وظيفة جديدة للمخابرات الأمريكية في ظل الوفاق (وهي قديمة في الواقع) فقد أذاعت هيئة الإذاعة البريطانية في برنامج (عالم الظهيرة) ما نصه تقريباً:" إن الجهد الرئيسي للمخابرات الأمريكية الذي كان منصباً لمراقبة إمبراطورية الشر -يعني الاتحاد السوفيتي- سيتجه أساساً لمراقبة الجماعات الأصولية في العالم الإسلامي ووضع العقبات والعراقيل أمامها ".

وأذاعت تعليقاً لصحيفة الفايننشال تايمز قالت فيه:إذا كانت أمريكا تشجع الاتجاهات الديمقراطية في شرق أوروبا ودول العالم الثالث فإنه يجب عليها ألا تشجع تلك الاتجاهات في العالم الإسلامي لأنها بذلك تدفع –دون أن تدري- بالأصوليين إلى تسلم زمام السلطة في ذلك العالم!!!

والواقع أن مثار الذهول ليس مجرد التهديد بالتدخل فقد تدخلت فرنسا فعلاً في دول كثيرة منها (زائير ووسط أفريقيا وساحل العاج وتشاد والجابون) ولكنه في الجراءة على إعلان بعض مخططات الغرب السرية وإشهار الحرب الصليبية الذي يزيد الصحوة الإسلامية ـ بإذن الله ـ اشتعالاً ويرسخ قدمها .

وأنقل هنا مقالات لبعض ساسة الغرب ورجال الدين فيها وهي تدل على أن الغرب بجميع اتجاهاته يعد العدة لحرب صليبية تجهز على الإسلام بزعمهم ، وفكرة الحرب الصليبية أو كما يسمونها الحرب بين قوى ( الخير والشر ) أو بين قوى ( الظلام والنور ) أو بين ( العدالة والظلم ) كل هذه الأسماء التي يستخدمها الأمريكيون وقادة دول التحالف ضد الإسلام لم تكن عبارات جديدة بل هي عبارات أصولية قديمة بالنسبة لهم مستقاة من كتبهم ومن نبوئتهم الخرافية و متأصلة في الفكر الغربي المتطرف ، والمعركة التي يقودها الآن هم الإنجيليون العسكريون ، أو المتطرفون البروتوستانت .

يقول خفير سولانا أمين عام حلف شمال الأطلسي سابقاً في اجتماع للحلف عام 1412هـ بعد سقوط الاتحاد السوفييتي " بعد انتهاء الحرب الباردة وسقوط العدو الأحمر يجب على دول حلف شمال الأطلسي ودول أوربا جميعاً أن تتناسى خلافاتها فيما بينها وترفع أنظارها من على أقدامها لتنظر إلى الأمام لتبصر عدواً متربصاً بها يجب أن تتحد لمواجهته وهو الأصولية الإسلامية " .

ويقول جلادستون رئيس وزارء بريطانيا سابقاً موصياً بإبعاد الناس عن دينهم تمهيداً للحرب الصليبية " ما دام هذا القرآن موجوداً في أيدي المسلمين فلن تستطيع أوربا السيطرة على الشرق " .

ويقول ألبر مشادور " من يدري ربما يعود اليوم الذي تصبح فيه بلاد الغرب مهددة بالمسلمين يهبطون إليها من السماء لغزو العالم مرة ثانية ، وفي الوقت المناسب " .

ويقول القس لورانس براون داعياً إلى تفريق الأمة " إذا اتحد المسلمون في إمبراطورية عربية أمكن أن يصبحوا لعنة على العالم وخطراً أو أمكن أن يصبحوا أيضاً نعمة له ، أما إذا بقوا متفرقين فإنهم يظلون حينئذ بلا وزن ولا تأثير

ويقول أرنولد توينبي " إن الوحدة الإسلامية نائمة لكن يجب أن نضع في حسابنا أن النائم قد يستيقظ " .

ويقول المستشرق الأمريكي وك سميث الخبير بشئون باكستان " إذا أعطي المسلمون الحرية في العالم الإسلامي ، وعاشوا في ظل أنظمة ديمقراطية فإن الإسلام ينتصر في هذه البلاد ، وبالدكتاتوريات وحدها يمكن الحيلولة بين الشعوب الإسلامية ودينها " .

ثانياً : يقول تعالى في حق رسولنا صلى الله عليه وسلم : {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا مُبَشِّرًا وَنَذِيرًا} (56) سورة الفرقان ، ويقول تعالى : {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا} (45) سورة الأحزاب، ويقول عز وجل : {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِّلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} (28) سورة سبأ

ثالثاً : وقال تعالى في حق المتبعين لهذا الدين : {وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِّلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمينَ مِن قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلَاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ} (78) سورة الحج

رابعاً :عَنْ عِيَاضِ بْنِ حِمَارٍ الْمُجَاشِعِيِّt ، أَنّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، قَالَ ذَاتَ يَوْمٍ فِي خُطْبَتِهِ : " أَلَا إِنَّ رَبِّي أَمَرَنِي أَنْ أُعَلِّمَكُمْ مَا جَهِلْتُمْ ومِمَّا عَلَّمَنِي يَوْمِي هَذَا ، كُلُّ مَالٍ نَحَلْتُهُ عَبْدًا حَلَالٌ ، وَإِنِّي خَلَقْتُ عِبَادِي حُنَفَاءَ كُلَّهُمْ وَإِنَّهُمْ أَتَتْهُمُ الشَّيَاطِينُ ، فَاجْتَالَتْهُمْ عَنْ دِينِهِمْ وَحَرَّمَتْ عَلَيْهِمْ مَا أَحْلَلْتُ لَهُمْ ، وَأَمَرَتْهُمْ أَنْ يُشْرِكُوا بِي مَا لَمْ أُنْزِلْ بِهِ سُلْطَانًا ، وَإِنَّ اللَّهَ نَظَرَ إِلَى أَهْلِ الْأَرْضِ ، فَمَقَتَهُمْ عَرَبَهُمْ وَعَجَمَهُمْ ، إِلَّا بَقَايَا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ ، وَقَالَ : (إِنَّمَا بَعَثْتُكَ لِأَبْتَلِيَكَ وَأَبْتَلِيَ بِكَ) ، وَأَنْزَلْتُ عَلَيْكَ كِتَابًا لَا يَغْسِلُهُ الْمَاءُ تَقْرَؤُهُ نَائِمًا وَيَقْظَانَ ، وَإِنَّ اللَّهَ أَمَرَنِي أَنْ أُحَرِّقَ قُرَيْشًا ، فَقُلْتُ : رَبِّ إِذًا يَثْلَغُوا رَأْسِي فَيَدَعُوهُ خُبْزَةً ، قَالَ : اسْتَخْرِجْهُمْ كَمَا اسْتَخْرَجُوكَ ، وَاغْزُهُمْ نُغْزِكَ وَأَنْفِقْ فَسَنُنْفِقَ عَلَيْكَ ، وَابْعَثْ جَيْشًا نَبْعَثْ خَمْسَةً مِثْلَهُ ، وَقَاتِلْ بِمَنْ أَطَاعَكَ مَنْ عَصَاكَ ، قَالَ : وَأَهْلُ الْجَنَّةِ ثَلَاثَةٌ ذُو سُلْطَانٍ : مُقْسِطٌ ، مُتَصَدِّقٌ ، مُوَفَّقٌ ، وَرَجُلٌ رَحِيمٌ رَقِيقُ الْقَلْبِ لِكُلِّ ذِي قُرْبَى وَمُسْلِمٍ ، وَعَفِيفٌ مُتَعَفِّفٌ ذُو عِيَالٍ ، قَالَ : وَأَهْلُ النَّارِ خَمْسَةٌ : الضَّعِيفُ الَّذِي لَا زَبْرَ لَهُ الَّذِينَ هُمْ فِيكُمْ ، تَبَعًا لَا يَبْتَغُونَ أَهْلًا وَلَا مَالًا وَالْخَائِنُ الَّذِي لَا يَخْفَى لَهُ طَمَعٌ ، وَإِنْ دَقَّ إِلَّا خَانَهُ وَرَجُلٌ لَا يُصْبِحُ وَلَا يُمْسِي إِلَّا وَهُوَ يُخَادِعُكَ عَنْ أَهْلِكَ وَمَالِكَ ، وَذَكَرَ الْبُخْلَ أَوِ الْكَذِبَ وَالشِّنْظِيرُ الْفَحَّاشُ "........................................أخرجه مسلم في صحيحه وأغلب أهل السنن.

خامساً : عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا ، أَنَّهُ أَخْبَرَهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَتَبَ إِلَى قَيْصَرَ يَدْعُوهُ إِلَى الْإِسْلَامِ وَبَعَثَ بِكِتَابِهِ إِلَيْهِ مَعَ دِحْيَةَ الْكَلْبِيِّ ، وَأَمَرَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَدْفَعَهُ إِلَى عَظِيمِ بُصْرَى لِيَدْفَعَهُ إِلَى قَيْصَرَ وَكَانَ قَيْصَرُ لَمَّا كَشَفَ اللَّهُ عَنْهُ جُنُودَ فَارِسَ مَشَى مِنْ حِمْصَ إِلَى إِيلِيَاءَ شُكْرًا لِمَا أَبْلَاهُ اللَّهُ فَلَمَّا جَاءَ قَيْصَرَ كِتَابُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، قَالَ : حِينَ قَرَأَهُ الْتَمِسُوا لِي هَا هُنَا أَحَدًا مِنْ قَوْمِهِ لِأَسْأَلَهُمْ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، قَالَ : ابْنُ عَبَّاسٍ فَأَخْبَرَنِي أَبُو سُفْيَانَ بْنُ حَرْبٍ أَنَّهُ كَانَ بِالشَّأْمِ فِي رِجَالٍ مِنْ قُرَيْشٍ قَدِمُوا تِجَارًا فِي الْمُدَّةِ الَّتِي كَانَتْ بَيْنَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبَيْنَ كُفَّارِ قُرَيْشٍ ، قَالَ أَبُو سُفْيَانَ : فَوَجَدَنَا رَسُولُ قَيْصَرَ بِبَعْضِ الشَّأْمِ فَانْطُلِقَ بِي وَبِأَصْحَابِي حَتَّى قَدِمْنَا إِيلِيَاءَ فَأُدْخِلْنَا عَلَيْهِ فَإِذَا هُوَ جَالِسٌ فِي مَجْلِسِ مُلْكِهِ وَعَلَيْهِ التَّاجُ ، وَإِذَا حَوْلَهُ عُظَمَاءُ الرُّومِ ، فَقَالَ : لِتَرْجُمَانِهِ سَلْهُمْ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ نَسَبًا إِلَى هَذَا الرَّجُلِ الَّذِي يَزْعُمُ أَنَّهُ نَبِيٌّ ، قَالَ : أَبُو سُفْيَانَ ، فَقُلْتُ : أَنَا أَقْرَبُهُمْ إِلَيْهِ نَسَبًا ، قَالَ : مَا قَرَابَةُ مَا بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ ، فَقُلْتُ : هُوَ ابْنُ عَمِّي وَلَيْسَ فِي الرَّكْبِ يَوْمَئِذٍ أَحَدٌ مِنْ بَنِي عَبْدِ مَنَافٍ غَيْرِي ، فَقَالَ : قَيْصَرُ أَدْنُوهُ وَأَمَرَ بِأَصْحَابِي فَجُعِلُوا خَلْفَ ظَهْرِي عِنْدَ كَتِفِي ، ثُمَّ قَالَ : لِتَرْجُمَانِهِ قُلْ لِأَصْحَابِهِ إِنِّي سَائِلٌ هَذَا الرَّجُلَ عَنِ الَّذِي يَزْعُمُ أَنَّهُ نَبِيٌّ فَإِنْ كَذَبَ فَكَذِّبُوهُ ، قَالَ أَبُو سُفْيَانَ : وَاللَّهِ لَوْلَا الْحَيَاءُ يَوْمَئِذٍ مِنْ أَنْ يَأْثُرَ أَصْحَابِي عَنِّي الْكَذِبَ لَكَذَبْتُهُ حِينَ سَأَلَنِي عَنْهُ وَلَكِنِّي اسْتَحْيَيْتُ أَنْ يَأْثُرُوا الْكَذِبَ عَنِّي فَصَدَقْتُهُ ، ثُمَّ قَالَ : لِتَرْجُمَانِهِ قُلْ لَهُ كَيْفَ نَسَبُ هَذَا الرَّجُلِ فِيكُمْ ، قُلْتُ : هُوَ فِينَا ذُو نَسَبٍ ، قَالَ : فَهَلْ ، قَالَ : هَذَا الْقَوْلَ أَحَدٌ مِنْكُمْ قَبْلَهُ ، قُلْتُ : لَا ، فَقَالَ : كُنْتُمْ تَتَّهِمُونَهُ عَلَى الْكَذِبِ قَبْلَ أَنْ يَقُولَ مَا ، قَالَ قُلْتُ : لَا ، قَالَ : فَهَلْ كَانَ مِنْ آبَائِهِ مِنْ مَلِكٍ ، قُلْتُ : لَا ، قَالَ : فَأَشْرَافُ النَّاسِ يَتَّبِعُونَهُ أَمْ ضُعَفَاؤُهُمْ ، قُلْتُ : بَلْ ضُعَفَاؤُهُمْ ، قَالَ : فَيَزِيدُونَ أَوْ يَنْقُصُونَ ، قُلْتُ : بَلْ يَزِيدُونَ ، قَالَ : فَهَلْ يَرْتَدُّ أَحَدٌ سَخْطَةً لِدِينِهِ بَعْدَ أَنْ يَدْخُلَ فِيهِ ، قُلْتُ : لَا ، قَالَ : فَهَلْ يَغْدِرُ ، قُلْتُ : لَا وَنَحْنُ الْآنَ مِنْهُ فِي مُدَّةٍ نَحْنُ نَخَافُ أَنْ يَغْدِرَ ، قَالَ أَبُو سُفْيَانَ : وَلَمْ يُمْكِنِّي كَلِمَةٌ أُدْخِلُ فِيهَا شَيْئًا أَنْتَقِصُهُ بِهِ لَا أَخَافُ أَنْ تُؤْثَرَ عَنِّي غَيْرُهَا ، قَالَ : فَهَلْ قَاتَلْتُمُوهُ أَوْ قَاتَلَكُمْ ، قُلْتُ : نَعَمْ ، قَالَ : فَكَيْفَ كَانَتْ حَرْبُهُ وَحَرْبُكُمْ ، قُلْتُ : كَانَتْ دُوَلًا وَسِجَالًا يُدَالُ عَلَيْنَا الْمَرَّةَ وَنُدَالُ عَلَيْهِ الْأُخْرَى ، قَالَ : فَمَاذَا يَأْمُرُكُمْ ، قَالَ : يَأْمُرُنَا أَنْ نَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ لَا نُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا وَيَنْهَانَا عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا ، وَيَأْمُرُنَا بِالصَّلَاةِ ، وَالصَّدَقَةِ ، وَالْعَفَافِ ، وَالْوَفَاءِ بِالْعَهْدِ ، وَأَدَاءِ الْأَمَانَةِ ، فَقَالَ : لِتَرْجُمَانِهِ حِينَ ، قُلْتُ : ذَلِكَ لَهُ قُلْ لَهُ إِنِّي سَأَلْتُكَ ، عَنْ نَسَبِهِ فِيكُمْ فَزَعَمْتَ أَنَّهُ ذُو نَسَبٍ وَكَذَلِكَ الرُّسُلُ تُبْعَثُ فِي نَسَبِ قَوْمِهَا وَسَأَلْتُكَ ، هَلْ قَالَ أَحَدٌ مِنْكُمْ هَذَا الْقَوْلَ قَبْلَهُ فَزَعَمْتَ أَنْ لَا ، فَقُلْتُ : لَوْ كَانَ أَحَدٌ مِنْكُمْ ، قَالَ : هَذَا الْقَوْلَ قَبْلَهُ ، قُلْتُ : رَجُلٌ يَأْتَمُّ بِقَوْلٍ قَدْ قِيلَ قَبْلَهُ ، وَسَأَلْتُكَ هَلْ كُنْتُمْ تَتَّهِمُونَهُ بِالْكَذِبِ قَبْلَ أَنْ يَقُولَ مَا ، قَالَ : فَزَعَمْتَ أَنْ لَا فَعَرَفْتُ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ لِيَدَعَ الْكَذِبَ عَلَى النَّاسِ وَيَكْذِبَ عَلَى اللَّهِ ، وَسَأَلْتُكَ هَلْ كَانَ مِنْ آبَائِهِ مِنْ مَلِكٍ فَزَعَمْتَ أَنْ لَا ، فَقُلْتُ : لَوْ كَانَ مِنْ آبَائِهِ مَلِكٌ ، قُلْتُ : يَطْلُبُ مُلْكَ آبَائِهِ وَسَأَلْتُكَ أَشْرَافُ النَّاسِ يَتَّبِعُونَهُ ، أَمْ ضُعَفَاؤُهُمْ فَزَعَمْتَ أَنَّ ضُعَفَاءَهُمُ اتَّبَعُوهُ وَهُمْ أَتْبَاعُ الرُّسُلِ ، وَسَأَلْتُكَ هَلْ يَزِيدُونَ أَوْ يَنْقُصُونَ فَزَعَمْتَ أَنَّهُمْ يَزِيدُونَ وَكَذَلِكَ الْإِيمَانُ حَتَّى يَتِمَّ ، وَسَأَلْتُكَ هَلْ يَرْتَدُّ أَحَدٌ سَخْطَةً لِدِينِهِ بَعْدَ أَنْ يَدْخُلَ فِيهِ فَزَعَمْتَ أَنْ لَا ، فَكَذَلِكَ الْإِيمَانُ حِينَ تَخْلِطُ بَشَاشَتُهُ الْقُلُوبَ لَا يَسْخَطُهُ أَحَدٌ ، وَسَأَلْتُكَ هَلْ يَغْدِرُ فَزَعَمْتَ أَنْ لَا وَكَذَلِكَ الرُّسُلُ لَا يَغْدِرُونَ ، وَسَأَلْتُكَ هَلْ قَاتَلْتُمُوهُ وَقَاتَلَكُمْ فَزَعَمْتَ أَنْ قَدْ فَعَلَ وَأَنَّ حَرْبَكُمْ وَحَرْبَهُ تَكُونُ دُوَلًا وَيُدَالُ عَلَيْكُمُ الْمَرَّةَ وَتُدَالُونَ عَلَيْهِ الْأُخْرَى ، وَكَذَلِكَ الرُّسُلُ تُبْتَلَى وَتَكُونُ لَهَا الْعَاقِبَةُ ، وَسَأَلْتُكَ بِمَاذَا يَأْمُرُكُمْ فَزَعَمْتَ أَنَّهُ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَعْبُدُوا اللَّهَ ، وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَيَنْهَاكُمْ عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُكُمْ ، وَيَأْمُرُكُمْ بِالصَّلَاةِ ، وَالصَّدَقَةِ ، وَالْعَفَافِ ، وَالْوَفَاءِ بِالْعَهْدِ ، وَأَدَاءِ الْأَمَانَةِ ، قَالَ : وَهَذِهِ صِفَةُ النَّبِيِّ قَدْ كُنْتُ أَعْلَمُ أَنَّهُ خَارِجٌ ، وَلَكِنْ لَمْ أَظُنَّ أَنَّهُ مِنْكُمْ وَإِنْ يَكُ مَا ، قُلْتَ : حَقًّا فَيُوشِكُ أَنْ يَمْلِكَ مَوْضِعَ قَدَمَيَّ هَاتَيْنِ ، وَلَوْ أَرْجُو أَنْ أَخْلُصَ إِلَيْهِ لَتَجَشَّمْتُ لُقِيَّهُ وَلَوْ كُنْتُ عِنْدَهُ لَغَسَلْتُ قَدَمَيْهِ ، قَالَ أَبُو سُفْيَانَ : ثُمَّ دَعَا بِكِتَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقُرِئَ فَإِذَا فِيهِ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ مِنْ مُحَمَّدٍ عَبْدِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى هِرَقْلَ عَظِيمِ الرُّومِ سَلَامٌ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى أَمَّا بَعْدُ ، فَإِنِّي أَدْعُوكَ بِدِعَايَةِ الْإِسْلَامِ ، أَسْلِمْ ، تَسْلَمْ ، وَأَسْلِمْ يُؤْتِكَ اللَّهُ أَجْرَكَ مَرَّتَيْنِ ، فَإِنْ تَوَلَّيْتَ فَعَلَيْكَ إِثْمُ الْأَرِيسِيِّينَ وَ ?يَأَهْلَ الْكِتَابِ

تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلا اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ ? قَالَ أَبُو سُفْيَانَ : فَلَمَّا أَنْ قَضَى مَقَالَتَهُ عَلَتْ أَصْوَاتُ الَّذِينَ حَوْلَهُ مِنْ عُظَمَاءِ الرُّومِ ، وَكَثُرَ لَغَطُهُمْ فَلَا أَدْرِي مَاذَا قَالُوا وَأُمِرَ بِنَا ، فَأُخْرِجْنَا فَلَمَّا أَنْ خَرَجْتُ مَعَ أَصْحَابِي وَخَلَوْتُ بِهِمْ ، قُلْتُ لَهُمْ : لَقَدْ أَمِرَ أَمْرُ ابْنِ أَبِي كَبْشَةَ هَذَا مَلِكُ بَنِي الْأَصْفَرِ يَخَافُهُ ، قَالَ أَبُو سُفْيَانَ : وَاللَّهِ مَا زِلْتُ ذَلِيلًا مُسْتَيْقِنًا بِأَنَّ أَمْرَهُ سَيَظْهَرُ حَتَّى أَدْخَلَ اللَّهُ قَلْبِي الْإِسْلَامَ ، وَأَنَا كَارِهٌ " ............................أخرجه البخاري وأهل السنن .

ولا حاجة بنا إلى الإطالة أكثر من هذا-في البحث المجمل- عن طبيعة (الدين) وشموله لنظام الحياة الواقعية. فانه لا معنى للدين أصلاً إذا هو تخلى عن تنظيم الحياة الواقعية؛ بتصوراته الخاصة، ومفاهيمه الخاصة، وشرائعه الخاصة، وتوجيهاته الخاصة، فهذه الحياة الإنسانية لابد أن يقوم نظامها الأساسي على قاعدة التصور الاعتقادي، الذي يفسر حقيقة الوجود، وعلاقته بخالقه ، ومركز الإنسان فيه، وغاية وجوده الإنساني، ونوع الارتباطات التي تحقق هذه الغاية. سواء الارتباطات بين الإنسان وربه. أو الارتباطات بين الإنسان والكون من حوله. أو الارتباطات بين الإنسان وسائر الأحياء. أو الارتباطات بين بني الإنسان. كما يرتضيها الله لعباده.

جذور الصراع بين الشرق والغرب (2)

إن الدراسة المنصفة والمحايدة في موضوع الإسلام والغرب هي وحدها التي تبرز صورة الإسلام الحقيقية أمام الغرب وهي وحدها التي تدفع المسلمين إلى مزيد من التواصل مع الغرب.

وليس مطلوبا من العالم الإسلامي أو من الغرب أن ينسيا وقائع التاريخ في علاقة المسلمين بالغرب، ولكن المطلوب أن تكون عبرة هذا التاريخ ماثلة أمامنا.

بدأت المواجهة بين الشرق والغرب منذ فجر التأريخ الإنساني المدون، الذي تتنازعه اليوم أراضي الرافدين وشواطئ البحر المتوسط حيث دارت أكثر حوادث التأريخ لهباً وعنفواناً.

شهد الشرق قيام سلسلة متتابعة من الحضارات تعود إلى نحو ستين قرناً قبل الميلاد من عيلام وسومر في العراق إلى مصر إلى غيبلا في الشام إلى الوثبة الفارسية في طيفون، لم تخل من مناوشات بين الشرق والغرب، ولكن لم تسجل مواجهة حقيقية بين الشرق والغرب حتى القرن الرابع قبل الميلاد.

بدأت المواجهة بين الشرق والغرب مع خروج الإسكندر الأكبر من معاقل الرومان التقليدية في البلقان صوب الشرق، حيث قدر الله للجواد الذي يركبه أن يجتاز مضيق الدردنيل ويتحرك صوب سحر الشرق الآسر، وهناك يمضي من أفق إلى أفق فيجتاح آسيا الصغرى وبلاد الشام ثم السهول الإيرانية، فيحطم أمجاد الفرس ويمزق دولة ساسان، ثم يوغل في الشرق فيروي خيله من نهر جيحون ويجتاز بلاد ما وراء النهر، حيث يبلغ سحراً آخر يحمله إلى القارة الهندية فيدك ما واجهه من الممالك، ويبلغ في النهاية إمبراطورية الصين حيث لم يعد ثمة بعدها شئ يمكن أن يباهي بإسقاطه.

وحين عاد الإسكندر إلى أثينا ليبتهج بنصره شاباً غضاً، أدرك أنه ليس إلا دورة واحدة من دورات الحياة، وأن تبدل المقادير ماض إلى غاية لا يمكن أن تتوقف عنده طموحات الإسكندر.

لم يطل المشهد حتى انبعثت شعوب آسيا الراقدة تضرب في جيوش الاسكندر كل وجه، وتحيل ليهبهم إلى رماد، حيث يمزقون إلى بطالسة وسلوقيين، وتبرز مشاهد متعاقبة من الأكاسرة الجبارين، تطرق أبواب أوروبا من الأناضول في هبة الشرق العارمة، في صد أطماع الغرب.

بعد أقل من قرن يضرب مانيبعل بسياطه الموجعة في قلب الحواضر الأوربية، ويسجل غضب الجنوب على الشمال، وتثأر قرطاجة للإسكندرية ويشتعل المتوسط بنار الكراهية من جديد

في غمرة هذا الصراع كان هناك مشروع آخر يتم إعداده في روما الإيطالية التي تتدلى في قلب البحر المتوسط في إرادة جادة للمواجهة، تحت عنوان الإمبراطورية الرومانية والتي ستصبح المقدسة فيما بعد وتنطلق الأطماع الرومانية من جديد فتلتهب البلاد المتشاطئة في البحر المتوسط، في القرن الأول قبل الميلاد، ويمضي المشروع الروماني إلى أم الدنيا مصر، ثم يرسم ملامح وجود جديد على طول شواطئ المتوسط ليصبح بحيرة رومية، ثم يجتاح بلاد الشام ويصل إلى مواجهة مباشرة مع الحضارة الساسانية الفارسية، حيث سيبدأ صراع ساخن سيستمر سبعة قرون.

ومع وصول الفتح الإسلامي إلى بلاد الشام في القرن السابع الهجري كان الشرق يستعيد عافيته ليقوم بالمواجهة مع الغرب وعندما رحل القيصر من أرض الشام كان يعلم تماماً أنه يرحل رحيلاً لا عودة عنه، وأن فصلاً جديداً من تأريخ العالم يكتبه هذا الفتح الإسلامي الطامح، الذي باكر إلى محاولة دك أسوار القسطنطينية مؤكداً على روح المواجهة.

تمضي القرون خمسة تبوء محاولات الغرب البائسة في اختراق آسيا بالفشل وتتحطم أوهامه عند مضيق الدردنبل، حيث يقوم الرباط على ثغور كيليكية بلجم الأوضاع الأوربية في الشرق الإسلامي، حتى تنفجر أوروبا بالأوهام الصليبية عندما يمضي بطرس الناسك في القرن الحادي عشر برسالة أوران الثاني ليحشد أوروبا في جحافل الحملات المسعورة لأطماع الفرنجة تحت عنوان الحروب الصليبية، وتنشأ مواجهة أخرى بين الشرق والغرب استمرت مائتي عام ركز فيها الغرب راياته على أمارات كثيرة في الشرق من الرها إلى دمياط، ولكن الشرق انتفض مرة أخرى وما بين صلاح الدين والملك الكامل والظاهر بيبرس وصلت الرسالة إلى أرض الأناضول ليترجمها محمد الفاتح بفتح القسطنطينية عام 1453م، حيث ستبدأ جولة أخرى من الصراع ستكون هذه المرة في عمق الأرض الأوربية، وسيسمعها الغرب بوضوح على أسوار فيينا في قلب القارة الأوربية.

بعد أقل من قرنين استأنفت أوروبا تاريخ الصراع عندما تفجرت الثورة الملاحية من الجزيرة الأيبيرية وجرفت في طريقها الأندلس لتمتد شريطاً ساحلياً يطوق العالم الإسلامي من طنجة إلى جزر سيلان عبر رأس الرجاء الصالح ومن ثم إلى أرخبيل ، ويتبعها وصول فرنسا إلى سواحل مصر أيام نابليون الذي افتتح الحقبة الاستعمارية الجديدة في الشرق العربي.

أثر الحضارة الإسلامية على حركة الحياة الأوربية:

يقول الدكتور عبود:"لم تكن الحروب الصليبية ـ كما نعلم ـ أول احتكاك بين الإسلام والغرب، بل كان هناك هذا الاحتكاك منذ السنين الأولى من تاريخ الإسلام، عن طريق الفتوحات الإسلامية عبر الشام وعبر الشمال الأفريقي، ثم الأندلس وجزر البحر الأبيض المتوسط.

وما من شك في أن الحضارة الإسلامية في العصرين الأموي والعباسي على وجه الخصوص، قد أفادت من الحضارة اليونانية عبر جهود الترجمة التي قام بها العلماء العرب والمسلمون لكثير من المعارف التي كانت سائدة آنذاك عدا المعارف التي تتعلق بالعقائد الوثنية اليونانية، ثم كان الهضم والتمثل والإضافة والإبداع ذو الخصوصية الإسلامية الذي شارك فيه العلماء المسلمون من الأجناس المختلفة المكونة للحضارة الإسلامية.

وكان على أوربا أن تتلقى العلوم والمعارف على أيدي علماء الإسلام بعد أن كانت تغط في سباتها العميق في مرحلة ما سموه بالعصور الوسطى وكان ذلك عن طريق التماس والتفاعل العميق في كل من الأندلس وصقلية، وعبر الحروب الصليبية.

لقد أسس المسلمون في الأندلس حضارة عريقة شملت مظاهر الحياة كافة من علوم وصناعات وفنون ومظاهر سلوك، بحيث أصبحت الأندلس من الحواضر الإسلامية المرموقة، وكانت قبلة للزوار من طلبة العلم والعلماء على السواء، سواء من المشرق الإسلامي، أو الغرب الأوربي. وكان الاتصال بين المسلمين والأوربيين سهلا ، وكان اللقاء والتلاقح قائمين حيث كان الإقبال شديداً على تعلم اللغة العربية وتعلم أنماط العلم والثقافة، وتقليد المسلمين في مظاهر حياتهم الحضارية.

وكانت الترجمة من العربية إلى اللاتينية واحداً من مظاهر هذا التفاعل، وكان اقتناء الكتب، وإنشاء الجامعات على غرار الجامعات العربية مظهراً آخر من مظاهر هذا التقليد والاقتباس.

هذا في مراحل السلم، أما في المرحلة التي استطاعت الإمارات الأوربية المجاورة للأندلس أن تتهيأ للهجوم على الحواضر الإسلامية الأندلسية، فكانت تستولي على مكتباتها وتجتهد في ترجمتها خاصة تلك التي تتوفر على علوم الهندسة والطب والفلك وغيرها، حدث هذا حين استولى الفونس السادس سنة 1085م على قرطبة، ثم تبعتها طليطلة وساليرنو وغيرها.

أما صقلية التي فتحها الأغالبة القادمون من تونس عام 827م، وتمكنوا ـ بعد ذلك ـ من تهديد روما مرتين، مما اضطر البابا حنا الثامن أن يدفع الجزية لمدة سنتين.

في هذه الجزيرة أقيمت حضارة راقية تضاهي الحضارة التي قامت في الأندلس. وكان انتقال الحضارة الإسلامية منها إلى أوربا سريعاً ومؤثراً، وقد وصفت صقلية بأنها جنة أهل العلم آنذاك، وقد بدت آثار الحضارة الإسلامية فيها. ويمكن أخذ (فردريك الثاني) حاكمها الذي أغرم بالعلوم الإسلامية والثقافة الإسلامية مثالاً لهذا"أ.هـ د. شلتاغ عبود الثقافة الإسلامية بين التغريب والتأصيل

أما اللقاء الإسلامي الأوربي عبر الحروب الصليبية، فقد كان عظيم الأثر في حركة الحياة العلمية والفكرية في أوربا. فقد عاد الأوربيون بعد هزيمتهم في المشرق الإسلامي، وهم أكثر معرفة وخبرة بطبيعة الحياة في العالم الإسلامي، فلم يعودوا يؤمنون بما كان يروجه القساوسة والرهبان عن هذه الحياة وعن طبيعة التفكير لدى المسلمين، بل عادوا وهم يحملون معلومات ناضجة، وتجارب غنية عن الإنسان المسلم وإنجازاته العلمية، وعن الأرض وطبيعتها، بل وعن مواطن القوة والضعف في الديار الإسلامية عامة.

ويمكن القول بأن (الحروب الصليبية انتهت بانتصار المسلمين عسكرياً، إلا أن المسيحيين استطاعوا أن ينتصروا علمياً من خلال الذخائر العلمية التي حصلوا عليها في فترة حربهم مع المسلمين) ..لقد حدث في أوربا بعد الحروب الصليبية ثورات كبرى في مجال العلم، بل والدين.

ففي مجال العلم كان ظهور المنهج العلمي التجريبي الذي نما وازدهر على أيدي المسلمين، بعد أن استنقذوه من أيدي تلاميذ أرسطو الذين رسخوا المنهج الاستنباطي لسنين طويلة، فكان ظهور روجرز بيكون، 1214 ـ 1294م الذي كان على صلة تامة بالعلوم العربية ومنهجها، ثم تلاه فرنسيس بيكون وغاليلو وغيرهم، حيث كانت جهودهم امتداداً لجهود الرازي وجابر بن حيان وابن الهيثم وابن النفيس وغيرهم من العلماء المسلمين.

وعلى المستوى الديني كان ظهور توما الإكويني 1255 ـ 1274م، الذي أصلح كثيراً من مظاهر التفكير اللاهوتي المسيحي بما تعلمه من مناهج المسلمين وطرق تفكيرهم في العلوم والعقائد، ثم تلاه مارتن لوثر الألماني بثورته الدينية العارمة التي اقتبست الكثير من طريقة المسلمين في علاقتهم بربهم وعلمائهم الروحانيين خاصة.

إن الأمر الذي يكاد يجمع عليه الباحثون عدا بعض المستشرقين والمفكرين الأوربيين المتعصبين هو أن أوربا أفادت من علاقاتها بالإسلام وأهله في مواطن اللقاء كلها، وإن النهضة الأوربية لم تحدث في القرن السادس عشر كما هو شائع، بل بدأت قبل هذا منذ القرن العاشر بفعل الشروع بحركة الترجمة والنقل عن العربية عبر الأندلس وصقلية، كما أشرنا.

ويقول الكاتب الأسباني " أبانيز " في كتابه: (ظلال الكنيسة) عن غزو العرب لأسبانيا:(لم تكن غزوة فتح وتدويخ بل حضارة جديدة بسطت شعابها على جميع مرافق الحياة. ولم يتخل أبناء الحضارة زمنا عن فضيلة حرية الضمير وهى الدعامة التي تقوم عليها كل عظمة حقة للشعوب. فقبلوا في المدن التي فيها الأشعار بمهارة لا تفوقها مهارة العرب أنفسهم).

ولقد كان التأثير الإسلامي شاملاً في العلم والفنون والآداب والعادات، ويحضرني هنا قول للروائي الفرنسي (استاندال) في كتابه (في الحب): ((لقد كنا برابرة ... لقد اقتبسنا أنبل عاداتنا عن طريق الحروب الصليبية والغرب في أسبانيا)).

على أنه من الضروري التأكيد على أن الأوربيين أخذوا من المسلمين الوسائل، ولم يأخذوا الغايات والأهداف، وكان لهم طريق ومنهج آخر في التعامل مع العلوم الإسلامية، بل إنهم حين دالت دولة الإسلام، وقويت شوكتهم أعادوا الحروب الصليبية ثانية، ولكن بأساليب جديدة وأحقاد جديدة، وعاد الصراع كما هو، وعاد الشرق شرقاً، والغرب غرباً، كما هما منذ قديم الزمان، ولكن الهجمة الأوربية في هذه المرحلة كانت قاسية وتدميرية.............. د. شلتاغ عبود الثقافة الإسلامية بين التغريب والتأصيل.

عصر الاستعمار والاستكبار :

لعل أفضل تسمية لهذا العصر الذي يطلق عليه عصر النهضة أو العصر الحديث أن يسمى بعصر الاستعمار والاستكبار ، لأن أ برز ظاهرة فيه هي ظاهرة الاستحواذ على خيرات الشعوب واستعبادها.

ويهمنا أن نشير هنا إلى الخطط التي وضعتها أوربا المسيحية لمواجهة الإسلام بعد فشلها في الحروب الصليبية. لقد أدرك المهزومون عسكرياً أن لا جدوى من قتال المسلمين ومواجهتهم مواجهة مباشرة في سوح القتال، وأنه لابد من سبل أخرى لاختراقهم وإضعافهم والانتصار عليهم. وهذا هو فحوى وصية (لويس التاسع) قائد الحلمة الصليبية السابعة (وهي الأخيرة) إثر عودته إلى فرنسا بعد وقوعه أسيراً في درنية المنصورة بمصر.

وكان لابد من تغيير المنهج والأداء في التعامل مع الإسلام ومعتنقيه، بعد هذا التعرف على مواطن قوته التي تكمن في عقيدته وشريعته.

وهكذا كان، فقد اتجهت أوربا اتجاهين متوازيين يعضد أحدهما الآخر:

الأول: تقوية أوربا عسكرياً واقتصادياً وعلمياً.

والثاني: اختراق العالم الإسلامي وتطويقه ودراسته دراسة قائمة على العلم والمكر والدهاء.

عوامل التقدم الأوربي ومعاييره

أما كيف قويت أوربا واغتنت فتلك قضية تحتاج إلى بسط في القول وتفصيل، نجمله بالقول بأن أوربا بعد التحدي الإسلامي الذي واجهها واستعصى عليها وكسر شوكتها، خاصة بعد التقدم الإسلامي من جهة الشرق على يد الأتراك، وبقيادة محمد الفاتح، الذي تم على يديه فتح القسطنطينية عام 1453م، أعتى وأمنع حصن للصليبية، وكاد يواصل تقدمه إلى قلب أوربا وغربها، بعد هذا الهجوم الإسلامي أفاقت أوربا من هول الصدمة ورجعت إلى ذاتها واستندت بتراثها وعجلت من تكثيف جهودها على إخراج المسلمين من الأندلس، وقد تم لها هذا بالاستيلاء على المدن الأندلسية الواحدة تلو الأخرى، وكان آخرها سقوط غرناطة عام 1492م. وقد تزامن مع هذا الجهد العسكري جهد مكثف من لدن الأسبان والبرتغاليين لاختراق طرق التجار التي كانت بيد المسلمين، وقد توجت هذه الجهود بالوصول إلى الأمريكتين على يد كريستوفر كولومبس عام 1492م، وهو نفس العام الذي استولى فيه الأسبان والبرتغاليون على غرناطة آخر حصن للمسلمين في الأندلس.

وتشير بعض المصادر إلى أن هذا الاكتشاف تم بالاستعانة ببعض البحارة المسلمين وبالمعلومات الجغرافية التي توصل إليها المسلمون. فمن المعلوم أن الشريف الإدريسي صنف كتابه الهام (نزهة المشتاق في اختراق الآفاق) تحت رعاية الملك رجار الثاني في صقلية. وكان قد أشار فيه إلى كروية الأرض وإلى معلومات فلكية وجغرافية وظفت في عصر النهضة العلمية والكشوفات الجغرافية فيما بعد.

وعلى المستوى الداخلي الأوربي فقد ساعد التحرر السياسي والديني من قيود الكنيسة التي كانت متحالفة مع الملوك والإقطاع على التطور والنمو في التجارة والزراعة والصناعة ومجالات الابتكار العلمي كافة. وقد رفعت المصادرة والتأمين والضرائب الباهظة على النشاط التجاري والصناعي والزراعي، وأسست الشركات المساهمة وتم التنظيم الدقيق للعمل، وساهمت الدولة في تعضيد النشاط الفكري والعلمي فكان ما كان بعد هذا من الثورة الصناعية والانتقال من الخشب إلى الحديد ثم إلى الكهرباء ... وكان أن التحم العلم والثروة والسياسة في وحدة وتعاون، بعد أن كان كل منهما يسير في سياق مستقل.

يقول الدكتور عبد الوهاب المسيري :" ويمكن القول إن الحداثة الغربية تشكل الإطار الذي يدور داخله الإنسان الغربي، وهي تقدم رؤية مادية ترى العالم باعتباره مادة. وقد عرَّفت هذه الرؤية الهدف من وجود الإنسان في الكون بأنه تعظيم المنفعة واللذة، وعرَّفت التقدم بأنه تصاعد معدلات الإنتاج والاستهلاك، مما ولد شراهة استهلاكية عند الإنسان الغربي ليس لها نظير في التاريخ.

وهذه الحداثة المادية لا تعني مجرد استخدام العقل والعلم والتكنولوجيا، بل هي استخدام العقل والعلم والتكنولوجيا المنفصلة عن القيم أو(كما يقولون بالإنجليزي value-free)

وفي عالم متجرد من القيمة تصبح كل الأمور متساوية، ومن ثم نسبية، وعندئذ يصعب الحكم على أي شيء، ويصبح من المستحيل التمييز بين الخير والشر وبين العدل والظلم، بل بين الجوهري والعرضي، وأخيراً بين الإنسان والطبيعة أو بين الإنسان والمادة.

وفي غياب قيم مطلقة يمكن الاحتكام إليها، تظهر آلية مادية واحدة ووحيدة لحل النزاعات والخلافات -التي هي من صميم الوجود الإنساني- ألا وهي القوة والإرادة.

وفي هذا الإطار تمركز الغرب حول ذاته، وجعل من نفسه مرجعية نهائية ومعياراً يحكم به على كل الظواهر والحضارات، ونظر إلى العالم لا باعتباره كيانات مستقلة لكل منها طموحاته المشروعة وأهدافه المختلفة، وإنما باعتباره مادة استعمالية من حقه أن يوظفها لحسابه باعتباره الأقوى. وهذا هو جوهر الرؤية الاستهلاكية الإمبريالية."...........................الإسلام والغرب .

على أن أهم مصدر من مصادر الغنى الأوربي في هذه المرحلة هو النهب الاستعماري في القرن الخامس عشر على يد البرتغاليين والأسبان الذين ذهبوا للبحث عن الذهب في أفريقيا الغربية ثم انتقلوا منها إلى الهند، ثم تبعهم الهولنديون الذين نهبوا خيرات الدول الواقعة جنوب شرق آسيا مثل ماليزيا والفلبين وأندونوسيا، وجاء بعدهم الفرنسيون وما كان منهم من نهب في الفيتنام، وما كان منها من استحواذ على خيرات أفريقيا الشمالية والوسطى، فكان العنب من الجزائر والمنغنيز من المغرب وموريتانيا، والنفط من الغابون .. وأخيراً ورثت بريطانيا هذه الدول الاستعمارية وكانت أكبر دولة أوربية تستأثر بثروات الأمم وتستجلبها إلى بلادها، ولعل نهبها لدولة كبيرة مثل الهند خير دليل على حجم الأموال والثروات والطاقات التي أفادتها من هذه البلاد. وكان ما كان بعد هذا من نمو الصناعة الأوربية بفضل نمو رأس المال وتكديسه في أوربا، فكان السعي الحثيث ـ بعد هذا ـ إلى السيطرة على الأسواق خارج أوربا، فكان التنافس مرة أخرى على تصريف السلع والمنتجات في بلدان العالم الفقير في آسيا وأفريقيا وأمريكا اللاتينية.

وكان هذا الاستئثار والنهب والتدمير ذا وجهين:

وجه استجلاب المواد الأولية للصناعة من البلاد المستعمرة، ووجه تصدير هذه المواد بعد تصنيعها إلى هذه البلدان نفسها ..

لقد كانت مرحلة عتو واستكبار وشراهة أوربية على خيرات الشعوب واستعبادها. فما من دولة أو منطقة من مناطق العالم غير الأوربي إلا ولونت بلون الدولة الأوربية التي تستعمرها مثل أسبانيا، هولندا، بلجيكا، ألمانيا، فرنسا، بريطانيا، بل وروسيا القيصرية التي استطاعت أن تقضم المنطقة تلو المنطقة من الدولة العثمانية وإيران، وتدخل في التنافس على اقتسام العالم الإسلامي وتمزيقه ونهب خيراته، وتدمير حضارته، واستغلال إنسانه.

استوت أوربا كلها غربها وشرقها في هذا الهدف الاستعماري التدميري وتعاونت جميعها في تبادل الخبرات وتطوير وسائل التدمير والنهب والإضعاف.

لقد تكدست الثروات في أوربا، وساهمت في تعجيل وتبرة التقدم العلمي، ومدت الآلة العسكرية بمزيد من التطور، وساهمت في الإنفاق على الأساطيل التي صارت تجوب شرق العالم وغربه، ومن ثم إنفاق الأموال الطائلة على كل ما من شأنه إضعاف المسلمين، ووضعت خططاً شاملة لهذا التدمير والاستغلال والإضعاف. وكان أن أفادوا من تجاربهم السابقة الفاشلة.

فقد تعلموا أن الحرب والعداء المباشر ونفي الدين الإسلامي غير مجد، فلابد من تحسين صورة المحارب الأوربي والجيوش الأوربية الغازية للعالم الإسلامي على أن هدف الأوربيين هو التحضير وتحرير الشعوب من الجهل، أو من ((الاستعمار التركي)) كما صورته الدراسات الأوربية.

وقد تعلموا كذلك أنهم كانوا إبان الحروب الصليبية قد أقبلوا على بلاد لم يدرسوها جيداً، فلابد أن توضع الدراسات الشاملة المعمقة المتشعبة لديار الإسلام في هذه المرحلة من أجل الاختراق ومن ثم الاستيلاء، ولم ينسوا في هذا المجال أن يلتفتوا إلى مسألة التعاون مع الأقليات غير الإسلامية واستغلالها في خلق بؤر وجيوب مناصرة لهم داخل الجسم الإسلامي.

تعلموا هذا كله، واستغلوه أحسن استغلال، وكان الانسجام والتنسيق التام بين الأهداف والوسائل، فكان الاستشراق. وكان ثمة فرق بين ترجمة العلوم الإسلامية إلى اللاتينية أثناء الحروب الصليبية وبعدها، وبين دراسة العالم الإسلامي والتعرف على تراثه وخصائصه وطرق تفكيره وكنوزه ومواطن قوته وضعفه في هذه المرحلة.

فقد كانت الأولى من أجل إثراء الثقافة الأوربية ورفع مستواها إلى الدرجة التي أتاحت لها فعلاً تلك الخطوات الموفقة التي هدتها إلى حركة النهضة. أما المرحلة الاستعمارية فقد كان فيها هذا الانفتاح على عالم الإسلام ودراسته من أجل تعديل حضاري وسياسي في المنطقة الإسلامية نفسها بما يخدم أوربا ذاتها فكان لهذا الاستشراق أهداف متعددة، منها الدينية من أجل تشويه الإسلام والوقوف في وجه امتداده إلى أوربا، ومنها الاقتصادية لتسهيل اكتشاف ممرات البحار الإسلامية، والصحاري الشاسعة في البلاد الإسلامية، وإمداد يد العون للجيوش الاستعمارية، وكانت وسيلتهم في ذلك الرحّالة والمغامرين، فضلاً عن الأهداف السياسية الطامحة إلى وضع مخطط جديد للمنطقة بحيث تلحق كلياً بأوربا، وتصبح جزءاً من منظومتها الحضارية، بعد عمل الوسائل اللازمة لتفريغ العقل الإسلامي من موروثاته وخصائصه كلها.

وكان قبل البدء بالهجوم العسكري والانقضاض على الجسم الإسلامي لابد من رسم خارطة لهذا الجسم. وكانت البداية جيشاً من نمط آخر، جيشاً من الرهبان والقناصل والمتطوعين ممن عرفوا شيئاً من العربية في أوربا، ساحوا في طول العالم الإسلامي وعرضه، يجمعون المخطوطات العربية وغير العربية في بلاد الإسلام شراءً وسرقة، شأنهم في ذلك شأن من سرقوا الآثار الثمينة في أهرامات مصر وغيرها من آثار المدن التاريخية في مشرق العالم الإسلامي ومغربه من طنجا إلى جاكرتا، ثم يتبرعون بهذه الكنوز إلى الملوك أو الكنائس أو المؤسسات التي وظفتهم لهذا العمل الذي سيخدم الاستعمار العسكري ويمهد له.

ثم عضد هذا جيش آخر من المبشرين الذين توزعوا ما بين أفريقيا وآسيا بحماس منقطع النظير، إذ عاشوا في بيئات صحراوية أو استوائية صعبة، يحملهم على هذه التضحيات الأهداف الدينية المسيحية التي نذروا أنفسهم من أجلها. وكان هذا الجيش من المبشرين ينجح في أحيان كثيرة في تنصير الناس من غير المسلمين في أفريقيا وآسيا، وفي أحيان قليلة بين أوساط المسلمين وبين الأطفال والمعوزين والمرضى، لأنهم وجدوا في العلاج الطبي مدخلاً إلى قلوب الناس، إذ كان منهم الطبيب أو ممن له طرف من العلم الطبي. وكانت لديهم إمكانات مادية ضخمة توفرها لهم الكنائس ووزارات ما وراء البحار، وكانوا يستثمرون هذه الإمكانات لتنصير الناس الفقراء خاصة.

وكان هذا التبشير يتقدم ويكسب مواقع جديدة في دار الإسلام فكان يقوم عمله باستمرار بتوجيه من مراكز القرار في أوربا، وقد عقدت عدة مؤتمرات لدراسة ثمار التبشير في العالم الإسلامي، منها المؤتمر الذي ترأسه (زويمر) في القاهرة عام 1956. وقد استوحى أول شاتليه من هذا المؤتمر تعبير (الغارة على العالم الإسلامي) بكل ما تعنيه الغارة من استعداد للغزو بأسلحته ومعداته.

يقول د/ محمد السيد الجليند :ولقد اختلفت مواقف المستشرقين من الفكر الإسلامي وقضاياه تبعا لاختلاف أديانهم أو مذاهبهم الفكرية والسياسية، لأننا نجد بين صفوف المستشرقين اليهودي الحاقد على الإسلام وأهله، والمسيحي الراهب المبشر بدينه، والشيوعي الملحد الذي لا دين له، ولابد أن تختلف مواقف هؤلاء جميعا تبعا لانتمائهم الفكري والعقائدي، ولكن على سبيل العموم كان أسوأ هؤلاء جميعا هم المستشرقون اليهود، فمنهم من يتهم الإسلام بأنه دين فرضه محمد وأتباعه بقوة السيف والحروب.

وفيهم من ينكر نبوة محمد ويرى أن ما جاء به من تعاليم قرآنية أخذها عن أحبار اليهود وكهنة النصارى.

ومن المستشرقين من يتهم إله المسلمين بأنه متعال جبار ؛ بينما إله النصارى عطوف ودود متواضع ظهر للناس في صورة واحد منهم وهو عيسى بن مريم، ولا يكاد يخلو كتاب استشراقي يتصل بالإسلام ونبيه إلا وهو يقطر سما وحقدا على الإسلام والمسلمين، ويفصح بعض المستشرقين عن هذا الحقد المعلن في تعليق صريح له، على الحملات الصليبية فيقول: وهكذا تقهقرت قوة الهلال أمام راية الصليب، وانتصر الإنجيل على القرآن وعلى ما تضمنه من قوانين الأخلاق الساذجة............. الاستشراق وأثره في علاقة الإسلام بالغرب

ولقد تعاون التبشير والاستشراق معاً في اختراق العالم الإسلامي، وعملا على تشويه الإسلام في الذهنية الأوربية، وإضعاف تأثيره بين أبنائه، كما استطاعا أن يكونا سلاحين ماضيين بيد الاستعمار مهد له القيام بمهمته العسكرية والسياسية والثقافية أحسن تمهيد، بل إنهما صنعا جيوباً دينية وفكرية موالية للاستعمار ساهمت في توطيد أركان حكمه فيما بعد.

يقول محمد السيد الجليند: يعتبر الاستشراق من أهم الوسائل التي مهدت للاستعمار العسكري وغزو الشرق ثقافيا وعسكريا، والاستعمار الحديث يعتمد على المستشرقين بصورة فعالة في دراسة نفسية الشعوب، وعاداتها، وتقاليدها، وأفضل الرسائل للسيطرة عليها بأقل قدر ممكن من التكاليف، والذي يتابع أحداث القرن التاسع عشر والقرن العشرين (وهما أكثر القرون في النشاط الاستعماري) يعلم مدى الصلة القوية بين الاستعمار و الاستشراق، ومن هنا فإننا نجد في كثير من سفارات الدول الاستعمارية مستشرقين عاملين بها، ويقع على عاتق هؤلاء المستشرقين مهمة الاتصال بالعقول المفكرة في البلاد التي يريدون السيطرة عليها ثقافيا أو عسكريا وكذلك الاتصال بكبار العاملين في المناصب القيادية في مجالات الثقافة والإعلام والتعليم العام والجامعي ، ولا تنقصهم الوسائل المناسبة في محاولة احتواء هذه الشخصيات عن طريق الصداقة أو المشاركة في أعمال ثقافية أو تقديم الخبرة لهم، أو.. أو.. إلخ، وعن طريق هذه الشخصيات يستطيعون تنفيذ خططهم في غزو البلاد فكريا ثم عسكريا إذا اقتضى الأمر، وقد استطاع الاستعمار الحديث أن يغزو معظم البلاد الإسلامية فكريا وثقافيا عن هذا الطريق، كما استطاع أن ينفذ خططه في السيطرة على عقول كثير من المفكرين في بلادهم ليكونوا هم الأداة لتنفيذ برامج الاستعمار في هذه البلاد. وبلغ الأمر في ذلك مبلغا خطيرا، حتى إن كثيرا من المشتغلين بالثقافة جعلوا أنفسهم بمثابة وكلاء عن المستشرقين في توزيع أفكارهم والدعوة إلى تبنى آرائهم في الفكر الإسلامي وقضاياه، فهذا مندوب عن ماركس والشيوعية، وذاك مندوب عن الوضعية والوضعيين، وثالثهم مندوب الوجودية والوجوديين، وأخر يدعو إلى القول بتأنيس الإله أو تأليه الإنسان.... إلخ وامتلأت المؤسسات الثقافية في- مصر والشام وشمال أفريقيا بوكلاء معتمدين لتوزيع الفكر الاستشراقي على المؤسسات العربية، وشحذ الوجدان العربي بمفاهيمهم تحت مقولات مضللة كالتنوير والتقدمية و النهضوية..إلخ.

......................................... الاستشراق وأثره في علاقة الإسلام بالغرب

صور ة العالم الإسلامي في الفكر الغربي

وكيف تعامل معها الغرب؟!

بناءً على هذا الجهد المسبق الدؤوب الذي كان أبطاله من الرحالة والمكتشفين والتجار والمغامرين والمبشرين والمستشرقين، تكونت الصورة كاملة في الذهن الأوربي عن (الآخر)، وبدأ الهجوم والانقضاض على ديار الإسلام مشرقها ومغربها، ولم يكن هذا الهجوم من دولة واحدة، ولا في وقت واحد، بل من دول أوربية عدة، وفي أوقات متعددة. انطلقت أوربا الفتية تطوق دار الإسلام من شواطئ المغرب إلى شواطئ الهند وجاوة وسومطرة. كان ذاك ابتداءً من يوم تهاوت قلاع الإسلام في الأندلس فكان الأسبان والبرتغاليون مزهوين بروح الانتصار قد انطلقوا إلى شواطئ الأمريكتين، وإلى شواطئ أفريقيا الغربية والجنوبية ثم إلى جنوب شرقي آسيا، وكانوا يقتلون يدمرون الحواضر والمدن السياحية بمدافعهم ونيرانهم، ثم تجرأوا وأخذوا يتابعون المسلمين الفارين من مذابحهم في الأندلس، فاحتلوا كثيراً من الموانئ المغربية، ثم توجهوا صوب الموانئ الجزائرية، فاحتلوا تلمسان ووهران، حتى وصلوا إلى طرابلس الغرب، ونكلوا بأهلها أشد التنكيل، ثم لم يلبثوا أن تخلوا عنها لفرسان القديس يوحنا.

وكان الهولنديون يتسابقون والبرتغاليين كفرسي رهان في خوض بحار المسلمين، فقد أعقبوا البرتغاليين في احتلال الخليج، ثم نافسهم في السيطرة على جزر الفلبين وأندونيسيا وماليزيا وجنوب الهند، وكانت لهم شركاتهم التجارية مثل شركة الهند الشرقية التي كانت سابقة لمثيلتها الإنجليزية التي مهدت لاحتلال الهند، درة تاج المستعمرات البريطانية بعدئذ.

وكانت الغلبة النهائية لبريطانيا في الخليج في أواخر القرن السادس عشر بعد طرد الهولنديين منه، ثم دخلت فرنسا وألمانيا وغيرهما من الدول الأوربية بقوة في احتلال المناطق الإسلامية في آسيا وأفريقيا المنطقة تلو المنطقة، وكان هذا قبل الحرب العالمية الأولى والسيطرة الكاملة على العالم الإسلامي.

وقصة هذا الغزو العسكري طويلة ودامية، ونريد أن نشير فقط إلى بعض المواقع لنرصد الخطوط العامة لهذا التسابق الأوربي الشره لتدمير العالم الإسلامي. فبعد السيطرة البرتغالية والهولندية والبريطانية على بحار جنوب شرق آسيا واستثمار بلاد التوابل والعجائب، دخلت فرنسا بقوة لتحتل مصر بقيادة نابليون فيما سمي بالحملة الفرنسية عام 1798. وكثيراً ما يؤرخ لهذه الحملة على أنها فاتحة تنوير ونهضة لبلاد العرب، في حين إنها ـ كما يلاحظ كاتب عربي كبير مثل محمود محمد شاكر ـ جاءت لوأد النهضة التي كانت تتحفز على يد العلماء الكبار مثل الجبرتي والبغدادي والزبيدي، فكان أن نقلت كنوز القاهرة من المخطوطات خلال ثلاثة أعوام من الاحتلال إلى باريس.

ثم تلا ذلك حملتها على الجزائر عام 1830، وما رافقها من مجازر ومذابح استمرت حتى عام 1847 عام استسلام بطل المقاومة الأمير عبد القادر الجزائري، وليظل الاحتلال مائة عام كاملة من المظالم والدمار للحرث والنسل والدين والحضارة، وكان عام 1882 حيث احتلت فرنسا بقوتها وجبروتها تونس، وأكملت أطباقها على الشمال الأفريقي عام 1916 حين فرضت الحماية على المغرب، ثم واصلت امتدادها في أفريقيا عبر الصحراء الكبرى لتحتل السنغال والنيجر ومالي وتشاد والكاميرون وغيرها، وكان ذلك بفضل قوتها العسكرية التي كونتها من النهب الاستعماري للعالم الإسلامي، وبفضل جيش الرحالة والمبشرين وموظفي وزارة ما وراء البحار.

وفي طرف آخر من العالم الإسلامي كانت بريطانيا تكون إمبراطوريتها التي لا تغيب عنها الشمس من الهند فأفغانستان ثم إيران والخليج، حتى إذا ما أعلنت الحرب العالمية الأولى كانت حصة الأسد لها من أملاك الدولة العثمانية، فكان أن احتلت العراق وفلسطين والجزيرة العربية. ومن المعلوم أن مصر وقعت بأيديهم منذ عام 1882م.

ولقد عبر عن هذا الحقد الصليبي على الإسلام قائدهم الجنرال اللنبي حين احتل القدس ووقف على قبر صلاح الدين الأيوبي قائلاً: ((اليوم انتهت الحروب الصليبية)).

ولقد أشرنا من قبل أنه ما من دولة أوربية إلا كانت تتمنى أن يكون لها نصيب من أشلاء العالم الإسلامي، فهذه إيطاليا بعد امتلاكها للحبشة تنظر يمنة ويسرة لتبتلع أقرب أرض إسلامية لها، ألا وهي ليبيا، وكان لها أن احتلتها عام 1911، وكان احتلالاً لم يعرف إلا الحرائق والتدمير والتهجير والإبادة، بحدودهم إلى ذلك حقد ربما فاق أحقاد الصليبيين الآخرين. هاك نشيدهم الذي كان يردده جندهم آنذاك، وهو من نظم شاعرهم العنصري رانزيو:

يا أماه ..

أتمي صلاتك، ولا تبكي، بل اضحكي وتأملي

ألا تعلمين أن إيطاليا تدعوني

وأنا ذاهب إلى طرابلس فرحاً مسروراً

لأبذل دمي لسحق الأمة الملعونة

ولأحارب الديانة الإسلامية التي تجيز البنات الأبكار للسلطان

وسأقاتل بكل قوتي لأمحو القرآن!!.

وهكذا تناوشوا قلب العالم الإسلامي وأطرافه، وعقدوا المؤتمرات الدولية لاقتسام الحصص، وكان المسلمون في هذه المؤتمرات كالأيتام على مائدة اللئام، فكان مؤتمر سايكس بيكو عام 1916 بعد الحرب العالمية الأولى، وكانت الشعارات التي تفتقت عنها العبقرية الأوربية في المكر والدهاء والخبث، مثل شعار الحماية والوصاية وتقرير المصير، وكانت كلها حبراً على ورق، وكانت من قبيل ذر الرماد في عيون الأمم المغلوبة التي لا تستطيع تقرير مصيرها إلا إذا قرر السيد القوي تقرير هذا المصير، وقد قرر العبودية للأمم المغلوبة، حتى ولو دخلت دين النصرانية نفسه!! فهذه أفريقيا دخلت بعض دولها في النصرانية ودخل بعض الفقراء منها في هذا الدين، فهل وجدوا العزة والغنى والتقدم؟! أم أن الاستغلال والاقتصاد هو الدين الأول لأوربا قبل أي دين؟!!.

ولعل المرء يتصور أن الأوربيين نظروا إلى الشعوب المستضعفة التي وقعت في شراك احتلالهم، وخاصة أمة الإسلام على أنها شعوب قاصرة، لم تبلغ سن الرشد بعد، وهي ـ بهذا ـ بحاجة إلى حماية عم أو ولي حميم، وكان هذا العم أو الولي، أوربا بكنيستها واستعمارها ورؤسائها المكرة!!.

ولو رجعت إلى الفترة التي تم فيها ذلك الانتداب والحماية والوصاية، ونظرت إلى حنان ذلك الولي ومسؤوليته إزاء الطفل القاصر، كيف كان التدجين له على أن يكتسب لساناً جديداً وعادات غير عاداته، وديناً غير دينه، وكيف كانت عمليات التفسخ والمسخ والإلحاق بحضارة الوصي، ودينه. وكيف كان العمل قائماً على قدم وساق، ولكن بشكل غير مكشوف في بعض الأحيان، من أجل أن يكون العالم الإسلامي كله تابعاً للمركز الأوربي سياسياً واقتصادياً وحضارياً ..

وارجع ثانية إلى فترة الحماية والوصاية آنذاك وتأمل كيف كانت تدار الحكومة، أبالملك أو الرئيس، أم بالمستشار الإنجليزي الذي يحرك الملك والرئيس، كما تحرك اليد دمى (الأراجوز) في لعبة خيال الظل أو لعب الأطفال؟!!.

وكانت الوسائل الاستعمارية التي نادى بها الاستشراق في العالم الإسلامي تهدف كلها إلى إضعاف الروح الإسلامية بين الشعوب، وتعمل على بث الفرقة بين أبناء الشعب الواحد ليسهل بعد ذلك السيطرة عليها، كما روج المستشرقون كذلك لبعض القضايا التي كان لها أخطر النتائج في ازدياد عوامل الفرقة بين صفوف المسلمين، فمن ذلك مثلا:

العمل على إحلال العاميات محل اللغة الفصحى في مصر وغيرها بدعوى أن الفصحى ليست قادرة على مسايرة الكشوف العلمية المتطورة، وكان أول من نادى بها في مصر المستشرق الألماني (ولهلم سبيتا) وكان يعمل مديرا لدار الكتب المصرية خلال الثلث الأخير من القرن التاسع عشر، ووضع كتابه (قواعد اللغة العربية العامية في مصر) سنة 1880 م مجد فيه اللغة القبطية في مصر، ودعا دول العالم العربي إلى الأخذ بالعاميات بدلا من الفصحى، ولا يخفى ما في هذه الدعوى من الخطر على الإسلام ولغة القرآن.

ثم تابع نفس القضية (اللورد دوفرين) في تقرير وضعه سنة 1882 م

أعلن فيه أن العامية هي سبيل النهوض والتقدم في مصر، وجاء بعده المستشرق الألماني (كارل فولرس) مدير دار الكتب المصرية بعد " ولهلم" فوضع كتابه (اللهجة العامية الحديثة) دعا فيه إلى هجر الفصحى وحث العرب على استخدام الحروف اللاتينية بدلا من العربية، ثم تتبع القضية في مصر سلامة موسى النصراني في مطلع هذا القرن، ومازلنا نسمع صداها إلى الآن ونقرأ ذلك في كتابات بعض المشتغلين بالشئون الثقافية و التربوية.................................. الاستشراق وأثره في علاقة الإسلام بالغرب

ومهما يكن فقد وقع العالم الإسلامي في كماشة الصليبية الجديدة، وحكم حكماً عسكرياً مباشراً أحياناً وحكماً غير مباشر على أيدي أناس أمناء على مصالح الاستعمار في أحيان أخرى، إلى أن جاءت المرحلة التي أخذت شعوب العالم تنتقض على هذا الكابوس الاستعماري لتتحرر منه فكان للعقل الأوربي الذي قطع شوطاً بعيداً في ميادين العلم أن يوظف أدوات للعلم خارج المعامل والمختبرات حيث ميدان السياسة والعلاقات بين الأمم، فكانت له لعب وأساليب جديدة في التعامل مع الثورات ومع الشعوب المطالبة بالاستقلال، فصار يأخذ باليسار ما يعطيه باليمين بحيث أفرغ بعض الاستقلالات من محتواها، وعاد الاستعمار من جديد ولكن بأثواب جديدة، وبقيت الأغلال ترسف من جديد بالرقاب، ولكنها ربما تكون أغلالاً من ذهب!! كي يُمنّي العبد أو الأسير نفسه بما يرى، وأنى له ذلك التمني!!.

على أنه من الضروري الإشارة إلى ردود الفعل من لدن إنسان المنطقة المسلم على وجه الخصوص، متمثلاً بقادته وعلمائه والمثقفين الأحرار منه. فلم تكن جيوش الاستعمار لتجد أرضاً خالية دون شعوب أو حضارات، بل ودت أمة كانت ـ في الحقبة السابقة من الزمن ـ معلمة للعالم ومنه أوربا نفسها، وكانت صاحبة حضارة تميزت بعقيدة ربانية وعلم نافع وتعامل مع الشعوب رحيم رؤوف، ولكن عوادي الزمن ـ ولأسباب كثيرة ـ جعلتها تضعف وتتخلى عن وظيفتها القيادية. ولكنها لم تستكن لجحافل الغزاة بل كانت تقاوم على قلة من السلاح وعدم تكافؤ في القوة. فكانت تقاوم الروس كما تقاوم الإنجليز والفرنسيين على السواء فكان أبطال المقاومة من أمثال الشيخ شامل في المناطق الإسلامية التي احتلها الروس، وعبد الكريم الخطابي في المغرب، وعبد القادر الجزائري في الجزائر، وعمر المختار في ليبيا، وأحمد عرابي في مصر، ومحمد تقي الشيرازي، قائد ثورة العشرين في العراق، بالإضافة إلى أبطال المقاومة الآخرين في إيران، وفي الشام، وفي السودان.

ومثلما كان الأمر على مستوى المقاومة العسكرية، كانت هناك المقاومة الثقافية التي حاولت أن تحافظ على أصالة الأمة وحضارتها، وكان لهذا الميدان رجاله من العلماء والساسة والأدباء، ولكن كفة المحتل بما لديه من قوة وإغراء وسيطرة على مقاليد الحكم جعل الميزان يميل لصالح كفة المتغربين والراضين بـ (نعمة) الاحتلال، والداعين إلى الأخذ بحضارته، خيرها وشرها، حلوها ومرها، كما جاء على لسان واحد من دعاة التغريب.

.................................................. الثقافة الإسلامية

ما مستقبل العلاقة مع الغرب؟!

وهل سينتهي الغرب يوماً عن ظلمه؟!

كيف سيكون مشهد العلاقة بين الشرق والغرب، هل ستستمر الحدود الدموية التي رسمتها الأطماع التاريخية بين شطري العالم، أم سينصت الإنسان لصوت العقل ويدرك أن عصر الحروب المعمد بالدم ينبغي أن ينتهي ويحل محله عصر الحوار والتفاهم؟!.

من المؤسف أن فلاسفة الموت يجدون في الأخبار كل يوم ما يذكي نظريتهم عن صدام الحضارات، حيث يؤكدون أن الإسلام والحوار سخافة لا وجود لها في التأريخ وعلى الإنسان أن يمضي في خياره المجنون إلى المواجهة بالدم.

كانت فكرة "صراع الحضارات" التي أطلقها المستشرق اليهودي برنارد لويس، وقام بتأصيلها والترويج لها عالم السياسة الأمريكي صمويل هنتنجتون ابتداء من عام 1993م، جاهزة لتسويغ وتبرير المواجهة بين الغرب والعالم الإسلامي، ذلك أن هنتنجتون بعد أن ميز بين سبع حضارات في العالم (الغربية، الأمريكية اللاتينية الأرثوذوكسية، الإسلامية، الكونفوشيوسية، الهندوسية، اليابانية، ورشح الأفريقية كحضارة ثامنة محتملة)- فإنه دعا إلى الاحتشاد في مواجهة الحضارة الإسلامية بوجه أخص، في الأغلب بسبب أنها أكثر استعصاء على الاحتواء من أي حضارة أخرى على وجه الأرض، من ثم فإن رسالته التي تعبر عن رأي مدرسة كاملة هي التأكيد على أن الصراع ليس محله المصالح فحسب ولكنه أصبح بعد انتهاء الحرب الباردة صراع ثقافات وأديان.

وكان كتاب "البرابرة والحضارة في العلاقات الدولية"، لمؤلفه مارك سالز حلقة في هذا الاتجاه، إذ قسم العالم إلى متحضرين يمثلون النموذج واجب الاحتذاء، وهؤلاء هم الغربيون أساساً، وبرابرة متخلفين يقفون على الشاطئ الآخر المواجه لهم، وهم مصدر العنف والفوضى في العالم (وهم المسلمون بالطبع ) .

هل تعلم الإنسان من الماضي أن منطق الصدام الحضاري معناه استمرار الحياة في الجنون، عبر جدلية البناء والتدمير العابثة الخائنة؟!!!.

وأن لغة القوة مهما كانت صارخة وقاهرة هي منطق مترنح في النهاية وأن دورة التأريخ لن تتوقف، وتلك الأيام نداولها بين الناس والعاقبة للمتقين.

إننا لا نبالغ إذا قلنا أنه ما من شيء في الإسلام إلا وتعرض للتجريح من الله سبحانه وتعالى إلى شخص النبي عليه الصلاة والسلام إلى القرآن الكريم، الذي جرى التشكيك في مصدره وصياغته، فضلاً عن التنديد بقيمه ومعانيه " خصوصاً الجهاد" وذلك بالإضافة إلى الهجوم الحاد على الشريعة، وتسفيه تعاليمها ومقاصدها.

وإذا كان ذلك حظ الإسلام كدين، فإن حظوظ المسلمين لم يكن أفضل، حيث تعرضوا لحملة شرسة استهدفت اغتيالهم معنوياً،والتي نجحت إلى حد كبير في تنفير الغربيين من الإسلام والمسلمين، الأمر الذي أدى إلى تكرار وقوع حوادث الاعتداء عليهم وعلى بيوتهم على نحو لافت للنظر، رصدته المؤسسات الإسلامية المعنية وفضحته.

قرأت وصفاً لتلك الأجواء في مقالة نشرتها مجلة "المنار الجديد" للدكتور محمدي حامد الأحمدي رئيس مجلس أمناء التجمع الإسلامي في أمريكا الشمالية قال فيه أن الإعلام الأمريكي صار يربط بسخرية لافتة بين مفردات مثل قرآن وباكستان وأفغانستان، وجهاد وعرب وإسلام وشرق أوسط وفلسطين وطالبان، في خلطة من مجموعة من العبارات المكروهة والمستبعدة، التي أصبحت تكرر بطريقة تثير القرف لدى السامع وتعرض غالباً مرتبطة بصورة لنساء أفغانيات يضربن رجلاً في الشارع، أو بصورة زانية يقام عليها الحد في ملعب في كابل، أو قصة الحكم بإعدام زانية أخرى في نيجيريا، أو بالمباني المهدمة في نيويورك، أو دماء يهودية في الشارع أو مطعم يهودي أو سيارة مفجرة، ولا يتردد كبير المذيعين في "سي ان . ان" لاري كينج أن يقول أن حربنا هذه مع سكان الكهوف، وغالباً تقدم في سياق يتجاوز أفغانستان ليشمل العرب والمسلمين في العالم أجمع.

إذن فصورة الإسلام والمسلمين في الوجدان الغربي سلبية بوجه عام منذ الحروب الصليبية (كما سبق أن و بينا )، التي بلغت جهود التنفير من الإسلام ذروتها، وكان ذلك التنفير جزءاً من حملة التعبئة المضادة التي استهدفت استنفار شعوب أوروبا وتحريضها للانضمام إلى الجيوش التي اتجهت نحو القدس لتخليص مهد المسيح من أيدي المسلمين"البرابرة" و"الأشرار".

فالبابا أوربان الثاني الذي فجر الحروب الصليبية قال في مجمع كلير مونت في سنة 1095: ' إن إرادة الرب تحتم على المسيحيين تخليص بيت المقدس من أيدي إمبراطورية الشيطان '. وعندها خر الكهنة الحاضرون راكعين تحت قدمي البابا !

والبارون دي كارافو يقول: ' أعتقد أن علينا أن نعمل جاهدين على تمزيق العالم الإسلامي وتحطيم وحدته الروحية مستخدمين من أجل هذه الغاية الانقسامات السياسية والعرقية .. دعونا نمزق الإسلام بل نستخدم من أجل ذلك الفرق المنشقة والطرق الصوفية .. وذلك لكي نضعف الإسلام ، لنجعله عاجزًا إلى الأبد عن صحوة كبرى ' ...............................................................مروان بحيري – الدراسات الاستعمارية في الإحياء الإسلامي في القرن 19 .

ويقول يوجين روستو اليهودي:' إن الحوار بين المسيحية والإسلام كان صراعًا محتدمًا على الدوام ، ومنذ قرن ونصف خضع الإسلام لسيطرة الغرب أي خضعت الحضارة الإسلامية للحضارة الغربية والتراث الإسلامي للتراث المسيحي وتركت هذه آثارها البعيدة في المجتمعات الإسلامية' ...........................نقلا عن عبد الوراث سعيد ' أمتنا والنظام العالمي الجديد ' ..

ويقول مورو بيرجر في كتابه ' العالم العربي ': ' لقد ثبت تاريخيًا أن قوة العرب تعني قوة الإسلام فليدمروا بتدميرهم الإسلام ' .........................................................................................جلال العالم – قادة الغرب يقولون – المختار الإسلامي .

ويضيف مورو بيرجر: ' إن الخوف من العرب واهتمامنا بالأمة العربية ليس ناتجًا عن وجود البترول بغزارة عند العرب ، بل بسبب الإسلام ، ويجب محاربة الإسلام للحيلولة دون وحدة العرب التي تؤدي إلى قوة العرب ، لأن قوة العرب تتصاحب دائمًا مع قوة الإسلام وعزته وانتشاره' ....................................................................محمد محمد الدهان – قوى الشر المتحالفة – دار الوفاء .

ويقول ج . سيمون: ' إن الوحدة الإسلامية تجمع آمال الشعوب السمر وتساعدهم على التخلص من السيطرة الأوروبية 'د . عمر فروخ التبشير والاستعمار

ويقول سالازار دكتاتور البرتغال السابق: ' إن الخطر الحقيقي على حضارتنا هو الذي يمكن أن يحدثه المسلمون حين يغيرون نظام العالم ' ! ولما سأله أحد الصحفيين: ولكن المسلمين مشغولون بخلافاتهم عنا .. أجابه: ' أخشى أن يخرج من بينهم من يوجه خلافهم إلينا ] جلال العالم مصدر سابق.

ويقول ريتشارد هرير دكمجيان: ' إن قلة فقط خارج نطاق العالم الإسلامي كانت قادرة على توقع انبعًاث إسلامي في البيئة المعًاصرة وإن ضعف البصيرة في مجال التصور الذي أحدثته المادية الغربية والماركسية قد أعمى بقوة كل العلماء ورجال الدين الذين مالوا إلى استبعًاد قوة الإسلام أو التقليل من شأنها ' ريتشارد هرير دكمجيان – الأصولية في العالم العربي – ترجمة عبد الوارث سعيد – دار الوفاء .

ويحذر المفكر الألماني باول شمتز قائلاً : ' سيعيد التاريخ نفسه مبتدئا من الشرق ، عودا على بدء من المنطقة التي قامت فيها القوة العالمية الإسلامية في الصدر الأول للإسلام وستظهر هذه القوة التي تكمن في تماسك الإسلام ووحدته العسكرية ، وستثبت هذه القوة وجودها ، إذا ما أدرك المسلمون كيفية استخراجها والاستفادة منها وستقلب موازين القوى لأنها قائمة على أسس لا تتوافر في غيرها من تيارات القوى العالمية ' .....................................................................باول شمنز – نقلا عن عبد الوارث سعيد – أمتنا والنظام العالمي الجديد .

ويقول المفكر الإنجليزي هيلد بيلوك: ' لا يساورني أدنى شك في أن الحضارة التي ترتبط أجزاؤها برباط متين وتتماسك أطرافها تماسكًا قويًا ، وتحمل في طياتها عقيدة مثل الإسلام لا ينتظرها مستقبل باهر فحسب بل ستكون أيضًا خطرًًًا على أعدائه '.

هذه الخلفية تركت بصماتها على ثقافة المواطن الغربي، وانعكست على مناهج التعليم ومختلف المراجع الثقافية وساعدت على تشكيل إدراك غربي لا يكن وداً للإسلام والمسلمين. ومن ثم كان ذلك الإدراك مستعداً لاستقبال البث الإعلامي الذي كان أغلبه معادياً للاثنين، سواء بسبب التأثير الصهيوني أو بتأثير من بعض العناصر المتعصبة التي تعاملت باستعلاء وازدراء مع العرب والمسلمين.

يقول الكاتبان جراهام فوللر، وأيان ليسر : لم يكن وصول الجيوش المسيحية من أوروبا إلى الأراضي المقدسة في فلسطين لخوض حرب صليبية سوى بداية لحملة أوروبية عامة طويلة المدى لاستعادة الأراضي الخاضعة لسيطرة المسلمين في أسبانيا وصقلية والمشرق. واستطاعت الجيوش الصليبية على مدى مئة عام أن تستولي على كل الأراضي المطلة على شرق المتوسط تقريبًا ابتداء من الحدود التركية إلى الحدود المصرية. وبحلول عام 1187م استطاعت الجيوش الإسلامية التي جاء رد فعلها بطيئًا أن تقضي في نهاية المطاف على المملكة المسيحية في بيت المقدس وأن تستعيد المنطقة للسيطرة الإسلامية.

ولكن الحروب الصليبية أصبحت منذ ذلك الحين حدثًا له آثاره الوجدانية العميقة عند المسلمين ولم يعد يشمل فقط الغزو المادي للجيوش الغربية وإنما يمثل أيضًا قيام دول مسيحية فوق الأراضي الإسلامية أيضًا وباتت هذه الأحداث بمثابة المقدمات الأولى للاستعمار والإمبريالية الغربية في العصر الحديث وارتبط بها أيضًا تأسيس دولة يهودية في فلسطين عام 1948.

وكذلك فإنه لا تزال كلمة أندلس تستثير في عقول المسلمين عظمة وأمجاد الماضي مثلما تثير مشاعر الحزن العميق إزاء ضياع مجد هو أعظم أمجاد الإسلام إشراقا في العصر الوسيط خصوصا أن المجتمعات الإسلامية الكبيرة التي أجبرت أن تحيا في ظل حكم مسيحي، عاشت حياة من المعاناة هي على النقيض تماما من الحياة التي عاشها المسيحيون على امتداد القرون في ظل الحكم الإسلامي. ........من كتاب [الإسلام والغرب بين التعاون والمواجهة] الصادر عن مركز دراسات الشرق الأوسط بواشنطن وقام بترجمته مركز الأهرام للترجمة والنشر

الصحوة الإسلامية المباركة

تقول هانتر: " فوجئ الغرب بهذه الظاهرة العارمة ظاهرة الصحوة الإسلامية، وراح يحللها بوسائله وتصوراته ليكتشف نقاط القوة والضعف فيها ومن ثم يعمل على مواجهتها " إذن من المهم أن تحدد الأسباب الأساسية للظاهرة الإسلامية وأبعادها المعادية للغرب وان تقوم في شكل صحيح وان يتم تبني السياسات الملائمة للتعامل معه...... مستقبل الإسلام والغرب لشيرين هانتر ص 99.

إن الصحوة الإسلامية في الأساس جاءت لترد على (التخلف، والتمزق، والعلمانية)، ولتحقق العودة إلى الإسلام بكل مقتضياته. فالإسلام دين التقدم، يدعو إلى العلم بشتى، أنواعه، ويطلب من الأمة الإسلامية أن تحقق كل عناصر القوة، وان تبذل أقصى جهدها لتكون خير الأمم، ولتكون في الطليعة الحضارية للناس والتخلف حالة غير طبيعية مطلقاً.

والإسلام دين الوحدة الإسلامية، والتخطيط الإسلامي للوحدة واضح تماماً، فالقانون واحد، والقائد واحد، والعواطف واحدة والشعارات والعبادات واحدة، وثروات الأمة هي ملك كل الأمة وقد جعلت لها قواماً وقياماً، وحقوق المسلمين جميعاً متكافئة لا بل قد يشترك كل المسلمين في بعض أنواع الملكية، والتكافل والتوازن في مستوى المعيشة شاملان لكل المسلمين، والمسلمون جميعاً مسؤولون عن مجموع الأمة وحدودها مسؤولية مشتركة.

أما الحالة الراهنة، والتبريرات التي تساق لها فهي كلها استثناءات يجب أن يعمل الجميع على حذفها في النهاية والعودة إلى واقع الإسلام. ولا نجد عالماً أو حتى مجرد مطلع على حقيقة الإسلام يجادل في هذه الحقيقة الواضحة.

والإسلام دين الحياة فلا يمكن أن ينسجم مع العلمنة بأي تعريف جاءت، وأية صفة اتخذت ايجابية أم سلبية أما الاستناد إلى التجارب القائمة فهو مجرد خداع لأنها تجارب مفروضة على العالم الإسلامي ومتنافية مع حقيقة الإسلام..................................... جزء من مقال للدكتور عبد الله التركي.

وفي ظل هذا الدين الخاتم يمكن أن يلتقي البشر جميعاً على عبادة الله وحده، واتباع القيم الخلقية النبيلة في التعامل فيما بينهم، بما يحقق العدل ويحفظ مصالح الناس.

إن الصحوة الإسلامية إذن تدعو للتفوق الإسلامي الحضاري فلا ينبغي أن يثير ذلك حفيظة الآخرين إن كانوا يملكون الروح الرياضية الحضارية، وأنى لهذه الروح أن تسود.

أما عن عوامل هذه الصحوة فإننا نتصور هذه العوامل كما يلي:

أولاً: طاقات الإسلام الذاتية التي لا تفتأ تمد المسلمين بدوافع التغيير، وتشدد على الحفاظ على الهوية الحضارية بعد أن أعطتها معالمها الشاملة ، بل وتدفع دائما على الحفاظ على التفوق أو استعادته إذا فقد.

ثانياً: اشتداد الحملة الأوربية على العالم الإسلامي بحيث استباح الغرب كل الثروات، واستعمر معظم البلاد، واعتدى على الهوية الثقافية، بل راح يهاجم المكونات العقائدية والأخلاقية، وينشر الرذائل، ويمزق النسيج الاجتماعي من خلال عملائه الحقيقيين أو الثقافيين، ويزرع الكيان الصهيوني الغاصب في قلب العالم الإسلامي. ولا ريب أن حملة من هذا القبيل سوف تواجه برد فعلٍ قوي من أمة يبقى الإسلام فيها حياً ، رغم عمليات القضاء عليه.

ولعل الغرب شعر بهذه الحقيقة حين حاول التنفيس والاستعاضة عن ذلك بإعطاء الاستقلال الصوري لبعض المناطق الإسلامية. ولكن هذا العمل بنفسه وفر فرصةً لنمو الصحوة الإسلامية بشكل واسع و طرح الإحساس الإسلامي بالإسلام الشمولي في الستينات واتساعه بشكل مرعب للغرب في السبعينات والثمانيات.

ثالثاً: فشل كل الحلول والأطروحات البديلة للمقاومة والتغيير، لأنها كانت تحمل في داخلها عناصر فشلها. لقد فشلت الأطروحة القومية الضيقة رغم التطبيل والتزمير، ورغم نزولها المبكر إلى الساحة وتحقيقها الكثير من الأهداف الغربية ومسحها الكثير من السمات الإسلامية في تركيا وغيرها. ذلك لأنها لا تنسجم مع الطبيعة الإسلامية التي تتجاوز القوميات.

كما فشلت الاشتراكية لأنها اعتمدت على أسس الحادية رغم تمتعها ببعض الشعارات المنسجمة مع بعض التعاليم الإسلامية كالعدالة الاجتماعية والدفاع عن المحرومين ومعاداة الاستعمار.

وفشل الشكل التركيبي (الاشتراكي القومي) أيضا لأنه أيضا تركيب وهمي لا ينسجم مع الحس الإسلامي ولا يعبر عن أية إضافة معرفية.

رابعاً: ظهور شخصيات دعوية كبرى كان لها الأثر المتفاوت في إيجاد هذه الصحوة أو مقدماتها أو ترشيدها أو إعطائها طاقات حماسية وفكرية أو منحها الثقة بنفسها والأمل الواعد بمستقبلها الحتمي، إضافة للوعود الإلهية الحتمية بانتصار المؤمنين، والمستضعفين، وحلول العدل الشامل.

خامساً: ويجب أن لا ننسى دور التطورات والحوادث الكبرى في إذكاء هذه الصحوة من قبيل:

1. تنامي مستوى وسائل الاتصال ، والحركة المعلوماتية ووسائل الإعلام المرئية والمسموعة

2. .ارتفاع مستوى التعليم الإسلامي.

3. تطور أساليب الدعوة إلى الإسلام.

4. توفر بعض أجواء الحرية في العالم الإسلامي.

5. اشتداد حركة مقارعة الاستعمار.

6. قيام المؤسسات الدولية الإنسانية المدافعة عن حقوق الإنسان والداعية لتنظيم العلاقات الدولية على أسس إنسانية.

7. حدوث بعض الحوادث المروعة كإحراق المسجد الأقصى أو هزيمة عام 67.

8. انتصار المجاهدين الأفغان على الاتحاد السوفيتي.

9. انهيار الاتحاد السوفيتي وتحرر الدول الإسلامية.

وغير ذلك من التطورات التي ساهمت في اتساع الصحوة الإسلامية ونشر مفاهيمها ودعوتها في رفض التخلف والتمزق والعلمنة، والعودة إلى الحل الإسلامي الذي لا بديل له.

ومن الجدير بالإشارة هنا أن الغرب لم يأل جهداً في إجهاض الصحوة، ومقابلتها ، وإلهائها واتهامها بشتى التهم من قبيل (التخلف والرجعية، والتطرف والأصولية، والعنف والإرهاب،) ولم يعدم من قدم له الذرائع من المسلمين ممن عرض فكراً رجعياً، أو سلك مسلكاً متطرفاً، أو عمل عملاً إرهابيا،. ولكن الواضح تماماً أن هؤلاء لا يمثلون الاتجاه الإسلامي العام فضلاً عن أن يكون سلوكهم ممثلاً للصحوة الإسلامية أو معبراً عن روح الإسلام وتعاليمه).

ولذا نلمح في الأفق السمات التالية:

أولاً: اتساع حركة الصحوة الإسلامية وتجذرها بحيث لا تنفع معها أساليب الحذف أو التحريف.

وإذا أردنا أن نستدل لهذا التوقع ، وتجاوزنا المسألة العقدية التي نؤمن بها دون أي شك، فانا نشير إلى مظاهر الصحوة التي تعم العالم الإسلامي من ارتفاع مستوى الأمل لدى جماهيرنا الإسلامية، وانتشار التقاليد الإسلامية كالحجاب وأنماط التعاون والعبادات انتشارا واسعاً، واتساع حركة المطالبة بتطبيق الشريعة في كل الحياة ، وتشكل المنظمات الإسلامية ودخولها إلى الساحة السياسية والاجتماعية بكل قوة، وانهزام الفكرة العلمانية مرحلة بعد مرحلة ، وزوال الأمل بغير الإسلام على الساحة الفلسطينية وأمثالها من ساحات المقاومة ، واتجاه النخبة والجماهير نحو ثقافة الوحدة والتقريب، والسعي الحثيث على كل المستويات لنبذ التخلف، وغير ذلك.

ثانياً: اتجاه الدول الإسلامية نحو التعاون الأكبر، والعمل على وضع آليات جديدة لتفعيل المؤسسات الشمولية وإحساسها جميعاً بالخطر المشترك.

ولا نريد أن نكون متفائلين أكثر من اللزوم ولكننا ندرك هذه الرغبة لدى القسم الأكبر، ونرجو أن تتحقق خصوصاً وأن المسألة لم تعد بيد الحكومات وحدها فالعصر عصر الجماهير.

ثالثاً: ارتفاع مستوى أهمية العالم الإسلامي في مختلف المجالات. صحيح أنه أحيانا لا يدرك هذه الأهمية ولكنها حقيقة قائمة لا يمكن إنكارها أو التغاضي عنها فلدى هذه الأمة.: الكم البشري الهائل، والقدرات الإستراتيجية الفريدة والمواقع الجغرافية المتحكمة، والعقول العلمية المتقدمة، وفوق كل ذلك لديها الطاقة الحرارية والحضارية الإسلامية التي لا تنضب

الحضارة المادية إلى زوال

العقل الغربي بعد الذي بلغه من شأو وعلو قي (الجوانب المادية)، يكتسب ثقة في النفس مبالغاً فيها، ثم وهو يرى تخلف المسلمين وتدهور أوضاعهم ـ في الجوانب المادية طبعاً ـ ، أقتنع بأنه الأرقى والأرفع والأكمل، وأن حضارته هي "نهاية التأريخ" ولا تقبل منافسة من أي أحد ، و بسبب ذلك فإن العقل الغربي وهو في مكانته العملية تلك أصبح رافضاً لفكرة الندية مع الحضارات الأخرى، ثم أنه لم يعد قادراً على استساغة فكرة أن مجتمعاً آخر –متخلفاً مثلنا – يمكن أن يكون عصياً على الاحتواء أو رافضاً للنموذج الغربي، وهذه مشكلة لم يستطع كثيرون من الغربيين استيعابها حتى الآن.

ويلخص الأستاذ منير شفيق في كتابه: ' الإسلام في معركة الحضارة ' نقاط الضعف في الحضارة الغربية كالتالي:

1 – التطور العام غير المتوازن بالنسبة إلى مختلف المجالات ، فقد تكثف في المجالات المادية واختل على مستوى العلاقات الإنسانية والأخلاقية مما يؤدي في النهاية إلى الإسراع بسقوطها لأن حالها يصبح كحال الذي يقف على قدم واحدة ، فمهما بلغت قدمه من القوة إلا أنها ضعيفة حين يتعرض الجسد كله إلى هزة قوية .

2 – اتسعت الهوة بين أصحاب تلك الحضارة والغالبية العظمى من شعوب العالم مما دفع بها إلى مواجهة قوى لا قبل لها بها ، فالأقلية الظالمة مهما قويت وتمكنت تظل ضعيفة أمام قوة الأغلبية المظلومة صاحبة الحق ، فالتضاد مع حقوق غالبية الشعوب ومصالحها يؤدي إلى انهيار تلك الحضارة مهما طال الزمن .

3 – التآكل الداخلي يشكل سمة أساسية مميزة لمجتمعات الحضارة الإفرنجية سواء أكان ذلك على مستوى المجتمع منفردًا أم على مستوى صراع تلك المجتمعات فيما بينها ، إن الصراع على امتلاك القوة والسيطرة والتنازع لامتلاك الثروة يؤديان بالإسراع بعملية التآكل الداخلي .

4 – إن إطلاق الغرائز والنزعات البهيمية وانتشار الفساد والانحلال قد يصل في تلك الحضارة إلى ضعف داخلي شديد يجعلها غير قادرة حتى على الإفادة من قوتها المادية ، مما قد يكرر صورة الجندي الروماني الذي ربط بالسلاسل لكي لا يفر في معركة اليرموك ، على الرغم من الكثرة العددية للرومان في تلك المعركة ، وقوة دروعهم ، وطول رماحهم ومضاء سيوفهم و رفاهة خيولهم .

ثم يستطرد قائلاً : وقد يقول قائل إن الحضارة الغربية يمكن أن تعالج نقاط ضعفها أو تتخلص منها وبالتالي تجدد نفسها ، وهذا القول يعكس جهل أصحابه بطبيعة وجوهر الحضارة الغربية وطبيعة وجوهر نقاط الضعف فيها ، لأن نقاط الضعف هنا هي من صميم وجوهر الحضارة الغربية وليس عارضًا عليها ولا ناشئا من عوامل جانبية أو إهمال من القواد أو غيرها أنها تنبع من داخلها ومن صميمها بطريقة تلقائية وحتمية بحيث انه من المستحيل عليها معًالجتها أو التخلص منها ، وإذا حاول أهل الحضارة الغربية التخلص من تلك العيوب فإنهم سيتخلصون من الحضارة الغربية ذاتها .

فمثلاً إن السعي لتحقيق أقصى درجات القوة العنيفة المادية من أجل السيطرة على العالم ونهب ثرواته بلا حدود يجعل تلك الحضارة تدوس على كل القيم والمعايير التي تتعارض مع هذا السعي ، أو بتعبير آخر إن ذلك السعي يسخر كل شيء من أجله ، وهذا في حد ذاته يسمح بالتفوق في مجالات محدودة ، وهذه نقطة قوة أساسية في الحضارة الغربية ، وهي أيضًا سبب انهيارها المتوقع في مجالات أخرى ، المجالات الأخلاقية والنفسية والإنسانية واندلاع أشد الصراعات الداخلية والخارجية مما يشكل بدوره نقطة الضعف المركزية في هذه الحضارة ، إن نقطتي القوة والضعف المتولدتين عن تلك السمة الأساسية في الحضارة الغربية سيصلان في نهاية المطاف إلى تدميرها إن لم يعرضا مستقبل الإنسانية كلها إلى خطر قريب من شبه الإبادة الجماعية '

ومثل آخر: إنه إذا حاول نظام حكم عنصري التخلص من عنصريته ، فإنه في الحقيقة يتخلص من نفسه ، لأن العنصرية هنا هي التي شيدت بناءه وهي التي تسمح له بالاستمرار ، فلولا النهب والاسترقاق والفصل العنصري لما كان هذا النظام العنصري قد نشأ ولما كان حقق لنفسه هذا الرخاء ولما استطاع أن يستمر لحظة بعد التخلص من العنصرية

وبناء على ذلك يرى أصحاب رأي الصدام الحتمي أن المواجهة ستكون مواجهة شاملة ..

إذن فالمعركة برأيهم حتمية ، ولا سبيل هناك إلا المواجهة ، أو الموت ، وحتى المواجهة مع الهزيمة ربما تعطينا الفرصة في الصمود والحفاظ على البذور صالحة تحت التربة لتعود من جديد لتثمر في مرحلة أخرى ، ولكن الانصياع والخضوع لا يعني فقط خسائر هائلة في الحاضر بل يعني تدمير المستقبل ، لأنها تطال البذور الكامنة تحت التربة .

يقول الأستاذ محمد مورو : واتجاه آخر يقول بأن الحضارات تتفاعل مع بعضها البعض أو تتزاوج وإن الحضارة الغربية ليست غربية فقط بل إنسانية أي أنها استفادت من كل الحضارات التي سبقتها وتفاعلت وتزاوجت معها وخرجت في النهاية لتكون حضارة الإنسانية كلها ، وهذا الرأي خطير وبراق ولكنه خطأ ، ولكي نعرف انه خطأ ينبغي علينا أن نفرق بين أمرين أحدهما التفاعل والتزاوج والآخر التعاون فالتفاعل والتزاوج لا يتم إلا بين حضارات أو إبداعات حضارية من عًائلة واحدة مثل الحضارة الرومانية واليونانية والإغريقية والجرمانية والسكسونية وهكذا .. وهذا التفاعل والتزاوج لا يتم بين حضارات من عًائلات مختلفة ، أي مختلفة نوعًا وكميًا ، فلا يمكن مثلاً الحديث عن تمازج وتزاوج حضاري بين حضارة تقوم على الوثنية كالحضارة الغربية وأخرى تقوم على التوحيد كالحضارة الإسلامية ، والأمر هنا أشبه بعمليات التطعيم التي تتم في النباتات ، فلابد لكي تنجح عملية التطعيم هذه أن تكون بين أنواع معينة من النباتات تنتمي إلى عًائلة واحدة ، أو عائلات متقاربة ، ولكن هذا التطعيم يفشل تمامًا إذا ما تم بين شجرتين لا تنتميان إلى عائلة أو عًائلات نباتية متقاربة .

ثم يخلص إلى نتيجة مفادها : إن إمكانية التزاوج والتفاعل بين الحضارة الإسلامية والحضارة الغربية أمر مستحيل ، لأن أي دراسة متعمقة للأساسيات التي قامت عليها كل من عائلة الحضارة الإسلامية وعًائلة الحضارة الأوروبية لا تترك مجالا للشك في أن لكل منهما طريقًا مختلفًا وسياقًا خاصًا ، لهذا يهدف الحديث عن التواصل الحضاري أو التفاعل الحضاري أو التزاوج الحضاري إلى الإلحاق والتبعية الحضارية باعتباره جزءًا أساسيًا في عملية الإلحاق الاقتصادي والثقافي والسياسي والسيطرة العسكرية .

ثم يستطرد قائلاً : والداعون إلى التزاوج والتفاعل الحضاريين مع الحضارة الغربية ينسون الظروف المشبوهة التي ظهرت فيها مثل هذه الدعوة ، فهذا الموضوع لم يطرق بعيدًا عن غايات ذات علاقة بالصراع الدائر بين القوى الاستعمارية والشعوب المقهورة والمستضعفة ، فعندما طرحوا منظورًا أوروبيًا لهذا الموضوع كانوا في أغلبهم يرمون إلى سيادة الحضارة الأوروبية على العالم بكل ما تحمل من فلسفات وقيم ومعايير ومفاهيم ، وذلك من خلال الترويج للحضارة الأوروبية وضرب الحضارات الأخرى ، أو طمسها ، أو الإنقاص من قدرها أو خلطها بما يلغيها ، وهو أمر يؤدي بالشعوب إلى فقدان هويتها ومقومات شخصيتها الأساسية ، وإلى ضرب عوامل وجودها المادي والثقافي المستقل ، فتصبح مكشوفة أمام طغيان المستعمرين ثم تتحول إلى تابع ذليل تلتقط الفتات ، وتقف على العتبات ، دون السماح لها بالدخول إلى صدر البيت ...................... الإسلام والغرب .. تعاون أم مواجهة ؟!

فالمعركة هنا معركة حضارية شاملة ، أي سياسية واقتصادية واجتماعية وعسكرية وثقافية ، والغرب يستخدم معنا كل الوسائل السياسية والعسكرية ، والاقتصادية والاجتماعية ، والثقافية أيضًا ، وما دام الغرب يشن علينا حربًا شاملة فلا بد من مواجهته بحرب شاملة ، تواجه بالكفاح وحتى إذا سلمنا بصحة مقدمة هؤلاء وهي أن الغرب وأمريكا أقوياء بدرجة لا يمكن مواجهتها ، فإن النتيجة التي توصلوا إليها خطأ ، لأن معنى مثل هذه القوة الهائلة للغرب وأمريكا أن الخضوع لهم سيؤدي إلى النهاية والموت والاندثار ، وأن الخضوع لن ينقذنا ولن يحقن دمائنا ، بل إن الخضوع سيتسبب في خسائر أكثر من المواجهة حتى ولو كانت غير متكافئة ، على الأقل فالمواجهة سوف تقلل الخسائر وسوف تسمح للبذور الكامنة تحت التربة بالبقاء ، بعيدًا عن يد الغرب فتعود لتثمر في فرصة أخرى مستقبلية .

وبالإضافة إلى ذلك فإن الحضارة الغربية تحمل في داخلها الكثير من نقاط الضعف ( كما سبق ووضحنا ) التي ينبغي الصمود واستثمارها أو الصمود وانتظار أن تؤدي تلك المواقع الضعيفة في جسد الحضارة الغربية إلى انفجار داخلي ، فالإنسان في الحضارة الأوروبية مثلاً يفتقد التوازن بين حاجاته المختلفة ويفتقد التوازن في علاقاته مع الجماعة ، وهذا يؤدي إلى انتشار الأمراض النفسية والجريمة والانحراف والشذوذ الجنسي وزيادة استهلاك الخمور والمخدرات إلى حدود أصبحت تهدد حياة مئات الملايين من سكان أوروبا وأمريكا وهو ما يمكن أن يؤدي على المدى المتوسط أو الطويل إلى انهيار الحضارة الغربية من داخلها ، أضف إلى ذلك أن الرغبة في تحقيق أقصى قدر من النهب وبالتالي عدم التورع عن استعمال أقصى قدر من العنف ومع تزايد قوة الأسلحة الفتاكة يجعل العجلة العسكرية تدور بلا توقف مما يجعلها في النهاية قابلة للانفجار من داخلها أو بالتصادم مع بعضها البعض وإذا كانت الحرب العالمية الثانية التي نشأت بسبب التنافس على الربح بين دول كلها تنتمي إلى الحضارة الغربية قد أدت إلى قتل 62 مليون إنسان معظمهم من الأوروبيين فكم يا ترى سوف يقتل في المعركة المسلحة والحرب الشعبية ، وعلينا أن نواجه بالوسائل السياسية ونواجهه برفض الخضوع لوسائل النهب التي يمارسها ومن خلال بناء نمط اقتصادي مستقل وغير تابع ويعتمد على قوانا الذاتية ويقطع تمامًا خيوط التبعية مع الغرب ، ونواجهه أيضًا بتصفية كل مراكز الثقافة المغتربة وكل أشكال الاختراق الثقافي ، ونواجهه بثورة ثقافية شاملة تعتمد على تأكيد قيمنا الحضارية ، ونواجهه بالوحدة ، ورفض التجزئة التي فرضها علينا ، ونواجهه بتعبئة شعبية شاملة ، ونواجهه بحرب حضارية شاملة في مواجهة حرب حضارية شاملة .

ويجب أن ننتبه هنا إلى نقطة خطيرة ، وهي أن أخطر هذه المواجهات هي على الجانب الثقافي ، لأن الاختراق الثقافي يدمر حياتنا من الداخل ويقلل قدرتنا على المواجهة ويضرب فينا قيمنا الإيجابية مثل الجهاد والوحدة والرفض وبالتالي يجعلنا عاجزين عن المواجهة في المجالات السياسية والعسكرية والاقتصادية ، ولابد أن ننتبه إلى انه ما دامت الحرب حضارية وشاملة فليس من المعقول مثلاً أن نستخدم قيمًا ووسائل واستراتيجيات مستمدة من الغرب لمحاربته بها ومهما كانت براقة فإنها لن تجدي في مواجهته ، فكيف أواجهه على أرضيته الثقافية والحضارية ؟ ، لابد أن أواجهه بأساليب وتكتيكات وقيم ووسائل واستراتيجيًات مستمدة من ذاتنا حتى تظل قادرة على الاستمرار . ................... الإسلام والعالم المعاصر ص 130 . أنور الجندي .

وقد فاقمها ( أي المواجهة) أن المجتمعات الإسلامية بطبيعة تكوينها يتعذر قولبتها في النموذج الغربي، ببساطة لأن لها منظومة قيم مغايرة، وبنيان فكري ونظر إلى الكون والحياة، مختلف عن الغرب تماما ،هذا الاستعصاء على الاحتواء لا يزال يثير حفيظة كثير من الغربيين، الذين عجزوا أو رفضوا أن يعترفوا بخصوصية القيم الإسلامية، التي لا تقبل التفاعل وترفض الذوبان والانسحاق.

يقول الدكتور / شاكر النابلسي : ولكي ندرك الفرق بين أيديولوجية الإسلام وأيديولوجية الغرب وسبب الصراع المحتمل بينهما، ولا سيما في القرن الحادي والعشرين، دعونا نعقد مقارنة سريعة بينهما:

1. يقول الإسلام بأن الإنسان مخلوق، ويقول الغرب بأن الإنسان خالق.

2- يقول الإسلام بأن الله هو سيد الكون المُطاع، ويقول الغرب، بأن الإنسان هو سيد الكون المُطاع.

3- يقول الإسلام بأن الله هو سيد الإنسان، ويقول الغرب بأن الإنسان سيد نفسه.

4- يربط الإسلام وجود الإنسان والعالم بسبب خارجي هو الله، في حين ينظر الفكر العلماني في الغرب إلى الإنسان والعالم لذاتهما، في معزل عن أي سبب خارجي.

5- يُقرُّ الإنسان في الإسلام أن الغيب لله كعلم تفرد به ولم يطلع عليه أحداً - إلا من شاء - ، بينما يُلغي الغرب ما يُسمّى بالغيبيات والعلم بالغيب.

6- يعتبر الإسلام مجتمعاً مثالياً أخلاقياً روحياً ، بينما يعتبر الغرب مجتمعاً مادياً أخلاقياً مختلفاً.

7- يمتثل الإسلام للشريعة و لا يحكم العقل في الشريعة ولكنه يعمل في إطارها، في حين يمتثل الغرب للعقل تماماً ويحكمه في كل شيء ويرد ما لا يقره العقل.

فهل من أجل هذه الفروقات في العقائد يمكن للصدام أن يتم بين الإسلام والغرب؟

ولِمَ لا وقد كادت الحرب العالمية الثالثة أن تقع بين الغرب والاتحاد السوفياتي نتيجة لاختلاف العقائد. ............بشيء من التصرف والزيادات من مقال له.

وبعد انهيار سور برلين وسقوط الشيوعية راح الغرب يبحث عن "عدو" وتضافرت ظروف متعددة رشحت الإسلام كي يشغل ذلك الموقع بديلاً عن الشيوعية ويبدو أن هذه الفكرة راقت للأغلبية الأوربية والنخبة في الولايات المتحدة وغيرها .

فبعد غياب الاتحاد السوفيتي وتفرد الولايات المتحدة بصدارة "العالم الأول" فإن دعاة تمدد الإمبراطورية الأمريكية في فضاء الساحة التي خلت انتعشوا، الأمر الذي دعاهم إلى بلورة مشروعهم في كتابات عدة بينها المذكرة الشهيرة التي قدمت إلى الرئيس السابق بيل كلينتون في عام 1997م حول القرن الأمريكي الجديد.

يقول لورانس براون: ' لقد كنا نخوف بشعوب مختلفة ، ولكننا بعد الاختبار لم نجد مبررًا لهذا الخوف ، لقد كنا نخوف من قبل بالخطر اليهودي والخطر الأصفر وبالخطر البلشفي إلا أن هذا التخويف كله لم نجده كما تخيلناه ، أننا وجدنا اليهود أصدقاء لنا ، وعلى هذا يكون كل مضطهد لهم عدونا اللدود ، ثم رأينا البلاشفة حلفاء لنا ، أما الشعوب الصفر 'الصين ، اليابان ' فإنها ليست خطيرة لهذه الدرجة ، ولكن الخطر الحقيقي كان في نظام الإسلام وفي قدرته على التوسع والإخضاع ، وفي حيويته ، أنه الجدار الوحيد في وجه الاستعمار الأوروبي ' ..................د . مصطفى الخالدي.. د . عمر فروخ – التبشير والاستعمار.

وأحداث 11 سبتمبر وفرت لفريق الأصوليين المتعصبين والمتصهينين في الإدارة الأمريكية حجة قوية لاعتبار العالم الإسلامي عدواً يجب قهره وتطويعه، حتى لا يظل مصدراً يهدد الأمن القومي الأمريكي ولأن هذا العالم يكره الأمريكيين – كما ادعوا- فقد يخرج من بين أبنائه يوماً ما في المستقبل من يكرر ما جرى في 11 سبتمبر.

والخلاصة

نقول : إنه بالرغم من كل ذلك، فإن الدين في الدول الغربية لا يلعب إلا دوراً ثانوياً وهامشياً للغاية. وبالتالي فليس للدول الأوربية في الجملة حساسيات عقدية ولا ثارات ضد الإسلام بالمعنى الدقيق رغم اختلاف الايدولوجيات السالفة ، هذا إذا استثنينا مجتمع المتدينين المتعصبين في الولايات المتحدة وغيرها ، وإذ كان الإنصاف يقتضينا أن نقرر أن اسم الإسلام أصبح مخيفاً لكثيرين الآن في الغرب ، وهذا الخوف نابع من انطباعات زمنية وليس من تأثيرات عقدية (بما يحمل اللفظ من معنى) !! .

ولكن هذه الخلفيات يمكن أن تسوغ لنا أن نقول أن الغرب بالمفهوم الذي تحدثنا عنه ليس ضد الإسلام كعقيدة ودين، ولكنه متمسك بإضعاف الإسلام وتقليص دوره في المجتمع.

لكننا إذا نظرنا إلى المشهدين من زاوية المقاصد والمآلات فلا مفر من أن نعترف بأن عملية الإضعاف هي في حقيقة الأمر نوع من إماتة الإسلام وتضييق الخناق عليه إلى حد خنقه في نهاية المطاف ، وقد يجوز ذلك أن نقول أن العبرة ليست بالنوايا ولكنها بالنتائج، فالإماتة في النتيجة لا تختلف كثيراً عن القتل، إذ في الحالتين تشل حركة الإسلام ويفقد "روحه" حتى وإن استغرقت عملية الإماتة وقتاً أطول.........من مقال للأستاذ فهمي هويدي .

وبالرغم من ذلك نقول : إن إطلاق العداء للغرب خطأ كبير. فليس الغرب باطلاً كله ولا ظالماً كله ، وإنما ينبغي أن يتحرى المؤمن العدل في أحكامه والضبط في مشاعره.

ولا أدل على ذلك مما استطعنا جمعه من كاتبة غربية مثل (شرين هانتر) في كتابها (مستقبل الإسلام والغرب) ، والذي كانت فيه تحاول الإنصاف حتى أنها اعترفت بأمور كثيرة هي في حقيقتها مرة عند الغربيين منها على سبيل المثال :

أ – تقرير حقيقة أن الإسلام لا يمكن أن يهزم من خلال انتصارات عسكرية وأمثالها كما هزمت النازية والاشتراكية وأمثالهما.

ب – إن الايدولوجيا لا يمكن أن تفصل عن الحياة الاجتماعية ذلك لان المسألة الاجتماعية يجب أن تقام – ولو بشكل لا شعوري – على المسألة الفلسفية والاعادت بلا هدف ولا مبررات.

ج – إن الغرب لا يأبه بالقيم التي يدعيها كالديمقراطية وحقوق الإنسان إذا لم تخدم مصالحه.

د – إن العلمانية لا تجتمع مع النظام الديني حتى ولو كان مستمداً من المسيحية أو اليهودية.

هـ – إن الذين ينظرون إلى رؤى الإسلام بسطحية هم سطحيين .

و – السخرية من هنتنگتن (3) عندما يقول إن الإسلام لا يعرف المساواة

ز – التفريق بين إيمان الإسلام بحقوق الإنسان وعمل المسلمين.

ح – الاعتراف بان العلمانية فرضت فرضاً على العالم الإسلامي.

ط – إن الغرب قد ينطلق من مواقف أخلاقية منحطة كالحسد والحقد وأمثال ذلك.

ولا شك أن هنالك أسباباً عديدة تدعو غالبية المسلمين للشعور بحالة من النفور من السياسات والمواقف الغربية والتي اتسمت بماضٍ استغلالي استعماري وحاضر لا يقيم العلاقات على العدالة والإنصاف ، وهنالك شعور يسود في أوساط المسلمين أن هنالك تحيزاً ثقافياً ودينياً يسود أوساطاً واسعة في الشعوب الغربية ضد الإسلام. وأن موقف الإعلام الغربي الذي يأخذ صورة العالمية اليوم مناهض مناؤي للإسلام، ثم إن هنالك رموزاً حية لانحياز الغرب إلى جانب المعتدين على بعض شعوب الأمة المسلمة ومظاهرته لأولئك بالسلاح وبالمواقف السياسية ، وأبلغ الأمثال على ذلك هو الموالاة المطلقة لغالب دول الغرب لإسرائيل.

فكل هذه أسباب لا تفرش الطريق إلى محبة وتواصل مع الغرب. بيد أن الحكمة تشير أن الطريق الأوفق لا يتمثل في تسعير العداوة والبغضاء للشعوب والحكومات الغربية، بل بذل الجهود لإزالة التحيزات الثقافية ومناهضة الحملات الإعلامية والعمل على إحداث تغييرات في سياسات الحكومات الغربية وكل هذا بالإمكان من خلال العمل المثابر الدؤوب.

بيد أن إزالة نزعة العداء للغرب والتي تتفجر الآن في أعمال ترويعية لا تفرق بين المدني والعسكري، وبين الغافل والظالم لن يتم من جانب واحد. فالغرب الذي يجتهد اليوم في البحث عن أنجع السبل لمناهضة الإرهاب يتوجب عليه أن يدرك أن أقصر الطرق لمناهضة الأعمال الإرهابية هو التعامل بعدالة ونزاهة مع الشعوب الإسلامية.

فذلك هو السبيل لنيل ثقة أهل التوسط والاعتدال والذين هم الضمانة الأولى لكبح نزعات التطرف والغلو.

ولكن السياسة الأمريكية اليوم ماضية في منطقها الاستعلائي، وتكاد تقاريرها المتغطرسة أن تقول شيئاً واحداً لقد انتصر الغرب على الشرق، وتفوقت المادة على الروح، وأن عصر المادية الأمريكية هو نهاية التأريخ.

إن مسؤولية الاتصال والتواصل السليم بين العالم الإسلامي والغرب مسؤولية مشتركة، ولسنا في مجال تحديد التقصير أو الخطأ من أحد الأطراف، ولكن واقع العلاقة الآن يفرض علينا أن ندعو إلى بناء هذه العلاقة على أساس سليم ووفق منهج علمي يليق بتاريخ هذه العلاقة، وبالكثير من جوانبها المهمة، وبأثرها في تحقيق السلام والخير للبشر جميعاً، فهي علاقة، بين مئات الملايين من البشر.

والحقيقة أن القيم الإسلامية إنما ترفض الجانب المعادي للإنسانية في الغرب كالتحلل الجنسي، واستغلال الشعوب، ورفض الحياة الخلقية والكيل بمكيالين والعمل على محو الثقافات الأخرى، والاستعمار بشتى ألوانه، وأمثال ذلك وفيما عدا ذلك فان هناك نقاط التقاء كثيرة ونقاط تقبل الحوار.

يقول الدكتور المسيري : "فعداء الغرب للإسلام ليس عداء في المطلق، وإنما هو عداء للإسلام المقاوم، ولأي شكل من أشكال المقاومة تتصدى لمحاولة الغرب تحويل العالم إلى مادة استعمالية". ..............الإسلام والغرب.

ومع هذا تظل إمكانية الحوار والتفاهم قائمة، وإن كان ثمة عائق أساسي وهو أن الرؤية الغربية الإمبريالية الداروينية غير عقلانية. فمن يجعل القوة معياراً واحداً ووحيداً ولا يقبل الاحتكام إلى منظومة قيمية خارجة، إنسان غير عقلاني، لأن العقلانية تفترض وجود معايير إنسانية وأخلاقية مطلقة خارج الإنسان يمكن الاحتكام إليها. والسؤال الذي يطرح نفسه هو: كيف نتحاور في غياب معايير أخلاقية وإنسانية يمكن الاحتكام إليها والإهابة بها؟

وأرى ـ والله أعلم ـ أن هناك ثلاثة مستويات للحوار:

ا- الحوار بين الأنداد: وهو حوار بين طرفين يعترف كل منهما بإنسانية الآخر وبحقوقه وسيادته. والهدف من الحوار هنا هو تسوية بعض الخلافات التفصيلية الجزئية التي لا تنصرف إلى الكليات أو المنطلقات.

2. الحوار النقدي: إذا كان أحد الأطراف لا يعترف بإنسانية الآخر وحقوقه وسيادته، فمن واجب الطرف الثاني أن يوجه النقد للطرف الأول ويبين له خلل موقفه، ويدعم نقده بالحجج والبراهين، كما يحدث مثلاً حينما نحاور الدول الأوروبية التي نختلف معها في بعض الأمور المبدئية، والتي تقبل الحوار ولا تلجأ إلى العنف.

3. الحوار المسلح: إن استمر الطرف الأول في إنكار إنسانية الطرف الثاني وحقوقه وسيادته، وحوَّل إنكاره هذا إلى فعل ظالم باطش كأن يستولي على أرض الطرف الثاني أو يعتدي عليه، فإن من واجب الطرف المعتدى عليه أن يصده ويقاوم ظلمه وبطشه بأن يرسل للظالم رسائل نقدية مسلحة ليؤكد إنسانيته وسيادته ويحصل على حقوقه المغتصبة.

وهذا ما يحدث في فلسطين المحتلة ، فالإسرائيليون ينكرون وجود الفلسطينيين، فيقوم الفلسطينيون بإرسال رسائل مسلحة لهم تأخذ شكل انتفاضات شبه سلمية (مثل انتفاضة 1987) وانتفاضات مسلحة (مثل انتفاضة الأقصى)، وهي رسائل تؤكد للإسرائيليين أن الشعب الفلسطيني -صاحب الأرض- موجود وحي ويقاوم لاستعادة أرضه.

ولابد أن يتم الحوار على جميع المستويات، فالحوار الودي بمفرده مع من يؤمن بالقوة معياراً يتيماً لا يجدي فتيلاً، والحوار المسلح بمفرده يدخلنا في طريق مسدود. وهذا ما فعله الفيتناميون، فكانوا يجلسون على مائدة المفاوضات ويقومون بحملات إعلامية يتوجهون بها إلى أنصار السلام في العالم بما في ذلك الولايات المتحدة، ويوجهون النقد إلى المؤسسة العسكرية الأميركية التي بطشت بالشعب الفيتنامي دون وجه حق، ويقاتلون -في الوقت ذاته- في ميدان الحرب بعزم وإصرار، وبذلك تم تحويل المكاسب الميدانية إلى مكاسب سياسية

وبالمثل، يمكن أن يأخذ الحوار مع الغرب أشكالاً كثيرة، فلا يكفي السعي لتجميل صورتنا وتوضيح مشروعية موقفنا، إذ لابد من توجيه رسائل نقدية إلى الغرب (من خلال حملات إعلامية وحوارات مكثفة) تبين له أن دعمه لإسرائيل وهجومه على العالم العربي لا يمكن أن يظل أمراً مجانياً.

ويجب تحويل الحوار النقدي إلى حوار مسلح إذا استلزم الأمر من خلال عمليات المقاطعة والتهديد بسحب الاستثمارات وكل أشكال المقاومة المتاحة. أي يجب أن يدرك الآخر المعتدي أن هناك ثمناً لابد أن يدفع، وهم يفهمون تماماً مسألة الثمن هذه، فكما قال رئيس الوزراء البريطاني غلادستون "لا يوجد لدينا أصدقاء دائمون ولا أعداء دائمون بل لنا مصالح دائمة". ..................................من مقال الإسلام والغرب نشر بتاريخ 4/11/2004.

وعلى هذا الأساس فإن الإسلام يقرر :

* أن الناس جميعاً شركاء في مهمة الاستخلاف الرباني للإنسان في عمارة الأرض {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً} (البقرة: من الآية30).

* وأن الناس جميعاً مؤهلون خلقه (لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم ), ومهيئون فطرة لأداء هذه المهمة {وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا } (البقرة: من الآية31))..{ قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى} (طه:50)

*

* وأن الناس مكلفون بالتعاون لتحقيق عمارة آمنة للأرض {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الْأِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} (المائدة: من الآية2).

* وأنهم مدعوون للتكامل والتعارف، من أجل إنجاز شامل وعادل لمهمة الاستخلاف الرباني {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِير} (الحجرات:13) .

* وأن الناس شركاء في الانتفاع العام بنتائج سيرهم وكدحهم لعمارة الأرض , وبكلمة أخرى هم شركاء في الانتفاع بثمرات العطاء الحضاري والتكنولوجي والصناعي والزراعي والحيواني {وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مِنْهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} (الجاثية:13) {فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ}(الملك: من الآية15) .

* ولكن ذلك كله وفق قواعد ومعايير احترام حق التمليك , والتزام ضوابط ومعايير نظم وآليات الانتفاع المتبادل العادل.

اعتماد الحوار الجاد بين الحضارات كأساس للتعارف من أجل :-

1. أن يتعلم الناس كيف يتعامل كل منهم مع الآخر وكيف يجل الجميع كرامة الإنسان .

2. أن تكشف القيم المشتركة وتراعى الخصوصيات الثقافية في سبيل تحقيق تعايش آمن .

3. العمل لمنع العدوان والاضطهاد والظلم بين الناس .

4. التأكيد على أن الأسرة المؤسسة على التزاوج الشرعي بين الرجل والمرأة هي الوحدة الأساس في بناء المجتمعات الآمنة .

5. التأكيد على أن الأسرة وحدة أساسية من مؤسسات المجتمع المدني وأنها المصدر الأكفأ لأجيال مسؤولة ومنتجة .

6. العمل معاً على إقامة العدل الرباني بين جميع الناس على اختلاف أقوامهم وأجناسهم ومعتقداتهم وألوانهم .

7. العمل على إزالة خلل التوازن بين حقوق الإنسان وواجباته لإنهاء حالة الخلل والاضطراب في مسيرة الحضارة البشرية .

8. العمل على مساعدة الفقراء لتحرير أنفسهم من الظروف القاسية التي تتنافي مع كرامة الإنسان ووشائج الأخوة الإنسانية .

9. العمل على إنهاء ظاهرة التعامل بالمعايير المزدوجة إقليمياً ودولياً .

10. العمل على إزالة العوامل الثقافية والاجتماعية والسياسية لاستفحال ظاهرة العنف والإرهاب في العالم .

11. التأكيد على ضرورة السير معاً بسلام ووئام على أساس من إرادة الله تعالي وطاعته لحماية المجتمعات البشرية من الكوارث والفقر والجهل . ووقف ظاهرة التدهور الأخلاقي والتفسخ الأسرى ووضع حد لمروجي منهجية الحروب وتكنولوجيا أسلحة الدمار الشامل , وإلا سيكون الناس عرضة لمزيدٍ من الهلاك والدمار

ونحن - المسلمين - إذا نقول بذلك كله لا ننطلق من فراغ، بل نستند على أساس صلب ومرجعية عظيمة رسم معالمها وأبان سبل نهجها كتاب الله العظيم وسنة رسوله المبعوث رحمة للعالمين سيدنا وإمامنا الهادي البشير نبينا ورسولنا محمد بن عبد الله صلوات الله وسلامه عليه عبر ثلاثة مواثيق متلازمة ومتكاملة هي الفريدة في نوعها وسبقها على مدار التاريخ البشري كله وهي:

أولاً : ميثاق الموطنة أو (العقد الاجتماعي الوطني) الذي تضمنته الوثيقة المشهورة في كتب السيرة (بصحيفة المدنية ) والتي تعتبر بحق أول ميثاق للمواطنة في التاريخ البشري يقنن ويؤصل لعهود ومواثيق المواطنة المشتركة ، في إطار التنوع الديني والثقافي ، مما تضمنته تلك الصحيفة من قيم ومبادئ :

1. أن المواطنين على اختلاف انتماءاتهم الدينية والعرقية أمة واحدة من دون الناس .

2. وأن الحرية الدينية مكفولة لكل مواطن .

3. وأنهم جميعاً مسؤولون عن رد العدوان وحفظ سيادة الأوطان .

4. وأن عليهم النصح والبر ، فيما ليس فيه إثم .

5. وإن الجار كالنفس ، غير مضار في أمنه وكرامته.

فهذه القواعد السالفة الذكر ، وغيرها مما جاء بها القرآن الكريم والسنة المطهرة ، وتكون بتكاملها المنطلق الأساس لعقد المواطنة في نظام الإسلام وشرعته ، الذي يؤكد أن المواطنين على اختلاف انتماءاتهم الدينية والقومية والعرقية ، وهم أمة واحدة تتساوي مصالحهم ، وتتكامل حقوقهم وواجباتهم ، وأن أمنهم واحد ، ومصيرهم واحد ، من غير تمايز ولا تفاضل بينهم إلا بالعمل الصالح ، ميثاق المواطنة (العقد الاجتماعي الوطني ) في الإسلام يقوم على ما يلي :-

أ. دين الدولة : الإسلام (دين الأكثرية ) القرآن والسنة النبوية المطهرة هما المصدر الأساس والوحيد لمطلقات وثوابت الشريعة الإسلامية ، والإسلام هو أساس الهوية الثقافية والحضارية للمجتمع .

ب. عقد الإيمان : وهو للجميع وذلك بإنفاذ شريعته سبحانه وتعالي في تحقيق مصالح المواطنين، وإقامة العدل بينهم وصون كرامتهم ، وتوفير أسباب رزقهم وأمنهم واستقرارهم.

ت. عقد الأداء : وهو عقد بين الحاكم والمحكومين من المسلمين ، يلتزم الجميع بموجبه بإنفاذ ما اتفقت عليه إرادة الأمة ، من قيم ومبادئ ونظم وأعراف وتقاليد مثل : الدستور وغيره في إطار عقد الإيمان وما تضمنه من ثوابت ومنطلقات ، والعمل معاً على تحقيق مصالح الناس وصون البلاد وأمنها واستقرارها وسيادتها .

وهذا يعني ويؤكد بوضوح ما يلي :-

1. أن الله تعالى : على أساس من ( عقد الإيمان ) هو المصدر الوحيد لثوابت ومنطلقات التشريع في المجتمع المسلم ( مجتمع الأكثرية).

2. أن الحاكم على أساس من ( عقد الإيمان )،والتزاماً بعقد (الأداء) : مسؤول أمام الله تعالي ، و مسؤول أمام الشعب عن التزام وتطبيق شريعة الإسلام والتزام وإنفاذ ما اتفقت عليه إرادة الأمة من مواثيق ونظم (الدستور وغيره )، والعمل بأمانة وإخلاص على إقامة العدل بين الناس جميعاً .

3. أن الشعب على أساس من (عقد الإيمان) والتزاماً بما ينص عليه (عقد الأداء )ويتناقص مع مواثيق عقد الإيمان وعقد الأداء ومطالب كذلك بتحمل مسؤولياته في إعانة الحاكم [ولي الأمر] وبذل النصح والمشورة له بما يعينه على أداء مهامه ومسؤولياته وواجباته ,وفق عقد الإيمان وعقد الأداء ,وبما يحقق مصالح المواطنين وأمن البلاد وسيادتها وارتقاءها . والتساؤل الذي يطرح نفسه هنا : وماذا عن موقع المواطن غير المسلم في ميثاق المواطنة (العقد الاجتماعي الوطني ) في الإسلام ؟.

ونجيب فنقول : وحيث أن المظنة بأهل الإيمان بالله تعالى أياً كانت طبيعة اعتقادهم أنهم من حيث الأصل والمبدأ يحرصون على تحقيق إرادة الله تعالى ومرضاته ، وعلى أساس من هذا الظن الحسن أعتقد أن العقد الاجتماعي في الإسلام يتسع بكل موضوعية وجدية للمواطنين غير المسلمين في ضوء التوضيح التالي:

أولاً : أحسب أن عقد الإيمان يتسع لهم ، باعتبار أن ثوابت الشرائع الربانية التي جاء بها الأنبياء والرسل عليهم الصلاة والسلام متكاملة ، ولا تصادم ولا تناقض بينها من حيث الأصل، وقد أكدت جميعها على إقامة العدل ، وكرامة الإنسان وحريته ، وعلى الحب والتسامح في مرضاة الله ، والتعايش الآمن بين الناس ، وعلى سلامة البيئة وعدم إفسادها، وحثت على استثمار ما في السموات والأرض لصالح كرامة الإنسان وصون حياته، والشريعة الإسلامية تؤكد على ذلك كله

وثانياً : فعقد الإيمان هو الضامن والحارس الوجداني لتحقيق هذه القيم الربانية وغيرها من أجل صون كرامة الناس جميعاً.

ويتسع ( ثالثاً ) لفعاليتهم وممارسة حقوقهم وأداء واجباتهم ، باعتبار أن كل مواطن من حيث الأصل والمبدأ يحرص على:

1. حرية اعتقاده وممارسة عبادته .

2. احترام خصوصياته وحقه بالاحتكام إلى قيمه الدينية فيما يتعلق بشؤونه الشخصية.

3. تأمين مصالحه الدنيوية دون الإضرار بمصالح غيره ، ومن دون انتقاص أو تميز.

4. تحقيق طموحاته وآماله الشخصية والوطنية في سياق المصالح العامة للمواطنين.

5. العيش بكفاية وأمن واستقرار.

6. المشاركة في خدمة بلده ، والمحافظة على أمنه واستقراره وسيادته.

وباعتقادي أن ذلك كله وغيره مضمون ومكفول في العقد الاجتماعي في الإسلام ، ولمزيد في التوضيح نقول أن الإسلام كما هو معلوم عقيدة وشريعة.

والعقيدة : وهي التي تمثل الخصوصية الدينية للمسلم ..فقد حسم الإسلام أمر الآخرين معها بقول الله تعالى :( لكم دينكم ولي دين) ، أي أن المواطن غير المسلم في المجتمع غير المسلم له حرية الاعتقاد وله حرية ممارسة العبادة.

أما الشريعة : فهي تتكون بصورة رئيسة من شقين اثنين:

1. قواعد وأحكام ومبادئ تتعلق بالأحوال الشخصية .

2. قواعد ومبادئ ونظم وضوابط تتعلق بالحياة العامة للناس.

فيما يتعلق بالأحوال الشخصية ، فقد حسم الإسلام أمر المواطنين غير المسلمين بشأنها ، بأن أعطاهم حق التحاكم في ذلك إلى شرائعهم الخاصة إن رغبوا .

أما ما يخص الجزء من الشريعة الإسلامية المتعلق بالحياة العامة ، ونظم ومبادئ تصريف مصالحها ، فأن المواطنين غير المسلمين ، فهم جميعا سواء دون تمييز ، تحكمهم جميعاً مواثيق الأمة ولوائحها الدستورية ، وعلى أساس مما سلف ، لا أرى أن هناك أدنى إشكالية للمواطنين غير المسلمين مع الشريعة الإسلامية وميثاق المواطنة ( العقد الاجتماعي الوطني).

ثانياً: الميثاق العالمي أو ( العقد الاجتماعي العالمي ) ، الذي تضمنته الوثيقة المعروفة والمشهورة في كتب السيرة ( بخطبة حجة الوداع ) ، التي أصلت وأسست لأول ميثاق عالمي ، يرسم القواعد والمبادئ الجامعة لسياسة دولة الإسلام الراشدة في مستواها العالمي ، ويقنن للمعايير والضوابط المنصفة للتعايش البشري الآمن ، في إطار التنوع القومي والعرقي واللوني والجنسي والديني ، وكان من أبرز ما جاء بخطبة الوداع أو الميثاق العالمي ( العقد الاجتماعي العالمي) َقَوله صلى الله عليه وسلم : " يَا أَيُّهَا النَّاسُ ، أَلَا إِنَّ رَبكُمْ وَاحِدٌ ، وَإِنَّ أَباكُمْ وَاحِدٌ ، أَلَا لَا فَضْلَ لِعَرَبيٍّ عَلَى أَعْجَمِيٍّ ، وَلَا لِعَجَمِيٍّ عَلَى عَرَبيٍّ ، وَلَا لِأَحْمَرَ عَلَى أَسْوَدَ ، وَلَا أَسْوَدَ عَلَى أَحْمَرَ ، إِلَّا بالتَّقْوَى ، أَبلَّغْتُ ؟ " ، قَالُوا : بلَّغَ رَسُولُ اللَّهِ"...........................أخرجه الإمام أحمد في المسند.

وَقَالَ صلى الله عليه وسلم : "إِنَّ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ حَرَامٌ عَلَيْكُمْ كَحُرْمَةِ يَوْمِكُمْ هَذَا فِي شَهْرِكُمْ هَذَا فِي بَلَدِكُمْ هَذَا ، أَلَا كُلُّ شَيْءٍ مِنْ أَمْرِ الْجَاهِلِيَّةِ تَحْتَ قَدَمَيَّ مَوْضُوعٌ ، وَدِمَاءُ الْجَاهِلِيَّةِ مَوْضُوعَةٌ ، وَرِبَا الْجَاهِلِيَّةِ مَوْضُوعٌ ، فَاتَّقُوا اللَّهَ فِي النِّسَاءِ ، فَإِنَّكُمْ أَخَذْتُمُوهُنَّ بِأَمَانِ اللَّهِ ، وَاسْتَحْلَلْتُمْ فُرُوجَهُنَّ بِكَلِمَةِ اللَّهِ ، وَلَكُمْ عَلَيْهِنَّ أَنْ لَا يُوطِئْنَ فُرُشَكُمْ أَحَدًا تَكْرَهُونَهُ ، وَلَهُنَّ عَلَيْكُمْ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ ، وَقَدْ تَرَكْتُ فِيكُمْ مَا لَنْ تَضِلُّوا بَعْدَهُ إِنِ اعْتَصَمْتُمْ بِهِ كِتَاب اللَّهِ ، وَأَنْتُمْ تُسْأَلُونَ عَنِّي فَمَا أَنْتُمْ قَائِلُونَ ؟ ، قَالُوا : نَشْهَدُ أَنَّكَ قَدْ بَلَّغْتَ وَأَدَّيْتَ وَنَصَحْتَ ، فَقَالَ بِإِصْبَعِهِ السَّبَّابَةِ يَرْفَعُهَا إِلَى السَّمَاءِ وَيَنْكُتُهَا إِلَى النَّاسِ : اللَّهُمَّ اشْهَدِ اللَّهُمَّ اشْهَدْ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ" ..........................................................................................................البخاري .

وَقَالَ صلى الله عليه وسلم: عَنِ اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى ، أَنَّهُ قَالَ : " يَا عِبَادِي : إِنِّي حَرَّمْتُ الظُّلْمَ عَلَى نَفْسِي وَجَعَلْتُهُ بَيْنَكُمْ مُحَرَّمًا ، فَلَا تَظَالَمُوا" .........................................................................................................مسلم

1. أيها الناس إن ربكم واحد.. تأكيداً على وحدة مصدرية الإيمان.

2. إن أباكم واحد .. تأكيداً على وحدة الأسرة البشرية .

3. أيها الناس إن دماءكم وأموالكم عليكم حرام .. تأكيداً على قدسية حياة الإنسان وممتلكاته .

4. أيها الناس إن الله قد قضى لا ربا .. تأكيداً على الأمن الاقتصادي.

5. أيها الناس إن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهراً منها أربعة حرم ..تأكيداً على احترام الوقت وقدسية الأمن والسلام وسلامة البيئة.

6. أيها الناس استوصوا بالنساء خيراً فلكم عليهن حقاً ولهن عليكم حقاً. تأكيداً على أهمية دور المرأة شريكة متكاملة الشراكة مع الرجل في تحمل مسؤوليات الحياة.

7. أيها الناس إن الله قد حرم الظلم على نفسه وجعله بينكم محرماً فلا تظالموا تأكيداً على أن العدل أساس كل فضيلة وأنه الحارس الأضمن لأمن العباد والبلاد.

إن هذه الأعمدة السبعة ، التي تضمنها الميثاق العالمي لخطبة الوداع ، وما يتفرع عنها من قيم ومبادئ ، وما يتسق معها مما تزخر به توجيهات القرآن الكريم ، ومما تفصل فيه وترفده أقوال وأفعال السنة المطهرة ، وما استنه الخلفاء الراشدون المهديون من بعد ، لهي بجملتها تكون الأسس الراسخة ، والمعالم الجلية للميثاق العالمي الإسلامي أو ( العقد الاجتماعي العالمي ) للنهوض بشرف مهمة الاستخلاف في الأرض ، والاضطلاع بمسؤوليات أمانة عمارتها ، وإقامة العدل في ربوعها ، والميثاق العالمي الإسلامي أو ( العقد الاجتماعي العالمي الإسلامي) يشكل الأساس القيمي والمعيار الأخلاقي ، لتصريف شؤون الناس وإدارة مصالحهم المشتركة وتحقيق التعايش العادل والآمن بينهم وفق أسس ومنطلقات الميثاق العالمي للمصالح البشرية ، الذي رسم قواعده وحدد منطلقاته ربهم وخلقهم جل شأنه اللطيف الخبير بما ينفعهم ويصلح شأنهم.

ثالثاً: الميثاق العالمي للمصالح البشرية .. ويقوم على قواعد ومنطلقات عامة منها:

1. أن الناس جميعاً شركاء في مهمة الاستخلاف في الأرض .

2. أن عمارة الأرض وإقامة العدل بين الناس غايتان أساسيتان لأمانة الاستخلاف الرباني

3. أن الناس شركاء في ثروات الكون ، على أساس من احترام حق التملك وصون مشروعية حق الانتفاع.

4. أن حياة الإنسان وكرامته ، أمران مقدسان لا يجوز انتهاكهما بغير حق.

5. أن الرجل والمرأة شريكان تتكامل مسؤولياتهما من أجل عمارة الأرض وإقامة العدل.

6. أن الأرض والبيئة ، هما سكن البشرية المشترك ينبغي المحافظة على سلامتهما وعدم إفسادهما.

7. أن الحقوق والواجبات أمور متكاملة ومتلازمة ، لتبقي العلاقة متوازنة ومنضبطة ، بين مسؤوليات الإنتاج وأخلاقيات ومسؤوليات الاستهلاك.

8. أن الأمن الإقليمي والأمن الدولي ، أمران متلازمان ومتكاملان لا يجوز بحال انتهاك أحدهما لحساب الآخر.

9. أن التدافع الحضاري والتعاون البشري ، أمران واجبان لدرء المفاسد والمخاطر، وجلب المصالح والمنافع المشتركة بين الناس .

10. أن التعارف والتواصل الثقافي والمعرفي بين الناس ، أمر إيجابي لتنمية العلاقات وتطوير المصالح المشتركة بينهم.

11. أن التنوع الديني والثقافي ينبغي أن يكون حافزاً على التنافس في عمل الخير، لا مادة للصدام والنزاع.

12. أن السلم والتعايش العادل والآمن هو أصل العلاقة بين الناس والمجتمعات.

إن هذه المواثيق الثلاثة تكون في تكاملها الأساس لمنظومة الإسلام من أجل عالمية عادلة وعولمة راشدة آمنة .. والإسلام وهو يطرح هذه المواثيق الثلاثة بشأن التعامل بين الناس في الحياة الدنيا .. إنما هو تأكيد على رسالة الإسلام هي رسالة الحياة للناس دون تمييز العولمة والتعاون الدولي مشاركة أم استقلال حامد الرفاعى

إذن والشيء الوحيد الممكن في العلاقة بين الحضارة الإسلامية والحضارة الغربية ولو من الناحية النظرية هو التعاون على أساس استقلال كل منهما وعلى أساس انفراد كل منهما بخصائصها الذاتية المتميزة دون أن تحاول السيطرة أو ظلم أو نهب الأخرى ، والإسلام بالطبع يرحب بالتعاون ويدعو إليه في إطار الاحترام المتبادل والعلاقات المتكافئة ، ولكن هل تقبل الحضارة الغربية التخلي عن النهب والظلم والعنصرية والعنف من أجل هذا التعاون ؟.

يمكن التعاون في الاستفادة من العلوم الطبيعة ونقلها دون ربط ذلك بغايات وأهداف استخداماتها أي في الشق العلمي دون الشق القيمي ، ولكن هل تقبل الحضارة الغربية ذلك وهي التي تغتال العلم ، وتحرم نقل العلم وتحاكم من يفعل ذلك ، بل وتضرب أي نهضة علمية في أي مكان خارج دائرتها الحضارية ؟ !

نؤكد مرة أخرى أن الإسلام يحض على التعاون ، ويحرص عليه ، ولكن التعاون ليس الاندماج والتزاوج والإلحاق ، التعاون يقوم على استقلال حضاري كامل فالحضارة الغربية عندما نقلت العلوم الطبيعية من الحضارة الإسلامية أخذتها دون شقها القيمي أخذتها وهضمتها ووجهتها وفقًا لمعًاييرها الحضارية ، وجهتها للتدمير والتلويث والإفساد وتحقيق أكبر قدر من آليات النهب ، أما نحن فمن المفروض أن نأخذ العلوم الطبيعية من الغرب دون شقها القيمي فنهضمها وتصبح جزءًا من شخصيتنا الحضارية المستقلة فنوجهها طبقا لمعًاييرنا وقيمنا الحضارية في إسعاد الإنسان وتحقيق الرفاهية لكل البشر وليس لنا وحدنا .

هل هناك فرصة للتعاون مع الغرب ؟

يقول الأستاذ محمد مورو :قلنا أنه لا يمكن ولا نقبل لا الإلحاق الحضاري مع الغرب ولا التزاوج والتفاعل بين الحضارة الإسلامية والحضارة الغربية لانتمائهما إلى عًائلتي حضارتين مختلفتين ولأن هذا في النهاية يعني التحول إلى تابع ذليل يظل خاضعًا للنهب والسيطرة . وقلنا إن العلاقة الصحيحة بين الحضارة الإسلامية والحضارة الغربية هو التعاون على أساس الاستقلال الحضاري الكامل والشخصية الحضارية المستقلة ، ولكن هل هناك فرصة للتعاون ؟ .. هل يقبل الغرب هذا التعاون ؟ .. هل تاريخنا معه يسمح بذلك ؟ .. هل تركيب الحضارة الغربية تسمح بذلك ؟ ..

إن تركيبة الحضارة الغربية تقوم على النهب والقهر والعنصرية . ورخاء ورفاهية أهل الحضارة الغربية جاء من نهب ثروات الشعوب الأخرى واسترقاق أهلها، ولكي تستمر هذه الرفاهية لابد أن يستمر النهب والقهر، فهل أهل الحضارة الغربية مستعدون للتوقف عن النهب والقهر والعنصرية ؟ هل هم مستعدون للتخلي عن رفاهيتهم القائمة على ثروات الآخرين من أجل التعاون معنا أو مع غيرنا ؟

أعتقد أن ذلك صعب ، بل يبدو مستحيلا ، وبالتالي فإمكانية التعاون بشروطها الصحيحة صعبة أيضًا ، بل وتبدو مستحيلة وحتى إذا حدثت المعجزة وتخلى أهل الشمال عن القهر والعنف والعنصرية فماذا يبقى من الحضارة الغربية ؟ أنهم يسقطونها تمامًا ، أنهم يفقدونها سماتها الأساسية ، أي يقبلون الاندماج في نمط حضاري آخر وفي حالة دخولهم في النمط الحضاري الإسلامي مثلاً ، فإننا لن نعاملهم معاملة التابع ، بل معاملة الإسلام التي تقول أنهم أصبحوا مثلنا تمامًا لهم ما لنا وعليهم ما علينا .

وإذا كانت تركيبة الحضارة الغربية لا تسمح بالتعاون إلا بانتفاء خصائص الحضارة الغربية ذاتها ، وبالتالي فالتعاون هنا صعب ويكاد يكون مستحيلا ً، ورأي أهل الحضارة الغربية فينا وموقفهم منا لا يسمح بقيام مثل هذا التعاون ، فهم ينظرون إلينا نظرة صليبية عنصرية حاقدة لا تقبل بأقل من تدمير حضارتنا تمامًا وفي قول لا يخلو من الدلالة يقول المعلق السوفييتي فاسييليف:

' إن أمريكا الآن تنظر إلى العالم الإسلامي بوصفه إمبراطورية الشر الجديدة التي حلت محل الاتحاد السوفيتي السابق الذي كان إمبراطورية الشر القديمة والتي تركزت كل الجهود الأمريكية خلال أكثر من أربعين عامًا للقضاء عليها ' .

وهذا المعلق السوفييتي المشهور فاسييليف استخدم في الحقيقة نفس المصطلح المستخدم دائمًا من قبل الأوروبيين والأمريكيين تجاهنا ، وما بين الحقد على الإسلام، وكراهيته، والدعوة إلى تدميره والقضاء عليه أو التخويف منه ومن خطره التي تسود الروح الفكرية الأوروبية على اختلاف مدارسها هل هناك فرصة للتعاون بين الحضارة الإسلامية والحضارة الغربية ؟ .. الإجابة: هذا صعب بالطبع.

إذن فبرغم أننا لا نرفض التعاون مع الحضارة الأوروبية في إطار الاستقلال الحضاري لكل منا ، إلا أنه لا التركيبة الحضارية الغربية تسمح بذلك ولا رأي قادتها فينا وأهدافهم تجاهنا تسمح بذلك ، ولا تداعيات التاريخ القدم والحديث تسمح بذلك ، وبالتالي لكي نعيش لا نخضع ونذوب وننتهي لابد من المواجهة ...............................الإسلام والغرب .. تعاون أم مواجهة ؟!

معوقات الحوار

مما تقدم يمكن إجمال أهم معوقات الحوار الديني و الحضاري في ثلاث نقاط:

1- معوقات تاريخية سياسية نتجت عن صراعات وحروب بين طرفي الحوار: الإسلام والغرب، لم تنته حتى عهد قريب، مثل الحروب الصليبية ، وحرب ما سمي بالتطهير العرقي في جمهورية البوسنة والهرسك ، وأخيراً العراق وأفغانستان والصومال على اعتبار أن أثيوبيا ما هي إلا ذنب للغرب في قارة أفريقيا وتحارب المحاكم الإسلامية بالوكالة .

وكذلك موقف الغرب غير المنصف من القضية الفلسطينية، لقد أصبح المسلمون بذلك لا يواجهون عقدة التغلب على الماضي فقط، بل أيضا معضلة التغلب على الحاضر الماثل أمام العيان، والذي لا يبشر- إذا ما استمر- بمستقبل يبعث على التفاؤل.

2- معوقات تأويليه عند بعض المسلمين والغربيين المسيحيين، تتمثل في عدم اعتراف أحد أطراف الحوار بسماوية الدين الآخر.

فبينما يعترف الإسلام بسماوية مصدر كل من اليهودية والمسيحية، بل ويجعل الإيمان بصدق رسالتي موسى وعيسى (عليهما السلام) ركنا هاما من أركان العقيدة الإسلامية، لا نجد ما يقابل ذلك من اليهود والمسيحيين، إذا ما استثنينا من ذلك الإشارة غير المباشرة التي تضمنها قرار المجمع الكنسي الثاني الصادر عام 3/1964.

3- معوقات فردية تتعلق بمدى أحقية الشخص المشارك في الحوار في الحديث باسم دينه واعتبار نفسه ممثلا للقاعدة العريضة لهذا الدين أو ذاك، والتشكيك في هذه الأحقية يأتى من الداخل كما يأتى من الخارج.

أعتقد أن كلتا النقطتين الأولى والثانية واضحتان ولا تحتاجان إلي تفصيل قد يخرج هذا البحث عن إطاره المحدد له في هذا الموضع. أما النقطة الثالثة فتستحق، في نظرى التوقف عندها بعض الوقت، لأنها تمثل عائقا خفيا لا يظهر في كثير من الأحيان، بينما هي سبب أساسي في تأخر ظهور نتائج إيجابية للندوات والمؤتمرات والأبحاث التي جندت لخدمة وإثمار الحوار الدينى والحضاري. وتتمثل هذه الصعوبة في أن كثيراً ممن يؤيدون ويشاركون بفاعلية في أنشطة الحوار الديني يواجهون غالباً هجوماً على الجبهتين الداخلية والخارجية. ففي الداخل يتهمهم غير المؤيدين للحوار، ممن لا يرون فيه سوى مضيعة للوقت بلا جدوى بالتفريط وتقديم التنازلات الكثيرة للطرف الآخر طلباً للشهرة والمجد الشخصي على حساب الدين، وأنهم لا يمثلون القاعدة العريضة للمسلمين من وجهة نظرهم.

أما في الخارج فيتهمهم الطرف الآخر للحوار بالتزمت، والرجعية، وعدم المرونة لمجرد أنهم ليسوا على استعداد للتفريط في هويتهم الإسلامية، أو التنازل عن أى مبدأ من المبادئ الأساسية لعقيدتهم. فهم بذلك مفرطون في التحرر في نظر بعض إخوانهم من جانب، ومفرطون في المحافظة أو التزمت في نظر بعض محاوريهم من جانب آخر. بل إنني أكاد أدعى أن الغرب يريد التحاور فقط مع أشخاص تتوافر فيهم شروط يحددها هو، وينيب عمن يريد ذلك أنه حينئذ سيتحاور مع نفسه، وليس مع الغير ، وهو المطلوب.

وقبل الانتقال إلى الحديث عما يمكن أن يقرب بين وجهات نظر طرفي الحوار أود طرح بعض الأسئلة التي تتضمن ذكر أهم المعوقات وتشير في ذات الوقت، بطريق غير مباشر، إلى كيفية التغلب عليها انتصاراً لقضية الحوار الديني والحضاري:

1- هل حضارة العصر الحديث حضارة إنسانية بالفعل ، وبالتالى تستحق منا نحن ـ المسلمين ـ السعى إليها بكل الوسائل المتاحة، والتضحية من أجلها ببعض مبادئنا؟

2- هل يخلو الإسلام حقا من كل مقومات التقدم بالدرجة التي تجعله نقيضا لها؟

3- كيف نفسر عدم تغير التصور الخاطيء عن الإسلام في الغرب على الرغم من وجود كم هائل من المؤتمرات والأبحاث المتخصصة، إضافة إلى الاحتكاك المباشر اليومى مع المسلمين في الغرب؟

4- هل يبرر وجود عقدة ذنب في الغرب تجاه جماعة دينية معينة التأييد المطلق لهذه الجماعة بغير حق ضد جماعة دينية أخرى وان كانت الأخيرة على الحق؟

5- لماذا يسقط الغرب نتائج تجاربه السلبية مع الكنيسة في العصور الوسطى على الإسلام دون اعتبار لأي فارق بينهما؟ النماذج السلبية الموجودة حاليا في بعض البلاد الإسلامية لا تبرر ذلك.

6-هل من العدل إرجاع كل مظاهر العنف الموجودة في بعض البلاد الإسلامية إلى أسباب داخلية فقط دون أدنى تأثير أو توجيه من الخارج؟

7- لماذا يتهم الإسلام مباشرة بالعنف كلما اتهم متطرف مسلم في عمل إرهابي، حتى قبل أن يثبت عليه الاتهام، بينما لا نجد من يتهم اليهودية أو المسيحية بالعنف قط، رغم الأعمال الهمجية أللإنسانية التي ارتكبها، ولا يزال يرتكبها إلى اليوم يهود ومسيحيون وهندوس وبوذيون ضد المسلمين؟

8- لماذا يصر الغرب والمغتربون في بلادنا على اعتبار المبدأ الإسلامي بربط الدين بالدولة تخلفاً، وبالتالي كل من ينادى بفصلهما تقدمياً؟.

9- هل يسعى الغرب حقا إلى تحقيق الديمقراطية وحقوق الإنسان في كل دول العالم على السواء؟

10-هل تستطيع الأنظمة الديكتاتورية الموجودة في بعض الدول الإسلامية أن تظل في الحكم دون دعم من الغرب؟

هذه هى بعض الأسئلة التي يمكننا من خلالها أن نضع أيدينا على بعض أسباب الإحساس بعدم الثقة لدى كثير من المفكرين الإسلاميين تجاه الغرب، وتجاه كل من ينتسب إلى أيديولوجية من الشرقيين.

إضافة إلى ذلك فقد تدفع هذه الأسئلة كل منا إلى مزيد من النقد الذاتي البناء الذي يُعد السبيل الوحيد للوصول إلى تحاور موضوعي، يمكن أن يثمر تعاوناً إيجابياً يعود على الجميع بالخير والسلام.

ومشكلتنا ـ في الواقع ـ ليست مع الإنسان الغربي، وإنما مع الحكومات والإدارات الغربية، ومشكلتنا مع الغرب بصفته الاستعمارية الاستكبارية؛ لا بصفته الإنسانية.

إننا نعرف أنّ للغرب مصالح في بلادنا بما نملك من ثروات، ولنا مصالح عند الغرب فيما يملك من الإمكانات، ونحن نؤمن بتبادل المصالح وتكافؤ المصالح، ولكن لا نؤمن أن تسقط مصالحنا تحت تأثير مصالحه، وهذه هي المشكلة.

وعندما يحترمنا الغرب فإننا لا بد أن نحترمه، ولكنه إذا لم يحترمنا فمن الصعب أن نشعر بأي احترام تجاهه، وإذا أطلق علينا صواريخه وقنابله فلن نقدّم للغرب عندها باقة ورد.

منطلقات تدعم الحوار مع الغرب

يقول تعالي : {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِ نْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ} (آل عمران:64)

ويقول تعالى : {وَلا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} (العنكبوت:46)

عَنْ جُبَيْرِ بْنِ نُفَيْرٍ ، عَنْ ذِي مِخْبرٍ t، عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، قَالَ : " تُصَالِحُونَ الرُّومَ صُلْحًا آمِنًا ، وَتَغْزُونَ أَنْتُمْ وَهُمْ عَدُوًّا مِنْ وَرَائِهِمْ ، فَتَسْلَمُونَ ، وَتَغْنَمُونَ ، ثُمَّ تَنْزِلُونَ بِمَرْجٍ ذِي تُلُولٍ ، فَيَقُومُ رَجُلٌ مِنْ الرُّومِ ، فَيَرْفَعُ الصَّلِيبَ ، وَيَقُولُ : أَلَا غَلَبَ الصَّلِيبُ ، فَيَقُومُ إِلَيْهِ رَجُلٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ فَيَقْتُلُهُ ، فَعِنْدَ ذَلِكَ تَغْدِرُ الرُّومُ وَتَكُونُ الْمَلَاحِمُ ، فَيَجْتَمِعُونَ إِلَيْكُمْ ، فَيَأْتُونَكُمْ فِي ثَمَانِينَ غَايَةً ( أي الراية أو اللواء ) ، مَعَ كُلِّ غَايَةٍ عَشْرَةُ آلَافٍ"..... .........................................أخرجه الإمام أحمد .

في المقابل للنقاط التي أوجزت فيها معوقات الحوار توجد منطلقات إسلامية كثيرة وإيجابية إلى أبعد الحدود يمكنها- إذا أحسنا توظيفها- أن تمهد الطريق لحوار ديني حضاري بناء بين العالم الإسلامي والغرب بمفهومه الواسع الذي يشمل كل الدول غير الإسلامية، ويتطلب ذلك منا أولاً أن نجعل من تراكمات الماضي المؤسف، ومن وقائع الحاضر المؤلم دافعاً قوياً يدعم الإيمان بضرورة الالتقاء على كلمة سواء، والثقة بأن العنف لم ولن يحسم الصراع لصالح أحد الأطراف، فضلاً عن أن يقرب بين نقاط الخلافات العقدية والمنطلقات الثقافية، فيصبح الحوار الديني الحضاري على رأس قائمة أولوياتنا.

إن الشعور بالمرارة الذي تكنه الشعوب الإسلامية عامة تجاه الغرب أشد مما يكنه الغرب تجاه المسلمين. فقد ساءت آراء المسلمين عن الغرب وعن الشعوب الغربية بصورة كبيرة على مدار العام الماضي. ويحمل المسلمون الغرب مسئولية توتر العلاقات بين الجانبين. ومع ذلك فإن هناك أيضًا بعض المؤشرات الإيجابية, من بينها حقيقة انخفاض معدلات دعم 'الإرهاب' في معظم البلدان الإسلامية.

وفي نفس الوقت على الرغم من عمق الانقسامات في العلاقات بين الشعوب الغربية والإسلامية, كشف الاستطلاع الذي أجرته مؤسسة Pew Global Attitudes أن نظرة كل طرف للآخر ليست جميعها سلبية. على سبيل المثال, في أعقاب الأحداث الصاخبة التي حدثت العام الماضي, لازالت الأغلبية العظمى في فرنسا وبريطانيا العظمى والولايات المتحدة تحتفظ عامة بآراء إيجابية عن المسلمين, على الرغم من أن دولة إسبانيا شهدت العام الماضي هبوطًا حادًا في نظرة شعبها الإيجابية تجاه المسلمين حيث انخفضت إلى 29% بعد أن كانت 46%, وكان معدل الهبوط أكثر اعتدالاً في بريطانيا العظمى, حيث انخفض من 73% إلى 63%(4).

وبشكل عام, تعد آراء الألمان والأسبان تجاه المسلمين والعرب أكثر سلبية من نظرة الفرنسيين والبريطانيين والأمريكيين للمسلمين. فهناك 36% فقط من الألمان, و29% من الأسبان ممن لهم آراء إيجابية عن المسلمين, في مقابل [ 39%, و33%, على التوالي ] ممن لديهم انطباعات إيجابية عن العرب. في حين أن الأغلبية في فرنسا وبريطانيا والولايات المتحدة لديهم انطباعات إيجابية عن المسلمين, ونفس النسب تقريبًا لديها انطباعات جيدة عن العرب(5).

وتتمثل أهم دعائم إنجاح الحوار الحضارى فى القناعة المبنية على الواقع في وجود نقاط التقاء مشتركة بين الإسلام والمسيحية، والعزم الصادق على استثمارها إلى أقصى حد ممكن بهدف الوصول إلى فهم صحيح، واحترام متبادل وتعاون بناء مخلص بين جميع أطراف الحوار.

يضاف إلى ذلك ما يمكن استخلاصه من خلال البحث في المعوقات التي أوجزتها في ثلاث نقاط وأعدت صياغتها في عشرة أسئلة، سبق ذكرها قبل قليل وفضلاً عن المبدأ الإسلامي المتضمن بعض آيات الذكر الحكيم والذي يأمرنا فيها ربنا عز وجل بأن ندعو إلى سبيله بالحكمة والموعظة الحسنة وألا نجادل غيرنا إلا بالتي هي أحسن. والمقصود بالدعوة فى معنى النص القرآني يرادف المعنى المقصود بالحوار الديني الذي نسعى جميعا إلى تدعيمه.

يقول تعالى : {ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ} (125) سورة النحل

وعَنْ ذِي مِخْبرٍ t، عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، قَالَ : " تُصَالِحُونَ الرُّومَ صُلْحًا آمِنًا ، وَتَغْزُونَ أَنْتُمْ وَهُمْ عَدُوًّا مِنْ وَرَائِهِمْ ، فَتَسْلَمُونَ ، وَتَغْنَمُونَ" .................................................................أخرجه الإمام أحمد.

و أوجز في النقاط التالية أهم المنطلقات الإسلامية المدعمة ، في نظري ، للحوار الديني الحضاري:

1- يؤمن المسلم بصدق نبوة الأنبياء الذين تلقوا الوحي الإلهي ، مثل إبراهيم وموسى وعيسى، ثم خاتمهم محمد (عليهم الصلاة والسلام)، وكذلك بصدق أصول رسالاتهم السماوية يقول تعالى : {قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} (البقرة:136)

2- يلبي الإسلام جميع جوانب الحياة الإنسانية، المادية والعقلية والروحية بدرجات متوازنة كما قدم للإنسان منهجا حياتيا متكاملا يقوم على الربط التام بين الإيمان والقول والعمل، ولا يعترف بما يهمل فيه أحد هذه الأركان يقول تعالى { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ (10) تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (11)}الصف.

3-- يعد الإسلام كل عمل نافع في الدنيا لا ينتج عنه أي ضرر لفاعله أو لغيره من البشر جزءاً من عبادة الله. ولا يسأل إنسان إلا عما يفعل، وإذا ما أخطأ دون قصد، أو بقصد، ثم تاب عن ذلك توبة نصوحاً، فرحمة الله وسعت كل شيء يقول تعالى : {قُلْ إِنِّيَ أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ(15) مَّن يُصْرَفْ عَنْهُ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمَهُ وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ (16)} سورة الأنعام ، ويقول أيضاً : {وَإِذَا جَاءكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِنَا فَقُلْ سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَن عَمِلَ مِنكُمْ سُوءًا بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابَ مِن بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ(54) } سورة الأنعام .

4- يقدم الإسلام للإنسان نظاماً اجتماعياً متكاملاً، يضم في تناسق تام المصلحة العامة والمصلحة الخاصة،الدينية والدنيوية، ويرفض رفضاً باتاً الفصل بين الدنيا والدين، وبالتالى فلا يقبل المنهج الغربي العصراني (العلماني). ويستمد الإسلام هذا المنهج في عصر النبوة، حيث كان رسولنا الكريم نبيا وحاكماً لأول دولة إسلامية أسسها في المدينة المنورة ، وكتب لها دستورها الذي تضمن تنظيماً دقيقاً لكل ما احتاجته من مؤسسات وقوانين عُرفت في كتب السيرة بصحيفة المدينة .

5-الإسلام يجعل طلب العلم فريضة على كل قادر، ولم يحاربه كما يدعي البعض، ويكفي أن أول خمس آيات أنزلت منه تأمر بالقراءة وطلب العلم، قال تعال: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1) خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ (2) اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ (3) الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ (4) عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ (5)}العلق . ويذهب الإسلام إلى أبعد من ذلك في تكريم العلماء فيقول رسولنا الكريم: " إِنَّ الْعُلَمَاءَ وَرَثَةُ الْأَنْبِيَاءِ "أخرجه ابن ماجه والترمذي. فلا وجه إذاً لمقارنة الإسلام بالكنيسة فى هذا الصدد كما يفعل دعاة العصرنة (العلمنة) من الغربيين أو المستغربين الشرقيين.

6- تتفق الحقائق العلمية الثابتة التي توصل إليها العلم في العصر الحديث مع تفسير النصوص القرآنية الواردة فى تلك المجالات قبل أربعة عشر قرناً، ويفسر لنا سبب التقدم العلمي الهائل الذي تميزت به الحضارة الإسلامية في عصر قوتها الأولى.

7- أثبت الإسلام قدرته على التعامل مع كل المستجدات والمتغيرات الاجتماعية التي تطرأ على الحياة بفعل تغير الزمان والمكان بواسطة منهجه الفقهى المرن والمتعدد الوسائل (الأدلة الشرعية)، حيث يحتل العقل السليم الموضع اللائق به وبصفته مناط التكليف فى الإسلام، ويأتي في المرتبة التالية بعد القرآن والسنة لكونه أساس الاجتهاد والطريق الرئيسي للإجماع والقياس وسائر الأدلة الأخرى مثل " المصالح المرسلة وسد الذرائع، ومعرفة مقاصد الشريعة ..............وغير ذلك مما يعرفه دارسو أصول الفقه الإسلامى .

8- الحرية السياسية المتمثلة فى حرية التعبير عن الرأي والمشاركة في الحكم مكفولة فى الإسلام، ومنصوص عليها فى القرآن الكريم، ومطبقة فى السنة النبوية، وسنة الخلفاء الراشدين ،يقول تعالى : {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ} (159) سورة آل عمران ، وقد أرسى الإسلام بذلك القواعد الأولى لنظام " ديمقراطي" تتعدد فيه المؤسسات والاختصاصات، يأتي على قمتها مجلس الشورى أو مجلس " أهل الحل والعقد " حسب التعبير الإسلامي.

9- كان الإسلام ولا يزال منفتحاً على الثقافات الأخرى، وكان على المسلمين التعامل والتفاعل باستمرار مع عناصر ثقافية غربية وجدها في البلاد التي فتحها، وأخذوا منها ما رأوا فيه فائدة، وتركوا غير ذلك دون خوف على هويتهم الإسلامية، وعملاً بقول رسولنا الكريم " الْحِكْمَةُ ضَالَّةُ الْمُؤْمِنِ فَحَيْثُ وَجَدَهَا فَهُوَ أَحَقُّ بِهَا "أخرجه الترمذي في العلم ، وابن ماجة في الزهد .

10- يوجد في الإسلام جهاز مناعة ذاتية يبدأ العمل عندما يتخطى التأثير الخارجي حدود الإيجابية وينقلب إلى تغريب ثقافي يهدد استقلال الهوية الإسلامية، ولا يتوقف جهاز المناعة الذاتية عن العمل حتى يعيد التأثير الغريب إلى ما دون حد الخطر، ولقد عرف النبي $ هذا الخطر قبل حدوثه فأخبرنا قائلاً: " إِنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ لِهَذِهِ الْأُمَّةِ عَلَى رَأْسِ كُلِّ مِائَةِ سَنَةٍ مَنْ يُجَدِّدُ لَهَا دِينَهَا " أخرجه أبو داوود.

تضمنت هذه النقاط العشر أهم العناصر الإيجابية في التصور الإسلامي والتي تصلح لأن تكون منطلقات قوية لتفاعل وتلاقح إيجابيين بين الإسلام والغرب في العصر الحاضر مثلما كان في عصر قوة الحضارة الإسلامية التي امتدت إلى ما يقرب من ثمانية قرون.

وفي المقابل هناك بعض الملحوظات على موقف الغرب أدت ولا تزال تؤدي- في نظري - إلى تأخر حدوث الوفاق والثقة والتعاون الجاد المثمر بين الإسلام والغرب، وأوجز هذه الملحوظات فيما يلي:

1- يبدو أن كثيراً من الباحثين والسياسيين والإعلاميين فى الغرب لم يعوا بعد أن كثيراً من الباحثين المسلمين أصبحوا يتقنون قراءة ما بين السطور وما تتضمنه بعض العبارات من مغالطات مغلفة بغلاف يظهرها في مظهر الحقائق الثابتة، وأن هؤلاء المسلمين قادرون على الرد المنهجى، والدليل على ذلك استمرار كثير منهم في تكرار ذات المغالطات الموروثة عن العصور الوسطى، والتي ثبت خطؤها عند كثير من الباحثين الجادين، أيضا في الغرب(6). فلا بد من مراجعة جادة لهذا الموقف غير المنصف الذى لا يشجع على الحوار.

2- لعل الغرب لم يدرك بعد أن مرحلة الانبهار اللامحدود التي سادت لفترة طويلة بين المسلمين قد انتهت إلى الأبد، وحل محلها الرغبة الملحة في المساواة التامة، والاحترام المتبادل بين الطرفين.

3- للمسلمين وجهة نظر خاصة في تقييم التقدم العلمي الحديث حسب المفهوم الغربي، فيرى المسلمون أن التقدم العلمي الحديث قد اندفع في الاتجاه المادي مهملاً الجانب الروحي في الإنسان، كما أن الغرب قد اقتطع لنفسه النصيب الأعظم من ثمار هذا التقدم، ولم يترك لغيره سوى الفتات الذي يجعلهم دائماً مرتبطين اضطراراً بالغرب.

4- إن الربط المتعسف بين التقدم العلمي وعصرنه (علمنة) الحياة العامة يكشف عن محورية فكرية غربية يريد الغرب فرضها على الغير دون اعتبار لاختلاف المنطلقات والتصورات الدينية والثقافية للغير، إن البحث الموضوعي في التاريخ الإسلامي يثبت بالقطع التلازم بين القوة السياسية وقوة تغلغل العقيدة وهيمنتها على الحياة العامة في العالم الإسلامى.

وفى المقابل فقد بدأ تصدع أركان الدولة الإسلامية مع بداية انحراف نظام الحكم عن هذا المنهج وخضوعه للأهواء والرؤى الشخصية والاندفاع في فصل الأمور العامة في مجال السياسة والاقتصاد والتشريع عن الدين، وقصره على الأمور الفردية الخاصة.

5- مما يؤسف له حقاً أن نجد الغرب يحتفي بكل من يتجنى ويتطاول على الإسلام بغير الحق، ويضفي عليه ما لا يستحق من ألقاب التكريم، فهو مفكر حر شجاع، وثائر على مظاهر التخلف المرتبط بالدين، وتنهال عليه الجوائز التقديرية من أكبر المؤسسات الأدبية، ويفسح له مجال التدريس في الجامعات الأوربية رغم ارتفاع نسبة البطالة بين الأكاديميين من الأوروبيين وما يستتبع ذلك من وسائل الحماية باهظة التكاليف ......إلخ.

لقد أصبح التطاول علي الإسلام أسرع وأقصر الطرق إلى الشهرة وكسب العيش في الغرب، رغم أن هؤلاء الذين أصبحوا فجأة من كبار المفكرين الأحرار والمناضلين المغاوير، كانوا قبيل هذا التطاول ضمن المغمورين من متوسطي الكفاءة العلمية.

6- لقد أثبتت التطورات السياسية في العقود الأخيرة أن حماس الغرب لتطبيق الديمقراطية وحقوق الإنسان له حدود جغرافية وثقافية، فعلى سبيل المثال، عندما شرعت حكومة طالبان الجديدة في أفغانستان في تطبيق تعليمات متشددة على السيدات قامت منظمات حقوق الإنسان والمنظمات النسائية بالمظاهرات المنددة لتلك الإجراءات، والتي طالبت فيها الحكومة الأفغانية بالرجوع عن تلك القرارات (الظالمة).

بينما كان رد فعل هذه المنظمات في غاية التواضع عندما كانت الاعتداءات الصربية والكرواتية الهمجية تحصد الآلاف من النساء والأطفال والرجال العزل من المسلمين فى البوسنة والهرسك على بعد بضعة أميال، وعلى مسمع ومرأى من العالم الغربى المتحضر- نصير حقوق الإنسان- وكذا ما حدث أخيراً في أبي غريب وكثير من مدن العراق ،كل ذلك وعلى مدى سنوات طويلة سيبقى في ذاكرة الأجيال القادمة من المسلمين.

7- إن تخوف الغرب من نظام حكم إسلامى قد يجد مبرراً له في النماذج السلبية الموجودة في بعض الدول الإسلامية، إلا أن النظرة الموضوعية لنظام الحكم الإسلامي الصحيح سوف تقوض كل أساس لهذا التخوف ويكفي لذلك أن تعاد قراءة التاريخ الإسلامي من جديد بموضوعية وتجرد صادق، خاصة تاريخ الحكم أثناء الخلافة الراشدة.

8-إن أكثر ما يقلق المسلمين في الآونة الأخيرة هو تركيز الإعلام الغربي بكل وسائله على إظهار الإسلام فى صورة العدو الجديد الذى يهدد الحضارة الغربية الحديثة، إتباعاً لمخطط عدائي صريح موجه ضد المسلمين، ترعاه جهات مخضرمة في العداء للإسلام، وعلى رأسها مؤسسات صهيونية ذات نفوذ مالي وسياسي وإعلامي في الغرب. والإسلام بريء من هذا الاتهام الباطل ذي الأهداف المعروفة لكل مطلع في هذا المجال.

نقاط تلاق بين الإسلام والغرب:

رغم ما ذكر من نقاط اختلاف، ونقاط نقد، وتحفظات من جانب المسلمين على موقف الغرب من الإسلام في الماضي والحاضر، إلا أنني أجد نقاط التقاء أساسية وعديدة، لا تساعد فقط على إنجاح الحوار بين الإسلام والغرب بل يمكن أن تكون إكمالاً وتحدياً بناء للحضارة الغربية الحديثة، أوجز هذه النقاط فيما يلي:

1- أولاً وقبل كل شيء لم يكن الإسلام يوماً ما عدواً للحضارة الغربية، القديمة أو الحديثة، فضلاً عن قناعة المسلمين بوجود وضرورة وجود علاقات ثنائية متبادلة فى شتى المجالات، خاصة الثقافية والحضارية بين الإسلام و الغرب.

2- كل من الإسلام والحضارة الغربية يشجع البحث العلمي، ويؤمن بضرورة تطوير حياة الإنسان إلى الأفضل، إلا أن الإسلام يفرض ضوابط خلقية واجتماعية للبحث العلمي من شأنها أن تبقي على العلم خادماً للإنسان كي لا ينقلب عليه فيدمره، إلى جانب ضرورة الحفاظ على التوازن الطبيعي بين الإنسان والبيئة بكل عناصرها الطبيعية.

3- كل من الإسلام والغرب يحترم ويحمي الملكية الفردية، ويسعى إلى تحقيق أفضل استثمار للطاقات والموارد الطبيعية ويشترط الإسلام ألا يأتي ذلك على حساب فئة من البشر أو عنصر من عناصر الطبيعة، لذلك حرم الربا وأحل البيع، كما حرم الإسراف في استنزاف الموارد الطبيعية.

4- كل من الإسلام والغرب يؤيد ويحمي التعددية في الحكم، وحرية التعبير عن الرأي، الإسلام لا يعتبر المساس بالشعور الديني أو الأخلاقي للآخرين جزءاً من حرية الفكر أو التعبير عن الرأي فحسب، بل هو تعدٍ على حقوق الآخرين، يستحق فاعله العقاب العادل، وللإسلام تصور خاص عن التعددية، يتمثل في مجلس للشورى يضم ممثلين عن كل جماعات الأمة، يسمون أهل الحل والعقد، وقد اختلفت آراء الفقهاء فى مدى إلزامية رأي هذا المجلس، فمنهم من رأى أنه ملزم للحاكم، ومنهم من ذهب إلى أنه غير ملزم، والراجح أنه ملزم........................الأحكام السلطانية للماوردي ص 5-7.

5- استحدث الإسلام مؤسسة اجتماعية جديدة تعمل بالتعاون مع المؤسسات القانونية والأمنية المعروفة، على حفظ النظام فى الأماكن العامة والأسواق، تسمى " هيئة الحسبة" ومن أهم أهدافها درء الأسباب التي تؤدى- إذا أهملت- إلى وقوع المخالفات القانونية في الأماكن العامة مثل مخالفات الآداب، ومحاولات الغش بشتى أنواعه التجارية والإدارية، وما شابه ذلك من أمور قد تخفي على الجهات التقليدية المسئولة.

6- يحرص الإسلام- مثل الغرب - على ضرورة احترام وتطبيق حقوق الإنسان، ويؤكد الإسلام على ضرورة أن يشمل ذلك كل البشر بقدر متساو، وأن يراعى ذلك في حالات الحرب أو السلم، كما يشهد بذلك كثير من الآيات القرآنية، وأحاديث الرسول الكريم ووصايا الخلفاء الراشدين. يقول تعالى : {وَقَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُواْ إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبِّ الْمُعْتَدِينَ} (190) سورة البقرة ، ويقول عز من قال : {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تُحَرِّمُواْ طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللّهُ لَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُواْ إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} (87) سورة المائدة ، ويقول أيضاً : {وَإِن جَنَحُواْ لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} (61) سورة الأنفال .

7- المحافظة على سلامة البيئة واجب شرعي على كل مسلم لأنه مستخلف من الله في الأرض لأعمارها، وسوف يحاسب الإنسان على كل ما جناه في حق البيئة التي خلقها الله وسخرها لخدمة الإنسان، فالمحافظة عليها واستثمارها بما ينميها ويزيدها قوة هو من واجب شكر النعمة، وفي القرآن الكريم آيات عديدة تؤكد هذا الواجب الشرعي ، يقول تعالى : {وَإِذِ اسْتَسْقَى مُوسَى لِقَوْمِهِ فَقُلْنَا اضْرِب بِّعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْناً قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَّشْرَبَهُمْ كُلُواْ وَاشْرَبُواْ مِن رِّزْقِ اللَّهِ وَلاَ تَعْثَوْاْ فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ} (60) سورة البقرة. وقد روي عن الرسول الكريم $ أنه قال: " إِنْ قَامَتِ السَّاعَةُ وَفِي يَدِ أَحَدِكُمْ فَسِيلَةٌ ، فَإِنِ اسْتَطَاعَ أَنْ لا تَقُومَ حَتَّى يَغْرِسَهَا فَلْيَغْرِسْهَا " أخرجه البخاري في الأدب المفرد.

8- يحرم الإسلام كل أنواع الظلم الاجتماعي، ويؤكد المساواة التامة بين البشر من حيث أصولهم، على اختلاف ألوانها وألسنتهم وأجناسهم ومستوياتهم الاجتماعية، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} (13) سورة الحجرات ، كما أنه وإن لم يحرم الرق بنص شرعي صريح، إلا أنه حبب في عتقهم، وجعله من كفارات الكبائر ، يقول تعالى : {وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ(12) فَكُّ رَقَبَةٍ (13) } سورة البلد .

9- يتضمن مبدأ المساواة التامة بين البشر من حيث أصولهم تصوراً خاصا لما يسمى " قضية المساواة بين المرأة والرجل" فمما لاشك فيه أن وضع المرأة في كثير من البلاد الإسلامية،الذي يرجع إلى عادات وتقاليد جاهلية يرفضها الإسلام، يحتاج إلى مراجعة موضوعية عادلة تعطي المرأة حقها الشرعي الذي قسمه الله لها، متفقاً مع طبيعتها التي تختلف بلا شك في بعض الجوانب عن طبيعة الرجل، إلا أن هذا الاختلاف، كما أنه لا يبرر بأية حال سلب حقوقها الطبيعية والشرعية، لا يعفيها من القيام بواجباتها التى تتفق مع طبيعتها وفطرتها التي فطرها الله عليها، مثل واجب الأمومة الذي لا يدانيه في الأهمية أي وجب آخر لرجل أو امرأة، ويؤكد ذلك عديد من آيات الذكر الحكيم ، يقول تعالى : {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ ثَلاَثَةَ قُرُوَءٍ وَلاَ يَحِلُّ لَهُنَّ أَن يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ إِن كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ إِنْ أَرَادُواْ إِصْلاَحًا وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ وَاللّهُ عَزِيزٌ حَكُيمٌ} (228) سورة البقرة، ويقول تعالى : {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاء بِمَا فَضَّلَ اللّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنفَقُواْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِّلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللّهُ وَاللاَّتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلاَ تَبْغُواْ عَلَيْهِنَّ سَبِيلاً إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلِيًّا كَبِيرًا} (34) سورة النساء ، وكثير من الأحاديث الشريفة ، قال رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " إِنَّ النِّسَاءَ شَقَائِقُ الرِّجَالِ ". أخرجه الترمذي وغيره .

وصدق الشاعر حين قال :

"الأم مدرسة إذا أعددتها أعددت شعباً طيب الأعراق "

ومن حيث المبدأ، لم يحرم الإسلام على المرأة ممارسة أي عمل شريف لا يجبرها على تعدى حدود الشرع الخلقية، من حيث الملبس أو الاختلاط المشبوه مع الرجال غير المحارم.

وأفضل الأعمال بالنسبة للمرأة وأبعدها عن الشبهات، خارج المنزل، هي الأعمال التي تخص النساء والأطفال خاصة في مجال الطب والتمريض والتربية، ولا ينبغي أن يفهم من ذلك تحريم عملها في غير هذه المجالات طالما روعيت الضوابط الخلقية الشرعية المتفق عليها.

10- يدعو الإسلام (مثل المسيحية) إلى التسامح ويرفض كل أساليب الإكراه في الدين أو التعصب العرقي أو غير ذلك. قال تعالى: {لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ } (256) سورة البقرة.

11- يدعو الإسلام، كما تدعو المسيحية، إلى التواد، والتراحم، والتكافل بين كل أفراد المجتمع فعَنْ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِير tماٍ قَالَ :قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :"مَثَلُ الْمُؤْمِنِينَ فِي تَوَادِّهِمْ وَتَرَاحُمِهِمْ وَتَعَاطُفِهِمْ مَثَلُ الْجَسَدِ إِذَا اشْتَكَى مِنْهُ عُضْوٌ تَدَاعَى لَهُ سَائِرُ الْجَسَدِ بِالسَّهَرِ وَالْحُمَّى".أخرجه مسلم.

ويضمن ذلك في الإسلام نظام دقيق لتوزيع الحقوقى والواجبات داخل دوائر اجتماعية تبدأ من الأسرة، ثم الأقارب، ثم الجيران، ثم البلدة، ثم تتسع إلى أن تشمل كل أفراد المجتمع، بل والأمة الإسلامية كلها بمن يعيش فيها من غير المسلمين.

ويشرف على تطبيق ذلك مؤسسات بعضها رسمي مثل وزارة الأوقاف، وبعضها خاص تمول عن طريق ما يأتيها من أموال الزكاة والصدقات بكل أنواعها،قال تعالى: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاء وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِّنَ اللّهِ وَاللّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} (60) سورة التوبة.

12- يتضمن التصور الإسلامي كلاً من الجانب التشريعي للحياة، الذي اهتمت به أيضا اليهودية،والجانب الروحاني الذى ركزت عليه المسيحية، يتجلى ذلك في إجازته للعقاب على الخطأ من جانب، وحثه على مقابلة الإساءة بالعفو عند المقدرة، بل ومقابلة السيئة بالحسنة، بمعنى أن تحسن لمن أساء إليك، وقد ورد هذا المعنى في كثير من آيات الذكر الحكيم والأحاديث النبوية الشريفة ، يقول تعالى : {وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ} (34) سورة فصلت. وعَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ ، أَنَّهُ قَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، أَوْصِنِي ، قَالَ : " اتَّقِ اللَّهَ حَيْثُمَا كُنْتَ ، أَوْ أَيْنَمَا كُنْتَ " ، قَالَ : زِدْنِي ، قَالَ : " أَتْبِعْ السَّيِّئَةَ الْحَسَنَةَ تَمْحُهَا " ، قَالَ : زِدْنِي ، قَالَ : " خَالِقِ النَّاسَ بِخُلُقٍ حَسَنٍ "..أخرجه أحمد والطبراني .

13- إن الحرية الإنسانية الحقيقية لا تتحقق في أجل معانيها إلا إذا أفرد الإنسان ربه بالعبودية الخالصة، لأنه بذلك لا يكون عبدا لأي إنسان، أو لأي مخلوق آخر فى الطبيعة ، يقول تعالى : {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاء وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ} (5) سورة البينة ، و عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بن مسعود رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ : سَأَلْتُ أَوْ سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَيُّ الذَّنْبِ عِنْدَ اللَّهِ أَكْبَرُ؟!. قَالَ :أ"َنْ تَجْعَلَ لِلَّهِ نِدًّا وَهُوَ خَلَقَكَ" متفق عليه . فهذه الطبيعة مسخرة للإنسان طالما هو يحسن استثمارها، وإعمارها كما أمره خالقه(7).

وبعد... أرجو أن أكون قد وفقت إلى إيجاز أهم النقاط التي تتعلق بموضوع هذا البحث المتواضع الذى حاولت فيه التعريف بأهم نقاط الاختلاف، ونقاط التلاقى بين الإسلام والغرب وكذلك المنطلقات الإسلامية التى تصلح لأن تكون كلمة سواء، وقاعدة مشتركة يبنى عليها حوار بناء يحفظ لكل طرف حقه فى الاحتفاظ باستقلاليته وهويته الدينية والحضارية، دون المساس بحق الآخر فى الاستقلال الدينى والحضاري.

فعندما كانت السيادة الإسلامية في أوج قوتها، خاصة في العصور الوسطى المسيحية، أغفلت التطورات الجذرية التي طرأت في الجانب الآخر وهو الغرب.

وقد حدث الشيء نفسه للدولة المغولية، ومن بعدها الدولة العثمانية، ولم تختلف الحال عن ذلك بالنسبة للدول الأوربية الاستعمارية في العصر الحديث وفى كل تلك الحالات كان الانحطاط الحضاري النتيجة المنطقية لغرور القوة والعظمة، ولم تتعلم اللاحقة من السابقة فذاقت كلها ذات المصير، وإنْ كان ذلك بنسب متفاوتة، فهل نتعلم نحن اليوم مسلمون وغير مسلمين من دروس التاريخ؟!!!.

إنني على ثقة تامة أن كلاً من المجتمعين الإسلامي والغربي يمكن أن يكمل أحدهما الأخر ويصلا يداً بيد إلى حياة أكثر أمناً وسلاماً وعدلاً ورخاءً.

فعند أبي داوود سَألَ جُبَيْرٌ بنُ نُفَيرٍ ذا مُخبرٍ الحبَشي t عَنِ الْهُدْنَةِ ، فَقَالَ : سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، يَقُولُ : " سَتُصَالِحُونَ الرُّومَ صُلْحًا آمِنًا فَتَغْزُونَ أَنْتُمْ وَهُمْ عَدُوًّا مِنْ وَرَائِكُمْ فَتُنْصَرُونَ وَتَغْنَمُونَ وَتَسْلَمُونَ ثُمَّ تَرْجِعُونَ ".....أخرجه أبو داوود في سننه وصححه الألباني

إذاً الهدنة ( المصالحة الآمنة ) ممكنة من حيث الاستقراء الذي طرحناه عبر هذه الأطروحة ، وهي قادمة لا محالة من الناحية الشرعية حيث أخبر عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح ، ونحن نؤمن بما قاله صلى الله عليه وسلم إيماناً راسخاً ، ونستشهد على ذلك بما دار بين النبي صلى الله عليه وسلم وبين عدي بن حاتم رضي الله عنه ، فعَنْ عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ t قَالَ : بَيْنَا أَنَا عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذْ أَتَاهُ رَجُلٌ فَشَكَا إِلَيْهِ الْفَاقَةَ ثُمَّ أَتَاهُ آخَرُ فَشَكَا إِلَيْهِ قَطْعَ السَّبِيلِ ، فَقَالَ : "يَا عَدِيُّ ، هَلْ رَأَيْتَ الْحِيرَةَ "؟. قُلْتُ : لَمْ أَرَهَا ، وَقَدْ أُنْبِئْتُ عَنْهَا . قَالَ : "فَإِنْ طَالَتْ بِكَ حَيَاةٌ لَتَرَيَنَّ الظَّعِينَةَ تَرْتَحِلُ مِنْ الْحِيرَةِ حَتَّى تَطُوفَ بِالْكَعْبَةِ لَا تَخَافُ أَحَدًا إِلَّا اللَّهَ" . قُلْتُ : فِيمَا بَيْنِي وَبَيْنَ نَفْسِي فَأَيْنَ دُعَّارُ طَيِّئٍ الَّذِينَ قَدْ سَعَّرُوا الْبِلَادَ ؟. "وَلَئِنْ طَالَتْ بِكَ حَيَاةٌ لَتُفْتَحَنَّ كُنُوزُ كِسْرَى " .قُلْتُ :كِسْرَى بْنِ هُرْمُزَ؟. قَالَ : "كِسْرَى بْنِ هُرْمُزَ ، وَلَئِنْ طَالَتْ بِكَ حَيَاةٌ لَتَرَيَنَّ الرَّجُلَ يُخْرِجُ مِلْءَ كَفِّهِ مِنْ ذَهَبٍ أَوْ فِضَّةٍ يَطْلُبُ مَنْ يَقْبَلُهُ مِنْهُ فَلَا يَجِدُ أَحَدًا يَقْبَلُهُ مِنْهُ ، وَلَيَلْقَيَنَّ اللَّهَ أَحَدُكُمْ يَوْمَ يَلْقَاهُ وَلَيْسَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ تَرْجُمَانٌ يُتَرْجِمُ لَهُ ، فَلَيَقُولَنَّ لَهُ : أَلَمْ أَبْعَثْ إِلَيْكَ رَسُولًا فَيُبَلِّغَكَ ؟. فَيَقُولُ : بَلَى . فَيَقُولُ : أَلَمْ أُعْطِكَ مَالًا ، وَأُفْضِلْ عَلَيْكَ ؟. فَيَقُولُ: بَلَى . فَيَنْظُرُ عَنْ يَمِينِهِ فَلَا يَرَى إِلَّا جَهَنَّمَ ، وَيَنْظُرُ عَنْ يَسَارِهِ فَلَا يَرَى إِلَّا جَهَنَّمَ " . قَالَ عَدِيٌّ : سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: " اتَّقُوا النَّارَ وَلَوْ بِشِقَّةِ تَمْرَةٍ ، فَمَنْ لَمْ يَجِدْ شِقَّةَ تَمْرَةٍ فَبِكَلِمَةٍ طَيِّبَةٍ". قَالَ عَدِيٌّ : فَرَأَيْتُ الظَّعِينَةَ تَرْتَحِلُ مِنْ الْحِيرَةِ حَتَّى تَطُوفَ بِالْكَعْبَةِ لَا تَخَافُ إِلَّا اللَّهَ ، وَكُنْتُ فِيمَنْ افْتَتَحَ كُنُوزَ كِسْرَى بْنِ هُرْمُزَ وَلَئِنْ طَالَتْ بِكُمْ حَيَاةٌ لَتَرَوُنَّ مَا قَالَ النَّبِيُّ أَبُو الْقَاسِمِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُخْرِجُ مِلْءَ كَفِّهِ. أخرجه البخاري في صحيحه .

بقي أخي القارئ الكريم أن تعرف أن عدي بن حاتم t يوم أن جرت معه هذه الحادثة كان نصرانياً !!!!.

ولكن ما الكيفية المناسبة لهذا الحوار ؟

أولا: بساطة المعنى ووضوح الفكر

يستند الحوار المثمر مع غير المسلمين على البساطة فى اللفظ، والوضوح فى المعنى، واليسر فى الدين، ولهذا لم يعهد التاريخ مصلحاً أيقظ النفوس. وأحيا الأخلاق، ورفع من شأن الفضيلة فى زمن قياسي كما فعل محمد بن عبد اللهr، من خلال نشاط تبين من خلاله أن فهم الدعوة الإسلامية لا يحتاج إلى مقدرة عقلية وملكات ذهنية كبيرة، وإنما يرجع ذلك إلى طبيعة هذا الدين الذى يخاطب فطرة الإنسان، ويتعامل مع ظروفه، ويلبي رغباته، ويعالج قضاياه، ويرد على تساؤلاته، ويربط في تناسق وانسجام، بين ما يتضمنه من حقائق وواقع الحياة، فمشكلات الناس وقضاياهم، يجدها الإنسان معروضة بصورة مبسطة، سهلة الفهم والاستيعاب فى القرآن الكريم، وفى سنة الرسول r.

ثانيا: حوار يستند إلي منطق العقل ويقوم على الحجة البالغة

لقد كتب الله فى سننه أن يكون منطق العقل تاج هذه الحياة الإنسانية يستطيع اكتناه غاية ما تستطيعه الإنسانية من أسرار الكون، كما كتب الله فى لوح هذا الوجود أن يقوم نبي الإسلام داعياً إلى الحق بمنطق العقل هو ومن اتبعه.

وقد جعل الإسلام العقل حكماً في كل شيء، فمن ربى على التسليم بغير عقل، والعمل بغير فقه، فهو قاصر الإيمان، حتى لو كان عمله صالحاً، فليس القصد من الإيمان أن يذلل الإنسان للخير كما يذلل الحيوان، بل القصد منه أن يرتقي عقله وترتقي نفسه بالعلم، فيعمل الخير لأنه يعرف أنه خير ويترك الشر لأنه يفهم سوء عاقبته ودرجة مضرته.

والحوار يجب أن يحترم العقل الإنساني ، ويقدر الفكر البشري ويضع الحجج العقلية والأساليب المنطقية على رأس طرق التفاهم والنقاش والجدل المفيد.

وما أكثر الآيات القرآنية التي تطلب من الإنسان أن يفكر ويتدبر، ويطلق عقله ليستنبط به، ثم يعتبر من خلال النظر إلى ما حوله من ظواهر طبيعية وحقائق علمية، يؤكد ذلك ما قاله الله تعالى: { كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} (32) سورة الأعراف ، وقال : {وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ وَلَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ } (174) سورة الأعراف ، وقال : { كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} (24) سورة يونس، وقال : { كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} (28) سورة الروم.

وتشير كافة الأدلة والبراهين على أن الإسلام دين يقوم على المنطق، ويستند إلى البرهان في مخاطبة الناس جميعا المسلمين منهم وغير المسلمين، وقد أمر الله بالمحافظة على العقل لعظم شأنه وضرورة الحاجة إليه، لأن فقده يعنى فقد شخصية الإنسان، ولأن الإخلال به يؤدي إلى التخبط والضلال، فحرم كل ما يؤثر عليه من المسكر والمفتر، ووضع عقوبة قاسية لمن ينتهك حرمته.

والحوار مع غير المسلمين يجب أن يستبعد أسلوب الأهاجة والإثارة ، لأن هذا الأسلوب وإن حقق بعض أغراضه لدى جماهير المسلمين، إلا أنه لا يصلح لمخاطبة غير المسلمين، ولعله من غير المنطقي مخاطبة غير المسلمين بالحجج القرآنية والنهج النبوى، والسبيل الوحيد للحوار معهم هو الأدلة العقلية، والأمثلة الحياتية، والحجج المنطقية

ثالثا: الحوار بالكلمة الطيبة والأسلوب الحسن

الحوار بالكلمة الطيبة يأتى فى مقدمة طرق التفاهم مع غير المسلمين،لأن هذه الكلمة هى التى تحمل للناس البشرى، وتأخذ بأيديهم إلى طريق الحق والصواب، ولا تسيء إلى أحد، ولا تعنف أحداً، وهى الكلمة الرقيقة التي تلمس القلوب فترق لها، وتخالط النفوس فتهش لها وتفرح بها، وهى البلسم الشافي يداوى الجروح، ويخفف الآلام، ويشفي النفوس.

وإمعانا في التسامح والرفق والرحمة والصبر حث الإسلام على التحلي بحسن الخلق، وسماحة النفس، ولين القول، والإعراض عن اللغو فى الحديث، وعدم التجاوز فى القول، وقد نهج محمد بن عبد الله rهذا النهج، مجسداً كل معانيه، سواء مع المسلمين أو غير المسلمين ملتزماً في ذلك بأوامر الله جل وعلا الذى حثه على اللين والرقة فى معاملته للجميع.

رابعا: التدرج المرحلي في الحوار.

التدرج هو واحد من أبرز المناهج المناسبة للحوار بين المسلمين وغيرهم،لاسيما أصحاب الديانات السماوية الأخرى نظرا لوجود مساحة مشتركة من التفاهم بين الإسلام والعقائد الأخرى، وهنا يجب أن يبدأ الحوار بالعوامل المتفق عليها، ويتدرج بعد ذلك حتى يصل إلى القضايا الخلافية، يجب أن تعتمد عليها وسائل الإعلام فى مخاطبة غير المسلمين.

ولعل رعاية الإسلام للتدرج هى التى جعلته يبقى على نظام الرق الذى كان سائدا فى العالم كله عند ظهور الإسلام، ولو تم إلغاؤه مرة واحدة لأدى ذلك إلى زلزلة فى الحياة الاجتماعية والاقتصادية، فكانت الحكمة فى تضييق روافده ما وجد إلى ذلك سبيل، وتوسيع مصارفه إلى أقصى حل، فيكون ذلك بمثابة إلغاء للرق بطريق التدرج (20).

وبعد... وفى ضوء هذه الحقائق فإننا نستطيع أن نجمل هذه الركائز التى يقوم عليها المنهج الإسلامي في الحوار مع غير المسلمين وذلك فى النقاط التالية:

1- أن الحوار مع غير المسلمين ضرورة حياتية لتحقيق التفاهم والتعاون والتقارب بين المسلمين وغيرهم.

2- نتحمل كمسلمين أهمية كبيرة في توضيح القيم الإسلامية البناءة لأصحاب الديانات والعقائد الأخرى وتصحيح الصورة الذهنية التي تروج لها الوسائل المغرضة لتشويه هذه الصورة وإحداث الفتنة بين المسلمين وغيرهم.

3- يؤكد الحوار على تأكيد المبادئ النبيلة التى يحث عليها الإسلام لتحقيق العدل والتكافل والتضامن والخير للناس جميعاً.

===============

#أيصبح العدو اللدود صديقاً حميماً!

إعداد: عادل الراجحي

اشتق لفظ التطبيع (Normalization) من الكلمة الإنكليزية (Normal) بمعنى العادي أو المعتاد أو المتعارف عليه، وفي مختار الصحاح (الطبع هو السجية جبل عليها الإنسان)، وفي المعجم الوسيط (تطبع بكذا أي تخلّق به، وطبّعه على كذا أي عوّده إياه)، ولا توجد مادة تطبيع في المعاجم العربية لأنها محدثة، فالمعنى الحالي مأخوذ من ترجمة هذه الكلمة عن لفظة إنكليزية تم تداولها أخيراً خاصةً بعد اتفاقيات كامب ديفيد، لكن يمكن تصور المعنى من كلمة التطبيع من حيث المبدأ أنه (هو العودة بالأشياء إلى سابق عهدها وطبيعتها).

حقيقة التطبيع مع اليهود:

"أنه يشمل (كل اتفاق رسمي أو غير رسمي أو تبادل تجاري أو ثقافي أو تعاون اقتصادي مع إسرائيليين رسميين أو غير رسميين) ويهدف إلى (إعادة صياغة العقل والوعي العربي والإسلامي بحيث يتم تجريده من عقيدته وتاريخه ومحو ذاكرته خاصة فيما يتعلق باليهود، وإعادة صياغتها بشكل يقبل ويرضى بما يفرضه اليهود) ومآله: الاستسلام غير المشروط للأمر الواقع والاعتراف بالكيان الصهيوني الغاصب للأرض كدولة ذات شرعية، وتحويل علاقات الصراع بينها وبين البلدان العربية والإسلامية إلى علاقات طبيعية وتحويل آليات الصراع إلى آليات تطبيع " (ورقة لحسين عبيدات ألقيت في المؤتمر العام العاشر للصحفيين العرب عام 2004 م).

وبذلك يتضح أن المقصود بالتطبيع هو سلام دائم وليس عبارة عن هدنة مؤقتة ومسالمة يركن إليها المسلمون لضعفهم في زمن معين - كما يعتقد بعض من يقولون بجواز التطبيع - باعتبار أنه صُلحٌ أو سِلمٌ جنح له العدو، ولا يخفى أن هناك فرقأً شاسعاً بين اتفاقيات التطبيع وبين أحكام الهدنة والصلح التي ذكرها العلماء، وأهون ما يمكن أن يقال عن هذه الاتفاقيات أنها صلح دائم مع عدو محتل لأرض المسلمين غاصب لمقدساتهم وهذا محرم باتفاق المسلمين، وقد قال جمع من علماء المسلمين أن الصلح الدائم مع اليهود لا يجوز شرعاً لما فيه من إقرار الغاصب على الاستمرار في غصبه والاعتراف بحقية يده على ما أغتصبه وتمكين المعتدي من البقاء على عدوانه، وقد أكدت الفتوى الصادرة من رابطة علماء فلسطين عدم جواز التطبيع مع دولة الاحتلال الصهيوني، موضحة أنه 'إذا استوطن أحد من الأعداء أرض المسلمين، فلا يجوز أن يقره على هذا الاستيطان أحد من المسلمين، وأن التطبيع بمثابة إقرار من المسلم المطبع لعدوان العدو واحتلاله،وجاء في فتوى الرابطة أن 'الواجب الديني على كل مسلم نصرة إخوانه ومعاونتهم على إخراج الأعداء من أرضهم، وعدم التطبيع مع الأعداء أبداً؛ لأن التطبيع مع الغاصب خذلان لأصحاب الحقوق وضرر بالغ بهم، فأين التعاون بين المسلمين على الأعداء إذا طبع المسلم مع عدو أخيه ومغتصب أرضه وقاتل بنيه' (موقع حركة الجهاد الإسلامي في فلسطين على شبكة الإنترنت).

وأخطر ما في التطبيع الذي يراد إقراره هو أنه في حقيقته صورة من صور الولاء، الذي يمكن أن ينتهي إلى التولي، والولاء والتولي لا يجوز إلا للمسلم، قال الله - تعالى ـ: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاء تُلْقُونَ إِلَيْهِم بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءكُم مِّنَ الْحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَن تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ إِن كُنتُمْ خَرَجْتُمْ جِهَاداً فِي سَبِيلِي وَابْتِغَاء مَرْضَاتِي تُسِرُّونَ إِلَيْهِم بِالْمَوَدَّةِ وَأَنَا أَعْلَمُ بِمَا أَخْفَيْتُمْ وَمَا أَعْلَنتُمْ وَمَن يَفْعَلْهُ مِنكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاء السَّبِيلِ" (الممتحنة: 1).

ولعلنا نتأمل أقوال بعض زعماء الصهاينة ونظرتهم إلى العلاقة التي يرغبون بإقامتها مع المسلمين، " يقول اليهودي هركابي (الأب الروحي لرابين): لابد من إدماج العرب في المشروع الصهيوني وتوظيفهم لخدمته، وهذا ممكن من خلال التعامل السياسي (وليس العسكري) مع العرب؛ لأنهم قوم لا يتحلون بالمثابرة والصبر والدأب وسرعان ما يدب فيهم الملل والضجر والاختلاف، ويسلمون أمورهم حتى لأعدائهم في سبيل الغلبة في معاركهم وخلافاتهم الداخلية " كتاب (لا للتطبيع د. عبدالله النفيسي)، ويقول شيمون بيريز: إن البقاء مستحيل لدينين لن يلتقيا ولن يتصالحا، وأنه لا يمكن أن يتحقق السلام في المنطقة ما دام الإسلام شاهراً سيفه ولن نطمئن على مستقبلنا حتى يغمد الإسلام سيفه إلى الأبد، وفي مؤتمر التسامح الذي عقد قبل عدة سنوات في المغرب العربي قال ديفيد ليفي وزير خارجية العدو حينها (إنه من أجل أن يقوم التسامح بيننا وبين العرب والمسلمين، فلا بد من استئصال جذور الإرهاب , وإن من جذور الإرهاب سورة البقرة من القران).

ثانياً: إستراتيجية اليهود وخططهم في التطبيع:

هناك بعض المعالم التي تبين سياسة الكيان الصهيوني للوصول إلى رحلة التطبيع:

1- القضم ثم الهضم هي إستراتيجية الكيان الصهيوني، ففي السنين الماضية احتلت أجزاء من بلاد المسلمين فتحتاج إلى وقت لهضمها وخلال هذا الوقت يتم الاستعداد لجولة أخرى يتم فيها التهام جزء آخر من بلاد الإسلام.

2- أصبح من المعتاد أن تبدأ الاتصالات سرية أولا بين المندوبين والوسطاء، ثم تنتقل إلى المسئولين فالزعماء للترتيب لإعلان بداية المفاوضات العلنية للتضليل، وهي قد انتهت سراً قبل الإعلان، وما جرى قبل زيارة السادات لفلسطين من اتصالات سرية بدأت في 9/1977م، وما كشفه موشي ديان في كتابه " أيبقى السيف الحكم "، وكشفته العديد من الكتب والمذكرات لزعماء يهود ومنها كتاب (تواطؤ عبر الأردن: ليوسي ميلمان ودان رفيف) من حقائق كثيرة لهو دليل واضح على ذلك.

3- تكوين رابطة الشرق أوسطية التي تربط بين دول المنطقة أجمع باسم الشرق الأوسط وتنبذ الانتماء للإسلام أو العروبة، وهذا مشروع اليهودي (شيمون بيريز)الذي طرحه في كتابه (الشرق الأوسط الجديد) عام 1993 م، ثم طور خطابه في عام 1995 م فذكر بأن الشرق الأوسط بحاجة إلى تبني مواقف ليندمج مع العالم الجديد، ونصح العرب بتطبيق سياسة اقتصاد السوق علماً بأن الكيان الصهيوني يقيد سياسة السوق، ومن المعلوم أن اقتصاد السوق الذي ينادي به بيريز هو الطريق اليسير لسيطرة الكيان الصهيوني والصهيونية العالمية ورؤؤس الأموال الأمريكية على الاقتصاديات العربية، ثم اسُتنسخ هذا الطرح مع بعض الإضافات والتعديلات في المشروع الأمريكي المسمى (الشرق الأوسط الكبير) الذي من أبرز عناصره:

- إقامة أمن إقليمي جديد بدلا من الأمن القومي العربي ويتضمن ذلك إقامة مناورات مشتركة عربية – غربية – إسرائيلية لضمان تطبيع العلاقات وكسر التعبئة النفسية وإضعاف روح الاستعداد المعنوي للمواجهة.

- طبيعة هذا المشروع سياسية في الأصل لكنه يعرض بقالب اقتصادي حيث يوصف بأنه مشروع اقتصادي أو كما يجري اختزاله أحياناً بـ " سوق شرق أوسطية ".

4- التطبيع وسيلة فاعلة لليهود تهيئ لهم الفرصة لدعم المنافقين والمفسدين لأداء دورهم داخل مجتمعاتهم بشكل يدفع كثيراً من المسلمين إلى الهزيمة النفسية والشعور باليأس من الإصلاح.

5- من أبرز أهداف اليهود سعيهم إلى عزل الدول العربية بعضها عن بعض وخاصة في المفاوضات ليحققوا أطماعهم الخاصة، فيخسر العرب الكثير من قوتهم بسبب فرقتهم وتفرقهم.

6- أن تصبح جامعات اليهود ومراكز أبحاثهم ودراساتهم مرجعية علمية للمنطقة بأسرها، بحيث تؤسّس للمشروع الصهيوني، الموجّه لتدمير الثقافة والهويّة الحضارية الإسلامية للمنطقة العربية بأكملها، وإحداث التفكيك والفوضى في داخل كل بلد عربي.

ثالثاً: مراحل التطبيع:

المرحلة الأولى: قبل عام 1967 م (اللقاءات السرية):

كانت بدايات مراحل التطبيع الأولى تتمثل في قدر من التواصل السياسي الذي يتحرك عبر الاتصالات السرية بين بعض الدول العربية والكيان الصهيوني، كالاتصالات التي كانت قائمة بين المغرب والكيان الصهيوني وبينه والأردن، وبعضها قبل حرب 1967م، وما كشفه كتاب (تواطؤ عبر الأردن)، يكفي في بيان المقصود حيث فيه توثيق للعلاقات السرية التي كانت قائمة بين الكيان الصهيوني والأردن ومن ذلك التوقيع على مسودة اتفاق في عام 1950 م تضمن: عدم الاعتداء بين الجانبين لمدة خمس سنوات وتشكيل لجان مشتركة بهدف التوصل إلى تسوية شاملة بين الطرفين، وقد برز هذا اللون من التطبيع منذ الاحتلال العسكري الإسرائيلي للضفة الغربية وقطاع غزة في يونيو 1967م، وذلك إثر توافق النظام العربي الرسمي بعد اعتراف مصر، ومن ثم سوريا بالقرار الدولي رقم 242 المتضمن أن الكيان الصهيوني قد وجد ليبقى، وأنه ما من سبيل إلى إزالته، لكن هذا التوجّه بدا أكثر وضوحاً بعد عام 1974م عندما انضمت منظمة التحرير الفلسطينية إلى السرب العربي، واعترفت بالقرار المذكور ولم يكن خافياً بالطبع ذلك الترابط بين اعتراف المنظمة بالقرار الدولي وبين الاعتراف بها ممثلاً شرعياً ووحيداً للشعب الفلسطيني في مؤتمر الرباط عام 1974م، بل بدأت مشاريع اتصالات سرية مع الكيان الصهيوني من خلال ما عُرف بالاتصالات مع التقدميين الإسرائيليين، أو اليسار الإسرائيلي، وكان من أبرزها اللقاءات المتتابعة للملك حسين مع اليهود في عامي 75 – 1976 م حيث بلغت ستة لقاءات ، وذلك لشعور الملك بخسارته لجزء مما كان يملكه بعد الاعتراف بمنظمة التحرير الفلسطينية ولخوفه من اتفاق وشيك بين مصر والكيان الصهيوني .

المرحلة الثانية: مرحلة توقيع معاهدة كامب ديفيد وتداعياتها عام1979م (كسر الحاجز النفسي):

زار فيها السادات فلسطين المحتلة عام 1977 م، والتقى بقادة اليهود فيها وألقى خطاباً في الكنيست الإسرائيلي، ثم ما لبثت المفاوضات أن تسارعت حتى تمخضت عن توقيع معاهدة كامب ديفيد برعاية أمريكية وذلك عام 1979 م، وتم عزل مصر عن بقية الدول العربية بهذه المعاهدة المنفردة، وسيأتي مزيد من التفاصيل عن هذه المرحلة لاحقاً.

المرحلة الثالثة: مرحلة أوسلو عام1993م...(الهرولة السريعة):

جاءت مرحلة مدريد بعد حرب الخليج الثانية ثم أوسلو لتطلق حصان التطبيع العربي الإسرائيلي من عقاله خاصة مع الطرف المباشر وهم الفلسطينيون؛ فما هي سوى عشرة شهور، وتحديداً في شهر يوليو 1994م، حتى وقع الأردن اتفاقية (وادي عربة), وما أن حدث ذلك حتى انطلق مسلسل سريع من الهرولة العربية صوب تل أبيب؛ من موريتانيا إلى المغرب صاحب العلاقات التاريخية مع تل أبيب، إلى تونس وبقية الدول العربية.

المرحلة الرابعة: مرحلة ما بعد مؤتمر الإسكندرية عام 1995م (التهدئة التكتيكية):

أدركت الدول العربية المحورية، وعلى رأسها السعودية , ومصر، وسوريا أن موجة الهرولة العربية صوب تل أبيب تؤذن بإنجاح مشروع (شيمون بيريز) الشرق أوسطي القائم على فكرة التمدد السياسي والاقتصادي الإسرائيلي في المنطقة من خلال السوق الشرق أوسطية بلا ثمن, وأن إسرائيل تتجاهل النوايا العربية في التطبيع بالحد الأدنى من الحقوق، وفي هذه الأجواء جاء مؤتمر القمة الذي عقد في الإسكندرية مطلع عام 1995م لتهدئة الهرولة تجاه الكيان الصهيوني، وبدأت موجة من الضغوط التكتيكية على الدول العربية المطبعة والمتجهة للتطبيع كي تهدئ جماح التطبيع، وهو ما استجابت إليه معظم الدول في واقع الحال؛ إذ بقيت العلاقات الدبلوماسية في حدها الأدنى غالب الأحيان، غير أن الأهم من ذلك كله هو ما يتعلق بسير المفاوضات؛ فقد كانت استراتيجية الدول الثلاث تقول: إن مسيرة التطبيع يجب أن تتزامن مع سير المفاوضات؛ إذ من دون الوصول إلى تسوية حقيقية لا يمكن الحديث عن تطبيع مع الكيان الصهيوني، وقد جاءت مسيرة المفاوضات الأولية من خلال جملة الاتفاقات التي تلت (أوسلو) لتؤكد أن نوايا الكيان الصهيوني بالتسوية بعيدة جداً، وهو ما تأكد بعد ذلك في قمة كامب ديفيد صيف عام 2000م، وهي القمة التي أكدت صعوبة التسوية مع مطالب إسرائيلية لا يقبل بها أحد في الساحة الفلسطينية والعربية.

المرحلة الخامسة: مرحلة تصاعد انتفاضة الأقصى واشتداد المقاومة المسلحة(تكافؤ القوى):

جاءت انتفاضة الأقصى بعد ثلاثة شهور من القمة كامب ديفيد ثم تصاعدت واستمرت وفي أجوائها تصاعدت المقاومة المسلحة لتحصر في زمن قياسي جهود التطبيع التي بذلت طوال سبع أو تسع سنوات في أضيق نطاق، وبدأت مرحلة جديدة في الخطاب الرسمي العربي حيال الكيان الصهيوني تقوم على هذه الرؤية للتطبيع، حتى أن الدولتين المرتبطتين باتفاقيات سلام مع الكيان الصهيوني ولهما علاقات دبلوماسية معها وهما مصر والأردن قد اضطرتا إلى سحب سفيريهما من تل أبيب تحت وطأة الضغوط الشعبية والرسمية والتكتيك السياسي.

المرحلة السادسة: مرحلة ما بعد قتل عرفات واحتلال أمريكا للعراق (الهرولة الجماعية):

يمكن التأريخ لهذه المرحلة بمقتل الرئيس الفلسطيني ياسر عرفات نهاية عام 2004م، وموافقة حركة فتح على تعيين (محمود عباس) خلفاً له، وهو المعروف بمناهضته لبرنامج المقاومة الذي تبنته حركة حماس والجهاد وفصائل فلسطينية أخرى، أو يمكن التأريخ لها باحتلال العراق، على اعتبار أن ذلك الحدث هو الذي مهّد لمرحلة الرعب بالنسبة للنظام العربي الرسمي الذي شكّل وقوفه خلف (محمود عباس) سبباً أساسياً في إنهاء مرحلة انتفاضة الأقصى، وإعلان التعامل مع التسوية بلغة جماعية جديدة، على رغم عدم توافر أي أفق حقيقي لها في المنطقة بوجود شارون والمحافظين الجدد على رأس السلطة في الكيان الصهيوني والولايات المتحدة، وفي هذه الأجواء جاءت المبادرة العربية للتطبيع الجماعي.

رابعاً: نماذج من بنود اتفاقيات التطبيع السابقة بين العرب والكيان الصهيوني:

أ- كامب ديفيد الأولى (التطبيع بين مصر والكيان الصهيوني 1979 م):

" نصّت المادة الثالثة من اتفاقيات كامب ديفيد تحت عنوان العلاقات الثقافية على ما يلي:

1-يتفق الطرفان على إقامة علاقات دبلوماسية وتبادل السفراء عقب الانسحاب المرحلي.

2-يتّفق الطرفان على أنّ التبادل الثقافي في كافّة الميادين أمر مرغوب فيه، وعلى أن يدخلا في مفاوضات في أقرب وقت ممكن، وفي موعد لا يتجاوز ستّة أشهر بعد الانسحاب المرحلي، بغية عقد اتفاق ثقافي.

3- كما نصّت المادة الخامسة الفقرة الثانية على تعاون الطرفين على إنماء السلام والاستقرار والتنمية في المنطقة ويوافق كل منهما على النظر في المقترحات التي قد يرى الطرف الآخر التقدم بها تحقيقا لهذا الغرض." (من كتاب مشاريع التسوية للقضية الفلسطينية).

ومع ذلك كله فإنه أثناء زيارة (بيغن) - رئيس وزراء الكيان الصهيوني الهالك - لمصر في 25/8/ 1981م، أعرب عن استيائه البالغ من استمرار الطلبة في مصر بدراسة كتب التاريخ التي تتحدث عن "اغتصاب إسرائيل لفلسطين" وكتب التربية الإسلامية التي تحتوي على آيات من القرآن الكريم تندّد باليهود وتلعنهم ولعله يقصد مثل قوله _تعالى_: "لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِّلَّذِينَ آمَنُواْ الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُواْ وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَّوَدَّةً لِّلَّذِينَ آمَنُواْ الَّذِينَ قَالُوَاْ إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَاناً وَأَنَّهُمْ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ" (سورة المائدة: 82)، وقد أشارت الصحف إلى أنّ السادات استجاب على الفور لطلب "صديقه بيغن"، فأصدر أوامره للمختصين في وزارة التربية بإعادة النظر في المناهج الدراسية بما يتلاءم مع طلبات بيغن.

ب- وادي عربة (التطبيع بين الأردن والكيان الصهيوني 1994 م ):

لا يخفى اهتمام اليهود بالجانب الثقافي لما له من أثر كبير في مسيرة التطبيع، فهم في معاهدة كامب ديفيد قد طالبوا بأمور عديدة، ثم تطورت مطالباتهم في اتفاقية (وادي عربة) على النحو التالي:

- «انطلاقاً من رغبة الطرفين في إزالة كافة حالات التمييز التي تراكمت عبر فترات الصراع؛ فإنهما يعترفان بضرورة التبادل الثقافي والعلمي في كافة الحقول، ويتفقان على إقامة علاقات ثقافية طبيعية بينهما».

- وجاء في المادة الحادية عشرة: «يسعى الطرفان إلى تعزيز التفاهم المتبادل فيما بينهما والتسامح القائم على ما لديهما من القيم «التاريخية» المشتركة، وبموجب ذلك فإنهما يتعهدان بما يلي:

أ - الامتناع عن القيام ببث الدعايات المعادية القائمة على التعصب والتمييز، واتخاذ كافة الإجراءات القانونية والإدارية الممكنة التي من شأنها منع انتشار مثل هذه الدعايات؛ وذلك من قِبَل أي تنظيم أو فرد موجود في المناطق التابعة لأي منهما.

ب - القيام بأسرع وقت ممكن بإلغاء كافة ما من شأنه الإشارة إلى الجوانب المعادية، وتلك التي تعكس التعصب والتمييز، والعبارات العدائية في نصوص «التشريعات» الخاصة بكل منهما.

خامساً: من وسائل التطبيع:

من أخطر وسائل التطبيع، التطبيع الثقافي ومن أهم ما يرتكز عليه:

1- الاهتمام بعينة من الكتاب والصحفيين والأكاديميين، وفتح المنابر لهم، وتوفير فرص تدفعهم إلى مناصب سياسية واجتماعية متقدمة حتى وإن كانت مؤهلاتهم الحقيقية متواضعة وضعيفة، أو من خلال جمعيات أهلية عربية تدعم مشروع التسوية، وتدفع باتجاه التطبيع كجمعية بذور السلام غير الحكومية التي تأسست عام 1993م، إثر اتفاق أوسلو بين الفلسطينيين والكيان الصهيوني.

2 - إيجاد أنصار للتطبيع مع دعمهم وإبرازهم من خلال المنظمات الممولة أمريكياً وأوروبياً تحت لافتات متعددة ومتنوعة مثل منظمات الدفاع عن حقوق المرأة ومنظمات الدفاع عن حقوق الإنسان داخل المجتمع العربي ليقوموا بالأدوار التالية:

أ - الطعن في الإسلام وادعاء عدم صلاحية الشريعة للتطبيق، وضرورة علمنة المجتمعات العربية والإسلامية وتبديل أحكام الشريعة ومحاصرة دعاة الإسلام واتهامهم بالتطرف والإرهاب والظلامية...الخ.

ب - القول إن النص القرآني يجوز التعامل معه كنص تاريخي أو الهجوم على كل تفسير صحيح للإسلام وبشكل خاص الآيات القرآنية التي تتعلق بالجهاد أو بالمواريث أو غيرها.

جـ - الدعوة إلى كل ما يثير الاضطراب داخل المجتمعات الإسلامية والعربية بإثارة المسائل العرقية والطائفية والأقليات، وإبراز الحضارات السابقة للإسلام كالفرعونية والفينيقية ونحو ذلك.

3- الترويج لما يسمى بثقافة السلام، الذي وجد طريقه إلى العديد من الكتابات والأفكار التي طرحت في العديد من المؤتمرات والملتقيات الدولية والعربية العامة، وكذلك الندوات والحوارات عبر القنوات الفضائية، والتي تدعو إلى نسيان التاريخ – تاريخ الصراع العربي الإسرائيلي – وإلغاء ذاكرة الأمة.

4- التهوين من فتاوى العلماء حتى علماء المؤسسات الرسمية خاصة السنية، للتقليل من أهمية المرجعية العلمية في معظم البلاد العربية والإسلامية ، فترى اليوم كثيراً من الدول العربية والإسلامية، تفتقد المرجعية العلمية، بينما تنمى المرجعية العلمية المتميعة والمبتدعة.

5- ممارسة ضغوط على الدول التي لا تتجاوب مع التطبيع بالسرعة المطلوبة فقد حث أعضاء الكونغرس الأمريكي إدارة الرئيس جورج بوش على رفض التوقيع على اتفاق يسمح للسعودية بالانضمام إلى منظمة التجارة العالمية حتى تنسحب من المقاطعة العربية لإسرائيل وأكدوا أنه يتعين على الولايات المتحدة الإصرار على تحقيق تقدم في أربعة ميادين رئيسة قبل تقديم مساعدتها للرياض للانضمام إلى منظمة التجارة العالمية، ووضعوا على رأس هذه الميادين إنهاء المقاطعة السعودية للكيان الصهيوني.

6 - تشويه صورة الجهاد والمجاهدين المقاومين للاحتلال في نفوس الشعوب المسلمة والسعي لإيقاف الدعم عنهم ونبزهم بالإرهاب.

7 - استخدام طوائف من عرب أراضي ثمانية وأربعين الذين هم داخل الخط الأخضر للترويج للتطبيع كما هي خطة (عزمي بشارة) التي عرضها على الكنيست الإسرائيلي والتي قدمها كمشروع لدولة المواطنين والتي يدعو فيها إلى المساواة بين الفلسطينيين والصهاينة وهو لا يعني سوى إضفاء شرعية نهائية على اغتصاب فلسطين بشرط الاعتراف بحقوق الفلسطيني في المواطنة.

فالمقصود من كل هذه الوسائل إيجاد تيار عريض يقوم أفراده بدور الطابور الخامس القابع خلف خطوط الدفاع في الأمة، حيث أنهم يضربون في صميم عقيدة الأمة وملامح هويتها على جميع الصعد، لجعل الإنسان العربي المسلم مجرد إنسان بلا هوية، يسهل تشكيل عقله على هوى المحتل، وقد كان تمويل أمثال هؤلاء يجري في مصر وفق أنماط من الرسمية أو وفق حالات مقننة، حيث كانت الأموال تصل إليهم عبر وزارة الشئون الاجتماعية وخصماً من المعونة الأمريكية المقدمة للحكومة المصرية، إلى أن تطور الأمر بعد احتلال العراق وأخذ مدى أبعد حيث أصبحت السفارة الأمريكية في القاهرة هي التي تتولى مباشرة عملية تسليم الأموال في الاحتفالات التي تدعى إليها مختلف أجهزة الإعلام، ليجري توزيع ما يزيد على 40 مليون دولار سنوياً.

سادساً: من فعاليات التطبيع:

ضمن إطار العمل المستمر لدعاة التطبيع من الصهاينة والأمريكيين والعرب من أجل استحداث مؤسّسات وهيئات وجماعات وملتقيات تصب في المشروع التطبيعي، تكوّنت "مؤسّسة المبادرة من أجل السلام والتعاون في الشرق الأوسط" في سبتمبر 1991م، وهي تضمّ نخبة من الشخصيات الأمريكية والصهيونية والعربية, ويترأسها "جون ماركس" بصفته من الخبراء الأمريكييّن في شؤون المنطقة على مدى العقود الأربعة الماضية, ويعمل في إطار " مؤسّسة المبادرة" خمسة وعشرون شخصاً من الأمريكيين والعرب والإسرائيليين، وتعدّ أحد المطابخ الرئيسة في طرح الأفكار والتصوّرات الممّهدة لتأسيس "نظام الشرق أوسطي" على أنقاض النظام العربي، يقوم اليهود فيها بدور القيادة وتتمحور حول مصالحهم وإستراتيجيتهم شبكة التفاعلات الإقليمية الجديدة وقد برزت أخبار هذه "المؤسّسة" إثر خلوتهم السرّية السادسة التي عقدت في مراكش بالمغرب (في الفترة من 18-22 مارس 1994م)، حيث اعترف المجتمعون أن هدف اجتماعاتهم هو إعداد الجماهير العربية لقبول "السلام" بشروطه الحالية أي فرض هذا "السلام" طوعاً بإرادتها، أو رغماً عنها عن طريق تزييف وعي الناس وإرادتهم المقاومة للعدوان والاستيطان والعنصرية الصهيونية، ولتحقيق برنامجها، قررت المجموعة القيام بإجراءات وتحركات واسعة، تتمثّل خطوطُها العامة بما يلي:

- ينبغي إحداث تحولات في التوجهات والإدراك في الشرق الأوسط إذا أريد للمنطقة الانتقال من ثقافة المواجهة والحرب إلى ثقافة السلام.

- يمكن للإعلام أن يلعب دوراً أساسياً في بناء السلام لتجاوز القيود الحكومية والثقافية السائدة، التي تضع عقبات مانعة أمام تقدم السلام.

ثم عُقدت في سبتمبر من عام 1994 م، "خلوة أنقرة" التي أشرفت عليها ونظمت أعمالها وأسماء المدعوّين إليها وموّلتها المؤسّسة الأمريكية الصهيونية المعروفة بـ "مشروع البحث عن أرضية مشتركة" وقد استمرت أعمالها لثلاثة أيام تحت شعار "نحو ثقافة سلام بالشرق الأوسط"، وقد بدأت بتنفيذ برنامج العمل المستقبلي، الذي كانت أقرته في الاجتماع السادس بمراكش (مارس 1994م)، مجموعة العمل الأساسية في إطار "المبادرة" من أجل السلام والتعاون في الشرق الأوسط، وقد ساهم بدور واضح في "خلوة أنقرة"، "مركز تاتي ستينمتيز الإسرائيلي لأبحاث السلام" في تل أبيب، الذي يترأسه "شمعون شامير" (الذي كان مديراً للمركز الأكاديمي الإسرائيلي بالقاهرة)، ومؤسّسة "وقف الأمل" التركيّة بأنقرة وجمعية إعلام العالم بباريس، إضافة إلى تسعة صحفيين عرب.

وقد أجمع المشاركون على ضرورة اتخاذ الخطوات التالية:

- ينبغي على صحف المنطقة نشر مقالات وزوايا دائمة من دول أخرى، وقد قبل أكثر من صحفي عربي دعوة المساهمة في كتابة مقالات في الصحف (الإسرائيلية).

- أن يتم ترجمة وتوزيع المقالات الرئيسة التي تصدر في الصحف (الإسرائيلية)، التي لا يسمح بدخولها إلى الدول العربية من قبل المشاركين، كما يتم ترجمة وتوزيع المقالات الرئيسة، التي تصدر في الصحف الأخرى التي لا تتوافر (للإسرائيليين)، والهدف من ذلك هو رفع مستوى العلاقات وتقويتها بين الصحفيين العرب و(الإسرائيليين).

- ينبغي على الصحفيين المشاركين من دول مختلفة أن يكتبوا مقالات مشتركة، وهذا من شأنه أن يجعلهم يتبنّوا ذات الأفكار والمفاهيم، وقد وافقت (ر.د) مراسلة صحيفة "الحياة" مشاركة صحفي (إسرائيلي) في كتابة مقالات مشتركة.

- أعلن المشاركون عن تشكيل شبكة مهنية لصحافة الشرق الأوسط، ودعوا إلى ضرورة توسيعها والنشر عنها، لضمّ أكبر عدد ممكن من الصحفيين العرب و(الإسرائيليين) وغيرهم إليها، وتقديم إرشادات حول أية مقالات يريدون كتابتها.

من آثار التطبيع

أولاً: فلسطين:

1 - الجانب السياسي:

من أبرز المبادئ اليهودية في إدارة الصراع مع الفلسطينيين العمل على عدم تمكينهم من إقامة دولة فلسطينية مستقلة؛ لأن إقامتها يعني وجود منافس حول الشرعية المرتبطة بالأرض التي يعيش عليها اليهود، وأخطر من ذلك سياسة استيعاب الشعب الفلسطيني عن طريق:

- استيعاب الفرد معنوياً وحضارياً سواء بإيجاد الاحترام والانتماء العربي أو بإيجاد الإعجاب بالحضارة اليهودية.

- تشجيع زواج العربي باليهودية وخاصة الشرقية مع مخالفة ذلك لمبادئ النقاء اليهودي ولكن ذلك قد يؤدي في الأمد البعيد إلى إضعاف العنصر الفلسطيني.

- الاستئصال العضوي وله وسائل متعددة كالقتل أو الطرد أو التشجيع على الهجرة الدائمة.

وإذا نظرنا إلى فصائل المقاومة الفلسطينية، فإنها تجد نفسها في مأزق، كلما وجدت الدول العربية تهرول باتجاه الكيان الصهيوني غير عابئة بما تجره هذه الهرولة من تنسيق أمني عالٍ مع الكيان الصهيوني في المجال الأمني والاستخباراتي خصوصاً، مما يضرها وهذا بدوره يقطع كثيراً من طرق الإمداد للمقاومة الفلسطينية، سواء العسكرية أو التموينية، كما تقلل مساحة الوجود للفصائل الفلسطينية على التراب العربي، ومن ثم يقطع سبيل التواصل بين الخارج والداخل لهذه الفصائل.

2 - الجانب الاجتماعي:

سعى اليهود للتقليل من تكاثر المسلمين في فلسطين (عام 1948م) خاصة وبقية الأراضي المحتلة بوسائل متعددة كنشر الأمراض الجنسية وترويج مواد استهلاكية وأدوية تؤدي إلى العقم، وقد صرح وزير الصحة الفلسطيني السابق عبد العزيز شاهين عن اكتشاف ما يقارب العشرين طناَ من علكة لبان تسبب العقم كانت توزع داخل فلسطين المحتلة.

3 - الجانب الاقتصادي:

منذ العام 1967م بدأ اليهود باستخدام العملة اليهودية في المناطق المحتلة وتحويل أفرع البنوك العربية إلى بنوك يهودية وفتح باب التبادل التجاري بين المناطق المحتلة و الكيان الصهيوني وتشجيع زراعة المحاصيل الزراعية التي يحتاجها الكيان الصهيوني للاستهلاك المحلي أو قيامه بتصديرها إلى أوربا وتنشيط إدماج العمالة العربية في قوة العمل اليهودية لتوثيق الامتزاج الاقتصادي ولكن بشروط قاسية حيث يعمل العربي ساعات أكثر من اليهودي ويأخذ أجراً يماثل نصف أجر العامل اليهودي الذي يؤدي العمل نفسه، إضافة إلى تعرض بعض العمال العرب إلى اعتداءات عنصرية من رجال الشرطة أو رجال سلاح الحدود اليهود بل وحتى من العمال اليهود.

ومع استمرار مسلسل الحصار والاجتياح اليهودي للمدن الفلسطينية تزايد عدد الأسر الفقيرة إما بسبب مقتل عائلها أو اعتقاله، وكان من نتيجة ذلك سيطرة اقتصادية يهودية شبه كاملة على الضفة وقطاع غزة، بلغ فيه حجم التعامل الاقتصادي مع اليهود 83% وحقق اليهود من ورائها سوقاً يفوق حجم سوقه مع مجموع الدول الأفريقية، وبعد بدء مسلسل المفاوضات بين السلطة والكيان الصهيوني ظهر منذ البداية الاهتمام الأميركي ـ الصهيوني بالمضمون الاقتصادي للعملية السلمية، حيث تم التركيز بشكل خاص على ضرورة البدء بإقامة تكتل اقتصادي يدمج اقتصاد الكيان الصهيوني واقتصاد الأردن والاقتصاد الفلسطيني في الضفة الغربية وقطاع غزة، ولقد بادرت مدرسة جون كيندي في جامعة هارفارد إلى دعوة اقتصاديين أكاديميين من فلسطين والأردن والكيان الصهيوني ليعملوا تحت أشراف اقتصاديين أميركيين على تحديد مستقبل التعاون الاقتصادي بين بلدانهم وعقد ذلك المؤتمر قبل توقيع اتفاق أوسلو، وتم بعد ذلك اعتماد الكثير من توصياته في الاتفاقية الاقتصادية بين الكيان الصهيوني ومنظمة التحرير التي وقعت في باريس العام 1994 م.

وقد كان الفلسطينيون قد وعدوا عند توقيع اتفاقية أوسلو بتحسن الأوضاع الاقتصادية والمعيشية ولكن الواقع الحالي يشهد بما يعانيه ساكني مسرى الأنبياء من فقر وحاجة لا يعلمها إلا اللطيف الخبير.

ثانياً: مصر:

1 - الجانب السياسي:

تم عزل مصر عن محيطها العربي فلم يكن لها دور في أحداث عظام وقعت بعد توقيعها لاتفاقية (كامب ديفيد) كتدمير المفاعل النووي العراقي وقمع اليهود للمقاومة الفلسطينية واللبنانية بشراسة ودعمهم لإثيوبيا ولحركة التمرد في جنوب السودان وغيرها من الأحداث، أما على الصعيد الداخلي فقد كشفت المخابرات المصرية عدداً من شبكات التجسّس (الإسرائيلية)، أغلبها على صلة مباشرة بسفارة "إسرائيل" منها -على سبيل المثال- الشبكة التي كانت برئاسة المستشار العسكري (الإسرائيلي) بالسفارة، والتي كشفت في أوائل أغسطس 1985م، وكانت تضم عدداً من أعضاء البعثة الدبلوماسية (الإسرائيلية)، وبعض الباحثين "بالمركز الأكاديمي الإسرائيلي"، وأمريكيين يعملان بهيئة المعونة الأمريكية، وسويدياً يعمل وسيطاً في صفقات الأسلحة، وثلاثة مصريين، وكانت هذه الشبكة تستخدم محطة لاسلكية متطورة داخل سفارة العدو، لتبليغ رسالة يومية عن أحوال مصر، بينما يتم نقل التقارير والأفلام والصور والخرائط إلى (إسرائيل) عبر الحقيبة الدبلوماسية، وكذلك قام ضباط "الموساد" بالسفارة (الإسرائيلية) بالقاهرة، بتجنيد عدد من الطلاب عن طريق بعض أقاربهم العاملين بالسفارة، وتشجيعهم على السفر إلى (إسرائيل)، حصل مقابلها أقاربهم على مكافآت مجزية نظير تجنيدهم!!.

وهناك قضية (الإسرائيليين) الأربعة الذين كانوا يحملون جوازات سفر إنجليزية مزوّرة، وتم ضبطهم عند خروجهم من إحدى نقاط المراقبة الخاصة بقوة حفظ السلام في جنوب سيناء، وبحوزتهم حقيبة تضم 7 وثائق شفرية و19 شريطاً ميكرو فيلماَ للمنشآت المصرية في سيناء ونُظم تسليحها.(المركز الفلسطيني للإعلام على شبكة الانترنت يوم 30 مايو 2005م).

2 -الجانب الثقافي:

نشر المركز الفلسطيني للإعلام على شبكة الانترنت يوم 30 مايو 2005م، بحثاً بعنوان مراكز الأبحاث والمؤسسات العاملة في خدمة التطبيع والإستراتيجية الصهيونية، وهذه مقاطع من البحث:

]ضمن الإطار التطبيعي أقيمت في مصر ستّ وثلاثون مؤسّسة علمية أمريكية، وثقافية "إسرائيلية"، مثّلت وتمثّل مظلّة رسميّة لاختراق الشخصية العربية، والتجسّس على قطاعات المجتمع كافّة، ومن ذلك -مثلاً- النشاط الذي يقوم به "مركز البحوث السياسية" في كلية الاقتصاد جامعة القاهرة، الذي يجري كثيراً من الأبحاث بتمويل من "مؤسّسة فورد"، وكذلك نشاط "مركز الدراسات السياسية والإستراتيجية في الأهرام"، و"معهد التخطيط القومي" وغيرها من المؤسّسات العلمية، وبغية اختراق العقل العربي وعناصر المجتمع العربي أُنشئ في مصر عام 1982 م "المركز الأكاديمي الإسرائيلي بالقاهرة"، الذي لعب ويلعب دوراً خطيراً في مجال التمهيد للتطبيع، ونظراً لكونه الأخطر في ميدان إستراتيجية العدو على الأصعدة الأمنية والثقافية والعلمية، فقد توالى على إدارته عدد من أبرز المتخصصين في الدراسات الشرقية والعربية، الذين يرتبطون بعلاقات عضويّة مع أجهزة المخابرات (الإسرائيلية)، ومع مراكز التخطيط الاستراتيجي في الكيان الصهيوني حيث ركّز المركز جهوده خلال مدة ماضية للحصول على معلومات عن طلبة كليات العلوم والهندسة في جامعات مصر، لمعرفة آخر ما توصل إليه الطلبة النابغون من اختراعات جديدة، فاختير عشرة اختراعات وضعها "مدير المركز الأكاديمي الإسرائيلي بالقاهرة" تحت المجهر، ووجّه بشأنها رسالة إلى السفير الإسرائيلي بالقاهرة كتب فيها:

بناء على تعليماتكم بإحضار ملفّات كاملة عن آخر اختراعات الشباب المصريين أرسلنا لكم عشرة ملفات عن اختراعات في مجال الزراعة وتحلية المياه والبلاستيك والكمبيوتر وإطارات العربات، ونودّ أن ننبهكم أنّ معظم هذه الاختراعات قمنا بتجربتها وفحصها جيداً، وهي تعد من أحدث ما توصل إليه العلم، فأرسل السفير الإسرائيلي بالموافقة على شراء أربعة اختراعات وبأسرع وقت، أحدها جهاز لتحلية مياه البحر لطالب في كلية الهندسة، و الثاني جهاز لإنتاج سماد يعيد خصوبة الأرض، ويحول الأرض المالحة إلى أرض صالحة للزراعة، لطالب في كلية الزراعة، وهو الوحيد الذي قابل السفير الإسرائيلي في اليوم التالي ليعرض اختراعه، فعرض عليه السفر، وتجربة الاختراع ذاته بطريقة عملية، شاملة تكاليف الإقامة ومكافأة لكل يوم يقضيه في الكيان الصهيوني، إضافة إلى حق شراء الاختراع نفسه ومدة الإقامة ثلاث سنوات، وسافر بالفعل بعدما وضع ثمن الاختراع في البنك الأمريكي المصري.

والمؤسّسات والهيئات الأمريكية، التي تمثّل بؤراً تطبيعية في جسد المجتمع المصري لا حصر لها، وسوف نقدّم هنا أكثر هذه المؤسّسات والهيئات شهرة وأكثرها خطراً وهي:

1- الجامعة الأمريكية في القاهرة.

2- المركز الثقافي الأمريكي في مصر.

3- مؤسسة فورد: يرى باحثون منصفون أنها من أخطر مؤسسات التغريب العالمي الأمريكية، وقد انفردت بتمويل (أبحاث ودراسات الشرق الأوسط) وعبر هذه المؤسسة تقوم وكالة التنمية الأمريكية: (aid ) بتخصيص حوالي مئة مليون دولار سنوياً لمركز البحث العلمي والجامعات المصرية منذ نهاية السبعينات وحتى اليوم.

4- مؤسّسة راند الأمريكية، وهي مؤسسة دراسات وأبحاث تقدم توصياتها للحكومة الأمريكية.

5- معهد ماساشوستس وفروعه في القاهرة ومعهد "إم-إي-تي" (في مبنى جامعة القاهرة).

6- الأكاديمية الدولية لبحوث السلام.

7- مشروع ترابط الجامعات المصرية الأمريكية ومقره المجلس الأعلى للجامعات في القاهرة. (تبلغ ميزانيته السنوية 27 مليون دولار تقدّمها المخابرات الأمريكية).

8- "مركز البحوث الأمريكي" بالقاهرة، ويتركّز نشاطه في مجال الدراسات الاجتماعية، إلى جانب البحوث الاقتصادية والتاريخية والأثرية.. ويحظى بعضويته الشرفية "الزمالة" عدد من الأساتذة المصريين ومزدوجي الجنسية أمريكي/ مصري، وأمريكي/إسرائيلي , كما ينشط في مجال البحوث المشتركة والمموّلة، وفيما يلي بعض عناوين البحوث والدراسات التي أجراها هذا المركز:

-بحث فاليري هوفمان: "الحياة الدينية للمرأة المسلمة في مصر المعاصرة".

-دراسة ليوناردو بايندر حول "حرية الفكر الإسلامي في مصر المعاصرة".

-دراسة آرثر كريس عن: "الجهاد الإسلامي والاتجاهات الفكرية المختلفة".

ومنذ منتصف الثمانينات كثّف "مركز البحوث الأمريكي" نشاطه في مجال التطبيع والتجسّس العلمي على المجتمع المصري وتمثّل ذلك في عشرات الأبحاث المموّلة ومنها:

دراسة عن العادات والتقاليد المتوارثة للأسرة المصرية، الموالد الشعبية المصرية، تقصي ظاهرة التطرف في الحياة المصرية الحديثة، الإسلام والثورة... إلخ.

9- هيئة المعونة الأمريكية: استطاعت تمويل مشروع بحثي، أُنجز بالتعاون بين عدد من الجامعات الأمريكية، والجامعات المصرية، شمل أكثر من 500 دراسة بحثية برصيد 60 مليون دولار، وتناولت كل شيء في مصر من الصناعات الاستراتيجية، مثل: صناعة الحديد، والصلب، مروراً بمناهج التعليم والتربية وموقع الدين فيها، وانتهاء بسياسة مصر الخارجية تجاه (إسرائيل)، والتطبيع معها، وقد اشترك في هذا المشروع أكثر من 2007 من الباحثين المصريين، وأكثر من 500 أمريكي، وقد كُتبت جميع هذه الدراسات باللغة الإنجليزية، وحصلت (هيئة المعونة الأمريكية) على نسخ منها، وعلى جميع المعطيات والأرقام والاستنتاجات التي توصل إليها الباحثون إلى الحدّ الذي دفع بعض الباحثين المصريين إلى القول: إن «كمية المعلومات التي حصلت عليها هذه المؤسّسات تفوق ما تعرفه القيادة السياسية، وتفوق ما يعرفه علماؤنا» [

وقد أوردت صحيفة «السياسي» القاهرية في عددها 25/5/1993م تحت عنوان بارز «اليهود والأمريكان... هل اندسوا في تطوير مناهجنا الدراسية؟» بعض المعلومات البالغة الدلالة إذ نشرت الفقرات المحذوفة من المناهج، مشيرة إلى أن «العملية التطويرية للمناهج التعليمية المصرية» قام بها 29 أستاذاً ومستشاراً أمريكياً، بينهم عدد كبير من اليهود بتمويل من المعونة الأمريكية لمصر، وبينت الصحيفة أيضا: أن وزارة التعليم المصرية ألغت كتاب «صور من تاريخ مصر الإسلامية» للصف الخامس الابتدائي، وقررت بدلاً عنه كتاب «تاريخ الفراعنة»؛ بغية غرس محبة الحضارة الفرعونية عوضاً عن الحضارة العربية الإسلامية، كما ألغي كتاب «الدولة الإسلامية العربية وحضارتها» للصف الثاني الثانوي، وتقرر عوضاً عنه كتاب «تاريخ أوروبا في القرون الوسطى» مع تحريف كتب التاريخ العربي، وتاريخ الحضارة الإسلامية.

3 -الجانب الاجتماعي:

أ- ازدياد أعداد المصابين بمرض السرطان بسبب الكثير مما يتم استيراده من الكيان الصهيوني.

ب- انتشار المخدرات بشكل كبير بين فئات المجتمع كلها.

ج - السماح بدخول اليهوديات بأعداد كبيرة بزعم تنشيط السياحة فقمن بنشر الأمراض واقترنت الكثير منهن بشباب مصريين حتى بلغ عدد الزيجات أكثر من عشرين ألفا زواجاً مختلطاً.

د- ظهور جماعات منحرفة من الشباب تحمل عقائد باطلة كمن يتسمون بعبدة الشيطان.

4 - الجانب الاقتصادي:

يعد هذا الجانب من أبرز الجوانب التي يحرص عليها اليهود لأهميته، وقد وقعوا مع مصر على اتفاقية الكويز:(QIZ: qualifying industrial zones) في 12/2004 م، لإقامة المناطق الصناعية (في طور التأهيل) ، وهذه الاتفاقية هي تطبيق للقسم التاسع من اتفاقية التجارة الحرة بين أمريكا والكيان الصهيوني المبرمة عام 1985 م، وهي ليست اتفاقية مستقلة بين حكومتين من الناحية الفعلية فقد وافق الكونجرس الأمريكي على إعطاء الرئيس الأمريكي الإذن بالسماح لمصر والأردن بتصدير منتجاتهما إلى أمريكا دون دفع رسوم جمركية بشرط احتوائها على مكون إسرائيلي بنسبة 7,11 % كحد أدنى، وهي تشمل كل الصناعات والسلع، وقد تم في مصر استبعاد أهم المناطق الصناعية التي تنتج الملابس الجاهزة كمدينة المحلة الكبرى (قلعة النسيج في مصر) ومدينة 6 أكتوبر والتي يوجد فيها أكثر من 200 مصنع وغيرها من الأماكن فلا تشملها الاتفاقية، ويتضح من هذا الاستبعاد مراعاة مصالح خاصة لبعض رجال الأعمال، واتفاقية الكويز تناقض اتفاقية التجارة الدولية (الجات) والتي تؤكد على عدم وضع شروط تفصيلية لبعض الدول دون البعض الآخر، وكذلك هي مخالفة للقانون والدستور المصري لأنها حفظت في مجلس الشعب دون عرضها للنقاش، بل لم تنشر إلى الآن؟

ومن أبرز الآثار السلبية لهذه الاتفاقية أنها لم تحدد الحد الأقصى للمكونات الإسرائيلية الداخلة في المنتجات، وهي ستساهم في زيادة الكساد للمصانع المصرية وستمكن اليهود من اختراق منظومة المعلومات الخاصة بالصناعة المصرية وستدخل غالب الأرباح الناتجة منها للخزينة اليهودية وستتسبب في هروب رؤؤس الأموال العربية وستقضي على حلم السوق العربية المشتركة، وكذلك فإنها ستمكن بقية الدول العربية من إظهار التطبيع بعد أن كانت تستخفي به، وما سيتبع ذلك من انسحاب الدول المنضمة إلى اتفاقية الكويز من اتفاقية المقاطعة العربية للكيان الصهيوني، مثلما فعلت الأردن التي أعلنت انسحابها بعد التوقيع على الاتفاقية نفسها قبل مصر.

ومن أبرز المستجدات في الجانب الاقتصادي، قيام شركة (EMG) الصهيونية – المصرية المشتركة بالتوقيع على صفقة لشراء الغاز الطبيعي مع وزير البترول المصري (سامح فهمي) وشركتين حكوميتين تعملان في مجال الغاز في مصر حيث سيتم سنوياً شراء 7 ملايين متر مكعب من الغاز الطبيعي المصري ولمدة عشرين عاما بقيمة 5,2 مليار دولار تقريبا ثم بيعه بعد ذلك إلى شركة الكهرباء (الإسرائيلية)، وذكرت مصادر رسمية في مجال الطاقة بالكيان الصهيوني: إن كمية الغاز المتبقية سيتم بيعها لتركيا واليونان ودول أوربية أخرى، وقالت تلك المصادر: إن نسبة الغاز التي ستنقل لشركة الكهرباء الإسرائيلية تصل إلى1,7 مليون متر مكعب في العام الواحد وتقوم شركة(EMG) حالياً بإجراء مفاوضات مع شركات(إسرائيلية) أخرى لبيع كميات من الغاز المصري لها، والشركة يمتلك رجل الأعمال الإسرائيلي (يوسي ميمان) نسبة 25% ويمتلك رجل الأعمال المصري (حسين سالم) نسبة 65% أما الحكومة المصرية فتمتلك 10% فقط من أسهم الشركة.

وكذلك نقل موقع (مفكرة الإسلام) على شبكة الانترنت الخبر التالي: كشف موقع صهيوني أن الرئيس المصري (حسني مبارك) أبلغ (شيمون بيريز) نائب رئيس الحكومة (الإسرائيلية) بموافقته على إقامة منطقة زراعية مشتركة على الحدود المصرية- الصهيونية وذكر موقع (القناة السابعة) العبري الإخباري أن (بيريز) أجرى اتصالاً هاتفياً برئيس مجلس مدينة (رامات هناجف) بصحراء النقب وأبلغه موافقة الرئيس مبارك على مشروع مشترك لتطوير المنطقة الحدودية بين مصر و (إسرائيل) وإقامة مشروع زراعي على مستوى عالٍ يندرج ضمن مشاريع التعاون الإقليمي المشتركة، وقال (موشيه برائيل) مراسل الموقع: إن الرئيس مبارك وافق كذلك على مشروع تقدم به مجلس مدينة (رامات هناجف) يقضي بإقامة معبر سياحي لاستقبال السائحين بالقرب من معبر (نيتساناه) الحدودي بين مصر و(إسرائيل) .

وأخيراً لا يخفى ما يعيشه الناس في مصر من أزمات اقتصادية خانقة متتالية وصل فيها معدل البطالة إلى 5,10 % والدين الخارجي إلى أكثر من 30 مليار دولار وبلغ الدين الداخلي ما يزيد على 300 مليار جنيه.

ثالثاً: الأردن:

1- الجانب السياسي:

"كانت اللقاءات بين الملك حسين واليهود مستمرة عن طريق الوسطاء منذ العام 1950 م، ثم تطورت حتى بدأ اليهود يبلغون الملك حسين بمحاولات اغتياله (1958 م) عن طريق بريطانيا، وفي عام 1960 م اغتيل رئيس الوزراء الأردني المجالي وكان المستهدف هو الملك حسين، وكانت أصابع الاتهام تتجه إلى سوريا فقام الملك حسين بنقل جزء من قواته المرابطة على حدوده مع فلسطين إلى حدوده مع سوريا وأكد على اليهود بعدم استغلال ذلك، ولكنه عدل عن الفكرة فيما بعد، ثم كان اللقاء الأول للملك حسين مع المدير العام لوزارة الخارجية الإسرائيلية في سبتمبر عام 1963 م، ثم تتابعت اللقاءات إلى أن التقى الملك حسين مع موشي ديان في لندن عام 1977 م " من كتاب (تواطؤ عبر الأردن)، ولا يخفي مقولة الملك حسين عندما أدخل اليهود في قائمة المؤمنين حيث قال في خطابه يوم 15\11\1994 م:" إن السلام المعقود مع إسرائيل سيكون سلاما تنعم به الأجيال من العباد المؤمنين من نسل إبراهيم, ويؤدي إلى علاقات الإخوة بين المؤمنين الذين جعل الله لهم القدس محج أنظارهم جميعا.

2- الجانب الاقتصادي:

بعد أن وقع الأردن على (اتفاقية الكويز) مع الكيان الصهيوني عام 2003 م، هبط الميزان التجاري الأردني مع الكيان الصهيوني من 24 مليون دولار عام 1999 م إلى عجز بقيمة 26 مليون دولار عام 2003 م وقد تسببت هذه الاتفاقية بخسارة كبيرة لكثير من مصانع المواد الكهربائية وزيادة نسبة البطالة أيضا، ويمكن رصد عينة من ممارسات التطبيع التجاري والصناعي بين الجانبين خلال الأعوام الماضية:

1 ـ يعمل الإسرائيليون على الاستفادة من رخص الأيدي العاملة الأردنية لزيادة إنتاجهم وخفض كلفة الإنتاج، وذلك عبر نقل مصانعهم إلى الأردن، أو اتخاذ مصانع وكيلة لهم في المناطق الصناعية.

2 ـ تهتم هذه المصانع بالاستفادة من الانفتاح الأردني الواسع على الدول العربية لترويج بعض منتجاتها في دول لا تقيم علاقات اقتصادية مع الكيان الصهيوني بوصف هذه البضائع أردنية المنشأ والإنتاج.

3- من المشاريع الهامة التي نجح (الإسرائيليون) في إقامتها:

أ ـ تمكنت شركة " شتراوس " الإسرائيلية المتخصصة في صناعة منتجات الألبان من نقل جزء من صناعاتها إلى الأردن في منتصف عام 1998 م، وقد خطط لتصدير الكثير من الإنتاج إلى الدول العربية، غير أن الشركة تعاني من صعوبات كبيرة في تسويق منتجاتها حيث اكتشف عدد من التجار مصدر الألبان الذي تصلهم منه، مما جعل السوق الرئيسي لها هو الدول العربية بوصفها منتجات أردنية.

ب ـ خرّجت كلية " شنكر"الإسرائيلية لتعليم مهنة الحياكة وفنون الموضة وإنتاج الملابس الجاهزة خمسة عشر عاملا أردنيا على نفقة مؤسسات إسرائيلية بهدف إلحاقهم بالمصانع الإسرائيلية التي أقيمت في الأردن.

وقبل فترة وجيزة أعلن رسمياً عن تطوير الاتفاق التجاري الذي يربط بين الكيان الصهيوني والأردن، ما يعطي مزيداً من الفرص للتعاون فيما بينهما للتصدير المشترك لأوربا، فقد أجرت صحيفة (هارتس)العبرية حواراً مع مسؤول التجارة بالإتحاد الأوروبي (بيتر مندلسون) حيث أكد أن هذا الاتفاق الذي وقعه الاتحاد الأوربي مع الأردن و الكيان الصهيوني لم يكن رد فعل متأخر لاتفاق (الكويز) الموقع مع الولايات المتحدة، وقال:إن التعاون معهما بدأ قبل تنفيذ هذا الاتفاق، وعن إمكانية التوقيع على اتفاق مماثل بين مصر والكيان الصهيوني قال المسئول الأوربي: إنه يتمنى دخول مصر تلك المنظومة التجارية، كما أشار إلى أن الإتحاد الأوربي يبدي اهتماماً خاصاً باتفاق التجارة الحالي بين الكيان الصهيوني والسلطة الفلسطينية، وأنه معني باستمراره في قطاع غزة بعد الانسحاب الإسرائيلي منه حيث أن مسئولي الاتحاد الأوربي يرون أن هذا الاتفاق إذا تم وقفه سيؤدي إلى تدهور الأوضاع الاقتصادية في القطاع، كما سيضر بمحادثات السلام بين الكيان الصهيوني والفلسطينيين حسب رأيهم.

وأخيرا فالشعب الأردني المسلم والذي ظلت قيادته متمسكة بتعهداتها للعدو الصهيوني لا يزال يئن من شدة الحاجة والفاقة، وأرضه تحوي من الخيرات والثروات الشيء الكثير، حتى وصل الحال " بحاملي درجة الدكتوراه - العاطلين عن العمل - أن يسيروا في مظاهرات في شوارع عمان " (تقرير بثته فضائية الجزيرة).

رابعاً: موريتانيا:

وضع موريتانيا الجغرافي وثقلها السياسي الهش جعلها دومًا بعيدة عن الصراع العربي والإسلامي مع الكيان الصهيوني , إلا أن نظام معاوية ولد الطايع (المخلوع) مد جسور العلاقة مع الكيان الصهيوني , وجعل من بلاده أول بلد عربي خارج دول الطوق يكسر حاجز التطبيع مع الصهاينة, ليكون ثالث نظام عربي بعد مصر والأردن يقيم علاقات دبلوماسية كاملة مع الكيان الصهيوني، ولعلنا نقول: إن علاقات موريتانيا مع الكيان الصهيوني تفوقت واتسمت بدفء مستمر لم تشهده علاقات الكيان مع أية دولة عربية أخرى, ففي نوفمبر 1995 م وقعت موريتانيا اتفاقًا تعترف فيه بالكيان الصهيوني وتقيم علاقات معها، و في أكتوبر 1998م زار وزير الشؤون الخارجية والتعاون الموريتاني الكيان الصهيوني؛ حيث عقد محادثات مع (رئيس الوزراء الصهيوني السابق) بنيامين نتانياهو، ثم أقامت موريتانيا علاقات دبلوماسية كاملة مع الكيان الصهيوني في أكتوبر 1999م, وفي ذات العام تواردت الأنباء عن سماح النظام الموريتاني بدفن نفايات نووية من الكيان الصهيوني في البلاد في صفقة لم يتم الكشف عن جميع أبعادها، وقد زار وزير الخارجية ولد عبدي الكيان الصهيوني في مايو 2001م اجتمع خلالها مع (رئيس الوزراء الصهيوني) أرييل شارون، و(وزير خارجيته) شيمون بيريز، و في أبريل 2002م قاومت الحكومة الموريتانية الضغوط لقطع علاقاتها الدبلوماسية مع الكيان الصهيوني، بسبب حملته العسكرية الإجرامية على الفلسطينيين في الضفة الغربية, مع أن مصر قد اضطرت تحت الضغوط الشعبية إلى سحب سفيرها من الكيان الصهيوني وتبعتها في ذلك الأردن، و في مايو 2005 م أجرى (وزير الخارجية الصهيوني) سيلفان شالوم محادثات مع مسؤولين بارزين في الحكومة الموريتانية.

خامساً: المغرب:

يمثل النظام المغربي حالة فريدة في التطبيع من خلال أدواره التاريخية في تسهيل الاتصالات الإسرائيلية – العربية بالمنطقة،منذ بداية الستينات حيث كان يعمل على تهجير المغاربة اليهود إلى الكيان الصهيوني مقابل رسوم مالية بالدولار، ويشكل حجم الجالية اليهودية الكبير وسيلة تواصل دائم بين الجانبين، حيث يوجد حوالي مليون يهودي مغربي بالكيان الصهيوني و300 ألف يهودي مقيم بالمغرب، وهو أكبر عدد لطائفة يهودية في دولة عربية، كما يوجد في المغرب عدة جمعيات يهودية تعمل في مجال التطبيع مع الكيان الصهيوني كجمعية هوية وحوار التي تأسست عام 1974 م، والتجمع العالمي لليهودية الذي تأسس عام 1985م، والمركز العالمي للأبحاث حول اليهود المغاربة الذي تأسس عام 1995 م ، ثم الاتحاد العالمي لليهود المغاربة الذي تأسس في 3 مايو 1999م.

وقد قام النظام المغربي بدور كبير في اتفاقية (كامب ديفيد)، ففي اللقاء التمهيدي بين الحسن الثاني وموشي ديان - وزير الخارجية الإسرائيلي آنذاك - الذي سأل الملك متعجباَ عن كيفية عمله كمنسق بين الكيان الصهيوني والدول العربية، أجاب الملك بكل سهولة: (أتعرف أنه لو علم بوجودك هنا فلن يطيح هذا العمل بي عن العرش والسبب شعبيتي الكبيرة بين اليهود)، ثم تلا ذلك عدد من الاجتماعات بين (موشي ديان) و حسن التهامي (أحد ضباط ثورة يوليو وأمين عام منظمة المؤتمر الإسلامي) مبعوث الرئيس السادات في مدينة (أفران) بالمغرب سنة 1977 م.

وأخيراً لا يخفى ما أعلنته غالب دول الجامعة العربية بما فيها بعض دول الخليج عدم التزامها بالمقاطعة الاقتصادية للكيان اليهودي وذلك عام 1994 م، إلا أن بعضها ما زال ملتزماً بشئ يسير منها، وهذه المقاطعة هي التي كبدت اليهود بين عامي 1948م إلى 2004م، ما يقرب من مئة مليار دولار، " وما وصفته الصحافة الأميركية بهدف (إعادة تأهيل الكيان الصهيوني عالميا The International Rehabilitating of “Israel”) وهو هدف يتطلب تحقيق أمرين: الأول إنهاء المقاطعة العربية للكيان الصهيوني، والثاني إشاعة جو يطمئن الشركات العالمية إلى إن السلام في الشرق الأوسط أصبح حقيقة لا رجوع عنها حتى تقبل على الاستثمار في الكيان الصهيوني، ففي ثلاث سنوات تقريبا تم تحقيق هدف إعادة تأهيل الكيان الصهيوني عالميا، على ثلاثة محاور: المحور الأول إقامة علاقات دبلوماسية مع بلدان كانت لا تقيم علاقات مع الكيان الصهيوني بسبب الصراع العربي ـ الصهيوني، وخلال عام واحد بعد توقيع اتفاقية أوسلو، أقام الكيان الصهيوني علاقات دبلوماسية مع 20 دولة، وبعد ذلك استمر يقيم علاقات مع بلدان أخرى، وكان واضحا أن الكيان الصهيوني يولي بلدان جنوب شرقي آسيا اهتماما خاصا.

أما المحور الثاني فهو أن البلاد التي كانت تلتزم قوانين المقاطعة العربية للكيان الصهيوني أخذت تفتح أسواقها للبضائع الصهيونية، وتقيم مع الكيان الصهيوني مشاريع مشتركة، وعلى سبيل المثال زادت الصادرات من الكيان الصهيوني للبلدان الآسيوية بعد سنة واحدة من اتفاق أوسلو بمقدار 23 في المئة وأصبحت تعادل حوالي 13 في المئة من مجمل الصادرات الصهيونية بعدما كانت اقل من 8 في المئة ولقد ازداد حجم التبادل التجاري بين الكيان الصهيوني وكوريا الجنوبية حوالي 50 في المئة ما بين 1994 ـ 1996م، كما أصبحت الصين مستوردا رئيسيا للسلاح والتكنولوجيا الصهيونية، وكذلك فإن الشركات الآتية قامت ببناء مصانع أو مراكز لها في الكيان الصهيوني بعد العام 1994م: Intel General Motors, Westinghouse, Mottorola, Salmon, Cablet Wireless, Daimler Brewze, Siemens, Brothers, ولقد أتت هذه الشركات إلى الكيان الصهيوني لأنها ترى في اقتصاد الكيان الصهيوني شريكا في التمويل والاستثمار والبحث العلمي، وهي لا تقيم مصانعها في الكيان الصهيوني من اجل سوقه المحلي، ولكن لأنها تستخدم سوق الكيان الصهيوني بوابة لأسواق الشرق الأقصى أولاً، وأسواق الشرق الأوسط ثانياً، وهكذا بينما كان حجم الاستثمارات الأجنبية في الكيان الصهيوني عام 1991م لا يتعدى 400 مليون دولار، أصبح عام 1996 م حوالي 2.9 بليون دولار، وهذا يعني أن حجم الاستثمار الأجنبي في الكيان الصهيوني في العام 1996م، كان حوالي أربعة أضعاف حجمه في مصر" (مجلة الوسط 1-5-2000م

===========

#ظاهرة الإساءة للنبي _صلى الله عليه وسلم_ وشريعته في الغرب

والكلام حولها يقع في محاور، هي:

1. مقدمة.

2. ثم حقائق سريعة تبين حجم الإساءة للنبي_صلى الله عليه وسلم_ في الغرب.

3. يليها: بيان صورة الإسلام لدى الغرب وأسبابها.

4. وأخيراً: تحرير مفهوم حرية التعبير واحترام الأديان والمقدسات.

أولاً مقدمة: العداوة القديمة.. والسنة الماضية.

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على محمد وعلى آل محمد، كما صلى على إبراهيم، وعلى آل إبراهيم، إنه حميد مجيد، وبارك على محمد، وعلى آل محمد، كما بارك على إبراهيم، وعلى آل إبراهيم، إنه حميد مجيد، وبعد:

إن الاستهزاء بمحمد_صلى الله عليه وسلم_ تكذيب وكفر بالله –سبحانه-؛ لأنه_صلى الله عليه وسلم_ "رَسُولٌ مِّن رَّبِّ الْعَالَمِينَ" [ الأعراف :61] ثم هو استهزاء وتكذيب بجميع الأنبياء والمرسلين، حيث إن من كذب بنبي فقد كذب بجميع الأنبياء، "إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ" [الأنبياء : 92] "آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللّهِ وَمَلآئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّن رُّسُلِهِ وَقَالُواْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ"[ البقرة:285].

فما صنعه بعض النفر من الدنمارك، وأشد منه ما صنعه قبلهم قساوسة العصر، تبعاً لأسلافهم من رهبان الماضي، كفر بجميع الرسل، وتفلت عن القيم العالمية القاضية باحترام الأنبياء -عليهم السلام-، فضلاً عن كونه قلة أدب وسفه من قبيل سفه الصبيان الذين إذا أعجز أحدهم أمر لجأ إلى كيل السباب والتنقصات.

ولا شك أن اللجوء إلى هذا الأسلوب يدل على أن القوم قد أعيتهم الحيلة، وشعروا بالهزيمة المعنوية الممهدة للهزيمة الحسية، فاخرجوا آخر ما في كنانتهم من سهام...

وقد دأب أعداء الرسل -إذا أعيتهم حجة الإسلام البالغة ودمغتهم محجته الواضحة- دأبوا يسارعون في حيدة واضحة، ليخرجوا الحوار حول ذلك التشريع الرباني والهدي الإلهي الذي جاءتهم به الرسل من عند الله إلى قضية أخرى يعتمدون فيها على نقل المعركة من ميدانها الصحيح إلى ميدان لا يجاريهم فيه الشرفاء، فينتقصون من جاءهم بالحق من عند الله، ويرمونه بالمثالب والمعائب فعل العاجز عن مقارعة الحجة بالحجة المائل لصرف الناس عن الحق والهدى بتطوير الخصومة عن طريق استفزاز أصحاب الحق.

قال الله _تعالى_: "وَفِي مُوسَى إِذْ أَرْسَلْنَاهُ إِلَى فِرْعَوْنَ بِسُلْطَانٍ مُّبِينٍ" [ الذاريات: 38] جاء موسى وجاءت معه الحجة الظاهرة والسلطان المبين، فماذا فعل أستاذهم فرعون لما أتته تلك الحجج والآيات البينات؟ "فَتَوَلَّى بِرُكْنِهِ وَقَالَ سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ" [ الذاريات: 39] لجأ للتهم والسباب!

ومع أن هؤلاء اليهود اكتووا بفرية فرعون"سَاحِرٌ كَذَّابٌ"[ص:4]، لكنهم لم يعتبروا فعادوا لمّا بعث موسى يقولون:"سَاحِرٌ كَذَّابٌ"!، قال ابن جرير في تفسيره بعد أن ذكر سنده لقتادة في قوله: "ذَلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ" [مريم:34] قال: امترت فيه اليهود والنصارى، فأما اليهود فزعموا أنه ساحر، وأما النصارى فزعموا أنه ابن الله وثالث ثلاثة وإله، وكذبوا كلهم ولكنه عبد الله ورسوله، وكلمته وروحه1؟. والشاهد رمي اليهود لعيسى بأنه ساحر كذاب، وقد أخبرنا الله عن حالهم، فقال: "وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَى عَلَىَ شَيْءٍ وَقَالَتِ النَّصَارَى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلَى شَيْءٍ وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتَابَ كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ" [البقرة: 113].

"وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُوداً قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُواْ اللّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلاَ تَتَّقُونَ" [الأعراف: 65] فكيف جابهوا تلك الدعوة؟ "قَالَ الْمَلأُ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي سَفَاهَةٍ وِإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الْكَاذِبِين" [الأعراف: 66] .قال القرطبي: "في سفاهة أي في حمقة وخفة عقل"2،وهكذا تسير قافلة الأنبياء، والصورة تتكرر؛ "كَذَلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِن قَبْلِهِم مِّن رَّسُولٍ إِلَّا قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ* أَتَوَاصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ" [الذاريات: 52-53]. قال الطبري: يقول _تعالى_ ذكره كما كذبت قريش نبيها محمداً_صلى الله عليه وسلم_ وقالت هو شاعر أو ساحر أو مجنون كذلك فعلت الأمم المكذبة رسلها الذين أحل الله بهم نقمته كقوم نوح وعاد وثمود وفرعون وقومه ما أتى هؤلاء القوم الذين ذكرناهم من قبلهم يعني من قبل قريش قوم محمد_صلى الله عليه وسلم_ من رسول إلا قالوا: ساحر أو مجنون كما قالت قريش لمحمد_صلى الله عليه وسلم_3. قال القرطبي: "أتواصوا به"! أي: أوصى أولهم آخرهم بالتكذيب وتواطؤوا عليه، والألف للتوبيخ والتعجب، بل هم قوم طاغون أي: م يوصي بعضهم بعضا بل جمعهم الطغيان.

وهذا الطغيان الجامع لأعداء الرسل دأب أهل الباطل جميعاً كما يقول الأستاذ سيد قطب في تعليقه على كلمة فرعون في موسى"إِنِّي أَخَافُ أَن يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَن يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسَادَ" [غافر: 26] ."أليست هي بعينها كلمة كل طاغية مفسد عن كل داعية مصلح؟ أليست هي بعينها كلمة الباطل الكالح عن وجه الحق الجميل؟ أليست هي بعينها كلمة الخداع الخبيث لإثارة الخواطر في وجه الإيمان الهادئ؟ إنه منطق واحد يتكرر كلما التقى الحق والباطل، والإيمان والكفر، والصلاح والطغيان، على توالي الزمان واختلاف المكان؛ والقصة قديمة مكررة تعرِض بين الحين والحين".

وإليك بعض نصوص التلمود عن المسيح عيسى بن مريم لتعلم أن القوم على طريقهم سائرون:-

- جاء في التلمود : "إن المسيح كان ساحرًا ووثنيًا".

- وقالوا: "إن يسوع الناصري موجود في لجات الجحيم بين الزفت والقار".

- وفي التلمود: "لقد ضلل يسوع, وأفسد إسرائيل وهدمها".

ويا سبحان الله إن من العجب أن أشد الناس بلاءً هم أعظم الناس حرمة، وهم الأنبياء كما ثبت في الأحاديث الصحيحة، فإذا كان إيذاء المؤمنين الطيبين بغير ما اكتسبوا بهتان وإثم مبين كما قال _تعالى_: "وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَاناً وَإِثْماً مُّبِيناً" [الأحزاب :58] . فإن إيذاء الخاصة أشد إثماً، ولهذا جاء في أشرف أحاديث الأولياء "من عادى لي ولياً فقد آذنته بالحرب"4، وإيذاء أهل العلم والدعاة منهم أشد حرمة حتى قال الحافظ ابن عساكر -رحمه الله- اعلم وفقني الله وإياك لمرضاته وجعلنا ممن يخشاه ويتقيه حق تقاته أن لحوم العلماء مسمومة وعادة الله في هتك منتقصيهم معلومة وأن من أطلق لسانه في العلماء بالثلب بلاه الله قبل موته بموت القلب "فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ" [النور: 63] .لأن الوقيعة فيهم بما هم منه براء أمره عظيم ، والتناول لأعراضهم بالزور والافتراء مرتع وخيم ، والاختلاق على من اختاره الله منهم لنعش العلم خلق ذميم ، فكيف إذا كان هذا العالم أو الداعية ممن أصفاه الله على العالمين إنسهم وجنهم، بل وملائكتهم "إِنَّ اللّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحاً وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ * ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِن بَعْضٍ وَاللّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ" [آل عمران: 33-34]

وقد قال _سبحانه_: "إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَاباً مُّهِيناً) [الأحزاب: 57].

إن مما خُبرنا به من أنباء الماضين أن بلعام ابن بعاورا كان من بني إسرائيل، وزعموا أنه علم اسم الله الأعظم فسخر علمه في حرب نبي الله موسى وشرع يدعوا عليه، فقال الله في القرآن مبيناً مثله: "وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِيَ آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ (175} وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِن تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَث ذَّلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (176} سَاء مَثَلاً الْقَوْمُ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا وَأَنفُسَهُمْ كَانُواْ يَظْلِمُونَ" [الأعراف: 175-177].

ولهذا لا ينبغي أن يعجب من صنيع المستشرقين المتحاملين ومن كتاباتهم منذ منتصف القرن السادس عشر الميلادي الذين تنوعت حملات إساءتهم وتشكيكهم بصحة رسالة النبي _صلى الله عليه وسلم_ ومصدرها الإلهي، أو في بعض أخباره وآثاره وخصائصه.

ويؤكد المفكر النصراني المعروف المستشار إدوار غالي الدهبي أن هذا التشويه الذي يقوم به الغرب ليس نابعا عن فكر أو قراءة موضوعية لسيرة نبي الإسلام، وإنما هو تشويه متعمد لا يصدر إلا عن أحد نوعين من الناس إما جاهل وإما حاقد مأجور يعمل لحساب النفوذ الصهيوني الذي يهمه أن يشوه الديانات السماوية وخصوصاً الدين الإسلامي ورسوله وأتباعه. وعلى هذا فهو ردة فعل طبيعية لإفلاس الحجة وفقد المنطق.

وبعد هذا التمهيد الذي حكى تاريخاً قديماً وقريباً يبين أصل هؤلاء وأسلافهم وعاقبتهم، أشرع في ذكر:

ثانياً: حقائق سريعة تبين حجم الإساءة للنبي _صلى الله عليه وسلم_ في الغرب.

والحوادث كثيرة، ولكني أكتفي بنماذج لها مراميها، فأشير على الصعيد الإعلامي إلى نماذج محدودة، وعلى الصعيد الديني إلى نماذج لشخصيات مشهورة مقربة من الإدارة الأمريكية:

- فأما الصعيد الأول فمنه ما نشرته صحيفة هيوستن برس الأمريكية الأسبوعية، في ولاية تكساس من إعلان لدار عرض أمريكية، تعرض فيلماً إباحياً بعنوان: 'الحياة الجنسية للنبي محمد'.

ورغم الاحتجاجات التي تلقتها دار السينما من مسلمي ولاية تكساس، إلا أنها رفضت إيقاف عرض الفيلم، واستعانت بالشرطة لصد المتظاهرين.

وبالطبع لم يتم اتخاذ أي إجراء لمنع عرض الفيلم من قبل المسؤولين.

- ومن الحوادث القديمة نسبياً والتي تذكر في هذا الصدد حادثة الهجوم على المقر الرئيس لمنظمة "بني بريث"5 ومبنيين رئيسيين في واشنطن العاصمة عام 1977م طلبت فيه مجموعة إسلامية بإلغاء الفيلم السينمائي "محمد رسول الله،" ودفع مبلغ 750 دولاراً كغرامة، وتسليم الرجال الذين قتلوا "مالكوم إكس"6 الداعية المعرف باسم: الحاج مالك شباز.

والغرض من هذا بيان أن الحملة على نبينا _صلى الله عليه وسلم_ قديمة في الغرب وقد كانت لها آثارها إذ ذاك، ولكنها تنشط حيناً وتضمحل حيناً آخراً.

* ومن هذا القبيل نشاط عدد من الإعلاميين الغربيين قديماً وحديثاً ودأبهم على تشويه صورة الإسلام والمسلمين عن سبق إصرار وترصد بدعوى حرب الراديكالية7:

o وهذا ليس بالأمر الجديد ففي عام 1985 خصص الإعلامي الفرنسي المخضرم (برنار بيفو) في برنامجه الثقافي الذائع الصيت "أبوستروف" أو فاصلة بالعربية، حلقةً خاصةً عن "القرآن والعنف"، دعا إليها محمد أركون، وعلال سي ناصر وجيل كبيل وآخرين. رغم هذا العنوان القاطع للحلقة الذي يربط دون تردد بين القرآن والعنف، نجد أن هذا الصحافي يعترف منذ البداية وهو يقدم للموضوع بأنه لم "يقرأ" القرآن! إلا أنه، في ما يبدو، كان قادراً على استخلاص الحكم بأن القرآن يدعو للعنف حتى بدون قراءته!

o واليوم تجد بعض الكتاب قد نذر نفسه لتلك المهمة ومن أمثلتهم الكاتب: دانييل بايبس Daniel Pipes المعروف بانتقاده للسياسات العربية ودعمه للتدخل الأمريكي في الشرق الأوسط الذي يلهج بذكر التهديد الإسلامي الوشيك، وله إسهامات كثيرة في هذا الصدد8. آخرها مقال يحرض فيه على منظمة (كير) ويدأب فيه على تشويه صورتها نشر في الشهر الماضي.

-وأما الصعيد الثاني فهو متمثل في بعض القيادات الدينية، فبعض الإساءات العظيمة لنبينا _صلى الله عليه وسلم_ خرجت من أشخاص لا يقال ليست لديهم خبرة بالأديان، بل لهم خبرة بالأديان، بل إن الإساءة إلى رسول الله _صلى الله عليه وسلم_ جاء من رجال الدين النصارى أنفسهم، فقبل ثلاثة سنوات في عام 1423 نشطت حملة قساوسة في أمريكا غرضها الطعن في نبينا _صلى الله عليه وسلم_ وتشويه صورته:

o فعرف منهم (جيري فالويل Jerry Falwell)9 وهو صاحب كتاب: (فلنتقدم إلى معركة هرمجدون)10، وضع في أوله–عليه من الله ما يستحق- سيرة زائفة لنبينا _صلى الله عليه وسلم_، ويجدر هنا قبل نقل كلمة ذائعة له أن يُعلم أن حزب بوش في 16/أكتوبر/2002 قام بتكريم كل من القسيسين (بات روبتسون) و(جيري فالويل) هذا لمساهمتهم في دعم التيار اليميني المحافظ والحزب الجمهوري.

يقول جيري فالويل في حديث له بث يوم الأحد بتاريخ 6/أكتوبر/2002 على برنامج "60 دقيقية" قال : "أنا أعتقد أن محمداً كان إرهابياً، لقد قرأت ما يكفي.. من المسلمين وغير المسلمين، إنه كان رجل عنف، ورجل حروب".. وهذا يشعرك بمعنى الإرهاب الذي يحاربون! ونحن لا ندري ماذا قرأ للمسلمين؟ هل قرأ " وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ"[ الأنبياء: 107]!

وعلى العموم فكلمة هذا الكافر هي نفسها شر من كلمة أسلافه أعداء الأنبياء "....يَا مُوسَى أَتُرِيدُ أَن تَقْتُلَنِي كَمَا قَتَلْتَ نَفْساً بِالْأَمْسِ إِن تُرِيدُ إِلَّا أَن تَكُونَ جَبَّاراً فِي الْأَرْضِ وَمَا تُرِيدُ أَن تَكُونَ مِنَ الْمُصْلِحِينَ" [القصص: 19]، فتلم حادثة عين قبل النبوة لها حظها من الخطأ، وأما هذه فعين كلمة فرعون "ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخَافُ أَن يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَن يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسَادَ" [غافر: 26] .إنها كلمة قوم السوء الفاسقين " أَتَذَرُ مُوسَى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ" [الأعراف: 127]. وهي الكلمة التي قيلت عن يسوع في التلمود: "لقد ضلل يسوع, وأفسد إسرائيل وهدمها"!

o مثال آخر قول (بات روبرتسون Pat Robertson)(11)، أحد مؤيدي بوش وقد كان له أثره الكبير في فوز بوش برئاسة الحزب الجمهوري في مارس 2000، فقد كان يقود الإتلاف اليميني المسيحي المؤيد له، وقد كشف عن هذا منافس بوش، جون ماكين، كما أن بوش يدعمه أعظم الدعم12، وقد أشير إلى تكريم الحزب الجمهوري له مع (جيري)، وقد تصدر (نشيد المسيح!) افتتاح أعمال المؤتمر القومي للحزب الجمهوري من أجل اختيار بوش مرشحاً رسمياً في مارس 2000، وأعلن فيه تبنيه لأفكار تيار اليمين المسيحي.

يقول بات روبرتسون في برنامج هانتي وكلولمز Hannity & Colmes الذي بث في قناة فوكس الإخبارية Fox News: "أنا أقول هذا القرآن ماهو إلاّ سرقة من المعتقدات اليهودية.. ثم استدار محمد بعد ذلك ليقتل اليهود والنصارى في المدينة. أنا أقصد.. أن هذا الرجل كان قاتلاً سفاك دماء"، وقال: "أظن أن الإرهاب قد غدا تياراً وليس فقط عند حفنة من المتطرفين. إذا اشتريت مصحفاً اقرؤه بنفسك فستجد عنفاً يبشر به".

وقد أجبر هذا الرجل على الاعتذار عن قوله هذا، ولكنه عاد ليقول في كتابه الذي صدر حديثاً باسم: الاسم (The Name) ص71: "الإسلام أسس بواسطة مجرد فرد بشري مقاتل يسمى محمداً، وفي تعاليمه ترى تكتيك نشر الإسلام من خلال التوسع العسكري، ومن خلال العنف إذا كان ضرورياً" وقال: "الإسلام بخلاف المسيحية في تعاليمه الأساسية تعصب عميق ضد أصحاب الديانات الأخرى"، فتأمل قوله عن النبي _صلى الله عليه وسلم_: "إنه كان يدعو قومه إلى قتل المشركين ..إنه رجل متعصب إلى أقصى درجة إنه كان لصاً وقاطع طريق .. ما يدعو إليه خديعة وحيلة ... 80% من القرآن نقل من نصوص النصرانية واليهودية...ثم استدار ليقتل اليهود"..

تذكرت وأنا أقرأ هذه التهمة كلمة اليهود في التلمود: " الناصري [أي المسيحي] هو الذي يتبع تعاليم كاذبة, يبتدعها رجل يدعو إلى العبادة في اليوم الأول التالي للسبت". فقلت صدق الله " تَشَابَهَت قُلُوبُهُمْ" [البقرة: 118]!

وهذا الكلام فيه من مغالطات أسلافه الماضين الشيء الكثير.. بل هو مكرر ممجوج رده القرآن "وَمَا كُنتَ تَتْلُو مِن قَبْلِهِ مِن كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذاً لَّارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ"[العنكبوت: 48]، " وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِّسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُّبِينٌ" [النحل: 103].

ثم تتكرر الصورة مرة أخرى فيجعل المفسدين من الذين فعلوا بالمسلمين الأفاعيل بمكة والمدينة ونقضوا العهود والمواثيق وعمدوا إلى قتل النبي مراراً وقتلوا من أتباع دينه من قتلوا يجعل هؤلاء المجرمين المفسدين ضحية ويجعل المسلم البريء مفسدا!

o مثال ثالث: يقول (جيري فاينز) 13 -الرئيس السابق للمؤتمر السنوي للكنيسة المعمدانية الجنوبية، والذي يمدحه بوش جهاراً فيذكر عنه أنه من المتحدثين بصدق عن دينهم، وهذا الرجل عمد بوش ليكون من النصراء الأوائل لسماحة العقيدة: "... شاذ يميل للأطفال وتزوج 12 زوجة آخرهن طفلة عمرها تسع سنوات..".

وهذا الكلام قول من قائله بغير عرفان، وكذب بين لا برهان له به ويكفي أن يعلم قائله أن النبي _صلى الله عليه وسلم_ تزوج زوجه الأولى خديجة وهي تكبره بأكثر من خمسة عشر عاماً، وأنه لمّا بنى بعائشة وهي ابنة تسع لم ينكر أحد هذا ولا تكلم به المنافقون الحاضرون الذين هم في الحرص على الكيد والطعن في النبي _صلى الله عليه وسلم_ مع جيري هذا سواء، ولكنهم أعلم بواقع ذلك الجيل، وأعرافه، معهود عندهم أن تنكح المرأة إذا بلغت التسع وبلغت شأن النساء، ولذلك ما بنى بها النبي _صلى الله عليه وسلم_ حتى بلغت التسع بالرغم من أنه تزوجها قبل الهجرة بثلاث سنين. ثم إنه لم يتزوج بكراً غيرها، وهو سيد قومه، بل سيد البشرية جمعاء، بل سيد البشر أجمعين.

ثم إن هذا الكلام يذكرنا بكلام قتلة الأنبياء من قبله في المسيح ابن مريم وأمه، فقد اتهموها بالشذوذ في تلمودهم، فقالوا في تلمودهم: "إن يسوع المسيح كان ابناً غير شرعي، حملته أمه خلال مدة الحيض من العسكري بانديرا بمباشرة الزنا".

وأخيراً يحسن التنبيه إلى أن هؤلاء القساوسة تجيء إساءاتهم في مجامع مشهودة، أو منابر مبثوثة، في مناسبات مقصودة، فهم يعنون ما يقولون ويتعمدونه ويرتبونه فليست هي فلتات لسان من قبيل الفلتات التي تفضح من انطوى على عداء للإسلام ولرسول البشرية لا يظهره، بل العداوة معلنة صريحة يدعى لها، ولهذا جيري فاينز اختار الاجتماع السنوي في مدينة سانت لويس بولاية ميسوري الأمريكية ليلقي طعوناته في نبينا _صلى الله عليه وسلم_، ولم يكتفي بذلك فقط بل قال: إن الله الذي يؤمن به المسلمون، ليس هو الرب الذي يؤمن به المسيحيون، وقال: 'لن يقوم الرب بتحويلك إلى إرهابي يحاول تفجير الناس و أخذ أرواحهم'، ومع ذلك يلقون تأييد الحزب الجمهوري، وينالون ثناء بوش، فمن الطبيعي بعدها أن يتأثر بهم الإعلام، الذي هم سلفاً جزء منه بمؤسساتهم الإعلامية النصرانية المتعددة.

ثالثاً: بيان صورة الإسلام لدى الغرب وأسبابها.

الكلام في هذا الجانب مؤلف من جزأين، الأول عن صورة الإسلام لدى الغرب، والثاني: أسباب تلك الصورة.

أما الجزء الأول فقد صدر كتاب بعنوان: (صورة الإسلام في الإعلام الغربي)، لمؤلفه الدكتور محمد بشاري يرصد فيه الكيفية التي يتناول بها الإعلام الغربي قضايا الإسلام والمسلمين في ضوء الحملة المتصاعدة والتي تسعى لتشويه صورة العرب والمسلمين وهي الحملة التي تزايدت وتيرتها خاصة بعد أحداث 11 سبتمبر.

ولعله يحسن قبل أن أنقل كلام كاتب ينتمي إلى الإسلام أن أذكر نقولاً عن الطرف الآخر فأستشهد أولاً بما جاء في مقال للكتاب المعادي للإسلام بجدارة دانييل بايبس وقد جاء فيه ما نصه14:

"يوماً بعد يوم، تتغيّر نظرة الأمريكيين إلى الإسلام والمسلمين لتصبح أكثر سلبية -هذا ما جاء في استطلاعٍ مهمٍّ نشره [مركز پـيو للأبحاث] في الأسبوع الماضي [عام 2003م].

ربما كان التطوّر الأكثر إثارةً في الاستطلاع، هو ازدياد عدد الأمريكيين الذين يجدون بأن الإسلام -على الأرجح- دينٌ [يشجّع أتباعه على العنف] أكثر من الأديان الأخرى. ففي شهر مارس من سنة 2002 كان هناك خمسة وعشرون بالمئة من الذين استُطلِعت آراؤهم يؤيدون هذه النظرة. أما الآن، فقد ارتفعت هذه النسبة إلى 44 بالمئة.

هناك اتجاهات أخرى تتعلق بالإسلام تتّسم أيضاً بالسلبية:

فيما يتعلق بالمسلمين الأمريكيين: 59 بالمئة من الذين استُطلعت آراؤهم في نوفمبر 2001 كانوا ينظرون إلى المسلمين الأمريكيين نظرة إيجابية. هذه النسبة هبطت إلى 54 بالمئة في مارس 2002 وهي الآن بحدود 51 بالمئة.

فيما يتعلّق بمرشح رئاسة الجمهورية: أظهرت الاستطلاعات أنّ نفور الأمريكيين من فكرة التصويت لمرشحٍ مسلمٍ لرئاسة الجمهورية، هو أعظم من نفورهم من فكرة التصويت لمرشحٍ ينتمي إلى أي دينٍ آخر. 31 بالمئة من الأمريكيين يقولون "لا" لمرشح مسلم، مقابل 20 بالمئة بالنسبة لمرشح مسيحي إنجيلي، و 15 بالمئة لمرشح كاثوليكي و 14 بالمئة لمرشح يهودي.

فيما يتعلق بالقيم المشتركة: جواباً على سؤال فيما إذا كان "الدين الإسلامي ودينك يشتركان بأمور كثيرة متشابهة"، 31 بالمئة من الردود كانت إيجابية في نوفمبر 2001 ثم أصبحت 27 بالمئة في مارس 2002 بينما انحدرت في هذه السنة إلى 22 بالمئة" ا.هـ.

ولعل هذا يكفي.

أما ما يقوله المسلمون فأقتطف من كتاب محمد بشاري؛ (صورة الإسلام في الإعلام الغربي) بعض المقتطفات، ولم يحصل لي الاطلاع على الكتاب بيد أني قرأت تقريراً عنه جاء فيه ملخص يصلح أن يثبت هنا، فمما قاله الملخص: إنه "في إطار تزايد موجة العداء للمسلمين في الإعلام الأوروبي يشير المؤلف إلى مجموعة من القضايا التي تعكس هذا التوجه ومن ذلك:

- ملف قضية الفتيات المحجبات، فتحت عنوان: هل هو صراع حضاري أم ماذا؟ تناولت مجلة دير شبيغل بهذا العنوان المستفز القضية وعدتها صراعاً يتفجر من جديد، متسائلة عما إذا كان هذا الصراع يهدد المجتمع المسيحي أو العلماني؟

- أما في النمسا فإن الدنيا قامت ولم تقعد عندما تزوجت لوسيا دحلب السويسرية المسلمة من المواطن الجزائري علي دحلب، واعتنقت الإسلام وارتدت الحجاب، حيث انطلقت حملة إعلامية عنصرية ضدها في أثناء احتفال أقيم في المدرسة الابتدائية التي تدرس فيها لوسيا حضره الآباء وأولياء الأمور وبعض ممثلي أجهزة الإعلام المحلي. أما مجلة الاكسبريس فقد اختزلت موضوع الحجاب الإشكالي بعنوان: الحجاب المؤامرة.. كيف يتسلل الإسلاميون؟

ويحوي الموضوع مفردات تثير فزعاً واضحاً لدى القارئ الفرنسي ومنها الارخبيل الإسلامي، الجماعة الإسلامية المسلحة، تفشي الحجاب، والذي راحت كاتبة تصفه بأنه عملية إرهابية!

- أما بالنسبة لقضية المرأة فإزاء التناول غير المحايد للإعلام الغربي لهذه القضية إلى حد أن أصبح أول ما يتبادر إلى ذهن الإعلامي الفرنسي في أثناء تناول موضوع المرأة هو تعدد الزوجات المشروع في الإسلام والممنوع في الدستور الفرنسي.

وفي مقال بمجلة الاكسبرس مثلاً نقرأ تنديداً شديداً موجها إلى القادة السياسيين بسبب سماحهم بممارسات جاهلية قديمة مثل تعدد الزوجات، ختان البنات، الإسلام المتشدد، وحتى دروس تلقين اللغات الأصلية لأبناء الأقلية المسلمة والعربية.

- ثم ينتقل المؤلف إلى جانب آخر يتمثل في تشويه مفهوم الجهاد في الإعلام الغربي، ومن ذلك تأكيد البعض على أن الإسلام هو دين حرب. وأصبح يكفي أن تتم الإشارة في أي مقال لمصطلح الجهاد مقرونة بترجمة في اللغة الفرنسية «الحرب المقدسة» لكي تثار الزوابع والهواجس والمخاوف.

ولا يتطلب الأمر أن يكون هناك حدث ذو دلالة لكي يتم التخويف من الإسلام، وإنما أصبح ينظر إلى كل ما يتعلق بالمسلمين على أنه كذلك، ومن ذلك على سبيل المثال أن صحيفة لونوفيل أوبزرفاتير نشرت مقالاً عما وصفته بانفجار الحالة الإسلامية في فرنسا، فهناك في تلك [المدة] أكثر من ألف مسجد وأكثر من ستمئة جمعية إسلامية.

وهذا انفجار يعود إلى حوالي 17 سنة يطرح مشكلاً فريداً على المجتمع الفرنسي. ويضيف صاحب المقال المذكور: إن تكرار العمليات الإرهابية واختطاف الرهائن تندرج ضمن استراتيجية مضادة للغرب، وذلك عبر تمرير خطاب الجهاد في معناه العدواني.

- ويجول المؤلف في الإعلام البريطاني ضمن جولته في الإعلام الأوروبي فيشير إلى أن الصورة لا تختلف كثيراً عن طبيعة الصورة الموجودة في باقي الدول الأوروبية، والتي تصنف الإسلام بالدين البدائي والإرهابي وأنه الدين الذي يتعارض مع الحضارة والبديل عن الشيوعية وأيديولوجياتها خاصة بعد سقوط الاتحاد السوفييتي.

- وفي ذلك نشرت صحيفة صنداي تايمز مقالاً لكاتب يدعى بيير جرين دورتون بعنوان: الوجه القبيح للإسلام. قال فيه: إن الإسلام الذي كان حضارة عظيمة تستحق الحوار معها قد انحط وأصبح عدواً بدائياً لا يستحق إلاّ الإخضاع.

- ويقدم المؤلف في هذا الجزء عرضا للعناوين فقط والتي تستصرخ بداخل القارئ الفزع من الإسلام، مثل:

- المسلمون قادمون.

- الحروب الصليبية مستمرة.

- سيف الإسلام يعود من جديد.

- العالم يتحكم فيه بدو الصحراء وشيوخ [النفط].

وما زالت هذه الحملات الإعلامية تظهر بين الفينة والأخرى مما يساهم بطبيعة الحال في تنميط صور مغلوطة تماماً عن الإسلام بوصفه ديناً للكراهية والتعصب والعنف.

- ولعل أبلغ تعبير عن وضعية الإسلام في الإعلام والإدراك الغربي ظاهرة «الإسلاموفوبيا» وهي الكلمة التي دخلت قاموس السياسة الأوروبية وتحولت إلى مفردة لها معان محددة في عصرنا كما حصل في القرن التاسع عشر مع مفردة اللاسامية وتحت مفردة «الإسلاموفوبيا» وهي كلمة يقصد بها «الرِهَابُ الإسلامي» كمصطلح لمعنى الخوف من الإسلام بدأت تعقد المؤتمرات السياسية وتدار الندوات الفكرية لمعالجة مواضيع المخاوف من الإسلام وأبعادها الاجتماعية والاقتصادية والثقافية.

- ومن الصور التي يعرض لها المؤلف وتشير إلى الظلم البريطاني للإسلام والمسلمين نشر وسائل الإعلام هناك مزاعم وادعاءات تزعم فيها أن الثقافة الإسلامية مختلفة جملة وتفصيلا عن الثقافات الأخرى، كذلك تتضمن هذه الصورة الثانية انتقادا بريطانيا حادا للنظام الاجتماعي في الإسلام، والذي يعتمد بشكل أساسي على الأب الذي ينسب الأبناء إليه دون أمهم ويتولى مسؤولية الأسرة كاملة وغير ذلك.

- وإذا كانت هذه هي الصورة فيما قبل أحداث سبتمبر فلنا أن نتخيلها فيما بعد هذه الأحداث، فقد زاد معدل خضوع صورة الإسلام والمسلمين للتشويه والتحريف. وقد تفرعت أصناف تشويه صورة الإسلام والمسلمين ما بين التصريحات الأكاديمية والسياسية والإعلامية.

- واذا كانت الصورة التي ترسخها وسائل الإعلام مشوهة بسبب سيطرة اللوبيات الإعلامية اليهودية عليها أو بسبب وجود عقليات عنصرية متطرفة استغلت أحداث ستبمبر لكي تفرغ ذلك المكبوت من أجل تفعيل تشويه صورة الإسلام فقد كانت هذه الأحداث فرصة مواتية أيضا لبعض السياسيين الغربيين والدينيين لكي يمرروا خطاب العنصرية والاستعلاء.

فمن الدعوة إلى هدم الكعبة إلى وصف الإسلام بأنه دين شيطاني جديد على لسان القس البروتستانتي المعروف (فرانكلين غرام) إلى (بيرلسكوني) الذي راح يؤكد على أن الغرب يجب أن يثق في أن حضارته أرقى من الحضارة الإسلامية وهو يضع استراتيجيته لقمع ما وصفه بالإرهاب.. كلها تنويعات على تشويه صورة الإسلام.

- وهي مواقف تمتد لتصل إلى الكاتبة والصحافية الإيطالية (أوريانا فالاتشي)، والتي راحت تؤكد رسالة لها على أن الغرب يعيش حربا صليبية بالفعل.. حرب يسمونها جهادا.. حرب لا تريد أن تغزو أراضينا بل أرواحنا، حرب تريد القضاء على خيراتنا وعلى حضارتنا!

- أما رئيس تحرير مجلة لوبوان الفرنسية فيقول في مقالة افتتاحية له بعد أحداث سبتمبر: إنه من ضمن الملاحظات العديدة التي نخرج بها من هذا الحدث هو أن الإرهاب المستشري أكثر في العالم اليوم يتعلق بالتطرف الإسلامي.

مضيفا إن الغرب يجهل القوة الصامتة للحركات الإسلامية وللمسلمين كافة؛ لأن هناك مليارا منهم في العالم وأنه حتى لو كان هذا المليار لا يساند الإرهاب فإنهم لا يعارضون الانخراط في أعمال الجهاد والحرب المقدسة.

- أما في بريطانيا فقد نشرت جريدة الصنداي تليغراف مقالا بعنوان «هذه الحرب ليس موضوعها الإرهاب بل الإسلام»، أما الصحافة الأميركية فحسبما يشير المؤلف فقد أثبتت دراسة بشأنها أنها بدأت في الهجوم المباشر على الدين الإسلامي باعتباره دينا يحض على العنف والانتقام وكان هذا النمط من المعالجة الصحافية متوازيا مع الهجوم على المسلمين.

- كما لجأت الصحافة الأميركية والبريطانية إلى تخصيص مساحات واسعة لشخصيات ذات تأثير في المجتمع للإدلاء بشهادتها المعادية والداعمة للأهداف التي كانت تعمل من أجلها في هذه المرحلة وهو ما نراه مثلاً في أقوال (صامويل هنتنغتون) بأن المسلمين يشكلون 20 % من سكان العالم وهم وحدهم مسؤولون عن 80% من الصراعات والاضطرابات في عالم اليوم.

- أما في هولندا فقد نشرت مجلة «هاخسابوت» في متنصف أكتوبر مقالا دعا فيه كاتبه إلى مراجعة جذرية للوجود الإسلامي في هولندا وإلغاء مدارس المسلمين مضيفاً: إن الوقت حان للتاكد من إمكان التعايش مع الدين الإسلامي بوصفه ديناً يحترم القيم الديمقراطية للدولة الغربية والنظام الدستوري والقانون.

هذا بعض ما ذكره المؤلف، وأما التصريحات التي أعقبت حادث 11 سبتمبر فمشهورة من أبرزها تصريحات لأصحاب برامج مشهورة يرددون مثل هذه العبارات ومن هؤلاء:

- بني هن15(Benny Hinn) الذي يقول: "هذه ليست حرب بين العرب واليهود، إنها حرب بين الله وبين الشيطان".

- وتقول آن كولتر (Ann Coulter ) في مقابلة أجرتها على قناة NBC عقب أحداث سبتمبر: "نحن يجب أن نجتاح بلدانهم، ونقتل قادتهم، ونحولهم لنصارى"16!

ولعل العرض السابق كاف في بيان الجانب الأول المتعلق بصورة الإسلام لدى الغرب.

أما الجانب الثاني، وهو: أسباب تلك الصورة، فقد كتب علاء بيومي مدير الشؤون العربية في كير مقالاً جدياً يوضح أحد أسس تلك الأسباب ولاسيما الخراجية منها، قال ما نصه:

((يوضح ديفيد بلانكس ومايكل فراستو في مقدمة كتاب قاما بتحريره عن "رؤية الغرب للإسلام في العصور الوسطى" (1999) أن جذور رؤية الغرب الراهنة للإسلام والمسلمين تعود إلى القرن الحادي عشر الميلادي الذي شهد بداية الحروب الصليبية والمراحل الأولى لنشأة الهوية الغربية الحديثة.

ويقول الكاتبان: إن الأوربيين في تلك [المدة] كانوا محاصرين بحضارة أكثر قوة وتقدماً، وهي الإسلام، وأنهم فشلوا في هزيمة هذه الحضارة خلال الحروب الصليبية كما رفضوا فهما، [لكن لديهم شعور] دائم بتهديدها الحضاري والديني لهم، لذا لعب الإسلام دورا أساسيا في تشكيل الهوية الأوربية ومن ثم الغربية الحديثة.

ويرى المؤلفان أن الإسلام لعب دور شبهاه "بنيجاتيف الصورة" في تشكيل رؤية الأوربي المسيحي المثالية لنفسه، إذ عمد الأوربيون إلى تشويه صورة منافسيهم (المسلمين) كأسلوب لتقوية صورتهم الذاتية عن أنفسهم، وبناء ثقتهم في مواجهة عدوا أكثر قوة وتحضرا.

وفي الكتاب نفسه يرى دانيال فيتكس [وهو أستاذ آداب بجامعة ولاية فلوريدا الأمريكية] أن نظرة الغرب الحديثة للإسلام ولدت في [المدة] كانت علاقة أوربا بالإسلام فيها هي علاقة خوف وقلق، مما دفع الأوربيين لتعريف الإسلام تعريفا "ضيقا كاريكاتوريا" كدين يملأه "العنف والشهوة" يقوم على "الجهاد العنيف" في الحياة الدنيا و"الملذات الحسية الموعودة" في الآخرة، كما نظروا للرسول محمد _صلى الله عليه وسلم_ على أحسن تقدير على أنه واحد من اثنين، إما "قس كاثوليكي فشل في الترقي في سلم البابوية" فقرر الثورة ضد المسيحية أو أنه "راعي جمال فقير تلقى تعليمه على يد راهب سوري" ليشكل دينا جديدا من "قشور العقيدتين المسيحية واليهودية".

كما نظر الأوربيون إلى حياة المسلمين الأخلاقية نظرة مزدوجة فمن ناحية نظروا إلى حجاب المرأة المسلمة كتعبير عن "السرية والقهر" والفصل بين الرجل والمرأة، وفي نفس الوقت نظروا للحجاب على أنه مصدر "فجور واستباحة أخلاقية مستترة" خلف الحواجز والأسوار.

وقد انتقلت هذه الصورة المشوهة - كما يري جون اسبزيتو – أستاذ دراسات الأديان والعلاقات الدولية بجامعة جورج تاون الأمريكية – في كتاب (التهديد الإسلامي: حقيقة أم أسطورة؟) (1992) – إلى بعض أهم قادة الإصلاح الفكري والديني في أوربا، وعلى رأسهم مارتن لوثر - زعيم حركة الإصلاح البروتستانتي – الذي نظر للإسلام على أنه "حركة عنيفة تخدم أعداء المسيح لا يمكن جلبها للمسيحية؛ لأنها مغلقة أمام المنطق، ولكن يمكن فقط مقاومتها بالسيف".

معرفة الإسلام للسيطرة عليه:

مع دخول عصر النهضة الأوروبية في القرن الخامس عشر دخلت نظرة الغرب للإسلام مرحلة جديدة وصلت إلى قمتها خلال عصور الاستعمار الأوروبي الذي اجتاح شرق العالم القديم خلال القرن التاسع عشر الميلادي.

ويرى إدوارد سعيد في سلسلة من مؤلفاته على رأسها الاستشراق (1978) أن معرفة الغرب للإسلام في هذه المرحلة كانت بغرض السيطرة عليه وليس فهمه، وأن عمليه المعرفة هذه تمت بشكل منظم نسبيا تعاونت فيه مؤسسات الفكر والمعرفة الأوروبية تعاوناً وثيقاً مع مؤسسات الاستعمار الأوروبية الرسمية لمدها بالمعرفة اللازمة للسيطرة على المجتمعات المستعمرة.

وخلال هذه المرحلة نظر الغرب للشرق - بما في ذلك العالم الإسلامي – بأسلوب أصبح الآن نموذجا يدرس عن التشويه المتعمد الذي يمكن أن تقوم به حضارة ما لصورة حضارة أخرى، ومن أهم عناصر هذا الأسلوب ما يلي:

أولا: النظر للشرقي أو للمسلم على أنه الآخر المستقل تماما عن الأنا أو الذات الأوروبية.

ثانيا: تنظيم علاقة الأوروبي مع الآخر من خلال سلسلة من الثنائيات الفكرية يضع كل منها الأخر الشرقي أو المسلم في مقابل الأنا الأوروبي على طرفي نقيض في مختلف جوانب الحياة، فعلى سبيل المثال تم النظر للشرقي على أنه متخلف وحشي في مقابل الغربي المتقدم المتحضر، كما نظر الغربي للشرقي على أنه جاهل فقير في مواجهة الغربي المتعلم الثري، كما رأى الغربي الشرقي على أنه داكن ضعيف في مقابل الغربي الأبيض القوي.

ثالثاً: وقفت المؤسسات الاستعمارية خلف التقسيم الثنائي السابق لدعمه سياسياً واقتصادياً وثقافياً على أرض الواقع من خلال مساعيها لربط الشرق بما في ذلك العالم الإسلامي بأوربا من خلال روابط مؤسساتية استعمارية تضمن بقاء الشرق الطرف الأضعف على طول الخط في علاقته بالإمبراطوريات الأوروبية، ولذا سعى الاستعمار لتكريس استغلاله واستنزافه الاقتصادي للشرق ولإضعاف اللغات والأديان والثقافات الشرقية الأصلية ولمحاربة ظهور الحركات السياسية والاجتماعية الوطنية في الشرق والعالم الإسلامي على مدار عقود الاستعمار.

رابعاً: وقف الغرب موقفاً منزعجاً ومتشدداً وأحياناً انتقامياً تجاه الجماعات الشرقية أو المسلمة التي خرجت عن التقسيم الثنائي السابق وحاولت امتلاك أدوات القوة الغربية مثل: اللغة وقوة الاقتصاد وفهم السياسة والقانون وأساليب العمل الإعلامي للتقريب بين مواقف المجتمعات الشرقية المستضعفة والغرب المستعمر.

خامساً: النظرة السابقة لعبت دوراً مزدوجاً خطيراً في تشكيل صورة الإسلام والمسلمين لدى الغرب، الدور الأول هو تشويه هذه الصورة، والثاني هو تبرير الاستعمار الأوربي واستنزاف أوربا المنظم لثروات الشرق والعالم الإسلامي تحت عنوان تحريره ومساعدته على الرقي والتحضر)) ا.هـ.

وهذا تحليل جيد مستنده كتابات الغربيين أنفسهم.

وقد اشتمل كلامه على أسباب شتى تدور كلها على قوله الله _عز وجل_: "وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ ..." [البقرة:120]. وهذا ولاشك عامل مهم بل هو أهم العوامل التي تدفع لتشويه صورة الإسلام في الغرب، وإلاّ لو كان هناك عدل وإنصاف لم يؤاخذ الإسلام والمسلمين بأخطاء فردية وتجاوزات توجد في كل الأديان والشعوب مثلها بل أضعافها.

وأخطأ من ظن أن الإشكال مع الغرب جاء من جهة عدم تصورهم جميعاً للإسلام أو لنبيه _صلى الله عليه وسلم_، وقد شاعت في الأزمة الراهنة (الرسوم) عبارة غير دقيقة اتخذت كشعار ونصها: (لو عرفوه لأحبوه)، والله _تعالى_ يقول: "يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ" [آل عمران:71]. ويقول _عز وجل_: "الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمُ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ" [الأنعام:20]، فكثير منهم يعرفون الكتاب ويكتمونه حسداً وبغياً، وكثير منهم يعلمون أن محمداً هو رسول الله حقاً، ومع ذلك أبوا إلاّ أن يناصبوه العداء في الحاضر، كما ناصبه أسلافهم العداء في الماضي، وهم يعلمون، ولهذا أثنى الله على من خالف هواه منهم، وانصاع للحق الذي عرف فقال _سبحانه_: "الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ" [لأعراف:157].

وفي قصة إسلام عبدالله بن سلام الحبر البحر _رضي الله عنه_ في صحيح البخاري وغيره أن عبد الله بن سلام جاء رسول الله _صلى الله عليه وسلم_ فقال: أشهد أنك رسول الله، وأنك جئت بحق، وقد علمت يهود أني سيدهم، وابن سيدهم، وأعلمهم، وابن أعلمهم، فادعهم فاسألهم عني قبل أن يعلموا أني قد أسلمت، فإنهم إن يعلموا أني قد أسلمت قالوا في ما ليس في.

فأرسل نبي الله _صلى الله عليه وسلم_ فأقبلوا فدخلوا عليه فقال لهم رسول الله _صلى الله عليه وسلم_: "يا معشر اليهود ويلكم اتقوا الله! فوالله الذي لا إله إلا هو إنكم لتعلمون أني رسول الله حقا، وأني جئتكم بحق فأسلموا".

قالوا: ما نعلمه.

قالوا للنبي _صلى الله عليه وسلم_ قالها ثلاث مرار قال: "فأي رجل فيكم عبد الله بن سلام"؟

قالوا: ذاك سيدنا وابن سيدنا، وأعلمنا وابن أعلمنا.

قال: "أفرأيتم إن أسلم"؟

قالوا: حاشا لله ما كان ليسلم.

قال: "أفرأيتم إن أسلم"؟

قالوا: حاشا لله ما كان ليسلم.

قال: "أفرأيتم إن أسلم"؟

قالوا: حاشا لله ما كان ليسلم.

قال: "يا ابن سلام! اخرج عليهم".

فخرج فقال: يا معشر اليهود اتقوا الله فوالله الذي لا إله إلا هو إنكم لتعلمون أنه رسول الله وأنه جاء بحق، فقالوا كذبت فأخرجهم رسول الله _صلى الله عليه وسلم_.

وهكذا النصارى لسوا بمنأى عن نهج هؤلاء.

وقد ثبت عند البخاري وغيره أيضاً حديث أبي سفيان في كتاب النبي _صلى الله عليه وسلم_ لعظيم النصارى، هرقل الروم، وخبر أبي سفيان معه، وفيه قول: " فقال [يعني هرقل] للترجمان قل له: سألتك عن نسبه فذكرت أنه فيكم ذو نسب، فكذلك الرسل تبعث في نسب قومها.

وسألتك: هل قال أحد منكم هذا القول؟ فذكرت أن لا، فقلت: لو كان أحد قال هذا القول قبله لقلت رجل يأتسي بقول قيل قبله.

وسألتك: هل كان من آبائه من ملك؟ فذكرت أن لا، قلت: فلو كان من آبائه من ملك قلت رجل يطلب ملك أبيه.

وسألتك: هل كنتم تتهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال؟ فذكرت أن لا، فقد أعرف أنه لم يكن ليذر الكذب على الناس ويكذب على الله.

وسألتك: أشراف الناس اتبعوه أم ضعفاؤهم؟ فذكرت أن ضعفاءهم اتبعوه، وهم أتباع الرسل.

وسألتك: أيزيدون أم ينقصون؟ فذكرت أنهم يزيدون، وكذلك أمر الإيمان حتى يتم.

وسألتك: أيرتد أحد سخطة لدينه بعد أن يدخل فيه؟ فذكرت أن لا، وكذلك الإيمان حين تخالط بشاشته القلوب.

وسألتك: هل يغدر؟ فذكرت أن لا، وكذلك الرسل لا تغدر.

وسألتك: بما يأمركم فذكرت أنه يأمركم أن تعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا، وينهاكم عن عبادة الأوثان، ويأمركم بالصلاة والصدق والعفاف، فإن كان ما تقول حقا فسيملك موضع قدمي هاتين، وقد كنت أعلم أنه خارج لم أكن أظن أنه منكم، فلو أني أعلم أني أخلص إليه لتجشمت لقاءه ولو كنت عنده لغسلت عن قدمه.

ثم دعا بكتاب رسول الله _صلى الله عليه وسلم_ الذي بعث به دحية إلى عظيم بصرى فدفعه إلى هرقل فقرأه فإذا فيه:

(بسم الله الرحمن الرحيم من محمد عبد الله ورسوله إلى هرقل عظيم الروم، سلام على من اتبع الهدى، أما بعد: فإني أدعوك بدعاية الإسلام، أسلم تسلم، يؤتك الله أجرك مرتين، فإن توليت فإنّ عليك إثم الأريسيين، و "يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم أن لا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئا ولا يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله فإن تولوا فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون").

قال أبو سفيان: فلما قال ما قال وفرغ من قراءة الكتاب كثر عنده الصخب، وارتفعت الأصوات وأخرجنا، فقلت لأصحابي حين أخرجنا: لقد أمر أمر ابن أبي كبشة إنه يخافه ملك بني الأصفر. فما زلت موقنا أنه سيظهر حتى أدخل الله علي الإسلام.

وكان ابن الناظور صاحب إيلياء وهرقل سقفا على نصارى الشام يحدث أن هرقل حين قدم إيلياء أصبح يوما خبيث النفس، فقال بعض بطارقته: قد استنكرنا هيئتك قال ابن الناظور وكان هرقل حزاء ينظر في النجوم فقال لهم حين سألوه إني رأيت الليلة حين نظرت في النجوم ملك الختان قد ظهر فمن يختتن من هذه الأمة قالوا ليس يختتن إلا اليهود فلا يهمنك شأنهم واكتب إلى مداين ملكك فيقتلوا من فيهم من اليهود فبينما هم على أمرهم أتي هرقل برجل أرسل به ملك غسان يخبر عن خبر رسول الله _صلى الله عليه وسلم_ فلما استخبره هرقل قال: اذهبوا فانظروا أمختتن هو أم لا، فنظروا إليه فحدثوه أنه مختتن، وسأله عن العرب، فقال هم يختتنون فقال هرقل هذا ملك هذه الأمة قد ظهر ثم كتب هرقل إلى صاحب له برومية وكان نظيره في العلم وسار هرقل إلى حمص فلم يرم حمص حتى أتاه كتاب من صاحبه يوافق رأي هرقل على خروج النبي _صلى الله عليه وسلم_ وأنه نبي فأذن هرقل لعظماء الروم في دسكرة له بحمص ثم أمر بأبوابها فغلقت ثم اطلع فقال يا معشر الروم هل لكم في الفلاح والرشد وأن يثبت ملككم فتبايعوا هذا النبي فحاصوا حيصة حمر الوحش إلى الأبواب فوجدوها قد غلقت فلما رأى هرقل نفرتهم وأيس من الإيمان قال ردوهم علي وقال إني قلت مقالتي آنفا أختبر بها شدتكم على دينكم فقد رأيت فسجدوا له ورضوا عنه فكان ذلك آخر شأن هرقل.

والشاهد مما سبق بيان أنه قد أخطأ من ظن أن سبب العداوة من جميع اليهود والنصارى لنبينا _صلى الله عليه وسلم_ عدم علمهم به أو بصدق رسالته.

وكما أن هذا السبب لا ينبغي أن يغفل ويهمل، فإن من الواجب كذلك ألا يغالى فيه ويزايد، فإن هذا من دوعي تفاقم الإشكال لا حله، وهذا مقتضى الإنصاف الذي علمناه إياه ديننا، كما في قول الحق _سبحانه_: "لَيْسُوا سَوَاءً مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ" [آل عمران:113].

وعدم المغالة فيه تكون بمراعاة أمرين:

أحدهما: استحضار أن هناك خمسة طوائف من الغربيين، فكما أن هناك طائفة أولى من المستكبرين باطري الحق وغامطي الإسلام، فإن هناك طائفة ثانية من الجهلة المغرر بهم، أما الطائفة الثانية فلا يعرف أهلها عن الإسلام إلاّ ما صورته الطائفة الأولى، فهؤلاء المساكين يحب أن يستنقذوا من بني الإسلام، فيعرفوا بنبي الثقلين وبدين الحق فتعرض لهم صورته المشرقة في سكينة وهدوء، وتقصير المسلمين في حقهم من أفحش الظلم لهم.

أما الطائفة الثالثة فهي بين هؤلاء وهؤلاء وهم المعرضون الذين لا يريدون معرفة الحق وتمييزه من الباطل، يصمون آذانهم ويستغشون ثيابهم، إما لهوى أو ظلم أو جهل، وهؤلاء ينبغي أن يرغبوا في الإسلام وينبهوا إلى أهمية النظر فيه، قبل أن يُلحقوا بالفريق الأول.

وأما الطائفة الرابعة فهم المنصفون من الغربيين الذين عرفوا شيئاً من الإسلام فبانت لهم تعاليمه السمحة، وتشريعاته الحكيمة، وعرفوا شيئاً عن نبينا _صلى الله عليه وسلم_ فعظموه، فوقفوا موقف أبي طالب من محمد _صلى الله عليه وسلم_، وقاموا مقام غيره ممن حمى بعض أهل الإسلام وذب عنهم.

ومن هؤلاء على سبيل المثال جوسلين سيزاري (الباحثة الفرنسية)، روبرت فيسك الصحافي البريطاني، ماركوس بورج استاذ علوم الدين في جامعة أوريغون الأمريكية، فرانسوا بورجا الباحث الفرنسي المرموق وكذلك كارين أرمسترونج الكاتبة البريطانية والراهبة الكاثوليكية سابقا وصاحبة العديد من المؤلفات عن الإسلام والمسيحية واليهودية.

بل الأمير الإنجليزي تشارلز وشهادته النادرة التي أسقط فيها صفة التطرف التي يحاول الإعلام الغربي أن يربطها بالإسلام إلى جانب دفاع تشارلز عن فضل الحضارة الإسلامية على القارة الأوروبية وعلى الحضارة الغربية بصفة عامة.

وأمثال هؤلاء ينبغي أن يعرف لهم فضلهم، وأن يكافؤوا عليه، وأن يحرص على دعوتهم وهدايتهم، وحري بمثلهم أن يسلموا إذا تعرفوا على الإسلام أكثر.

وأما الطائفة الخامسة والأخيرة فهم مسلمو الغرب، فهؤلاء ينبغي أن نكون ردءاً لمحسنهم، حادبين على مسيئهم، حريصين على هدايته وتوجيه التوجيه الأمثل.

أما الأمر الثاني الذي تنبغي مراعاته:

فهو معرفة الأسباب الأخرى التي ساعدت على تشويه صورة الإسلام والمسلمين، على الرغم من توافر عوامل التعريف بالإسلام وأهله في عصر الفضائيات وثورة الاتصالات.

ولعل أهما ينحصر في اثنين:

الأول: تقصير بني الإسلام في عرض صورة الإسلام الواضحة النقية.

والثاني: عرض صورة لمسخ مشوه والتصريح بأنها صورة الإسلام، أو الإيهام بذلك، عمداً أو خطأ.

ولاشك أن هذين السببين يتداخلان مع ما سبق ذكره، ولاسيما الثاني فإن أثر الغرب في هذا ظاهر، بيد أن الغرب ليس هو كل شيء فيه، كما أن حقد الغربيين له من يدعمه من الأطراف العميلة المؤثرة وليست كل شيء فيه.

أما تقصير بني الإسلام في عرض صورة الإسلام الواضحة النقية فيشمل أموراً منها:

* تقصيرهم في عرضه ابتداء.

* وتقصيرهم في تنقية الصورة المشوهة بالشبه الغربية أو المستغربة الناطقة بالعربية.

* تقصيرهم في بيان الأخطاء ومعالجتها، على المستوى الداخلي والخارجي، فعندما تزور ممارسات باسم الإسلام خطأ، ثم لا يوضح بجلاء أن الإسلام منها براء داخل الصف المسلم أو خارجه، فإما أن تبقى الصورة مشوهة عند إغفال الاعتراف بالخطأ وتصحيحه في الذهن الغربي، وإما أن تتكرر الأخطاء عند إغفال توعية الصف المسلم وحواره وتعريفه بالخطأ الذي وقع فيه.

وأما عرض صورة لمسخ مشوه والتصريح بأنها صورة الإسلام، أو الإيهام بذلك، عمداً أو خطأ، فذلك يشمل أمور أيضاً:

* منها الممارسات التي يعتقد بعض الجهلة أو المتحمسين أو المنهزمين أنها من الإسلام والإسلام منها براء.

* ومنها ما يزوره العلمانيون وأضرابهم وأذنابهم من دعاة التنوير بإحراق الفضائل، الذين يزعمون جهلاً أو كذباً أن الإسلام لايعارض ما يعرضون وأن معارضته تشدد أو تزمت.

* ومنهم ما يُعرض في وسائل الإعلام المسلمة، أو يعرض في واقعهم من تعاملات مشينة، أو ممارسات تخالف هدي الإسلام، بغير نكير في أحيان، وبنكير لايلتفت إليه في أحايين أخرى، فكل هذا مما يوهم الغربيين بأن تلك الصورة المشوهة هي الإسلام.

فلعل ما سبق من أسباب داخلية وخارجية، هي أعظم الأسباب التي قادت إلى تشوه صورة الإسلام لدى الغرب.

ويحسن التنبيه إلى أن العلاج الذي نملكه يتعلق أولاً بعلاج المظاهر والأسباب التي للمسلمين فيها يد، كتصحيح واقعهم، مثلاً وإنكار المناكر التي ليست من الإسلام في شيء.

ثم ثانياً بمدافعة الباطل وأهله الناقمين على الإسلام ومجاهدتهم جهاداً كبيرا من أجل إيصال صورة الإسلام للناس بيضاء نقية كما جاءنا به محمد _صلى الله عليه وسلم_.

وهذا يتطلب خطاباً إعلامياً عصرياً نقدياً وموضوعياً يغزو الأسواق الغربية ويبتعد عن رتابة الخطاب الإعلامي الغربي والإسلامي الموجود اليوم.

كما أن الحاجة إلى الاتجاء إلى الله ماسة، والاعتماد عليه كبيرة، والدعاء لأهل الضلال من الكفار بمعرفة الحق واتباعه، وفي صحيح البخاري ابن مسعود قال: كأني أنظر إلى النبي _صلى الله عليه وسلم_ يحكي نبيا من الأنبياء ضربه قومه فأدموه وهو يمسح الدم عن وجهه ويقول اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون.

فكما أننا بحاجة إلى دعاء الله بأن يهلك الظالمين المستكبرين المعرضين من الكافرين المستهزئين، نحن أيضاً بحاجة إلى أن نسأله سبحانه أن يهدي ضالهم ويدل حائرهم ولاسيما أولئك النفر الذين لا يزالون ينافحون عن الإسلام ونبيه عليه الصلاة والسلام.

رابعاً: تحرير مفهوم حرية التعبير واحترام الأديان والمقدسات.

شاعت عند الغربيين منذ قرن من الزمان عبارة يبدو أن من أشهرها بينهم أحد أعمدة كتاب الخيال العلمي ألا وهو الكاتب الشهير المولود أوائل القرن الماضي روبرت هاينلاين (Robert Heinlein). الذي قال: " حقك في أرجحة قبضتك ينتهي حيث تبدأ أنفي"17!

ويصوغها بعضهم في شكل طرفة يصور فيها رجلاً يتثاءب ويتمطى على مقعده بحديقة عامة، فيفرد يده بكل قوة لتستقر في أنف جاره الغافل، والذي ما أن رقأ دمعه، وذهب احمرار وجهه، واختفت أصداء صرخته، حتى قال لجاره: بهدوء –يغبط على تمالك نفسه فيه-: يا عزيزي لقد هشمت أنفي!

فما كان من جاره إلاّ أن فرَّ ثغره مبدياً أسناناً صفراء في ابتسامة باردة، ثم قال مجيباً صاحبه: أنا.. أنا حر! أتمطى كيف شئت أن أتمطى!

وبعدها أظلمت الدنيا أمامه إثر شيء صلب اصطك بصدغه، وكان آخر ما سمعه كلمات بل صرخات يقول فيها جاره الذي تصاعدت أبخرة الغضب من رأسه، وحاكى لونه لون الجزرة، بينما انطلقت أطرافه الأربعة نحوه كأنها نبال: حرية يدك تنتهي حيث تبدأ حرية أنفي يا...

ومن رحمة الله به أن حجب عنه سماع بقية الكلمات فقد أغمي عليه إثر اصطكاك بعض الأطراف برأسه!

ولعل مضمون هذه العبارة أمر بدهي، كما أن ما يرد عليها من قيود أمر بدهي كذلك، ومن ذلك ما قاله السياسي الأمريكي نجم المحافظين الصاعد والمدافع عن الحريات الفردية الشهير بول جاكوب (Paul Jacob) إذ قال ما حاصله: إنك قد تملك الحق في أرجحة قبضتيك حتى تستقر ليس فقط على رأس أنف صاحبنا، بل أبعد من ذلك بنصف بوصة إلى حيث يتكوم أنفه!

وذلك في حالات المجازاة بالمثل، أو الدفاع عن النفس، شريطة ألا يصل ذلك إلى حد أبعد من: (العين بالعين)18.

ولعل هذه أمور بدهية لا يجادل في مجملها عاقل، غير أن الجدال انتصب في بعض الصور والتطبيقات التي تُلحق بها. والحق أن كثيراً من الأمثلة التطبيقية قد تكون محل نظر وتأمل، يكتنف القول بأنها من قبيل تلك البدهيات حق وباطل، بيد أن الجدل في بعضها من قبيل إنكار البدهيات والاعتراض بالجدل المحض من أجل تسويغ واقع منحرف باسم الحرية.

ولعله مر بك –أيها الفاضل- يوماً أحد المجادلين في مسألة واضحة محاولا تسويغ الخطأ الذي أخطأه، ولعلك لا تنسى أي شيء انقذف في رُوعِك تجاه ذلك المكابر باطر الحق، وغامط الناس، المعرض عن الانصياع للصواب.

وحقاً:

مَن ناطَ بِالعُجْبِ عُرى أَخلاقهِ نيطَت عُرى المَقتِ إِلى تِلك العُرى

وحتى لا يكون هذا، فتكثر القبضات الطائرة والأنوف المحطمة، ولغيره، وضع الحقوقيون قوانينهم الوضعية لتكفل عدم المساس ببعض تلك الحريات البدهية، وإن أدى الأمر إلى منع الحرية عن طريق الحبس بل القتل لأولئك العابثين بالحريات ولو باسم الحرية.

نظرة إسلامية في القوانين العالمية:

هل يستقل العقل بوضع قوانين تضبط الحريات:

ولعل هذا يساهم في طرح الفلسفة الإسلامية ونظرتها لتلك القوانين.

في تقديري أن من استقلوا بعقولهم زلوا في وضع كثير من تلك القوانين، وهذا أمر من الطبعي أن يعرض لمن خرج من البشر عن دائرة ضوء الوحي المنزل من عليم بخلقه لطيف خبير، وإن لم تكن لهم أهواء وعجر وبجر فكيف إذا كانت ثمَّ؟

ولا أدل على ذلك من التعديلات والاستدراكات التي تطرأ على تلك القوانين على الرغم مما بذل لأجل وضعها، مع أن النقل واقع –ولو خفية- عن الأمثلة السابقة سواء أكانت مجلة أحكام عدلية عثمانية، أو تشريعات سماوية محفوظة.

إن جمهور الأمم والشعوب يقرون بوجود خالق وقد دل هذا الكون وما اشتمل عليه من نواميس وإحكام على أنه خالق عليم سميع بصير خبير قدير مريد. ولن يجد أحد جواباً صواباً عن السبب المنشيء لحدوث الحوادث وكل ما هو جائز الوجود، فيبين سبب عدم ما لم يوجد منها، أو وسبب وجود ما وجد منها إلاّ إذا أقر بخالق تلك بعض صفاته، لا تجري عليه أقيسة الشبه بالخلق، وبعدها يصح أن يسند إليه ترجيح طرفي الوجود أو العدم، وإلاّ ساقه الاقتصار في العزو إلى الأسباب إلى سلسلة مجهولة.

وكما أن خلق الخالق سبحانه وتعالى كان معجزاً محكماً، فكذلك أمره وتشريعه المحكم الباقي.

ولهذا فإن من استقل بعقله وخرج عن نور ومحدادت الوحي المنزل ممن استتم علمه وكملت قدرته، فإنه بمثابة من انحاز في أرض زرعت بالألغام، نحو رقعة منها مظلمة مليئة بسبل الردى، فأنى لمثل هذا السلامة ما لم يسلط أضواء الوحي على طريقه، ويحسن قراءة محدداته فيها؟

نعم قد يرشده عقله وما أوتي من وسائل حس لتجنب ما نتأ من العوارض أو غار مثلاً، ولكن لن يسلم من جميعها إلاّ من شذ، وليس ذلك بفضل العقل الذي لا يعلم، فليس مع صاحبه الناجي غير الجهل، ولكن بفضل الله الذي سلّم وألهم. وقد دل خلق الله على إرادته وقدرته وعلمه.

وقد يقول قائل لم هذا التصوير ولم لا يكون العقل هو السراج الذي ينير الطريق للبشرية، وجوابه يتلخص في أن العقل آلة استنباط واستنتاج تعمل في معطيات الواقع التي يقود إليها الحس، ووفقاً لمعطيات الحس قد يلتذ الإنسان أو يتأذى، وبهذا قد يعلم العقل ملاءمة الفعل له أو منفاته، وهذه الأفعال كثيراً ما تتعارض فيها الرغبات فقد يلتذ أحدهم بما يتأذى به الآخر، فيتباين الحكم العقلي لكل منهما وفقاً لرغباته ومصالحه، كما أنه ثمت أمور تضطرب أحاسيس الناس تجاهها وتختلج مشاعرهم عندها، وهنا يتعطل استدلال العقل بالحس ويحتاج إلى ما يضيء له الطريق، وقد لا تختلف حواس الناس لكنها تعجز نظراً لقصورها وحدودها التي لا تتجاوزها قدرة البشر مع أن للشيء الذي عجزت عن إدراكه أثره، فالعين –على سبيل المثال- قد تحتاج لأمر خارج عنها حتى تبصر مع توافر شروط الرؤية وانتفاء موانعها إذا كان ما يراد إبصاره خارج عن حدود قدرتها، فإذا قَصُرت الحواس عن إدراك أمر غيبي أو مشهود، أو اختلفت فيه أو في تقدير ما يترتب عليه، وما ينبغي له، احتاجت البشرية إلى ما يعرفها هل هذا الفعل سبباً للذم أو العقاب، أم لا؟ وما مقدار الذم أو العقاب الذي يستحقه من قارف ما اتفقت العقول على قبحه، واختلف في مقدار جزائه؟

وإلاّ فلو اتفقت العقول البشرية الصحيحة –وهذا ما يزيفه الواقع- لاكتفينا بحكم العقل حتى في المجتمع الواحد الذي يتغير ويتبدل رأي عقلائه قرناً إثر قرن.

التفريق بين فلسفة الإسلام ومعتقد أهله في شأن القوانين البشرية وبين التعامل مع واقعها:

إذا تقررت تلك النظرة للقوانين التي يفرضها منطق القوة، فإن هذا لا يمنع التعامل مع واقعها بحكمة وفقاً لفقه القدرة ومقتضى المصلحة الشرعية، مع بقاء الرأي والمعتقد في تلك القوانين وفقاً لما تقتضيه النظرة الإسلامية، فإذا اختلت موازين القوى وتغيرت الطاقات والقدرات وأمكن صياغة تلك الأحكام وفقاً للنظرة الشرعية فبها ونعمت، وإلى ذلك الحين تظل المدافعة، ونافذة بيان الرأي وإثبات جدارته وصلاحيته مشرعةً يمكن من خلالها إذاعة فلسفة الإسلام ورؤاه في أمثال تلك القوانين، وذلك أول سبيل الدعوة إليها، شريطة أن يقوم بذلك المأهلون العالمون بالشرع والواقع.

أما التعامل مع واقع تلك القوانين المفروضة فيكون بالاستفادة مما تنص عليه من حق لا يخالف شرائع الإسلام في الجملة، كاحترام الأنبياء مثلاً.

وبالمقابل العمل على حكم وإخضاع الباطل منها لقوانين أخرى مجملة تعارضها والمدافعة في هذا الإطار بحسب الطاقة، تماماً كما يفعلون في مساسهم بالحريات الدينة للمسلمين وعدم احترامهم لما يجِلّون كنبينا _صلى الله عليه وسلم_ بحجة الحريات الصحفية، فهذه الصورة يمكن أن تعكس في المجتمعات الإسلامية.

احترم الأديان نموذجاً:

وإذا تقرر هذا فإن مسألة احترام الحريات الدينية مسألة مجملة، لا يمكن أن نقبلها جملة، ولا يمكن أن نردها جملة.

فاحترام الأنبياء مثلاً قضية محل اتفاق فيمكن حينها تفعيل الاستفادة من القوانين الدولية لتقريرها والأمر بها وعقاب من يخالفها بأقصى ما يتاح لنا، وهذا بطبيعة الحال لن يوافق التصور الإسلامي بكامله ولكن العمل على تخلية الأرض من ازدراء الرسل والتقليل منه قدر الطاقة مطلب شرعي ومقصد إسلامي يسعى إلى تحقيقه بما في الطاقة.

أما إذا اقتضت قوانين الحريات الدينية تعدياً على المجتمع المسلم وإظهاراً للمنكر بين أهله ودعوة للردة عن الدين، فحينها ينبغي أن يحسم ذلك بما أمكن في المجتمع المسلم، ويدافع بأن حرية الأغلبية مقدمة، ومقدساتها ينبغي أن لا تنال ونحو ذلك.

ولعل التفريق بين نظرتنا إلى تلك القوانين وبين تعاملنا معها حال كونه ضرورة وقتية، النسبية فيها وتحميلها أوجه هو واقع الغرب في تعامله معها لا يختلف عما ذكر كثيراً.

منهجية الغرب في التعامل مع قوانين الحريات الدنمارك نموذجاً:

عوداً على بدء بعد هذا الاستطراد فإن البشر قد وضعوا قوانين تضبط ما رأوه حقوقا وتحميها.

وتلك القوانين والتشريعات لا تخلو من حق ظاهر، ومنها ما هو عالمي التزمته ساسة الدول جميعاً فضلاً عن واضعيها.

إلاّ أنك تجد عند التطبيق تفلت بعض دعاتها من الغربيين عنها، وبينما يوغل هؤلاء في انفلاتهم من قيمها يغضي الطرف آخرون زعموا أنهم حماة الحرية وناصبو نصبها.

ولنأخذ على سبيل المثال صنيع الدنمارك الأخير فقد أُطلقت يد الإعلام هنالك فنال بعضهم من بعض شعائر الإسلام بل من رسول البشرية _صلى الله عليه وسلم_.

وعلى الرغم من وجود أعداد كبيرة من المسلمين في الدنمارك، تمثل ديانتهم الديانة الثانية في تلك البلاد من حيث تعداد السكان19، فضلاً عن شعوب كاملة يسوؤها ويغضبها ويزكي روح البغض والبراء في نفوسها مثل هذا الصنيع، إلاّ إنك لا تجد لأدعياء الحقوق أثراً، بينما لم يعبأ الساسة والمتأمرون بمشاهد الأسى والأسف التي علت وجوه المسلمين.

وكأنهم لم يوقعوا بالأمس أو يدعوا العالم للإعلان العالمي لحقوق الإنسان20، أو العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية21.

لقد جاء في الإعلان العالمي ما نصه: "الدول الأعضاء قد تعهدت بالتعاون مع الأمم المتحدة على ضمان اطراد مراعاة حقوق الإنسان والحريات الأساسية واحترامها"22. ثم قرر الإعلان أن من الحريات الدين في غير موضع ومن ذلك نص المادة الثامن عشرة: "لكل شخص الحق في حرية التفكير والضمير والدين".

وجاء في العهد الدولي الخاص بالحقوق السياسية والمدنية ما نصه: " تحظر بالقانون أية دعوة إلى الكراهية القومية أو العنصرية أو الدينية تشكل تحريضا على التمييز أو العداوة أو العنف"23.

فبموجب نص الإعلان العالمي فإن على حكومة الدنمارك أن تحترم الدين الذي أفادت تقارير الأمم المتحدة نفسها أنه أكثر الأديان انتشاراً.

فهل من احترام الدين السخرية من نبي ملة تعظمه مليار نفس بشرية على وجه الكرة الأرضية اليوم؟

وبموجب العهد الدولي الخاص بالحقوق السياسية فإن على الحكومة الدنماركية وغيرها أن تحظر بالقانون أي دعوة تثير الكراهية الدينية لدى المسلمين.

وأي شيء يثير الكراهية لدى المسلم أكثر من انتقاص من لا يؤمن حتى يكون أحب إليه من والده وولده والناس أجمعين؟

إن أمثال تلك الطعونات الرعناء في الإسلام وفي نبي الإسلام تنبئ عن مصداقية بعض الدول الغربية وتبين ما يعنيه التزامهم بتلك القوانين المتعلقة بالحقوق المدنية والسياسية، أو حقوق الإنسان عموماً.

وكذلك فإنها تفضح المعيار المزدوج للدولة التي نصبت نفسها مسؤولاً عن احترام الحريات الدينية.

لقد جاء في التقرير السنوي الأمريكي حول الحريات الدينية في العالم عام 2004م ما نصه: " وتعترف الولايات المتحدة بمسؤوليتها الخاصة بالنسبة لاحترام تلك المعايير في الحفاظ على الحرية الدينية وفي حمايتها"24.

وأكد ذلك الرئيس جورج بوش عام 2005م إذ نقل عنه ما معناه: "على الرغم من تقدم الولايات المتحدة بسبب الحرية، نتذكر بأن الحرية ليست هدية أمريكا إلى العالم، لكنها هدية الله إلى كل رجل وامرأة في هذا العالم. هذه الحقيقة تقود جهودنا لمساعدة الناس ليحرزوا حرية دينية في كل مكان"25.

فهم يزعمون إذاً أنهم مبعوثون من قبل الله من أجل الحفاظ على الحريات الدينية وحمايتها.

فما رصيد هذا الزعم من التطبيق العملي ولنأخذ الدنمارك الذي تزايدت فيه الإساءة لنبي الإسلام ولدينه في السنوات الثلاث الأخيرة وبالأخص بعد عرض فلم الخضوع (Submission) الذي أساء إلى الإسلام أواخر عام 2004م، وكان قد أثار موجة احتجاجات إسلامية أول ما صدر -في هولندا- أسفرت عن مقتل مخرجه "ثيو فان جوخ" (Theo Van Gogh) ببعض شوارع أمستردام في أول عام 2004م.

مع ذلك جاء التقرير الأمريكي الأخير للحريات مليئاً بالمفارقات أو النفاق السياسي على حد قول البعض.

فقد أكد أن الدستور الدنماركي يعزز الحرية الدينية، ويحترم الحق الديني عموماً، وأنه لم يكن هناك تغير في مكانة احترام الحرية الدينية أثناء المدة التي غطاها التقرير، وأن الحكومة واصلت سياستها في تعزيز حرية ممارسة الدين.

بيد أن التقرير أشار إلى اشتراط الدستور عندهم أن يكون الملك الحاكم عضواً في الكنيسة الإنجيلية اللوثرية، وأن الكنيسة اللوثرية الإنجيلية هي المجموعة الدينية الوحيدة التي يمكن أن تستلم الإعانات المالية أو الأموال الرسمية مباشرة من خلال نظام الضرائب. وذكر أيضاً أن 12% تقريباً من دخل الكنيسة يجيء من الإعانات المالية الرسمية.

ولم ينس التقرير أن يشير إلى حالات مسجلة مما يسمى بحوادث معاداة السامية مع أن الحكومة الدنماركية حققت في بعضها وأدانت المسؤولين عنها.

وكذلك نشرت مقالاً شاركت به السفارة الأمريكية في تقرير معاداة السامية يناير 2005م وذلك في صحيفة كريستيليج داجبلاد (Kristelig Dagblad) اليومية الوطنية، وهي الصحيفة الدينية الوحيدة بالدنمارك، أكدت فيه على حاجة الحكومات إلى اتخاذ خطوات صلبة لمعالجة قضية الانتهاكات المعادية للسامية المتزايدة في أوروبا وروسيا على حد وصف التقرير.

المفارقات في تطبيق قوانيين الحريات:

الشاهد مما سبق بيان المفارقة بين المكاييل التي تكيل بها بعض الدول التي تزعم رعاية الحرية وابتعاث الله لها لأجل صيانتها، فبينما تدرج دولاً كالسودان ضمن القائمة السوداء مع أنه لم ينص دستورها على ما نص عليه دستور الدنمارك في شأن الحاكم، ولا أُثبتت فيها حالات اضطهاد لأجل الدين لنصارى أو وثنيين، ولا يعرف نص في مواد أحكامها يأذن بدعم المسلمين على حساب غيرهم26، تشيد هنا بالتزام الدنمارك بالحريات الدينية وفي غير موضع، وبينما ينص على أن حكومة السودان تضيق باب بناء الكنائس وإحداثها، لايشار إلى تضييق الدنماركيين على أصحاب ثاني أكبر دينانة عندهم في بناء المساجد وإحداثها!

وبينما توضع المملكة العربية السعودية ضمن قائمة الدول التي لا تحترم الحريات الدينية تغفل الدنمارك، مع أن الأخيرة يهزأ فيها بنبي ودين جهاراً، والأولى لو تجرأ فيها مسلم فسخر من المسيح –عليه السلام- لتعرض لأشد العقاب. فما لهم كيف يحكمون!

ومن جهة أخرى يتعرض التقرير لقضية معاداة السامية على الرغم من جهود الدنمارك في هذا الصدد، وعلى الرغم من محاسبة الدولة لبعض المدانين في نحو هذه القضية، وعلى الرغم من أن اليهود شرذمة لا يتعدى تعدادها السبعة آلاف نسمة في الدنمارك، بينما يعرض عن الإساءات التي يتعرض لها الإسلام ثاني أكبر دين بالبلاد وكذلك المسلمون عبر وسائل الإعلام المرئية والمقروءة!

بل يُعَرِّضُ التقرير في معرض ذكر معادة السامية بالمسلمين المثيرين.

وبينما يحظر على البعض البحث ولو في مسألة تاريخية كشأن المحرقة اليهودية سداً لذريعة معاداة السامية! يباح لآخرين الطعن في دين المسلمين ونبيهم _صلى الله عليه وسلم_ جهاراً نهاراً على الملأ.

وبعد ذلك يرون بوقاحة قول المسيح –عليه السلام-: "أَمَّا أَنَا فَأَقُولُ لَكُمْ: لاَ تُقَاوِمُوا الشَّرَّ بِمِثْلِهِ، بَلْ مَنْ لَطَمَكَ عَلَى خَدِّكَ الأَيْمَنِ، فَأَدِرْ لَهُ الْخَدَّ الآخَرَ"27.

وقوله: "أَحِبُّوا أَعْدَاءَكُمْ، وَبَارِكُوا لاَعِنِيكُمْ، وَأَحْسِنُوا مُعَامَلَةَ الَّذِينَ يُبْغِضُونَكُمْ، وَصَلُّوا لأَجْلِ الَّذِينَ يُسِيئُونَ إِلَيْكُمْ وَيَضْطَهِدُونَكُمْ"28.

أهم حقاً أتباع عيسى _صلى الله عليه وسلم_، أم الذين قال فيهم القطامي:

تراهم يظلمون من استركوا ويجتنبون من صدق المصاعا29!

ويحق لنا أن نتساءل وإن كان الجواب واضحاً:

أبعض الظالمين وإن تعدى شهي الظلم مغفور الذنوب؟

وأقبح من نحو هذا الذي يتبجحون به، محاولة بعضهم إناطة أسباب بعض مظاهر الغلو في الدين بدعوات خرجت أكابر الدعاة والهداة، ويغفلون أفعالهم هذه وهم يعلمون أن كل فعل له ردة فعل معاكسة في بعض النفوس!

والخلاصة:

هي أن مفهوم حرية التعبير في ما يتعلق بجناب الأنبياء واحترامهم قانون دولي مقرر على وجه العموم، بل إن التعريض ببعض معتقدات الأديان وما يعظمون مما لايرقى إلى درجة الأنبياء حرمته مقررة في قوانينهم الدولية، ولهذا تجد أن المحرقة المزعومة لايجرؤ كثير منهم على الكلام فيها باسم الحرية، ومن تكلم حوسب. أما الكلام في الإسلام ونبيه _صلى الله عليه وسلم_ فلا يعتبرون فيه المواثيق الدولية بحجة الحرية.

وهذا التناقض ليس منشؤه غموض في القانون أو لبس في حدود مفهوم الحرية، وأما اللغط الذي يدور حول هذا المفهوم فما هو إلاّ صخب يستر به كثيرون ما تكن صدورهم من عدم اعتبار لدين الإسلام ولانبيه.

وإلاّ فإن جماهير أمم الأرض لهم معتقداتهم ولهم مقدساتهم التي يرفضون أن تمس أو تنال بسوء، فإذا سألت أمم الأرض عن رأيهم في عد السخرية والاستهزاء أو التنقص والشتم لمعتقداتهم ومقدساتهم حرية مأذونا بها لقالوا: لا. بل ذلك سوء أدب وتعد على الآخرين.

ولكن يقع الإشكال في التطبيق، فإذا طعن مسلم في تثليث النصارى أو سخر بدعوى صلب المسيح، أو سفه معتقد اليهود في التلمود، فلن يعد المسلمون ذلك من منطلق الرؤية الإسلامية سخرية ولاتنقصاً ولا سباً لمقدس له حق القداسة بل إهانة لشيء من حقه أن يهان، أما هل تقتضي المصلحة إظهار ذلك أو ينهى عنه من باب قول الله _تعالى_: "وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ مَرْجِعُهُمْ فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ" [الأنعام:108]. فهذه هو الذي يدخله تفصيل وقد يقع فيه الاختلاف بينهم.

فكذلك النصارى–وهم سواد الغرب الأعظم- واليهود لا يرضون أن تمس مقدساتهم باسم الحرية، أو يسخر من بعض مهماتهم الدينية فضلاً عن أنبيائهم باسم الحرية، ولكن كثيراً منهم لايعتقدون أن الإسلام دين حق، وأن نبينا _صلى الله عليه وسلم_ رسول كريم.

ولكن لما كانت مجتمعاتهم خليطاً من الأديان والفرق النصرانية المتنوعة اقتضت المصلحة أن يعقدوا المواثيق الدولية الناصة على احترام الأديان.

فإذا تعارضت تلك المواثيق والقوانين مع القيم التي قامت عليها المجتمعات الغربية كالحرية وقع الانفصام في ردة الفعل تجاه الحوادث بحسبها، فإن كانت تمس ما من أجله أنشأت تلك القوانيين لم يكن للحرية أن تتجازوها إذ قيام المجتمعات واستقراراها لا يكون إلاّ باحترامها، لم يكن ليد الحرية أن تمتد لتهشم أنف المجتمع.

وإذا كانت الحادثة لا تدخل في ما من أجله أنشأت تلك القوانين وإنما دخلت تبعاً، وليس ذلك المقدس المهان مما يهدد استقرار المجتمع الغربي فعندها يكون لحرية التعبير مجال واسع، فقيم المجتمع مقدمة على المقدسات الوافدة التي ليست من مقدسات المجتمع في شيء بل ربما كانت من ما يناصبه العداء.

وحتى يفعل القانون الموجود ليحمي حقوق المسلمين فلا سبيل إلى ذلك إلاّ بأن يثبت أهل الإسلام أنفسهم، ويظهر أثرهم.

وهذا ما ينبغي أن يسعى أهل الإسلام في تحقيقه بحكمة يعقل أصحابها ما هو الذي في طاقتهم، وإلى أي درجة يؤثر في تحقيق مطلوبهم، وإلى أي درجة ينبغي أن ترتفع قدرتهم ليحصل تمام مطلوبهم، وكيف لهم أن يرفعوها.

ثم يكون التعامل مع معطيات الواقع وتدار بحيث يسلك كل سبيل شرعي يقلل على الأقل من حجم الإساءة للإسلام ولنبيه _صلى الله عليه وسلم_ في الغرب، إلى أن يعز الله دينه، ويظهر عباده الصالحين، وحين يقطع دابر المستهزئين المتنقصين للمرسلين، والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين

=============

#نظرية الأوتار الفائقة ... سبقناهم !

عزيز محمد أبوخلف

كلما مرت فترة من الزمان يطلع علينا العلم التجريبي بنظريات واكتشافات تبهر العقول، وقد تصيبها أحياناً بالحيرة والذهول. والحضارات المستقرة التي يكون لها حظ في قيادة العالم، من الطبيعي ان تتسلم أيضاً قيادة التقدم العلمي. لهذا كان من المتوقع من الحضارة الإسلامية، وقد سادت الدنيا قروناً عديدة، ان تبهر الناس بمثل هذه الحوادث العلمية الكبيرة، فهي أحق بها من الناحية المنطقية. ولكن الذي حدث هو أن المنطق نفسه كان عامل تأخير وتخلف لهذه الأمة، مما جعلها تغيب بكل قدراتها عن أي إبداع علمي يذكر، إذا استثنينا بعض الإنجازات القيمة من علماء لم يجعلوا معيار تقدمهم يستند إلى المنطق الأرسطي وعلم الكلام اليوناني.

شهد العلم الحديث تطورات هائلة في أفكاره كان بعضها أشبه بالثورات العارمة، وقد صاحب ذلك اختراعات واكتشافات لا تقل أهمية عن النظريات التي أسست لها أو انبثقت عها. واكثر ما يشغل العلم ولا يزال تركيب الكون والقوانين التي تحكمه، حيث انطلق من تأملات الأقدمين مروراً بقوانين الحركة والنظرية الذرية واجزاء الذرة والنسبية والكوانتا والحقول، وأخيرا، وربما آخراً !، نظرية الاوتار الفائقة. وقلنا آخراً ولم نقل وليس آخراً، لأن من أبدع هذه النظرية يرى أنها تفسر كل شيء أي هي بمثابة النظرية الأم. ولكن لا تتعجلوا، وكالعادة ووفق قاعدة سبقناهم، فلن نعدم من يزعم ان علماءنا أشاروا أو نبهوا إلى هذه النظرية كما نبهوا إلى غيرها. وأيضا لن نعدم جانباً من الإعجاز العلمي سبقناهم إليه في آيات القرآن أو أحاديث المصطفى عليه السلام.

ما هي نظرية الاوتار الفائقة؟

نظرية الأوتار الفائقة superstring theoryهي أفكار جديدة حول تركيب الكون من إبداع الفيزياء النظرية، تستند في صلبها إلى معادلات رياضية معقدة، تحاول تفسير أمور مجربة. تقول هذه النظرية ان الأشياء مكونة من أوتار حلقية أو مفتوحة متناهية في الصغر لا سمك لها. هذه الأوتار تتذبذب فتصدر نغمات يتحدد بناء عليها طبيعة وخصائص الجسيمات الأكبر منها مثل البروتون والنيوترون والالكترون وغيرها. وتكمن ميزة هذه النظرية في أنها تأخذ في الحسبان كافة قوى الطبيعة: الجاذبية والكهرومغناطيسية والقوى النووية، فتوحدها في نظرية واحدة، تسمى النظرية الأم.

الكون في تصور هذه النظرية هو عالم ذو عشرة أبعاد، على خلاف الأبعاد الأربعة التي نحس بها. ويقول أصحاب هذه النظرية بأن الأبعاد الأخرى متكورة على نفسها فهي غير محسوسة لنا، ولا يتأتى ذلك إلا في ظل كميات هائلة من الطاقة تحتاج إلى مسرعات نووية بحجم المجرة!. فهذه النظرية تقدم تصوراً جميلاً للكون ضمن إطار موسيقي يقول لنا بأن كل شيء هو نتاج نغمات وذبذبات لأوتار صغيرة. ما نحن إذاً إلا نتاج الموسيقى وفق هذه النظرية الحديثة. ولكن لا بد من التأكيد على أن هذه النظرية هي نظرية في حد ذاتها، أي ليست تخبر عن واقع تجريبي، والتأكد منها يحتاج إلى جهود جبارة من الطاقة توازي ما حدث في اللحظات الأولى من الانفجار العظيم.

أصلها عندنا: الوتر الفرد

لا نستبعد أن يطلع علينا أحدهم فيقول: سبقناهم في هذه النظرية كما سبقناهم في غيرها!. وهذا السبق قد تتبناه أكثر من جهة. فالذرة التي ورد ذكرها في القرآن الكريم تعني أصغر ما يمكن من النمل، أو الفتائل المتناهية في الصغر، أو الهباء المصاحب للاشعة. وهكذا فالذرة هي أصغر شيء بأشكال متعددة، والوتر الصغير هذا يمكن اعتباره أصغر شيء!. أيضاً الجوهر الفرد الذي تبناه علماء الكلام ليؤسسوا به لعقائد الإسلام والدفاع عنها، هو شيء متناهي في الصغر، متحيز لكن ليس له مكان، وهو آخر ما تصل إليه المادة بعد التقسيم المضني. فلم لا يكون هو نفسه الوتر المتناهي في الصغر؟ ويجوز لنا والحالة هذه أن نسميه بالوتر الفرد!.

نحن لا نشكك في اخلاص أهل الإعجاز العلمي، ولا في نوايا علماء الكلام الذين اجتهدوا في الدفاع عن عقائد الدين، لكننا نرفض ربط الإسلام بالنظريات العلمية وجعلها أساساً في عقائده، بل لقد وصل الأمر بعلم الكلام إلى أن جعلها أمورا مقدسة لا يتطرق إليها شك. وهذا واقع فعلاً في تبني علم الكلام لنظرية الجوهر الفرد ذات الأصل اليوناني، وفي تبنيه لحرفيات المنطق الأرسطي الذي لا يورث غير التخلف والتعالي عن ركب التقدم العلمي. اما أهل الإعجاز العلمي فإننا نطالبهم إذا كانوا على حق ان يأتوا بالجديد في الوسط العلمي باقتراح النظريات والأفكار العلمية، لا بالانتظار على أبواب العلم حتى إذا ما طرحوا فكرة أو نظرية قلنا: سبقناكم!.

صلاة الجنازة على الجوهر الفرد

هل نقول بأنه آن الأوان أن نقبر هذه الأفكار العقيمة التي أضرت بالأمة وعوقتها عن التقدم، مثل نظرية الجوهر الفرد، وأفكار المنطق الأرسطي غير المجدية، وكلها ذات علامة تجارية يونانية؟. إن المنطق الذي يتمسك به من يأخذ بهذه الأفكار يحتم عليهم أن يتركوها وأن يفسحوا المجال للأفكار الجديدة كي تحل محلها. أليست نظرية الجوهر الفرد انعكاساً للأفكار العلمية التي كانت سائدة ومتداولة في تلك الأيام، وقد تبناها علم الكلام للدفاع عن العقائد، وها نحن أمام أفكار جديدة ترفض مثل هذه النظريات جملة وتفصيلا. من المنطقي أن من يربط العقيدة بالنظريات العلمية السائدة ان تكون عقائده متحولة، لأن النظريات العلمية نفسها قابلة للتعديل والتطوير باستمرار. فما الذي يُبقي عقائد الإسلام مرتبطة بنظرية الجوهر الفرد؟. إن على من يتبنى مثل هذه الأفكار أن ينعاها في صحائف الفكر، وأن يدعو للتكيبر عليها أربعاً، من اجل وأدها في مقابر الفكر، دون أن يسأل عنها بأي ذنب قتلت!.

==============

#ضعف شخصية النسوان ..! لعدم مخالطة الرجال والفتيان ..!!

ما جمّل الله المرأة بزينة .. وما حلاّها بحلية .. أجمل ولا أروع من الحياء .. فهو مدار رفعتها .. ومنبع تميزها .. وتاج وقارها .. وعنوان جمالها وملاحتها .. به وحده تسمو.. ومن أجله تُطلب .. وفي محرابه تعتكف .. لا شيء يُرغّب في المرأة ويزيد من حرص الرجل على الارتباط بها .. مثل حيائها .. إذ به وحده يقاس عفافها وخفرها .. فإن فقدته .. فهو دليل على انغماسها في مستنقع الرذيلة .. وتخبطها في دياجير الفجور .. إذ لا وازع لها عن هذا وذاك إلا حياؤها الذي هو جزء من إيمانها .. بل حتى ولو لم تكن مؤمنة .. فسيمنعها حياؤها من مقارفة الشرور والسير في دروب الغواية والفجور .. وقد كانت المرأة على مر العصور ـ عند كل الشعوب ـ مشتهرة موسومة بالخفر والحياء .. حتى لكأنما هو عنوانها .. ودليل أنوثتها .. وأشعار العرب في الجاهلية ملئ بالتغني بخفر المرأة .. وحيائها .. فهذا الشنفرى يصف زوجه فيقول :

كأن لها في الأرض نسي تقصه *** على أمها وإن تكلمك تبلت

وقد كانت المرأة في أوربا وغيرها من بلاد الكفر وإلى زمن قريب ترتدي من الملابس أوسعها وأطولها.. ثم كانت الثورة الأوربية بعد سنين رهيبة من اضطهاد الكنيسة وتسلطها الجائر على الناس ومنعهم من ممارسة أبسط حقوقهم ومتطلبات حياتهم باسم الدين المحرف .. فمنعوا الطلاق وحرموه .. ورفضوا أي اكتشاف علمي وحاربوه .. وغير ذلك من صنوف القهر والاستعباد .. بينما كان الرهبان والراهبات يمارسون الدعارة والفجور في كنائسهم .. حتى لقد اكتُشِفت مقابر لأطفال داخل كنائسهم .. فنتج عن هذا ردة فعل عكسية خرج الناس فيها على كل القيم والمثل مطالبين بالحرية الكاملة .. والانفلات من ربق وعبودية الكنيسة .. وما زاد عن حده انقلب إلى ضده .. فكانت النتيجة هذا الانحلال والتفسخ والعهر العارم .. الشامل .. لكل دول الكفر .. ومن سار على نهجها.. حتى وصل الحال بهم أن غدو مثل البهائم .. يمارسون الجنس في الطرقات .. والأماكن العامة .. بل وصل الأمر إلى انتكاس الفطر والشذوذ .. مما لم تقع فيه حتى البهائم .. فمال الرجل إلى مثله والمرأة إلى مثيلتها .. وهذه نتيجة طبيعية للإغراق في الرذيلة والانغماس في ممارسة الفحش والدعارة .. بدعوى التقدمية .. والتحرر من الكبت باسم الحرية الشخصية ..

أما المرأة العربية فقد كانت مضرب المثل في الخفر والحياء والحشمة .. ثم جاء الإسلام فرسخ هذا المفهوم وأصّله وربطه برباط وثيق .. ورتب عليه الأجر والعقاب .. فأصبحت المرأة المسلمة ترفل في ثوب الحياء والحشمة والعفاف بدافعين.. الأول فطري غريزي .. والثاني عقائدي ديني .. استجابة وامتثالا لأمر مولاها .. فغدت بهذا درة مصونة .. وجوهرة مكنونة .. وملكة متوجة .. وبقيت كذلك على مر العصور في تاجها العاجي لا تنزل منه ولا تتنازل عنه برغم كل الحوادث العاصفة من حولها ..

ثم كانت الحملة الاستعمارية على مصر .. فجاءت ومعها المومسات بملابس العهر .. والفجور .. فبهرن ضعاف الإيمان .. وسلبن ألباب متبعيّ الشهوات .. فنادوا المسلمات الطاهرات بالمضي على خطاهن .. والسير على دربهن باسم التقدمية .. والانفلات من القيود والرجعية .. وبرغم كل المحاولات المستميتة للتصدي لهذه الدعاوى الفاجرة .. إلا أن حال المسلمين كان مهيئا لقبول مثل هذه الضلالات بسبب الجرم الكبير الذي اقترفته أيدي الصوفية والمرجئة في العالم الإسلامي بطوله وعرضه ..

ويوم بعد يوم تغرق المرأة المسلمة في هذا المستنقع الآسن وتزداد فيه انغماسا .. حتى إنك ترى بعض الدول العربية كأنها قطعة من أوربا أو أمريكا .. بينما ترى بقية الدول تسارع الخطى لتلحق بالركب .. يدعم ذلك كله منافقي العصر ومروجي العهر ..

وكان آخر هذه الصيحات والأصوات النشاز .. ما كتبه أحد أبواق الضلال في إحدى الصحف المحلية استهجن فيه فصل النساء عن الرجال في الأماكن العامة كالحدائق والأسواق والمناسبات الثقافية .. معتبرا أن هذا الفعل لا سابقة له في الإسلام .. ولا مستند له من دليل قولي أو فعلي على مر العصور .. خاصة في العصرين الأموي والعباسي باعتبارهما عصري ازدهار الحضارة الإسلامية ووجود الأسواق والمتنزهات والمناسبات الثقافية فيهما على حد زعمه .. وأرجع السبب في تعرض المرأة للأذى والمضايقات إلى ضعف شخصيتها نتيجة القيود التي فُرضت عليها رغبة في حمايتها .. معتبرا حال المرأة حتى وهي تطلب عدم مخالطة الرجال ومزاحمتهم ( أشبه بإنسان أصابه توتر ومرض نفسي وحاول أن يقاوم فلم يستطع واستسلم واستعان عليه بالحبوب المهدئة ) فما طلبها العزلة إلا نوع هروب ناتج عن ( ضعفت شخصية المرأة إلى حد جعلها أضعف من أن تستطيع الدفاع عن نفسها) وهي بفعلها هذا تجني ـ في نظره ـ على نفسها بهذا المخدر الوقتي .. وستحتاج إلى علاج للمشكلة الأخرى التي ستقع فيها نتيجة عدم مخالطتها للرجال في الأسواق والحدائق والمناسبات الثقافية ..!!

والقضية ـ كما هي عادة المنافقين ـ عائمة ..! تشابكت فيها أمور كثيرة وتداخلت فيها عناصر متعددة .. استخدم فيها الكاتب أسلوب التمييع والتلميح دون التصريح حتى يترك مجالا للاحتمالات من جهة ليهرب فيما لو قوبل بالحقيقة .. ويلبّس على الناس من جهة أخرى مسلمات ثابتة لديهم بزعمه أنها ليست من الدين ولا مثال لها فيما سبق وإنما هي بدعة مستحدثة .. لكنه لم يجزم بذلك صراحة وإنما أوردها على شكل تساؤلات في أولها ثم جزم بها في آخرها .. كما في قوله : ( هل ظاهرة عزل المرأة التي تستشري لدينا في العصر الراهن لها مثال في العصور السابقة أم إنها ظاهرة جديدة وفريدة ابتدعناها, مضطرين, على غير مثال بعد أن ضعفت شخصية المرأة إلى حد جعلها أضعف من أن تستطيع الدفاع عن نفسها)

والكاتب يعرف جيدا ـ كما يفترض ـ أن المرأة المسلمة فيما سبق لم تكن خرّاجة ولاجة من سوق إلى سوق ومن حديقة إلى أخرى ومن متنزه إلى غيره .. كما هو حال كثير من نساء اليوم .. ولكنه يزيف الحقائق ويقلب الأمور وفق رغباته .. فلا يكفيه ما وصل إليه حال بعض نساء اليوم من كثرة الخروج من المنزل من غير ضرورة بل يريد أن يكون مع ذلك وفوقه اختلاط النساء بالرجال وتزاحمهم في الأماكن العامة والأسواق والمناسبات الثقافية .. ولا بد أن يصاحب ذلك سفور وتبرج وإلا كيف تستمتع المرأة بما خرجت من أجله وهي متسترة محجبة .. وهذا ما يدعو إليه بإلحاح أصحاب الشهوات ليل نهار ..! تحت مسميات عدة .. مرة تحت مسمى الحرية وفك القيود والأغلال .. ومرة تحت مسمى تفعيل الجزء المعطل والاستفادة من طاقاته .. واليوم تحت مسمى عدم إضعاف شخصية المرأة بعزلها عن الرجال وحمايتها منهم وما يترتب على ذلك من أمراض نفسية نتيجة هذا العمل المبتدع ..

الغرب الكافر اليوم ينادي بالعفة وعزل النساء عن الرجال إلا المنافقين من بني جلدتنا بدأوا من حيث انتهى سادتهم وصدق حبيبنا صلى الله عليه يوم وصفهم بقوله : ( دعاة على أبواب جهنم من أجابهم إليها قذفوه فيها قلت يا رسول الله صفهم لنا قال هم من جلدتنا ويتكلمون بألسنتنا )

والمصيبة الكبرى أن يزعم هؤلاء الروبيضات أن دعاواهم الباطلة ليس في كتاب الله ولا سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا نهج السلف الصالح ما يخالفها .. ويُنشر هذا في صحيفة سيارة تتلقفها الأنفس المريضة وتروّج لها بين العامة .. ثم تصبح مع مرور الأيام واقعا مشاهدا تكون قد ألفتها الأسماع ثم تعتاد عليها الأبصار .. فتغدو وكأنها واقع لا مفر منه ولا محظور فيه ..

كيف يكون عفاف المرأة وحياؤها وخفرها ورغبتها عدم مخالطة الرجال ومزاحمتهم مرضا نفسيا ؟!.. يؤدي إلى إضعاف شخصيتها .. ومن ثم تحتاج معه إلى علاج ودراسة حالة ..؟؟!!

الله عز وجل يأمر خيرة خلقه .. وأطهرهم قلوبا .. وأبعدهم عن مواطن الشبه يأمرهم بغض أبصارهم وحفظ فروجهم { قُل لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ وَقُل لِّلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ ..} ويأمرهم إذا سأل رجالهم نساءهم شيئا أن يسألوهن من وراء حجاب.. { وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعاً فَاسْأَلُوهُنَّ مِن وَرَاء حِجَابٍ ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ .. }

ويأمر سبحانه وتعالى نساء النبي صلى الله عليه وسلم وبناته ونساء المؤمنين بالستر والعفاف حتى لا يتعرضن للأذى : {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لِّأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاء الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جَلَابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَن يُعْرَفْنَ فَلَا يُؤْذَيْنَ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَّحِيماً } ويأمر أطهر نساء الأمة وأبعدهن عن مواطن الشبه والريبة ومن سار على نهجهن واقتدى بهن بالقرار ولزوم البيت { وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى.. } بل ويأمر العجوز التي لا رغبة لها في الرجال ولا رغبة للرجال فيها ألا تتبرج بزينة وأن تستعفف : { وَالْقَوَاعِدُ مِنَ النِّسَاء اللَّاتِي لَا يَرْجُونَ نِكَاحاً فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ أَن يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ بِزِينَةٍ وَأَن يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَّهُنَّ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ }

ورسول الله صلى الله عليه وسلم يحث المرأة أن تصلى في بيتها فهو خير لها حتى من أدائها في المسجد الحرام كل هذا صونا لها ولحيائها من أن يخدش ..

يقول صلى الله علية وسلم : ( صلاة المرأة في بيتها خير من صلاتها في حجرتها، وصلاتها في حجرتها خير من صلاتها في دارها، وصلاتها في دارها خير من صلاتها خارج )

ويقول عليه الصلاة والسلام : ( المرأة عورة وإنها إذا خرجت من بيتها استشرفها الشيطان و إنها لا تكون أقرب إلى الله منها في قعر بيتها )

ومع كل هذا يأبى المنافقون إلا أن يسموا الحشمة والحياء وعدم مخالطة النساء للرجال مرضا نفسيا .. وبدعا من القول والفعل لا مثيل ولا سابق له .. ويرجعون ما تتعرض له من مضايقات لضعف شخصيتها فقط نتيجة عزلها عن الرجال وحجبها عنهم ..

خالد الحاني

================

#رحمة النبي صلى الله عليه وسلم بذوي الاحتياجات الخاصة

محمد مسعد ياقوت**

لقد كانت دعوة رسول الله صلى الله عليه وسلم دعوة لحرية الإنسان، والقضاء على عبودية البشر للبشر، فقرر الحرية الإنسانية وجعلها من دلائل تكريم الخالق للإنسان، وأولى اهتمامًا خاصًّا للعبيد، فضيق صلى الله عليه وسلم مصادر الاسترقاق ووسع منافذ التحرير، ورغب الناس في تحرير العبيد، وأخبر أن من أعتق عبدًا أعتق الله له بكل عضو عضوًا من أعضائه من عذاب النار يوم القيامة.1

وقد بيّن المستشرق الألماني "آدم متز" أن العتق يُعَدّ مبدأ من مبادئ الإسلام، فيقول: "كان في الإسلام مبدأ في مصلحة الرقيق، وذلك أن الواحد منهم كان يستطيع أن يشتري حريته بدفع قدر من المال، وقد كان للعبد أو الجارية الحق في أن يشتغل مستقلاً بالعمل الذي يريده.. وكذلك كان من البر والعادات المحمودة أن يوصي الإنسان قبل مماته بعتق بعض العبيد الذين يملكهم"2.. بل رفع صلى الله عليهوسلم  من شأن العبيد حتى جعل سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم -كما يقول المفكر النصراني نظمي لوقا-: "العبدان والأحابيش سواسية وملوك قريش!"3.

ومن هنا وقفت قيادات قريش الأرستقراطية في وجه الدعوة التي ترنو إلى تحرير العبيد وتنادي بالمساواة التامة بينهم وبين السادة، ولقد كانت قيادات مكة تساوم قائد الدعوة على طرد هؤلاء العبيد مقابل إقرار قيادات مكة بالإسلام، ومن ثَم نزل القرآن الكريم محذرًا رسول الله أن يترك العبيد أو أن يطردهم، وهم الذي بذلوا الغالي والنفيس في سبيل الدعوة، ويدعون ربهم الواحد الأحد صباحًا ومساءً، يريدون ببذلهم وجه الله تعالى، لا يبتغون منصبًا أو جاهًا كما يبتغي غالبية السادة.. فقال الله تعالى: {وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطاً} [الكهف: 28]، إن هؤلاء العبيد -في الشرع الإسلامي السمح- هم أعظم قيمة وأكثر بركة وأرق أفئدة وأطهر نفسًا، من هؤلاء السادة الذين يستعبدون الناس، ويتجبرون في الأرض بغير الحق.. هؤلاء العبيد نزل من أجلهم الأمر من السماء إلى رائد الدعوة صلى الله عليه وسلم بأن يضعهم في عينيه! بل نزل التحذير من الله لرسوله صلى الله عليه وسلم من أن يلتفت عن العبيد إلى زينة الكبراء، أو أن يتلهى عن العبد ويطيع السيد المارق.

أما العبيد فقد وجدوا الكرامة والحرية، في تعاليم الإسلام الإصلاحية، وفك رقابهم من طوق الفقر والذل، وخلصهم من عبادة الحجارة وسياط السادة. بل جعل منهم سادات المسلمين، حتى أُثر عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه تعليقًا على حادثة شراء أبو بكر لبلال بن رباح رضي الله عنهما ليعتقه من الرق فقال: "سيدنا وأعتق سيدنا!".

تعاليم نبوية في تحسين أوضاع العبيد

إن المتأمل في التوجيهات النبوية يجدها تشي بالجهد الجهيد الذي بذله نبي الإنسانية في سبيل تحسين أوضاع العبيد والإماء ويعرف بحق كيف كانت مكرمة العبيد في الإسلام. وهذه بعض التوجيهات النبوية التي نذكر بعضًا منها على سبيل المثال لا الحصر:

أولاً: وصيته صلى الله عليه وسلم بالعبيد والإماء:

كان آخر كلمات النبي صلى الله عليه وسلم وهو يجود بروحه الشريفة، وقد حضره الموت، الوصية بالعبيد والإماء.. فعن عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه قال: كان آخر كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الصلاة الصلاة، اتقوا الله فيما ملكت أيمانكم"4 ! إنه يوصي بالعبيد، وهو في سكرات الموت! فهو الذي احتضنهم حيًّا، وأوصى بهم بعد مماته خيرًا، فكان خير معلم لهم وخير أب وخير محرر.

ثانيًا: تحذيره صلى الله عليه وسلم من إيذاء العبيد والإماء:

فكان يغضب أشد الغضب من ضرب العبيد أو إيذائهم فعن أبي مسعود الأنصاري رضي الله عنه، قال: كنت أضرب غلامًا لي؛ فسمعتُ مِنْ خَلْفِي صوتًا: "اعْلَمْ أَبَا مَسْعُودٍ.. لَلَّهُ أَقْدَرُ عَلَيْكَ مِنْكَ عَلَيْهِ"! فالتفتُ فإذا هو النبي! فقلت: يا رسول الله، هو حر لوجه الله تعالى. قَالَ: "أَمَا إِنَّكَ لَوْ لَمْ تَفْعَلْ لَلَفَعَتْكَ النَّارُ أَوْلَمَسَّتْكَ النَّارُ"5

هكذا كان رسول الله يربي تلاميذه، ويفقه شعبه، على احترام آدمية الناس، وخاصة الضعفاء منهم والعبيد والخدم والأجراء.

ويمتد هذا النداء الأبوي إلى حكام المسلمين في كل زمان ومكان؛ فيلزمهم بحماية العبيد من التعذيب أو الاضطهاد، فضلاً عن السعي الجاد لتحريرهم.

ثالثًا: أمره صلى الله عليه وسلم بالإحسان إلى العبيد والإماء:

وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم ألطف الناس بالعبيد، وأرفق الناس بالإماء، فعن أنس رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم من أشد الناس لطفًا! والله ما كان يمتنع في غداة باردة من عبد ولا من أمة ولا صبي أن يأتيه بالماء فيغسل وجهه وذراعيه!! وما سأله سائل قط إلا أصغى إليه أذنه فلم ينصرف حتى يكون هو الذي ينصرف عنه، وما تناول أحد بيده إلا ناوله إياها فلم ينزع حتى يكون هو الذي ينزعها منه"6.

وعن المعرور بن سويد قال: لقيت أبا ذر بالربدة، وعليه حلة وعلى غلامه حلة [يعني من نفس الثوب] فسألته عن ذلك. فقال: إني ساببت رجلاً، فعيرته بأمه [قال لعبد: يا ابن السوداء] فقال لي النبي صلى الله عليه وسلم: "يا أبا ذر! أعيرته بأمه!؟ إنك امرؤ فيك جاهلية! إخوانكم خولكم [العبيد والإماء هم إخوانكم في الدين والإنسانية]، جعلهم الله تحت أيديكم، فمن كان أخوه تحت يده: فليطعمه مما يأكل، وليلبسه مما يلبس، ولا تكلفوهم ما يغلبهم، فإن كلفتموهم فأعينوهم"7.

فحرم السخرية من العبيد أو الاستهزاء بألوانهم أو أنسابهم، كما حرم إجهاد العبد في الخدمة، وأوجب مساعدته إذا كُلّف ما يغلبه.. وحذر الفقهاء من استعمال العبيد على الدوام ليل نهار، فقالوا: إذا استعمل السيدُ العبدَ نهارًا أراحه ليلاً، وكذا بالعكس، وقالوا: يريحه بالصّيف في وقت القيلولة، ويمنحه قسطه من النّوم، وفرصة للصّلاة المفروضة. وإذا سافر به يجب عليه أن يحمله معه على الدابة أو يتعاقبان على البعير ونحوه.

بل قالوا: "إن كان العبد ذمّيًّا فقد ذكر بعض الفقهاء أنه لا يمنع من إتيان الكنيسة، أو شرب الخمر، أو أكل لحم الخنزير؛ لأن ذلك دينه، نقله البنانيّ عن قول مالكٍ في المدوّنة"8

وتأمل معي قول النبي صلى الله عليه وسلم لمن عيّر العبد: "إنك امرؤ فيك جاهلية".. دلالة على أن صفة من يهينون العبيد ويؤذونهم بالقول أو الفعل، فوصفهم بالجهل، وربطهم بعصور الجاهلية، وعهود التخلف.

رابعًا: تحريك الجهود الشعبية لمكافحة الاسترقاق:

شغل الرقُ سلمانَ الفارسي رضي الله عنه حينًا من الزمن.. فقد كان مولى عند أحد الوجهاء، حتى فات سلمان عددًا من المشاهد مع الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم، منها بدر وأحد.

فذهب إلى سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم. فأشار عليه النبي صلى الله عليه وسلم أن يكاتب سيده، فكاتبه على ثلاثمائة نخلة يغرسها له وأربعين أوقية من ذهب.

وشارك المسلمون في أداء هذا الدين عن سلمان، فأحضروا له النخل وحفروا معه أماكنها، وقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم ووضعه بيده الشريفة وعُتق سلمان.

وكانت أول مشاهدُه غزوة الأحزاب، وكان هو صاحب فكرة إنشاء خندق عظيم حول المدينة لتحصينها من الغزاة.. ولما نجحت الفكرة، زاد تقدير الناس لسلمان؛ نظرًا لرجاحة عقله، وجهده في خدمة دولة الإسلام بفكرة الخندق، فقال الأنصار: سلمان منا! وقال المهاجرون: سلمان منا!.

فقال سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم: "سلمان منا أهل البيت!!"9

وهكذا ارتفع شأن العبيد في دولة الإسلام بجهدهم وخدمتهم للمجتمع، ولم تكن عبوديتهم أيما يوم من الأيام تشينهم بين إخوانهم المسلمين.

وفي ذلك أيضًا النموذج العملي الذي حشد فيه النبي صلى الله عليه وسلم جهود شعبه من أجل تحرير عبد. وهو بذلك يلزم المجتمع بضرورة تضافر الجهود الشعبية لفك الإنسان من الرق.

خامسًا: سن قاعدة "كفارة ضرب العبد عتقه":

شرع الإسلام منفذًا لتحرير العبيد عن طريق سن قاعدة "كفارة ضرب العبد عتقه" والذي لم يكن موجودًا أيام الجاهلية، فمنح حق الحرية للعبد إذا ضربه سيده.

فعن أبي صالح ذَكْوَانَ عن زَاذَانَ قال: أتيتُ ابن عمر، وقد أعتق مملوكًا له، فأخذ من الأرض عودًا أو شيئًا، فقال: مالي فيه من الأجر مَا يَسْوَى هذا.. سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "مَنْ لَطَمَ مَمْلُوكَهُ أو ضَرَبَهُ فَكَفَّارَتُهُ أَنْ يُعْتِقَهُ"10

سادسًا: كفالة الدولة الإسلامية للعبد المعاق أو المريض:

فلقد كان لِزِنْبَاعٍ أبو روح رضي الله عنه -أحد الصحابة- عَبْدٌ يُسَمَّى سَنْدَرَ بْنَ سَنْدَرٍ، فوجده يقبل جارية له، فقطع ذَكَرَهُ وَجَدَعَ أَنْفَهُ، فأَتَى الْعَبْدُ النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَذَكَرَ لَهُ ذَلِكَ. فقال النبي صلى الله عليه وسلم لزنباع: "مَا حَمَلَك عَلَى مَا فَعَلْت؟" قَالَ: فَعَلَ كَذَا وَكَذَا. فذكر له ما فعل بالجارية!.

فقال النبي صلى الله عليه وسلم للعبد: "اذْهَبْ فَأَنْتَ حُرٌّ" فقال العبد: يا رسول الله فمولى من أنا؟ فقال: "مولى الله ورسوله".. فأوصى به المسلمين؛ فلما قُبض جاء العبد إلى أبي بكر رضي الله عنه فقال: وصية رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: نعم، تجري عليك النفقة وعلى عيالك، فأجراها عليه حتى قبض.. فلما استخلف عمر رضي الله عنه جاءه فقال: وصية رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: نعم، أين تريد؟ قال: مصر، قال: فكتب عمر إلى صاحب مصر أن يعطيه أرضًا يأكل منها!!11.

فالدولة -في الشرع الإسلامي- تكفل أصحاب الإعاقات من العبيد، -كما رأيت- كالمواطنين الأحرار، وقرر لهم الراتب المالي الدوري الذي يغنيهم عن التسول أو سؤال الناس

فرية سن الاسترقاق!

ورغم جهود سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم في تحرير العبيد فإن بعض الحاقدين زعموا أن محمدًا صلى الله عليه وسلم سن الاسترقاق! ونحن نترك العلامة "لايتنر" يرد على هذه الفرية، فيقول: ".. إنا نرى الأغبياء من النصارى يؤاخذون دين الإسلام كأنه هو الذي قد سنّ الاسترقاق، مع أن محمدًا صلى الله عليه وسلم قد حضّ على عتق الرقاب، وهذه أسمى واسطة لإبطاله حقيقة"12..

كذلك يتحدث الكاتب الفرنسي "فانسان مونتييه"، مستنكرًا هذه الافتراءات، فيقول: "إنهم يتهمون الإسلام بظاهرة الرَقّ التي وُجِدَتْ قبل الإسلام وليس بعده، بل حين انتشر الإسلام وطُبقت تعاليمه كان يسعى لإلغاء الرّق، بل إن كثيرًا من الكفَّارات للذنوب التي يقدم عليها المرء هو تحرير الرقاب الذي عَدَّه الإسلام تقربًا وطاعة لله"13..

ويتحدث المفكر الإنجليزي "كويليام" عن هذه الروايات التي اختلقها الحاقدون، وزعموا أن محمدًا صلى الله عليه وسلم، سن الاسترقاق والخناسة.. فيقول:

"إن روايات كهذه مجردة بالمرة عن الحقيقة، لا يمكن تصديقها وتصور وقوعها"14.. ويدلل على حقيقة أن محمدًا صلى الله عليه وسلم له الفضل في القضاء على النخاسة في الجزيرة العربية، فيضرب مثالاً بمناطق شرق ووسط إفريقيا التي تفشت فيها مظاهر النخاسة والاسترقاق، ويبين أن السبب في تفشي هذه المظاهر في هذه المناطق هو "لأن الإسلام لم يدخل فيها!! وبرهان ذلك أن الإسلام من خصائصه إبطال النخاسة إبطالاً دائمًا!!15".. رغم أن تجار النخاسة والرق -كما يقول إدوار بروي- كانوا "من الأوروبيين"16.. ومن ثَم.. "توقفت حركة التطور في البلدان [الإفريقية] على أثر العبث الذريع الذي أحدثه في تلك الأرجاء تجار النخاسة والرق من الأوروبيين"!17.

وإذا قيل: إن الإسلام لم يلغِ الرق والاتجار بالبشر إلغاءً كاملاً رغم عظم مجهودات نبي الإنسانية صلى الله عليه وسلم في مكافحة الاسترقاق.. فجواب ذلك أن الدولة الإسلامية وحدها لا تستطيع أن تقضي تمامًا على عادة الاسترقاق والاتجار بالبشر، وذلك لعدة أساب وجيهة ومنطقية..

السبب الأول: أن مظاهر الاسترقاق والاتجار بالبشر كانت متأصلة ومنتشرة في المجتمعات الإنسانية، العربية وغير العربية، منذ قديم الزمن، فكان على الشرع الإسلامي -كعادته- أن يستخدم التدرج في القضاء على المنكرات والأعراف الفاسدة، فضيّق منافذ الاسترقاق ووسع أبواب العتق.

السبب الثاني: أن هذه العادات كانت قبل ظهور الإسلام بمثابة الأعراف الدولية، فقد كانت جميع الدول والإمبراطوريات -دون استثناء- تمارس الاسترقاق والاتجار بالبشر، ومن ثَم فإن القضاء على الرق يحتاج إلى اتفاق دولي عام، يلزم الجميع بمنع الاسترقاق أو الاتجار بالبشر.. ومعلوم أن الدولة الإسلامية أيام حضرة النبي صلى الله عليه وسلم لم تكن من القوة والانتشار بالقدر الذي يسمح لها بمنع هذه العادات.

السبب الثالث: أن الناس كانوا حديثي عهد بالإسلام، وإذا أصدرت الدولة قرارًا بمنع الرق؛ فسوف يقع حرج شديد على هؤلاء الناس الذين أصبحت تجاراتهم وأعمالهم تقوم على كاهل هؤلاء العبيد.. فكان على النظام الإسلامي أن يأخذ بمبدأ التدرج في منع الاسترقاق والاتجار بالبشر.

السبب الرابع: أن الدولة الإسلامية لم تكن تمتلك من الإمكانيات الاقتصادية والمالية بحيث تتمكن من كفالة هؤلاء العبيد بعد تحريرهم، أو حتى توفير فرص عمل لهم جميعًا، فمن المعروف أن العبيد كانوا في كفالة أسيادهم، يطعمون من مال السادة، ويحترفون لهم في مهنهم

تحريم الاتجار بالبشر

ومن دلائل مكافحة الاسترقاق في الشرع الإسلامي، تحريمه لكافة صور ومظاهر الاتجار بالبشر، وخاصة النساء والأطفال الأحرار.. فعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "قَالَ اللَّهُ: ثَلَاثَةٌ أَنَا خَصْمُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ: رَجُلٌ أَعْطَى بِي ثُمَّ غَدَرَ، وَرَجُلٌ بَاعَ حُرًّا فَأَكَلَ ثَمَنَهُ، وَرَجُلٌ اسْتَأْجَرَ أَجِيرًا فَاسْتَوْفَى مِنْهُ وَلَمْ يُعْطِ أَجْرَهُ"18.

فجعل الاتجار بالبشر من أبواب الخيانة والغدر والظلم، والله عز وجل خصم لجميع الغادرين إلا أنه أراد التشديد على هذه الأصناف الثلاثة، فقد ارتكبوا جرمًا شنيعًا يتعلق بحقوق الإنسان، فأحدهم غدر بأخيه الإنسان، فعاهده عهدًا وحلف عليه بالله ثم نقضه، والثاني باع أخاه الإنسان الحر، والثالث أكل مال أخيه الإنسان الأجير، وهو داخل في إثم المتاجرة بالبشر كالثاني؛ لأنه استخدمه بغير حق، وخالف الأمر النبوي: "أَعْطِ الْأَجِيرَ أَجْرَهُ قَبْلَ أَنْ يَجِفَّ عَرَقُهُ"19.

وجريمة الاتجار بالبشر -التي حرمها الشرع الإسلامي الفضيل- تتسربل بصور عديدة مارستها المجتمعات الجاهلية في القديم والحديث.. فمارستها قبائل العرب ودول الفرس والرومان قبل بعثة النبي الأعظم صلى الله عليه وسلم، فكانوا يقطعون الطرق على الأحرار، فيسرقون أموالهم ويبيعونهم في أسواق النخاسة على أنهم عبيد.. وفي العصر الحديث مارس الأمريكان هذا السلوك الجاهلي مع الزنوج، فخصصوا الهيئات التي تبيع وتشتري فيهم، وهم أحرار، ومارسوا أبشع صور التمييز العنصري في حقهم. إضافة إلى ظهور جماعات المتاجرة بالأطفال والنساء؛ لغرض الاستغلال الجنسي التجاري، ناهيك عن استغلال هذه الجماعات للكوارث الطبيعية والحروب لممارسة نشاطها، وخير شاهد ما حدث في كارثة تسونامي وما أعلنته الصحف عن أرقام مفزعة للنساء والأطفال الذين تم الاتجار بهم في ظل هذه الكارثية الإنسانية، الأمر نفسه حدث مع ضحايا الشعب المسلم في البوسنة والهرسك بعد ما أعمل فيه الجيش الصربي الذبح، فتم بيع آلاف الفتيات والأطفال على مرأى ومسمع من العالم (المتحضر).. وتحولت البلدان الأوروبية والولايات المتحدة الأمريكية إلى مراكز كبرى للاتجار بالبشر من جانب العصابات المنظمة التي تحصد سنويًّا ما بين 8 و10 مليارات دولار من الاتجار بالأطفال والنساء، وذلك وفقًا لإحصائيات وزارة العدل الأمريكية... بيد أن الشرع الإسلامي الكريم حرّم بيع الأحرار، وناهض تجارة البشر بالبشر، وحرم إكراه الفتيات على ممارسة البغاء فقال الشارع الحكيم: "وَلَا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاء إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً لِّتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [النور: 33].

إلى جانب أن جريمة الاتجار بالبشر تنتهك حق الإنسان في الحرية، وتنتهك حقوق الأطفال والنساء في العيش في بيئة آمنة صالحة، فهي تنزعهم من أسرهم ومن بين آبائهم وأمهاتهم إلى جحيم الاستغلال الجنسي والسخرة والتعذيب النفسي والجسدي.. وكلها مظاهر حرمها الإسلام وحاربها نبي الإسلام صلى الله عليه وسلم.

هكذا كان المنهج النبوي في التعامل مع مظاهر الاسترقاق والاتجار بالبشر؛ ليسجل أمام الله تعالى ثم التاريخ أن النظام الإسلامي هو أول نظام في تاريخ البشرية ناهض الاسترقاق وحارب المتاجرة بالبشر.

---------------------------

** الأستاذ محمد مسعد ياقوت داعية مصري، وباحث مشارك في إعداد بعض المشاريع العلمية الهامة، ومُعِد ومقدم برامج في التلفزيون المصري والفضائيات العربية، وعضو لجنة الكتاب الأفارقة والآسيويين. yakoote@gmail.com

(1) حديث أبي هريرة في صحيح مسلم، باب فضل العتق، ح: 1509: "من أعتق رقبة مؤمنة أعتق الله بكل إرب منها إربًا منه من النار" (الإرب هو العضو)

(2) آدم متز: الحضارة الإسلامية في القرن الرابع الهجري، 1/ 290 .

(3) نظمي لوقا: محمد الرسالة والرسول، ص 185

(4) صحيح - أبو داود ،ح: 5156، أحمد، ح: 585

(5) صحيح - أبو داود ، باب حق المملوك، ح: ( 4492) .

(6) صحيح - أبو نعيم الأصبهاني في دلائل النبوة (116)، أبو حنيفة في مسنده (40)، الحارث في مسنده (939)، وذكره ابن حجر العسقلاني في المطالب العالية ( 3931 ).

(7) صحيح – البخاري،كتاب الإيمان، برقم 30، مسلم، كتاب الإيمان والنذور، باب: إطعام المملوك مما يأكل، رقم: 1661

(8) عن الموسوعة الفقهية، وزارة الأوقاف والشئون الإسلامية بدولة الكويت، باب "رقّ"

(9) الحاكم في المستدرك، ح: 6541، الطبراني: المعجم الكبير،ح: 6040، والقصة منتشرة في كتب السيرة، في ثنايا أحداث الخندق .

(10) صحيح - سنن أبي داود ، ح: 4500 .

(11) حسن - أحمد ( 2/ 182 )، أبو داود ( 4519 ) ابن ماجه ( 2680 ).

(12) لايتنر :دين الإسلام ، ص 7

(13) انظر: عرفات كامل العشي: رجال ونساء أسلموا، 231

(14) عبد الله كويليام: العقيدة الإسلامية ، ص26

(15) المصدر السابق

(16) إدوار بروي: تاريخ الحضارات العام 3/ 564

(17) المصدر السابق

(18) صحيح - رواه البخاري، كتاب البيوع ، باب إثم من باع حرًا، ح: 2075

(19) حسن - البيهقي، ح: (11439)، عن أبى هريرة

المصدر : إسلام أون لاين، صفحة مع الحبيب، قسم أخلاق الحبيب

===============

#العلمانية (أسباب ظهورها ،آثارها ,عوامل انتقالها إلى العالم الإسلامي ,أبرز دعاتها)

كتبه

بندر بن محمد الرباح

عضو الدعوة والإرشاد بالقصيم

المقدّمة

الحمد لله وحده وصلى الله وسلم على عبده ورسوله محمد وعلى

آله وأصحابه وسلم .

أما بعد:

فإنه لما كان المسلمون يجمعهم كتاب ربهم الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، وتجمعهم سنة رسوله صلى الله عليه وسلم كانوا أمة واحدة قوية وعزيزة ورائدة.

ولكن لما اتصلت هذه الأمة بالأمم الأخرى ذات الأنماط الحضارية المختلفة، فإن هذه الأمة قد تأثرت بكيد أعدائها من اليهود والنصارى وعبدة الأوثان والملاحدة حتى أصبح المتأثرون بفكر أولئك الأعداء أمة داخل الأمة الإسلامية.

وما لذلك من سبب سوى البعد عن منهج الله الذي أنزله على عبده ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم هداية ونوراً وإخراجاً للناس من الظلمات إلى النور.

وهذا البحث يتناول جانباً مهما وخطيراً من جوانب هذا التيار الفكري الذي وفد على الأمة الإسلامية واستهدف إبعادها عن عقيدتها وربطها بالفكر المهيمن في هذا العصر البعيد عن هدي الله ومنهج رسوله e.

وهذا التيار الذي نحن بصدد الحديث عنه، هو تيار "العلمانية" ذلك المصطلح الغربي الذي يوحي ظاهره أن طريقة الحياة التي يدعو إليها تعتمد على العلم وتتخذه سنداً لها ليخدع الناس بصواب الفكرة واستقامتها. حتى انطلى الأمر على بعض السذج وأدعياء العلم فقبلوا المذهب منبهرين بشعاره، وقد أوصلهم ذلك إلى البعد عن الدين بعداً واضحاً.

هذا وقد جعلت البحث في مقدمة وفصلين وخاتمة:

المقدمة : وفيها أهمية الموضوع وخطة البحث.

الفصل الأول: تعريف العلمانية وأسباب ظهورها، وآثارها في الغرب وفيه ثلاثة مباحث:

المبحث الأول: تعريف العلمانية.

المبحث الثاني: أسباب ظهور العلمانية.

المبحث الثالث : آثار العلمانية في الغرب

الفصل الثاني: في عوامل انتقال العلمانية إلى العالم الإسلامي وأبرز دعاتها وآثارها على العالم الإسلامي

وفيه ثلاث مباحث:

المبحث الأول: عوامل انتقال العلمانية إلى العالم الإسلامي

المبحث الثاني : أبرز دعاة العلمانية في العالم الإسلامي

المبحث الثالث: آثار العلمانية السيئة على العالم الإسلامي

الخاتمة : وفيها أهم نتائج البحث.

الفصل الأول:

تعريف العلمانية وأسباب ظهورها

وآثارها في الغرب وفيه ثلاثة مباحث:

المبحث الأول: تعريف العلمانية.

المبحث الثاني: أسباب ظهور العلمانية.

المبحث الثالث : آثار العلمانية في الغرب

المبحث الأول: تعريف العلمانية.

العلمانية تبدو لأول وهلة للناظر فيها كلمة عربية مشتقة من العلم, بل هي مبالغة تشير إلى الاهتمام بالعلم والعلماء, ولا غبار على هذا – لو كان على ظاهره – من الوجهة الإسلامية حيث اهتمام الإسلام بالعلم والعلماء, ولكنها حينما تكون وسيلة من وسائل الغرب لتغريب المسلمين فإن الأمر يصبح غير ذلك, إذ لا تبقى على ظاهرها لفظاً ومعنى, وإنما تكون ترجمة عربية للفظ أجنبي له مدلوله الخاص, ولذلك أجمع الكثير من رواد الفكر الإسلامي على أن " العلمانية " ترجمة للكلمة الإنجليزية ( سيكولاريتي Secularity ) أي لا ديني, أو غير عقيدي, ونستنتج من ذلك أن العلمانية تعني اللادينية(1).

جاء في معجم ألفاظ العقيدة: أن العلمانية تأتي لمعان منها: العالمية, ومنها اللادينية. ومنها فصل الدين عن الدولة وعن الحياة.

وكلمة العلمانية اصطلاح جاهلي غربي مشير إلى انتصار العلم على الكنيسة التي حاربت التطور باسم الدين (2).

وهي على هذا كلمة مضللة خادعة ابتدعها الغرب لصرف الناس عن الاهتمام بالآخرة كما تقول دائرة المعارف البريطانية في تعريف كلمة: هي حركة اجتماعية تهدف إلى صرف الناس عن الاهتمام بالآخرة إلى الاهتمام بالحياة الدنيا فقط, وذلك أنه كان لدى الناس في العصور الوسطى رغبة شديدة في العزوف عن الدنيا والتأمل في الله واليوم الآخر.

وفي معجم ويبستر الشهير: العلمانية: " رؤية للحياة أو أي أمر محدد يعتمد أساساً على أنه يجب استبعاد الدين وكل الاعتبارات الدينية وتجاهلها", ومن ثم فهي نظام أخلاقي اجتماعي يعتمد على قانون يقول: " بأن المستويات الأخلاقية والسلوكيات الاجتماعية يجب أن تحدد من خلال الرجوع إلى الحياة المعاشة والرفاهية الاجتماعية دون الرجوع إلى الدين"(3).

____________________

1- صور من مواقف العلمانية في محاربة الإسلام عن طريق التعليم. حسن ملا عثمان ص172-173 بحث مقدم إلى مجلة كلية العلوم الاجتماعية بالرياض, جامعة الإمام – العدد السابع 1403هـ

2- معجم ألفاظ العقيدة, ص286.

3- جذور العلمانية. د. السيد أحمد فرج, ص105

وهي من خلال النصين السابقين دعوة صريحة إلى نبذ الدين والاهتمام بالحياة وإسقاطه من الحسبان وإقامة الحياة على غير الدين سواء بالنسبة للأمة أو للفرد, وآن للأمة أن تعمل وللفرد أن يعمل ما تشاء وما يشاء دون التفات لأوامر الدين ونواهيه حسب ما يمليه الواقع المادي سواء من الناحية الاجتماعية أو الاقتصادية أو السياسية أو التربوية (1)

والتعبير الشائع في الكتب الإسلامية المعاصرة هو " فصل الدين عن الدولة ", وهو في الحقيقة لا يعطي المدلول الكامل للعلمانية الذي ينطبق على الأفراد وعلى السلوك الذي قد لا يكون له صلة بالدولة, ولو قيل أنها " فصل الدين عن الحياة " لكان أصوب, ولذلك فإن المدلول الصحيح للعلمانية هو " إقامة الحياة على غير الدين " سواء بالنسبة للأمة أو للفرد, ثم تختلف الدول أو الأفراد في موقفها من الدين بمفهومه الضيق المحدود: فبعضها تسمح به, كالمجتمعات الديمقراطية الليبرالية, وتسمي منهجها " العلمانية المعتدلة " أي أنها مجتمعات لا دينية ولكنها غير معادية للدين, وذلك مقابل ما يسمى " العلمانية المتطرفة "أي المضادة للدين, ويعنون بها المجتمعات الشيوعية ومشاكلها.

ومن هذا يتضح لنا أنه لا علاقة لكلمة العلمانية بالعلم، وإنما علاقتها قائمة بالدين على أساس سلبي وهو نفي الدين عن مجالات الحياة: السياسية، والاقتصادية، والاجتماعية، والفكرية... الخ.

_____________________________

1- العلمانية نشأتها وتطورها. سفر بن عبد الرحمن الحوالي, ص24.

المبحث الثاني

أسباب ظهور العلمانية في الغرب

هناك أسباب كثيرة أدت إلى ظهور العلمانية في الغرب كان من أبرز هذا الأسباب

ما يلي:

أولاً: طغيان رجال الكنيسة:

لقد عاشت أوروبا في القرون الوسطى فترة قاسية، تحت طغيان رجال الكنيسة وهيمنتهم، وفساد أحوالهم، واستغلال السلطة الدينية لتحقيق أهوائهم، وإرضاء شهواتهم، تحت قناع القداسة التي يضفونها على أنفسهم، ويهيمنون بها على الأمة الساذجة، ثم اضطهادهم الشنيع لكل من يخالف أوامر أو تعليمات الكنيسة المبتدعة في الدين، والتي ما أنزل الله بها من سلطان، حتى لو كانت أموراً تتصل بحقائق كونية تثبتها التجارب والمشاهد العلمية.

وقد شمل هيمنة الكنيسة النواحي الدينية، والاقتصادية، والسياسية، والعلمية، وفرضت على عقول الناس وأموالهم وتصرفاتهم وصاية لا نظير لها على الإطلاق وسنعرض إلى شيء من ذلك بإيجاز:

أ - الطغيان الديني:

إنَّ الإيمان بالله الواحد الأحد، الذي لا إله غيره ولا معبود بحق سواه، وإن عيسى عبد الله ورسوله، قد تحول في عقيدة النصارى إلى إيمان باله مثلث يتجسد،أويحلُّ بالإنسان ذي ثلاثة أقانيم (الأب والابن ورح القدس).

وذلك أنه منذ مجمع نيقية سنة 325م والكنيسة تمارس الطغيان الديني والإرهاب في أبشع صوره، ففرضت بطغيانها هذا عقيدة التثليث قهراً، وحرّمت ولعنت مخالفيها، بل سفكت دماء من ظفرت به من الموحدين، وأذاقتهم صنوف التعذيب وألوان النكال.

وتتفق المصادر على أن اليد الطولى في تحريف العقيدة النصرانية تعود إلى بولس "شاؤل" اليهودي، وهو الذي أثار موضوع ألوهية المسيح لأول مرة مدعياً أنه ابن الله تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً.

أما العبادات فقد دخلت فيها أوضاع بشرية كنسية مبتدعة، وهذه المبتدعات حمّلها النصارى مفاهيم غيبية، وفسّروها بأن لها أسراراً مقدسة، وجعلوا لها طقوساً تُمارس في مناسباتها، ويجب احترامها والتقيد بها.

وأما الأحكام التشريعية فمعظمها أوامر وقرارات كنسية بابوية، ما أنزل الله بها من سلطان، وهى تُحلّلُ وتُحرِّم من غير أن يكون لها مستند من الشرع.

ونصّبت الكنيسة نفسها عن طريق المجامع المقدسة "إلهاً" يُحلُّ ويُحرِّمُ، ينسخُ ويضيف، وليس لأحد حق الاعتراض، أو على الأقل حق إبداء الرأي كائناً من كان، وإلا فالحرمان مصيره، واللعنة عقوبته؛ لأنه كافر.

ومن أمثلة الأحكام التي غيرتها الكنيسة الختان حيث أنه كان واجباً فأصبح حراماً، وكانت الميتة محرمة فأصبحت مباحة، وكانت التماثيل شركاً ووثنية فأصبحت تعبيراً عن التقوى، وكان زواج رجال الدين حلالاً فأصبح محظوراً، وكان أخذ الأموال من الأتباع منكراً فأصبحت الضرائب الكنسية فرضاً لازماً، وأمورٌ كثيرة نقلتها المجامع من الحل إلى الحرمة أو العكس دون أن يكون لديها من الله سلطان، أو ترى في ذلك حرجاً.

وأضافت الكنيسة إلى عقيدة التثليث عقائد وآراء أخرى تحكم البديهة باستحالتها ولكن لا مناص من الإيمان بها والإقرار بشرعيتها على الصورة التي توافق هوى الكنيسة.

ومن أمثلة ذلك التعميد وتقديس الصليب وحمله وعقيدة الخطيئة الموروثة وصكوك الغفران والحرمان وحياة الرهبنة(1)

إلى غير ذلك من العقائد والمبتدعات النصرانية التي فرضتها الكنيسة على أتباعها، وكل هذه العقائد واضح بطلانها بحمد الله في العقيدة الإسلامية، وإنَّ ديناً من هذا القبيل هو مقطوع الصلة بما أنزل الله تعالى من الحق، وغير صالح لأن يكون له سلطان على العقول البشرية.

ب- الطغيان المالي:

إن المتأمل في الأناجيل - على الرغم من تحريفها - يجد أنها لم تنه عن شيء كنهيها عن اقتناء الثروة والمال.

جاء في إنجيل متى: "لا تقتنوا ذهباً ولا فضةً ولا نحاساً في مناطقكم "(2).

وجاء في إنجيل مرقص: "مرور جملٍ من ثقب إبرةٍ أيسر من أن يدخل غنيٌ إلى ملكوت الله" (3).

___________________________

1- أنظر العلمانية نشأتها وتطورها, ص 128-132.

2- متى 10 :10-11

3- مرقص 10:22

إلا أن القرون التالية قد شهدت مفارقة عجيبة بين مفهوم الكنيسة عن الدنيا وبين واقعها العملي، حتى صار جمع المال والاستكثار من الثروات غاية لديهم، فتهالك رجال الدين على جمع المال والإسراف والبذخ والانغماس في الشهوات والملذات.

ويمكن إيجاز مظاهر الطغيان الكَنَسِيّ في هذا المجال فيما يلي:

1-الأملاك الإقطاعية:

يقول ديورانت: "أصبحت الكنيسة أكبر ملاك الأراضي وأكبر السادة الإقطاعيين في أوروبا، فقد كان دير "فلدا" مثلاً يمتلك(15000) قصر صغير، وكان "الكوين فيتور" أحد رجال الدين سيداً لعشرين ألفاً من أرقاء الأرض،.

وكانت أملاكها المادية، وحقوقها والتزاماتها الإقطاعية مما يجلل بالعار كل مسيحي متمسك بدينه، وسخرية تلوكها ألسنة الخارجين على الدين ومصدراً للجدل والعنف بين الأباطرة والبابوات".

2-الأوقاف:

كانت الكنيسة تملك المساحات الشاسعة من الأراضي الزراعية باعتبارها أوقافاً للكنيسة، بدعوى أنها تصرف عائداتها على سكان الأديرة، وبناء الكنائس، وتجهيز الحروب الصليبية، إلا أنها أسرفت في تملك الأوقاف حتى وصلت نسبة أراضي الكنيسة في بعض الدول إلى درجة لا تكاد تصدق، وقد قال المصلح الكنسي "ويكلف" - وهو من أوائل المصلحين -: "إن الكنيسة تملك أراضي إنجلترا وتأخذ الضرائب الباهظة من الباقي، وطالب بإلغاء هذه الأوقاف واتهم رجال الدين بأنهم "أتباع قياصرة لا أتباع الله".

3-العشور:

فرضت الكنيسة على كل أتباعها ضريبة (العشور) وبفضلها كانت الكنيسة تضمن حصولها على عشر ما تغله الأراضي الزراعية والإقطاعيات، وعشر ما يحصل عليه المهنيون وأرباب الحرف غير الفلاحين ولم يكن في وسع أحد أن يرفض شيئاً من ذلك فالشعب خاضع تلقائياً لسطوتها .

4- الهبات والعطايا:

وكانت الكنيسة تحظى بالكثير من الهبات التي يقدمها الأثرياء الإقطاعيون للتملق والرياء، أو يهبها البعض بدافع الإحسان والصدقة. وقد قويت هذه الدوافع بعد مهزلة صكوك الغفران، إذ انهالت التبرعات على الكنيسة، وتضخمت ثروات رجال الدين تضخماً كبيراً.

هذا. ولا ننسى المواسم المقدسة والمهرجانات الكنيسية التي كانت تدرُّ الأموال الطائلة على رجال الكنيسة؛ فمثلاً في سنة1300م عقد مهرجان لليوبيل واجتمع له جمهور حاشد من الحجاج في روما بلغ من انهيال المال إلى خزائن البابوية أن ظل موظفان يجمعان بالمجاريف الهبات التي وضعت عند قبر القديس بطرس.

5- العمل المجاني "السخرة":

لم تقنع الكنيسة بامتلاك الإقطاعيات برقيقها وما يملكه بعض رجال الدين من آلاف الأرقاء، بل أرغمت أتباعها على العمل المجاني في حقولها وفي مشروعاتها، ولاسيما بناء الكنائس والأضرحة وكان على الناس أن يرضخوا لأوامرها ويعملوا بالمجان لمصلحتها مدة محدودة، هى في الغالب يَوْمٌ واحِدٌ في الأسبوع، ولا ينالون مقابل ذلك جزاءً ولا شكورا (1).

وبهذا يتبين لنا أن الانحراف والفساد الديني والاجتماعي قد وصل على يد الكنيسة النصرانية ورجالها وتعاليمها المزيفة إلى حد لم يعد يتحمله الناس ولا تطيقه فطرة البشر، حيث شقيت أوروبا برجال الدين الدجالين، وبتسلطهم ونفوذهم باسم الدين، وباسم الرب.

ج-الطغيان السياسي:

أما الطغيان السياسي فقد بلغت سلطة البابا الدينية المهيمنة على ذوي السلطة الإدارية والسياسية أوجها، حتى كان باستطاعة البابا أن يتوج الملوك والأباطرة، وأن يخلع تيجانهم إذا نازعوه ورفضوا أوامره، وأن يحرمهم من الدين، وأن يحرم شعوبهم الذين يوالونهم، ولايستجيبون لأوامر الخلع البابوية.

ثانياً: الصراع بين الكنيسة والعلم:

الصراع بين الدين والعلم مشكلة من أعمق وأعقد المشكلات في التاريخ الفكري الأوروبي إن لم تكن أعمقها على الإطلاق.

وذلك أن الكنيسة كانت هي صاحبة السلطة طوال القرون الوسطى في أوروبا حتى قامت النهضة العلمية هناك.

وفي هذه الأثناء وقعت الحروب الصليبية بين المسلمين والأوروبيين،واستمرت طوال القرنين الحادي عشر، والثاني عشر الميلادي،واحتك الصليبيون خلالها بالمسلمين ووقفوا عن كثب على صفات الإسلام وروعته في جميع مجالات العلوم والفنون، في الأندلس والشمال الإفريقي وصقلية وغيرها، حيث كانت المدارس

____________________________

1- أنظر العلمانية نشأتها وتطورها, ص 138-143.

والجامعات المتعددة في كل مكان في بلاد المسلمين، يؤمها طلاب العلم ومنهم الأوروبيون الذين وفدوا يتعلمون من الأساتذة المسلمين، وترجمت بعض الكتب إلى اللغة الإنجليزية.فلما عاد أولئك الأوروبيين الذين تأثروا بنور الإسلام وعرفوا أن الكنيسة ورجالها عملة مزيفة، ووسيلة للدجل والتحكم الظالم في عباد الله، أخذ هؤلاء يقاومون الكنيسة ودينها المزيف وأعلنوا كشوفا تهم العلمية والجغرافية، والعلوم الطبيعية التي تحرمها الكنيسة، وعند ذلك قامت قيامة من يُسمون لدى النصارى برجال الدين، واحتدم الصراع، ومكث قروناً بين رجال العلم ورجال الكنيسة، فأخذوا يُكفّرون ويقتلون ويحرقون ويشردون المكتشفين، وأنشأت الكنيسة محاكم للتفتيش لملاحقة حملة الأفكار المخالفة لآرائها وأفكارها.

ومكث هذا الصراع عدة قرون، وانتهى بإبعاد الكنيسة ورجالها عن التدخل في نظم الحياة وشئون الدولة، فالدين - بمعنىً أوضح - مهمته داخل جدران الكنيسة فقط ولا داعي لوجوده خارجها، ويكون لرجال الدولة والعلم إدارة شئون الحياة بالأسلوب الذي يناسبهم سواء أكان متفقاً مع مبادئ الدين أم لا ؟!! (1)

وبما أن الدين بصبغته الإلهية النقية لم يدخل المعركة، فإن الأولى أن نسمي ما حدث في أوروبا صراعاً بين الكنيسة والعلم، وليس بين الدين والعلم أو بين رجال الدين والعلماء.

ونظراً لأن الصراع الدامي الطويل قد انتهى بأول انتصار حاسم لأعداء الكنيسة اثناء الثورة الفرنسية فإننا سنتناول ذلك بإيجاز.

ثالثاً: الثورة الفرنسية:

ونتيجة لوضع الكنيسة ودينها المحرف، ووقوفها ضد مطالب الناس، دبّر اليهود مكايدهم لاستغلال الثورة النفسية التي وصلت إليها الشعوب الأوروبية، لاسيما الشعب الفرنسي.. فأعدوا الخطط اللازمة؛ لإقامة الثورة الفرنسية الرامية إلى تغيير الأوضاع السائدة، وفي مقدمتها عزل الدين النصراني المحرف الذي حارب العلم عن الحياة، وحصره في داخل الكنيسة وإبعاد رجالها عن التحكم الظالم.

وفعلاً قامت الثورة الكبرى عام (1789م) واستطاع اليهود أن يجنوا ثمرات

____________________________

1- أنظر العلمانية نشأتها وتطورها, ص133-136 .

عملهم على حساب آلام الشعوب، والدماء التي أهرقت من جرائها، واستطاعوا أن يظلوا في الخفاء بعيداً عن الأضواء، وأن يزوروا كثيراً من الحقائق التاريخية؛ لستر مكايدهم وغاياتهم، واستطاعوا أن يصوروا هذه الثورة وما جرّت وراءها بالصورة الجميلة المحببة، وأن يجعلوها إحدى الأعمال التاريخية المجيدة، وذلك عن طريق الدعايات والإشاعات المزخرفة المقرونة بالشعارات البراقة التي انخدع بها الناس، وأخذت ترددها دون أن تفهم الهدف الذي ترمي إليه.

ووضع اليهود شعاراً مثلثاً لهذه الثورة هو "الحرية، والمساواة، والإخاء".

أما أصل مخططات هذه الثورة فقد وضعها جماعة النورانيين من الحاخامين اليهود، واستخدموا للبدء بالدعوة إليها بين سادة المال اليهود العالميين، الثري المرابي الكبير "روتشيلد الأول" ثم ابنه "ناتان روتشيلد".

ومما يدل على أن الثورة الفرنسية هي من صنع اليهود وتدبيرهم ماتتبجح به بروتوكولاتهم فتقول: "تذكروا الثورة الفرنسية التي نسميها "الكبرى"إن أسرار تنظيمها التمهيدي معروفة لنا جيداً لأنها من صنع أيدينا".

وتقول: "كذلك كنا قديماً أول من صاح في الناس "الحرية، والمساواة والإخاء" كلمات ما انفكت ترددها منذ ذلك الحين ببغاوات جاهلة متجمهرة من كل مكان حول هذه الشعائر.

وتمخضت الثورة عن نتائج بالغة الخطورة، فقد ولدت لأول مرة في تاريخ أوروبا المسيحية دولة جمهورية، لادينية، تقوم فلسفتها على الحكم باسم الشعب - وليس باسم الله - وعلى حرية التدين بدلاً من الكثلكة وعلى الحرية الشخصية بدلاً من التقيد بالأخلاق الدينية، وعلى دستور وضعي بدلاً من قرارات الكنيسة.

وقامت الثورة بأعمال غريبة على عصرها فقد حلت الجمعيات الدينية، وسرحت الرهبان والراهبات، وصادرت أموال الكنيسة،وألغت كل امتيازاتها، وحوربت العقائد الدينية هذه المرة علناً وبشدة...

وقد سرت الثورة إلى كل الغرب؛ لأنه لا يدين بالإسلام دين العلم والحق والعدل.

رابعاً: نظرية التطور:

في سنة 1859م نشرالباحث الإنجليزي "تشارلزداروين"كتابه "أصل الأنواع"(1) الذي يركز على قانون الانتقاء الطبيعي وبقاء الأنسب، وقد جعلت نظريته كون

___________________________

1- ترجمه للعربية إسماعيل مظهر

الجد الحقيقي للإنسان جرثومة صغيرة عاشت في مستنقع راكد قبل ملايين السنين، والقرد مرحلة من مراحل التطور التي كان الإنسان آخرها فاحدث ذلك ضجة لم يحدثها أي مؤلف آخر في التاريخ الأوروبي قاطبة، وكان له من الآثار في المجالات الفكرية والعملية مالم يكن في الحسبان.

وهذه النظرية أدت إلى انهيار العقيدة الدينية، ونشر الإلحاد في أوروبا، وقد استغلها اليهود استغلالاً بشعاً.

وقد قال أحد العلماء الغربيين في النظرية الداروينية: بـ "بإنَّها أبوها الكفر وأمها القذارة".(1)

والنظرية الداروينية باطلة بكتاب الله تعالى وبسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وباطلة بجميع الكتب السماوية، وباطلة بإجماع المسلمين في كل زمان ومكان،

وباطلة بالعقل الصحيح، وبالفطرة السليمة من الشذوذ والانحراف.

فبنو آدم وجميع الحيوانات والطيور، وجميع مافي البراري والبحار، من آلاف السنين وهي على ما هي عليه لم تتغير أشكالها ولا أسماؤها.

ومذهب داروين باطل؛ لعدم مشاهدة أي ارتقاء من أي نوع من مخلوقات الله، فمن الذي عاش آلاف السنين حتى شاهد تغير الإنسان من خلية إلى حشرة إلى حيوان إلى قرد كما يزعم داروين، وهو الذي لم يعش سوى أقل من 75 سنة.

قال تعالى: {مَا أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَلا خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ وَمَا كُنْتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُداً}.

والنظرية باطلة بقوله تعالى: {وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ} فالله تعالى إنما أهبط من الجنة أدمياً يعقل ولم يهبط حشرة ثم صارت حيواناً لا يعقل ثم صار قرداً (2).

____________________________

1- مذهب النشوء والارتقاء ص 23 وما بعدها

2- أنظر نشأة العلمانية ودخولها إلى المجتمع الإسلامي . د/ محمد العرمابي , ص48 وما بعدها .

خامساً: دور اليهود :

وليس غريباً بعد الذي تقدم - كما جاء في الثورة الفرنسية - أن يكون اليهود وراء الدعوة إلى إقامة الحياة على غير الدين، وذلك من أجل السيطرة، ومن أجل إزالة الحاجز الديني الذي يقف أمام اليهود حائلاً بينهم وبين أمم الأرض.

هذه أهم الأسباب والعوامل التي أدت إلى ظهور هذا الفكر الجاهلي، والذي هيمن على أوروبا كلها، وأصبح يحمل شعارات الإلحاد والفوضى الأخلاقية عناداً للكنيسة ورجالها.

والحق أَنَّ هذه الأسباب وتلك الظروف ليست مبررة لابتعاد النصارى وغيرهم عن الدين.

وفكرة أن العلم لا صلة له بالدين وأن الدين يحارب العلم، هي الفكرة السائدة في الغرب طيلة القرنين الثامن عشر، والتاسع عشر الميلاديين، ومع إطلالة القرن

العشرين بدأت بوادر التفاهم والمصالحة بين رجال الكنيسة والاتجاه الجاهلي، وانتهت بتنازلات كبيرة من الطرفين إلى أن دخلت الأحزاب الدينية النصرانية مجالات السياسة في بعض الدول الغربية.

المبحث الثالث :

آثار العلمانية في الغرب

على الرغم من أن الحضارة العلمانية الغربية قد قدمت للإنسان كل وسائل الراحة وكل أسباب التقدم المادي، إلا أنها فشلت في أن تقدم له شيئاً واحداً وهو السعادة والطمأنينة والسكينة، بل العكس قدمت للإنسان هناك مزيداً من التعاسة والقلق والبؤس والتمزق والاكتئاب، وذلك لأن السعادة والسكينة أمور تتعلق بالروح، والروح لا يشبعها إلا الإيمان بخالقها، والالتزام بأوامره واجتناب نواهيه؛ قال تعالى: {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَاناً مَعَ إِيمَانِهِمْ} أي جعل الطمأنينة والوقار في قلوب المؤمنين الذين استجابوا لله ولرسوله، وانقادوا لحكم الله ورسوله، فلما أطمأنت قلوبهم بذلك واستقرت، زادهم إيماناً مع إيمانهم.

وكيف تنزل السكينة في قلوب أناس أقاموا حضارتهم على غير أساس من الإيمان بالله تعالى وشرعه ؟

بل الذي يحصل لهم هو مزيد من القلق والتعاسة والضيق والخوف يقول الله تبارك وتعالى: {فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ كَذَلِكَ يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ}.

قال ابن عباس رضي الله عنهما في قوله: "فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام": يقول : "يوسع قلبه للتوحيد والإيمان به".

وبهذا يتبين لنا حالة القلق الرهيب التي تعيشها المجتمعات التي تسير على غير هدى الله وشرعه، على الرغم من تقدمها المادي، ووصولها إلى أرقى أساليب التقنية الحديثة.

وهذا ما أيده الواقع الملموس في البلاد التي ابتعدت عن شرع الله، فالإنسان إنما يكون في حالة طيبة نفسياً وبدنياً عندما تقوى صلته بالله تعالى، ويلتزم بأوامره ويجتنب نواهيه.

ولذلك يقول ابن القيم - رحمه الله تعالى -: "في القلب شعث - أي تمزق وتفرق - لا يلمهُ إلا الإقبال على الله، وفيه وحشة لا يزيلها إلا الأنس بالله، وفيه حزن لا يذهبه إلا السرور بمعرفته وصدق معاملته، وفيه قلق لا يسكنه إلا الاجتماع عليه والفرار إليه، وفيه نيران حسرات لا يُطفئها إلا الرضى بأمره ونهيه وقضائه، ومعانقة الصبر على ذلك إلى وقت لقائه، وفيه فاقة لا يسدها إلا محبته والإنابة إليه، ودوام ذكره، وصدق الإخلاص له، ولو أعطي الدنيا وما فيها لم تسد تلك الفاقة أبداً" (1).

إن إبعاد الدين عن مجالات الحياة في المجتمعات الغربية كان - ولا يزال - من أهم الأسباب التي أدت إلى الإفلاس والحيرة والضياع.

وإن مما نتج عن ذلك مما هو مشاهد وملموس ما يلي:

1- الولوغ والانغماس في المشروبات الروحية والإدمان على المخدرات.

2- الأمراض العصبية والنفسية.

3- الجرائم البشعة بمختلف أنواعها كالسرقات، والاغتصاب، والشذوذ الجنسي، والقتل وغيرها.

4- تأجيج الغرائز الجنسية بين الجنسين.

5- انتشار الأمراض المخيفة كالزهري، والسيلان، وأخيراً يبتلي الله تلك المجتمعات بالطاعون الجديد وهو مرض "الإيدز".

6- الانتحار.

إن الغرب يعيش حياة الضنك والقلق، فلا طمأنينة له ولا راحة، ولا انشراح لصدور أهله، بل صدورهم في ضيق وقلق وحيرة، وما ذلك إلا لضلالهم وبعدهم عن الله، وإن تنعموا ظاهراً في الحياة الدنيا.

قال تعالى: {يَعْلَمُونَ ظَاهِراً مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ}

________________________

1- مدارج السالكين ج3/ص164

الفصل الثاني:

في عوامل انتقال العلمانية إلى العالم الإسلامي

وأبرز دعاتها وآثارها السيئة على العالم الإسلامي

وفيه ثلاث مباحث:

المبحث الأول: عوامل انتقال العلمانية إلى العالم الإسلامي

المبحث الثاني : أبرز دعاة العلمانية في العالم الإسلامي

المبحث الثالث: آثار العلمانية السيئة على العالم الإسلامي

المبحث الأول

عوامل انتقالها إلى العالم الإسلامي

بدأت فكرة العلمانية تغزو العالم الإسلامي منذ زمن طويل لكنها لم تتمكن إلا في بداية القرن العشرين الميلادي، حين طبقت - على مستوى الدولة - على أنقاض الخلافة العثمانية ثم سرت إلى أكثر بلدان العالم الإسلامي وكانت هناك عدة عوامل رئيسية ساعدت على ظهور انتقال العلمانية إلى العالم الإسلامي أهمها:

أولاً: انحراف كثير من المسلمين عن العقيدة الصحيحة:

بسب انحراف كثير من المسلمين عن العقيدة الصحيحة المستمدة من الكتاب والسنة، كثرت البدع والخرافات والشعوذة والأهواء وقلَّ الفقه في الدين

بينهم ومن انحراف بعض المسلمين عن عقيدتهم ظهور الفرق الصوفية

بينهم، وكان من الأخطاء الأساسية في الفكر الصوفي النظرة العدائية إلى الحياة الدنيا تلك التي يبدو أنها متأثرة بالفكر البوذي والفلسفات المنحرفة.

وحدث أن أقبل العامة بقيادة المتصوفين على الطقوس والأوراد. وهذا الخلط الصوفي الأحمق يعتبر أول تصدع أصاب كيان الأمة الإسلامية، وهذا الانحراف العقدي وقع قبل احتكاك الغرب اللاديني بالشرق، بل قبل قيام الدولة العثمانية، وفي آخر عهد العثمانيين ازداد الأمر سوءاً وتطورت الانحرافات حتى توهم الناس أن العبادة هي ما يأمر به المشايخ والأولياء من البدع، ووقعت الأمة في شرك حقيقي، وذلك بما يمارسه الناس من بدع الأضرحة والمشاهد والمزارات، وتقديس الموتى والاعتماد عليهم في جلب النفع ودفع الضرر، ووصل الأمر إلى حالة مزرية جداً حين كانت جيوش المستعمرين تقتحم المدن الإسلامية، والمسلمون يستصرخون بالأسياد أو الأولياء الذين قد مضى على وفاتهم مئات السنين.

ومن ذلك قول بعض الشعراء:

يا خائفين من التتر ... لوذوا بقبر أبي عمر

وقال:

عوذوا بقبر أبي عمر ... ينجيكم من الضّرر (1)

_________________________

1- تغريب العالم الإسلامي سعيد القحطاني ص 122

ولذلك يقول ابن تيمية - رحمه الله تعالى - عنهم:

"وأما الجهاد فالغالب عليهم أنهم أبعد من غيرهم، حتى نجد في عوام المؤمنين من الحب للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والمحبة والتعظيم لأمر الله، والغضب والغيرة لمحارم الله، مالا يوجد فيهم، حتى إِنَّ كثيراً منهم يعدون ذلك - أي الجهاد - نقصاً في طريق الله وعيباً" (1).

بل ربما يظنون أن الذكر والتفكر والفناء والبقاء هو الأصل والأهم".

ثانياً: الاستعمار للعالم الإسلامي :

لقد تعرض العالم الإسلامي لهجمات قوية من قبل أعدائه عبر عصور التاريخ، ولكن لما كان المسلمون متمسكين بدينهم وأكثر استعداداً للجهاد في سبيل الله، استطاعوا أن يردوا حملات أعدائهم، ولكن لما ضعف المسلمون وكثرت فيهم البدع والخرافات واجتالتهم الطرق الصوفية، ولجأ بعضهم إلى التعلق بالقبور والتمسح بها والذبح لها ودعاء الموتى، واستسلم بعضهم إلى ملذات الدنيا، والبعض الآخر بدأ يتشبث بالأفكار الوافدة، وقعدوا عن الجهاد، بعد ذلك انقض عليهم الأعداء من كل جانب ولم تنته الحربان العالميتان

إلا وكثير من البلدان الإسلامية تحت سيطرت الاستعمار ولم يكن مخطط الاستعمار أن يستغل خيرات تلك البلاد ويستعبد سكانها فحسب - كما يظن البعض - بل كان أهم مخطّطاته محاربة الإسلام، وتجهيل المسلمين بحقيقة دينهم بجميع الوسائل الممكنة له الظاهرة والخفية.

وسوف أذكر أهم الوسائل التي استعملها الاستعمار في محاربة المسلمين:

أ- نشر الثقافة الغربية على نطاق واسع، مع السعي في التخفيف من الثقافة العربية الإسلامية أو القضاء عليها إن أمكن ذلك ولو مع طول الزمن.

ب- تشجيع مدارس التبشير المسيحي، وتدوين مناهجها لكي ينصرف أبناء المسلمين إليها تاركين مدارسهم الإسلامية، وقد نجح في ذلك كله.

ج- تشجيع الطوائف المنحرفة التي تعمل باسم الإسلام في ميدان الدعوة كالقاديانية، وبعض الطوائف الصوفية؛ ليتمكن من ضرب الإسلام ودعوته من الداخل بأيد تنتمي إليه، تلهج بذكره، وهذا أخطر سلاح استعمله الاستعمار ضد الإسلام ودعوته.

_________________________

1- الاستقامة ج1/ص268

هـ- اعتبار اللغة الإنجليزية لغة رسمية في كثير من البلدان العربية والإسلامية، مما جعل شباب المسلمين يقبلون على هذه اللغة في الوقت الذي يجهلون فيه لغتهم الأصلية، بل استطاع الاستعمار أن يحمل الشباب السذج على كراهية الإسلام وأهله بدعوة أنه دين تعصب، ودين تأخر، وانطلى هذا الكلام على شباب المسلمين؛ لجهلهم حقيقته فضلوا.

وبسبب الاستعمار والتبشير انتشرت المعتقدات العلمانية في العالم الإسلامي.

وقد حرص الغرب منذ وطئت أقدامه أراضي المسلمين على نشر العلمانية بأكثر من سبيل. وكان أهم مجالات نشرها ووسائلها فيما يلي:

1- في التعليم وله في ذلك أكثر من سبيل أهمها:

(أ) حصر التعليم الديني وحصاره مادياً ومعنوياً.

(ب) الابتعاث إلى الدول غير الإسلامية وحقق ذلك الابتعاث نتائجه المقصودة.

(ج) نشر المدارس الأجنبية في البلاد الإسلامية.

(د) تمييع المناهج الإسلامية باسم التطور.

(هـ) نشر الاختلاط بين الجنسين في مراحل التعليم وقد بدأوا بها في الجامعات.

2- في الإعلام والإعلام يخاطب الملايين من الناس ببرامجه، وأكثر هذه الملايين ساذجة تؤثر فيها الكلمة مقروءة أو مسموعة أو منظورة.

3- إبعاد الإسلام عن مجال التطبيق.

ومما يدل على دور الاستعمار في نقل العلمانية إلى البلدان الإسلامية أن أول عمل قام به الإنجليز في الهند هو إلغاء الشريعة الإسلامية، وأول عمل قام به نابليون في مصر هو تعطيل الشريعة الإسلامية، وإحلال القانون الفرنسي محلها، وأول عمل قام به المخطط اليهودي الصليبي في تركيا هو إلغاء الشريعة الإسلامية ثم إعلان تركيا دولة لا دينية (1).

"وأخيراً غادر المستعمرون ديار المسلمين بعد أن خلفوا على تركتهم ورثة مخلصين؛ ليحافظوا عليها، ولأنهم يتمكنون من العمل في صالحهم أكثر مما يتمكنون هم بأنفسهم".

_____________________________

1- مجلة البيان عدد 195ص 41-43

ثالثاً: الغزو الفكري:

وذلك بمحاولة إبعاد المسلمين عن دينهم بوسائل مختلفة، وتحت أسماء خادعة رقيقة مثل: "التغريب، التحديث أو الحداثة، التحضر، التغيير الاجتماعي، وعملت العلمانية في مجالاتها، وشقت طريقها في مجاريها".

قال سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز - رحمه الله -: "الغزو الفكري هو مصطلح حديث يعني مجموعة الجهود التي تقوم بها أمة من الأمم للاستيلاء على أمة أخرى أو التأثير عليها حتى تتجه وجهة معينة.

وهو أخطر من الغزو العسكري؛ لأن الغزو الفكري ينحو إلى السرية، وسلوك المآرب الخفية في بادئ الأمر، فلا تحس به الأمة المغزوة، ولا تستعد لصده والوقوف في وجهه حتى تقع فريسة له، وتكون نتيجته أن هذه الأمة تصبح مريضة الفكر والإحساس، تحبُّ ما يريده لها عدوها أن تحبه، وتكره ما يريد منها أن تكرهه.

وهو داء عضال يفتك بالأمم، ويذهب شخصيتها، ويزيل معاني الأصالة فيها، والأمة التي تبتلى به لا تحس بما أصابها، ولا تدري عنه؛ ولذلك يصبح علاجها أمراً صعباً وإفهامها سبيل الرشد شيئاً عسيراً.." (1).

رابعاً: المستشرقون:

لقد سلك المستشرقون طرقاً عديدة في الوصول إلى أغراضهم ومنها:

1- التدريس الجامعي.

2- جمع المخطوطات العربية وفهرستها.

3- التحقيق والنشر والترجمة .

4- التأليف في شتى مجالات الدراسات العربية والإسلامية، بالإضافة إلى الاشتراك في بعض المجامع اللغوية، والمجامع العلمية في العالم الإسلامي.

والتأليف من أخطر وسائلهم حيث ألفوا كثيراً من الكتب التي تطعن في الإسلام

______________________________

1- مجموع فتاوى ومقالات الشيخ ابن باز

وتتلخص جهود المستشرقين في هذا المجال فيما يلي:

1- الطعن في حقيقة الإسلام والقرآن والنبوة.

2- الزعم بأن الإسلام استنفذ أغراضه، وهو عبارة عن طقوس وشعائر روحية.

3- الزعم بأن الفقه الإسلامي مأخوذ من القانون الروماني.

4- الزعم بأن الإسلام لا يتلاءم مع الحضارة ويدعو إلى التخلف.

5- الدعوة إلى تحرير المرأة وفق الأسلوب الغربي.

6- تشويه الحضارة الإسلامية وتاريخها.

7- تضخيم حجم الحركات الهدامة في التاريخ الإسلامي، والزعم بأنها حركات إصلاح.

8- إحياء الحضارات القديمة.

9- اقتباس الأنظمة والمناهج اللادينية عن الغرب ومحاكاته فيها.

10- تربية الأجيال تربية لا دينية.

وقد انتشرت هذه المعتقدات مع الأسف في بعض دول العالم الإسلامي (1).

خامساً: المنصّرون:

كما أن للمستشرقين والمنصرين أهدافاً مشتركة لهم وسائل متداخلة، ويمكن القول بأن ميدان المستشرقين الأساسي هو الثقافة والفكر، بينما يركز المنصرون جهودهم في النواحي الاجتماعية والتربوية.

وقد نقل المنصّرون العلمانية من خلال نشراتهم وكتبهم ومن خلال التمثيليات

والأفلام، ومن خلال المدارس المختلفة التي بدأت بالأجنبية، ثم كان تأثيرهم على مناهج التعليم الوطنية.

ووسائل المنصرين في هذا المجال كثيرة جداً نذكر منها:

1- استخدام الطب كوسيلة للتنصير.

2- استخدام أعمال الخير والخدمات الاجتماعية: كإنشاء ملاجئ للأيتام، ومراكز رعاية اجتماعية للفقراء والمحتاجين.

3- استخدام الطلبة وعامة الناس في التنصير.

_______________________________

1- أنظر العلمانية نشأتها وتطورها, ص 545-549

4- استخدام الرشوة.

5- استخدام المكتبات والصحافة.

6- استخدام النوادي والجمعيات.

7- الاهتمام بالمرأة المسلمة وذلك بمحاولة إبعادها عن عقيدتها وإغرائها بتقليد المرأة الغربية.

8- المؤتمرات المشتركة.

9- البعثات الخارجية.

10-إنشاء المحاضن والمدارس والجامعات الأجنبية.

11-استخدام القوة أحياناً (1).

إلى غير ذلك من الأساليب التي استخدمها المنصرون في الوصول إلى غاياتهم المكشوفة؛ كبناء الكنائس، وتوزيع الأناجيل، وإقامة الندوات، والاهتمام بإفساد الريف الإسلامي - الذي يتميز عادةً بالمحافظة على القيم الإسلامية - والسيطرة على وسائل التربية والإعلام واستخدامها في سمومهم، وتوهين العقيدة الإسلامية في النفوس، مع صرف العناية إلى الأطفال، والنفاذ إلى عقولهم من خلال تلك الوسائل.

سادساً: الأقليات غير المسلمة داخل المجتمعات الإسلامية:

وذلك كالنصارى، واليهود، والشيوعيين، وأصحاب الاتجاهات المنحرفة من جمعيات وأحزاب ونحوهم، وكل هؤلاء لاينعمون بضلالتهم وانحرافهم وفسادهم إلا تحت شعار كشعار ما يسمى بالعلمانية، لذلك تضافرت جهودهم على نشرها وبثها، والدعاية لها، حتى انخدع بذلك كثيرون من السذج، وأنصاف المتعلمين من أبناء المسلمين.

سابعاً: تقدم الغرب في العلم المادي

إن تقدم الغرب الهائل في مضمار العلم المادي والقوة جعل كثيرين

من المسلمين ينبهرون بذلك التقدم، ويعزونه إلى الاتجاه الجاهلي الحديث

_______________________

1- مجلة البيان عدد 195ص 42

(العلماني)، وصدقوا دون تفكير مزاعم الكفار بأن الدين معوق للعلم، وظنوا أن بلادهم لا تتقدم حتى تفصل الدين -الإسلام- عن الدولة والحياة، وهذا بلا شك جهل بالإسلام جنى ثماره النكدة أكثر المسلمين (1).

ثامناً: البعثات إلى الخارج:

إن الطلاب الذين يذهبون من أبناء المسلمين إلى الدول غير الإسلامية، ولم تكن لديهم الحصانة الكافية من عقيدتهم، إن هؤلاء من أخطر الوسائل؛ لأن كثيراً منهم تعلقوا بقيم الغرب أو الشرق ومثله وعاداته، وقد عاد هؤلاء إلى بلدانهم وهم يحملون ألقاباً علمية وضعتهم في مناصب التوجيه، ونظر الناس إليهم على أنهم قدوة؛ لأنهم وطنيون (2).

_______________________

1-مجلة البيان عدد 159ص39

2- العلمانية نشأتها وتطورها, ص 549

المبحث الثاني :

ابرز دعاة العلمانية في العالم الإسلامي

سوف أذكر إن شاء الله في هذا المبحث بشكل مختصر تاريخ دخول العلمانية إلى عدد من الدول الإسلامية ثم أختمه بذكر بعض دعاة العلمانية في العالم الإسلامي

أولاً : تاريخ دخول العلمانية إلى بعض الدول الإسلامية

1- في مصر : دخلت العلمانية مصر مع حملة نابليون . وقد اشار اليها الجبرتي الجزء المخصص للحملة الفرنسية على مصر واحداثها بعبارات تدور حول معنى العلمانية وان لم تذكر الفظة صراحة .أما أول من استخدم هذا المصطلح العلمانية فهو نصراني يدعى اليأس بقطر في معجم عربي فرنسي من تأليفه قال فيه وادخل الخديوي اسماعيل القانون الفرنسي سنة 1883م،وكان هذا الخديوي مفتونا بالغرب ،وكان أمله أن يجعل من مصر قطعة من أوروبا .

2- الهند: حتى سنة 1791م كانت الأحكام وفق الشريعة الإسلامية ثم بدأ التدرج من هذا التاريخ لإلغاء الشريعة الإسلامية بتدبير الإنجليز وانتهت تماما في أواسط القرن التاسع عشر .

3- الجزائر : إلغاء الشريعة الإسلامية عقب الاحتلال الفرنسي سنة 1830 م

4- تونس : أدخل القانون الفرنسي فيها سنة 1906 م.

5– المغرب : ادخل القانون الفرنسي فيها سنة 1913م.

6- تركيا : لبست ثوب العلمانية عقب إلغاء الخلافة واستقرار الأمور تحت سيطرة مصطفى كمال أتاتورك ، وان كانت قد وجدت هناك إرهاصات ومقدمات سابقة .

7- العراق والشام : الغيت الشريعة أيام إلغاء الخلافة العثمانية وتم تثبيت أقدام الإنجليز والفرنسيين فيها .

ثانياً : من اشهر دعاة العلمانية في العالم العربي الإسلامي

كثر دعاة العلمانية في العالم الإسلامي لكن من أشهرهم

أحمد لطفي السيد ، إسماعيل مظهر ، قاسم امين ، طه حسين ، عبد العزيز فهمي ، ميشيل عفلق ، سوهارتو ، مصطفى كمال اتاتورك ،جمال عبد الناصر ، أنور السادات ( صاحب شعار لا دين في السياسة ولا سياسة في الدين ) ، د. فؤاد زكريا ، د. فرج فودة وقد اغتيل بالقاهرة ، وغيرهم (1) .

______________________________________________

1- أنظر عدد من المقالات في موقع صيد الفوائد على شبكة الانترنت

المبحث الثالث:

آثار العلمانية السيئة على العالم الإسلامي

وقد كان لتسرب العلمانية إلى المجتمعات الإسلامية أسوأ الأثر على المسلمين في دينهم ودنياهم.

وسوف أشير إلى بعض الآثار السيئة التي جنتها المجتمعات الإسلامية من تطبيق العلمانية:

1- رفض التحاكم إلى كتاب الله تعالى، وإقصاء الشريعة الإسلامية عن كافة مجالات الحياة، والاستعاضة عن ذلك بالقوانين الوضعية المقتبسة عن أنظمة الكفار، واعتبار الدعوة إلى تطبيق الشريعة الإسلامية تخلفاً ورجعية.

2- جعل التعليم خادماً لنشر الفكر العلماني

وذلك من خلا ل الطرق التالية:

أ- بث الأفكار العلمانية في ثنايا المواد الدراسية.

ب- تقليص الفترة الزمنية المتاحة للمادة الدينية إلى أقصى حد ممكن، وتكون في آخر اليوم الدراسي وقد لا تؤثر في تقديرات الطلاب.

ج- منع تدريس نصوص معينة لأنها واضحة صريحة في كشف باطلهم وتزييف ضلالاتهم.

د- تحريف النصوص الشرعية عن طريق تقديم شروح مقتضبة ومبتورة لها، بحيث تبدو وكأنها تؤيد الفكر العلماني، أو على الأقل لا تعارضه.

3-إذابة الفوارق بين حملة الرسالة الصحيحة، وهم المسلمون، وبين أهل التحريف والتبديل والإلحاد، وصهر الجميع في إطار واحد. فالمسلم والنصراني، واليهودي، والشيوعي، والمجوسي، وغيرهم يتساوون أمام القانون، لا فضل لأحد على الآخر إلا بمقدار الاستجابة لهذا الفكر العلماني.

4- نشر الإباحية والفوضى الأخلاقية، وتهديم بنيان الأسرة باعتبارها النواة الأولى في البنية الاجتماعية وذلك عن طريق:

أ- القوانين الوضعية التي تبيح الرذيلة ولا تعاقب عليها.

ب- وسائل الإعلام المختلفة التي لا تكل ولا تمل من محاربة الفضيلة ونشر الرذيلة.

ج- محاربة الحجاب وفرض السفور والاختلاط في المدارس والجامعات والمصالح والمؤسسات.

5- الدعوة إلى القومية أو الوطنية، وهى دعوة تعمل على تجميع الناس تحت جامع وهمي من الجنس، أو اللغة، أو التاريخ، أو المكان، أو المصالح، أو المعيشة المشتركة، أو وحدة الحياة الاقتصادية، على ألا يكون الدين عاملاً من عوامل الاجتماع ولمّ الصف، بل الدين من منظار هذه الدعوة يُعدُّ عاملاً من عوامل التفرق والشقاق (1).

ولا شك أَنَّ الفكرة القومية أو الوطنية وفدت إلى ديار المسلمين من الغرب، ولقد كان ظهور هذه الفكرة مصدر شر على جميع المسلمين.

6-الدعوة إلى الارتماء في أحضان الغرب وأخذ حضارته دون وعي

ولا تمييز فقد قام بهذه الفكرة كثير من دعاة التضليل للأمة الإسلامية عند ضعف المسلمين وتفرقهم، حيث زعموا أن سبيل التقدم والنهضة، هو السير خلف ركاب الغربيين، والأخذ بمنهجهم وطريقتهم في كل شيء، حتى نكون مثلهم في الحضارة الحديثة، بخيرها وشرها، وما يحمد منها وما يُعاب.

ونتيجة لتلك الدعوات المغرضة من أدعياء الفكر، ذهب كثير من أبناء المسلمين إلى الدول الأوروبية، لإكمال تعليمهم، وغالباً ما يتأثر هؤلاء الطلاب بعادات الغرب وأفكاره (2).

___________________________

1- مجلة البيان عدد 195ص 42

2- -مجلة البيان عدد 195ص42

7- الزعم بأن الشريعة الإسلامية لا تتوافق مع الحضارة الحديثة:

وهذا الزعم جاء نتيجة لاحتكاك أبناء الأمة الإسلامية بالحضارة الغربية الحديثة، فظنوا – جهلاً - أن الإسلام لا يتوافق مع الحياة العصرية، ولا ينسجم مع متطلبات الإنسان في هذا العصر بل قالوا إن الشريعة الإسلامية

هي السبب في التخلف والرجعية، وأن السبيل إلى التخلص من هذا الداء، والنهوض بالأمة إلى التقدم والحضارة هو نبذ الإسلام وتعاليمه (1).

فهذه بعض الآثار والثمار السيئة والخبيثة التي انتجتها العلمانية في البلاد الإسلامية التي تبنت العلمانية.

"والعلمانيون في العالم الإسلامي يعرفون بالاستهانة بالدين، والتهكم والاستهزاء بالمتمسكين به، كما يعرفون بإثارة الشبهات، وإشاعة الفواحش (كالسكر، والتبرج، والاختلاط المحرم) ونشر الرذائل، ومحاربة الحشمة والفضيلة، والحدود الشرعية، والاستهانة بالسنن، كما يعرفون أيضاً بحب الفساق والكفار والإعجاب بمظاهر الحياة الغربية وتقليدها.

__________________________

1 - العلمانية نشأتها وتطورها, ص 549

الخاتمة

وبعد حمد الله – تعالى - وتوفيقه لي على إتمام هذا البحث المتواضع أود أن ألخص أهم ما اشتمل عليه فيما يلي:

1- إن العلمانية اصطلاح جاهلي، لا صلة له بالعلم، وإنما سماها أعداء الإسلام بذلك إمعانا منهم في التضليل والخداع، وإلا فإن عزل الدين عن العقيدة والشريعة وجميع نواحي الحياة يعني في الإسلام الكفر، والمروق من الدين، وحكم الجاهلية وتعطيل حدود الله وشرعه.

2- إن أهم الأسباب التي أدت إلى ظهور العلمانية في أوروبا هو التحريف في أصول الدين، وتسلط رجال الكنيسة دينياً، واقتصادياً، وسياسياً، ولا يخفى ما لليهود من دور بارز في ذلك.

3- إن ظروف نشأة العلمانية في أوروبا لا تنطبق على الإسلام والمجتمعات الإسلامية، وذلك لأنه - بحمد الله - ليس في الإسلام تحريف في مصدر عقيدته، وليس فيه كهنوت، ولا واسطة بين الخالق وخلقه، وأنه لا عصمة لأحد إلا للرسل - عليهم الصلاة والسلام - فيما يبلغونه عن الله - تبارك وتعالى

4- أَنَه ليس في الإسلام صراع أو خصام بين الدين والعلم، بل إن الإسلام يدعو إلى العلم النافع المثمر، ويحث عليه، كما أن الإسلام صالح للتطبيق في كل زمان ومجتمع ومكان.

5- إن من أسباب انتقال العلمانية إلى العالم الإسلامي انحراف كثير من المسلمين عن العقيدة الصحيحة المستمدة من الكتاب والسنة وسيرة السلف الصالح، وسيطرة الاستعمار الغربي والشرقي على كثير من أقطاره عسكرياً، وثقافياً، واقتصادياً، بالإضافة إلى إعجاب كثير من المسلمين بتقدم الغرب الهائل في مضمار العلم المادي.

6- إن إبعاد الدين عن مجالات الحياة في المجتمعات الأوروبية قد حولها إلى الإفلاس والحيرة والضياع، وحياة الضنك وعدم الطمأنينة، وذلك بسبب ابتعادها عن الإيمان بالله - تعالى - وشرعه، كما أنه كان لتسرب العلمانية إلى المجتمعات الإسلامية أسوأ الأثر على المسلمين في دينهم ودنياهم، وذلك لابتعادهم عن نور الكتاب والسنة.

7- إن العلمانية تتعارض مع الإسلام تعارضاً تاماً في شتى المجالات، ولا وجه للمقارنة بينهما على الإطلاق، وذلك لأن الإسلام نظام إلهي شرعه رب الخلق الذي يعلم أحوال عباده، وما يصلح معاشهم، وما يحقق لهم الخير في دنياهم وأخراهم.

والعلمانية هى من وضع البشر وهم يخضعون للأهواء والشهوات، وتتغلب عليهم العواطف البشرية التي تحيد بهم عن الحق والصواب.

هذا، وأسأل الله - تعالى - أن يعزّ دينه ويعلي كلمته، وأن يحق الحق ويبطل الباطل، وأن يوفقنا وجميع المسلمين لما يرضيه، ويعافينا من أسباب غضبه، إنه ولي ذلك والقادر عليه.

وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين والحمد لله رب العالمين

===============

#الشخصية الإسلامية... الناجحة إداريًّا

المحاور

مقدمة

عناصر الشخصية الإسلامية

مزايا الشخصية الإسلامية

السلوك ودوره في تنمية الشخصية

الخلاصة

الشخصية الإسلامية... الناجحة إداريًّا

* تنطلق من العقيدة وتستهدف خيرَي الدنيا والآخرة.

* الطابع الإيماني يصبغ كل نشاطاتها، وهو العلامة المميزة لها.

الشخصية) في جميع عناصرها وتنوع مقوماتها: (

o هي اليد التي تَرسم على لوحة الواقع صيغةَ السلوك.

o وهي الشخص الذي تظهر صورتُه سلوكًا على مرآة الحياة.

الشخصية الإسلامية... الناجحة إداريًّا

* وتتميز الشخصية الإسلامية في هذا الصدد بسمات إنسانية معينة، تختلف كل الاختلاف عن سمات الشخصية غير الإسلامية؛

* لأنها تختلف عنها في الدوافع والمحفزات والتكوين الذاتي ونوعية السلوك ومقياس العمل والاختيار...

* فضلاً عن تقرير المواقف والغايات والأهداف؛ وهو ما ينتج عنه اختلاف في طبيعة السلوك، ونوعية المواقف والممارسات الحياتية.

لماذا ؟!!!

* تنطلق الشخصية الإدارية الإسلامية الناجحة من العقيدة .

* وتتقوم بمقومات:

+ الفكر الإيماني

+ والعاطفة الإنسانية

+ والإرادة الملتزمة

+ والمقياس الإيماني للسلوك.

* كما تفرز- دومًا- وحدة سلوكية وفكرية وعاطفية متماسكة متكاملة، ضمن إطار التنظيم الاجتماعي العام، الذي يستهدف تشييد الهيكل الحضاري وصوغ التاريخ وصنع الحياة.

الشخصية الإسلامية... الناجحة إداريًّا

الشخصية الإسلامية... الناجحة إداريًّا

إذاً ، فما سمات الشخصية الإسلامية الناجحة إداريًّا؟ وكيف يمكن للمرء أن يبني شخصيته الإدارية طبقًا للرؤية الإسلامية؟

عناصر الشخصية الإسلامية

للشخصية عناصر أساسية، ومقومات رئيسة تتقوم بها، بحيث تقرر هذه العناصر والمقومات طبيعة الشخصية، وتحدد هويتها وآثارها السلوكية والتعاملية في خارج الذات الإنسانية.

* والذي يهمنا هنا دراسة الشخصية، وتحديد معالمها الرئيسة، وتبيان مقوماتها وعناصرها الأساسية التي تصنعها، وتحدد ماهيتها وكيانها وتصبغ كل نشاطاتها ومواقفها، وللشخصية الإسلامية أساس وقواعد يُشاد عليها وجودها، وتُبتنى عليها كل مظاهر تَحقُّقِها وتَجسُّدِها، بحيث تتميز عن غيرها من الشخصيات بما يلي:

+ التكوين الذاتي.

+ بالدوافع والمحفزات.

+ بالاختيار وتقرير المواقف.

+ بنوعية السلوك ومقياس العمل، وصدق الله القائل: {صِبْغَةَ اللهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللهِ صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عَابِدُونَ}

فالشخصية الإسلامية هي الشخصية المصبوغة بصبغة خاصة، والموسومة بميسم معين؛ هو ميسم الإيمان، وصبغة الإسلام، والالتزام بحدوده.

عناصر الشخصية الإسلامية الملتزمة

* الفكر الإيماني.

* العاطفة الإنسانية.

* الإرادة الملتزمة.

* المقياس الإيماني للسلوك .

* فتلك الركائز الأساسية الأربعة القائمة على أساس الإيمان بالله والارتباط به، هي العناصر التي تتكون بها الشخصية الإسلامية، وتتميز بواسطتها عن الشخصيات الأخرى.

* وهي بدورتها تتفاعل بعضها مع بعض لتكون المخطط الهادف، والحارس اليقظ لتحديد الموقف السلوكي، حينما تتفاعل الدوافع والمحفزات والغرائز الواقفة خلف الشخصية...

* وعندها تحتك بمثيراتها ومواضع تؤججها في المحيط والبيئة الإنسانية التي تواجهها الشخصية في الخارج...

* فيكون موقع الشخصية على هذا الاعتبار موقع القائد، والمسيطر الذي يوجه حركة الذات- بكل ما فيها من نوازع واتجاهات وغرائز- الوجهة التي تختارها الشخصية، وترغب في الظهور بها في العالم الخارجي حسب طبيعتها وماهيتها.

وتتخذ الأفكار مركز التوجيه وتحديد الهوية لبقية العناصر: العاطفة، والإرادة، والمقياس السلوكي، فإن كانت طبيعة الأفكار إيمانية، تقوم على أساس الإيمان بالله، فإنها ستنسحب بصبغتها الإيمانية على عناصر الشخصية، وتحدد كل مساراتها واتجاهاتها لتنطبع هذه الصبغة الشخصية على السلوك والمواقف.

أما إن كانت عناصر الشخصية غير إسلامية تقوم على مفهوم الشرك والإلحاد، أو العلمانية والانفصالية التي تباعد بين الإيمان والحياة، فإن هذه الشخصية ستكون شخصية جاهلية تصطبغ كل عناصرها - من عاطفة، وإرادة، ومقياس سلوكي- بهذه الصبغة الجاهلية التي تميزها عن الشخصية الإسلامية بدرجة تظهر فيها آثار الشخصية واضحة، متجسدة في السلوك والتعامل.

بحيث نشاهد الفرق واضحًا متميزًا بين الشخصية الإسلامية وتلك الشخصية الجاهلية؛ سواءً في العناصر الأساسية (الفكر والعاطفة والإرادة والمقياس العملي للسلوك)، أو في المظهر الخارجي للشخصية، الذي يرسمه ويعبر عنه السلوك والتعامل الإنساني.

عناصر الشخصية الإسلامية

* الفكر: طريقة التفكير (منهج التفكير) ، العقيدة ، الثقافة.

* العاطفة.

* الإرادة الملتزمة.

* المقياس الإيماني للسلوك

1. الفكر

* يحتل الفكر موقع القاعدة والمصدر الذي تتفرع عنه وتنمو عليه كل عناصر الشخصية الأخرى؛ لذلك فإن الأفكار تشكل الهيكل الرئيس في بناء الشخصية، والمحور الأساس الذي تدور عليه وتتجه معه كل المقومات الأخرى.

* ويتميز الفكر الذي تتكون به الشخصية الإسلامية عن غيره من الأفكار المقومة للشخصيات المتعددة الأخرى بعناصره الأساسية الثلاثة:

o طريقة التفكير (منهج التفكير).

o العقيدة.

o الثقافة.

أ. طريقة التفكير

* إن طريقة التفكير هي:

المنهج والأسلوب الذي يمارس الفكر نشاطاته وجهوده وفق خطته، فإن كان المنهج أو طريقة التفكير مادية- تقوم على أساس الحس والتجربة فقط- كان التفكير ماديًّا تجريبيًّا، لا يستطيع أن يوصِّل إلى اكتشاف الإيمان، واستنتاج فلسفة للقيم الخلقية والروحية في الحياة؛ لأن تلك الحقائق ليست من الأمور التي تستطيع التجارب والمختبرات أن تكشفها أو تتوصل إليها.

أ. طريقة التفكير

* لذلك فإن المنهج الذي يحصُر نفسه بحدود التجارب المادية- في الفهم وتحصيل المعارف واعتناق العقائد - يتناقض بصورة أساسية مع المنهج الإسلامي الذي يقوم على أساس الإيمان بالتفكير العقلي المجرد، كأسلوب علمي للبحث عن الإيمان، وكمنهج رائد في طريقة المعرفة الإلهية.

* إلا أن التفكير الإسلامي- مع إيمانه بهذا المنهج واعتماده عليه- لا يغفل أهمية استخدام التجربة، ويهمل الطريقة التجريبية في تحصيل المعارف وانتزاع المفاهيم التي تُغني الفكر بالمعلومات والمقدمات الموصلة إلى الإيمان والتصديق برسالة الأنبياء.

أ. طريقة التفكير

* فالطريقة العقلية في التفكير- وحدها- تستطيع أن تدرك وجود القيم الروحية والأخلاقية؛ وهي وحدها تستطيع أن توصل الفكر إلى الإيمان بالله، وتعمل على تحرير الإنسان من سيطرة الحياة المادية، بحيث تصبح المكاسب المادية- من مال وثروة وجاه ومُتَع ولذَّات- أشياء ثانوية في الحياة، لا ترتبط بها الشخصية الإسلامية إلا بقدر ما تحتاج إليه في تدبير شئون الحياة، وِفق طريقة شريفة نظيفة موصلة إلى الغايات الروحية السامية.

أ. طريقة التفكير

ويسهم منهج التفكير في بناء الشخصية وإقامة أهم دعائمها، وبدون هذا المنهج يُصاب الفكر الإيماني ومكتسباته الفكرية بفوضى وضياع يؤديان إلى ذوبان الشخصية وازدواجها .

أ. طريقة التفكير

ب. العقيدة

* تسهم إسهامًا فاعلاً في بناء الشخصية؛ لأنها تشكل النظرة التفسيرية للحياة والوجود وللعالم الخارجي، فتُسلَك كأساس لتصور الإنسان للمواقف والسلوك والعلاقات، وكمنطق للتقويم وإصدار الأحكام على الأشياء وفهمها.

ب. العقيدة

* وليس في عالم المعتقدات عقيدة كعقيدة التوحيد- الإيمان بالله وإفراده بالعبادة وحده - من حيث سعتها وشمولها، وانطباقها على كل موقف وسلوك إنساني؛ حتى لتُسلَك هذه العقيدة (الإيمان بالله وما يتفرع عنه) كرائد يخطط للإنسان طريق السَّير، وقائد يتقدم المسيرة، ومحورٍ تدور عليه كل نشاطات الإنسان..

ب. العقيدة

* فالإنسان المسلم يُقوِّم كل أعماله وتصرفاته ومواقفه وعلاقاته على أساس:

+ الإيمان بالله، والاستجابة لأمره، وحب التقرب منه والتعبد له..

+ وعلى أساس أن عالم الدنيا هو عالم التراب الفاني، وأن الخُلد والنَّعيم والسعادة الأبدية متحقِّقة في عالم الآخرة..

+ وبهذا الطابع الإيماني تنطبع كل نشاطات الإنسان المسلم، فيكون هذا الطابع هو المميز لشخصيته، والعلامة البارزة لمجتمعه وحياته.

ب. العقيدة

* وتمثل العقيدة أساس تصور الفرد للموقف والعلاقة والسلوك والتقويم للآخرين في كل مناحي الحياة، وخاصةً الفرد الإداري في المؤسسة.

جـ. الثقافة

* تشكل الركن الثالث في بناء الجانب الفكري في الشخصية، والثقافة ليست مجموعة المعارف التي يكتسبها الإنسان ويحتفظ بها بطريقة معزولة عن الحياة، بعيدةً عن الممارسة؛ وإنما الثقافة هي المعرفة التي تؤثر في اتجاه السلوك وتوجُّه حياة الإنسان.

* والإنسان المثقَّف هو الإنسان المهذب؛ أي الإنسان الذي شذَّبت وهذَّبت المعارف -التي اكتسبها- كل سلوكه، وخلصته من الشوائب والانحرافات.

جـ. الثقافة

* لذلك يُسمَّى الإنسان الذي يحمل الأفكار والمعلومات- وهو شاذ منحرف في أفكاره وسلوكه- "إنسانًا متعلمًا"، وليس مثقفًا...

فالمثقف هو:

الإنسان الذي يحمل الفكر السليم، ويسلك على أساسه السلوك السويّ.

* وعلى هذا الاعتبار يكون الإنسان المثقف هو..

o الإنسان السوي السلوك..

o والمستقيم الاتجاه..

o وليس هو الإنسان الذي يكتنز مجموعةً من المعارف دون أن تغير سلوكه أو تؤثر في حياته؛

وبذا يكون للثقافة أثرٌ بالغ الأهمية على الشخصية، وعلى اتجاهها في الحياة.

جـ. الثقافة

* وترتبط الثقافة الإسلامية ارتباطًا وثيقًا بالعقيدة ومنهج التفكير، فالثقافة وليدة العقيدة والمنهج، ونتاج التحصيل العلمي الملتزم بهذين المحوَرَين؛ لذلك نقول هذه ثقافة إسلامية، وتلك ثقافة مادية غربية، أو مادية شيوعية، أو ثقافة يونانية... إلخ، ويأتي هذا الاختلاف في نوع الثقافة من اختلاف العقيدة والمنهج اللذَيْن يحددان طبيعة الثقافة وقيمتها العلمية في الحياة.

* والثقافة- من وجهة النظر الإسلامية- هي المعرفة التي تساعد الإنسان على فهم الحياة وكيفية العيش فيها، وبذا تكون الثقافة جوهر الشخصية الإدارية ومادة بنائها.

جـ. الثقافة

2. العاطفة

* العاطفة: هي الرابطة، أو العلاقة النفسية بين الإنسان من جهة، وبين الله ثم الناس والأشياء التي تحيط بالإنسان من جهة أخرى، فهذا الاتجاه النفسي- اتجاه الحب والكراهية- هو الذي يحدد الموقف النفسي للإنسان نحو نفسه وغيره، وهو الذي يكوِّن نوع الرابطة أو (العاطفة).

* وتتميز: العواطف الإسلامية بأنها عواطف إنسانية نبيلة، تتَّسم بالنَّقاء والسلامة من الانحراف والمَيْل العدواني، وتنبثق عن فكرة الإيمان بالله وتوحيده، فالمسلم يرتبط بعاطفة الحب مع الله والناس والعالَم من حوله، على أساس واضح، وحسب مقياس ثابت.

2. العاطفة

* فهو يحب الله، ويبني على أساس هذا الحب كل عواطفه وميوله النفسية من الحب والكراهية؛ فيحب الخير والجمال، ويحب الناس والأشياء التي يرتبط بها وتتفاعل أحاسيسه ومشاعره معها؛ ويكره الظلم، ويعطف على المظلوم، ويشارك بإحساسه الوجداني الإنسانَ المتعرض للألم؛ ويشاطر الآخرين الفرحَ والسرور..

فيتألَّم إذا رأى فقيرًا جائعًا، أو مريضًا يتضوَّر ألمًا، أو إنسانًا ألحَّت عليه المحنة، أو متسافلاً يمارس رذيلة؛ ويُسَرُّ إذا السرور يملأ قلوب الآخرين، ويفرح إذا رأى غيره يعمل الخير، ويتمتع بالنِّعم، ويمتلئ قلبه سرورًا إذا شاهد شيئًا جميلاً، ويعطف على الحيوان، ويشمله برعايته إذا تعامل معه؛ لأن في كل هذه المواقف ما يحبه الله، أوما يكرهه.

2. العاطفة

* فالمسلم الملتزم يتعامل مع كل شيء يشاهده أو يحسه بعاطفة إسلامية تقوم على أساس العلاقة بالله؛ فهو يحب ويكره لله، ويقترب من الآخرين أو يبتعد عنهم على أساس علاقتهم بالله.

* وتتميز العاطفة الإسلامية أيضًا بأنها عاطفة إنسانية نبيلة، تقوم على أساس من رشد العقل واتجاه المعتقد واستقامة الخط واتزان الانفعال..

* فالمسلم يحب في الله، ويبغض في الله؛ وهو خصب العاطفة، يقِظ الوجدان، سليم الاتجاه، متَّزن الانفعال؛ وهذا هو المطلوب في الشخصية الإدارية.

2. العاطفة

* قد أوضح القرآن الكريم طريقَ العاطفة، ورسم لها مسار التعبير عن شحناتها النفسية، فقال تعالى: { وَمِنَ النَّاسِ مَن يَتَّخِذُ مِن دُونِ اللهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا للهِ وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ للهِ جَمِيعًا وَأَنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ} كما قال تعالى: { وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِّنَ الأمْرِ لَعَنِتُّمْ وَلَكِنَّ اللهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الإيمانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُولَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ}

2. العاطفة

* فهاتان الآيتان الكريمتان رسمتا طريق العاطفة الإسلامية، وأكدتا للمسلم أن حبه حب لله؛ وهو حب صادق شديد الإخلاص، يدله على حب الخير واستحسانه، وكراهية الشر والفساد وأهله، كما أن هذا الحب والكره لا يقوم على أساس ميل انفعالي تافه، ولا يصد عن شطط نفسي عائم، بل يتحدد وفق خط واضح، ويلتزم بمقياس دقيق.

2. العاطفة

* المسلم يحب كل ما أحبه الله، ويبغض كل ما أبغضه الله، من غير أن يخضع هذا الحب والكره لانفعالاته النفسية، أو لاندفاعاته التي لا تستطيع التمييز بين الخير والشر في حالات طغيان الأنانية، أو سيطرة الرضا والغضب، أو رجحان الربح والخسارة الذاتية الضيقة، أو الحسابات الآنية العاجلة.

* لذا فإن القرآن ربط عواطف الإنسان المسلم بمسار عقائدي وبقيادة عقلية واعية؛ ليسيرَ بعواطفه على خطِّ العقيدة الواضح، ويسقيها وينمِّيها بحرارة الإيمان وحبًّا لله، فتغدو حيةً واعيةً متدفقة.

2. العاطفة

3. الإرادة الملتزمة

* ويقصد بها:

+ الإرادة القوية القادرة على الاختيار..

+ والمتمكنة من القبول والرفض..

+ وِفْق مقاييس وأحكام واضحة نيرة.

3. الإرادة الملتزمة

* وبالإرادة:

o يسيطر المسلم الإداري الملتزم على كل أطراف شخصيته.

o ويقودها وفق منهج حياتي ملتزم.

o يستطيع أن يمتنع عن فعل الحرام.

o يستطيع أن يصبر على المحن ويتحمل الشدائد وعظائم الأمور.

o يستطيع أن يتحمَّل مسئوليته في الحياة.

o ويؤدي واجبه مهما يكن شاقًّا وثقيلاً.

3. الإرادة الملتزمة

* أما الشخصية الفاقدة للإرادة...

+ فشخصية هُلامية...

+ مائعة...

+ قلقة...

+ متأرجحة؛

لأنها لا تمتلك قوة الإرادة ، و لا وحدة الهدف.

4. المقياس الإيماني للسلوك

* فالشخصية الإسلامية تمتلك مقياسًا واضحًا للسلوك هو مرضاة الله سبحانه، وفي ذلك رُوي أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قال: "إذا هممت بأمر فتدبر عاقبتَه، فإن يَكُ راشدًا فامضه، وإن يَكُ غيًّا فانْتَهِ".

4. المقياس الإيماني للسلوك

* فالمسلم الملتزم لا يسلك سلوكًا عشوائيًّا غير موزون، بل يضع كل فعل وموقف في ميزان الأعمال قبل أن يُقدم عليه، فإن وجد عملاً متطابقًا مع مرضاة الله، متَّسقًا مع منهج الحق والخير... أجاز لنفسه الإقدام عليه، والشروع في تنفيذه..

4. المقياس الإيماني للسلوك

* أمَّا إن وجده شاذًّا متعارضًا مع هذه المقاييس، بعيدًا عن رضا الله، غير متطابق مع مبادئ الخير، فإنه يعمد إلى إلغائه، ويعلن رفضه والانسحاب منه.

وهذا المقياس الإيماني الدقيق هو مقياس يستهدف حب الخير من أجل أنه خير، وصنع المعروف حبًّا في المعروف؛ تقربًا من الله، وبحثًا عن رضاه بعيدًا عن الأنانية والنفعية والمادية.

مزايا الشخصية الإسلامية الناجحة إداريًّا

مزايا الشخصية الإسلامية الناجحة إداريًّا

* الاتجاه العقلي.

* الإيجابية.

* الالتزام.

* التوجه المستمر نحو الكمال.

* الاتزان.

* الإحساس الإنساني (يقظة الضمير والحس الوجداني).

* النزعة القيادية.

1. الاتجاه العقلي

* تتميز الشخصية الإسلامية الإدارية بأنها شخصية عقلية؛ أي يسيطر العقل فيها على كل تصرفات الفرد وبواعثه ودوافعه وعواطفه وغرائزه وطريقة تفكيره... فللعقل مقام القيادة والتوجيه في الشخصية الإسلامية؛ إذ يظهر أثره واضحًا في مجال السلوك والعلوم والمعارف... إلخ.

1. الاتجاه العقلي

* فسلوك المسلم لا يخضع للاندفاع الغريزي التائه، ولا للميل الأناني والهوى الشخصي الذي تضيع فيه قيم الحق والعدل، وتتلاشى أمامه قواعد الأخلاق... بل يدور السلوك عنده- في امتداد أبعاده، واختلاف مظاهره- حول مركز العقل، ويتحرك على ضوء إشارته وهدي صوته.

* وقد ورد في الحديث:"لما خلق الله العقل استنطقه، ثم قال له: أقبل، فأقبل، ثم قال له: أدبر، فأدبر، ثم قال: وعزتي وجلالي، ما خلقت خلقًا هو أحب إليَّ منك، ولا أكملته إلا فيمن أحب، أما إني إياك آمر، وإياك أنهى وإياك أعاقب، وإياك أثيب".

* وكما يظهر دور العقل واضحًا: في مجال السلوك والمواقف الإنسانية، يتجلى دوره كذلك واضحًا في مجال العلوم والمعارف، ومناهج البحث والتحصيل العلمي في حياة المسلمين؛ فنظرة المسلم إلى الأشياء، وفهمه وتفسيره لها، ليس فهمًا ماديًّا صرفًا، ولا تفسيرًا حسيًّا متحجرًا، بل يجري هذا الفكر والتفسير بطريقة واعية، تتجاوز حدود الحس والتجربة، وتوسع آفاق المعرفة والثقافة.

1. الاتجاه العقلي

2. الإيجابية

* المسلم الإداري الملتزم إنسان إيجابي يعيش:

+ في حركة فكرية ونفسية وجسدية بنَّاءة

+ بعيدًا عن السلوك التخريبي الهدام

+ رافضًا التحجر والجمود

+ ولا يرضى بالسلوك الانهزامي الذي يتهرب من نشاطات الحياة أو يبتعد عن مواجهة الصعاب.

2. الإيجابية

* لأن الإسلام يبني في المسلم الروح الإيجابية التي تؤهله للعطاء, وتنمي فيه القدرة على الإنتاج والإبداع :

بما يفتح له من آفاق التفكير والممارسة، وبما يزوده به من بناء ذاتي، ودافع حركي، ليعده إعدادًا إنسانيًّا ناضجًا لممارسة الحياة بالطريقة التي يرسمها، ويخطط أبعادها الإسلام؛ لأن الحياة في نظر الإسلام عمل وبناء وعطاء وتنافس في الخيرات.

قال تعالى: { وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ}

* فقد دأب الإسلام على جعل الحياة كلها مجالاً مباحًا للإنسان يمارس فيها نشاطه، ويستثمر فيها طاقته وجهوده، عدا ما حرم عليه من أشياء ضارة، أو ممارسات هدامة.

* فالمسلم أينما توجه يجد المجال الرحب، والمتسع الذي يستوعب كل جهوده وطاقاته ونشاطه، دون أن يجد الزواجر السلبية، أو يواجه النواهي التي تقتل قابليته وطاقاته، أو تشل وعيه وإرادته، وبذا يبقى طاقة حية، وقوة بناءة، تسهم في تجسيد مضامين الخير، وتشارك في العطاء والعمل.

2. الإيجابية

* وصدق أمير المؤمنين "علي بن أبي طالب"- كرم الله وجهه- وهو يصف هذه الشخصية بقوله: "فمن علامة أحدهم: أنك ترى له قوة في دين، وحزمًا في لين، وإيمانًا في يقين، وحرصًا في علم، وعلمًا في حلم، وقصدًا في غنى، وخشوعًا في عبادة، وتجملاً في فاقة، وصبرًا في شدة، وطلبًا في حلال، ونشاطًا في هدى، وتحرجًا عن طمع، يعمل الأعمال الصالحة وهو على وجل، يمسي وهمه الشكر، ويصبح وهمه الذكر، يبيت حذرًا ويصبح فرحًا؛ حذرًا لما حذر من الغفلة، فرحًا بما أصاب من الفضل والرحمة، إن استصعبت عليه نفسه فيما تكره لم يعطها سؤلها فيما تحب، قرة عينه فيما لا يزول، وزهادته فيما لا يبقى، يمزج الحلم بالعلم، والقول بالعمل، تراه قريبًا أمله، قليلاً زلله، خاشعًا قلبه، قانعة نفسه، منزورًا أكله، سهلاً أمره، حريزًا دينه، ميتة شهوته، مكظومًا غيظه،

2. الإيجابية

2. الإيجابية

الخير منه مأمول، والشر منه مأمون، إن كان في الغافلين، كتب في الذاكرين، وإن كان في الذاكرين لم يكتب من الغافلين، يعفو عمن ظلمه، ويعطي من حرمه، ويصل من قطعه، بعيدًا فحشه، لينًا قوله، غائبًا منكره، حاضرًا معروفه، مقبلاً خيره، مدبرًا شره، في الزلازل وقور، وفي المكاره صبور، وفي الرخاء شكور، لا يحيف على من يبغض، ولا يأثم فيمن يحب حب الألقاب، ولا يضار بالجار، ولا يشمت بالمصائب ولا يدخل في الباطل، ولا يخرج من الحق، إن صمت لم يغمه صمته، وإن ضحك لم يعل صوته، وإن بُغي عليه صبر، حتى يكون الله هو الذي ينتقم له، نفسه منه في عناء، والناس منه في راحة، أتعب نفسه لآخرته، وأراح الناس من نفسه، بُعْده عمن تباعد عنه زهد ونزاهة، ودونه ممن دنا منه لين ورحمة، ليس تباعد بكبر وعظمة، ولا دنوه بمكر وخديعة" (نهج البلاغة)

3. الالتزام

* يبني الإسلام شخصية المسلم على أساس وحدة فكرية وسلوكية وعاطفية متماسكة، بحيث تقوم هذه الشخصية على أساس من التنسيق والتوافق الفكري والعاطفي والسلوكي الملتزم، الذي لا يعرف التناقض ولا الشذوذ؛ لينسحب هذا الالتزام على كل مواقف الإنسان وأنماط سلوكه ونشاطه، الفردي والاجتماعي، فالأديب المسلم والمفكر والفنان والمثقف والعالم... إلخ

كل واحد منهم يخضع ممارسته ونشاطاته لقواعد الإسلام وقِيَمِه، ويسهم في بناء الحضارة الإسلامية بتوافق وانسجام تام مع الخط الحضاري الإيماني العام، تمامًا كما يفعل رجل المال والاقتصاد، والعامل المنتج، والسياسي القائد... إلخ.

3. الالتزام

* فكل واحد من هؤلاء يخضع سلوكه لمقاييس وقيم وموازين ثابتة لديه، بحيث تأتي كلها وفق الخط الإسلامي الواضح، تمامًا كما ينسحب هذا الالتزام على الممارسة اليومية في العبادات والأخلاق والعلاقات الفردية المتعددة... إلخ.

3. الالتزام

* وهكذا، فإن الشخصية الإسلامية الإدارية الملتزمة تفرز دومًا وحدة سلوكية وفكرية وعاطفية متماسكة متكاملة، دونما ثغرة أو تناقض أو انحراف، بحيث تنكشف هذه الجهود الفردية ضمن إطار التنظيم الاجتماعي العام لتشييد الهيكل الحضاري وصنع صيغة التاريخ وصور الحياة، فالكل يعمل ويؤدي دوره ضمن خارطة بناء اجتماعي وعقائدي متكاملة متناسقة، كما تنسق عاملات النحل جهودها لبناء خليتها وفق شكل هندسي متكامل.

4. التوجه المستمر نحو الكمال

* للشخصية الإسلامية مثل أعلى، وقيم عليا رائدة في الحياة، تتمثل في تصور الإنسان المسلم لقيم الخير والكمال البشري الذي تحقق مجسدًا في القوة الفذة الرسول- صلى الله عليه وسلم- وصحابته الكرام.

قال تعالى: { لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَنْ كَانَ يَرْجُو اللهَ وَالْيَوْمَ الآَخِرَ وَذَكَرَ اللهَ كَثِيرًا }

4. التوجه المستمر نحو الكمال

* فالشخصية الإسلامية:

* تنزع دومًا إلى الوصول إلى هذا المثل الإنساني الأعلى.

* وتبرمج مسيرتها، وتصحح مواقفها على ضوء هذا المقياس.

* وهي تجد قبل هذا المثل الإنساني الحي، فكرة الكمال الإلهي المتسامي.

* وتعرف صفات الخالق العظيم، المتصف بالخير والكمال المطلق، من العدل والرحمة والصدق والكرم والحلم والعلم والشفقة والسلام.

4. التوجه المستمر نحو الكمال

* فتكون تلك الصفات محبوبة لدى المسلم؛ لأنها صفات معبوده، فهو دومًا يتجه نحوها، وينزع إلى الاتصاف بما يلائم إنسانيته من معانيها؛ أملاً في تحقيق مرضاة الله، وسعيًا وراء الكمال الذي يوصله إلى النعيم والفردوس.

5. الاتزان

* من مميزات الشخصية الإسلامية أنها شخصية متزنة لا يطغى عليها التفكير المادي، ولا الانحراف الفكري المتأتي من سيولة العقل، وامتداده اللامعقول، كما لا يطغى جانب من الميول والنوازع على بقية قوى الإنسان ودوافعه.

* فالمسلم يطلب الدنيا ويسعى للآخرة، ويستمتع بلذات الحياة ويستعد لعالم الجزاء، ويعمل ويفكر وينتج، بحيث يملأ كل جوانب الحياة عطاءً ونشاطًا.

5. الاتزان

* هو حينما يمارس ذلك ضمن مفهوم روحي، وتفكير إيجابي، لا يفصل بين الدنيا والآخرة، بل يوحد بينهما، ويربط بين أبعادهما، كما يربط بين السبب ونتيجته, مستلهمًا تلك الروح من وحي القرآن وتوجيهه: {وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللهُ الدَّارَ الآَخِرَةَ وَلاَ تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللهُ إِلَيْكَ وَلاَ تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الأَرْضِ إِنَّ اللهَ لاَ يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ}

* فهو دومًا شخصية متزنة، يشبع كل جانب، ويعطي كل شيء حقه، لا يفرط في شيء ولا يتعدى الحد المعقول في استعمال أي شيء.

* إذا أحب أحد كان معتدلاً، وإذا أبغض أو غضب أو عاقب كان معتدلاً، وإذا أكل أو شرب أو أنفق كان معتدلاً. قال تعالى: {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِّلصَّابِرينَ} وقال سبحانه: {وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا} وقال تعالى: {يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلاَ تُسْرِفُوا إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ} .

5. الاتزان

* فالمسلم الإداري حينما يأكل ويشرب ويتزوج، ويحب ويكره، ويغضب ويعاقب، ويتكلم ويتعب وينام، وينفق ويتعبد ويزهد، ويستمتع بالملذات، ويتعامل مع الآخرين... إلخ؛ إنما يمارس هذه الأفعال جميعًا وفق منطق الاعتدال والاتزان الذي يسيطر على نظام الحياة، ويتحكم في مسيرة الوجود من غير إسراف ولا إفراط أو تفريط..

* انطلاقًا من الإيمان بأن الاعتدال هو منطق الوجود؛ وهو قانون الحياة التي انتظمت أبعادها ومسيرتها على أساسه، وأن الخروج على هذا القانون الكوني العام يعرض الشخصية للاهتزاز والاضطراب، ويقود وجود الإنسان بكامل أبعاده الجسمية والروحية والنفسية إلى الانهيار والشذوذ.

5. الاتزان

6. الإحساس الذاتي: يقظة الضمير والحس الوجداني

* تمتاز الشخصية الإسلامية بأنها شخصية تتمتع بحس إنساني يقظ، وضمير متفتح، يميل دومًا إلى التعاطف والرحمة، وينفر من القسوة والشدة.

6. الإحساس الذاتي: يقظة الضمير والحس الوجداني

* فالمسلم الملتزم شديد الإحساس والمشاركة الوجدانية، رقيق القلب، متفتح العاطفة؛ لذلك فهو سريع التفاعل والتعاون في مجالات البر والإحسان إلى الآخرين... يخف إلى إنقاذهم في شدائدهم، ويهب إلى مواساتهم في محنهم، ويشاطرهم في أفراحهم، لا يقسوا ولا يجفوا، مستوحيًا هذه الروح من مواقف القرآن الكريم، رافضًا أن يكون من أولئك القساة الجفاة الذين لا يُؤلفون، ولا يألفون أحدًا، ولا ترق قلوبهم، ولا يحسون بإحساس الآخرين، ولا يشاركونهم في أفراحهم، ولا يشاطرونهم أحزانهم... أولئك الذين ماتت العواطف الإنسانية النبيلة في نفوسهم، وأجدبت من معاني الخير حياتهم.قال تعالى: {ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُم مِّن بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً }

* ويأتي اهتمام الإسلام بتربية الضمير، وتنمية الحس الوجداني نتيجة لإيمانه بأن الضمير الحي والحس الوجداني المرهف هو الطريق إلى التفاعل والترابط البشري السليم، وهو القاعدة النفسية التي تشاد عليها أسس العلاقات والروابط الإنسانية.

* وقد حثت الأحاديث والروايات المتعددة على ذلك، وحببته وزينته بقدر ما كرهت القسوة، ولعل من أبرز مظاهر يقظة الضمير، مظهر الإحساس بالذنب والشعور بالخطيئة، ومحاسبة النفس عليها؛ تمهيدًا لرفضها والإنابة منها، والتوبة من العودة إليها.

* كما تتجلى هذه الظاهرة بأسمى صورها في شخصية المسلم، عندما تعيش بوعيه وإحساسه كأرقى ما تكون صور الحس واليقظة الوجدانية.

6. الإحساس الذاتي: يقظة الضمير والحس الوجداني

7. النزعة القيادية

* يشعر المسلم صاحب الشخصية دومًا بأن على عاتقه مسئولية رسالة كبرى، ودرور تاريخي مهم يجب عليه أن ينهض به ويؤديه.

* وهذا الدور هو: إصلاح البشرية وهدايتها وقيادتها نحو شاطئ العدل والسلام.

* فهو يؤمن دومًا: بأنه داعية خير، ورائد إصلاح، ومتمم لمسيرة الأنبياء في تبليغ رسالة الإيمان وإنقاذ البشرية.

7. النزعة القيادية

* لذا فهو:

+ لا يقنع من نفسه بإصلاح نفسه فقط..

+ ولا يقر اللجوء إلى الانكماش والعزلة والابتعاد عن أوضاع مجتمعه وعالمه..

+ ولا يرضى بأن يكون مقودًا بغير قيادة الإيمان..

+ ولا يعترف بتسليم قيادة البشرية لأيد لا تعرف معنى الإصلاح، ولا تفكير الخير، ولا يعنيها في أي هاوية سقطت البشرية.

7. النزعة القيادية

* وهذا النزوع القيادي يربيه القرآن الكريم في نفس المسلم، ويحثه عليه، كما في قوله تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا} ، وقال تعالى: { وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا} .

* فالقرآن هنا، وفي الآية الأولى، خاطب المسلمين ونبيهم بأنهم الشهداء على الناس يوم القيامة؛ لأنهم هم الدعاة، وهم المبلغون لرسالة الإيمان، وهم القادة إلى الخير.

* وفي الآية الثانية، يسوق أهداف الإنسان المؤمن القيادية لصيغة الدعاء فيقول: {وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا}؛ أي اجعلنا قادة للإيمان والتقوى والخير والصلاح.

السلوك ودوره في تنمية الشخصية الإسلامية

السلوك ودوره في تنمية الشخصية

* يعتبر السلوك المظهر المجسد لمحتوى الشخصية، واللسان المعبر عن هويتها وحقيقتها، والسلوك ليس عنصرًا من عناصر الشخصية، بل هو الوجه الخارجي للشخصية والانعكاس الطبيعي والظل العملي لها.

السلوك ودوره في تنمية الشخصية

* وتتميز الشخصية الإسلامية بسمات سلوكية إنسانية معينة تختلف كل الاختلاف عن سلوكية الشخصية غير الإسلامية؛ لأنها تختلف عنها في الدوافع والمحفزات والغايات والأهداف..

* فينتج عن هذا الاختلاف، اختلاف في طبيعة السلوك، ونوعية المواقف والممارسات؛ لذا فإننا نشاهد التباين واضحًا بين سلوك المسلم الملتزم، وغيره من الشخصيات الأخرى في موقفه من قضية معينة أو تقويمه لها.

السلوك ودوره في تنمية الشخصية

* فالعامل المسلم، أو رجل الأعمال المسلم الملتزم، أو الإداري المسلم مثلاً، حينما يُمارس عمله فإنه يخلص فيه، وينميه على أكمل وجه، من حيث الدقة والاتقان، وهو يفعل ذلك؛ لأنه يؤمن بأن الإخلاص في العمل واجب مقدس، ووجوبه متأتٍّ من كونه خيرًا يُحبه الله سبحانه فهو يحققه حبًا بالخير، وبحثًا عن رضا الله سبحانه وتعالى، وأداءً لواجبه أمام خالقه.

* بعكس الشخصية غير الإسلامية، فإن صاحبها لا يهمه الإخلاص في العمل كقضية أخلاقية واجبة بذاتها، بل هو يُحافظ عليها إذا دعت الضرورة؛ من أجل التفوُّق والمنافسة وجلْب العملاء، أو تحقيق ربح مادِّيٍّ أكبر، ولولا الخطر على بضاعته وإنتاجه لما ألزم نفسه بالإتقان والإخلاص.

* والسياسي المسلم حينما يقِفُ أمام قضية سياسية ويجد نفسه قادرًا على كسب الموقف فيها عن طريق الغدر أو الخديعة، وتوريط الآخرين فإنه لا يقدم على ذلك برغم هذه القدرة وبرغم قدرته على تحقيق ما كان يصبو إليه، بل يترفَّع ويتورَّع، بعكس السياسي الآخر، فإنَّه يعتبر هذا الأسلوب حنكةً، ودهاءً، وعبقريةً سياسيةً، وفرصةً سانحةً لتحقيق أهدافه.

* والواقع أن الشخصية في جميع عناصرها، وتعدد مقوماتها هي:

* اليد التي ترسم على لوحة الواقع صيغة السلوك.

* وهي الشخص الذي تظهر صورته سلوكًا على مرآة الحياة.

السلوك ودوره في تنمية الشخصية

وهكذا نفهم أن السلوك هو:

صياغة التشكيل الخارجي لمحتوى الشخصية ومضمونها الباطن... قال تعالى: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ} .

السلوك ودوره في تنمية الشخصية

الخلاصة

إن بناءُ الشخصية- طبقًا للشخصية الإسلامية- يتطلب منك أن تكون صاحب فكر، أي:

* صاحب فكر مستنير وقوي.

* تمتلك عقيدة قوية.

* تحمل فكرًا سليمًا، وتسلك على أساسه سلوكًا سويًا.

* صاحب عاطفة إنسانية نبيلة نقيَّة من أي انحراف ومتزنة.

* مالِكًا لإرادةٍ قوية تسير وِفْقًا لمنهج ملتزم؛ حيث الصبر وتحمل الشدائد.

* لديكَ مقياس (ترمومتر) تقيس به درجة سلوكياتك.

وعندها ستكون صاحب شخصية: ذات عقلية واضحة.. إيجابية.. ملتزمة.. سائرة باستمرار نحو الأفضل.. متَّزنة.. قيادية.

وإن لم تفعل ذلك وجدت نفسك صاحب شخصية: ضعيفة.. شاعرة بالنقص باستمرار.. خائفة.. فاقدة للاتزان.. لا تنسجم مع البيئة المحيطة.. ومزدوجة الشخصية؛ نتيجة الجهل وعدم وضوح الأفكار لديها.

لماذا عليك أن تبدأ في الاهتمام بشخصيتك لتنميها؟!!!

* لأسباب كثيرة: منها الواقع العالمي المعاصر؛ حيث تجد الفرد الخالي من الشخصية القوية الأصيلة غريبًا معزولاً عن نفسه وعن الآخرين. ويفقد بسبب ذلك الكثير، بدءًا من نفسه وحتى المحيطين به من مرؤسيه وزملائه ومديريه.

أخيرًا

* والواقع أن خلاص أي إنسان مما هو فيه من مشكلات، وأزمات لا يكون إلا:

* بالنمو الروحي والعقلي.

* وتحسين ذاته وإدارتها على نحو أفضل.

وأفضل شيء يتم من خلاله ما سبق هو تربية وتنمية الشخصية طبقًا للشخصية الإسلامية.

أخيرًا

لماذا عليك أن تبدأ في الاهتمام بشخصيتك لتنميها؟!!!

* إن تنمية الشخصية لا تحتاج إلى مال ولا إمكانات ولا فكر معقد، وإنما تكمن الحاجة في الإرادة الصلبة والعزيمة القوية.

* ولقد تعلمنا من تجارب السابقين- أممًا وشعوبًا وأفرادًا- أن أفضل وسيلة لمواجهة الخارج وضغوطه الصعبة هي تدعيم الداخل وإصلاح الذات واكتساب عادات جديدة ثم يأتي بعد ذلك النصر والتمكين.

أخيرًا

لماذا عليك أن تبدأ في الاهتمام بشخصيتك لتنميها؟!!!

* هدفك الأسمى: أي الهدف الأعلى الذي يسمو فوق المصالح المادية والغايات الدنيوية، فلا تغرق في التفاصيل وتعقيداتها فيجعل هذا إحساسنا وشعورنا للهدف ضعيفًا، فلا تصل إلى المستوى المطلوب لتنمية الذات.

* الاقتناع بضرورة التغيير: الوضع الحالي حتى وهو جيد أو مقبول لابد فيه من التفوق على الذات والتغلب على الصعاب وتحسين الجيد إلى ممتاز، وسوف تجد التحسين أمامك فتمسك به مهما كانت ظروفك.

لا تنس

* الشعور بالمسئولية: إذا ما استشعرت حجم المسئولية الملقاة على عاتقك والأمانة التي في جيدك، فسوف تبادر لأدائها؛ لأن الله عز وجل سيسألك عنها، فإذا ما كنت (قزمًا) في مواجهة المسئولية فسوف يتبلد إحساسك، وتكون مثل كل الباقين، فإذا كنت تريد ذلك فأنت وشأنك!.. وإن كنت تريد الشخصية الإدارية الحقيقية فانهض وانفض عنك غبار الكسل.

لا تنس

أن تكن صاحب إرادة صلبة وعزيمة قوية: هذا شرط أساسي لتنمية الشخصية الإدارية الصلبة والعزيمة القوية.. ألم تر مسابقات المعاقين؟ وكيف ينجحون بإصرار في تحقيق ذاتهم؟ ألم تشاهد البطل المصري المعاق، وهو يعبر (المانش) من إنجلترا إلى فرنسا في ظروف صعبة؟ ألا ترى الرياضي وهو يواصل التدريب باستمرار للوصول إلى المستوى الذي يأمله؟ بماذا يحققون رؤياهم وأحلامهم؟ بالإرادة الصلبة والعزيمة القوية...

فالاختيار عندك:

# إما الخنوع والسلبية والاتباع للغير

لا تنس

* تمحور حول مبدأ... فالمبادئ هي فقط الباقية، والذي يخسر مبادئه يخسر ذاته، ومن يخسر ذاته لا يصح أن يُقال إنه كسب بعد ذلك شيئًا.

* حافظ على الشمول والتكامل في بناء شخصيتك، فلا تأخذ شيئًا وتترك آخر، ولا تنجذب نحو محور من المحاور وتترك الباقي.

* التزم في بداية تنمية شخصيتك بالخصال الطيبة، وروِّض نفسك على الالتزام بها خطوةً خطوةً.

* إذا ما كانت طبيعة عملك تستلزم تعاملاً مع الناس فاصبر عليهم، وتحمَّل الأذى حتى تعتاد الصبر وتتحلَّى به.

والآن

* انتهز الفرصة واستثمرها طالما أنها هي الأحسن، فأنت لا تدري ما الذي سوف يحدث غدًا، وباشر ما هو ممكن الآن، ولا تنشغل بالأبواب التي أُغلقت.

* ابدأ مع الآخرين من عندك، فالكل يطلب من الآخرين أن يقدروا ظروفه وأوضاعه، وأن يشعروا بشعوره، وقليل من الناس مَن يطلب هذا الطلب من نفسه- أي يقدر ظروف الآخرين ويشعر بشعورهم- فكن أنت من القلة التي تسعى نحو الناس، وليكن شعارك:

"البداية عندي"

والآن

* انتهِز الفُرَص لإبداء التقدير والمجاملات لمن حولك، والعون في وقت الأزمات، واصفح عن زلات من أخطأ منهم تجاهك، فهذا له تأثير عميق في النفس البشرية سينعكس عليك منهم...

وسيفيدك كثيرًا.

والآن

* اختر زميلاً لك لتستند إليه في الملمَّات، وليعينك وقت الشدة ولتبُحْ له بما في نفسك، فالإنسان يحتاج في حياته دائمًا إلى صديق يكون له زينةً في الرخاء، وعصمةً له من البلاء، فلقاء هذا الزميل يُزيل عنك الأحزان، وتذكر دائمًا...

أن المرء قليل بنفسه كثير بمن حوله، والغريب هو الذي ليس له حبيب.

والآن

* أهِّل نفسَك لأن تعمل ضمن فريق، فنحن نعيش في عالم المجموعات لإنجاز الأعمال، فالعمل أصبح معقدًا، ولابد من ارتفاع مستوى الأداء والإنتاج في العمل، ولن يتم هذا العمل إلا...

بالعمل الجماعي .

والآن

وحتى إن كنت تجيد فن العمل الفردي فلابد من

* حسن الاستماع والإصغاء لوجهة نظر الآخرين.

* فهم طبيعة العمل ودورك فيه.

* فهم الخلفية النفسية والثقافية لأفراد المجموعة التي تتعاون معها.

* احرص على استشارة أفراد المجموعة في كل جزئية في العمل المشترك التي تحتاج إلى قرار.

* الاعتراف بالخطأ ومحاولة التعلم منه.

وحتى إن كنت تجيد فن العمل الفردي فلابد من

* عدم الإقدام على أي تصرف يجعل زملاءَك يُسيئون فهمه.

* عدم إفشاء أسرار العمل أو التحدث عن أشياء ليست من اختصاصك.

* المبادرة لتصحيح أي خطأ يصدر من أي فرد من أفراد المجموعة وِفْق آداب النصيحة.

* تحمَّل ما يحدث من تجاوزات وإساءات من الأفراد.

* اسع لمرضاة الله عز وجل دائمًا.

* استحضر النية الصالحة في عملك.

* النجاح لابد أن يكون داخل نفسك أولاً.

* ليكن لك دائمًا أهداف مرحلية قصيرة.

* أخضِع دوافعك لمبادئك.

* دافع عن الغائبين.

* طوِّر مهارةً لك كلَّ عام.

================

#اللغة العربية التحديات والمواجهة

للأستاذ/ سالم مبارك الفلق

بسم الله الرحمن الرحيم

اللغة العربية : التحديات والمواجهة

الحمد لله الذي رفع هذه اللغة و أعلى شأنها , حيث أنزل بها خير كتبه و أفضلها , والصلاة و السلام على أفصل الأنبياء و خاتم المرسلين , نبينا محمد و على آله و صحبه أجمعين و من تبعهم بإحسان إلى يوم الدين

أما بعد :ــ

إن لغتنا العربية هي ركن ثابت من أركان شخصيتنا , فيحق لنا أن نفتخر بها , و نعتز بها و يجب علينا أن نذود عنها و نوليها عناية فائقة . و يتمثل واجبنا نحوها في المحافظة على سلامتها و تخليصها مما قد يشوبها من اللحن و العجمة و علينا أن لا ننظر إليها بوصفها مجموعة من الأصوات و جملة من الألفاظ والتراكيب بل يتعين عينا أن نعتبرها كائناً حياً , فنؤمن بقوتها و غزارتها و مرونتها وقدرتها على مسايرة التقدم في شتى المجالات كما تعد مقوماً من أهم مقومات حياتنا وكياننا، وهي الحاملة لثقافتنا ورسالتنا والرابط الموحد بيننا والمكون لبنية تفكيرنا، والصلة بين أجيالنا، والصلة كذلك بيننا وبين كثير من الأمم .

إن اللغة من أفضل السبل لمعرفة شخصية أمتنا وخصائصها، وهي الأداة التي سجلت منذ أبعد العهود أفكارنا وأحاسيسنا. وهي البيئة الفكرية التي نعيش فيها، وحلقة الوصل التي تربط الماضي بالحاضر بالمستقبل. إنها تمثل خصائص الأمة واستطاعت أن تكون لغة حضارة إنسانية واسعة اشتركت فيها أمم شتى كان العرب نواتها الأساسية والموجهين لسفينتها .

ما اللغة :-

لقد اختلف العلماء في تعريف اللغة و مفهومها , وليس هناك اتفاق شامل على مفهوم محدد للغة و يرجع سبب كثرة التعريفات و تعددها إلى ارتباط اللغة بكثير من العلوم , فانتقاء تعريف لها ليس بالعملية اليسيرة منها على سبيل المثال لا الحصر :ــ

1. يعرفها ابن جني 1 بقوله : (( أما حدها فإنها أصوات يعبر بها كل قوم عن أغراضهم )) .

2. اللغة نظام من الرموز الصوتية الاعتباطية يتم بواسطتها التعارف بين أفراد المجتمع ، تخضع هذه الأصوات للوصف من حيث المخارج أ والحركات التي يقوم بها جهاز النطق ومن حيث الصفات والظواهر الصوتية المصاحبة لهذه الظواهر النطقية2 .

3. ظاهرة اجتماعية تستخدم لتحقيق التفاهم بين الناس 3.

4. صورة من صور التخاطب سواء كان لفظياً أو غير لفظي .

5. اللغة كما يقول ( أوتو يسبرسن ) : نشاط إنساني يتمثل من جانب في مجهود عضلي يقوم به فرد من الأفراد ، ومن جانب آخر عملية ادراكية ينفعل بها فرد أو أفراد آخرون .

6. اللغة نظام الأصوات المنطوقة .

7. اللغة معنى موضوع في صوت أو نظام من الرموز الصوتية 4.

8. ادوارد سابيير : اللغة وسيلة إنسانية خالصة , وغير غريزية إطلاقا , لتوصيل الأفكار والأفعال والرغبات عن طريق نظام من الرموز التي تصدر بطريقة إرادية 5 .

9. انطوان ماييه : إن كلمة ( اللغة ) تعني كل جهاز كامل من وسائل التفاهم بالنطق المستعملة في مجموعة بعينها من بني الإنسان بصرف النظر عن الكثرة العددية لهذه المجموعة البشرية أو قيمتها من الناحية الحضارية .

10 . اللغة نشاط مكتسب تتم بواسطته تبادل الأفكار والعواطف بين شخصين أو بين أفراد جماعة معينة , وهذا النشاط عبارة عن أصوات تستخدم وتستعمل وفق نظم معينة .

واللغة نعمة من الله عزّ وجل للإنسان مثله مثل كل الحيوانات التي تمتلك نظاما من الرموز والإشارات للتفاهم فيما بينها . فيقال : لغة الحيوان ، ولغة الطير ، ولغة النبات ، قال تعالى :( ( وعلمنا منطق الطير )) النمل / 16. .. ولكن لغة الإنسان تتميز بأنها ذات نظام مفتوح بينما الحيوانات الأخرى نظامها التعارفي نظام مغلق .

وظائف اللغة :- 6

يتفق أغلبية علماء اللغة المحدثين على أن وظيفة اللغة هي التعبير أو التواصل أو التفاهم رغم أن بعضهم يرفضون تقييد وظيفة اللغة بالتعبير او التواصل ؛ فالتواصل إحدى وظائفها إلا انه ليس الوظيفة الرئيسة .

(( وقد حاول " هاليداي " halliday تقديم حصر بأهم وظائف اللغة فتمخضت محاولاته عن الوظائف الآتية :

1. الوظيفة النفعية ( الوسيلية ) :ـ

وهذه الوظيفة هي التي يطلق عليها " أنا أريد " فاللغة تسمح لمستخدميها منذ طفولتهم المبكرة أن يشبعوا حاجاتهم وأن يعبروا عن رغباتهم ..

2. الوظيفة التنظيمية :ــ

وهي تعرف باسم وظيفة " افعل كذا .... ولا تفعل كذا " من خلال اللغة يستطيع الفرد ان يتحكم في سلوك الآخرين , لتنفيذ المطالب أو النهي و وكذا اللافتات التي نقرؤها وما تحمل من توجيهات وإرشادات ...

3. الوظيفة التفاعلية :

وهي وظيفة " أنا و أنت " تستخدم اللغة للتفاعل مع الآخرين في العالم الاجتماعي باعتبار أن الإنسان كائن اجتماعي لا يستطيع الفكاك من أسر جماعته , فنستخدم اللغة في المناسبات , و الاحترام , و التأدب مع الآخرين .

4. الوظيفة الشخصية :

من خلال اللغة يستطيع الفرد أن يعبر عن رؤاه الفريدة , ومشاعره و اتجاهاته نحو موضوعات كثيرة , وبالتالي يثبت هويته وكيانه الشخصي ويقدم أفكاره للآخرين .

5. الوظيفة الاستكشافية :ـ

وهي التي تسمى الوظيفة " الاستفهامية " بمعنى انه يسأل عن الجوانب التي لا يعرفها في البيئة المحيطة به حتى يستكمل النقص عن هذه البيئة .

6. الوظيفة التخيلية :ــ

تتمثل فيما ينسجه من أشعار في قوالب لغوية ، كما يستخدمها الإنسان للترويح , أو لشحذ الهمة والتغلب على صعوبة العمل , وإضفاء روح الجماعة , كما هو الحال في الأغاني والأهازيج الشعبية ...

7. الوظيفة الإخبارية ( الإعلامية ) :ــ

باللغة يستطيع الفرد أن يتقل معلومات جديدة ومتنوعة إلى أقرانه , بل ينقل المعلومات والخبرات إلى الأجيال المتعاقبة , وإلى أجزاء متفرقة من الكرة الأرضية خصوصاً بعد الثورة التكنولوجية الهائلة . ويمكن أن تمتد هذه الوظيفة لتصبح وظيفة تأثيرية , اقناعية ؛ لحث الجمهور على الإقبال على سلعة معينة أو العدول على نمط سلوكي عير محبب .

8. الوظيفة الرمزية :ــ

يرى البعض ان ألفاظ اللغة تمثل رموزاً تشير إلى الموجودات في العالم الخارجي , وبالتالي فان اللغة تخدم كوظيفة رموزية . )) 7

واللغة كالكائن الحيّ ، فهي تنمو وتترعرع وتشب وتشيخ وقد تموت إذا لم تتوفر لها عوامل الديمومة والاستمرار , مرهونة في ذلك بتنوع الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والعلمية فعندما يتطور المجتمع حضارياً وإنتاجيا تتطور اللغة والعكس ... فهي في الطور البدوي تختلف عنها في المدنية والحضارة ، وهي في أهل الصحراء خلافها في الجبال والسهول .

نشأة اللغة :-

أما حول أصل نشأة اللغة وما يتصل بهذه النقطة من موضوعات فكرية لن نخرج منها بكثير فائدة بله أن تشتت أفكارنا فقد تصدى للبحث فيها كثير من الفلاسفة والمتكلمين واللغويين , وذهبوا في البحث مذاهب شتى : فهذا يقول مصدرها التوقيف من الله , وذلك يقول مبدؤها الطبيعة , وآخر يقول منشؤها الاصطلاح والتواطؤ ــ ويكفينا هنا أن نعلم أن هناك نظريات متعددة حول نشأة اللغة ، أشهرها أربع نظريات :

(1)/ نظرية التوقيف : قال بها أفلاطون وأبو علي الفارسي ، وابن حزم ، وابن قدامة , وأبو الحسن الأشعري , و الآمدي , وابن فارس ومعظم رجال الدين ، ويستدلون بقوله تعالى

: (( وعلّم آدم الأسماء كلها )) " البقرة /31". وبما جاء في سفر التكوين (( وجبل الربّ الإله كل حيوانات البرية ، وكل طيور السماء ، فأحضرها إلى آدم ليرى ماذا يدعوها ، فكل ما دعا به آدم من ذات نفس حيّة فهو اسمها . فدعا آدم بأسماء جميع البهائم و طيور السماء ، وجميع حيوانات البرّيّة )) ، الإصحاح الثاني عشر آية (19/20).

(2)/ نظرية المواضعة والاصطلاح : قال بها سقراط ، وديمقريط ، وآدم سميث ، ومن العرب أبو الحسن البصري ، وأبو إسحاق الاسفراييني ، والسيوطي ، وابن خلدون .

(3)/ نظرية المحاكاة: تعني أن يحاكي الإنسان ما حوله في الطبيعة من الظواهر , وأول من أشار إلى ذلك ابن جني في الخصائص ثم قال: (( وهذا عندي وجه صالح ومذهب متقبل 8 )) , ولكنه لم يستقر على هذا الرأي أيضاً بعد أن ناقش الرأيين السابقين , والأسلم ألا ننسب الرجل إلى مذهب بعينه من المذاهب الثلاثة .

(4)/ نظرية الغريزة : يريدون أن الله زوّد الإنسان بآلة الكلام ، وبجهاز للنطق ، فهو حتما سينطق شاء أم أبى .

والحديث في أصل نشأة اللغة ـــ على رأي حجة الإسلام الإمام الغزالي ـــ فضول لا أصل له وكأنه يدعو إلى الانصراف عنه إلى معالجة اللغة بوصفها حقيقة واقعية في وضعها الراهن , وهذا التوجه من الإمام الغزالي ينسجم تماماً مع توجه علم اللغة المعاصر الذي أخرج هذه القضية من نطاق مباحث علم اللغة ...

وبعد هذه التوطئة البسيطة عن ماهية اللغة ، ووظائفها . ننتقل إلى معنى لفظة ( العربية)

ما هي العربية :-

متى كانت العربية ؟؟ علم ذلك عند الله , ولكنه سبحانه لم يصادر حريتنا في أن نحاول معرفة أي شيء يمكن أن يبلغه قدراتنا بالقطع , أو بالحدس والتخمين . يقال إن العربية تنحدر من اللغة الآراميّة , وهي التي تكلم بها آرام بن سام بن نوح عليه السلام

واللغة العربية أقدم اللغات التي ما زالت تتمتع بخصائصها من ألفاظ وتراكيب وصرف ونحو وأدب وخيال، مع الاستطاعة في التعبير عن مدارك العلم المختلفة. ونظراً لتمام القاموس العربي وكمال الصرف والنحو فإنها تعد أمّ مجموعة من اللغات تعرف باللغات الأعرابية أي التي نشأت في شبه جزيرة العرب ، أو العربيات من حميرية وبابلية وآرامية وعبرية وحبشية وعلماء اللغة حديثاً يصنفون كل السلالات اللغوية والعودة بها إلى لغة ( أم ) أطلقوا عليها ((اللغة السامية )) و أول من أطلق هذه التسمية هو العالم النمساوي شولتزر عام 1781م وواضح أنها تسمية عنصرية اقتبسها من نص من نصوص التوراة المكتوبة بأيدي الأحبار(العهد القديم) (الأصحاح 10 سفر التكوين) في ظل تقسيم وهمي للأجناس البشرية مستمد من أبناء نوح وهم : سام وحام و يافث , فكيف ينشأ ثلاثة أخوة في بيت واحد ويتكلمون ثلاث لغات ؟

أصبح يقينا لدى الباحثين المنصفين، أن وصفنا لحركة المسلمين إلى خارج شبه الجزيرة العربية في القرن السابع بالفتح والفتوحات الإسلامية أصبح تعبيرا خاطئا, فهو لم يكن فتحا بل كان تحريرا للعرب من الحكم الأجنبي كهدف سياسي, وهو توحيد للعرب في الموقع المكاني بمعناه الجغرافي كهدف قومي, كما انه من الخطأ القول بأن العرب ساميون والصحيح هو القول ان الساميين عرب.

السامي والسامية والساميون، تعريف يطلق على التجمعات والكيانات البشرية التي تواجدت في فلسطين وغور الأردن وجنوب العراق وشبه الجزيرة العربية, باعتبار أن كل هذه المناطق، تشكل وحدة جغرافية واحدة, والمعروف أن الجميع جاؤوا من شبه الجزيرة العربية وبالتالي فقد ذهبوا إلى أطراف شبه الجزيرة العربية, في هجرات عدة متتالية, وقد استحالت لغة وألسنة هذه الأقوام إلى اللغة العربية واللغة العبرية واللغة السريانية, والسامية أيضا هي مصطلح يطلق على كل الشعوب والأمم والقبائل قديما وحديثا مرورا بالعصور الوسطى التي تنتسب إلى سام بن نوح, ومن المعروف ان التوراه أول من أشار بالنص إلى ذلك التقسيم كما سبق وأسلفنا.

بعض العلماء نسب الصفة العربية إلى مدينة (عربة) في بلاد تهامة, وقيل أنها نسبة إلى يعرب بن يشجب بن قحطان وهو أبو العرب العاربة، أول من تكلم العربية على صورتها المعروفة وقيل أيضا أنهم سموا كذلك نسبة إلى فصاحة لسانهم في الإعراب , وقد وردت تسمية (( العربية منذ منتصف القرن التاسع قبل الميلاد , إذ وردت في نصوص شلمناصر الثالث الآشوري 9))... والأقوام الذين تكلموا العربية لا يحصي عددهم إلا الله : منهم العرب البائدة : وهم قبائل طسم ، وجديس ، والعماليق ، وأهل الحجر ، وقوم هود وصالح عليهما السلام وغيرهم. وهولاء لم يصل لنا شيء من أخبارهم لا من قريب ولا من بعيد ... وهناك العرب العاربة : وهم القحطانيون ومن ينحدر منهم .. وأخيرا العرب المستعربة وهم أبناء إسماعيل العدنانيون .

إن الموروث الكتابي العربي أعمق جذوراً مما يظن حتى الآن ، فلو أضفنا إليه موروث الكتابة العربية كما كتبها الأكاديون ( بابليون و آشوريون ) بالخط المسماري وما كتبه الكنعانيون على سواحل الشام ،، وكذلك مخطوطات أوغاريت ــ وتل العمارنة ــ ومخطوطات البحر الميت لاتصل تاريخ كتابة العربية ببضع آلاف قبل الميلاد 10.

وتأسيسا على ذلك فالعرب هم في شبه الجزيرة العربية التي تشتمل على جنوب العراق وجنوب الشام وفلسطين وشبه جزيرة سيناء , و العربية وليدة واقعها المعيش أخذ العرب ألفاظها من الطبيعة المحيطة بهم فجاءت مفعمة بالصور ومشحونة بالأحاسيس والمشاعر .

إن الشخصية العربية تقوم على تشابه أذواق العرب وملكاتهم ، وهذا التشابه يرتبط ارتباطاً وثيقاً بتراثنا الثقافي العريق , ويرتبط بعمالقة الشعر والأدب بخاصة الذين سجلوا مثلنا العليا 11,, ويرتبط باللغة العربية التي نعتز بالحديث بها .. ولهذا فإهمال الأدب القديم ـــ والاتجاه أكثر إلى الأدب الحديث يساعد من يروج للفصل بين الآداب القديمة (( حيث امتداد أخلاق الآباء والسلف)) وبين الآداب الحديثة ولسنا بحاجة إلى التأكيد على دور اللغة في بناء الأمة وصناعة وجدانها وتكوين هويتها وثقافتها وضمان تماسكها وتواصل أجيالها .

العربية لغة مقدّسة :-

العربية لغة القرآن الكريم ، وهو مهيمن على ما سواه من الكتب الأخرى , وهذا يقتضي أن تكون لغته مهيمنة على ما سواها من اللغات الأخرى . وهي لغة خاتم الأنبياء والمرسلين أرسله الله للبشرية جمعاء ، واختار الله له اللغة العربية ، وهذا يعني صلاحيتها لأن تكون لغة البشرية جمعاء ، ينبغي أن ندرك أبعاد هذه المسألة .

قال تعالى : (( إنه لتنزيل رب العالمين * نزل به الروح الأمين * على قلبك لتكون من المنذرين بلسان عربي مبين ))(الشعراء/193ــ 195) فلما وصفها الله بالبيان علم أن سائر اللغات قاصرة عنها ، وهذا وسام شرف وتاج كلل الله به مفرق العربية ، خصوصاً حين ناط الله بها كلامه المنزل ، قال تعالى :-(( إنا جعلناه قرآناً عربياً لعلكم تعقلون ))( الزخرف/ 3 ) وقال تعالى :- (( كتاب فصلت آياته قرآناً عربياً لقوم يعلمون )) " فصلت / 3" . وقال (( قرآناً عربياً غير ذي عوج )) ( الزمر/28) ومن هنا قال حافظ على لسان العربية :-

وسعت كتاب الله لفظاً وغايةً وما ضقت عن آي به و عظات

فهو يشير إلى الطاقات الهائلة والمخزون الضخم الذي تمتلكه العربية التي وسعت هذا القرآن بكل أبعاده و آفاقه . إنها لغة الخلود حيث لا يمكن أن تزول عن الأرض إلا أن يزول هذا الكتاب المنزّل ،، وقد تكفل الله بحفظها ضمنياً في قوله : (( إنا نحن نزلنا الذكر ، وإنا له لحافظون )) " الحجر/9" .

ومن الطريف ما ذكره محمد الخضر حسين : (( كتب " جون فرن" قصة خيالية بناها على سياح يخترقون طبقات الكرة الأرضية حتى يصلوا أو يدنوا من وسطها ، ولما أرادوا العودة إلى ظاهر الأرض بدا لهم هنالك أن يتركوا أثراً يدل على مبلغ رحلتهم فنقشوا على الصخر كتابة باللغة العربية ، ولما سئل جون فرن عن اختياره للغة العربية , قال انها : لغة المستقبل , ولاشك أنه يموت غيرها , وتبقى حية حتى يرفع القرآن نفسه ) 12.

فضل تعلّم العربية :-

يرى كثير من العلماء أن الكلام بغير العربية لغير حاجة قد يورث النفاق قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (( من يحسن أن يتكلم بالعربية فلا يتكلم بالعجمية فانه يورث النفاق )) (أخرجه الحاكم في المستدرك) ؛ فلا نعجب إذا علمنا أن من العلماء من أوجب تعلم العربية وإتقانها ، قال عمر بن الخطاب : (( تعلموا العربية فإنها من دينكم , وتعلموا الفرائض فإنها من دينكم )) , وكره الشافعي لمن يعرف العربية أن يتكلم بغيرها , و قال ابن تيمية : (( إن اللغة العربية من الدين ، ومعرفتها فرض واجب ، لأن فهم الكتاب والسنة فرض ، ولا يفهم إلا بالعربية ، وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب )), وقال ابن فارس : (( لذلك قلنا أن علم اللغة كالواجب على أهل العلم لئلا يحيدوا في تأليفهم أو فتياهم ))13 . وقال أبو هلال العسكري : (( فعلم العربية على ما تسمع من خاص ما يحتاج إليه الإنسان لجماله في دنياه ، وكمال آلته في علوم دينه )) وفي ما خلفه لنا علماء العربية دليل على فضلها , فما خلفه ابن جني الذي كان متمكناً من اليونانية لأنه رومي , وما خلفه أبو علي الفارسي الذي كان متمكناً من الفارسية مع أن الرومية والفارسية كانتا أزهى لغتين في زمانهما بعد العربية وكذلك كان شأن الكثير من سلف الأمة , حتى أثر عن أبي الريحان البيروني قوله : " لأن أشتم بالعربية خير من أن امدح بالفارسية " و قد قال الشعراء في مدح اللسان واللسن أبياتاً لا تحصى منثورة في كتب الأدب. كما ذكر محاسن العربية أيضاً رجال يعرفون غيرها من اللغات الراقية وشهدوا لها بأنها أقرب اللغات انطباقاً على النظم الطبعية قال المستشرق " أرنست رينان " في كتابه " تاريخ اللغات السامية" : (( من أغرب المدهشات أن تنبت تلك اللغة القوية , وتصل إلى درجة الكمال عند أمة من الرحل,تلك اللغة التي فاقت أخواتها بكثرة مفرداتها ودقة معانيها وحسن نظام مبانيها ..)) وقال المطران يوسف داءود الموصلي : (( من خواص اللغة العربية وفضائلها أنها أقرب سائر اللغات إلى قواعد المنطق، حيث ان عباراتها سلسة طبيعية,يهون على الناطق صافي الفكر أن يعبر فيها عما يريد من دون تصنع وتكلف )) 14.

هكذا فعل سلفنا الصالح في خدمتهم للغة القرآن أحبوها حباً عظيماً , ووهبوا لها نفوسهم , فنقحوها ووضعوا قواعدها وأصلوا نحوها وصرفها حتى بلغت درجة الكمال والصفاء ، أما نحن عرب عصر التكنولوجيا والاختراقات الفضائية و الثورة المعلوماتية فقد فشا فينا التخاذل والتكاسل والتقاعس فكنا كقول أحدهم : فخلف من بعد السلف خلف تنكروا للغتهم واحتقروها ، ونظروا إليها نظرة ازدراء و اتهموها بالعجز والقصور وعدم صلاحيتها للعصر .

واجبنا تجاه العربية :--

إن خدمتك للغة العربية تعني خدمتك للقرآن ولو من وجه بعيد . وإن السلف الصالح ما قصروا في خدمتها حيث جاهدوا بالجهد والمال والوقت لخدمة لغة القرآن ,, عكفوا على تعلمها لما لها من مكانة مقدسة في نفوسهم ,, غاروا عليها ، وغاروا على بيانها المعجز أن تدنسه عجمة الأعاجم ولوثة الإفرنج ... فقضوا سني حياتهم في تقعيدها وإشادة أركانها ورسم أوضاعها ...

ولعل أقل ما نعمل أن ننشر هذه الكتب المخطوطة التي تقبع في متاحف العالم وأن ننفض عنها غبار الزمن ، حيث أن هناك حوالي مليون مخطوطة عربية موزعة في كافة أرجاء العالم (( ففي تركيا 155أ لف مجلد / وروسيا 40 ألف مجلد / والعراق والمغرب 35ألف مجلد / وتونس 25ألف مجلد / وبريطانيا و سوريا 20 أ لف مجلد / والولايات المتحدة 15ألف مجلد / والهند والسعودية 15ألف مجلد / يوغسلافيا فيها 14 ألف مجلد / فرنسا 8500 مجلد / اليمن 10 ألف مجلد / ايطاليا والفاتيكان 7500مجلد . تضاف إلى هذا بلدان تحتفظ بما يقارب 7500 مجلد ليصل الرقم إلى ما يقارب مليون مخطوطة عربية ناجية ما تزال موزعة في أرجاء الكرة الأرضية . ))15 .

كذلك ينبغي إغناء المكتبة العامة بالمؤلفات التي تحث على كيفية تعلم العربية وتسهيل تعلمها للناطقين بها ولغير الناطقين بها , بالإضافة إلى استغلال الوسائل المرئية والمسموعة والمكتوبة إلى أقصى حد ممكن لخدمة العربية .

إن من أكبر مصائب الأمة أن يكون تعليمها بغير لغتها , وتفكيرها بغير أدواتها , وقياس حاضرها يكون بمعايير وضوابط حضارية غريبة عنها ,, والحالة هذه من التخاذل والتكاسل والتبعيّة ، واجهت العربية مجموعة من التحديات والمصاعب وقفنا منها موقف المتفرج ، إن لم نكن شاركنا فيها من طرف خفي . وقد آن الأوان أن نفضح خطط الأعداء ونكشف عن نواياهم الخبيثة ونثبت للعالم أن هذه اللغة ثرية غنية باقية فنرعاها حق الرعاية ولا ندعها تتعرض للتقويض والانهيار والغزو اللغوي الشرس من الداخل والخارج ...

التحديات والمواجهات : ــ

التحدي الأول :- اتهامها بالعقم والجمود والتحجّر والقصور ، وأنها لم تعد ملائمة لأساليب القرن الحادي والعشرين عصر الثورة المعلوماتية و الاختراقات الفضائية ، فكان منا من نظر إلى تخلف العرب العلمي في عصر الذرة فأعلن أنه لا يرى لهذا سبباً غير تمسك العرب بلغتهم في مراحل التعليم عامة والتعليم العالي منها خاصة , وآخر يلحّ في الدعوة إلى تدريس العلوم الطبية وغيرها بلغة غير عربية ؛ ليظل المسلم عنده إحساس بعجز اللغة العربية لغة القرآن .

المواجهة :ـــ

أولاً :- الكلمات في اللغة العربية لا تعيش فرادى منعزلات بل مجتمعات مشتركات كما يعيش العرب في أسر وقبائل. وللكلمة جسم وروح، ولها نسب تلتقي مع مثيلاتها في مادتها ومعناها , فخاصية الاشتقاق من أعظم ما امتازت به العربية , فبالاشتقاق عملت على زيادة موروثها اللفظي والمعنوي كلما تقدم الزمن ،،(( وهو ثابت عن الله تعالى بنقل العدول عن رسول الله صلى الله عليه وسلم , ومن ذلك قوله فيما صح عنه : " يقول الله :( أنا الرحمان خلقت الرحم , وشققت لها اسم ) والحديث في مسند الإمام أحمد ))16 ولنأخذ على سبيل المثال مادة (( كتب : كتب - كاتب - مكتوب - كتابة – كتاب ــ مكتبة ....)) : إننا نستخدم هذه الكلمة وعمرها أكثر من 1500عام ، مأخوذة من ( الكَتْب) بسكون التاء ، قال الجوهري : أصله في اللغة للسقاء ، تقول : كتب السقاء ، إذا خرّزه بسيرين ، فهي في معنى / الضم والجمع/ .. ومنه الكتيبة للجيش ، ثم انتقلت اللفظة إلى الكتابة . وإنما قلنا أن أصلها السقاء لأن العرب عرفت السقاء واحتاجت إليه في ترحالها في الصحاري واحتاجت إلى صلاحه قبل أن تعرف الكتابة ،، ولو عرفت ما للسقاء ( القربة ) من الأسماء لهزك العجب . إن خاصة الروابط الاشتقاقية في اللغة العربية تهدينا إلى معرفة كثير من مفاهيم العرب ونظراتهم إلى الوجود وعاداتهم القديمة، وتوحي بفكرة الجماعة وتعاونها وتضامنها في النفوس عن طريق اللغة.

ومن الطريف لمعرفة سعة هذه اللغة ما نقله (( صاحب " المزهر " عن حمزة الأصبهاني : أن الخليل ذكر عدد أبنية كلام العرب المستعمل والمهمل من غير تكرار وهي اثنا عشر مليون بناء وثلاثمائة وخمسة أبنية وأربعمائة و اثنا عشر ( 12305412 )) 17 و ما ذكره د/ محمد نعمان الدين الندوي في مجلة الأدب الإسلامي قال : (( عدد الألفاظ المستعملة من اللغة العربية خمسة ملايين وتسعة وتسعون ألفاً و أربعمائة لفظ [5,099,400]، من جملة ستة ملايين وستمائة وتسعة وتسعين ألفاً وأربعمائة لفظ [6,699,400] ، بينما نجد الفرنسية لا تحتوي إلا على خمسة وعشرين ألف كلمة(25000) ، والإنجليزية على مائة ألف كلمة(100000) فقط) 18. ويقول الألماني فريتاغ : (( اللغة العربية أغنى لغات العالم )) .

فانظر يا رعاك الله إلى هذا البحر الهائج قال حافظ :-

أنا البحر في أحشائه الدرّ كامن فهل ساءلوا الغواص عن صدفاتي

ثانياً :- اللغة العربية تتميز بثبات الأصول ومرونة الفروع ، وثبات أصول الألفاظ ومحافظتها على روابطها الاشتقاقية يقابل استمرار الشخصية العربية خلال العصور، فالحفاظ على الأصل واتصال الشخصية واستمرارها صفة يتصف بها العرب كما تتصف بها لغتهم، إذ تمكن الخاصة الاشتقاقية من تمييز الدخيل الغريب من الأصيل . (( وبهذه المرونة عولجت مسألة المصطلحات , وقد لاحظ ألفرد غيوم هذه الخصائص فعلق عليها بقوله " صلح اللسان العربي للتعبير عن العلاقات بإيجاز أكثر من اللغات الآرية لمرونته وقابليته الاشتقاقية الفائقة في الاسم والفعل ...)) 19 . فاللغات الأوربية تتغير معاجمها بين الحين والحين ولا يمر قرن واحد إلا ويصيبها تغيير أساسي في مفرداتها وقواعدها . بينما للعربية قدرتها الفائقة على استخدام أكثر من طريقة لتثبيت ألفاظ جديدة في قاموسها : كالقلب المكاني ، والنحت ، و التعريب .. وغيرها . ومن مرونتها كذلك ، الظواهر الصوتية من إبدال ، وإدغام , وإظهار , وإخفاء , وروم ، وإشمام , وأيضاً اسم المكان - الزمان - السببية - الحرفة - الأصوات - المشاركة - الآلة - التفضيل ... وغيرها , تلك المرونة التي أتاحت لها أن تغدو لغة الحضارة في القرون الوسطى . ويقول وليم ورك : (( إن للعربية ليناً ومرونةً يمكنانها من التكيف وفقاً لمقتضيات العصر. ))

قال حافظ على لسان العربية :-

وسعت كتاب الله لفظاً وغايةً وما ضقت عن آي به و عظات

فكيف أضيق اليوم عن وصف آلة وتنسيق أسماء لمخترعات

ثالثاً :ــ وهي لغة المترادفات إذ يكثر أن يكون للمسمى الواحد أكثر من مفردة لغوية واحدة بل قد تصل إلى العشرات بل المئات ولا ننسى أن كثير من هذه المترادفات نشأ من تعدد اللغات , او من ملاحظة اختلاف دقيق في الأحوال والصفات ، قال ابن فارس في الصاحبي : (( فإن أردت أن سائر اللغات تبين إبانة العربية فهذا غلط، لأنا لو احتجنا أن نعبر عن السيف وأوصافه باللغة الفارسية لما أمكننا ذلك إلا باسم واحد وكذلك الأسد والفرس ...)) . وقد سمع أن معاني ( العين ) تنيف على المائة ، ومعاني ( العجوز ) تنيف على الثمانين ، ومعاني ( الكرم ) على الثلاثين ،، قال ابن خالويه : جمعت ( للأسد ) خمسمائة اسم ، و ( للحيّة ) مائتين . وذكر صاحب القاموس في مادة ( سيف ) أن للسيف أسماء تنيف على ألف اسم قال : وذكرتها في ( الروض المسوف ). فإذا رجعنا إلى معاجم المعاني وجدنا أموراً عجباً. فتحت المشي الذي هو المعنى العام أنواع عديدة من المشي :

درج , حبا , حجل , خطر , دلف , هدج , رسف , اختال , تبختر , تخلج , أهطع , هرول , تهادى , تأود... لقد ألف اللغويون العرب مؤلفات خاصة بإبراز الفروق بين الألفاظ مثل : الفروق لأبي هلال العسكري، وأدب الكاتب لابن قتيبة ، وفقه اللغة وأسرار العربية للثعالبي ، والمخصص لابن سيده الذي يقع في 17 جزءاً .

رابعاً :ــ علامات الإعراب التي تتميز بها العربية دون غيرها من اللغات الأخرى والتي يحاول أعداء الإسلام أن يطمسوها بدعوى( تبسيط النحو / صعوبة النحو ... الخ ) ولا تعدو أن تكون معولاً يحاول ان يصيب مقتلاً في كيان هذه الأمة , وهي محاولات هدامة تحاول إضعاف العربية كما قال ذلك الشيخ ( ابن باز ) . .

بينما تلزم الكثيرات من اللغات متكلميها بترتيب معين للكلمات يميز الوظائف النحوية فيها , ويضيع هذا التمييز اذا اختل هذا فالإنجليزية مثلا تتبع ترتيب ،، فاعل + فعل + مفعول ،، فإذا أردت أن تقول : أكل زيد طعاماً ، يجب أن تقول : زيد أكل طعاماً . ولا يجوز أن تقول : أكل زيد طعاما ,,, أما في اللغة العربية فأنت تقول : أكل زيد طعاما / وزيد أكل طعاماً / و أكل طعاماً زيد / وطعاماً أكل زيد / وطعاماً زيد أكل ، فتأمل هذا وتدبره . وفي معرض الحركات فإن جملة ( ما أحسن زيد ؟!.) يمكن أن تكون استفهاما وتعجبا وذمّا ؛ وذلك لوجود علامات الإعراب التي تلحق بأواخر الكلمات وتميز الفعل من الفاعل من المفعول ونظام الأعراب هذا يدل على المرونة التي تتميز بها اللغة العربية .

التحدي الثاني :ـ تلك الدعاوى الرامية إلى تفجير العربية وتحويلها إلى ركام من التراكيب والدلالات التي يعجز اللبيب عن إدراك مراميها فضلا عن المثقف العادي . وقد بلغ مداه وأقصاه في ما يسمون أنفسهم ( أهل الحداثة ), والحداثة أمرها محدث وشر الأمور المحدثات , لم يفكروا في حداثة تحافظ على خصوصيتنا وهويتنا وشريعتنا , وتوقف نزيف الكلمة الطيبة التي نحروها على نصب الغموض والرمز وعبث القول (( والحداثة العربية في جميع صورها إنما راجت لسببين أساسين هما:

1- جنوح الناس إلى الخروج عن المألوف، و لُهاثهم خلف «العصرنة»!!

2 - الخلط بين الحداثة ـ وإن شئت فقل بين الهدم ـ والتجديد.

ولما ظهرت مدارس «اللامعقول» المتنوعة (السوريالية، العبثية، العدمية، الوجودية) كتب النقاد عنها باعتبارها أكبر انقلاب حداثي، وأسمى سارتر مجلته «العصور الحديثة»!!

وفي الستينيات زعمت البنيوية أنها الثورة الحداثية التي لم يشهد التاريخ لها من نظير.

ولكن نقيضها «التفكيكية» سرعان ما ظهر في أواخر العقد نفسه مدعياً الدعوى نفسها.

وفي أمريكا كانت موجة «الهيبيز» آخر صرعة في نظر مفكري ذلك العقد، والآن تلاشت وارتد كثيرون للأصولية الإنجيلية. )) 20 .

وكما أصابت شظايا تفجير اللغة الأدب الشعري فقد امتدت لتطال النثر وخصوصاً النقد : فالناقد يتحدث بأسلوب موغل في الغموض والتعمية وغير مفهوم وبلغة غريبة , سواء في ما ترجم من مؤلفات النقاد أو في كثير من الكتب النقدية , كل ذلك باسم الحداثة وتفجير اللغة .

المواجهة :ـــ إننا لا نرفض الشعر الحديث جملة وتفصيلاً ،، ولكننا أيضا لا نتركه يعبث في أدبنا ويهين مقدساتنا ويخبط فيه خبط عشواء .. لابد من وضع مفتاح نقدي وإطار ومعيار فني تنظم سير الشعر الحديث وتكشف عن جماله فيستمتع به القارىء . أن الحياة فرضت علينا لوناً ولغة جديدة ــ وهذا طبيعي ــ ولكن أريد أن افهم هذه اللغة وأمتع حاستي الفنية من أدبها .(( أما حسب المفهوم الحداثي فالطفل الصغير الذي يلغو بكلمات وتمتمات هائمة لا رابط بينها، والشعرور الذي يخبط في العروض والقوافي ويلفق التراكيب الهشة ويضع كلمة سطراً، وجملة سطراً آخر، وثلاث جمل سطراً، ثم يرجع من جديد حتى يسوِّد مساحة كبيرة من الورق بغثيان لا معنى له.. والنائم الذي يحلم ويهمهم بألفاظ لا نسق يجمعها.. والحشاش... و... ـ كل أولئك حداثيون 21 )) .

فحينما ننظر لهذا الركام من حولنا , الذي انتفش , وأصبحت له مؤسسات تعني به وترّوج له , وتكرم الداعين المتسربلين برداء الحداثة حينما ننظر إلى كل هذا نستشعر مدى المسئولية الملقاة على عاتقنا لحفظ اللغة العربية , إنها مسئولية عقدية وأدبية ؛ لأن حماية العربية ــ وهي لغة القرآن ــ من هذا السيل الجارف من الركاكة والرطانة تصبح واجباً دينياً قبل أن يصل ببعض الملاحدة أن يتطاول على أسلوب القرآن المعجز وحلاوته وطلاوته فيتهمه بالدونية والقصور والإخفاق.

التحدي الثالث :- ما يروّج له أعداء الإسلام والعروبة الحاقدون من الدعوى إلى أن نستبدل بالفصحى اللهجات العامية واللغات المناطقية والإقليمية القومية الضيقة أو إحياء لغات قديمة ميتة , وكذلك الدعوة إلى اللاتينية بزعمهم أنها أكثر مرونة واختصارا في النطق .. وقد مشى تيار الهدم هذا في اتجاهين يكمل احدهما الآخر هما الاستشراق والاستغراب :ــ

الأول :- اتجاه المستشرقين الذين أوكلت لهم مهمة التدريس في الجامعات والمدارس فشغلوا مناصب عليا ، وتولوا مهام جسيمة ، وسيطروا على كراسي الدراسة .. فألفوا كتباً في الدين واللغة هي اكبر من علمهم نفثوا فيها سمومهم ودسوا فيها أفكارهم هذا من جهة ، ومن جهة ثانية أنهم غرسوا في الطلاب والكوادر هذه الأفكار فأشربت قلوب العديد من العرب ,, ومن جهة ثالثة

أنشأوا المدارس والجامعات التبشيرية والغربية في بلاد المسلمين وجعلوها أوكاراً لأغراض تجسسية خبيثة كالجامعة الأمريكية في بيروت التي كانت مركزاً للاستخبارات في فترة زمنية .

وقد وجدت تعريفات عديدة تحدد مفهوم الاستشراق وتحاول أن تعطيه أبعاده، و نوه الشيخ بسام عجك إلى أن تعريف الاستشراق مجملاً " هو دراسات وأبحاث قام بها غربيون .. تهدف إلى دراسة العالم الشرقي ولاسيما الإسلامي، ديناً وتاريخياً وحضارة وعادات وشعوباً، بهدف فهم حقيقة الإسلام، وقد نشأت منذ أكثر من ألف سنة في العالم الغربي، ومازالت موجودة حتى يومنا هذا، إلا أنها في الفترات الأخيرة بدأت تأخذ أشكالاً أخرى في الظهور، باسم مستشارين اقتصاديين أو سياسيين أو لغويين يتبعون وزارات الخارجية والاقتصاد والمال والحربية في العالم الغربي، ومهمة هذه الدراسات فهم طبيعة العالم الإسلامي وتوجهات المسلمين، وذلك من أجل التعامل الغربي معهم".

بداية بلا نهاية :ــ

في فترة العصور الوسطى في أوربا ، و الممتدة من 476م ـــ 1600م ، حدث في الوطن العربي الإسلامي أمران مهمان :-

الأمر الأول : الحروب الصليبية الممتدة من ( 489هـ ــ 690هـ) اي ( 1096م ــ 1291م )

لمدة قرنين كاملين انتهت بالإخفاق ، واليأس من حرب السلاح ، ولكنها تركت في نفس الوقت بصيصاً من التنبّه والتيقظ بسبب احتكاكهم المستمر بحضارة راقية عير عادية .

الأمر الثاني :- وقعت الواقعة في يوم الثلاثاء 20 جمادى الأول 857هـ / 29مايو1453م

سقطت القسطنطينية عاصمة المسيحية ، ودخلها محمد الفاتح بالتهليل والتكبير ، واهتز العالم الأوربي هزة عنيفة مليئة بالخزي وممزوجة بالحقد والكراهية والغضب . ومنذ ذلك اليوم ، بدأت أوربا تتغير إلى الأمام ، وبدأ العالم الإسلامي يتراجع إلى الوراء ، فكان أول تراجع نحصده هو سقوط الأندلس بعد أربعين عاما فقط من فتح القسطنطينية أي عام 1493م .. ومن يومئذ بدأ الرهبان وتلامذتهم معركة أخرى أقسى من معركة الحرب والسلاح ( معركة العلم والمعرفة ) 22 00

النهضة الموءودة 23:ــ

لقد فتن العالم الشرقي أوربا فتنة لا توصف ، وامتلأت قلوبهم رغبة في امتلاكه ،، وتنبه الملوك والرهبان و عقلاء الرجال إلى سؤال خطير : ما سرّ قوة هذه الحضارة ؟؟ فكان الجواب : إن سرّ قوتها هو في العلم ( علم الدنيا وعلم الآخرة ) .

في ظل هذه الغفلة المطبقة على دار الإسلام ، كانت هناك نهضة هادئة ، سليمة ، بطيئة ، يقوم بها كوكبة من العلماء الذين تنبهوا لضرورتها وأهميتها ، نذكر منهم على سبيل المثال : ــ

البغدادي عبدا لقادر بن عمر ( في مصر ) 1620م ـــ 1683م . صاحب ( خزانة الأدب )

الجبرتي الكبير حسن بن إبراهيم ( في مصر) 1698م ــ 1774م .

محمد بن عبد الوهاب ( في الجزيرة العربية) 1703م ـــ 1792م .

المرتضى الزبيدي ( في الهند ومصر ) 1732م ــ 1790م . صاحب( تاج العروس )

الشوكاني محمد بن علي ( في اليمن ) 1760/ ـــ 1834م .

هذه النهضة السليمة الهادئة لم يعرفها على حقيقتها غير ( المستشرقين ) فهبوا هبة الفزع ، وسارعوا ينقلون كل صغيرة وكبيرة ويضعونها تحت أبصار ملوك المسيحية الأوربية ورؤسائها ويبصرونهم بالعواقب الوخيمة المخوفة من هذه ( اليقظة ) الوليدة إن تمت .

و الاستشراق جهاز خبيث جاء متخفياً في عباءة العلم والبحث ، ساح في دار الإسلام في تركيا ، وفي الشام ، ومصر ، وفي الهند ... وفي غفلة أهل دار الإسلام عن حقيقة هذه الأشباح الغربية التي تتجوّل في الطرقات وتسير في الشوارع في كل لباس ، في زى التاجر ، وفي زى السائح ، وفي زى الباحث المنقب ، وفي زى طالب العلم ، وفي زى المسلم البسيط .... الخ . فاكتسب هذا الجهاز مع تطاول السنين خبرة واسعة عن دار الإسلام ( الحصينة) وصاروا يستخرجون كل شيء عن دار الإسلام عن أحوال الخاصة والعامة ، والعلماء والجهلاء ، والملوك والسوقة ، والجيوش والرعية ، والقوة والضعف ، وتدسسوا حتى أخبار النساء في الخدور ، لم يتركوا شيئا إلا وفتشوه وعرفوه ,.. ومضت سنوات طويلة ، والتقارير ترفع إلى ملوك المسيحية بكل ما يعلمونه عن دار الإسلام ،، وما خبروه وشاهدوه عياناً عن الغفلة المطبقة على دار الإسلام .. فنشأ بفضلهم ( طبقة الساسة ) ، أو من سموا بعد ذلك ( رجال الاستعمار ) .. ... و أكدت التقارير الاستشراقية انه ليس للمسيحية خيار سوى العمل السريع والمحكم .. واهتبال الغفلة المحيطة بالمسلمين ،، فقد كان الفرق بيننا وبين ما وصلت إليه أوربا الآن هو خطوة واحدة لمن يصل إليها أولاً .

الاستعمار العسكري¯ ومساوئه :ــ

وفي أواخر القرن السابع عشر الميلادي كان أول من حرّض فرنسا على اختراق دار الإسلام في مصر هو الفيلسوف الألماني ( ليبنتز ) ت/ 1716م .... وفي عام 1/7/1798م تحرك نابليون بجيوشه لاحتلال مصر ،، الذي يسمونه الآن (( عصر النهضة )) وخلف هذا الاستعمار جملة من النتائج السلبية عادت على العرب والعربية منها على سبيل المثال لا الحصر:ـــ

1. سرق المستشرقون المصاحبون للحملة الفرنسية كل نفيس من الكتب ، وكانت القاهرة يومئذ من أغنى بلاد العالم بالكتب ودليل السرقة قائم وموجود في مكتبات أوربا 25، وكان همهم يوم ذاك هو السطو على كتب ( الحضارة ) أولا ، ثم ( التاريخ ) ثم كتب ( الأدب ) فكأن الحملة الفرنسية جاءت لتجريد دار الإسلام في القاهرة ممن أسباب اليقظة المادية المتمثلة في : الكتب ، والمراجع ، وتصفية العلماء ، وإعدام الطلبة .

2. تصفية البلد من رؤوس العلم , ومن طلبة العلم , لأنهم مصدر المقاومة والصحوة (( فقد فعل هذا السفاح ما لم يفعله جنكيز خان ، إذ كان له في كل يوم خمسة أشخاص يقتلهم في القاهرة وحدها ويطوف برؤوسهم في شوارع القاهرة ، وكان يأمر قواه أن يتشبهوا به ،،، ويرشده المستشرقون أن يختارهم من الطلبة النابهين ورثة علم ( الزبيدي ) و( الجبرتي) ليستأ صلوا جذور اليقظة )) .

3. ما كان للاستعمار الغربي بحقده الدفين وخبرته الواسعة .. أن يترك هذه اللغة التي يعرفها معرفة جيدة ويدرك آثارها الاجتماعية والسياسية (( ما كان له أن يدعها تنمو بإيقاعات سريعة تتساوق وإيقاعات النمو الحضاري العام , فأخذ يوجه إليها الضربة تلو الضربة , تارة بقرار سياسي .. وتارة بفتنة عمياء تثير الجدل وتعيق عن العمل .. وتارة باستعمال أبواق لا خلاق لها للترويج للغة مهجورة متخلفة أو للدعوة إلى عامية شائعة ...ففي مصر وجه اللورد كرومر ضربة قوية للعربية ؛ إذ جعل لغة التعليم الرسمي والعالي الإنكليزية ... وفي الجزائر أصدر الفرنسيون عام 1904م قانوناً يمنع أي معلم عربي أن يتعاطى مهنته إلا برخصة وضمن شروط محددة هي :ــ

1. اقتصار التعليم على حفظ القرآن لا غير .

2. عدم التعرض لتفسير الآيات التي تدعو إلى التحرر من الظلم والاستبداد .

5. استبعاد دراسة التاريخ العربي والإسلامي , والتاريخ المحلي وجغرافية القطر الجزائري والأقطار العربية الأخرى .

8. استبعاد دراسة الأدب العربي بجميع فنونه .

ويمكن أن نقول أن ما حدث في مصر والجزائر حدث مثله في سائر الأقطار العربية المستعمرة))26 حيث كان التعليم في البلاد العربية المحتلة يتم كله باللغات الأجنبية ( الإنجليزية في مصر والسودان والعراق ) والفرنسية في (سورية وتونس والجزائر والمغرب)، فقد كانت لحظة النفوذ الأجنبي ترمي إلى :

أولاً : تحويل أبجدية اللغات الإقليمية إلى اللاتينية وكانت تكتب أساساً بالحروف العربية ، كما حدث في إندونيسيا وبعض بلاد إفريقية وآسية .

ثانياً : تقديم اللغات الأجنبية في الأقطار الإسلامية على اللغة العربية .

ثالثاً : تقديم اللهجات واللغات المحلية وتشجيعها والدعوة إلى كتابة اللغة العربية بالحروف اللاتينية.

رابعاً : ابتعاث الطلاب إلى الغرب لدراسة لغاته، وكان ذلك إيماناً بأن اللغة هي الوجه الثاني للفكر، وأن من يجيد لغة لا بد أن يعجب بتاريخها وفكرها ويصير له انتماء من نوع ما إلى هذه الأمة .

4. محاربة العقيدة الإسلامية ؛ لأن الإسلام يرفض الاعتداء ويحث على محاربة المعتدي (( فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم )) .

5. مسك الاستعمار زمام الجانب الاقتصادي , والتعليمي بيده ؛ فكانت النتيجة " الفقر و الجهل و المرض " .

حتى إذا انتهى عهد الاستعمار العسكري ــ أو في أثنائه ــ قام ( المستشرقون ) باستكمال بقية المخطط في السنوات التالية , فأخذ نمو العربية يتعثر هنا وهناك في الأقطار العربية كلها ولعل من المناسب هنا أن نذكر أشهر المستشرقين وأهمهم :ــ

لويس ماسينيون كان من أشد الدعاة إلى إحياء اللهجات المحلية وإحلالها محل الفصحى .

دلمور القاضي الإنجليزي , عاش في مصر وألف عام 1902م كتابا أسماه( لغة القاهرة ) .

ويليام ويلكوكس دعا عام 1926م إلى هجر العربية , وترجم الإنجيل إلى اللهجة المصرية يقول : (( إن العامل الأكبر في فقد قوة الاختراع لدى المصريين هو استخدامهم اللغة العربية الفصحى في القراءة والكتابة )). وما يزال أحد الشوارع في حي (الزمالك) بالقاهرة يحمل اسمه .

دنلوب قسيس إنجليزي ومبشر خبيث وعات عين في 17 مارس 1897م سكرتيراً عاما لوزارة المعارف ، وكان أول ما فعله هو تفريغ الطلبة من ماضيها المتدفق المرتبط بالعربية ، وإثارة القومية الفرعونية البائدة ، فجعلهم في حيرة بين انتمائين : الثقافة العربية الإسلامية ، والانتماء إلى الفرعونية لغة الأجداد الكفار . وهذا الذي لا تزال تسير عليه مصر في فكرها ولبسها والإعلام المصري خير شاهد على ذلك .

ارنولد توينبي هاجم العربية ورآها لغة دينية لا تصلح إلا للطقوس الدينية فقط كالصلاة والدعاء شأنها شأن العبرية لغة الكتاب المقدّس .

سبيتا مستشرق ألماني دعا عام 1880م إلى العامية بدل الفصحى .

غلادستون رئيس وزراء بريطانيا الأسبق يقول: (( ما دام هذا القرآن موجوداً فلن تستطيع أوروبا السيطرة على الشرق ، ولا ان تكون هي نفسها في أمان )) .

هاملتون جب يقول : (( إن الغرض من الجهود المبذولة لحمل المسلمين على الحضارة الغربية هو تفتيت حضارة الإسلام وتغيير خصائصها جذرياً عن طريق التعليم ، والإعلام ، والثقافة )).

كيمون مستشرق فرنسي له ( باثولوجيا الإسلام ) قال:ــ(( اعتقد أن من الواجب ابادة خمس المسلمين ، والحكم على الباقين بالأعمال الشاقة ، وتدمير الكعبة ، ووضع قبر محمد وجثته في متحف اللوفر )) .

جولد زيهر مستشرق يهودي مجري من أخطر المستشرقين وأشدهم هجوما ، وهو عضو بارز من محرري دائرة المعارف الإسلامية ، ولد 1850م وهلك عام 1921م ، درس في مدارس اللغات برلين ، ليبزج ، فينّا ، رحل إلى سوريا عام 1873م ، تتلمذ على يد الشيخ / طاهر الجزائري ، ثم رحل إلى مصر حنى نضلّع في العربية ، له دراسات في القران و الحديث وعلومه ، والفقه وأصوله , ، آراؤه عفنة ، وبحوثه مسمومة ، وهجومه عنيف على المقررات العلمية الثابتة .

يوسف شاخت أحد محرري دائرة المعارف الإسلامية ، له كتب في الفقه أشهرها ( أصول الفقه الإسلامي ) .

عطية سوريال مصري الوطن ، مسيحي العقيدة ، شديد الحقد على الإسلام . كان أستاذا بجامعة الإسكندرية .

فيليب حتي لبناني مسيحي ، كان أستاذا بقسم الدراسات الشرقية ، كبير الدهاء ، واسع الحيل والمكر ، يخفي حقده على الإسلام بالتظاهر بالدفاع عن القضايا العربية ، كان مشرفاً على الدراسات التي يقدمها الطلاب في التاريخ الإسلامي ، واللغات الشرقية .

اللورد كرومر له كتاب ( مصر الحديثة ) وكتاب ( لغة القاهرة ) , جعل لغة التعليم الرسمية هي الإنجليزية , وقد أشار حافظ إبراهيم إلى محاربة كرومر للعربية بقوله :ـ

قضيت على أم اللغات وإنها قضاء علينا أو سبيل إلى الردى

هوارد ويلس رئيس سابق للجامعة الأمريكية ببيروت بقول :ــ(( التعليم في جامعتنا ومدارسنا هو الطريق الصحيح لزلزلة عقائد المسلم ، وانتزاعه من قبضة الإسلام ))، ولقد وصل فعلاً خريجو الجامعة الأمريكية ممن غسلت أدمغتهم إلى المناصب القيادية في أكثر البلاد العربية .

ونحن لا ننكر دور المستشرقين في الدراسات الإسلامية ، ولكننا نرتاب في نواياهم !!!

وللحقيقة العلمية فان سؤالاً يفرض نفسه هو : هل من بين هؤلاء المستشرقين من اتصف بالموضوعية والإنصاف؟

(( وهنا تقول أستاذه التاريخ د. نجاح محمد في موضوعية الاستشراق: " لا نستطيع أن نقول إن الاستشراق موضوعي بمجمله، كذلك لا نستطيع أن نقول بأنه مغرض بمجمله أيضاً، فالاستشراق لنحكم عليه تماماً يفترض أن نضعه ضمن سياقه التاريخي، وعبر هذه الرؤية نجد أنه احتوى على ثلاثة تيارات، الأول هو استعماري مغرض، يرتبط ببحث الاستشراق الاستكشافي، وبما يريده الغرب المستعمر من الشرق، والمصالح المأمول الحصول عليها من الشرق، وقد دخل هذا الغرض الاستعماري في كل ما يتعلق بأمور الشرق ... اما التيار الثاني للاستشراق، وأصحابه ذوو الاتجاهات الموضوعية، وأصنفهم بين تيارين اثنين للاستشراق، الأول: هو التيار المعتدل التو فيقي الذي يوفق بين المصالح القومية، التي أصبحت مهيمنة لبلاده وبين الموضوعية العلمية.

أما التيار الثاني: هو الموضوعي تماماً، فالحضارة الإنسانية ترتبط حتماً بالموضوعية، التي تستوجب العقل الحر القادر على إنتاج القيم والأحكام الحرة، غير المرتبطة بمصالح شخصية أو دينية أو سياسية أو اقتصادية .. وهنا أخص بالذكر المستشرق الفرنسي بيير روسي في كتابه " مدينة ايزيس التاريخ الحقيقي للعرب" ، كما أخص بالذكر المستشرقة الألمانية زيغريد هونكة المختصة بالحضارة الإسلامية والتي قدمت كتاب " شمس العرب تسطع على الغرب" رسمت فيه صورة رائعة عن الحضارة الإسلامية. ))27 ومنهم المؤرخ الشهير صاحب كتاب " تاريخ الدعوة إلى الإسلام" السير توماس آرنولد .... الخ .

الاتجاه الثاني :- تعرضت العربية لضربات قاصمة من الخارج شدت أزرها فتن محرقة من الداخل أوهت عزيمتها ومزقت جسدها من أولئك الأذناب من المستغربين الذين يفكرون بالإنجليزية أو الفرنسية ثم يترجمونه إلى اللغة العربية مثل طلبة المستشرقين ، وبعض الذين يوفدون للدراسة في الخارج وكل متعصبي نصارى العرب الذين نبتوا في تربة نصرانية على أصول غربية 0 منهم على سبيل المثال لا الحصر :ــ

رفاعة الطهطاوي : أرسل في بعثة محمد علي إلى فرنسا عام 1826م وكان في الخامسة والعشرين من عمره . (( ذكياً نعم ، نابهاً بين أقرانه نعم ، محبا للعلم نعم ، ولكنه مع ذلك في الخامسة والعشرين من العمر .. غريراً ، طري العود ، جاء من أقصى الصعيد حيث البؤس والضنك إلى قلب باريس بحدائقها وميادينها ومباهجها ... وتم تسليمه إلى أخطر مستشرق وأدهاهم ، انه البارون الفرنسي سلفستر دي ساسي ، فتنوه وجعلوه يشاهد أروع المحافل التي تتألق أنوارها ، فتتألق معها مفاتن النساء ،، انتزعوه من بؤس الصعيد وأزقتها المخربة وقضى في باريس (6) سنوات ، تعلم فيها الفرنسية ، ودرس التاريخ ، والجغرافيا ، والفلسفة والآداب الفرنسية ، وقرأ مؤلفات فولتير ، وجان جاك روسو ، ومونتسكيو ، وتعلم فن العسكرية , والرياضيات )) كيف يمكن لست سنوات أن تلم هذه العلوم التي شابت لها نواصي الرجال إلا أن (( تكون خطفاً كحسو الطائر ، وان يكون ما ألفه سطواً على كتب 0 حتى مدرسة الألسن التي أنشأها لم تكن من بنات عبقريته بل بإيعاز ممن درّبوه هناك .. وهذه المدرسة أحدثت صدعاً في ثقافة الأمة وقسمتها إلى شطرين ،، الأزهر في ناحية , و مدرسة الألسن في ناحية , والوظائف طبعا تكون للأخيرة حيث يدرس فيها المستشرقون )) 028

طه حسين :ــ ديكارتي المذهب ، علماني العقل والفكر ،عاش حياته كلها يحاول إقناع المسلمين والعرب بان لليهود فضلاً على أدبهم وتاريخهم وتراثهم . قال في كتابه "مستقبل الثقافة في مصر" : (( إن السبيل الى ذلك واحدة وهي ان نسير سير الأوربيين , ونسلك طريقهم ؛ لنكون لهم شركاء في الحضارة خيرها وشرها حلوها ومرها )) ووصل به الولاء لمن تتلمذ عليهم أن يقول في صراحة أن مصر لم تكن قط جزءاً من الشرق وإنما كانت جزءا من حوض البحر المتوسط, وان روابطها الفكرية والروحية والثقافية كانت دائما مع أمم البحر الأبيض المتوسط وليست مع الشرق .... تتلمذ على يد المستشرق ( مرجيليوث ) وأشرف على رسالته ( في الشعر الجاهلي ) التي احدثت ضجة في الأوساط الأدبية , وشرخا في الثقافة الاسلامية ,, وقد ذكر الشيخ/ محمود محمد شاكر (( أن الدكتور طه ، قد رجع عن أقواله التي قالها في الشعر الجاهلي بما كتبه في جريدة الجهاد ، وبما صارحني به بعد ذلك ، وصارح به آخرين ، من رجوعه عن هذه الأقوال . ولكنه لم يكتب شيئا صريحاً يتبرأ به مما قال أو كتب . وهكذا عادة ( الأساتذة الكبار) يخطئون في العلن ويتبرأون من خطئهم في السرّ )) 29.. شكراً لك يا أبا كلود ـــ اسم فرنسي أطلقه على ابنه ـــ شكراً لك يا مؤلف " الخطوة الثانية وإن غضب الغاضبون " .

ولا تزال آثار السموم الفكرية التي زرعها الاستشراق والاستعمار تبرز على أقلام أتباعهم وأجرائهم المتعاطفين معهم حيث لا فائدة منها سوى الهاء الباحثين عن القضايا الهامة إلى الرد على هذا وتفنيد آراء ذاك . فكم من باحث شغل نفسه ووقته للرد على سعيد عقل مثلاً , أو على أنيس فريحة , او على سلامه موسى , أو على عبد العزيز فهمي وهذا الأخير شغل مجمع اللغة العربية بالقاهرة ثلاث سنين بمناقشات عقيمة حول الكتابة العربية بالحرف اللاتيني كان يمكن استثمارها في قضايا مصيرية مهمة تخدم الأمة واللغة والدين .

المواجهة

الفصحى والعامية تعايش سلمي قديم :

حقيقة كون اللغة واحدة ذات أساس ومرجعية تاريخية ثابتة أما اللهجات الموجودة في الواقع فهي نتيجة طبيعية للعزلة التاريخية والانقسامات الدينية التي رسخت الشرخ الطائفي بين أبناء الأمة الواحدة، واللهجات بشكل عام موجودة في معظم اللغات الحية وفي جميع أصقاع الأرض ولا تخلو لغة من لهجات عامية تختلف من بلد لآخر ويصل الاختلاف أحياناً إلى حد تعذر فهم لغة الشخص الآخر من نفس القومية كما هو الحال في اللغة العربية حيث نجد صعوبة بالغة في فهم اللهجة العربية للجزائري أو المغربي أو الموريتاني أو الصومالي.

ففي كل لغة من لغات العالم الحية توجد لغة فصحى وتوجد لهجات عامية محكية ومهما اختلفت اللهجات بحسب المناطق والبلدان فإن المرجعية تكون للفصحى الأساس، ومهما دخلت الشوائب والكلمات الغريبة على اللهجات المحكية فإن الفصحى هي الحصن المنيع والمرجع الأخير لكل الطوائف من أبناء الشعب الواحد.

إن تجاهل كل هؤلاء المستشرقين والمستغربين لمسألة الازدواج اللغوي أي وجود العامية والفصحى في حقيقتها الراهنة في العالم المعاصر ة و إلصاقها بالعربية فقط هو صرف للقضية في غير مسارها الحقيقي ((فالازدواجية ظاهرة عامة لها أصولها ومقوماتها النفسية والاجتماعية وليست ذات صبغة مرضية كما يحاولون تصويرها إذا تكلموا عن العربية , وكأنها انفردت من بين لغات البشر بهذه الازدواجية . وعلى كل حال فان من المبالغة أن نتصور أن هناك ذلك البون الشاسع المتوهم بين عاميتنا وفصحانا خاصة بعد أن خطا التعليم بالناس خطوات واسعة نحو الفصيحة في سائر الدول العربية ... وما حدث تجاه مسألة الازدواجية من تهافت أدلة أولئك الشعوبيين حدث تجاه المسائل الأخرى التي باتت مفضوحة الارتباطات كالدعوة إلى الكتابة باللاتينية التي بلغت حداً من التهافت والسخف جعل أصحابها موضع تندر قبل أن يكونوا جديرين بالرد والنقاش ! ولكن هل انهزم أعداء العربية ؟؟؟ إنهم يعرفون أن هدم ذلك البناء الشامخ غير ممكن ولا ميسر لذلك فانه يكفيهم في كل مرحلة أن يخربوا بعض أطرافه ويقلعوا بعض أحجاره لعله يتاح لهم في المستقبل دك أعمدته وتخريب أساسه ..)) 30 .

لغة مختصرة موجزة : 31

والإيجاز في العربية على أنواع ، فمنها الإيجاز في الحرف، حيث تكتب الحركات في العربية عند اللبس فوق الحرف أو تحته بينما في اللغات الأجنبية تأخذ حجماً يساوي حجم الحرف أو يزيد عليه. وقد نحتاج في اللغة الأجنبية إلى حرفين مقابل حرف واحد في العربية لأداء صوت معين كالخاء (KH) مثلاً ولا نكتب من الحروف العربية إلا ما نحتاج إليه ... وفي العربية إشارة نسميها ( الشدة )، نضعها فوق الحرف لندل على أن الحرف مكرر أو مشدد، أي أنه في النطق حرفان، وبذلك نستغني عن كتابته مكرراً، على حين أن الحرف المكرر في النطق في اللغة الأجنبية مكرر أيضاً في الكتابة على نحو (flapper) و (recommendation) ... ونحن في العربية قد نستغني كذلك بالإدغام عن كتابة حروف بكاملها، وقد نلجأ إلى حذف حروف. فنقول ونكتب ( عَمَّ ) عوضاً عن ( عن ما ) و ( مِمَّ ) عوضاً عن ( من ما ) و (بِمَ) عوضاً عن ( بما ) ومثلها ( لِمَ ) عوضاً عن ( لِما ) .

الإيجاز في الكلمات :/ وبمقارنة كتابة بعض الكلمات بين العربية والفرنسية والإنكليزية نجد الفرق واضحاً :ــ

العربية وحروفها ... الفرنسية وحروفها ... الإنكليزية وحروفها

أم 2 ... mère 4 ... mother 6

أب 2 ... père 4 ... father 6

أخ 2 ... frère 5 ... brother 7

ومن الإيجاز حالي التثنية و الجمع :ــ

الباب البابان - البابين les deux portes the two doors

الباب البابان - البابين les deux portes the two doors

الإيجاز في التراكيب : والإيجاز أيضاً في التراكيب ، فالجملة والتركيب في العربية قائمان أصلاً على الدمج أو الإيجاز . ففي الإضافة يكفي أن تضيف الضمير إلى الكلمة وكأنه جزء منها :

كتابه son livre كتابهم leur livre

وأما في الإسناد فيكفي في العربية أن تذكر المسند والمسند إليه بلا رابطة ملفوظة أو مكتوبة، فنقول مثلاً ( أنا سعيد ) على حين أن ذلك لا يتحقق في اللغة الفرنسية أو الإنكليزية ، ولا بد لك فيهما مما يساعد على الربط فتقول :

( je suis heureux ) ، ( I am happy ) .

فمثلاً سورة ( الفاتحة ) المؤلفة في القرآن من 31 كلمة استغرقت ترجمتها إلى الإنكليزية 70 كلمة .

والنفي أسلوب في العربية يدل على الإيجاز :

العربية : ( لم أقابله ) ، الإنكليزية : ( I did not meet him )

الفرنسية : ( Je ne l’ai pas rencontré )

العربية : ( لن أقابله ) ، الإنكليزية : ( I will never meet him )

الفرنسية : ( Je ne le rencontrerai jamais )

وهكذا نرى أن العربية في عصرنا الراهن عاشت مرحلة صراع دام ضد القوى الخفية والظاهرة ومع ذلك فلا تزال تمارس وظيفتها السياسية والقومية في حفظ الوحدة اللغوية , كما تمارس وظيفتها في الحفاظ على الشخصية العربية والتاريخ العربي والإسلامي .

التحدي الرابع :ــ

الإعلام العربي واللغة العربية

والإعلام : هو التعبير الموضوعي عن عقلية الجماهير ، وروحها ، وميولها ، واتجاهاتها في نفس الوقت (( فهو أولاً وقبل كل شيء يعتبر من أهم مؤسسات التشكيل الثقافي , ولا نجافي الحقيقة إذا قلنا : بأن جميع مصادر التشكيل الثقافي على تنوعها أصبحت بحوزة الإعلام 32))

الاتصال الجماهيري تتسع رقعته يوماً بعد يوم ، فالسماء وما فيها من أقمار صناعية ، والأرض وما فيها من مستقبلات فضائية ، كل يخاطب كلاً ويتصل به (( وقد يكون ميدان الصراع الحضاري الحقيقي اليوم , قد تحول إلى الإعلام , وأصبح التمكن من امتلاك الشوكة الإعلامية , بكل لوازمها ومقتضياتها يضمن الغلبة الثقافية , التي تعتبر ركيزة التفوق الحضاري 33)) حيث ألغى الإعلام كل الحدود الجغرافية والسياسية للدول , فلم تعد الشرائح الاجتماعية تهتم عمّن تتلقى ،، يكفيها أنها تتلقى فحسب .. وهي تنتقل من فضائية إلى أخرى ومن قناة إلى أخرى دون أن تكترث ،، وإن استقرت فإنها تستقر على قناة تعرف لغتها ، لأن العائق اللغوي يلغي مشاهدة أكثر من 70% من المحطات .. والتلفاز هو الوسيلة التي تستهلك اكبر وقت من حياة المشاهدين ، والمذياع في المرتبة الثانية ، ثم الصحف وتليها المجلة .

فإذا افترضنا أن الشرائح الاجتماعية لا تعرف إلا اللغة العربية ، فهذا يعني أنها هي المرشحة للخطاب الإعلامي ، سواء أكانت الفصحى أم العربية الميسرة ( MSA ) . ولكل لغة مستويان على الأقل : المستوى الذي يخاطب الخاصة وهو لغة المثقفين والمتعلمين ، ومستوى حوار العامة في الأسواق والشارع .

هناك شبه إجماع بأن هناك قراراً سياسياً أو إداريا يوجه اعتماد العربية الفصحى لغة للإعلام .

وإدارات الإعلام الرسمية تخطط برامجها على أساس أن الجمهور يقع بين حدين : الأمية ـــ والثقافة ، وما بينهما من درجات ، فتخاطبه بالفصحى ، وباللغة الثالثة ، وبالعامية .

إن أعلى نسبة للفصحى في الإعلام نلاحظها في البرامج التي تعتمد الخطاب الرسمي : كنشرات الأخبار ، والتقارير ، المناسبات السياسية ، والمسلسلات الدينية ... وغيرها ، وأعلى نسبة للعامية نجدها في برامج الأطفال ، والأسرة ، والبرامج المنوعة والترفيهية ، والمسلسلات المعاصرة ، والأغاني بكل لهجاتها .

والتلفاز وسيلة ذات جمهور واسع ، تستغرق اكبر وقت من مشاهدة الناس ، وتجده في كل مكان . كما انه يقدم أنماطاً من السلوك الاجتماعي واللغوي تفتقر إليها وسائل الإعلام الأخرى ، و مما يدل على أهمية هذه الوسيلة الإعلامية ــ رغم أن الصحيفة لها قاعدة عريضة وتستطيع المنافسة إذا أحسن استخدامها وتوجيهها ــ أنه أحكم قبضته على الأسرة واحتل صدر المجالس في الدور بلا منازع ولا منافس وتربع فيها بشموخ منقطع النظير ، وتشير أحدث الإحصاءات أنه فيما بين 600-700 ساعة على الأقل من عمر الإنسان تضيع سنويا في مشاهدة التلفاز ، ويشكل الأطفال الذين لم يبلغوا سن الدخول إلى المدرسة أوسع شريحة من مشاهدي التلفاز حيث تبلغ ساعات مشاهدتهم حوالي 22.9ساعة في المتوسط أسبوعيا بينما يمضى أطفال المجموعة العمرية من 6-11سنة حوالي 20.4ساعة مشاهدة أسبوعيا ، بل إن دراسات مسحية أخرى بينت أن هناك أوقات مشاهدة أطول تصل إلى 54ساعة أسبوعيا لمشاهدين لم يصلوا إلى السن المدرسية بعد. حيث حول الإعلام بامكاناته الهائلة غرف التعليم التقليدي , بسبوراتها وأقلامها ومقاعدها و وساتلها , إلى ما يشبه المعتقلات التي لا يصدق التلميذ متى يخرج منها ليقعد دون إحساس بالزمن إلى التلفزيون , أو الانترنت , أو الكمبيوتر .

ولذلك فليس بمستغرب أن نجد انتشار ظاهرة تراجع المستوى الدراسي لأطفال التلفاز فضلا عن تدنى قدراتهم العقلية والخبرات الخاصة نتيجة حرمانهم من ممارسة القراءة , يقول برونو بتلهايم: Bruno Bettelheim : التلفاز يأسر الخيال لكنه لا يحرره أما الكتاب الجيد فإنه ينبه الذهن ويحرره في الوقت ذاته ... فتصبح القراءة ممارسة سطحية ، ويرجع السبب إلى الانتباه المسترخي غير المركز ( السلبية العقلية ) المصاحب للمشاهدة التلفازية الذي يعوق نمو قدرة الأطفال على تفسير المادة اللفظية بطريقة ذات معنى مما يجعل عملية القراءة والتحصيل شاقة جدا وفي ذلك يقول واحد من أبرع كتاب أمريكا إ. ب. وايت E.B. White : لست أعرف حقا ماذا يمكننا أن نفعل من أجل القراءة فيما عدا إلقاء جميع أجهزة التلفاز بعيدا ..إننا في حاجة ملحة لأن نقف وقفة حاسمة تجاه التلفاز نحدد فيها ما يمكن أن نشاهده والقدر من الوقت الذي نستغرقه فإذا فشلنا في هذه الوقفة فعلينا أن نختار بين التلفاز أو أطفالنا .

يبين أصحاب الخبرات الطويلة في البحث اللغوي أن أفضل طريقة لتعليم اللغة وأيسرها إلى الطبيعة، هو " خلق بيئة فصيحة تنطق بها العربية " ، وان نستمع إليها ونطيل الاستماع ، ثم نحاول التحدث بها ونكثر المحاولات ... فتكمن خطورة طول فترات المشاهدة التلفازية في أنها لا تساعد الطفل على السير في النضوج الطبيعي والخروج من مرحلة التفكير غير اللفظي إلى مرحلة التفكير اللفظي والنمو اللغوي لديه لأن عملية المشاهدة تجربة غير لفظية بصرية لا تقوم بدور ملموس في نمو اللغة عند الطفل كما أنها تصرف الطفل عن مشاركة لغوية متبادلة مع الأفراد المحيطين ومن هنا يفقد الطفل مصدرا هاما للتنبيه اللفظي الذي يساعده في تنمية المراكز اللفظية في قشرة المخ لذلك كانت العلاقة بين مشاهدة التلفاز والنمو اللغوي عند الأطفال علاقة عكسية ، وفي أحدث الدراسات أظهر الأطفال الذين شاهدوا التلفاز بكثرة مستويات لغوية متدنية حيث فقدوا الساحة الأساسية لنمو اللغة عن طريق الحديث الواقعي والإصغاء . فهل يمكن لوسائل الإعلام أن تسهم في إيجاد هذه البيئة .

إننا بحاجة إلى ( تنمية الملكة اللغوية للمجتمع ) أي نقله من مستوى إلى مستوى أفضل ، ومن نمط بال إلى آخر متقدم ، ومن طريقة تعبيرية سوقية إلى أخرى رائعة , إذ ليس من اللائق التستر وراء الشعبية لتسويغ الإسفاف , أو لتسويغ القضاء على الشعب بالجهل الأبدي الذي يقصر إطلاعه على موضوعات لا تعلو بالقارئ عن طاقة الأمية من سقط المتاع , وليس من المقبول كذلك أن تبقى مشكلة الأمية مسوغاً لتدني مستوى لغة الخطاب الإعلامي ، لأننا اذا خاطبنا العامة بلغة الأميين نكون قد أسهمنا في زيادة نشر الأمية ، ولكن إذا خاطبناهم بلغة ارفع نكون قد أفدناهم من جهة ، ولان استمرارنا في ذلك سيجعلهم يتعلمون شيئا ما ، ويقومون باستخدامه في التعبير من جهة أخرى ،، لأن اللغة ضرب من السلوك قبل أن تكون علماً ومعرفة 00

ظواهر سلبية في الإعلام المرئي :ــ

Ok / bravo /

(1) فشو العامية على ألسنة بعض المذيعين ولا سيما في المقابلات والمحاورات ، رغم أن الصحافة المقروءة استطاعت حتى الآن أن تصون نفسها من الانزلاق في اللهجة الدارجة نوعا.

(2) بعض الألفاظ الأجنبية كثيرة الترداد على ألسنة المذيعين مثل: وهذا العيب قلما نجده في الصحافة المقروءة 0

Orbit / art / Lbc / mbc

(3) الإيغال في التفرنج واللهث وراء كل ما يصدر عن الغرب حتى في أسماء القنوات الفضائية من مثل .... والسؤال الذي يفرض نفسه : مادام مضمون برامج التلفزة والإذاعة عربياً وباللغة العربية ، فما المسوغ لهذه الأسماء الأجنبية 0 إن الأجانب بطبيعة الحال لا يلتفتون إلى إذاعاتنا وبرامجنا ، ولا تعنيهم في شيء ، بل لا تحظى بأي قدر من الاهتمام لديهم ، ولا تلامس مشاكلهم ، وبينهم وبينها حاجز اللغة الأصم المنيع .

(4) إن المعول عليه الآن عند توظيف المذيع أن يكون ( فتاة ) يراعى في انتقائها أن تكون حسناء ، يافعة ، رشيقة القد ، مليحة الوجه ، أثيثة الشعر ..... أما ماعدا ذلك من إتقانها اللغة العربية وتجويد أدائها ، وحسن نطق مخارج الحروف .. فهذا أمر لا لزوم للتشديد فيه ، وربما لا يؤبه له . يكفي أن تكون سليمة من عيوب النطق وحبسة اللسان وما عليها في نهاية الأمر ألا أن ترسم ابتسامة على ثغرها 0

(5) ضحالة الأسلوب وضعف الزاد اللغوي لدى المذيعين غالباً ، وسبب ذلك قصور إطلاعهم على أساليب البلغاء وكلام الفصحاء .

(6) لغة الإعلانات :- غلبت الركاكة على اللغة الإعلانية وكثرت فيها الأخطاء والابتذال ، سواء في الصحف أو في التلفاز والإذاعة .. تراها منتشرة في كل مكان ، واللافتات منصوبة على جوانب الطرق ، وفي المحلات التجارية ، والمتاجر عباراتها سوقية عبارات هجينة ، مسفة ..

المواجهة :ـ

(( لذلك لابد أن نجيب في العملية الإعلامية عن السؤال الكبير: " لماذا ؟ " فنجدد نوايانا ونوضح أهدافنا من العمل الإعلامي .. ثم نصل إلى السؤال : " كيف ؟ " فنضع الخطط والبرامج ونحدد الوسائل والأدوات في ضوء امكاناتنا والواقع الذي نتعامل معه , ومن ثم تحديد الإجابة عن : " متى ؟ " وذلك لاختيار الزمن المناسب لأداء العمل )) 34

حلول ومقترحات :ـ

(1)/ أن تستخدم وسائل الإعلام في توعيتها الكلمات الفصحى ، والعبارات سليمة التراكيب التي تجمع بين البساطة في التعبير ،، واحترام قواعد اللغة .

(2)/ قيام وسائل الإعلام بالتوعية المستمرة في حثّ الجماهير على النطق بالعربية الفصحى .

(3)/ ضرورة وجود دائرة من المراجعين المدققين اللغويين ذوي الكفاءة يتتبعون النشرات والتقارير والبرامج الأخرى .

(4)/ تقديم جوائز تشجيعية لكل من يخرج عملاً إعلاميا من لقاء أو مسرحيات أو أغان أو مسلسلات بلغة فصحى مبسطة للجماهير في كل قطر .

(5)/ يجب تقديم دروس تقوية للعاملين بالإعلام ، يكون حضورها إلزامياً في مسائل العربية ونحوها وصرفها .

(6)/ إقامة ندوات لغوية ونحوية للإعلاميين ، وإلقاء محاضرات بين الحين والأخر ، تناقش فيها مختلف القضايا اللغوية والنحوية المتعلقة بوسائل الإعلام .

(7)/ إصدار نشرة بأهم الأغلاط الملحوظة ، مع تصويبها وتعميمها على العاملين ليتم تلافيها .

(8)/ عدم قبول أي كادر إعلامي إلا بنجاحه في مادة اللغة العربية ، لأن هذا سيدفعهم للقراءة والمتابعة وتطوير قدراته اللغوية .

(9)/ أن يكون اختيار المذيعين قائماً على جودة اللغة العربية ، وإتقانهم لها ، فكراً وثقافة ، وكتابة موهوبة .

(10)/ زيادة الوقت المخصص للبرامج التثقيفية في اللغة العربية والعمل على رفع مستواها .

(11)/ تعميم لغة مشتركة تقرّب بين اللهجات ثم تلغيها بمرور الوقت .

(12)/ الربط بين الإعلام وأجهزته وبين خطط التعليم والمناهج المدرسية .

(13)/ عرض ترجمات الأفلام والبرامج الأجنبية على المراجعين المدققين اللغويين قبل تسجيلها ، على أن يكون هذا شرطاً لشرائها أو مبادلتها .

(14)/ يفترض في الإعلانات التجارية أن تكون بلغة سليمة ناصعة ، آو على الأقل بلغة وسط بين العامية والفصحى .

(15)/ ينبغي عدم إدخال ألفاظ أجنبية على العربية في لغة الإعلانات ، لأن فيه إهانة لها ، وإنما يتم الترجمة أو التعريب حتى لا يؤدي هذا إلى ازدواجية لغوية .

(16)/ يجب أن تستثمر وسائل الإعلام الدعايات الإعلانية بإلزامها بلغة عربية فصيحة معاصرة ....لأن تأثير الدعاية الإعلانية في الأطفال سريع جداً 0

والله الموفق لما فيه خدمة الإسلام

الأستاذ/ سالم مبارك الفلق

اليمن / حضرموت

==============

# النهضة.. من الصحوة إلى اليقظة

د. جاسم سلطان

مقدمة

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين. والصلاة والسلام على رسول الله r .. أما بعد:

ففي هذه اللحظة التاريخية التي يتصاعد فيها صدى التحولات العالمية حتى يصم الآذان، ويعلو فيها صوت المآذن حتى ينتظم الآفاق, تنبعث من تحت الركام التاريخي الطويل أمة الإسلام, عارية الصدر إلا من جلال الحق في وجه قوى الظلام المدججة بأعتى الأسلحة الفتاكة للأجسام والعقول.. معركة تبدو للوهلة الأولى محسومة. تكون الغلبة فيها لمنطق القوة لا لقوة المنطق.. في هذه اللحظة نؤمن أن قدر الله غالب.. وأن دعوة الحق منتصرة.. فكما نهضت الأمة من سباتها ورفعت رأسها عالياً رغم كيد الخصوم وجهل الأحباب، فهي لا شك قادرة على تحصيل أسباب القوة والمنعة ولو بعد حين.. وحين تحرس القوة الحق. فلا يقف شيء أمامه..فإن الحق يأسر القلوب والعقول، والقوة تردع الطامعين والباغين. تلك هي الآمال، نقولها ونربطها بمشيئة الله عز وجل، واثقين من تأييده إن بذلنا وسعنا.

لماذا الفهم؟؟

إن موضوع النهضة، ومحاولة الكتابة عنه ضرورة لابد منها؛ لأنها متعلقة بأمرين مهمين وهما:

الأول: موضوع الفهم، فإن الحكم على الشيء فرع عن تصوره، وقد قدم البخاري باباً أسماه "بابُ العلم قبل القول والعمل" وذلك لأن العمل بلا علم أمر فيه خلل كبير، فصواب العمل مقترن بالعلم الذي قاد إليه.

الأمر الثاني: والمرتبط بالموضوع الأول، هو ضرورة تنظيم الخارطة المعرفية الذهنية للعاملين في حقل النهضة. فكثير من المعارف والمعلومات التي يتلقاها الفرد الذي يهتم بشأن أمته تأتي من أطراف مختلفة، وفي غالب الأحيان تأتي أفكاراً متناقضة، ولا توجد خارطة معرفية منظمة مسبقة، بحيث يضع فيها الفرد العامل ما يتلقاه من معارف ومعلومات في مكانها الصحيح.

هذان الأمران؛ الفهم وتنظيم الخارطة المعرفية للعاملين في حقل الدعوة والمهتمين بأمر الأمة؛ يأتيان في قائمة الأولويات، ولعل الكثير من المخلصين اليوم يرون بوضوح حجم الاضطراب الذي يسود الساحة الإسلامية في قاعدتها الفكرية الواسعة، ما أدى إلى خلل على الجانب التنفيذي.

الخارطة الذهنية

وفكرة الخارطة الذهنية المنظمة يمكن تقريبها للقاريء بفكرة الحاسوب (الكمبيوتر)، أو فكرة الهاتف النقال، فتخيل معي أخي الكريم؛ لو أنك كنت ممن يستخدم الهاتف النقال دون أن يكون به قاعدة منظمة للبيانات، وقمت بإدخال الأسماء والأرقام، ثم أردت استعادة الأرقام وهذه الأسماء والتوفيق بينها، إنه سيتأكد لك أن هذا الأمر محال، فالأمر الذي يجعل الجهاز فعالاً ومنتجاً في مخرجاته؛ هو تنظيم قاعدة البيانات الداخلية التي تستقبل المعلومات من الخارج، وبالتالي تقوم بعمليات التحويل، وإخراجها لك مرة أخرى لتستفيد منها.

قس ذلك على عقل الإنسان فحينما تنظم القاعدة المعرفية في أي علم من العلوم أو معرفة من المعارف، يمكن منها أن تتحول الجزيئات إلى معنىً واضح، يسهل استخراجه والاستفادة منه.

مواقف الناس من قضية الفهم:

الصنف الأول: صنف محب، شديد العاطفة ولكنه لا يريد أن يتعب ذهنه بعلم ولا بفهم. ورغم صواب نية هؤلاء العاملين إلا أن خطرهم كبير أثناء مراحل السير، فهم عرضة للشبهات، والشبهات دواؤها العلم، وعند اشتداد الكروب قد يصبح هؤلاء عبئاً على الدعوة وحركة النهضة، حيث قد يركبون تيارا ًيقود إلى عكس اتجاه النهضة، ويؤدي إلى تدمير جهود العاملين فيها، وقديماً قيل "الرأي قبل شجاعة الشجعان". فإعمال النظر والفكر وحسن التصور مقدمة ضرورية لحسن العمل، ولذلك اشترط في العمل لكي يكون صواباً أن تتوفر له النية الصالحة. والنية الصالحة وحدها ليست كافية، بل لابد للعمل كي يكون صواباً أن يكون عن علمٍ وعن نظرٍ وعن تصورٍ صحيح.

الصنف الثاني: وهو صنف يمكن أن نقول عنه أنه قارئ بدرجة من الدرجات، ولكنه أيضاً غير راغب في البحث والتحقيق، وهذا الصنف من الناس كثير النقد، قليل العمل وينظر إلى كل أمر بمنظار أسود. وهؤلاء أيضاً يشكلون عائقاً وعبئاً على عملية النهوض والاستنهاض.

الصنف الثالث: هو صنف عامل ناقد باحث عن التطوير باستمرار، يستند إلى جهد ثري في محاولة البحث والنظر، مع عدم إهمال العمل وبذل الجهد، وعدم الاكتفاء بالمقاعد العادية البعيدة عن

ساحة الفعل، وهذا صنف مبارك تقوم عليه الدعوات وتتحقق به النهضات.

الصنف الرابع: فهو أيضاً صنف مبارك جهده منصب على البحث والنظر والتحليل والتفصيل، ولكن قد يشوب عمله البعد عن الواقع والاكتفاء بمستوى النظرية عن ملامسة الواقع وفهمه.

والشارع سبحانه وتعالى قد أمرنا بالتبيّن فقال "فتبينوا"1، وأمرنا بطلب البرهان "قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين"2. وقد قرر العلماء أن الحكم على الشيء فرع عن تصوره، والداعية في سيره في مشروع النهضة إنما هو يصدر الأحكام على الأشياء ويتخذ قرارات في أثناء السير، فإن لم يكن التصور واضحاً خرجت الأحكام أيضا منقوصة وقاصرة.

نحن أمام حاجة كبيرة جداً للعلم، حتى نستطيع أن نقوم بالعمل على وجهه الأكمل. وتجدر الملاحظة هنا أن العلم والعمل يسيران متوازيين مع بعضهم البعض، فالعمل يطرح أسئلة على العقل، تلجئ الإنسان لمزيد من البحث والنظر والعلم، والعلم يولد أفكاراً ومبادرات، والمبادرات حين تتنزل على الواقع تشذب وتطرح أسئلة جديدة، وهكذا تتولد الحياة في الأفكار ويزداد الإنسان علماً ويرتقي.

وبالتالي يلزم للإنسان المسلم الجانبان: الجانب العلمي والجانب والعملي، وإذا انفصل أحدهما عن الآخر فإما أن يعمل الإنسان ويكون عمله عكس ما يتمنى ويشتهي لنقص علمه، أو يعلم الإنسان الكثير ولكنه أيضاً لا يمارس ما يعلمه في الواقع فتكون المحصلة أيضاً صفرية.

خطة البحث:

إن الإعداد لمثل هذا البحث – والذي هو ضمن سلسلة تتحدث عن قضية النهضة وأدواتها - قد استغرق ما يزيد على العشر سنوات. وتم تدريس مفردات هذه السلسلة في أقطار كثيرة. وهذه هي المحاولة الأولى لتجميع ما كان متناثراً، بين مخطوطات يدوية، وتسجيلات صوتية، ودورات تدريبية. وصياغته في سياق واحد. لذلك فقد لا يأخذ الكتاب الشكل المعتاد عليه في مثل هذا النوع من الكتب.

وتتناول السلسلة بوجه عام:

* فلسفة النهضة ووضع إطا ر يكمن فهمها من خلاله.

* قوانين النهضة، والتي تحكم حركات التحولات الاجتماعية.

* مشروع النهضة وأهدافه ووسائله ومراحله.

ويتناول هذا الكتاب الفلسفة الكبرى للنهضة. ويعتني بتحديد المستلزمات الأساسية للانتقال من طور الارتجال والاندفاع وضبابية الرؤية إلى الرشد ووضح الرؤية. ويتم كل ذلك من خلال:

* شرح بعض المصطلحات التي ينبغي الإحاطة بها لأي عامل للنهضة لتنظيم خارطته الذهنية وتحديد طبيعة المرحلة التي تمر بها أمتنا في طريقها نحو النهوض.

* وضع حركة النهضة في سياقها التاريخي.

* تحديد إطار لفهم مراحل التحول الحضاري، ومن ثم تحديد إطار لفهم المرحلة الحالية.

* تحديد نموذج وطريقة تفكير القائد المطلوب.

* تحديد احتياجات صانع القرار العامل للنهضة.

* توضيح أهمية دراسة التاريخ للقائد.

* تحديد صورة الإسلام الذي يجب استدعاؤها وتَمَثُّل العاملين للنهضة بها.

* تحديد التحديات التي يواجهها المشروع.

* الإجابة على السؤال الهام: من أين يبدأ الإصلاح؟

* توضيح دور ثقافة الأرقام ولغة الإحصاء في مشروع النهضة.

* هدم جدران الإحباط بمعاول الأمل.

وقد رأينا أن نقسم هذا البحث إلى فصل تمهيدي، تليه أبواب متعددة لمحاولة توضيح فلسفة مشروع النهضة وأسسه ومنطلقاته. وصغنا هذه الأبواب على شكل مشاهد، نتحدث في كل مشهد عن الوضع الراهن ونقطة البدء لتغيير هذا الواقع وتصورنا للمشهد المستقبلي والخطوات العملية لتحقيق هذا المشهد.

تحديات واجهتنا:

لقد قمنا بتحديد الشريحة المستهدفة من هذه السلسلة، ومن هذا الكتاب، فيممنا وجهنا إلى الشريحة الغالبة من الشباب التي تتطلع إلى العمل الجاد. وإحداث التحولات الكبرى. وواجهتنا عدة معوقات، حاولنا التغلب عليها. مثل:

+ كيف يمكن أن يستفيد القارئ مما يقرأ، ليكون خارطته المعرفية المنظمة؟!

* وكيف يمكن تقديم المادة في شكل يجيب على حالة الإحباط المنتشرة بين صفوف الكثير من المجتمعات الإسلامية؟؟!

* وكيف يمكن أن تصبح الفكرة شائعة بين الجمهور؟!

* وكيف يمكن أن تغادر الفكرة رفوف النخب إلى الإنسان المتوسط والبسيط؟؟!

* وكيف يمكن أن تتحول الفكرة إلى مادة قابلة للاستخدام في النهضة في وجه دعاة اليأس والقنوط؟!

تلك هي الأسئلة، وكانت هذه محاولتنا لعمل رأس جسر لهذا المشروع الكبير، لنقله من ساحة التصور النظري البحت للطبقة العليا من المفكرين والمنظرين، إلى الطبقة الوسطى والدنيا التنفيذية في المشروع.

إن هذا الكتاب جزء من سلسلة نسأل الله أن تكتمل وتتكامل. نبدأها بهذه القطرة الأولى لتتبعها قطرات، وقد ترددنا كثيراً في إخراج هذه الورقات، والحديث عن هذا الموضوع بشكل مفتوح، ولكن تشجيع الأحباب، والكثير ممن استمع إلى هذه المحاولة قاد إلى اتخاذ القرار الأخير بنشرها، رغم يقيننا أنه ما زال الكثير والكثير الذي يتوجب علينا عمله، والقيام به، ولكن الأعمار بيد الله عز وجل، والإنسان لا يضمن إذا وجد اليوم أن يبقى إلى الغد، فالمسارعة في الخير - وإن كان قليلا ً- ونشره واجب لا يجب تأخيره، خاصة إذا حان وقته.

وأخيرا نسأل الله العون والسداد . فإن أصبنا فمن الله وإن أخطأنا فمن أنفسنا ومن الشيطان. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.

تمهيد

هناك الكثير من المفاهيم والنماذج، التي نرى أنه لا غنى عنها في مثل هذا النوع من الدراسات، نحاول أن نبسطها قدر الإمكان، ونبتعد عن التعقيد، وسنشير - في ثنايا هذه الدراسة- إلى المواضع الصعبة، والتي نرى أنه رغم صعوبتها، فإنه لابد للعامل أن يدركها، وأن يبذل الجهد في محاولة استيعابها، لضرورتها في تنظيم الخارطة الذهنية، وسنبذل ما نستطيع في سبيل ذلك والوصول إلى هذا النوع من التبسيط.

المشروع:

ولنبدأ بكلمة المشروع، ويتساءل القارئ ما وجه الحديث عن تفسير كلمة المشروع، ونعتقد أنها من الكلمات الهامة التي تشغب على بعض المتناولين لقضية النهضة، ويتساءلون فيها قائلين بأن وصف المشروع الإسلامي بأنه مشروع قول غير مشروع!! ونقول أن المتعامل مع قضية النهضة، يجب أن تكون لديه إجابة محددة، لمثل هذا السؤال فعندما نتعامل مع كلمة مشروع، ونفتح "منجد الطلاب" مثلاً نجد أن كلمة مشروع تحتمل المعاني التالية: ما سوغه الشارع، والأمر المشروع هو ما بدأت بعمله.

وفي نطاق هذين المعنيين، فالمشروع الإسلامي أمر سوغه الشارع، وهو أمر قد بدأ به وتتم الحركة في إطاره، فمن الناحية اللغوية يجوز لنا أن نتناول وأن نستخدم كلمة مشروع.

ويقول أهل الإدارة: أن كلمة مشروع تعني أنشطة متتابعة مصممة، للوصول إلى مخرجات محددة، من خلال ميزانية محددة، ومدى زمني محدد.3

ومن هذه الزاوية فإن كلمة مشروع التي نتعامل معها، لا تنطبق حرفياً على مشروع النهضة، ولكن يمكن أن نقارب ونسدد فيها، إذا كان المدخل مدخلاً إدارياً، حيث أن تحديد الزمن بدقة والذي تستلزمه عملية النهضة أو تحديد الموازنات الضرورية لعملية النهضة في إطارها العام الكبير أمر دونه خرط القتاد .

أما في العلوم السياسية فيقصد بكلمة مشروع أي أيديولوجيا2تسعى للهيمنة. وهنا ينبغي التركيز على قولنا أنها تسعى للهيمنة، فكل أيديولوجيا تسعى للهيمنة، يطلق عليها كلمة مشروع3، مثلما يتم الحديث عن الليبرالية كمشروع فيقال: (..Political liberalism as a project..).

إذاً يمكن التعامل مع الأفكار النهضوية على أنها مشروع، ويمكن أن نطلق ذلك إذا تعاملنا مع الكلمة بسعة في الإدارة أيضاً، أما من الناحية اللغوية فيمكن استخدامها قطعاً بدون تخوف. وفيما يخص العلوم السياسية فهي باب مفتوح يمكن التعامل معه بدون أي حرج، وبذلك تكون كلمة "مشروع" قد اتضحت وأصبح استخدامها مشروعاً في هذا المجال الذي نتحدث عنه.

النهضة:

إن الكثيرين ممن يتحدثون عن النهضة، لا يمتلكون إطاراً يحددون به معنىً للنهضة. ونود أن نشير إلى بعض القضايا المتعلقة بهذا الموضوع. ولن نلجأ إلى المصطلحات الغامضة المتعلقة بتعريفها اللغوي، ولكن سنتناول موضوع النهضة من حيث أنها كلمة دخلت على اللغة العربية للتماهي مع كلمة النهضة التي وردت في التراث الأوربي، وبالتالي لا يمكن إدراك معناها في غياب المعنى الذي اجتلبت منه أساساً، وهو معنى كلمة النهضة في الثقافة الأوروبية. يقول الدكتور نور الدين حاطوم في كتابه "تاريخ عصر النهضة الأوروبية ": "(النهضة) تفتح عجيب للحياة بأشكالها المختلفة، بلغت مظاهره الكبرى بين 1490 و1560.. وهي بالمعنى العام الواسع تدفق من الحيوية أثار البشرية الأوروبية فتبدلت على أثره حضارة أوروبا بكاملها. وهي بالمعنى الضيق نزوة حياتية في أعمال الفكر. إنها ضمة تطلع وتوق وهواية وسمو أكثر منها مذهب أو نظام. إنها دافع داخلي جدد حياة العقل والحواس والمعرفة والفن."

ويقول في مقدمة الكتاب: "إن عصر النهضة الأوروبية أو القرن السادس عشر الذي ندرس تاريخه في هذا الكتاب هو العصر الذي يبدأ برحلة كريستوفر كولومبس الأولى سنة 1492، وحروب إيطاليا 1494، وينتهي بين وفاة اليزابيث ملكة إنجلترا 1603، وموت هنري الرابع ملك فرنسا 1610.. لقد حدثت في هذا العصر حوادث عظيمة، وتبدلات عميقة في أنظمة الدول الداخلية، وفي سيماء أوروبا العامة، وفي علاقات هذه القارة مع القارات الأخرى. ولذا تختلف حوادث القرن السادس عشر اختلافاً كلياً عما نعرفه في القرن الوسيط، الذي انتهى في السنوات الأخيرة من القرن الخامس عشر". ويقول:

"وإذا انتهى العصر الوسيط كما تنتهي الأشياء في التاريخ، إلا أن هذه الأشياء لا تزول تماماً، بل تبقى مع الزمن، فإننا نجد في حياة رجال القرن السادس عشر وأفكارهم وأعمالهم كثيراً من معالم العصر الوسيط الراحل. وليس في سياق التاريخ واستمراره انقطاع للحوادث البشرية، بل إن هذه الحوادث تجري في تطور بطئ مستمر، وقد يقع أن يحدث ما يؤخر سيرها، غير أنها تعاود الكرة وتستأنف تقدمها ولو ببطء وخجل." ويقول أيضاً: "تتجلى مظاهر التجديد في أوروبا عصر النهضة، بحوادث كبرى، وتطورات عظيمة، أشبه ما تكون بثورات،؛ فكرية دينية، أخلاقية سياسية تجديدية، في الاقتصاد الجديد."1. و يقول نور الدين حاطوم أيضاً: "وبدا لنا القرن السادس عشر وكأنه التفاتة نحو الماضي أكثر منها نحو المستقبل، أو رجعة نحو ماضيين يجملهما معاً، وهما القديم الوثني والقديم العبري- المسيحي، أو نحو الإلياذة والكتاب المقدس. وما النهضة والإصلاح الديني في البدء إلا حركتان متوازيتان وباتجاه واحد لتتعرف إحداهما بحقيقة الحياة الإنسانية في العصر القديم، ولتعيد الأخرى الدين المسيحي إلى نقاوته القديمة الأولى. فحين نحاول أن نجد ثورة، لا نجد في الحقيقة إلا رجعية.."

هذه الكلمات الهامة التي يشير إليها نور الدين حاطوم تشير إلى أن مفهوم النهضة في الفكر الأوروبي لم يكن قطيعة مع الماضي؛ بل هي تواصل معه واستجلاب الخيرية التي كانت فيه، ثم انطلاقٌ إلى المستقبل لمحاولة البحث عن فرصه، وما يمكن اقتناصه منه.

هذه قضية في غاية الأهمية، إذ يدّعي البعض في واقعنا الإسلامي بأننا يجب أن نترك الماضي بخيره وشره، وأن نتبنى ما عند الآخر بخيره وشره، وننطلق إلى المستقبل، وهذا أمر لم يحدث حتى في الحضارة التي يقوم

البعض بتقليدها والإعجاب بها.

كما يقول نور الدين حاطوم:".. ولكن يجب أن لا نأخذ بالظواهر فننكر على القرن السادس عشر كل تجديد. إن روح أي عصر من العصور لا يتمثل بعقلية الكتل والدهماء والجماهير، بل بعقلية الصفوة المختارة من أبنائه، فئة من الأبطال - كما يقول كارليل- حملة المشاعل الذين ينيرون للناس طريق المستقبل خلال ديجور الحاضر.."

وانظر إلى هذه العبارات "حملة المشاعل الذين ينيرون للناس طريق المستقبل خلال ديجور الحاضر" فرواد النهضة الذين تتحدث عنهم الحضارة الأوروبية في تلك الفترة، هم القلة التي حملت المشاعل وبدأت تكشف للناس عن جمال الماضي، وعن إمكانية الفعل في المستقبل، ولم تكن الفئة التي دعت إلى القطيعة مع الماضي، واليأس من المستقبل.

ونكمل مع نور الدين حاطوم : ".. وإذا درسنا رجال الفكر في هذا العصر، رأينا عندهم مفهوماً جديداً للعلم والطبيعة والدين والأخلاق الفردية و الاجتماعية. ومما يجدر ذكره أن هؤلاء الأبطال يشعرون بأنهم في عصر حديث.."

إن الناظر في أعمال هؤلاء المجددين في هذا العصر يرى أنهم متقدمين على عصورهم، كما يقول نور الدين حاطوم ".. ولكن المجددين كثيراً ما يتقدمون عصرهم ويكونون عرضة لاضطهاد معاصريهم ممن لا يفهمون آراءهم: مثال ذلك كوبرنيك ( 1473 – 1543م)، فقد برهن على حركة الكواكب حول نفسها وحول الشمس، فحكم البابا بأن نظريته مخالفة للكتاب المقدس. وبالرغم من أن كوبرنيك نفسه كان من أبناء القرن السادس عشر، فقد كانت الفكرة الثورية الجديدة التي أتى بها

متقدمة على القرن الذي عاش فيه.."، وقل ذلك على ليوناردو دافينشي وغيره من المفكرين الذي اضطهدوا بسبب آرائهم، التي سبقت عصرهم وتقدمته.

نعود إلى معنى كلمة النهضة التي بدأنا بها ونقول أنها: حركة فكرية عامة، حية منتشرة، تتقدم باستمرار في فضاء القرن، وتطرح الجديد دون قطيعة مع الماضي.

فهذه الكلمة تحتوي على جملة مفردات:

* حركة

* فكرية عامة

* حية

* منتشرة

* تتقدم باستمرار في فضاء القرن

* وتطرح الجديد دون قطيعة مع الماضي.

وتشمل مجالات العلم والدين والسياسية والاقتصاد والاجتماع وما إلى ذلك. فهذه الحياة الجديدة وهذا التصور الجديد لإمكانية الفعل التاريخي، ولإمكانية النظر للكون بمنظار جديد، هي السمة الأساسية لما يسمى بعصر النهضة، وهي في الوقت نفسه ليست حركة في أرض منسابة سهلة، بل إن الحركة التي تقودها هذه النخب- التي أطلق عليها كارليل "الأبطال"- تتعرض للاضطهاد والتنكيل والمقاومة، ولكن ذلك جزء من ضريبة هذا الوضع النهضوي الذي يتحرك فيه المجتمع.

إذا قمنا بالمقاربة لكلمة النهضة في واقعنا المعاصر؛ سنجد التماثل والتماهي في حركة التيارات

الإسلامية الجديدة التي تدعوا إلى التطوير في التعليم والاجتماع وفي السياسة وفي الاقتصاد، وتدعوا للارتباط بالنافع من تراث الأمة والخير من إنتاجها. هذا التمازج الحي بين حركة الأصالة وحركة التجديد يرسم معالم عصر النهضة الذي يتحرك فيه الآن هذا التيار الضخم من العاملين في حقل النهضة.

التنمية:

وهناك مصطلح آخرمقارب للنهضة. ففي كثير من الأحيان يتكلم الناس عن التنمية ولا يتحدثون عن النهضة، وهذا المفهوم -مفهوم التنمية أو الـ Development- الذي ينتشر والذي يستخدم، يشكل جزئية من جزئيات النهضة، وليس ذات النهضة وذلك إذا أردنا النظر للصورة بشكل أعم. فمن المفهوم الأوروبي أيضاً جاءت كلمة Development "التنمية" مع حركة التعليم واستيراد المجتمعات الإسلامية لكثير من المفاهيم الواردة من التراث الأوروبي.

يقول عبد الحق الشكيري عن كلمة التنمية : "في المفهوم الغربي يقصد بها: تنشيط الاقتصاد الوطني، وتحويله من حالة الركود والثبات إلى حالة الحركة والديناميكية، عن طريق زيادة مقدرة الاقتصاد الوطني لتحقيق زيادة سنوية ملموسة في إجمالي الناتج الوطني، مع تغيير في هياكل الإنتاج ووسائله، ومستوى العمالة، وتزايد الاعتماد على القطاع الصناعي والحرفي . ولهذا اعتبرت الزيادة السنوية في إجمال الناتج الوطني، ومتوسط دخل الفرد من المؤشرات الأساسية للتنمية....." *1.

من خلال رؤيتنا لمفهوم التنمية في الفكر الأوروبي، ومن خلال النظر إلى هذا المفهوم عند عدد

كبير من مستخدميه، فإنه مفهوم ضيق يتعلق بالجانب الاقتصادي ومفرداته. على أن عبد الحق الشكيري يحاول أن يطرح مفهوماً أعم وهو أقرب إلى مفهوم النهضة والحضارة فيقول: (.. إن جوهر عملية التنمية -يقصد في التصور الإسلامي- هو تغيير حضارة، يتناول أبنية المجتمع كافة، ويشمل جوانبه المادية والمعنوية. إن أي نظرية للتنمية لابد أن تنبثق من واقع وظروف هذه المجتمعات..).2

مما سبق يتبين لنا أن مفهوم النهضة هو مفهوم الحراك الاجتماعي لعصر ما نحو الفاعلية الحضارية، وأن مفهوم التنمية في الفكر الأوروبي هو مفهوم يقتصر على الجانب الاقتصادي ومؤشراته، ونستنتج أن السعي نحو الحضارة يشملهما أي يشمل عملية الحراك النهضوي، ويشمل عملية التنمية الاقتصادية من أجل إحداث فعل حضاري.

الحضارة:

ما ذكرناه سابقاً يقودنا إلى موضوع الحضارة التي نسعى إليها، والحضارة كلمة عامة يقصد بها حالة مزدوجة من العطاء المادي في البناء العمراني، والتنمية والاستقرار والإسهام في التراث الإنساني، وزيادة نمائه، ويضيف إليها البعض في بعض الدراسات بأن الأمر فيه متسع للقول أن هذا هو معنى المدنية، وأنه يلزم لوضع مفهوم "حضارة" أن يكون داخل هذا البناء مفهوم أخلاقي ديني، ولا نرى في ذلك تلازماً صرفاً، إلا إذا اعتبرنا أن أي مفهوم فلسفي داخلٌ في هذا المعنى. فإذا قلنا أن الحضارة الصينية قامت على الكونفوشيوسية؛ فنقصد في هذا السياق معنيين معنى الاستقرار والبناء والتنمية والإسهام الحضاري، ومعنى داخلي وهو أن تكون هناك قيم سائدة هي الكونفوشيوسية، وفي هذا المعنى

يمكن إدراك مفهوم الحضارة الواسع.

إذاً المجتمعات تسعى في طريقها للحضارة لجانبين:

* جانب استقرار وتنمية،

* وجانب آخر: أن يكون لها منظومة قيمية، وأن تسهم في الحضارة البشرية.

وحركة النهضة هي حركة لإحداث تحولات تقود إلى الوضع الحضاري المطلوب. ومن هنا تتضح بعض المعاني الغامضة في أقصى ما يمكن أن نشرحه في هذين الجانبين الهامين.

سؤال هام:

إذا عدنا إلى الحديث عن قضية النهضة فإنه يُطرح سؤال هام يقول: في أي سياق تأتي قضية النهضة؟؟

وللإجابة على هذا السؤال نعرض النموذج التالي:

1097م

1924م

انطلاق المشروع الإسلامي

وقيام الدولة

الحملات الصليبية

إسقاط الخلافة

622م

إذا نظرنا إلى القرن السابع الميلادي 622م ونظرنا إلى القرن الحادي عشر الميلادي 1097م ثم نظرنا إلى القرن العشرين 1924م لوجدنا ثلاثة محطات كبيرة وهامة في تاريخ العالم الإسلامي.

فالمحطة الأولى الهامة في تاريخ العالم الإسلامي 622م شهدت انطلاقة المشروع الإسلامي وتحوله من شكل التنظيم إلى شكل الدولة المعاصرة - إن جاز تعبير الدولة المعاصرة - حيث نقصد بذلك

وجود مجتمع لديه قيادة ولديه دستور ولديه جهاز الشورى ولديه جهازه الدفاعي أو جيشه الذي يتحرك بإمرته. هذا الشكل الذي كانت بذوره موجودة يمكن أن نطلق عليه بشكل أو بآخر بذور الدولة الحديثة. إذا نظرنا إلى هذه المحطة الهامة في تاريخ البشرية حيث بزغ ما يمكن أن نطلق عليه النظام العالمي الجديد. وقدم المسلمون فيه نموذجاً جديداً لمفهوم الإنسانية، ومفهوم الحرب، ومفهوم السلم، ومفهوم العدالة، ومفهوم تعايش الأديان، ومفهوم الدستور، وغير ذلك. ثم إذا انتقلنا إلى القرن الحادي عشر حيث بدأ الهجوم الأوروبي الضخم في شكل الحملات الصليبية على العالم الإسلامي 1097م، الأمر الذي استنزف موارد العالم الإسلامي بشكل متصل لمدة ثلاثة قرون. ثم تواصل هذا الهجوم على الأطراف - بعد أن كان يستهدف القلب - وتم إنجاز المشروع الغربي بإسقاط الخلافة الإسلامية سنة

1924م وهي المحطة الثالثة الهامة التي يجب تذكرها والتي أدت إلى هزة كبيرة في العالم الإسلامي نتيجة لثلاثة أمور .

الأول: انكشاف حالة التخلف في العالم الإسلامي .

الثاني: سقوط العالم الإسلامي تحت أيدي حركة الهيمنة والاستكبار أو ما أطلق عليه الاستعمار.

الثالث: تمزيق العالم الإسلامي إلى وحدات صغيرة لا يجمعها جامع.

وبالتالي تولدت ثلاثة عناوين كبيرة تحرك تحتها العالم الإسلامي بعدها .

* العنوان الأول عنوان النهضة والتقدم في مقابل عنوان التخلف .

* وعنوان التحرير في مقابل معادلة وعنوان الاستعمار والاحتلال.

* وعنوان الوحدة في مقابل عنوان التمزيق.

وقد شمل ذلك جميع ألوان الطيف السياسي في المجتمعات الإسلامية، حيث كانت العناوين متشابهة فنرى مثلاً عناوين "الوحدة الحرية التقدم"، هي نفس العناوين التي نتحدث عنها في "الوحدة والنهضة والتحرير"، وقد تحدث عن هذه العناوين القوميون، وتحدث عنها الإسلاميون على وجه سواء، ولكن المنطلقات كانت مختلفة؛ فكان منطلق الإسلاميون التواصل مع الماضي واستجلاب الصالح منه، ثم تعزيز الهوية من خلاله، والانطلاق لمواجهة المستقبل بحركة التجديد في جميع المجالات. بينما قررت قطاعات ليست باليسيرة في التيار القومي القطيعة مع الماضي بشكل أو بآخر واعتباره تراثاً وليس عقيدة، واستبعاده من معادلة السياسية، وإبقائه في زاوية ضيقة وهي مجال الاجتماع، ولكن وعلى كل حال ظلت العناوين الثلاثة الرئيسية وهي "الوحدة والنهضة والتحرير" هي محاور الاهتمام.

إذاً موضوع النهضة يأتي في سياق تاريخي طويل ممتد بدأ من قيام الدولة الإسلامي ووضعها لنموذج الدولة ونموذج جديد للحضارة البشرية، ومروراً ببداية الهجوم العالم الغربي الكبير منذ القرن الحادي عشر على العالم الإسلامي، وانتهاء بنجاح المشروع الغربي في تفتيت العالم الإسلامي، والسيطرة على مقدراته، وفرض التخلف عليه وإدامته، ثم حركة الإحياء الإسلامي، والنهضة الإسلامية التي بدأت مع هذا الزلزال الكبير الذي بدأ سنة 1900م أو الذي تجلى سنة 1924م - في عبارة أصح – حين أعلن عن سقوط الخلافة الإسلامية.

المحطات الهامة في التاريخ

المحطة ... السمات ... النتائج

سنة 622م

انطلاقة المشروع الإسلامي

...

* تحول المشروع إلى نظام الدولة.

* تكون مجتمع

* قيادة

* دستور

* جهاز شورى

* جهاز دفاعي

... دولة حديثة

مفاهيم جديدة عن:

* الإنسانية

* الحرب والسلم

* العدالة

* تعايش الأديان

* الدستور......

سنة 1097 م

القرن الحادي عشر بداية الهجوم الأوروبي على العالم الإسلامي في الحملات الصليبية.

...

* استهداف القلب

* ثم هجوم عل الأطراف

... استنزاف موارد العالم الإسلامي

لثلاثة قرون.

سنة 1924م

إنجاز المشروع بإسقاط الخلافة الإسلامية.

...

* انكشاف حالة التخلف

* الاستعمار والاحتلال.

* التمزق

... هزة كبيرة للعالم الإسلامي.

إلى هنا نكون قد أجبنا على التساؤل حول كلمة مشروع، وكلمة النهضة والتنمية، والحضارة ومعانيها، ثم تطرقنا إلى قضية السياق الذي تأتي فيه عملية النهضة، وفكرة النهضة للعالم الإسلامي.

والآن نبدأ في تناول بعض الأمور التي قد تكون صعبة في البداية، ولكنها في غاية الأهمية لتنظيم الخارطة الذهنية للقارئ.

المصطلحات الأربعة:

سنبدأ ببعض المصطلحات التي يصعب تجاوزها لضرورتها في ترتيب الخارطة العقلية للعاملين، ولشيوع بعضها في كثير من الكتابات وفي التناول اليومي لكثير من المثقفين. ويجب أن نلفت النظر إلى أن هذه المصطلحات تعددت تعريفاتها وتنوعت، وما سنذكره هنا من تعريف لكل مصطلح هو ما اخترناه لسيستمر معنا طوال البحث. ونذكر أربعة مصطلحات هامة نرى أنها تشتمل على بعض التعقيد للوهلة الأولى:

الأول: مصطلح ما وراء الأيدلوجيا أو الميتا أيديولوجي

الثاني: مصطلح الأيديولوجيا

الثالث: مصطلح البارادايم

الرابع: مصطلح الاستراتيجية.

هذه المصطلحات تتداخل في أذهان كثير من الناس، وتشكل حاجزاً دون التواصل بين العاملين في مجال النهضة بل والمتحاورين في كثير من الأحيان، ولذلك رأينا ضرورة فك الاشتباك بين هذه المصطلحات الأربعة وتوضحيها بقدر ما يتسع له المقام في هذا البحث.

ما وراء الأيديولوجيا:

مفهوم ما وراء الأيديولوجيا يمكن أن نقول عنه أنه مجموع النصوص المرجعية، سواء كانت مقدسة أو غير مقدسة، وبصفتها نصوصاً مرجعية فعادة ما يحتكم إليها في الحديث.

ولكل إنسان مراجعه الأساسية، ففي الفكر الإسلامي نجد خلفنا تراثاً يتمثل في المصدرين الخالدين؛ الكتاب والسنة، ثم في الكثير من أعمال الفقهاء والمفكرين والمفسرين والمحدثين وغيرهم. وفي التراث الغربي هناك هوبز ومونتسكيو وجان جاك رسو وغيرهم. كما نجد ماركس، ولينين، وإنجليز في هذا السياق الكبير الذي يمثله التراث. هذه كلها عبارة عن الكتابات المرجعية التي يستند إليها العاملون في مجال الأيديولوجيا، كل حسب تراثه ومعتقداته.

وبالنسبة للمسلمين تشكل النصوص مرجعية ووعاءً كبيراً ينطلق منه الجميع في الفهم وبناء الصورة الذهنية للإسلام، وعن الممكن وغير الممكن في نطاقه وفي نطاق أسواره. هذه النصوص المرجعية هي التي تشكل هذا البناء الذي يطلق عليه ما وراء الأيديولوجيا أو الميتا أيديولوجي. يقول أندرو هيود في كتاب Foundation of Politics أو "أسس السياسة" ".. إن الأيديولوجيا العليا أو خلفية الأيديولوجيا هي التي تضع الأساس التي تقف عليه الحوارات الأيديولوجيا.. فإذا شئنا قلنا أن قاعدة كل الحوارات الأيديولوجية بعد ذلك أو البناء الثاني الذي سنتحدث عنه هو النصوص والمرجعيات التي يستند إليها المتحاورون..".

الأيديولوجيا:

أما الأيديولوجيا وهي الطابق الثاني في هذا السياق فهي كما يقول أندرو هيود ".. عبارة عن أفكار مترابطة بدرجة أو بأخرى، توفر أساساً لعمل سياسي منظم سواء كان الهدف منه حفظ أو تشذيب أو هدم نظام توزيع القوة القائم..".

إذاً يمكن أيضاً - كما يقول هيود. - أن ينظر للأيديولوجيات على أنها "توفر تصوراً للنظام في شكل رؤية عالمية، وتوفر نموذجاً للمستقبل المنشود في شكل خطوط عريضة عن كيفية إحداث التغيير السياسي. وهي في مستوى الجوهر اقتراب من الفلسفة السياسية. وعلى مستوى التنفيذ تأخذ شكل حراك سياسي".

نعود فنقول أن الأيديولوجيا عبارة عن أفكار مترابطة بدرجة أو بأخرى -ليست أفكاراً متناثرة بعيدة بعضها عن بعض- أي أنها أفكار تأتي في نسق ووفق عمليات ربط معينة، وهذه الأفكار عندما تجمع ويربط بينها تستخدم لعمل سياسي منظم. ونحن نعرف أن العمل السياسي في جوهره إما أن يقوم لحفظ نظام موجود، أو يقوم لتشذيب النظام وتعديله، أو لتغييره وإحلال شيء آخر مكانه. أما قول هيود في نظام توزيع القوى فهو يتوافق مع كون النظام السياسي في حقيقته هو نظام توزيع قوة. حيث تتوزع القوى بين رئيس الجمهورية أو رئيس الدولة وبين مجلس الشورى وبين المجالس المنتخبة أو غير المنتخبة وبين القضاء وبين الجهاز التنفيذي وهو الحكومة، فمن هذه الأبنية المتنوعة الجهاز التشريعي والجهاز التنفيذي والجهاز والقضائي، تتوزع القوى فيما بينها، إما بما يسمى توازن القوى أو باضطراب

القوى حسب النظام السياسي التي تتمثل فيه ولكن في الأخير هو توزيع للقوى بين الأطراف المختلفة داخل المنظومة السياسية.

لكن هناك أبعاد أخرى للأيديولوجيا - كما يقول هيود - ذلك أنها تشكل رؤية عالمية. فالليبرالية لا تعتبر نفسها بنت الولايات المتحدة الأمريكية أو بنت فرنسا أو المنظومة الأوروبية، بل ترى أنه يجب أن تهيمن على العالم. وهذا ما تصرح به كل الوثائق الرسمية التي تصدر من جميع الجهات

الأوروبية فهي منظومة تسعى للهيمنة، وبمعنى أخر أنها تعتبر نفسها منظومة معيارية. ولا تقتصر على بلد ما بل هي منظومة عالمية.

إن الأيديولوجيا في جوهرها هي منظومة قيمية لا تقتصر على مكان معين، بل يرى أهلها أنها صالحة للعالم كله. قس على ذلك المنظومة الشيوعية قبل سقوطها، وكيف كانت تنظر لنفسها كمنظومة عالمية. وكذلك المنظومة الإسلامية في منظورها العالمي. فالأيديولوجيا بشكل أو بآخر لها منظور عالمي.

كذلك من خصائص الأيديولوجيا؛ أنها توفر نموذجاً للمستقبل المنشود في شكل خطوط عريضة عن كيفية إحداث التغير السياسي، وما الذي يجب تغييره. فهي تقدم تصوراً لشكل الدولة الذي يجب أن يكون. ففي الدولة الليبرالية الغربية أو في المنظور الليبرالي الغربي هناك شكل للدولة ترى أنه صالح أن يكون لكل الدول، وفي المنظومة الشيوعية مثل ذلك وفي المنظومة الإسلامية أيضاً تجد ذلك. أما قول هيود أن الأيديولوجيا "في مستوى الجوهر هي اقتراب من مستوى الفلسفة السياسية وعلى مستوى التنفيذ تأخذ شكل حراك سياسي" هو أن الأيديولوجيا لا تتوقف عند التصورات بل هي تقوم بالحشد وجذب الناس حول الفكرة ومحاولة تحقيقها على أرض الواقع.

بذلك يكون قد تكون عندنا طابقين: الطابق الأول "ما وراء الأيديولوجيا"، وهو مكون من النصوص المرجعية سواء كانت مقدسة أو غير مقدسة. والطابق الثاني "الأيديولوجيا" حيث تربط هذه الأفكار وتطرح في عملية الاحتشاد حولها ومحاولة بعثها على أرض الواقع في شكل نظام.

البارادايم:

المفهوم الثالث وهو البارادايم ويقصد به: المنظور الشامل. ففي مرحلة تاريخية معينة، تسود بعض النظريات وتجد قبولاً والتفافاً من كثير من الناس حولها. وتصبح طريقة في التفكير وينطلق الإنسان في هذا السياق، ويتحدث مثلاً عن التنمية في فترة من الفترات، فيجد أمامه مجموعة تفسيرات للتنمية، كنظرية آدم سميث، أو تحليل ريكاردو، أو تحليل ماركس أو يجد نظرية الدفعة القوية أو نظرية النمو غير المتوازن. فالمقصود أن طريقة تفكيره تتأثر بمثل هذه المناظير الشاملة العامة ويطرح أفكاره من خلالها.

فالبارادايم عبارة عن مجموع المنظور الشامل المنتشر في فترة زمنية معينة، والذي يؤثر على أفكار الناس ويجعلهم ينطلقون منه في الحديث عن الأشياء، وذلك يشمل تصورات كثيرة جداً، حول السياسية والاقتصاد والتخطيط وغير ذلك من الأعمال.

وخطورة البارادايم أنه في كثير من الأحيان يغلق آفاق العقل على رؤية أحادية للواقع – منظار ذو لون محدد – تمنع رؤية الحقيقة الواضحة.

الاستراتيجية:

يخلط الناس بين هذه المفاهيم السابقة وبين ما يطلق عليه الاستراتيجية أو الخطة الاستراتيجية، فالخطة الاستراتيجية إذا أردنا التدقيق والتحقيق والتعرف على معناها دون اللجوء إلى المصطلحات المعقدة؛ فهي عبارة عن دراسة لعدد من الأشياء في واقع معين في مكان معين:

* دراسة الذات.

* دراسة الطرف الآخر المواجه.

* دراسة الأرض أو المجال الذي يتم الصراع فيه.

* دراسة الظروف المحيطة بالصراع.

* تحديد البدائل والوسائل التي يمكن بها تحقيق النصر.

* المفاضلة بين هذه البدائل.

* اختيار البديل الأمثل للوصول إلى الأهداف في ظل المعرفة الشاملة بالذات وبالآخر وبالأرض التي يتم عليها الصراع وبالمجال والظروف المحيطة بالصراع.

فالفارق بين الأيديولوجيا وما وراء الأيديولوجيا والبارادايم -وهو المستوى النظري الحاكم -وبين المستوى التخطيطي الذي يطلق عليه الاستراتيجية، هو عندما تنزل من وضع الدراسة والتحليل إلى وضع التشكل في وثيقة، أو في تصور فكري أو في شكل رؤية وفي شكل مهمة وفي شكل قيم وفي شكل مجالات عمل وفي شكل مراحل وفي شكل أهداف عامة.

هذا المستوى أيضاً يختلف عن المستوى الأخير، وهو مستوى الخطط التنفيذية، عندما تنتقل هذه الخطط الاستراتيجية العامة إلى منفذين سواء كانوا إدارات أو أقسام أو فروع وتصل إلى الخطط التفصيلية جداً على مستوى التنفيذ.

حين نخلط بين هذه المستويات في الحديث ولا يتبين القارئ عن أي مستوى نتحدث، فإننا نقع في خطأ فادح. فحين نتكلم عن الأيديولوجيا والتصورات العامة ينطلق إنسان ليتساءل عن الخطة التنفيذية، أو يسأل عن الاستراتيجية‍!! عندها يصبح الاتصال بين الأطراف مرتبكا،ً فيجب تحديد مستوى الحديث حتى يمكن أن نتبين أن المستوى ينتهي عند نقطة معينة، ويبدأ المستوى التالي عند النقطة التي تليه.

ترتيب المفاهيم الأربعة:

الخطة التنفيذية

ما وراء الأيديولوجيا

الأيديولوجيا

البارادايم

الاستراتيجية

إذا أجرينا فك الاشتباك بين هذه الأدوار المختلفة، سنصورها كالتالي: بداية ما وراء الأيديولوجيا، وتقف عليها الأيديولوجيا، ثم يقف عليها البارادايم -إن صح التعبير- ثم تأتي قضية الاستراتيجية لتجعل الموضوع دقيقا متعلقاً بمكان وزمان وظرف محدد، ثم تأتي الخطط التنفيذية لنقل الموضوع إلى واقع الحياة العملية.

مقولة: "حسبنا كتاب الله وسنة رسوله e"

بقي أن نشير إلى معضلٍ كبير يواجه كثيراً من العاملين في الساحة الإسلامية عند الحديث عن موضوع النهضة، وهو قول القائل" حسبنا كتاب الله وسنة رسوله e" وهو قول صحيح، ومهم أن نتبين معناه قبل أن نسارع إلى الاختلاف حوله.

فعندما نتحدث عن فلسفة التاريخ، وعن النهضة وعن التنمية وعن العمل السياسي، فنحن نلجأ في كثير من الأحيان إلى أصحاب الفن والعلماء في هذه المجالات المتخصصة للاستشهاد بهم والحديث عنهم. وقول القائل هنا يعني أننا قادرون على الاستغناء عن كل ذلك بالرجوع إلى نصوص الكتاب والسنة، وفي ذلك خلط كبير وظلم كبير للدين وللإسلام. ولبيان ذلك نقول قاعدة عامة هي أن العلم علمان: علم في الكتاب، وعلم أشار إليه الكتاب. فإن كتاب الله عز وجل فصل في العبادات وفيما هو من شأن الدين المحض، ولكنه عندما تعامل مع الخبرة الإنسانية قال "فاسألوا أهل الذكر أن كنتم لا تعلمون"1. ولكل مجال من المجالات أهل الذكر فيه والخبراء فيه. وبالتالي هو مما أشار إليه القرآن ويدخل في ذلك العلوم التطبيقية والعلوم الإنسانية وكل ما يترتب على الخبرة الإنسانية إنما هو داخل في الكتاب الكريم وفي سنة رسوله r وفي العلم الذي أشار إليه الكتاب.

فإذا أدرك القارئ الفاضل هذه العبارة البسيطة أن العلم علمان علم بالكتاب وعلم أشار إليه الكتاب، زال اللبس والغموض حول هذا المعنى العام، أما إن أراد القائل أن أي اجتهاد بشري يخالف كتاب الله وسنة رسوله r فهو مرفوض، فهذا صحيح فعلمنا بكتاب الله وسنة رسوله يضع لنا موازين

عامة للقبول والرفض. أما إن كان يقصد أننا بقراءة الكتاب والسنة نستغني عن العلوم التطبيقية والعلوم الإنسانية فهو خطأ فادح وأمر بيِّن خطأه لا شك.

مواصفات القادة:

هناك تساؤل يقول: لماذا يجب أن يدرس القادة مشروع النهضة؟

كثيرٌ من الناس يملك زمام الأمور في المجتمعات الإسلامية وليس له تصور واضح عن مشروع النهضة، ما أدى إلى خلل كبير. وانظر إلى النموذج الذي طرحه جيمس كلاوسنتس 10 والذي يصف فيه القائد بأنه يتمتع بثلاثة أمور:

أولها: الرؤية Visionوهي تصور عما ينبغي أن يكون، مبني على كل ما ذكرناه في موضوعات ما وراء الأيديولوجيا والأيديولوجيا والبارادايم وكل هذه المعاني الكبيرة التي تقود إلى تصور ورؤية واضحة للمستقبل، وما يمكن أن يتحقق فيه في ظل معرفة الإمكانيات والممكنات.

ثانيها: الالتزام Commitment فالرؤية التي لا تعمل في فراغ، تحتاج إلى هذا الالتزام بها وبتحقيقها في أرض الواقع. فالالتزام والانضباط وتسخير الأوقات والجهود لتحقيق الرؤية، هي العنصر الثاني القيادي الهام.

ثالثها: المهارات القيادية أو المهارات الإدارية أو ما يطلق عليه Managerial Skills، وإدارة الناس وتوجيههم وحثهم واستقطابهم للقيام بالأعمال المنوطة بهم، وهو عمل كبير لا يتقنه إلا القادة البارعون. فالقائد لا يستطيع أن يقوم بمهامه بمعزل عن الناس، إنما يحقق أهدافه وأهداف مؤسسته من خلال استقطاب أكبر عدد من الناس لتنفيذ هذه الأعمال وللقيام بها. وكلما ازدادت قدرته على ذلك ازدادت إمكانية الفعل لديه وإمكانية التأثير. وانظر إلى هذه الدائرة التي تتكامل:

رؤية

التزام

مهارات

رؤية قوية وتصور واضح، فمجال عالم الفكر عند القائد من أهم المجالات الضخمة التي تفرقه عن المدير الذي قد يمتلك المهارات الإدارية ليسخر الناس للقيام بالأعمال التي يقومون بها، فهو لا يغادر الواقع الذي يعيش فيه إلى النظر للمستقبل، بينما القادة يمتلكون رؤية يدفعون المؤسسات والمجتمعات إليها ويقودونهم بها.

مستلزمات نجاح المشروع:

إن الكثير من الناس لا يدركون أن نجاح المشروع النهضوي مرتبط بمجموعة قضايا.

أولاً: الإحاطة بالمبدأ، والإيمان به والتقدير له11

* والإحاطة بالمبدأ هو وجود تصور شامل، وخارطة كاملة للمبدأ الذي ندعو إليه في ذهن العامل في مجال النهضة لمفهومها ومجالاتها.

* والإيمان به يطلق على وجود إيمان أو تصديق جازم بالفكرة وصلاحيتها، والمراد هنا الإيمان بأن هذه النهضة قابلة التحقق وأنها حق لهذه الأمة.

* وقضية تقدير الفكرة لا تأتي إلا بمقارنتها بغيرها، والإيمان بعلوها وسموها على غيرها، فكلما كانت الفكرة أكبر قيمة لدى معتنقها كلما كان الإنسان معطياً لها ما يوافق ثمنها وقيمتها.

هذه العناصر أمر تحتاجه أي فكرة ، فما بالك إذا كانت هذه الفكرة النهضوية هي

الإسلام. تستند إليه وتنطلق منه، وتسعى لتعزيز وجوده في عالم الإنسان وفي البشرية. كم يكون حجم العطاء وأهمية الإحاطة بالمبدأ والتقدير له حينها؟.

ثانياً: يلزمنا بعد ذلك معرفة المسار والخطوط العريضة التي تتحرك فيها عملية النهضة، فبدون معرفة المسار والخطوط العريضة، يصعب الحراك، وكثير من العاملين في الساحة الإسلامية لا يعرف المسار الذي تتحرك فيه النهضات، ولا يعرف مستلزمات هذا الحراك، وبالتالي تتقاطع الخطوط وتضطرب الصفوف وتضيع الجهود.

ثالثاً: موضوع التطوير المستمر، ففكرة النهضة ومشروعها ليس عملاً جامداً استاتيكياً لا حياة فيه؛ بل هو تفاعل مستمر مع العقل البشري يحتاج إلى تطوير مستمر. وفي كل فترة من الفترات يحتاج الخطاب الإسلامي النهضوي إلى تجديد في منطقه ومفرداته وفي مناطق تركيزه، بسبب تغير الظروف والأحوال والاهتمامات. كما يحتاج إلى معالجة جوانب القصور والانغلاق فيه، إذ لا يمكن أن يدعي مدعي من البشر أنه يمتلك فكرة لا يأتيها الباطل من بين يديها ولا من خلفها، فذلك أمر مستحيل ولذلك فعملية التطوير المستمرة ضرورية، يقول المولى عز وجل "الذي خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملاً"12 فإن كان عمل فرد ما حسنٌ اليوم أو الأحسن اليوم، فيجب أن يأتي فرد آخر بأحسن منه.

وهكذا تستمر عملية التطوير المستمرContinuous Improvement من داخل المفهوم الإسلامي من خلال هذا المعنى الهام والعظيم "أيكم أحسن عملا". ذلك هو الهدف الرئيسي، وكلما كان هناك عملٌ حسن، كلما كان هناك عمل أحسن منه، ثم يأتي من يعمل أحسن من ذلك. وهكذا

تتطور الحياة وتتقدم.

رابعاً: توسيع دائرة الشورى والمناصحة، ويعتقد الكثيرون أن دائرة التنظيمات والأحزاب المنغلقة كافية لتطوير المشروع الإسلامي، وبما أن المشروع الإسلامي كبير الحجم، ضخم التكاليف، فإنه لا يمكن إلا أن تقوم به الأمة مجتمعة بجهودها وجماعاتها ومنظماتها وحكوماتها وأحزابها وأفرادها، وبالتالي يجب أن تتسع دائرة الشورى والمناصحة لتشمل جميع المعنيين بأمر النهضة في المجتمعات الإسلامية دون إقصاء ودون حجر ودون تضييق، بسبب المذاهب والطوائف والجماعات والأحزاب والتصورات. فالإسلام أكبر من كل ذلك وهمه أشمل وأهم وأعظم.

خلاصة:

خلاصة الأمر في قول الله تبارك وتعالى في سورة العصر "والعصر * إن الإنسان لفي خسر*إلا الذي آمنوا وعملوا الصالحات وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر*" فالمشروع الإسلامي يحتاج كأي فكرة إلى الإيمان به، إيماناً جازماً قاطعاً لا يحتمل شكاً ولا تأويلاً أنه الحق من الله سبحانه وتعالى، وأن العمل له واجب. وهذا الإيمان لا يتأتى إلا بإدراك الفكرة وعظمتها وسموها وشمولها. فمعرفة الفكرة والإيمان بها هو الشرط الأول لها.

المسألة الثانية تحرى أفضل الأعمال التي تقود إلى نجاح الفكرة، فإن الأعمال تتفاضل وتختلف درجاتها، فإذا ضيع الضروري واستعيض عنه بالحاجي أو عوض عن الحاجي بالتحسيني13 فإن في ذلك خللاً كبيراً. فصلاح الأعمال شرط لنجاح الأفكار وبالتالي يستقيم عند الإنسان النظر والعمل.

أما المسألة الثالثة التواصي بالحق. فالتواصي بالحق لا يكون إلا في مجموع من الناس حيث يتبادلون الآراء ووجهات النظر. وذلك معنى الشورى الشاملة التي يحتاج فيها المرء إلى من يعينه، ولا تقتصر على حزب أو طائفة من الطوائف، ولا على جماعة من الجماعات، كما ذكرنا سابقاُ.

أما قولنا تواصوا بالصبر فإن هذا المشروع النهضوي الضخم يحتاج كأي فكرة إلى صبر وأي صبر، وإلى تحمل وأي تحمل، فإن نجاح الأفكار العظيمة لا يتأتى بمجرد الآمال، إنما بالعمل الشاق المرير الذي تكرهه النفوس.

ومن يتهيب صعود الجبال يعش أبد الدهر بين الحفر

أطوار حركة النهضة

صحوة

يقظة

نهضة

حضارة

حماس

رشد

حماس

رشد

إن حركة النهضة تمر بسلسلة من العمليات. تبدأ من طور الصحوة واليقظة، وتتجلى في شكل النهضة التي تولد بعدها أشكال العمران أو الحالة الحضارية في تجلياتها المادية.

الصحوة:

* وهي أولى مراحل انقشاع سحب التبلد الذهني. وسنستخدم هذا المصطلح هنا لوصف المرحلة الأولى في البعث الحضاري.

* من أعراضها الإيجابية: الإحساس بالذات والهوية.

* من أعراضها السلبية: عدم تمتع أشكالها التنفيذية الانطلاقية بالرشد الكامل، فهي في جزء منها قد تبدو فوضوية غير منضبطة.

فالصحوة هي إرهاصات لحالة جديدة تعتري مجتمعاً ما، واضحة أحياناً ومشوشة أحياناً أخرى. ولكنها صرخات الجنين الأولى وحركة من صحا من نومه فجأة، ولكنه لم يستيقظ بعد ويتنبه لمحيطه الخارجي بشكل سليم، فربما اصطدم بمقعد أو دولاب دون أن يقصد أو يريد. ولكن هذه الأخطار تزيده صحواً وتنقله للاستيقاظ الكامل. وقد جاءت مرحلة الصحوة للأمة بعد مرحلة سبات عميق وركود مميت مكَّن أقدام المستكبرين من أن تدوس أرضها، وأن تخترق سهام الأفكار الغازية فضاءها العقلي .. فانطلقت عمليات البعث الفكري الأولى بدءاً خجولاً في شكل دفاعي؛ لتطور نفسها بعد ذلك في شكل هجومي، ولكنها ظلت حركة عقلية للنخب والمثقفين، وليست زاداً للأمة بعمومها. فقيض الله من رجالات الأمة من نزلوا بهذه الأفكار لجماهير الأمة فبينوا عظمتها وسموها على غيرها، وكشفوا للأمة نقاط ضعف غيرها من الأفكار. ونجحت جهودهم في حشد الجماهير حول الإسلام, فتراجعت أمامهم جميع الأفكار وانزوت وانحصرت، ولولا سطوة السلطان ما بقى منها شيء.

والصحوة في جوهرها تيار عاطفي ضخم. تيار مؤمن بالإسلام ومبادئه, ولكنه قليل الخبرة، ضحل المعرفة بتفصيلات واقعه. تيار يفتقد الخبرة والصبر ليكتشف مناهج التغيير وطرائقه. تيار يتعجل قطف الثمار ولا يحسن فن ترقب الفرص. وفي خضم هذه العجلة دفعت الأمة وطلائعها الشابة الدم والدمع والعرض في مقابل القليل من النتائج. تضحيات كبيرة وثمرات قليلة. إنها مرحلة تعلمت الأمة فيها عقم واقعها وعظمة فكرتها، ولكنها لا تمتلك المناهج وخطط التعامل مع مشكلة الزمان والمكان، ولا تمتلك ما تحتاجه من تعدد الوسائل وطرق العمل وما يلزم لذلك من سعة الفكر والقدرة على الابتكار. وهي مرحلة على ما بها من حركة عشوائية أو شبه عشوائية وما بها من عثرات طبيعية في مسارات الأمم والشعوب - مرت بها فرنسا ومرت بها اليابان ومرت بها بريطانيا وغيرهم كثير - إلا أنها ظاهرة إيجابية تدل على أن الأمة قد أفاقت. إنها مرحلة تطول أو تقصر ولكنها موجودة لا محالة. إنها بشارة – رغم ما بها من آلام ومخاض – تقول أن الأمة قررت أن تهجر السكون.

أما اليقظة:

* فهي حالة تالية تنقشع فيها بقايا الخِمار العقلي، ويعرف فيها المرء مكانه ووضعه بالنسبة لما يحيط به من أشياء وبشر، فتتضح الرؤية، ويكيف حركته ليسير بين عالم الموجودات المادية حوله وينظم علاقته بعالم البشر المحيط به.

* أعراضها الإيجابية: الرشد والوعي والعمل المخطط المدروس، في ظل رؤية تجمع الجهود العملية التي كانت تبدو متباينة أو متضاربة في مرحلة الصحوة.

وميلاد مرحلة اليقظة من مرحلة الصحوة أمر طبيعي فلو كانت مرحلة الصحوة بطبعها طور (أولي الأيدي) أو التنفيذيين فمرحلة اليقظة تضيف إلى التنفيذ دور (ذوي الأبصار)، لتتكامل معادلة (أولي الأيدي والأبصار) التي أشار إليها القرآن14, إن العقول هنا تبدأ في التفكير في كل مسلمات المرحلة السابقة وطرق عملها. إنها مرحلة يطبعها الانتقال من طور المبادئ والعواطف والشعارات إلى إعمال العقل وإطلاق طاقاته الخلاقة. إنها مرحلة تتكثف فيها الجهود لفك الأغلال عن العقل. إنها مرحلة تبدع المناهج والتصورات اختراعات وأساليب جديدة، وتنقل الأمة من مرحلة الانتظار إلى مرحلة المشاركة الفعلية حتى تتجلى ثمرتها بعدها في مرحلة النهضة.

وأما النهضة: فهي حالة تالية عندما ينظم عالم الأفكار15 ويستيقظ عالم المشاعر16 ويندفع الإنسان فيها متحرراً من قيود الخوف ليمارس دوره في جميع المجالات.

* أعراضها الإيجابية: استشعار الإنسان لذة العمل والاكتشاف والقوة، فهي حالة تتخلل كل أشكال الحياة، وحالة تعطي للوقت قيمته في حياة الأمة، وتعطي للتفوق والإبداع تقديرهما. إنها مرحلة تدفق الشلال – الذي كان يسمى بالصحوة – ليصوغ كل مجالات الحياة - العلمية والتطبيقية - صياغة جديدة.

في مرحلة النهضة يعم نور البحث والنظر وتولد الإبداعات التي تؤسس لنشوء عالم الأشياء الذي يزود الحق بالقوة فيسيران معاً.

وأخيراً تأتي الحضارة:

وهي حالة من بناء النموذج المنشود في عالم الواقع متمثلاً في نموذج فكري متقدم، وعالم علاقات وسلوك17 متقدم، وعالم من الإنتاج المادي الصناعي والمعماري والفني متقدم18.

مشروع اليقظة

مما سبق يتبين أن مرحلة الصحوة قد استوفت أهدافها، وآتت أكلها في شكل تيار جارف من الطاقات التي تبغي نهضة أمتها. والحاجة الآن ملحة إلى الانتقال إلى مرحلة اليقظة، لاستثمار هذه الطاقات المباركة وفق رؤية استراتيجية لتندفع الجهود كلها في مسار النهضة.

إن مرحلة الصحوة – كما ذكرنا – تمثلت في حماس جارف وقلة رشد وجهود قد تبدو متضاربة أحياناً، ومرحلة اليقظة تتطلب زيادة مساحة النظر والبحث لاستخدام وسائل جديدة وفق رؤية وشراكة استراتيجية تجمع كل الطامحين للنهضة.

أهداف مرحلة اليقظة:

نقل الأمة من طور الصحوة العاطفي(الحماس مع قلة الرشد وضبابية الرؤية) إلى مرحلة اليقظة الراشدة العاقلة حيث يتم تنظيم الجهود العملية وفق رؤية استراتيجية تجمع كل الطاقات.

العاملون في المشروع:

يضم المشروع كل جهد نافع لأي تيار أو حزب أو مؤسسة أو حكومة أو أفراد مستقلين.

احتياجات مرحلة اليقظة:

في اعتقادنا أن هذه المرحلة تحتاج إلى ثلاثة عوامل:

1. التحضير الفكري الشامل والمتواصل للأمة تحضيراً ينتشلها من اليأس، ويبعث فيها الأمل ويجيب على تساؤلاتها أو شكوكها، ويوضح الرؤية، ويرسم الطريق، ويفتح لها مسارات عمل جديدة تتلاءم مع طبيعة المرحلة.

2. توصيل هذا المشروع إلى النخب المؤثرة الحاكمة بأحسن الوسائل، وأفضل السبل، بحيث تقتنع بإمكانية عودة الحياة الحضارية، والدخول في التنافس البشري حول الأولوية، منطلقين من قواعد المشروع الإسلامي الذي أطلقه المصطفى e بأمر من ربه جل وعلا.

3. إيجاد مشاريع عمل مشتركة بين كل تيارات الأمة - الراغبة في النهضة – لتؤدي إلى النتيجة الحتمية في نهضة مجتمعاتنا.

سياسات مرحلة اليقظة:

1. البعد عن الارتجال أو الاكتفاء باستثارة العواطف وفقط. حيث أن المرحلة يجب أن تسير في كل حركاتها على أدق قواعد البحث العلمي.

2. الانطلاق من القواسم المشتركة للعاملين من أجل نهضة الأمة.

3. عدم رفع لافتة لمدرسة مذهبية أو حزبية بعينها.

4. عدم إقصاء أي جهد نافع يصب في نهضة الأمة. حيث أن هذا المشروع لا يستغني عن النخب المؤثرة والقيادات الرشيدة الفاضلة من كل التيارات والأحزاب والجماعات وكل المخلصين من الحكام والمحكومين، بالإضافة إلى الدعاة والأفراد المستقلين.

لقد آن الأوان أن يرى هذا المشروع النور (مرحلة اليقظة) بشكل منظم، فمقدماته لم تنقطع من أعمال رجالات الإسلام ومفكري الأمة , آن أوانه وإلا ذهبت جهود الصحوة وتضحياتها هدراً وتساقطت ثمارها وجفت وزالت لغفلة الزرّاع عن ميعاد الحصاد.

إن هذا المشروع يهدف إلى تنظيم الخارطة المعرفية ويهدف إلى اجتثاث الأفكار القاتلة التي تعوق تيار الصحوة من التدفق والوصول إلى هدفه باحتباسه رهيناً لتصورات قاصرة ورؤى تجاوزها الزمن.

إلى هنا ينتهي الفصل التمهيدي وننتقل بعده إلى مشاهد الكتاب إن شاء الله.

المشهد الأول

العلم قبل القول والعمل

ولم يعد يكفي في الجواب عن ذلك:

1- كلام مرتجل،

2- أو خطابة تثير المشاعر،

3- أو عبارات تؤثر في العواطف،

4- بل صار واجباً على أهل الدعوة أن يصوروها للناس تصويراً منطقياً دقيقاً واضحاً،

5- مبنياً على أدق قواعد البحث العلمي،

6- وأن يرسموا أمام الناس الطرق العملية المنتجة التي أعدوها لتحقيق ما يريدون،

7- ولتذليل ما سيصادفون من عقبات لابد من وجودها في الطريق.

( رسالة دعوتنا في طور جديد )

المشهد الراهن

لا شك أن حركة الصحوة الإسلامية المعاصرة قد لاقت قبولاً واسعاً بين المسلمين وبين الشباب المسلم. في عملية احتشاد كبيرة وضخمة في الظاهر. هذا الاحتشاد الكمي الضخم في الساحة الإسلامية قد شهدناه بالفعل في مناطق عديدة من العالم. وهذه الكتلة البشرية الضخمة – من حيث الكم - نشهدها في الشوارع، وفي الجامعات، وعند صناديق الاقتراع في كثير من الأحيان عندما تتاح الفرصة للناس أن يعبروا عن آرائهم.

هذا التيار الضخم الذي استطاع أن يستقطب الكثير من الناس يقوده الإيمان التقليدي. سواءً بالإسلام أو بالمشروع النهضوي في المجتمعات الإسلامية. ونقصد بالإيمان التقليدي هذه العاطفة وهذا الإحساس العام اتجاه أن هذا هو الصواب.

هذا المشهد الرائع الذي نرى فيه جموع المسلمين الغفيرة تنقاد بإيمانها نحو تحقيق مشروعها وحلمها الضخم تشوبه بعض الشوائب أو الدخن. فهذه الجموع تعاني من اضطراب شديد حول تحديد أهدافها وتدرجها وتتابعها، وحول مراحل السير، وحول الوسائل وطبيعتها، وغيرها من الأمور المتعلقة بحركة المشروع وتطوره. مما أدى إلى كثرة التساؤلات التي لا تجد من يجيب عليها، وحتى إذا وجدت الإجابات فلا تجد من ينشرها ويوصلها للجماهير المتعطشة إليها.

فإذا تخيلت معنا هذا المشهد الذي يصور ساحة الفعل في مشروع النهضة الإسلامي وقد ازدحمت بجموع ضخمة من الأناس الأفاضل الأخيار، ذوى العواطف الجياشة، والإيمان القوي، وهم يسيرون أحياناً ويجلسون أحياناً أخرى، تارةً يتفقون وتارةً يتخبطون وتارة يتوهون في ساحة الفعل

الواسعة المترامية الأطراف في العالم كله. إنه مشهد يسرك للوهلة الأولى حيث ترى كثرة الجموع والمخلصين، ولكن ما أن ترى تحركاتهم وإشاراتهم وتلويحاتهم وسكونهم وشرودهم وتخبطهم وطريقة سيرهم حتى يصيبك الحزن والذعر من الفوضى العارمة التي تسود هذا المشهد.

رفع الواقع:

ليراجع كل منا نفسه، ثم لينظر إلى العاملين والمتحمسين والمؤمنين بالمشروع الإسلامي المحيطين به – أياً كان انتماؤهم – وليعرض هذه التساؤلات على نفسه أولاً ثم عليهم بعدها. ومن الإجابات يمكننا أن نرفع الواقع المحيط بنا:

1. هل الإيمان بالمشروع النهضوي متجذر يحدوه الأمل واليقين أم متلعثم يسوده الشك والتردد؟

2. هل الفكرة واضحة في خطوطها العريضة ومقنعة أم أنها ضبابية ومبهمة؟

3. هل الأسباب والدوافع لتبنيها واضحة صلبة أم هشة رخوة؟

4. ما درجة إلحاح الفكرة بمعيار الوقت والجهد المبذولين فيها؟

5. ما هو هدف المشروع النهضوي الذي تتحرك له الأمة؟

6. ما هي ضمانات نجاح المشروع؟

7. ما هي الإمكانات المتاحة؟

8. ما هي المهارات اللازمة لنجاح المشروع؟

9. ما هي العوائق في وجه المشروع؟

10. ما هي الأخطار المتوقعة؟

11. ما هي النتائج الملموسة والفوائد المتوقعة إذا نجح المشروع؟

12. ما هي وسائل تنفيذ المشروع؟

13. ما هي مراحل السير في المشروع؟

14. ما هي السياسات المتبعة في تنفيذ المشروع؟

15. ما هي تكلفة المشروع؟ (المال والبشر وغيرها من الموارد)

إذا وجدت إجابات هذه الأسئلة الخمسة عشر حاضرة لديك ولدى المحيطين بك من العاملين فهذا يعني سلامة الموقف وصحة الحالة. أما إذا كان العكس فالوضع جزء من المشهد السابق.

نقطة البدء:

إن مشروع النهضة المعاصر في شقه الإسلامي - والذي لقي القبول على مستوى واسع فيما عُرِف بظاهرة الصحوة- يحتاج إلى الكثير من النظر والتجويد، حتى يؤتيَ ثماره، ويحقق النصاب الذي يحدث به التحول الاجتماعي المطلوب في مجتمعات المسلمين.

فقول الله عز وجل: "إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم"19 يجب أن يُلحظ فيه أن السنن الاجتماعية في التغيير تتعلق بالأقوام والمجتمعات، وليست في جوهرها تحول يحدث لفرد أو اثنين أو عشرة أو عشرين.. إنه لابد من تشكُّل نسبة اجتماعية معينة تصل إلى الدرجة الحرجة20. أي تحول نوعي وكمي كافٍ لإحداث التغيير في المجتمعات، كما نرى في الثورات الاجتماعية الكبرى كالثورة الفرنسية والبلشفية وغيرها.

إذاً هذا التحول لا يحدث تلقائياً.. وقد أشار الرسول r إلى هذا الأمر في الحديث الذي رواه أبو داوود فقال: "يوشك أن تداعى الأمم عليكم كما تداعى الأكلة إلى قصعتها".. قالوا: أو من قلة نحن يومئذ يا رسول الله؟ قال :"بل أنتم كثير ولكنكم غثاء كغثاء السيل ولينزعن الله من صدور

أعدائكم المهابة منكم وليقذفن في قلوبكم الوهن".. قيل: وما الوهن يا رسول الله؟ قال: "حب الدنيا وكراهية الموت".

"فالصحابة رضوان الله عليهم في محاولة تفسير هذه الظاهرة - عملية التغيير السلبية – فكأنهم يرجعون هذه المسألة إلى عالم الكم. ولكن النبي r يرد القضية إلى مسارها الحقيقي بوعي سنني عميق بعيداً عن عالم الكم قائلا: "بل أنتم كثير".. ينظر فيرى تحول الواقع الإسلامي من خلال تحول رصيد ما بالنفوس"21 وإن صح التعبير إلى النوع كبديل عن الكم.

إن من الواضح أن الاحتشاد الكمي كبير جداً في الساحة الإسلامية، أما الاحتشاد النوعي فهو قليل جداً، للأسباب التي سنحاول أن نعالج بعضها في هذا السياق الذي نتحدث عنه.

ولا يعني ذلك زهداً في الكم، ولكن يعني أن الكم النوعي داخل هذا المجموع هو الذي يوظف الجهود ويقود عملية التحول حتى تؤتي ثمارها. "ويجب أن يتوافر في أفراد الكتلة الحرجة الإصرار والمثابرة والبعد عن الروتين الحكومي، فالكتلة الحرجة تدربوا على مخاطبة الرأي العام وكيفية التأثير على الآخرين، وهم يملكون خبرات ومهارات يجب استعمالها بدون الروتين الحكومي، ويجب أن يعتبر كل فرد منهم مسئولاً عن هذه المؤسسة .. مسئولاً عن توضيح الحقائق والرد على المغالطات. إن هذه القوة الضاربة تستطيع أن تحدث تأثيراً كبيراً في الرأي العام وتشكله..."22

المطلب الأول:

إن أول المطالب العقلية والشرعية تقول أن العلم مقدم على القول والعمل. فالعلم أولاً، وبعده يأتي القول والعمل. والعلم هنا علم حقيقي وليس علم متوهم. علم حقيقي بالموضوع الذي يتم الحديث عنه. فالحكم على الشيء فرع عن تصوره. ونحن هنا نتحدث عن النهضة، وقد أشرنا في التمهيد إلى أن النهضة هي عبارة عن نشاط عقلي فكري في المقام الأول، يحدث في مجتمع من المجتمعات، يقود إلى الانطلاق في مجالات العمل في كل مناحي الحياة، واكتشاف آفاقها، في السياسية والاقتصاد والاجتماع والعلوم التطبيقية وغير ذلك.

هذا الحراك المستمر النشط الذي يفتح أبواباً جديدة، ويعيد اكتشاف العالم مرة أخرى، ويوفر مساحات جديدة للنظر في الحياة، يطلق عليه النهضة.

ولكي تشهد مجتمعاتنا مثل هذا التحول الضخم تحتاج إلى عاملين:

العامل الأول: وهو بناء كتلة حرجة كمية وكيفية تستطع أن تحرك عجلة التغيير.

والعامل الثاني: أننا نحتاج إلى رفع كثير من القيود التي تعوق عملية التحول والوصول إلى هذه الكتلة.

عاملا تحقيق النهضة

بناء كتلة حرجة

كمية وكيفية

رفع القيود المعيقة لعملية التحول والوصول لتلك الكتلة

لذا فإن هذا العمل الضخم هو عمل مزدوج يقوم على بناء الكتلة وفك القيود التي تحول دون نمائها وتطورها.

إذا تبين لنا هذا النموذج البسيط الذي نتحدث عنه، وقررنا أن الكتلة البشرية الحالية الموجودة من ناحية الكم ليست بالقليلة. سنجد أن الكتلة النوعية التي تحول الكتلة الكمية إلى قوة حقيقة فاعلة، وتستثمرها، هي المُعوَّل عليها – حقيقةً - في إحداث التغيير بعد الله سبحانه وتعالى واستمداد عونه.

الفهم.. الفهم

نقول أن تيار الصحوة الإسلامية قد استقطب كثيراً من الناس. ولكنه فرط لعقود مديدة في اكتساب الكم النوعي الذي يحسم الرهان في نهاية المطاف. والذي يقوم باستثمار الحدث لصالح اندفاعة جديدة وتقدم جديد للمشروع النهضوي في المجتمعات الإسلامية.

إذاً الإيمان التقليدي - سواء بالإسلام أو بالمشروع النهضوي في المجتمعات الإسلامية ونقصد به هذه العاطفة والإحساس العام اتجاه أن هذا هو الصواب - من غير وعي لمستلزمات تحقيق النتائج لهذا الصواب أمر في غاية الخطورة يهدد كل هذه الجهود العملاقة بالخطر.

وبذلك يكون أول واجباتنا أن نُكوِّن داخل هذا البناء الضخم كماً أكبر من العقول قبل أن نعتني بالكم الكبير من الأرقام والزيادة الكمية - إن صح التعبير - البشرية.

يقول الله تعالى: "إنما يخشى الله من عباده العلماء"23، فالعلماء هم أعلم وأكثر فهماً ووعياً لفضل الله ونعمته؛ لاطلاعهم على دقائق الأمور وآثار الكون من خلال البحث والنظر.

وهكذا نستطيع أن نقول أن قضية العلم مقدمة على القول والعمل. وقدمنا سابقاً أن العلم

لا يقصد به فقط العلم بالكتاب والسنة؛ إنما العلم بما أشار إليه الكتاب والسنة من هذا الكون الواسع الفسيح، في العلوم التطبيقية، وفي التجربة الإنسانية عامة، "قل سيروا في الأرض ثم انظروا كيف كان عاقبة المكذبين"24. هذا النظر الواسع في الكون، هذا البحث الاستنطاقي للتجربة البشرية مطلوب بشدة في هذه المرحلة التاريخية من حياة الأمة ومن تقدمها.

وسنتناول هنا نموذجين اثنين يوضحان مكان العلم من القول والعمل، وكيف أنه يسبقهما.

النموذج الأول:

دورة حياة اتخاذ القرارات

لو تساءلنا: كيف تتشكل عملية اتخاذ القرارات في الواقع في مشروع النهضة الإسلامي بشكل عام؟سنجد أن عملية اتخاذ القرارات تتشكل في ستة مستويات. يمثلها هذا النموذج. وليس هذا النموذج منطبقاً فقط على الحالة الإسلامية في المجتمعات الإسلامية؛ بل هو نموذج عام ينطبق عليها وعلى غيرها. وهذه المستويات الست هي:

المستوى الأول: النصوص المرجعية والتراث الثقافي:

لأي مجتمع من المجتمعات الإنسانية مرجعية نصوصية تراثية وثقافية. فإذا نظرنا إلى الحالة الإسلامية نجد أن المرجعية التي تستند إليها هي القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة، وذلك لتتعرف على أحكام الإسلام وتعاليمه في العقائد والتصورات والعبادات والتشريعات والأخلاق والآداب وشتى مجالات الحياة.. وكمعيار لبيان الصواب والخطأ.. يقابله في الفكر الغربي تراث كبير شكلته المسيحية كديانة، ثم أفكار مفكري عصر النهضة. من أمثال توماس هوبز، جان جاك روسو وغيرهم كآباء مؤسسين للفكر الغربي في السياسة والاقتصاد والاجتماع حيث تعتبر نصوصهم – وفقاً لتصوراتهم - بمثابة النصوص "المقدسة" في الديانات السماوية، مع الفارق الواضح.

فلكل مجتمع مستوى تراثياً نصوصياً يحتكم إليه ويرجع إليه للنظر في الحاضر والمستقبل ويمثل مصفاة أولى Filter في عملية اتخاذ القرار.

مستوى المرجعية

نصوص مقدسة

تراث ثقافي

المستوى الثاني: مستوى علوم العصر وقناعاته

فعلى مستوى علوم العصر وقناعاته سنجد أن لكل عصر مفاهيم تطرح نفسها في الساحة، وتحتاج إلى مناقشة وتطوير، وتفرض نفسها بصيغة أو بأخرى على كل أعمال هذا العصر.

فمثلاً في الفترة الإسلامية الأولى سنجد أن كل المفاهيم والمصطلحات والمناقشات كانت متأثرة بالكتاب والسنة، وبالتراث العربي الذي دخل في تكوين هذه العقلية العربية في الفترات المبكرة منها بحكم الواقع. فهناك الشعر والأدب واللغة، وكلها تشكل العقل من حيث ندري أو لا ندري، وجاءت نصوص الكتاب والسنة المقدسة على هذا التراث لتزيل منه الفاسد وتقوم فيه ما يجب أن يقوم.

إذاً على مستوى النصوص المرجعية في فترة من فترات الأمة كان الكتاب والسنة مع ما هو موجود من التراث العربي القائم يمثل المرجعية والقناعات، ثم وجدنا المسلمين يتقدمون إلى حضارات أخرى. فتدخل الفلسفة والمنطق إلى ساحة العالم الإسلامي وتحدث صراعات وتحولات كبيرة جداً على مستوى الفكر، ويصبح هناك منظاراً جديداً للنظر لنصوص الكتاب والسنة. وتظهر المدارس الفلسفية المتنوعة في العالم الإسلامي. وهكذا في كل عصر سنجد أمامنا مثل هذه التحولات.

وإذا جئنا في العصور الحديثة وجدنا أن بروز الشيوعية أثرى الحياة بنظرات وكتابات جديدة جداً وأثَّرت هذه اللغة - على الأقل في بعدها الاشتراكي الاجتماعي - حتى على الخطاب الإسلامي في فترة من فترات تطوره بشكل أو بآخر. وكذلك الرأسمالية أثَّرت على الخطاب الإسلامي في فترة من فترات تطوره بشكل أو بآخر. ثم جاءت اكتشافات العصر لتضيف أبعاداً، وتتطور العلوم الإنسانية لتضيف أبعاداً أخرى.

وهكذا تستمر عملية المدخلات على المستوى الثاني من علوم العصر وتطوره، وتؤثر - إن صح التعبير – كمصفاة ثانية Filter للنظر إلى الواقع واستشراف المستقبل من خلال النصوص السابقة.

وبذلك يكون لدينا مستوىً ثانٍ يجب تصوره في هذا البناء الكلي، وهو مؤثر وهام في كل عصر من العصور.

المستوى الثالث: أعمال المفكرين في كل عصر:

الآن يأتي دور قادة النهضات ليستوقفوا التراث ويستفيدوا من علوم العصر ومدخلاته ويكوِنوا ما يسمى بالأيديولوجيا. وهي عبارة عن الأفكار المنظمة المترابطة التي يجتمع حولها الناس، تفسر لهم الواقع، ترسم لهم خط العمل في المستقبل - طريق التغيير السياسي بالذات - وتبشرهم بغد أفضل25.

هذا التعريف للأيديولوجيا ينقلنا لمستوى ثالث، وهو أعمال المفكرين في هذا العصر التي تستلهم من النصوص المرجعية والتراث الثقافي (المستوى الأول)، وتستلهم من علوم العصر وقناعاته (المستوى الثاني) لتخرج بمنظومة فكرية (الأيديولوجيا) تجمع الناس حولها، وتفسر لهم الواقع، وتبشرهم بالمستقبل، وترشدهم إلى طريق التغيير. ومن هذا المستوى تُستقى كثير من التصورات حول ما الذي يجب عمله لاستنهاض الأمة. وتمثل هذه الأيديولوجيا المصفاة الثالثة Filter في عملية اتخاذ القرارات.

النصوص المرجعية والتراث الثقافي

علوم العصر وقناعاته

أعمال المفكرين في كل عصر

الأيديولوجيا

+

مصفاة

يستلهم منها القادة

وإذا استعرضنا مسار المشروع الإسلامي ابتداءً من محمد بن عبد الوهاب، إلى السنوسية، وإلى خير الدين بربروسا، وإلى جمال الدين الأفغاني، وإلى محمد عبده ومدرسته، والكواكبي ثم محمد رشيد رضا، ثم حسن البنا في فترة لاحقة، ثم بعد ذلك حزب التحرير للنبهاني. سنجد أمامنا عشرات التصورات حول طرائق العمل والأيديولوجيا المناسبة للانطلاق للمستقبل. كل هذا يضعنا أمام منظومة للمستوى الثالث.

المستوى الرابع: تصور الحل وبداية التخطيط الاستراتيجي:

نأتي إلى أن كل حركة نهضة إنما تعمل في مكان وزمان محدد، هذا المكان وهذا الزمان له ظروفه ومعطياته ومدخلاته. فالواقع في إفريقيا غير الواقع في آسيا غير الواقع في أوروبا غير الواقع في أستراليا. ثم إذا نظرنا إلى المناطق الأصغر للدويلات التي تنتشر في هذه القارات سنجد أن كل دولة لها ظروفها ومعطياتها. وحركة النهضة عندما تنطلق، تنطلق من منطقة ما - على الأقل من ناحية المفكر والمؤسس - فيتشكل بذلك مستوى رابع يضع تصورات الحل الخاص بهذه المنطقة. ويبدأ التخطيط لواقع محدد وظرف محدد. هذا المستوى من التخطيط والذي يطلق عليه التخطيط الاستراتيجي يضع تصورات وأفكار وحلول في مدى زمني منظور يمتد إلى عشر أو عشرين أو ثلاثين سنة، لكنه تخطيط ينظر لظرف وزمان ومكان محدد. هذا المستوى الرابع – التخطيط الاستراتيجي – لا يزال محصوراً في عالم التصورات والأفكار قبل الدخول في عالم التنفيذ.

المستوى الخامس: الخطط القصيرة المدى:

ثم يأتي تخطيط على مستوى أدنى من ذلك. وهو المستوى الخامس والذي يتكلم عن خطط قصيرة المدى: ماذا نفعل على مدى سنة من الزمن؟

وهنا لابد أن تكون المستهدفات محددة، وأن يكون التحرك أكثر دقة، وتأتي التفصيلات على هذا المستوى المحدد من الأفكار.

المستوى السادس: الخبرات العملية:

نستطيع أن نقول أنه ينتج عن ذلك مستوى سادس وهو الخبرات العملية المتولدة عن الاحتكاك بالواقع. هذا الاحتكاك بالواقع يولد مراجعات لمستوى النصوص و العلوم و الفكر و التخطيط الاستراتيجي و الخطط القصيرة الأمد، وتعود الدورة مرة أخرى لتستمر كدورة حية كاملة لتغيير الواقع والتعامل معه.

وبذلك يكون أمامنا ستة مستويات تتولد عنها القرارات المحركة للنهضة.

1) النصوص المرجعية والتراث الثقافي

2) علوم العصر وقناعاته

3) أعمال مفكري العصر

4) تصور الحل وبداية التخطيط البعيد المدى

(التخطيط الاستراتيجي)

5) خطط قصيرة المدى

6) خبرات من الاحتكاك تدعو للمراجعة

دورة حياة اتخاذ وتشكل القرارات المتعلقة بالحراك النهضوي

النموذج الأول

النموذج الثاني:

احتياجات قادة المشروع الإسلامي:

إذا فهمنا النموذج السابق فهماً جيداً، وحاولنا أن ننتقل لفلسفة النهضة أو لمشروع النهضة في عصرنا الحديث، وتساءلنا:

* ما الذي يجب على صناع القرار في مشروع النهضة أن يفعلوه؟

* وما الذي يجب أن يزود به ويعد له هؤلاء الصفوة المختارة من معارف وعلوم تضمن لعملية الانتشار والتوسع والقبول بين جماهير الناس أن تحقق أهدافها من خلال نوعية القيادة التي ننتجها؟

* ما الذي تحتاجه هذه القيادة لإنجاز المشروع الإسلامي؟

وللإجابة على هذه التساؤلات ننتقل إلى النموذج الثاني والذي يتكون من خمسة مستويات:

المستوى الأول: تصور واضح على مستوى الفلسفة والبواعث:

إن أول قضية رئيسة يحتاج إليها العامل في مشروع النهضة – والذي يعرِّفه برغوث عبد العزيز في كتابه "المنهج النبوي والتغيير الحضاري" بأنه (المبلِّغ الذي يحمل هم الدعوة الحضارية التي تنبثق في أصولها ومنهجها عن مصادر التوحيد الإسلامي) - أن يكون لديه تصور على مستوى الفلسفة والبواعث. ويدخل في جملة ذلك تصورٌ متكاملٌ للإسلام ، غير ممزقٍ ولا مجزأ. تصور واحد يجمع الإسلام في رؤية أو في إدراك واضح لأبعاده المختلفة. ولعل محاولة سعيد حوى في كتاب "الإسلام" تقدم نموذجاً لوضع صورة متكاملة للإسلام - وإن لم تكن الأمثل - إلا أن حسب المرء أن يقدم ما يستطيع في لحظته

التاريخية وزمنه. ويمكن إضافة الكثير على ما كتبه الأستاذ سعيد حوى عليه رحمة الله. إلا أن هذه المحاولة

تعتبر محاولة متميزة وإن كنا نقول أنه ينقصها الكثير والكثير من العمل.

ويدخل في هذه الفلسفة تصور واضح عن موضوع البحث، وهو النهضات. ودراسة الخبرات الإنسانية المتعلقة بالنهضات، واستكشاف القوانين الفاعلة واستخلاصها بحيث تكون هي المنارات الكبرى والأساسية التي يدور حولها بعد ذلك التخطيط والتنفيذ.

ويدخل في ذلك أيضاً وبدون شك كل ما يمكن أن يوسع مساحة الإدراك العقلي. كمدخل واضح لعلم السياسية والاقتصاد والجيوبوليتك وعلم الاجتماع وفلسفة التاريخ والتفاوض السياسي والتخطيط الاستراتيجي. كل هذه العلوم تجعل القاعدة العقلية للفاعل النهضوي أكثر قدرة على التعامل مع قضايا الواقع. وكلما انتقص شيء من هذه العلوم كلما كانت الأحكام على الأشياء لاحقاً أضعف، وأحياناً تعرض المشروع النهضوي للخطر الشديد. فالحكم على الشيء - كما أسلفنا - فرع عن تصوره.

إذاً يجب على من يعمل في مجال النهضة أن يكون لديه تصور جيد لمستوى النصوص ومستوى علوم العصر ومستوى قوانين النهضة، وبالتالي يستطيع أن يُكون بدايات جيدة، وقاعدة صلبة قوية يضع عليها وتنطلق منها بقية المستويات.

مستوى الفلسفة والبواعث

تصور للإسلام متكامل

تصور عن النهضات

تصور لعلوم العصر

القوانين الفاعلة واستخلاصها

الخبرات الإنسانية المتعلقة بالنهضة

المستوى الثاني: تصور واضح على مستوى الأهداف:

لقد تحدثنا عن أهمية الصورة الواضحة على مستوى الفلسفة والتصور الذهني العام. ومن المهم أن تكون الأهداف أيضاً واضحةً وبشكل جلي، خاصةً لهذه الكتلة الحرجة النوعية داخل البناء الإسلامي العام.

وقد شهدنا في السنوات الماضية الكثير من الاضطراب حول مستوى الأهداف، وتدرجها وتتابعها والنظر إليها. فمعظم الأهداف التي نادت بها الحركات والمؤسسات الفاعلة في الساحة الإسلامية لم تتحقق26.. وبدون منظومة أهداف عامة - يستطيع أن يهضمها العامل في ساحة النهضة -

لا يمكن أن ننجز شيئاً؛ لأن مستويات الأهداف تتضارب وتتشعب، ولا يستطيع الإنسان أن يدرك الهام والأهم منها.

المستوى الثالث: تصور واضح على مستوى المراحل:

ثم لا بد للعاملين في مجال النهضة أن يدركوا مراحل السير. وفي مراحل السير أيضاً يأتي ما نطلق عليه الغطاء النظري للمرحلة. فكل مرحلة من مراحل العمل تحتاج إلى غطاء نظري يقوم به قادة النهضة وشراحها. إذ أن جماهير العاملين تحتاج إلى ملاءة كبيرة تفسر المرحلة، وتدفع بالجهود، حتى تؤتي المرحلة ثمارها. أما إذا تحرك الناس في فراغ، فإن هذا الفراغ يخلق الاضطرابات والنزاعات والتشتت، وهو ما نشهده في كثير من الأحيان في ساحة الفعل النهضوي في المجتمعات الإسلامية.

أهمية تفسير وتنظير المرحلة (الغطاء النظري)

إعطاء الأمل

تفسير الظواهر

تحديد ما يجب عمله

إذاً تصور مراحل السير في غاية الأهمية. وبالتالي لابد من تزويد العاملين في مشروع النهضة بمراحل السير بشكل واضح ومميز.

المستوى الرابع: تصور واضح على مستوى الوسائل:

وهناك أمر رابع في غاية الأهمية، وهو تصور الوسائل. وتصور الوسائل يأتي من العلم الحقيقي بعملية التغيير، وما تحتاج من وسائل، وكيف تمت عمليات التغيير عبر التاريخ. أما أن يضغط

الواقع في اتجاه معين لتقييد الوسائل في ذهن العاملين في مشروع النهضة، فذلك أمر خطير، لأنه يجافي العلم، ويجافي المنطق.

ولا يميز الكثيرون بين مستوى اختيار وسيلة محددة بسبب ظرف معين وإقصاء أخرى لأسباب موضوعية في فترة محددة، وبين الحديث عن حرمة هذه ومنع تلك، وتغيير تلك الوسيلة ورفض وسيلة أخرى.

يجب النظر لوسائل التحول الاجتماعي كلها، وتدريسها، وبيان إيجابياتها وسلبياتها، وتحت أي شروط تفعل، وتحت أي شروط يصبح ضررها كبير، وبالتالي تتكون العقلية العلمية التي نحتاجها في الصفوة المختارة داخل حركة النهضة الإسلامية.

المستوى الخامس: تصور واضح للواقع وقضاياه:

ثم لابد من تصور واضح للواقع وقضاياه. فإن عدم إدارك قضايا الواقع واتخاذ موقف حيالها ضعف شديد وخطر جسيم.

الأمر الآخر الخطير أن توجد الإجابات على تساؤلات العاملين ولا نجد من يستطيع أن ينشرها، ويوصلها للجماهير المستهدفة، وهم طلائع النهضة، والعاملين في ساحة النهضة في المجتمعات الإسلامية.

كما نحتاج أيضاً إلى تصور للواقع وقضاياه، وإجابات عليها. فلا يمكن أن تكون قضية الحرية والعدالة والمساواة والعلاقات الدولية والقضايا الأخرى مغيبة من عقول الشباب، ومن عقول العاملين في الساحة الإسلامية، ومتروكة لمن ليس له باع في العلم. وقليلو العلم في الساحة كثر.

إذاً نحن نحتاج إلى قول واضح غير مشتت في الدين، في الاجتماع، في السياسة، في الاقتصاد، في العلاقات الدولية، وما إلى ذلك. وأن يصل هذا الأمر مقنعاً إلى العاملين في الساحة الإسلامية. ولا يكون الهدف منه أن تكون هناك نسبة مائة بالمائة مقتنعة به؛ إنما أن يكون هذا هو الأعم والأغلب والأكثر انتشاراً والأكثر قبولاً؛ لأن ساحة الفعل عند الحركة إذا اضطربت لا يمكن جمع شتاتها.

المستوى السادس: الخبرات العملية المتولدة من الاحتكاك:

ثم لابد من أمر أخير. إن الممارسة والاحتكاك بالواقع تولد خبرات. وهذه الخبرات - للأسف الشديد وفي كثير من المجتمعات وربما كظاهرة تراثية - عندما تتعلق بدراسة مفاصل حساسة للفشل في مراحل معينة، يتم تجنبها، والهروب منها، لعدم إثارة العواطف والنزاعات، وعدم التشهير بالأفراد والأشخاص وما إلى ذلك. وتحرم الأمة من خبرات كبيرة كان يجب أن توظف لصالح عدم تكرار هذه الأخطاء في المستقبل، لأن عملية استكمال دورة الحياة لمشروع النهضة تستلزم هذه المراجعات المستمرة لمناطق الفشل بالذات قبل مناطق النجاح، بحيث لا يكرر الفشل. وتكرر نفس الأسباب دون أن تستفيد الأمة منها عبرةً ووعياً.

إذاً يحتاج قادة مشروع النهضة الإسلامي - في النموذج الثاني الذي نتحدث عنه - إلى قراءة في النصوص والفلسفة والبواعث، وإلى تصور دقيق لقوانين النهضة، ويحتاجون لأهداف واضحة، ويحتاجون إلى غطاء يفسر مراحل السير، ويحتاجون إلى تصور للوسائل، ويحتاجون إلى تصور لقضايا الواقع، ويحتاجون إلى قراءة جيدة لسلبياتنا وإيجابياتنا؛ حتى يزيدوا من الإيجابيات ويتفادواْ السلبيات في مستقبل الأيام.

الخبرات العملية

تصور للواقع وقضاياه وإجابات الأسئلة

تصور واضح للوسائل

تصور واضح للمراحل (ومعرفة غطاء المرحلة)

تصور على مستوى الفلسفة والبواعث (الإسلام الشامل)

تصور واضح على مستوى الأهداف

النموذج الثانياحتياجات قادة النهضة

هذه القضايا كلها تحتاج إلى العلم قبل القول والعمل. وكثير من العاملين ممن يطمحون لقيادة عملية النهضة - ونتيجة البطالة الفكرية أو نتيجة القصور في الساحة النهضوية العامة الموجودة في المجتمعات الإسلامية والأمران الموجودان – يعانون من كسل شديد في العلم والتعلم.

كما يوجد قصور شديد من جانب أدوات النشر والإعلام - بمن فيهما من المفكرين - في التأكيد على أهمية العلم قبل القول والعمل.

ونتيجة لكسل العاملين وقصور أجهزة الإعلام تزدحم ساحة الفعل في مشروع النهضة الإسلامي بجموع ضخمة من الأناس الأفاضل الأخيار، ذوى العواطف الجياشة، والعلم القليل، ثم يتصدون لشؤون العامة، ولقضايا الأمة، فيسيئون من حيث أرادوا الإحسان.

هذا الخلط بين الكم العاطفي وبين النوعية التي يرتكز عليها البناء في أي مجتمع من المجتمعات خلط خطير، وإذا استمر يهدد هذه الجهود الضخمة وهذه الصحوة الإسلامية بالخطر الكبير.

المشهد المستقبلي:

إنه المشهد نفسه.. الذي يضم الكثير من العاملين الأفاضل الأخيار، ذوي العواطف الجياشة، والإيمان القوي. إلا أنك لا ترى فيه هذه الفوضى العارمة، ولا هذا الاضطراب المخيف.

إنك تلحظ في هذا المشهد كماً أكبر من العقول التي تقود هذه الجموع الضخمة المتعاطفة والمتحمسة. تراهم يجيبون على تساؤلات الجموع بثبات وثقة.. يصيغون الأفكار.. يتخذون القرارات.. يمدون جماهير العاملين باحتياجاتهم المشروعة، من معرفة بالأهداف والمراحل والوسائل وغيرها.

إنها جموع على قلب رجل واحد.. يتحركون معاً.. ويسكنون معاً.. ويهرولون معاً.. ويقفون معاً.. حتى إذا اختلفوا فهم يجيدون فن الاختلاف.

نحو التنفيذ:

للوصول إلى هذا المشهد الجميل المبهج لا نحتاج إلا لمطلب واحد، ألا وهو العلم قبل القول والعمل. ونقصد به نشر العلم النافع والمتعلق بقضية النهضة بين تلك الجموع الغفيرة. وحث هذه الجموع على التعلم والتخلي عن البطالة العقلية. فإذا ما انتشر العلم كثرت الكتلة النوعية المبتغاة. ولتحقيق ذلك:

* لابد أن يحرص العاملون في المشروع الإسلامي لنهضة الأمة – أفراداً كانوا أو جماعات – على امتلاك أدوات القادة ومنها:

* أدوات العلوم الشرعية.

* أدوات العلوم الإنسانية.

* أدوات العلوم الإدارية.

ويمكن الرجوع في ذلك إلى سلسلة أدوات القادة.

o لابد أن يحرص قادة المشروع على توضيح البواعث والأهداف والمراحل والوسائل وظروف الواقع والمراجعات والخبرات للعاملين في المشروع، مع مراعاة أدق قواعد البحث العلمي، وبعيداً عن الارتجال.

+ لابد أن يحرص قادة النهضة والعاملون على دراسة تجاربهم السابقة، وتجارب غيرهم من العاملين، والوقوف على نقاط القوة والضعف فيها، وإلا تكررت الأخطاء.

o لابد أن يحرص العاملون – أفراداً كانوا أو جماعات – على تكوين رؤية وتصور واضح عن الواقع وقضاياه، من خلال الاتصال المباشر بالوسائل الإعلامية المختلفة، والقراءة المستمرة لتحليلات مفكري العصر.

o لابد أن يتم التواصل والتفاعل بين قادة وطلاب النهضة من جهة وبين مفكري الأمة وعلمائها وإعلامييها من جهة أخرى.

تذكر أن

* النهضة هي نشاط عقلي فكري، يقود إلى الانطلاق في شتى مناحي الحياة.

* أول مطالب النهضة "علم حقيقي".

* العلم مقدم على القول والعمل.

* الحكم على الشيء فرع عن تصوره.

* الكتلة الحرجة هي الكتلة الكمية والنوعية الكافية لإحداث التحول والتغيير في المجتمعات.

* النهضة بحاجة إلى كتلة كمية ضخمة، وكتلة نوعية مزودة بأدوات القيادة.

* النهضة تحتاج إلى كم أكبر من العقول لقيادة الجموع الضخمة المتعاطفة.

* اتخاذ القرار يحتاج إلى: علم بالنصوص، ومفاهيم العصر، وآراء مفكري العصر، والتخطيط الاستراتيجي، والتخطيط قصير المدى، والخبرات المولدة للمراجعة والتقويم.

* ليست كل فكرة أيديولوجيا، ولكن الأيديولوجيا هي المنظومة الفكرية التي تجمع الناس حولها، وتفسر لهم الواقع، وتبشرهم بالمستقبل، وترسم لهم طريق التغيير.

* احتياجات طلاب النهضة: علم بالبواعث، وبالأهداف، وبالمراحل، وبالوسائل، وبالواقع، وبالخبرات.

* القادة الذين لا يجيبون على أسئلة الواقع يسمحون بتفجير الأوضاع من حولهم، ثم يستنفذون كامل طاقاتهم في إخمادها.

المشهد الثاني

البواعث الكبرى

للنهضة الإسلامية

المشهد الراهن

إنه مشهد يصف النفس الطموحة المتحمسة يلجمها ويوقف اندفاعها غياب النموذج الواضح لبواعث النهضة الإسلامية

تعج ساحة الفعل في المجتمعات الإسلامية بالكثير من الحركات والتجمعات؛ بل والأفراد الذين يعملون لإحداث نهضة إسلامية حقيقية في مجتمعاتهم. هذه الجموع الضخمة من العاملين في المشروع لابد وأن لديهم بواعث27 دفعتهم دفعاً نحو المشاركة الفعَّالة في إحداث التغيير.

وتعاني الكثرة الغالبة من المشاركين في المشروع الإسلامي من عدم القدرة على تحديد هذه البواعث أو توضيحها وشرحها للآخرين. فهي بالنسبة لهم كائن هلامي ضخم يستشعرون وجوده؛ بل هم على يقين كامل وثقة تامة من وجوده، إلا أنهم لا يستطيعون تحديد شكله أو أبعاده. ولا يستطيعون وصفه أو رسمه أو تحديده.

وهكذا هي البواعث.. يستشعرها العاملون، ويتيقنون بوجودها بين أضلعهم، إلا أنهم لا يستطيعون شرحها وتوصيفها بشكل دقيق وعلمي لجماهير الأمة ليلحقوا بركبهم. فاختلجت صدورهم، وتلجلجت الكلمات على ألسنتهم، وفقدوا الثقة في أنفسهم، فتخلف الكثير عنهم.

رفع الواقع

ما هي البواعث الكبرى للنهضة الإسلامية التي يتفق عليها الجميع؟؟

ليراجع العاملون في كل مكان أنفسهم. وليحاولوا أن يشرحوا لأنفسهم أو لمن حولهم بواعث النهضة الإسلامية. فإذا تمكنوا من شرحها وتبسيطها وتوضيحها فبها ونعمت.. وإن لم يستطيعوا فليبدءوا معنا في تحديد هذه البواعث الكبرى الأساسية المشتركة بين جميع العاملين في الساحة الإسلامية والتي يجتمعون عليها ويلتفون حولها.

وتعين هذه المحاولة على رفع الواقع المحيط وتحديد مواطن الخلل.

نقطة البدء

كيف انطلقت فكرة النهضة في مجتمعاتنا الإسلامية؟؟

نستعرض في هذا المشهد البواعث الكبرى للنهضة الإسلامية. وقد أشرنا في المشهد الأول إلى قضية هامة، مفادها أن المستوى الأول للفكر الإنساني وكيفية تشكيله هو مستوى المادة الخام للنصوص المرجعية، سواءً كانت مقدسة أو تراثية (مستوى النصوص المرجعية والتراث الثقافي).

ثم قلنا إن المستوى الثاني من الأفكار هو ما يطرحه العقل من مدخلات وتصورات تواكب ثقافة العصر وعلومه (مستوى ثقافة العصر وقناعاته).

وسنحاول من خلال استعراض هذا المشهد بناء لبنة جديدة في تفكير طلاب النهضة من خلال تناول البواعث الكبرى للنهضة الإسلامية. وذلك من خلال محاولة الرد على هذا السؤال: ما هي المحركات الأولى التي أطلقت فكرة النهضة في المجتمعات الإسلامية؟

الباعث الأول

نموذج الإسلام

أول بواعث النهضة هو مبدأ شمول الإسلام

إن رؤية الصورة الكلية للإسلام وبيان معنى شمول الإسلام هو من الضروريات والواجبات وليس من التحسينيات

يوضح هذا النموذج مبدأ شمول الإسلام. وعلى الرغم من أن كثيراً من المسلمين لا يدركون بصورة واضحة معنىً واضحاً لشمول الإسلام، إلا أنه يندر أن يوجد مسلم لا يقول بأن الإسلام يحتوى على كل شيء فالله تبارك وتعالى يقول: "ما فرطنا في الكتاب من شيء"28، ويقول: "ونزلنا عليك الكتاب تبياناً لكل شيء وهدىً ورحمةً وبشرى للمسلمين"29. ففي الوعي العام للمسلم يحتوي الكتاب والسنة – المرجعية الإسلامية الأولى - على منظومة مهيمنة على الحياة، وإن لم تتضح معالم هذه المنظومة لدى العامة.

وبما أننا نهتم بتنظيم الخارطة المعرفية للعاملين في مشروع نهضة الأمة، فإن رؤية الصورة الكلية للإسلام، وبيان معنى هذا المفهوم المجمع عليه – ألا وهو مفهوم شمول الإسلام – نعتقد بأنه من الضروريات ومن الواجبات، وليس من التحسينيات أو من نوافل القول.

الطابق الأول في البناء الإسلامي

ويتكون الإسلام من بناء قاعدته العقيدة الإسلامية، والتي تقوم على التوحيد الخالص لله عز وجل - ربوبيةً وألوهيةً وأسماءً وصفات - ومن هذه الوحدانية المطلقة التي يؤمن بها الإنسان المؤمن، ومن التصديق الجازم بأن رسول الله r نقل عن ربه عز وجل هذا المنهاج لتكوين الأمة ولبناء مجتمع إنساني جديد، يقوم الطابق الأول من البناء الإسلامي.

العقيدة

الطابق الثاني

أما في الطابق الثاني للبناء الإسلامي فتوجد العبادات لتعزيز البناء

تمثل الطوابق الثلاثة الأولى الحماية الداخلية للمجتمع من الذوبان التام في الحضارات والمنظومات الأخرى

الإسلامي. تذكيراً بالعقيدة، ونقلاً للإسلام من دائرة الفكرة إلى دائر العمل، من خلال التذكير اليومي للمسلم، والتذكير الأسبوعي، والتذكير الشهري، والتذكير السنوي بأنه صاحب منهاج وطريق حياة. ولن نستفيض في هذا الشرح عن وظيفة كل عبادة من العبادات كإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة وصوم رمضان وحج بيت الله الحرام،

وما يندرج تحت هذا النوع من العبادات من مسميات وأسماء ومعان تنفع المؤمن.

العقيدة

العبادة

الطابق الثالث

ننطلق إلى الطابق الثالث في بناء الإسلام، وهو طابق الأخلاق والتزكية. وله منظومة كاملة يقوم عليها.

العقيدة

العبادة

السلوك

قمة البناء

ثم إذا نظرنا إلى قمة الهرم في الإسلام سنجد مفهوم الجهاد. ورغم الخلاف القائم بين من يتحدثون عن جهاد الدفع وجهاد الطلب، فإننا نتحدث في هذا السياق عن المعنى العام الذي يستوعبه مفهوم الجهاد، وهو أن يكون للمجتمع المسلم جيش يحمي حدود دولته، ويصونها من الاختراق الخارجي.

يمثل الجهاد الحماية الخارجية للدولة الإسلامية، بينما يمثل نظام الحسبة وديوان المظالم الحماية الداخلية للدولة الإسلامية

ثم يأتي في المرتبة التالية بعدها نظام كان يطلق عليه ديوان المظالم، والذي يطلق عليه في عصرنا هذا المحكمة الدستورية العليا. وهذا النظام يقوم على حماية الفرد العادي ومؤسسات الدولة من جور ذوي الجاه والسلطان.

ثم يأتي نظام ثالث وهو نظام الحسبة ليقوم بحماية المجتمع الإسلامي من الداخل، والاهتمام بصورته النقية الناصعة، ليكون مثالاً ونموذجاً لبقية المجتمعات.

العقيدة

العبادة

السلوك

الحسبة: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر

ديوان المظالم: المحكمة الدستورية العليا

الجهاد: ذروة سنام الإسلام

أعمدة البناء

إذاً في قمة البناء الجهاد وديوان المظالم ونظام الحسبة. وفي قاعدة البناء العقيدة والعبادة والأخلاق. وبالإضافة إلى ذلك لم يترك الإسلام فرعاً من فروع الحياة – كالسياسة والاقتصاد والاجتماع والتعليم والإعلام

للإسلام بناء كامل ومنظومة قيمية كاملة.. تضعف ممارستها أحياناً وتقوى أحياناً.. لكنها تظل نظاماً كاملاً للحياة يسترشد به ويقاس به الصواب من الخطأ

والصحة والقانون وغير ذلك - إلا وأدلى بدلوه فيه، فيضع له بعض الضوابط، وينظم فيه بعض القواعد حتى يضبط الحركة فيه. هذه الفروع تمثل أعمدة البناء التي تربط بين قاعدته وقمته.

العقيدة

العبادة

السلوك

الإعلامي

التعليمي

السياسي

الاقتصادي

الاجتماعي

الحسبة: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر

ديوان المظالم: المحكمة الدستورية العليا

الجهاد: ذروة سنام الإسلام

من هذا البناء المتكامل نشأ في وعي المسلمين أن هناك منظومة إسلامية قيمية كاملة - لها كينونتها، ولها شخصيتها، ولها تجلياتها في أرض الواقع - تمت ممارستها عبر القرون. وتضعف هذه الممارسة أحياناً، وتقوى أحياناً، ولكنها في وعي المسلم تمثل نظاماً كاملاً للحياة يُستهدى به، ويُسترشد به، ويُقاس به الصواب من الخطأ.

في ظل هذا الوعي بالذات، ينشأ وعي بالآخر المغاير. فحيث وجد وعي بالذات وتصور لها، فكل ما هو خلاف الذات وخارجها له تصور آخر ووضع آخر. وتلك معضلة كبيرة تقف أمام عمليات الهيمنة على المجتمعات

هذا النموذج هو الباعث الأول لنهضة المجتمعات الإسلامية

الإسلامية، فهي مجتمعات لها منظومتها القوية التي لا تسمح لها بالذوبان في المنظومات المغايرة. وهي بذلك تختلف عن مجتمعات أخرى منظومتها القيمية هشة، ويمكن استيعابها داخل منظومة الحضارة الغربية.

فإذا اتضحت هذه الصورة للإسلام الشامل وتم الاتفاق عليها، كانت أحد باعثين كبيرين في حصانة المجتمعات الإسلامية، وقدرتها على التترس حول هويتها في أوقات الأزمات من خلال شرائح معينة في المجتمع.

شريعة

عقيدة

العقيدة

العبادة

السلوك

الإعلامي

التعليمي

السياسي

الاقتصادي

الاجتماعي

الحسبة: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر

ديوان المظالم: المحكمة الدستورية العليا

الجهاد: ذروة سنام الإسلام

نظم ومعاملات

نموذج الإسلام

أخلاق

الباعث الثاني

التحديات الكبرى: تخلف يقابله نهضة..

استعمار يقابله تحرر.. فرقة تقابلها وحدة

التحديات الكبرى

إن كل تحدٍ يتعرض له الإنسان لابد وأن يواجهه بسلسلة من الاستجابات التي يرجو من خلالها دفع هذا التحدي عنه، وهذا قانون بشري جامع في المدافعة عندما يحيق بالمجتمع ضرر أو تتهدد مصالحه.

فإذا جئنا لهذا القرن الذي انقضى، سنجد أن هناك ثلاثة أمراض أو قضايا كبيرة شكلت حزمة من التحديات في وجه المجتمع الإسلامي وقد كانت تحتاج إلى إجابات مكافئة.

أما التحدي الأول الذي اكتشفه المجتمع الإسلامي لدى دخول نابليون بونابرت إلى مصر سنة 1798م فكان حالة التخلف التي يعيشها هذا المجتمع، والذي كان مشدوداً إلى نموذجه الخاص، ولا يعتقد بوجود نموذج منافس له. فانكشف له في تلك اللحظة التاريخية الصعبة من حياة الأمة أن المجتمع الإسلامي في حالة تخلف بالنسبة للآخر الغربي المقابل.

ثم مع دخول المستعمر برزت معضلة أخرى أو تحدٍ آخر، وهي معضلة الاستكبار والهيمنة واستغلال موارد البلاد والتحكم في شؤونها. وتلك قضية أخرى كانت تحتاج إلى ما يقابلها.

ثم وجد المسلمون - الذين كانوا يمثلون مجتمعاً واحداً تحت دولة الخلافة الإسلامية العثمانية والتي كانت بمثابة الكيان السياسي الوحيد المعبر عن المجتمعات الإسلامية – وجدوا أنفسهم متجزئين. وحدثت عملية تفتيت كبيرة وضخمة للمجتمعات الإسلامية، وأُنشئت دويلات صغيرة في كل أنحاء العالم الإسلامي.

قضايا وحلول

هذه التحديات أو القضايا الثلاث: التخلف، والاستعمار، والتفتيت، نشأ في مقابلها ثلاثة حلول، أصبحت هي الشعارات العامة لحركة المجتمعات الإسلامية بعد ذلك، وهي: النهضة في مقابل التخلف، والتحرير في مقابل الاستعمار، والوحدة في مقابل التمزق والتفتيت.

إنه خلاف حول المرجعية وليس حول القضايا.. المنظومة الإسلامية أم المنظومة الشرقية أم المنظومة الغربية

ولم يكن الخلاف الذي نشأ في المجتمعات الإسلامية – فيما بعد - حول موضوع النهضة أو التحرير أو الوحدة؛ بل حول المرجعية أو المنظومة التي تُنفذ من خلالها هذه الشعارات أو الحلول. هل هي المنظومة الثقافية الإسلامية، أم يجب استجلاب المنظومة الشيوعية أو المنظومة الرأسمالية للتحول؟ وما زال هذا الصراع في المجتمعات الإسلامية على أشده حول هذه المرجعية. هل يقوم بناء النهضة والتحرير والوحدة على أرضية الإسلام أم يقوم على أرضية المنظومة الغربية بعد أن سقطت المنظومة الشرقية؟

وبغض النظر عن هذا الخلاف القائم، فستظل هذه القضايا الثلاث - التخلف الذي تقابله فكرة النهضة، والاستعمار الذي تقابله فكرة التحرير، والتفتيت الذي تقابله فكرة الوحدة – هي محور الصراع إلى يومنا هذا، وحتى يشاء الله.

أمراض الأمة

و قضاياها الكبرى

التخلف

الاستعمار

التفتيت

النهضة

التحرير

الوحدة

من أين نبدأ؟

التخلف هي حالة من القابلية للاستعمار.. وهما يمثلان وجهان لعملة واحدة

وتُثار في الأذهان الكثير من التساؤلات حول السبب الأصيل في نكسات أمتنا وانكساراتها. هل هو الاستعمار أم التخلف أم الفرقة والتمزق؟ ولماذا نلقي بتبعات أعمالنا على الآخر دائماً ونكيل إليه الاتهامات حول هزائمنا ونكساتنا؟

وتستخدم هذه الذريعة أو هذا المنطق في إسكات كل صوت يشير إلى الاستعمار كسبب أصيل في مشكلة العالم الإسلامي.

أما التخلف فهو ظاهرة تسبق الاستعمار. وسنتناول هذه الظاهرة وأسباب ظهورها في مجتمعاتنا الإسلامية - بشيء من التفصيل - في مشهد لاحق.

وظاهرة الاستعمار والتي كانت الوجه الآخر لظاهرة التخلف - بمعنى أن المجتمعات المتخلفة تشكل فراغاً يغري كل القوى التي تمتلك القدرات على أن تهيمن على هذه المجتمعات وتستفيد من ثرواتها - هذا الاستعمار والاستكبار والرغبة في الهيمنة - والتي هي جوهر الاستعمار - كرست التخلف وكانت شرطاً لاستمراره. فكلما أراد مجتمع من المجتمعات الإسلامية أن ينطلق من عقال التخلف أعادته آليات الاستعمار إلى نقطة الصفر مرة أخرى. فما نشتكي منه حالة تخلف تؤدي حالة الاستعمار إلى ديمومته واستمراره.

أما قضية الوحدة فأمرها يحتاج إلى تفكير مليٍّ بعد أن فُتِّتَ العالم الإسلامي هذا التفتيت الكبير، وسنتناولها في كتاب آخر إن شاء الله. لكن حسبنا في هذا السياق أن نشير إلى منظومة ثالثة نريد من طلاب النهضة أن يتذكروها، ألا وهي نظرية الاستعمار.

نظرية الاستعمار

خطوات أوروبا الأولى نحو الاستعمار تمثلت في النهضة الأوروبية ثم في العلمانية

النقطة الأولى: النهضة الأوروبية

إذا تخيل العاملون للنهضة شلالاً من الأحداث، يبدأ من نقطة هي النهضة الأوروبية من بداية القرن الخامس عشر الميلادي- أي حدوث التحول العلمي المعرفي العقلي في المجتمعات الأوروبية، والتحول الاقتصادي الرأسمالي في المجتمعات الغربية، والتحول الاجتماعي الذي سنتحدث عن مظاهره اللاحقة بعد ذلك، والانطلاق من مرحلة الإقطاع إلى مرحلة الليبرالية ثم الديمقراطية بعدها - هذه النهضة والتي تمثلت في هذه التحولات الكبيرة في المجتمعات الأوروبية يمكن أن تكون نقطة البداية في هذا الشلال.

النهضة الأوروبية

تحول علمي معرفي عقلي

تحول اقتصادي رأسمالي

تحول اجتماعي

النقطة الثانية: العلمانية

ثم لننطلق مع شلال الأحداث إلى المرحلة الثانية، فيتجلى أثر هذه العوامل التي ذكرناها في:

1. بروز ظاهرة روح الفردية في المجتمعات الأوروبية.

2. بروز ظاهرة الإلحاد بنسب مختلفة. حيث لم يبق من الكنيسة في الداخل إلا الرمز، إلى جانب دورها الخارجي في ترويج الحالة الاستعمارية. أما في المجتمعات الأوروبية فالغالب الأعم من المجتمع ملحد بشكل من الأشكال.

كان من الممكن أن تكون العلمانية نموذجاً أوروبياً محلياً. ولكنها كأي أيديولوجيا لا تقبل البقاء في مساحة من الأرض؛ بل تعد نفسها نموذجاً عالمياً لابد من تطبيقه في كل أنحاء العالم

3. بروز ظاهرة الربا. فالمجتمعات الأوروبية مجتمعات ربوية بشكل لا مثيل له.

4. بروز ظاهرة الإباحية - أي أنماط العلاقات غير الشرعية والشاذة بين الرجل والمرأة؛ بل بين الرجل والرجل، والمرأة والمرأة - في هذه المجتمعات. والتي هي في أساسها تمرد على ظاهرة الزواج وظاهرة الأسرة، إلى أنماط جديدة من ألوان المعاشرة الجنسية والاستمتاع بالغرائز الجسدية.

شكلت هذه الظواهر الأربع قناعات لدى قادة المجتمع الأوروبي قادتْهُ إلى التوصل إلى ضرورة نزع الدين من ثلاث مناطق: المدرسة والمحكمة ونظام الحكم. وتكرس في أوروبا مبدأ العلمانية على هذه الأسس. أن المدارس يجب أن تُجنب الظاهرة الدينية، وأن المحاكم يجب أن تُنفذ فيها قوانين وضعية لا علاقة لها بالأديان، وأن نظام الحكم هو نظام بشري، يضعه البشر، ولا يجب أن يتدخل فيه أي نص سماوي.

كان هذا تشكيلاً للحياة الأوروبية، وكان يمكن أن يكون نموذجاً محلياً، ولكنه كأي أيديولوجيا لا تقبل البقاء في مساحة من الأرض، بل تعد نفسها نموذجاً عالمياً لابد من نقله إلى كل أنحاء العالم.

روح الفردية

الإلحاد

الربا

الإباحية

الحكم

المدرسة

المحكمة

الحكم

المدرسة

المحكمة

العلمانية

العلمانية

العلمانية

العلمانية

العلمانية

العلمانية

العلمانية

العلمانية

Liberalism is an unfinished project

لقد أيقن المشروع الغربي في تحركه أنه يحتاج إلى مبرر أخلاقي، فكانت مهمة الرجل الأبيض وتحرير الشعوب ونقل الحضارة ونشر الديمقراطية هي مبرر عمليات الاستعمار

النقطة الثالثة: تشكل الأيديولوجيا

أما النقطة الثالثة من الشلال فهي تحول هذه المنظومة الفكرية القيمية إلى أيديولوجيا تسعى للهيمنة على مستوى العالم. وتقرر أن بقية المنظومات ما هي إلا منظومات ثانوية، يجب أن تتوارى في مقابل هذا المشروع الضخم - كما يقول بعض الكتاب الغربيين في مراحل لاحقة (Liberalism is an unfinished project) فهو مشروع لم ينتهي إلى الآن ويجب أن يستمر حتى يُنجز على مساحة العالم بالكامل.

النقطة الرابعة: إنشاء الدول الرديفة

لإيجاد هذا المشروع الذي يحتوى هذه الأيديولوجيا، أو يقف على هذه الأيديولوجيا الليبرالية بالمعنى الغربي - وخاصة في شقها المتعلق بنزع الدين من المدرسة والمحكمة والحكم - والذي يستند إلى ذراع أكبر، وهي القضية الاقتصادية، واستغلال موارد الدول الأخرى -تحرك المشروع الغربي. ولكنه أيقن في تحركه وانتشاره بأن أي عملية استعمار تحتاج إلى مبرر خلقي. فاتُخذت تكأة الرجل الأبيض30، وقضية تحرير المجتمعات الأخرى كمنطق للتحرك. وهنا لعبت الدبلوماسية والعسكر - وبعد ذلك المدارس والجامعات والإعلام - دوراً ضخماً في تكريس النموذج وتحريكه من بلد إلى آخر. فتمكن المشروع الغربي من فرض سيطرته على الدول الناشئة والتي بدأت تتبلور فيما بعد حركة التحرير وثورة هذه المجتمعات ضد ظاهرة الاستعمار. ثم تم إغراء من لم يقع تحت هذه السيطرة بقضية الاستدانة لتنمية بلادهم. ومع وجود الفراغ العلمي والقصور الإداري والفساد المالي،

الدول الرديفة هي الذراع الأيمن القوي الذي يستند عليه المشروع الغربي في أمتنا

كانت المحصلة الأكيدة أن تبدد هذه الأموال، ولا يحسن استخدامها، وأن تقع هذه الدول في شراك مصيدة الديون، والتي لم تخرج منها حتى بعد استقلالها. وإلى اليوم تقع كثير من دول العالم في أمريكا الجنوبية وفي العالم العربي وفي العالم الإسلامي وفي آسيا تحت مصيدة الديون التي تتراكم شيئاً فشيئاً، وتؤدي إلى المرحلة الأخرى، وهي العجز عن السداد. ثم يتدخل صندوق النقد الدولي والقوى الاستعمارية لتفرض سيطرتها على اقتصاد هذه الدول. وتصبح هي المسيطرة على الاقتصاد. فتكون بذلك مرحلة أخرى من الشلال قد بدأت، وهي المطالبة بتطوير هذه البلاد – والمقصود به نزع الدين من المدرسة والمحكمة والحكم - لإقامة الدولة الرديف المؤيدة والمساندة للمشروع الغربي، والمعارضة والنابذة لهوية الأمة. وبالتالي تصبح هذه الأنظمة، وهذه الدول بمثابة الذراع الأيمن القوي الذي يرتكز عليه المشروع الغربي في أمتنا، والذي يبطش بأعداء هذا المشروع.

أصبح العالم مقسماً إلى منظومتين. استعمارية تمثلها دول الشمال، ومُستغلة محرومة تمثلها دول الجنوب

وهكذا يتم تأمين انتشار وتطبيق النموذج الغربي وضمان استمرار تدفق المصالح إليه – بأيدينا وبأموالنا - مع حرمان هذه الدول من المعرفة الحقيقية، والقدرة على النهوض الاقتصادي المستقل فيما بعد.

النقطة الخامسة: انتشار المشروع وانتقاله

وهكذا يصبح عندنا حلقة مفرغة من تعزيز الحالة الاستعمارية ثم دعم ودفع المشروع مرة ثانية في دول أخرى. وهكذا أصبحت هناك منظومة عالمية تتكون في القلب من النظام الاستعماري أو الدول التي تقع في القلب وتمثلها الآن - كما يقال - دول الشمال، ومنظومة تقع في دائرة الاستغلال والحرمان من المعرفة العلمية الحقيقية العميقة وتمثلها دول الجنوب. ومن هذه الجدلية الكبيرة تبرز ظاهرة الصراع الموجودة الآن في العالم،

الانتشار والانتقال إلى دول أخرى

النهضة الأوروبية

العلمانية

أيديولوجيا تسعى للهيمنة

إنشاء الدول الرديفة

الحرية والعدالة والتعاون هي صمام أمان العالم

إن القضايا الثلاث الرئيسة التي تحتاجها البشرية هي: الحرية والعدالة والتعاون. فإذا افتقدت الأمم الحرية والعدالة، وغاب التعاون - الذي لا يتحقق إلا بهما - تنشأ الاضطرابات والصراعات، وتنشأ إشكاليات لا حصر لها ولا يمكن وقفها، لأن تلك سنة الله تعالى: "ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض"31. ولا يتم هذا التدافع إلا بطغيان بعض القوى على قوى أخرى والأمر لله من قبل ومن بعد.

الخلاصة

بواعث النهضة الحقيقية لهذه الأمة تتمثل في مبدأ شمول الإسلام، والتحديات الكبرى

أشرنا في هذا المشهد إلى باعثين كبيرين هما: مبدأ شمول الإسلام الذي يشكل المنظومة القيمية الحاكمة في المجتمعات الإسلامية بشكل عام، والظاهرة المستجدة على هذه المجتمعات والتي مثلتها ظاهرة التخلف والاستعمار ثم التفتيت، وأدت إلى نشوء حركة ضخمة لها وجهان: الوجه الأول حركة وطنية أو قومية تريد أن تدافع وتغالب المستعمر لتخرج من التخلف إلى النهضة، ومن الاستعمار إلى التحرير، ومن التفتيت إلى الوحدة، ولكن على أسس عرقية أو على أسس وطنية. أما الوجه الآخر الذي برز في المجتمعات الإسلامية ومثل ضمير الأمة فهو المناداة بنفس المطالب - النهضة والتحرير والوحدة - ولكن على قاعدة الإسلام، وعلى قاعدة المنظومة الإسلامية التي جاء بها الكتاب والسنة وتكونت في اللاوعي عند هذه الجموع الضخمة من المسلمين.

من بواعث النهضة

مبدأ شمول الإسلام

التحديات الكبرى

التخلف

التفتت

الاستعمار

المشهد المستقبلي

إنه مشهد ترى فيه الجموع الغفيرة من المخلصين والعاملين لنهضة هذه الأمة وقد اتضحت في عقولهم بواعثهم نحو النهضة والتغيير. فانطلقوا يجوبون الآفاق. يبينونها للجاهلين، ويشرحونها للغافلين. ويمدون بها أيديهم نحو الغارقين والتائهين. في ثقة وقوة وثبات. فانطلقت الأمة – كل الأمة – يحدوها الأمل نحو غد أفضل مشرق.

نحو التنفيذ

نموذجان إذا حفظتهما وأتقنتهما، انطلقت نحو الجماهير في قوة وثبات وثقة.

ليتحقق هذا المشهد الرائع لابد لطلاب النهضة أن يحفظوا ويفهموا ويستوعبوا النموذجين المذكورين. وهما:

نموذج الإسلام: الذي يمثل الباعث الأول للنهضة، والذي يعجز الكثيرون عن شرحه وتبسيطه في كلمات معدودات؛ بل ويغفلون جوانب فيه ويركزون على جوانب أخرى. إما ناسين أو متناسين. ولعلاج هذه المشكلة ليس على طلاب النهضة سوى استيعاب وحفظ الشكل أو النموذج الشارح لمبدأ شمول الإسلام.

نموذج التحديات الكبرى: والتي تمثل في مجموعها الباعث الثاني للنهضة. والتي لا يستطيع الكثيرون سردها أو ترتيبها في أذهانهم أو في حديثهم. وننصح الرواد بحفظ النموذج الموضح للتحديات الكبرى وما قابلها من استجابات أو شعارات.

تذكر أن

* للنهضة باعثان أساسيان هما: مبدأ شمول الإسلام، والتحديات والقضايا الكبرى التي تواجه الأمة.

* التحديات التي تواجه الأمة هي: التخلف والاستعمار والتفتت.

* النهضة تقابل التخلف، والتحرير يقابل الاستعمار، والوحدة تقابل التفتت.

* أجمع العاملون في الساحة على وجوب مدافعة هذه التحديات الثلاثة، ولكن اختلفت المرجعية وقاعدة الانطلاق ما بين إسلامية وقومية ووطنية واشتراكية وغيرها.

* المحطات الكبرى للمشروع الغربي هي: النهضة الأوروبية، ثم العلمانية، ثم تبلور الأيديولوجيا، ثم إقامة الدول الرديفة، ثم الانتشار والتنقل بين الدول المختلفة لبسط السيطرة والهيمنة.

* مطالب الأمم ثلاثة هي: الحرية والعدالة والتعاون.

المشهد الثالث

قضية التخلف

المشهد الراهن

إنه مشهد يصف حالة التخلف التي وصلت إليها الأمة.. يصف أنماط التفكير السائدة لدى الصفوة.. حيرة وإعراض عن التعلم وتقليد وانسياق

عندما نرفع أستار التعصب والتحزب والعاطفة عن هذا المشهد – وهي أستار تحول دون رؤية المشهد على حقيقته - سنجد أمامنا جموعاً – في غالبها - قد أجدبت أفكارها وأقفرت. وسنجد إقبال أبناء الصحوة الإسلامية – وهم الطليعة المنوط بها قيادة عملية التقدم والنهضة والتغيير - على القراءة والعلم والتعلم ضعيفاً. وإقبالهم على قراءة التاريخ، والتجارب الإنسانية بعمومها نادراً ومحدوداً، ويكاد يقتصر على نموذج أو نموذجين مبتورين لإسم أو إسمين من تراثنا، في غياب نسق فكري يقوم على منهجية في البحث والنظر. كما أن استخدامهم وتفعيلهم لأدوات العلم واستخدام العقل والابتعاد عن الظن وطلب البرهان نادر، وإقبالهم على فتح أبواب غير مطروقة وعدم الاكتفاء بقول وعمل من مضى قليل.

وفي وسط المشهد سنجد جموعاً تدور حول نفسها. اجتمعت على اجترار إنتاج الماضي بدلاً من فرزه، والوقوف عنده، وبدلاً من فتح آفاق للمستقبل، والاكتفاء باتباع الوسائل بدلاً من ابتداعها، والاهتمام بالأشكال بدلاً من الاهتمام بالجوهر.

وبجوار هذه الجموع الدائرة سنجد أناساً قد وقفوا لا يريدون أن يبرحوا أماكنهم. يحملون شعارات ويرفعون رايات كُتب عليها: "نحن أعداء ما نجهل" ويصيحون قائلين: هذا طريق أو محاولة جديدة لا نعرفها، فلماذا نسلكها ونجربها أو حتى نستمع إليها؟؟!! فبدلاً من أن يقول قائلهم: لم لا نحاول؟ نجده يصرخ ويقول: لم نحاول؟؟!!

وفي أطراف المشهد سنجد مجموعة من المقلدين. لا يتساءلون وإنما يقلدون فِعل الأقدمين وأعمالهم دون تفكير في جدواها في لحظتها الراهنة.

وخلفهم سنجد آخرين يعتمدون الظنون والأوهام دون مطالبة قادتهم بالتدليل والبرهان على صحة ما ذهبوا إليه من أفكار وتصورات؛ بل

يصور المشهد منظومة فكرية سائدة في ساحة النهضة الإسلامية. يشعل أوارها – بحسن نية – كثير من المؤسسات الخيرية والأحزاب والجماعات والتنظيمات والمؤسسات الحكومية

ويفترضون أن الخطأ غير وارد ويكفيهم قول قادتهم دليلاً وبرهاناً. كما أنهم يعتقدون أن قياداتهم ومفكريهم يعرفون كل شيء، وما عليهم سوى اتباعهم والسير على منهاجهم.

وسنجد آخرين يعانون من الأسر والسجن بين قضبان إنجازات الماضي. فلا يشيرون إلى إنجازات الحاضر؛ ناهيك عن الإنجازات المستقبلية المرتقبة، مع عدم استعدادهم لنقد الذات ومراجعة المسار وتدارك أخطاء ذلك الماضي، وذلك استناداً إلى أن عليهم بذل الجهد وليس عليهم إدراك النتائج. ولأن مراجعة الماضي هو فتح لأبواب الفتنة والخلاف والنزاع والشقاق، والفتنة نائمة لعن الله من أيقظها، وهكذا تكرر نفس الأخطاء وتسيل الدماء وتدفع هذه التجمعات المأمولة ثمن أخطائها مرة ومرتين وثلاث مرات.

كما ستجد غالبية هذه الجموع لا تركز على ما يُقال، وإنما على من يقول. فالقائل أهم من الفكرة أو القول.

كما أن البعض يعاني من التسطيح الشديد للأمور أو المبالغة والتهويل فيها.

نحن أمام منظومة فكرية في ساحة النهضة في المجتمعات الإسلامية تحتاج في كثير منها إلى تغيير شامل. كرستها – عن حسن نية - كثير من المؤسسات الخيرة العاملة في الساحة الإسلامية من الأحزاب والجماعات والتنظيمات والمؤسسات الحكومية وغيرها، وهي من إفرازات البيئة ذاتها التي ولدت فيها تلك المؤسسات أو الأحزاب.

رفع الواقع

أجب على هذه الأسئلة بصراحة ووضوح. وارسم لنفسك من تلك الإجابات خارطة تتعرف بها على نواحي التميز والقصور عندك.. وبذلك تكون قد وضعت قدميك على أول الطريق

اعرض هذه الأسئلة على نفسك أولاً وأجب عليها بصراحة وصدق. ثم اعرضها على من تعرف من العاملين والمؤمنين والمتحمسين في المشروع الإسلامي واستعرض إجاباتهم. وحينها ستدرك البون الشاسع بين محاولاتنا – نحن المؤمنين المخلصين – المتخلفة للنهوض بالأمة وبين ممارسات الآخر – المبنية على أدق قواعد البحث العلمي – لاستنزاف الأمة وتركيعها.

1. كم كتاباً تقرأ في العام؟

2. ما هي نوعية الكتب التي تقرؤها؟ (ارسم خارطة توضح نوعية الكتب التي تقرؤها)

3. هل تقرأ في التاريخ بعمومه وتطلع على التجارب البشرية المختلفة أم أنك لا تقرأ سوى التاريخ الإسلامي وسِيَر الصحابة والتابعين؟

4. كم كتاباً قرأت حول قضية النهضات والتغيير في الأمم؟

5. كم كتاباً قرأت في العلوم الإدارية أو الإنسانية32؟

6. هل تجيد استخدام القلم والورقة لتوضيح أو تلخيص أفكارك؟

7. هل تجيد استخدام الكومبيوتر والإنترنت؟

8. عند اطلاعك على إنجازات الماضي القريب أو البعيد.. هل تكتفي بالإعجاب به أم تأخذ منه العبر والدروس؟

9. هل تكتفي بتقليد الآخرين في أعمالهم وأفكارهم أم أنك تبحث دائماً عن الإبداع والتطوير؟

10. هل جلست يوماً إلى قائدك تطالبه بتوضيح الطريق لك بالدليل والبرهان؟

تَعرَّف على قدرتك الحقيقية على الفعل أو التوجيه للفعل أو ابتكاره من خلال إجابتك على هذه الأسئلة

11. هل تُقدِمُ على المحاولات الجديدة والجريئة أم أنك أسير التكرار؟

12. هل تعتقد أن قادة الأمة ومفكريها يعلمون كل شيء وأنهم يخططون لكل شيء؟

13. هل تعتقد أنهم أدرى منك بالواقع والمستقبل وما عليك سوى اتباعهم لتصل إلى ما تريد؟

14. هل حدثك أحد عن إنجازات الحاضر أو الإنجازات المستقبلية المرتقبة؟

15. هل تركز على الفكرة أم على قائلها؟

16. هل تسطح الأمور وتبسطها أم تبالغ وتهول فيها؟

بإجابتك على هذه الأسئلة بصراحة وصدق ووضوح تتعرف على نفسك وعلى من حولك. تعرف كيف تفكر ويفكرون. كيف تتخذون القرارات. تتعرفون على حقيقة الخلفيات أو الأسس التي تبنون عليها تصوراتكم وأهدافكم ووسائلكم.

والآن بإمكانك أن تتوقع النتائج المترتبة على محاولاتنا المرتبكة للنهوض بالأمة في مواجهة الممارسات المدروسة والمعدة بعناية فائقة من أعدائنا لوقف تقدم الأمة.

نقطة البدء

ما هي التحولات الكبرى التي قادت الأمة إلى التخلف؟؟

نستعرض في هذا المشهد حالة التخلف التي كنا قد أشرنا إليها في المشهد السابق. ولعل حالة التخلف حالةٌ يطول شرحها والحديث عنها. ولكننا سنتناول أمراً واحداً ذا أهمية قصوى في هذا السياق، ألا وهو التحولات الأولى التي تقود إلى التخلف.

وفي تناولنا للتحولات الكبرى المؤدية إلى التخلف سنستعرض فكرة العوالم الثلاثة عند مالك بن نبي33، ثم سنستعرض أنماط التفكير التي جاء الإسلام ليحاربها، ثم بعدها نستعرض ما حدث في مجتمعاتنا بعد ذلك وماهية الحاضر الذي نعيشه ويعيشه العاملون في تيار النهضة في الجانب الفكري الذي أفرز ارتباكات الواقع والممارسة.

ما هو التخلف؟

لم يستطع العلم المعاصر أن يخلق أية نظرية موحدة عن التخلف

لابد أولاً أن نحدد معنى التقدم لنقارن به تخلفنا أو تأخرنا

إن عدداً من الباحثين ممن يعكفون على مسائل البلدان النامية يميلون إلى تفسير مظاهر التخلف بأسباب تقنية واقتصادية محضة. فهم يركزون في مفاهيمهم على هذا المعيار أو ذاك، ويوجزون كل تعقيدات التخلف في مقولات اقتصادية كمية. فهم يحددون معايير ودلائل مختلفة من أجل تمييز التخلف، لكن معاييرهم ودلائلهم بصورة عامة ذات طابع كمي.

أما العلم المعاصر فلم يستطع أن يخلق أية نظرية موحدة عن التخلف ولم يتمكن من إبراز العوامل الرئيسة ذات العلاقة بمصدر هذه الظاهرة ولا البرهان على علاقة سببية فيما يتعلق بظهور التخلف.

وهنا لابد أن نميز بين (التأخر) و(التخلف) و(النمو المتدني). فاليونان متأخرة عن الولايات المتحدة من حيث مستوى تطورها الاقتصادي، لكنه ليس لدينا على ما يبدو أي سبب لتصنيفها بين البلدان المتخلفة، واليونان ليست متقدمة كثيراً على الأرجنتين بناء على المعيار الكمي نفسه. لكننا عندما نأخذ في اعتبارنا مفهومي التخلف والتطور على أنمها مقولتان كيفيتان، فإننا نميل لتصنيف الأرجنتين بين فئة البلدان المتخلفة.

وهكذا فإنه يجب علينا أولاً تحديد معنى التخلف وتحديد معايير التخلف. هل المقصود هو التخلف عما بلغه الغرب؟ إذا كان الجواب بالإيجاب فسؤالنا في أي الجوانب تخلفنا؟ ثم ينبغي تكرار السؤال: تخلف بالمقارنة بماذا؟

ولتحديد التخلف يجب علينا أولاً أن نقوم بتحديد التقدم.. ما هو الذي نعتبره تقدماً؟!. وبعد أن نقوم بتحديد ما نعتبره تقدماً يمكننا أن نشرع في محاولة تقرير ما إذا كنا متأخرين أو غير متأخرين على ضوء رؤيتنا نحن للتقدم الذي نحدده لأنفسنا.

وينبغي أن نعلم إن التخلف نابع من أسباب متداخلة التأثير، منها الاستبداد السياسي الداخلي والسيطرة الأجنبية والفقر الاقتصادي وإغلاق

تقاس مجتمعات اليوم بأربعة معايير.. سياسي واقتصادي واجتماعي وصناعي

باب الاجتهاد أو عدم استعماله34 والروح اليائسة المتفشية.

وخلاصة القول أن التخلف معنى لا يتضح إلا عند المقارنة وتحديد مجال هذه المقارنة كماً وكيفاً. وتقاس مجتمعات اليوم تحت النموذج الليبرالي المفروض بالمعايير التالية:

السياسي: بالتوافق مع النظام المعياري العالمي للديمقراطية وحقوق الإنسان.

الاقتصادي: بالناتج القومي. وتجاوز الاقتصاد الأحادي والريعي إلى الاستغلال الجيد للموارد. ودخل الفرد.

الاجتماعي: بمدى تجانس النسيج الاجتماعي ودرجة التراضي فيه.

الصناعي: القدرات التصنيعية وما يتعلق بها من التكنولوجيا بمعناها الشامل (البحث والتصنيع والاستخدام).

وعلى حركة النهضة أن تحسم أمرها في تحديد معاييرها الموضوعية وأن تبني حركتها على أساس هذه المعايير.

معايير قياس المجتمعات المعاصرة

سياسي

اقتصادي

اجتماعي

صناعي

الديمقراطية

حقوق الإنسان

الناتج القومي

استغلال الموارد

دخل الفرد

التجانس

درجة التراضي

البحث

التصنيع

الاستخدام

البعد التاريخي التراكمي

يعيش الإنسان في ثلاثة عوالم: عالم الأفكار.. وعالم الأشخاص.. وعالم العلاقات

هل نبدأ التغيير بإصلاح عالم الأفكار أم عالم الأشخاص أم عالم العلاقات؟؟!!

ليست حالة التخلف وليدة يوم وليلة، ولكنها موغلة في القدم منذ بدايات الدولة الإسلامية. أما التحول إليها بقوة فكان مع اكتشاف أوروبا لطريق رأس الرجاء الصالح. والذي أدى لدخول العالم الإسلامي في نفق مظلم لانقطاع شريان الحياة التجاري من قلب العالم الإسلامي ليمر بالطريق الجديد. فاستطاعت أوروبا الوصول إلى الموانئ الهندية والصينية وبالتالي حصار العالم الإسلامي من الأطراف بعد أن فشلت في اختراقه من العمق من خلال الحروب الصليبية.

وجعل انقطاع الوفرة المالية التجارية وتزايد الاستقطاعات العسكرية في قرون مليئة بالحروب عجلة الحياة العلمية تدور في اتجاه سالب خلال القرن السادس عشر. ومن المعلوم أن الإنفاق على التعليم والصحة هو أول ما يتأثر بالركود الاقتصادي،. أما عن السبب الذي منع العالم الإسلامي من التكيف السريع مع الحالة الجديدة مواجهة عملية التغير الدولي فيرجع إلى عوامل التحلل في الكيان الإسلامي35 والتي سنستعرضها من خلال هذا الشكل التوضيحي:

عوامل التحلل في الكيان الإسلامي

المعضلة الجغرافية

المعضلة الإثنية

المعضلة السياسية

معضلة التعصب

المعضلة الاقتصادية

إهمال العلوم التطبيقية

ضعف الدافع العقدي

عدم متابعة تطور الأمم الأخرى

تكوين النخب حول السلطان

أزمة المدينة العربية

حكم من لا يعرف الإسلام

حول الخلافة

في الفقه

في العقائد

العوالم الثلاثة

يعيش الإنسان في ثلاثة عوالم: عالم الأفكار.. وعالم الأشخاص.. وعالم العلاقات

هل نبدأ التغيير بإصلاح عالم الأفكار أم عالم الأشخاص أم عالم العلاقات؟؟!!

لقد قدم مالك بن نبي في كتاباته تصوراً يتمثل في ثلاثيته المشهورة بقوله: "أن الإنسان يعيش في ثلاثة عوالم: عالم الأفكار، وعالم الأشخاص، وعالم الأشياء. فلكل حضارة عالم أفكارها، وعالم أشخاصها، وعالم أشيائها".

ويقصد بعالم الأفكار مجموعة المعتقدات والمسلمات والتصورات والمبادئ36 والنماذج التي تحتويها عقول مجتمع ما في لحظة تاريخية ما. ويدخل في هذا العالم أيضاً كل أنماط التفكير والقيم والمشاعر والأحاسيس.

أما عالم الأشخاص فيقصد به مجموعة العلاقات والنظم والاتصالات والقوانين التي تنظم حياة الأشخاص الذين يكونون هذا المجتمع فيما بينهم.

أما عالم الأشياء فهو كل ما ينتجه هذا المجتمع من مبانٍ وشوارع وزراعة وصناعة، وغير ذلك من المنتجات والخدمات المحسوسة والملموسة.

فإذا نظرنا إلى حاضر العالم الإسلامي سنجد اضطراباً وضعفاً شديدين في تلك العوالم الثلاث. فعالم الأفكار أصبح قفراً مجدباً. بينما اختل عالم الأشخاص والعلاقات، ودليل ذلك ما نشهده في انتشار الاختلالات الاجتماعية وانعدام العدالة أو ضعفها والطغيان، وما إلى ذلك من صور الاختلال في العلاقات البشرية. أما عالم الأشياء التي ننتجها فهو ضعيف جداً ولا يكاد يذكر مقارنةً بما تنتجه البشرية جمعاء.

من أين يبدأ الإصلاح؟

وهنا يأتي السؤال الهام، وهو من أين يجب أن يبدأ الإصلاح؟ وبأي هذه العوالم الثلاثة يجب علينا أن نبدأ؟ هل لابد أن نبدأ بإصلاح عالم الأفكار أولاً؟ أم أنه لابد من البدء بإصلاح عالم العلاقات بين الناس؟ ولماذا لا يكون البدء بإصلاح عالم الأشياء هو أول الطريق نحو النهضة؟!

وللإجابة على هذا التساؤل سنبسط كلام مالك بن نبي حول حله

عندما يكون عالم الأفكار نامياً ومتطوراً يستطيع أن يخلق عالم الأشياء حوله، بينما عالم الأشياء المتطور إذا لم يقابله عالم أفكار متطور يمكن أن يُدَمر

للمشكلة من خلال هذا الحوار الذي تخيله، واستعرض فيه حيرة المفكرين بين هذه الثلاثة عوالم، بين قائل بأن الفكرة أولاً، وبين من قال أن عالم الأشياء أولاً.. ثم يستطرد في عرض الحل الذي توصل إليه بعد طول تفكير. وتعتمد فكرة هذا الحل على إيقاف بعض العوامل عن العمل وتحريك بعضها، ليمكن بذلك اكتشاف العامل المؤثر على بقية العوامل.

حاول أن تتخيل معنا قوماً من الأمازون أو من الأدغال الأفريقية، بعالمهم الفكري المتواضع وبدائيتهم وقد تم نقلهم إلى ألمانيا، بينما نقل الشعب الألماني إلى أفريقيا أو إلى الأمازون، ماذا كان سيحدث حينها؟ الأمر سيبدو واضحاً جلياً، وهو أن الألمان في هذه الحالة سيعمِّرون المناطق الأمازونية أو الأفريقية ويصلحونها، بينما ستُدَمَّرُ ألمانيا ببنائها وحضارتها وشوارعها على يد القبائل البدائية ..

أما الشاهد من هذه القصة فهو أن عالم الأفكار عندما يكون نامياً ومتطوراً ويحتوي على أفكار، يستطيع أن يخلق عالم الأشياء حوله. والعكس ليس بصحيح. فعالم الأشياء المتطور إذا لم يقابله عالم أفكار متطور يمكن أن يدمر تحت مطارق التخلف الفكري. والأمر بَيِّنٌ وواضحٌ وجليّ. فعالم الأفكار يمثل المنطقة التي تتم فيها التحولات الكبرى أولاً. هذا عند التجريد، أما في الواقع الحي فالعوالم الثلاثة تتفاعل بشكل دائري لا يتوقف. وهذا الشرح السابق هو محاولة لإيجاد أول الخيط.

العوالم الثلاثة

عالم الأفكار

عالم الأشياء

عالم الأشخاص

إن عالم الأفكار يترتب عليه عالم العلاقات، ويترتب عليهما عالم الأشياء

مثال آخر:

تخيل أن شخصاً كانت كل معلوماته عن الزهور، فإن عالم علاقاته سيكون بتجار الزهور، وبعاشقي اقتنائها، وبالتالي سيكون عالم أشياؤه هو إنتاج وزراعة كل متعلقات الزهور.

إذا قرر هذا الشخص أن يغير من عالم أشيائه، وأن يكون له تأثير في مجتمعه، فقرر دراسة الإعلام، وتغير عالم أفكاره، ثم ترتب على ذلك تغير عالم العلاقات، فصارت كل علاقاته بالمخرجين، والمصورين، والمنتجين، وغيرهم من أهل هذا المجال، وبالتالي سيتطور عالم الأشياء من تجارة الزهور إلى صناعة السينما والمسرح وغيرها من وسائل التأثير.

إن عالم الأفكار إذا تغير فإن عالم العلاقات يتغير معه، ومن ثم عالم الأشياء.

المنطق يقول:

إنك إذا قررت أن تعمل في وظيفة ما فإن أول ما تطلبه أن تتعرف وتفهم طبيعة العمل ومن ثم تبدأ بعالم الأفكار، ثم تتعرف على من ستتعامل معهم (عالم العلاقات)، ثم تبدأ في الإنتاج (عالم الأشياء). وكلما تمكنت من فهم العمل الذي ستقوم به، وكانت شبكة العلاقات متينة، كلما كان عالم الأشياء رائعاً.

إن من يعتزم خوض أي مشروع فإنه يقوم بدراسته أولاً (عالم الأفكار)، ثم يحدد علاقاته تبعاً لطبيعة المشروع - فعالم علاقات تاجر الأخشاب يختلف عن عالم علاقات تاجر اللحم - ومن ثم يختلف عالم أشيائهما.

إن عالم الأفكار يترتب عليه عالم العلاقات، ويترتب عليهما عالم الأشياء.

من أين بدأ الإسلام

نزل الوحي على أمة تعاني من اختلال العوالم الثلاثة

وقد نزل القرآن الكريم على أمة تعاني من اختلال جميع العوالم. اختلال في عالم الأفكار37، وفي عالم العلاقات38، وفي عالم الأشياء39.

فإذا نظرنا إلى الإسلام ثم إلى نوعية العقلية التي سادت في المنطقة العربية قبل الوحي لوجدنا هذا الاختلال واضحاً. فسنجد أن عالم أفكارها كان يعاني من ثلاثة اختلالات كبرى. أولها اختلال قيمي مفاهيمي. فلقد كانت مجموعة الأفكار التي طرحتها الحالة الجاهلية - من قبيل قولهم "بل نتبع ما ألفينا عليه آباءنا"40، وقولهم "حسبنا ما وجدنا عليه آباءنا"41 – دليل أساس على أكبر الآفات في وجه التقدم. فلقد تجمدت وتبلدت عقولهم، وتوقفت عن إنتاج الأفكار، واكتفت بما أنتجته عقول الآباء والأجداد والسابقين. ثم هي بعد ذلك لا تفعل شيئاً سوى أن تستكمل مسيرة الحياة، فتسير إلى الأمام

بمجمل ما هو موروث من أفكار وأقوال ومعتقدات. فمن أين يأتي التقدم

عانت الجاهلية في عالم أفكارها من ثلاثة اختلالات كبرى: أولها قيمي مفاهيمي وثانيها إعراض عن التعلم والعلم وثالثها هو الاعتماد على الظن

والتطور إذا كان الإنسان قد أوقف عقله وجمده ومنعه من التفكير؟ بل وربما أغلق الأقدمون عقولهم كذلك على فكرة أول شخص بدأ بوضع ما يراه. فأهل الجاهلية لا يريدون إرهاق عقولهم في البحث عن الحقيقة. فجاء الإسلام ليقابل هذه النمطية المتكلفة في التفكير وهذا الأداء المتخلف في الفعل، فكان رد القرآن عليهم "أولو كان آباؤهم لا يعقلون شيئاً ولا يهتدون"42 و "أولو كان آباؤهم لا يعلمون شيئاً ولا يهتدون"43، وغيرها من المواجهات القرآنية التي أُريدَ بها تصحيح العقل وتنظيم المنهج العلمي في البحث والتفكير بإنكار حالة الانحباس الماضوي.

وواكب هذا الاختلال القيمي المفاهيمي إعراض شديد عن التعلم والعلم. فيصف القرآن حالتهم بقوله: "جعلوا أصابعهم في آذانهم واستغشوا ثيابهم وأصروا واستكبروا استكباراً"44، فهو إعراض كامل عن تلقي أي معلومات، وعن الاستفادة من ملكات السمع والبصر والنظر والعقل. هذه المنظومة المختلة جاء الإسلام ليعالجها. فقدم لنا نموذجاً راقياً لما يمكن أن نسميه بالثورة الفكرية التي أحدثها الإسلام. فكانت أول قضية يثيرها القران الكريم بشكل كبير قوله تعالى: "اقرأ.. الذي علم بالقلم.."45، وقوله: "والقلم وما يسطرون"46، وقوله: "أفلا يبصرون... أفلا يسمعون... أفلا يعقلون...".

ثم يأتي الخلل الثالث في العقلية الجاهلية، ألا وهو الاعتماد على الظن. فكان قولهم "وقالوا ما هي إلا حياتنا الدنيا نموت ونحيا وما يهلكنا إلا الدهر"47، فكان رد القرآن عليهم "وما لهم بذلك من علم إن هم إلا

لا يمكن أن تبنى الأمم أو تقام الحضارات في ظل عالم أفكار متخلف

يظنون"48. ويواجه القرآن هذه الحالة فيقول: "وإذا قيل إن وعد الله حق والساعة لا ريب فيها قلتم ما ندري ما الساعة، إن نظن إلا ظناً وما نحن بمستيقنين"49. ويقول: "إن يتبعون إلا الظن وإن الظن لا يغني من الحق شيئاً"50.

إن هذا الخلل الفكري المتمثل في اختلال العقل والإعراض الشديد عن العلم والتعلم والاعتماد على الظن واجهه القرآن مواجهة عنيفة وقوية، لأن هذه الملكات المعطلة، وهذا التصور القاصر هو أمر في غاية الخطورة ولا يمكن أن تبنى الأمم والحضارات عليه. فالأمم التي تمتنع عن القراءة ولا تستخدم القلم، هي أمم حظها ضعيف من التقدم. والعكس صحيح، فلقد أشار جودت سعيد في كتابه "اقرأ وربك الأكرم" في معرض تفسيره للنص القرآني في سورة العلق (.. أن الذين ينالون كرم الرب وغناه هم القراء أو أكثر الناس قراءة في العالم.. فاليونان كانوا أكثر الناس قراءة وكتابة أيام حضارتهم.. وهم الذين نالوا كرم الرب وكرامته بين العالم، فقد سيطروا على أكبر رقعة في العالم.. والمسلمون.. انطلقوا من كلمة (اقرأ).. إنهم في عصرهم كانوا أقرأ الناس.. لقد نالوا كرم الرب وكرامته من سعة في الدنيا ومكانة في العالم.. وإذا نظرنا حولنا في هذا العصر الذي نعيش فيه نجد أن الذين يتمتعون بخيرات العالم وينالون من الكرم والكرامة هم قراء هذا العصر..) وينطبق هذا الأمر كذلك على كل من عطل السمع والبصر واكتفى بمقولات السابقين وجهدهم. ورغم هذا التوجيه القرآني "اقرأ" فلا زالت تنتشر مثل هذه الظاهرة اليوم بين أبناء الصحوة الإسلامية؛ ناهيك عن بقية المجتمع. فحجم الإقبال على القراءة وعلى العلم والتعلم في هذه المجتمعات أو في هذه النهضات قليل، وحجم استخدام أدوات العلم قليل، وحجم تجاوز مقولات السابقين قليل، وهو أمر يهدد جهود هذه

إن عملية تقدم وتغيير المجتمعات الإسلامية مرهونة بالتحول الضخم الذي لابد وأن يطرأ على المسارات المتعلقة بالقراءة واستخدام القلم واستخدام العقل والابتعاد عن الظن وطلب البرهان وفتح أبواب غير مطروقة وعدم الاكتفاء بقول وعمل من مضى

الصحوة المباركة. إذ أن عملية التقدم وتغيير هذه المجتمعات مرهون بالتحول الضخم الذي لابد وأن يطرأ على هذه المسارات المتعلقة بالقراءة واستخدام القلم واستخدام العقل والابتعاد عن الظن وطلب البرهان وفتح أبواب غير مطروقة وعدم الاكتفاء بقول وعمل من مضى. وكل هذه المسارات سنجد أن الكثيرين ممن يقومون على شأن هذه الصحوة إما أنهم لا يحسنونها، أو لا يدركون خطورة القصور فيها؛ بل سنجد ظاهرة أخرى خطيرة، وهي ظاهرة اجترار إنتاج الماضي بدلاً من فرزه، والوقوف عنده بدلاً من فتح آفاق المستقبل، والاكتفاء باتباع الوسائل بدلاً من ابتداعها، والاهتمام بالأشكال بدلاً من الاهتمام بالجوهر. ولترجع إلى موضوعاتنا وإنتاجاتنا المتعلقة بالنهضة لتكتشف ظاهرة خطيرة، ألا وهي الامتناع عن قراءة التاريخ، وقراءة التجارب الإنسانية، والاقتصار على نموذج أو نموذجين مبتورين لاسم أو اسمين من تراثنا، في غياب نسق فكري يقوم على منهجية في البحث والنظر هذه المقتطفات المبتورة، مما يؤدي إلى أضرار كثيرة.

إننا أمام ظاهرة كبيرة ومنتشرة. نشأت بذورها وترعرعت في الجاهلية، وعلاجها اليوم متوفر في الإسلام. فلقد أعلى القرآن من شأن القراءة والعلم وأدوات التعلم. فقال تعالى: "اقرأ باسم ربك الذي خلق... اقرأ وربك الأكرم الذي علم بالقلم"51، "ن والقلم وما يسطرون"52، "قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون، إنما يتذكر أولو الألباب"53، "شهد الله أنه لا اله إلا هو والملائكة وأولو العلم قائماً بالقسط"54، وغيرها من الآيات الكثيرة التي تحث على التعلم. كما أعلى المولى جل وعلا من

توجه آيات القرآن رسالة واحدة مفادها استخدم عقلك ودع التقليد واتباع الأقدمين، واطلب البرهان والدليل ولا تعتمد على الظنون

شأن العقل وذم إهماله، فقال تعالى: "إن في ذلك لآيات لقوم يعقلون"55، "إن شر الدواب عند الله الصم البكم الذين لا يعقلون"56. ثم دلنا القران على أهمية طلب البرهان والدليل، فقال تعالى: "قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين"57، وذم قضية الظن التي لا تقوم على البحث والنظر فقال: "إن يتبعون إلا الظن وإن هم إلا يخرصون"58، "وما يتبع أكثرهم إلا ظناً إن الظن لا يغني من الحق شيئاً"59، "وما لهم بذلك من علم إن هم إلا يظنون"60. فالظن تصور لا يستند إلى دليل وهو ضد العلم، ونقصد بذلك الظن الذي لا يقوم على البحث العلمي.

وهكذا توجه كل هذه الآيات رسالة واحدة كبيرة مفادها أن استخدم عقلك ودع التقليد واتباع الأقدمين61، واطلب البرهان والدليل ولا تعتمد على الظنون.

إن القرآن في خطابه إنما يخاطب أصحاب العقول وذوي الألباب، لا أصحاب البطالة الفكرية.

مشاكل عالم أفكار الجاهلية

اختلال قيمي ومفاهيمي

الاعتماد على الظن

إعراض عن العلم والتعلم

عالمنا المعاصر

أربعة عشر نمطاً من أنماط التفكير تشل حركة الصحوة المعاصرة

وإذا استرسلنا في عالم أفكارنا المعاصر قليلاً سنتناول أربعة عشر نمطاً من أنماط التفكير أو من الأفكار القاتلة التي تشل حركة الصحوة اليوم:

1. الخلط بين المبدأ والمنهج.

2. سوء تعريف التربية.

3. التفكير النمطي.

4. الميل للمجاراة (عدم اعتبار بعد الزمان وبعد المكان).

5. نقل العادة.

6. مقاومة التغير.

7. عدم التوازن بين التنافس والتعاون.

8. الانسياق التام دون التثبت بدليل أو برهان.

9. الأفكار غير طموحة ولا تناسب الهمم العالية.

10. عدم التركيز على القول بل على القائل.

11. التحفز للرد على الفكرة وعدم الاستعداد للإنصات الجاد لها وتقييمها.

12. الاعتقاد بأن القيادات تعرف كل شيء و المبالغة في تقدير قدراتهم.

13. عدم الاستعداد لنقد الذات ومراجعة المسار وتدارك الأخطاء.

14. تسطيح الأمور أو المبالغة والتهويل فيها.

أولاً: الخلط بين المبدأ والمنهج

وهذا الخلط أو عدم الإدراك هو أول هذه المخاطر التي تشل صحوة اليوم. (ولقد كان من رحمة الله تعالى بعباده المؤمنين أن تضمن وحيه إلى الناس نمطين من المفاهيم لا يستغني عنهما العقل البشري:

مفاهيم تتعلق بالمبدأ: فصلت نظام القيم في الإسلام، وبينت مضامين الرسالة. وتجسيدات تلك الرسالة في ميادين السياسة والاقتصاد والاجتماع.. فهي مفاهيم تتعلق بـ"ماذا"؟ لا بـ"كيف"؟

ومفاهيم تتعلق بالمنهج: بينت طرائق التطبيق ومناهج التغيير.. فهي تتعلق

تضمن الوحي نمطين من المفاهيم: الأولى تتعلق بالمبدأ والثانية تتعلق بالمنهج

أبو محجن الثقفي لم يمنعه شرب الخمر من نصرة الإسلام

بـ"كيف"؟ لا بـ"ماذا"؟)62

فكثير من العاملين في ساحة الفعل النهضوي إذا حدثتهم عن تجديد الوسائل والطرائق والمناهج ردوا عليك بثبات المبادئ وأهمية الإصرار عليها. وهكذا تُشل حركة الصحوة لاعتماد الكثير من أبنائها الوسائل والطرائق كمبادئ وثوابت.

ثانياً: سوء تعريف التربية

فهناك فكرة تسيطر على كثير من قادة الصحوة الإسلامية مفادها أن عملية التغيير والتحول القائمة على التدافع والتصارع لا يمكن أن تتم قبل أن تستكمل جموع العاملين تزكية نفوسها وتربيتها روحياً وإيمانياً.

ورغم أن هذه المقولة أو الفكرة قد أصابت كبد الحقيقة في بعض جوانبها إلا أنها ليست صحيحة بالكلية. (فالصحابي الجليل أبو محجن الثقفي كان مولعاً بالشراب، مشتهراً به، وكان سعد بن أبي وقاص حبسه فيه. فلما كان يوم القادسية وبلغه ما يفعل المشركون بالمسلمين ألح على أم ولد لسعد – وكان سعد قد أوثقه إلى سارية عندها – أن تفك وثاقه ليقاتل مع المسلمين، وتعهد لها أن يرجع في وثاقه بعد المعركة. فحمل على المشركين حملة صادقة حتى قال سعد: "لولا أن أبا محجن في الوثاق لظننت أنه أبو محجن وأنها فرسي")63. وهكذا نجد هذا الصحابي الذي صحب رسول الله r وجاهد في سبيل الله يرتكب كبيرة من الكبائر. فهو لم يستكمل التربية بعد، ورغم ذلك لم يمنعه قادة الإسلام من الخروج في الجيش للجهاد الذي هو من أشق العبادات على النفس بحجة نقص التربية أو الإيمان، بل لقد شهد له سعد بن أبي وقاص بالكفاءة، ولم يقل "أخشى من أن نؤتى من قبل أبي محجن" لأن لكل إنسان نقاط قوة ونقاط ضعف، وأبو محجن كانت نقطة قوته في كفاءته وحبه للجهاد، ونقطة ضعفه في حبه الخمر، غير أن الجهاد

إن تزكية النفس لا تكون إلا بالاستجابة لواجب الوقت الذي يريده الله منا

من شروط النجاح أن تتلازم حالتي العمل والتربية معاً

يمحو الخطايا فهو خير معين لصاحب الخطيئة على تركها.

إن تزكية النفس لا تكون إلا بالامتثال لواجب الوقت الذي يريده الله منا، ولم نسمع أن رسول الله e منع صحابياً عن الجهاد لذنب أو كبيرة، بل كان الرسول e يمنع من لم يجاهد في غزوة تبوك من أن يلحق به في غزوة أخرى "فإن رجعك الله إلى طائفة منهم فاستأذنوك للخروج فقل لن تخرجوا معي أبداً ولن تقاتلوا معي عدواً إنكم رضيتم بالقعود أول مرة فاقعدوا مع الخالفين"64،

لقد ترتب على هذا التفكير انتشار مقولات مثل: "نفتقد العلم الشرعي" أو "نفتقد الإيمانيات". ورغم إقرارنا بأهمية هذه الجوانب وكونها شرطاً لتحقق موعود الله لنا بوراثة الأرض إلا أننا نرى أنها لا يجب

أن تقف عائقاً وحائلاً بين الشباب وبين الانطلاق الفعال في الساحة الإسلامية ومحاولة التغيير والنهوض.

إن شرط النجاح أن تتلازم حالتي العمل والتربية. أما أن تمضي السنوات تلو السنوات، ولا يسأل أحد نفسه عن إنتاجيته الحقيقية في مجتمعه ودوره في عملية استنهاض المجتمع بحجة أنه يربي نفسه ومن معه فهو مؤشر خطير يشير إلى تخلف الحالة الإسلامية. فكثير من التجمعات والهيئات الإسلامية تنكفئ على نفسها وتتجه إلى داخلها بحجة تربية الصف الداخلي وذلك عن طريق بعض الممارسات الضيقة، بينما تبتعد عن مجالات الحياة وعن الانتشار الحقيقي في المجتمعات والمناطق المؤثرة بحجة الحفاظ على تماسك الصف الداخلي والابتعاد بالعاملين عن مواضع الفتنة. فتجد الفرد العامل المخلص لا يكتب ولا يناظر ولا يحاضر ولا يحمل عبء أي مشروع حقيقي سوى حضور بعض المناشط الداخلية التي لا يعول عليها كثيراً في استنهاض المجتمعات.

كم تكون الكارثة عندما تتخذ القرارات الهامة في ساحة المشروع بناءً على هذا التفكير النمطي؟؟!!

لا نقصد بالمجاراة التقليد في أمور الفقه والتمذهب، إنما نقصد التقليد في قضايا الحياة المختلفة

ثالثاً: التفكير النمطي65

فكثير من العاملين توقف واكتفى بمجموعة من المعارف دون البحث عن معارف جديدة، ومن ثم عدم الاستعداد للتفكير في قضية جديدة. وهذا الصنف من الناس عدو ما يجهل ولا تختلف طريقة تفكيره عن طريقة تفكير السابقين – مع الفارق الكبير طبعاً – عندما رفضوا التفكير في القضية الجديدة المعروضة عليهم، ألا وهي قضية البعث. فقديماً قال المشركون: "وإن تعجب فعجب قولهم أئذا كنا تراباً أئنا لفي خلق جديد"66، بينما هو يقول: هذا طريق أو محاولة جديدة لا أعرفها، فلماذا أسلكها وأجربها أو حتى أستمع لها. فإذا وُجدت هذه النمطية من التفكير التي لا تريد أن تزيد على ما تعلمته في مرحلة من مراحل حياتها؛ بل وتتكلس عند

فكرة أو فكرتين، أو نموذج أو نموذجين ثم لا تريد أن تتعلم المزيد، ثم وبسبب التقادم في ساحات الفعل – المشروعية التاريخية - تتصدر للمهام وهي لا تحتوي في منظومتها الفكرية على ما يؤهلها للاستجابة لمتطلبات الوقت والعصر، ولا لمعرفة ما يدور حولها، فكم تكون الكارثة عندما تتخذ القرارات الهامة في مجالات الحياة بناءً على هذا النمط من التفكير؟!!

ولا نعني بذلك أن العمر السني هو الفيصل، بل مواكبة الحياة وجِدَّة التفكير وسعته وقدرته على استيعاب ما يدور هو الفيصل. فكم من صغير السن شاخ وهو صبي، وكم من كبير السن ظل متجدداً إلى لحظة وفاته.

رابعاً: الميل للمجاراة67 (عدم اعتبار بعد الزمان وبعد المكان)

لا يوجد مفتاح واحد لجميع الأبواب.. بل لابد من تغيير شكل المفتاح وحجمه وعدد أسنانه من باب لآخر

والمقصود به تقليد الآباء والأجداد دون التفكير في مدى صواب أو خطأ ما فعلوه. ومدى حتمية اتباع منهاجهم والنسج على أسلوب تفكيرهم. فلقد قال المشركون: "قالوا بل وجدنا آباءنا كذلك يفعلون"!68 فيرد الله تبارك وتعالى عليهم في موضع آخر بقوله: "أولو كان آباؤهم لا يعقلون شيئاً ولا يهتدون"69.

ولا نقصد بالمجاراة التقليد في أمور الفقه والتمذهب، إنما نقصد التقليد في قضايا الحياة المختلفة. فهذا الإنسان الذي لا يتساءل وحسبه أن يجد الأقدمون قد اعتمدوا حلاً واختاروه فيعتمده ويختاره بدوره دون أن ينظر فيه، هذا الإنسان بطريقة تفكيره هذه لا يمكن أن يقود نهضة ولا تغييراً أو حتى مجموعة من المتحمسين المخلصين. هذا الاتباع والتقليد دون النظر وتقليب الأمور والأفكار يؤدي أيضاً إلى تكلس الحياة وتوقفها عند نقطة ما تمثل رؤية شخص يُبجَل أو يُعظَم لسبب أو لآخر، ثم بعد ذلك يتوقف التفكير تماماً ويصبح الأمر اجتراراً لكل ما جرى وما قيل.

وقد لا تكون المجاراة في التصورات فحسب؛ فقد يكرر جيل تلو جيل أعمالاً بعينها، دون أن يفكر في جدواها في لحظته الراهنة، فتصبح في نظره حلاً لكل العصور أو مفتاحاً لكل الأبواب. ولكن لعلها كانت مجدية في فترة ما ولم تعد كذلك. فللمكان حكمه، وللزمان والظرف والعوائد أحكامها وتأثيراتها. وكل من أهملها فقد ضيق واسعاً.

ونعود لنؤكد في هذا السياق بان الأماكن تتعدد وتختلف. كما يتغير الزمن والظرف المحيط حتى في نفس المكان. ولا يقف القادة المبدعون عاجزين أمام هذه التحولات. فهم سرعان ما يحدثون التغييرات اللازمة للاستجابة للزمان والمكان. وهم حين يغيرون يدركون أن عدد المحاولات

عندما تترسخ لدى الأفراد أنماط وأبنية ذهنية معينة كانت فعالة في التعامل مع مواقف جديدة ومتنوعة، فإنه غالباً ما يتم تجاهل استراتيجيات جديدة أكثر فاعلية

للوصول لإجابة سؤال المرحلة والشكل المطلوب لمواجهتها قد لايتم اكتشافه من محاولة أو محاولتين.. فهم مشغولون – إن صح التعبير – بصناعة المفتاح الملائم لفتح الباب الذي يقف أمامهم. فهم يغيرون باستمرار في شكل المفتاح وحجمه وعدد أسنانه.

إن المشكلة التي يواجهها العقل الإداري أحياناً تكمن في تقديس مفتاح بعينه، واعتقاد أنه صالح لكل زمان ومكان ولكل باب.. بينما كل دارس للتجارب التاريخية يعلم أن هناك عدداً من المفاتيح لا حصر له تم إبداعه من قبل القادة لمواجهة الظروف المختلفة التي أحاطت بهم.. فتنسيق الأنشطة الإنسانية للوصول إلى الهدف هو إبداع متجدد. وإيجاد أفضل أداة فعالة مسألة تحتاج إلى الكثير من التفكير والتطوير والتغيير، حتى يمكن تحقيق الأهداف والوصول للنتائج. والجمود عند شكل واحد وأسلوب واحد وخطة واحدة مهما تغيرت الظروف وحتى لو تأكدت الحركة من عقم الوسيلة عن بلوغ الهدف هو انتحار أو تقصير لا عذر لأحد فيه.

خامساً: نقل العادة

فعندما تترسخ لدى الأفراد أنماط وأبنية ذهنية معينة كانت فعالة في التعامل مع مواقف جديدة ومتنوعة، فإنه غالباً ما يتم تجاهل استراتيجيات جديدة أكثر فاعلية.

ومن العبارات القاتلة التي تلخص هذه العقبة قول بعضهم: "لقد كنا دائماً نفعل هذا بنجاح" أو "كنا دائماً نحل المشكلة بهذه الطريقة".

سادساً: مقاومة التغير

فهناك نزعة عامة لمقاومة الأفكار الجديدة والحفاظ على الوضع الراهن بوسائل عديدة، خوفاً من انعكاساتها على العاملين واستقرارهم – أفراداً كانوا أو جماعات. ولذلك تستخدم بعض العبارات القاتلة للرد على الأفكار الجديدة. مثل قول بعضهم: "لن تنجح هذه الطريقة في حل المشكلة" أو "هذه الفكرة سوف تكلف كثيراً جداً" أو "لم يسبق أن فعلنا

التوازن بين التنافس والتعاون شرط من شروط الإبداع والإنتاج

هذا من قبل" أو "لماذا نلجأ للجديد؟ ألن تكون معه مشاكل؟"70

ونقصد بالطبع التسرع في سرد تلك العبارات قبل دراسة الفكرة دراسة جيدة أو محاولة البناء عليها. أما أن يقرر قادة العمل أن وسيلة ما لن تنجح أو أنها سوف تكلفهم كثيراً بعد مدارسة الفكرة وتقليبها فهذا فعل محمود ولا شك.

سابعاً: عدم التوازن بين التنافس والتعاون

وهناك حاجة ماسة وملحة للمزج بين روح التنافس وروح التعاون بين الأفراد والجماعات والمؤسسات وغيرها، وذلك لتحقيق إنجازات قيمة. فكثير من التنظيمات يصل التنافس المفرط بينها إلى حد الاقتتال بالألسن والأيدي. كما يصل التعاون المفرط أحياناً إلى وضع الكثير من القيود والاعتبارات عند التحرك. مما يكون سبباً في فقدان الاتصال بالمشكلة الحقيقية أو التقدم في حلها. ولذلك فإن التوازن بينهما شرط من شروط

الإبداع والإنتاج.

ثامناً: الانسياق التام دون التثبت بدليل أو برهان

وهذا النمط من التفكير يبتلى به من اعتمد الاتباع بغير علم، وافترض استحالة أن يخطئ من سبقه أو أن تكون رؤية السابقين قاصرة أو غير واضحة. لذلك ذم الله أيضاً هذا الأسلوب وذم من يتبع الأقدمين بغير علم، فقال تعالى: "ما لهم به من علم إن يتبعون إلا الظن وإن الظن لا يغني من الحق شيئاً"71. وبعض العاملين في الصحوة اليوم يتبعون ظنوناً وأوهاماً دون أن يتثبتوا من مدى صحة ظنونهم وأوهامهم هذه، ودون مطالبة قادتهم

إنهم يقضون حياتهم بين الحرمين.. يشيدون المساجد ويطعمون الطعام وينحرون وينفقون من قبيل إرضاء الضمائر

بالتدليل والبرهان على صحة ما ذهبوا إليه من أفكار وتصورات؛ بل ويفترضون أن الخطأ غير وارد وأنهم لا يحتاجون إلى الدليل أو البرهان، ويكفيهم قول قادتهم دليلاً وبرهاناً. هذا النمط القاتل من التفكير القائم على الانسياق التام وراء فكرة ما على اعتبار أن شخصاً أو قائداً فكر فيها – دون مطالبته بالدليل والبرهان - واجهه القرآن. فأرشدنا ربنا تبارك وتعالى

إلى كيفية قبول أي فكرة فيقول: "قل هل عندكم من علم فتخرجوه لنا "72، ويقول في موضع آخر: "قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين"73.

تاسعاً: الأفكار غير طموحة ولا تناسب الهمم العالية

وهذه مشكلة كبيرة تواجه الفكر والمشروع الإسلامي النهضوي المعاصر. فكثير من المسلمين أقصى وغاية مناهم والغالب على تفكيرهم أن يرووا ظمأهم بعبادة معينة أو ممارسة معينة في جزئية من جزئيات الإسلام، ثم لا ينظرون إلى الصورة الكبرى واحتياجات الإسلام الملحة والضرورية. وجل ما يتحدثون عنه من قضايا - وإن كانت هامة – فغالباً ما تكون في آخر سلم الأولويات المعاصرة.

إن من أراد للإسلام أن ينهض يجب أن يسير على خطين: إصلاح نفسه، والعمل لتغيير الواقع الذي يحيط به، والمشاركة في عظائم الأمور التي تدور حوله.

دور الأفراد في إحداث النهضة

إصلاح النفس

العمل لتغيير الواقع

زيادة الإيمان لا تكون إلا بالعمل الجاد للإسلام

ولكن ما يحدث في واقع الإسلام أن بعض المسلمين يهربون من الخط الثاني – خط التبعات والمسئوليات والكفاح والبذل – إلى الخط الأول ليرضوا ضمائرهم، فيقضون حياتهم بين الحرمين، ويشيدون المساجد، ويطعمون الطعام، وينحرون تقرباً وزلفى إلى الله. كل ذلك على أهميته وعظيم أجره إلا أن الله تبارك وتعالى حذر من الاكتفاء به وحصر الإسلام فيه، فقال تعالى: "أجعلتم سقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام كمن آمن بالله

واليوم الآخر وجاهد في سبيل الله. لا يستوون عند الله. والله لا يهدي القوم الظالمين"74. ولقد قرظ الشاعر هؤلاء القوم – وصدق - فقال:

أيفيد الشرع ذكرٌ في مساجد كالقصور

أيرد البغي وعظ دون جيش في الظهير؟؟!!

فالاهتمام بالخط الأول دون الثاني هو من قبيل إرضاء الضمائر وليس هذا ما خلقنا من أجله، وليس هو دين الله في تمامه وكماله.

وصنف آخر من المسلمين يغرق في الخط الأول بحجة تنمية الذات وتنمية الروح والقلب. ويوسوس له الشيطان أنه ليس كفءً لخدمة الإسلام والعمل له والبذل في سبيله ما دام يُذنب ويقع في الأخطاء والآثام. وهو بذلك يدخل في هذه الدائرة المغلقة، فلا يخرج منها ليفكر في أحوال الأمة وآلام المجتمعات. ولو تأمل قليلاً لوجد أن زيادة الإيمان لا تكون إلا بالعمل الجاد للإسلام، الذي يحيي في نفس الإنسان كل المعاني الإيمانية، ويدفعه دفعاً نحو العبادة والصالحات، ليتزود أكثر، وينطلق لأداء مهامه.

أما الصنف الثالث من المسلمين، والمنوط به النهوض بالأمة وتحقيق آمالها وأحلامها، هذا الصنف الذي يحاول جاهداً أن يسير على الخطين ما استطاع فهو يعاني من الأسر والسجن بين قضبان إنجازات الماضي. هذا الصنف المخلص لا يجد من يحدثه عن إنجازات الحاضر؛ ناهيك عن الإنجازات المستقبلية المرتقبة. وقادته وموجهوه لا يحدثونه إلا عن إنجازات الماضي،

النفوس بطبعها تواقة إلى من يشير إلى المستقبل ويمتلك رؤية واضحة، وتعرض عمن يكثر الحديث عن الماضي

والحديث عن إنجازات الماضي فحسب يضعف الهمم العالية، ويولد بلادة في التفكير، والاعتماد - كل الاعتماد - على الآخرين في تحقيق الإنجازات.

ولقد كان رسول الله r حريصاً أن يظل طموح أصحابه وجنده وأتباعه في القمة دائماً، فوعد سراقة بن مالك - في رحلة الهجرة - بسواري كسرى، وهو المطارد المطرود من بلده وقومه. فهو يبشر سراقة بالإنجاز المستقبلي المرتقب وهو انتشار الإسلام في ربوع العالم، وليس هذا فحسب؛ بل وسيتم هذا الإنجاز في حياة سراقة، ولاشك أن هذا طموح ما بعده طموح.

لقد كان بإمكان الرسول r أن يحدث سراقة عن إنجازات الماضي، عن بيعتي العقبة، وهجرتي الحبشة، ودخول الإسلام المدينة وانتشاره بين أهلها، وعن خروجه من بلده رغم كيد قومه بنجاح ومهارة، إلا أنه لم يحدثه عن كل ذلك؛ بل حدثه عن إنجاز مستقبلي مرتقب لتطمح نفسه وتعلو همته.

أما الآن فإذا سأل سائل عن إنجازات الصحوة الإسلامية فلن تجد إلا من يحدثك بحديث الماضي، بالرغم من وجود الإنجازات التي لم يحسن عرضها. والنفوس بطبعها تواقة إلى من يشير إلى المستقبل ويمتلك رؤية واضحة له، ومعرضة عمن يكثر من الدفاع عن الماضي مهما كان عظيماً.

أصناف الناس

الهاربين من العمل

العاملون المجتهدون

الغارقين في إصلاح النفس

على العقل المسلم أن ينظر إلى الحق من حيث هو حق وليس لقائله

إذا تكرست ظاهرة الاصطفائية في الاستماع وكرس الإنسان جهده للنظر للقائل بدلاً من النظر للفكرة والتصور فلن يكون هناك انتفاع بهذه الأفكار المتدفقة في العالم

عاشراً: عدم التركيز على القول بل على القائل

من آفات التفكير التي يعاني منها العاملون في تيار الصحوة عدم التركيز على ما يُقال، وإنما التركيز من يقول. فالقائل أهم من الفكرة أو القول. وهذا يتمثل في ظاهرتين:

الأولى: عدم قبول الفرد للكلام إلا من شخصية تنتمي إلى حزبه أو تنظيمه وجماعته. وكل فكرة أو قول يصدر عنها فهو مقبول. بينما لو طرح أي قائل أو عالم أو عامل لا ينتمي إلى حزبه أو تنظيمه وجماعته فكرةً أو رأياً؛ بل ربما كان أكثر حنكة وأقوم سبيلاً لرفضه دون بحث أو نظر. وصدق المولى حين قال: "وقالوا لولا نزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم"75. فالكثيرون لا يحللون ولا يدرسون ما يُقال وما يطرح عليهم من أفكار، بل هم أسرى لشخصيات بعينها. إذا قالت فقولها صواب، ومن خالفها فهو جاهل لا علم له ولا وعي.

والثانية: هي رفض الكلام أو الفكرة التي تُعرض. فبدلاً من أن يتم تهذيب أو نقد أو تطوير الفكرة ينصرف التركيز على صاحبها. ويصبح الحديث عن ذاته، وتترك الفكرة وتنسى. كما اتهم النبي r بالسحر والجنون "وقالوا معلم مجنون"76. فالكفار لم يناقشوا الفكرة، بل ركزوا على شخصية القائل. وقد تزداد الأمور سوءاً وذلك بالنيل من صاحب الفكرة، ونيته وولائه وتربيته، وتتم رسم صورة له في أذهان الناس بحيث يبدو وكأنه لص أو منحرف ما كان يرجو الإصلاح، فإذا ما ذكر اسمه تُذكر الصفات التي أُلصقت به ولا تُذكر فكرته، تماماً كما حدث مع الطفيل بن عمرو الدوسي الذي نصحه المشركون بأن يسد أذنه حتى لا يسمع كلام محمد بن عبد الله r. فلما رآه الطفيل لم يذكر أفكار وقول الرسول r، بل تذكر تحذيرات المشركين فأسرع بسد أذنه، ولولا أنه كان عاقلاً لبيباً حكيماً لما أقبل على

الاعتقاد بمعرفة القادة لكل شيء والمبالغة في تصور قدراتهم يؤدي إلى تجفيف منابع التفكير في قطاعات وشرائح كبيرة

الاستماع لقول وفكرة الرسول r.

فعلى العقل المسلم أن يتجاوز هذه الآفة لينظر للحق من حيث هو حق وليس لقائله. فإذا تكرست ظاهرة الاصطفائية في الاستماع وكرس الإنسان جهده للنظر للقائل بدلاً من النظر للفكرة والتصور فلن يكون هناك انتفاع بهذه الأفكار المتدفقة في العالم، والتي يمكن أن تشكل أحياناً قفزات كبيرة وواسعة إلى الأمام.

حادي عشر: التحفز للرد على الفكرة وعدم الاستعداد للإنصات الجاد لها وتقييمها

بعض الناس عندما يسمع أي فكرة أو تصور لا يرهق عقله في التعرف على دقائقها وعلى جوانب الفائدة فيها أو إمكانية تطويرها والبناء عليها، وإنما يصبح همه وشغله الشاغل أن ينقد هذه الفكرة بفكرة أخرى مضادة، فيبدأ بالبحث عن العيوب في الفكرة التي أمامه دون أن ينتبه للجانب الإيجابي فيها.

ما الذي يضير العاملين والقادة لو قلبوا الأفكار المعروضة عليهم ذات اليمين وذات الشمال؟ فما كان فيها من خير يتم التركيز عليه وتنميته، وما كان فيها من خطأ تتم مراجعته وتصويبه أو إسقاطه وإلغاؤه.

ثاني عشر: الاعتقاد بمعرفة القيادات لكل شيء و المبالغة في تقدير قدراتهم

ومن الأخطار التي تحدق بالفكر الإسلامي في هذه المرحلة الاعتقاد بأن القيادات والمفكرين يعرفون كل شيء، وما على الأفراد إلا الاتباع. هذا التواكل الذي يتربى عليه الأفراد يجفف منابع الأفكار، ليكتشف المرء بعد مرور السنين أن اعتقاده بمعرفة القادة وقدراتهم ليس في محله، فيكون قد عطل عقله وضيع أوقاته ولم يُفِد الإسلامَ من قدراته وملكاته.

إن تعليق النظر والعقل على شخص لا نعلم – على وجه اليقين – نصيبه من العلم وقدراته وملكاته أمر في غاية الخطورة. ويؤدي إلى تجفيف

لم يكن التفكير حكراً على أبي بكر وعمر وصفوة الصحابة، بل كان منهجاً تربوياً نبوياً راقياً

منابع التفكير في قطاعات وشرائح كبيرة، لو أعملت عقولها لربما أنتجت

خيراً من قياداتها وممن ينظرون في أحوالها.

يجب تربية الأفراد على أنهم ليسو كماً مهملاً، وأن قياداتهم لا يشترط أن تحيط علماً بكل شيء، وأن هذه القيادات تحتاج إلى آراء وأفكار العاملين، وأن قرارات وأفكار وتصورات القادة تحتاج إلى مزيد من التفكير والنظر، وأن كل فكرة تطرح إما أن تبين جانباً من القصور أو تبين طريقاً خطأً يمكن إسقاطه بعد مناقشته، أو طريقاً للبناء يمكن استثماره. ولا ينظر للشخص بمكانته.

وليس هذا في حالة عدم التأكد من خبرة وعلم القائد فقط، بل حتى إن وجدت الثقة والتقدير للقيادة فهذا لا يعني إلغاء دور التفكير والبحث عن سبل العمل المنتجة، فهذا المصطفى r يتقدم له الحباب بن المنذر ليوضح له أن الموقع الذي اختاره رسول الله r في بداية غزوة بدر معسكراً للمسلمين لا يصلح، فينزل القائد r على رأي صاحبه، وهذا سلمان الفارسي رضي الله عنه يشير على رسول الله r القائد بفكرة الخندق فيمضيها القائد r ويأمر بالتخندق. كل هذه المعطيات تدل على أن هذه الكتلة البشرية كانت تفكر وتنظر، ولا تُسلٍّم - حتى مع وجود المصطفى r - بأن القيادة تملك حلول كل المشاكل، وأن بيدها مفاتيح كل شيء، وأن المستوى القيادي يعلم كل شيء، فتتعطل بذلك العقول، وتضيع الطاقات، التي هي ثروة هذه الأمة. وهذه هي غزوة الأحزاب لا تحسم لصالح المسلمين إلا بتدخل شخصية لم تسلم إلا في أجواء الغزوة، نعيم بن مسعود الذي جاء للرسول e - بعد أن أسلم – ويطلب من النبي e أن يساهم معهم فلا يطلب النبي منه سوى أن يخذل عن المسلمين، وبالفعل يأتي بفكرة إبداعية – ليست من إبداع الرسول القائد – وتحسم المعركة لصالح المسلمين. لم يكن التفكير حكراً على أبي بكر وعمر وصفوة الصحابة، إنه منهج تربوي نبوي في منتهى الرقي لفن التعامل وإدارة الصراع.

عادةً ما تدفع الحركة ثمن أخطائها مرة ومرتين وثلاث مرات، دون أن يتنبه أحد إلى بساطة الحل، وإلى أن الثمن المدفوع في هذا الخطأ هو مقابل الحصول على فرصة في المستقبل

توماس أديسون: "لقد عرفت ألف طريق لا يؤدي إلى الحل الصحيح"

وهذا سيدنا موسى يأخذ الأمر من الله عز وجل- الذي يعلم السر وأخفى – بالذهاب إلى فرعون، فيفكر ويقترح "رب إني قتلت منهم نفساً فأخاف أن يقتلون. وأخي هارون هو أفصح مني لساناً فأرسله معي ردءاً يصدقني إني أخاف أن يكذبون"77. لقد سجل الله لنا هذا الموقف حتى لا تقدس القيادات وإن كانت على أعلى مستوى، لأن التفكير عبادة وحق لكل مسلم، فكيف بسيدنا موسى يقترح في خطة العمل وهو يتعامل مع رب العالمين؟؟!!

ثالث عشر: عدم الاستعداد لنقد الذات ومراجعة المسار وتدارك الأخطاء

ومن أشد ما تعاني منه عقولنا عدم الاستعداد لنقد الذات ومراجعة المسار وتدارك الأخطاء، وذلك استناداً إلى أن الإنسان عليه بذل الجهد وليس عليه إدراك النتائج. والخلط بين قدرية النتائج وحدوثها بقدر الله ومشيئته وقتما يشاء وبين المراجعة والنظر في الخطة والتصور ومجال الأخطاء خطأ فادح لا يغتفر. فالله تبارك وتعالى أجاب المسلمين لما تعجبوا من هزيمتهم في غزوة أحد بقوله: "أولما أصابتكم مصيبة قد أصبتم مثليها قلتم أنى هذا؟ قل هو من عند أنفسكم.."78، أي راجعوا سلسلة القرارات والأعمال التي قمتم بها وستدركون مواضع الخلل والقصور. هذا البحث المستمر عن التحسين والتجويد والتطوير تقوم به كل المجتمعات. أما في مجتمعاتنا -

فلسبب أو لآخر - يعتبر النظر إلى الماضي والنظر في أخطائه سبةً أو فتحاً لأبواب الفتنة والخلاف والنزاع والشقاق، والفتنة نائمة لعن الله من أيقظها، وهكذا تكرر نفس الأخطاء وتسيل الدماء وتدفع المجتمعات والقوى الحية ثمن أخطائها مرة ومرتين وثلاث مرات، دون أن يتنبه أحد إلى بساطة الحل، وإلى أن الثمن المدفوع في هذا الخطأ هو مقابل الحصول على فرصة في

نحن أمام منظومة فكرية في ساحة النهضة في المجتمعات الإسلامية تحتاج إلى تغيير شامل

المستقبل. قد يستغرب القارئ هذا القول، ولكن استمع إلى إجابة توماس أديسون عندما سأله أحد الصحفيين عن حقيقة الإشاعة القائلة بأنه أجرى ألف تجربة فاشلة، فكان رده: "لقد عرفت ألف طريق لا يؤدي إلى الحل الصحيح". فهو لم يحاول إخفاء تجاربه الفاشلة؛ بل اعتبرها نجاحاً مهد له الطريق نحو المستقبل. ويقول روبرت شولر: "أفضل أن أغير رأيي وأنجح على أن أستمر على نفس الطريقة وأفشل"79، أما تيس روز فيقول: "إن أي اعتذار لا يصاحبه تغيير يعتبر إهانة"80، بينما يقول ونستون تشرشل: "لا يكفي أن نقوم بعمل ما نستطيع، بل علينا أن نقوم بعمل ما هو مطلوب"81. وفي المؤسسات الكبرى في الولايات المتحدة الأمريكية توجد ملفات كاملة للأخطاء والتجارب الفاشلة التي مرت بها، بحيث يتم الاستفادة منها.

رابع عشر: تسطيح الأمور أو المبالغة والتهويل فيها

ومما يؤدي إلى التخلف التسطيح الشديد للأمور أو المبالغة والتهويل فيها. فبعض المسلمين لديه حلول جاهزة وبسيطة لكل المشاكل. وقسم آخر يهول من الأمور ويضخمها بحيث يتعذر معها فعل شيء، ودائماً ما يكون حديثه عاطفياً ارتجالياً، ويشير من حين لآخر إلى القائد المنقذ الذي سيحرر العالم. وكلا الصنفين يؤدي إلى قتل الإبداع والمبادرة بالأفكار الجديدة.

إننا أمام منظومة فكرية في ساحة النهضة في المجتمعات الإسلامية تحتاج في بعض أجزائها إلى تغيير شامل. وكثير من المؤسسات الخيرة العاملة في الساحة الإسلامية من الأحزاب والجماعات والمؤسسات الحكومية وغيرها تقوم - من حيث لا تدري أو من حيث تدري - بتكريس هذه الظواهر وتربية النشء والعاملين عليها. فهي من جانب تتحدث عن

النهضة، ومن جانب آخر تربي على كل ما يؤدي إلى وقف تيار النهضة. إن عملية البحث عن الفكرة النيرة وقدح العقول في المجتمعات الإسلامية وتغيير أنماط التفكير التي سبق ذكر بعضها هنا هي مقدمة ضرورية لانطلاقة النهضة الإسلامية.

التفكير النمطي

الميل للمجاراة

نقل العادة

مقاومة التغير

عدم التوازن بين التنافس والتعاون

الانسياق التام دون التثبت بدليل أو برهان

الأفكار غير طموحة ولا تناسب الهمم العالية

عدم التركيز على القول بل على القائل

التحفز للرد على الفكرة وعدم الاستعداد للإنصات الجاد لها وتقييمها

الاعتقاد بمعرفة القادة لكل شيء والمبالغة في تقدير قدراتهم

عدم الاستعداد لنقد الذات ومراجعة المسار وتدراك الأخطاء

تسطيح الأمور أو المبالغة والتهويل فيها

المنظومة الفكرية التي نحتاج إلى تغييرها تغييراً شاملاً

الخلط بين المبدأ والمنهج

حتمية استكمال التربية

عالم الأفكار المطلوب

بتحديد فكرة الزمن يتحدد معنى التأثير والإنتاج

إن أمتنا لا زالت تتعامل مع الوقت على أنه شيء غير محوري في قضية النهضة

أشرنا من قبل إلى تعريف مالك بن نبي لعالم الأفكار. وعلمنا أنه يشمل كل أنماط التفكير والقيم والمشاعر والأحاسيس وقد استعرضنا مجموعة الأفكار القاتلة المنتشرة بين أبناء الصحوة الإسلامية خاصةً وبين جماهير الأمة والمجتمعات عامة.

وقبل أن نترك هذا المشهد لابد أن نستعرض مجموعة من القيم والأفكار الهامة التي تفتقدها مجتمعاتنا بصفة عامة. وسنشير هنا إلى ستة أفكار أو قيم هامة:

أولاً: قيمة الوقت

يقول مالك بن نبي: "وبتحديد فكرة الزمن، يتحدد معنى التأثير والإنتاج، وهو معنى الحياة الحاضرة الذي ينقصنا. هذا المعنى الذي لم نكسبه بعد، هو مفهوم الزمن الداخل في تكوين الفكرة والنشاط، في تكوين المعاني والأشياء، فالحياة والتاريخ الخاضعان للتوقيت كان وما يزال يفوتنا قطارهما، فنحن في حاجة ملحة إلى توقيت دقيق، وخطوات واسعة لكي نعوض تأخرنا، ووقتنا الزاحف صوب التاريخ لا يجب أن يضيع هباءً".82

ويقول: "وسيثبت هذا عملياً فكرة الزمن في العقل الإسلامي، أي في أسلوب الحياة في المجتمع، وفي سلوك أفراده، فإذا استغل الوقت هكذا فلم يضع سدى، ولم يمر كسولاً في حقلنا، فسترتفع كمية حصادنا العقلي واليدوي والروحي، وهذه هي الحضارة."83

إن أمتنا لا زالت تتعامل مع الوقت على أنه شيء غير محوري في قضية النهضة، وسادت أفكار قاتلة تقول بأن حركة النهضة يمكن أن تتم في مئات السنين، وذلك لتبرير السير البطيء جداً في طريق النهضة، وتم استدعاء - في غير محله – لبعض القصص مثل قصة سيدنا نوح للتدليل على أن مئات السنين ليست مقياساً في عمر الأمم.

التجربة النبوية والصين واليابان وألمانيا كلها مشاريع نهضوية أنجزت في وقت قياسي

ورغم أن سيدنا نوح قارب الألف عام في دعوته، إلا أن ذلك لا يعني أن يكون السقف الزمني لمشروع النهضة مفتوحاً لهذا الحد، فحتى سيدنا نوح شهد النصر (الطوفان) في عصره، وهذه كانت أعمار الأمم، أي أن جيله شهد بداية الدعوة كما شاهد انتصارها في نهاية المطاف، فلقد كانت أعمار الأجيال كلها طويلة.

وها هو المشروع النبوي ينجز في وقت قياسي وينجح النبي e في وضع لبنة قوية للمشروع في ثلاثة وعشرين عاماً، قس ذلك على الأمم الناهضة مثل الصين واليابان وألمانيا. ويعقب مالك بن نبي على تجربة ألمانيا - عقب الحرب العالمية الثانية، وبعد أن حطمت الحرب كل جهازها الإنتاجي – بقوله: "يمكننا أن ندرك قيمة الوقت مباشرة في عودة الحياة الاجتماعية والاقتصادية، لشعب لم يبق لديه من الوسائل إثر الحرب الثانية إلا العناصر الثلاثة: الإنسان والتراب والزمن"84

إن تيار النهضة بحاجة أن يدرك قيمة الوقت، وأن كل تأخر فإنه يعني مزيد من التخلف، خاصة إن كان المتربصون بالمشروع يتحركون ليل نهار.

ثانياً: مفهوم الإيمان:

فالإيمان إذا ما ذكر في مجتمعاتنا قفزت إلى أذهاننا قضايا الوحدانية والنبوة واليوم الآخر. وآخرون – وهم كُثُر – يستحضرون قصص العباد والنساك والزهاد. ولا شك أن الإيمان يشمل كل هذا، ولكن ليس هذا كل الإيمان.

إن مفهوم الإيمان مفهوم إيجابي يدفع إلى الحركة والفعل. فأول ما يشير إليه مفهوم الإيمان هو:

1. التحرر من الخوف:

فأهل الجاهلية كانوا يخافون من القوى الغيبية ومن قوى الطبيعة المختلفة. فكانوا يتعبدون إلى بعضها تزلفاً ظناً منهم بأنها تمنع عنهم ضراً أو

إن خلاصة مفهوم الإيمان هي التحرر من الخوف القلبي والحيرة العقلية

تجلب إليهم خيراً. فلما آمن الناس بربهم وعلموا حقيقة هذه القوى الغيبية والطبيعية وأمنوا جانبها انطلقوا يجوبون أصقاع الأرض آمنين بأن النفع والضر من عند الله وحده.

2. وضوح القضايا الكبرى:

فالإنسان - وبخاصة الفلاسفة – عانى من حيرة شديدة حول قضايا الغيب: كالبعث والحساب وبدء الخلق والحكمة من الخلق وغيرها. فجاء الإسلام ووضح أصول الوحدانية والنبوة والحساب.

3. القدرة على التركيز على الكون المسخر والإحسان فيه:

فبعد أن أمن الإنسان جانب القوى الغيبية والطبيعية فاطمأن قلبه، وزالت حيرة عقله بتعرفه على الأمور الغيبية التي طالما بحث فيها. انطلق يستثمر قدراته في إعمار هذا الكون المسخر له بلا خوف أو حيرة. وبالتالي أصبح لهذا الإنسان هدفاً ومنهاجاً ينطلق به وإليه.

إن خلاصة مفهوم الإيمان هي التحرر. التحرر من الخوف القلبي، والحيرة العقلية.

وهنا يأتي السؤال: ما الذي نقصده بهذا الكلام؟ وما الذي نريد الإشارة إليه؟

نريد بشرحنا هذا لمفهوم الإيمان أن يعرف قادة وطلاب النهضة ما هو الجزء المنوط بهم. فالإيمان حرر قلوبهم وعقولهم لينطلقوا ويركزوا على استعمار الأرض وخلافتها وإعمار هذا الكون المسخر لهم. أما أن يظل الكثيرون محبوسين داخل دائرة قضايا القوى الغيبية كالجآن والشياطين وغيرها أو داخل دائرة قضايا الإيمان فيثيرون قضايا الفرق والنحل وشبهاتهم وافتراءاتهم فهؤلاء يعودون إلى السجن أو القيد الذي حررهم الإيمان منه. فيركزون ويجتهدون حيث تكفي المعلومة البسيطة، ويضيعون ويهملون حيث يجب التركيز والإتقان والإبداع.

إن قضايا الغيب والإيمان تكفيها المعرفة القلبية والعقلية

العمل الصالح هو كل عمل ينهض بالأمة

وبالنظر إلى الثورة العلمية والتكنولوجية والمعلوماتية في أوروبا سنجد أن هذه الأمم قد اتخذت المسيحية ظِهْريّا، وكفرت بخرافاتها وأساطيرها وانطلقت في الكون المسخر تُعمِّر وتستعمر. فحررت عقولها وقلوبها أولاً ثم ركزت على الكون. وهذا ما فعله الإيمان بالضبط.

ولا نقصد بهذا المثال أن ننبذ ديننا، ولكن نقصد أن قضايا الغيب والإيمان تكفيها المعرفة القلبية والعقلية، ويكفينا منهج السلف الصالح من صحابة رسول الله r وتابعيهم. فإنهم لم يكثروا الجدال في هذه القضايا وإنما انطلقوا يجوبون الأرض، ففتحوا نصف العالم القديم في أقل من ثلاثين عاماً؛ بل لم يكونوا يعرفون تلك المصطلحات التي شاعت في علوم الكلام وغيرها من القضايا التي أثيرت فيما بعد.

مفهوم الإيمان

التحرر من الخوف

وضوح القضايا الكبرى

التركيز على الكون المسخر

ثالثاً: فلسفة العمل الصالح

وأول ما يتبادر إلى أذهان العقلية المسلمة بالعمل الصالح العمل التعبدي والخيري. كالصلاة والإنفاق وعمارة بيوت الله وإطعام الطعام. وكل هذا يدخل في باب العمل الصالح. ولكن العمل الصالح في حقيقته هو كل عمل ينهض بالأمة. فهناك فارق كبير بين المخترع المبتكر المسلم والمعتمر الذي يذهب إلى بيت الله الحرام كل سنة أو سنتين. وإلى هذا المعنى أشار العالم التابعي الجليل عبد الله بن المبارك حينما بعث إلى الفُضَيْل بن عياض - والملقب بعابد الحرمين – برسالة فيها:

يا عابد الحرمين لو أبصرتنا لعلمت أنك بالعبادة تلعب

من كان يخضب خده بدموعه فنحورنا بدمائنا تتخضب

ريح العبير لكم ونحن عبيرنا وهج السنابك والغبار الأطيب

إن مقولة "ليس في الإمكان أحسن مما كان" تؤدي إلى إيقاف عجلة الحياة

ففي ذلك العصر كان قتال الروم هو العمل الصالح الذي به تنهض الأمة وتتقدم. فكان بذلك الجهاد خير من ملازمة المسجد الحرام والصلاة فيه على عظم أجره ومثوبته.

والله تبارك وتعالى قال في كتابه: "الذي خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملاً"85 ولم يقل أيكم يعمل عملاً حسناً. فالله يريدنا أن نقوم

بأحسن الأعمال. فالأعمال الحسنة كثيرة، ولكن ما هو أفضلها وأحسنها في هذا الوقت؟ وهو ما يطلق عليه العلماء "واجب الوقت".

ولقد كان النبي r يحشد المجتمع بأسره ويحفزه. يقول الرسول r:

1. "من مات ولم يغز ولم يحدث نفسه بغزو مات على شعبة نفاق".86

2. "من جهز غازياً في سبيل الله فقد غزا"87.

الحديثان السابقان يمثلان سلسلة الدعم المادي والتجهيز المعنوي للمرابط.

3. "ومن خلف غازياً في سبيل الله بخير فقد غزا".88

وهذا الحديث يمثل سلسلة العمل الاجتماعي والتعليمي لكل المجتمع الذي يقف خلف المرابط.

قارن هذا الحشد النبوي بما فعلته ألمانيا عندما بنت نفسها بعد هزيمتها في الحرب العالمية الأولى. لقد كان ما حدث لها دافعاً لتطوير قدراتها العسكرية، وتنظيماتها في مختلف الميادين في الحقبة النازية. وما قدرتها على البناء ثانية بعد الحرب العالمية الثانية إلا ثمرة لعالم الأفكار المنظم، والقيم السائدة والمتبقية – حتى بعد فشل ألمانيا في الحرب الثانية.

وتخيل معي الفكرة ثلاثية الجوانب، فإن عملية تنظيم الدفاع عن الوطن تحتاج إلى:

جيش منظم: مثقف مجهز مدرب قطعاً بما يكافئ ويفوق الأعداء المحتملين.

سورة العصر أجملت عناصر النجاح الستة

الأفكار القاتلة تشكل القيود الحقيقية على إحداث نتائج في الواقع العملي

ولكن ما شكل المجتمع الذي يقف خلف هذا الجيش؟؟

عمل علمي: إنه مجتمع منظم ومثقف ومجهز ومدرب، كذلك ففكرة تجهيز الجيش ليست بإعطائه السلاح وفقط، ولكنها تبدأ من إعداد الطفل في الروضة، وتصل إلى البحث العلمي في المعهد والجامعة، وتمتد لتشمل المصنع الذي يحول البحوث إلى معدات وأجهزة تحرك عجلة الاقتصاد وتوفر للجيش أفضل السلاح، في تدفق لا ينقطع، وتنتهي بخطوط الإمداد وجودتها وما يسمى باللوجستيك. فهل يمكن أن ينجح مجتمع بدون كل ذلك؟!

عمل اجتماعي: إنه الضلع الثالث في المعادلة، وهو العمل الاجتماعي بكل أشكاله، ليضمن الأمن الاجتماعي لكل من على الثغور المختلفة

ترى هل تبين لك امتداد العمل الصالح وشبكته الواسعة؟؟ فأين ذلك ممن قصر العمل الصالح على مبلغ من المال يدفعه لعاجز أو في رحلة عمرة، ثم هو في غير ذلك مسيء ومقصر.

إن نجاح المجتمعات مرهون بصواب الفكرة عن العمل الصالح.

من هنا نعلم أن الحرص على القيام بأحسن الأعمال، وجعل ذلك الأمر ميداناً للتنافس بين العاملين؛ بل حتى أن تنافس نفسك وتحاول أن تتفوق عليها، هذا الحرص هو الضمان الوحيد لاستمرار عجلة الحياة. أما مقولة "ليس في الإمكان أحسن مما كان" فهي تؤدي إلى إيقاف عجلة الحياة.

جيش منظم

عمل علمي

عمل اجتماعي

رابعاً: قيمة العمل في فريق

وهي قيمة تفتقدها مجتمعاتنا بصفة عامة. فمجتمعاتنا قائمة على العمل الفردي والإنجاز الفردي. بينما قيمة أو كلمة الفريق تعني عدة أشياء.

سورة العصر أجملت عناصر النجاح الستة

الأفكار القاتلة تشكل القيود الحقيقية على إحداث نتائج في الواقع العملي

فهي تعني التعاون والتواصل وجودة وسرعة الإنتاج، وهي الأشياء التي يفتقدها العمل الفردي.

وللعمل في فريق مستلزماته كالتعاون والتناصح - الذي إذا ما افتقد الفريق روحه يصبح متنافراً، بينما روح التناصح تدعو للتعاون والتكامل، وتجنب الأخطاء التي قد تعتري العمل – وتنوع المهارات والتركيز على نقاط القوة عند كل فرد.

خامساً: رعاية الحقوق

فرعاية حق الله تكون بامتثال أوامره واجتناب نواهيه. ورعاية حق النفس يكون بحفظها عن كل ما يهلكها. ورعاية حق الناس يكون بإنصافهم

حتى لو اختلفنا معهم في عقائدهم وتصوراتهم. وقد كان جوهر انتصار المسلمين الأوائل هو قدرتهم على الإنصاف.

إن رعاية هذه الحقوق الثلاث ضمانة من ضمانات النجاح، والجور عليها هو أول الطريق نحو الفشل المحقق.

سادساً: الصبر

والشائع في مجتمعاتنا أن الصبر يكون على المصائب. بينما الصبر في حقيقته هو وقف النفس على المشقة، ومنه الصبر على أداء الأعمال حتى تنجز. فالصبر يكون على الدراسة وعلى الدعوة إلى الله وعلى البحث العلمي وعلى التفكير للأمة وعلى إقبال الدنيا وإعراضها.

مما سبق ندرك أن هناك ستة قيم هامة لابد من غرسها في عالم أفكارنا. ويمكن إيجازها في سورة العصر. فالله تبارك وتعالى يفتتح السورة بالقسم بالعصر في إشارة إلى قيمة الوقت. ثم يقرر حقيقة خسران الإنسان إلا من أدرك مفهوم الإيمان (آمنوا) ومفهوم العمل الصالح (عملوا الصالحات) وأدركوا قيمتي العمل في فريق ورعاية الحقوق (تواصوا بالحق) وقيمة الصبر (تواصوا بالصبر).

أثر الأفكار القاتلة:

العودة إلى الكتاب والسنة أول ما تبدأ به هو تغيير عالم الأفكار

إذا انتشرت داخل العقل ما يطلق عليه مالك بن نبي، الأفكار القاتلة، في الدين، وفي السياسة، وفي الاجتماع، وفي الاقتصاد، وفي الفن؛ فهذه الأفكار القاتلة تشكل القيود الحقيقية على إحداث نتائج في الواقع العملي، ولذلك سنجد - كما يقول نور الدين حاطوم في النهضة الأوروبية ويمكن الرجوع إلى ذلك في كتاب الذاكرة التاريخية - بأن حركة الإحياء في الغرب لم تبدأ بالنظر للمستقبل، إنما بدأت بتنقية التراث، ومحاولة استجلاب أحسن ما فيه من أفكار وإحيائها، فذهبوا إلى التراث الوثني؛ اليوناني والروماني على حساب المسيحية، وبدءوا يستلهمون منه فكرة المنطق، وفكرة البحث العلمي، والأفكار الأخرى التي رأوها نافعة، ثم أعادوا

هذا النافع بإحيائه، وبدءوا في النظر للمستقبل1.

إذاً كما يقول نور الدين حاطوم، لم تكن حركة النهضة كما تبدو حركة تنظر إلى المستقبل، بقدر ما كانت حركة رجعية، تنظر إلى الماضي، لكن هذه النظرة إلى الماضي كانت نظرة إيجابية، تستلهم من الماضي أحسن ما فيه،

وتؤسس عليه المستقبل المنشود،

إن العودة إلى الكتاب والسنة مطلب حقيقي، وأول هذه العودة يجب أن يكون بما بدأت به الدعوة من تغيير عالم الأفكار، والذي يتمثل في نظرة الإنسان للإله والكون والغيب والعالم المحيط به، وأيضاً تغيير أنماط التفكير التي تعيق أي حركة نهضوية حضارية من أسلوب التفكير المعوق.

المشهد المستقبلي

إنه مشهد ترى فيه الجموع الغفيرة من المخلصين والعاملين لنهضة هذه الأمة وقد تخلصت من الأفكار والمقولات القاتلة للإبداع والإنتاج. فانطلقت تفكر وتبدع في شتى مجالات الحياة.. تصنعها وتصوغها لتحقق نهضة الأمة التي ترنو إليها وتشتاق لها جماهير الأمة.

نحو التنفيذ

فليتكاتف القادة والمربون لإعادة تنظيم العقول المسلمة

ليتحقق هذا المشهد الرائع لابد أن تحرص المؤسسات العاملة في الساحة الإسلامية من الأحزاب والجماعات والمؤسسات الحكومية والجهات المعنية بالعملية التربوية وغيرها على تغيير أنماط التفكير الشائعة لدى أفرادها، وإعادة النظر في طرق تربية النشء، والأفكار التي يتم تنشئتهم عليها.

وحتى يتم ذلك فمن الممكن الاستعانة بالسلسلة الكاملة للمناهج والأدوات التي ترسم وتنظم الخارطة الذهنية في العقول المسلمة.

تذكر أن

* الإنسان يعيش في ثلاثة عوالم: عالم الأفكار، وعالم الأشخاص، وعالم الأشياء.

* التغيير والإصلاح يبدأ من عالم الأفكار أولاً.

* القرآن نزل على أمة يميزها اختلال جميع العوالم.

* عالم أفكار الجاهلية كان يعاني من اختلال قيمي ومفاهيمي وإعراض شديد عن العلم والتعلم والاعتماد على الظن.

* عالم أفكارنا المعاصر يعاني من مجموعة من أنماط التفكير التي تهدد حركة الصحوة بالشلل والجمود.، وهي: الخلط بين المبدأ والمنهج / سوء تعريف التربية / التفكير النمطي / الميل للمجاراة / نقل العادة / مقاومة التغير / عدم التوازن بين التنافس والتعاون / الانسياق التام دون التثبت بدليل أو برهان / الأفكار ليست طموحة ولا تناسب الهمم العالية / عدم التركيز على القول بل على القائل / التحفز للرد على الفكرة / الاعتقاد بأن القيادات تعرف كل شيء / عدم الاستعداد لنقد الذات وتدارك الأخطاء / المبالغة في تسطيح أو تهويل الأمور.

* النفوس تواقة لمن يحدثها عن المستقبل، لا من يحدثها عن أمجاد الماضي ولو كان عظيماً.

المشهد الرابع

أهمية دراسة التاريخ

المشهد الراهن

إنه مشهد يصور الحالة العقلية لقادة وطلاب النهضة وموقفهم من التجارب التاريخية

سنرى في هذا المشهد الجديد كثيراً من العاملين الذين لا يروْن من الإسلام إلا جانبه الهين اللين. وينكفئون إلى ممارسات ضيقة إذا ما احتاج الأمر إلى بحث ونظر وتصور وعمل جاد في مواجهة الواقع. إنهم لا يعدون العمل العقلي عملاً حقيقياً. بل ويعتقدون أنه بإمكان أي مجموعة أن تتجاوزه وتنجح في تحقيق أهدافها. بينما على الطرف النقيض يظن آخرون أن العمل العقلي وحده كفيل بالنجاح، وإن لم يكن بلسان المقال فبلسان الحال.

وسنرى في المشهد أيضاً بعض القادة الذين يحيلون قضية إعداد التصورات لمواجهة احتياجات الحاضر ومواجهة المستقبل إلى غيرهم من المفكرين، فإذا ما قدمت إليهم لم يفهموا مضمونها ولا اللغة التي كتبت بها. ثم يمارسون ما كانوا يمارسونه في الماضي دون وعي بما قُدِم لهم من جهد. وتدور الأحداث دورتها، وتعود الانكسارات في كل مرة يتحركون فيها.

وهناك الكثيرون الذين لا يحفظون من التجارب والنماذج التاريخية الناجحة سوى سيرة رسول الله r وسيرة عمر بن عبد العزيز والناصر صلاح الدين الأيوبي. ويعقب هذه التجارب فراغ معرفي كامل.

وسنجد في الساحة كثيراً من العاملين في مشروع النهضة الذين لا يريدون تحمل أي نوع من المخاطر، وإنما يريدون نجاحاً وإنجازاً بارداً مبرداً لا عوج فيه ولا أمتاً. فهم محجمون عن أي مبادرة أو فعل حقيقي لاعتقادهم بوجوب تحمل غيرهم التكاليف، أما هم فلم يحن دورهم بعد. فلصعوبة الأوضاع ووطأتها الشديدة فإقدامهم غير وارد، وصبرهم طويل، ولا يدري هؤلاء أن "الغُنْم بالغُرْم" وأن كل العظماء تحملوا وأقدموا حين أحجم الآخرون، وعم المثل القائل: "ما فاز باللذة إلا الجسور". وهكذا تتم حراسة فكرة الإحجام عن العمل بمجموعة مقولات عن الحكمة والروية، فأين هي تلك الحكمة؟؟!!

رفع الواقع

تقوم معادلة النصر على "أولي الأيدي والأبصار"

استعرض هذه الأسئلة. ثم اعرضها على من تعرف من العاملين والمؤمنين والمتحمسين في المشروع الإسلامي واستعرض إجاباتهم. ثم حدد مكان وأهمية ونوعية دراسة التاريخ في عقول العاملين من خلال هذه الإجابات.

17. كم كتاباً في التاريخ تقرأ في العام؟

18. ما هي نوعية الكتب التاريخية التي تقرؤها؟ (ارسم خارطة توضح نوعية الكتب التي تقرؤها)

19. هل تقرأ في التاريخ بعمومه وتطلع على التجارب البشرية المختلفة أم أنك لا تقرأ سوى بعضاً من التاريخ الإسلامي وبعضاً من سِيَر الصحابة والتابعين؟

20. كيف تقرأ كتب التاريخ أو التجارب التاريخية؟ وما هي الجوانب التي تركز عليها؟

21. ما هي أهمية دراسة التاريخ؟

بمثل هذه الأسئلة تعرف نموك العقلي في صناعة النهضة، ووعيك في مرحلة اليقظة. فإن لم تكن من المجدين في النظر فيقيناً ليس عندك إلحاح السؤال الضروري لبناء الوعي. ومهما علت عاطفتك فهي وحدها لا تكفي، لأن معادلة النصر تقوم على "أولي الأيدي والأبصار". أي من يمتلكون القدرة التنفيذية مع الرؤية وبعد النظر.

نقطة البدء

إن إطلاق القوى الكامنة داخل هذه الجموع الملتفة حول الإسلام يحتاج إلى قادة.. فكيف نعدهم؟؟!!

استعرضنا في المشهد السابق قضية التخلف. ومما لاشك فيه أن انتشال الأمة من هذا التخلف الذي يحجب خيوط الفجر – الذي بدت تباشيره - عن عيوننا يحتاج إلى قادة.

إن إطلاق الطاقة الكامنة داخل هذه الجموع الملتفة حول الإسلام يحتاج إلى قادة.. فكيف نعد هؤلاء القادة ونجهزهم لتحمل هذه المسئوليات؟؟

نعتقد أن ما يحتاجه القادة كثير، ولكننا سنركز في هذا المشهد على موضوع واحد، وهو أهمية وجود قاعدة تاريخية صلبة لدى قادة المستقبل.

العاملون ودراسة التاريخ

ليس التاريخ هو الماضي، ولكنه قاعدة الحاضر وانعكاس كليهما على المستقبل

من لم يكن له نصيب وافر من تجربة البشرية فهو يبدأ من الطفولة البشرية.. أي من الصفر

يعتقد الكثيرون أن دراسة التاريخ90 هي دراسة الماضي. ولكن التاريخ ليس هو الماضي. إنه قاعدة الحاضر. كما أنه انعكاس كليهما على المستقبل. فمن لم يكن له تاريخ أو نصيب وافر من تجربة البشرية فهو في عناء كبير، وفي جهل فاضح. لأنه يبدأ من الطفولة البشرية. أي أنه يبدأ من الصفر.

والنظر إلى التاريخ عمل عقلي يحتاج إلى جهد من القادة. إلا أن العطالة العقلية - التي أشرنا إليها من قبل – والسائدة في مجتمعاتنا جعلت كثيراً من العاملين لا يروْن من الإسلام إلا جانبه الهين اللين. ولكن عندما يحتاج الأمر إلى بحث ونظر وتصور وعمل جاد في مواجهة الواقع، ينكفئ الكثيرون إلى ممارسات ضيقة، ويبتعدون عن هذا المجال الشاق. وكما أن الأمة بحاجة إلى الإيمان والإخلاص والعبادة والصلاة، فهي بحاجة لعقل راجح يوجه حركتها، ولعمل دءوب يجيب على أسئلة الواقع وعلى تناقضاته.

وهنا لابد من الإشارة إلى أمر هام وهو أن كثيراً من العاملين في ساحة المشروع الإسلامي لنهضة الأمة لا يعدون العمل العقلي عملاً حقيقياً. بل ويعتقدون أنه بإمكان أي مجموعة أن تتجاوزه وتنجح في تحقيق أهدافها. بينما على الطرف النقيض يظن آخرون أن العمل العقلي وحده كفيل بالنجاح، وإن لم يكن بلسان المقال فبلسان الحال. وكلا الطرفين ذميم.

طرق تفكير القادة

نعود مرةً أخرى لموضوع إعداد القادة عقلياً في مجال التاريخ، لننقل ما قاله جون بيريه في كتابه "الذكاء والقيم المعنوية في الحرب". فهو يقول: ".. ويحدد القائد بفكره ثلاثة مواقف ويتبع ثلاث طرق في التفكير: الأولى طريق المنظِّر الذي يمعن الفكر في التجارب، ويستخرج منها قواعد عامة، ويشترك في إعداد التصورات..".

يتبع القائد ثلاث طرق للتفكير: طريقة المنظر.. وطريقة الطبيب.. وطريقة رجل الأعمال

إذا اكتفى العاملون بالتنظير وإعداد التصورات دون الدخول في المخاطر المحسوبة أصيبوا بالشلل التحليلي

وتثير هذه المقولة الكثير من التساؤلات حول قادة المشروع المعاصرين ورصيدهم من العلم بالتجارب التاريخية، وحول مدى قدرتهم على استخلاص القواعد العامة. كما أنها تثير سؤالاً آخر حول كم القادة الذين يحيلون قضية إعداد التصورات لمواجهة احتياجات الحاضر ومواجهة المستقبل إلى غيرهم من المفكرين، فإذا ما قدمت إليهم لم يفهموا مضمونها ولا اللغة التي كتبت بها. ثم يمارسون ما كانوا يمارسونه في الماضي. وهكذا يعيد التاريخ نفسه، وتدور الأحداث دورتها، وتعود الانكسارات في كل مرة يتحركون فيها، إذ أنهم يكررون تجاربهم السابقة دون وعي بمتطلبات الحاضر والمستقبل.

وهكذا فلابد من إعداد القائد ليلعب دور المنظِّر الذي يمعن الفكر في التجارب، ويستخرج منها قواعد عامة، ويشترك في إعداد التصورات. فهذه هي أول الوظائف الفكرية التي يجب تدريب وإعداد القائد عليها.

ثم يتبع جون بيريه بقوله: ".. إن القائد له طريق الطبيب، الذي يحلل ويناقش، ويوازن المعطيات في حالة خاصة محددة..".

ففي كل يوم تُستجد ظروف، وتُطرح قضايا، وتُثار أسئلة، وتُواجه وقائع جديدة، ويحتاج القائد لمواجهتها أن يحلل حالة خاصة في وضع خاص وتحت ظروف خاصة، فلابد أن يمتلك هذه القدرة على المناقشة والتحليل والموازنة. وتدريب القادة على اتباع هذه الطريقة يحتاج إلى الكثير من العمل.

أما الأمر الثالث والهام عند جون بيريه فيتضح في قوله: ".. وطريق رجل الأعمال الذي يستنتج ويقرر وينفذ..".

إذ أن طريق التنظير والقراءة وإعداد التصورات، وطريق التحليل والمناقشة وعمل الموازنات إذا توقف عند هذا الحد يصاب الإنسان بالشلل التحليلي91. فلابد من استكمال هذين العنصرين بعنصر ثالث وهو عنصر

كثير من العاملين يريدون نجاحاً بارداً ميسوراً دون الدخول في معادلة المخاطر المحسوبة

المبادرة وقبول تحمل المخاطر المحسوبة calculated risk)).

إن كثيراً من العاملين في مشروع النهضة اليوم لا يريدون تحمل مثل هذا النوع من المخاطر، ولكنهم يريدون نجاحاً وإنجازاً بارداً مبرداً لا عوج فيه ولا أمتاً، وهو ما يخالف أي قراءة تاريخية، ولننظر في تجارب الأنبياء والمرسلين قبل النظر في تجارب غيرهم من القادة والمصلحين، فهل أدت تجربة من هذه التجارب إلى عالم مثالي سواءً في مرحلة ما قبل التمكين أو في أثناء مرحلة الصراع والتدافع أو حتى بعد التمكين دون تحمل المخاطر والآلام؟ أم أن كل هذه الرسالات وتلك الحركات كانت لها مصاعبها التي واجهتها خلال هذه المراحل والأطوار المختلفة؟ فالعالم المثالي - الذي ينشده بعض العاملين بشروط كاملة لا ضرر فيها ولا مخاطرة - غير وارد في أحوال البشر والمجتمعات.

فلابد للقائد من طريق رجل الأعمال الذي يستنتج ويقرر وينفذ ويقتنص الفرص ويتحمل هذا الجزء من المخاطر المحسوبة.

إذاً يحتاج قادة المشروع إلى اتباع طريق المنظِّر، وطريق الطبيب الذي يحلل حالة خاصة لمريض بعينه ويناقش ويوازن، وطريق رجل الأعمال الذي يستنتج ويقرر وينفذ. فإذا ما توافرت هذه المواصفات الثلاث لدى قيادة المشروع النهضوي نكون قد حظينا بالقيادة المطلوبة والتي نسعى إليها.

طرق تفكير القادة

طريقة المُنظِّرْ

طريقة الطبيب

طريقة رجل الأعمال

أهمية دراسة النماذج التاريخية

تعطي التجارب التاريخية سعة كبيرة في العقل

إننا نبني جزءاً من التفكير الاستراتيجي لدى القائد عندما نزوده بخارطة تاريخية يتعامل بها مع الواقع، فالتفكير الاستراتيجي كما يقول كنيتش أوميه في كتابه "فن التفكير الاستراتيجي": "التفكير الاستراتيجي يبدأ أولاً بفهم واضح لكل عنصر من عناصر الوضع القائم، ثم ينطلق مستخدماً أقصى القدرات العقلية لإعادة ترتيب العناصر بأفضل طريقة تحقق الميزة التنافسية".

وأقصى القدرات العقلية في تصورنا هي هذا البناء الذي تكمن في أحد أهم مدخلاته قضية التجارب التاريخية وتنوعها. إذ أنها تعطي سعةً كبيرةً في العقل بالإضافة لعناصر أخرى في التفكير القيادي التي يجب أن يدرسها أي إنسان يعتني بالشأن العام في مجتمعاتنا العربية والإسلامية.

عقل القائد

وقدراته

التجارب التاريخية

عقل راجح

تصورات وإجابات

حوادث متفرقة

سياسية

اقتصادية

اجتماعية

فكرية

روحية

علمية

أخلاقية

مدخلات

مخرجات

البحث والنظر

تلعب النماذج التاريخية دوراً كبيراً في تشكيل العقلية الاستراتيجية للقائد

وهكذا فإن النماذج التاريخية تلعب دوراً كبيراً في تشكيل هذه العقلية الاستراتيجية. ولكن ما الذي يدرسه القائد في التاريخ وكيف يدرس؟؟

يستهدف علم التاريخ جمع المعلومات عن الماضي وتحقيقها وتدوينها وتفسيرها. ولا نقصد بذلك أن يتحول القادة إلى أكاديميين، ولكن عندما تأتي قضية التفسير يأتي دور القائد في جزئه التنظيري التصوري الذي يشارك فيه في بناء التصورات، فهو يقوم بمقارنة وربط الجزئيات بالكليات من خلال اطلاعه على حقول واسعة من التجربة البشرية مع القدرة على

لا تصادموا نواميس الكون فإنها غلابة ولكن غالبوها واستخدموها وحولوا تيارها

تشكيل المعلومات في نسق ثم استنتاج الخلاصات. فغاية القائد أن يفهم القوانين العامة، وأن يفهم النواميس الكونية، وأن يفهم سنة الله في خلقه لأنه يتعامل مع السنن. وانظر إلى قول البنا في مؤتمره الخامس: "لا تصادموا نواميس الكون فإنها غلابة، ولكن غالبوها واستخدموها، وحولوا تيارها واستعينوا ببعضها على بعض". هذه القدرات المتنوعة للقائد في فهم القوانين ثم الاستفادة منها في التعامل مع قوانين أخرى هي المحصلة الكبرى لدراسة التاريخ. وبالتالي فلابد لمعاهد تخريج قادة النهضة من العناية بدراسة النماذج التاريخية الناجحة والفاشلة في قضايا التغيير والتمكين.

دور القادة

مقارنة الوقائع وربط الجزئيات بالكليات

الاطلاع على حقول واسعة من المعرفة والتجربة

تشكيل المعلومات في نسق واستخلاص النتائج

إذا كانت الذاكرة التاريخية لا تحوي سوى نموذجاً أو اثنين فحصيلة القائد ضعيفة

النماذج الشائعة في عقول طلاب النهضة

يحلو للبعض عندما نتحدث عن التاريخ أن يذكر سرداً للسيرة النبوية المطهرة المشرفة، أو أن يقفز إلى فترة عمر بن عبد العزيز أو صلاح الدين الأيوبي. لكن كم بين هذه الفترات من تجارب ثرية سالبة وموجبة يمكن البناء عليها واستخلاص النتائج منها؟!. وإذا كانت الذاكرة لا تحتوي إلا نموذجاً أو نموذجين – هذا إذا افترضنا حسن القراءة لهذه النماذج - فعندها تصبح حصيلة هذا القائد ضئيلة وضعيفة، وبالتالي يصبح حكمه على الأمور ومقارباته شديدة البعد عن الواقع وعما هو مطلوب.

التاريخ: أداة استخراج النماذج.. أداة للإقناع.. أداة لرفع الروح المعنوية

التاريخ كأداة من أدوات القادة

لذا فلابد لقادة النهضة من دراسة النماذج التاريخية. فالتاريخ ليس علماً للمتعة؛ بل هو أداة هامة لعدد من الأشياء:

- هو أداة من أدوات استخراج النماذج والمقاربات من واقع القائد والمستقبل المتوقع.

- وهو أداة للإقناع. فعندما تتحاور مع شخص ما ثم تستلهم التاريخ لتدلل على ما تقول، فأنت تتكلم عن شيء حقيقي، لا عن أوهام أو ظنون.

- وهو أداة لرفع الروح المعنوية. وانظر مثلاً في هذا الجانب إلى الطريقة التي يتبعها الغرب في رفع الروح المعنوية عند أتباعه باستخدام التاريخ.

استخدام التاريخ كأداة

لاستخراج النماذج والمقاربات

للإقناع

لرفع الروح المعنوية

كيف رفع المؤرخون الغربيون من الروح المعنوية لشعوبهم؟؟

التاريخ أداة لاستخراج النماذج:

إن نظرة واحدة على عمليات التحرك لتغيير الواقع في التاريخ تضعنا أمام نماذج لا حصر لها من الممكنات. فما هي قراءاتنا حول المشاكل التي واجهها قادة التغيير والحلول التي جربوها؟؟

ماذا نقرأ مثلاً في: تجارب الأنبياء غير المحاربين وتجارب الأنبياء المحاربين؟ وكم عدد المحاولات التي جربها الرسول r للانتقال من شريحة البدء إلى إيجاد شريحة التغيير؟؟ وما هي دلالات هذه المحاولات المتنوعة؟؟ وما هي الاستجابات المختلفة لقضايا الواقع وما دلالتها؟؟ وما هي العبرة من تحركات العلويين ومآلات تجاربهم؟ وما هي العبرة من تحرك العباسيين ونجاحاتهم؟؟ وما هي العبرة من تحركات ومآلات الخوارج وغيرهم؟؟ وهكذا...

كيف رفع المؤرخون الغربيون من الروح المعنوية لشعوبهم؟؟

وماذا نقرأ في: التجربة الألمانية والفرنسية والبريطانية والروسية والصينية؟ وما هي تجارب الثوار في أمريكا الجنوبية وما العبرة منها؟؟ وهكذا...

إن تنوع الوسائل والنماذج تعطي سعة لا حصر لها سواء على مستوى الاستراتيجية، أو على مستوى التكتيك.. فكل تجربة تغيير أو احتشاد للنهضة في مجتمع ما هي إلا خبرة مضافة ودرس يحتاج إلى تعلم. وتدريب القادة على القراءة والربط والمقاربات وعمل النماذج هو أول أولويات طلاب النهضة.

كيف رفع المؤرخون الغربيون من الروح المعنوية لشعوبهم؟؟

التاريخ أداة لرفع الروح المعنوية

تقول زيغرد هونيكه في كتابها المشهور "شمس الله تشرق على الغرب": "من يتصفح مائة كتاب تاريخ لا يجد اسماً لذلك الشعب (العرب) في ثمانية وتسعين منها. وحتى اليوم فإن تاريخ العالم لا يبدأ بالنسبة للإنسان الغربي وتلميذ المدرسة إلا بمصر القديمة وبابل بدءاً خاطفاً سريعاً!! ثم يتوسع ويتشعب في بلاد الإغريق وروما!! ثم ماراً مروراً سريعاً ببيزنطة!! منتقلاً إلى القرون الوسطى المسيحية لينتهي منها آخر الأمر بالعصور الحديثة".

والسؤال الآن:

لماذا المرور السريع في سرد الحضارات القديمة؟؟!!

ولماذا التشعب والتوسع في سرد حضارات بلاد الإغريق وروما؟؟!!

ولماذا تم اختزال فترة العصور الوسطى ثم التوسع في العصور الحديثة؟؟!!

ويمكن إجمال الأسباب التي دعت المؤرخين الأوروبيين إلى تناول وعرض التاريخ بهذه الطريقة فيما يلي:

* أن تقزيم دور الحضارات المشرقية في زاوية صغيرة من كتاب التاريخ – عند صناعة العقل الأوروبي - يجعل فترة روما والإغريق تأخذ بعداً أكبر. وبالتالي تُهمَّش أدوار الحضارات الأخرى، فيصبح التاريخ البشري كله قبل روما وقبل اليونان – في العقل الأوروبي -هو فترة قليلة في الوجدان.

تضخيم المؤرخين لفترة اليونان والإغريق يغرس في الشعور أن إنجازاتهما هي أم التراث الإنساني. وهذا من قبيل البعث النفسي لشعوبهم

* أن التضخيم لفترة اليونان والرومان وإنجازاتها يغرس في الشعور والعقول أن إنجازات الإغريق والرومان هي أم التراث الإنساني. وهذا من قبيل البعث النفسي للشعوب الأوروبية.

* أن تقزيم واختزال وتهميش فترة العصور الوسطى (عصور الظلام في العقل الأوروبي) وبيزنطة - وهي تقرب من عشرة قرون سادت فيها الحضارة الإسلامية وحضارات أخرى – رغم أنها الأطول في التاريخ الأوروبي يشعر القارئ والطالب الأوروبي أن أوروبا كانت باستمرار مهد الحضارة. وأن الذكاء الأوروبي هو أمر ممتد منذ القدم وحتى زوال الكون.

* الانتقال المباشر إلى عصر النهضة والعصور الحديثة والإشادة بهما لأنهما يمثلان العصر الأوروبي المجيد.

* ثم يتم التوسع في التاريخ الأوروبي المعاصر الذي يمثل قمة البعث النفسي والعظمة والمجد الأوروبييْن.

وبذلك أسقط المؤرخون الأوروبيون الحضارات القديمة بضربة فنية، وأسقطوا الحضارة الإسلامية التي امتدت عشرة قرون متواصلة بضربة فنية أخرى، وجعلوا تاريخ العالم يبدو خطاً غير منقطع للتاريخ الأوروبي، فيعيدون بذلك تشكيل عقلية الطالب الأوروبي لاستقبال هذه المعلومة، وعندها لا يتبقى في عقليته إلا عظمة اليونان والرومان، واتصال ذلك بعظمة أوروبا الحالية و يسقط ما بينها من فجوات أو تساؤلات.

فإذا نظر الطالب إلى هذه الحضارة الممتدة العظيمة، رآها في القمة دائماً وعلى مر العصور، فهي لابد أن تسود وأن تهيمن. بينما العالم الآخر - في عينيه - لابد وأن يكون مهيَمناً عليه.

وهكذا فإن استخدام التاريخ بهذه الطريقة هو استخدام في مجال الصراع، وليس استخداماً محايداً للتاريخ92.

إن استخدام التاريخ بهذه الطريقة الغربية ليس استخداماً محايداً وإنما هو في صميم مجال الصراع

لكل أمة تاريخان: كبير يرفع الروح المعنوية، وصغير يخفض الروح المعنوية

التاريخ أداة لخفض الروح المعنوية

وهنا لابد من الإشارة إلى أمر هام، وهو أن التاريخ إذا كان يستخدم كأداة لرفع الروح المعنوية - لو كان المقصود بناء أمة – فهو يستخدم أيضاً لتشويه الأمم وخفض روحها المعنوية – لو كان المقصود هدم أمة. فلو كان المراد هو بناء الأمة يتم استعراض تاريخ الإنجازات في الفتوحات والتقدم والتوسع الحضاري والتاريخ العلمي وتاريخ الإنجازات التطبيقية في مجالات العلوم وغيرها وهو ما يسمى بالتاريخ الكبير. أما إذا كان المراد تشويه سمعة أمة أخرى فيتم استعراض تاريخ القصور والصراعات التي كانت على الحكم, وأحوال الملوك ورجال ونساء البلاط وهو ما يسمى بالتاريخ الصغير، ويتم تجاهل التاريخ الكبير تماماً.

إذاًَ هناك تاريخ كبير يرفع من معنويات أي أمة، وهناك تاريخ صغير يمكن أن يحط من قدر أي أمة. فإذا افترضنا أن التاريخ ليس أداة محايدة تُذكر فيها كل الإيجابيات والسلبيات - وذلك لا يحصل في الغالب - إنما يستخدم التاريخ في كثير من الأحيان كتاريخ وظيفي؛ بمعنى أنه يستخدم لتعزيز قوة ومنعة أمة ما وحصانتها وإحساسها بهويتها، فإذا وجدت في مجتمعاتنا من يشتغلون بالتاريخ الصغير وينسون تاريخ الفتوحات وتاريخ العظماء والمبدعين في الأمة فاعلم أنهم يعملون لصالح مشروع آخر. هذه حقيقة لا يجادل فيها إلا من لا يعرف نوعية الدراسات التاريخية التي تقدم، وكيف يقدم التاريخ وكيف يستخدم.

التاريخ الكبير

التاريخ الصغير

لرفع الروح المعنوية

لخفض الروح المعنوية

أنواع التاريخ

ما هي المساحة المطلوب دراستها في الحد الأدنى؟؟

يحتاج المسلم إلى خارطة معرفية جيدة تضم التجارب التاريخية الإسلامية وغير الإسلامية.. السالبة والموجبة

ما يجب أن يدرسه طلاب النهضة

نعود لنقرر أننا يجب أن نحدد المساحة التي يحتاجها قائد النهضة من التاريخ. فمما لاشك فيه أنه لا يوجد الوقت الذي يستطيع فيه الإنسان أن يقرأ كل شيء، فما الذي سننتقيه من التجارب لتتم دراسته؟ وكيف ندرب طلاب النهضة على الدراسة المنهجية لهذه التجارب؟

إن الحد الأدنى الذي يحتاجه القائد هو دراسة شيء من نهضات الأمم في الشرق وفي الغرب. وليبدأ بتاريخ أمته. فليبدأ بدراسة السيرة النبوية ودراسة التاريخ الإسلامي. وهذه الدراسة تلعب دوراً كبيراً في تأطير الفكر الإسلامي النهضوي.

ثم ليدرس تاريخ الصين، وتاريخ الثورة الفرنسية قبل وأثناء وبعد قيامها، وتاريخ بريطانيا، وتاريخ اليابان، وتاريخ ماليزيا، وربما يحتاج الإنسان أن يقرأ تاريخ قارة أمريكا الجنوبية إذ أن كثيراً من المسلمين يعتقدون أن ظاهرة الهيمنة وظاهرة الاحتقار وظاهرة الأذى تقع على المسلمين وحدهم، وينسون أن شعوباً مسيحية ممتدة في أمريكا الجنوبية تعاني مما يعاني منه المسلمون. وفي ذلك توسيع للآفاق، في نظرة إنسانية شاملة، تبحث عن العدل والإنصاف، وليس عن الاستعلاء لسبب أو لآخر، لقول الله سبحانه وتعالى: "قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم"93، وقوله: "وإنا أو إياكم لعلى هدى أو في ضلال مبين"94. إن قضية الاستعلاء والاستكبار تشمل البشرية، وإن التحرير يجب ألا ينصب على تحرير المسلمين وحدهم، بل على تحرير البشرية من الظلم، وبعدها للبشرية أن تختار، وللناس أن يختاروا عقائدهم وأديانهم كما يشاءون، ولكن على قاعدة سواء من العدل تشمل جميع الناس مسلمهم وكافرهم.

لابد من الدراسة المتأنية العميقة لتجارب ما قبل الدولة وما بعد الدولة

إذاً يحتاج الإنسان إلى خارطة معرفية جيدة على الأقل في هذه المساحات التي تحدثنا عنها. كما أننا نحتاج إلى دراسة الفرق الإسلامية دراسة متمعنة في معطياتها العامة، وفي أثر الواقع عليها، وفي قيادتها، وفي إدارتها، وفي اختيار شرائحها، وفي الخطاب الذي تترست به، وفي التمويل، وفي التأمينات، وفي السياسات، وفي أطروحاتها الشرعية، وفي التوقيت، وفي الصبر والحكمة والأناة فيها، وفي الاستراتيجية والتكتيك، وفي الإشكاليات التي واجهتها، سواء كانت هذه التجارب ناجحة أو فاشلة. إن دراسة بهذا المعنى الذي ذكرناه تثري عقلية القائد وتضع له نماذج كثيرة ومتعددة يستطيع أن يلجأ إليها.

وحسبك أن تقرأ في التجارب الناجحة التجربة العباسية قبل التمكين، لترى عظم الثروة التي قد تتاح عند دراسة التجارب التاريخية بشكل مختلف وبطريقة مختلفة.

ويلزم القائد أن تكون له خارطة مبسطة لا تزيد عن صفحة واحدة لتاريخ أمته بحيث يستطيع أن ينسب كل المعلومات الأخرى التي ترد إليه إلى هذه الخارطة الصغيرة الموجودة في ذهنه. وسوف نتحدث عن هذه الخارطة التاريخية في كتاب منفصل بإذن الله.

كيفية تناول التجارب التاريخية

السؤال الذي يتلو ذلك: ما هي نوعية الدراسات التي يجب أن نضعها في القضية التاريخية ونقترحها على القادة؟

عند دراسة أي تجربة من التجارب التاريخية التي وصلت إلى التمكين يجب دراسة ما فعلته هذه الحركة أو الدولة أو التنظيم أو غيرها في فترة ما قبل التمكين. فتدرس المعطيات العامة فيها، ودرجة المرونة عند قيادتها في اختيار البدائل، وعدم الانغلاق على بديل واحد، وأثر الواقع واختيارها للموقع، واختيارها للقيادة وتأمينها، ونوعية الإدارة التي نظمتها، وكيف اختارت شريحة البدء وشريحة التغيير وشريحة ما بعد التمكين؟ وكيف

لابد من الدراسة المتأنية العميقة لتجارب ما قبل الدولة وما بعد الدولة

لابد من دراسة فترة الاضطراب الأولى التي تحدث في أعقاب التمكين، ونشأة وعوامل الاستقرار المؤدي إلى التوازن

صاغت خطابها قبل وأثناء وبعد التمكين؟ وما هي نوع التأمينات التي حصنت بها حركتها وهي تتحرك في كل مرحلة من المراحل؟ ثم ما هي السياسات العامة التي اتبعتها؟ وكيف تعاملت مع قضية الشرعية؟ وكيف اختارت توقيتات التحركات؟ وما درجة الحكمة والصبر والأناة لدى قادتها؟ وما هي الاستراتيجية والتكتيك في عملها؟ ثم ما هي الإشكاليات التي واجهتها وكيف تغلبت عليها؟

ويتوقف كثير من العاملين عند هذه المرحلة، ويهملون دراسة الدولة بعد قيامها. فكثير من طلاب النهضة يعتقدون أن الدولة التي تواجه صعوبات بعد التمكين لم تعد إعداداً جيداً لمرحلة التمكين، وهذا خطأ فادح،

إذ أن كل حركة تصل إلى التمكين لابد أن تواجه بإشكاليات تهدد وجودها ابتداءً. حدث هذا في حركات التمكين التي قادها الأنبياء، وفي حركات التمكين التي قادها المصلحون، بل وحتى في حركات التمكين التي قادها غير المسلمين في عصرنا هذا وفي كل عصر.

إن الدولة عندما تنشأ تواجه بالعديد من المشاكل التي تهدد وجودها، ثم هي تتعامل بتوازنات الدولة حتى تستطيع أن تحقق استقراراً ما فتنتقل من تهديد الوجود إلى إيجاد الاستقرار وتأمينه الاستقرار للانطلاق إلى مرحلة النهضة والتنمية.

لابد أن يدرس طلاب النهضة فترة الاضطراب الأولى التي تحدث في أعقاب التمكين، ثم كيف ينشأ الاستقرار، وما عوامل الاستقرار التي أدت إلى إحداث التوازن؟ ثم كيف انتقلت أي دولة لعملية التنمية أو تراجعت من التنمية إلى منحدرات تهديد الوجود؟.

تهديد وجود

تهديد استقرار

تهديد تنميةالمراحل التي تمر بها الدول

إن دراسة هذا الخط الحي المتحرك في أي دولة من الدول هام جداً بالإضافة إلى دراسة أسباب الهبوط أوالانكسار إن حدث.

يشهد التاريخ والواقع باستحالة قيام أو استلام نموذج مثالي دون حدوث فترات اضطراب وانشقاق

أما أن يكتفي بعض قادة المشروع بمشاهدة التجارب ليحكموا على هذه أنها تنقصها التربية، وعلى تلك أنها لم توفر قاعدة صلبة، ثم لا تُعرَّفُ هذه القاعدة الصلبة تعريفاً واضحاً ولا تحدد هذه التربية وكيف يحكم عليها؛ فإن هذا أمر خطير يؤدي إلى مجموعة أمور:

الأمر الأول: أننا لا نستفيد من تجارب البشرية.

الأمر الثاني: النظرة الطوباوية95 (المثالية) التي تتوقع وجود مغنم من دون مغرم.

الأمر الثالث: إشاعة البطالة الفكرية، وعدم إعمال العقل للتحول وإجراء اللازم للاستفادة من هذه التجارب والاقتباس منها.

وللتغلب على هذه القضية الخطيرة يجب التفكير في كيفية الاستفادة من التجارب الأخرى وتطويرها والبناء عليها وتجنب عثراتها بدلاً من الاكتفاء بموقع الناقد الذي يعتقد أن هناك نموذجاً مثالياً سيحدث في مكان ما، وذلك لا يمكن أن يحدث بأي حال من الأحوال، والتاريخ شاهد على ذلك والواقع أيضاً يشهد.

إذا تمكنا من فعل ذلك نكون قد وضعنا أيدينا على منطقة هامة في تشكيل العقل القيادي وتنظيمه وترتيبه، بحيث يستطيع التعامل مع الواقع، ويستطيع أن يستشرف المستقبل وفي يده أدوات ونماذج جديدة. وكلما زادت هذه النماذج والأدوات، كلما كانت القدرة على إصدار أحكام أكثر علمية وأكثر نضجاً أمراً شائعاً داخل هذه المجتمعات الإسلامية المراد نهضتها على جميع المستويات وعلى جميع الأصعدة.

أما القادة المستقبليين للأمة فيجب ألا يُتركوا للأعداء ليبنوا لهم تصوراتهم ويقزموا أدوارهم ويحولوهم إلى أدوات لخدمة مشاريعهم المركزية. فهم جزء من أمل الأمة في التحول والنهضة.

يشهد التاريخ والواقع باستحالة قيام أو استلام نموذج مثالي دون حدوث فترات اضطراب وانشقاق

إن انتشار ثقافة النماذج التاريخية وقوانين النهضة أساس في صناعة قادة الغد. ويجب ألا يقتصر على شريحة دون شريحة أو فئة دون فئة.. فحينما تصبح هذه النماذج والقوانين ثقافة مجتمع يمكن التعويل عليه، خاصةً في ظروفنا التي نشاهدها ونعلمها كأمة.

قراءة المسار التاريخي:

هل تسير تجارب النهضة في خط مستقيم صاعد أم في خط متعرج؟؟

إن دراسة نهضة أي مجتمع تشير إلى أن تقدم أي مجتمع لا يتم بشكل مستقيم، بل بشكل متعرج، ولكن المحصلة النهائية هي خط مستقيم عندما تزال الانكسارات.

وهذا معنى مهم لقادة النهضة عند الحكم على أي تجربة، فالمقياس العام ليس عدم وجود انكسارات وتراجعات، ولكن بقراءة الخط العام وتقدمه. فتجربة ماوتسي تونج في الصين تكللت بنجاح مذهل في المحصلة، ولكن دراسة التفصيلات تظهر أن العملية كانت كالسير في طريق مليء بالحفر و النتوءات. فمن ركز على الحفر والنتوءات ولم يستطع أن يرى الخط العام فلاشك أنه أخطأ القراءة.

إن نهضة أي مجتمع لا تمر في مسار مستقيم وإنما لابد أن تواجهها سلسلة من الانكسارات

المشهد المستقبلي

إنه مشهد ترى فيه الجموع الغفيرة من المخلصين والعاملين لنهضة هذه الأمة وقد فطنت لأهمية دراسة التاريخ والتجارب البشرية. فعكفت على استخلاص النتائج، وطرائق التغيير الناجحة والفاشلة، فتعرفت على مقومات النجاح وأسباب الفشل. فسارت في طريقها على هدى وبصيرة.

نحو التنفيذ

من أهم خطواتنا نحو النهضة دراسة التاريخ وإعادة عرضه واستخدامه في عملية البعث النفسي للأمة

ليتحقق هذا المشهد الرائع فلابد من تنفيذ الأمور التالية:

* على قادة وطلاب النهضة دراسة التجربة النبوية والعباسية والفرنسية والأمريكية والبريطانية والصينية واليابانية دراسة نوعية.

* على قادة وطلاب النهضة دراسة التجارب المتعلقة بالإنسانية المضطهدة، مثل قارة أمريكا الجنوبية، ليستعدوا لحمل مشاعل تحرير البشرية ..كل البشرية مسلمها وكافرها، وليتمكنوا من لغة الخطاب الحضاري.

* على قادة وطلاب النهضة دراسة الخط الحي المتحرك للدول: الوجود والاستقرار والتنمية.

* على مفكري الأمة وعلمائها أخذ خطوات جادة نحو إعادة عرض التاريخ بما يحقق البعث النفسي لجموع العاملين وجماهير الأمة وقادتها.

* على الجهات التثقيفية والمؤسسات الإعلامية أن تستخدم التاريخ كأداة لرفع الروح المعنوية، وأن تعرض تجارب الأمم التي أرادت النهوض وتسلط الضوء على النقاط المفصلية في حركات النهضة.

تذكر أن

* التاريخ ليس هو الماضي، ولكنه قاعدة الحاضر، وانعكاس الاثنين على المستقبل.

* القائد يتبع ثلاث طرق في التفكير: طريق المنظر والطبيب ورجل الأعمال.

* دراسة التجارب التاريخية هي جزء من بناء الفكر الاستراتيجي للقادة.

* التاريخ يستهدف جمع المعلومة وتحقيقها وتدوينها وتفسيرها.

* دور القائد هو مقارنة الوقائع وربط الجزئيات بالكليات، والإطلاع على حقول واسعة من المعرفة والتجربة، وتشكيل المعلومات في نسق واستخلاص النتائج.

* التاريخ هو أداة لاستخراج النماذج والمقاربات، وأداة للإقناع، وأداة لرفع الروح المعنوية.

* العالم الأوروبي أعاد عرض التاريخ بما يحقق البعث النفسي للشعوب والجماهير الأوروبية.

* يعد إعادة عرض التاريخ بما يحقق البعث النفسي للأمة الإسلامية من أهم واجبات العاملين في مشروع النهضة اليوم.

* التاريخ نوعان: تاريخ كبير يرفع الروح المعنوية، وتاريخ صغير لخفض الروح المعنوية للشعوب.

* التجربة النبوية، والتجارب الصينية واليابانية والفرنسية والبريطانية والعباسية تعد من أهم التجارب التي يجب على القادة دراستها. وهي ليست الوحيدة بل مقترح أولي.

* دراسة التجارب التاريخية لابد أن تكون دراسة نوعية استقرائية، لا دراسة قصصية للمتعة والتسلية.

* المراحل التي تمر بها الدول هي مراحل تهديد الوجود ثم تهديد الاستقرار ثم تهديد التنمية. ولكل مرحلة فلسفة عمل وتوازنات مختلفة. وقراءة طرق وأنماط الأداء في كل مرحلة تعطي رؤية مختلفة لأنواع الأداء وفنونه.

المشهد الخامس

أهمية رفع الواقع

المشهد الراهن

إنه مشهد يصور الحالة الإسلامية البسيطة التي تفتقد الثقافة الإحصائية

سنرى في هذا المشهد الجديد كثيراً من العاملين الذين لا تزيد ثقافتهم عن الثقافة الخطابية المعهودة، أو الثقافة الصحفية البسيطة، بينما ثقافتهم الإحصائية ومعرفتهم بالمؤشرات الحساسة وطريقة قراءتها واستخدامها لتغيير الواقع معرفة محدودة جداً. كما أن الكثيرون يعتقدون أن هذه الثقافة الإحصائية ثقافة دخيلة على الإسلام.

وسنجد الكثير من التجمعات والهيئات والحركات المساهمة في المشروع النهضوي لهذه الأمة تفتقد أبسط المعلومات عن أهم القضايا التي تواجهها أمتنا؛ بل تفتقد ثقافة المعلومات. إذ ليس من ثقافة بيئتنا استخدام المعلومات. بل وحتى مراكز البحث ذات الصلة بهذا النشاط الإحصائي قد لا تتميز بالكفاءة المطلوبة، وربما تفتقد إلى الرؤية الواضحة لما يجب أن يكون عليه حال الأمة، بل وربما لا تستخدم مؤشرات القياس الحساسة التي تحتاجها حركة النهضة. وليت الصعوبات تتوقف عند هذا الحد، ولكن الأخطر من ذلك هو عدم وصول المعلومات – حتى ولو كانت غير دقيقة - للعاملين في حقل التغيير. فالمراكز والبحوث تعمل في جانب، والقادة والعاملون يجتهدون في جانب آخر. ويفتقد كلاهما إلى التواصل والتآزر والتعاون.

وهكذا أضحت الساحة الإسلامية ميداناً للأنشطة والأعمال الكثيرة التي لا يدرك العاملون نتائجها وهل آتت أُكُلَها أم لا، وهل تُحدِث فارقاً في حركة الأمة ونهضتها أم لا.

رفع الواقع

ترى هل تحكم على الواقع من خلال انطباعاتك أم من خلال لغة الأرقام؟؟

استعرض هذه الأسئلة. ثم اعرضها على من تعرف من العاملين والمؤمنين والمتحمسين في المشروع الإسلامي واستعرض إجاباتهم. ثم حدد مكان وأهمية ونوعية دراسة التاريخ في عقول العاملين من خلال هذه الإجابات.

22. هل أنت مدرب على التعامل مع الإحصاءات والأرقام؟

23. هل تقرأ الإصدارات التي تصدرها مراكز البحوث والدراسات؟

24. كم إصداراً قرأت حتى الآن؟

25. كم عدد المرات التي قمت فيها ببناء خارطة لأنشطتك وأعمالك بناء على المعلومات الواردة في هذه النشرات والإصدارات؟

26. هل قمت بعمل إحصاء كمي أو وصفي بغرض جمع معلومات معينة في الساحة التي تعمل فيها؟ كم مرة؟

27. هل تستخدم مؤشرات قياس معينة لمعرفة مدى تقدم أو تأخر أنشطتك؟

28. ما هي القضايا أو الملفات الكبرى التي يجب على قادة وطلاب النهضة مواجهتها والتعامل معها؟

بمثل هذه الأسئلة تعرف هل تمتلك ثقافة إحصائية تمكنك من رفع الواقع المحيط والبناء على المعلومات المتوفرة أم أنك تمارس الفعل بشكل عفوي دون بحث أو نظر.

نقطة البدء

تنطلق النهضات من حقائق الواقع المحيط بعد رصده وتكميمه

استعرضنا في المشهد السابق أهمية دراسة التاريخ، والتجارب التي لابد من دراستها، وطريقة تناول ودراسة هذه التجارب. أما في استعراضنا لهذا المشهد فسنتناول أهمية رفع الواقع، وأهمية الثقافة الإحصائية والمعلوماتية، وأهمية الاتصال بمراكز البحوث والدراسات ودعمها.

إن تقدم المجتمعات ونهضاتها لا تُبنى على الأوهام ولا على الأحلام أو التوقعات العشوائية، ولكنها تنطلق من حقائق الواقع المحيط بعد رصده وتكميمه وتوصيفه توصيفاً دقيقاً مبنياً على أدق قواعد البحث العلمي.

مستلزمات عملية التغيير

تستلزم عملية التغيير تحديد الواقع وتحديد الهدف المطلوب وقياس نتائج التدخل

في محاولات استنهاض الأمة تلعب المعلومات دوراً كبيراً وحيوياً

تُعرَّفُ عملية التغيير بأنها انتقال وضع ما من حال إلى حال آخر. هذا الانتقال من حال إلى آخر يستلزم ثلاثة أمور:

أولاً: يستلزم أن نحدد بشكل علمي ماهية الحالة التي ننطلق منها.

ثانياً: يستلزم أن نحدد ماهية الحالة المطلوب بلوغها أو الوصول إليها.

ثالثاً: يستلزم بعد ذلك قياس الحالة التي نتجت عن تدخلات قادة وطلاب النهضة لمعالجة الواقع.

ونضرب لذلك مثالاً بالمدرس الذي يُدرِّس لطلابه مادة الكيمياء. فالحالة التي ينطلق منها المدرس هي علمه بأن هناك حالة أولية من الجهل – لدى طلابه – بمادة أو علم الكيمياء الذي يتناوله. وانطلاقاً من علمه بهذه الحالة من الجهل يتدخل عن طريق القيام بأنشطة مختلفة لنقل الخبرة التعليمية. ثم يستخدم طريقة ما لقياس النتائج (ويقصد بالنتائج تغير الحالة الأولية التي كان عليها الطلاب من الجهل إلى الاستيعاب والفهم نتيجة لتدخله). فإذا لم تتحقق النتائج يقوم المدرس بإعادة تدريس الخبرة التعليمية وإيجاد وسائل أخرى لعرض المعلومة.

وبالمثل، فبالرجوع إلى مشروع النهضة سنجد أن هناك مجالات كثيرة يتم التدخل فيها لمحاولة استنهاض الأمة واستثمار قدراتها وخيراتها في سبيل إيجاد مكان لها على الخريطة العالمية. وتلعب المعلومات دوراً كبيراً وحيوياً في محاولات الاستنهاض والاستثمار. فمما لا شك فيه أن الواقع الذي يعيشه العالم اليوم والمعلومات المتداولة في مختلف المجالات وعلى شتى الأصعدة هي معلومات مادية محددة يمكن قياسها؛ بمعنى آخر يمكن تكميم هذا الواقع وهذه المعلومات؛ أي معالجتها كمياً.

فحين يتحدث الإحصائيون مثلاً عن عدد المهتمين بالشأن الإسلامي على صفحات المجلات والجرائد أو في الفضائيات أو في غيرها من وسائل الإعلام فهذا واقع أو معلومة يمكن تكميمها وقياسها – معالجتها ومعاملتها كمياً - ويستطيع المهتمون بهذا الواقع أو هذه المعلومة أن يحددوا

تراجع أو تقدم هذه الظاهرة في أي مرحلة من المراحل لعمل التدخلات اللازمة أو لإيجاد البدائل المناسبة.

مستلزمات عملية التغيير

تحديد الحالة الأولية

قياس النتائج

تحديد الحالة المطلوبة

مسلمة هامة: الواقع متغير

الواقع متغير.. فالمعلومة التي نحصل عليها اليوم ونعتبرها كنزاُ دفيناً ستكون في الغد بلا ثمن أو فائدة

ولكن ينبغي على طلاب النهضة عند التعامل مع الواقع أن يعلموا أنهم يتعاملون مع واقع متغير. فالمعلومة التي نحصل عليها اليوم ونعتبرها كنزاً دفيناً ستكون في الغد بلا ثمن أو فائدة. فلا يمكن أن تكون هي نفسها وفي ذاتها المعلومة الموجودة في الغد، فالواقع متغير ولابد من متابعته.

إذاً هذا الحراك النهضوي الضخم الذي تقوم به دول وشعوب ومؤسسات وأفراد وأحزاب وتجمعات وجماعات يتعرض للخطر إذا لم يحدد ويقاس ويتابع. لذا فلابد من تحديد هذا الحراك بشكل يمكن قياسه، ولابد من متابعته لمعرفة ما يطرأ عليه.

لماذا رفع الواقع؟

إن هدفنا الأساسي من الإشارة إلى رفع الواقع هو أن تتقدم الحالة الإسلامية من الحالة البسيطة التي يعمل فيها العاملون دون أن يدركوا نتائج أعمالهم وهل آتت أُكُلَها أم لا، وهل تَدَخُلهم يُحدِث فارقاً في حركة الأمة ونهضتها أم لا، إلى الحالة المتقدمة الواعية التي يدرك فيها كل عامل طبيعة مشاركته في مشروع النهضة، ونتيجة عمله وتدخله وأثرهما على المشروع

لابد من الثقافة الإحصائية لننتقل من الحالة الإسلامية البسيطة إلى الحالة المتقدمة

الإسلامي سواء بالسلب أو بالإيجاب.

وحتى تتحقق هذه النقلة الكبيرة، وهذا التطور المرجو في المشروع الإسلامي فلابد من تحقيق الآتي:

أولاً: لابد من تحليل الواقع إلى ملفات كبيرة. ثم ترتيب القضايا والملفات الفرعية داخل كل ملف منها.

ثانياً: لابد من وجود نظام يضمن المتابعة. فتوافر المعلومات وانتظام عملية المتابعة يؤدي إلى معرفة الموقف القائم، بل وإحداث التدخل الضروري في التوقيت والظرف المناسب.

ثالثاً: لابد من معرفة نتائج التدخل، ثم إعادة الكرة مرة ثانية بعملية تدخل أخرى لإحداث نقلة أخرى، وهكذا.

مطالب تطوير الحالة الإسلامية

تحليل الواقع

إلى ملفات كبيرة

معرفة نتائج التدخل وتكرار عملية التدخل

انتظام عملية المتابعة

وتوافر المعلومات

تكمن التحديات أمام تطوير الحالة الإسلامية في مراكز البحث والدراسات وفي عقلية كثير من المسلمين

التحديات الكبرى أمام تطوير الحالة الإسلامية

ومما لا شك فيه أن هناك الكثير من الصعوبات التي تقف حائلاً بين العاملين وبين تنفيذ مثل هذا المشروع. بعض هذه الصعوبات متعلق بالموارد، وبعضها متعلق بالمكان، والبعض الآخر متعلق بالزمان، ولا تقف الصعوبات عند هذا الحد؛ بل تتعداها إلى الكثير من مراكز البحث التي قد لا تتميز بالكفاءة المطلوبة، وربما تفتقد إلى الرؤية الواضحة لما يجب أن يكون عليه حال الأمة، بل وربما لا تستخدم مؤشرات القياس الحساسة التي تحتاجها حركة النهضة. وليت الصعوبات تتوقف عند هذا الحد، ولكن الأخطر من ذلك هو عدم وصول المعلومات – حتى ولو كانت غير دقيقة -

ينبغي التركيز على تدريب كوادر تيار النهضة على قراءة المعلومات واستيعابها والعمل من خلالها

ليست الثقافة الإحصائية دخيلة على الإسلام.. بل كان أول من طبقها في الساحة الإسلامية هو رسول الله r

للعاملين في حقل التغيير. فالمراكز والبحوث تعمل في جانب، والقادة والعاملون يجتهدون في جانب آخر. ويفتقد كلاهما إلى التواصل والتآزر والتعاون.

ومن الأسباب - التي أدت إلى هذه الفجوة بين مراكز البحث وبين القادة والعاملين – ما هو متعلق بهذه المراكز من حيث تجويد منتجاتها وتمويلها عن طريق ضخ الأموال فيها وإيجاد المتخصصين والكوادر المناسبة لها، وذلك أمر ميسور لو تم توعية المستثمرين وقادة الدول بأهمية هذه المراكز البحثية ودورها الفعَّال في مشروع الأمة. ولكن وصول هذه المعلومات إلى المستفيدين الحقيقيين - وهم النشطاء من العاملين في ساحة التغيير - أمر آخر تكتنفه صعوبات متعلقة بعقلية كثير من العاملين في الساحة النهضوية، إذ أن كثيراً منهم لا تزيد ثقافتهم عن الثقافة الخطابية المعهودة، أو الثقافة الصحفية البسيطة، كما أن معرفتهم بالمؤشرات الحساسة وطريقة قراءتها واستخدامها لتغيير الواقع معرفة محدودة. ولذلك ينبغي أن يتم التركيز على تدريب هذه الكوادر على قراءة المعلومات واستيعابها والعمل من خلالها؛ بل وتدريبهم على إقامة المراكز الصغيرة التي تعنى بأنشطة معينة وظواهر محددة في بيئات معينة. عندها فقط يمكن أن تصبح حركة الصحوة في العالم الإسلامي حركة علمية قائمة على المعرفة الحقيقية.

الإسلام ورفع الواقع

ويعتقد كثير من الناس أن هذا أمر جديد ودخيل على الإسلام، ولكنه في الحقيقة أمر أصيل في ديننا. فالمصطفى e طلب من المسلمين - لدى دخوله المدينة - أن يحصوا له من بها من المسلمين. وهو ما يمثل تعداداً رقمياً مبكراً للمسلمين، ثم طلب منهم بعد ذلك أن يحصوا له من يستطيع القراءة والكتابة، وبعد أن اكتملت واتضحت الرؤية لرسول الله e وحدد الحالة الأولية - بعد اطلاعه على الأرقام المطلوبة والتي كان مجملها أن كم

استخدم رسول الله r طريقتي الإحصاء الكمي والاستقراء الإحصائي في صدر الإسلام

ليس من ثقافة بيئتنا استخدام المعلومات.. لذا فإن التحول إلى المعلوماتية أمر في غاية الأهمية للانتقال من حالة الصحوة إلى حالة اليقظة

المسلمين الذين يحسنون القراءة والكتابة في قاعدة الإسلام الأولى وهي المدينة عدد غير كافٍ - كان تدخله e لتغيير هذا الواقع عقب أول غزوة من غزواته عندما جعل من شروط إطلاق أسرى بدر أن يعلم كل أسير عشرة أفراد من مسلمي المدينة القراءة والكتابة.

فنحن أمام عملية إحصاء كمي أعقبها عملية تدخل لمحاولة إيجاد حل للواقع الذي رأى الرسول e أنه لابد من تغييره. فكانت نتيجة هذا التدخل هي إيجاد قاعدة معرفية – تقرأ وتكتب - داخل المجتمع الإسلامي.

ولم يستخدم الرسول e طريقة الإحصاء الكمي فقط؛ بل إنه استخدم أيضاً ما يطلق عليه في العلوم الحديثة الاستقراء الإحصائي. وقد كان ذلك في بدايات غزوة بدر، عندما سأل رسول الله e أحد الأسرى من المشركين عن عدد جيش قريش، ولما كان الأسير لا يعرف يقيناً عدد الجيش سأله رسول الله e عن عدد الإبل التي ينحرونها كل يوم وعندما علم عدد الإبل استطاع أن يحدد – على وجه التقريب – عدد الجيش المهاجم. وبذلك يكون الرسول e قد استخدم المعلومة المتوسطة – وهي عدد الإبل - لاستشراف معلومة غائبة – وهي عدد المهاجمين.

وهكذا نرى أن الاستقراء الإحصائي موجود في التراث الإسلامي منذ البدايات المبكرة للرسالة الإسلامية. فما بالنا اليوم ونحن في عصر الثورة المعلوماتية نفتقد أبسط المعلومات عن أهم القضايا التي تواجهها أمتنا؛ بل نفتقد ثقافة المعلومات. إذ ليس من ثقافة بيئتنا استخدام المعلومات. وبذلك يكون التحول إلى المعلوماتية أمر في غاية الأهمية للانتقال من حالة الصحوة إلى حالة اليقظة.

نحن إذاً أمام قضيتين أو معضلتين كبيرتين: أولهما معضلة متعلقة بمراكز البحوث وآلية توصيل المعلومات للمستفيدين، والمعضلة الثانية تتمثل في عقلية المستفيدين التي قد تجد المعلومة ولا تستفيد منها، كما أنها ليست مدربة على اتخاذ القرار بناء على المعلومات المتوفرة.

التحديات الكبرى أمام التطوير

مراكز البحوث وآلية توصيل المعلومات للمستفيدين

عقلية المستفيدين ونصيبهم من التدريب والإعداد

فلتكن البداية من مشروع قائد أو منطقة مهمة.. تشحذ الطاقات.. وتدرب الكوادر.. وتوفر المعلومات والإحصائيات.. لتستخدم بعد ذلك في المشاريع الثانية

المشروع القائد

ويعتقد كثير من الناس أن التخطيط في حالة غياب معلومات شاملة هو عملية مستحيلة، ونرجع في ذلك إلى كتاب عبد العزيز العجمي والآخرين سنة 1983 في مقدمة التنمية والتخطيط حيث يقول: ".. أن كثيراً من الدول تعمل على إيجاد مشروع قائد، مشروع يطلق بقية الطاقات، ويوفر الإحصائيات عن منطقة مهمة من مناطق العمل، وبعد ذلك يخلق هذا المشروع المشاريع الثانية من الاعتماد على النمطية والإحصائية.. ". وكذلك يمكن اعتماد مثل ذلك في المشروع الإسلامي النهضوي الضخم. فتكون البداية من مشروع قائد أو منطقة مهمة، تشحذ الطاقات، وتدرب الكوادر، وتوفر المعلومات والإحصائيات التي تستخدم بعد ذلك في المشاريع الثانية.

الملفات الكبرى في المشروع الإسلامي

يشمل الملف السياسي قضيتين أساسيتين هما: الاستعمار بكل تجلياته والفرقة والحزبية والتشتت

هناك فرق واضح بين الأحزاب كجزء من التعددية السياسية وبين الحزبية الممقوتة القائمة على التعصب

ويحتاج قادة وطلاب النهضة المعاصرون أن ينظموا في عقولهم الخارطة الكبيرة للملفات الأساسية ابتداءً من غير تفصيلات، ثم يُدخِلوا بعد ذلك تفصيلات وعناوين بسيطة يرون أن هذه الملفات تحتوي عليها. ومن كبرى هذه الملفات في عالمنا الإسلامي:

أولاً: الملف السياسي:

يشمل الملف السياسي في مجتمعاتنا اليوم قضيتين أساسيتين، القضية الأولى هي قضية الاستعمار أو الهيمنة بكل تجلياتها السياسية والاقتصادية والعسكرية والثقافية والاجتماعية. والقضية الثانية هي حالة التشتت وعدم الرغبة في التعاون والحزبية والفرقة، فالحكومات في جانب والأحزاب في جانب والمنظمات في جانب والتجمعات في جانب والمستقلين في جانب. ولابد من إيجاد قاسم مشترك بين المخلصين في كل هذه المناحي لإيجاد قاعدة من التعاون العام لاستنهاض هذه المجتمعات.

وهناك فرق واضح بين الأحزاب كجزء من التعددية السياسية التي تتيح للجميع أن يصلوا لأهدافهم من أجل خدمة أمتهم بالطريقة التي يؤمنون بها، وتُمَكِّن شرائح المجتمع من التعبير عن رغباتها ومعتقداتها بطريقة منظمة وفعالة، وبين الحزبية التي يتعصب فيها كل فرد لحزبه بينما ينظر بتعالٍ للآخرين.

وإذا كانت الحرية والمساواة والعمل بروح الفريق الواحد في خدمة المجتمع محمودة – وهي ما عليه الأحزاب – فإن الحزبية مذمومة تشيع الأحقاد والبغضاء بين الناس.

أما الأيديولوجيات على اختلافها وتنوعها فإسقاطها بالكامل على أرض الواقع أمر مستحيل وغير ممكن عملياً؛ بل ويؤدي إلى الاضطراب والاقتتال بين معتنقيها. ولكن تبقى الكلمة السواء التي يمكن أن يلتف ويتكاتف حولها الجميع، لتشكل قاسماً إنسانياً مشتركاً لكل الموجودين في ساحة الفعل في المجتمعات الإسلامية بشكل عام، وتبقى الأيديولوجيات

أساس المجتمعات هي عملية التعايش والتراضي

لمعتنقيها يبشرون بها ويدعون إليها. فإذا ما اختارت الجماهير أحد الأيديولوجيات وصوتت لها أمكن لمعتنقيها أن يطبقوا شيئاً من أفكارها برضا الناس وبقدر ما تسمح به المجتمعات. لتبقى عملية التراضي والتعايش هي الأساس في هذه المجتمعات.

خلاصة القول أن الملف السياسي عندنا يحتوي على قضيتين كبيرتين هما الاستعمار وتجلياته الأخرى والحزبية وما يتفرع عنها من شقاق وصراع.

الملف السياسي

الاستعمار وتجلياته

الحزبية وآثارها

يشمل الملف الاقتصادي قضيتين هما: الربا وسيطرة الشركات الأجنبية

ثانياً: الملف الاقتصادي:

يشمل الملف الاقتصادي قضيتين كبيرتين هما:ظاهرة الربا، وسيطرة الشركات الأجنبية على الاقتصاديات الوطنية.

و قضايا كثيرة أخرى متفرعة يشملها الملف الاقتصادي كالفقر والبطالة . ولكننا نكتفي بوضع العناوين الأساسية الكبرى التي تمس العالم الإسلامي كله. أما الملفات الأخرى الخاصة ببعض المناطق دون غيرها فلا نخصها بالذكر. إذ أن الملف الاقتصادي ملف ضخم ويشمل الكثير من الملفات الثانوية والخاصة بمناطق معينة.

الملف الاقتصادي

ظاهرة الربا

سيطرة الشركات الأجنبية على الاقتصاد

يشهد الملف الفكري فوضى في عالم الأفكار وعقليات مسلمة غير مرتبة ولا منظمة

ثالثاً: الملف الفكري:

الملف الفكري هو ملف شائك. يشبه حقول الألغام. فما تكاد تخطو خطوة حتى تفاجأ بانفجار هنا ودمار هناك. فعالم الأفكار في العالم الإسلامي يعاني من فوضى رهيبة ومنتشرة في كافة المستويات، والعقلية المسلمة غير منظمة ولا مرتبة. مما يؤدي إلى بروز مجموعات تعتقد باستمرار أنها الفرقة الناجية وأن أجندتها (الدينية والزمنية) يجب أن تكون هي الأجندة المرجعية للجميع، وأن استنتاجاتها هي حقائق غير قابلة للجدل، وأن ما عند الآخرين هو خطأ مطلق وما عندها هو صواب مطلق، وبالتالي هي ليست مستعدة للحديث مع الآخرين أو للتفاهم معهم حول القواسم المشتركة؛ بل هي مستنفرة للاعتراض، فخطابها ناقد معترض باستمرار. أولوياتها في فوضى، تستوي عندها القضايا العقدية كالجنة والنار بالقضايا الملحة التي يعاني منها المجتمع. هذا الاختلاط والفوضى في الأفكار السلبية والاصطراع الذي تولده على أرض الواقع أمر خطير لابد من تنظيمه. فلابد أن تنظم العلاقة بين عالم الاعتقاد وعالم الأيديولوجيا من جهة وبين عالم الواقع وعالم التعايش وعالم الرحمة وعالم البناء وعالم التنمية - الذي يجب أن يوجد على أرض الواقع ولا يمكن أن يوجد إلا في وجود صيغ للتعايش توقف:

1. حالة الاستعلاء للبعض على الآخرين باحتكار الصواب.

2. وحالة الاستعداء وهو خطاب السباب والانتقاص من المخالف. لأن فشل مشروع التسوية الداخلية يؤدي إلى مشكلة ثالثة حتمية وهي:

3. حالة الاستدعاء: وهي طلب الأجنبي كحكم وأداة ضبط.

الملف الفكري

فوضى في الأفكار وتدفقها

عقلية غير منظمة لفرز الأفكار والاستفادة من الصالح منها

أكثر ما يهدد العالم الإسلامي في الملف الاجتماعي الإباحية والتقليد

رابعاً: الملف الاجتماعي:

أكثر ما يهدد العالم الإسلامي الآن في الملف الاجتماعي الإباحية والتقليد. فالعالم يهوي بسرعة فائقة وجنونية نحو هاوية الإباحية، والتي تبدأ من انفصال العلاقات الزوجية وتحولها إلى علاقات خارج الزوجية مروراً بالمظاهر الخارجية كالعُريْ لتنتهي بالزواج المثلي والعلاقات المثلية بين الرجال والرجال، وبين النساء والنساء، بل قد تمتد بعلاقات بين الأطفال أو بعلاقات بالحيوانات في المستقبل تحت اسم الحرية.

إذاً هناك عالم متوحش من الإباحية يمد أطرافه في المجتمعات الحضارية أو المدنية – التي تدعي الحضارة والمدنية - وهو يغزو المجتمعات الإسلامية بشكل من الأشكال. وكرد فعل لهذه الأفكار الغازية نشأت الأفكار النقيضة بدعوى سد الذرائع، فنشأ عالم التجمد وحُرِم الإنسان من كل الحريات وأُغلِقَت الأبواب أمام كل أنواع الحقوق التي وفرها الدين والإسلام لكل إنسان بحجة عدم الوصول إلى الإباحية. وكلا الطرفين ذميم.

أما التقليد فيقصد به اعتبار الآخر في مركز الأستاذية. ومركز الأستاذية هذا يقتضي أن يقلد التلميذ أستاذه في كل شيء. وصدق رسول الله e في قوله: "لتتبعن سنن من كان قبلكم شبراً شبراً وذراعاً بذراع حتى لو دخلوا جحر ضب تبعتموهم قلنا يا رسول الله اليهود والنصارى قال فمن"96.

الملف الاجتماعي

الإباحية

التقليد

يعاني الملف التعليمي من فوضى شديدة وخلطاً بين التجديد والانفلات من الدين

يشمل الملف المعنوي ظاهرة اليأس والاستسلام والإحساس بعدم جدوى كل محاولات التغيير والنهضة

خامساً: الملف القانوني:

يشهد الملف القانوني صراعاً شديداً حول قضايا المرأة وحقوق الأقليات وغيرها من القضايا الكثير والكثير.

إلا أننا يجب أن نكون حذرين ونحن نتعامل مع الملف القانوني لأن بعض القضايا يجب ألا نتوقف أمامها وبعضها جائر وينتهك أبجديات الأمة ودينها وإسلامها. لذا يجب أن نكون منتبهين لجملة العوامل التي تتحرك أمامنا في الملف القانوني.

سادساً: الملف التعليمي:

أما الملف التعليمي فهو يشهد فوضى واضطراباً كبيرين. فهناك محاولات للتجديد ولكن الكثير من هذه المحاولات يريد الانفلات من الإسلام تحت دعوى التجديد والمعاصرة. وهذا أدى إلى تراجع اللغة العربية بسرعة، ما يبشر بأنها ستكون في المستقبل لغة ثانية في مجتمعاتنا، وسيكون الطفل العربي أقدر على قراءة وفهم كتاب باللغة الإنجليزية من أن يقرأ كتاباً باللغة العربية.

إن حجم الاستثمارات التي يجب أن توضع في تطوير اللغة العربية، وفي عملية الترجمة للكتب الأجنبية بحيث تصل للقارئ العربي في وقتها يجب أن يتضاعف مرات ومرات. ويجب أن لا نستكثر ذلك على اللغة العربية إذا كنا نريد مشروعاً حضارياً واستنهاض أمة واستبقاء هويتها. كما يجب تطوير كل البنية التعليمية من الفلسفة والأهداف إلى قضايا التنفيذ والإدارة. وهو مطلب مُلِح إذا أردنا دخول السباق الحضاري.

سابعاً: الملف المعنوي:

وهو يشمل ظاهرة اليأس والاستسلام والإحساس بعدم جدوى كل محاولات التغيير والنهضة. ويتولى كِبر محاولة التيئيس هذه تيار كبير وإعلام ضخم. ولابد لتيار النهضة أن يتصدى لتيار التيئيس. وأن يعيَ أن هذا الطريق - وإن كان صعباً أو مليئاً بالعقبات، وإن كان فيه تقدم وتأخر -

لابد أن يبلغ مداه، وليبلغن هذا الدين ما بلغ الليل والنهار، وليظهرن على الدين كله ولو كره المشركون كما بشرنا بذلك ربنا عز وجل ونبينا e.

الملفات الكبرى

السياسي

الاقتصادي

الاجتماعي

الفكري

القانوني

التعليمي

المعنوي

إن الجهد المنوط بقادة النهضة من أجل إعداد وتدريب الكوادر على ثقافة المعلومات والإحصاء جهد شاق.. إذا قاموا به تصبح الأرقام لها معنى وتصبح لنا حياة جديدة معتمدة على المعلوماتية

وهكذا فإنه عندما يتم تحديد الملفات الكبرى ثم تحديد القضايا الفرعية في كل ملف، يمكن تكميم الظاهرة، ثم اختيار أهم المؤثرات التي يمكن أن نتابع بها عملية التقدم في هذه الملفات. ثم يجب ألا يتوقف البحث عند هذه النقطة؛ بل يجب أن تنشر هذه المعلومات في كتاب ربع سنوي أو سنوي أو كل سنتين.

ولكن ماذا تعني هذه الأبحاث للعامل في مركز من المراكز الحضارية، أو في مسجد من المساجد؟ ماذا تعني لتلميذ المدرسة وللمدرس؟ ماذا تعني لكل نقاط الفعل في المجتمعات الإسلامية إذا لم توجد عقلية تستطيع أن تستفيد من هذه المادة وتستطيع أن تطور آليات عمل متعلقة بهذه الأرقام؟

إن الجهد المنوط بقادة النهضة من أجل إعداد وتدريب الكوادر على ثقافة المعلومات والإحصاء جهد شاق ومضنٍ. وإذا لم يقوموا به يصبح عندنا المزيد من الأوراق التي تنشر ولا تجد المستقبلين ولا المستفيدين، لأن الفعل لا ينتهي إلى حلقاتها المطلوبة من جمع المادة إلى تنظيمها، إلى ترتيبها إلى وحدات، إلى توصيلها إلى المستفيدين، إلى تعامل المستفيدين معها، إلى تحولها إلى مشاريع في التخطيط، إلى متابعتها بحيث تكتمل دورة التخطيط كاملة وتصبح الأرقام لها معنى وتصبح لنا حياة جديدة معتمدة على المعلوماتية.

جمع المادة

ترتيبها إلى وحدات

توصيلها إلى المستفيدين

تعامل المستفيدين معها

تحويلها إلى مشاريع

التخطيط للمشاريع

البدء في الفعل

المتابعة

تنظيمها

دورة حياة الفعل

المشهد المستقبلي

إنه مشهد ترى فيه الجموع الغفيرة من المخلصين والعاملين لنهضة هذه الأمة وقد فطنت لأهمية الثقافة الإحصائية والمعلوماتية. فغدوا قادرين على رفع الواقع، وتحديد القضايا أو الملفات الكبرى التي يجب عليهم التعامل معها.

نحو التنفيذ

من أهم خطواتنا نحو النهضة توجيه الاستثمارات نحو البحث وتدريب طلاب النهضة واستيعاب خارطة الملفات الكبرى

ليتحقق هذا المشهد الرائع فلابد من تنفيذ الأمور التالية:

* لابد أن يعمل المفكرون والمصلحون على توعية المستثمرين وقادة الأمة بأهمية المراكز البحثية، وتوجيه الأموال والطاقات لها.

* لابد أن يوجه المفكرون والمصلحون والمربون طاقاتهم نحو ترتيب وتنظيم عقلية طلاب النهضة، والارتفاع بثقافتهم من الثقافة الخطابية المعهودة والثقافة الصحفية البسيطة إلى الثقافة المعلوماتية.

* لابد من تدريب طلاب النهضة على الحس الخبري وكيفية الحصول على المعلومة وتوثيقها.

* لابد من تدريب طلاب النهضة على قراءة المعلومات واستيعابها والعمل من خلالها.

* لابد من تدريب طلاب النهضة على إقامة المراكز البحثية الصغيرة التي تعنى بأنشطة معينة وظواهر محددة في بيئات معينة.

* لابد أن يحرص طلاب النهضة على استيعاب وحفظ خارطة الملفات الكبرى في مشروعهم النهضوي الجامع.

تذكر أن

* عملية التغيير تُعرَّفُ بأنها انتقال وضع ما من حال إلى حال آخر.

* التغيير يستلزم ثلاثة أمور: تحديد الحالة الأولية التي ننطلق منها ثم تحديد الحالة المطلوبة ثم قياس نتائج تدخلاتنا لتغييرها.

* مشروع النهضة يتعامل مع واقع متغير، فلابد من تحديده وقياسه ثم متابعته.

* رفع الواقع ينقل تيار النهضة من طور الصحوة إلى طور اليقظة.

* الانتقال لمرحلة اليقظة يتطلب تحليل الواقع إلى ملفات كبيرة، مع انتظام المتابعة وتوافر المعلومات، ثم معرفة نتائج التدخل وتكرار عملية التدخل عدة مرات.

* التحديان الكبيران أمام عملية تطوير الحالة الإسلامية هما: مراكز البحث وآلية توصيل المعلومات للمستفيدين، وعقلية المستفيدين أنفسهم وضعف تدريبهم.

* الملفات الكبرى في المشروع الإسلامي هي: الملف السياسي والاقتصادي والفكري والاجتماعي والقانوني والتعليمي والمعنوي.

* كل ملف من هذه الملفات الكبرى يحتوي على عدة ملفات فرعية لابد من التعامل معها.

* عملية رفع الواقع هي عملية لها جذورها القوية في التراث الإسلامي، وليست أمراً دخيلاً علينا.

المشهد السادس

دلائل النهضة الأربعة

المشهد الراهن

إنه مشهد يصور حالتيْ اليأس والخمول اللتيْن تسودان المجتمعات الإسلامية

سنلاحظ في هذا المشهد الجديد انتشار ظاهرة أخرى بين جماهير الأمة؛ بل حتى بين أجيال الصحوة الإسلامية وبين العاملين في مشروع النهضة الإسلامية. هذه الظاهرة هي ظاهرة اليأس والإحساس بعدم إمكانية الفعل أو النهوض بالأمة واسترجاع مكانتها الحضارية.

وسنسمع الكثير من العبارات والمقولات التي تشير إلى هذا اليأس القاتل الذي يسود قطاعات كبيرة من الناس والعاملين مثل: "لا فائدة! ما الذي يمكن عمله؟! لقد سبقنا الآخرون بمراحل كبيرة! العالم يتقدم ونحن نتأخر! انظر إلى أوضاعنا وأحوالنا؟!!" وتستطيع أن تلمح في ثنايا هذه العبارات وفي صوت قائلها صوت اليأس.

وستجد الكثيرين من أبناء الأمة ينسحبون من ساحة الفعل الإسلامي ويبحثون عن الخلاص الفردي، والتي تبدو مظاهره واضحة وجلية، كمظاهر العمرة والحج المتكرريْن، ومظاهر حلق العلم الصغيرة وغيرها. وهذا الانسحاب أدى إلى هذا الخمول المميت الذي يسود ساحة الفعل الإسلامي.

رفع الواقع

تعرف على نفسك وعلى من حولك من خلال هذه الأسئلة

استعرض هذه الأسئلة. ثم اعرضها على من تعرف من العاملين والمؤمنين والمتحمسين في المشروع الإسلامي واستعرض إجاباتهم.

1. هل تعتقد حقاً في إمكانية نهوض الأمة من كبوتها وخروجها من هذا الواقع الأليم الذي تعيشه؟

2. ما هي دلالات هذه الإمكانية؟

3. ما هي مظاهر اليأس في مجتمعاتنا الإسلامية؟

4. كيف يمكن التغلب على ظاهرة اليأس الجاثم على صدور المجتمعات الإسلامية؟

نقطة البدء

نتيجة لثقل الملفات التي تواجهها أمتنا انتشرت ظاهرة اليأس والإحساس بعدم إمكانية الفعل أو النهوض بالأمة واسترجاع مكانتها الحضارية

أشرنا في المشهد السابق إلى الملفات الكبرى التي تواجه أمتنا. ولمسنا ثقل هذه الملفات وضخامتها وتعقيداتها المركبة.هذا الإحساس بثقل التركة أو التبعة التي ورثناها عن آبائنا وأجدادنا أدى إلى انتشار ظاهرة أخرى بين جماهير الأمة؛ بل حتى بين أجيال الصحوة الإسلامية وبين العاملين في مشروع النهضة الإسلامية. هذه الظاهرة هي ظاهرة اليأس والإحساس بعدم إمكانية الفعل أو النهوض بالأمة واسترجاع مكانتها الحضارية.

وسنحاول في هذا المشهد الرد على التساؤلات المثارة حول إمكانية الخروج من هذا الواقع الصعب الجاثم فوق صدر الأمة، وهل هذا النفق المظلم يمكن الخروج منه؟ وهل هذا الواقع الصعب يمكن أن يزول ليله؟ وهل هذا اليأس القاتل الذي يسود قطاعات كبيرة من الناس والعاملين – والذي أدى إلى هذا الخمول المميت - هل يمكن إخراج الناس من غياهبه؟

ثم سنستعرض بعض الأدوية الناجعة لعلاج هذه الظاهرة القاتلة لحركات النهضة والتنمية في المجتمعات.

ظاهرة اليأس وطرق التعبير عنها

من أبرز مظاهر اليأس الانسحاب من ساحة الفعل الإسلامي والبحث عن الخلاص الفردي

إن ظاهرة اليأس هي ظاهرة شائعة. وطرق التعبير عنها متفاوتة. فقد يُعبَرُ عنها بالتعبير المباشر مثل: "لا فائدة! ما الذي يمكن عمله؟! لقد سبقنا الآخرون بمراحل كبيرة! العالم يتقدم ونحن نتأخر! انظر إلى أوضاعنا وأحوالنا!!"

كل هذه العبارات المباشرة والمعبرة عن اليأس تقابلها - عند جموع العاملين في الحقل الإسلامي - عبارات لا تقل عنها في مستوى اليأس، ولكنهم – أي العاملين - يستخدمون طرق التعبير غير المباشرة مثل قولهم: "سننتصر إن شاء الله عز وجل، والإسلام قادم!!"، إلا أنك تلمح في ثنايا هذا الصوت صوت يائس. فقولهم "إن شاء الله" هنا هي على التعليق لا على التحقيق97. فلقد كان شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله يحث الجند على الجهاد ويقول لهم: سننتصر على التتار. فانبرى له بعض من حوله وقالوا له: قل إن شاء الله. فقال: أقول إن شاء الله على التحقيق لا على التعليق. فمثل هذه العبارات والآيات والأحاديث التي تتحدث عن الأمل، وطريقة عرضها، وما يتبعها من سكون وبطالة تكون دلالة يأس لا دلالة أمل. فعندما نلحظ جموع المسلمين يستشهدون بقول الله عز وجل "إنه لا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون"98 على الأمل الراسخ في قلوبهم، ثم تجدهم عقب انتهائهم من ذكر الآية ينسحبون من ساحة الفعل الإسلامي ويبحثون عن الخلاص الفردي، والذي تبدو مظاهره واضحة وجلية، كمظاهر العمرة والحج المتكرريْن، ومظاهر حلق العلم الصغيرة على ما في كل هذه السلوكيات من الخير. هذا الاستشهاد بالآية الكريمة الذي لا يجاريه عمل في الواقع أو مشاريع محمولة على أكتاف هؤلاء الرجال - تدل على هذه الحرقة وعلى

إنه شكل جديد من التصوف. سنيٌ في مظهره ولا يتحرك خارج الإطار المشروع. ولكنه يهرب من المعركة الحقيقية

هذا الشعور بالأمل في انتصار الأمة وتحركها – وإنما يجاريه سعى للخلاص الفردي هو حديث باطنه وجوهره يأس، وظاهره أمل.

إنه شكل جديد من التصوف. سنيٌ في مظهره ولا يتحرك خارج الإطار المشروع. ولكنه عندما يكتفي بهذه المساحة الضئيلة من الفعل فإنه بذلك يخرج؛ بل ويهرب من المعركة الحقيقية. معركة أن يحمل جزءاً من الهم الإسلامي صَغُرَ أو كَبُرْ، إما ليقوم به مباشرة أو ليعين غيره على القيام به. وعندئذٍ تكون حلق العلم وحلق التربية الروحية هي الزاد المعين على ممارسة الفعل الحقيقي، ولا تكون ساحة للهروب من المعركة الحقيقية والفعل الجاد اللازم لانتشال الأمة الإسلامية من رقدتها وسباتها.

وفي مثل هذه اللحظات الصعبة من تاريخ أي أمة والتي يجسدها القرآن بقول الله عز وجل: "حتى إذا استيأس الرسل وظنوا أنهم قد كذبوا"99، "وبلغت القلوب الحناجر وتظنون بالله الظنونا"100 يأتي في مثل هذه اللحظة فعل قادة النهضة وخطابهم الذي يفعل فعل السحر في قلوب الناس فينتشلهم من مثل هذه الوهدات.

طرق التعبير عن اليأس

التعبير غير المباشر

التعبير المباشر

أربعة مداخل للتعامل مع اليأس

حقائق اليوم هي أحلام الأمس، وأحلام اليوم حقائق الغد

ويمثل اليأس سجناً معنوياً وعقلياً كبيراً للشعوب والمجتمعات. وحتى نتمكن من تحرير عقول وقلوب مجتمعاتنا من هذا السجن الكبير فلابد من هدم جدرانه الأربعة التي تطبق علينا. وسنستخدم لذلك أربعة معاول:

المعول الأول: هو علم الاجتماع. ويوضح لنا هذا العلم قضية هامة. مفادها أن حقائق اليوم هي أحلام الأمس، وأحلام اليوم حقائق الغد. هكذا يخبرنا علماء الاجتماع.

ويُعرف العلماء علم الاجتماع بأنه علم دراسة الظواهر الاجتماعية التي تنشأ عن وجود الإنسان في المجتمع1. فنتيجة لوجود الإنسان داخل هذا الإطار الاجتماعي يتقولب ذهنه وتتشكل مقولاته. فهو لا يفكر مسبقاً في أن يتصرف بشكل اجتماعي، إنما يتم ذلك تلقائياً. فهو يردد ما يقال، ويشترك فيما يحدث، ويتفاعل بما يدور حوله. فعندما ينشأ القالب الفكري اليائس بتأثير هذا الضغط الاجتماعي وتكرار المقولات والسلوكيات اليائسة، ينشأ عندنا نوع جديد من التفكير الجمعي اليائس. وهنا يأتي دور قادة النهضة، ألا وهو كسر هذا القالب الفكري اليائس2.

ومدخل علم الاجتماع يعين قادة النهضة على تفكيك وهدم الجدار الأول - من الجدران الأربعة الكبيرة التي تحيط باليائسين - المتمثل في القوالب الفكرية اليائسة.

إن كثيراً مما كان يعتقد الناس أنه غير ممكن في فترة تاريخية محددة وغير قابل للتحقيق، أصبح في فترة لاحقة ممكناً ومنطقياً

إن كثيراً مما كان يعتقد الناس - في فكرهم الجمعي - أنه غير ممكن في فترة تاريخية محددة وغير قابل للتحقيق، أصبح في فترة لاحقة ممكناً ومنطقياً، وغيره يعدو جنوناً ورجعية وتخلفاً.

فلو حاولت أن تتخيل مشهداً مسرحياً يجسد مجموعة من الناس وهي تنظر إلى عباس بن فرناس - وهو يكتب كتاباته وأفكاره حول عملية طيران الإنسان – نظرات استنكار ودهشة وإشفاق عليه مما أصاب عقله، ثم طويت عدداً من القرون لتنتقل بسرعة إلى أوروبا في مشهد آخر يجسد الفرمان الذي أصدرته الكنيسة والقائل بأن الله قد خلق الزعانف للأسماك كي تسبح في البحر، وخلق الأجنحة للطيور كي تطير في الهواء، وخلق للإنسان قدمين كي يسير على الأرض. ولو شاء له أن يطير لخلق له جناحين، وعلى ذلك فكل من يقول بإمكانية الطيران أو يفكر في ذلك فهو مخالف للكتاب المقدس ولمشيئة الرب. وهو داخل في دائرة الكفر والهرطقة.

لو انتقلت بهذين المشهدين إلى عالمنا المعاصر ووقتنا الراهن. وناديت بمثل هذا الفكر الذي ساد في لحظة تاريخية معينة، فكيف سيتقبل أبناء هذا العصر هذه الأفكار؟؟!! لا شك أنهم لن يحملوا هذه الدعوة محمل الجد، ولن يعيروها اهتمامهم، لأنهم يرونها خارج نطاق العقل والمنطق. وتلك حقيقة لا تحتاج إلى التدليل أو البرهان. وإن شئت فلتراجع تاريخ الشعوب والأمم في لحظة تاريخية معينة، لترى كيف اعتقد الناس في تلك اللحظة التاريخية أن هذه الأمة لا يمكن أن تحقق آمالها، وفي لحظة أخرى نرى هذه الأمة قد بلغت شأناً عجيباً، ما يجعل الناس يعتقدون أنها لم تكن في حالة ضعف في يوم من الأيام1.

إن الحديث عن المعطيات التي أُتيحت لرواد النهضة، والحالة المعنوية العامة والسائدة في المجتمع والتي ورثوها تعطي مؤشراً حقيقياً لكل الرواد بأن كل النهضات إنما انطلقت من حالة تخلف ومعطيات لا نقول صعبة؛ بل صفرية

إن علم الاجتماع يدلنا على ظاهرة اجتماعية متكررة. ففي لحظة معينة وتحت ضغط واقع ما، يعتقد الناس في عدم إمكانية الفعل، وفي لحظة تاريخية أخرى يصبح عكس هذا التفكير جنوناً.

فكيف يهدم علم الاجتماع جدار اليأس؟

نقول أنه تحت ضغط واقع اليأس اليوم في مجتمعاتنا، يعتقد الكثيرون أن انتقالنا إلى حالة اجتماعية أخرى وإلى مفاهيم فكرية أخرى أمر محال، ولكن علم الاجتماع يخبرنا بعكس ذلك، فأحلامنا في النهضة والتقدم والتحول والتغير ستكون حقيقة بإذن الله تعالى، على سبيل التحقيق لا على سبيل التعليق. فإن أحلام الأمس هي حقائق اليوم، وأحلام اليوم هي حقائق الغد.

المعول الثاني: هو علم التاريخ. وهو العلم المنوط به هدم الجدار الثاني المحيط بفكرة اليائسين. ولا نحتاج لهدم هذا الجدار أن ندرس التاريخ كله، ولكن يكفينا منه ظاهرة واحدة كفيلة بتحطيم ونسف هذا الجدار، وهي الظاهرة التي أطلقنا عليها اسم "قانون المعطيات الصفرية".

وحتى نفهم هذا القانون أو هذه الظاهرة علينا استعراض الأسئلة التالي:

* ما هي أوضاع الجزيرة العربية يوم أن نزل الوحي والتي انطلقت منها الدعوة الإسلامية؟

* ما هي أوضاع فرنسا قبل الثورة والتي انطلقت منها نحو ثورتها ثم نحو فرنسا المعاصرة؟

* ما هي أوضاع اليابان التي انطلقت منها لنهضتها المعاصرة؟

* ما هي أوضاع الصين التي انطلقت منها الثورة الماوية؟

إن الحديث عن المعطيات التي أُتيحت لرواد النهضة، والحالة المعنوية العامة السائدة في المجتمع والتي ورثوها تعطي مؤشراً حقيقياً لكل

إذا قارنت بين المعطيات المتوفرة للمصطفى e وبين طبيعة المهمة المكلف بها، ستجد أن إمكانية تنفيذ هذه المهمة هو من باب المستحيل

الرواد بأن كل النهضات إنما انطلقت من حالة تخلف ومعطيات لا نقول صعبة؛ بل صفرية.

التجربة النبوية والمعطيات الصفرية

ولنضرب مثالاً بالجزيرة العربية. فعندما نزل الوحي بالقرآن الكريم على رجل لا يملك سوى قليل من التمر وشيء من الماء، في مكانٍ موحشٍ هو ذلك الغار النائي في قمة الجبل، نزل هذا الوحي بتكليف هائل وشاق. فما هو هذا التكليف؟ ومن هو المكلف؟ وبم كُلِف؟

تمثل هذا التكليف وهذه المهمة الشاقة في قوله تعالى: "وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين"1. أما المكلف فهو رجل في عقده الرابع، ولك أن تتأمل واقع البيئة التي كان يعيش فيها، وواقع القوم الذين كان يحيى بين أظهرهم. أما طبيعة التكليف فهو تبليغ دعوة الإسلام إلى العالمين – كل العالمين – إنساً كانوا أو جناً، أينما كانوا، في شرق الأرض وغربها وشمالها وجنوبها.

فإذا قارنت بين المعطيات المتوفرة للمصطفى e وبين طبيعة المهمة المكلف بها، ستجد أن إمكانية تنفيذ هذه المهمة هو من باب المستحيل. فلو تأملنا واقع البيئة الوحشية التي كان يعيش فيها الرسول e، ولو قدرنا ما يحتاجه e لتنفيذ هذه المهمة من كثافة بشرية كمية، وكثافة بشرية نوعية، ثم لو فكرنا في الكثافة الكمية التي يحتاجها لاختراق بلاد مثل الصين، والكثافة الكمية التي يحتاجها لاختراق بلاد فارس أو مملكة الروم، سنجد أن الأمر لا يعدو كونه حلماً غير قابل للتنفيذ. وحتى لو توافرت الكثافة الكمية المناسبة فهل يمتلك القيادة النوعية المعدة والجاهزة والقادرة والمهيأة للقيام بهذا الدور الكبير؟! وحتى لو افترضنا توفر هذين العنصرين في مكة في تلك اللحظة – وهو ما لم يحدث – فكيف استقبل أهل مكة؛ بل أقرب الأقربين إلى رسول الله e هذه الفكرة؟؟ وكم كانت درجة مقاومة المحيط

لقد كانت المعطيات المتاحة للمصطفى e في هذه اللحظة التاريخية معطيات صفرية. ولم تكن مبشرة بتلك النتائج التي تحققت بعد أربعين سنة من الفعل الحضاري للمسلمين

الحيوي لرسول الله e لهذه الفكرة؟؟ لو تتبعنا سيرة النبي e سنجد أنه بعد ثلاثة عشرة سنة من العمل الجاد في مكة لم تنجح الفكرة في استقطاب سوى ثمانين أو بضعاً وثمانين شخصاً في مكة، بينهم النساء والرجال والشيوخ والأطفال والعبيد والأحرار.هذا الخليط من البشر الذي لا يزيد عن بضع وثمانين نفراً، هل يمكن أن يتحمل مهمةً بهذه الضخامة؟؟!

ثم إذا افترضنا أن هذه المنطقة من العالم – التي تتألف من قبائل

بدوية رعوية، تنتقل من مكان إلى آخر، لا يسلم فيها بيت من حالة ثأر، تقتتل لعشرات السنين حول ناقة أو سباق خيل، يقوم اقتصادها على السلب والنهب والغارات والغزو، غير مدربة على العمل المنظم الكبير – إذا افترضنا أنه قد تم استيعابها داخل المشروع النهضوي الإسلامي فما هي قدرتها على مواجهة الإمبراطوريتين العظيمتين الروم والفرس.

ثم هذه المنطقة التي تم استيعابها ما هي قدراتها العلمية والمعرفية التي تؤهلها لإدارة عملية الإحياء الحضاري للمجتمعات التي سيقومون بغزوها؟؟ فمن السهل أن تغزو أمة وأن تنتصر عليها عسكرياً، أما أن تنتصر عليها حضارياً فهذا شأن آخر. وإليك نموذج التتار المنتصرين، ما الذي خلفوه وراءهم؟؟!!

إن مشروعاً مثل مشروع المصطفى e، لم يكن مشروع غزو للنهب والسلب؛ بل لقد كان مشروع توسع حضاري، كي تستقر اللغة ويستقر الدين في هذه المجتمعات. فما هي إمكانية هؤلاء العرب الذين لم يكونوا يعرفون القراءة الكتابة وليس لهم سابق معرفة بالأداء الحضاري كي يتغلبوا على فلسفات وثقافات واتجاهات منتشرة في هذه المجتمعات الجديدة؟؟!!

لقد كانت المعطيات المتاحة للمصطفى e في هذه اللحظة التاريخية معطيات صفرية. ولم تكن مبشرة بتلك النتائج التي تحققت بعد أربعين سنة من الفعل الحضاري للمسلمين.

المعطيات الصفرية كانت هي بداية أي أمة أرادت النهوض مسلمة كانت أو كافرة

فإذا كانت تجربة الرسول e مؤيدة بالوحي من السماء فلننظر في غيرها من التجارب التاريخية لغير المسلمين. والذين قاموا من أجل إصلاح مجتمعاتهم، ولم يكن لعامل الدين أي دور في تحركاتهم.

التجربة الصينية والمعطيات الصفرية

إذا استعرضنا أوضاع الصين في أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين، سنجد أمامنا دولة شاسعة مترامية الأطراف. تعاني من الكثافة السكانية الهائلة، حيث بلغ عدد سكانها تسعمائة مليون نسمة في ذلك الوقت، معظمهم من الفلاحين. تعاني على المستوى الصحي من المجاعات والأمراض المتوطنة كمرض الرمد الحبيبي، وترتفع بين سكانها نسبة العمى ارتفاعاً مخيفاً. هذا بالإضافة إلى مائة مليون مدمن. أما على المستوى الثقافي فقد كانت تعاني من الجهل والتخلف التكنولوجي وانبهار الطبقة المثقفة بالغرب وثقافته. وعلى المستوى الاقتصادي عانت الصين من القيود الاقتصادية الشديدة الوطأة الناتجة عن المعاهدات غير المتكافئة مع الغرب، بالإضافة إلى تخريب اليابان للاقتصاد الصيني. أما على المستوى الاجتماعي فقد كان نسيجها الاجتماعي مهترئاً ومهدداً بالتفكك. والصراع في داخلها على أشده نتيجة تعدد العرقيات. أما على المستوى السياسي، فعلى الصعيد الداخلي كانت تعاني من الصراع الداخلي بين العرقيات المتنازعة التي تريد الاستقلال وترفض التوحد وتعادي الدولة المركزية. بينما على الصعيد الخارجي احتلت بريطانيا أجزاءً من الصين لتصبح مستعمرات بريطانية – كمستعمرة هونج كونج – ثم يشن الغرب عليها حرب الأفيون في عام 1840م لينتج عنها مائة مليون مدمن. وفي عام 1860م يحرق الإنجليز والفرنسيون قصر الصيف. ثم تحتل اليابان الصين عام 1895م، وبعدها تغزو منشوريا.

ثم ينبري شاب يُدعى ماوتسي تونج - وهو من الطبقة المتوسطة، فلم يكن سليل أسرة حاكمة، أو في قمة الهرم السياسي أو هرم القوة، بل

إذا نظرت إلى المعطيات الصفرية الأولى في الحالة الصينية، ثم قارنت النتائج بها، ستجد هذه الحقيقة البارزة، وستجد هذا التاريخ شاهد على إمكانية الفعل التاريخي

كان طالباً في كلية الفلسفة في السنة الثانية – ويعزم على إعادة تنظيم الشعب الصيني وتعليمه من جديد؛ بل والوصول به إلى قمة التعلم. ويعزم على الانتصار على قوى التفكك والتحلل في مجتمعه، ومواجهة الحكومة المركزية، والقضاء عليها، واستعادة ممتلكات بلاده، وتحريرها من الاستعمارين البريطاني والياباني، والحصول على أنواع التكنولوجيا النووية وأنواع القوة التي تحتاجها الصين للحماية من الغزو الخارجي. كما يقرر أن يزيل المرض من الصين، وأن يقضي على مشكلة الأفيون!!! لقد قرر بناء صين موحدة وقوية ومتقدمة!!!

إذا كان هذا هو الأمل والحلم الكبير، وكان هذا الشاب الصيني البسيط هو صاحب هذا الحلم وهذا الأمل، وكانت تلك هي الأوضاع والمعطيات التي يمكن أن يتحرك من خلالها. فما هي إمكانية النجاح؟؟!!

لقد تحرك ماوتسي تونج، وتحركت معه هذه الفئة من الناس، ومروا بآلام المخاوف كلها: تجارب فاشلة؛ مآسي عظيمة عانى منها الشعب الصيني؛ خسائر عظيمة؛ ولكن انطلق مشروع كبير في الصين، واستمر هذا المشروع يزحف يوماً بعد يوم. فهل تحقق الحلم؟ وإلى أين وصلت الصين اليوم؟ وما هو موقعها الدولي؟ وكم يبلغ ميزانها التجاري في التعامل مع الأمم المتحدة؟ وإلى من يميل؟ وكم نسبة النمو في الصين الآن؟ وما هو موقف هونج كونج و تايون منها؟ وكيف ينظر العالم اليوم لمستقبل الصين؟

إذا نظرت إلى المعطيات الصفرية الأولى، ثم قارنت النتائج بها، ستجد هذه الحقيقة البارزة، وستجد هذا التاريخ شاهد على إمكانية الفعل التاريخي.

شواهد تاريخية أخرى

والأمثلة والشواهد التاريخية على صدق هذه الظاهرة وصحة هذا القانون كثيرة وبينة. فدولة مثل اليابان كيف كانت أوضاعها عقب الحرب العالمية الثانية، والتي انتهت باستسلامها وإذلالها؟ كيف كانت أحوالها بعد

إن قانون المعطيات الصفرية هو مدخل كبير للتبشير بالأمل ونشر ثقافة "إمكانية الفعل" في المجتمعات الإسلامية، في هذه المرحلة التاريخية الهامة

أن أُمطرت بقنبلتين نوويتين قتلت وجرحت وشوهت وشردت وهجرت الملايين؟ ثم أين هي اليابان الآن؟

وأين كانت ألمانيا التي كانت مكونة من ثلاث مائة دويلة وحدها بسمارك ثم انهزمت في الحرب العالمية الأولى؟ وكيف أعادت بناء نفسها بعد أن فُتت وهُدمت واقتُطعت أجزاء من أراضيها وانهارت معنويات جماهيرها بعد تلك الهزيمة؟ وكيف اعتلت قمة العالم لتواجه دوله الكبرى في

حرب ضروس؟ ثم كيف كانت أحوالها عندما فُتت وقُسمت وأذلها الحلفاء المنتصرون؟ لقد دُمرت ألمانيا بالكامل في أعقاب الحرب العالمية الثانية حتى قَل رجالها الذين هم قوام نهضتها، وانتشر الدمار والخراب في أرجائها، وفُرِضَت عليها شروط قاسية. أين وصلت ألمانيا الآن؟

وأين كانت الهند؟ تلك الأمة الكبيرة، المتعددة الأديان والأعراق واللغات، وكيف كان نسيجها الاجتماعي؟ وكيف واجهت تلك الأوضاع والمعطيات المتمثلة في الاستعمار والجهل والفقر وتفسخ النسيج الاجتماعي؟ وكيف أصبحت اليوم قوة نووية تكنولوجية عالمية؟

إن هذه الظاهرة أو هذا القانون التاريخي هو قادر على هدم الجدار الثاني من جدران اليأس؛ بل وهو مدخل كبير للتبشير بالأمل ونشر ثقافة "إمكانية الفعل" في المجتمعات الإسلامية، في هذه المرحلة التاريخية الهامة من تاريخ هذه المجتمعات.

المعول الثالث: وهو المنطق1. وهو الأداة التي يتم بها هدم الجدار الثالث من جدران اليأس.فالمنطق يخبرنا بأن من استعد للعمل والبذل ونشط فيهما، وأخلص نيته لله عز وجل - استجابةً لأمره تبارك وتعالى: "وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون"2 – فهو فائز، فلو انقضت حياته قبل

من معاول هدم اليأس ما بشرنا به ربنا تبارك وتعالى ونينا e من مبشرات بنصرة دينه وأوليائه

أن تحين فرصة تحقيق الآمال؛ فلا شك أنه سيكون من الفائزين برضوان الله في الآخرة، ثم إنه قد استمتع بحياته لأنه عاش لقضية ما وجاهد في سبيلها. أما إذا حانت الفرصة وتحققت الآمال، فقد فاز بالفرحتين: فرحة النصر والتمكين في الدنيا "ويومئذ يفرح المؤمنون بنصر الله"1، وفرحة الفوز برضوان الله في الآخرة لبذله وإخلاصه.

أما مصير من لم يستعد فهو الحسرة والندامة في الدنيا والآخرة. حسرة على ضياع الفرصة التي جاءته إلا أنه لم يقم بعمل مكافئ لها ولم يستعد لاقتناصها، وأما إذا لم تحن الفرصة ولقي الله ربه من غير عمل ومن غير استجابة لأمره عز وجل، فهو في حسرة من سخط ربه عليه.

فالمنطق يقول إن العمل في كل الأحوال هو سفينة الخلاص. وهو سفينة نوح. سفينة النجاة .

المعول الرابع: وهو المبشرات. ونقصد بها ما بشرنا به ربنا جل في علاه، ونبينا e من آيات وأحاديث تبشر هذه الأمة بالغلبة والنصر والتمكين.

فعندما ترزأ الأمة دهراً من الزمان وتئن تحت وطأة هذا الواقع الثقيل الأليم، تلهج الألسنة وترتفع الأصوات متسائلة (هل من مخرج؟؟). وهذا ما حدث مع خباب بن الأرت عندما ذهب إلى الرسول e وقد أعجزته الحيلة أمام سطوة وقوة أهل مكة، فما كان منه إلا أن قال لقائده e: "ألا تدعو لنا؟ ألا تستنصر لنا؟". فعندما تزداد وطأة الواقع وضغطه يبدأ الناس في السؤال عن المخرج. وهنا تأتي المبشرات لتهدم جدار اليأس الأخير.

فمن هذه المبشرات الحوار الذي يستعرضه القرآن الكريم بين فرعون وملئه وموسى ومن معه، يقول تعالى:

باستخدام هذه المعاول الأربعة – الاجتماع والتاريخ

والمنطق والمبشرات - تنطلق النفس البشرية من إسارها، وتحطم أغلالها وقيودها، فتهب للعمل، مستعينة بالمشيئة على التحقيق لا على التعليق

"وقال الملأ من قوم فرعون: أتذر موسى وقومه ليفسدوا في الأرض ويذرك وآلهتك؟!

قال: سنقتل أبناءهم ونستحيي نساءهم وإنا فوقهم قاهرون.

قال موسى لقومه: استعينوا بالله واصبروا، إن الأرض لله يورثها من يشاء من عباده والعاقبة للمتقين.

قالوا: أوذينا من قبل أن تأتينا ومن بعد ما جئتنا.

قال: عسى ربكم أن يهلك عدوكم ويستخلفكم في الأرض فينظر كيف تعملون"1.

ومن المبشرات قوله تعالى: "يريدون ليطفئوا نور الله بأفواههم والله متم نوره ولو كره الكافرون. هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون"2. وقوله: "ولقد سبقت كلمتنا لعبادنا المرسلين. إنهم لهم المنصورون. وإن جندنا لهم الغالبون"3. وكتاب الله مليء بمثل هذه المبشرات التي تبعث الأمل في النفوس.

ومن المبشرات في سنة رسول الله e قوله: "ليبلغن هذا الأمر ما بلغ الليل والنهار"4، وقوله: "إن الله زوى لي الأرض فرأيت مشارقها ومغاربها، وإن ملك أمتي سيبلغ ما زُوي لي منها"5، وغيرها كثير من الأحاديث التي تبشر الأمة بالنهضة والتقدم.

إذاً باستخدام هذه المعاول الأربعة – الاجتماع والتاريخ والمنطق والمبشرات - تنطلق النفس البشرية من إسارها، وتحطم أغلالها وقيودها،

الخروج من دائرة اليأس هي الخطوة الأولى نحو الخروج من الواقع

وتهدم سجنها الذي حبست فيه حيناً من الدهر. فتنطلق للعمل، مستعينة بالمشيئة على التحقيق لا على التعليق.

فامتلاك قادة وطلاب النهضة لهذه الأدوات الأربع يمكنهم من هدم جدران اليأس المحيطة بالفرد المسلم اليوم. والخروج من دائرة اليأس هي الخطوة الأولى نحو الخروج من هذا الواقع.

التاريخ

الاجتماع

المنطق

المبشراتسجن اليأس

المشهد المستقبلي

إنه مشهد ترى فيه ظاهرة اليأس وقد اختفت من مجتمعاتنا أو كادت. وترى جموع العاملين وقد فطنت إلى معاول وأدوات هدم اليأس. فانطلقت بين جماهير الأمة تزرع في قلوبها الأمل وتنتزع اليأس انتزاعاً من صدور طالما أثخنها اليأس بالجراح.

نحو التنفيذ

لابد من إعادة عرض تجارب الأمم والمخترعين وتجديد الإيمان بموعود الله بالنصر والتمكين

ليتحقق هذا المشهد الرائع فلابد من تنفيذ الأمور التالية:

* لابد أن يعمل المفكرون والمصلحون على نشر ثقافة الأمل بين جماهير الأمة من خلال الإسهاب في الكتابة عن دلالات النهضة الأربع وشرحها.

* لابد من إعادة عرض التجربة النبوية والتركيز على إمكانية الفعل رغم المعطيات الصفرية.

* لابد من الاهتمام بعرض تجارب الأمم التي نهضت والتركيز على إمكانية الفعل رغم المعطيات الصفرية.

* لابد من الاهتمام بعرض تجارب المخترعين وكيف استطاعوا أن يصلوا إلى ما كان يظنه الناس جنوناً.

* لابد من تعزيز الجانب الروحي وتجديد الإيمان بموعود الله ونبيه e للأمة بالنصر والغلبة والتمكين.

تذكر أن

* من مظاهر اليأس البحث عن الخلاص الفردي والانسحاب من ساحة الفعل الإسلامي أو ما يطلق عليه التصوف السلبي على أساس أن التصوف السني الصحيح كان قمة في العمل والعطاء.

* للتعبير عن اليأس طريقان: طريق التعبير المباشر وغير المباشر.

* يمثل اليأس سجناً معنوياً وعقلياً كبيراً للشعوب والمجتمعات.

* يتطلب هدم اليأس أربعة معاول: الاجتماع والتاريخ والمنطق والمبشرات ثم تراكم الإنجازات الملموسة..

* يمثل قانون المعطيات الصفرية أداة رئيسة لهدم اليأس.

* التجربة النبوية والصينية واليابانية والألمانية كلها شاهدة على صحة ظاهرة المعطيات الصفرية.

الخاتمة

وفي نهاية هذه الدراسة نحب أن نؤكد على أن بوادر الانتقال من طور الصحوة إلى طور اليقظة باتت تلوح في الأفق. وأن تيار الصحوة في عمومه في حاجة إلى من يمد يده ليقطف ثمار هذه المرحلة وينطلق بها إلى المرحلة التالية (مرحلة اليقظة).

وكما أشرنا من قبل فإن مرحلة الصحوة هي التي أيقظت القلوب وهيجت العواطف والحماسة، وبذرت بذور الإسلام في نفوس جماهير الأمة. وقد آن الأوان لننتقل من طور الخطاب العاطفي الحماسي إلى طور الخطاب العقلي الدقيق، المبني على أدق قواعد البحث العلمي.

وحتى ننتقل إلى طور اليقظة، ونحقق النهضة المنشودة لهذه الأمة فإننا بحاجة إلى التعرف على القوانين والسنن الحاكمة لنهضات الأمم. وهو ما سنتناوله في كتاب منفصل بإذن الله تعالى، حيث سنتناول قوانين النهضة وطرق التعامل معها واستخدامها بالشرح والتحليل.

ونحب أن نوجه الشكر والتحية لكل من ساهم بجهده أو وقته أو ماله أو نفسه في مرحلة ما قبل الصحوة من المفكرين والعلماء ثم في طور الصحوة المباركة والتي امتدت طيلة القرن المنصرم وإلى اليوم، منذ أن أشعل فتيلها الرجال المخلصون في الأمة وحتى تفرعها وتشكلها في شكل تيارات وجماعات ومؤسسات مباركة، أثرت اجتهاداتها وجهودها المرحلة، والتقت رغباتها على إكمال مسيرة الصحوة. والسير بها إلى نهايتها.

وأخيراً نسأل الله تبارك وتعالى أن يتقبل منا هذا العمل البسيط، وأن يجعله في ميزان حسناتنا. وأن ينفع به كاتبه وقارئه. كما نسأل الله أن يكون هذا الكتاب خطوة حقيقية نحو تطوير الفعل النهضوي على الساحة الإسلامية، وأن يكون منطلقاً للجموع التي تبحث عن ساحة حقيقية للفعل والتقدم والنهضة.

ملحق النماذج

أطوار حركة النهضة

صحوة

يقظة

نهضة

حضارة

حماس

رشد

حماس

رشد

المحطات الكبرى في التاريخ الإسلامي

1097م

1924م

انطلاق المشروع الإسلامي

وقيام الدولة

الحملات الصليبية

إسقاط الخلافة

622م

المحطات الهامة في التاريخ

المحطة ... السمات ... النتائج

سنة 622م

انطلاقة المشروع الإسلامي

...

* تحول المشروع إلى نظام الدولة.

* تكون مجتمع

* قيادة

* دستور

* جهاز شورى

* جهاز دفاعي

... دولة حديثة

مفاهيم جديدة عن:

* الإنسانية

* الحرب والسلم

* العدالة

* تعايش الأديان

* الدستور......

سنة 1097 م

القرن الحادي عشر بداية الهجوم الأوروبي على العالم الإسلامي في الحملات الصليبية.

...

* استهداف القلب

* ثم هجوم عل الأطراف

... استنزاف موارد العالم الإسلامي

لثلاثة قرون.

سنة 1924م

إنجاز المشروع بإسقاط الخلافة الإسلامية.

...

* انكشاف حالة التخلف

* الاستعمار والاحتلال.

* التمزق

... هزة كبيرة للعالم الإسلامي.

ترتيب المفاهيم الأربعة:

الخطة التنفيذية

ما وراء الأيديولوجيا

الأيديولوجيا

البارادايم

الاستراتيجية

رؤية

التزام

مهارات

مواصفات القائد

عاملان لتحقيق النهضة

عاملا تحقيق النهضة

بناء كتلة حرجة

كمية وكيفية

رفع القيود المعيقة لعملية التحول والوصول لتلك الكتلة

دورة حياة اتخاذ القرارات

1) النصوص المرجعية والتراث الثقافي

2) علوم العصر وقناعاته

3) أعمال مفكري العصر

4) تصور الحل وبداية التخطيط البعيد المدى

(التخطيط الاستراتيجي)

5) خطط قصيرة المدى

6) خبرات من الاحتكاك تدعو للمراجعة

دورة حياة اتخاذ وتشكل القرارات المتعلقة بالحراك النهضوي

احتياجات قادة المشروع الإسلامي:

الخبرات العملية

تصور للواقع وقضاياه وإجابات الأسئلة

تصور واضح للوسائل

تصور واضح للمراحل (ومعرفة غطاء المرحلة)

تصور على مستوى الفلسفة والبواعث (الإسلام الشامل)

تصور واضح على مستوى الأهداف

احتياجات قادة النهضة

نموذج الإسلام

شريعة

عقيدة

العقيدة

العبادة

السلوك

الإعلامي

التعليمي

السياسي

الاقتصادي

الاجتماعي

الحسبة: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر

ديوان المظالم: المحكمة الدستورية العليا

الجهاد: ذروة سنام الإسلام

نظم ومعاملات

أخلاق

التحديات الكبرى

أمراض الأمة

و قضاياها الكبرى

التخلف

الاستعمار

التفتيت

النهضة

التحرير

الوحدة

نموذج العلمانية

روح الفردية

الإلحاد

الربا

الإباحية

الحكم

المدرسة

المحكمة

الحكم

المدرسة

المحكمة

العلمانية

العلمانية

العلمانية

العلمانية

العلمانية

العلمانية

العلمانية

العلمانية

نظرية الاستعمار

الانتشار والانتقال إلى دول أخرى

النهضة الأوروبية

العلمانية

أيديولوجيا تسعى للهيمنة

إنشاء الدول الرديفة

بواعث النهضة

من بواعث النهضة

مبدأ شمول الإسلام

التحديات الكبرى

التخلف

التفتت

الاستعمار

المعايير المعاصرة لقياس التخلف

معايير قياس المجتمعات المعاصرة

سياسي

اقتصادي

اجتماعي

صناعي

الديمقراطية

حقوق الإنسان

الناتج القومي

استغلال الموارد

دخل الفرد

التجانس

درجة التراضي

البحث

التصنيع

الاستخدام

عوامل التحلل في كيان الدولة الإسلامية

عوامل التحلل في الكيان الإسلامي

المعضلة الجغرافية

المعضلة الإثنية

المعضلة السياسية

معضلة التعصب

المعضلة الاقتصادية

إهمال العلوم التطبيقية

ضعف الدافع العقدي

عدم متابعة تطور الأمم الأخرى

تكوين النخب حول السلطان

أزمة المدينة العربية

حكم من لا يعرف الإسلام

حول الخلافة

في الفقه

في العقائد

العوالم الثلاثة

العوالم الثلاثة

عالم الأفكار

عالم الأشياء

عالم الأشخاص

عالم أفكار الجاهلية

مشاكل عالم أفكار الجاهلية

اختلال قيمي ومفاهيمي

الاعتماد على الظن

إعراض عن العلم والتعلم

عالم أفكارنا المعاصر

التفكير النمطي

الميل للمجاراة

نقل العادة

مقاومة التغير

عدم التوازن بين التنافس والتعاون

الانسياق التام دون التثبت بدليل أو برهان

الأفكار غير طموحة ولا تناسب الهمم العالية

عدم التركيز على القول بل على القائل

التحفز للرد على الفكرة وعدم الاستعداد للإنصات الجاد لها وتقييمها

الاعتقاد بمعرفة القادة لكل شيء والمبالغة في تقدير قدراتهم

عدم الاستعداد لنقد الذات ومراجعة المسار وتدراك الأخطاء

تسطيح الأمور أو المبالغة والتهويل فيها

المنظومة الفكرية التي نحتاج إلى تغييرها تغييراً شاملاً

الخلط بين المبدأ والمنهج

حتمية استكمال التربية

مفتاح واحد لكل الأبواب

طريقة تفكير القائد

طرق تفكير القادة

طريقة المُنظِّرْ

طريقة الطبيب

طريقة رجل الأعمال

أهمية دراسة النماذج التاريخية

عقل القائد

وقدراته

التجارب التاريخية

عقل راجح

تصورات وإجابات

حوادث متفرقة

سياسية

اقتصادية

اجتماعية

فكرية

روحية

علمية

أخلاقية

مدخلات

مخرجات

البحث والنظر

دور القائد

دور القادة

مقارنة الوقائع وربط الجزئيات بالكليات

الاطلاع على حقول واسعة من المعرفة والتجربة

تشكيل المعلومات في نسق واستخلاص النتائج

استخدام أداة التاريخ

استخدام التاريخ كأداة

لاستخراج النماذج والمقاربات

للإقناع

لرفع الروح المعنوية

التاريخ الكبير

التاريخ الصغير

لرفع الروح المعنوية

لخفض الروح المعنوية

أنواع التاريخ

مستلزمات عملية التغيير

مستلزمات عملية التغيير

تحديد الحالة الأولية

قياس النتائج

تحديد الحالة المطلوبة

مطالب تطوير الحالة الإسلامية

مطالب تطوير الحالة الإسلامية

تحليل الواقع

إلى ملفات كبيرة

معرفة نتائج التدخل وتكرار عملية التدخل

انتظام عملية المتابعة

وتوافر المعلومات

التحديات الكبرى أمام التطوير

التحديات الكبرى أمام التطوير

مراكز البحوث وآلية توصيل المعلومات للمستفيدين

عقلية المستفيدين ونصيبهم من التدريب والإعداد

ملفات الواقع الكبرى

الملفات الكبرى

السياسي

الاقتصادي

الاجتماعي

الفكري

القانوني

التعليمي

المعنوي

الملف السياسي

الاستعمار وتجلياته

الحزبية وآثارها

الملف الفكري

فوضى في الأفكار

عقلية غير منظمة

الملف الاقتصادي

ظاهرة الربا

سيطرة الشركات الأجنبية على الاقتصاد

الملف الاجتماعي

الإباحية

التقليد

دورة حياة الفعل

جمع المادة

ترتيبها إلى وحدات

توصيلها إلى المستفيدين

تعامل المستفيدين معها

تحويلها إلى مشاريع

التخطيط للمشاريع

البدء في الفعل

المتابعة

تنظيمها

دورة حياة الفعل

دلائل النهضة

التاريخ

الاجتماع

المنطق

المبشراتسجن اليأس

الفهرس

المقدمة ...................................................................................................................................... 1

تمهيد ......................................................................................................................................... 8

العلم قبل القول والعمل ....................................................................................................... 29

البواعث الكبرى للنهضة الإسلامية ...................................................................................... 52

قضية التخلف ......................................................................................................................... 72

أهمية دراسة التاريخ ................................................................................................................ 116

أهمية رفع الواقع ..................................................................................................................... 137

دلائل النهضة الأربعة .............................................................................................................. 156

الخاتمة ........................................................................................................................................ 175

ملحق النماذج .......................................................................................................................... 177

==============

#فلسطين ألم وأمل

الحمد لله وأشهد أن لاإله إلاالله وحده لاشريك له وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدا عبده ورسوله اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا وبعد:

إن السؤال الذي يتبادر إلى ذهن كل واحد من الغيورين على الأمة ومستقبلها اليوم هو فلسطين إلى متى؟ إلى متى هذه الجراح ؟ إلى متى هذه الأحزان ؟ إلى متى هذا الهوان ؟ وماذا علي أن أفعل ؟ وهنا بيت القصيد ماذا علي أن أفعل ؟ لاشك أن الحديث عن فلسطين حديث مكرّر .

واشعر عندما أتحدث عن فلسطين الحبيبة وأنا الذي أفردتها في ثلاث وعشرين خطبة أشعر كلما تحدثت عنها أنني أعزف لحنا جنائزيا سمعه الحاضرون أكثر من عشرة آلاف مرة ،سمعوه بآلات مختلفة وبطرق متعددة وفي أوقات ليست معينة ومع ذلك فالأمة في مكانها لاتتقدّم خطوة واحدة بل إنها تتراجع خطوات للخلف(على المستوى الرسمي طبعا أما على المستوى الشعبي فقد أحرزت الأمة خلال السنوات القليلة الماضية نصرا عجزت عنه الحكومات خمسين سنة)

صحيح أن قضيتنا ليس لها في التاريخ ولا في الفقه مثيل، ولقد حرص الفقه دائما في سمو لا يبارى على درء الحدود بالشبهات، على ألا يظلم بريئا ولو أفلت بسببه مائة فاجر. لكنه لم يتناول قضايا من تلك التي تواجهنا الآن.إنها الفتنة التي تموج كموج البحر كما قال سيدنا عمر رضى الله عنه وإنها الفتنة التي تدع الحليم حيران كما أخبر بذلك المصطفى صلى الله عليه وسلم ولكن مع ذلك فالطريق واضح لمن أراد السير (أدخلوا عليهم الباب فإذا دخلتموه فإنكم غالبون وعلى الله فتوكّلوا إن كنتم مؤمنين) هذا هو الطريق معبّد واضح

هذا الطريق و ما سواه وساوس *** ترضي الجبان وتصنع الاعذارا

عظمت عليهم في الجهاد مطالب *** فاسترخصوها خطبة وشعارا

وهناك نقاط لابد أن يزداد وعي الأمة بها

أولا: لابد من الجهاد في سبيل الله إنّ الله تعالى كتب الجهاد على هذه الأمّة، وجعله فريضةً ماضيةً إلى يوم القيامة لتكون كلمة الله هي العليا وكلمة الذين كفروا السفلى قال تعالى (وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين لله فإن انتهوا فلا عدوان إلا على الظالمين ) وقال تعالى (وما لكم لا تقاتلون في سبيل الله والمستضعفين من الرجال والنساء والولدان الذين يقولون ربنا أخرجنا من هذه القرية الظالم أهلها ) وقال عزوجل (أُذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا وإن الله على نصرهم لقدير *الذين أخرجوا من ديارهم بغير حق إلا أن يقولوا ربنا الله ) وقال جل من قائل (وأعدوا لهم ماستطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم ) وقال الله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا قاتلوا الذين يلونكم من الكفار وليجدوا فيكم غلظة واعلموا أن الله مع المتقين) وقال صلى الله عليه وسلم: ((إذا ضن الناس بالدينار والدرهم وتبايعوا بالعينة واتبعوا أذناب البقر وتركوا الجهاد في سبيل الله أنزل الله بهم بلاءً فلم يرفعه عنهم حتى يراجعوا دينهم)) رواه الإمام أحمد و قال صلى الله عليه وسلم: ((إن للشهيد عند ربه سبع خصال، أن يغفر له في أول دفعة في دمه، ويرى مقعده من الجنة، ويحلّى حلية الإيمان، ويجار من عذاب القبر، ويأمن الفزع الأكبر، ويوضع على رأسه تاج الوقار، الياقوتة منه خير من الدنيا وما فيها، ويزوج اثنتين وسبعين من الحور العين، ويشفّع في سبعين من أقاربه)).الترمذي وابوداود وابن ماجه وروى أحمد بإسناد صحيح عَنِ عبد الله ابْنِ عُمَرَ عَنِ النَّبِىِّ صلى الله عليه وسلم: ((جُعِلَ رِزْقِى تَحْتَ ظِلِّ رُمْحِى، وَجُعِلَ الذِّلَّةُ وَالصَّغَارُ عَلَى مَنْ خَالَفَ أَمْرِى)) ثبت في الصحيحين وسنن النسائي والترمذي ومسند الإمام أحمد أن يَزِيدَ بْنِ أَبِي عُبَيْدٍ سأل سَلَمَةَ بْنِ الأَكْوَعِ رضي الله عنه: عَلَى أَيِّ شَيءٍ بَايَعْتُمْ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَوْمَ الْحُدَيْبِيَةِ؟ قَالَ: عَلَى الْمَوْتِ.

إذن لابد من الجهاد في سبيل الله عزوجل كي تبقى هذه الأمة موجودة على مسرح الحياة, ومن أعظم ما ابتليت به الأمّة في عصرنا الحاضر، غياب فريضة الجهاد في سبيل الله تعالى لفتح البلاد وقلُوب العباد والإثخان في أهل الكفر والإلحاد والعناد.وهانحن نحصد النتائج اليوم إذلالا لايشبهه إذلال وإنّ جراحات المسلمين لا تزال نازفة في شرق العالم الإسلاميّ وغَربه، ولا يكاد يلتئم جُرحٌ حتى يُثلَم جرح آخر هنا أو هناك وهاهي الأمم قد تداعت علينا من كل حدب وصوب يريدون أن ينهشوا لحم هذه الأمة كالذئاب تجتمع على الفريسة فصدق فينا قول رسولنا صلى الله عليه وسلم(( يوشك أن تتداعى عليكم الأمم كما تتداعى الأكلة إلى قصعتها قالوا أمن قلة نحن يومئذ يارسول الله؟ قال لابل أنتم يومئذ كثير ولكنكم غثاء كغثاء السيل ولينزعن الله الرهبة منكم من صدور أعدائكم وليقذفن في قلوبكم الوهن قالوا وما الوهن يارسول الله ؟ قال حب الدنيا وكراهية الموت)) هذا هو السبب ،هذا هو المرض الذي نعاني منه وهو الذي أوصلنا إلى هذه الأعراض التي نعاني منها، تسلط الأعداء علينا ليس هو المرض إنما هو أعراض المرض أما المرض الحقيقي فهو الذي شخّصه لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله حب الدنيا وكراهية الموت وحتى نتخلص من هذا المرض ومن هذا الذل لابد لنا من العودة إلى كتاب ربنا وإلى سنة نبينا ولابد لنا من الإصلاح مابيننا وبين الله عزوجل، لابد لوشائج الألفة أن تعود مرة أخرى إلى حياتنا، لابد لنا من إيقاظ مشاعر الجهاد وحب الشهادة في نفوسنا لابد لنا من محاولة الجهاد في ميدان من الميادين المتاحة وماأكثرها فالجهاد يكون بالنفس ويكون بالمال ويكون بالكلمة ويكون بالمقاطعة ويكون بالدعاء ويكون بالإعداد المعنوي ليوم اللقاء وهاهم شباب الصحوة والجهاد يملؤون الميادين والثغور في فلسطين وأفغانستان وأندونيسيا والشيشان ترى الواحد منهم يمني نفسه ويؤمّل صاحبه في النصر والتمكين، ويشدّ على يديه مبايعاً على الصبر والثبات، فلا يهولهم جَلل المُصاب، ولا يسوؤهم الوصف بالعنف والإرهاب، ولا يزعزع عزائمهم سفك الدماء وتطاير الأشلاء، ما دام ذلك في سبيل الله، ابتغاءَ مَرضاته، ورَجاء جنته

ولستُ أُبالي حينَ أُقْتَل مُسلماً على أيّ جنبٍ كان في الله مَصرَعي

وذلك في ذات الإله وإن يشأ يبارك على أجزاء شِلوٍ مُمَزّعِ

وإذا كان الحقّ تعالى قد: (اشْتَرَى مِنْ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمْ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ ) فلا فرق عند من باع نفسه لربّه، بين رصاصة يستقبلها في صدرِه مقبلاٍ غير مدبر، أو حزام ينسف به الأعداء وإن قطع النياط ومزّق الأشلاء، ما دام طعم الشهادة واحداً .روى النسائي وابن ماجه وأحمد والدارمي والترمذي بإسنادٍ صحيح عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: ((مَا يَجِدُ الشَّهِيدُ مِنْ مَسِّ الْقَتْلِ إِلاَّ كَمَا يَجِدُ أَحَدُكُمْ مِنْ مَسِّ الْقَرْصَةِ)).

ثانيا: لابديل عن قتل اليهود ولو بعد ألف عام : اليهود هم القوم المغضوب عليهم الملعونون على لسان الرسل والأنبياء، قوم تفنن آباؤهم وأجدادهم في قتل الأنبياء والمرسلين وعرفوا على مر التاريخ بالإفساد والتخريب ونقض العهود، وصفهم ربهم تعالى وذكر بعض افتراءاتهم قائلاً في محكم كتابه: (وَقَالَتْ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْيَاناً وَكُفْراً وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمْ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ كُلَّمَا أَوْقَدُوا نَاراً لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَاداً وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ )واليهود وراء كل مصيبة في هذا العالم لقد تقاتل زعماء الشيوعية والنازية وغدر بعضهم ببعض وزجّوا بشعوبهم في حروب دموية كلفتهم ويلات لا تحصى، ثم اكتشفوا بعد فوات الأوان أنهم ليسوا سوى دمى تحركها وتسيطر عليها أصابع اليهود.واليهود هم الذين جرّوا الولايات المتحدة لحرب ألمانيا في عهد رئيسها ويلسون الذي وقع فريسة لأطماع المرابين اليهود. واليهود كانوا هم وراء الحرب العالمية الأولى والثانية قال هرتزل أبو الصهيونية: "نحن اليهود حينما نَغرق نتحول إلى عناصر ثورية مخرّبة، وحينما ننهض تنهض معنا قوتنا الرهيبة لجمع مال العالم في بنك اليهود". (قَدْ بَدَتْ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ) يبدؤون الحروب بالدعاية التي يوجهونها من بلد لآخر، وقبل الحرب يتاجرون بالسلاح والذخيرة ويثرون من وراء تلك التجارة، وأثناء الحرب نفسها يثرون من القروض التي يقدمونها للطرفين المتحاربين، وبعد الحرب يضعون أيديهم على جميع مصادر الثروة في البلاد". واليهود كانوا هم وراء الحروب الصليبية واليهود هم الذين أشعلوا الثورة الإنجليزية وهم الذين أشعلوا الثورة الفرنسية وذلك بعد أن قُدّمت دراسة يهودية عن الفوائد المادية الكثيرة التي حصلوا عليها نتيجة لإقامتهم الثورة الإنجليزية ومشت الثورة في الطريق المرسوم لها وتتابعت لصالح اليهودية العالمية وزُوِّرت الحقائق التاريخية، وسميت هذه الثورة اليهودية في حقيقتها بالثورة الفرنسية الكبرى. ووقعت فرنسا تحت تأثير اليهود بعد الثورة الفرنسية وصار اليهود يسيطرون على جوانب الحياة كلها في فرنسا ووصلوا إلى أعلى مراتب السلطة, هؤلاء هم اليهود داء مرير وشر مستطير لذلك نحن لايمكن أن نتصور أن يقوم بيننا وبينهم سلام أبدا ولايمكن أن تتهادن حضارتنا مع حضارتهم فحضارتنا ربانية إسلامية إيمانية نورانية وحضارتهم هي حضارة العجل والخنزير حضارة القتل والمسخ والتدمير ليس لهم عندنا أرض وليس لهم عندنا وطن وليس لهم عندناإلا السيف ومن قال إن اليهود أبناء عمومتنا ولن نتخلى عن السلام فنسأل الله عزوجل أن يحشره معهم .

ثالثا: النصر للإسلام والتمكين لهذا الدين: يجب أن يعلم المسلم أنه مهما ساء واقع الأمة وامتد كيد الأعداء فإن المستقبل لدين الله، والعزة لأوليائه، تشهد بذلك نصوص القرآن الكريم القطعية والأحاديث النبوية المتواترة، مما يبعث الأمل في نفس كل مسلم ويجعله واثقاً بوعد ربه مطمئناً بأنه على الحق مهما بلغت الأحوال والظروف قال تعالى( يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ * هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ ) وقال تعالى( وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ * إِنَّهُمْ لَهُمْ الْمَنصُورُونَ * وَإِنَّ جُندَنَا لَهُم الْغَالِبُونَ) وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ((ليبلغنَّ هذا الأمر ما بلغ الليل والنهار، ولا يترك الله بيت مدر ولا وبر إلا أدخله الله هذا الدين، بعز عزيز أو بذل ذليل، عزًّا يعز الله به الإسلام وذُلاً يذل الله به الكفر))، وأخبر صلى الله عليه وسلم قائلاً: ((لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحقّ، لا يضرّهم من خذلهم حتى يأتي أمر الله وهم كذلك)) أخرجه مسلم.

إن المسلم حين يطرق سمعه هذا الوصف ليتمنى من أعماق قلبه أن يكون من هذه الطائفة، وأن يضرب معها بسهم في نصرة دين الله وإعلاء كلمته، فتتحول هذه الأمنية وقوداً يشعل في نفسه الحماسة والسعي الدؤوب للدعوة لدين الله على منهج الطائفة الناجية أهل السنة والجماعة. ويقول صلى الله عليه وسلم: ((بشّر هذه الأمة بالسناء والنصر والتمكين)) أخرجه أحمد وابن حبان والحاكم وقال: صحيح الإسناد ووافقه الذهبي أما اليهود الأنذال، هؤلاء الذين أذاقوا المسلمين الأذى فإن لهم موعداً مع هذه الأمة المحمدية، يقول صلى الله عليه وسلم: ((لا تقوم الساعة حتى يُقاتل المسلمون اليهود، فيقتلهم المسلمون حتى يختبئ اليهودي من وراء الحجر والشجر فيقول الحجر أو الشجر: يا مسلم يا عبدالله هذا يهودي خلفي، فتعال فاقتله إلا الغرقد فإنه من شجر اليهود)) أخرجه البخاري ومسلم. وفي رواية أخرجها البزار في مسنده بإسناد حسن: ((أنتم شرقي النهر، وهم غربيه)) فكأن المصطفى عليه الصلاة والسلام حدد تماماً موضع المعركة ،وهذا من علامات نبوته عليه الصلاة والسلام أما من تخلى عن العمل معتمداً على هذا الوعد الكريم منتظراً انتصار الإسلام وعزة المسلمين دون أن يبذل ويشارك هو في السعي إلى نصرة الدين فقدأخطأوجانبه الصواب وإن وعيد الله تعالى قريب، استمعوا إلى هذه الآيات وتأملوا فيها(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (51) فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِم يَقُولُونَ نَخْشَى أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا عَلَى مَا أَسَرُّوا فِي أَنفُسِهِمْ نَادِمِينَ (52) وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا أَهَؤُلاءِ الَّذِينَ أَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَأَصْبَحُوا خَاسِرِينَ (53) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (54) إِنَّمَا وَلِيُّكُمْ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ (55) وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمْ الْغَالِبُونَ )

رابعا : ثلاث رسائل نوجهها لجهات مختلفة:

الرسالة الأولى للأمة : لماذا نطيل الكلام.. القضية واضحة (قاتلوا الذين كفروا كافة كما يقاتلونكم كافة).. انتهت القضية!!.قاومي ياأمة، ياأمة الصديق وخالد والقعقاع وصلاح الدين ياأمة الرشيد والمعتصم ونور الدين ياأمة الخنساء وأم نضال فرحات وآيات الأخرس ياأمة القسام وخطاب وباسييف ياخير أمة أخرجت للناس قاومي لاتستسلمي فالنصر للمؤمنين (ولاتهنوا ولاتحزنوا وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين)

الرسالة الثانية إلى كل من وسّدت إليهم أزمّة الأمور في هذه الأمة : يقول الله تعالى: (سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنْ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ ) وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ((أتيت بالبراق وهو دابة أبيض قال: فركبته حتى أتيت بيت المقدس، قال: فربطته بالحلقة التي تربط الأنبياء.ثم دخلت المسجد فصليت فيه ركعتين ثم خرجت)) رواه مسلم.وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ((لا تُشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: المسجد الحرام، ومسجدي هذا والمسجد الأقصى))إن حكام إسرائيل يقولون : إن كان من الجائز أن تتنازل إسرائيل عن تل أبيب فليس من الجائز أن تتنازل عن أورشليم القدس، ياهل ترىماذا أنتم قائلون؟ ونذكركم بقول رسول الله عليه الصلاة والسلام ((ما من امرئ يخذل مسلماً في موطن ينتقص من عرضه وينتهك فيه من حرمته إلا خذله الله في موطن يحب فيه نصرته)) ونقول لهم أيضا يقول عليه الصلاة والسلام ((المؤمن مرآة المؤمن، المؤمن أخو المؤمن يكف عنه ضيعته ويحوطه من ورائه)). ونقول لهم كونوا مع أمتكم في السرّ والعلن أو أو.... نرجوكم إرحلوا عنا!!!!!!!!!!!!!!!

الرسالة الثالثة إلى شهداء فلسطين: سامحونا نحن الذين سكتنا دهرا نحن الذين عبرنا الكلمات كلّها كي لا نقول شيئا .. كي لا نقف في الصفوف الأمامية خوفا من موتٍ يرافق خطانا .. سامحونا أيها الطالعون من الصمت .. الصارخون بالشهادة أيها الغاضبون / الثائرون / كيف استطعتم زلزلة تاريخنا المكتظ بالغموض و بالصواعق? ..

كيف ملأتم فراغاتنا باليقين ؟ كيف استطعتم استدراجنا إلى هذا المدى المفتوح على دمكم لنعرف حدود خياناتنا الطويلة، و ما اقترفناه في حقكم من الذنوب و من الآثام ، كيف؟

سامحونا أيها الأطفال الأبطال الشهداء/الأبرار سامحونا لن يكفي الدهر كي يغسل خطايانا لن تكفنا اللغة كي نعتذر لكم واحدا واحداً يا أحبابنا الموتى / الأحياء سامحونا هانحن .. عجزنا عن العودة إلى نقطة الصفر لأننا لم نكن إلا الصفر المكرر في معادلة انتم أبطالها يا أهل الثورة و النخوة في زمن الدعارة و الخيانة سامحونا .. سامحونا .. سامحونا ..

محمود الدالاتي

============

#رسالة إلى المعلم المسلم

الدكتور صالح بن علي أبو عرَّاد

أستاذ التربية الإسلامية بكلية المعلمين في أبها

ومدير مركز البحوث التربوية بالكلية

* أيها المعلم المسلم .

* يا مربي الأجيال ، وصانع الرجال .

* يا من شرفك الله بمهنة الأنبياء و الرسل عليهم السلام .

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته ، وبعد:

فأكتب إليك هذه الرسالة من وراء اثنين وعشرين عاماَ قضيتها في مهنة التعليم ؛شاعرا َبكثير من الاعتزاز والفخر لانتمائي إلى مهنة هي أشرف المهن ، وصناعة هي أكرم الصناعات ، لاسيما وأنها رسالة الأنبياء و الرسل عليهم الصلاة والسلام الذين أرسلهم الله تعالى إلى أقوامهم معلمين ومُبشرين ومُنذرين يدعونهم إلى الصراط المستقيم ، ويخرجونهم من الظلمات إلى النور ، قال تعالى : { وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ فَمَنْ آمَنَ وَأَصْلَحَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ } ( سورة الأنعام : الآية رقم 48 ) . فيا أخي المعلم في أي مرحلةٍ من المراحل ، وفي أي مادةٍ من المواد العلمية أو الأدبية أو غيرها ؛ أكتب لك هذه الرسالة مُذكراً وناصحاً ، ومؤملاً أن تنال رضاك ، وأن تحوز إعجابك ، وأن تكون عوناً لنا جميعاً على بذل المزيد من الجهد والسعي لما فيه الخير والصلاح . وفيها أقول :

* يا من أعَّزهُ الله بالإسلام ، تَذَكَّر أن المعلم المسلم يحمل أشرف رسالة ، ويؤدي أعظم أمانة ، وأن جمال رسالته مستمد من شرفها وبخاصة أن قدوته في ذلك أستاذ البشرية ومعلم الإنسانية محمد صلى الله عليه وسلم ، فمن أجلُ وأشرفُ من المعلم في مهنته ؟ الموظف أم البائع ؟ المهندس أم الصانع ؟ الطبيب أم المزارع ؟

إن كل أولئك و غيرهم من أبناء المجتمع إنما هم صنائع المعلم ، به قاموا ، وبه كانوا ، لذا فهو يسعَدُ إذ يرى أبناءه وقد كانوا من أولئك المهندسين والأطباء والفنيين والخبراء .....الخ . الذين تنهض بهم الأمم ، وتقوم بهم المجتمعات ، وينتشر على أيديهم الخير ويعم الصلاح . وصدق الله جل في عُلاه وهو يقول : { أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ } ( سورة إبراهيم : الآية رقم 24 ) .

* يا من تخاف الله تعالى وترجوا رحمته ، اتق الله في عملك وراقبه سبحانه ؛ فإنه يراك في كل وقتٍ وحين . واحرص على أدائه واجبك بالشكل الذي يرضاه جل في عُلاه ، وتذكر ما روي عن أم المؤمنين عائشة - رضي الله عنها - أن النبي صلى الله عليه وسلم قال :

" إن الله يحب إذا عمل أحدكم عملاً أن يتقنه " ( رواه أبو يعلى في مسنده برقم 4386 ، المجلد السابع ، ص 349 ) .

ولا تنس - بارك الله فيك - أن حُسن تعاملك وتجاوبك مع مُديريك وزملائك ، أو جلوسك في مكتبك ، أو فصلك ، أو معملك ، وقضاءَك لحاجة طلابك أو إجابتك عن استفساراتهم يُعد عبادةً تُثاب عليها متى صلُحت نيتك واحتسبتها عند الله سبحانه .

* يا من يتيه فخراً على أقرانه من العاملين في القطاعات و الميادين الأخرى ؛ يكفيك أن أسمى ما تعتز به تلك المودة والمحبة ، وذلك الاحترام والتقدير والوفاء الذي تحظى به أينما اتجهت ، وحيثما حللت من طلاب الأمس الذين أصبحوا رجال اليوم . وتذكر أن من يجلسون أمامك - الآن - على مقاعد الدراسة هم رجال الغد المشرق وبُناة المستقبل الزاهر - إن شاء الله - . واعلم أن هؤلاء الطلاب أوسمةً على صدرك ، ولئن كان البعض يعتزُ بوسامٍ واحدٍ يحمله بعد عملٍ جليلٍ طويل ؛ فإن المعلم يحمل كل يومٍ وساماً ، ولئن كانت أوسمة الآخرين تُعلقُ على صدورهم فإن أوسمة المعلم تعيش في قلبه ، ويجسدها وجدانه وهو يرى مكانته في نفوس الآخرين اعترافاً بفضله وإجلالاً لقدره ، كما قال الشاعر :

يا صانع الأجيال ما كانت لنا *** من غير صُنعك راية بيضاءُ

لولاك ما كان الخطيب مفوهاً *** ولما تغنى في الهوى الشعراءُ

* يا من يعيش حياة التعليم ويستغرق فيها بعقله وقلبه ، ولا يرضى عنها بديلاً ، لا تكن شمعةً تُحرق نفسها لتضيء الدرب للآخرين ؛ بل كن سراجاً يُضيء الدروب للآخرين ولا ينسى نفسه من الخير والعطاء . وخيرُ سبيلٍ لتحقيق ذلك أن يكون شعارك في حياتك قوله تعالى : } وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحاً وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ { ( سورة فُصلت : الآية رقم 33 ) . وأن تبذل كل ما في وسعِك لتكون قدوةً حسنةً لأبنائك الطلاب في التزامك ، وموضوعيتك ، وسمّتِك ، وعدلِك ، وإنصافِك ، وفي تعاملك مع من حولك على أُسسٍ قويمةٍ من التقوى والصلاح والأخلاق الفاضلة . ولله در الشاعر إذ يقول :

إني أرى التدريس أشرف مهنةٍ *** تبعاته من أثقل التَبِعاتِ

فليتق الله المدرسُ دائماً *** فيمن يُدَرِّسُه من الفلذات

* يا من تعلم أن الله يراك في كل وقتٍ وحين ، تَذَكَّر أن التربية فن وعلم ورسالة عظمى لمن وفقه الله لأدائها ، لا سيما وأنها تعتمد على رؤية المعلم لطلابه وتحسسه لمشكلاتهم ، وحسن تقديره لظروفهم ومراعاته لأحوالهم . وحافظ على مواعيد الحضور والانصراف ، وإياك أن تتأخر أو تتغيب عن طلابك بغير عذر يجبرك على ذلك فكل راع ٍ مسؤول عن رعيته ، وكل معلمٍ مسؤول عن مهامه وواجباته ؛ التي إن أحسن أداءها جوزي خيراً إن شاء الله تعالى ، وإن قصَّر حوسب وعوقب – والعياذ بالله من ذلك - . وعليك أن تضع نصب عينيك تقوى الله جل جلاله في كل وقتٍ وحين ، والشعور بمراقبته سبحانه وتعالى . وما أجمل قول الشاعر :

إذا ما خلوت الدهر يوماً فلا تقل *** خلوتُ ولكن قل عليَّ رقيب

ولا تحسبن الله يَغفلُ ساعة *** ولا أن ما تُخفي عليه يغيب

* يا من ترجوا رحمة الله تعالى وتخشى عقابه ، الحذر من الانشغال بأي عملٍ مهما كان مهماً متى حان وقت الصلاة ، وعليك - بارك الله فيك - أن تُعوِّد نفسك على إجابة النداء مبكراً ، وأداء الفريضة في وقتها حتى يكون عملك – بإذن الله تعالى – عوناً لك على الطاعة . وتذكَّر أنه لا خير في عملٍ يؤخر المسلم عن أداء الفريضة ، أو يمنعه من إجابة داعي الله جل في عُلاه . فإذا ما فرغت من ذلك فإياك وإضاعة الوقت فيما لا فائدة منه ولا نفع فيه ، و عُد مباشرةً إلى فصلك أو مكتبك أو معملك حتى لا يتعطل سير العمل أو يضيع وقته .

* يا من تقتدي بمعلم البشرية وأُستاذ الإنسانية ، كُن سهلاً ليناً ، حبيباً لطيفاً في تعاملك مع من حولك من المديرين والموجهين والمرشدين والوكلاء وأولياء الأمور والمستخدمين والعمال والطلاب ، وعليك بمساعدة من تستطيع منهم ومد يد العون له في حدود ما تسمح به الأنظمة والتعليمات ، ودونما ضررٍ أو ضِرار ، وتذكّر أن من يَسَّر على مسلم ، يسَّر الله عليه في الدنيا والآخرة ، وأن من رفق بمسلم رفق الله به في الدنيا والآخرة ؛ فعن عائشة رضي الله عنها قالت : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في بيتي هذا :

" اللهم ! من وَلِيَ من أمر أُمتي شيئاً فشقَّ عليهم ، فاشقق عليه . ومن وَلِيَ من أمر أُمتي شيئًا فرَفَق بهم ، فارفق به " ( رواه مسلم ، الحديث رقم 4722 ، ص 819 – 820 ) .

* يا من تفتخر بدينك الإسلامي الحنيف ، وتعتز بانتمائك لأمة الإسلام ، حافظ على هويتك المُتميزة وشخصيتك المُستقلة ، التي لا ترضى معها أن تتخلى أو تتنازل عن شيءٍ من المظاهر مهما كان ذلك يسيراً في نظرك ؛ كأن تُحافظ على تحية الإسلام عند الالتقاء بالزملاء والطلاب ، وأن تبدأ الدرس بحمد الله تعالى والصلاة والسلام على نبيه محمد صلى الله عليه وسلم ، والمحافظة على كتابة البسملة في أعلى السبورة ، وترديد دعاء ختام المجلس عند نهاية الدرس ، والمحافظة على المظهر الجميل والسمت الحسن ، ومراعاة سنن الفطرة ، ونحو ذلك من الآداب النبوية والأخلاق الإسلامية التي تُميز شخصية المعلم المسلم ، وتحفظ هويته ، وتُعلي منزلته في أي زمانٍ ومكان .

* يا من تبتغي بقولك وعملك ما عند الله تعالى من الخير العميم والثواب العظيم ، لا تتردد في استخدام أُسلوب الثواب والمكافأة ، واحرص على توظيف أسلوب الثناء المُباشر على طلابك إذا رأيت فيهم أو لمست منهم بادرةً حسنةً ، أو سلوكاً طيباً . وما أحسن أن تُشجعهم على ذلك ببعض الهدايا المناسبة والجوائز الملائمة التي تعود عليهم بالنفع والفائدة في الدنيا والآخرة كأن تقوم بتوزيع بعض الأشرطة الإسلامية المختارة ، أو الكُتيبات ذات الموضوعات النافعة ، أو المطويات المُختصرة ، أو نحو ذلك من الهدايا والمكافآت التي تُسهم في حثهم على الجد والاجتهاد ومضاعفة الجهد في الدرس والتحصيل ، وتدفعهم إلى تحقيق الأهداف النبيلة والغايات السامية ، وتغرس في أنفسهم المحبة والمودة لكلٍ من حولهم من الكائنات والمكونات .

* يا من تقوم بإعداد أجيال الأُمة ، وتربية رجال المستقبل ليقوموا بوظائف البلاد وينهضوا بحضارة الأمة ، ويحملوا رسالتها ، تَذَكَّر أنك الأساس والمرتكز وحجر الزاوية في بناء الأمة الحضاري ؛ فتحمل المسؤولية كاملة ، وكن أهلاً لأداء هذه الرسالة العظيمة التي جسد أبعادها قول الشاعر :

أعلمت أشرف أو أجل من الذي *** يبني وينشىءُ أنفساَ وعقولاَ

وقول الآخر :

إن المعلم في عيني وفي نظري *** نورٌ به يهتدي من كان حيراناَ

لولا " المعلم " ما كانت حضارتنا *** تزداد شأواً وتسمو في الدُنا شانا

وهذا يفرض عليك أن تكون مُلماً بكل جديدٍ ومُفيدٍ في مجال تخصصك ، وأن تكون مُتمكناً من مادتك العلمية التي تقوم بتدريسها لطلابك ، وأن تكون حريصاً على الاطلاع والتجديد والتطوير المستمر لمعلوماتك ومهاراتك وقدراتك وخبراتك حتى تتمكن من مواكبة تطورات العصر وتغيراته المتلاحقة .

* يا من يُجهد نفسه ويُضحي بوقته ، ويبذُل الكثير لأداء رسالته ، ويجد في أثناء ذلك كثيراً من المتاعب والعقبات ، لا تنس أنك مأجورٌ ومشكورٌ ـ إن شاء الله ـ على ذلك كله متى أخلصت النية لله سبحانه ، وصبرت واحتسبت ذلك عند الله تعالى . فليس هناك عملٌ بلا تعب ، ولا نجاح بلا سهر ، وما أجمل قول الشاعر الذي صوُّر حال مهنة التدريس بقوله :

ما أحسن التدريس لولا الابتلا *** بمُشاكسٍ أو أحمقٍ أو عاتي

أو ذي غباءٍ ليس يفهم درسه *** ولديه نثر القول كالأبيات

* وختاماً ، أُهديك أخي المعلم عظيم شُكري ، ووافر تحيتي ، وخالص دعائي بالتوفيق والسداد ، والهداية والرشاد في مسيرتك المُباركة ، ومشوارك الطويل لأداء هذه الرسالة العظيمة التي جعلتك محط الأنظار ، ومحل العناية والاهتمام في هذا الزمان وكل زمان . وصلى الله على محمدٍ المختار وآله الأطهار ، وسلَّم تسليماً كثيراً .

***********

للتواصل :

الدكتور / صالح بن علي أبو عرَّاد

أُستاذ التربية الإسلامية

ومدير مركز البحوث التربوية بكلية المعلمين في أبها

ورئيس هيئة التحرير لحولية كلية المعلمين في أبها

أبها _ ص . ب : ( 249 )

E-Mail : abo_arrad @ hotmail.com

رقم هاتف الجوال [ 0504509749]

أو هاتف وفاكس [ 072285565]

=============

#دعوة إلى العودة

القرآن الكريم هو الكتاب المنزل على رسوله محمد"صلى الله عليه وسلم "المنقول بالتواتر..المتعبد بتلاوته..أخرج الله به الإنسان من الظلمات إلى النور ومن الشقاء والتعاسة إلى النقاء والسعادة ومن الشرك إلى التوحيد إنه سر وجودنا وبقائنا..يوم حكمناه سرنا العالم ..عليه قامت حضارتنا..وعلى هداه انطلقت قوافلنا مبرره ظلم الجاهلية .

إن الإنسانية أحوج ما تكون إلى القرآن في هذا الوقت تتعطش أن تراه واقعاً ملموساً في الحياة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية وعلى جميع الضروب والأصعدة. إذ به نبأ ما قبلنا وخبر ما بعدنا وحكم ما بيننا.. فكيف يرضى به بديلاً وينحاد عنه سبيلاً.. لقد كان هذا الكتاب دعامة لحياتنا يوم أن اتخذناه منهجاً ولما أن تركناه وراءنا ظهرياً نردده دون فهم آل أمرنا إلى ما نراه ونعرفه.. إنها دعوة إلى العودة إلى هذا المنبع الصافي والمورد الزلال هيا نعمر القلوب بهداه وننير الدروب بضيائه..(إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم ويبشر المؤمنين الذين يعملون الصالحات أن لهم أجراً كبيراً) الإسراء:9

م / رياض بن ناصر الفريجي

رمضان 1420هـ

=============

#العِلْمُ وَالثَّقَافَةُ بَيْنَ الفَهْمِ الحَقِيقِيِّ وَالتَّضْلِيلِ المُتَعَمَّدِ

عِمَاد حَسَن أَبُو العَيْنَيْنِ[1]

عندما يتحدث الدعاة والمصلحون عن جزئية في الدين تدعو إلى عدم التشبه بغيرنا من أهل الملل والنحل وأنه لا بد لنا من المحافظة على ثقافتنا وهويتنا بين الأمم فيُتهمون من قبل العلمانيين المسيطرين على شئون البلاد بأنهم ضد الإبداع والعلم والتواصل الحضارى بين الأمم، وأنهم رجعيون وسلفيون وأصوليون ..إلى آخر ما في معجمهم من الاتهامات والأباطيل.

والحق أن هذا فهم غير حقيقي للعلم والثقافة، فالعلم شيء والثقافة شيء آخر، كلاهما يختلف عن صاحبه.

والمستغربون من أمتنا المقلدون للغرب يحلو لهم خلط الأوراق والعبث بعقول شباب الأمة عبر وسائل الإعلام، ويصورون للعامة أن العلم والثقافة وجهان لعملة واحدة، وبما أن الغرب متقدمٌ في كل المجالات والصناعات والتكنولوجيا؛ فلا بد أن نُقلدهم؛ حتى نلحق بركب الحضارة، ولا بد من مسايرة العلم والثقافة التي تتطلب منا أن نكون على خطٍ موازٍ للغرب المتقدم.

والحق أنها شبهة جدير بنا أن نعرض لها ولكن بشيء من الإيجاز يقتضيه المقام، وهذا أوان الشروع في ضحضها.

أيها الأخوة الكرام: العلم شىءٌ والثقافة شىءٌ آخر؛ "فالعلم عالمى لا تختص به أمة، دون أمة ولا تحتكره قارة دون قارة، فيكون غيرها عالة عليها فيه؛ إنه مشاع كالهواء الذى نتنفسه، والعلم تراث إنسانى ما من أمة إلا ولها فيه جهاد وجهود ويد وأيد، وكل درجة ارتقاها العلم في أى عصر من العصور على يد أمة من الأمم في بلد من البلاد؛ إنما كان بفضل درجة أخرى قبلها، كان العلم قد وصل إليها في عصر آخر قبل ذلك العصر، وعلى يد أمة أخرى من الأمم في بلد غير ذلك البلد الذى وصل العلم فيه إلى الدرجة التي تلى تلك الدرجة.

والعلم هو مجموعة الحقائق التي توصل إليها العقل البشري في مراحل تفكيره وتجاربه وملاحظاته المتسلسلة بتسلسل الزمن، والمحررة باجتيازات متكررة، فلا تختلف بتفاوت الأذواق ولا تتغير بتطور المصالح، فإن جدول الضرب مثلًا من المعارف الإنسانية العريقة في القدم، وسيبقى حاجة من الحاجات الأولية لطلاب علم الحساب في كل بلد وفي كل زمن، ولولا ما كان معروفًا قبل العرب والمسلمين من علم الحساب لما توصل العرب والمسلمون إلى إتحاف الإنسانية بالحقائق الأولية من قواعد علم الجبر والمقابلة، ولولا علم الجبر والمقابلة الذى توصل علماؤنا إليه قبل مئات السنين لما تقدمت في العصور الأخيرة العلوم الرياضية الأخرى التي توصلت بها الأعمال الهندسية إلى ما وصلت إليه الآن من التقدم، فالعلوم الرياضية والحقائق الهندسية من العلم العالمى المشاع بين البشر، والذى اشتركت عقول البشر في صياغته وتقدمه وارتقائه منذ العصور العريقة في القدم، ولا غضاضة على أمة في أن تطلب العلم به حيث تجده وكذا الطب وعلوم الطبيعة والفلك وكل ما تمس إليه حاجة الأمم في قوتها وأسباب عزتها وتوفير حاجتها، والمسلمون على الخصوص يُوجب عليهم دينهم أن يتعلموا ما تدعو حاجتهم في مرافقهم إلى تعلمه من العلوم التي إن لم يحترفوها تولاها عنهم الأغيار المشركون، وكان جهلهم بها من أسباب ضعفهم.

هذا النوع من المعارف الإنسانية هو العلم وهو واحد في كل أمة، وهو اليوم سبيل القوة في الحرب والسلم وهو الذي ينبغي للمسلمين أن يكون فيهم دائمًا العدد الكافي من العاملين به، ليتولوا مرافق بلادهم بأنفسهم ويحققوا أسباب قوتهم الصناعية والحربية والاقتصادية بأيديهم، وإذا لم يتحقق ذلك إلا بإرسال البعثات إلى البلاد التي تفوقت فيه، فعليهم أن يوالوا إرسالها إلى أن يتوافر عندهم من أبنائهم رجالٌ أكفاء لسد هذه الحاجة على قدرها.

أما الثقافة فشيء آخر، فالثقافة في كل أمةٍ لها لون خاص، مستمدة من مألوفها ومن ذوقها ومن مواريثها الدينية والأدبية والعلمية ومن ظروفها الجغرافية وحاجتها الاجتماعية وتصوراتها عن الكون والحياة الإنسانية، وثمَّ عوامل أخرى تتحكم في ثقافة كل أمة، ولذا؛ نرى الثقافة الفرنسية مثلًا تختلف عن الثقافة الألمانية، بل نرى الثقافة البريطانية تختلف عن الثقافة الأمريكية مع اتحادهما في اللغة والأدب، والصينيون واليابانيون يشتركون في الكثير من المقومات، وكانوا بين الحربين العالميتين في حاجة إلى عنصر قوى يستعينون به لمقاومة الاستعمار المحيط بهم من كل جانب، ومع ذلك فإن اختلاف الثقافتين حال دون هذه الأهداف المشتركة، بل أنشب الحرب بينهما سنين طويلة قبل الحرب العالمية الثانية وفي خلالها.

ولو لم تكن الثقافة من الفوارق الجوهرية بين الأمم، لكان من المعقول أن تتعاون الصين واليابان وتتحد وجهتهما، ولتكونت منهما حينئذ قوة رهيبة لعلها تكتسح الأمم، وذلك ما كان يُنذر به إمبراطور ألمانيا قبل الحرب العالمية الأولى، ويُسميه الخطر الأصفر.

إن تاريخ الأمة من عناصر ثقافتها، وآداب الأمة من صميم ثقافتها، وأخلاق الأمة في كل عصر من عصورها حلقة من سلسلة الأخلاق التي هي من ميراث الماضى، وقد يكون في ميراث الأمة من أخلاق ماضيها الكثير من الخير والكثير مما ينافيه، فعليها أن تُصلح بخيرها ما ينافيه من الأخلاق التي تحتاج إلى إصلاح، فإذا حاولت الأمة أن تتنكر لتراثها الأخلاقى بتطعيمه بأخلاق أجنبية عنها، أضاعت نفسها وفقدت أصالتها وصارت تنافي الأصالة ويحتقرها الأُصلاء من أصحاب تلك الأخلاق الأجنبية"[2].

وسأضرب لكم مثالًا من واقع حياة الأمم وتجارب الشعوب؛ اليابان وتركيا أرادت كل واحدة من هاتين الدولتين في مطلع القرن العشرين أن تكون في مصاف الدول المتقدمة وأن تلحق بركب الحضارة، فماذا فعلت كل واحدة من هاتيك الدولتين؟!.

قامت اليابان بنقل التقنيات الحديثة والصناعات والمصانع وتحديث نظم المعلومات إلى آخر ما هنالك من أسباب التقدم العلمى من أوروبا وغيرها من البلاد المتقدمة، وتركت كل ما يؤثر على عقيدتها وسلوكها، وما هو مخالف لمنهج حياتها وأساليب معايشها فتقدموا وسادوا العالم، والدليل على ذلك ما نراه من تهافت الناس على المنتج اليابانى وتهافت أساتذة الجامعات على شرح أساليب الإدارة والصناعة اليابانية.

وعلى العكس من ذلك قامت البائسة تركيا على يد الرجل الصنم[3] بنقل عادات الغرب من لباس وطعام وشراب ولغة ودعارة؛ ظنًا منها أن هذا هو التقدم، وأن الدين هو أفيون الشعوب، وأن الدين يؤخر البلاد والعباد، وتركوا أسباب التقدم الحقيقى وهى الأخذ بكل ما هو جديد في الصناعات والتكنولوجيا ونظم المعلومات مع الثبات كل الثبات على دين محمد صلى الله عليه وسلم، فغرقوا في الوحل والفوضى الاقتصادية فها هى تعج بالأزمات الاقتصادية، وتكاد تكفر لتدخل الاتحاد الأوربى فيأبون عليها، وصدق الله إذ يقول: (وَلَن تَرْضَى عَنكَ الْيَهُودُ وَلاَ النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ) [البقرة120].

"إن القول الفصل –أيها الإخوة الكرام- بين العلم والثقافة؛ هو أن العلم عالمى والثقافة قومية وملية، والعلم لا لون له، والثقافة ذات ألون، وكذب من قال: إن في الدنيا ثقافة عالمية ولا يمكن أن تكون فيها ثقافة عالمية، فعلى الأمة الإسلامية أن تتمسك بثقافتها، وأن تبعث فيها أسباب الحيوية بوصل ما بين ماضيها وآتيها خاصةً أننا لا نكون مسلمين بارتياد المساجد فقط، ولا تصحيح العقيدة فقط، بل إن إسلامنا يتناول البيت والشارع والمدرسة والجامعة والتعاملات والأخلاق والعقائد والعبادات، وسنن الإسلام وأحكامه مصدر كريم من مصادر ثقافتنا فلا يكفي أن نعرف كيف نصلي؟! بل يجب أن نعرف كيف نكون أفرادًا مسلمين في مجتمع إسلامى؟ وأن نعرف كيف نكون رعايا مسلمين لدولة إسلامية؟ أما المعارف التي لها لون خاص لأقوام غير أقوامنا ولها لون مِلّي لملل غير ملتنا، فذلك ما يُسمى ثقافة، ونحن في غنى عنها بثقافتنا التي يجب أن نستمدها من مألوفنا ومن ذوقنا ومن مواريثنا الدينية والأدبية وضروراتنا الجغرافية وحاجاتنا الاجتماعية، ولهذه الثقافة مثلٌ في تاريخنا وتراجم أسلافنا، فيجب أن نعرفها بمعرفتهم، وأن ندرسها بدراسة تراجمهم، وأن نحيا بالتخلق بأخلاق أهلها واتخاذهم قدوة لنا وأسوة"[4].

أيها الكرام الأخيار كل ما أدعو إليه هو التحذير من تقليد الغرب فيما نهى عنه ديننا وحذرنا منه[5]، وتشتد خطورة التقليد عندما يكون في أمر هم أولى به منا، ونحن أحوج إلى غيره منهم، فتقليدهم في الفن والغناء والرقص والنحت والتصوير واللعب بالكرة ....إلخ هم أولى به منا؛ لأنه قد تم لهم البناء، وتقليدهم في الصناعات والتكنولوجيا والتقنيات الحديثة نحن أحوج إليه منهم؛ لأننا أمة حديثة الوعى تريد أن تلحق بركب الحضارة المادية واستجلاب بعض أسباب القوة[6].

إن الانصراف إلى الفن شغل الذين تمَّ لهم البناء، أما الذين لم يبدأوا بالبناء بعد، أو بدأوا متأخرين، فمن أكبر الجرائم صرفهم عن الاهتمام في تقوية البناء، إلى الاهتمام بالرسم والغناء، وعن الاختراع إلى رقص الإيقاع، وعن صنع الحياة إلى رسم الحياة؛ فإنه لم تهزم أمة أخرى بالفن، ولكنما هزمتها بالقوة، ومن التضليل أن يعتبر الفن من وسائل القوة.

وعلى سبيل المثال إسرائيل لا تُعِدُّ لغزونا فرقًا من الراقصات والمغنيِّات والرسَّامين، ولكنها تُعِدُّ فرقًا من الفدائيين، وأساطيل في الجو والبحر، وقذائف للهلاك والتدمير، فهل يفهم هذا "المنحلُّون" و "الببغاوات" و "المتآمرون" و"الكسالى" و "الوجوديون" و "المستغربون" و "المفتونون"؟.

ألا فليعلموا إنه إذا كان الفن يصقل المواهب وينمِّي الشعور بالجمال، فإن الأمة المحاطة بالأعداء، في حاجة إلى ما يفتل السواعد، ويلهب الإيمان، ويقوي الأخلاق، ويفتح العقول، ويدفع عن الأمة خطر الإبادة أو الاحتلال.

ولقد رأيت في التاريخ القديم والحديث أمثلة لأمم متعادية تسعى كل واحدة منها لاستجلاب أسباب القوة سعيًا حثيثًا كما كان بين الفرس والروم قديمًا، وكما يحدث الآن بين كوريا الجنوبية والشمالية، وكما بين الهند وباكستان في هذا العصر ومن قبلهما ألمانيا الغربية والشرقية.

ولم أر في التاريخ أبدًا مثل ما يحدث بيننا وبين وإسرائيل؛ إحداهما تسعى لامتلاك القوة بكل ما تصل إليه من طاقات وقدرات والأخرى تسعى للسلام المزعوم، خلافًا لقول ربنا: (وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدْوَّ اللّهِ وَعَدُوَّكُمْ) [الأنفال60].

"أيها العقلاء أنا أخاطب فيكم العقل والفهم، سلوا التاريخ: هل أفل نجمنا إلا يوم أن سطعت نجوم المغنِّيين وقويت دولة الراقصات في سماء حضارتنا؟! هل من الحكمة أن يعمل أعداؤنا بما في قرآننا ونُعرض نحن عن قول ربنا!.

أي عاقل مخلص يودُّ أن يكون لنا نجوم في التمثيل والتلفزيون، ونجوم في الرسم والغناء، قبل أن يكون لنا أبطال في الحروب، وعلماء في المختبرات، ومخترعون في الصناعات، وأقوياء في الإيمان والأخلاق؟

أليس من دواعي الأسى، أن تكون لإسرائيل صواريخها، ومعاملها النووية، ويكون لنا تلفزيون، وفرق للرقص والتمثيل، وليس لنا صواريخ، ولا مفاعلات ذرية؟!.

أيها العقلاء هل يشفي المريض المدنف باقة من الزهر، أم حقنة من البنسلين؟ وهل يكفي الجائع لحن مطرب، أم رغيف مشبع؟ وهل يسعد الفقير أن تزيَّن له جدرانه بالرسوم، أم أن تهيئ له ما يحتاجه من أثاث؟ وهل يخاف العدو إذا كنت تحسن الرقص، أم إذا كنت تحسن صناعة الموت؟

أيها الحُكام أيها الزعماء خذوا من أمتنا مائة مصوِّر، وأعطوها طيارًا واحدًا، وخذوا منها ألف مغنٍ وأعطوها مخترعًا واحدًا، وخذوا منها كل العابثين واللاهين وأعطوها مُجدًّا واحدًا.

هاتوا لنا جميع الرسامين، والممثلين والمغنين والراقصات والراقصين، ثم احشدوهم جميعًا وانظروا هل يردون عنا خطر قنبلة ذرية، أو صاروخًا موجهًا؟.

نحن في حاجة إلى مخترعين ومخترعات، أشد من حاجتنا إلى فنَّانين وفنَّانات، ومع ذلك فكل الجوائز وكل الفرص وكل الأنوار تسلَّط على هؤلاء، ويحرم منها أولئك، وما رأيت يومًا جائزة خصصت لشاب مكتشف أو مخترع، وأرى كل يوم عشرات الجوائز للشباب المتفوِّقين بالرسم والتصوير والموسيقى والغناء، فهل هذا دليل على جدِّنا في الانضمام إلى ركب الحضارة، والخلاص من أعدائنا المتربِّصين؟ أم نحن قوم غافلون أو مخدوعون أو مضللون؟

أيها العابثون المراهقون، أيها الفنَّانون والمغنُّون والراقصون والراقصات، ستكونون أول من ينهزم في معارك البطولات، وستكونون أول من يفرّ منها إذا لم تحيوا قلوبكم بالإيمان، وتفتحوا عقولكم بالعلم، وتسموا بنفوسكم بالأخلاق، قبل أن تنمُّوَ أذواقكم بالفن، وترضوا شهواتكم بالرقص والغناء"[7].

أيها الأخوة الكرام الأطهار نحن في مفترق الطرق ومن النصح للأمة أن نتعاون على معرفة الطريق الذى نسلكه إلى مرحلتنا الجديدة وهو الطريق الذى يجمع بين تعلم كل ما عند غيرنا من العلوم العالمية التي لا لون لها، والاحتفاظ بكل ما يحفظ علينا إسلامنا من الثقافة التي نحن أغنى أمم الأرض بها، ما علينا إلا أن نستأنف دراستها وإحياءها، والعمل بها؛ ويومئذ تكون العزة والرفعة للمؤمنين.

أما اليوم فالمسلمون قد ذلوا وضعفوا وأخطأهم النصر والتوفيق، وأبطأ عليهم الارتقاء والتقدم والتميز على غيرهم، حيث تجاهلوا معالمهم وسايروا أهل الحضارات والملل والأهواء في طرقهم وأنظمتهم وتقاليدهم ومظاهرهم وأذواقهم وأساليب تفكيرهم.

وإن أرادوا أن ينالوا العزة والقوة وينالوا الفوز والظفر ويقودوا حركة التقدم في الأرض؛ فعليهم أن يعرفوا دينهم ويتمسكوا به، وينهلوا من علوم غيرهم وينقلوا الحضارة النافعة.

فالعاقل يأخذ ما ينفعه من الحضارات الأخرى وبما يتفق مع دينه وعقيدته ولا يخالف المنهج الربانى الذى وهبه له ربه، أما أن نتبع الغرب في كل شيء فهذا يأباه العاقل ويرفضه الأريب، والحضارة الغربية ليست كتلة واحدة، إما أن تؤخذ كلها أو تترك، لا بل فيها النافع للناس والضار بهم -وهذا شأن كل حضارة، إلا حضارة الإسلام- إذًا لا بد من منهج الانتقاء.

تلكُم هى بعض المعالم الحقيقية للتفرقة بين العلم والثقافة نبُثها فى أمتنا للحفاظ على هويتها وثقافتها بين الأمم.

أسأل الله العظيم رب العرش العظيم أن ينفع بها كاتبها وقارئها.

وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.

----------------------------------------

[1] للتواصل والتعليقات . adrrem@yahoo.com

[2] منهج الثقافة الإسلامية للشيخ محب الدين الخطيب بتصرف.

[3] أعنى كمال أتاتورك، الذى يُقال إنه من يهود الدونمة.

[4] منهج الثقافة الإسلامية للشيخ محب الدين الخطيب بتصرف.

[5] راجع مقالتنا السابقة (مخالفة أصحاب الجحيم اليهود والنصارى والمشركين).

[6] قلت: (بعض أسباب القوة) حتى لا يُتوهم أن السبب الرئيس لعجز الأمة هو تأخرها التقني والعسكري وتفرقها فحسب.

[7] هكذا علمتني الحياة للدكتور مصطفى السباعي بتصرف.

===============

#كيف تسللت الليبرالية إلى العالم الإسلامي ؟

الدكتور بسام البطوش

البحث منقول بتصرف يسير من كتاب

" الفكر الاجتماعي في مصر "

للدكتور بسام البطوش

بسم الله الرحمن الرحيم

هذا بحثٌ موجز مُيسر يبين للقارئ بداية تسلل الفكر الليبرالي العلماني إلى البلاد الإسلامية ، ويكشف أبرز الشخصيات التي اعتنقته ، وساهمت في نشره ، وهو يقتصر على البلاد المصرية بسبب أنها البوابة التي تنتقل منها الأفكار والتجارب الغربية إلى بقية دول العالم الإسلامي ؛ كما في التمثيل ، والمسرح ، والصحافة .. الخ . وهذا المبحث منقول بتصرف يسير من كتاب الدكتور بسام البطوش " الفكر الاجتماعي في مصر " ( ص 93-184) ؛ أنقله هنا ليعرف من خلاله القارئ كيفية التسلل الليبرالي ، وسيكتشف عند قراءته أن الأساليب التي استخدمها أتباع الغرب من الليبراليين المصريين هي نفسها ما يستخدمه الآن أشباههم في بلاد أخرى ؛ ومنها " المملكة العربية السعودية " حرسها الله ، وأدام عليها نعمة الإيمان والأمن ، والله الهادي .

كيف تسللت الليبرالية إلى العالم الإسلامي ؟

1-مفهوم الليبرالية:

مصطلح الليبرالية مذهب ينادي بالحرية الكاملة، وفي ميادين الحياة المختلفة، لاتقيدها أحكام الدين . والليبرالية كغيرها من المذاهب السياسية والاجتماعية تعدّ نمطاً فكرياً عاماً، ومنظومة متشابكة من المعتقدات والقيم، تشكلت عبر قرون عدة، منذ القرن السابع عشر(1).

وقد ساهم عدد كبير من المفكرين في صياغة الفلسفة الليبرالية كان من أبرزهم، جون لوك (1632-1704م)، وآدم سميث (1723-1790م) وجيرمي بنثام (1748-1832م)، وجون ستيوارت مل (1806-1873م)، وجان فرانسوا فولتير (1694-1778م)، وجان جاك روسو (1712-1778م) وأليكسيس دي توكفيل (1805-1859م) وغيرهم.

وفكرة الليبرالية الأساسية في الاقتصاد هي الحرية الاقتصادية، بمعنى عدم تدخل الدولة في النشاط الاقتصادي، أو أن يكون تدخلاً محدوداً وعلى أضيق نطاق، فواجبات الدولة محدودة، يجب أن لا تتجاوزها(2).

والطبيعة – كما يقولون - تحترم الحرية، فمن الطبيعي أن يتمتع الإنسان بحريته الكاملة في النشاط الاقتصادي، وفقاً لما سُمي "المذهب الطبيعي"؛ فسعادة البشر وفق هذا المذهب تتحقق من خلال سعي كل فرد لتحقيق مصلحته الذاتية. وتم التعبير عن هذا المضمون بشعار "دعه يعمل، دعه يمر" وقد نظر آدم سميث بوضوح لهذه الفكرة في كتابه "ثروة الأمم" الصادر (1776م).

كما تصدى دافيد ريكاردو لشرحها في كتابه "الاقتصاد السياسي" الصادر (1817م) (3).

وتعود جذورالليبرالية – أيضًا - إلى أفكار جون لوك، الذي يؤكد على فكرة "القانون الطبيعي"، ووفقاً لهذه الفكرة فإن للأفراد بحكم كونهم بشراً حقوقاً طبيعية غير قابلة للتصرف فيها، كحرية الفكر وحرية التعبير، والاجتماع، والملكية(4).

وقد شكلت هذه الفكرة إلهاماً للثورات الكبرى في القرنين السابع عشر والثامن عشر، كالثورة الإنجليزية (1688م)، والأمريكية (1773م)، والفرنسية (1789م)، وما نتج عنها من نظم سياسية ليبرالية تبلورت معالمها في القرن التاسع عشر بوضوح أكبر(5).

وتعد أفكار المدرسة النفعية، وعلى وجه الخصوص أفكار جيرمي بنتام (1748-1832م) مصدرًا رئيسًا للفكر الليبرالي، وقد عبر عنها بوضوح في كتابه "نبذة عن الحكم" الصادر (1776م)، والفكرة النفعية ترسي قواعد القانون والدولة والحرية على أساس نفعي؛ فالحياة يسودها "سيدان" هما الألم واللذة؛ فهما وحدهما اللذان يحددان ما يتعين فعله أو عدم فعله، فليترك الفرد حراً في تقرير مصلحته بداع من أنانيته، وسعياً وراء اللذة، واجتناباً للألم.

والمحصلة هي حياة اجتماعية أكثر سعادة(6)، وفقاً لمبدأ "أعظم سعادة لأكبر عدد"، كمبدأ أخلاقي جديد للتمييز بين الخير والشر(7).

وتؤمن الليبرالية بجملة قيم أسياسية، تأتي "الحرية" في مقدمتها، حتى أنها اكتسبت اسمها من هذه القيمة، وحتى أن البعض رأى "أن الموقف الليبرالي هو التعبير الطبيعي عن الإيمان بالحرية(8)؛ فالهدف الأساس للمذهب الليبرالي هو ضمان الحرية أو التحرر، وغياب القيود والموانع المعيقة لحركة الإنسان ونشاطه، على أساس أنها تتعلق بممارسة الإنسان لحقوقه الطبيعية(9).

وآمن المذهب الليبرالي بقيمة هامة وأساسية بالنسبة لبنائه الفكري، وهي الفردية، فالفرد –هنا- هو الأساس، وواجب الدولة والمجتمع حماية استقلاله، وتسهيل سعيه لتحقيق ذاته، وإتاحة المجال أمامه للاختيار الحر(10).

وأعلت الليبرالية كثيراً من قيمة الملكية كأحد الحقوق الطبيعية للفرد، يتوجب صونها من كل تعدٍ أو جور(11)، وتحدثت الليبرالية عن المساواة بأشكالها السياسية والقانونية والاقتصادية والاجتماعية، وفي الحراك الاجتماعي(12).

أما فيما يتعلق بالصلة بين الليبرالية والديمقراطية، فإنه يمكن القول بأن الليبرالية تمثل الفلسفة الاجتماعية أو منهج التفكير أو النسق الفكري العام.

في حين أن الديمقراطية أنسب ما تكون لوصف نظام الحكم أو طريقة ممارسة السلطة السياسية. وقد بدأت الليبرالية أرستقراطية ثم أصبحت ذات صيغة شعبية بفعل كفاح الشعوب تعترف للجميع بالحقوق نفسها(13).

2-منافذ الفكر الليبرالي إلى مصر:

أ-الحملة الفرنسية على مصر 1789-1801م:

شكلت الحملة الفرنسية على مصر صدمة ثقافية وفكرية لمصر، وفتحت عيون المصريين على عالم جديد، وساهمت في تعريفهم بالفارق الحضاري الذي يفصلهم عن أوروبا.

فقد رافق نابليون في حملته هذه جمع من العلماء في تخصصات مختلفة. كما أدخل معه مطبعتين إحداهما عربية والأخرى فرنسية، وأنشأ الدواوين، وأنشأ مرصداً ومتحفاً ومختبراً ومسرحاً ومجمعاً علمياً. غير أن قصر الفترة التي مكثها الفرنسيون في مصر، إضافة إلى عدم استقرار الأوضاع لهم كما يشتهون، إلى جانب عدم الاندماج الفاعل بينهم وبين الشعب المصري. كل ذلك قلل من حجم الاستفادة المصرية من ثمرات التقدم الأوروبي التي جلبتها الحملة معها(14).

وقد دار جدل واسع بين الباحثين حول تقويم أثر الحملة الفرنسية التنويري، ومحصلة هذا الجدل كانت حول حجم ومدى التحولات الناجمة عن الحملة، لا حول وجودها من عدمه(15).

وفي كل الأحوال لابد من الحذر من الانسياق خلف مقولات تخدم الادعاءات حول دور تنويري للاحتلال الأجنبي.

ب-الخبراء الأجانب في مصر، والبعثات العلمية إلى أوروبا:

وتوثقت صلات مصر بأوروبا في عهد محمد علي، إذ اعتمد في تجربته الرائدة في بناء دولة مصرية حديثة على عدد من الخبراء الأجانب من الإيطاليين والفرنسيين.

كما اعتمد سياسة إرسال البعثات العلمية إلى أوروبا، فكانت هذه البعثات من العوامل الهامة في الانفتاح على الغرب وثقافته.

وقد بدأت حركة الابتعاث عام 1813م، بإرسال مجموعة من الطلبة المصريين إلى إيطاليا لدراسة الفنون العسكرية وبناء السفن، وتعلم الهندسة، ومنذ العام 1826م، بدأت حركة الابتعاث إلى فرنسا، وخلال الفترة 1813-1847م، تم إيفاد 339 مبعوثاً إلى أوروبا، وتواصلت سياسة الابتعاث طوال القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين(16).

وبعد عودتهم عملوا في حقول التعليم والجيش والأعمال الهندسية والطب والترجمة. وكان دورهم واضحاً في تشكيل البيئة المناسبة لغرس أفكار التحديث الأوروبية(17).

ج-حركة الترجمة:

وشكلت حركة الترجمة أحد أهم منافذ الفكر الأوروبي إلى مصر، وقد بدأت في عهد محمد علي الذي أولاها رعاية خاصة، اقتناعاً منه بضرورتها للإطلاع على منجزات العلم الأوروبي، وكان تركيزه منصباً على الكتب العلمية، واعتمد في البداية على عدد من المترجمين الأوروبيين، ثم على الطلبة المصريين العائدين من البعثات العلمية.

ثم أنشأ دار الألسن عام 1835م لإعداد المترجمين، وتوسّعت حركة الترجمة لتشمل ميادين ثقافية وعلمية مختلفة، كالعلوم الرياضية، والعلوم الطبية، والطبيعية، والمواد الاجتماعية، والأدبية، والقوانين الفرنسية(18).

وبرز في ميدان الترجمة إضافة إلى رفاعه الطهطاوي (1801-1873م)، كل من أحمد عثمان (1829-1898م) الذي قدّم إلى المكتبة العربية عدة ترجمات لكتابات أدبية فرنسية، وأحمد فتحي زغلول(19) (1863-1914م)، وقد اهتم بترجمة كتابات سياسية واجتماعية أوروبية ذات توجهات ليبرالية واضحة، لا شك أنها قد أسهمت في تعريف المصريين بالفكر الليبرالي الغربي.

وكان يقدم لها بمقدمة يوضح فيها تعاطفه مع المبادئ والأفكار الليبرالية المبثوثة فيها، ويدعو القراء للإفادة منها، وكان من أبرزها "أصول الشرائع" لبنتام ونشرت الترجمة عام 1892م، وكتاب "سر تقدم الإنجليز السكسونيين"(20) لصاحبه إدمون ديمولان ونشرت الترجمة عام 1899م، وكتاب "روح الاجتماع" لجوستاف لوبون ونُشرت الترجمة عام 1909م، وكتاب "سر تطور الأمم" لجوستاف لوبون أيضاً، ونُشرت الترجمة عام 1913م. وكتاب روسو "العقد الاجتماعي"(21).

وتواصلت حركة الترجمة في مصر لتشكل نافذة تطل منها مصر ومعها العالم العربي على الغرب وثقافته وتياراته الفكرية على تنوعها(22)، واتخذت مكانة هامة في نظر دعاة الليبرالية كمرحلة لابد منها لخلق بيئة ثقافية وفكرية مناسبة تمهد لولوج مرحلة التأليف تالياً.

وقد دافع أحمد لطفي السيد، ود. محمد حسين هيكل، وغير واحد من رموز التيار الليبرالي، عن أن هذا العصر عصر ترجمة لا عصر تأليف بالنسبة لمصر(23).

د-الطباعة والصحافة:

ولا شك أن تطور الطباعة(24) في مصر كان حجر الزاوية في النشاط الثقافي وخاصة في ميدان الترجمة والنشر، وفي ميدان هام آخر هو ميدان الصحافة.

أما فيما يتعلق بالصحافة، فقد عرفت مصر نشاطاً صحفياً مميزاً منذ صدور "الوقائع المصرية" 1828م، فقد صدر عدد كبير من الصحف والمجلات طوال القرن التاسع عشر، ومطلع القرن العشرين وصولاً إلى فترة الدراسة(25).

ولا شك أن بعض الصحف والمجلات أدت دوراً بارزاً في التعريف بالفكر الأوروبي، كان في مقدمتها مجلة "المقتطف"(26)، ومجلة "الهلال"(27)، ومجلة "الجامعة العثمانية"(28).

ساهمت هذه المجلات في التعريف بالمذاهب الفكرية والفلسفية والأدبية والعلمية، وسائر ضروب الثقافة الغربية(29)، وعدّها إسماعيل مظهر صاحبة الفضل الأكبر في تطور الفكر العلمي في مصر، بل وعدّها نقطة التحول الأساسية في الفكر المصري الحديث(30).

وتبرز جريدة "الجريدة" الصادرة عام 1907م، بوصفها حاملة لراية الدعوة للفكر الليبرالي. وهي لسان حال حزب الأمة ذي التوجهات الليبرالية المعروفة، وترأس تحريرها أحمد لطفي السيد "فيلسوف" التيار الليبرالي المصري ومنظّره. وعلى صفحاتها برزت أسماء عدد من أكبر رموز التيار الليبرالي كطه حسين، ومحمد حسين هيكل، وعباس محمود العقاد، ومحمود عزمي، ومحمد عبدالقادر المازني، والشيخ مصطفى عبدالرازق(31).

ثم حملت الراية جريدة "السفور" الصادرة عام 1915م، وقد شكّلت حلقة وصل بين "الجريدة، و"السياسة" الصادرة عام 1922م لسان حال لحزب الأحرار الدستوريين، ورصيفتها "السياسة الأسبوعية" الصادرة عام 1926م، وتولى رئاسة تحريرها د. محمد حسنين هيكل.

3-أبرز مفكري التيار الليبرالي في مصر:

ساهمت جهود مشتركة وعبر القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين، في تهيئة البيئة المناسبة لتشكيل تيار فكري يتبنى الدعوة للفكر الليبرالي، وتوطينه في البيئة الفكرية المصرية.

- وتبرز جهود الشيخ رفاعة رافع الطهطاوي(32) (1801-1873م)، ذات أهمية في المساهمة في تعريف القارئ المصري على اتجاهات الفكر الاجتماعي والسياسي في فرنسا، فقد نشر عدداً من الكتب، كان من أبرزها "تخليص الأبريز في تلخيص باريز، أو الديوان النفيس بإيوان باريز" عام 1834م، قدّم فيه فكرة عن الحياة في باريس، وعن الثقافة والعادات والتقاليد والقيم الفرنسية، واعتبره البعض بمثابة حجر الأساس في الفكر الاجتماعي والسياسي المصري، خلال القرن التاسع عشر(33)، كما أصدر في أواخر حياته كتاباً هاماً يمثل النضوج الفكري للطهطاوي، وهو "مناهج الألباب المصرية في مباهج الآداب العصرية" عام 1869، كما ترجم الدستور الفرنسي الذي سماه الشرطة الصادر عام 1814م، ووثيقة حقوق الإنسان، وكتاب "روح القوانين" لمونتسكيو، و"العقد الاجتماعي" لروسو، وغيرها من الكتب، التي تبشر بالقيم والمبادئ الليبرالية(34).

كما قدم لقرائه فكرة عن الدولة العلمانية، ومفهوم الدستور والقانون، وأنماط الحياة الاجتماعية، ومكانة المرأة في المجتمع الفرنسي، وأبدى إعجاباً بالمبادئ الدستورية، ومبادئ حقوق الإنسان، وفقاً للمنظور الغربي، والرابطة الوطنية والتسامح الديني، فقد اجتهد في تقريب صورة الغرب الأوروبي للعقل المصري، ومما لا شك فيه أنه قد شق الطريق أمام بروز التيار الليبرالي في الفكر المصري الحديث(35)، فقد عده بعضهم مؤسس الليبرالية المصرية(36).

- وقد واصل علي مبارك(37) (1823-1893م) متابعة جهود الطهطاوي في حقول الترجمة والتعليم.

وقد ساهم في بروز ما عُرف بالتعليم العلماني أو المدني الحديث الموازي للتعليم الديني الأزهري(38)، وقد أسهم في تعريف المصريين على جوانب جديدة من الحياة في الغرب في روايته "علم الدين"(39)، التي كتبها حوالي سنة 1858م.

- وبعيداً عن التصنيفات القطعية في تحديد الهوية الفكرية لهذا المفكر أو ذاك، فإن جمال الدين الأفغاني(40) (1839-1897م) قام بدور ليبرالي هام خلال فترة مكوثه في القاهرة (1871-1879).

ولا شك أنه ساهم في تهيئة المناخ الفكري الملائم للأفكار التحررية، فقد تبنى الدعوة إلى الحرية، والأفكار الدستورية، والإفادة من منجزات الغرب والتواصل معه، ومكافحة الاستعمار والاستبداد والظلم(41).

وتشكل من حوله جيل من التلامذة والمعجبين(42)، قادوا الحركة الفكرية في مصر، وتزعموا مايسمونه حركة الإصلاح هم وتلامذتهم من بعدهم.

- والشيخ محمد عبده(43) (1849-1905م) يأتي في مقدمة تلامذة الأفغاني وتأتي أهميته في سياق الحديث عن الفكر الليبرالي في مصر، من كونه يمثل مدرسة عصرانية تدعو – كما تزعم - إلى التوفيق بين الإسلام وبين حركة المدنية الحديثة(44)، فكان دوره حاسماً في حركة الثقافة المنفتحة على الغرب وعلومه، ، وهو رائد المنهج العصراني(45) .

لكنه لا يحبذ – مؤقتًا - ترك المجال للاتجاهات العلمانية الصرفة لتسود كل شيء(46).

لكن غالب تلامذته اتجهوا نحو ليبرالية علمانية وفق تطور تدريجي في أعقاب وفاة شيخهم(47)، وشرعت هذه الفئة في نشر مبادئ مجتمع علماني يدعي احترام الإسلام، لكن دون أن يجعله أساساً للحياة الاجتماعية(48) !!

- وقبل مواصلة الحديث عن تلامذة محمد عبده الذين ساروا في الخط الليبرالي، لابد من الإشارة إلى الدور الهام الذي قام به عبدالرحمن الكواكبي(49) (1848-1902م) في صياغة الفكر العربي الحديث، وإسهامه بالذات في محاربة الاستبداد، وكشف مخاطره وعواقبه، واعتباره السبب الرئيس المسؤول عن واقع التخلف الذي تعانيه الأمة.

وقد دافع عن الحرية، والعدالة والمساواة، من منظورمنفتح على التجربة الإنسانية، ولا شك أن هذه الأفكار تشكل جذراً أساسياً في دعم الفكر التحرري الليبرالي.

- ويُعد قاسم أمين(50) أحد أبرز تلامذة محمد عبده الذين جنحوا تدريجياً في مجاراة تيار التغريب، وإن كان اسمه قد اقترن بالدعوة إلى "تحرير المرأة"، فإن جهده الفكري قد اعتبر أحد الروافد الهامة التي صبت في التيار الليبرالي العام.

- ويأتي أحمد لطفي السيد(51) (1872-1963م) لينطلق بعيداً بالفكر الليبرالي في مصر عن النهج التوفيقي لمحمد عبده.

فقد استبعد الإسلام كتشريع وكمرجعية من مشروعه الفكري، وأخذ به كجانب خُلقي وكمرحلة تاريخية من مراحل تكوين الشخصية المصرية(52)، وأبدى إعجاباً شديداً بالفلسفة اليونانية، فعمد إلى ترجمة بعض مؤلفات أرسطو الذي كان من فرط إعجابه به يدعوه "سيدنا أرسطو رضي الله عنه"(53) !!

واعتبره جيل من الشباب المثقف، أستاذاً لهم، فأسموه "أستاذ الجيل"، ذاك الجيل الذي تتلمذ على يديه في "الجريدة" وفي "الجامعة المصرية"(54)، وتلقفوا أفكاره الليبرالية بكثير من الإعجاب والمتابعة(55).

ويكفي أن نعرف أن لطفي السيد هو الذي اشتق التسمية المناسبة برأيه للدلالة على "الليبرالية"، فأطلق عليها اسم "مذهب الحريين" وفضلها على تسميتها بمذهب "الحرية" أو مذهب "الأحرار"، وكان يسميه مذهب "اللبراليزم" أي مذهب أهل السماح. ونادى بجعل هذا المذهب أساساً للنظام السياسي والاجتماعي، ولكل علاقة بين الفرد والمجتمع، أو بين الفرد والحكومة(56).

كما اقترح تسمية حزب الأحرار الدستوريين عند تأسيسه باسم حزب "الحريين الدستوريين"(57).

وإذا كان الإمام محمد عبده يدعم نهجه الإصلاحي التوفيقي بـ"الفكرة" و "الموقف"، من خلال العمل في المؤسسات، فإن لطفي السيد ومعه جيل جديد من الليبراليين مارسوا تعزيز النهج التحديثي الليبرالي، عبر "الفكرة" بالجهد الفكري والثقافي، وعبر "الموقف" بالمشاركة في أجهزة الدولة، كتولي الوزارة، ورئاسة الجامعة وغيرها من مؤسسات التوجيه.

- ويظهر د. منصور فهمي (1886-1958م) (58)؛ كأحد أبرز رموز التيار الليبرالي. تلقى تعليمه العالي في باريس، وناقش في عام 1913م أطروحة الدكتوراه بعنوان "حالة المرأة في التقاليد الإسلامية وتطوراتها"، وهي أول رسالة قدمها مصري في علم الاجتماع.

وقد أشرف عليها المستشرق اليهودي ليفي بريل(59) (1857-1939م)، وتضمنت نقداً لاذعاً لأحوال المرأة في المجتمع الإسلامي، بل ولموقف الإسلام من المرأة، ونهج فيها منهج النقد التاريخي، المتحرر من الالتزام بقدسية الوحي، ومفسراً نصوص القرآن الكريم، والحديث الشريف، وسلوك الرسول عليه السلام وفقاً لمناهج المستشرقين.

وعندما عاد إلى مصر، عمل مدرساً في الجامعة المصرية، لكنه أُخرج منها عندما نشرت الصحف مقتطفات من أطروحته التي كتبها بالفرنسية، ولم يحاول إطلاقاً إعادة نشرها بالعربية، وكان عضواً في "جماعة السفور"، وفي الحزب الديمقراطي المصري، وأحد أبرز كتّاب "السياسة".

لكن منصور فهمي أعاد النظر في كثير من قناعاته الفكرية، فعاد ليبدي تفهماً لحقائق الإسلام بعيداً عن المفاهيم الاستشراقية التي خيمت على فكره في بواكير الشباب، وراح يعبر عن هذا الموقف منذ نهاية عقد العشرينيات، عبر مقالاته الصحفية، ونشاطه الفكري العام(60).

- ولا يمكن استكمال صورة الفكر الليبرالي في مصر دون التوقف مطولاً مع تجربة د. محمد حسين هيكل(61) (1888-1956م)، فقد تتلمذ في السياسة والفكر على لطفي السيد، وفي باريس انفتح على الثقافة الأوروبية بكل تجلياتها، وأبدى إعجاباً بها وحماساً كبيراً نحوها(62)، وساهم في صياغة الفكر الليبرالي في مصر عبر ترجماته المتعددة في الأدب الفرنسي خاصة لأناتول فرانس(63)، وعبر مؤلفاته، وكان من أهمها "جان جاك روسو: حياته وأدبه" (1921-1923م). وإن كان جهده الفكري والثقافي الأبرز في رئاسة تحرير "السياسة"، أبرز منابر الفكر الليبرالي في مصر خلال هذه المرحلة(64).

وإذا كان د. هيكل من أجرأ من عبّر عن أفكاره التحديثية الليبرالية، فإنه أيضاً تمتع بقدر عالٍ من الجرأة في التعبير عن مراجعات فكرية عميقة وجذرية إلى حد ما، في مرحلة العودة إلى الإسلام أو إلى "التوفيقية"(65) في عقد الثلاثينيات، لقد استفزته الهجمة التبشرية على مصر(66)، فتصدى لها(67).

وبدأت المقالات الإسلامية تجد سبيلها للنشر على صفحات "السياسة"(68)، وانطلق يؤلف في الدراسات الإسلامية، فأصدر "حياة محمد" (1932-1935م)، و"في منزل الوحي" 1936م، كما عبر بصراحة عن خيبة أمل عميقة بالحضارة الغربية، وبسياسات الغرب، وبفرص نجاح الثقافة الغربية في البيئة المصرية والعربية(69).

- ويعد د. طه حسين (1889-1973م) (70)، من أبرز دعاة الليبرالية والتحديث في هذه المرحلة، فبعد أن درس في الأزهر (1902-1908م)، غادره إلى الجامعة المصرية، فغادر بذلك ثقافة الأزهر ليتجه في طريق الثقافة الغربية المسيطرة في الجامعة المصرية، ولما انتقل للدراسة في باريس تعمّق التوجه نحو الغرب الثقافي في وجدان طه حسين وعقله.

أبدى اهتماماً بالفكر الاجتماعي منذ أن أعد أطروحته لنيل درجة الدكتوراه في جامعة السوربون عام 1918م، بعنوان "فلسفة ابن خلدون الاجتماعية" بإشراف عالم الاجتماع اليهودي إميل دور كهايم(71) (1858-1917م)، كما أبدى اهتماماً بالفلسفة اليونانية، والفلسفة والفكر الأوروبيين الحديثين. وارتبط بصداقة فكرية وسياسية حميمة مع أحمد لطفي السيد، كما ارتبط بحزب الأحرار الدستوريين، ثم تحول في مطلع الثلاثينيات نحو الوفد(72).

سخّر طه حسين كل جهوده الفكرية والأدبية والأكاديمية والسياسية، لخدمة الفكر الليبرالي الغربي الذي آمن به، ووقف حياته للدعوة للمفاهيم والقيم الليبرالية، وانخرط طويلاً في معركة "القديم والجديد"(73).

وكثيراً ما لجأ إلى الاستفزاز والإثارة، عندما كان يعمد إلى مصادمة الناس في معتقداتهم الدينية، كما فعل في كتابه "في الشعر الجاهلي"، وظلت تطارده تهمة تقديم "دراسات إلحادية" لطلبته في الجامعة، وتسببت في إخراجه من الجامعة عام 1931م(74)، لكنه ساهم في الحملة على النشاط التبشيري في مصر(75).

وأصدر في ديسمبر 1033م كتابه على "هامش السيرة"، وقد أتى متزامناً مع دراسات هيكل في السيرة.

لكن طه حسين لم يظهر شيئاً من المراجعة الفكرية كهيكل، ويصرح بأن هذه الدراسة تأتي في إطار تقديم الدراسات الأدبية الترفيهية، التي تقرّب صورة الأدب العربي القديم للشباب، وتقدم ترفيهاً للنفوس المتعبة؛ فيقول:

"وأحب أن يعلم هؤلاء أن العقل ليس كل شيء، وأن للناس ملكات أخرى ليست أقل حاجة إلى الغذاء والرضا من العقل، وأن هذه الأخبار والأحاديث إذا لم يطمئن إليها العقل، ولم يرضها المنطق، ولم تستقم لها أساليب التفكير العلمي، فإن في قلوب الناس وشعورهم وعواطفهم خيالهم وميلهم إلى السذاجة، واستراحتهم إليها من جهد الحياة وعنائها، ما يحبب إليهم هذه الأخبار ويرغبهم فيها، إلى أن يلتمسوا عندها الترفيه على النفس حين تشق عليهم الحياة، وفرق عظيم بين من يتحدث بهذه الأخبار إلى العقل على أنها حقائق يقرها العلم وتستقيم لها مناهج البحث، ومن يقدمها إلى القلب والشعور على أنها مثيرة لعواطف الخبر، صارفة عن بواعث الشر، معينة على إنفاق الوقت واحتمال أثقال الحياة وتكاليف العيش"(76).

كما أنه نشر في الفترة نفسها كتابة "من بعيد" وهو عبارة عن مجموعة مقالات كتبها خلال أعوام (1923-1930م)، وصدرت الطبعة الأولى منه عام 1935م، وهو لا يشير إلى أي تحول فكري عن الخط السابق.

ثم أصدر كتابه الأخطر وهو "مستقبل الثقافة في مصر" عام 1937م، وهو أوضح تعبير عن مشروع طه حسين الفكري القائم على التغريب، والعلمانية الصرفة(77).

- أما عباس محمود العقاد (1889-1964م) (78)، فقد أسهم بجهد فكري معتبر في دعم الفكر الليبرالي، وفي الدفاع عن توجهات الوفد الفكرية والسياسية، فقد بقي طيلة الفترة (1923-1935م)، يكتب المقال الافتتاحي في الصحافة الوفدية.

فقد آمن العقاد بالديمقراطية الليبرالية، ودافع عن الحرية، وتصدى في هذه المرحلة للفكر الاشتراكي وللشيوعية، ودافع بحرارة عن موقف الوفد الرافض لفكرة الخلافة، ولعقد مؤتمر الخلافة، ولتطلعات الملك فؤاد في هذا الشأن.

كما دافع بقوة عن التوجهات العلمانية للوفد، لكنه اختلف مع الوفد وخرج عليه شعوراً منه بأنه الوفد يساوم على مبادئ الديمقراطية الليبرالية(79)، كما أنه لم يكن من دعاة التغريب.

- ولعله ليس من الممكن ونحن نتحدث عن رموز التيار الليبرالي في مصر تجاهل إسماعيل مظهر (1891-19629) (80)، وهو صاحب فكرة إنشاء "حزب الفلاح" عام 1929م. وهو برنامج ليبرالي بمسوح اجتماعية أو اشتراكية مبهمة، يهدف إلى حل مشاكل الفلاح المصري، تقدم بهذه الفكرة للنحاس باشا "زعيم الأمة"، زعيم الوفد للنهوض بها وتنفيذها، لكن الوفد تجاهل الفكرة(81).

4-أبرز الأحزاب الليبرالية في مصر:

يمكن القول بأن مصر عرفت ثلاثة أحزاب ليبرالية خلال فترة الدراسة، هي الحزب الديمقراطي المصري (1919-1922م)، وقد أُشير في الفصل الأول إلى هذا الحزب وجذوره وكيف انتهى إلى الانخراط في حزب الأحرار الدستوريين.

أما الحزبان الآخران فهما حزب الأحرار الدستوريين (1922-1953م)، وحزب الوفد، وكنا قد تحدثنا عن دورهما في العملية السياسية في مصر أثناء فترة ما بين الحربين، وهنا نلقي ضوءاً على هويتهما الفكرية.

انتهج الحزبان الأيديولوجية الليبرالية نفسها، واختلفا في الشكل دون المضمون، وهو اختلاف قائم على صراعات شخصية، وعلى صراع سياسي، وتنافس حزبي ليس أكثر.

وكان الحزبان قد انطلقا من جذر فكري واحد هو مدرسة محمد عبده. ثم تبلورت الاتجاهات الليبرالية لديهما بمرور الوقت طيلة العقدين الأولين من القرن العشرين، في إطار حزب الأمة، ومدرسة "الجريدة"، ثم في "جماعة السفور" و"الحزب الديمقراطي المصري" وفي "الوفد المصري".

وتعمق الاتجاه العلماني في وجدان هؤلاء وخطابهم، في مطلع العشرينيات، بزيادة حدة الموجة العلمانية التغريبية التي اجتاحت مناحي الحياة المختلفة، وراحت تطيح بكثير مما تعارف عليه المجتمع من قيم وأفكار.

وقد استظلت هذه الموجة بغطاء الهيمنة الاستعمارية، التي فرضت نفسها على مصر والمنطقة من حولها(82)، كما استوحت الليبرالية المصرية الكثير من النموذج التغريبي الجاري على قدم وساق –آنذاك- في تركيا(83).

لقد نظر الليبراليون في مصر بانبهار وإعجاب إلى التجربة العلمانية في تركيا، وظهر جدل فكري هام بين التيارات المختلفة تعقيباً على ما يجري في تركيا.

وظهر في الصحافة المصرية آلاف المقالات والتحقيقات حول التجربة الكمالية إعجاباً وتأييداً، أو انتقاداً وتحذيراً، لكن التيار الليبرالي أبدى إعجاباً شديداً بهذه التجربة(84).

وراح الليبراليون يثيرون في مصر نفس القضايا التي كانت تُثار في تركيا، كالخلافة، وتغريب التعليم، والتشريع والثقافة والأدب، والأزياء، والحروف اللاتينية والمطالبة بإلغاء الوقف، وإلغاء الإفتاء، والأخذ بالزواج المدني(85).

- وظهر حزب الأحرار الدستوريين كحزب للصفوة الاجتماعية والثقافية وكمدافع عن مبادئ الحرية والدستورية –كما يوحي بذلك اسمه-وكمؤمن بمبادئ العلمانية الشاملة، واعتبرت "السياسة" لسان حاله منبراً للفكر الليبرالي.

ويمكن تحديد ملامح الرؤية الفكرية للحزب بقراءة العناوين البارزة لقانون الحزب الصادر عند تأسيسه في الثلاثين من تشرين أول 1922م، حيث وضع الحزب لنفسه مبادئ يسعى لتحقيقها، وهي تتعلق بتأييد النظام الدستوري، وتطوير الحياة النيابية، والحكم المحلي، والدفاع عن حقوق الفرد وحريته، ومحاربة الأمية ونشر التعليم، وتطوير اقتصاد البلاد، وتشجيع القطاع الخاص والاستثمار الأهلي، وتوزيع الضرائب توزيعاً عادلاً وحماية الصناعة المصرية، وترقية الزراعة وإصلاح وسائل الري والصرف والسعي إلى تخلي الحكومة عما تحت يدها من الأطيان للأفراد (ولا يحدد من هم؟ هل هم الأغنياء أم الفقراء؟)، وتنظيم العلاقات في المصانع والمتاجر بين العمال وأرباب العمل على قاعدة العدل اتقاءً للأمراض الاجتماعية الناشئة من تحكم أحد الفريقين.

والمقصود هنا التحذير من تفشي الاشتراكية(86)؟

لكن البون كان شاسعاً بين الفكر والممارسة، كما اتضح من دوره في العملية السياسية، وقد عبر عدد من المفكرين عن الرؤية الفكرية للحزب، كان في مقدمتهم أحمد لطفي السيد، ود. محمد حسنين هيكل، ود. طه حسين، ود. محمود عزمي(87)، ود. منصور فهمي، وناصرهم الشيخان، مصطفى عبدالرازق وعلي عبدالرازق، ونفر من المفكرين والكتاب(88).

- أما حزب الوفد فقد آمن بالوطنية العلمانية، واستندت أيديولوجية إلى جملة مبادئ أساسية في تحقيق الاستقلال، وصون الوحدة الوطنية، والحكم الدستوري الذي يصون الحريات الفردية والعامة(89)، وحرص الوفد على المحافظة على صفته التمثيلية العامة للشعب، وعلى صورته كحزب جماهيري، مدافع عن الدستور وعن الشعب. ويمكن القول أنه في هذا المجال تفوق على خصمه السياسي الأبرز حزب الأحرار الدستوريين(90).

ومع حرصه على النهج العلماني الخالص في شؤون الحكم والسياسة، فإنه لم يلجأ إلى مصادمة الناس في عقائدهم الدينية، وما تعارفوا عليه من قيم وأنماط سلوك.

وفي نهاية فترة الدراسة، نجد الخطاب الوفدي يتطرف لجهة العلمانية في مواجهة صعود الاتجاه الإسلامي، في الوقت الذي كان فيه منظّرو حزب الأحرار الدستوريين يميلون نحو الاعتدال النسبي(91)، واقترن ذلك بهجوم كاسح على الفكر الاشتراكي، ومنظمات اليسار المختلفة.

وهكذا يتطرف الوفد علمانياً وليبرالياً ليتصدى للتيار الإسلامي المتنامي وللفكر الاشتراكي محدود الانتشار(92).

وقد دافع لفيف من ألمع كتّاب المرحلة، عن هذه الرؤية الفكرية للوفد، كأحمد أمين، وعباس العقاد، وتوفيق الحكيم، وعبدالقادر المازني، ثم التحق بهم طه حسين بعد اختلافه مع الأحرار الدستوريين عام 1932م(93).

أما سعد زغلول (1857-1927م) فقد كان زعيماً سياسياً ورجل دولة، أكثر منه مفكراً .

البحث في أسباب التخلف وأسس التقدم :

انشغل الفكر العربي الحديث كثيراً في البحث في أسباب تخلّف المجتمع العربي، وأسس تقدمه ونهوضه، منذ الطهطاوي، والأفغاني وعبده، والكواكبي وغيرهم، وتعددت الاجتهادات والرؤى في الإجابة على السؤال الكبير؛ "لماذا تأخرنا؟ ولماذا تقدم غيرنا؟" (94).

وبذلت جهود كبيرة في الإجابة على هذا السؤال، ويرى د. علي محافظة "أن المفكرين العرب في عصر النهضة انقسموا إلى فريقين في تحليلهم أسباب تخلف أمتهم، فريق السلفيين الذين أرجعوا هذه التخلف إلى ابتعاد المسلمين عن الدين القويم، وفريق الليبراليين الذين حاولوا الغوص في تراث الماضي وأوضاع الحاضر، وتحري التطورات السياسية والقيم الاجتماعية والأوضاع الاقتصادية التي أدت إلى هذا التخلف"(95).

وإذا كان من الصعب الإضافة إلى الجهود السابقة التي استعرضت وحلّلت مواقف المفكرين العرب في عصر النهضة من هذه المسألة(96)، فإن المهم هنا هو التركيز على أبرز ما قدّمه التيار الليبرالي من معالجات في هذه المسألة وخلال مرحلة ما بين الحربين العالميتين.

مع ضرورة الإشارة إلى أن رؤية الليبراليين المصريين لأسباب التخلف، تظهر بشكل أوضح من خلال عرض رؤيتهم لأسس التقدم وتحليلها.

كما تظهر أيضاً في معالجتهم لمسائل الحرية والعلمانية ودور الدين في المجتمع، وسلطة العقل والعلم، والعلاقة مع الغرب، وقضية المرأة، والعدالة الاجتماعية، والآفات والأمراض الاجتماعية، ولكننا سنعرض هنا لرؤيتهم لأسس التقدم وعلى النحو الآتي:

1-الدعوة إلى الحرية:

كان من الطبيعي أن يهتم الليبراليون بالدعوة إلى الحرية، والإعلاء من أهمية هذه القيمة، والدفاع عنها، واعتبار غيابها والاعتداء عليها أحد أركان التخلف، واعتبار التمسك بها أسّ التقدم والنهوض(97)، ليس من الغريب كل هذا ، فهي جوهر فكرهم، بل واتخذوا منها اسماً عليهم.

وهذا أحمد لطفي السيد يجعل فقدان الحرية أسباب التخلف، كما أن الاستبداد أصل الرذائل، معيداً جميع ما تعانيه مصر من "سوء الحال" إلى "نقص الحرية" مؤكداً "فنحن المصريين أحوج ما تكون لتوسيع ميدان العمل لحرية الفرد، حتى يسترجع ما فقد من الصفات الضرورية للرقي المدني"(98). وإذا كان السيد هو فيلسوف التيار الليبرالي المصري ولديه هذا الإيمان بقداسة الحرية الفردية، فمن المنتظر أن يعبر تلامذته عن إيمانهم بالحرية الفردية واحترامها، والدافع عن الحريات العامة والدستور والحكومة النيابية، وسلطة الأمة، والحد من سلطة الدولة(99).

اهتم الليبراليون بالدفاع عن الحرية الفكرية(100)، فهذا مصطفى عبدالرازق يؤكد بأن الدين "قد كفل للإنسان أمرين عظيمين طالما حُرم منهما، وهما استقلال الإرادة، واستقلال الرأي والفكر "كما أكد" أن الذين يخدمون الحرية الفكرية، هم خُدّام الحق وأنصاره"، جاء هذا في إطار دفاعه عن السياسة وما يُنشر فيها من مقالات، قادت البعض إلى اعتبارها ترويجاً للإلحاد، في حين اعتبرها هو دفاعاً عن حرية الفكر، وهذا ما لا يخالف الدين برأيه(101).

لكن د. محمود عزمي أحد أبرز الكتّاب الليبراليين في الصحافة المصرية آنذاك وهو يدافع عن حرية الرأي والعقيدة، راح يؤكد على صفحات الهلال "أن الدستور المصري قد أطلق حرية الاعتقاد، وكفل الجهر به وأباح الإلحاد لمن يشاء"(102) !!

مما يعني أن الدستور قد كفل حرية الرأي والتعبير والاعتقاد؛ فلا يجوز مخالفته.

ودافع علي عبدالرازق عن التفكير الحر، وحرية التعبير، مبيناً أن المعضلة في مصر ليست في إنتاج الفكر، ولكن في توفر الشجاعة لدى المفكرين للتعبير الحر عن أفكارهم، مؤكداً أن نظام الحياة الاجتماعية في مصر "من أكبر العوائق، دون أن يصل المصريون إلى التفكير الحر، في أي نوع من أنواع الحياة،"، كما أن من أكبر أسباب عيوب الشخصية المصرية "فقدان الحرية، حرية التفكير وحرية العمل"، فهو يعتقد "أن ظلم الحرية في مصر واضطهادها، وحدهما أساس ما في الخُلق المصري من ضعف وانحلال، وأنه لا سبيل لإصلاح الخلق المصري إلا أن يعيش المصريون أحراراً.

وهو يطالب بالإصلاح السياسي المفضي إلى الإصلاح الخلقي "إذ أن الحكومة الحرة العادلة هي التي تربي حرية الفكر، وهي التي تربي الخلق المصري، وهي التي تنهض بالأمة المصرية"(103).

- وإذا كان إسماعيل مظهر يعتقد بأن الشعب اليوناني القديم هو أرقى شعب أقلّته الأرض من حيث النضوج الفكري، وأن "الإنسان لم يرتق منذ العصر اليوناني الأول حتى اليوم في الكفاءات العقلية" فإنه يُرجع كل هذا التفوق الذي أسبغه على اليونان وحضارتهم، إلى "بروز الذاتية الفردية واستقلالها فكراً وعملاً وبعدها عن التأثر بحياة الجماهير، لذلك فإنه لا يطمئن لمستقبل الإنسان "إلا إذا تبدلت جماعات المدنية الحديثة في نظامها الحاضر السائدة فيه روح الجماهير بنظام يكفل حرية الفرد وينمي كفاياته ومواهبه"(104).

- أما العقاد، فيرى بأن حرية الفكر هي حرية التعبير عن "الشخصية الإنسانية" بكل ما تشمل من حس وإدارك وخلق ومزاج ومجهود، وهي –عنده- تساوي حرية الحياة، "فسيان أن تمنع الإنسان أن يحيا، وأن تمنعه أن يفكر ويستوفي جوانب الشخصية التي تبلغ تمام مظاهرها في التمييز والتفكير، وهو يعتقد بأن حماية الحرية الفكرية هي حماية من غوائل الذل والنفاق والغباء(105).

لكن العقاد وهو ينادي بحرية الفكر كان قد طالب فيما مضى بتوضيح مفهوم حرية الفكر "إننا نريد أن نكون أحراراً في طلب الحرية لئلا نطلبها كما يطلبها العبيد المسخرون. فمن تلك الحرية التي نريدها أن نعرف حدود حرية الفكر نفسها. وهو يرفض أن تكون "حرية الفكر" مجرد مجاراة لكل جديد، فهذه الحرية ضرب آخر من الجمود لا نريدها لمصر ولا نفضلها على عبادة القديم الذي ننعاه على المقلدين" ويأتي كلامه هذا في سياق تعليقه على كتاب سلامة موسى "حرية الفكر"، وكأنه به يعرّض بنهج سلامة موسى القائم على الدعوة لكل "صرعة فكرية تظهر في الغرب بحجة حرية الفكر؛ فيقول العقاد: "ولسنا أحراراً حين تدور مع الأفكار الطارئة كما يدور طلاب الأزياء مع كل عارضة تروج وكل خاطرة تعنّ في الأذهان"(106).

- ومن المؤكد أن التيار الليبرالي يؤيد فكرة الديمقراطية، والنظام النيابي الديمقراطي، ويجعلها محور النظام السياسي الذي يرتجيه، فهذا د. هيكل يعتقد بأن الديمقراطية ملائمة للمزاج المصري، وأنها أفضل أنظمة الحكم بالنسبة للبيئة المصرية، وذلك –في نظره- لأنها تدعو إلى ما دعت إليه تعاليم الإسلام "من حقوق الأفراد في حرية الفكر وفي التعليم وفي السعي والعمل" كما أن "طبيعة هذه البلاد تتفق مع هذه التعاليم وتعاون عليها" وعليه "فلا مفر من أن تكون ثقافتنا الثقافة الديمقراطية"(107).

- والديمقراطية عند طه حسين، هي "التي يتحقق فيها التوازن على نحو ما بين الفرد والجماعة، والتي ترعى حقوق الفرد، وما بين الشخصية الفردية، والشخصية الجماعية"(108)، وتصدى على عبدالرازق للتوفيق بين الديمقراطية والإسلام(109).

- لكن الفكرة الديمقراطية النيابية، لم تكن بمعزل عن النقد في الفكر الليبرالي المصري، ففي ظل الاعتداء على أصول قواعد النظام الديمقراطي النيابي، من قبل حزب الأحرار الدستوريين، نجد أحد أبرز كتابه، وهو د. محمود عزمي، يطعن في هذا النظام وكأنه يبرر اعتداء الحزب عليه، فهو بالرغم من إقراره بأن الديمقراطية هي النظام الأصلح للحكم، فإنه يعتقد بأن الديمقراطية الحقة هي "حكم الأمة بالأمة"، لا حكمها بطائفة معينة من أبنائها، مهما كان عددهم، ولأن حزب الأحرار كان يشكك في وعي الناخبين الذين يمنحون الوفد الأغلبية المطلقة في كل انتخابات نيابية نزيهة، نجد د. عزمي ينادي بفكرة "الأرستقراطية العقلية" بحيث يكون وزن أصوات الناخبين متفاوت بمقدار ثقافتهم، وبمقدار ما يملكون من "أملاك مادية منتجة"، وهذا –في نظره- يخلّص النظام السياسي من أرستقراطية المال والجاه الموروث وحده(110)، فتكون بذلك أرستقراطية مبنية على الثقافة والمال. وهكذا فالمطلوب هو الديمقراطية الأرستقراطية في مواجهة ما تعانيه مصر من الديمقراطية الشعبية الوفدية، على حد رأي الأحرار الدستوريين.

أما إميل زيدان، رئيس تحرير "الهلال" فيطالب بإعادة النظر في الديمقراطية "فميراث الثورة الفرنسية قد أصبح رثاً، وكلمات الحرية والإخاء والمساواة قد بُليت، بل كادت تصبح جوفاء لا يتفق وقعها ونغمات هذا الزمان الصاخب العنيف"، ويرى أن النظام الدستوري المصري المقتبس عن الغرب، لم يعد ملائماً "لبيئتنا وعقليتنا وأحوالنا الخاصة"، فما هو المطلوب؟ المطلوب عند زيدان، هو أن تتجه مصر في نظامها الدستوري "يساراً"، نحو تغليب نزعة الحكم لمصلحة سواد المحكومين لا لمصلحة طائفة منهم(111)، إذاً المطلوب هو الديمقراطية الاجتماعية، التي تراعي مصالح الفئات المسحوقة.

- أما الموقف الليبرالي من الحرية الاقتصادية فسيظهر حين الحديث عن العدالة الاجتماعية.

2-الدعوة إلى العلمانية والعقلانية:

وفي تحليلهم لأسباب تخلف المجتمع المصري، يعبر الليبراليون من طرف خفي أحياناً، أو بصراحة ووضوح عن اعتقادهم بأن الدين أو على الأقل أسلوب فهمه وتطبيقه، كان من الأسباب الهامة التي تقف وراء هذا التخلف!!

وفي وجدانهم الكثير من الإعجاب بالتجربة الأوروبية، في الفصل بين الدين والحياة، ويتطلعون إلى تقليد هذه التجربة، كما تستفزهم التجربة العلمانية في تركيا، وتشغفهم إعجاباً وإلهاماً(112).

ولعل المعركة الفكرية التي شهدتها مصر، بعد إلغاء الخلافة العثمانية في آذار عام 1924م، وما أثير من مواقف واجتهادات حول إحياء الخلافة، والدعوة لعقد مؤتمر الخلافة، وصدور كتاب "الإسلام وأصول الحكم" لعلي عبدالرازق عام 1925م(113)، هي في الحقيقة تعبير عن طبيعة نظرة هذا الطرف أو ذاك، للعلاقة بين الدين والحياة، ولدرجة سلطة الدين على الدولة والمجتمع والفرد.

إن جوهر الفكرة التي دافع عنها علي عبدالرازق في كتابه، هي الفصل بين الدين والدولة، وأن الإسلام دين لا دولة، وأن نظام الخلافة لا صلة له بالإسلام، وهذا تنظير للعلمانية، وتوطين لها في البيئة الإسلامية، ومن خلال تأصيل إسلامي مزعوم، لكنه صادف رأياً عاماً رافضاً وساخطاً، نظراً لطبيعة الظرف التاريخي الذي جاء فيه الكتاب.

أما التيار الليبرالي فقد رحّب بالكتاب ودافع رموزه عن الكاتب والكتاب بحرارة، على اعتبار أن القضية تمس حرية التفكير والتعبير، وإن كان سعد زغلول قد تحفّظ على آراء الكاتب بل عارضه فيما ذهب إليه من آراء(114).

لكن هذا لا يعني أن "الوفد" قد تخلّى عن "ليبراليته"، وأصبح من دعاة "الخلافة الإسلامية"، فقد كان كما هو متوقع ضد فكرة المؤتمر، وضد سعي فؤاد للخلافة، وضد إضفاء أية صبغة "دينية" إسلامية على نظام الحكم في مصر، ومع المحافظة على طابعه الدستوري الليبرالي.

وقد كتب عدد كبير من الوفدين في تأييد أفكار الكتاب، وفي مساندة حرية الرأي والتعبير، ونادى أحمد حافظ عوض رئيس تحرير "كوكب الشرق" الوفدية بتآزر الأحرار أمام الأفكار الرجعية، التي تمسّ الدستور وما كفله من الحريات العامة.

وكتب بعضهم في جريدة السياسة يثنون على موقفها من القضية(115)، لكن حزب الأحرار الدستوريين ومفكريه وصحافته وقفوا موقفاً أكثر حماساً في الدفاع عن الكاتب والفكرة(116)، وعن قضية حرية الرأي، وقد تسبب هذا الموقف في أزمة وزارية أدت إلى خروج وزراء الحزب من وزارة زيور الثانية(117).

وعمدت "السياسة" في دفاعها عن الآراء الواردة في الكتاب، إلى ربطها بآراء الأستاذ محمد عبده، حول الخلافة، لإظهارها كامتداد طبيعي لأفكار الأستاذ (118)، وبرز رئيس تحريرها د. هيكل في مقدمة المنافحين عن آراء علي عبدالرازق وحريته في التعبير عنها، وكتب عدداً من المقالات في هذا الصدد، وسانده كل من طه حسين، ومنصور فهمي، ومحمود عزمي، وعبد القادر المازني، وجوهر دفاعهم تركز على مسألة حرية إبداء الرأي والتعبير عنه(119).

لربما يمكننا القول بأن قضية كتاب علي عبدالرازق، كشفت الكثير من توجهات التيار الليبرالي حول دور الدين في الحياة، وحول موقفهم من علمانية الدولة والمجتمع، وهذه التوجهات ظل رموز هذا التيار يعبرون عنها، بدرجات متفاوتة من الصراحة والحدة.

- وقبل أن تخمد نيران هذه المعركة، نشبت معركة فكرية جديدة، بطلها هذه المرة د. طه حسين، فقد أصدر في العام 1926م كتاب المثير للجدل "في الشعر الجاهلي"(120).

إن الرؤية الفكرية التي وقفت خلف إصدار هذا الكتاب، تتمثل في سعيه إلى ترسيخ المنهج العلماني في الفكر والبحث والسياسة والاجتماع، فقد حاول طه حسين تطبيق منهج الشك الديكارتي، على الموروث الحضاري برمته، وهو يدعو إلى الإطاحة بكل المقدسات، وإخضاع كل شيء لهذا المنهج، وحتى النص القرآني فقد شكك في صحة قصة إبراهيم عليه السلام وولده إسماعيل وبنائهما الكعبة المشرفة(121)، إذ يقول: "للتوراة أن تحدثنا عن إبراهيم وإسماعيل، وللقرآن أن يحدثنا عنهما أيضاً، ولكن ورود هذين الاسمين في التوراة والقرآن لا يكفي لإثبات وجودها التاريخي، فضلاً عن إثبات هذه القصة التي تحدثنا بهجرة إسماعيل بن إبراهيم إلى مكة ونشأة العرب المستعربة فيها"(122).

لقد انقسم التيار الليبرالي على نفسه، في هذه القضية أيضاً، كما حدث في القضية السابقة، فقد وقف حزب الأحرار الدستوريين وصحافته ورموزه الفكرية، إلى جانب المؤلف وحريته في البحث والتفكير والتعبير.

أما حزب الوفد فقد وقف رسمياً ضد الأفكار الواردة في الكتاب، ورفض المسّ بمعتقدات المصريين ومقدساتهم تحت أية حجة أو ذريعة، واحتفت صحافة الوفد بمحاكمة طه حسين ومصادرة كتابه وإخراجه من الجامعة(123)، واتهمت المدافعين عن الكاتب والكتاب بالإلحاد(124).

دافع د. طه حسين عن الرؤية الفكرية التي وقفت خلف الكتابين، "الإسلام وأصول الحكم" و"في الشعر الجاهلي" وأبدى إصراراً على مساندة تلك الرؤية، وعدم التراجع عنها، وجعل ما أثير حول الكتابين مظهراً من مظاهر الصراع بين الدين والعلم، مؤكداً انتفاء الأمل في تفاهمهما، ومؤمِّلاً في أن ينصرف كل منهما إلى ميدانه الخاص به تاركاً المماحكة بالآخر، ومؤملاً خروج "السياسة" من إطار الخصومة بين الدين والعلم، متهماً السياسة بسعيها إلى استغلال هذا الصراع، وتوجيهه لخدمة غاياتها.

وقدّم طه حسين مرافعة طويلة لإسناد ما ذهب إليه من أبدية الصراع بين الدين والعلم(125)، ودافع عن علمانية الدولة الحديثة، وأنها دولة وطنية لا شأن لها بالدين، وهذا ما يجب أن تحرص عليه الدولة المصرية لتكون "حديثة"، ومن هنا فهو يعترض على ما نص عليه الدستور المصري 1923م، من أن الإسلام دين الدولة الرسمي، واعتبره نصاً غير ضروري، وغير ذي فائدة أو غرض، وأنه أصبح "مصدر فرقة لا نقول بين المسلمين وغير المسلمين من أهل مصر، فقد رضيت القلة المسيحية وغير المسيحية هذا النص ولم تحاور فيه، ولم ترَ فيه على نفسها مضاضة أو خطراً، وإنما نقول أنه كان مصدر فرقة بين المسلمين أنفسهم، فهم لم يفهموه على وجه واحد، ولم يتفقوا في تحقيق النتائج التي يجب أن تترتب عليه" !! وهو يقصد الخلاف بين فريقين "أحدهما المستنيرون المدنيون، والآخر شيوخ الأزهر ورجال الدين"(126).

وفي هذا السياق نادى بضرورة تحجيم دور الأزهر في الحياة السياسية، والنظر إليه كمعهد من معاهد التعليم، لا أكثر ولا أقل.. (127)

ويجتهد الليبراليون في ترسيخ النهج العلماني، ومحاربة "التفكير الديني" -بزعمهم- واتهام الفكر الإسلامي بأنه فكر غيبي لا يصلح لهذه الحياة !!

فهذا إسماعيل مظهر، يرى بأن الإنجاز الأهم في سبيل تحقيق التقدم هو "نقض العقلية الغيبية"، ويسميها أيضاً "العقلية الشرقية"، فهي سبب التخلف، ذلك أنها "لا تلائم مزاج هذه الحياة"، كما أنها "لا تتسق وحاجات هذه الحياة الدنيا"، وهي "تلائم من كل نواحيها الحياة الأخرى، نكران لكل مطالب الحياة، وتواكل على القضاء والقدر، واستسلام صرف لما سوف يأتي بها الغد، وإغفال محض لمواعظ الماضي وعظاته"(128).

ولم يفتأ ينادي بالمصريين أن يتخلصوا من "الأسلوب الغيبي" في التفكير، وأن ينتقلوا إلى "الأسلوب اليقيني"، بل إن مصر –برأيه- خطت في سبيل الخروج من ظلمات الأسلوب الغيبي إلى وضح الأسلوب اليقيني، وهذه الخطوة "سوف تقودنا سعياً إلى ميدان يتصادم فيها الأسلوبان تصادماً يثير في جو الفكر عجاجة ينكشف غبارها عن الأسلوب الغيبي وقد تحطّمت جوانبه واندكت قوائمه، وتترك الأسلوب اليقيني قائماً بهامة الجبار القوي الأصلاب مشرقاً على الشرق، وقد هبّ من رقاد القرون ليسير في الدرب الذي مهدت سبله للأنام نواميس النشوء والارتقاء"(129).

ووقف إسماعيل مظهر حياته للترويج للنظرية التطور الدارونية، منذ أن أصدر كتابه "ملقى السبيل في مذهب النشوء والارتقاء" كما سخّر مجلة "العصور"، للدعوة للفكر الإلحادي، وتقديمه للقارئ في إطار الدافع عن حرية الفكر والعقيدة وحرية الرأي والتعبير.

وحدد إسماعيل مظهر وجهة "العصور" في افتتاحية العدد الأول، بأنها مكرّسة للدفاع عن الفكر الحر، متحررة من جميع الآراء والنظريات المسبقة، التي طالما قيّدت الكتّاب ومنعتهم عن قول الحقيقة بحرية، وأن هدفها النهائي التنديد بأنماط الفكر الدينية والتقليدية(130).

ويؤكد د. طه حسين على ضرورة اقتباس "العقلية" ويعني بها طريقة التفكير عند الغرب(131)، والإعلاء من شأن العقل وسلطته، في مواجهة أية سلطة أخرى، والنظر إلى كل الأمور نظرة عقلية.

وقد أكد د. هيكل على هذا المضمون بتأكيده أن "العقل والعلم"، هما السبيل لتحقيق السعادة التي تنشدها الإنسانية عموماً، ولذلك فإن كل الشؤون الروحية والأخلاقية والاجتماعية يجب أن تخضع لسلطة العقل والعلم، واعتبارها المرجعية الحاكمة لكل تصرفاتنا(132)، مبعداً أي دور للدين في صياغة هذه المرجعية.

ويتفق محمد زكي عبدالقادر مع هذه الدعوة، فينبّه إلى "أن نهضتنا ينقصها الروح العلمي، وما دامت كذلك فهي نهضة عرجاء فقدت الجانب المنتج، وبقيت لها المظاهر التي لا تقدم ولا تؤخر شيئاً"، ويشير إلى أوروبا –رمز الإلهام- واحترامها للعلم والعلماء، إذ نجد أن "الروح العلمي متغلغلاً عميقاً لا بين طبقة معينة أو في بيئة خاصة، ولكن بين جميع الطبقات، وفي كل البيئات" وهذا –عنده- يقف وراء "نهضة حقّة تقوم على دعائم ثابتة"(133).

أما إسماعيل مظهر داعية نظرية التطور؛ فإنه يدعو إلى جعل العلم أساساً للنهضة، لأن "العلم حر مطلق من القيود، لا يؤمن إلا بعد شك، فإذا آمن كان إيمانه راسخاً وطيداً، هذا خلق العلم، وهذا هو الخلق الذي يغرسه الإيمان الثابت بكل ما ينزل من العقل منزلة الاحترام والتقديس".

كما أنه مؤمن بأن "من شأن العلم أن ينظم العقل وينظم الشهوات وينظم المطامع. ذلك بأن العلم يقوم على حقيقة أساسية هي تنظيم الصلات القائمة بين الحقائق تنظيماً يحدد لكل حقيقة منها موضعها الخاص الذي تشغله في نظام الأشياء" وهو يتخذ من شعار "العلم" سبيلاً للدعوة لاتخاذ نظرية التطور منهجاً للإصلاح الاجتماعي، إذ يقول "على أن الشرق إن أراد أن يخطو إلى الأمام خطوات واسعة إلى الأمام في سبيل الارتقاء الحقيقي وأن يضرب في معارج التطور الثابت نحو حالات أسعد وأفضل، فإن من واجبه أن يجعل السياسة تابعة للعلم الاجتماعي، القائم على حقائق العلم الطبيعي" وتوضيح ذلك، قوله: "فلا بد إذن من أن نربط بين السياسة وبين العلم، وأن نحكم الصلة بين السياسة وبين منهج اجتماعي نتخذه إماماً تأتمّ به السياسة في الإصلاح المدني" ولمزيد من التوضيح "فإن الجماعات الإنسانية باعتبارها كائنات حية من ناحية، وباعتبارها كائنات ذات نظام اجتماعي من ناحية أخرى، قد تصدق عليها حقائق علوم الأحياء مطبقة عليها تطبيقاً خاصاً، كما تصدق على بقية الأحياء الأخرى.

ولا أخال أن مفكراً متزن التقدير يُنكر أن اتخاذ أسباب العلم وسيلة للإصلاح الاجتماعي، هو السبيل التي تؤدي بأمم الشرق إلى وضع قواعد ثابتة تنتحيها في التدرج نحو مثلها العليا.

والمحصل أن الإصلاح الاجتماعي في أمم الشرق، ينبغي أن يُعهد به إلى علماء اتصلوا بعلوم الأحياء وعلوم الاجتماع"(134).

لكن د.هيكل وضمن سياق المراجعات الفكرية الذي اختطه لنفسه منذ نهاية العشرينيات، يعود إلى الاعتذار عن الأسلوب الإقصائي الذي انتهجه حيال دور الدين في صياغة المجتمع المنشود، إذ يصرح "أشعر اليوم بأن ما تخيَّلته في زمن من الأزمان عن العلم التجريبي واقتداره المطلق على حل كل ألغاز الكون، والحلول بذلك في نفس الجماعات، محل الإيمان ، ليس يبلغ من نفسي إلى مكان العقيدة واليقين، بمقدار ما كان يبلغ في صدر شبابي "لذلك فهو يدعو إلى إعادة الاعتبار إلى الإيمان، وإلى "الجانب الروحي" في تكوين الفرد والجماعة، ويطالب بوجوب "أن نبحث الإيمان على أنه واقعة اجتماعية لا حياة للجماعات بدونها"، فالمطلوب إذاً هو التوفيق بين "العقل والروح"، لكن ما هو دور الروح في هذه التوفيقية؟ دور الدين هو تحقيق الراحة النفسية للإنسان من أعباء الحياة وهمومها ليس أكثر، "لابد إذاً من مَثَل أعلى تؤمن به الجماعة وتجد من تطلعها إليه وهيامها به ما يُنسيها ما في الحياة من هم وبأساء"(135).

وهذا ما عبّر عنه في وقت لاحق أحمد أمين، وهو يكشف "أكاذيب المدنية الحديثة"، مؤكداً أن أخطرها كان الفصل بين "الجانب المادي، و"الجانب الروحي" ولذلك لابد من إقامة التوازن بينهما(136).

وتحدّث د. هيكل عن ما يُعانيه الغرب من أزمة روحية، وقلق نفسي، جراء شيوع المادية وثقافة الإلحاد، وتعاطف مع مشكلة الفراغ الروحي لدى الغرب، وتمنى لها نهاية سريعة، ولعل الشرق بميراثه الروحي العظيم يُسهم في ذلك(137).

3-الدعوة إلى التغريب:

آمن الليبراليون المصريون بضرورة أتباع نهج الحداثة الغربية، كسبيل لصنع التقدم، وتحقيق النهضة المنشودة، وقد أجمع هؤلاء على اعتبار النموذج الغربي نموذجاً جديراً بالمحاكاة(138).

والحقيقة أن الفكر العربي الحديث منذ مطلع القرن التاسع عشر، تقبّل فكرة "أوروبا النموذج"، واعتبر الغرب مصدر الخطر ومصدر الإلهام معاً، يثير الإعجاب كما يثير الغضب، ويثير الكره كما يثير الحب(139).

فالإجماع منعقد على ضرورة الإفادة من تجربة الغرب الحضارية، وأن ليس هناك ما يمنع من الاقتباس عنها، فعلومها هي في الأصل علوم إسلامية(140)، وهي بضاعتنا رُدّت إلينا، فالغرب أفاد من حضارتنا، ولا ضير من أن نفيد من حضارته، وحضارته لا تخصه وحده، بل هي جزء من الإرث البشري أو أحد نتاجاته(141).

عبّر طه حسين في فترة مبكرة عن إيمانه بضرورة الاقتباس عن أوروبا بحكم الضرورة والحاجة للمنافع المتحققة عن ذلك. ولكن هذا الاقتباس، يجب أن يتفاوت قلّة وكثرة، يُحبّذه في النظم السياسية الدستورية، وفي المنهج العلمي الغربي، لكنه لا يحبذه "في الفن والأدب والحياة الاجتماعية، فلنا فنوننا وآدابنا ونظامنا الاجتماعي وواجبنا هو أن نحتفظ بشخصيتنا قوية واضحة في هذه الأشياء، وألا نقتبس من أدب الغرب وفنه ونظامه الاجتماعي إلا ما يمكّن شخصيتنا من أن تنمو وتتطور، وتحتفظ بما بينها وبين العالم المتحضر من الاتصال"(142)، لكن طه حسين سوف يتخلى عن هذا الموقف المعتدل.

إذ إنه ينادي –بما نادى به الخديوي إسماعيل- بجعل مصر جزءاً من أوروبا، وتبرير الدعوة إلى التغريب هو "الاضطرار" لننال إكبار الأمم لنا !!

ولنظفر باستقلالنا عن انجلترا وفرنسا، وشرط ذلك أن نعيش عيشتهما ليطمئنا إلى ما نطلب من استقلال، ونحن مضطرون لذلك للتخلص من الامتيازات الأجنبية، فيجب أن نعيش عيشة الأجانب ليطمئنوا إلى إلغاء الامتيازات ! ونحن مضطرون لاتخاذ أسباب الحياة الحديثة أيضاً(143).

وقد تبنى د. منصور فهمي الدفاع عن "مشخِّصات الشرق" ويقصد بها عناصر هويته، وقيمه وعاداته وتقاليده، وينادي بالصمود في مواجهة الاجتياح الثقافي الغربي، ويحذر "الشرقيين" من أن يطغى سيل الغرب "على ما لهم من بعض مشخصات، لا تعطل في شيء سير الترقي والتقدم"(144).

وينادي د. منصور فهمي بضرورة الاحتفاظ بالخصوصية الثقافية، وهو لا يتفق مع نزعة أولئك "الذين يريدون أن تكون الإنسانية كتلة متشابهة في أساليبها وتفكيراتها وعواطفها"(145).

وهذا تحذير مبكر من مخاطر "العولمة الثقافية، التي تستهدف سحق كل الخصوصيات الثقافية للشعوب لصالح سيادة الثقافة الغربية.

ويوضح مصطفى عبدالرازق رؤيته لمفهوم الاقتباس وغاياته، معلناً أن دعوته للاقتباس لا تستهدف جعل مصر قطعة من أوروبا، بل أن تظل مصر قطعة من إفريقية، متصلة بآسيا على أن تزاحم الغرب بالمناكب، في كل ما وصل إليه الغرب من علم ومدنية ورقي، ويريد من مصر "أن تقتبس أصول المدنية الغربية وتتشربها تشرباً، لا أن تلبسها ثوباً معاراً"، وأن تحافظ على "جوهر مشخصاتها"، وهي عنده اللغة والدين شريطة "أن يخضعا لسنة الله، في هذا العالم، وسنة الله في هذا العالم أن يتحرك كل شيء وأن يتطور"(146)!!

ويرفض د. منصور فهمي اقتباس "مظاهر المدنية التي ليست وليدة العقل والعلم"(147)، ويؤكد على رفض ما ينادي به التغريبيون باتخاذ "الغرب إماماً يأتمون به في كل أمر، ويصطنعوا كل مظاهر حضارته من غير تحفظ"(148).

ود. منصور فهمي يعالج مسألة في غاية الأهمية، عندما يرفض الانغلاق، وينادي بالاقتباس الواعي، وفي نفس الوقت يرفض اتخاذ "الغرب إماماً"، وملخص موقفه هو التأكيد على أهمية معرفة ماذا نأخذ؟ وماذا ندع؟ من حضارة الغرب، لكنه يشكك في مقدرتنا على الاختيار في عملية التفاعل الحضاري، فهي –عنده- عملية معقدة، تخضع لمحدودية الإرادة البشرية، وتحتكم لأثر البيئة وعدد من العوامل النفسية والاجتماعية، فهي ذات "أثر لا يُقاوم في تكييف الحضارات واصطناعها وفي تصوير الثقافات"، ولذلك كله "لا قدرة لشعب أن يكون كشعب آخر في كل حضارته، وكل ثقافته"(149).

لكن الساحة الليبرالية عرفت أصواتاً متطرفة، تدعو إلى رفض الانتقاء في عملية التواصل الحضاري مع الغرب، بل وإلى رفض فكرة التوفيق بين ما لدينا وما عندهم، فهذا محمود عزمي يقول: "أنا من الذين ينادون بملء فيهم بضرورة الأخذ من المدنية العصرية، وهي الحضارة الغالبة وبأن الخير كل الخير في شخوص الكتلة الشرقية المتكلمة لغة عربية(150)، إلى شواطئ البحر المتوسط الشمالية الغربية، وبأن كل نظرة إلى رمال التيه والبادية إنما تكون نكوصاً على الأعقاب في ميدان الجهاد، الذي يسير فيه العالم سيراً هائل السرعة إلى الأمام"(151) !!

هذه الدعوة إلى القطيعة مع الذات، والفناء في الآخر، يتبناها "عميد الأدب العربي ! " في كتابه "مستقبل الثقافة في مصر" الصادر عام 1937م، فقد حدد هوية مصر الثقافية على أنها جزء من ثقافة البحر المتوسط، وأنها جزء من "الغرب الثقافي"، وليست من "الشرق الثقافي"(152)، وأن العقل المصري جزء من أسرة الشعوب التي عاشت حول بحر الروم(153).

والخلاصة –عنده- "إنما كانت مصر دائماً جزءاً من أوروبا في كل ما يتصل بالحياة العقلية والثقافية، على اختلاف فروعها وألوانها"(154).

وهذا "التغريب" يجري تسويقه من قبل د. طه حسين، بالقول أنه وسيلة وليس غاية، وسيلة للنهوض ولتحقيق الحرية والاستقلال، باتباع الوسائل التي أوصلت الغربيين لتحقيق الاستقلال والكرامة(155)، كما يجري تسويقه بتلميع حضارة الغرب، والتأكيد على تفوقها "ودليل ذلك أنها ترتقي"(156)، كما يسعى إلى بث الطمأنينة في النفوس المتخوفة من مخاطر الاغتراب الثقافي والاقتلاع من الجذور، فيشير إلى "التجربة اليابانية". وعليه فلا خوف على "الشخصية المصرية" إذ لم يكن على الشخصية اليابانية خطر من الحضارة الحديثة"(157).

إذاً ما هو المطلوب؟ المطلوب "أن نسير سيرة الأوروبيين ونسلك طريقهم لنكون لهم أنداداً، ولنكون لهم شركاء في الحضارة خيرها وشرها، حلوها ومرّها، وما يحب منها وما يكره وما يُحمد وما يُعاب"(158) فالمطلوب هو التبعية على أساس الندّية!!، لكنه لا يوضح لنا كيف تكون التبعية طريقاً للندية؟ أو كيف تؤسس الندية على ركام التبعية؟ مع أنه يقول صراحة: "نريد أن نتصل بأوروبا اتصالاً يزداد قوة من يوم إلى يوم، حتى نصبح جزءاً منها لفظاً ومعنى وحقيقة وشكلاً"(159).

وكان قد جرى "تسويق" التغريب، بأنه يعفينا من الصدام الحضاري مع الغرب، يقول أحدهم على صفحات "المقتطف"؛ "نحن من الذين يعتقدون أن الحضارة الغربية خير الحضارات التي يتعين علينا اقتباسها، كما أننا من الذين ينظرون إلى الأمر الواقع فيرون أنها هي الحضارة السائدة في العالم، ونحن من الذين يعتقدون أن طريق نجاتنا في مسالمة هذه الحضارة وتكييف حضارتنا عليها تكييفاً لا يناقضها بل يماشيها.. ذلك أن التاريخ يقص علينا قصص اصطدام الشرق بالغرب منذ العصور الأولى حتى الساعة ، فما قص إلا حديث اصطدام كانت نهايته انهزام الشرق أمام الغرب، فالعاقل من اعتبر وعرف أن يتلمس طريقاً غير طريق جربه فقاده إلى مواطن الخطر"(160)!! وبعيداً عن سعيه للتبرير التاريخي للتغريب، فإن الدعوة إلى تجنب الصدام الحضاري هي دعوة ليست إلى الحوار الحضاري الذي لا يرفضه عاقل، لكنها دعوة إلى حوار التبعية وليس الندّية.

وفي عقد الثلاثينيات ظهرت في مصر موجة من المراجعات الفكرية في صفوف التيار الليبرالي، طالت عدداً من أبرز رموزه، كان من مظاهرها توجيه نقد لاذع لحضارة الغرب ولحركة التغريب.

وفي طليعة "المراجعين" هؤلاء كان د. هيكل، الذي عبّر عن قناعته بأن الغرب غير مخلص لقضية "الحرية"، وأن قضيته هي "الاستعمار"، ويشير إلى سياسات التعليم التي اتبعتها بريطانيا في مصر كمؤشر على حقيقة نوايا الغرب، فلم تهدف إلى شيء سوى تخريج مواطنين مطواعين، كما أنها وقفت حائلاً دون سرعة انتشار العلم الصحيح.

ويشير إلى أن أوروبا لم تتخلّص من التعصّب الديني ؛ فهي ما زالت تذكر الحروب الصليبية، وهي تحمي الجماعات التبشيرية، كما يعجب لتعزز الروح الصليبية في الغرب، "وأن الأمر لم يقف عند الكنيسة بل تعداها إلى كتّاب وفلاسفة في أوروبا وفي أمريكا.. في عصر يزعمون أنه عصر النور والعلم، وأنه لذلك عصر التسامح وسعة الأفق"(161).

ويعيب د. هيكل على الغرب ماديّته، كما يعيب على الشرقيين تقليده في هذه المادية(162)، وقد عبّر العقاد، ود. منصور فهمي عن قناعات مماثلة(163).

- وقد شارك توفيق الحكيم في التعبير عن خيبة أمل مثيلة، بفشل التغريب في مصر، ففي روايته "يوميات نائب في الأرياف" الصادرة عام 1937م، تعبير عن ضرورة إعادة النظر في جدوى التغريب، ومدى صلاحيته لتحضير الجماهير الريفية في قرى مصر، وتساؤل عن مدى صلاحية "تشريع بونابرت" للتطبيق في أرياف مصر، فهو يقف موقف النقد العنيف.. وربما السخرية من هذه القوانين، التي يسعى الآخرون لتطبيقها في مصر ؛ حيث يسكن في القاهرة طبقة (علمانية) ومثالية تحاول الأخذ بحضارة الغرب بينما يسكن في مصر الريف طبقات "واقعية" وفلاحين تحاول الارتباط أكثر بالتراث(164)، لكن "البوح" أو "الاعترافات" التي قدمها د. هيكل في عام 1936م. تختصر الكثير من الكلام في تصوير درجة خيبة الأمل التي جناها دعاة التغريب، إذ يقول:

"وقد حاولت أن أنقل لأبناء لغتي ثقافة الغرب المعنوية وحياته الروحية لنتخذها جميعاً هدىً ونبراساً، ولكني أدركت بعد لأي أنني أضع البذر في غير منبته، فإذا الأرض تهضمه ثم لا تتمخض عنه ولا تبعث الحياة فيه، وانقلبت ألتمس في تاريخنا البعيد في عهد الفراعنة موئلاً لوحي هذا العصر ينشأ فيه نشأة جديدة، فإذا الزمن، وإذا الركود العقلي قد قطعا ما بيننا وبين ذلك العهد من سبب قد يصلح بذراً لنهضة جديدة، فرأيت أن تاريخنا الإسلامي هو وحده البذر الذي ينبت ويُثمر، ففيه حياة تحرك النفوس وتجعلها تهتز وتربو"(165).

والدكتور هيكل ضمن سلسلة اعتذاراته الروحية والفكرية، كان قد حلل ظاهرة عزوف الشباب المسلم المتعلم عن الدين، فيعيد السبب إلى ظاهرة الطعن فيمن يسميهم المصلحين والعلماء المسلمين الذين حاولوا النهوض بالأمة!! والرد على مزاعم الغرب وتخرصاته ضد الإسلام، فكان مصير أولئك العلماء وفي مقدمتهم الشيخ محمد عبده أن "اتهموا بالإلحاد والكفر والزندقة، فأضعف ذلك من حجتهم أمام خصوم الإسلام !!

ولقد كان اتهامهم هذا عميق الأثر في نفوس شباب المسلمين المتعلمين، شعر هؤلاء الشبان بأن الزندقة تقابل حكم العقل ونظام المنطق في نظر جماعة من علماء المسلمين، وأن الإلحاد عندهم قرين الاجتهاد، كما أن الإيمان قرين الجمود، لذلك جزعت نفوسهم وانصرفوا يقرعون كتب الغرب يتلمّسون فيها الحقيقة، اقتناعاً منهم بأنهم لن يجدوها في كتب المسلمين. لذلك انصرفت نفوسهم عن التفكير في الأديان كلها وفي الرسالة الإسلامية وصاحبها، حرصاً منهم على ألا تثور بينهم وبين الجمود حرب لا ثقة لهم بالانتصار فيها، ولأنهم لم يدركوا ضرورة الاتصال الروحي بين الإنسان وعوالم الكون اتصالاً يرتفع به الإنسان إلى أرقى مراتب الكمال وتتضاعف به قوته المعنوية"(166).

قضية المرأة:

انشغل الفكر الليبرالي في مصر بقضية المرأة، كأحد المحاور الرئيسية في مشروعه من أجل التنوير والنهضة والتقدم، والمرجعية الفكرية هي الثقافة الأوروبية، أما النموذج فهي المرأة الأوروبية. وهناك محاولة للإفادة من جهود السابقين والبناء عليها(167)، خاصة جهود قاسم أمين(168).

لقد أبدى الليبراليون طوال فترة الدراسة احتراماً وإجلالاً لجهود قاسم أمين، ليس كمدافع عن المرأة فقط، بل كمصلح اجتماعي وقف حياته للدفاع عن "حرية الفكر ، وحرية المرأة !! " بإسهامه في تأسيس الجماعة 1908م، وفي دفاعه عن قضية المرأة(169).

وتابع الليبراليون السير على خطى قاسم أمين في موقفهم من قضية المرأة، وساهمت الصحافة الليبرالية في دعم قضية المرأة(170)، وفي دعم الحركة النسائية، وفي تثقيف المرأة بما ينبغي أن تطالب به من حقوق، وبما ينبغي أن تفعله لتحصيل هذه الحقوق، وفقاً للمرجعية الأوروبية، واقتفاء لنموذج المرأة الأوروبية(171).

واهتمت الصحافة بنشر المقالات والصور التي تخدم فكرة وجوب تقليد المرأة المصرية للمرأة الغربية في السلوك، والعادات، والأزياء، ومسابقات الجمال، والرياضة النسائية، وتولّت الصحافة النسائية جانباً هاماً من هذا الجهد.

وبرزت الحركة النسائية، وتعاظم دورها في المطالبة بحقوق المرأة المصرية، ووضعت قضية المرأة المصرية في إطار قضية المرأة في العالم، وحاولت الحركة النسائية المصرية أن تصبح جزءاً من الحركة النسائية العالمية، وتتبنى المفاهيم والمعايير الأوروبية في معالجة قضايا المرأة، وإن كان هذا التبني يجري بأسلوب تدريجي بطيء(172).

وبرزت في هذا المجال أسماء نسائية شهيرة مثل، ملك حفني ناصف (باحثة البادية) وصفية زغلول، وهدى شعراوي، وسيزا نبراوي، ومنيرة ثابت، وميّ زيادة، ونبوية موسى، ولبيبة أحمد (انضمت فيما بعد لجماعة الإخوان المسلمين) (173).

ويحرص الليبراليون في هذه المرحلة على مراقبة الحركة النسائية في تركيا، ومتابعة التجربة التركية في هذا الميدان إعجاباً وتقديراً وتطلعاً للتقليد(174).

1-الدعوة إلى "السفور" ومقاومة "الحجاب":

شغلت الدعوة إلى السفور وخلّع الحجاب، الجزء الأكبر من اهتمام التيار الليبرالي بقضية المرأة، منذ كتب الطهطاوي بكثير من التسامح عن السفور والاختلاط، الذي تتمتع به المرأة الباريسية، وباعتبار السفور والاختلاط ليس نقيضاً لعفة النساء(175).

- وقد أبرز علي مبارك في روايته "علم الدين" هذه المسألة بأسلوب حواري بين المستشرق المدافع عن السفور وبين الشيخ الأزهري المدافع عن الحجاب، ويرى د. محمد عمارة "أن صورة المرأة الأوروبية المتحررة كما عرضها، كانت مشرقة، بقدر ما كانت "حجج" الشيخ علم الدين باعثة على النفور!" (176).

- وتابعه قاسم أمين في اعتبار التربية وليس الحجاب هي التي يُعوّل عليها في الأخلاق والعفة، إذ أن "العفَّة ملكة في النفس لا ثوب يختفي دونه الجسم"(177)، ومع ذلك فهو لم يتجاوز – مؤقتًا - المطالبة بكشف الوجه واليدين(178)، مع إبطال ارتداء النساء النقاب أو البرقع !

وقد أطنب في تعداد مساوئ "الحجاب" ، وشرح أضراره(179)، مؤكداً أنه لا يمنع الفساد(180)، وأنه من بقايا "هيئتنا الاجتماعية الماضية"، ولأنه ضار فلا يمكن أن يكون شرعياً(181)، كما عده منافياً للحرية الإنسانية، لأنه يعيق المرأة عن ممارسة حقوقها(182)، ونادى بالاختلاط دون خلوة(183).

هذه هي القاعدة التي تأسس عليها الخطاب الليبرالي في مسألة السفور والحجاب، ووقف عندها إلى حين(184).

وظل "الخطاب السفوري" –إن جاز التعبير- يتطور بشكل تدريجي لجهة التغريب، وتبني المعايير الأوروبية في هذا الميدان. لقد قدّم "عبدالحميد حمدي" رئيس تحرير مجلة "السفور"، رؤية جماعة السفور، أو أيديولوجيا السفور بحسب ما تفهمه فئة هامة في التيار الليبرالي، ولم يخرج فيها عن الحديث عن احترام أحكام الدين !! وأن المطلوب إنما هو الانتفاع "بأحكام الدين الخالصة في تحرير المرأة من ربقة العادات الفاسدة" !!

إذاً المطلوب هو إعادة نظر وإعادة تفسير وصولاً إلى فهم جديد لأحكام الدين، كما يُقدّم رؤيته لمفهوم "السفور" اجتماعياً، فهو يعني "ظهور المرأة في مكانتها اللائقة في الحياة باعتبارها مخلوقة لها حقوق طبيعية يجب أن تحصل عليها ولها وظيفة كبيرة يجب أن تؤديها"(185).

ويجري التركيز في "الخطاب السفوري" على إبراز مثالب الحجاب، وفضائل السفور، ودعوة النساء للثورة على الحجاب ، فهو يولد سوء الظن بين الرجل والمرأة(186)، وهو يجني على الأدب والفن، لأن الشاعر والفنان "لا يجد الكائن الجميل الذي يصوّره، أو هو لا يشعر به في الناحية الاجتماعية"(187)، وهناك دعوة يوجهها علي عبدالرازق إلى المبادرة العملية، ومن خلال الممارسة للتخلص من الحجاب، "فلقد علّمتنا التجربة في مصر أن السفور كبعض مسائل الحياة الأخرى، إنما يكون حلّه عن طريق العمل لا من طريق البحث والجدل"، فهو يدعو إلى العمل وعدم الاكتفاء بالجدل، "إننا قد أصبحنا نعتقد أن من الواجب علينا أن نحول بين الجدل وخصوصاً الديني، وبين شؤون الحياة الاجتماعية العملية، بقدر ما يجب أن نحول بين حركة النهوض في الشرق، وبين كل ما يعوق ذلك النهوض"، وهو يعتقد بأن مصر اجتازت طور البحث النظري في مسألة السفور والحجاب إلى طور العمل والتنفيذ، لكن المشكلة –في نظره- التي تواجه المصريين اليوم "إنما هي الوسيلة التي يتدرجون بها إلى السفور الفعلي، تدرجاً لا يكون فيه منافرة بين ذوق الحجاب القديم، وذوق السفور الجديد"(188) !!

وإذا كان "الخطاب السفوري" يقدم صورة منفّرة للحجاب ولوضع المرأة "المحجبة"؛ فإنه أفرد صفحات واسعة من الصحافة الليبرالية، لتعريف المرأة المصرية بأنماط جديدة من السفور التغريبي، في الأزياء، والسلوك ، والعادات(189).

وفي هذه البيئة الفكرية تنامت الدعوة إلى تحطيم كل الحواجز والحجب أمام الاندماج الكامل للمرأة في الحياة الاجتماعية، لكننا لا نعدم أصواتاً تنادي برأي أخف في هذه المسألة(190).

وهناك من ينادي بضرورة الاستفادة من تجربة الاختلاط في الغرب، ويزعم أنها لم تهدد الأخلاق العامة، بل إنها زادت في متانة أخلاق الشباب، وقلّلت من النظر إلى المرأة بوصفها جسداً !! ومن باب "موضوعة الجنس" فقط، بل إن الفصل بين الجنسين هو ادعى إلى إثارة الشهوات، وفيه الكثير من سوء الظن بأخلاق المرأة والرجل(191) !!

ويخرج د. محمود عزمي على الناس ليعلن أن "الاختلاط الصريح" بين الجنسين له من الأهمية ما لتحقيق "التعادل الفكري" بين الرجال والنساء من أهمية، لذلك فإنه لا إمكانية "لإصلاح صحيح للجماعة الشرقية إلا إذا توافر فيها هذان العاملان توافراً شاملاً جريئاً"(192)!!

لقد أصبح "السفور" مجرد وسيلة للوصول إلى نشوء المجتمع المختلط "الذي يُقرّب مسافة الخلف بين الجنسين، ويُقيم علاقات بين الرجل والمرأة على قاعدة التفاهم الفكري والعاطفي"، لذلك يأسف البعض على "أننا لم نخطُ بعد الخطوة الحاسمة في سبيل تطبيق روح الحضارة العصرية على عاداتنا وأخلاقنا وأساليب حياتنا"(193).

من الواضح أن الخطاب الليبرالي في هذه المسألة قد تابع قاسم أمين في أفكاره، فضمّ أصواتاً "توفيقية"، لكنه بدأ يعرف أصواتاً تنادي بالاختلاط الصريح والكامل.

ويظهر أن البعض بدأ يعوّل على "الموقف" العملي وليس مجرد "التنظير" الفكري للمسألة، والمناخ العام أصبح في صالح السلوك السفوري، واستمر الهجوم على الحجاب والحجب، كما جرى الربط بين السفور، والتقدم، واعتبار الحجاب سلوكاً متخلفاً يتنافى مع التقدم والمدينة، ويعطّل قدرات المرأة، وفي موازاة ذلك هناك جهود إعلامية كبيرة لإشاعة ثقافة السفور على الطريقة الغربية الخالصة.

2-الدعوة إلى التعليم والعمل والحقوق السياسية للمرأة:

لم تكن مسألة حق المرأة في التعليم موطن جدل كبير في الفكر العربي الحديث، فقد كان هناك شبه إجماع على حقها في التعليم من حيث المبدأ، أما الخلاف الذي ظهر فهو حول المستوى والنوعية، وجاء هذا الاختلاف مرتبطاً بطبيعة الموقف من مشاركة المرأة في الحياة العامة، ودرجات هذه المشاركة ونوعيتها.

لقد دافع الطهطاوي عن حقها في التعليم، وخصص كتاباً للدعوة لتعليم البنات والبنين(194)، وتابعه علي مبارك "أبو التعليم" في مصر، بالتأكيد على إيمانه بقدرات المرأة العقلية والفكرية، هذا من الناحية الفكرية المجردة.

أما من الناحية العملية فقد عبّر عن هذه الرؤية من خلال الممارسة عندما تولى نظارة المعارف(195).

أما قاسم أمين فقد تدّرج في موقفه من مسألة تعليم المرأة، ففي "تحرير المرأة" طالب بحقها في الحصول على "التعليم الابتدائي على الأقل حتى يكون لها إلمام بمبادئ العلوم"(196)، مؤكداً على أنه ليس ممن يطلبون "المساواة بين المرأة والرجل في التعليم، فذلك غير ضروري، وإنما أطلب الآن ولا أتردد في الطلب أن توجد هذه المساواة في التعليم الابتدائي على الأقل"(197)، إذاً هو يكتفي الآن بالتعليم الابتدائي، لذلك نجده يطوّر موقفه هذا في كتابه "المرأة الجديدة" ليطالب بالمساواة التامة في التعليم، فيقول: "لا نجد من الصواب أن تنقص تربية المراة عن تربية الرجل" سواءً التربية الجسمية أو الأدبية أو العقلية(198)، بل وينادي بمنحها الحق في التعليم المستمر عبر الانخراط في الحياة العامة(199).

لقد بلغ قاسم أمين الذروة في مطالبه، فلم يدع لمن يأتون بعده شيئاً يطالبون به في مستوى التعليم المنشود للمرأة، فبقي التيار الليبرالي يؤكد على فكرة المساواة التامة في التعليم بين المرأة والرجل، وراح يمارس تأكيد هذه الرؤية عبر الفكر والممارسة.

ومن المعلوم درجة ما تمتع به الليبراليون من قدرة على صنع القرار، وتنفيذه عبر وجودهم القوي في السلطتين التشريعية والتنفيذية.

وقد عوّل الليبراليون كثيراً على التربية والتعليم كوسيلة للنهوض بالمرأة، فهذا صوت نسائي عبر مجلة "السفور" يؤكد أن "التعويل ينصب على التربية والتعليم أولاً، إذ هي الوسيلة الفعّالة للنهوض بالمرأة وتصحيح أحوالها"(200)، والحركة النسائية المصرية أكّدت عبر مسيرتها على مطلب التعليم، فبرنامج الاتحاد النسائي يطالب بـ"مساواة الجنسين في التعليم"، ويطالب بـ"فتح أبواب التعليم العالي للفتيات، والإكثار من المدارس الثانوية للبنات"(201).

لكن التيار الليبرالي وفقاً لمرجعيته الفكرية، ورؤيته لدور المرأة في المجتمع، تبنى الدعوة للتعليم المختلط، واجتهد رموزه في الترويج له، وإبراز فضائله وإيجابياته.

والأصوات الليبرالية المعتدلة، تنأى بنفسها عن حملة الترويج للاختلاط الكامل في جميع مراحل التعليم، وفي مقدمة هؤلاء يبرز د. منصور فهمي، الذي يخلص إلى تأييد وجهة النظر القائلة بتخصيص بعض أنواع التعليم للإناث، وبعضها الآخر للذكور، بما يتوافق مع طبيعة كل جنس واحتياجاته، ورفض ما كان يروّج له البعض من أن الاختلاط يضعف الميول الجنسية لدى الجنسين، فيقول: "إن ضرر الإفراط في عزل الجنسين لا يبرر الإفراط في نقيضه من المبالغة في جمع الجنسين في جميع أدوار التعليم، وكما أن الإفراط في العزل والتضييق في وسائل الخُلطة قد يترتب عنهما انحراف، فقد يترتب كذلك أسلوب من الانحراف عند الغلو في توفير الخُلطة"، ومن هنا فهو لا يمانع في أن يكون التعليم الأولي مختلطاً، لكنه يعارض الاختلاط في التعليم الابتدائي العالي والثانوي، ويبرر ذلك بطبيعة المرحلة العمرية، وما ينجم عن الاختلاط بين الجنسين خلالها من أضرار خُلُقية ونفسية وعلمية، وهو لا يمانع في الاختلاط في التعليم العالي في المعاهد والجامعات معتمداً على مشاهداته في أوروبا وفي مصر، إذ أن "الطالب أو الطالبة في دور العلم العالية يقدرون ما يترتب على كل عمل من أعمالهم من التبعات الخلقية ويعلمون طريق الخير وطريق الشر، ويفهمون معنى الفضيلة، ومعنى الرذيلة، ولهم من حُسن تربيتهم فيما مضى، ومن سلطانهم على أنفسهم، وحسن أخلاقهم، ما يُزيل أي سوء للخلطة ويجرّ إلى خيرها"(202) !!

لكن التيار الليبرالي ظل مؤمناً بأهمية الاختلاط ومحاسنه(203)، وتبنى بعض المحسوبين عليه، الدعوة إلى المفاهيم الغربية في ميدان التربية والتعليم تبنياً كاملاً غير منقوص، فهذا د. أمير بُقْطر(204) يدافع عن الاختلاط الكامل وفي جميع المراحل الدراسية، ويهوّن من المخاطر المفترضة، ويتمنى أن تسير مصر في هذا، كما سارت أوروبا "إننا في حركتنا الأخيرة، وما اقتبسناه من أساليب المدنية الغربية نقطع عين المراحل التي قطعها سوانا، واحدة واحدة، ونواجه عين العقبات، واحدة واحدة"(205)، ويطالب بالانفتاح على التجارب الحديثة في مجال التربية والتعليم في أوروبا وأمريكا، ويعرض نماذج من التعليم في الغرب، تؤكد على محاسن التعليم المختلط وثبوت انعدام مخاطره حتى في بعض الحالات التي طبق فيها الاختلاط حتى في الأقسام الداخلية، وفي غرف النوم من سن الثانية إلى سن الثامنة عشرة(206)!!

ولما كان التيار الليبرالي قد اعتنى بالحديث عن حق المرأة في التعليم، فإنه بتطور الحياة، وانتشار التعليم، وتزايد أعداد الخريجات، بدأ الحديث عن حق المرأة في العمل، يأخذ بعداً أوضح في الخطاب الليبرالي.

هذا ولم يكن الالتفات إلى حق المرأة في العمل وليد هذه المرحلة، بل كان الطهطاوي(207)، وقاسم أمين(208) وغيرهم كثير من المفكرين قد أشاروا لهذه المسألة، من باب إقرار مبدأ حقها في العمل خارج المنزل.

وإذا كان العقاد يؤكد على ضرورة إعفاء المرأة من العمل خارج المنزل، وأن هذا حق من حقوقها على المجتمع، لتتفرغ لمهمتها الأساسية، وهي تربية الجيل القادم، فإنه يستند في ذلك إلى أن الرجل أقدر من المرأة على تحمّل أعباء الحياة ومشاقها، فهو أقوى منها جسداً وعقلاً(209).

والعقاد يعتقد بأن من الظلم للمرأة مساواتها التامة بالرجل، لأن ذلك يحملها ما لا طاقة لها به، وما لا ترجوه في قرارة نفسها، مؤكداً عدم رضاه عما ترفعه "الحركة النسائية" من شعارات المطالبة بالمساواة وحقوق الانتخاب، ويوضح موقفه بالقول: "نعم هذه هي الحقيقة التي أؤمن بها ولا يغرني فيها أن المراة اليوم أوفر علماً وألهج بكلمات الحرية والمساواة مما كانت قبل أن يخترع الرجال هاتين الكلمتين في عالم السياسة والاجتماع، فلولا الرجال الذين يروقهم أن يروا المرأة حرة طليقة تعبث بالحياء وتحطم قيود العرف والدين لما وجدت أنثى تجسر على النداء بالحرية ويطيب لها هذا النداء"(210).

ومسألة قدرات المرأة والمفاضلة بين الرجل والمرأة في القدرات العقلية والجسدية، أخذت حيزاً كبيراً من الجدل الذي دار بين مؤيدي عمل المرأة ومعارضيه(211)، ليفضِ ذلك إلى اختلاف في مواقف هذه الأطراف في تحديد العمل الملائم لطبيعة المرأة، ولعل د. منصور فهمي يوضّح جانباً من هذا الجدل "الطبيعة (!) وحدها هي أعدل حكم في الأمر، ولا تعبأ بقول أحد ولا تخضع لنزعات أحد، ولكنها تسير كل جنس بل وكل فرد في سبيله اللائق لوجوده على أحسن حال تضعه فيه قدرته في الكفاح الحيوي والحياة الاجتماعية"(212).

أما توفيق الحكيم فيرى "أن أكبر جناية يجنيها الرجل في مصر الآن على مصر وأبناء مصر هي الحدّ من حرية المرأة المصرية ، والعمل على وضعها في داخل قفص من حديد، بحجة تكريسها لحياة البيت وتربية الأولاد، إذاً ما من شيء ألزم لهذه المهمة السامية من الحرية نفسها، إذا أردنا أن لا تُنشئ المرأة جيلاً من العبيد الأذلاء مفقودي الهمة والشخصية"(213).

وفي سياق اهتمام الليبراليين بالدفاع عن حق المرأة في التعليم والعمل يأتي الحديث عن حقوقها السياسية، وعملها في المناصب السياسية، لكن الشعور العام لديهم كان بأن البيئة المصرية لم تصبح مواتية بما فيه الكفاية لجعلها مسألة محورية في الخطاب الليبرالي في قضية المرأة(214).

لقد تولت الصحافة الليبرالية مهمة الدفاع عن الحقوق السياسية للمرأة، والتثقيف في هذا المجال، ونشر الوعي حول هذه الحقوق، والإشادة بالتجارب العالمية في هذا المجال(215).

وعندما انشغلت مصر بصياغة الدستور الصادر عام 1923م، ظهرت أصوات القوى الليبرالية تطالب بمنح المرأة الحق في الانتخاب والترشيح أسوة بالرجل، لكن الدستور لم ينص على هذا الحق(216).

ومن هنا فقد أصبح من مهام الاتحاد النسائي بزعامة هدى شعراوي المطالبة بمنح المرأة حق الانتخاب أسوة بالرجل(217).

وكتبت قيادات الحركة النسائية كثيراً في الصحافة للمطالبة بهذا الحق(218)، كما أن أكثر الأصوات ليبرالية بقي في دائرة المناداة بإشراكها جدياً في الشؤون الاجتماعية العامة، وإذا دعت الحال، في المسائل الاقتصادية والتشريعية والسياسية(219).

ومن الملاحظ أن مسألة الحقوق السياسية للمرأة لم تكن مسألة ملحة في هذه المرحلة، ولم تأخذ حيزاً كبيراً في الخطاب الليبرالي، إداركاً من الليبراليين وغيرهم بأن المرأة المصرية لم تتهيأ بعد لممارسة هذه الحقوق، في الوقت الذي ما زال فيه أكثر من 90% من النساء المصريات يعانين من مشكلة أمية الحرف.

3-الدعوة إلى مدنية الأحوال الشخصية:

وفقاً للمرجعية الفكرية التي يؤمن بها هذا التيار، ونزولاً عند منهجه في التقليد لكل ما هو غربي، فمن الطبيعي أن تصدر عنه أصوات منفصلة عن الواقع لتطالب بتطبيق النظام المدني في مسائل الأحوال الشخصية، كالزواج والطلاق والميراث، بمعنى العدول عن أحكام الشريعة في هذه المسائل إلى الالتزام بالقوانين الغربية، وتحرير شؤون الزواج من هيمنة الشرع ومحاكمه ورجاله.

وهذه الدعوة لم يعرفها الفكر المصري إلا في هذه المرحلة التي ندرسها، فلم يتحدث أي من مفكري القرن التاسع عشر، ومطلع القرن العشرين، عن هذه الخطوة التغريبية المتطرفة(220).

كان د. محمود عزمي من أوائل الذين نادوا بفكرة الزواج المدني في مصر، وبما في ذلك منع التعدد، ومنع الطلاق، وإباحة زواج المسلمة بغير المسلم، وأن لا يكون الدين عائقاً أمام الرغبة في الزواج بين رجل وامرأة، ففي عام 1918م وخلال المداولات لتأسيس الحزب الديمقراطي المصري، طالب بتوحيد التشريعات المصرية، وبما يشمل قانون الأحوال الشخصية "بمعنى أن يكون للمصريين كلهم أحكام زواج وطلاق واحدة.. وبمعنى أنه إذا رغبت مسلمة ولتكن إحدى أخواتنا مثلاً أن تتزوج من قبطي.. فلا يكون هناك مانع ولا اعتراض"(221)!!

وحبّذت الصحافة الليبرالية فكرة "القانون المدني" المراعي للحرية التامة، الذي هو اتجاه الثقافة الحاضرة في أوروبا ونحو الحرية، ويذكر "محرر الهلال" مقولة يتبناها –في الدعوة إلى الإباحية المبطنة- لكاتبة أمريكية مشهورة "إلين كي" تقول: "إن الحب بلا زواج لا يخالف الآداب، ولكن الزواج بلا حب هو الذي يُخالف الآداب"(222).

وتبدي القوى الليبرالية إعجاباً بتطبيق تركيا لقانون الزواج المدني اعتباراً من الرابع من تشرين أول 1926م، وتنشر "السياسة" نصوص القانون المدني التركي، وتعلّق عليه مبدية إعجابها بما حققه من مساواة بين الرجل والمرأة في كل شيء، وتعده انقلاباً كبيراً إذا أحسنت المرأة التركية الاستفادة من الحقوق التي تضمّنها لها(223)، وتحدث ليبراليون عن "ألشريعة الكمالية" التي حرّرت المرأة التركية(224)، بل إن "السياسة الأسبوعية" جعلت من تطبيق القانون المدني في الأحوال الشخصية معياراً للتمييز بين دول متقدمة وأخرى متخلفة، أو بين شرق وغرب(225)، واقترح بعضهم إعطاء المواطن حرية الاحتكام إلى القانون المدني للأحوال الشخصية أو الذهاب إلى المحاكم الدينية، وأن يُنزع أمر الزواج من قبضة رجال الدين على كل الأحوال(226).

وتكتب إحدى المجلات المعبّرة عن آراء التيار الليبرالي، منادية بالزواج المدني، وبأن يحتفظ كل من الزوجين بديانته، على أن يترك للأولاد اختيار الديانة التي تروق لكل منهم عند بلوغهم سن الرشد، "وعلى هذا تجمع بين الأولاد صلات الدم والوطنية والتربية المشتركة، ويعتبر الدين من المسائل الوجدانية البحتة التي تربط بين الإنسان والله سبحانه وتعالى"(227).

وهذا الجنوح الخيالي المفرط في الانفصال عن الواقع المصري يقود الكاتب الذي لا يجرؤ على ذكر اسمه، إلى القول بأنه "إذا كان في هذا الحل ما يخالف التقليد الإسلامي، فما هو بأول مخالفة احتملتها سماحة الإسلام ومرونته الاجتماعية، كما احتملتها أديان أخرى لا ترضى عن الزواج المختلط، وهي أهون ألف مرة من احتمال التصريح الرسمي بالمواخير والحانات والربا في بلاد إسلامية، والزواج المدني على كل حال قانون اجتماعي لا غنى عنه في أية أمة عصرية"(228)!!

وعندما كان العمل جارياً لإعداد قانون الأحوال الشخصية الصادر عام 1929م، طالب الاتحاد النسائي المصري في مذكرة مقدمة لرئيس الوزراء وزير الحقّانية ورئيس مجلس الشيوخ ورئيس مجلس النواب بتاريخ الحادي والعشرين من تشرين ثاني 1926م بصون المرأة من الظلم الواقع عليها من تعدد الزوجات بدون مبرر، ومن الإسراع في الطلاق بدون سبب جوهري، وهكذا فالاتحاد لا يطالب بالمنع ولكن يرمي إلى مزيد من القيود في شؤون التعدد والطلاق(229).

وحشد التيار الليبرالي كل ما لديه من قوى للدفع باتجاه تضمين قانون الأحوال الشخصية الجديد ما يمنع تعدد الزوجات.

وراحت الصحافة الليبرالية تخوض حرباً إعلامية لصنع رأي عام مؤيد لهذا المطلب، فهذه "السياسة الأسبوعية" تستعين بآراء اللورد كرومر، فتعود لنشر مقتطفات من كتابه "مصر الحديثة" للتدليل على عدم ملاءمة "التعدد" لروح العصر، ولتنفير المصريين منه، على اعتبار أن اللورد رأى بأن ما يحتاجه الرجل المصري من "احترام الذات" لن يتحقق إلا إذا "صار مثل الأوروبي متزوجاً من امرأة واحدة"(230)، وظل التيار الليبرالي يدعو إلى تقييد أو منع تعدد الزوجات(231).

وكما في مسألة "تعدد الزوجات" فإن الصوت الغالب في التيار الليبرالي ظل يتابع قاسم أمين في موقفه الداعي لحصر الطلاق بموافقة القاضي أو المأذون، ومنح المرأة الحق في تطليق نفسها(232)، فقد تبنى التيار الليبرالي هذه الرؤية، وجعلها الاتحاد النسائي المصري جزءاً من برنامجه الصادر عام 1923م(233).

وعبّرت الصحافة الليبرالية عن مساندتها لهذه الرؤية، وقدَّمت جريدة "كوكب الشرق" الوفدية جهداً واضحاً في هذا الإطار(234).

لكن التيار الليبرالي لم يخلُ من الأصوات المتطرفة أكثر التي عرفنا مناداتها بالقانون المدني للأحوال الشخصية، والتي طالبت بمنع الطلاق نهائياً(235).

وعلى صعيد متصل فإن التيار الليبرالي كان يسعى لمواجهة المشكلات المتعلقة بمسائل الزواج، وفقاً لمرجعيته الخاصة به، فعندما يواجه المجتمع المصري ما سُمي "أزمة الزواج" الناجمة عن إقبال الشباب المصري على الزواج من الأجنبيات، فإن الليبراليين يقدّمون الحل وفقاً لمرجعيتهم، وهو ضرورة إباحة الاختلاط ليحصل التعارف ثم الحب ثم الزواج بين المصري والمصرية، فالمشكل "إنما يرجع إلى عدم اختلاط الجنسين اختلاطاً يهيئ للطرفين منهما فرص التعارف، وفرصة التواد والحب"(236)!!

أما بخصوص مساواة المرأة مع الرجل في الميراث، فإن الحديث حولها كان يأتي في إطار مدنية الأحوال الشخصية، ولما تصدّى سلامة موسى –وهو من أبرز دعاة التغريب في مصر وأكثرهم تطرفاً- للمناداة بالمساواة بين الرجل والمرأة في الميراث، سارعت بعض الأوساط الليبرالية للترحيب بهذه الدعوة، وكانت السياسة الأسبوعية أول صحيفة تروج لها(237).

لكن التيار الليبرالي لم يُجمع حول هذه الفكرة بل وجدت الفكرة من يقاومها ويقلل من شأنها(238).

فقد انتقد د. منصور فهمي ما لجأ إليه سلامة موسى من تضخيم للمسألة وجعلها أساس التقدم وبناء الحضارة، وطالب بوضع المسألة في مكانها، وإعطائها حجمها الصحيح، مؤكداً أنه لا بد من الانتباه إلى اختلاف أنظمة الثوريث في العالم، رافضاً هذه الدعوة، ومعترضاً على اتخاذ نظام التوريث الغربي معياراً للعدالة(239).

كما رفضت هدى شعراوي تبني هذه الدعوة من قبل الاتحاد النسائي، عندما اقترح عليها سلامة موسى جعلها أحد مطالب الحركة النسائية، وعلّلت موقفها هذا بقولها: "ولست أعتقد مثله أن على الحركة النسائية في مصر، بسبب من تأثرها بالحركة النسائية في أوروبا، أن تتابعها في كل مظهر من مظاهر تطورها، فلكل بلد تشريعه وتقاليده الخاصة به، وما قد يلائم هذا البلد لا يلائم بالضرورة بلداناً أخرى(240)، وتشير إلى مسألة هامة، لم يتوقف الكثيرون عندها في خضم الالتفات للجدل النظري فقط، وهي أن المشكلة الحقيقية – كما تزعم - ليست في مقدار ما منحه الشرع للمرأة من حق في الميراث، بل إن المشكلة تكمن في عدم التزام المجتمع في منحها هذا الحق الشرعي(241)!!

العدالة الاجتماعية(242)

انشغل التيار الليبرالي بالمفاوضات مع الإنجليز، ومقارعة القصر، والصراع الحزبي، كما اهتم بالتركيز على الحريات السياسية لخدمة الأغراض الحزبية، فأهمل الاشتغال بمعالجة الهموم الاجتماعية الحقيقية، كالفقر والبطالة ومشاكل الفلاحين والعمال والفئات الفقيرة أو المسحوقة، وعدّها الليبراليون هموماً مؤجلة لحين تحقيق الإصلاح السياسي(243).

وتوقف التيار الليبرالي المصري عند المفهوم الكلاسيكي الليبرالية، الذي يحصر دور الدولة في أضيق نطاق، ويؤمن بمبادئ الاقتصاد الحر القائم على إطلاق حرية السوق والمنافسة، والعمل، والملكية الخاصة، واحترام الاختلافات الفطرية بين الناس، فكل فرد يأخذ فرصته لكن وفقاً للإمكانيات المختلفة عند الأفراد، من مهارة وبراعة وحُسن توقّع، أو بُعد نظر، وبذلك فإن الليبرالية الكلاسيكية تُبرز عدم المساواة وتؤمن بضرورتها، ولا تسعى إلى إزالتها بل للتخفيف –في أحسن الأحوال- من نتائجها وانعكاساتها(244).

ولم تأبه الليبرالية المصرية بما طرأ على الليبرالية الغربية من تحولات بالاتجاه نحو ليبرالية الرفاه، أو الليبرالية الاجتماعية(245).

ولم تقدم برامج الأحزاب الليبرالية أية معالجات جادة لتحقيق شيء من العدالة الاجتماعية، لمجتمع يئن تحت وطأت مشكلات اجتماعية واقتصادية معقدة.

فالحزب الديمقراطي المصري يتحدث عن تعليم ابتدائي إجباري مجاني، وعن ترقية للطبقات العاملة، وإغاثة غير القادرين على العمل(246)، أما حزب الوفد فلم يُقدم أي برنامج محدد، على اعتبار أنه ليس مجرد حزب، بل هو ممثل الأمة كلها، لكنه كان يقف موقفاً رافضاً للاشتراكية.

كما أنه رفض أي حديث عن توزيع الثروة أو الإصلاح الزراعي، كما كان موقفه من مشاكل العمال ليبرالياً إلى أبعد الحدود، برغم ما أبداه من رغبة في السيطرة على الحركة العمالية، لإقصاء الشيوعيين والإسلاميين عن هذه الساحة، كما رفض فكرة تأسيس حزب للفلاحين أو للعمال(247).

لكن الوفد –وتحت ضغط الواقع- أخذ يُبدي اهتماماً بالشؤون الاجتماعية منذ مؤتمره العام الأول الذي انعقد في يناير (كانون ثاني) 1935م، فقد قُدّمت فيه مجموعة أوراق ذات مضامين اجتماعية تؤشّر على اهتمامات اجتماعية واضحة، وعرف الوفد نمواً للتيار الاجتماعي في داخله، ليتبلور بعد الحرب العالمية الثانية ما سُمي "الطليعة الوفدية"، وهي تحاول إضفاء مسوح اشتراكية على البرنامج الاجتماعي للوفد(248).

وتحدث برنامج حزب الأحرار الدستوريين الصادر في تشرين أول 1922م، عن دعم الحزب للتعليم الأولي الإجباري والمجاني، وتحسين الحالة الصحية، والضرائب العادلة، وترقية الزراعة، والسعي إلى تخلي الحكومة عما تحت يدها من الأطيان، ودعم التعاون، وتنظيم العلاقات بين العمال وأصحاب العمل "على قاعدة العدل اتقاءً للأمراض الاجتماعية الناشئة من تحكم أحد الفريقين"(249).

آمن الليبراليون بأن التفاوت الاجتماعي أمر طبيعي ومن طبائع الحياة، ولا يمكن إلغاؤه، فهو الأصل، وهو مفيد لانتظام الحياة البشرية، واهتمت الصحافة الليبرالية بالترويج لهذه الفكرة في سياق مواجهة الفكر الاشتراكي، وفي كثير من الأحيان تعمد إلى نشر هذه الأفكار (بدون توقيع)، لكونها تصادم مشاعر عامة المصريين الذين يعانون أوضاعاً اقتصادية واجتماعية صعبة، ويتطلعون إلى شيء من العدل والإنصاف، فهذه "الهلال" تنشر مقالاً (بدون توقيع) يقول كاتبه: "وفي الواقع إن التفاوت بين أفراد الناس وطبقاتهم، قد فرض عليهم فرضاً، وهو لخيرهم ومصلحتهم بوجه الإجمال، وإن لم يكن في مصلحة بعض الأفراد"(250)، ويخلص إلى التبشير بفشل الفكرة الاشتراكية المنادية بالمساواة، ويؤكد "أن ضمان المساواة بين طبقات البشر ضرب من المحال، فضلاً عن كونه لا يتفق مع مصلحة الاجتماع"(251).

وتعود "الهلال" عبر كاتبها المجهول للتأكيد على نفس المعاني، ولتبرير شريعة الغاب في الحياة الاجتماعية، أو لما أسماه البعض "الليبرالية المتوحشة"، وبأبشع صورها، منطلقاً من نظرية "تنازع البقاء"، وأن البقاء للإصلاح "وأن الأفراد غير متساوين في صلاحهم للبقاء، لأن بعضهم ضعفاء غير نافعين للاجتماع –وهؤلاء يجب أن ينقرضوا ويُفسحوا في المجال لغيرهم !! - والبعض أقوياء نافعون فيجب أن نطلق لهم الحرية، ليفتكوا بمن هم أضعف منهم من أفراد نوعهم أو من أفراد أي نوع آخر"(252).

لكن د. محمد حسين هيكل تصدى لهذه الأفكار، بتركيزه على رفض "المادية" المستقاة من حضارة الغرب، التي أسماها "حضارة المال والاستعمار في سبيل المال"، لذلك فلا يمكن أن يُرتجى منها أن تعاون على تحقيق البر والرحمة، أو أن تخفف من ويلات من تقسو الأقدار عليهم، بل هي على العكس ترى هؤلاء الذين قست عليهم الأقدار غير صالحين للبقاء، وتقضي عليهم لذلك بأن يفنوا تحت عبء أرزائهم وهمومهم"(253)، وهو يعرّض بدعاة الدارونية، وأفكارها التي استغلت لتبرير "الليبرالية المتوحشة"(254)، أو الرأسمالية في أبشع صورها، والبديل هو حضارة الإسلام، وما يدعو إليه الإسلام من البر والتقوى، وما يفرضه على الناس من الزكاة والصدقة، وما يوصي باليتيم والبائس، والمحروم(255).

واهتمت الصحافة الليبرالية بالتنبيه إلى ظاهرة الفقر التي تجتاح مصر، وإلى مخاطرها. وقدمت رؤيتها للعلاج ضمن المفاهيم الليبرالية(256)، التي تتحدث عن ضرورة تطوير الفقير لقدراته، وتغيير قيمه وسلوكه، مع التأكيد على أن مصر فقيرة بقدراتها.

وأن المشكلة ليست في سوء توزيع الثروة، بل هي في قلّة الإنتاج. "إن الداء ليس في التوزيع، بل إنه نشأ عن النقص الأساسي في الاقتصاد الوطني"(257).

وفي المسائل المتصلة بالعمل والعمال، كان الفكر الليبرالي يؤمن بأن العمل هو سلعة لها ثمن يحدده صاحب العمل، بحسب التعاقد بينه وبين العامل، ووفقاً لقاعدة "العقد شريعة المتعاقدين"(258)، وبطبيعة الحال فإن الموقف الليبرالي ميَّال بطبعه لجانب صاحب رأس المال(259)، أما التعاطف مع العامل فينحصر في الاعتراف بحقه بتوفر شروط العمل الصحية، ومنحه الأجر المناسب، وساعات العمل المناسبة(260).

أما تدخل الدولة في حل هذه المشكلات، ومنها –مثلاً- مشكلة البطالة، فهذا مرفوض وفقاً للمنطق الليبرالي !! فنجد أحمد لطفي السيد، يرفض تدخل الدولة بالتشريع لحل أزمة البطالة بين المتعلمين، ويقول: "وأنا لا أنظر بعين الارتياح إلى تدخل الحكومة إذ أنني أرى أن التشريع فيما لا تقضي به الضرورة القصوى تُشتم منه رائحة الاشتراكية، ويكون من الخير أن يترك ميدان الأعمال العامة بين المتعلمين لتختار الحياة الاجتماعية الأصلح منهم بعد التنافس"(261).

وإيماناً منه بأن مذهب "اللبراليزم" الذي يؤمن به "يحدُّ حرية الحكومة لا في التشريع فحسب بل في المداخلة في الأعمال العامة، هذا المذهب قد يقتضي مثاله الأعلى أن تقتصر الحكومة على مرافق ثلاثة من مرافق البلاد:

1. الدفاع عن البلاد في الخارج بالجيش.

2. القيام على الأمن العام بالشرطة.

3. وإقامة العدل بين الناس بالقضاء.

وما عدا ذلك من مرافق الدولة كالتعليم العام، والصحة العامة والأشغال "العمومية"، كل ذلك ينبغي أن يكون من عمل الأفراد والشركات والجمعيات الحرة. " وكنت أعتبر ولا أزال، أن تدخل الحكومة فيه، سببه الضرورة ، أي عدم وجود من يقوم به"(262).

وعندما طالب أحدهم على صفحات "الأهرام" بضرورة أن تتصدى الحكومة للقيام بواجباتها، فتلتزم بتوفير عمل لكل فرد، باعتبار أنه شكل من أشكال التضامن، وأن عليها أن توزع كمية العمل الموجودة فعلاً على جميع الأفراد، فلا يُحرم بعضهم من العمل لكي يظفر آخرون بنصيب الأسد، وأنه من واجبها أن تنشئ وظائف جديدة تمنح مرتباتها من المال المتوفر بعد تخفيض المرتبات الكبيرة، وإلزام أصحاب الأعمال بزيادة عدد عمالهم. نجد "الأهرام" تعلّق على هذه الاقتراحات للتخفيف من مشكلة البطالة، بالقول: "إن تقرير هذه القواعد معناه قلب المبادئ الاقتصادية كما وضعها آدم سميث.. ومن تابعهم من علماء المدرسة الكلاسيكية في القرن الثامن عشر ، وأساسها الحرية الاقتصادية والمنافسة التي لا يحدها حدّ.. وقد أعطت نظرية الحرية الاقتصادية العالم نهضة عظيمة ورخاء مادياً كبيراً، ولكن بينما منحتنا نظرية الحرية الاقتصادية هذا كله –وهو فضل عظيم لا ينبغي أن نجحده- اقتضتنا تضحيات كبيرة كان بعضها هؤلاء العمال كانت التضحية ضرورية في سبيل تقدم البشرية، تحمّلها الضعيف، وتلك هي السنة الخالدة.. ولكن ينبغي ألا نبالغ في الغض من النشاط الفردي وتقييد حريته فكل تدخل من الدولة مكروه، ولذلك يجب أن يقتصر بقدر الإمكان على ما يكفل منع الشرور الواضحة وتخليص الحضارة التي نعيشها من القسوة التي تُفسد جمالها وتجعلها تبدو وكأن لا قلب لها"(263).

وعندما طرح البعض –ومنهم أحمد لطفي السيد رئيس الجماعة آنذاك- تقليص التعليم العالي لحل أزمة البطالة(264)، وأيد البعض هذا الاقتراح من باب أن التعليم العالي يُفسد الفلاح، ويفصله عن العمل في الأرض(265)، نجد أن د. طه حسين، يعترض على هذا الاقتراح، ويؤكد أنه "لن تعالج البطالة بإكراه الشعب على الجهل، وإنما تُعالج بفتح أبواب التعليم على مصاريعها، وبالإسراع في ذلك حتى يرشد الشعب"(266)، وفي المقابل نادى بضرورة تعميم التعليم الأولي من سن السابعة إلى الثامنة عشرة، على اعتبار أن ذلك يأتي في إطار حق المصريين جميعاً في الحصول على التعليم العام(267)، وساندته ميّ زيادة في موقفه هذا، ورفضت تقليص التعليم الجامعي، وطالبت بإطلاقه أمام الجميع(268).

وانتقد محمد زكي عبدالقادر الطبقية في مصر، والضرائب الموجهة لمصلحة الأغنياء، متهماً بأن سياسة الضرائب والتسويات تنتهي إلى تركيز الثروة في طبقة معينة، كما أن سياسات التوظيف تنتهي إلى تركيز الجاه والنفوذ في الطبقة نفسها(269).

أما فيما يخص الفلاح ومشاكله، فقد تكلف الليبراليون التعاطف مع معاناته من الفقر والمرض والجهل(270)، وقدموا حديثاً عاطفياً عن الفلاح وأهميته، ودوره في الإنتاج، وعن ضرورة تهيئة أسباب الحياة الإنسانية له(271)، ولم يكن هذا الاهتمام بعيداً عن الغرض السياسي، فعندما يكون الحزب خارج السلطة، تبدي صحافته اهتماماً مفاجئاً ومبالغاً فيه بهموم الفقراء والفلاحين والعمال، ومعاناة الشعب، لمجرد إحراج الحزب الجالس في مقاعد الوزارة(272) !!

ولم تكن المصالح الشخصية بعيدة عن الوقوف وراء تسليط الأضواء على هذه القضية، أو إهمال تلك والتعتيم عليها، وهناك اتهام دائم للفلاح بسوء التدبير وعدم القدرة على ضبط نفقاته، وهذا –في نظرهم- هو سبب فقره، وعجزه عن سداد ديونه(273).

وهناك إصرار على عدم الاستماع لأي صوت يتحدث عن تحديد الملكية العقارية، ففي العُرف الليبرالي لا مجال لهذه الفكرة في بلاد ديمقراطية تحترم حرية الفرد، ومجال نشاطه وتفكيره، وثمرات جدّه كمصر!! (274).

وتحدثت أصوات ليبرالية عن تحسين أحوال الفلاح بتيسير أسباب المعيشة العامة (رفع مستوى معيشته)، وإصلاح نظام الضرائب ليصبح تصاعدياً، بزيادتها على الأغنياء، وتخفيفها على الفقراء، وتوفير الأمن في الريف والحد من الجرائم، وجرى تبرير الدعوة إلى توفير الأمن، لأن ذلك سيسمح للفلاح ببناء بيت ذي نوافذ، ولأن يأمن على ما لديه من دواب فلا ينام وإياها في نفس المكان لحمايتها، ولأهل القرية ببناء منازل متباعدة! والدعوة إلى العناية بالصحة العامة، وفرض التعليم الإجباري ومحاربة الأمية، وتطوير الصناعة المصرية ودعمها(275).

إن هذا البرنامج الواقعي للإصلاح في الريف، يشير إلى حجم معاناة الفلاح، وحقيقة ما يعانيه من مشكلات، كانت النخب الفكرية والسياسية تحلّق عالياً وبعيداً عنها.

والدكتور هيكل في "حديث اليوم" الذي يفتتح به أعداد "السياسة" يحذر من مغبة تسرب الشيوعية إلى الريف وبين الفلاحين "أكثر طوائف هذه الأمة سكينة وأبعدهم عن هذه الأفكار الشيوعية التي لم تعرف لها منبتاً في غير البلاد الصناعية.. فلو أن بيئة تأبى الشيوعية بطبعها فتلك هي البيئة المصرية، وحياتنا الاقتصادية القائم أساسها إلى اليوم على الملكية الزراعية، لا يمكن أن تقبل هذه المبادئ الضارة.. فليست طوائفنا العاملة في الأرياف، متأثرة بالهوس الاجتماعي الذي تتأثر به بعض بيئات العمال في أوروبا، وهي في إيمانها بأن الله يرزق من يشاء بغير حساب، ترى في هؤلاء الدعاة الشيوعيين أكثر من ثائر على الدين، وعلى الحكومة، وأكثر من مخادعين يريدون من دعوتهم تسخير هذه الطوائف الآمنة الوادعة لمصالحهم الخاصة، وهي على أتم الاستعداد لأن تعاون الحكومة في تعقب هؤلاء الخوارج الذين يريدون أن يفسدوا نظاماً قائماً على الحق والشرع"(276) !!

وهذه الرؤية تأتي متوافقة مع الخطاب الليبرالي الرافض للشيوعية والمفاهيم الاشتراكية عموماً، وهو خطاب يتنكر لمعاناة الفلاح، كما أنه برغم علمانيته المفرطة نجده يتوسل بالمفاهيم الدينية حول الرزق المقدّر، لاستثارة الفلاحين المتدينين "الوادعين" ضد دعاة الاشتراكية "الخوارج"، ولإخماد أية بوادر شكوى ضد هذه الأوضاع المقدَّرة!

الأخلاق والآفات الاجتماعية :

يؤمن الليبراليون بأن المجتمع مكلّف بحماية الحقوق الفردية، ولا ينبغي له الاعتداء عليها، ولهذا فهم ينفرون من كل ما يضع قيداً على حرية الفرد، ويرفضون فرض أية غايات أو أهداف خارجية على الفرد، ويرون لزوم تركه حراً يفعل ما يشاء، وأن من حقه على المجتمع أن يعيش حراً مستقلاً ساعياً وراء غاياته التي يختارها بمحض حريته وإرادته.

وهذا يأتي –طبعاً- في إطار امتناع الفرد عن فعل كل ما من شأنه أن يشكل إضراراً، أو تدخلاً غير مشروع في حرية الآخرين للسعي من أجل تحقيق غاياتهم الخاصة(277).

وهكذا فإن الليبرالية تكفل الحرية الشخصية، والحريات العامة والاجتماعية، والمعيار في الحكم على الفعل والسلوك هو معيار علماني لا صلة له بالدين.

والليبراليون المصريون جعلوا من التقليد للنموذج الغربي معياراً، أو هدفاً، وفي أحسن الأحوال وسيلة للنهوض، ولذلك فهم ينظرون بعيون غربية للواقع المصري، ويعالجون مسائل الأخلاق وفقاً للمعايير الأوروبية.

ومن هنا جاءت دعوة بعض الرموز الليبرالية إلى علمانية الأخلاق، وعلمانية التربية والتعليم كأحد أدوات المجتمع للتوجيه الخلقي، وتسخير التربية والتعليم وأجهزة التوجيه لتعزيز اتجاهات الحياة الحديثة –على حد رأي د. طه حسين- وإنقاذ الأطفال والصبيان من أن "يُصاغوا صيغة قديمة، ويُكوّنوا تكويناً قديماً"(278).

أما المهمة الأساسية للعملية التربوية التعليمية، فهي تعليم الفضائل المدنية، وخلق الأوضاع، التي يمكن للحاكم الديمقراطي أن ينمو في ظلها(279)، ومحاصرة "الثقافة الأزهرية" لصالح "الثقافة الحديثة"(280).

وفي هذا الإطار تأتي المناداة بعلمانية الأخلاق وتغريبها، فلا تقتصر على المعنى الروحي الديني، كالتقوى والصدق والأمانة والعفة.." بل تمتد لتشمل بعض "الصفات السامية النبيلة" كالدقة، المثابرة، الصبر، الاحتمال، الإقدام، الشجاعة، قوة الابتكار، التعاون، خدمة الغير، مراعاة شعور الآخرين، الإعجاب بكل حسن وجميل، الذوق السليم، الإتقان، المرونة.." (281).

وفي إطار التثقيف بالمفاهيم الأخلاقية الغربية، تعرض "السياسة" لقضية "تطور الحياء" وتنشر ترجمة لمقال بعنوان "تطور الحياء وعلاقة الحياء بالأزياء" لكاتب فرنسي، مفاده أن مفهوم الحياء مفهوم متغيّر، مع تطور الزمن، وأن الأزياء لا علاقة لها بالحياء، فهي ليست من الخلق الشخصي بل من الخلال الاجتماعية، لذلك "فمن المبالغة في التشاؤم إذن أن يعتبر البعض الخروج في الملبس خطراً اجتماعياً أخلاقياً.. ففي وسعنا أن نتوقع أنه لن يمضي سوى قليل حتى يصبح الحياء على النقيض مما كان عليه بالأمس؛ أعني أن الثياب وليس العراء هي التي قد تؤذي الشعور"(282) !!

وفي مجال تنمية "الشخصية"، وبناء الاتجاهات عبر الحوار لدى الجيل الجديد، يعرض د. أمير بُقْطر، جملة مواضيع للحوار مع الشباب، من خلال الإجابة على عدد من الأسئلة، منتقاة بعناية، وتسعى إلى نهاية منطقية مبتغاة تؤكد على القيم والاتجاهات وأنماط السلوك الليبرالية الغربية وتعزيزها(283).

والليبراليون عندما يتصدون لمعالجة الآفات الاجتماعية، فهم ينطلقون في مواقفهم من المرجعية الفكرية، التي يؤمنون بها، ويحتكمون للمعايير الغربية في الحكم على الأشياء.

فعندما كان المصلحون يطالبون بإلغاء البغاء الرسمي. كان الليبراليون يرفضون هذه الدعوة !! فقد عدّها د. محمد حسين هيكل، بمثابة دعوة إلى "إلغاء الرقابة الصحية" ليس إلا، ونفى قدرة أي قانون على إلغاء البغاء من الوجود، وإلا لاستطاعت الشريعة الإسلامية تحقيق ذلك(284)، ولجأ إلى التهكم والتشكيك والتجريح في رده على دعوة الشيخ محمود أبو العيون لإلغاء البغاء، وكل ذلك دفاعاً منه عن حكومة عدلي يكن، فكان الدافع السياسي كالعادة يتدخل في أسلوب معالجة المثقف أو المفكر للقضية أية قضية.

لكن "السياسة" عادت بعد عقد من الزمان وفي إحدى افتتاحياتها(285)، التي عادة ما يكتبها د. هيكل رئيس التحرير، إلى الشكوى من "حي البغاء" في القاهرة وما يحويه من جرائم، وطالب بإلغائه أو ترحيله على الأقل، فهو يُسيء إلى صورة مصر، ويُساهم في زيادة الجرائم، وينشر الرذيلة فيما حوله من شوارع وأحياء.

والمنهج الذي يحكم الموقف، هو منهج علماني، يحترم الحرية الشخصية حتى في مجال "حرية الرذيلة"، لكن على أن لا تشكل اعتداءً على حرية الآخرين !!

وعندما يتصدى الليبراليون لمعالجة بعض الآفات الاجتماعية، فلا تجد نهجاً واضحاً، أو معياراً منطقياً، أو اتساقاً في الرؤية، بل تجد نوعاً من التضارب.

هذه جريدة "السياسة" لسان حال الأحرار الدستوريين، تحمل على وزارة أحمد زيور لسماحها بافتتاح "كازينو" للقمار في حلوان، وتقول في افتتاحيتها "ما بالك ومصر دولة يقرر دستورها أن الإسلام دينها، وينص القرآن (إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه)، فهل تُقر حكومة إسلامية في بلاد مسلمة رجساً من عمل الشيطان(286).

لكن "السياسة" وهي تستشهد بالآية الكريمة التي تقرن القمار بالخمر، لا تتورع عن نشر دعاية للخمور في الصفحة السابقة(287)!!

ولا يخلو عدد من أعدادها من دعاية لأحد أنواع الخمور(288).

واهتمت الصحافة الليبرالية في أغلب الأحيان بالتثقيف التغريبي للشباب في العادات والسلوك والأزياء، بالتركيز على استثارة الغرائز، عبر الصورة والقصة والتعليق، وبالتركيز على إبراز نموذج الحياة الغربية كمثال يجب أن يُحتذى، وأن فيه كل السعادة والعصرية والحرية(289).

وفي المجمل، فإن التيار الليبرالي لم يولِ المسائل الأخلاقية ما تستحقه من عناية، ويمكن القول بأنه كان يعاني من اللامبالاة الأخلاقية، والنظر إلى أن الأخلاق مجرد شأن خاص، تكفله الحرية الشخصية.

واللامبالاة هذه امتدت لتطال التفكير بالصالح العام الذي بدا متوارياً عن الخطاب الليبرالي، في سياق الادعاء بالمحافظة على القيم الليبرالية وفي طليعتها الحرية الفردية.

=============

#طهارة السلاح

د. أميمة بنت أحمد الجلاهمة

أكاديمية سعودية .. جامعة الملك فيصل الدمام

هذا الدين هذب رغبة الانتقام في نفوس المسلمين بما يحفظ كرامتهم وكرامة غيرهم، دين آمن بطهارة السلاح ودعا لها، ديننا هذا أثار إعجاب الكثير من العظماء...

لم يكن مستغربا أن أقف مؤخرا عند فتوى صدرت من لجنة حاخامات مستوطنات الضفة الغربية وقطاع غزة،الفتوى التي تعيد مجددا على مسامع جنودها ما سمعوه في خنادق التدريب من أن"التوراة" تبيح وتأمر بقتل نساء العدو وأطفالهم، وبالتالي فهم مأمورون بقتل الأطفال والنساء في لبنان وفلسطين.

ولكن ما كان محل استغرابي هو ظهور ساسة هذا الكيان بتصريحات إعلامية لا تنم بأي صلة للواقع.. تصريحات تؤكد للمجتمع الدولي أن جيشهم الصهيوني لا يستهدف المدنيين اللبنانيين، وما حدث مؤخرا على الأرض اللبنانية من مجزرة "مروحين" وغيرها.. ما هو إلا افتراء ووهم ويشمل هذا الإنكار بطبيعة الحال ما شاهده العالم من أجساد لأطفال ونساء ومدنيين تفحمت، ومدن تهدمت بفعل القصف الصهيوني.

على أية حال وإحقاقا للحق كان من الواجب أن أقر أن لجنة حاخامات مستوطنات الضفة الغربية وقطاع غزة كانت محقة في قولها إن مصدر هذه الفتوى نصوص توراتية، فالتوراة وغيرها من أسفار العهد القديم مليئة بتعاليم بالغة في القسوة والعنف، فهي لا تكتفي بإجازة قتل النساء والأطفال بل تأمرهم بذلك، وتتعدى ذلك للأمر بقتل الأطفال الرضع، بل وحتى الدواب،هذه النصوص تقنن ما جرم في الدساتير الدينية والإنسانية، وتتناقض مع تعاليمها كل القوانين الدولية، فعلى سبيل المثال جاء في الإصحاح الخامس عشر من سفر صموئيل الأول ما يلي:(فالآن اذهب واضرب عماليق - العرب - وحرموا كل مالهم، ولا تعف عنهم، بل اقتل الرجال والنساء والصبيان والرضع والبقر والغنم والإبل والحمير)هذا التوجه الوحشي تكفل الحاخام "كابليوك" بتفسيره بما يلي: (وسيأتي اليوم الذي يطلب منا جميعا الانطلاق في هذه الحرب المقدسة لإبادة العمالقة - العرب -، في هذه الحرب لن يكون هناك رأفة، فواجب القتل والإبادة يشمل حتى الرضع فالعماليق يحاربون شعب الله).

وفي كتيب أصدره الكولونيل "أفيدان زيميل"،أحد الكهنة الرئيسيين للقوات العسكرية نجد:(ففي الحرب يسمح لقواتنا وهي تهاجم العدو بل إنها مأمورة ... بقتل حتى المدنيين الطيبين...) فقتل المدنيين ليس جائزاً فقط، بل واجب عند هؤلاء الشرفاء، كما كتب الحاخام "إسرائيل هيس" مقالا بعنوان "الإبادة الجماعية في التوراة" قال فيه (إن العرب هم سلالة العمالقة الذين قالت التوراة إنه على اليهود إبادتهم كليا).. عبث بحياة اللبنانيين والفلسطينيين، ودمار لبنان، لم يكن الدافع لها فقط نصرة الأسرى الصهاينة،بل دمار لبنان وإبادة أهلها واحتلال المزيد من الأراضي العربية بدعوى أن الحدود الآمنة لإسرائيل لا بد أن تتسع.. دعاوى نعرفها كعرب مسبقا.

هؤلاء يعتقدون يقينا أن كل أرض تداس بأقدامهم تعد من الأرض الموعودين بها، واستهانة بعضنا بما يرد في نصوصهم من تعاليم من السذاجة بمكان، فالعقيدة هي التي تحرك صاحبها - أياً كان- نحو هدف معين، وهؤلاء يتحركون لما هو أكثر بكثير من الأرض التي تقع تحت احتلالهم، فقد ورد في"التوراة"ما يؤكد هذه التطلعات، ومن ذلك قولها:(في ذلك اليوم قطع الرب مع إبرام- إبراهيم عليه السلام - عهدا قال: لنسلك أهب هذه الأرض، من نهر مصر إلى النهر الكبير، نهر الفرات..) كما جاء فيها:(الرب إلهنا كلمنا من جبل حوريب - سيناء - وقال أقمتم ما فيه الكفاية في هذا الجبل، فتحولوا وارتحلوا وادخلوا جبل الأموريين وكل ما يجاوره من صحراء البرية وما يليها من الجبال والسهول، إلى الجنوب وساحل البحر، إلى أرض الكنعانيين ولبنان وحتى النهر الكبير نهر الفرات) وفيها أيضا(كل موضع تدوسه أخماص أقدامكم يكون لكم من البرية جنوبا إلى لبنان شمالا، ومن نهر الفرات شرقا إلى البحر غربا)، بل إن "التلمود" كعادته دوما يحاول ترسيخ هذه العقيدة في نفوس مريديه، فقد شبه الصهيونية الموعودة بجلد الغزال الذي يمتلك من المرونة ما يجعله قابلا للتمدد والاتساع: (أرض إسرائيل لا تسمى جميلة كالغزال دون سبب، بل لأنها تمتد كجلد الغزال) تمتد لتعتدي وتدمر وتبيد ثم تحتل الأراضي العربية.

ولا أستطيع إنهاء زيارتي لكم اليوم دون التوقف معكم عند نصوص نبوية تأمر الجيوش الإسلامية بما يناقض التعاليم الصهيونية الوحشية التي تأمر بقتل الأطفال والنساء وتعد ذلك واجبا، فالنصوص الإسلامية تأمر الجيوش الإسلامية بآداب إنسانية في تعاملهم مع أعدائهم حتى في ساحات الحرب، ولنتأمل معا قوله عليه الصلاة والسلام للمجاهدين في سبيل الله: (انطلقوا باسم الله وعلى ملة رسول الله، ولا تقتلوا شيخا فانيا ولا طفلا صغيرا ولا امرأة، ولا تغلوا، وأصلحوا وأحسنوا إن الله يحب المحسنين) دين يحرم الاعتداء حتى على الحيوان، دين يحرم علينا التعامل بالمثل مع هؤلاء، دين يفرض علينا معاملة الأسرى بإنسانية، فقد قال عليه الصلاة والسلام:(استوصوا بالأسرى خيرا) هذا الدين هذب رغبة الانتقام في نفوس المسلمين بما يحفظ كرامتهم وكرامة غيرهم، دين آمن بطهارة السلاح ودعا لها، ديننا هذا أثار إعجاب الكثير من العظماء، ويحضرني موقف الزعيم الفرنسي "ديجول" منه ومن أهله،فقد قال:(أعتقد أن اتصالنا بالمجتمعات العربية والإسلامية التي حافظت على تلك الروح الإنسانية التي فقدناها،سينقذنا من مغبات حضارتنا وسيكون مفيدا لنا جدا، ولهذا فإنني أحرص على تحسين علاقات فرنسا وتوثيقها بالعالم العربي والإسلامي).

=============

#صورٌ من سماحة الإسلام

أحمد بن محمد الشرقاوي

أستاذ التفسير وعلوم القرآن المشارك بجامعة الأزهر

وكلية التربية للبنات بالقصيم

بسم الله الرحمن الرحيم

من الجوانب المضيئة في حضارتنا الإسلامية ومن الصفحات المشرقة في سجل تاريخنا الإسلامي الزاخر بالمآثر والمفاخر والتي نعتز بها : جانب التسامح مع غير المسلمين والإحسان إليهم : هذا الجانب الذي يشهد بأن الإسلام دين الرحمة والإحسان والعدالة والإنصاف .

هذه المبادئ السامية والشمائل الكريمة التي كانت عاملا من عوامل انتصار الإسلام .

* ومن أعظم صور هذا التسامح دعوته إلى الإيمان بجميع الأنبياء دون تفريق بين نبي ونبي فكلهم جاءوا بدعوة واحدة ورسالة واحدة وهدف واحد .

قال تعالى {آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِل إِلَيْهِ مِن رَّبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّن رُّسُلِهِ وَقَالُواْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ {285} }

وحول هذا المعنى يقول صلى الله عليه وسلم (أنا أولى الناس بابن مريم، والأنبياء أولاد علات، ليس بيني وبينه نبي).1.

* ودعا الإسلام إلى التعاون بين الناس جميعا ، فوجه الدعوة إلى المسلمين الخاصة وإلى سائر الناس عامة قال تعالى {وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُواْ اللّهَ إِنَّ اللّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ {2}}

* كما أرشد الإسلام إلى أن الاختلاف بين أهل الأديان لا يمنع من حسن التعامل معهم وتبادل المنافع المادية بينهم قال تعالى {الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ حِلٌّ لَّكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلَُ لَّهُمْ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ وَلاَ مُتَّخِذِي أَخْدَانٍ وَمَن يَكْفُرْ بِالإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ {5} .

* وهذا نبينا e يتعامل مع أهل الكتاب : فعَنْ عَائِشَةَ أَنّ رَسُولَ اللّهِ صلى الله عليه وسلم اشْتَرَىَ مِنْ يَهُودِيّ طَعاماً إِلىَ أَجلٍ، وَرَهَنَهُ درْعاً لَهُ مِنْ حَدِيدٍ.2

* وشرع الإسلام الجهاد لنشر الحرية وترسيخ العدالة وتحرير الناس من قيود الطغيان ، ، وانتشالهم من ظلمات الجهل وغياهب الضلال ؛ فشرع الجهاد قال تعالى { وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله } 3 .

* شرع الجهاد رحمة بالضعفاء ونصرة للمظلومين وعدالة للمغلوبين وهداية للحائرين وإذا كنا قد سمعنا أوشاهدنا جرائم أعداء الإسلام في حق الشعوب المسلمة قديما وحديثا فإننا نجد في المقابل صورا رائعة من سماحة المسلمين حين ملكوا وقادوا :

ملكنا فكان العفو منا شجية فلما ملكتم سال بالدم أبطح

فلا عجبا هذا التفاوت بيننا فكل إناء بما فيه ينضح

صور من سماحة الإسلام وإحسانه في حالة الحرب

* نهى الإسلام عن قتل الأطفال والنساء والشيوخ والعجزة وأهل الصوامع والبيع الذين لا اعتداء من ناحيتهم ولا خطر من بقائهم فكان رسولنا e إذا أرسل جيشا أو سرية يوصيهم بالإحسان والتسامح والرحمة بالنساء والضعفاء .

ففي الصحيح عن بريدة رضي الله عنه قال كان رسول اللّه e إذا أمّرَ أميراً على جيشٍ أو سريةٍ، أوصاه في خاصّتِه بتقوى اللّه تعالى ومَنْ معه من المسلمين خيراً، ثم قال: "اغزوا باسْمِ اللّه في سَبِيلِ اللَّهِ، قاتِلُوا مَنْ كَفَرَ باللّه، اغْزُوا وَلا تَغُلُّوا ولا تَغْدِرُوا وَلا تُمَثِّلوا وَلا تَقْتُلُوا وَلِيداً .. " الحديث 4

وهكذا كان الخلفاء الراشدون y من بعده e فهذا أبو بكرt وقد وبعث أوصى جيش أسامة فقال: (يا أيها الناس قفوا أوصيكم بعشر فاحفظوها عني: لا تخونوا، ولا تَغُلُّوا، ولا تغدروا، ولا تمثلوا، ولا تقتلوا طفلاً صغيراً أو شيخاً كبيراً ولا امرأة، ولا تعقروا نحلاً ولا تحرقوه، ولا تقطعوا شجرة مثمرة، ولا تذبحوا شاة ولا بقرة ولا بعيراً إلا لمأكلة، وسوف تمرون بأقوام قد فرغوا أنفسهم في الصوامع فدعوهم وما فرغوا أنفسهم له. وسوف تقدمون على قوم يأتونكم بآنية فيها ألوان الطعام فإذا أكلتم منها شيئا فاذكروا اسم اللّه عليها) الخ ما ذكره رضي الله عنه 5 .

* أمر الإسلام بالوفاء بالعهود التي أخذها المؤمنون على أنفسهم أو على غيرهم وعدم الإخلال بها قال تعالى { وَأَوْفُواْ بِعَهْدِ اللّهِ إِذَا عَاهَدتُّمْ وَلاَ تَنقُضُواْ الأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلاً إِنَّ اللّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ {91}سورة النحل }وقال سبحانه {وَأَوْفُواْ بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْؤُولاً {34}سورة الإسراء}.

فالوفاء بالعهود من سمات المؤمنين الصادقين قال تعالى {وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُواْ وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاء والضَّرَّاء وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ {177}} .

من هنا فيحرم قتل الذمي بغير حق 6

دعا الإسلام إلى الجنوح للسلام إذا طلبه الكفار قال تعالى في سورة الأنفال {وَإِن جَنَحُواْ لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ {61}} ، والمقصود بالسلم هنا السلام العادل المنصف الذي يحفظ للمسلمين عزتهم وكرامتهم ويضمن لهم حقوقهم ، فهو سلام من منطق القوة سلام العزة والكرامة ، وليس سلام الضعفاء الأذلاء المقهورين فالإسلام لايرضى لأتباعه إلا القوة والعزة والأمن والكرامة ؛ لذلك فلا عبرة بالسلام المزعوم المبني على ضعف واستسلام وأكاذيب وأوهام وقبول للمساومات وتقديم للتنازلات قال تعالى {وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنتُمُ الأَعْلَوْنَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ {139}} 7 وقال جل وعلا { فَلا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنتُمُ الأعْلَوْنَ وَاللَّهُ مَعَكُمْ وَلَن يَتِرَكُمْ أَعْمَالَكُمْ {35} 8

صور من تسامح الرسول e

* لما قدم الرسول e المدينة غرس فيها بذور التسامح بين المسلمين وغيرهم فأقام معاهدة مع اليهود تنص على السماحة والعفو والتعاون علىالخير والمصلحة المشتركة وحافظ الرسول e على هذا الميثاق – ميثاق التعايش السلمي – لكن اليهود سران ما نقضوه .

* ولما جاء وفد نصارى نجران أنزلهم الرسول e في المسجد ولما حان وقت صلاتهم تركهم يصلون في المسجد فكانوا يصلون في جانب منه ، ولما حاوروا الرسول e حاورهم بسعة صدر ورحابة فكر وجادلهم بالتي هي أحسن ومع أنه أقام الحجة عليهم إلا ،ه لم يكرههم على الدخول في الإسلام بل ترك لهم الحرية في الاختيار ، وقد أسلم بعضهم بعدما رجعوا إلى نجران . 9

* ولقد كان صلى الله عليه وسلم يوصي كثيرا بأهل الذمة والمستأمنين وسائر المعاهدين ويدعو إلى مراعاة حقوقهم وإنصافهم والإحسان إليهم وينهى عن إيذائهم :

* وروى أبو داود في السنن عن صفوان بن سليم عن عدة من أبناء أصحاب رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، عن آبائهم عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال: "ألا من ظلم معاهداً أو انتقصه أو كلفه فوق طاقته أو أخذ منه شيئاً بغير طيب نفسٍ فأنا حجيجه (أي أنا الذي أخاصمه وأحاجه) يوم القيامة".10

* عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من قتل معاهدا لم يرح رائحة الجنة، وإن ريحها توجد من مسيرة أربعين عاما). 11

وإذا أجار أحد من المسلمين مشركا في دار الإسلام فيجب معاونته على ذلك ويحرم خفر ذمته ففي الصحيحين عن أبي مرة مولى أم هانىء بنت أبي طالب أنه سمع أم هانىء بنت أبي طالب تقول: ذهبت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم عام الفتح، فوجدته يغتسل، وفاطمة ابنته تستره، قالت: فسلمت عليه، فقال: (من هذه). فقلت: أنا أم هانىء بنت أبي طالب، فقال: (مرحبا بأم هانىء). فلما فرغ من غسله. قام فصلى ثماني ركعات، ملتحفا في ثوب واحد، فلما انصرف، قلت: يا رسول الله، زعم ابن أمي، أنه قاتل رجلا قد أجرته، فلان بن هبيرة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (قد أجرنا من أجرت يا أم هانىء). قالت أم هانىء: وذاك ضحى.12

* وروى أبو داود في السنن عن عَمْرِو بن شُعَيْبٍ عن أبِيهِ عن جَدّهِ قال قال رَسُولُ الله صلىالله عليه وسلم : "المُسْلِمُونَ تَتَكَافَأُ دِمَاؤُهُمْ يَسْعَى بِذِمّتِهِمْ أدْنَاهُمْ وَيُجِيرُ عَلَيْهِمْ أقْصَاهُمْ، وَهُمْ يَدٌ عَلَى مَنْ سِوَاهُمْ يَرُدّ مُشِدّهُمْ عَلَى مُضْعِفِهِمْ، وَمُتَسَرّيهمْ عَلَى قَاعِدِهِمْ لاَ يُقْتَلُ مُؤْمِنٌ بِكَافِرٍ وَلاَ ذُو عَهْدٍ في عَهْدِهِ " . 13

* ومن المواقف الدالة على سماحته صلى الله عليه وسلم مع غير المسلمين هذا الموقف مع يهودي يدعى زيد بن سعنة أراد أن يختبر حلمه صلى الله عليه وسلم :

قال زيد لم يبق شيء من علامات النبوة إلا وقد عرفتها في وجه محمد صلى الله عليه وسلم حين نظرت إليه إلا اثنتين لم أخبرهما منه يسبق حلمه جهله ولا يزيده شدة الجهل عليه إلا حلما قال فكنت أتلطف له لأن أخالطه فأعرف حلمه وجهله فذكر قصة إسلافه للنبي صلى الله عليه وسلم مالا في ثمرة قال فلما حل الأجل أتيته فأخذت بمجامع قميصه وردائه وهو في جنازة مع أصحابه ونظرت إليه بوجه غليظ وقلت يا محمد ألا تقضيني حقي فوالله ما علمتكم بني عبدالمطلب لمطل قال فنظر إلى عمر وعيناه يدوران في وجهه كالفلك المستدير ثم قال يا عدو الله أتقول لرسول الله صلى الله عليه وسلم ما أسمع وتفعل ما أرى فوالذي بعثه بالحق لولا ما أحاذر لومه لصربت بسيفي رأسك ورسول الله صلى الله عليه وسلم ينظر إلى عمر في سكون وتؤدة وتبسم ثم قال أنا وهو كنا أحوج إلى غير هذا منك يا عمر أن تأمرني بحسن الأداء وتأمره بحسن التباعة اذهب به يا عمر فاقضه حقه وزد عشرين صاعا من تمر فأسلم زيد بن سعية رضي الله عنه وشهد بقية المشاهد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وتوفي عام تبوك رحمه الله 14

* ومن مواقف السماحة والعفو في حياته صلى الله عليه وسلم حينما هم أعرابي بقتله حين رآه نائما تحت ظل شجرة وقد علق سيفه عليه فعن جابر رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أنه غزا مع النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم قبل نجد فلما قفل رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم قفل معهم فأدركتهم القائلة في واد كثير العضاه، فنزل رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم وتفرق الناس يستظلون بالشجر، ونزل رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم تحت سمرة فعلق بها سيفه، ونمنا نومة فإذا رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم يدعونا وإذا عنده أعرابي فقال: إن هذا اخترط علي سيفي وأنا نائم فاستيقظت وهو في يده صلتا قال: من يمنعك مني؟ قلت: اللَّه ثلاثا ، ولم يعاقبه وجلس. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

وفي رواية قال جابر: كنا مع رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم بذات الرقاع فإذا أتينا على شجرة ظليلة تركناها لرَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم، فجاء رجل من المشركين وسيف رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم معلق بالشجرة فاخترطه فقال: تخافني؟ قال : لا فقال: فمن يمنعك مني؟ قال اللَّه ، فسقط السيف من يده فأخذ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم السيف فقال: من يمنعك مني؟ فقال: كن خير آخذ. فقال: تشهد أن لا إله إلا اللَّه وأني رسول اللَّه؟ قال: لا ولكني أعاهدك أن لا أقاتلك ولا أكون مع قوم يقاتلونك. فخلى سبيله، فأتى أصحابه فقال: جئتكم من عند خير الناس. 15

* ومن النماذج الدالة على سماحة الصحابة رضي الله عنهم :

* ما رواه الإمام الترمذي في السنن عن مُجاهدٍ أنَّ عبدَ اللهِ بنَ عمرو ذُبحتْ لهُ شاةٌ في أهلهِ فلمَّا جاءَ قال أهديتُمْ لجارنَا اليهوديِّ؟ أهديتُمْ لجارنا اليهوديِّ؟ سمعتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وسَلَّم يقول: (ما زالَ جبريلُ يُوصِيني بالجارِ حتَّى ظننتُ أنَّهُ سيورِّثُهُ) . 16

* وحين مر أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه بشيخ من أهل الذمة يقف على الأبواب يسأل الناس قال : ما أنصفناك أن كنا أخذنا المال في شبيبتك وضيعناك في شيبك ثم أجرى عليه من بيت مال المسلمين ما يصلحه 17

* وحين اشتكت إليه امرأة قبطية من عمرو بن العاص الذي ضم بيتها إلى المسجد أرسل إليه عمرو وسأله عن ذلك فقال إن المسجد ضاق بالمسلمين ولم أجد بدا من ضم البيوت المحيطة بالمسجد وعرضت على هذه المرأة ثمنا باهظا فأبت أن تأخذه فادخرته لها في بيت المال وانتزعت ملكيتها مراعاة للمصلحة العامة لكن الفاروق عمر أمره بأن يهدم هذا الجزء الذي للمسجد ويعيد بناءه كما كان لصاحبته . 18

* وهذا خالد بن الوليد رضي الله عنه يصالح أهل الحيرة ويكتب في كتاب الصالح " وجعلت لهم أيما شيخ ضعف عن العمل أو أصابته آفة من الآفات أو كان غنيا فافتقر وصار أهل دينه يتصدقون عليه طرت جزيته وعيل من بيت مال المسلمين " . 19

* ومن الصفحات المضيئة في تاريخنا الإسلامي ما ورد أن الصحابة y لما دخلوا حمص وفرضوا على أهلها الجزية فجاءهم أمر من أبي عبيدة بن الجراح بمغادرة حمص للانضمام إلى جيش المسلمين حيث مواجهة الروم في اليرموك أعادوا إلى أهل حمص ما أخذوه ؛ وقالوا إنا أخذناه في مقابل الدفاع عنكم أم وقد خرجنا فقد أصبحنا غير قادرين على حمايتكم فلزم رد ما أخذناه منكم فعجب لذلك أهل حمص أشد العجب وتمنوا لهم النصر على عدوهم .

* وإن المقارن بين سماحة المسلمين حين يكتب لهم النصر والتمكين وبين ما سجله التاريخ من وحشية في الحروب الصليبية وخلال فترات الكشوف الجغرافية والاستعمار الذي حل بكثير من بلاد الإسلام حقبة من الزمن يتجلى له الفارق بين دين الحق دين التسامح والعفو وبين أتباع الأديان المحرفة . 20

شهادت منصفة

لقد شهد العديد من الساسة والمؤرخين والمفكرين ورجال الدين من غير المسلمين شهادات منصفة صادقة وفيما نذكر بعضا منها :

* يقول الأمير تشارلز ولي عهد بريطانيا: "إن الإسلام يمكن أن يعلمنا طريقة للتفاهم والعيش في العالم ، الأمر الذي فقدته المسيحية ، فالإسلام يرفض الفصل بين الإنسان والطبيعة ، والدين والعلم ، والعقل والمادة" 21

وتقول المستشرقة الألمانية زيغريد هونكه : "لا إكراه في الدين ، هذا ما أمر به القرآن الكريم ، فلم يفرض العرب على الشعوب المغلوبة الدخول في الإسلام ، فبدون أي إجبار على انتحال الدين الجديد اختفى معتنقو المسيحية اختفاء الجليد، إذ تشرق الشمس عليه بدفئها ! وكما تميل الزهرة إلى النور ابتغاء المزيد من الحياة ، هكذا انعطف الناس حتى من بقي على دينه ، إلى السادة الفاتحين" 22

* ويقول غوستاف لوبون في " مجلة التمدن الإسلامي" : : " إن المسلمين وحدهم هم الذين جمعوا بين الغيرة لدينهم وبين روح التسامح نحو أتباع الأديان الأخرى وإنهم مع حملهم السيف فقد تركوا الناس أحرارا في تمسكهم بدينهم " .

* "كل ما جاء في الإسلام يرمي إلى الصلاح والإصلاح ، والصلاح أنشودة المؤمن ، وهو الذي أدعو إليه المسيحيين" .

* ويقول المستشرق بول دي ركلا : "يكفي الإسلام فخراً أنه لا يقر مطلقاً قاعدة (لا سلام خارج الكنيسة) التي يتبجح بها كثير من الناس ، والإسلام هو الدين الوحيد الذي أوجد بتعاليمه السامية عقبات كثيرة تجاه ميل الشعوب إلى الفسق والفجور" .

* يقول المستشرق بارتلمي سانت هيلر :

" إن دعوة التوحيد التي حمل لواءها الإسلام ، خلصت البشرية من وثنية القرون الأولى"

* ويقول العلامة الكونت هنري دي كاستري : "درست تاريخ النصارى في بلاد الإسلام ، فخرجت بحقيقة مشرقة هي أن معاملة المسلمين للنصارى تدل على لطف في المعاشرة ، وهذا إحساس لم يُؤثر عن غير المسلمين .. فلا نعرف في الإسلام مجامع دينية ، ولا أحباراً يحترفون السير وراء الجيوش الغازية لإكراه الشعوب على الإيمان".

* ويبين الشاعر غوته ملامح هذا التسامح في كتابه (أخلاق المسلمين) فيقول: "للحق أقول : إن تسامح المسلم ليس من ضعف ، ولكن المسلم يتسامح مع اعتزازه بدينه ، وتمسكه بعقيدته" .

* ويقول المستشرق لين بول : "في الوقت الذي كان التعصب الديني قد بلغ مداه جاء الإسلام ليهتف (لكم دينكم ولي دين) ، وكانت هذه المفاجأة للمجتمع البشري الذي لم يكن يعرف حرية التدين ، وربما لم يعرفها حتى الآن " .

* ويقول الفيلسوف جورج برناردشو : "الإسلام هو الدين الذي نجد فيه حسنات الأديان كلها ، ولا نجد في الأديان حسناته ! ولقد كان الإسلام موضع تقديري السامي دائماً ، لأنه الدين الوحيد الذي له ملكة هضم أطوار الحياة المختلفة ، والذي يملك القدرة على جذب القلوب عبر العصور ، وقد برهن الإسلام من ساعاته الأولى على أنه دين الأجناس جميعاً ، إذ ضم سلمان الفارسي وبلالاً الحبشي وصهيباً الرومي فانصهر الجميع في بوتقة واحدة " .

* ويقول توماس أرنولد في كتابه الدعوة الإسلامية : لقد عامل المسلمون الظافرون العرب المسيحيين بتسامح عظيم منذ القرن الأول للهجرة ، واستمر هذا التسامح في القرون المتعاقبة ، ونستطيع أن نحكم بحق أن القبائل المسيحية التي اعتنقت الإسلام قد اعتنقته عن اختيار وإرادة وأن العرب المسيحيين الذين يعيشون في وقتنا هذا بين جماعات المسلمين لشاهد على هذا التسامح " . 23

* ويقول شاعر فرنسا (لامارتين) : "الإسلام هو الدين الوحيد الذي استطاع أن يفي بمطالب البدن والروح معاً ، دون أن يُعرِّض المسلم لأن يعيش في تأنيب الضمير … وهو الدين الوحيد الذي تخلو عباداته من الصور ، وهو أعلى ما وهبه الخالق لبني البشر " 24

================

#حينما تتوحد رؤية السياسي ورؤية الفقيه

طارق حسن السقا

سقطت بغداد على يد المغول سنة 656هـ . وبعدها بعامين تقريبا سقطت دمشق . يومها أصيبت دولة الخلافة الإسلامية في مقتل بسقوط هاتين المدينتين . جاءت قوات الجيش المغولي إلى بلادنا وفي مقدمة أهدافها محو الإسلام من على خريطة الوجود . وكان من كثرة الأساطير والأقاويل التي نسجت حول قوة هذا الجيش أن دب الرعب ، وسيطر الخوف على قلوب المسلمين في كل مكان . حتى أنهم كانوا يعتقدون أن المغول ما هم إلا بلاء سلطه الله عليهم . وأنهم جنس غير الأجناس البشرية المعروفة . بل هم جنس مستحيل أن يقهر أو يهزم أو يكسر .

بعد سقوط بغداد ودمشق لم يكن للمسلمين في جميع بقاع الأرض – بعد الله سبحانه وتعالى – إلا مصر كما يجمع المؤرخون . فلو سقطت مصر فلن تقوم للمسلمين قائمة. بل سيصبح المسلمون تاريخ وذكريات . وفي الوقت نفسه كانت كل التوقعات تشير إلى أن مصر هي المحطة القادمة لهولاكو .

وما أن علم القادة المصريون بقرار الزحف إلا وعقدوا اجتماعا طارئا في قلعة الجبل . حضر هذا الاجتماع عدد من العلماء والأمراء والحكماء . وكان من بين أبرز الحاضرين : سلطان العلماء العز بن عبد السلام ، وحاكم مصر " الصغير " على بن عز الدين أيبك ، والقائد العسكري المغوار سيف الدين قطز . وناقش المجتمعون الأمر وكانت الخيارات المطروحة : -

1 – إما طلب الصلح وهذا سيترتب عليه الذله والخضوع .

2 – وإما طلب الهدنة وهذا سيترتب عليه المهانة والانكسار .

3 – أو إعلان حالة الجهاد فإما النصر وإما الشهادة .

وبعد شورى ونقاش استمع السياسي لرؤية الفقيه . وصغى الفقيه لرؤية السياسي . وجاء القرار : إعلان حالة الجهاد ضد جيوش المغول بالرغم من فارق العدد والعدة والعتاد المادي بين الطرفين . ولكن العلماء قاموا بدورهم فحشدوا الطاقات ، ووحدوا الجهود ، ورفعوا المعنويات والهمم . واشترط سلطان العلماء العز بن عبد السلام أن يبدأ الكبراء والأمراء بأنفسهم وأن يبيع كل واحد منهم ما عنده من ذهب، ومجوهرات، ونفائس ليكونوا قدوة إلى غيرهم .

وبالفعل أعلنت حالة الطوارئ ، وجاء اليوم الموعود . وخرج الجيش المصري ليلاقي الجيش الباغي المتكبر عند قرية صغيرة شمال فلسطين ( عين جالوت ) بقيادة المغوار قطز الذي خرج متسلحا بإيمانه بالله ، وبثقته في العلماء والحكماء . وقبل كل ذلك ثقته في شعبه الذي خرج مؤمنا بعدالة القضية التي يحارب من أجلها . فلقد تحرك المصريون خلف قطز لا من أجل قطز ، ولا من أجل مغانم وعدهم إياها ، ولا من أجل ألقاب ، ولا رفعا لشعارات جوفاء ، أو سعيا وراء أوهام أو أحلام . إنما خرجوا وتحركوا لثقتهم في علمائهم ورغبة منهم في أن تبقى كلمة الله هي العليا وكلمة الذين كفروا السفلى . من أجل أن تبقى راية لا إله إلا الله عالية خفاقة . وفي سبيل ذلك تهون الحياة بمباهجها وملذاتها إن كان في الحياة مباهج أو ملذات .

ودارت المعركة . وتفوق الجيش المصري . وكر الجيش المغولي .وفر الجيش المصري . ولما رأى السلطان قطز كفة الصراع تميل لصالح المغول صاح صيحته الخالدة : واإسلاماه .... واإسلاماه . وسرعان ما اتزنت الأمور . واستطاع الجيش المصري أن يلقن المغول درسا سجله التاريخ . انتصارا أرى أنه أغلى انتصار في تاريخ حضارتنا الإسلامية " بعد بدر " لأنه لو هزم المسلمون في هذه الموقعة لضاع الإسلام . ولكن..........

إن الأمة التي بها شباب صالح ، وعلماء أتقياء لا يمكن اقتلاعها من جذورها مهما كانت المؤامرات . أما الدولة التي ليس بها شباب صالح ولا علماء أتقياء يسهل اقتلاعها من خريطة الجغرافيا والتاريخ سهولة اقتلاع الشعرة من العجين .

إن السياسيين عندما تلم بهم الخطوب ، وتدر كهم المخاطر . فعليهم إن يتسلحوا بالأفكار الكبيرة والعقول الكبيرة . عليهم أن يقفوا على أبواب العلماء والفقهاء والحكماء . وليس اللجوء إلى محترفي الخداع والنفاق والأكل على كل الموائد

==============

#جودة الهدف والمضمون في البرامج الترفيهية *

أحمد بن عبد المحسن العساف

مع كثرةِ البرامج الترفيهية المقدَّمة للجماهير تبرزُ أهميةُ العنايةِ بجودةِ البرنامج الترفيهي من حيثُ أهدافُه ومضامينُه لمَنْ يحملونَ رسالةً سامية للمجتمع والأفراد؛ وسوفَ نتحدثُ في هذه الورقة عن جودةِ الهدف والمضمون في البرامج الترفيهية التي يقوم عليها الصالحون حتى تكونَ متميزةً عن غيرها.

إنَّ خلاصةَ معنى الترفيه هي إدخالُ السرورِ على النفس والترويحُ عنها وتجديدُ نشاطِها وبعثُ حيويتها، وكلُّ لعبٍ ترتبت عليه فوائدٌ ومصالح تفوقُ مفاسِدَه فهو جد.

أهدافُ الترفيه: ( مختصرة من كتاب: قضايا اللهو والترفيه بين الحاجة النفسية والضوابط الشرعية - مادون رشيد).

الترويحُ والاستجمام.

صرفُ شيءٍ من الطاقة.

التخلصُ من بعضِ الصفات السلبية ( خاصة مع الصغار والشباب ).

الإعدادُ للحياةِ المستقبلية ( للصغار والشبابِ غالباً).

التنفيسُ والتهدئة.

التوازن ( للكبار غالباً).

وتجدرُ الإشارةُ إلى أنَّ الجودةَ تتضمنُ عدَّةَ مَعانٍ مثل:

o التحسينِ المستمر.

o العملِ الجماعي.

o المراجعةِ المصاحبةِ للعمل.

o الاستجابةِ لطلباتِ وحاجاتِ المستفيدين.

o خفضِ التكاليف وتقليلِ الوقت اللازم لانجاز المهمات ويكونُ ذلكَ بأداءِ العملِ الصحيحِ بطريقةٍ صحيحةٍ من المرة الأولى.

ونبدأُ بالحديثِ عن جودةِ البرامج الترفيهية من حيث الأهدافُ لأنه أساسٌ لما بعده؛ وينتظمُ تحتَ سِلكِ هذه المفردة عدَّةُ أمورٍ منها:

1. أهميةُ البُعدِ التعبدي: لأن الترويحَ والاستجمامَ عبادةٌ إذا أُريدَ منهما حملُ النفسِ والآخرين على الطاعاتِ والجدية أو نقل المستفيد من الضلالة إلى الهدى.

2. العنايةُ بالجانب التربوي: تكونُ برامجنا ذاتَ رسالةٍ تربويةٍ عامة لكلِّ مَنْ يشارك فيها؛ والتوفيقُ والهداية من الله.قال جلَّ شأنه :" لقد كان في قصصهم عبرة لأولى الألباب.. " الآية111 من سورة يوسف.

3. الحذرُ من الحيادية: والحيادُ يكادُ أن يكونَ معدوماً خاصةً في زمن المواجهة المعلنة.

4. صناعةُ النموذج: ليستفيدَ منه المصلحون - حيثما كانوا - أو من خطوطه العريضة.

5. الظفرُ بالمرجعيةِ الترفيهية والترويحية.

6. تغييرُ مفهومِ الترفيه على المستوى الاجتماعي والثقافي وتصحيحه.

7. اكتفاءُ المشاركين بهذا البرنامج واستغناؤهم عن البرامج المحرَّمة والمضيِّعة للأوقات.

8. التدريبُ وتخريج القادة والمخططين للبرامج السياحية والترفيهية واكتشاف المواهب والقدرات.

9. الاحترافيةُ في العمل والأداءِ والفوزُ بشريحةٍ كبيرة ومتنوعةٍ من السوق.

10. التركيزُ على فئاتٍ معينة والتخصصُ بشؤونها الترفيهية.

11. استهدافُ المصايفِ والمناطقِ التي يؤمُها الناس.

وبعدَ العنايةِ بالهدفِ وجودتِه لا يصعبُ على العقولِ المبُتكرة المستنيرة بِهَدْي الله أنْ تحوزَ الجودةَ بالمضمونِ من خلال:

1. تعظيمِ حُرماتِ الله: كالتوقف للأذان والصلاة ومنع الاختلاط.

2. تعزيزِ القيمِ في أثناءِ البرامج الترفيهية.

3. تنويعِ البرامج بما يخدمُ الشرائحَ المستهدفة.

4. التجديد والإبداع.

5. الإسهامِ في بناءِ السماتِ الشخصية للمستفيدين مثل: تحمُّل المسؤولية- الانضباط-احترام الآخرين-تصحيح الأخطاء وغيرها.

6. حمايةِ المروءة " وقد نصَّ الفقهاءُ في بابِ الشهادةِ على سقوطِ شهادة المضَّحِك والساخر والمستهزئ وكثيرِ الدعابة ". ص 35 التمثيل: حقيقته، تاريخه، حكمه للشيخ بكر أبو زيد.

7. الحذرِ من السهر الطويل وإضاعةِ الأوقات.

8. ربطِ أفرادِ المجتمع بالناصحين والمخلصين كمستضافين مثلاً أو توزيع إنتاجهم الدعوي والعلمي.

9. تقديمِ مُنتجٍ ترفيهيٍ ماتعٍ وخالٍ من المحاذيرِ الشرعية.

10. أنْ تكونَ الألعابُ من رَحمِ حضارتنا؛ وإذا كانت مستوردةً فلا بدَّ من إعادةِ بنائِها بما يتوافقُ مع أركانِ ثقافتنا ديناً ولغة وتاريخاً.( ينظر: كتابي لعب العرب وخيال الظل وكلاهما لأحمد تيمور).

11. ضبطِ جوانبِ الأمنِ والسلامةِ في البرامج الترفيهية من خلال:

{ معرفةِ حدودِ المهارة والقدرة.

{ توافرِ المعدات والأجهزة المناسبة والجاهزة للأداء.

{ استخدامِ الملابس الملائمة.

{ مراعاةِ لوازم الوقت والأحوال الجوية.

{ مشاركةِ الفرق الإسعافية.

{ تدريبِ التنفيذيين على الإسعافات الأولية.

{ توضيحِ خطورة بعض الألعاب؛ مع أنَّ الأصل اجتنابها.

{ مشاركةِ فنيين خبراءَ في الأجهزة ومنقذين ومدربي سباحةٍ وغوصٍ وتسلُّق. (يغرق 5000 شخص سنوياً في أمريكا و550 شخصاً في المملكة المتحدة ).

وأخيراً أشيرُ إلى أهميةِ الالتفات إلى ما يلي:

1- إتقانِ صناعةِ التسويق خصوصاً مع وجود بيئة تنافسية غير شريفة امتزج العهر فيها مع السحر متفلِّتةً من أيِّ قَيْدٍ أو فضيلة .

2- تعلُّمِ صياغة الصورة الذهنية وإدارة الانطباعِ وفنونِ نشر الأفكار الجميلة البنَّاءة التي تنفعُ الناسَ والبلاد في الدين والدنيا؛ حيثُ أنَّ البرامجَ الترفيهيةَ مدخلٌ مناسب لبث الخير في الناس ونشر الفضيلة والدفاع عن الحق.

3- توثيقِ العمل والاحتفاظ بسجل خططه ونتائج مراجعته إضافةً إلى مجريات أحداثه بالصور الحية التي لا حرج فيها شرعاً أو نظاماً.

4- بناءِ شراكةٍ متينة مع الجهات الحكومية الأمنية والاحتسابية والإعلامية والسياحية والصحية والثقافية وغيرها. وكذلك مع القطاع الخاص والجهات الخيرية بما يعزز جودة الهدف والمضمون ولا يناقضهما.

5- مأسسةِ العمل حتى لا يرتبطَ بأشخاصٍ وأعيان.

6- التفكيرِ في بناء مدنٍ ترفيهية دائمة. أنشأ والت ديزني منتزه ديزني لاند في أنهايم بكاليفورنيا عام 1955 ( قبل 53 عاماً ).

7- إنتاجِ برامجَ ترفيهيةٍ وترويحية للأسر والقنوات الفضائية.

8- بحثِ إمكانية الاستثمار في الترفيه والترويح.

9- تبادلِ الخبرات والتجارِب داخلياً وخارجياً.

10- اتخاذِ مواقعَ على الشبكةِ العالمية للتواصل مع المختصين والجمهور.

11- صرفِ جهدٍ مناسب للألعابِ الحركية والرياضة المرغَّبِ فيها كالرماية والسباحةِ وركوبِ الخيل.

وفي الختام فهذه أفكارٌ عاجلة تحتاجُ لتمحيصٍ ودراسةٍ وربطٍ مع باقي أوراق هذا الملتقى؛ سائلاً المولى القدير لكم وللمنظمين التوفيق والمثوبة وحُسن العاقبة.

* ورقةُ عملٍ بعنوان:"جودةُ الملتقياتِ الترفيهيةِ من حيث الهدفُ والمضمون " مقدمةٌ لملتقى مديري البرامج الترفيهية والسياحية تحت رعاية شركة عطاء للتدريب والاستشارات والتنمية البشرية في الرياض خلال الفترة من 8-9 ربيع الآخر 1428.

أحمد بن عبد المحسن العساف-الرياض

الخميس 02 من شهر ربيع الآخر عام 1428

ahm_assaf@yahoo.com

===============

#الشيء من معدنه لا يُستغرب

د. أميمة بنت أحمد الجلاهمة

أكاديمية سعودية .. جامعة الملك فيصل الدمام

عنصرية مقننة حصل عليها الكيان الصهيوني، أو ظن أنه كذلك!

هذا ما طالعنا به قانون أمريكي جديد نصّب الولايات المتحدة الأمريكية قاضي القضاة.. قانون من الحكمة أن يظل حبيس الورق إن لم يملك موقعه الشجاعة الكافية لسحبه، و من ثم الاعتذار للعالم الذي أساء بتطاوله عليه، و للأمم التي لا تمتّ له بصله وتتباهى بعدم تبعيتها لهذا أو ذاك، ولمنظمة الأمم المتحدة الذي تجاهلها واستخف بها، وبقراراتها وباستقلاليتها، والتي لا شك يسعى لفرض عقوباته عليها هي الأخرى، إذا ما تجرأت وأصدرت إدانة ولو مبطنة على جرائم الكيان الصهيوني ضد الإنسان الفلسطيني..!!

إن محاولة تمرير هذا القانون على أرض الواقع فيه خطورة لا على شعوبنا العربية ولا على شعوب العالم؛ فهذه الشعوب قادرة بعون الله على رفض ومقاومة هذا الاستفزاز.. بطريقة حضارية أشك في فهم الإدارة الأمريكية لأبجديتها.

إن الخطورة في حقيقة الأمر تنطلق من وعلى الوحدة الوطنية الأمريكية.. خطورة لا أعتقد أن الرئيس بوش أخذها بالحسبان؛ فما يهم إدارته لا يعدو ربح الحرب الانتخابية ضد خصمه جون كيري، وفي سبيل هذه الغاية يهون مستقبل أمريكا واتحادها! فلم لا والغاية تبرر الوسيلة؟!

إن الشعب الأمريكي متعدد الأقليات والأديان، وشعب هذه خصائصه لا أعتقد أنه سيقبل هذا القانون بارتياح ولا سياسة تنتهج هذا التحيز من إدارته؛ وعليه فالحرب الأهلية قائمة لا محالة.. حرب ستنتهي لفرض استقلال ولاياتها عن هذا الاتحاد ولو على مدى بعيد نسبياًً، هذا ما يظهر لي -والله أعلم-؛ فأغلبية الشعب الأمريكي مسيحي الديانة، ثم تأتي الديانة الإسلامية في المرتبة الثانية من تعداد السكان، لتحل اليهودية في المرتبة الثالثة، ومع ذلك فالابن المدلل للإدارات الأمريكية السابقة والحالية بشكل خاص لا يعدو القلة القليلة من مواطني الأرض الأمريكية، وبالتالي القلة القليلة من دافعي الضرائب، وبالتالي القلة القليلة للسكان.. والتي هي بالمفهوم الغربي، لا قيمة لها؛ فالإنسان الأمريكي يؤمن بالديمقراطية التي تتطلع دوما للأغلبية، وقانون كهذا لا يتناسب جملة وتفصيلاً مع المفهوم الأمريكي للعدالة؛ إذ إنه تغاضى عن حقوق الأغلبية وركز جل اهتمامه على الأقلية المزدوجة الانتماء..

إنه مما لا شك فيه أن انتماء هذه الجالية الأول للصهيونية ثم يأتي انتماؤها لأمريكا الأرض الحاضنة لتطلعات الصهيونية الاحتلالية.. تطلعات أعلن عنها ساستها بكل صراحة: (شارون) غني عن التعريف، ولا حاجة لنا هنا للحديث عن جرائمه، و لنسمع معاً (عيزرا وايزمن) الرئيس الأسبق للصهيونية الذي أعلن إيمانه التام بالإرهاب الصهيوني بقوله: "إن اللجوء إلى العنف والإرهاب، والتعاون مع الشر أمر لا بد منه لإقامة الوطن القومي لليهود". أما (بيغن) فقد قال بدوره ما يؤكد معاداته للجنس العربي: "أنتم الإسرائيليون يجب ألا تأخذكم شفقة.. أو رحمة عندما تقتلون عدوكم، عليكم أن تدمروا حضارة العرب، التي ستشيد على أنقاضها حضارتنا اليهودية"! ومن مقولاته: "لا يمكن أن نشتري السلام مع أعدائنا العرب؛ فالسلام الذي يمكن أن يُشترى هو فقط سلام القبور"! أما (نتنياهو) فمن أقواله التي يعتز والتي حرص على أن يوردها في كتابة (حرب الإرهاب) قوله: "إن الإسلام هو عدو إسرائيل، وعلى إسرائيل أن تتهيأ جيداً لمحاربة الإسلام.."! وقوله: "لا يمكن أن يقوم السلام، إلا إذا زالت إحدى الديانتين اليهودية أو الإسلام"! وخلال حكمه هدّد حلفاءه الأميركيين، بحرق واشنطن والبيت الأبيض الأميركي، إذا لم تخضع الإدارة الأميركية لشروطه في السلام مع الفلسطينيين!.

وبعد هذا التهديد المعلن بحرق واشنطن والبيت الأبيض إذا لم تخضع الإدارة الأمريكية لشروط سيدها الصهيوني، يأتي الوجيه الأمريكي (لاري سمرز) رئيس جامعة (هارفورد) ووزير الخزانة السابق في فترة رئاسة الرئيس الأمريكي( بيل كلنتون) ليشير في خطاب له إلى توازي مفهومي معاداة السامية، ومعاداة الصهيونية.. معتبراً إن أي رفض لإسرائيل هو في حد ذاته معاداة للسامية!

أقترح أن يُعدّل القانون ليكون ( قانون مراقبة انتقاد اليهود للعرب والمسلمين) لعله يتماشى مع واقع الصهيونية، فإن كانت الإدارة الأمريكية راضية بتطاولها عليها؛ فنحن المسلمين والعرب نأبى الضيم سواء كان واقعاً علينا أو على غيرنا..

=============

#هل تريد أن تكون سعيدا؟

عفوا...... هل تريد أن تكون بائساً؟..

إذن عليك بالنمط الغربي.. قلده في كل شيء، واجر وراءه، وعظم أولياءه، وادع إليه..

حينها وأثناءها وبعدها، وربما قبلها بقليل:

سترى البؤس بأم عينيك.. سترى الضيق والقلق، والكبت والضجر.. سيكون صدرك ضيقا حرجا كأنما يصّعد في السماء.. ستختلط أخلاقك وقيمك، وستتبخر أوصافك الحميدة، وستفقد صحتك الجميلة، وتشيخ قبل أوانك، وتموت قبل أن تقضي آمالك...

طبعا إن كنت عاقلا فأنت لا تريد أن تكون كذلك.. وليس ثمة عاقل متيقظ يريد أن يكون كذلك...

لكن كثيرا يركضون نحو البؤس، وهم يشعرون، وهؤلاء ليسوا بعقلاء..

أو لا يشعرون، وهؤلاء في غفلة ...

قطعا ستقول: أين دليلك على ما تقول؟..

سأقول لك: ليس دليلي قولي، بل قولهم.. سآتيك باعترافهم.. هم..

وإذا جاءتك الشهادة من أهلها، فلن تكون مزورة ولا كاذبة..

أليس كذلك؟..

إذن، تابع معي هذا الكتاب:

-------------

"الإنسان ذلك المجهول"...

كتاب كتبه الطبيب الدكتور الفرنسي ألكسيس كارل الذي عاش في الفترة ما بين 1873م ـ 1944م، عمل في معهد روكفلر للأبحاث العلمية بنيويورك، ومنح جائزة نوبل لأبحاثه الطبية الفذة.

وكتابه " الإنسان ذلك المجهول" أشهر كتبه، وقد استقبل بحماسة بالغة عندما نشر لأول مرة، وأعيد طبعه عدة مرات، لأنه يشتمل على كثير من تجاربه عن الإنسان والحياة من وجهة نظر علمية بحتة..

هذا الكتاب يحكي تعاسة الإنسان الغربي الناشيء في أحضان الحضارة الصناعية المادية، ويقر بعجزه عن تحقيق:

السعادة الدائمة.. والبقاء بلا ذبول وضعف.. والحياة الأبدية..

كما يبين فيه عنصرية الكاتب، وتفضيله للرجل الأبيض الغربي على سائر البشر في الأرض.

هذا الكتاب وثيقة هامة كتبها رجل خبير بجسم الإنسان وما فيه من عمليات، خبير بحياة الغرب وما فيها من تعقيدات خطيرة انعكست آثارها على خلق ونفسية الإنسان الغربي..

لقد لمس مكمن الداء في حياة الغرب، وشهد بأن أمة الغرب تدمر نفسها بنفسها بما تنتجه من وسائل ظاهرها الراحة والمتعة والأمن، لكن باطنها المرض والكد والتعب والذبول والخوف..

ويكمن أهمية هذا الكتاب مع عرض ما فيه، أن تلك الوسائل المادية المخترعة في الغرب والتي كانت سببا لشقاء الإنسان الغربي وصلت إلينا بقضها وقضيضها وتغلغلت فينا، فبدأت حياتنا تنقلب وتصبح كحياة الغرب، ومعنى هذا أننا بدأنا وصرنا نسير في نفس الطريق الذي سار فيه الغرب..

فهل سنرث شقاءهم؟..

كثير من فقهاء الإسلام وأهل العلم حذروا منذ القديم من المبالغة في اتخاذ وسائل المتعة الزائدة، بل في القرآن والسنة التحذير من المبالغة الكبيرة في الاهتمام بأمور وشئون الدنيا، كقوله تعالى:

{ وما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور}..

(الدنيا ملعونة معلون ما فيها إلا ذكر الله وما والاه أو عالم ومتعلم) ..

وقد كان من الدعاء النبوي المشهور:

( اللهم لا تجعل الدنيا أكبر همنا، ولا مبلغ علمنا) ..

وهو كلام متين محكم.. لكن كثيرا من المسلمين لم يفقهوه حقا كما ينبغي، وأقبلوا على الدنيا إقبال الظمآن على الماء، وغرهم وفتنهم ما في الغرب من حضارة مادية، ظانين أنها تخلصهم من عناء الدنيا..

وقد نجد أنفسنا مضطرين لذكر تجارب واعترافات ألمع رجال الغرب وتقييمهم للحضارة المادية، ردا على من فتن بها من إخوتنا وأخواتنا..

قد لا يكون المؤمن محتاجا لمثل ذلك، لأن يقينه بكلام الله تعالى كاف لأن يجزم بخراب وفساد كل ما يخالف الدين المنزل، وإذا أخبر بأن الدنيا غرور وملعونة، فهي كذلك، مهما جاءت متزينة، وإذا احتاج إلى سماع كلام واعترافات الكفار فهو من باب: { ليطمئن قلبي }، فقط لا غير..

لكن هنالك جمع من إخوتنا وأخواتنا لا يأتيهم اليقين ولا يزول عنهم الشك في بطلان الحضارة المادية وفتنتها إلا بالوقوف على كلام أهلها وسماع إقرارهم بلعنة الدنيا وخطر المبالغة بها.. وهذا من ضعف إيمانهم بالله تعالى..

ولهؤلاء، ولكي يزداد المؤمنون إيمانا ننقل جملا مما اعترف به هذا الدكتور الخبير في شئون الإنسان النفسية والبدنية، وبين فيها خطورة الإغراق في متاع الدنيا.. يقول:

" قبل أن أبدأ كتابة هذا الكتاب، كنت أدرك صعوبة هذا العمل، بل استحالته تقريبا، ولكنني شرعت فيه لأنني كنت أعلم أن شخصا ما لا بد سيؤديه، لأن الناس لا يستطيعون أن يتبعوا الحضارة العصرية في مجراها الحالي لأنهم آخذون في التدهور والانحطاط، لقد فتنهم جمال علوم الجماد..

إنهم لم يدركوا أن أجسامهم ومشاعرهم تتعرض للقوانين الطبيعية وهي قوانين أكثر غموضا، وإن كانت تتساوى في الصلابة مع قوانين الدنيا، كذلك فهم لم يدركوا أنهم لا يستطيعون أن يعتدوا على هذه القوانين دون أن يلاقوا جزاءهم، ومن ثم يجب أن يتعلموا العلاقات الضرورية للعالم الدنيوي، ولأترابهم أبناء آدم، وذاتهم الداخلية، وتلك التي تتصل بأنسجتهم وعقولهم..

فإن الإنسان يعلو كل شيء في الدنيا، فإذا انحط وتدهور، فإن جمال الحضارة، بل حتى عظمة الدنيا المادية لن تلبث أن تزول وتتلاشى..

لهذه الأسباب كتبت هذا الكتاب...

من الواجب أن يحول اهتمام البشرية من الآلات وعالم الجماد إلى جسم الإنسان وروحه...

إن هدف هذا الكتاب هو أن يضع تحت تصرف كل شخص مجموعة من المعلومات العلمية التي تتعلق بالكائنات الحية في عصرنا..

(((( فقد بدأنا ندرك مدى ما في حضارتنا من ضعف، وكثيرون منا يرغبون في أن يلقوا عنهم التعاليم التي فرضها عليهم المجتمع الحديث))))...

ولهؤلاء كتب هذا الكتاب، كذلك كتب لأولئك الذين يجدون من أنفسهم شجاعة كافية ليدركوا لا فقط ضرورة إحداث تغييرات عقلية وسياسية واجتماعية، بل أيضا ضرورة قلب الحضارة الصناعية وظهور فكرة أخرى للتقدم البشري، فهذا الكتاب إذن كتب لكل شخص يتولى تنشئة الأطفال وإعداد الفرد أو قيادته".. 11-12

==============================

بعد أن بين سبب تأليف الكتاب، شرع في بيان تعقيد الإنسان وأنه لا زال مجهولا، وأن أسئلة كثيرة تدور حوله لا جواب عليها، قال:

" وفي الحق لقد بذل الجنس البشري مجهودا جبارا لكي يعرف نفسه، ولكن بالرغم من أننا نملك كنزا من الملاحظة التي كدسها العلماء والفلاسفة والشعراء وكبار العلماء الروحانيين في جميع الأزمان، فإننا استطعنا أن نفهم جواب جوانب معينة فقط في أنفسنا.. إننا لا نفهم الإنسان ككل..

فنحن لا نعرف حتى الآن الإجابة على أسئلة كثيرة مثل:

كيف تتحد جزيئات المواد الكيماوية لكي تكون المركب والأعضاء المؤقتة للخلية؟..

كيف تقرر الجينس الموجودة في نواة البويضة الملقحة صفات الفرد المشتقة من هذه البويضة؟..

كيف تنتظم الخلايا في جماعات من تلقاء نفسها، مثل الأنسجة والأعضاء؟..." إلخ ص18

أسئلة كثيرة طرحها لعلميات تجري في جسم الإنسان: كيف تحدث؟.. لم يجد إجابة عليها...

وأسئلة كثيرة طرحها تتعلق بسعادة الإنسان وشقائه، كيف يمكن ضبطها؟..

لم يجد إجابة عليها، لأنه ربما كان يعيش إلحادا حقيقيا، يدل على ذلك بعض كلماته وألفاظه في الكتاب.. وانظر: 64،129،171،233،297

والمسلم يملك الجواب بإيمانه، فكل ما في الجسد من عمليات بمشيئة الله تعالى وأمره، وكنهها وحقيقتها متعلقة بالروح، فإذا عدمت الروح عدمت تلك العلميات، وحركة الإنسان ذاته جزء من تلك العلميات وناتج عنها..

وليس الغرض أن نبحث عن تلك الأمور، وليس من اختصاصنا أن نتوصل إلى كنهها وحقيقتها، بل ولا فائدة من ذلك، إذ الغرض من الخلق ليس هو البحث عن ذلك، إنما الغرض هو القيام بالأوامر الإلهية:

{ وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون}..

لكن الغرب لا يؤمن بالله ولا باليوم الآخر، ومن غرضه أن يتوصل إلى حقيقة الحياة وكيف تجري في الإنسان ليتوصل من ذلك إلى شيء أخطر وأكبر وهو محاولة بث الروح في الأموات وإعادة الحياة إليهم، بل وصناعة البشر بأيدي البشر..

لكن الروح كان العائق أمام طموحاتهم، فمهما صنعوا وأبدعوا إلا أنهم لا يملكون بث الروح والحياة في مخلوقاتهم أبدا..

إن الرجل الغربي بلغ من تشبثه بالحياة أن بذل الجهد والمال وحطم الأخلاق ليحول بين نفسه وبين الموت، أو على الأقل بين نفسه وبين الشيخوخة والكبر والهزال، لكنه أسقط في يده، وخاب مسعاه، فلم يستطع أن يحقق تقدما في الحفاظ على شباب الإنسان وموفور قوته وصحته، فضلا أن يمنع وقوع الموت..

وهنا أجد الفرصة مناسبة لأذكر مثلا حيا على ذلك:

"زراعة الأعضاء"..

وهي فكرة غربية بحتة، أصلها محاولة مد عمر الإنسان وإعطائه أكبر قدر من القدرة على التمتع والسلامة من الأمراض..

الفقهاء لدينا اختلفوا في المسألة، بين محرم ومبيح..

فأما المبيح فنظر من حيث إن التداوي جائز، وهذا من التداوي، ومن الضرورة..

وأما المحرم فنظر من حيث إن المتبرع بالعضو هو في الأصل لا يملك الحق في التبرع بشيء من جسده، لأن التبرع لا يكون إلا عن ملكية، وهو في الحقيقة لا يملك جسده، بل هو أمانة عنده..

وليس مبحثنا تقرير أحد القولين، إنما الغرض بيان أن فكرة زراعة الأعضاء وكذا الاستنساخ ما هي إلا أفكار مصدرها والدافع إليها التشبث بالدنيا، ولو كان على حساب الآخرين، أي الإنسان الغربي يريد أن يسخر كل شيء لبقائه حيا حتى بني البشر، فلا مانع لديه أن يسخر العلم والمال بل والأخلاق من أجل أن يعيش، لا بأس أن يستولي على أعضاء البشر ونفوسهم كي يتمتع هو بالحياة، وذلك الكلام ليس من فراغ، بل الحقائق والأخبار تؤكد هذا كل يوم..

إذا كان الغرب يستجيز لنفسه اختطاف الأطفال وقتلهم وإجهاض الأجنة لاستخراج مواد تافهة من أجسادهم مثل مواد التجميل، فهل يتورع عن قتل الإنسان من أجل أن يحصل على أعضائه؟..

المشكلة أن نفس الفكرة انتقلت إلى المسلمين الذين تشبهوا بالكفار في التشبث بالدنيا وكأنهم خالدون فيها، واجتهدوا في البحث عن فتاوى تؤيد هذا الفعل، وقد وجدوا من يفتي بذلك..

وإن كان هناك من لا شك دافعه إنساني، نظر إلى حالة المريض وحاجته إلى الصحة والحياة، ولم ينظر إلى حالة المتبرع، وكيف أنه سيتضرر بالتبرع، مهما قيل إنه لن يتضرر?..

فما خلق الله شيئا في بدن الإنسان إلا لوظيفة، وإزالته لا شك أنه إضرار إن لم يكن كليا فهو جزئي، وكذا لم ينظر إلى حقيقة أمر الشرع بالوجوب على الحفاظ على البدن، وأنه أمانة، لا يحق لصاحبه أن يتصرف فيه، بل هو مؤاخذ إذا أساء في ذلك:

فمن قتل نفسه فهو في النار، كما صح الأثر ..

وقد جعل الشرع دية العينين والأذنين والأنف والذكر كدية النفس..

وحرمة المسلم حيا كحرمته ميتا، كما في الأثر .. فلا فرق بين كونه حيا أو ميتا في مثل هذا..

لكن كل هذا ألغي تماما ونظر إلى جانب واحد وهو صحة المريض وبقائه حيا، وهدمت لأجل ذلك وحطمت القيم والأوامر الإلهية..

ومن المستفيد؟..

إنما هي فئة معينة هم الأغنياء الذين يملكون ثمن الزراعة..

ومن مصدر تلك الأعضاء؟..

هم الفقراء الذين لا يملكون شيئا، فيضطر أحدهم لبيع عضو من أعضائه، لينعم بمال يقيم به حياته البائسة، صار فقره وبالا عليه، فلم يعد يملك دفعه إلا ببيع شيء جسده..

هو امتهان كبير للإنسان، نراه اليوم ونسمع به في الدول الفقيرة كالهند وغيرها، منتهى البشاعة والخسة واحتقار الإنسان أن يغدو بدنه سلعة يتاجر بها، استغلالا لحاجته..

إذا كان للغرب المبرر ليعمل على تحقيق فكرة زراعة الأعضاء، وهو نظرة الاستعلاء على الغير والتشبث بالحياة، فإن المسلمين لم يكن لهم الحق في ذلك ودينهم يأمرهم بالرحمة بالآخرين، وأن يحبوا لهم ما يحبون لأنفسهم، ويحذرهم من زخرف الدنيا، ويبشرهم بأن الآخرة خير من الدنيا وما فيها..

لكن داء الغرب: الاستعلاء والكبر، وحب الدنيا..

سرى في المسلمين بسبب قلة التدين والإعجاب والفتنة بالحضارة، حتى صار هم الإنسان المسلم أن يحيا الحياة ليتمتع بأكبر قدر من المتع الكثيرة التي أنتجتها الحضارة، ولو كان على حساب الآخرين..

================================

لقد كانت هذه الفكرة ( زراعة الأعضاء ) ناتجة من الغرب، الذي لا يحفل بالإنسان، يقتله من أجل أن يعيش، ولا مانع من أن ينتهك جسده، ليبيعه من أجل أن يعيش، يقول الدكتور كارل مترجما عن شعوره وشعور كل الغربيين تجاه الآخرين:

" والجنس الأبيض، منشيء الحضارة، هو أصلب الأجناس كلها" ص14

"الأجناس الوضيعة تسكن عادة البلاد التي يكون ضوءها قويا ومتوسط درجة حرارتها مرتفعة". ص245.. وانظر130،179،242،328،335،341.

لكن لماذا كان الجنس الأوربي مفضلا على سائر الأجناس، يعلل ذلك بأمرين:

الأول:

أصل الذات وتكوين الجهاز العصبي، فيقول:

" وتدين الأجناس البيضاء بنجاحها إلى كمال جهازها العصبي، إذ على الرغم من أن جهازها العصبي رقيق للغاية وسريع الاهتياج فإن في الإمكان السيطرة عليه، وترجع سيادة الأجناس البيضاء إلى الصفات الاستثنائية لأنسجتها وإحساساتها".. ص131

الثاني:

البيئة..... يقول:

"ولقد ثبت أن الإنسان المتحضر يفسد في الطقس الاستوائي، وعلى العكس من ذلك فإنه ينجح في الجو البارد، وآية ذلك أنه يحتاج إلى طريقة في الحياة تشتمل على نضال مستمر، وبذل الجهد العقلي والعضلي، واتباع نظام فسيولوجي وأدبي، كذا بعض الاحتياجات الخاصة، فمثل هذه الأحوال تعود الجسم على الإجهاد والأحزان، إنها تحميه من المرض وبخاصة الأمراض العصبية، كما أنها تدفع الإنسان دفعا لا يقاوم ليتغلب على العالم الخارجي".. ص132.

إنه مأخوذ ومغرم ومفتون، فتن بالحضارة المادية التي أنتجها الغرب، ففضلهم على سائر البشر، ونسي الحضارات التي شهدها العالم على أيدي غيرهم خاصة المسلمين الذين نشؤوا في البلاد الحارة صيفا والباردة شتاء، يومها كانت أوربا في قمة التخلف، كانوا يعيشون في القرون الوسطى، وكانت تسمى بالعصور المظلمة، من سماها كذلك؟..

هم سموها، إذن هم يعترفون بتخلفهم وعيشهم في الظلام يوم كان المسلمون يعيشون في النور والتقدم والحضارة، وحضارتهم لم تكن إلا حسنة من حسنات المسلمين عليهم، لما علموهم طرق العلم والبحث في وقت كانوا أجهل الجاهلين بها، فكيف انقلبوا بين شمس وضحاها أرقى الأجناس البشرية؟..

إنه بمقتضى تعليله يجب أن يكون الجنس الأوربي راقيا منذ بدء الخليقة ووجودها على الأرض...

لكن التاريخ يشهد أنهم لم يكونوا كذلك في كل التاريخ، بل مرت عليهم أطوار وقرون تمتد إلى ألفي عام وأكثر كانوا فيها همجا لا يفقهون شيئا، وهذا ينقض دعوى الدكتور من أصله..

فما حكاه من سبب لتفوق ورقي الجنس الأوربي موجود فيه باستمرار دون انقطاع، فالجهاز العصبي لم يتغير، والبيئة لم تتغير، ومع ذلك عاش في تخلف..

إذن على الرغم من بحوث هذا الدكتور وقدرته وشهرته إلا أن التعصب أعماه عن الحقيقة، وفضل بغير برهان صحيح..

هذا ومن المعلوم أن الله تعالى لم يخلق شيئا إلا وله فائدة، ما خلق الهواء البارد والحار إلا لحكمة وفائدة، والعدل الأخذ من كل شيء بالمقدار المناسب، فمقتضى العقل أن يكون المتعرض للهواء البارد على الدوام ناقص كنقص المتعرض للهواء الحار على الدوام، وإنما الكمال في المتعرض لهذا تارة وهذا تارة...

وعلى ذلك فالذي يعيش في بيئة تجمع بين البرودة والحرارة، كجزيرة العرب، أكمل من الذي يعيش في بيئة منفردة بأحد الطقسين...

إذ سيناله أوصاف ومزايا كل طقس، فالبرودة تزرع فيه الصبر والجلد والتفكير، والحرارة تزرع فيه العاطفة والحركة... بخلاف من ينفرد بالطقس البارد فإنها تزرع فيه الصبر والجلد والتفكير دون العاطفة، والعكس فيمن يعيش في طقس حار، وبما أن الإنسان لا يكمل حتى يجمع بين العقل والعاطفة، فالكامل والأرقى هو من عاش في بيئة تجمع بينهما، وهذا أمر شهد به المفكرون وجزم به ابن خلدون في مقدمته (1)، بل ونصوص السنة تشهد بذلك حين فضلت العرب (2) ، وهم ساكنوا الجزيرة على غيرهم من سائر البشر..

إذن هذه الحقائق تثبت عكس ما زعمه الدكتور..

في الحلقة القادمة نتكلم عن وصفه لحياة الغرب في ظل الحضارة المادية...

======================

الكتاب أصله وضع لبيان أخطاء الحضارة المادية، وكيف أنها أنشئت دون اعتبار لوضع الإنسان...

لقد أمعن المؤلف في إظهار سوءاتها.. ومع أنها جلبت كثيرا من الراحة والمتعة للإنسان إلا أن المؤلف متشائم جدا من ذلك التطور..

ويبين بالدراسة والبحث أن كثيرا منها ما هي إلا أدوات تعمل على تدمير قوى الإنسان العقلية والروحية والبدنية..

وليؤكد ما ذهب إليه يقارن بين حياة الزراعة وحياة الصناعة..

حياة الزراعة التي كان الإنسان يقوم فيها بأعماله بنفسه، بيديه وساعديه وقدميه.. يتعب ويواجه مصاعب الحياة وتقلبات الأجواء والفصول، ويعيش حياة البساطة والهم الدائم..

وحياة الصناعة التي صار الإنسان فيها معتمدا على الآلة وحدها في كل شيء، فقل تعبه وجهده وهمه وكفاحه..

إنه يؤكد أن حياة الزراعة، حياة الكفاح والكدح أجدى وأحسن للإنسان من حياة الصناعة، حياة الراحة والدعة والسكون..

يقول في بيان انقلاب حياة الناس في أوربا:

" من الواضح أن بني الإنسان رجعوا مسرورين بالحضارة العصرية، فقد هجروا الريف وتجمعوا في المدن والمصانع.. واستخدموا في لهفة طريقة الحياة ونظم العمل والتفكير التي استحدثها العهد الجديد، ونفضوا عنهم عاداتهم القديمة بلا تردد، لأن هذه العادات كانت تقتضيهم بذل مجهود كبير.. إذ إن العمل في المكتب أو المصنع أقل عناء من العمل في المزرعة..

ومع ذلك، فحتى حياة الريف قد هانت وسهلت بسبب الفنون الحديثة، فالمنازل العصرية تجعل الحياة سهلة لكل إنسان، إذ إنها بما يتوفر فيها من دواعي الراحة والدفء وجمال الإضاءة، توفر للقاطنين فيها شعورا من الرضاء والارتياح.. كما أن الأدوات العصرية أتاحت للسيدات راحة لم يكن ينعمن بها فيما مضى، فأصبح العمل الذي كان يستلزم بذل جهد شاق كل يوم يؤدى في وقت قصير وبلا جهد تقريبا

وفضلا عن ذلك فقد أطلقهم العلم العصري من القيود الأدبية التي كان يفرضها عليهم النظام الديني البحت.. وهكذا حررتهم الحياة العصرية من القيود الثقيلة التي كانوا يعانون منها الأمرين، كما أنها تحفزهم على العمل للفوز بالثراء بأية وسيلة مستطاعة بشرط ألا تؤدي بهم هذه الوسيلة إلى السجن..". ص31-32.

وبعد أن بين مكتسبات الحضارة من حيث الحالة المادية والتعليم والراحة والصحة والمتع.. شرع يبين في تكرار مستمر الآثار السلبية للحضارة التي أنشأت لمجرد التطور والتقدم دون النظر في ملاءمتها للإنسان.. يقول:

" إن الحضارة العصرية تجد نفسها في موقف صعب، لأنها لا تلائمنا، فقد أنشئت دون أية معرفة بطبيعتنا الحقيقية، إذ إنها تولدت من خيالات الاكتشافات العلمية، وشهوات الناس، وأوهامهم، ونظرياتهم، ورغباتهم، وعلى الرغم من أنها أنشئت بمجهوداتنا إلا أنها غير صالحة بالنسبة لحجمنا وشكلنا".. ص37.

وينتقد بشدة موقف العلماء والأثرياء، الذين كانوا السبب في إنشائها.. العلماء بعلمهم، والأثرياء بأموالهم… يحملهم السبب في انحطاط الإنسان في الغرب.. فقد خدموا التطور والبحث والإنتاج دون النظر إلى الإنسان، وهل تلائم وضعه، وتحسن إليه.. أم أنها لا تلائمه، وتسيء إليه؟.. يقول:

" من الواضح أن العلم لا يتبع أية خطة، وإنما يتطور اعتباطا".. ويقول:

" رجال العلم لا يعرفون إلى أين هم ذاهبون، وإنما تقودهم الصدفة والتفكير الحاذق… وكل منهم يعتبر عالما منفصلا تحكمه قوانينه الخاصة.. وبالجملة إن الاكتشافات تتطور دون إدراك سابق لنتائجها".. ص37

ويمضي في بيان كيف أن رواد الحضارة ومنشئيها من أصحاب المال إنما أردوا خدمة أغراضهم الخاصة فقط، يقول:

" لقد أُهمل تأثير المصنع على الحالة الفسيولوجية والعقلية للعمال إهمالا تاما عند تنظيم الحياة الصناعية.. إذ إن الصناعة العصرية تنهض على مبدأ..

((الحد الأقصى من الإنتاج بأقل التكاليف))..

حتى يستطيع فرد أو مجموعة من الأفراد أن يحصلوا على أكبر مبلغ مستطاع من المال..

وقد اتسع نطاقها دون أي تفكير في طبيعة البشر الذين يديرون الآلات، ودون اعتبار للتأثيرات التي تحدثها طريقة الحياة الصناعية التي يفرضها المصنع على الأفراد وأحفادهم، لقد بنيت المدن الكبرى دون اهتمام بأمرنا

إن المدينة العصرية تتكون من مبان هائلة، بينما تمتليء شوراعها الضيقة برائحة البترول وذرات الفحم والغازات السامة، كما تمزق أعصابهم ضوضاء سيارات الأجرة والنقل والأتوبيس، وتحتشد بصفة دائمة جماهير غفيرة من الناس.. وهكذا يتضح أن من خططوا هذه المدن لم يقيموا وزنا لخير سكانها.

تتأثر حياتنا بالإعلانات التجارية إلى حد كبير، وهذا اللون من الدعاية يهدف إلى تحقيق مصلحة المعلنين أكثر من مصلحة المستهلكين، مثال ذلك، لقد أوهمت الدعاية الجمهور أن الخبز الأبيض أفضل من الخبر الأسمر، وهكذا ينخل الدقيق مرة بعد مرة بدقة ليجرد من عناصره الغذائية النافعة..

ومعالجة الدقيق على هذا النحو يجعل في الإمكان الاحتفاظ به فترات أطول، كما يسهل صناعة الخبز، وبذلك يستطيع أصحاب المطاحن والمخابز أن يحصلوا على نقود أكثر، بينما يُطعم المستهلكون بخبز أردأ، وهم يعتقدون أنه خبز ممتاز..

ومن ثم فإن سكان البلاد التي يتخذون من الخبز غذاء أساسيا آخذون في الانحطاط والتدهور..

إن مبالغ ضخمة تنفق في الدعاية، ونتيجة لذلك أصبحت كميات كبيرة من المنتجات الغذائية والطبية، التي لا فائدة منها على الأقل، وغالبا ما تكون ضارة، أصبحت هذه المنتجات ضرورية لبني الإنسان المتحضرين

إن التعليم الذي تنشره المدارس والجامعات يتكون بصفة رئيسية من تدريب الذاكرة والعضلات، ومباديء إجتماعية معينة، كذا عبادة الرياضة.. فهل مثل هذه النظم ملائمة حقا للإنسان العصري، الذي يحتاج قبل كل شيء إلى التوازن العقلي وقوة الأعصاب وأصالة الحكم والشجاعة البدنية والأدبية وقوة الاحتمال؟.

لماذا يتصرف علماء الصحة كما لو أن بني الإنسان معرضون فقط للأمراض المعدية، في حين أنهم معرضون أيضا لهجمات الاضطرابات العصبية والعقلية، وكذا ضعف العقل؟

وهكذا يبدو أن البيئة التي نجح العلم والتكنولوجيا في إيجادها للإنسان لا تلائمه، لأنها أنشئت اعتباطا وكيفما اتفق دون أي اعتبار لذاته الحقيقية" ص38-40.

إن الآثار السلبية قد نالت جميع قوى الإنسان العقلية والبدنية والروحية.. هكذا يقرر الدكتور كارل..

_________________________

(1) مقدمة ابن خلدون ص82-87، المقدمة الثالثة والرابعة..

(2) من ذلك: ( أنا محمد بن عبدالله بن عبد المطلب، إن الله تعالى خلق الخلق فجعلني في خيرهم....).. رواه أحمد.. فهذا يدل على فضل العرب، فالنبي صلى الله عليه وسلم منهم..

ومن ذلك: ( إن الله اصطفى كنانة من ولد إسماعيل، واصطفى قريشا من كنانة، واصطفى من قريش بني هاشم، واصطفاني من بني هاشم).. رواه مسلم، مختصر مسلم 1523.

أبو سارة

=============

# " بئس بيت مطبخه أكبر من مكتبته "

نور الجندلي

أرفعُ هذه العبارة شعاراً عالياً ، أتجرّأ بها على كلّ ثقافةٍ حديثة ، وأجابهُ بها خضار الصّين ، وبهارات الهند ، وحلويات الشّام بكلّ عناد ؛ تلك الألوان الساحرة من الطعام ، والتي احتلّت المكانة الكبرى في القلوب ، في كل بيت على السّواء ، بغضّ النظر عن ثقافة أهله ، أو مستواهم العلمي . وهي تتصدّر بقوّة أحاديث المجالس ، فترجح كفّتها في ميزان اهتمامات الناس ، لتطغى على أخبار وقضايا الأمة الإسلاميّة بأسرها ، وتغدو القضيّة الأسمى التي يطمحون لها ، والحديث الأمتع الذي يصغون إليه باهتمام ..

أصبحت العلاقات الزوجيّة تعاني التخمة ، مذ سمعت النساء بالحكمة العظيمة " الطريق إلى قلب الرّجل معدته " ولما أصبحت ميزة الزوجة المثالية أن تكون ذات نفس متميز في الطهي .. دون التفات إلى عقلها وحكمتها ، والطريقة التي تتبعها في تربية أطفالها .

التّرف يزداد ، والأطفالُ يزدادون سمنة ، وأمراض السّكر تنتشرُ مثل النار في الهشيم . ولا بأس في كلّ هذا فثقافتنا أساسها علوم المطبخ لتطغى على كلّ علوم .

في زمان مضى .. كانوا يحمّلون المرأة إلى بيت زوجها وصايا كثيرة ، منها الطاعة والحب والاحترام ، وكانت تحمل في قلبها أولاً كتاب الله ، إما حافظة ، أو طالبة تتعلمه ، وتتفقه أسراره بين يدي زوجها ، فترتقي الأسرة ، ويتكامل البناء بأفراد ينطلقون إلى الحياة علماء أو دعاة مصلحين ..

وفي زماننا ، تتصدر كتب الطبخ المكان الرئيس في كل مكتبة ، ويكفي أن ترمق تلك الكتب من بعيد لتدرك مدى اهتمام تلك المرأة وخبرتها ووعيها ، وحرصها على بيتها .

ولك أن تناقش أطفالها ويناقشوك في ثقافة ( الديجيتال ) المعلّبة أو ( البلاي ستيشن ) ، ولكن .. احذر من الاقتراب إلى ثقافتك ، ثقافة أمتك الإسلامية ، فهي بعيدة كل البعد عن مسار التفكير أو الاهتمام.

ثورة الطعام والمطبخ قد احتّلت جزءً لا يستهانُ به من حياتنا ..

أصبحت المطابخ أكثر اتساعاً في رقعتها عن ذي قبل ، واتصلت بها ملحقات أخرى ، تدفع عليها المبالغ الباهظة ، لتكوّن الأسرة الراقية !

وأصبح مد العلم والكتب ينحسر ..

الرائي والحاسوب تصدرا في وجودهما حياتنا ، فمحيت كل معالم قديمة للعلم الأصيل ، وأصبحت الكتب فن قديم لا يتداوله إلا أناس مازالوا يحملون أفكاراً من عصورٍ بالية !

كلّ شيء حولنا أصبح جميلاً معداً لراحتنا ، سهل المنال ..

لكن قلوبنا تزداد فقراً ، وعقولنا تزداد جهلاً ..!

يُرعبني التفكيرُ بالمستقبل ، وما سيؤول إليه الحال بعد أعوام !

هل سنودُ إلى زمن الجاهلية بثوبٍ حديث ؟ نرطنُ بكلمات أعجميّة لنتظاهر بالثقافة ، ونتفاخرُ بموسوعات الرشاقة والطبخ التي تحشو عقولنا بترهات .

ونتناسى تاريخنا ، وإرثاُ عظيماً ينتظرنا في طيات الكتب المنسية .

سنفتخرُ حقاً بوضع أطفالنا ، ومستواهم في المدارس الأجنبيّة ، وسنسعدُ كلما تملصنا من حضارتنا السوية ..

لن نشعر لحظتها بقسوة قلوبنا ، ولن نبكِ موت الضمير في شعوبنا ، ولن نلتفت أبداً إلى ماضينا .. لأنّ سكان الحفر المظلمة لن يلحظوا يوماً جمال التحليق فوق القمم .

أخيراً هي ليست ثورة على الطعام ، ولا تصفية لحساب قديم بيننا ، إنما هي دعوة لتدارك التقصير ، وإصلاح الخلل في سائر الحياة ككل ، ولطرق أبواب العلم النافع من جديد ، وهي دعوة للتشبث بالجذور ، والتنبه من الغفلة ..

فليكن همنا ملء وعاء العقل بما يثري وينفع ، فـ " ما ملأ امرئ وعاء شراً من بطنه " .

===========

#تبدل الأحوال ! (1)

هل خلت أجدادك الغر الميامينا *** وهم غضاب وفي الأرماس يبكونا

بنوا لنا المجد فازدانت مرابعنا *** وحققوا في مغانيها أمانينا

دعوا إلى الحق أهل الأرض واحتملوا *** كل الصعاب ليعلوا الحق والدينا

وأسعدوا بالهدى من دربهم سلكوا *** وأتحفوهم به عزا وتمكينا

وأدبوا برماح النصر من وقفوا *** للصد عن دينهم كيدا وتوهينا

فرفرفت راية الإسلام عالية *** في الأرض تهدي من استهدى وتهدينا

وأصبح الشرق حتى الصين يتبعن *** والغرب يعلم ما أسدت أيادينا

وكانت السحب أنّى أمطرت وغدت *** خراجها من جميع الأرض يأتينا

وسل إذا شئت في الأقطار أندلسا *** تنبئك عن مجدنا فيها وماضينا

هناك كان لنا علم ومعرفة *** ونجدة قد درى عنها أعادينا

هناك كان ملوك الأرض قد قعدوا *** ليأخذوا العلم منا بين أيدينا

كانوا إذا أُمرُوا لبوا أوامرنا *** وإن نهينا يكفوا عن مناهينا

وكان تاجرنا يغدو إلى بلد *** فيها من الكفر ما يرضي الشياطينا

فيصطفيه كبار القوم قدوتهم *** ويهرعون إلى الإسلام راضينا

وهذه الأرض "2" لا زالت منائرها *** تروي الحقائق قرآنا وتأذينا

فسل فطاني وسل آتشي وسل ملقا *** وسل مراوي وسيبو"3 " عن مساعينا

وسل بخارى ودلهي عن محامدنا *** وسل فينا التي ذاقت مواضينا

ماذا دهانا بني الإسلام فانقلبت *** أحوالنا ما الذي هز الموازينا

غدا الأذلون في التاريخ قادتنا *** وآمرينا بما يشقي وناهينا

غزوا ديارا لنا كانت محصنة *** ودنسوا المسجد الأقصى وسادونا

وأخرجوا أهلها من دورهم فغدوا *** مثل اليتامى بلا مأوى يعيشونا

وكم منازلَ قد دكوا وكم قتلوا *** من أنفس وكم اقتادوا مساجينا

وكم نساء تنادت أين معتصم *** يذود عنا أعادينا ويحمينا

فلم يجدن سوى التصفيق يطلقه *** مخنثون وأهات المغنينا

وكم شيوخ عظام سادة علما *** كانوا أعزاء قد أضحوا مهانينا

وكم صغار رأوا آباءهم ضعفوا *** ولم يروا نجدة ترجى لهم فينا

ولم يروا ملجأ إلا مساجدهم *** فيمموا نحوها واستلبثوا حينا

وأنصتوا فإذا الداعي يقول لهم *** الله أكبر من كل المعادينا

وأمهم قارئ الأنفال منتقلا *** إلى براءة تفسيرا وتبيينا

وهاهم اليوم قد جادوا بأنفسهم *** وحققوا بيعة الأطفال ماضينا

سلاحهم ضد قوات العدا حجر *** مبشر أنه يوما سيدعونا

وكم أذاقهم حزب اليهود أذًى *** وفتنة وهمُ صُبرا يلاقونا

ولا صريخ لهم من أمة بعدت *** عن الصراط الذي قد كان يعلينا

فأصبحت هملا ذلت لقادتها *** وهم لأعدائها بئس الأذلينا

وشعب الأفغان قد أبدى بطولته *** مجاهدا في سبيل الله يفدينا

أهان جيشا عظيم العد مدخرا *** من عدة الحرب ما يُفني الملايينا

ولم يزل صامدا ضد العدا وهمُ *** شرق وغرب وأذناب لهم فينا

وكل شعب لنا في الأرض ممتحن *** بفرقة وشتات في أهالينا

ويعظم الخطب أن يسعى لفرقتنا *** من يدعي أنه بالعلم يهدينا

كل له في الملا حزب يؤيده *** إذا أطعناه في ظلم يوالينا

وإن عصيناه كنا في شريعته *** على الضلالة لم يفتأ يعادينا

وعالَم الأرض يشكو من تأخرنا *** عن هديه بالهدى الباقي بأيدينا

وكم بلاد أفادت من حضارتنا *** ولم تزل آية التحضير تبكينا

ضاعت وصارت مغانيها تناشدها *** عودوا إلينا بوحي الله فاهدونا

وذي الجزائر "2 "يشكو اليوم ساكنها *** الكفر في دارنا يا قوم يغوينا

جاءت جحافله تسعى لردتنا *** بالمال والطب والتعليم يغرينا

في كل ريع ترى الصلبان عالية *** على منائرنا تحكي تحدينا

وأصبح الآمرَ الناهيْ لأمتنا *** من ليس منا ولكن من ذرا رينا

يعطي الولاء لمن يبغي مضرتنا *** وينصر الكفر مختارا ويخزينا

ويهدم الحق بالتعليم متبعا *** نهجا تأسس في دار المضلينا

وينفث السم بالإعلام يقتلنا *** عقيدة وسلوكا في مآوينا

فكان ذلك توهينا لأمتنا *** دينا ودنيا وتثبيتا لباغينا

يا أمتي استيقظي فالنوم طال بنا *** والذل أجناده حلت بوادينا

والعز فارقنا والوحي يرشدنا *** إلى معالم تهدينا وتحيينا

-----------------------------

"1 " من سلسلة في المشارق والمغارب .

"2 ، 2 " إندونيسيا التي أنشئت فيها القصيدة .

"3" بلدان في تايلاند وإندونيسيا وماليزيا والفليبين للإسلام فيها تاريخ

د . عبد الله قادري الأهدل

==============

# لماذا فشلت الليبرالية العربيَّة ونجحت الليبرالية الغربية؟

صخرة الخلاص

في البدء قالت.. "كيركبا تريك" المستشارة في إدارة الرئيس "ريغان" وممثلة أمريكا في الأمم المتحدة، تؤكد أن الديمقراطية مجرد لعبة لتحقيق مصالح الغرب، وأن قيم الغرب وسياساته خاضعة للعبة المعايير المزدوجة.. تقول :

( إنه ينبغي علينا عدم تشجيع الديمقراطية في وقت تكون فيه الحكومة المؤيدة من قبلنا تصارع أعداءها من أجل البقاء، وإن الإصلاحات المقترحة بعد ذلك لا بد أن يكون منها إحداث التغيير، وليس إقامة ديمقراطية).

تساؤل عقلي مشروع يطوف في أذهان بعض الإسلاميين والعلمانيين العرب: لماذا فشلت الليبرالية العربيَّة؟

وجواب هذا التساؤل معلق على جواب تساؤل آخر: فهل يوجد أصلاً ليبرالية عربية حقيقية؟!

هنا جوهر المشكلة لأن بعض الإسلاميين وخصومهم يخلطون بين العلمانية وبين الليبرالية، فلا يلزم من كون الإنسان علمانياً أن يكون ليبرالياً، إذ العلمانية موقف أيديولوجي فكري من الدين أو النص أو المقدس، فالعلماني قد يكون ديكتاتورياً –وهذا الغالب- وقد يتحالف مع الشيطان، ومع الديكتاتور، ومع أي جهة كانت، ما دامت تساعده في إدارة رحى معركته ضد الدين أو ضد المتدينين.

لذا فلا وجود موضوعي لليبرالية عربية، ولا أدل على ذلك من غياب ممارسة حقيقية للتسامح واحترام المخالف، وغياب أي مشروع إصلاحي مدني حقيقي، ينفع المواطن العربي في عالمنا العربي المتألم!

إن سلوك العلماني العربي جعل "الليبرالية" كلمة مكروهة مشوهة تحتقرها الجماهير الصارخة بآلامها، لأنها تشاهد بأم أعينها خيانة النخب العلمانية العربية لهمومها وآمالها، ولا تجد من هذه النخب إلا تحالفاً وتبريراً للدكتاتور، مع أن هذه النخب المتخمة بالعلمنة تصيح صباح مساء قائلة: قدسوا الحرية كي لا يدوسكم الطغاة!

وهم كل يوم بل كل لحظة يدوسون هموم الشعوب، ويتحالفون مع الشيطان الأصغر والأكبر، كي يتمكنوا من أغراضهم الخاصة، ونزواتهم الشخصية.

العقلاء –يا سادة- مع اختلافهم وتباين توجهاتهم فإنهم قد يحترمون من يخالفهم إذا رأوه صادقاً مع نفسه ومبادئه. إن الليبرالي الذي يؤمن بمبادئه ويمارسها حقيقة، ويدافع عن كرامة الناس وحقوقهم، ويتسامح مع خصومه، ويتقبلهم، يضع له خصومه حساباً لأنهم يعلمون أنه مؤمن حقيقة بقضيته.

ومن يتأمل الصحابي الكريم "عمرو بن العاص" الذي يقول عن الروم.. ما ورد في صحيح مسلم ما قد يبيّن بعض طباع هؤلاء الناس، مع إنصافهم وعدم غمط حقهم. فقد روى مسلم عن المستورد القرشي أنه قال عند "عمرو بن العاص" رضي الله عنه :

(سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول " تقوم الساعة والروم أكثر الناس " . فقال له عمرو : أبصر ما تقول . قال : أقول ما سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم . قال : لئن قلت ذلك، إن فيهم لخصالاً أربعاً :

إنهم لأحلم الناس عند فتنة .

وأسرعهم إفاقة بعد مصيبة .

و أوشكهم كرة بعد فرة .

وخيرهم لمسكين و يتيم وضعيف .

وخامسة حسنة وجميلة : و أمنعهم من ظلم الملوك).

فتأملوا كلام هذا الصحابي العظيم رضي الله عنه، وكيف أنصفهم وشهد لهم بما هم أهله، مع كفرهم وعداوتهم، وتأملوا في المقابل المثقف العلماني العربي فستجدونه –في أكثر الأحيان- متسلطاً دكتاتوراً محارباً للدين في أصوله وتفاصيله، لا يهمه مسكين أو يتيم، بل سليط اللسان بذيء الألفاظ، إذا خاصم فجر، عنده كل القابلية لأن يطعن في أعراض خصومه بالبهتان، تجده يمارس أشد أنواع الإقصاء، فهو دغمائي، سادي –كما يعبرون- ليس عنده أي قابلية لأن يتسامح.

وما أجمل ما صوره النصراني العلماني ( رفيق حبيب ) لهذه النخبة حينما قال:

(الانبهار بالغرب أدى إلى هزيمة عقل الأمة ومن العقول المهزومة ظهر فريق يحاول أن يتحد مع المنتصر ويتبنى حضارة الغرب ، ولكن لدى وكلاء الغرب كانت الصدمة سببا في الالتحاق بالغرب ونقل قيمه وأفكاره ونموذج حياته وكانت الدعوة للحرية الغربية تجد طريقها لدى النخبة المثقفة ، إن وكلاء الغرب يشكون من عدم إتاحة الفرصة كاملة لحرية البحث ويؤكدون أن حضارتنا وتراثنا قيود على البحث العلمي ، والحقيقة أن هذه الشكوى تنبع من قضية على جانب كبير من الخطورة ، لأن تطبيق العلم الغربي في سياق حضارتنا يمثل تعديا على كل مقدسات الأمة ولذلك فانه يواجه من مجموع الأمة ومن هنا يشكو وكلاء الغرب بسبب إن حرية البحث العلمي مقيدة والحقيقة أن التعدي على مقدسات الأمة مقيد ) .

العلماني يريد أن يمارس حريته -عبثه- مع المقدس لأنه يرى أن لا مقدس إلا هو، الدين لا قداسة له، هو متغير ومتحول، وغير ثابت، لكن الديكتاتور عند العلماني العربي ثابت غير متحول، ولذا فهو يلعق حذاء الدكتاتور ويسبح بحمده، يغرد بسرد إنجازاته، إنه يعبده ويتخذه آلهة، ولا ينبس بكليمة صغيرة من أجل ضمير الشعب المطحون تحت قهر الفقر والذل!

العلماني العربي قوي شجاع حينما يتكلم عن الله سبحانه، وعن دينه، يدعي بطولة رخيصة، فإذا ثارت الجماهير المؤمنة صارخة متألمة من أجل ربها وحبيبها نبيها ودينها، صاح العلماني العربي: أين الحرية؟ أين التسامح؟ أين قبول الرأي الأخر؟!

يا له من شجاع وجريء على دين الله، ويا له من جبان ورعديد ومنافق حينما يتحدث عن الديكتاتور!

إن الجماهير مقتت من يطنطن بالحرية وتراه لا يمارس حريته إلا حينما يتحدث عن الله ودينه، لكنه لا يتحدث بهذه الحرية حينما سرقت اللقمة الصغيرة من أفواه ملايين الشعوب، ولم يتحدث عن الأيتام، عن الفساد، عن مشاريع حقيقية ينتفع بها الإنسان.

إن ما تروجه العلمانية الغربية والأمريكية، والتي تتشدق بالحرية والديمقراطية هذه الأيام وقبلها هي أبعد ما تكون عن تطبيقها وممارستها في العالم العربي والإسلام، لأنها تعتقد أننا غير قابلين لمثل هذه القيم، ومهما تشدقوا فثقوا أن ديمقراطيتهم لا تباع ولا تستبدل، إن الديمقراطية مجرد فزاعة للأنظمة وللحكومات، وجزرة للشعوب اللاهثة.

ولذا نتفهم وجهة نظر الخبير الفرنسي بشؤون الإسلام السياسي "أوليفيه روا" حينما يتحدث عن خيارات الغرب تجاه الحرية والديمقراطية في العالم العربي البائس؛ حينما تتعرض مصالحه للخطر، فهنا يضحي بقيمه وتعاليمه المقدسة، في سبيل الحفاظ على مصالحه.. يقول:

(عندما يكون على الغرب الاختيار بين العلمانية والديمقراطية، فهو يختار العلمانية دائماً، وعندما تكون العلمانية في كفة والديمقراطية في كفة كما في الجزائر وتركيا فالغرب يختار دائماً العلمانية لا الديمقراطية، الغرب يفضل قيام نظام تسلطي دكتاتوري على وصول الإسلاميين إلى السلطة).

وقد أكد هذه الحقيقة ودون مواربة أو خجل ( أدوارد ما نسفليد - وجاك سنايدر ) عندما تحدثا عن فوز جبهة الإنقاذ الجزائرية، وحزب الرفاة في تركيا وضرورة ضربهما.. يقولان :

( في كلتا الحالتين، كان لا بد من انتهاك المسار الديمقراطي، وذلك لإيقاف ما أسفرت عنه العملية الديمقراطية نفسها، فقد عبر كثير من المراقبين والحكومات عن ارتياحهما لهذا، مبررين ذلك بأنه من الأفضل وجود حكومة " فاشية " نستطيع التعامل معها، بدلاً من حكومة إسلامية لا نستطيع التعامل معها).

ولذا يقرر الغرب أنه من الخطأ الاستراتيجي دعم أعظم القيم الغربية "الديمقراطية و الحرية" قيمةً في بلدان تتقاطع مصالحها مع تلك القيم، وهذه الحقيقة يقررها المفكر الغربي "روبرت كانمان" في كتاب ألفه لهذا الغرض اسماه ب " الديمقراطية والمعايير المزدوجة " ومما قاله في هذا الكتاب:

( إن الجميع - في الغرب - يتفق على أنه من الخطر دعم الديمقراطية بجميع صورها في العالم الإسلامي ).

وإذا كان العلماني العربي يدرك ذلك سياسياً، فهو لا يجد غضاضة في وضع يده في يد أعداء دينه ووطنه، والصياح دائماً بالحرية التي تعني له: أنه يجب أن يلعن الدين ويشتم الله بدون أن يضايقه أحد، وهو يعلم أن الغرب لن ُيصدر أقدس قيمه "الحرية" لحفنة من البشر يراهم دون قيمة البشر !

وحينما نتجه للمرأة وما أدراك ما المرأة؟! تجده يتحدث عن المرأة.. عفواً .. ليست المرأة الإنسان، ليست المرأة الأم.. ليست المرأة اليتيمة.. ليست المرأة الفقيرة.. إنه يتحدث عن المرأة الصغيرة الجميلة، إنه يريد أن لا يتعطل نصف المجتمع في البيوت لصناعة الجيل القادم رجلاً ونساءً، إنه يريد أن يعمل نصف المجتمع قريباً منه وتحت ناظريه، ليخلو البيت !

ألم يقل كبيرهم العلماني المشهور "بوعلي ياسين" :

( الرجل المثقف -العلماني- في مجتمعنا يدعو إلى المساواة ويطالب المرأة بأن تكون ندا للرجل ولكنه نادرا ما يتزوج هذه المرأة المتساوية معه أو الند له ، إنه يقبلها صديقة ورفيقة وزميلة لكنه يخافها ويبتعد عنها كزوجة .. إنه يريدها غرّة، ولذلك تراه يركض وراء المراهقات ).

إن الليبرالي الغربي –المؤمن بكرامة أمته- قدم نفسه وحياته قبل كلماته في الصحف المستأجرة، مات هو يخدم قضيته، ضحى من أجلها، مات وهو صارخ بها، لأنه يعتقد أن الكرامة ملك للإنسان في بلاده يجب الحصول عليها، وهي حريته وليبراليته، ولذا وقف ضد الدكتاتور، ومات تحت جنازير دباباته، وقتل برصاصه، لكنه عاد وفي كل مرة حتى بناء حلمه على أرض الحقيقة.

في أمريكا حينما ضربت في صباح عجيب، في ضحى 11 سبتمبر، توحدت العقول والقلوب، وتوحد اليمين مع اليسار، وتوحدت الديمقراطية مع الجمهورية، وتوحد الشمال مع الجنوب، وتوحد العلماني والليبرالي مع الزعيم الراديكالي الأصولي الإنجليكاني!

لقد تناسوا كل خلافاتهم وتوحدوا في وجه العدو الخارجي، لقد قرر زعيمهم "بوش" الإنجليكاني الجديد أن يتحفظ على بعض حقوق الليبرالية في وقت الأزمة، فأقروا له وأخبتوا، طاعة وحباً كرامة، لقد صارت أمريكا –يا سادة- كقطعة معدنٍ صلبة في زمن الضربة.

لكن –ويا أسفي على لكن- تجد العكس عندنا، دهمنا العدو بخيله ورجله، بصحفه وقنواته، سدد سهامه للنيل من بلادنا وشعبنا وقيادتنا وتقسيم وطننا، طعن في عقيدتنا، وتهجم على عقولنا، وسخر من كرامتنا، وداس على عزتنا.. فماذا فعلنا؟

شُتت الجهود، وتفرقنا، وتمزقنا، وصار العلماني يرحب بالفاتح الجديد ويرحب به، ويهدد من خلاله قائلاً: [ غيروا بأنفسكم أحسن من يجيكم من يغيركم بالعصى] !

لقد ابتزوا في الفتنة، وشطروا البلاد، وجعلوا منبر الكلمة منبراً للطعن في ضمير الأمة، وتشتيت كلمتها، وطعن في علمائها، لقد ابتغوا الفتنة وقلبوا الأمور، واستأجروا كل مريض وصاحب سوابق، لقد مزقوا عقل الوطن وضميره وانتماءه.

ثم خرجت خارجة من شباب الوطن تضرب بره وفاجره، ولا تتحاشى مؤمنه، كفرت بطاعة الإمام، وقتل أهل الإسلام والأوثان، فبكى الوطن، واشتكى الدين إلى الله، وسكبت العبرات على عقول تاهت ووجوهٍ شاهت.

قفز الليبرالي في منبر الكلمة وفرح بهذا الخنجر الذي طعن خاصرة الوطن والإيمان، فاستثمره لصالحه، وظفه لخدمت أجندته الخاصة، فمال على كل ما هو إسلامي فعاث به ضرباً باليمين وضرباً بالشمال.. وإلى الله المشتكى.

فبدل أن تتوحد الجهود وتتراص الأقدام، وتجتمع القلوب في أزمنة الفتنة، صارت فتنة فوق فتنة!!

فكان العلماني العربي مفلساً ليس عنده أدنى ذرة لأن يضحي لأجل مبدأ، أو دين، أو وطن، بل عنده كل الاستعداد لأن يضع نفسه ويده مع أعداء أمته ودينه ووطنه، عنده استعداد للدفاع عن إسرائيل، وتبرير جرائم الأمريكان في كل مكان، وتحويل فضيحة سجن أبوغريب إلى حديثة الزهور، مع أن الليبرالي الأمريكي لا يزال صارخاً يدين جرائم بلاده!

مفارقة غريبة.. قد يفسرها فهم كثير من العلمانيين أن الحرية هي الجنس، أو المزيد من الجنس، والفوضوية، وعدم المسؤولية، والعبث بأي شيء.

لهذا السبب كره الناس هؤلاء، ورفضوهم .. وهكذ1 فشلوا، وسوف يفشلون دائماً.

لقد أعجبني ما قاله الدكتور ( برهان غليون ) أستاذ كبير في جامعة السوربون، علماني يساري التوجه، ولكنه منصف وباحث جاد وحيادي :

( ليس صحيحا أن الذي يعيق الأنظمة العربية مثلا عن تحقيق الديمقراطية هو خوفها من الإسلاميين، بل هي لم ترفع شعار الديمقراطية إلا لمواجهتهم وبسببهم، إن تفجر الأزمة - كما هي اليوم - لتبدو وكأنها مواجهة أهلية شاملة، لم تحصل إلا بسبب طفوح الكيل من الغش والخداع والكذب والتلاعب بعقول الشعب، واحتقار ذكائه ومخيلته، إن ما نسميه بالمجتمع " المدني " ومنظماته هو اليوم نهب لأجهزة المخابرات وضحية لها.

إن الحركات الإسلامية لم تتوسع إلا لأن السلطات القائمة رفضت أي تشغيل للقنوات السياسية الطبيعية ، وحاولت منع المجتمع من التنفس والحياة ، وهذه الحركات تشكل آخر تعبير سياسي عن روح الثورة والتمرد الكامنة في شعب اغتصب حقه في المشاركة والحياة منذ عقود ) .

ثم يعتب الدكتور غليون على النخب العلمانية في معاونتها للطغاة في القضاء على المتدينين، بحجة العمل للديمقراطية وتنظيف الساحة منهم، وأن الحكام في الجزائر قتلوا مالا يقل عن (30) ألف إسلامي بحجة تنظيف الساحة منهم !!!

يقول الدكتور غليون بالحرف الواحد :

( من هم الإسلاميون ، غير إخواننا وأبنائنا وبناتنا ؟ أليسوا هم أنفسهم القوى التي نحتاج إليها لمواجهة التحديات الكبرى المادية والمعنوية، الخارجية والداخلية التي تعمل لتدميرنا ؟؟ ) .

وأخيراً ... هل يفهم العلماني العربي ما يقوله "صاموئيل هنتنغتون" الخبير في وزارة الخارجية الأمريكية :

( إن المشكلة بالنسبة للغرب ليست الإسلاميين المتطرفين، وإنما الإسلام ككل، فالإسلام بكل طوائفه وفي مختلف دوله عبارة عن حضارة كاملة تشتمل الدين والدنيا، وكل مظاهر الحياة اليومية، ولذا قلت إن الإسلام ونظام الدول الغربية لن يلتقيا، إن المسلمين يعلنون في وجه كل غربي إن دينهم هو الأحسن وأن عاداتهم وتقاليدهم هي الأفضل، كلهم يقول ذلك المتطرف والمعتدل).

=============

#أصداءُ كَلِمَة

نور الجندلي

الكلمة الطّيّبة .. ذلكَ المولودُ الجميلُ الذي يولدُ في لحظةِ صفاء ؛ فتحتفي بهِ كلُّ القلوب ، وتستبشرُ لمرآه كلُّ العقول ، فتُعلن الأفراح داخلَ الأرواح ، ويسودُ البشرُ كيانَ كلِّ من تلقّاها ..!

هي ذلكَ البلسم الشّافي من أصعبِ الأدواءِ وأكثرها تعقيداً ، فمن تألّم قلبهُ واستهُ كلمة ، وجبرتهُ برقّةٍ ؛ فعادَ سليماً مستبشراً . ومن أرّقتهُ الهمومُ بجبروتها ، والحياةُ بسطوتها ؛ أحيتهُ كلمة ذات همّة ، فتناسى الألمَ بشتّى معانيهِ ، وانقلبَ يشقُّ الأرضَ بهمّتهِ ، يعمرُها بعزيمة ، ويبنيها بإيمانٍ تردّد من أصداء كلمة .

والمحزونُ تواسيهِ كلمة تصبّره ، تعدهُ الحُسنى وزيادة ، تكفكفُ دمعهُ وتغرسُ في قلبه بسمة . فإن رأيتهُ فهو الصّابرُ ، وإن حادثتهُ فحديثُ القانعِ المتصبّر ، فما يزالُ يترنّمُ بكلماتِ الرّضا ، لعلّ الخالق تعالى عنهُ يرضى .

مفتاحُ المعرفةِ كلمة ، ولعلّ ( اقرأ ) كانت منبع حضارتنا الإسلاميّة على مرّ عصور ، كلّ من يمرُّ على ( اقرأ ) يحملُ تلكَ الأمانة ، فما يزالُ ينهلُ علماً ، تارةً به متعبداً ، وتارةً به عاملاً ومعلماً . حتّى عمرت الأرض علماً وحضارةً ورقيّاً .

وطريقُ القلوب كلمة ..!

تراها متألّمةً شاحبةً مسودّة ، فتأتيها الكلمةُ الطّيبة فتغسلها ، وتنقّيها ، وتعملُ فيها تطهيراً حتى تشفّ ، فتضيء بداخلها قناديلاً ما تزالُ تشعُّ . زيتها المضيء كلمة !

ونورُ العقول كلمة طيّبة ..

إذا استعبدها الجهلُ واستعمرها بجنوده من كلماتٍ لا أصل لها ، أقحمت نفسها إقحاماً في اللغة ، واستباحت لنفسها وظيفةَ غير شرعيّة ، فراحت تسرقُ وتنهبُ من لُبّ العقول ، وتشيعُ فساداً ، وتدمّرُ حياة ، فتفرضُ سطوتها ، وتملي أوامرها بعنجهيّة ، فلا ينقادُ إليها إلا الضّعفاء ، ولا يصغي إليها إلا الجهلاء . فيالحسرة من أغوتهُ كلمة ، فغدا من جنود إبليس وأتباعه مسيّراً في ظلمات يحسبها نوراً ..

ولو سمح لأنوار الكلمة الطّيبة أن تتسلّل إلى داخله ، لحاربت مدّ الشّر ، ولبصّرتهُ بالخير ، وعرّفته بالشّر ، ولقادتهُ إلى مواكب المؤمنين ، فغدا عارفاً طريقهُ ، متبصّراً سبيله على هدى من ربّه .

يقولون .. إنَّ الكلمة سلاحُ الضّعفاء .

وأقولُ .. إنَّ الكلمة ينبوعُ الحكمة ، ومفتاحُ العلوم ، وهي ذلك الجسرُ السّحريُّ الذي يعبرُ بنا إلى حيثُ نريد ، متى نريد ! شريطة أن نحسن التّحكم بأنغام الحروف ، وقطرات الحبر وهي تنسكبُ بجمالٍ على الرّق ، فندرك أيّ رسالة حمّلناها لها ، وأيُّ نورٍ قلدناها إيّاه .

فكيف نستهينُ بكلمة ؟ وقد تبني لنا في الجنّة قصوراً ، أو تغرسُ بساتين نخيل ، أو ترتقي بنا نحو فردوسٍ تهفو نفوسنا إليه !

الكلمة توأمٌ للصّحة والشّباب والعلم والمال .. ادّخارٌ لا يبلى ، ونعيم لا ينقطع .

فلنتصدّق بكلمة حبّ على أولئكَ الذين ما خفقت قلوبهم يوماً بمعناه ، ولننشر حروفنا في أصقاع الأرض دعاةً مصلحين رُوّاد كلمة ، ولننشر سلاماً منبعهُ أثيرُ كلمة ..

وليكن نصب أعيننا دائماً .. أنَّ الحروف مثلُ قطر الغمام لها أساس نقيّ ، نحنُ من نوجهها إمّا إلى قيعان أو إلى جنّة وارفة .

-============

#الهجمة الشرسة على التعليم (1)

د.علي بن عمر بادحدح

الخطبة الأولى

أما بعد أيها الأخوة المؤمنون :

تتعرض أمة الإسلام في هذه الأوقات إلى أشرس هجمة في تاريخها الحديث ، وهي - أي هذه الهجمة - أخطر من كثير من سابقها ذلك أن صراع الحق والباطل دائم لا ينقطع حتى يرث الله الأرض ومن عليها في سنة من سن الله عز وجل الماضية .

ولئن كانت الأمة قد تعرضت في فترات ماضية إلى الاستعمار والاحتلال العسكري ، ثم بعد ذلك تعرضت إلى الغزو والتخريب الفكري ؛ فإن مايحلّ بالأمة اليوم تجتمع فيه كل شرور الحملات الماضية وكل مخاطر الهجمات السابقة ؛ فإن كان ما سبق حفياً فإنه اليوم ظاهراً ولئن كان ما سبق متدرجاً فإنه اليوم شاملٌ ، ولئن كان ماسبق يأتي بشيء من التهاون ؛ فإنه يأتي اليوم قاهراً ، وذلك في نواحي شتاء لعل وقفتنا اليوم تتناول جانباً من أخطر هذه الجوانب وأعظمها ضرراً وفتكاً في الأمة ، وأكثرها تأثيراً في مستقبلها ، وتلكم هي الهجمة على التعليم الإسلامي .

ولعلنا نحتاج إلى وقفات كثيرة في هذه القضية المهمة الحساسة ، فالتعليم عقيدة وديانة وهوية وثقافة وتاريخ وأصالة .. إنه ليس مجرد معلومات تحفظ أو تجارب تؤدي أو مدارس تقام ، أو جامعات تشاد ! إنه فكر يصاب إنه روحُ تصبغ .. إنه هوية تظهر .. إنه تاريخٌ يستعاد وتمتد جسوره ما بين الماضي والحاضر ، بل وتتجاوز ذلك إلى المستقبل .

إن التعليم في كل أمة هو أساس بنائها وقاعدة حضارتها بل وهو أعظم أسباب قوتها ونحن نرى أهمية ذلك بكل ما نراه بواقع الحياة إن كل أمة لا تصوغ مناهجها إلا وفق عقائدها يوم كانت الشيوعية الحمراء ، كان ألف بائها : " لا إله والحياة مادة " ، واليوم في الحضارة المادية العمياء إلهها " الدولار والمال "كما هو معلوم في حياة الناس ..كل أمة تتغلب على أمة أول أمرٍ تسعى إلى تغييره وتجديده هو التعليم لتصوغ الأجيال وفق مرادها ، ولتصبغ الأمة باريتها وشعاراتها .

واليوم تنكشف الهجمة العدائية ضد الإسلام مستهدفة التعليم الإسلامي بشكل مكثف وواضح في دعايات جوفا أن هذا التعليم يفرّخ الإرهاب بمفاهيمه المختلة المخلوطة الجائرة ، التي لا تزن الأمور بميزان عدل .

ولنا حديث قد يطول في هذا الأمر عن التعليم الديني وغير الديني عند اليهود في دولة المسخ الإسرائيلية ؛ فإن أولئك القوم في أصول كتبهم التي قد حرّفوها وبدّلوها ، وبالتالي أنشأ هذا التعليم كل صور العدوان التي نراها ، إن هذا التعليم وتلك الثقافة والعقيدة المنحرفة الزائغة هي التي نراها في الظلم الباغي ، و البطش الجائر ، والجبروت الذي لا يراعي حقوق إنسانية ، ولا أعراف دولية ، ولا قوانين أممية ، ولا غير ذلك مما يقال أو يبدع !

ولعلنا نقف عند هذا التعليم نؤكد على خطورته في كل الجوانب التي يتناولها .. إن الذي يقولونه في قضية التعليم الإسلامي والديني كذبٌ مردود عليه بواقع كثير من صور هذه الحياة التي نحياها قد مسخ التعليم - وللأسف - الشديد في كثير من الديار الإسلامية ، بل في بعض البلاد العربية والإسلامية لا يكاد يتخرج الطالب من مراحلها الثانوية بل والجامعية وهو لا يكاد يحسن قراءة قصار السور ، ولا يعرف سيرة النبي - صلى الله عليه وسلم – إلا نزراً يسيراً لا يغنيه شيئاً وكذلك عنده من الفلسفات والأضاليل والأباطيل ما شوش على عقله كل صور الإسلام .. فما الذي نتج بعد ذلك ؟ وما الذي أخرجته هذه المناهج الممسوخة ؟ هل أخرجت أمة قوية متماسكة ؟ هل أخرجت أخلاقاً فاضلة ؟ هل أخرجت عقولاً واعية ؟ هل أخرجت قيماً حضارية كما يزعمونها ؟

أم أننا قد رأينا صور من المجتمعات الإسلامية وقد انسلخت من هويتها وضيعت دينها وأصبحت دليلاً تابعاً للحضارة المادية الغربية الإباحية المعاصرة ، فلا يكاد المرء حين يزور بعض البلاد يفرق بينها وبين بلاد الكفر خمورُ مباحة ، وسفورُ جائرُ وإباحية تكاد تكون أختاً للكفر والعياذ بالله . وماذا بعد ذلك في كل هذه الصور التي غيروها وحرفوها ؟

من أراد الله به خيراً ومن كانوا يحرصون على دينهم ومن كانوا على عقائدهم لم بجرفهم تلك المناهج ليست القضية في المناهج - وإن كان أثرها عظيم - لكنها في قضية الثبات والاستمساك بالحق ..

ومَثلٌ شاهدُ في الشيوعية التي امتدت سبعين عاماً ،لم تكن تسمح بأحرف من حروف القرآن إن يقرأ أو يتلو - فضلاً عن تعليم ديني - فعن ماذا أسفر الأمر وانتهى ؟ تحطمت الشيوعية وخرج من ركامها ومن تحت أنقاضها ومن الأقبية فتيةٌ صغارٌ ، وشبابٌ يحفظون القرآن ويرددونه ، ويقرأون الكتب الإسلامية ، وقد كانوا في ضلال الشيوعية يوزعون القرآن بين العشرة والعشرين ،كلٌ يأخذ منه جزء يقرؤنه في ظلم الليل في بلاد كانت مهداً ومقراً للحضارة الإسلامية والخلافة الإسلامية ، وكانت أول معقل تهدمت فيها هذه الخلافة في العصر الحديث كان في عهد ذلك الطاغية أتاتورك ممنوع أن يؤذّن حتى باللغة العربية وأن تدرّس العلوم الإسلامية ، وأن تتلى آيات القرآنية فكانوا يستيقظون بعد منتصف الليل في الأقبية على يحفظون القرآن أضواء الشموع ، وخرجت أجيال إلى اليوم هي من نتائج تلك الفترات العصيبة .

إن دين الأمة عزيز عليها ، وإن عقيدتها أعظم عندها من أن تقهر بكل الوسائل المادية والفكرية ؛ لأنها مغروسة في أعماق القلوب وأغوار النفوس .. إنها تجري مع الدماء في العروق .. إنها النَفَس الذي يتردد ، ولذلك لا نخشى من هذه الحملات شيئاً ما دامت عقيدتنا في قلوبنا ، وما دمنا نعلم أن نجاتنا في آخرتنا ، وفلاحنا في دنيانا مرتبط بكتاب ربنا وسنة نبينا صلى الله عليه وسلم .

إن هذه القضية التي يزعمونها والشبهات التي يرددنها كاذبة ! بدليل إن من يصفونهم بالإرهاب وُجِد منهم من هم أبناء جلدتهم ، فهل تعلّم هؤلاء في مدارس المملكة أو تخرجوا من الأزهر أو تلقنوا القرآن في هذه المدارس التي يزعمون أنها إرهابية ؟ من أين جاء أولئك ؟

إن القضية الاعتقادية والعلمي قضية لا تعالج بمثل ذلك ، وإذا رأينا الحق ؛ فإن التعليم الإسلامي المعتدل الذي يعلم القرآن والسنة لا يخرج إلا خيراً ، إن الوسيطة والاعتدال ثمرة حقيقية نافعة من ثمار التعليم الإسلامي والمنهج الرباني ، وإن الخوف والخشية من الله التي يبذرها ويغرسها المنهج التعليمي الإسلامي هي التي تمنع أصحابها من أن يخالفوا أمر الله وأن يجوروا أو يظلموا حتى مع أعدائهم لقوله تعالى : { ولا يجرمنكم شنآن قوم على ألا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى } .

وهي - أي هذه المناهج التعليمية - التي تخرج المبادئ الإنسانية والحقيقة الخلقية الفاضلة ، وذلك هو الذي نعرفه في واقع حياتنا ومجتمعنا أن التعليم الإسلامي أصيل في منهجنا أول آية من كتاب ربنا قوله تعالى : { اقرأ باسم ربك الذي خلق } .

منهج التعليم في الوجود كله مضبوط بهذه الآية ، إنه علم وتعليم لكنه باسم الله وعلى منهج الله ، وللغايات التي رسمها منهج الله .. إنه تعليم يرد الخير للبشرية .. إنها قراءة على منهج رباني لا يحيد به المرء والمتعلم والأمة كلها إلى هذا الظلم الذي نراه والحضارة الطاغية الباغية التي نرى صورتها .. إنه منهج يعلمنا أول علم وأشرفه وأعظمه علم الإيمان بالله والاعتقاد الحق به ، وأن هذا العلم هو القاعدة التي ضوئها نعرف الحياة وعلومها وما فيها من خبايا في أرضها ، أو فيها من أمور في سمائها وفضائها :{فاعلم أنه لا إله إلا الله واستغفر لذنبك } .

أول علم هو علم التوحيد وعلم الإيمان وعلم المعرفة الحقيقية الصافية ، التي لا وجود لها اليوم إلا في كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم .

إن التوراة المحرفة والإنجيل المزيف اليوم تقرأ فيه كفراً بواحاً لا يليق أن يوصف به شذاذ ومفسدون من البشر فضلا عن أن ينسب إلى الله - عز وجل - أو أن ينسب إلى رسله وأنبيائه المطهرين والقرآن يعلمنا أن أساس العلم ومبدأه إنما هو من تعليم الله لقوله تعالى : { الرحمن علم القرآن * خلق الإنسان * علمه البيان } .. { وعلم آدم الأسماء كلها } .

إن تعليمنا رباني .. إن معرفتنا إلهية .. إن أصول علمنا مبدأه من معرفتنا الحقة بالله وقرآننا قد جاء بكل جوانب الإشارات العلمية في هذه الحياة ، في كل جوانبها وتخصصاتها ومجالاتها المختلفة ، وبيان أن كل ذلك إنما هو قليل في علم الله - عز وجل - لقوله تعالى : { وما أوتيتم من العلم إلا قليلاً } .. { وفوق كل ذي علم عليم }

علم الله المحيط الشامل الذي أخبرنا الحق به في قوله تعالى : { ألم تعلم أن الله يعلم ما في السماء والأرض إن ذلك في كتاب أن ذلك على الله يسير } .. { يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم ولا يحيطون بشيء من علمه } .

يوم تستقر هذه المبادئ والحقائق لا يكون هذا الطغيان العلمي الذي استخدم اليوم لا فساد الحياة الإنسانية سوى كان في المجالات العسكرية المدمرة الباغية ، أو كان في المجالات العلمية التي تعدت الحدود الأخلاقية والإنسانية لتبعث بالحياة نفسها ، ولتمسخ حقيقة الإنسان ، بل وجاءت الحضارة بصناعتها وبهرجها لتفسد هذا الكون والحياة فيه بما هو معروف في القضايا الكبرى التي تتعلق بالبيئة والحرارة وغيرها في الأرض ، إن طغيان الإنسان بهذا العلم التقني المتقدم بعيداً عن منهج الله - عز وجل - هو الآفة الحقيقية ، وهو الإرهاب المدمر وهو الخطر الذي حال حياة البشرية اليوم إلى أعظم وأدق وأكثر الظروف حساسية في حياة هذه الكرة الأرضية .

إن أولئك القوم الذين يتزعمون تلك الحضارة ، ويظنون أنهم يحملون النور للناس ظلماتهم بعضها فوق بعض في قلوبهم مرسومة على وجوهم وظاهرة في أقوالهم وحياة شاخصة في وقائع ممارساتها في حياتهم الاجتماعية قد صاروا أدنى وأحقر من البهائم في إباحيتهم وشذوذهم وأمراضهم التي ابتلاهم الله عز وجل بها في حياتهم الأمنية ، في كل لحظة من لحظاتهم ، وثانية من ثانيات أوقاتهم جرائم لا تعد ولا تحصى ، أي حضارة يريدون أن يشيعوها في العالم ؟ وأي تعليم يريدون أن يقتبس منهم ؟

إن تعليم المادة إرث حضاري إنساني تشترك فيه الحضارة كلها ، ويأخذه كل جاد من كل ملة ودين ، فالواجب على المسلمين أن يستبقوا إليه ، وأن يأخذوه وأن يضبطوه بضوابط الإيمان ، وأن يسلكوه على منهج الإسلام ، وأن يجعلوه وفق القيم الأخلاقية والمبادئ الإنسانية في هذا الدين العظيم ، الذي أكرمنا الله سبحانه وتعالى به ، والقرآن يعلمنا والمنهج في هذا طويل { اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرّاً ثُمَّ يَكُونُ حُطَاماً } .. القرآن يعلمنا حقيقة الدنيا ، والنبي - صلى الله عليه وسلم - يكشف لنا ذلك .

إن علمنا الحقيقي من القرآن يجعلنا نعرف الأمور معرفة حقيقية ويبصرنا بحقائقها ؛ حتى لا تكون الوسائل غايات أن من الناس من يعيش ليأكل ومن الناس من يأكل ليعيش وفرق ما بينهما عظيم .

إن الحياة المادية والحضارة الغربية اليوم قد ألّهت المادة حتى جعلتها هي الإله الأكبر المعبود ، وهي العبادة بالتعلق وبالاهتمام بالعناية بالحرص بالخوف عليها والرجاء فيها كما أخبر المصطفى صلى الله عليه وسلم :( تعس عبد الدينار، تعس عبد الدرهم، تعس عبد الخميصة، تعس عبد الخميلة، إن أعطي رضي، وإن لم يعط سخط، تعس وانتكس وإذا شيك فلا انتقش ) .

سماه عبداً ؛ لأنه بذلك متعلق ، وبه منشغل ولتحصيله مجتهد فهذه عبادتهم هل يريدون أو هل يريد المسلمون أو هل يريد المتصدرون في قضايا التعليم أن نسير في هذا النهج فنصبح دنيويون لا دينين ، ونصبح ممن يعبدون الشهوات والملذات فننغمس فيها إلى آذاننا ، فلا نكاد نرى نوراً وإشراقاً وحياة قلب ولا روح تلك هي الصورة التي يجلّيها الواقع في حياة تلك الأمم ، ونحن قد أكرمنا الله - سبحانه وتعالى - بغير ذلك وقد أخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - فيما رواه أبي الدرداء عند الترمذي وغيره : ( من سلك طريقاً يلتمس فيه علماً سهل الله به طريقاً إلى الجنة ) .

إننا في هذا الدين العظيم ليس هناك تعارض بين علماً ديني أو دنيوي .. إننا نأخذ علوم الدنيا باسم الله ، ونسيّرها على منهج الله ، ونبتغي بها الغاية العظمى من رضى الله عز وجل .

وإن تعليم ديننا إنما ينوّر لنا جوانب هذه الحياة ، وإنما يحثنا لنخرج خيراتها ، ولنتعلم في كل شؤونها وأحوالها ولنقود البشرية كلها إلى ما فيه خير الدنيا ونجاة الآخرة بإذن الله عز وجل ، وانظروا إلى تعظيم النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى الأجر والمثوبة في العلم الذي يتعلق بحياة القلوب بالقرآن الكريم لقوله : أيكم يحب أن يغدو كل يوم إلى بطحان أو إلى العقيق - وهما موضعان في المدينة - فيأتي بناقتين كوماوين - والناقة الكوماء هي الناقة العظيمة السنام - في غير أثم ولا قطيعة رحم ؟ فقالوا يارسول الله : كلنا يحب ذلك, قال صلى الله عليه وسلم:أفلا يغدو أحدكم إلى المسجد فيتعلم, أو فيقرأ آيتين من كتاب الله عز وجل خير له من ناقتين، وثلاث خير له من ثلاث، وأربع خير له من أربع, ومن أعدادهن من الإبل .

ثم انظروا إلى تراث أمتنا أن أمتنا العظيمة التي تلقت التعليم والهدي والمنهج الرباني والتعليمي عن سيد الخلق - صلى الله عليه وسلم - هو الذي وضع من منهج القرآن ومن تطبيقه العملي الأسس الصحيحة للتعليم والتربية وللتعليم التطبيقي والمهني في كل جوانبه وليس هذا موضوع حديثنا وقد يتوالى لنا فيه أحاديث أخرى ، لكننا نرى كيف تعلم الصحابة ؟وكيف علموا من بعدهم كان أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم لا يتجاوزن بنا العشر من آيات حتى نعلم بما فيها من العلم والعمل فتعلمنا العلم والعمل معاً كما روى ذلك أبو عبدالرحمن السلمي يذكر فيه عليُ وعثمانُ رضي الله عنهم أجمعين .

ونحن نعرف أيضاً أن هذا التعليم كان سارياً في بيوت المسلمين في مساجدهم وفي معادهم كانوا يعلموننا مغازي رسول الله صلى الله عليه وسلم كما يعلموننا السورة من القرآن ، ربطاً بالأمة وبأصولها وبتاريخها وبأصول دينها . وقد سجل علماؤنا من الكتب في مناهج التعليم وطرائقه الكثير والكثير مما هو إلى يوم الناس هذا نبراس في هذه المناهج كتبوا في آداب المعلمين وفي آداب طلبة العلم ، وفي كل جانب من جوانبه ليس هذا في رسالة بن خلدون ، ولا في ما كتبه الغزالي ، ولا في غيره من كتب كثيرة لا يحصيها العاد والحاصي .

وقد قامت منارات التعليم في العالم في العالم الإسلامي وسبقت إلى كل النظم النظامية اليوم ، بل وافقتنا الغرب بذلك ولنا عنه حديثا المنصفون منهم يؤكدون أن كل حضارة اليوم أسسها مؤخوذة من العلوم والحضارة التي أقامتها أمة الإسلام يوم كانت مرتبطة بالقرآن وسائرة على هدي النبي صلى الله عليه وسلم ، فنسأل الله عز وجل أن يعيد أمتنا إلى دينها .

الخطبة الثانية

أما بعد أيها الأخوة المؤمنون :

أوصيكم وأوصي نفسي الخاطئة بتقوى الله ؛ فإن تقوى أعظم زاد يقدم به العبد على مولاه .

وإن من تقوى الله عز وجل الحرص على التعليم الإسلامي تلقيناً لأبنائنا ، وحرصاً على ثبوته ووضوحه في مناهجنا ، ولقد تعرضت الأمة - كما قلت - في قضية التعليم إلى الهجوم سافر قديم ، وإلى مسخ وتشويه عظيم حتى أن بعض كبريات الجوامع والجامعات الإسلامية في أكثر أو في كثير من الدول الإسلامية العربية العريقة قد تعرضت من قبل إلى هذا المسخ فحرفت المناهج وطورت والحقيقة إنها دمرت .

وقريباً سمعنا كذلك عن تطورات في بعض البلاد الأخرى من معاهدها أغلقت أو مناهج خفضت ماذا يريدون .. يريدون - كما يقولون - تجفيف منابع الإرهاب الذي يريدون به أن يلوي أعناق الأمة ، وأن يحنوا ظهورها ، وأن يركبوا على ظهور الأمة ؛ ليقودها قيادة الأذلاء الأتباع كما قد نرى في صور كثيرة واضحة .

ولعلنا ونحن نقول ذلك نرى أن الحملة تتوجه أكثر وبشكل أظهر إلى هذه البلاد التي تضم الحرمين الشريفين ، التي هي فيها مهد الإسلام ومهبط الوحي والرسالة ، وتنكشف الحملة أكثر من أي وقت مضى ، دون أن يكون هذا التكثيف مختصاً بغيرها ، لماذا ؟ لأن هذه البلاد قد عصمها الله - عز وجل - من كثير مما حلَّ بغيرها ، فليس هناك ما يريدون تحقيقه مما تحقق في بعض البلاد الأخرى .. إنهم في غيظاً للتعليم المنفصل غير المختلط الذي يريدون أن يقولوا أنه من أسباب الإرهاب ، وكل شيء عندهم اليوم يربطونه بهذه القضية حتى صارت كلماتها موضعاً للضحاك والطرف والنوادر.

ويريدون أن يتكلموا عن الجامعات الإسلامية وأنها تدرس العداء للآخرين ويكثفون حملة شنيعة لماذا ؟ لأن هناك مزايا كثيرة ولأن هناك فوائد عظيمة ، ولأن هناك - بحمد الله عز وجل - معاقل حصينة يستهدفونها لينالوا من الأمة في صميمها وفي قلبها وفي موطن مهبط وحيها وقيام دولتها الأولى في مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم .

إننا في وقفات عاجلة نذكر بعض ما هو - والحمد لله عز وجل - مثبت في السياسة التعليمية في هذه البلاد ؛ لنرى ما الذي يريدونه وما الذي يهدفون له ؟

من أهداف التعليم في السياسة التعليمية :

أولاً : تنمية روح الولاء لشريعة الإسلام

وذلك بالبراءة من كل نظام أو مبدأ يخالف هذه الشريعة واستقامة الأعمال والتصرفات وأحكامها العامة والشاملة ، إن هذه المبادئ التي تصد وتمنع من استيراد الأفكار والنظم المخالفة للإسلام هي المستهدفة في حقيقة الأمر .

ثانياً : تزويد الفرد بالأفكار والمشاعر والقدرات الأزمة لحمل رسالة الإسلام

إنهم يريدون أن نتخلى عن رسالة الإسلام ومن الأسس أيضاً تحقيق الخلق القرآني في المسلم والتأكيد على الضوابط الخلقية ، وبيان الانسجام التام بين العلم والدين في شريعة الإسلام ؛ فإن الإسلام دين ودنيا والفكر الإسلامي يفي بمطالب الحياة البشرية في أرقى صورها في كل عصر .

هذا الوضوح المنهجي الفكري الذي يوضع كقاعدة للتعليم هو الذي يراد أن ينسخ وأن يغير وأن يشوه ، وهذا كما قال الله عز وجل: { يريدون ليطفئوا نور الله بأفواههم والله متم نوره ولو كره الكافرون } .

ثالثاً : تكوين الفكر الإسلامي المنهجي لدى الأفراد

ليصدروا عن تصور إسلامي موحد فيما يتعلق بالكون والإنسان والحياة .

وكثير من غير ذلك هذه النعم التي من الله بها هذه المناهج قد نحتاج لتطويرها ، لكن للأفضل من وجهه نظرها ومن خلال علمائنا وذوي الرأي فينا ، ومن اختصاصي التربية والتعليم ، لكننا لن نغير أو نطول وفق أهواء تحالفنا في عقائدنا وتنازعنا في حضارتنا وتحابنا في واقعنا ؛ فإن هذا لا يكون بحال من الأحوال إلا صورة من صور الاستسلام والضعف والهوان ، وذلك - بحمد لله - مالم يكن ولن يكون - بإذن الله - مادام فينا عروقٌ تنبض ، وإيمانٌ في قلوبنا يخفق ، وتصورٌ إسلاميٌ واضحٌ مَنَّ الله سبحانه وتعالى به علينا .

وإن حقيقة الهجمة على التعليم هي مسخ للهوية وأضعاف لوحدة الأمة ، وتكريس لتبعيتها لأعدائها ، فقضية خطيرة وأهدافه عظيمة الضرر كبيرة الأثر ، خاصة وأنها تتعلق بالأجيال والمستقبلية ؛ فإننا نعلم أن التعليم ينضم اليوم سائر الأبناء والصغار في المجتمعات كلها ؛ فإن هذه الأجيال إذا مسخت في فكرها وروحها وفي تاريخها وهويتها ؛ فإن ذلك يجعلها لقمة صائغة لأعدائها ، وذلك ما ينبغي أن نفطن له وإن نحرص عن الذبَ عنه والذود عن حياض الإسلام وعن أمتعتنا ، وعن هذه البلاد التي أكرمها الله بالحرمين الشريفين ، وجعل كل سياساتها المعتمدة المعتبرة محررة وفق هذا المنهج الإسلامي ، الذي نسأل الله عز وجل أن يبقي نعمته علينا ، وإن يزيدنا منه ، وأن يجعلنا جميعاً قادة وشعباً متآزرين عليه ، متواحدين لنصرته ، مدافعين عنه ما استطعنا إلى ذلك سبيلاً .

المصدر : موقع إسلاميات

===========

#الرأسمالية ليست نهاية التاريخ

د. عمر فوزي نجاري

النظرة المادية البحتة للأمور, أوصلت الفيلسوف الأمريكي (( فرنسيس فوكوياما )) عام 1989م , إلى نظريته المتمثلة بأن انتصار الرأسمالية يعني ( نهاية التاريخ ) , وأن قيمة الإنسان مستمدة مما يملكه, وبالتالي فإنّ فقدان الملكية يعني انعدام قيمة مالكها , وبناء عليه فإن المجتمعات البشرية ستكون أمام أحد خيارين: إمّا أن تأكل , أو أن تؤكل.

وراح الرأسماليون يزدادون ثراء , والفقراء يزدادون فقراً , وأخذت المنافسة غير المتكافئة بين الحيتان والأسماك الصغيرة , تطحن الناس والمجتمعات طحناً , مدمرة البنى الاجتماعية والتماسك الاجتماعي , وأخذت الفئات الدنيا من الطبقة المتوسطة تزداد فقراً , وباتت معها الطبقة الوسطى في تضاؤل مستمر .

( أوناسيس ) و ( جونتر الرابع ) اسمان لامعان , دخلا موسوعة غينيس من أوسع أبوابها , وقد جمع بينهما في باب واحد , كونهما من أصحاب الملايين , ممن خلقوا وعاشوا على وجه البسيطة , مثلهما كمثل أي مخلوق يمشي على قدمين , أو على أربع , أو قد يقطع المسافات زحفاً على بطنه .. وقد تودد لهما خلق كثير ممن اعتاد شرب الذل وركوب الهوان , ساعين وراء الفتات , وراء كل ما هو زائل لا يدوم .

أمّا ( أوناسيس ) وهو من بني البشر , فقد مات منذ ثلث قرن , وقد أكلت دابة الأرض منسأته , وما عادت تنفعه ملايينه أو بلايينه , وأمّا ( غونتر الرابع ) فلا هو من بني البشر , ولا ممن يملك الحجر أو الشجر , وإنّما هو كلب إيطالي ورث عن صاحبته الكونتيسة ( كاراوتا لبيثاتي ) ملايين الدولارات بعد أن أوصت له بثروتها الطائلة ؟!.

وإذا كانت المسافات قد تقاربت في عصرنا بفعل تقدم وسائل الاتصالات , فإنّ الجمع بين المواصفات القياسية للبشر والحيوان في عصرنا هذا , قد بات أمراً واقعاً وملموساً بعد أن سيطرت على البشرية القيم المادية البحتة , وأصبحت معها القيم الفاضلة والأخلاق الحميدة من الندرة بحيث أصبح معها حاملوها غرباء في مجتمعاتهم , لينطبق عليهم قول شاعرنا الحكيم وصاحب البصيرة النافذة أبو الطيب المتنبي:

ذو العقل يشقى في النعيم بعقله وأخو الجهالة في الشقاوة ينعم

ولم تصل البشرية إلى التقدم والرخاء , بل صار التدهور الاقتصادي والتدمير البيئي والانحطاط الثقافي وتزايد الفروقات بين البشر , أهم ميزات العصر الأمريكي الراهن , وباتت معها أسواق المال العالمية اليوم , أشد خطراً على الاستقرار العالمي من الأسلحة النووية ذاتها .

إنّ مفهوم المال في حضارتنا وتراثنا يختلف عما هو عليه في الحضارة الكونية الحديثة , فهو عندنا موجود لخدمة البشر والمجتمع , فكل ثراء لا يزيد من فرص العمل مرفوض , وكل تكديس للثروات مرفوض , فالثروات في حضارتنا العريقة ليست سوى وسيلة من وسائل التكافل الاجتماعي غرضه تحسين مستوى معيشة الأمة والمجتمع ( فرادى وجماعات ) , إذا ما أنفقت في وجوه الخير , خلافاً لما هو عليه الحال في الحضارة الحديثة التي جعلت منها معبوداً يلهث وراءه , ويتقرب إليه , أصحاب النفوس الضعيفة والمهزوزة , ممن أعمت حمى الاستهلاك وتكديس الثروات بصيرتهم , وما عاد من فارق يميزهم عن ( جونتر الرابع ) أو عن القطة الإيطالية المليونيرة ( كيتي ).

المال في حضارتنا ليس بمقياس على علو منزلة الإنسان , فالمال إذا ما أخذ بغير حق أذل أعناق الرجال وغير المباديء وأفسد الأمور , وقد تم التأكيد والتشديد على تجنب أكل أموال الناس بالباطل والتحايل ( ومن أساليبها الرشوة والتهرب من سداد الدين , وعمليات النصب والاحتيال , وأكل أموال اليتامى , وعدم إعطاء الأجير أجره …وغيرها كثير ). مع التشديد وعدم التساهل حول ألاّ يدخل مال إلاّ من حلال.

إنّ العودة إلى مناهل تراثنا وحضارتنا أمر لا بد منه للوقوف في وجه حضارة الانحلال الأخلاقي المستشرية , ونظرة حضارتنا إلى المال قد أوضحها لنا أمير المؤمنين الخليفة الراشد ( عمر بن الخطاب ) موضحاً بذلك إحدى أهم الأسس التي بني عليها الاقتصاد الإسلامي , بقوله : (( إنّي لا أجد هذا المال يصلحه إلاّ خلال ثلاث : أن يؤخذ بالحق , ويعطى بالحق , ويمنع من الباطل )).

قديماً قالت العرب : ( عند جهينة الخبر اليقين ) وما عداه باطل الأباطيل وقبض الريح .

==============

#حضارتنا تتحدّث

د.عبد المعطي الدالاتي

(( يقول العلامة محمد الغزالي :(( مَن لم يُسهره العلم أياماً , أسهره الجهل أعواماً !..

فإلى متى نظل ننامُ في النور , ويستقيظ الأنامُ في الظلام ؟!! )) .

كان لي في كلّ وادْ *** نارُ جمرٍ , لا رمادْ

وصروحٌ شامخاتٌ *** ومناراتٌ تُشادْ

كان يأتي البدرُ ناري *** في عَشِيّاتِ الحصادْ

كان لي وجهٌ تولّى *** نحو من خلقَ العبادْ

كان لي فِكرٌ وشعرٌ *** زانَهُ : (( بانتْ سُعادْ ))

كان لي جُندٌ تسامَوا *** للمعالي بالجهادْ

كان هارون الرّشيدُ *** حاكماً كلّ البلادْ

قال يوماً للغمامِ *** (( سرْ: لنا يُجبى الحصادْ ))

كنتُ في الأرواحِ وعياً *** وضياءً في الفؤادْ

كنتُ للأشواق دمعاً *** يُستقى منه المدادْ

كنت نوراً للحيارى *** يُرتجى في كلّ نادْ

كنتُ طهراً, كنت فجراً *** هل تُرى الذكرى تُعادْ ؟!

يا شبابي فلْتهبّوا *** طالَ واللهِ الرّقادْ

إنما الأمجادُ تُبنى *** في جهادٍ واجتهادْ

* * *

" من ديوان " عطر السماء"

==============

#قضاة زينوا ساحات القضاء

دأب الغرب العلماني على توجيه الانتقادات للمنهج الإسلامي فيما يتعلق بسجل حقوق الإنسان بالتلميح تارة وبالتصريح تارة أخرى ونسى هذا المشفق على حقوق الإنسان ماضيه الاستعماري الذي قام على قهر الشعوب الضعيفة وسلب خيراتها كما نسى حاضره الذي يقدم النفعية والمصلحة الشخصية على النزعة الإنسانية حتى صارت كلمة حقوق الإنسان شعاراً أجوفا مفرغاً من محتواه العملي ، بل نسى الغرب روعة الإسلام في تحقيق المساواة بين أبنائه أمام الله وأمام القانون ، فلقد ازدان تاريخ القضاء في الإسلام ببدائع من مواقف قضاة العدل وزها بروائع من انصياع خاصة المسلمين وعامتهم لشرع الله ونزولهم عند أحكامه فكان له في العدل السبق والتفرد بين حضارات الدنيا بأسرها.

خطورة منصب القضاء

لما كان العدل دعامة الأمم الراشدة حرص الإسلام على تأكيد أهمية دور القضاء وخطورة موقعه في الأمة الإسلامية قال تعالى ( إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل ) النساء 58 وقال صلى الله عليه وسلم ( إن المقسطين عند الله على منابر من نور عن يمين الرحمن عز وجل وكلتا يديه يمين الذين يعدلون في حكمهم وأهليهم وما ولوا ) (1) لكن بريق منصب القضاء وعلو قدره جعل النفوس الضعيفة تهفوا إليه لتحوز الشرف والمكانة في الدنيا متغافلة عن عبء القيام بحقه من واجبات العدل فكان في المنصب هلاكها يوم القيامة، فحرص المرء على الشرف بطلب الولايات أشد إهلاكا له من حرصه على المال فإن طلب شرف الدنيا والرفعة فيها والرياسة على الناس والعلو في الأرض أضر على العبد من طلب المال وضرره أعظم والزهد فيه أصعب فإن المال يبذل في طلب الرياسة وطلب الشرف بالولاية خطر جدا وهو في الغالب يمنع خير الآخرة وشرفها وكرامتها وعزها قال تعالى ( تلك الدار الآخرة نجعلها للذين لا يريدون علوا في الأرض ولا فسادا والعاقبة للمتقين )القصص 83 وقل من يحرص على رياسة الدنيا بطلب الولايات فيوفق بل يوكل إلى نفسه كما قال النبي صلى الله عليه وسلم لعبد الرحمن بن سمرة رضي الله عنه ( يا عبد الرحمن بن سمرة لا تسأل الإمارة فإنك إن أعطيتها عن مسألة وكلت إليها وإن أعطيتها عن غير مسألة أعنت عليها ) (2) وقال صلى الله عليه وسلم ( إنكم ستحرصون على الإمارة وستكون ندامة يوم القيامة فنعم المرضعة وبئست الفاطمة ) (3) وعن أبى موسى الأشعرى رضي الله عنه أن رجلين قالا للنبي صلى الله عليه وسلم يا رسول الله أمرنا فقال ( إنا لا نولى هذا من سأله ولا من حرص عليه )(4) من أجل هذا هاب الصالحون منصب القضاء وتبعاته وحرصوا على دفعه عن أنفسهم ، ويروى لنا تاريخ الإسلام في ذلك مواقف مضيئة نذكر منها ما روى من أن عثمان بن عفان عرض على ابن عمر رضي الله عنه القضاء فأبى ولما ألح عليه لقبوله مذكرا إياه بأن أباه كان يقضى قال عبد الله: إن أبى كان يقضى فإذا أشكل عليه شيء سأل النبي صلى الله عليه وسلم وإذا أشكل على النبي صلى الله عليه وسلم سأل جبريل وإني لا أجد من أسأل ، وروى أن الوليد أراد أن يولى يزيد بن مرثد القضاء فبلغ ذلك يزيد فلبس فروة وقلبها فجعل الجلد على ظهره والصوف خارجا وأخذ بيده رغيف خبز وعرقا ( أي عظم عليه لحم ) وخرج بلا رداء ولا قلنسوة ( أي حاسر الرأس ) ولا نعل ولا خف وجعل يمشى في الأسواق ويأكل فقيل للوليد إن يزيد قد اختلط ( أي خرف ) وأخبر بما فعل فتركه الوليد ، وسأل بعضهم وكيعا عن مقدمه هو وابن إدريس وحفص على هارون الرشيد فقال: كان أول من دعا به أنا فقال لي هارون: يا وكيع إن أهل بلدك طلبوا منى قاضيا وسموك فيمن سموا وقد رأيت أن أشركك في أمانتي فقلت يا أمير المؤمنين أنا شيخ كبير وإحدى عيني ذاهبة والأخرى ضعيفة فقال : هارون اللهم غفرا خذ عهدك أيها الرجل وامض فقلت : يا أمير المؤمنين والله لئن كنت صادقا إنه لينبغي أن لا يقبل منى ولئن كنت كاذبا فما ينبغي أن تولى القضاء كذابا ، فقال : اخرج فخرجت ، ودخل ابن إدريس فسمعنا وقع ركبتيه على الأرض حين برك وما سمعناه يسلم إلا سلاما خفيا ، فقال له هارون : أتدرى لما دعوتك ؟ قال لا قال: إن أهل بلدك طلبوا منى قاضيا وإنهم سموك لي فيمن سموا وقد رأيت أن أشركك في أمانتي وأدخلك في صالح ما أدخل فيه من أمر هذه الأمة فخذ عهدك وامض فقال له ابن إدريس : وأنا وددت أنى لم أكن رأيتك فخرج ، ثم دخل حفص فقبل عهده . وجمع عدي بن أرطاة بين إياس بن معاوية والقاسم بن محمد وقال إن أمير المؤمنين أمرني أن أولى أحدكما قضاء البصرة فماذا تريان؟ فقال كل منهما عن صاحبه: أنه أولى منه بهذا المنصب وذكر من فضله وعلمه وفقهه ما شاء الله أن يذكر فقال عدي لن تخرجا من مجلسي هذا حتى تحسما هذا الأمر فقال له إياس : أيها الأمير سل عنى وعن القاسم فقيهى العراق الحسن البصري ومحمد بن سيرين فهما أقدر الناس على التمييز بيننا وكان القاسم يزورهما ويزورانه وإياس لا تربطه بهما رابطة فعلم القاسم أن إياسا أراد أن يورطه وأن الأمير إذا استشارهما أشار به دون صاحبه فما كان منه إلا أن التفت إلى الأمير وقال: لا تسأل أحدا عنى ولا عنه - أيها الأمير – فو الله الذي لا إله إلا هو إن إياسا أفقه منى في دين الله وأعلم بالقضاء فإن كنت كاذبا في قسمى هذا فما يحل لك أن توليني القضاء وأنا أقترف الكذب وإن كنت صادقا فلا يجوز لك أن تعدل عن الفاضل إلى المفضول فالتفت إياس إلى الأمير وقال أيها الأمير إنك جئت برجل ودعوته إلى القضاء فأوقفته على شفير جهنم فنجى نفسه منها بيمين كاذبة لا يلبث أن يستغفر الله منها وينجو بنفسه مما يخاف فقال له عدي : إن من يفهم مثل فهمك هذا لجدير بالقضاء حري به ، ثم ولاة قضاء البصرة.

مواقف في العدل ناصعة أشبه بالأساطير

منصب القضاء في الإسلام من أعلى المراتب لقوله تعالى ( والله يقضى بالحق ) غافر 20 فكان القاضي نائب عن الله في حكمه وفتواه يقول الإمام الغزالى ( إنه أفضل من الجهاد لأن طباع البشر مجبولة على التظالم وقل من ينصف من نفسه والإمام مشغول بما هو أهم منه فوجب من يقوم به فإن امتنع الصالحون له منه أثموا وأجبر الإمام أحدهم ) ولقد جاءت دوحة الإسلام برجال وقضاة أفذاذ قوالين بالحق أمارين بالمعروف لا يعصون الخالق في طاعة المخلوق وهؤلاء هم الذين تحتاج الأمة إلى أمثالهم إذ الأمة لا تحتاج إلى شيء من الأخلاق احتياجها إلى العدل والمساواة وعدم الإغضاء على تعدى حدود الله رهبة من السلطان ... هؤلاء الذين تحيا بهم الأمم وتشرق بهم الأيام وتعلو بهم قداسة الحق فتطيب بهم الأيام (5)

فمن مواقفهم الناصعة مع ذوى السلطان ما روى أن عليا بن أبى طالب كرم الله وجهه افتقد درعا له كانت أثيرة عنده ثم ما لبث أن وجدها في يد رجل يهودي يبيعها في سوق الكوفة فلما رآها عرفها وقال: هذه درعي سقطت عن جمل لي في ليلة كذا وفي مكان كذا فقال الذمي: بل هذه درعي وفي يدي يا أمير المؤمنين وبيني وبينك قاضى المسلمين فقال على أنصفت فهلم إليه ، فلما صارا عند شريح القاضي في مجلس القضاء قال شريح لعلى رضي الله عنه : لا ريب عندي في أنك صادق فيما تقوله يا أمير المؤمنين ولكن لابد لك من شاهدين فقال على: نعم مولاي قنبر وولدي الحسن يشهدان لي فقال شريح ولكن شهادة الابن لأبيه لا تجوز فقال على يا سبحان الله رجل من أهل الجنة لا تجوز شهادته أما سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول ( الحسن والحسين سيدا شباب أهل الجنة ) (6) فقال شريح بلى يا أمير المؤمنين غير أنى لا أجيز شهادة الولد لوالده ، عند ذلك التفت على إلى الذمي وقال خذها فليس عندي شاهد غيرهما فقال الذمي ولكنى أشهد بأن الدرع درعك يا أمير المؤمنين ثم أردف قائلا يا لله أمير المؤمنين يقاضيني أمام قاضيه وقاضيه يقضى لي عليه أشهد أن الدين الذي يأمر بهذا لحق وأشهد أن لا إله إلا الله وأن محمد رسول الله .

ويذكر السيوطى في تاريخ الخلفاء أن الخليفة أبو جعفر المنصور كتب إلى سوار بن عبد الله قاضى البصرة كتابا فيه (أنظر الأرض التي تخاصم فيها فلان القائد وفلان التاجر فادفعها إلى القائد ) فكتب إليه سوار (إن البينة قد قامت عندي أنها للتاجر فلست أعطها لغيره إلا ببينة ) فكتب إليه المنصور ( والله الذي لا إله إلا هو لتدفعنها إلى القائد ) فكتب إليه سوار ( والله الذي لا إله إلا هو لا أخرجها من يد التاجر إلا بحق ) فلما وصل كتابة إلى المنصور قال: ملأتها والله عدلا فصار قضاتي تردني إلى الحق

ومنهم القاضي المنذر بن سعيد البلوطى الذي ولى القضاء بقرطبة أيام عبد الرحمن الناصر وناهيك من عدل أظهر ومن فضل أشهر ومن جور قبض ومن حق رفع ومن باطل خفض كان مهيبا صليبا غير جبان ولا عاجز ولا مراقب لأحد من خلق الله في استخراج حق ورفع ظلم ، استعفي مرارا من القضاء فما أعفي ، ويروى أن الناصر أراد أن يبنى قصراً لإحدى نسائه وكان بجوار المكان دار صغيرة وحمام لأيتام تحت ولاية القاضي فطلب شراءه فقالوا إنه لا يباع إلا بإذن القاضي نسأله بيعه فقال القاضي لا إلا بإحدى ثلاث حاجة الأيتام أو وهن البناء أو غبطة الثمن فأرسل الخليفة خبراء قدروهما بثمن لم يعجب القاضي فأباه وأظهر الخليفة العدول عنهما والزهد فيهما وخاف القاضي أن يأخذهما جبرا فأمر بهدم الدار والحمام وباع الأنقاض بأكثر مما قدر الخبراء وعز ذلك على الخليفة وقال له ما دعاك إلى ذلك؟ قال أخذت بقول الله تعالى ( أما السفينة فكانت لمساكين يعملون في البحر فأردت أن أعيبها وكان ورائهم ملك يأخذ كل سفينة غصبا ) الكهف 79 لقد بعت الأنقاض بأكثر مما قدرت للدار والحمام وبقيت للأيتام الأرض فالآن اشترها بما تراه لها من الثمن قال الخليفة أنا أولى أن أنقاد إلى الحق فجزاك الله عنا وعن أمتك خيرا.

ومواقف العدل حتى مع الأبناء فلذات الأكباد ومما يروى في ذلك أن ابن شريح القاضي قال له يوما يا أبت إن بيني وبين قوم خصومة فانظر فيها فإن كان الحق لي قاضيتهم وإن كان لهم صالحتهم ثم قص عليه قصته فقال له شريح انطلق فقاضهم فمضى إلى خصومه ودعاهم إلى المقاضاة فاستجابوا له ولما مثلوا بين يدي شريح قضى لهم على ولده فلما رجع شريح وابنه إلى البيت قال الولد لأبيه فضحتني يا أبت والله لو لم أستشرك من قبل لما لمتك فقال شريح: يا بنى والله لأنت أحب إلي من ملء الأرض من أمثالهم ولكن الله عز وجل أعز علي منك ، لقد خشيت أن أخبرك بأن الحق لهم فتصالحهم صلحا يفوت عليهم بعض حقهم فقلت لك ما قلت

وقد كفل ولد لشريح رجلا فقبل كفالته فما كان من الرجل إلا أن فر هاربا من يد القضاء فسجن شريح ولده بالرجل الفار وكان ينقل له طعامه بيده كل يوم إلى السجن.

( إن لنا نحن أبناء هذه الحضارة دين على الشعوب التي حررتها حضارتنا يجب أن نسترده لا بالتفاخر الكاذب ولا بالأماني والأباطيل بل بمعرفتنا لقدر أنفسنا وقيمة حضارتنا وسمو تراثنا واستحقاقنا لأن نكون الأمة الوسط التي تشهد على الناس وتقودهم إلى الخير والحق والكرامة ولعلنا فاعلون إن شاء الله) (7).

د/ خالد سعد النجار

alnaggar66@hotmail.com

---------------------

الهوامش والمصادر

(1) رواه مسلم عن عبد الله بن عمرو بن العاص ــ كتاب آداب القضاة برقم 5284

(2) رواه البخاري ــ كتاب الأحكام برقم 6613

(3) رواه البخاري ــ كتاب الأحكام عن أبي هريرة برقم 6615

(4) رواه البخاري ــ كتاب الأحكام برقم 6616

(5) من يظلهم الله د/ سيد العفانى، مكتبة معاذ بن جبل

(6) رواه الترمذي عن أبي سعيد الخدري ــ كتاب المناقب برقم 3701

(7) من روائع حضارتنا د/ مصطفي السباعي، دار السلام

ــ تاريخ الخلفاء / السيوطي

- شرح حديث (ما ذئبان جائعان) صـ17-19، ابن رجب - دار الفتح

ـ صور من حياة التابعين د/ رأفت الباشا دار الأدب الإسلامي

- صلاح الأمة د/ سيد العفانى مؤسسة الرسالة

- إيقاظ أول الهمم العالية عبد العزيز السلمان دار الإيما

================

#بناء ثقافتنا والحفاظ عليها

دكتور عثمان قدري مكانسي

الثقافة : - لغة : من ثقف : بكسر العين وضمها- صار فطناً حاذقاً . وثقّف الشيء : أقام المعوجّ منه وسوّاه .

- واصطلاحاً :العلوم والمعارف والفنون التي يُطلب الحذق فيها .( المعجم الوسيط )

- وقال أهل الخبرة : الأخذ من كل فن بطرف ، ومن فنٍّ بكل أطرافه .

- وهي الحضارة المبنية على الفهم والعمل ، فلا بد منهما مجتمعَين .

- وهي المكوّنات الرئيسة لحياتنا في مجتمعنا العربي والإسلامي من دين وعادات أصيلة ، وشمائل .. وما شابه ذلك .

هل كان للعرب ثقافة : إن المتابع لحياة العرب قديماً يجد أنهم أهل ثقافة واضحة المعالم ، بارزة السمات . ومن الأدلة على ذلك :

- قول النبي صلى الله عليه وسلم : " إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق " ولن تكون الأخلاق إلا في قوم عرفوا بالفهم ، والذوق ، والحضارة التي أهّلتهم قبل غيرهم أن يكونوا حضَنَة الإسلام وناشريه . ومن البدهي أنه حين تُكلف أمة من الأمم بحمل أعظم دين إلى البشرية جمعاء أن يكونوا خير من يؤدي الأمانة ، وأقدر على ذلك بما يتسمون به من سمات تؤهلهم لذلك الشرف العظيم .

- التقسيمات الحيوية التي كانوا يعيشونها ، فهم قبائل ذات أصول تتفرع إلى عشائر وأفخاذ ثم إلى أسر مترابطة يجمعها الولاء إلى مفاهيم - كالشهامة والمروءة ونصرة الضعيف والشرف والصدق و.. و...- تُحكم هذا الرباط وتقوّيه ، وهذه الصفات أقرها الإسلام وعمل على ترسيخها وتمين عراها .

- أسواق العرب الدورية التي كانوا يَؤُمّونها ، ويتبايعون فيها وينشرون قصائدهم فيها ، ويتبارى فيها خطباؤهم وشعراؤهم ورجالاتهم على تأصيل الحكمة والتفاخر بشمائلهم . من هذه الأسواق " سوق عكاظ " شرقيّ مكة ، و" سوق ذي المِجَنّة " قرب مكة كذلك ، و" سوق ذي المجاز " قرب ينبع ..

- الإعلام القوي الذي ملأ الآفاق – وأقصد الشعر – فهو كما قال الفاروق رضي الله عنه : " الشعر ديوان العرب " حفِظ الأنسابَ وأصّلَ الشمائل ، ودعا إلى المكارم ودوّنَ أيام العرب وحياتها الاجتماعية والسياسية والعسكرية والفكريّة .

- وفخرت القبائل بشعرائها وخطبائها ، وعلّقت النفيس من شعرهم على باب الكعبة لنفاستها ، والمعلوم أنّ العِلق: النفيسُ . فالمعلّقات : النفيس من الشعر .

الدين يحفظ ثقافتنا : قال الفاروق عمر رضي الله عنه : " نحن قوم أعزّنا الله بالإسلام ، ومهما ابتغينا العزة بغيره أذلّنا الله "

- فالقرآن كان سبب اهتمام المسلمين بالعلوم التي تخدمه كالنحو ، وفقه اللغة ،والفلك ، والجغرافيا ، والتاريخ ، والتفسير ، والفقه و.. و.. و.. له الفضل في انتشار اللغة العربية ورسوخها في عالم الحضارة والثقافة .

- ولولا القرآن الذي حفظ اللغة العربية لاندثرت كما اندثرت كثير من اللغات ، أو تغيرت كما تغيرت أمهات اللغات ، فاللغة الإنجليزية مثلاُ يتغير معظم مفرداتها وكثير من تراكيبها النحوية كل مئتي سنة – كما يؤكد دارسوها - . أو صارت لهجاتها لغات أصيلة كما حصل للغة اللاتينية حيث ظهرت الفرنسية والإيطالية والإسبانية و..

- وقد حاول المستشرقون أن يكتب كل قطر عربي ثقافته بلهجته فظهر أول كتاب باللهجة المصرية القاهرية عام ألف وتسع مئة ، وحاول بعض نصارى لبنان أن يقلدوا أتاتورك في كتابة شعرهم اللبناني باللهجة اللبنانية والحروف اللاتينية ، مثالهم الشاعر اللبناني سعيد عقل ، فماتت المحاولات في مهدها ..

- ولم يفلح – ولن يفلح هؤلاء- ما دام القرآن يُتلى آناء الليل وأطراف النهار ، ويقرؤه الكبير والصغير ، ويفهم معانيه العربي والمسلم غير العربي . وترى المسلم غير العربي يتلهف لقراءة القرآن والتنغم به ، وقد لمست هذا باطّراد حين زرت الباكستان وتركيا وأمريكا ..

- وقد تنبّه العرب والمسلمون إلى أن من لا ماضي له لا حاضر له فتمسّكوا بأساس ذاك الماضي ومحرّك هذا الحاضر .

كيف نحافظ على ثقافتنا : لا شك أنه من البدهي أن يحافظ المسلم ابتداء على لغة القرآن وثقافة الأمة الخالدة بالحفاظ على مكوّناتها الفطرية ودوافعها الحيوية ، وأن يحافظ العربي بأطيافه كلها على لغته لأنها حضارته ومنبع ثقافته ومرتكز وجوده . وذلك بالتزامه بأمور عدة أذكر منها :

- الحديث بالعربية المبسطة ما أمكن في الأسرة ومع الأصدقاء والمجتمع ، فالأمة الحية الناهضة تهتم بباعث نهضتها وباني ثقافتها

- القراءة المستمرة للكتب التي يهتم مؤلفوها باللغة الفصيحة والتعبيرات السليمة " كالمسرحيات الهادفة والقصص المفيدة ، وكتب التفسير المناسبة للمستوى والأحاديث الشريفة ....

- الالتزام الديني الواعي ، وهذا بدوره يدفع إلى الاهتمام بالثقافة العربية ، فنحن نجد الملتزمين بالإسلام من غير العرب حريصين على اللغة العربية لأنها اللغة المقدسة، لغة القرآن الكريم والحديث الشريف ، ونحن أصحاب اللغة وناشرو الدين أولى من غيرنا بهذا الاهتمام والعناية .

- الاعتزاز بالماضي ، فهو ركيزة الحاضر والمستقبل . ويتجلى الاعتزاز بالماضي بمايلي :

1- بدراسته بتفهم وإمعان ، واستنباط العظة والعبرة ومكامن القوة فيه لتوظيفها في بناء الحياة الصحيحة ،ومعرفة أسباب الضعف ودواعيه لتلافيها

2- الانتماء للماضي والانتساب إليه ، فمن سار على خطا أجداده وتأسى بهم ملك الدنيا ودانت له .

3- تعريف الأمة به ، وتقريبه إليهم ليستلهموه في بناء ثقافتهم وحضارتهم .

- استشعار روح العزة وقوة الذات أمام الهجوم الثقافي الغربي .. وهذا يكون ببناء الشباب على أنهم بناة المستقبل وأبناء السلف الصالح الذين سادوا العالم ، فمن أراد أن يكون مثلهم سار على طريقتهم .

والأمر يسير جداً حين نجتهد في بناء نهضتنا ، والحفاظ على حضارتنا وثقافتنا .

والأمل كبير في شباب الأمة وبناة المستقبل أن يكونوا على قدر المسؤولية في بناء الثقافة الإسلامية وإيصال ثقافتنا إلى الآخرين .

================

#اعترافات متأخرة

المشاهير وغيرهم يعترفون

تأليف

محمد بن عبد العزيز المسند

بسم الله الرحمن الرحيم

المقدمة

الحمد لله وكفى ، والصلاة والسلام على النبي المصطفى وعلى آله وأصحابه الأتقياء الشرفاء .

أما بعد ...

فهذه بعض الاعترافات المتأخرة لعدد من المشاهير ممن عرفتهم الجماهير ، وصفقت لهم ردحاً طويلاً من الزمن ، واحتلت صورهم وأسماؤهم مساحات واسعة في كثير من الصحف والمجالات العربية والعالمية .. .

ولغيرهم من الفلاسفة والمفكرين ورجال الأعمال ، أضعها بين يدي أبناء هذا الجيل والأجيال المقبلة بإذن الله ليأخذوا منها العبرة والعظة ، وقد علّقت عليها بعض التعليقات الموجزة ، سائلاً المولى عز وجل أن يتقبل مني هذا العمل وسائر الأعمال والله الموفق

المؤلف .

الإهداء

إلى الذين بهرتهم الأضواء وخدعتهم الأهواء وغرتهم المظاهر الجوفاء .

إلى الذين يبحثون عن الشهرة بأي ثمن ويسعون للوصول إلى قمة المجد الزائف والثراء .

إلى الذين يبحثون عن السعادة وغاية أملهم أن يكونوا سعداء .

إلى المغترّين بالغرب مع ما وصلوا إليه من التحلل والتفسخ والشقاء .

إلى المخدوعين بما يدعو إليه أدعياء تحرير المرأة وما يثيرونه من الشكوك والشبهات .

إلى كل فتاة ترفض الزواج بحجة الدراسة والعمل ونيل مزيد من الشهادات .

إلى هؤلاء وغيرهم ، أهدي هذه الاعترافات راجياً أن ينتفعوا بما فيها من العبر والعظات .

والله الموفق .

1. اعترافات حول الحضارة الغربية والإسلام ونبينا محمد صلى الله عليه وسلم

ما أكثرهم أولئك المغترين بالحضارة الغربية ، وإن شئت فسمها (الحظيرة) ..نعم .. إنها حظيرة كبيرة مليئة بالحيوانات الناطقة التي هي في صورة إنسان كما قال تعالى : (( إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً)) (الفرقان: من الآية44) . وإن وصلوا إلى ما وصلوا إليه من تقدم مادي ، فإن الأمم إنما تقاس بأخلاقها وآدابها ،لا بتقدمها المادي وصناعتها ، وقديماً قال الشاعر العربي :

وإنما الأمم الأخلاق ما بقيت فإن همُ ذهبت أخلاقهم ذهبوا

وصدق والله .. فها هي ذي الحضارة المزعومة التي هي بلا أخلاق ولا قيم ها هي بدأت تحتضر ، وتوشك على الذهاب والأفول ، وقد صرح بذلك كبار فلاسفتها ومفكريها وعلمائها ...وإليك بعض أقوالهم :

يقول " أليكس كاريل " وهو عالم كبير من علماء هذا القرن :

إن الحضارة العصرية (الغربية) تجد نفسها (اليوم) في موقف صعب، لأنها لا تلائمنا، فقد أنشئت دون أية معرفة بطبيعتنا الحقيقية ، إن أنها تولدت من خيالات الاكتشافات العلمية، وشهوات الناس ، وأوهامهم ونظرياتهم ، ورغباتهم ، وعلى الرغم من أنها أنشئت بمجهوداتنا، إلا أنها غير صالحة بالنسبة لحجمنا وشكلنا " 1

يقول الرئيس ولسون قبل وفاته بأسابيع قليلة :

إن حضارتنا لا تستطيع الاستمرار في البقاء من الناحية المادية، إلا إذا استردت روحانيتها" 2

وأخيراً يقول الفيلسوف الإنجليزي المعاصر ( برتراندرسل) : ( لقد انتهى العصر الذي يسود فيه الرجل الأبيض) نعم انتهى ذلك العصر ، والمستقبل بإذن الله لهذا الدين .. المستقبل للإسلام . 3

والآن أترككم مع هذه الاعترافات لبعض فلاسفة الغرب ومفكريهم ليتحدثوا بكل صراحة عن حضارتهم المعاصرة :

((حضارتنا الغربية في حالة احتضار))

هذا الاعتراف للبروفيسور ( سيمون جارجي ) رئيس مركز الدراسات الشرقية بجامعة جنيف ... يقول في اعترافه :

( أنا من الذين يعيشون نوعاً من الوجل والخوف على ما وصلت إليه حضارتنا الغربية المادية ، إننا نعيش أزمة ضمير ووجدان خانقة ، وإنني من المعتقدين أن حضارتنا الغربية بمفهومها القديم والتقليدي هي الآن في حالة احتضار، وإنها تعيش الآن نوعاً من موجة التحول الذي لا نعلم ماذا سينتج عنه ... نحن الآن نشاهد حضارة تنازع وتوشك على الموت – وستموت بلا شك – وهي تموت ، ولا بد أن ينشأ عنها حضارة جديدة ، أما إذا تساءلنا عن السبب ، فهناك أسباب متعددة منها بالأخص أن الغرب قد فقد المرتكزات الروحية الثقافية الدينية التي كان يرتكز عليها ، فلم يعد هناك شيء يركن إليه.. فالديانة النصرانية فقدت مقوماتها ، والتوق إلى الروحانيات انتهى واضمحل من النفوس ، فأصبح في الغرب نوع من الفراغ ، ونوع من الضياع الشامل تكتوي به الآن الأجيال الشابة ، وأكبر برهان على ذلك أن هناك إقبالاً شديداً بين شباب الغرب على دراسة ما نسميه عندنا في الجامعات بـ (تاريخ الديانات) ...

نحن نعيش الآن في نفق مظلم ، ولا نزال ننتظر النور الذي سيهدينا 4 انتهى كلامه .

ولا شك أن الإٍسلام هو النور الذي سيهديهم ويخرجهم من الظلمات إلى النور ، قال الله تعالى : (( وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُوراً نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ)) (الشورى: من الآية52) ولكن متى يكون ذلك ؟ الله وحده هو الذي يعلم .

(( نحن معكم بقلوبنا وعقولنا وأرواحنا))

هذا الاعتراف للدكتور الألماني الغربي (هاينزا سلنجر ) مدير شركة ألمانية ، وعضوُ في مجلس الإدارة المنتدب بشركة (مان) الألمانية ، الذي وقف أمام جمع من رجال الاقتصاد السعوديين قائلاً في صراحة ووضوح :

( إنني أحييكم ليس فقط باسم شركات " مان " ولكن باسم الشعب الألماني الصديق لشعبكم ، الذي يحمل للعرب والعروبة كل مشاعر الحب والوفاء والتقدير .

إنكم تأتون من بلاد بعيدة .. من بلاد الشمس المشرقة، من بلاد المعرفة ، ومصدر الحضارات القديمة .. من بلاد شرفها الرب بنزول القرآن فيها ، بلادكم المقدسة مهبط الديانات السماوية السمحة 5 حيث يُحكم بشريعة الله ، نحن الألمان ننظر إليكم بكل إجلال واحترام ، وأعلن على الملأ أننا نحن الألمان معكم بقلوبنا وعقولنا وأرواحنا ...

إن الانحلال والفساد بدأ ينخر في عظامنا يوم حدنا عن طريق الدين ، وها هي أوروبا تنحدر أخلاقياً إلى الحضيض . ...

إنكم في المملكة العربية السعودية في نظري ونظر الكثيرين من أمثالي تمثلون أمل العالم أجمع في العودة إلى الفضيلة والدين ومعرفة الطريق إلى الرب ، إنني لا أخاف ، وأعلنها مدوية : إننا معكم بقلوبنا وعقولنا وأرواحنا ، ولا نخشى تهديداً ولا وعيداً .

أنتم تعلمون جيداً أننا عندما كنا ضدكم كانت هناك قوة فوق قوتنا تحرك إرادتنا ضدكم ، ولكنها حكومات تحرك حكومات والشعب الألماني الصديق للعرب والمسلمين لم يتأثر بكل هذه الضغوط والدعايات ، ويحمل في قلبه لكم كل حب وتقدير ، ونقدر بإجلال واحترام كفاحكم في جميع المجالات، وننظر بإعجاب سياسة حكوماتكم الحكيمة المتعلقة بقيادة خادم الحرمين الشريفين، ونؤمن أن قيادة العالم الروحي تبدأ من المملكة العربية السعودية حيث الحرمين الشريفين، وإني أقرأ كثيراً وبتمعن وإعجاب قرآنكم الكريم السمح ، وأشعر بتعاطفي معكم ، وإني في مكاني هذا ، ومن موقفي الرسمي في الشركة ، أشعر بالغبطة لوجودكم بيننا ، وأشعر أن الله معنا ، وأرسلكم إلينا لا لننتفع ماداً فقط ، بل أرجو مخلصاً أن نستفيد منكم خلقياً ودينياً 6

" كنت نصرانياً "

هذا الاعتراف لرجل كان نصرانياً فأسلم واعتنق الدين الحق، بعد تفكير عميق، وصراع نفسي حاد، دام عدة سنوات، يقول في اعترافه :

[" عشت منتسباً إلى النصرانية عشرين عاماً تقريباً، ولمَّا تبينت حقيقة موقفي في هذه الحياة وأبصرت طريقي، ( واعتنقت الإسلام )، شعرت بارتياح تام، وهدأت نفسي إلى حد لا أعرف له وصفاً، وصلتُ إلى النهاية الحقيقية، وبلغتُ قمة ما كنت أطلبه وأرجوه، وكأن الإسلام بالذات كان غايتي وهدفي منذ بداية الرحلة، كل ذلك حيث في غضون دقائق عقيب إسلامي، أدركت مبلغ الضياع الذي كنت فيه، وإهدار ما مضى من العمر في ظلمات أو سبات عميق، فانفلق الصبح، وأفقتُ من الوهم إلى الحقيقة، أحسستُ بأن كل شيء في نفسي قد بدأ يتغير ويتبلور ويتضح.

كان موقفاً مذهلاً حقاً لا يوصف، وكانت تجربة يستحيل أن يحس بها غير الذي ذاق حلاوتها، وأحسّ بالفارق الحقيقي الهائل بين شعوره الآني في تلك اللحظات، وبين شعوره في لحظات سبقت ذلك .

فلو قلت إنني كنت كالعجماء وعقلت فجأة، فأصبحت آدمياً عاقلاً، أو قلت إنني كنت في ظلمة حقيقية ( أعمى )، فأبصرت فجأة، ورأيت كل شيء حولي على حقيقته، أو قلت بأن كل ما مضى من حياتي كان وهماً وحلماً فأفقت منه، لو قلت كل ذلك لما وفيت الموقف حقه، من التعبير والوصف، لقد أحسست بإنسانيتي وبوجودي، وأبصرت نفسي "] ثم يضيف :

[" لم أكن أتوقع أن يُحدِث قراري الأخير باعتناق الإسلام، كل هذه التغييرات في نفسي ومشاعري في غضون دقائق قليلة، وتلاشت الهواجس والمخاوف التي كانت تجول في رأسي، أصبح لدي من الشجاعة ما يكفي لمواجهة كل الاحتمالات، فقد تضاءلت أمام عيني كل القوى الأرضية ، وكنت واثقاً من أن ما أفعلهُ هو الصواب، وهو ما يريده مني خالق الكون العظيم، فأي قوى تخيفني بعد ذلك: "

هذا ما قاله الأستاذ (واصف الراعي)،بعد رحلةٍ طويلةٍ انتهت باعتناقه للإٍسلام، نُهديه إلى جميع النصارى وغيرهم، وندعوهم إلى البحث عن الحقيقة بعيداً عن الهوى والتعصب، والتقليد الأعمى، قال الله تعالى: (( وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإسلام دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ)) (آل عمران:85)

وقال سبحانه:(( يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بآيَاتِ اللَّهِ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ))

(آل عمران: 70)

وقال سبحانه: (( يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلا تَقُولُوا ثَلاثَةٌ انْتَهُوا خَيْراً لَكُمْ إِنَّمَا اللَّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ سُبْحَانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلاً)) (النساء:171)

والآيات في ذلك كثيرة لمن أراد معرفة الحق، والله الهادي إلى سواء السبيل .

أبناء قومي يدخلون في دين محمد

هذا الاعتراف للكاتب الايرلندي الشهير ( جورج برناردشو ) الذي أطلقه ليكون نبوءة تكاد تتحقق في زمننا هذا وفي الأزمان المقبلة إن شاء الله عز وجل ولو كره العلمانيون .

يقول برنارد شو :

" لقد وضعت دائماً دين محمد موضع الاعتبار السامي بسبب حيويته العظيمة ، فهو الدين الوحيد الذي يلوح لي أنه حائز على أهلية العيش لأطوار الحياة المختلفة بحيث يستطيع أن يكون جذاباً لكل زمان ومكان ، لقد صور " أكليروس القرون الوسطى " الإسلام بأحلك الألوان إما بسبب الجهل وإما بسبب التعصب "

ثم يضيف قائلاً :

" لقد درست محمداً باعتباره رجلاً عظيماً فرأيته بعيداً عن مخاصمة المسيح ، بل يجب أن يدعى " منقذ البشرية " وإنني لأعتقد أن رجلاً مثله لو تولى حكم العالم الحديث لنجح في حل مشكلاته بطريقة تجلب إلى العالم السلام والسعادة اللذين هو في أشد الحاجة إليهما ، وفي الوقت الحاضر دخل كثير من أبناء قومي من أهل أوروبا في دين محمد حتى ليمكن أن يقال إن تحول أوربا إلى الإسلام قد بدأ ، لقد بدأت أوروبا الآن تعشق الإسلام ، ولن يمضي القرن الحادي والعشرون حتى تكون أوروبا كله قد بدأت تستعين به في حل مشاكلها " .

هكذا تنبأ برناردشو ، ويبدو أن النبوءة بدأت تتحقق فقد ذكرت صحيفة " نيويورك تايمز " الأمريكية أن الإسلام ينتشر بسرعة فائقة وبصورة لافتة للنظر ، وأضافت أن مدن نيويورك ولوس أنجلوس وشيكاغو وديترويت أصبحت مراكز كبرى للدين الإسلامي .

كما نشرت مجلة " تايم " تحقيقاً بعنوان : ( الأمريكيون يولون وجوههم خمس مرات نحو مكة ) قالت فيه : " إن المسلمين في أمريكا أصبح صوتهم مسموعاً ، وأصبحت لهم كلمة أكثر من أي وقت مضى بعد أن كان اللوبي الصهيوني له اليد العليا ، وكان الأمريكيون منذ أكثر من عشرين عاماً ينظرون إلى الإسلام على أنه من الديانات المتخلفة ، ولكن بعد دخول عدد كبير من المسلمين المهاجرين إلى الإسلام سواء من السود أو البيض ، بدأ الأمريكيون يغيّرون نظرتهم إلى الإسلام والمسلمين في أمريكا " 7

وصدق الله إذ يقول : (( هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ)) (الصف:9)

اعترافات حول نبينا محمد صلى الله عليه وسلم

يقول ( كارلايل ) أحد مشاهير فلاسفة القرن التاسع عشر :

" إن أجدر الأقوال بالإنصات والقبول هي أقوال محمد لأن أقواله وحدها التي تمثل الحقيقة " 8

وقال عميد كلية الحقوق بجامعة فينا الأستاذ " شبول " في مؤتمر الحقوقيين المنعقد في سنة 1927 م :

" إن البشرية لتفتخر بانتساب رجل كمحمد r إليها ، إذ رغم أميته استطاع قبل بضعة عشر قرناً أن يأتي9 بتشريع سنكون نحن الأوروبيون أسعد ما نكون لو وصلنا إلى قمته بعد ألفى عام " 10

هذا القول نسوقه إلى الذين يدّعون أنهم مسلمون ، ويحكمون بغير ما أنزل الله من القوانين الوضعية التي هي من صنع البشر ، وفيهم يقول تعالى : (( أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلالاً بَعِيداً ، وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُوداً)) (النساء:60- 60 )

(2)

اعترافات حول ما يسمى بـ ( تحرير المرأة ) وعملها والاختلاط والمساواة بين الجنسين .

" أدركت خطر دعوتي وأحمد الله أن خذلها "

هذا الاعتراف لقاسم أمين ... وهو أول من دعا في مصر إلى " تحرير المرأة " .. تحريرها من عبوديتها لله إلى عبوديتها للشيطان والنفس الأمارة بالسوء ، كما قال ابن القيم رحمه الله :

(هربوا من الرق الذي خُلقوا له فبُلُوا برقّ النفس والشيطان

وبعد سبع سنوات من إعلانه لدعوته ونشرها بين الناس ، تنصّل من آرائه ورجع عن دعوته ، واعترف قائلاً : " لقد كنت أدعو المصريين قبل الآن إلى اقتفاء أثر الترك بل الإفرنج في ( تحرير نسائهم ) وغاليت في هذا المعنى حتى دعوتهم إلى تمزيق الحجاب ، وإلى إشراك النساء في كل أعمالهم ومآدبهم وولائمهم ، ولكن ... أدركت الآن خطر هذه الدعوة بما اختبرته من أخلاق الناس ، فلقد تتبعت خطوات النساء في كثير من أحياء العاصمة والإسكندرية لأعرف درجة احترام الناس لهن ، وما ذا يكون شأنهم معهن إذا خرجن حاسرات ، فرأيت من فساد أخلاق الرجال ـ بل أسفّ ـ ما حمدت الله على ما خذل من دعوتي ، واستنفر الناس إلى معارضتي ، رأيتهم ما مرت بهم امرأة أو فتاة إلا تطاولوا إليها بألسنة البذاءة ، ثم ما وجدت زحاماً في طريق فمرت به امرأة إلا وتناولتها الأيدي والألسن جميعاً ، " إلى آخر ما ذكره .. وكان ذلك قبل وفاته بعامين ، وقد نشر هذا الاعتراف في جريدة الطاهر ( أكتوبر ، 1906 م )11 ، فما ذا يقول أدعياء تحرير المرأة اليوم ؟؟ ؟

ومن طريف ما يروى في ذلك ، أن المؤرخ الإسلامي ( رفيق العظم ) أراد أن يثبت لقاسم أمين فشله في دعوته بطريق عملي ، فطرق منزله يوماً فلما رآه الخادم أسرع وأخبر قاسم أمين الذي خرج لاستقباله ، فقال رفيق العظم : أنا في هذه المرة جئت لزيارة حرمكم لأتحدث معها في بعض المسائل الاجتماعية .... وعند ما استنكر قاسم أمين طلبه، أجابه رفيق العظم متعجباً : كيف تدعو لشيء وتمنع أهلك منه ؟!! إذاً فأنت تدعو الأمة إلى غير ما تريد لنفسك ! فقال قاسم : إن زوجتي تلقت تربيتها و ( عاداتها ) عن والديها ، وهي لم تألف ما أدعو إليه ، فضحك رفيق العظم وقال : كلنا هكذا ،والخير في ذلك ، وتهذيب المرأة لا يتوقف على لقائها بالرجل ، وقد أردت أن أبرهن لك على أن ما تدعو إليه يمجّه الناس جميعاً حتى أهل بيتك " 12

ونحن نقول لأدعياء تحرير المرأة اليوم ما قاله رفيق العظم رحمه الله : هل ترضون لنسائكم وبناتكم ما تدعون إليه وترضونه لنساء العالمين من التبرج والسفور والانحلال ومخالطة الرجال ؟ أجيبوا إن كنتم صادقين ..

أريد أن أرجع إلى أنوثتي

هذا الاعتراف للكاتبة المشهورة ( غنيمة المرزوق ) رئيسة تحرير مجلة ( أسرتي ) تتحدث لبنات جنسها بصراحة فتقول : " عيب أنتِ بنت " كلمة سمعناها كثيراً في طفولتنا .. وردّدتها ( أغلب العجائز ) آنذاك .

كنا نرى ( الولد ) يحظى بكل أنواع المتعة من مأكل وملبس ولعب وسيارات .. الخ.. كان قلبنا يحترق.. نريد أن نلعب بـ ( الفريج ) ولكن ( الحكارةِ ) لنا بالمرصاد وكلمة عيب .. عيب . كان كل شيء عيباً ، ولا نعرف ما معنى ( عيب ) وببراءة الطفولة سألت جدتي ( كيف أصبح رجلاً ) ؟ .. فردت بدهاء ( حِبّي كوعكِ ) 13 والكوع هو العظم الذي يفصل الذراع عن الزند 14 حاولنا مراراً مع بنات الفريج دون جدوى كبرنا وكبرت آمالنا وتطلعاتنا ، نلنا كل شيء ، نهلنا من العلم والمعرفة ما يفوق الوصف .. .. أصبحنا كالرجال تماماً .. نقود السيارة ، نسافر إلى الخارج . نلبس ( البنطلون ) !! .. ارتدينا الماكسي الشبيه بالدشداشة ، والحجاب الشبيه بـ ( الغترة ) ... أصبح لنا رصيد في البنك ... أصبح لنا رجل يحمينا ويعطينا كل شيء دون ( قرقة ) أو ( نجرة ) .... وصلنا إلى المناصب القيادية و ( اختلطنا ) بالرجال ، ورأينا الرجل الذي أخافنا في طفولتنا ، أصبحنا نحن النساء : رجالاً وبدأت تعتري أجسادنا الأمراض ، وأصبنا كما يصاب الرجل نتيجة تحمل المسؤولية بـ ( السكر وتصلب الشرايين ) .. .. بدأ الشيب يغزو الشعر الأسود ... وبدأ الشعر الكثيف الذي ( كأنه ليل أرخى سدوله ) بالسقوط .. وبدأت ( الصلعة ) تظهر نتيجة التفكير والتأمل و ( الذكاء ) !!

الرجل كما هو .. والمرأة غدت رجلاً تشرف على منزلها وتربي أطفالها و تأمر خدمها .... وتقف مع المقاولين وتقابل الرجال في العمل .. الخ وكثرت هذه الأيام ظاهرة ( العقم عند النساء ) ، وعن سؤال وُجه لاخصائي كبير في الهرمونات قال :

إن هناك تزايداً في (هرمونات الذكورة ) عند النساء في الكويت وقد يكون سببها البيئة !! هذه حقيقة ذكرها طبيب عريق في مجال ( العقم ) وبعد أن نلنا كل شيء .. وأثلجت صدورنا انتصاراتنا النسائية على الرجال في الكويت أقول لكم بصراحتي المعهودة : ( ما أجمل الأنوثة ) ،وما أجمل المرأة .. المرأة التي تحتمي بالرجل ، ويشعرها الرجل بقوته ، ويحرمها من ( السفر لوحدها ) ،ويطلب منها أن تجلس في بيتها .. تربي أطفالها وتشرف على مملكتها وهو ( السيد ) القوي ..

نعم ... أقولها بعد تجربة .. أريد أن أرجع إلى ( أنوثتي ) التي فقدتها أثناء اندفاعي في الحياة والعمل ....

إن الذكاء ( نقمة ) في بعض الأحيان ، وأغلب الأمراض الحديثة نتيجة ذلك ، وما أجمل الوضع الطبيعي لكل شيء لقد انفتح المجال أمامنا بشكل ( أتعبنا جميعاً ) ... والآن .. لو تيسر لنا فعلاً وبالآلات الحديثة ( حبة الكوع ) فلن أفعل هذا العمل إطلاقاً .. ولن أخبركم بالسر ، ولكن سأحتفظ به لنفسي ) 15

هذا ما قالته تلك الكاتبة المشهورة ، وهو كلام رائع جميل من امرأة مجربة ، تدرك ما تقول ، فيا ليت نساءنا وبناتنا يدركن ذلك جيداً ، ويعرفن قدر أنفسهن وما خلقن من أجله ، وإلا فإن أنوثتهن في خطر .

امنعوا الاختلاط ، وقيدوا حرية الفتاة

هذا الاعتراف للصحفية الأمريكية " هيلسيان ستانسبري " ، وهي صحفية متجولة ، تراسل أكثر من 250 صحيفة أمريكية ، ولها مقال يومي يقرؤه الملايين ، وعملت في الإذاعة والتلفزيون والصحافة أكثر من عشرين سنة ، وزارت جميع بلاد العالم ، وهي في الخامسة والخمسين من عمرها .

زارت القاهرة ، وأمضت فيها عدة أسابيع ، زارت خلالها المدارس والجامعات ، ومعسكرات الشباب ، والمؤسسات الاجتماعية ، ومراكز الأحداث والمرأة والأطفال ، وبعض الأسر في مختلف الأحياء ، وذلك في رحلة دراسية ، لبحث مشاكل الشباب والأسرة في المجتمع ... وفي ختام زيارتها سجلت هذا الاعتراف حيث قالت :

" إن المجتمع العربي ( المسلم ) كامل وسليم ، ومن الخليق بهذا المجتمع أن يتمسك بتقاليده التي تقيد الفتاة والشباب في حدود المعقول ،وهذا المجتمع يختلف عن المجتمع الأوروبي والأمريكي ، فعندكم أخلاق موروثة ، تحتم تقييد المرأة ، وتحتم احترام الأب والأم ، وتحتم أكثر من ذلك عدم الإباحية الغربية التي تهدد اليوم المجتمع والأسرة في أوروبا وأمريكا ولذلك فإن القيود التي يفرضها مجتمعكم على الفتاة ، هذه القيود صالحة ونافعة ، لهذا أنصح بأن تتمسكوا بتقاليدكم وأخلاقكم ، امنعوا الاختلاط ، وقيدوا حرية الفتاة ، بل ارجعوا إلى عصر الحجاب ، فهذا خير لكم من إباحية وانطلاق ومجون أوروبا وأميركا ... امنعوا الاختلاط ، فقد عانينا منه في أميركا الكثير ، لقد أصبح المجتمع الأمريكي مجتمعاً مقعداً ، مليئاً بكل صور الإباحية والخلاعة .. وإن ضحايا الاختلاط والحرية يملؤون السجون والأرصفة والبارات والبيوت السرية ، إن الحرية التي أعطيناها لفتياتنا وأبنائنا قد جعلت منهم عصابات أحداث ، وعصابات للمخدرات والرقيق .. إن الاختلاط والإباحية والحرية في المجتمع الأوروبي والأمريكي قد هدد الأسرة ، وزلزل القيم والأخلاق .. " انتهى كلامها ، وهو كلام واضح من امرأة مجربة نسوقه إلى دعاة الاختلاط وإلى فتياتنا المخدوعات في كل قطر من أقطارنا الإسلامية ، فهل من مدّكر .

" قروية ساذجة في حجرها طفل أفضل للأمة وأنفع للبلاد من ألف نائبة وألف محامية "

هذا الاعتراف لأستاذة مصرية اسمها " عزيزة عباس عصفور " تعليقاً على قرار أصدره وزير العدل المصري بتعيين بعض النساء حقوقيات – في نيابات الأحداث فقالت :

" لو كانت الخطوة التي خطاها وزير العدل بتعيين ( الحقوقيات ) في نيابات الأحداث كسباً للمرأة لكنت أول من تدعو الله أن يبارك للمرأة فيها ، أما وإني ممن خرجتهن كلية الحقوق في الأفواج الأولى ، وزاولتُ المحاماة أكثر من عشر سنين ، وبلوت فيها حلاوتها ومرارتها معاً ، فإنني أعلن بصراحة أن النيابة والمحاماة معاً تنافيان مع طبيعة المرأة وتتعارضان مع مصلحتهما ، وأعلن إشفاقي على البقية الباقية من فتياتنا المثقفات اللاتي مازلن بخير أن يجربن هذه التجربة المريرة المضنية ، وأهيب بهن أن ينجون بأنفسهن من عاقبة لا يدركن مرارتها إلا بعد أن يقعن فيها ، ويهدمن بأيديهن صرح سعادتهن ، لقد تحطمت أعصابنا – نحن المحاميات – من إرهاق المهنة وعنائها ، ومن محاربتنا للطبيعة وتنكبنا طريق الواقع ، بالله ما ذا تكون العاقبة إذا خضعت النائبة لطبيعتها واستجابت لحقها في الحياة فتزوجت ورزقت أطفالاً ، فاقتلعتها من بينهم طبيعة التحقيقات والانتقالات والمعاينات ،وتركت زوجها قعيد الدار يربي الأولاد ، ويرضع الصغار ،وهي في الخارج تدور في كل مكان كأنها رجل الشارع يهجر بيته آناء الليل وأطراف النهار ، وماذا تصنع إذا عنيت فلا بلاد نائية عن أهلها ، وليس بها مكان للسكن غير استراحة الموظفين ، هل تبيت ليلتها مع زملائها من الرجال ؟ إن الدين والأخلاق والعرف الحميد تحتم أن تعيش المرأة بعيدة عن مواطن الفتنة والإغراء والزلل ، واختلاطها على هذه الصورة يعرضها لخطر محقق وضرر مؤكد ، ويضع سيرتها في ألسن الناس تلوكها بالمذمة والمسبة والعار .. إن رسالة المرأة في الحياة لها جلالها وقدسيتها التي تعادلها حقوق تمنحها ولا امتيازات تعطاها وإن كثرت " ثم تقول :

" ولقروية ساذجة في حجرها طفل أفضل للأمة وأنفع للبلاد من ألف نائبة وألف محامية ، وحكمة الله فيكن أن تكنّ أمهات " 16

" لا تأخذي من العائلة الأوروبية مثالاً لك "

في مقابلة صحفية أجرتها إحدى المجلات العربية مع " نادية أوبيربيه " وهي امرأة فرنسية متخصصة في الفن الإسلامي قالت :

" وجدت المرأة العربية ( المسلمة ) محترمة ومقدرة داخل بيتها أكثر من الأوروبية ، واعتقد أن الزوجة والأم العربيتين تعيشان بسعادة تفوق سعادتنا ، وربما كان الأمر مختلفاً بالنسبة للمرأة العاملة التي تقع عليها أعباء كثيرة بالإضافة إلى أعباء البيت " .

وتوجه نصحها للمرأة المسلمة فتقول :

" لا تأخذي من العائلة الأوروبية مثالاً لك ، لأن عائلاتها هي أنموذج رديء لا يصلح مثالاً يحتذى " 17

إن بقاء المرأة في بيتها ، واهتمامها برعاية زوجها وأولادها هو سر نجاحها وسعادتها، واستقرار الأسرة وتماسكها لا سيما وأن الإسلام أمر المرأة بطاعة زوجها في المعروف كما أمر الرجل بإكرام المرأة واحترامها والعطف عليها فقال عليه الصلاة والسلام : " استوصوا بالنساء خيراً " 18

بل إن بقاء المرأة في بيتها ، هو سر نجاح الأمم وتفوقها كما شهد بذلك العقلاء من الفلاسفة والمفكرين . ... وخروجها وتبرجها واختلاطها بالرجال من أكبر الأسباب المؤدية إلى انهيار الأمم وسقوط الحضارات ، ومن الأمثلة على الحضارة الرومانية .

جاء في دائرة معارف القرن التاسع عشر : " كان النساء عند الرومانيين مُحِبّات للعمل مثل محبة الرجال له ، وكن يشتغلن في بيوتهن ، أما الأزواج والآباء فكانوا يقتحمون غمرات الحروب، وكان أهم أعمال النساء بعد تدبير المنزل، الغَزْل وشغل الصوف ، ثم دعاهم بعد ذلك داعي اللهو والترف إلى إخراج النساء من خدورهن ليحضرن معهم مجالس الأنس والطرب ، فخرجن كخروج الفؤاد من بين الأصابع ، فتمكن الرجل لمحض حظ نفسه من إفساد أخلاقهن وتدنيس طهارتهن وهتك حيائهن حتى صرن يحضرن المراقص ، و يغنّين في المنتديات ، وساد سلطانهن حتى صار لهن الصوت الأول في تعيين رجال السياسة وخلعهم ، فلم تلبث دولة الرومان على هذه الحال حتى جاءها الخراب من حيث تدري ولا تدري " 19

وهكذا سائر الحضارات التي انهارت وسقطت وها هي ذي الحضارة الغربية اليوم كما صرّح بذلك عقلاؤها تعيش في النزع وتعاني من سكرات الموت .. وما ذلك إلا للسبب نفسه .. فهل من معتبر بذلك ؟ ...

" بيوت الأزياء جعلت مني مجرد صنم متحرك "

" فابيان " عارضة الأزياء المشهورة فتاة في الثامنة والعشرين من عمرها ، تركت العطور والفراء ودنيا الأزياء وجاءت إلى الحدود الأفغانية لتعيش ما تبقّى من عمرها وسط الأسر المسلمة ...

تعترف " فابيان " فتقول :

" لولا فضل الله علىّ ورحمته بي لضاعت حياتي في عالم ينحدر فيه الإنسان ليصبح مجرد حيوان ، كل همه إشباع رغباته وغرائزه بلا قيم ولا مبادئ .. "

ثم تضيف :

" كان الطريق أمامي سهلاً ، أو هكذا بدا لي – فسرعان ما عرفت طعم الشهرة ، وغمرتني الهدايا الثمينة التي لم أكن أحلم باقتنائها ، ولكن كان الثمن غالياً ، فكان يجب أولاً أن تجرد من إنسانيتي ، وكان شرط النجاح والتألق أن أفقد حساسيتي وشعوري ، وأتخلى عن حيائي الذي تربيت بداخله ، وأفقد ذكائي ، ولا أحاول أن أفهم أي شيء غير حركات جسدي ، وإيقاعات الموسيقى ، كما كان عليّ أن أحرم من جميع المأكولات اللذيذة ، وأعيش على الفيتامينات الكيمائية ، والمقويات والمنشطات ، وقبل كل ذلك أن أفقد مشاعري تجاه البشر ، لا أكره ، ولا أحب ، ولا أرفض أي شيء .... " ثم تعترف وتقول :

" إن بيوت الأزياء جعلت مني مجرد صنم متحرك مهمته العبث بالقلوب والعقول ، فقد تعلمت كيف أكون باردة قاسية مغرورة فارغة من الداخل ... لا أكون سوى إطار يرتدي الملابس ، فكنت جماداً يتحرك ويبتسم ولكنه لا يشعر ، ولم أكن وحدي المطالبة بذلك ، فكلما تألقت العارضة في تجردها من بشريتها وآدميتها زاد قدرها في هذا العالم القاسي البارد ، أما إذا خالفت أيّاً من تعاليم الأزياء فتعرّض نسفها لألوان العقوبات التي يدخل فيها الأذى النفسي والجسماني أيضاً " ثم تضيف :

" عشت أتجول في العالم عارضةً لأحدث خطوط الموضة بكل ما فيها من تبرج وغرور ومجاراة لرغبات الشيطان في إبراز مفاتن المرأة دون خجل ولا حياء "

وتنفعل " فابيان " وهي تقول : " لم أكن أشعر بجمال الأزياء فوق جسدي المفرغ إلا من الهواء والقسوة ، بينما كنت أشعر بمهانة النظرات واحتقارهم لي شخصياً ، واحترامهم لما أرتديه " 20

هذا ما قالته " فابيان " عارضة الأزياء الفرنسية الشابة بعد إسلامها وفرارها من ذلك الجحيم الذي لا يطاق ، وهو كلام واضح لا يحتاج إلى تعليق ..

" أنا أنثى .. أعتز بأنوثتي .. أنا امرأة "

هذا الاعتراف للأديبة الكويتية " ليلى العثمان " حيث كتبت تقول :

" سأعترف اليوم بأنني أقف في كثير من الأشياء ضد ما يسمى بـ (حرية المرأة ) تلك الحرية التي تكون على حساب أنوثتها .. على حساب كرامتها ، وعلى حساب بيتها وأولادها . .. سأقول: إنني لن أحمّل نفسي – كما تفعل كثيرات – مشقة رفع شعار المساواة بينها وبين الرجل .. نعم أنا امرأة "

ثم تقول :

" هل يعني هذا أن أنظر إلى البيت – الذي هو جنة المرأة – على أنه السجن المؤبد ، وأن الأولاد ما هم إلا حبل من مسد يشد على عنقي ، وأن الزوج ما هو إلا السجان القاهر الذي يكبّل قدمي خشية أن تسبقه خطوتي ؟؟؟ لا أنا أنثى وأعتز بأنوثتي .. وأنا امرأة أعتز بما وهبني الله .. وأنا ربة بيت .. ولا بأس بعد ذلك أن أكون عاملة أخدم خارج البيت نطاق الأسرة .. ولكن – ويا رب أشهد بيتي أولاً ..ثم بيتي ... ثم بيتي .. ثم العالم الآخر " 21

إن دعوى مساواة المرأة بالرجل في كل شيء دعوى مرفوضة شرعاً وعقلاً ، أما شرعاً فإن الله جعل شهادة الرجل تعدل شهادة امرأتين ، وجعل للذكر في الميراث مثل حظ الأنثيين ،وكذلك جعل دية المرأة على النصف من دية الرجل ، وقد قال الله تعالى في كتابه الكريم (( وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثَى)) (آل عمران: من الآية36)

أما عقلاً فإن ذلك أمر محسوس فالمرأة يصيبها ما لا يصيب الرجل من الحمل والولادة والحيض والنفاس ، وهذا وحده كافٍ في منع المساواة بين الجنسين .

بل إن العلم الحديث أثبت نقص عقل المرأة واختلافها كلياً عن الرجل ، ففي السنوات الأخيرة عُقِدَت حلقةُ بحث في المركز الطبي بجامعة كاليفورنيا ، عُرضَت خلالها مجموعة من نتائج الدراسات التي امتدت على مدَى ما يقرب من عشر سنوات ومن بين هذه الدراسات بحث قدمته الطبيبة ( اليانور ماكوني ) تناولت فيه الاختلافات العقلية بين الرجل والمرأة ، معتمدة على الإحصاءات التي سُجلت في هذا الصدد خلال الأربعين سنة الأخيرة ،، وكان من أبرز النتائج التي توصلت إليها ( اليانور ) أن الرجال أكثر إنتاجاً وابتكاراً من النساء ، حتى في المجالات الأدبية،،، وتأكدت تلك الفوارق أيضاً من خلال اختبارات الذكاء التي تجري على الجنسين عند الالتحاق بالجامعات .. حيث ثبت أن نسبة الذكاء في الصبيان كانت أعلى منها في البنات 22 وأرجع الباحثون السبب في ذلك إلى وجود نقص في الصفات التحليلية للعقل عند الإناث ، وكانت " اليانور " قد توصلت إلى مثل هذه النتائج بعد إجراء مجموعة من الاختبارات المختلفة التي تبرز الملكات العقلية من حيث الاستقلال في التفكير ، ومدى الاعتماد على الغير ، وتحليل المشكلات المتنوعة ، ومدى القدرة على التركيز .

وتقول د : اليانور ماكوبي: " إن الفتيات يختلفن عن الصبيان في طريقة صقل تفكيرهن .. فيصرن أكثر ميلاً إلى النظرة العامة الشاملة ، وأقل ميلاً للنواحي التحليلية .. " 23

وهناك باحثة أخرى تشاطر الطبيبة اليانور رأيها في هذه المسألة ، وهي الباحثة " ماريا مان " التي تقول :

" إن النساء مصابات باضطراب عقلي يجعل الأنوثة مثلاً أعلى لديهن كضمان للسعادة فهن مطالبات بأن يكن نحيلات القوام ، أنيقات ، مرحات ، عذبات الحديث ، وذوات جاذبية جنسية ، ويعرفن كيف يتفنن في طهو الطعام ، وتربية الأبناء ، ومعاونة الزوج ... " 24

هذه شهادة امرأتين – إحداهما طبيبة والأخرى باحثة على بنات جنسهما شهدتا بأن المرأة لديها نقص في الصفات التحليلية للعقل ، وهذا ما أخبر به نبينا محمد r حين قال :

(( ما رأيت من ناقصات عقل ودين أذهب لِلُّب الرجل الحازم من إحداكن... )) متفق عليه

ونحن لسنا بحاجة إلى شهادة أحد من الناس بعد قول الله سبحانه وتعالى وقول رسوله صلى الله عليه وسلم .. . ولكن بعض النفوس المريضة لا تطمئن إلا لمثل هذا الأقوال ، ولو كانت مخالفة لكلام الله وكلام رسوله r فأنا أذكرها هنا حتى لا يبقى لمعتذر عذر .. والله تعالى أعلى وأعلم

أفيقي أُخيََّة

بما أن الحديث عن دعوى تحرير المرأة فقد رأيت أن أضيف هذه القصيدة من الشعر الحر للشاعر الأديب إبراهيم أبو عباة وفقه الله .. وهي قصيدة رائعة ، تحمل معاني عظيمة يقول فيها

تعالت هتافاتهم ..

حرروها .. تعالت هتافاتهم ...

أطلقوها ...

دعوها تمارس حق الحياة ...

تميط اللثام ...

وتلقي الحجاب ...

تحطم كل القديم ....

تثور على كل شيء قديم ...

تعالت شعارات أهل الفساد ....

لكي يخدعوها ...

فباسم التقدم ..

واسم التحرر ...

واسم التمدن ...

قالوا دعوها ...

دعوها تمارس ما تشتهي ...

دعوها تعاشر من تشتهي ...

دعوها تطالبكم بالحقوق ....

دعوها دعوها ولا تمنعوها ...

أفيقي أخية

وقولي دعوني ...

دعوني فإني ...

أريد حيائي ...

أريد إبائي ...

دعوني ... دعوني ...

فإني أبيّة ..

أنا لست ألعوبة في يديكم ..

تريدون أن تعبثوا بشبابي ..

فألقي حجابي ...

وأخرج ألقى قطيع الذئاب ...

وبعض الكلاب ...

فتنهشني فأكون ضحية ...

تريدونني أن أكون مطية ...

أريد السعادة في منزلي ...

لأحفظ نفسي ..

لأسعد زوجي ..

لأرعى بناتي ..

وأرعى بَنِيَّة ...

أفيقي أُخيَّة ...

يريدون هدم صروح الفضلية ...

يريدون قتل المعاني الجميلة ..

يريدون قتل المعاني الجميلة ..

يريدون وأدكِ والنفس حية ..

أنا لست أقبل هذا الهراء ..

وهذا العداء ..

فهيا اخرسوا أيها الأدعياء ...

فأنتم دعاة الهوى والرذيلة ...

لقد جرّب الغرب ما تدّعون ...

فهاهم لما زرعوا يحصدون ...

حصاد الهشيم ...

ترى البنت تخرج من بيتها ...

قبيل البلوغ ..

فترجع تحمل في بطنها ..

نتاج اللقاح .....

فتجهضه .... لتعيد اللقاء ..

وحيناً تدعه يلاقي الحياة ....

فتلقيه في ملجأ أو حضانة ...

فيبحث عن أمه وأبيه ..

لكي يطعموه .....

لكي يرحموه .. .

لكي يمنحوه الحنان الكبير ....

لكي يرضعوه ..

ولكنه لا يرى ما يريد ...

فينشأ يحمل حقداً دفيناً ...

لكل الوجود ...

فيخرج للكون دون قيود ....

ليقتل هذا ...

و يسلب هذا ..

ويغصب تلك بغير حدود ...

أفيقي أخية ..

أهذي الحقوق كما تزعمون ..

فأفٍّ لكم ولما تدعون ..

أنا لست أقبل هذا الهراء ..

فهيا اخرسوا أيها الأدعياء ...

أنا لست أقبل غير تعاليم ديني ...

ففيها النجاة ...

وفيها الحياة ...

وفيها السعادة حتى الممات ...

أفيقي أخية .. أفيفي أخيه ...

اعترافات العوانس

" أفكر في إحراق شهاداتي "

ظاهرة العنوسة أصحبت في هذه الأيام شبحاً مخيفاً يهدد كثيراً من الفتيات لا سيما العاملات منهن والجامعيات اللواتي رفضن الزواج في وقته بحجة الدراسة والعمل فكانت النتيجة القاسية أن بقين بغير زواج .. وفيما يلي نستمع إلى اعتراف بعضهن .. تقول إحداهن :

" لقد كنت في مقتبل عمري أحلم بذلك القدر العالي من التعليم .. ولا أنكر أنني كنت أحلم بالرغبة في أن أصبح أماً وزوجة في المستقبل .. ولكن كان التعليم عندي يسبق كل الأهداف ، لدرجة أنني كنت أرفض الاعتراف برغبتي في الزواج ..

وبقي الحال كذلك حتى حصلت على الماجستير ، وانتهت رحلة المعاناة الدراسية ، وبدأ الفراغ يتسرب إلى الأعماق .. واستيقظتُ على الحقيقة وهي أنني أصبحت أكثر رغبة في ا لزواج ..

وفتح والدي الباب للخُطّاب .. وكلما تقدم شاب فرّ مدبراً لما وضعناه أنا وأبي من شروطٍ ومواصفات قياسية ، وإحقاقاً للحق فقد كان والداي أكثر تعاطفاً معي ولا يريد إرغامي على شيء لا أريده . ..

ومضت ست سنوات بعد تخرجي حتى تجاوزت الثلاثين من عمري ، وهنا كانت الصدمة عند ما جاء آخر خطّابي والذي أنشد فيه مواصفاتي .. ولكنه احتفظ لنفسه بهذا الحق .. حق وضع الشروط والمواصفات .. وقد جمع حقائبه وانسحب حينما علم بعمري الحقيقي .. بل قالها صريحة : " لا حاجة لي بامرأة لم يعد بينها وبين سن اليأس سوى القليل " .

سمعت هذا لأدرك الهزيمة المرة .. وأيقنت أنني دخلت في زمن العنوسة الذي تتحدث عنه وسائل الإعلام من حين لآخر .

واليوم ، وبعد أن كنت أضع الشروط والمواصفات والمقاييس في فارس أحلامي ، وكنت أتعالى يوم ذاك اليوم بدؤوا هم يضعون مقاييسهم في وجهي ، وهو ما دفعني أن أفكر كثيراً في أن أشعل النار في جميع شهاداتي التي أنستني كل العواطف حتى فاتني القطار .

بدأت أحمل في نفسي الحسرة على أبي الحنون الذي لم يستعن بتجاربه في الحياة في تحديد مساري حياتي ..

نعم .. إن تعليمي قد زادني وعياً وثقافة ، ولكن كلما ازددت علما وثقافة ازددت رغبة في أن أكون أماً وزوجة .. لأنني أولاً وأخيراً إنسانة .. والإنسان مخلوق على فطرته "

ثم تقول : " إنني أروي ذلك لكم للعبرة والعظة فقط ولأقول :

نعم ، من أجل الحياة . .. من أجل الزواج .. لا للعنوسة .. متجاوزة بهذا كله زمن الصمت .. فمن هو فارس أحلامي يا ترى ؟ .. الذي نتنازل أنا وهو معاً عن بعض شروطنا حتى نمضي مسيرة حياتنا " 25

أختكم – ل – أ – ص – جدة

خذوا شهادتي وأعطوني زوجاً

هذا الاعتراف ، لطبيبة سعودية بلغت الثلاثين من عمرها ولم تتزوج . فهي تصرخ وتقول : " خذوا شهاداتي وأعطوني زوجاً " ثم تعترف وتقول : " السابعة من صباح كل يومٍ وقت يستفزني ، يستمطر أدمعي .. أركب خلف السائق متجهة صوب عيادتي ، بل مدفني ، بل زنزانتي ، وعند ما أصل مثواي أجد النساء بأطفالهن ينتظرنني ، وينظرن إلى معطفي الأبيض ، وكأنه بردةُ حرير فارسية ، هذا في نظر الناس ، وهو في نظري لباسُ حدادٍ لي !!

ثم تواصل اعترافها فتقول :

" أدخل عيادتي ، أتقلّد سماعتي وكأنها حبلُ مشنقة ٍ يلتفُّ حول عنقي ، العقد الثالث يستعدّ الآن لإكمال التفافه حول عنقي ، والتشاؤم 26 ينتابني على المستقبل " أخيراً تصرخ وتقول :

" خذوا شهادتي ومعاطفي وكل مراجعي وجالب السعادة الزائفة ، وأسمعوني كلمة " ماما " .. " ثم تقول :

" لقد كنت أرجو أن يقال طبيبة فقد قيل .. ماذا نالني من مقالها

فقل للتي كانت ترى فيّ قدوة هي اليوم بين الناس يرثى لحالها

وكل مناها بعض طفل تضمه فهل ممكن أن تشتريه بمالها ؟ " 27

التوقيع : س / س . ع . غ . الرياض

اعترافات أهل الفن

" خذوا شهرتي وأعطوني بيتاً يضج بالأطفال "

هذا الاعتراف للممثل العالمي المشهور عمر الشريف .. استمعوا إليه وهو يقول وبكل صراحة :

" على الرغم من قناعتي بأنها ضرب من المستحيل ، إلا أنني أتمنى عودة عقارب الساعة إلى الوراء لكي أرفض وبشدة رحلة النجومية والشهرة والبريق .. تلك التي أنفقت فيها سنوات عمري من أجل العالمية . .

فبرغم الشهرة الواسعة التي يحلم بها كل فنان ، إلا أنني أفتقد أشياء كثيرة مهمة ، وهي في نظري أهم بكثير من كل هذا الضجيج . مثل الأسرة والدفء والحنان ، فأنا أعيش حياة باردة .. لا أطفال .. لا كلمة حب صادقة .. لا بهجة .. لا سرور ، لدرجة الشعور بأنني بلا وطن ، وبأن حياتي الشخصية مسورة بوحدة فظيعة وقاتلة على عكس ما يتوقع كل الناس .

لكل الناس أقول بأن المكتسبات التي حققتها لا تساوي شيئاً أمام هذه التضحيات والمكابدات التي أعانيها ... " .

ثم يقول " عند ما انطلقت نحو العالمية كنت شاباً مشتعلاً بالطموح والحماس والاندفاع .. مما جعلني أخطئ في الحساب كثيراً ، وكانت هذه النتيجة القاسية " 28 أ . هـ .

هذا الاعتراف نهديه إلى جميع الشباب الذي يبحثون عن الشهرة بأي ثمن ، دون النظر إلى النتائج القاسية ، المترتبة على ذلك ، والتي قد لا تظهر إلا بعد فوات الأوان .

إني أتعس امرأة

هذا الاعتراف رسالة كتبتها الممثلة الأمريكية ( مارلين مونرو ) التي انتحرت بعد حياة بائسة ، وقد كتبتها لفتاة طلبت نصيحتها إلى أفضل طريق للتمثيل فقالت :

" إلى هذه الفتاة وإلى كل فتاة ترغب في العمل في السينما : احذري ( المجد ) .. احذري كل من يخدعك بـ ( الأضواء ) .. إني أتعس امرأة .. أفضّل البيت والحياة العائلية ( الشريفة)على كل شيء .. إن السعادة الحقيقية للمرأة هي في ( الحياة العائلية الشريفة الطاهرة ) ... بل إن هذه الحياة العائلية هي رمز سعادة المرأة بل الإنسانية "

وتقول في النهاية :

" لقد ظلمني كل الناس ,, وإن العمل في السينما يجعل من المرأة ( سلعة ) رخيصة تافهة مهما نالت من المجد والشهرة الزائفة إني أنصح الفتيات بعدم العمل في السينما والتمثيل .. إن نهايتهن – إذا كن عاقلات كنهايتي ) 29

إنها كلمات صادقة .. صدرت من امرأة عانت الكثير من الشقاء والألم رغم ما وصلت إليه من الشهرة والثراء ، ولكنها سنة الله التي لا تتبدل (( وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً)) (طه: من الآية124)

فاعتبروا يا أولى الأبصار .

كم كنتُ سافلة

في مقابلة أجريت مع الممثلة المشهورة " بريجيت باردو " قال لها الصحفي : " لقد كنت في يوم من الأيام رمزاً للتحرر والفساد ... " أجابت قائلة : " هذا صحيح .. كنت كذلك . .. كنت غارقة في الفساد الذي أصحبت في وقتٍ ما رمزاً له .. لكن المفارقة أن الناس أحبوني عارية ، ورجموني عند ما تبت .. "

ثم تقول نادمة :

" عند ما أشاهد الآن أحد أفلامي السابقة فإني أبصق على نفسي وأقفل الجهاز فوراً .. كم كنت سافلة ... "

ثم تواصل قائلة :

" قمة السعادة للإنسان : الزواج إذا رأيت امرأة مع زوج وأولادٍ أتساءل في نفسي : لماذا أنا محرومة من هذه النعمة ؟ ! " ( 30) أ . هـ .

ما أتعس الإنسان حين يبصق على نفسه ويعترف بأنه كان سافلاً منحطاً ولا غرابة في ذلك فإنها ضريبة الفن والفساد والتحرر المزعوم ..

تنظيف الشوارع أشرف وأنفع من الفن والمخدرات ....

هذا الاعتراف لملك العود ، ووحيد الجزيرة – كما كان يلقب سابقاً المطرب الشعبي السعودي ( فهد بن سعيد ) ..

إنه اعترف حزين ينبعث من خلف الأسوار والقضبان ، بعد رحلة طويلة مع العود والمخدرات دامت عشرين عاماً ، يسجله الفنان فهد بن سعيد ، حيث يقول مؤكداً قوله باليمين :

" والله العظيم إن ( كنس ) الشوارع وأكل لقمة الحلال أشرف وأنفع من الفن والمخدرات وأفضل من أن تمد يدك للناس "

ثم يقول مؤكداً قوله أيضاً بيمين آخر :

" والله العظيم إن كنوز الدنيا كلها لا توازي قيمة الإنسان وهو في بيته ، محترم عند أهله يرعاهم ويحافظ عليهم ، صدقوني إن المخدرات جعلت أصحاب النفوس الضعيفة يطمعون في هذا المدمن وأهله ، وهو السبب .. "

أما عن العودة والغناء فيقول :

" مزامير الشيطان نسيناها والحمد لله .. وأنا الآن أرى أن العود والغناء ضياع ، ضياع ما ذا استفدنا من الصياح ؟ لم نستفد شيئاً "

وبعد هذه الاعترافات الواضحة الصريحة لا يزال فهد بن سعيد متفائلاً حيث يقول :

" أنا متفائل بالمستقبل ... صحيح أني كبرت ، لكني سوف أسعى لتعويض ما فات إن شاء الله ..

بعد أن أخرج من السجن ،سأعمل في الدعوة ، سأكون داعية إن شاء الله وسيعلم الجميع أن ( ابن سعيد ) المطرب قد أصبح ( ابن سعيد ) الداعية .. .. أرجو الله أن يمكنني من ذلك سوف ألاحق الشباب في كل مكان وأروي لهم تجربتي التعيسة ، حتى يأخذوا مني عبرة وموعظة سأخبرهم بالشيء الذي يجب أن يعمله الإنسان .. لا بد أن يأخذوا مني عبرة " 31

لم أستفد من الفن شيئاً

هذا الاعتراف لفنان آخر قضى مع العود والفن والغناء سبعة عشر عاما، ذلكم هو " المطرب " الشعبي " سابقا" عبد الله الصريخ ، يقول في اعترافه :

" قضيت في الفن قرابة سبعة عشر عاماً ولم استفد من ذلك سوى الهم والغم وقلة الراحة وانشغال البال والابتعاد عن الجو الأسري ، والممل في حياتي الدنيوية "

وعن اللحظة التي قررت فيها ترك الفن يقول :

" قبل ثلاثة أشهر ضاقت عليّ الأرض ، خلاف ما يعتقده بعض الناس من أن الفنان يمسك بآلة العود للترفيه عن نفسه أثناء القلق ، لقد ضاق صدري حتى كاد ذلك يودي بحياتي "

أما المبالغ التي كسبها من الفن فيقول عنها :

: لم أستفد من المبالغ التي وصلت إلىّ عن طريق الفن طوال حياتي الفنية ، فالمبالغ التي تأتي بسرعة تضيع بسهولة ، وبالرغم من محاولتي للتوفير ولو بقليلٍ من تلك المبالغ إلا أن شيئاً من ذلك لم يحدث " (32)

هذا ما صرّح به الفنان الشعبي ( سابقاً ) عبد الصريخ في لقاء صحفي معه بعد توبته واعتزاله الغناء ، وقد ذكر في نهاية اللقاء أنه أصبح مخلوقاً جديداً ، وبدأ في حفظ أجزاء من القرآن الكريم .. وفقه الله وثبتناه وإياه ...

إن كل إنسان في هذه الحياة يبحث عن السعادة ، فبعضهم يظن أن السعادة في جمع المال ، وبعضهم يظنها في الحصول على الجاه والمنصب ويعضهم يظنها في ذياع الصيت والشهرة وتصفيق الجماهير .. ... الخ ، فيسعى كل واحد من هؤلاء إلى الوصول إلى السعادة فيما يظن أنه يوصل إليها ، فيقضي في ذلك أيام عمره وزهرة شبابه ، ثم يكتشف بعد ذلك أنه قد أخطأ الطريق ، فقد يعود وقد لا يعود ، وقد يدركه الأجل المحتوم قبل أن يكتشف ذلك فيموت شقياً فيخسر الدنيا والآخرة ولا شك أن طريق السعادة الحقيقي هو الاستقامة على دين الله القويم ، وصراطه المستقيم قال تعالى : (( مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ)) (النحل:97)

هذا هو الطريق إلى السعادة .

ولست أرى السعادة جمعَ مالٍ ولكنّ التقيّ هو السعيد

وهذه الاعترافات شاهد من الواقع على ما ذكرناه ، والسعيد من وعظ بغيره .

تركت الفن فأحسست بطعم الحياة

" ارتكبت خطأ فادحاً في حياتي .. وأرى أن العودة للحق فضيلة " هكذا بدأ الفنان ( سابقاً ) فهد عبد المحسن حديثه ، حيث يرى أنه قد بدأ الحياة الحقيقية من جديد .. وكتب له عمر جديد من أول يوم هجر فيه الفن دون رجعة ، وكان تكسير العود أمام عيني ابنه الصغير أحمد أول خطوة للبدء جديّاً في ممارسة حياة بعيدة عن صخب الآلات الموسيقية ولياليها الطويلة .

يقول فهد :

" الإنسان بطبعه متقلب في أهوائه ومزاجه ,,, فكنت على تلك الحال إلى أن جاء اليوم الذي أحسست فيه أن تيار تفكيري قد انقلب إلى اتجاه آخر لم أكن أفكر فيه من قبل .. وإن فكرتُ ، كنت أراة تفكيراً عابراً ، لكنه هذه المرة سيطر على كل أحاسيسي .. لقد طرَقَتْ قلبي ( صحوة ضمير ) تجاه نفسي وابني الصغير " أحمد " وقد لا يصدّق أحد أنني تعمقت كثيراً بالنظر إليه .. لقد كان يشاهدني كل يوم ، ويسمعني أغني أمامه .. وكان ينظر إلىّ دون حتى ولو مجرد إبتسامة أو كلمة ... لكنه اليوم بدأ يصحو ويفهم ، يريدني أن أحتضنه مكان العود الذي شغلني عنه .. وللأسف أنني لم أفهم ما يريد إلا في تلك اللحظة .. يوم أن حطمت العود معاهداً ربي على عدم العودة إليه .. لقد ضحك الطفل الصغير وارتمى في أحضاني .. حينها اكتشفت أن هذا الصغير يرى أن حضن والده وحنانه لغيره فكانت سعادته التي لا توصف .. والحقيقة أنه موقف لن أنساه .. "

ويضيف قائلاً :

" ليس هذا كل ما في الأمر .. ويبدو أنني محظوظ جدّاً ، فقد كان الفاصل بيني وبين رمضان أياما قليلة قررت أن أوفي نفسي حقها من العبادة ، وقد كانت أولى مهامي أن أنسى ما مضى إلى الأبد .. وهو ما تحقق لي ولله الحمد ... إنها نعمة منّ الله بها عليّ .. وأقولها ملء فمي : لقد أحسست بطعم الحياة " 33

اعترافات أهل النار

" يا ليتنا أطعنا الله وأطعنا الرسولا "

هذا الاعتراف سجله القرآن الكريم على لسان أصحاب النار ، دار الخزي والبوار ، وذلك يوم القيامة (( يَوْمَ لا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ)) (غافر:52)

إنه ليس اعترافاً واحداً ولكنها اعترافات كثيرة تبدأ من حين خروجهم من القبور إلى أن يؤتى بالموت فيذبح بين الجنة والنار وينادي مناد : يا أهل الجنة ، خلود ولا موت .. ويا أهل النار خلود ولا موت ..

فإذا نفخ في الصور النفخة الثانية ، انتفضوا من القبور ، ومضوا سراعاً وهم في خوف شديد وذعر . .. خاشعة أبصارهم ترهقهم ذلة وهم يقولون : (( قَالُوا يَا وَيْلَنَا مَنْ بَعَثَنَا مِنْ مَرْقَدِنَا هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ)) (يّس:52)

ثم تزول عنهم الدهشة فيعترفون ويقولون : (( هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ)) (يّس: من الآية52) وحينئذٍ لا يملك الكافر إلا أن يعضّ على يديه أسفاً وندماً وهو يقول : (( يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلاً)) (الفرقان: من الآية27) ويندم على مصاحبة الأشرار المضلين فيقول : (( يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلاناً خَلِيلاً * لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلْإِنْسَانِ خَذُولاً)) (الفرقان: 28 - 29)

عند ذلك يتوجه الكفار إلى ربهم وخالقهم قائلين : (( قَالُوا رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ فَاعْتَرَفْنَا بِذُنُوبِنَا فَهَلْ إِلَى خُرُوجٍ مِنْ سَبِيلٍ)) (غافر:11)

ولكن هيهات .. فقد كانوا في الدنيا يدعون إلى الإيمان فيكفرون .. ثم ينزل الله سبحانه وتعالى لفصل القضاء فيقضي بين البهائم العجماوات حتى يقاد للشاة الجلحاء من الشاة القرناء وذلك من كمال عدله سبحانه ، ثم يقول لها كوني تراباً فتكون تراباً ، فإذا نظر الكافر ما قدمت يداه وعلم مصيره صرخ قائلاً : (( يَا لَيْتَنِي كُنْتُ تُرَاباً)) (النبأ: من الآية40)

ثم يقضي الله بين العباد فيُعطي كل إنسان كتاب أعماله ، فيأخذون كتبهم بشمائلهم من وراء ظهورهم ، فإذا نظروا فيه قالوا : (( يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِراً )) (الكهف: من الآية49)

عند ذلك يقول الكافر والألم يعتصر قلبه وفؤاده : (( يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ * وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيَهْ * يَا لَيْتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَةَ * مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ * هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ)) (الحاقة : 25 - 29 )

فيأمر الله ملائكته أن : (( خُذُوهُ فَغُلُّوهُ * ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ * ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعاً فَاسْلُكُوهُ)) (الحاقة: 30 - 32)

فتوضع الأغلال في أيديهم وأعناقهم والسلاسل في أرجلهم .. ويسحبون في النار على وجوههم .. تلك الوجوه التي أبت أن تسجد لله في دار الدنيا ، ثم تقلب وجوههم في النار فيصرخون فيها من شدة الألم ويقولون : (( يَا لَيْتَنَا أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولا)) (الأحزاب: من الآية66) ثم يتذكرون أن دخولهم النار إنما كان بسبب طاعة السادة المضلين وكبراء القوم فيقولون معترفين : (( رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلا * رَبَّنَا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذَابِ وَالْعَنْهُمْ لَعْناً كَبِيراً)) (الأحزاب: 67 - 68)

ثم بعد ذلك تتوالى أفواج الكفار وهم يلقون في النار (( كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ)) (الملك: من الآية8) فيجيبون معترفين : (( قَالُوا بَلَى قَدْ جَاءَنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا وَقُلْنَا مَا نَزَّلَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلالٍ كَبِيرٍ)) (الملك:9)

ثم يقولون نادمين : (( وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ)) (الملك:10)

(( فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ فَسُحْقاً لِأَصْحَابِ السَّعِيرِ)) (الملك:11)

ثم ينادون ربهم قائلين : (( رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحاً غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ)) (فاطر: من الآية37) فيأتيهم الجواب : (( أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ)) (فاطر: من الآية37)

ورغم تلك الهموم والغموم والأهوال لا تزال لديهم بارقة أمل في النجاة من النار والخروج منها فينادون ربهم بصوت منكسر محزون : (( رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا وَكُنَّا قَوْماً ضَالِّينَ * رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ)) (المؤمنون:106- 107 )

فيجيبهم الله بعد زمان: (( اخْسَأُوا فِيهَا وَلا تُكَلِّمُونِ)) (المؤمنون:108) وحينئذٍ تنقطع منهم الآمال ، ويخلدون في نار جهنم جزاء ما قدموه من الأعمال ، (( كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ)) (البقرة: من الآية167)

هذه بعض اعترافات أهل النار ، وفي القرآن الكريم أضعاف ما ذكرناه فالله المستعان .

اعترافات متفرقة

الوحدة الإسلامية هي الخطر الأعظم

كُشِفَ أخيراً عن الوثيقة التي كتبها وزير المستعمرات البريطانية " اورمسي جو " لرئيس حكومته حيث قال :

إن الحرب علمتنا أن الوحدة الإسلامية هي الخطر الأعظم الذي ينبغي على الامبراطورية أن تحذره وتحاربه ، وليست انجلترا وحدها التي تلتزم بذلك ، بل فرنسا أيضاً ، ومن دواعي فرحتنا أن الخلافة الإسلامية قد زالت ، لقد ذهبت ونتمنى أن يكون ذلك إلى غير رجعة .. إن سياستنا تهدف دائماً وأبداً إلى منع الوحدة الإسلامية أو التضامن الإسلامي ، ويحب أن تبقى هذه السياسة كذلك ..

إننا في السودان ونيجيريا ومصر ودول إسلامية أخرى شجعنا – وكنا على صواب – نمو القوميات المحلية فيه أقل خطراً من الوحدة الإسلامية أو التضامن الإسلامي ، ومن الخطر أن الوحدة العربية قد تكون تمهيدية لإقامة وحدة إسلامية ، وضرورة الحذر من هذا الاتجاه حتى لا يواجه الاستعمار خطر عودة الإسلام ... هذه هي الخطة التي ما زالت تفرض نفسها . (34 )

حول الصلاة والصيام :

قال الفيلسوف " رينان " : " كلما رأيت صفوف المسلمين في الصلاة أتأسف أني لست مسلماً " (35 )

في ألمانيا ، اجتمعت هيئة طبية على حالة مريض أو أكثر ، وكان من المرضى رجل مسلم لكنه غير ملتزم ، أو هو ملتزم لكنه لا يؤدي الصلاة كما يجب ، فقال أحد الأطباء ووافقه الآخرون : " نحن نعالج أمراض الإنزلاق الغضروفي ( الدسك ) ونعجب أنك يا فلان لديك هذا المرض ، مع أن المسلمين أبعد الناس عن الإصابة به ، لأنه صلاتهم اليومية خمس مرات هي من أفضل التمارين الرياضية ، المانعة لمرض ( الديسك ) وأمراض أخرى .. " ( 36)

وفي باكستان ، مفكر سويدي بهره وأخذه بماجامع قلبه إيمان المسلمين وصبرهم في تلك القرية الباكستانية ، عند ما رآهم يمتنعون عن الأكل والشرب في ساعة محددة ، ويقبلون عليها في ساعة محددة ، وليس عليهم من رقيب أو ناظر يلاحقهم .. عندها قال ذلك المفكر : " حقاً إن تعاليم هذا الدين ليست من صنع بشر ..إنها تنزلت من إله يدرك المؤمنون به أنه يراهم وإن لم يروه " (37 )

ويقول طبيبي فرنسي مشهور : " لو لم يكن في الإسلام إلا الصوم ومنع الخمور لكفى ذلك سبباً في اتباعه ، نظراً لما لذلك من أثر يحمي المعدة والكبد وبقية الجسم من مصائب فتاكة " ( 38)

حول الآذان :

قال نقيب الأطباء النفسانيين في ألمانيا الاتحادية : " إن كلمات الآذان الذي يدعو المسلمين إلى الصلاة ، تُدخِل السكينة إلى قلب المريض النفسي حتى لو لم يكن يفهم معانيها !! "

وأضاف الرجل : " إن الآذان يزرع النور والأمل بداخل المصابين بالاكتئاب أو فقدان الثقة بالنفس أو كراهية الحياة أو الشعور بالفشل " ..

والمثير في تجربة عميد الأطباء النفسيين في ألمانيا الغربية أنه استخدم الآذان في البداية ، وهو يجهل أنه النداء الإسلامي باللغة العربية لأداء الصلاة !! ( 39)

والمعروف أن الشيطان إذا سمع الآذان ولّى هارباً وله ضراط ، كما أخبر بذلك النبي صلى الله عليه وسلم .

ومع هذا كله هناك من أنباء المسلمين اليوم من يضايقه صوت المؤذن

ويزعم أنه يسبب له إزعاجاً ، ولعمر الله لو كان صوت مزامير الشيطان لاهتز طرباً وسروراً ، (( وَإِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَإِذَا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ) ) (الزمر:45)

فلا حول ولا قوة إلا بالله العظيم .

نهاية المطاف

في ختام هذه الجولة مع عدد من المشاهير من مغنين وممثلين ، وأطباء وأدباء ، وفلاسفة ومفكرين وغيرهم ، وبعد أن استمعنا إلى أقوالهم واعترافاتهم ، بقي أن نقول إن بعض هؤلاء المشاهير لم يزل على ما هو عليه قبل اعترافه ، ولسان حاله يقول : (( من شب على شيء شاب عليه )) ..

وبعضهم – ولله الحمد – وفقه الله لسلوك الطريق المستقيم ، وأصبح من الدعاة إلى الله .... وأولئك الذين هداهم الله ، وأولئك هم أولو الألباب ، فنسأل الله لنا ولهم الثبات ، وصلى الله على نبينا محمد .

=============

#التسلل إلى نقد الشرعية الإسلامية العليا

د. سعد بن مطر العتيبي

(1/3)

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله أما بعد :

فقبل بضع سنوات ، تفتقت عبقرية ! الحاخام اليهودي الكبير / موشيه فيشر رئيس مدرسة هيكل التوارة في القدس وقاضي محكمة الحاخامية عن فتوى ! عنونتها صحيفة معاريف بـ : "الخنازير لحماية الباصات" ! وافق على إصدارها هذا الحاخام ، وهي فتوى يسمح خلالها لليهود باستخدام أكياس نايلون مليئة بدهن الخنزير يجري ، تعليقها في الحافلات والمتاجر والقاعات ، وذلك لردع أي استشهادي من الوصول للجنة !! . وقال هذا الحاخام : "إنَّ الله لن يسمح لهؤلاء الاستشهاديين بدخول باب الجنة ؛ لأنهم تدنَّسوا بدهن الخنزير" !!

هذه الفتوى الساذجة - وإن أردت دِقّة في التعبير فقُل : الاقتراح السخيف ! - لأحد كبار الحاخامات اليهود من ذوي المناصب الكبيرة في الكيان الصهيوني ! ، عرضت على عدد من الفلسطينيين ، فعلّق عليها أحدهم بقوله بعد ضحك كاد أن لا يتوقف : "إنَّ كل خنازير الأرض لن تنجي الصهاينة من غضبنا" .. وعلّق عليها مجاهد فلسطيني آخر بعد شروعه في الضحك ، إثر طرح أحد المراسلين للسؤال عليه حول رأيه فيها : "إسمع ، حتى لو وضع اليهود جلد شارون في الباصات ، فإنَّ هذا لن يردعنا عن مواصلة نضالنا" !!

تذكرت هذا الطرح الحاخامي الساذج اليائس ، بعد أن بدأتُ في استعراض بعض المقالات المستميتة في إيقاف مسيرة الصحوة الإسلامية التي يقودها علماء الأمة وقادتها المسلمون ، والتي تعاضد في تنميتها ، ولاة أمرنا من الأمراء والعلماء المخلصين ، على بصيرة من نور الوحي الذي أبى الله عز وجل إلا أن يتمه ولو كره من كره ! وكفى تأكيدا لذلك النص على ضمان المسيرة الإسلامية في حكم الكتاب والسنة في (النظام الأساسي للحكم) ، ثم في معاهدة خادم الحرمين الشريفين اللهَ عزّ وجل على أن يجعل القرآن الكريم دستوره .. وفي ضوء هذا التقدم الذي لن يقهر إن شاء الله تعالى ، أحببت أن أقدم بالمقترح الصهيوني البليد ؛ لما فيه من دلالات لا تخفى على ذي لبّ ، سنرى منها - إن شاء الله تعالى - في حلقات هذا المقال ما يُبكِي الفَرِح ويضحِك الحزين !

1) فإنَّ مما بليت به أمتنا في هذا العصر إشغالها بعدد من المُصَدَّرين أو المتصدِّرين للإعلام بصفة ظاهرة مستمرّة ، وإشغالها بتقلّبات بعض المنتسبين للعلم واضطرابات بعض المنسوبين له إعلاميا في أحايين منتقاة أو عفوية ، أو على ما جرت به الرياح وإن لم تشته السفن ! واللهم {ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا} .. ولقد كنت - كغيري من طلبة العلم - أتابع بعض ما يلفت الانتباه من المقالات ، والطرح الإعلامي المضمَّن نصوصاً شرعية ونقولاً إسلامية ! يريبك فيه - أوّل ما يريبك - أنَّه طرح حاسر الرأس ، صادر من غير مختص ! بل هو صادر من عوامّ في عرف علماء الأصول ؛ وتجد فيها ما يزيدك ريبة في دراية كاتبها أو طارحها بما يطرح ، وتزداد ريبة فوق الريبة حين تجد الكاتب قد وضع على رأسه عمامة العالِم ، وحاول أن يضع فوقها قبعة الإفرنجي ! فتحدّث في مسائل أكبر مما تحتهما ، ومهما حاول القوم الخداع فلحن القول يُعرِّفهم للعالمين ، بل حتى لو حاول بعضهم الظهور الإعلامي بلحية إرشيفية أو نحوها !

وما عليك للتأكّد ، إلا أن تقرأ لأحدهم تعالماً ، ثم تشاهد له حوارا مباشراً ، وحينها ستردد : (تسمع بالمعيدي خير من أن تراه) . كنت أتابع ذلك ، وربما كتبت مقالا حين لا يسع الصبر على حجم الاستغفال ، وخطورة المآل .. ولكن السير مستمرٌّ في ذات الاتجاه على نحو مريبٍ ، وقد كفانا مؤنة الحديث عن خطورته أبو عبد الله ، فضيلة الشيخ /د. سعد البريك - حفظه الله - في مقولاته ومقالاته .. والحقّ أنَّ هذه المسيرة التنظيرية الحثيثة المتناغمة من جمعٍ غير مختصٍ ، تدعو للتوقّف والتأمّل !!

2) وبعد استعادةٍ لبعض المقالات من بداياتها ، والنظر فيها بعد وضعها في سلّة واحدة ، وجدت أمامي عملية يمكن وصفها بمحاولة تسلل مشبوهة - ومكشوفة أحياناً - إلى نقد الشرعية الإسلامية العليا !! في سبيل الانتقال إلى المرحلة التي وصفها الله عز وجل بقوله: {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاء شَرَعُوا لَهُم مِّنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَن بِهِ اللَّهُ} . تلك المرحلة التي لا زالت محاولاتها الفاشلة تتالى بين رسالة نابليون بونابرت وتفاعلات تقرير راند 22م ؛ وقد تحدثت عن شيء من ذلك في مقال نشر في موقع القلم ، بعنوان : (مسلسل الخَوَر اللعين : ومحالة النيل من الدِّين) . وهاهي الفكرة مستمرّة في فرض نفسها بأنفاسٍ من غير أهلها ، أُرجِّح أنَّ بعضهم لا يعرف عن الأمر أكثر مما تعرفه العامّة عنه ؛ فمن محاولات إقناع الأمّة بفصل الدين عن الدولة في الإسلام ! إلى محاولةِ إقناعنا بإعادة تشكيل العقل العربي . ومنها إلى محاولة استغفالنا بتأويل النص الشرعي تأويلاً يعود على معناه بالبطلان ، ثم المحاولات التي لا تكلّ في طرْق موضوع الحريّة التي يراد منها الانطلاق لنقد الدِّين (الإسلام) ذاته عند بعضهم ، بل وعدم التثريب على من شاء التحوّل عنه والعياذ بالله! بزعم الحرية الدينية! كما صرح بعضهم بذلك في بعض المنتديات التي تولت إغلاقها الجهات المسؤولة بحمد الله .

ومحاولة الولوج إلى ذلك من بوابة نقد التكفير بإطلاق ، والحديث عن (المكفّراتية) [وهو مصطلح سبق إليه بعض الإسلاميين في نقد الفكر التكفيري المنحرف] ، و استقطاب كتّاب يخدمون الفكرة عن جهل ، وأخيراً إلى الولوج في نقد العلماء الشرعيين ، حملة العلوم الشرعيّة المؤهلين تأهيلاً شرعيّاً والتنقّص منهم مع سبق الإصرار ، والردّ عليهم بجهل وسوء أدب ، والتعالم عليهم أحياناً بأساليب ممجوجة تستجلب الرِّقّة لحال المسيء لنفسه بالتعالم ، إلى درجةٍ ينسب فيها بعضُهم - في صحف سيّارة - بعضَ آيات القرآن الكريم التي يحفظها عامّة المسلمين ، إلى غير مواضعها من كتاب الله عز وجل !!

وفي خضم هذا المكر الكبّار الذي لا يماري عاقل في أنَّه وراء الكثير من ذلك ، ولا سيما مع وجود تقارير إفرنجية تتحدث عن هذا الطرح وعن (شركاء)! سواء علم بعض هؤلاء الكتّاب العرب أو لم يعلموا - تذكّرتُ رسالةً بُعِثَت إلى أهل مصر ، وتذكرت منها الجملة التالية : "يا أيها المصريون : قد يقولون لكم إنني ما نزلت في هذا الطرف إلا بقصد إزالة دينكم ، فذلك كذب صريح ! فلا تصدقوه ، وقولوا للمفترين ! : إنني ما قدمت إليكم إلا لكيما أخلِّص دِيْنَكُم وحقَّكم من يد الظالمين ، وإنني أكثر من المماليك أعبد الله سبحانه و تعالى ! وأحترم نبيه محمد ! والقرآن العظيم !". (من نص الرسالة في : مظهر التقديس بزوال دولة الفرنسيس ، للجبرتي [ت1241هـ ] اختصار د. محمد بن حسن بن عقيل موسى الشريف :61 ، دار الأندلس الخضراء) .

أما صاحب الرسالة فهو المجرم الحقود السفاح الفرنسي نابليون بونابرت عليه من الله ما يستحق !! إنها رسالة دجل كاذبة لجأ فيها نابليون إلى النفاق عندما وجد المجتمع المصري متحصناً بعقيدة الولاء والبراء .. وعُدْ - إن رمت تفنيدها - للكتاب المحال إليه ولا تنس مقدمة محققه التي تستحق أن تفرد . ومن هنا ، رأيت أن أتحدّث عن عدد من المسائل المطروحة - إن شاء الله تعالى - بأسلوب علميّ ، أُبيِّن فيه بعض مغالطات التسلل إلى نقد الشرعية الإسلامية العليا على نحو موجز ، يوضح الفكرة ، ويكشف المحاولة ، ويُبين طريقة الاستهداف ، ويصحح المغالطة .

(2/3)

كثيرة هي المسائل التي يطرقها القوم في محاولاتهم التسلّلَ إلى نقد الشرعية الإسلامية العليا ، غير أنِّي سأشير - إن شاء الله تعالى - إلى بعض القضايا ، التي يمكن وصفها بالإرهاصات ، وأقف عند ما يتعلق منها بموضوعنا الأساس ، لأنَّ مسيرة التسلل - التي تكرر فشلها في دولٍ مجاورة على مدى عقود - بدأت تتسارع في تهورٍ ظاهرٍ ؛ لتصل إلى موضوعات خطيرة جداً ، فيما يمكن وصفه بإحراق المراحل ( العقلانية ) ، في سبيل الوصول لما يسمى بـ( الدولة المدنية ) !! بمفهومها الغربي .

وأحب أن أنبِّه بداية بالقول :

إنَّ قراءة محاولات التسلل إلى نقد الشرعية الإسلامية العليا لا يمكن أن تكون شاملة من خلال النظر في كتابات بعض الصحفيين أو اللقاءات ببعض رموز القوم في وسائل إعلام بلادنا فحسب ، بل لا بد أن تمتد النظرة إلى أصولها في منتدياتهم المشبوهة ، التي دافع بعضهم عن بعضها في صحافتنا عندما تم حجبها رسمياً ، لجرأتها على ثوابت الشريعة ، ومكونات الوطنية الإسلامية ، وتهجمها على الحكم الإسلامي في المملكة ؛ وكذلك ما وقفت عليه بنفسي من لقاءات إعلامية مرئية ومسموعة في وسائل إعلام غير محلية .

فمن الارهاصات بين يدي المطمح الكبير ما يلي :

أ) انكار المؤامرات على الإسلام والمسلمين ، وعلى الشريعة الإسلامية ؛ لأهداف تختلف من شخص لآخر :

منها : دفع تهمة الخيانة ممن ينفذ أجندة أجنبية معارضة ، وهي التهمة التي ينفر منها الأحرار في كل العالم .

ومنها : إشعار الأمَّة بأنَّ محاولات التسلل - في صورة مقال أو قصيدة أو مشهد تمثيلي أو رواية أو ( كاريكاتير ) أو غيرها - ليست سوى فكر إصلاحي من الداخل ، لا علاقة له بالأجنبي ، وأنه ليس فكراً مستورداً ، وأنهم لا ينقصهم إبداع ...

ويبدو أن هذا الهدف الأخير بات مكشوفاً مع محاولة التغطية ، واعترفوا بفشلهم في تمريره ، فانحدروا في تطبيع استيراد الفكر ، وتجاوزوا ذلك إلى تطبيع السرقات الفكرية ، وما رسومات ( الكاريكاتير ) التي اعترفت بها بعض الصحف عنا ببعيد !!

ب) محاولة تفسير النصوص الشرعية على غير وجهها ، والتستر وراء بعض الأقوال المرجوحة ، ونماذجها كثيرة جدا ، ومن ذلك فيما يخص موضوعنا : مدلول ( أولي الأمر ) ، إذ سوّقوا تفسيراً بقصره على الحكَّام التنفيذيين ، دون وعي لشرط المشروعية عند القائلين به ؛ ويتبين لنا أثر ذلك بصفته خطوة من خطوات التسلل لإقصاء الشرعية الإسلامية العليا حين نعلم أن هذا القول يمكن الإفادة منه - مؤقتاً - في ترويج فكرة الدولة المدنية ، التي تقوم في طرحها على عزل الحاكِم عن العالِم .. وهو من أقدم الارهاصات لموضوعنا .

ج) النقد الجائر لجميع السلطات في المملكة العربية السعودية ، التي هي أفضل نموذج للدولة الإسلامية في هذا العصر ، وكثيرا ما يبدأ هذا النقد - الذي يتحدّر في أسلوبه ، في الوقت الذي يرقى فيه إلى نوع من تصفية الحساب مع الوطن وقياداته ومؤسساته - في وسائل إعلامية من وراء الحدود ثم يتسلل فيما بعد ولو تحت شعار الدعوة لإصلاح وطني .. ولم يقتصر الأمر على السلطات التنفيذية ، ولا التنظيمية ، بل قفزوا قفزة العَدَّاءِ الأخيرة في ( ماراثون ) التسلل ، إلى السلطة القضائية ، بخطوة مشدودة لتحقيق فوزٍ في تسللٍ لم يخف على العامّة فضلاً عن غيرهم .

وقد كتبت في هذا الموقع عن حملة إعلامية على المحاكم الشرعية من هذا النوع ، كانت متناغمة في التوقيت والوجهة حول قضية واحدة . ولم يكتف القوم بذلك ، بل أخذوا يتباكون تباكي الصبي أمام والديه ، إذ قدّموا عرائض تدعي انتهاك حقوق الإنسان والحريات ، إلى جهات أجنبية!! محاولين تدويل بعض القضايا التي كانت تسير في طريقها النظامي الشرعي إجراءً وقضاءً ، معلنين بذلك تناقضا صارخاً بين دعاوى الوطنية التي لا يفترون من تردادها في الوقت الذي يخسرون ودادها . وهذا أمر سنكشف جذوره — إن شاء الله تعالى - بنصوص من أجندة أجنبية سابقة ، لا زالت سريّة منذ ما يزيد على قرن ونصف من الزمان .. ولكن الانبهار يحجب الاعتبار ، فلا يلتفت المصاب به للتاريخ ، ليحذر أن يكون ريشة في مهب الريح !!

د) النيل من العلماء حملةِ علوم الشريعة ، وأوعية حفظ نصوصها ومعانيها ، وأهل تحقيق مناطات أحكامها في الوقائع ..

وهذا لهم فيه طرائق منها :

- التنقّص من قدر العلماء ، بالسخرية منهم ، وإشباع الروح الرديئة من ذمِّهم بالكذب والزور والتحقير ، ففي الوقت الذي ينتقدون فيه أهل العلم ببيان الحكم الشرعي لجميع شؤون الحياة ، وتدخلهم في كل المجالات ( كما هي حقيقة شمول الإسلام للأحكام ) - حتى إخراج قوائم شركات نقية وغير نقية مزعجة لهم - نجدهم يصفونهم بعلماء الحيض والنفاس ! ولا يخفى ما فيه من محاولة التنقّص التضليلية من العالم الشرعي ، وما فيه احتقارهم هم للمرأة ، التي يتظاهرون بالدفاع عنها ! مع الغفلة عن حقيقة لا تنكر : أنَّ في العالَم متخصصون تخصصا حقيقياً في أمراض النساء التي منها الحيض ! والتوليد الذي يعرفون صلة النفاس به !! وأحياناً نجد التنقّص من العالم بالتهكم من علمه بحجة عدم فهم ما يقول وحيرتهم فيه ! فهلا سكتوا إذْ قصرت أذهانهم عن فهم عبارات العلماء ، ولو من باب : ( إذا ابتليتم فاستتروا ) ؟..

ومن آخر ذلك ما قرأته لبعضهم من سفاهة ممجوجة ، تطاول فيها على الشيخ الجليل العلامة الدكتور/ صالح الفوزان عضو هيئة كبار العلماء المعروف عالمياً ، بصنوف من قلّة الأدب ، في انغلاق ذهني فاضح ، ممزوج بنشوة صبيانية حمقاء ، وكأنهم في مجتمع لا يحظى العلماء فيه بتقدير الناس لهم : شعبا وقيادة ، تقديراً متأصِّلاً في نفوس إسلامية أبيّة .. اللهم اهد ضال المسلمين .

- محاولة بعض الكتّاب مساواة نفسه بالعالم دون حياء ! ومخاطبته مخاطبة الندّ للندّ ! وهذا غاية الجهل والسفه ! فمن أسفه من جاهل يقول للعالم المشهود له بالعلم والديانة : لي رأيي ولك رأيك ! ثم يشن حملة سفهٍ على رأي العالِم ، ليمرِّر جهله هو باسم الرأي ! سفهاً بغير علم ! {أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاء اللَّيْلِ سَاجِداً وَقَائِماً يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُوا الْأَلْبَابِ } ؟!

- وصف علماء الإسلام برجال الدين ! والمؤسسات الشرعية ، بالمؤسسات الدينية ! والأحكام الشرعية بالأحكام الكهنوتية ! وإطلاق وصف رجال الكهنوت بل وإطلاق وصف القساوسة على علماء الإسلام ! فأي تكفيرٍ يمارسه هؤلاء لعلماء الإسلام ومرجعياته الشرعية ! هل هناك تكفير واستهانة بأهل العلم أشدّ من وصف العالم الشرعي بالأوصاف الكنسية ..

ولا تعجب ، فالقوم أعجز من أن يفقهوا ما يقولون ، إنَّهم ( رواديد ) يلحِّنون كلماتِ غيرهم أمامَنا .. إنّهم لا يأتون بشيء من عندهم ، بل وأجزم أنّ كثيراً منهم لا يعرف من أين يُؤتَى له بما يؤتى له به !! وهذا ما ستراه موثقاً في الأسطر القادمة إن شاء الله تعالى .

رجل الدين مصطلح أجنبي عن ديننا : عقيدة وشريعة ، ورجل الدين يشبه في معناه الإفرنجي ما يعرف في تاريخنا بالقصّاص ، وعوام الوعّاظ .. أما علماء الشريعة فهم من يجمعون صفات منها : معرفة علوم الإسلام عقيدة وشريعة ، وهم في حقيقة الأمر : علماء ربانيون وبالتعبير المعاصر هم أيضاً رجال قانون .. فنقْلً هؤلاء الكتاب لهذه المصطلحات وإسقاطها على علماء الشريعة نقلٌ مفضوح ، يمكن تقريبه بصنيع الطالب البليد الذي يغش في الامتحان بنقل كل ما في ورقة زميله بما في ذلك اسم هذا الزميل !

هـ ) الاعتذار للمخالفين في الملة ، والسعي في تجاوز حكم الردة .. ولعلكم تستذكرون الطرح المتكرر لمسألة عقوبة المرتد ، والدندنة حولها ، ومحاولة التهوين من شأنها ، والتشكيك في وجوبها ، وإثارة بعض الآراء الشاذة حولها .

و ) السخرية من الأحكام الشرعية القضائية ، كعقوبة الجلد .. وقد تحدثت عن ذلك في المقال الذي أشرت إليه سابقا حول الحملة على المحاكم الشرعية ، وذكرت فيه وجود هذه العقوبة في قوانين الإفرنج من الأمريكيين والإنجليز .

ز ) القدح في الجهات التعليمية والتربوية ، بدءا من الحديث عن مناهج التعليم وتقليص المواد الشرعية وكتابة تقرير حولها تفيد منها الجهات الأجنبية ، وانتهاء بالتشويش على الجامعات الإسلامية ، والكليات الشرعية ، والمعاهد العلمية ، وجمعيات تحفيظ القرآن الكريم وحلقات تحفيظه !! والتوجّع من النوادي الصيفية التي لا يخفى أثرها في بناء الشخصية الإسلامية الوسطية .

ح) الاستماتة في محاربة الجهات الرقابية الشرعية على السلوك ، وتصحيحه ، ولعلّ المثل البارز في ذلك : هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، ورجال الحسبة ، حتى إنهم ليتنادون لكتابة عرائض في المطالبة بإلغاء هذه المؤسسة التي هي جزء من مشروعية الدولة ، ومؤسسة دستورية منصوص عليها في النظام الأساسي بالحكم بوصفها واجبا من الواجبات المتفرعة عن مقاصد الخلافة الإسلامية . وسيأتي التعريج على هذا الموضوع في الحلقة القادمة إن شاء الله تعالى .

وعودا على بدء : كان القوم في بدايات التسلل نحو نقد الشرعية الإسلامية العليا ، يقدِّمون مقالاتهم بالثناء على الإسلام ووصف شريعته بأوصاف من مثل ( شريعتنا السمحة ) ، مع نقدٍ للإسلام بطريقة غير مباشرة ، تظهر في طيات الولولة من المسلمين وما آلت إليه حالهم من تشويه الإسلام !

كنَّا نسمع ونقرأ كثيراً جملة ( شريعتنا السمحة ) ! ولكن تبين لنا أنها كلمة حق كان يراد بها التسلل إلى الباطل ! ولذلك : قلّ وجودها في مقالاتهم المتخوفة بينما انعدم في المتهورة ! تظاهر جُلّ القوم بذلك كلِّه حيناً من الدّهر ؛ على أمل صرف النظر عن نواياهم ، والوصول إلى أهدافهم في تجاوز التقيّد بحكم الكتاب والسنّة ، إلى الارتماء في أحضان الفكر الغربي بخلفياته المعادية للأمة الإسلامية ، وتجاوز الحكم بشريعة الله عز وجل إلى الحكم بالقوانين الوضعية البشرية ، التي تُقصِي الدين عن الحياة !

أبى الله إلا أن يكشف الفكرَ المنحرف على حقيقته ، فلم يَعُد ينطلي على متابعٍ ، ما استُحدِث من مصطلحات التملّص من سوء الطويّة ، إذ وجدنا طرحا ينتقد بعض مصادر الشريعة كالسنة والإجماع ! كما وجدناهم يحاولون التسلل إلى وصف إسلامي بنقده من خلال وصف ( إسلاموي ) كمخرج طواريء !! هذا المصطلح النكرة النشاز في بنائه ومعناه ، وأظنه من مستوردات القوم كالعادة ، فقد قرأته في أول ترجمة عربية وقفت عليها لكتاب ( صدام الحضارات ) لصموئيل هنتنغتون قبل بضع سنوات ..

لقد أفصح القوم عن نظرتهم القاصرة للإسلام الذي ينقصهم معرفته على حقيقته ، فضلاً عن العلم به ، وصار الإسلام العظيم عند هؤلاء رجعية وظلامية وتخلفاً !! يذكرون ذلك كلّه عندما يتسترون تحت الأسماء المستعارة .. وإن أتى مغلفاً تغليفاً مزوقاً أو رديئا في المقالات التي توقع بأسماء حقيقية ..

وها نحن اليوم نقرأ لهؤلاء نقداً صريحاً للإسلام ذاته ، من خلال نقد المصطلحات الشرعية النصيّة ، وليس المصطلحات الفقهية التي هي آراء علماء - قابلة لنقدها من المؤهلين شرعياً لذلك - فحسب ! كما نقرأ دفاعاً عن هؤلاء من قوم لا زالوا بين بين تَحْدُوا مسيرتهم المصالح الآنية ، ينتظرون كفّة النصر للميل إليها .. ويأملون اللحظة التي يرددون فيها أمنية أسلافهم في التنكر للأمة : ( ألم نستحوذ عليكم ونمنعكم من المؤمنين ) !

بل وصلت بهم الجرأة إلى وصف الإسلام بالفشل ! ونقد أحكامه نقداً سخيفاً ، يؤكِّد خواءً ثقافياً ، وضحالة علميّة ، لا تليق بطالب فاشل في مدرسة نائية .. ليتهم تعلموا الإسلام ولو على طريقة المستشرقين الذين يحترمون أنفسهم ، فيعبِّرون عن حقيقة الإسلام ، وهم الذين عاشوا في كنف ثقافة البلاد التي يعدها كتاب التفرنج بيننا مثلاً يطمحون إليه ..

بل لم يعد القوم يستحون حتى من ترديد مصطلحات أعداء الملّة والدولة ، من جهلة الأمم الشعوب التي خدعها الاستعمار حيناً من الدهر ، أعني بذلك تكرار مصطلح ( الوهابية ) في إعلام بلادنا !! هذا المصطلح الذي كان رائجاً في الهند أيام الإمبرياليين الإنجليز كإجراء وقائي ، للتنفير من الدعوة الإصلاحية في نجد ، التي كانت تدعوا لجهاد الأعداء ، والتي لم تكن تقبل الخنوع لأي محتل ، كل ذلك حين كانت بريطانيا العظمى التي قرأنا عنها في التاريخ ..

ولو أنّ هؤلاء المتسللين المكشوفين تعلموا الإسلام على حقيقته من غير تلقين أجنبي بشكل أو بآخر ، ولو في دورات مبسطة على نحو ما يجري في مكاتب توعية الجاليات ؛ لعلموا مقدار جهلهم بالإسلام عقيدة وشريعة وأخلاقا .. وهل من سبيل إلى ذلك ما لم يدرك هؤلاء حقيقة جهلهم وظلمهم لأنفسهم ، فلو أدرك هؤلاء هذه الحقيقة لتعلموا ووجدوا من الحقائق التي يصعب تجاهلها ما يوصلهم إلى مستوى المنصفين من الغربيين الكثر ، أمثال المؤرِّخ الإنجليزي الكبير مستر ويلز ، الذي لخّص قناعته في الإسلام في قوله :

" إنَّ الديانة الحقّة التي وجدتها تسير مع المدنيّة كيفما سارت ، هو الدين الإسلامي .. ولو طلب مني تحديد تعريف الإسلام في عبارة واحدة ، لقلت : الإسلام هو المدنية المرتقبة " !! وهو هنا يتكلم عن المدنية بمفهومها الحضاري الواسع ..

أو هنري دي شامبون الذي يقول : " نحن الغربيين مدينون للشعوب الإسلامية بكل محامد حضارتنا في العلم والفن والصناعة ، وحسبها أنها كانت مثال الكمال البشري في مدة ثمانية قرون ، بينما كنّا يومئذٍ مثال الهمجية " !!

أمَّا أن يبلغ علمهم بعظمة الشريعة حداً يجعلهم يشعرون بتخلف القوانين الغربية ، بإيجابية الباحث المتعمِّق وشفافية المبهور بما يقف عليه من حقائق ، فأمر مشكوك فيه ، اللهم إلا أن يصل أحدٌ منهم بعد وقفة جادة مع الذات تعلماً ومراجعةً تصحيحيّة ، إلى مستوى عميد كلية الحقوق بجامعة فينا ، البرفيسور شيرل ، الذي أعلن في مؤتمر الحقوق عام 1927م أمام نخبة من القانونيين الكبار :

" إن تشريع محمد صلى الله عليه وسلم سنكون نحن الأوربيين أسعد ما نكون لو وصلنا إلى قمته بعد ألفي سنة " !!!

(3/3)

في الحلقة الماضية تم استعراض عدد من إرهاصات التسلل إلى الشرعية الإسلامية العليا. وأظن القاريء الكريم مُنَتَبِّه إلى أنَّ بعضها هو في حدّ ذاته محاولة للتسلل، وإن كانت لا ترتبط ضرورة بالمشروعية العليا بشكل مباشر، وإنَّما تمهِّد له، وتحاوِل استباق الاعتراض الشرعي بما يشبه الطَّرح المشروع، كما تحاول التشويش على ما قد يقف في طريقها من اعتراضات يُبديها بعض علماء الأمَّة ومفكريها؛ فإنكار المؤامرات على الإسلام والمسلمين، وعلى الشريعة الإسلامية، ومحاولة تفسير النصوص الشرعية على غير وجهها، والتستر وراء بعض الأقوال المرجوحة، والنقد الجائر لجميع السلطات: التنفيذية، والتنظيمية، والقضائية، والنيل من علماء الشريعة بما في ذلك وصف علماء الإسلام برجال الدين والكهنوت! والمؤسساتِ الشرعية بالمؤسسات الدينية! والأحكام الشرعية بالأحكام الكهنوتية! واستعمال عبارات من مثل: (الإسلام الأرثوذكسي) وإطلاق وصف القساوسة على علماء الإسلام! كل هذه المحاولات لا تخرج عن الإطار العام الذي أشرت إليه بغض النظر عن مدى وعي منفذيها بخطورة ما ينفِّذون.

وقد أشرت إلى أن جميع هذه الأساليب ليست من ابتكارات القوم، لأنَّهم أقل شأنا من أن يوصفوا بالإبداع، وغاية أمرهم التسويق الساذج أو المأجور لبضاعة وافدة، وإنَّما يقتصر جهدهم على التلقي ثم الأداء، وحيث قلت: "إنّهم لا يأتون بشيء من عندهم، بل وأجزم أنّ كثيراً منهم لا يعرف من أين يُؤتَى له بما يؤتى له به!! وهذا ما ستراه موثقاً في الأسطر القادمة إن شاء الله تعالى"؛ فإني أفي هنا بما وعدت، مكتفياً بـ:

- الإشارة إلى وثيقتين.

- وإلى محاولة تاريخية، تكشف بعض ما أقول في إيجاز.

وقبل أن أنتقل إلى الوثيقتين أقول: ينبغي أن نعلم أنَّنا في العالم العربي لسنا أمام منظِّرين، بقدر ما نحن أمام مروِّجين منبهرين إلى حدّ التهور، أو مخدوعين إلى حدّ الذوبان.. مقلِّدين إلى دركاتٍ عميقة من الانهزام النفسي. وليس هذا في الفكر فحسب! فقد جاء في وصف المؤرخ الشيخ عبدالرحمن الجبرتي (ت/1241هـ) لمجرمي الحملة الفرنسية أتباع نابليون ما نصّه: "... خالَفوا النصارى والمسلمين، ولم يتمسكوا من الأديان بدين... وعقيدتهم السالكون فيها تحكيم العقل، وما تستحسنه النفوس بحسب الشهوات... ويحلقون لحاهم وشواربهم معاً، ومنهم من يبقي شعره لعارضيه فقط، ولا يحلقون رؤوسهم ..."، "...وقد أشرت إلى بعض صور انهزاميتهم في مقالات سابقة، كتأريخهم للحوادث الإسلامية بالتاريخ الإفرنجي النصراني! وهذا ما لا تكاد تخلو منه مقالاتهم، حتى صار من علاماتهم".

-الوثيقتين:

إنَّ الهجوم المتناغم على ثوابت الشريعة والنيل من علمائها، جاء -في الجملة- وليد أجندة أجنبية، وحفيد منهج علماني متطرِّف حمل على الاستبداد الكنسي النصراني ومفهوم رجل الدِّين في الفكر النصراني الأوربي وما يعرف بالحكم الثيوقراطي المزعوم، وكان من ثمار هذه الحملة وثيقتين:

الوثيقة الأولى (وهي عبارة عن خلفية تاريخية)/ المدونة البابوية:

وهي تجمع أخطاء الكنيسة وتستدرك عليها، وهي مدونة غريبة النشأة، عجيبة البنود! صدرت بعد مطالبة مؤدّبة! من (اللادينيين واليهود واللاأدرية) الذين اخترقوا المجمع الكنسي باسم الأب والابن وروح القدس!!! وصاروا من قياداته، ومما جاء في هذه المطالبة الجملة التالية: "ولنطلب حالاً من أبينا المقدّس حضرة البابا أن يمدنا بدستور يحدد مختلف الأخطاء المتعلقة بالكنيسة والسلطة الملكية... من المنفعة الكبرى أن تُقَدَّم تلك الأخطاء في لائحة..."! وقد صدرت هذه اللائحة وتحقق هذا الطلب بعد اثني عشر عاما، ولا زالت هذه اللائحة محلّ سريّة إلى اليوم، ولم يكشف عنها الفاتيكان رغم مرور أكثر من قرن ونصف، وذلك لما فيها من فضائح اختراق المجالس الكنسية ومزيد تحريف الديانة النصرانية المحرّفة أصلاً. وكان من نتائج العمل بها: حذف ما يتعارض معها في مناهج التعليم الأوربية! ومن ذلك ما يتعلق بنقد اليهود! على ما ذكر الدكتور محمد بريش سلمه الله. وسوف أُفرد بعض البنود المتعلقة بالسلطة المدنية في هذه المدونة في فقرة تالية مخصصة لبيان جذور طرح بعض الكتاب لما يعرف بـ (الدولة المدنية) التي هي نهاية مطاف محاولات التسلل إلى الشرعية العليا.

الوثيقة الثانية (وهي عبارة عن أجندة حالية)/ تقرير راند 2002م:

لقد جاء لتغيير الدين بالطرح النفاقي! وقد أشرت إلى خلاصتها في موضوع بعنوان: (مسلسل الخَوَر اللعين والنيل من الدين). ولعلي أختصر حقيقة هذا التسلل إلى نقد الشرعية الإسلامية العليا -وأدواته في هذا التقرير- بذكر جزء من مقابلة أجراها موقع Muslim Wakeup مع مؤلفة تقرير راند: شيريل بينارد، إذْ أكدت ضرورة دعم الحداثيين والمفكرين الذين يخدمون أهداف التقرير ومشاركتهم مشاركة فعالة، وذكرت أن هذا الدعم لا يلزم أن يكون علنياً وعلى الملأ! وحتى لو أدى هذا الدعم إلى اتهامهم بالعمالة للغرب فلا بأس؛ لأنهم مصنفين من قبل الأصوليين كأدوات للغرب على أية حال؛ لذلك فإنَّ دعمهم -على الأقل- يجعل ميدان الصراع بين الفريقين متوازنا نوعاً ما! وإذا كان هذا قول شيريل فليصدقوها أو ليكذبوها!

-أما المحاولة التاريخية فيمكن تلخيصها بالقول:

إن النيل من الشريعة وعلماء الشريعة حالة ليست جديدة على عالمنا الإسلامي، بل هي تجربة متكررة تُبرِق للمخدوعين آمالاً، ولكنها -بحمد الله- لا تمطر.. ففي مصر، منذ نابليون بونابرت وحتى جهود تقليص دور الأزهر، نجد المنهج ذاته يتكرر، ومنهج إقصاء الدين بالتحايل عليه مرّ به الأزهر في مراحل، من أشهرها ما يعرف بتغييرات عام 1961م، وكان كما يقول الأستاذ عبد الحيلم عويس: "امتدادا طبيعياً لمنهج الحملة الفرنسية على مصر، وهو المنهج الذي يقوم على ترك الأزهر يموت تلقائياً ويتجاوزه الزمان، بينما تقوم حوله مؤسسات تغريبية حديثة تشلّ فاعليته وتجعل أبناءه في مؤخرة الصفوف... لجأ الاستعمار الإنجليزي إلى استخدام أجهزة الإعلام في التنفير والسخرية من طالب الأزهر وأستاذه، وراحوا يفرقون في المدارس بين مدرسي الدين واللغة وبين مدرسي المواد الأخرى تفرقة مرسومة، الهدف منها هو التنفير من التعليم الديني ومحاصرته".

وعوداً على بدء: فإنَّ المطالبات بدولة مدنيَّة -على النمط والمدلول الغربي الذي يجعلها في مقابل الدولة الدينية- هو كما أشرت من قبلُ: نهاية مطاف محاولات التسلل إلى الشرعية الإسلامية، بكل ما يحتاجه ذلك من مقدمات وممهدات، وحلول (امبريالية). وإذا عدنا إلى المدونة (البابوية) المشار إليها آنفا، فإننا نجد فيها عدداً كثيرا من البنود المتعلقة بتحييد الكنيسة (النصرانية) عن الحياة: قوانينها وقضائها بل وسلوكها! ومما جاء فيها ما يلي:

"19-الكنيسة ليست مجتمعا صحيحا ومثالياً كامل الحريّة، وليست لها حقوق خاصّة ودائمة ومخوّلة لها من طرف مؤسسها المقدس، بل من حق السلطة المدنية أن تحدد ما هي حقوق الكنيسة، وفي أي حدود يمكنها ممارسة تلك الحقوق.

13-إن حصانة الكنيسة والشخصيات الكنسية تشتق أصولها من القانون المدني.

31-إن المنتدى أو المحكمة الكنسية للأحكام الدنيوية لرجال الدين، سواء على الصعيد المدني أو الجنائي، يلزم أن تلغى كليّة، وحتى بدون استشارة الكرسي البابوي، ودون أي اعتبار لاحتجاجاته.

33-ليس للسلطة القضائية الكنسية وحدها الحق الخاص والطبيعي في توجيه التعليم بالمدارس اللاهوتية.

36-إن تعريف المجمع الوطني لا يقبل أي مناقشة ، والإدارة المدنية يمكن أن تتمسك وتقف عند نتائجه.

39-الدولة هي الأصل، والمصدر لكافة القوانين، وتتمتع بقانون لا تحتويه أية حدود.

41-إن السلطة المدنية -حتى لو كانت ممارسة من طرف حاكم كافر- لها قوة غير مباشرة مضادة للقضايا المقدّسة، ومن ثم فليس لها فقط براءة اعتماد القوانين، بل كذلك حق اسنئنافها والتعسف فيها.

42-في حال تعارض القوانين الصادرة عن كل من السلطتين (المدنية والكنسية) فإن الترجيح هو للقانون المدني.

43-يحق للسلطة المدنية التدخل في القضايا التي تتعلق بالدين والأخلاق والتوجه الروحي، ومن ثم فإنه يمكنها الحكم على الأوامر والتوجيهات الصادرة عن قساوسة الكنيسة.

45-إدارة المدارس العمومية التي تشرف على إعداد ناشئة بلد مسيحي باستثناء -وفي حد معين- المدارس الكنسية، يمكن ويجب أن تكون كليّة من اختصاص السلطة المدنية ومخولة لها، بحيث لا يعترف لأي سلطة أخرى بالتدخل في مناهج المدارس وترتيب الدراسات ومنح الشهادات وإقرار تعيين الأساتذة.

49-يمكن للسلطة المدنية أن تمنع الاتصال الحر والأخوي بين الكرسي الرسولي والأساقفة والمخلصين.

53-يلزم إلغاء القوانين التي تحمي ميثاق المجموعات الدينية وحقوقها ووظائفها. يمكن للحكومة المدنية أن تساند كل أولئك الذين يرغبون في التخلي عن الحالة الدينية التي اعتنقوها ومخالفة عهودهم الرسمية، وفي نفس الوقت يمكنها -أي الحكومة المدنية- أن تحل كل هذه المجموعات الدينية، وكذلك الكنائس الجامعية، ومكاسبها البسيطة في حق الإشراف، وإخضاع ممتلكاتها ومداخلها لإدارة وقوة السلطة المدنية.

55-يجب فصل الكنيسة عن الدولة، وفصل الدولة عن الكنيسة.

56-لا تحتاج القوانين القانونية الأخلاقية إلى مصادقة قدسية، وليس هناك حاجة على الإطلاق أن تطابق القوانين الإنسانية قانون الطبيعة، أو أن تتلقى من الله قوة النفوذ والوجوب. [ قلت : نعوذ بالله من الجرأة على الله وما أحلم الله بخلقه ].

57- إن علوم الفلسفة والأخلاق، وكذلك القوانين المدنية، يمكن أن تسحب من سلطان السلطة الدينية والكنسية.

62- ينبغي أن يعلن ويحترم ما يدعى بمبدأ عدم التدخل.

63- يسمح برفض طاعة الأمراء الشرعيين وكذلك الثورة عليهم.

64- بقدر ما يكون انتهاك الميثاق الأقدس أكثر عاراً من أي عمل إجرامي ومخالف للقانون الأبدي، ليس فقط لا ينبغي أن يلام على فعله، ولكن يعتبر مباحاً ومستحقاً للمدح والتنويه الكبيرين حين يكون ذلك في سبيل حب الوطن!".

وبخصوص الفقرة الأخيرة -وفي أجواء الشغب الذي شاهدناه بمناسبة اليوم الوطني- لا أدري أي وطن يمكن أن يحبه من ينتهك مواثيقه ويشرِّع رمي قوانينه في البحر بتأثّر خارجي؟! ولا سيما إذا علمنا أن الوطنية الحقيقية في الاصطلاح السياسي لا تنفك عن خصلتين: 1-حب الوطن. 2-والدفاع عنه ضد العدوان الخارجي، فكريا كان أو عسكريا.

ولست أشك أن بعض المسلَّلِين العرب، لا يعلم شيئاً عن الخلفية التي سبق الحديث عنها، لأنه ليس سوى مردِّد لمصطلحات يسمع بها أو يتلقنها من الآخرين في لقاءات متنوعة، ولكن ما عذر من علم حقيقة الأمر -الآن أو قبل- ثم بقي على قناعات غيره دون تمحيص؟! وهذا التسلل القديم يشهد به كتّاب غربيون مشهورون.

أكتفي بالاستشهاد بقول واحدٍ منهم بلغ به اليأس من جدوى التسلل التغريبي مبلغاً لم يستطع كتمانه، أعني المنظِّر اليميني/ صموئيل هنتنغتون، إذْ قال في كتابه (صدام الحضارات)، الذي كان أصله تقريراً إلى جهات سياسية: "جماعات المعارضة الديمقراطية اللبرالية وُجدت في معظم المجتمعات الإسلامية، ولكنها كانت -عادة- مقتصرة على عدد محدود من المثقفين وآخرين من ذوي الأصول أو العلاقات الغربية، مع استثناءات عرضية فقط؛ فاللبراليون الديموقراطيون كانوا غير قادرين على تحقيق دعم شعبي مستمر في المجتمعات الإسلامية" ويضيف -وتأملها جيداً-: "بل وحتى اللبرالية ذات المنحى الإسلامي، أخفقت في بناء قواعد لها في كل مجتمع مسلم، واحداً تلو الآخر... إنَّ الإخفاق العام للديمقراطية اللبرالية في أن تثبت وجودها في المجتمعات الإسلامية، هو ظاهرة مستمرة، ومتكرّرة، لمدة قرن من الزمان بالكامل، بداية مع أواخر القرن التاسع عشر".

ومن يرد فهم الطريقة التي يحاول أعداء الشريعة ومن خُدِع بهم التسللَ منها إلى نقد الشريعة الإسلامية فسيجدها واضحة في مثالها المحتذى، وهو الطريقة العلمانية الغربية في نقد الحكم النصراني الأوربي! صحيح أنه لا مقارنة بين الإسلام والنصرانية، ولكن كيف يفقه هذه الحقيقة من يردِّد أقاويل غيره دون تمحيص! وكيف يقدر على التمحيص العلمي من يفتقد أدواته! لقد كان المثقفون المصريون وكذا اليمنيون الذين تأثروا بالفكر الماركسي مثلاً، أكثر وعياً بالفكر الذي كانوا يحملونه، وكان لهم حظ من التأهيل الفكري للبحث عن الحقيقة، وهذا من أهم أسباب رجوع عدد منهم إلى الإسلام؛ بخلاف الماركسيين الخليجيين الذين تحولوا إلى فكر بديل، يمكننا أن نطلق عليه (الفكر الليبراكسي)، فهم يُفخفخون بالليبرالية، ولكن الفكر الليبرالي لا يتحمّل مجاملتهم، لذلك يلفظهم لفظ النواة. وقد تحدثت في مقال سابق عن ما وصفه أ.د. الركن بـ: (الهجرة إلى اللبرالية بعد سقوط أم الشيوعية). وذلك في كتابه القيم: "إيديولوجية الحرباء" الذي يسجل نماذج إعلامية متنوعة من محاولات التسلل.

لقد قرأنا لهم كتابات عن أهداف سياسية صريحة في منتدياتهم:

فمرَّة ينفون وجود دستور للمملكة العربية السعودية! ومرة يطالبون بدستور للمملكة العربية السعودية!!!

في الوقت الذي لا يستطيعون فيه إنكار وجود النظام الأساسي للحكم، الذي يعد أول تدوين متكامل لدستور المملكة العربية السعودية..

إذاً فبماذا يطالبون؟ وإلام يتوجه نفيهم وإنكارهم؟!

لقد أجبت كتاباتهم، وأجاب أحد منظِّريهم في برنامج فضائي لقناة أجنبية:

(بأنهم يريدون دستوراً لا يوجد فيه أدبيات وخطاب ديني) كما يقول!

الجدير بالذكر: إنَّ الدولة الإسلامية ليست مدنية ولا دينية بالمفهوم الغربي الذي يروِّج له القوم، فهم يؤسسون على قناعات فاسدة أصلاً، وسأتمم إن شاء الله تعالى بموضوع مستقل، عن الدولة الإسلامية بين مفهومي (الدولة الدينية) و(الدولة المدنية).

اللهم أحسن عاقبتنا في الأمور كلها وأجرنا من خزي الدنيا وعذاب الآخرة. وصل اللهم وسلِّم على عبدك ورسولك محمد وعلى آله.

=============

#حضارة الإسلام

أسامة بن عبد الله خياط

مكة المكرمة

3/8/1422

المسجد الحرام

محامد و أدعيةطباعة الخطبة بدون محامد وأدعية

-------------------------

ملخص الخطبة

1- الجور في الحكم على حضارة الإسلام. 2- فضل الإسلام. 3- في نطاق المعتقد. 4- في نطاق العلم. 5- في نطاق المادة. 6- في نطاق الحقوق. 7- في نطاق الغريزة. 8- تقهقر المسلمين.

-------------------------

الخطبة الأولى

أما بعد:

فيا عباد الله، اتقوا الله فتقوى الله ديدن الأيقاظ من عباد الله، الذين يخشون يَوْماً تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالأبْصَارُ [النور:37].

أيها المسلمون، عند اضطراب الألباب، والتياث العقول(1)[1]، وغلبة الأهواء، واستحكام العداء، وغيبة العدل، يضلّ أقوام عن سواء السبيل، فيجورون في الأحكام التي يطلقونها ذات اليمين وذات الشمال، ويحيفون في الأقوال التي يلقونها على عواهنها بغير استبانة ولا تثبّت، ودون تدبّر ولا تفكّر، فتكون العاقبة عند ذلك ظلما مبيناً، وإساءة مسيئة، وتحاملاً مجحِفا، لا يسع أولي النهي الإغضاء عنه، ولا السكوت على عوجه، حتى يظل وجه الحق مسفراً، وحتى تبقى مهمة التذكير حية كما أمر الله، فَذَكّرْ إِنَّمَا أَنتَ مُذَكّرٌ لَّسْتَ عَلَيْهِم بِمُسَيْطِرٍ [الغاشية:21، 22].

فمن هذه الأحكام الجائرة، والإطلاقات الظالمة، والدعاوى التي لم تقم عليها البينات، ولم تسْندها البراهين، ولم تسعفها الحجج الزعم بأن الحضارة المنبثقة عن هذا الدين الحق دين الله أدنى مقاماً وأقل سمواً من غيرها، وأن لغيرها من التفوق والأثر والنُّجح ما ليس لها، إلى غير ذلك مما هو أثر من آثار إغماض الأجفان عن ذلكم الهدى والنور الذي جاء من عند الله الحكيم الخبير، وثمرة من ثمار الحيدة عن سبيل الإنصاف، والتنكب لطريق العدل، والتنكر لفضل ذوي الفضل.

عباد الله، إن هذا الدين الحق هو الذي أرسى الله به قواعد الحضارة المثلى، وأقام به ركائز ومقومات النهضة الكبرى، التي سعدت في ظلالها الأمم والشعوب، والأفراد والجماعات، في ماضي الأيام، وسوف تسعد بها كذلك إن شاء الله في حاضرها ومستقبلها.

تلك الحضارة التي أسفرت آثارها عن جمال وجهها، وجلال غايتها، ورقي منازلها، وإن السمو الحضاري، في هذا الدين لتتضح معالمه، وتستبين قسماته، وتتجلى خصائصه بالنظر المتأمل في ركائزها وأسسها.

ففي نطاق المعتقد، عبودية كاملة لله وحده، ونبذ لعبودية الأرباب من دونه في مختلف صورها وألوانها كما قال سبحانه: قُلْ ياأَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْاْ إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاء بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللَّهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مّن دُونِ اللَّهِ فَإِن تَوَلَّوْاْ فَقُولُواْ اشْهَدُواْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ [آل عمران:64]. وفي تعبيد العباد لله ربهم، وهدم عبودية الأرباب من دونه انتهاض عقدي، وارتقاء عقلي، وكمال نفسي، يبتنى عليه أساس البناء الحضاري الراسخ للأمة إذ أنه يجعل عمدة الالتقاء، وآصرة الاجتماع هو سبب التكريم، ومنشأ التمييز المعتقدَ الصحيحَ والتقوى، لا العنصر أو اللون أو القوم أو الأرض كما قال سبحانه: ياأَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مّن ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُواْ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عَندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ [الحجرات:13].

وفي نطاق العلم عناية فائقة، ورعاية ظاهرة للعلم وأهله في جميع ميادين العلم النافع؛ لأنه لا يستوي من يعلم ومن لا يعلم، كما قال سبحانه: قُلْ هَلْ يَسْتَوِى الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُو الألْبَابِ [الزمر:9]، ورفع سبحانه الذين أوتوا العلم مقاماً علياً، فقال عز اسمه: يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ ءامَنُواْ مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُواْ الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ [المجادلة:11]، ولم تقم في هذه الحضارة خصومة بين الدين والعلم مطلقاً؛ لأن العلم الصحيح رديف الوحي في تثبيت الهداية والإرشاد إلى الصراط المستقيم، ولذا كان أثر هذا العلم في القلوب مطمح أولي الأبصار، ومقصد الراسخين في العلم، ومبتغى أهل الصدق والإخلاص، وذلك هو خوف الله وخشيته كما قال سبحانه: إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاء إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ [فاطر:28].

وفي نطاق المادة هذه الإفادة مما سخر الله تعالى للإنسان من مذخور الكنوز ومكنون الخيرات، وتوجيهها نحو كل خير للإنسان، وسائر ما خلق الله من شيء، فلا ازدراء للمادة، ولا كراهة للإنتاج المادي المسخر للمنافع دون المضار، ولا مغالاة أيضاً في قيمة هذا الإنتاج، حتى لا يكون أكبر الهم، ومبلغ العلم، ومنتهى الأمل، وكي لا تكون الغاية وفرة المكاسب، وتضخيم الأرصدة، بل ما ينفع الناس ويمكث في الأرض.

وفي نطاق الحقوق هذا التشريع الحقوقي الفذ المتفرد، الذي جاءت به هذه الشريعة المكرمة، والذي لم يغادر صغيرة ولا كبيرة من حقوق الفرد والمجتمع والأمة، ومن واجبات كل فريق إلا أحصاه وبينه، وأوضح دقائقه، وجلى غوامضه، بعيداً عن الأنظار البشرية القاصرة، المحدودة بحدود الأزمنة والأمكنة، سالماً من علل الأهواء المتبعة وأوضار(2)[2] المصالح الشخصية، وأدران القوميات والعصبيات المفرِّقَة؛ لأنه تشريع رب العالمين، وحكم أحكم الحاكمين.

وفي نطاق الغريزة بإقامة العلاقة بين الرجال والنساء، على قاعدة النكاح لا السفاح واتخاذ الأخدان، وإباحة كل أنواع العلاقات المنحرفة الشاذة، بحراسة من القانون الوضعي، وتحت شعار حماية الحقوق والحريات الشخصية، لأن ميدان الأسرة هو المجال الطاهر الذي يلبى فيه نداء الفطرة، ويروى فيه ظمأ الغريزة، وتُربَّى فيه ثمار تلك الصلة الطاهرة من أجيال الأمة، تربية قويمة سالمة من أدران الانحراف، محفوظة من أوضار الضياع ومسارب البوار، وكل ذلك ـ يا عباد الله ـ مما جاء به هذا الدين، وارتكزت عليه حضارته، هو مما شهد بسموه ورفعته قادة الفكر، ورواد العلم، وكتاب التاريخ، ممن لا يعتنق هذا الدين، ولا ينتسب إليه، في شهادات منشورة، واعترافات مدونة، وأقوال معلومة مشهورة، وليست حضارة المسلمين في طليطلة وإشبيلية وغرناطة وقرطبة وغيرها من بلاد الأندلس إلا وجهاً مضيئاً ولساناً صدوقاً ومثالاً حياً من دنيا الواقع، لم يملك من نظر إليه وعرف أبعاده إلا أن يقر بفضله ويلهج بغَنائه، ولا عجب أن تكون لهذه الحضارة هذه المنزلة، فإنها ثمرة وحي رباني، ونتاج دين إلهي، من لدن حكيم خبير، يعلم من خلق، ويهدي من يشاء إلى سواء الصراط.

أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: صِبْغَةَ اللَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عَابِدونَ [البقرة:138].

نفعني الله وإياكم بهدي كتابه، وبسنة نبيه ، أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم، ولسائر المسلمين من كل ذنب فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.

-------------------------

الخطبة الثانية

إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن نبينا محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم على عبدك ورسولك محمد، وعلى آله وصحبه، والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.

أما بعد:

فيا عباد الله، إن واقع المسلمين اليوم لا يصح أن يكون باعثاً على الحكم على حضارة الإسلام، فإن مجال الحكم لا بد أن يكون على الأصول والثوابت والمبادئ والقيم، والممارسة الواقعية التي آتت أكلها وأينعت ثمارها، حين كان المسلمون يغذون السير، ويحثون الخطى، ويتبعون الهدى، ويعملون بنهج خير الورى صلوات الله وسلامه عليه، أما ذلكم التقهقر والتراجع والتخلف والهوان الذي مُني به المسلمون عقب تلك العصور الخوالي، فهذا مما لا يرتاب أولو الأبصار في أن تبعته لا تقع على الإسلام وحضارته، وإنما جريرة ذلك على من فرط وأضاع، واستبدل الذي هو أدنى بالذي هو خير، وأعرض عن ذِكر ربه فكانت معيشته ضنكاً، وكان أمره فرطاً، وَلاَ يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا [الكهف:49].

ألا فاتقوا الله ـ عباد الله ـ، وصلوا وسلموا على الحبيب رسول الله ...

__________

(1) أي صارت ليثية النزعة.

(2) جمع وضر وهو وسخ الدسم أو غسالة السقاء.

===============

#سراييفو .. حضارة أخيرة!؟

د .سعد عطية الغامدي

لك الله يا أخت أشبيلية وتوأم كاديز والمرسيه

حضارتنا.. شادها الأولون وأرسوا مناراتها.. عالية

وضيعها صبية مترفون تديرهم الكأس والجارية

فعادت مساجدها بيعاً وآثارها.. دمناً خاوية

لك الله يا وهجاً في الصدور ريا كوكباً في سما بوسنية

تعانين وحدك - يا ويحنا وتلقين أسرابهم عارية

وتستنجدين صباح مساء وآذاننا - وقرت - واعية

ونبصر قصفهمُ جائراً يذيبك.. ناحية .. ناحية

يجرعك الصرب سوء العذاب وتستعر البطشة الطاغية

تساق العجوز إلى حتفها وتغتصب الحرة الزاكية

ويسقى الرضيع دماء الأسى ويطعم من جثة ذاوية

وتسمعى يد للجريح القتيل لتذبحه ذبحة الماشية

خذلناك.. إذ يثب الآخرون لأشياعهم.. وثبة ماضية

وخضنا على رسلنا في اجتماع ومؤتمر أمه هاوية

وقلنا : لينصرهم مجلس الـ أمن في هيئة الأمم البالية

وننسى بأنهمُ يرقصو ن على لهب الهجمة الضارية

لك الله.. يا لهباً عارماً ويا صخرة لم تزل عاتية

نسوق إليك وعتوداً عرا ضاً وبالوهم نلبسك العافية

ونختال تيهاً بتلك الوعو د كما جرجرت ذيلها غانية

بأنّا.. وأنّا.. ولم ندر أنّا أضعناك في ليلة شاتية

وقد نذرف الدمع للزائرين إذا أزهقت روحك الغالية

============

#أي حضارة نريد؟!

بدر مرزوق العتيبي

بنظرة فاحصة في واقع المسلمين اليوم يتبين لك مدى التخلف الذي وصلوا إليه في جانب الدين والعقيدة. وأقصد بالتخلف: التخلف في الواقع.. لا في أساس الدين ـ معاذ الله ـ بل إن الدين الإسلامي هو الدين الحق الوحيد منذ طلوع شمسه، ولا يمكن لحضارة إنسانية أن تسير في النهج الصحيح لها بدونه، مهما ارتقت في الجانب المادي؛ فإن العاقبة معروفة، وسنة الله معلومة.

إن واقع المسلمين اليوم يشكل تخلفاً في فهم بدهيات الدين. نعم في بدهيات الدين فضلاً عن فروعه.. فهناك تخلف في فهم معنى حاكمية الإسلام.. وفي معنى الولاء والبراء.. وفي معنى يُسر الشريعة.. حتى وصل التخلف إلى مفهوم شهادة أن لا إله إلا الله.. نعم حتى الشهادة لم يَعِ معناها الحق كثير من المسلمين وإن كانوا يتلفظون بها في اليوم مرات عديدة..

بل لقد بلغ التخلف في فهم هذا الدين إلى أقصى درجاته في معرفة الرب ـ جل وعلا ـ حيث يوجد في ديار الإسلام من ينكر وجوده، ومن يدعي شريكاً له ـ تعالى الله عما يقولون علواً كبيراً ـ.

إذن: أي حضارة نطالب بها؟

إننا لا نريد حضارة جوفاء كحضارة الغرب الكافر اليوم.. لا بد أن يكون سعينا للتقدم والرقي الحضاري من أساسه لا من مظاهره؛ حتى لا تكون حضارتنا جوفاء..

إن الحضارة تقوم على الإنسان أولاً قبل أن تقوم على إنجازاته.

فلا بد أن يكون الإنسان في نفسه راقياً متحضراً قبل أن تكون منجزاته كذلك.. ورقيه يكون بتحقيق الغاية التي من أجلها خُلق..

فعلى رِسْلكم يا دعاة الحضارة والتقدم على رِسْلكم.. المضمون أولاً ثم الأثر: الإسلام الصحيح، ثم الاستخلاف في الأرض..

والله من وراء القصد

==============

#حضارة الإسلام دعامة أساسية في الحضارة الأوربية

لفضيلة الشيخ محمد أحمد أبو النصر

إن الحضارة الإنسانية ليست إلا محصلة الجهد البشري في كل معارف الحياة من الفلسفة.. والقانون.. والتشريع.. ونظام المجتمع.. وأخلاقه وسلوكه.. وقيمه.

وبهذا يعتبر الإسلام دين حضارة ومصدراً أساسياً في حضارة العالم فقد أدى رسالته العالمية ومازال يؤدي وسيظل مصدر إشعاع نوراني على كوكبنا الأرضي لتوجيه البشرية في مجالات الإنتاج المختلفة.. إنتاجاً مشعاً صافياً.. بل إن كل ما ينعم به إنسان اليوم في سلم الحضارة مادية وآلية تعود إلى فكر الإنسان المسلم منذ العصور الوسيطة وإلى تجاربه وعلومه وتوجيهها نحو خدمة الإنسان وحضارته في معراج الكمال الإنساني المنشود.

وإذن فهناك رابط أصيل بين الحضارة المادية والحضارة الصناعية من جهة والحضارة الإنسانية والبشرية في الفكر والوجدان والإرادة من جانب آخر.. وإذا كان الدين منبعاً للحضارة البشرية والعلم أساس الحضارة المادية، فالدين والعلم متلازمان، ولا غنى عنهما للإنسان في بناء حضارته والاستفادة من هذا النبع. وهناك نظرة غير عادلة تفصل العلم عن الدين، وتعطي العلم قيمة أرفع من الدين وهذا خطأ واضح في فهم طبيعة الإنسان وتصوره.

فهي تنظر إلى جانب مضيء بالعين المجردة دون بقية الجوانب الأخرى الخفية من حيث فكره ووجدانه.. وإرادته الحرة، وإذ قيل في شأن الإسلام بعد ذلك أنه دين غير حضاري أو أنه لا يتفق مع الحضارة الإنسانية _ فذلك قول يصور الحضارة بأنها ظواهر السلوك التي تسيطر على المجتمعات الأوربية الآن _ أو يصور الإسلام على أنه حاضر المسلمين وسلوكهم في فترات زمنية.. وهذا التصور أو ذاك يحمل معنى الإجحاف والتعسف بمعنى الحضارة، وينطوي على ظلم شديد في الحكم على الإسلام. لأن ظواهر السلوك في المجتمعات الأوربية ليست دائما ترجمة للحضارة الإنسانية بمعناها الصحيح.. وهو النضوج في الفكر البشري والعواطف والوجدان.. وسلوك المنتسبين إلى الإسلام كثيراً ما يبتعد عن تطبيق التعاليم الإسلامية، وجوهر الدين الحنيف.

وأصحاب الهوى والغرض الذين يحكمون على الإسلام أنه كان لفترة مضت ولم يعد صالحا للإسهام في بنائها أو تنميتها. لا ينصفون الإسلام. وأني لهم النَّصفة؟!.. لا ينصفون الإسلام لأنه كما رأينا مصدر رئيسي في بناء الحضارة الإنسانية وغرضهم واضح كل الوضوح في العمل على إبعاد العرب عن أمجادهم وتاريخهم الأصيل، وقطع صلتهم بالقيم الروحية وبالرسالة التي حملوها ونشروا نورها بين البشرية وأسسوا بها حضارة عربية إسلامية أسهمت، ومازالت تسهم حتى عصرنا هذا في بناء الأمم والحضارات المعاصرة. حتى إذا ما تأثر العرب المعاصرون بهذا الرأي سهلت قيادتهم لغيرهم، وتحولوا إلى تابعين ومقلدين في الفكر والتوجيه ومظاهر الإنسانية.

إن الحضارة الإسلامية والسلوك الإسلامي لم يكونا من صنع أحد من البشر، وإنما هما وحي الله الذي تنزل على سيد البشر محمد _ صلى الله عليه وسلم _ وأصبح يملأ أرجاء الدنيا نورا وعلما وسلوكا، وسوف يظل يشع نوره باقيا ما بقي الإنسان.

إننا نؤمن إيمانا لا يتطرق إليه الشك أن الشعوب الحية إنما تفكر بماضيها، وترتكز في حاضرها على كثير من مقومات أمجاده تستوحي منه مواقفها، وتستلهم منه مستقبلها فإن هي فقدت الثقة في ماضيها وتزعزع إيمانها بقدرة آبائها الأوائل ومؤسسي مجدها فقدت ولا شك أول مقوم من مقومات وجودها الحي ألا وهو شخصيتها.

وإن أي أمة تفقد شخصيتها أمة ضائعة منهزمة لا محالة.

وإن الهدف الأسمى لكل داع أن يوقظ في نفوس أبناء الجيل الجديد تلك الروح الجبارة التي دفعت الآباء والأجداد إلى الأخذ بكل أسباب القوة والعزة..

إن الشعوب لا تموت، وإنما تكمن قدراتها وتستكين تحت الظروف التي تمر بها. فإن هي عادت إلى مثل الظروف الأولى التي انطلقت منها قدراتها الحقيقية هبَّت من رقادها وسلكت ولا شك سبيل الحق والعزة والقوة مرة أخرى.

إن الهدف الأول من بحوث الباحثين وآراء المصلحين في كل موقع إسلامي.. هو العمل من أجل تغيير واقع الفكر المضلل الذي أوجده الاستشراق في حنايا هوة الفراغ الفكري وداخل أدمغة شبابنا ومفكرينا ومن بيدهم مقاليد أمورنا. وساعدهم على ذلك هذا العدو المتدثر بدثار الإعلام الساحر بكلمته المؤثرة وصورته الداعرة ونبض شعوره السام.

ولا أعتقد أننا بمستطيعين تغيير هذا الواقع الذي نعيشه اليوم إلى واقع أنضر وأشرق.. إلا إذا غيرنا تغييراً جذريا تلك المفاهيم المدمرة التي أرساها في نفوسنا ذلك النفر من الضالين والمضللين من أبناء الاستشراق أو الاستغراب أو الذين نقلوا مفاهيمهم وأفكاره بحسن نية أو سوء نية.

ولا سبيل أمامنا _نحن أبناء هذا الدين السماوي_ إزاء كل هذه القوى الجبارة العاتية التي تحاربنا من الخارج ومن الداخل إلا أن نعمل جاهدين على إحياء تلك القوة الكامنة في نفوسنا.. قوة الماضي بكل عناصرها.

فإن بين أيدينا المنهج الكامل، والدستور القائم أبد الدهر، وإن أي خروج عليه أو انحراف عنه، يفسد علينا حياتنا {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ} الأنعام: 153.

ولا يخطرن في البال، أن المنهج الرباني الذي رسمه الله لنا، قد ألزمنا أن نكون آلات صماء، أو دمى تحركها الخيوط بحيث تلغى العقول والأفهام، فإن أمراً كهذا لا يكون من تدبير رب العالمين، الذي منح الإنسان عقلا ودعاه إلى النظر به في ملكوت السماوات والأرض، وجعل لهذا العقل مكانه وسلطانه في كيان الإنسان. يتعرف به الهدى من الضلال، ويميز به الطيب من الخبيث، والخير من الشر، والنور من الظلام.

ولقد رفع الإسلام من شأن العقل، ولفت ذوي العقول إلى عقولهم، ودعاهم إلى الانفتاح على موارد العلم والمعرفة.

وما حرم الإسلام ((الخمر)) إلا لأنها عدو راصد للعقل يغتاله، ويفسده، فلا يتمكن من التمييز بين خير وشر.. وهذا ما يشير إليه ربُّنا {إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنْصَابُ وَالأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ}.. إنه لا فلاح أبداً لمن ضل عنه عقله، وغاب عنه وعيه.

العقل إذن هو عين الإنسان المفتوحة على هذا الوجود يتعرف بها إلى حقائق الكون، وسر الوجود، وعظمة الخالق، ويتهدَّي بها إلى الله، ويتعامل بها مع شرعة الوجود..

فهل بعد هذا يقال إن الإسلام الذي جعله الله تعالى جامعة رسالاته، والمصاحب للإنسانية على مدى الأزمان _ هل يعقل أن يخلي مكان العقل من هذا الدين؟ وكيف يكون حجة الله على الناس، إن لم تكن بين أيديهم الشواهد الشاهدة على أن هذا الدين هو دين الله، وأن هذا الكتاب هو كتاب الله، وأن الرسول الذي جاءهم به هو رسول الله؟ إنه لا سبيل إلى شيء من هذا إلا بالعقل السليم. القائم على النظر والاستدلال.

فمن زايله عقله، أو فارقه وعيه، فلا سبيل له إلى الإسلام والله يقول: {كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الأَلْبَابِ} وبأي وسيلة يكون تدبر آيات الله إن لم يكن العقل حاضرا أو قائما في كيان الإنسان؟!

يقول الإمام الغزالي: (اعلم أن العقل لا يهتدي إلا بالشرع، والشرع لم يتبين إلا بالعقل.. فالعقل كالأس والشرع كالبناء، ولن يغني أس ما لم يكن بناء، ولن يثبت بناء ما لم يكن أس؟ وأيضا، فالعقل كالبصر والشرع كالشعاع، ولن يغني البصر ما لم يكن شعاع من خارج، ولن يغنى الشعاع، ما لم يكن بصر، ولهذا قال الله تعالى: {قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ}.

وليس من سبب جعلنا نتخلف عن هذا الركب الحضاري، ونتقاعس عن دفع تلك العجلة غير عوامل خارجية ألمت بعالمنا العربي، فأخمدت فينا شعلة المدنية، وأول هذه العوامل والأسباب ظلم أصابنا وبطش ألم بنا، وعنف أذل رقابنا في عهود خلت، ثم دعايات عبقرية مغرضة، وأدب وصحافة انحرفا في كثير من الحيان عن سواء السبيل، وعجزا عن تكوين رأي عام موحد قوي يستطيع مواجهة القوى المعادية في قالب من الوحدة الفكرية الصامدة.

ومن هنا تقاعسنا واهزمنا خلقيا ونفسيا، وأظلمت في نفوسنا منابع الحب والعدل والحق والحرية، وطغى على وجه هذا المجتمع الباسل العظيم روح الانهزامية والضعف والاستكانة وإذن ينبغي لنا أولاً: أن نتخلص نهائيا من جميع الأوهام والأضاليل والأكاذيب التي أشاعتها أوربا عنا وعن حضارتنا كذبا وبهتانا، ورددها للأسف جماعة من مفكرينا، سواء المأجور منهم أو الشعوبي أو الذين شرقوا وغربوا؟! فبلبلت الأفكار، ومزقت الأقطار.

وإنني إذ أمسك القلم، وأسجل خواطري.. لأشعر من أعماقي بهوة الكارثة التي ألمت بعالمنا الإسلامي نتيجة الحملة المسعورة التي قامت بها الصليبية من قلب أوربا على العالم الإسلامي.

لقد اهتزت شخصية المسلم بسبب ذلك اهتزاز من الأعماق.. وإن أي أمة تهتز شخصيتها وتفقد الثقة في نفسها، أمة ضائعة منهزمة لا محالة.. إن أملنا في الجيل الجديد أمل بلا حدود.. وإن تفاؤلنا بما يمكن أن تحققه الأجيال العربية الإسلامية القادمة تفاؤل نبنيه على مقدمات تاريخية ثابتة الأصول.. سوف تنتصر الأجيال القادمة بعون الله إذا آمن أبناؤها بقدرتهم على التفوق والاستعلاء وعملوا على إحياء ما يمكن في نفوسهم من حب للخير والعدل والحكمة، وجهدوا لتحقيق ما تنطوي عليه عقولهم من قدرة على الإبداع والتجديد.

إن المسلمين قاموا في الماضي بدور من أمجد أدوار التاريخ الإنساني.. وإنهم لأهل لأن يقوموا بمثله مرة أخرى. والخلاصة أن العلماء العرب في عصور الإسلام الزاهية، قاموا بدورهم الطليعي خير قيام في بناء النهضة العلمية العالمية، فقد نقلوا التراث الإغريقي وغيره من ألوان التراث العلمي الذي تقدم عليهم في التاريخ.. نقلوه إلى اللغة العربية التي كانت لغة العلم في العصور الوسيطة فعلى امتداد الدولة العربية الإسلامية من مشارف الصين شرقا إلى حدود فرنسا وجنوب إيطاليا غربا.. كان كل من أراد أن يكتب علما يقرؤه الناس لجأ إلى لغة القرآن الكريم، فكتب وألف بها، وظلت كتبهم في العلوم الطبيعية المراجع المعتمدة في جامعات أوربا حتى أواخر القرن السابع عشر حيث ترجمت إلى اللغات اللاتينية وما إن عرفت الطباعة في منتصف القرن الخامس عشر، حتى طبعت هذه الكتب عدة مرات، وشهد كثيرون من مؤرخي العلم من أمثال سارتون، وهولمبارد، وسميث، وكاجوري. وغيرهم بأنه لو لا تراث العلماء العرب، لاضطر علماء النهضة الأوربية إلى أن يبدءوا من حيث بدأ هؤلاء. ولتأخر سير المدنية عدة قرون. وقال بعضهم إنه كان لابد من وجود ابن الهيثم والخازن والكندي وابن سيناء والفارابي والبيروني والخوارزمي، لكي يظهر جاليليو وكيلر ونيوتن وكوبر نيق.

ويدلنا تتبع الفكر العلمي على مر العصور.. كيف أثر العلماء العرب في النهضة الأوربية. وكيف تأثر علماء أوربا بأعمال العلماء العرب فقد ثبت مثلا أثر العرب في ابتكار نظام الترقيم والصفر والنظام العشري. وكيف عرف ابن النفيس الدورة الدموية الصغرى قبل هارفي بثلاثة قرون.

وكيف قال الأدريسي وابن حزم والخازن بالجاذبية قبل نيوتن بقرون متطاولة.. بل كيف ربط الخازن بين الثقل والسرعة والمسافة مما جعل كثيراً من المحققين يقولون إن صاحب كتاب "ميزان الحكمة"أي الخازن كان يعرف هذه العلاقة التي وضعها نيوتن على هيئة قوانين ومعادلات. وكيف أجرى ابن الهيثم من التجارب لقياس سرعة الضوء، وتقدير زوايا الانعكاس والانكسار وبحوثه في البصريات.

وكيف قاس فلكيو العرب أبعاد الأجرام السماوية وكيف ابتكروا الألآت الفلكية.

وعرفنا أن ابن ماجد الملاح العربي. كان ربان سفينة.. فاسكودي جاما. في رحلاته الاستكشافية في أعالي البحار. وأن جابر ابن حيان هو أول من أسس علم الكيمياء على دعائم قوية وخلصه من التشويه والاضطراب فنقله من صورته المشوبه بالشعوذة والسحر، إلى علم له قواعده وتجاربه وأصوله. حتى قال عنه ((سارتون)) بحق.. إن علماء العصر الحالي لم يقدروا أن هذه أعمال رجل عاش في القرن الثاني للهجرة.. لوفرة ما بها من مادة علمية صحيحة، وشهد له بذلك ((هولمبارد)) العالم الكيميائي المعاصر.

ويدلنا هذا العرض لتطور الفكر العلمي على أن العرب كانوا بحق واسطة العقد. تأثروا بعلماء العصر الإغريقي، وعلماء العصر الإسكندري ولكنهم أثروا بدورهم في علماء النهضة الأوربية.

================

#القدس بين حضارة التدمير وحضارة التعمير

أ.د/

جابر قميحة

komeha@menanet.net

ليس هناك أبلغ من الخطباء والشعراء إلا «التاريخ» لأن كلمة الشاعر والخطيب تختلف قيمة ومصداقية - باختلاف اللغات, واختلاف الفكر والثقافة والمشاعر عند المبدع والمتلقي. أما كلمة التاريخ فواحدة, وواقعية, وحاسمة» لأنها تقدم الدليل الثابت, والبرهان الذي لا ستطيع منصف أن ينكره. وهذه هي بلاغة الحال التي تتفوق علي بلاغة المقال.وتأسيسًا علي هذا الحكم نقول: إن حضارة الغرب حضارة عدوانية وحشية, نفعية, تقيم بناءها ومصالحها علي حساب استنزاف الأمم, وتخريب الدول, وتدمير الشعوب: أوطانًا, وعقائد, وأفكارًا, وثقافات.

حضارة إنسانية أصيلة

وعلي النقيض عاشت الحضارة الإسلامية.. حضارة إنسانية تؤدي رسالة البناء والتعمير والتنوير.. وهذا الحكم علي الحضارتين لا تعصب فيه, ولا انحياز, ولا إسراف, ولا شطط أنه حكم التاريخ ببلاغة واقعية حاسمة فائقة.. لا تعرف التزييف والتزوير.

وما بالك بدين يجعل من أساسيات «دستور الحرب» الانتصار للقيم الإنسانية, والتحلي بأخلاق الفروسية» في صورتها المثلي, فيحرم علي الجندي المسلم المقاتل: أن يخون, أو يغدر, أو يغل (ينهب), أو يمثل بالجثث, أو يقتل الأطفال والنساء والشيوخ, أو الرهبان المنقطعين للعبادة, أو البهائم والحيوانات, ويحرم عليه التخريب بقطع النخل والشجر, وحرق البيوت والمنازل والمحلات, وعليه أن يطيع الله في السر والعلن. والسراء والضراء.

إنها توجيهات النبي صلي الله عليه وسلم وخلفائه للقادة والجيوش المسيرة لقتال أعداء الإسلام والأمة. وقد أخذ المسلمون أنفسهم بها في حروبهم, وفتوحاتهم, وتعاملهم مع الآخرين. بينما عاش الغرب علي العدوان الذي لم يتوقف علي مدار التاريخ مذابح وحشية00ونهب00وتخريب والأمثلة الدالة علي صدق هذا الحكم أكثر من أن تحصي, ونكتفي منها بمثال واحد في هذا المقام. وهو ما ارتكبه الصليبيون من جرائم عندما سقطت القدس في أيديهم في أواخر شعبان من سنة 492هـ. يقول ابن الأثير في كتابه «الكامل»: «... وركب الناس السيف, ولبث الفرنج في البلدة أسبوعًا, يقتلون فيه المسلمين, وقتلوا في المسجد الأقصى ما يزيد علي سبعين ألفًا, منهم جماعة كثيرة من أئمة المسلمين وعلمائهم وعبّادهم, وزهَّادهم ممن فارق الأوطان, وجاور بذلك الموضع الشريف.. وأخذوا من عند الصخرة نيًّفا وأربعين قنديلاً من الفضة, وزن كل قنديل ثلاثة آلاف وستمائة درهم, وأخذوا تنورًا من فضة وزنه أربعون رطلا بالشامي, وأخذوا من القناديل الصغار مائة وخمسين قنديلاً, ومن الذهب نيّفا وعشرين قنديلاً, وغنموا منه ما لا يقع عليه الإحصاء...".

ومن أغرب ما ذكره ابن الأثير أن القسيسين من الصليبيين أخذوا يقتطعون قطعًا من صخرة الأقصى «ويبيعونها للفرنج الواردين إليهم من داخل البحر للزيارة, يشترون بوزنها ذهبًا رجاء بركتها, وكان أحدهم إذا دخل بلاده باليسير منها بني له كنيسة, ويجعل في مذبحها... " فما قام به الصيبيون يمثل عدوانًا وحشيًا دمويًا سافرًا, ولم يكن حرب مواجهة بين جيشين, لقد قتلوا سبعين ألف مسلم داخل المسجد منهم خيرة الأئمة والعلماء, وغرباء جاءوا من بلادهم لتلقي العلم والبركة, ونهبوا محتويات المسجد ودور العبادة والمدارس, وأموال الناس, واقتطعوا مساحات واسعة من حرم الأقصى, وبنوا فيها مساكن ومخازن وراحات.

الفتح العظيم

وبعد هذه المأساة بواحد وتسعين عامًا هزم صلاح الدين الأيوبي جيوش الصليبيين في حطين هزيمة نكراء, وفرّ عشرات الآلاف منهم إلي القدس حتي اجتمع منهم داخل أسوارها قرابة ستين ألفًا, وعقدو لواء القيادة لفارسهم «باليان ده إيبالين», وهو من الذين فروا من حطين, وأمده البطريرك الصليبي في القدس بما تحتاجه الحرب, وبما يرضيه ويثريه, حتي لقد جمع له سبائك الذهب والفضة, وزينة الكنائس, ولم يستثن من ذلك ما زينت به الكنائس من ذهب وفضة, وجواهر.

وفي سنة 583هـ - بعد انتصاره المبين في حطين - زحف صلاح الدين إلي بيت المقدس, وحاصرها, ونصب «المجانيق» (قاذفات الصخور) خارجها.. وبدأ النقّابون ينقبون أسوارها (أي يفتحون ثغرات في الأسوار بالمعاول), فعلا صراخ الرجال وبكاء النساء والأطفال من الصليبيين داخل المدينة, وألقي كثير من الرجال السلاح خوفًا ورهبة. فاتفق رأيهم علي طلب الأمان من صلاح الدين, وتسليم بيت المقدس, واستشار صلاح الدين أصحابه, فأجمعوا علي إجابتهم للأمان, وعقدت اتفاقية تسليم المدينة يوم الجمعة 27 من رجب 583هـ. إنسانية الفاتحين000

وظهرت إنسانية صلاح الدين في التعامل مع الصليبيين في مظاهر وسلوكيات متعددة من أهمها:

-1- أعطي صلاح الدين للصليبيين مهلة طويلة للخروج من بيت المقدس مدتها أربعون يومًا, ولهم الحق أن يحملوا معهم ما يشاءون من أموالهم وأملاكهم (عدا السلاح والخيل). وسمح لهم أن يبيعوا ما لا يمكنهم حمله من أمتعتهم, وذخائرهم, وأموالهم, وعقاراتهم.

-2- علي كل صليبي يغادر بيت المقدس أن يدفع مبلغًا زهيدًا قدره عشرة دنانير للرجل, وخمسة للمرأة, وديناران للطفل.

-3- أمّن نساء ملوك الفرنجة وأمراءهم, وسمح لهن بالخروج, ومعهن من الخدم والحشم, والعبيد, والجواري, والأموال, والجواهر النفيسة الكثير.. والكثير.

-4- أطلق ملكة القدس , ومعها خدمها, وحشمها, وأموالها, وكان زوجها يحكم نيابة عنها, وأسره صلاح الدين , وحبسه بقلعة نابلس , فاستأذنت صلاح الدين في المسير إلي زوجها هناك, فأذن لها , وأقامت عنده.

-5- كان صلاح الدين قد قتل «أرناط» (رينو دي شاتيون) بيده بعد أسره, لأنه خان الميثاق الذي عقده معه, وقام بقتل أسري المسلمين, وهدد بالزحف إلي مدينة الرسول صلي الله عليه وسلم, ونبش قبره. فأتته زوجته, فشفعت في ولد لها مأسور, فوافق صلاح الدين علي إطلاقه, بشرط أن يسلم له الصليبيون قلعة «الكرك», فسارت إلي الكرك , ومعها أموالها, وعبيدها, وحشمها. ولكن الفرنجة رفضوا طلبها.

- 6- سمح صلاح الدين بخروج البطرك الأكبر, ومعه من الأموال والمتاع ما يصعب وصفه وإحصاؤه. وأشار عليه بعض قواده أن يأخذ ما معه ليقوًّي به المسلمين, فرفض, وقال «لا أغدر به أبدا». ولم يأخذ منه إلا عشرة دنانير, كأي واحد من عامة الصليبيين.

-7- وخوفًا من قُطّاع الطرق علي سلامة المغادرين, أرسل صلاح الدين معهم قوة من جيش المسلمين تحميهم إلي أن يصلوا إلي مدينة صور. وللأسف خانوا وغدروا, وانضموا إلي قوات الصليبيين بها, وقاتلوا معهم جيش صلاح الذي حاصر المدينة بعد ذلك وعجز عن إسقاطها.

-8- أما النصاري من أهل القدس فسمح لهم صلاح الدين بالبقاء في المدينة, ودفع الجزية.

التطهير00والتعمير

وبعد هذا الخروج الكبير باشر صلاح الدين بنفسه إعادة المدينة المقدسة إلي طهرها, ونقائها, وعمارها, فأمر - كما يقول ابن الأثير - «بتطهير المسجد والصخرة من الأقذار والأنجاس» وأزال المساكن والمخازن والمداحات التي بناها الفرنجة غربي الأقصي, وعلي مساحات من حرمه. ولما كان الجمعة الأخرى (4 من شعبان 583) صلي فيه المسلمون الجمعة, ومعهم صلاح الدين, وصلي في قبة الصخرة.. ثم رتب فيه خطيبًا وإمامًا برسم الصلوات الخمس, وأمر بإحضار المنبر الذي كان نور الدين محمود قد أمر بصنعه من عشرين عامًا للمسجد, ومات دون أن يتحقق أمله في نقله إليه. وأمر ببذل أقصي الجهود في ترصيف المسجد, وتحسينه, وتجميله وعمارته, واستخدم في ذلك الرخام الفاخر, وأظهر الصخرة (وكان الفرنجة قد غطوها بالرخام) , وأزال من فوقها الصليب الذهبي الضخم, ووضع هلالا هائلا مكانه. وأقام ببيت المقدس إلي الخامس والعشرين من شعبان , يرتب أمور البلد وأحواله, وأمر ببناء الرّبط والمدارس قبل أن يغادر البلدة المقدسة لمواصلة الجهاد, وتحرير بقية المدن والقري التي احتلها الصليبيون من عشرات السنين.إنها كلمة التاريخ00

هذه كانت كلمة التاريخ وبيانه البليغ الواقعي الحاسم لأنه لا يشوبه التزوير والتزييف. وليرجع القارئ إلي صورة القدس تحت وطأة العدوان الصليبي, وصورة القدس بعد أن استعادها المسلمون ليتبين الفوارق الهائلة بين حضارة قامت على التخريب والتدمير, وحضارة عاشت للتعمير والتنوير

==============

#حضارة العرب في صقلية وأثرها في النهضة الأوروبية

د. عبد الجليل شلبي

ترجع صلة العرب بصقلية إلى عهد معاوية بن أبي سفيان، فقد أرسل إليها سميّه معاوية بن خديج الكندي، فكان أول عربي غزاها، ثم لم تزل تغزى حتى فتحها الأغالبة، وكان معاوية بن أبي سفيان، كما قال البلاذري، يغزو براً وبحراً، وهو أول من أسس أسطولاً إسلامياً، ووجه إلى صقلية أيضاً عبد الله بن قيس بن مخلد الدزقي فأصاب منها أصنام ذهب وفضة مكللة بالجواهر، ووجه بها معاوية إلى البصرة ثم إلى الهند لتباع هناك، وأغزى جنادة بن أمية الأزدي أيضاً جزيرة رودس ففتحها، وأقام المسلون بها سبع سنين في حصن اتخذوه لهم. وقد استرد يزيد بن معاوية جيش المسلمين وعادت الجزيرة الكبرى صقلية وما حولها إلى الحكومة البيزنطية. وكان من حسنات معاوية أنه أقام في الجزر التي فتحها جاليات إسلامية، وبنى فيها مساجد، وترك مقرئين يعلمون ويقرئون القرآن، هذا مع أن فتوحه كانت جزئية.

وتوقفت غزوات المسلمين البحرية بعد معاوية، وشغلت الدولة بحروب داخلية مدة كبيرة، ولما هدأت الأحوال بها لم يكن غزوها البحري نشيطاً، وكانت نهاية موسى بن نصير نهاية له وللإسلام وللدولة الإسلامية، ولكن البحريين من المسلمين في الشرق وفي إسبانيا ناوشوا جزر البحر الأبيض وشواطئ أوروبا، ولم تأت أعمالهم بفتوح ذات قيمة تاريخية ولكنهم لفتوا أنظار هذه البلاد إلى قوة العرب..

فتح صقلية..

كان قد مضى على صقلية ثلاث قرون وهي تحت حكم الدولة البيزنطية، وكانت سنين عجافاً سادها الفقر الفكري، وترتب على سيادة الجهل وجمود الأذهان: تفرق بين السكان، فكان كبار الملاك والتجار يتبادلون المكايد وينشطون في دس الدسائس وبث أسباب العداء، وكان من بين هؤلاء الكبار في المال والصغار في النفس رجل يدى إيو فيموس (Euphemius) وكان مغيظاً من حاكم الجزيرة، فرأى الانتقام منه أن يستعين بالأمير الأغلبي الثالث، وهو زيادة الله، في غزو الجزيرة والقضاء على الحكم البيزنطي كله. وتردد الأمير الأغلبي في بادئ الأمر في غزو بلد مهادن له، وكان على رأسه القاضيان المسنان: ابن الفرات وأبو محرز. وكان ابن الفرات متحمساً لهذا الغزو مستدلاً بالآية القرآنية: »فلا تهِنوا وتدعوا إلى السلم وأنتم الأعلونَ والله معكم ولن يتركم أعمالكم«. وكان ابن الفرات فقيهاً مالكياً طالت رحلته وتنقلاته في الشرق، وتلقىالفقه المالكي والحنفي، وجعل من مدونتي مالك وابن القاسم وآرائه الخاصة مدونة فقهية باسمه، وكان أيضاً محارباً شجاعاً، ورأى زيادة الله أن يجعله على رأس هذه الحملة، ويظهر أن إخلاصه في الجهاد أضفى على الجيش كله روح التضحية وحب الاستشهاد. ووصل الجمع إلى ميناء مزارا التي في جنوب الجزيرة، فألقى ابن الفرات فيهم خطبة لم تشر إلى شيء من الحرب والغنائم كما فعل طارق بن زياد عندما نزل جيشه بأرض الأندلس[1]، بل حثهم فقط على التقوى وتحصيل العلوم.

استهل خطبته بالشهادة، وأقسم لجيشه أنه ما كان من آبائه من ولي جيشاً، ثم قال: »فأجهدوا أنفسكم، وأتعبوا أبدانكم في طلب العلم وتدوينه، وكاثروا عليه واصبروا على شدته، فإنكم تنالون به خيري الدنيا والآخرة..« والخطبة بوجه عام توحي بالزهد، وتؤذن بأن الدنيا تخضع لذوي العلم والدين.

لم يكن فتح هذه الجزيرة هيناً ولا سريعاً، مع أن الحملة كان بها سبعون سفينة عليها عشرة آلاف مقاتل، وسبعمائة فرس، ولكنها اعتمدت على الحصار، وشقت طريقها إلى باليرمو Palermo، فاتخذها عاصمة، وهي في مستعمرة فينيقية، فجعلوها قاعدة حربية توجه منها الحملات، وأخذت الجزيرة تسقط تدريجياً في أيديهم، ولم يتم فتحها نهائياً إلا في العهد الفاطمي.

صقلية بعد الفتح..

صارت صقلية بعد فتحها إمارة أغلبية، يتولى أمرها والٍ من قبلهم، وكان الأغالبة في نزاع ومناوشات مستمرة مع الدولة الفاطمية[2] التي نشأت بالمغرب، وتريد الزحف نحو الشرق، وكان هناك أقوى بين المذهبين السني والشيعي، وكان ذلك ينعكس على جزيرة صقلية، وكان بين سكانها نزاع بين العرب والبربر من قبل.

ونوجر القول فنقول: إن الفاطميين تغلبوا على بني الأغلب في إفريقية، وحلوا محلهم في متسهل القرن الحادي عشر الميلادي، ثم انتزعوا منهم صقلية، وهي على انقسامها وتفرقها، فاضطروا إلى إعمال الشدة، فشهدت الجزيرة أياماً قاسية سوداً، حتى عين الخيلفة المنصور الفاطمي الحسنَ بن علي بن أبي الحسن والياً عليها، فبدأ عهداً جديداً عرف بعهد الكلبيين، والذي امتد قرناً من الزمان، كانت الدولة فيه كلبية فعلاً وإن لم تنقطع عن الفاطميين، ولم يدم هذا العهد طويلاً، ولسنا بسبيل الأسباب التفصيلية لسقوط الكلبيين، غير أن نهاية عهدهم كانت بداية فوضى واضطراب، وتقسمت الجزيرة الصغيرة إلى دويلات وأشتات قبائل وأحزاب، وعادوا جميعاً بعد الإسلام كفاراً يضرب بعضهم رقاب بعضهم. وكان بين رؤوسهم رجل يدعى ابن الثمنة ففعل فعلة أيو فيميوس وطلب تدخل النورمانديين، فوجدوا الجزيرة فريسة سهلة، فاستولوا عليها وضموها إلى جنوب إيطاليا، وبذا انتهى العهد الإسلامي في هذه الجزيرة بعد قرنين ونصف قرن أو ما يزيد عن ذلك ببضعة عشر عاماً.

وكان موقف المسلمين في صقلية كموقف المسلمين في إسبانيا، إذ ترقبوا نجدة من الدول الإسلامية، وعلى الأخص بني زيري الذين خلفوا الفاطميين على غرب إفريقية، ولكن لم يمد أحد لهم يد المساعدة، فاضطروا إلى التسليم والاستسلام.

أثر الفتح الإسلامي لصقلية

دخل النورمانديون صقلية فأدهشهم ما نقلها المسلمون إليه من رقي وحضارة. لقد بذلوا جهداً في ترقيتها في كل جوانب الحياة حتى بدا الفرق بينها وبين الدول التابعة لبيزنطة بعيداً جداً، شيدوا مبانٍ عظيمة، ونشطوا وسائل التجارة، وعملوا على استصلاح الأراضي وزرعها، وأدخلوا أنواعاً من النباتات ومن الحيوانات لم يكن للأوروبيين بها عهد ولا علم، إلى جانب ذلك كله وجدوا فنوناً راقية وأدباً عالياً، وعديداً من المساجد بها حلقات التعليم، تبدأ بتعليم الكتابة العربية والقرآن الكريم، وتنتهي بدراسات عليا في علوم كثيرة دينية وغير دينية. وهكذا تقدم ورقي في كل شيء. إن الفرق واسع جداً بين ما وجد العرب صقلية عليه بعد خروج البيزنطيين، وبين ما وجدها عليه النورمانديين بعد خروج المسلمين.

كان النورمانديين على حظ من الذكاء، وقد عرفوا به من قبل، لهذا لم يفعلوا بآثار المسلمين ما فعل بها الإسبان. فهناك -وهذا بعد تنصير صقلية بزمن بطويل- أفتى القسس بأن المسلمين رجس وآثارهم نجس لا يطهره إلا إحراقه بالنار، حتى الجدران أفتوا بهدمها وإحراقها، وبهذا تأخرت حضارة إسبانيا ثمانية قرون حقاً، أما هؤلاء فرأوا الإبقاء والمحافظة على حضارة العرب، وحاكوهم واستفادوا من كل ما تركوا إلا الدين الإسلامي، فقد كانت عداوة الإسلام، وعلى الأصح، كانت الصورة التي قرّت في أذهانهم عنه مما يصعب محوه، ولكن حضارة صقلية ظلت في تقدم لمدة طويلة بعد، وظلت مظاهر الحياة العربية بادية عليها، ولو تقبل النورمانديون الإسلام واتخذوه ديناً لكان عهد هذا الازدهار الحضاري أطول زمناً وأبقى.

العهد العربي النورماندي

أطلق على هذا العهد اسم »العهد العربي النورماندي«.. ذلك لأن مظاهر الحياة العربية ظلت بادية على كل شيء فيه حتى على حياة الملوك والحكام، وحتى على كنائس النصارى ومنازلهم، وعلى نسائهم وأطفالهم، واستمر ذلك كله أكثر من قرن ونصف القرن، وحقق ذلك ما قيل من أن المسلمين انتصروا في ميدان العلم والحضارة حين هزموا في ميادين الحرب والأعمال العسكرية.

وقبل أن نوضح جوانب هذا الانتصار، نشعر بسؤال تعجبي يبدوا أمامنا يضطرنا أن نوضح إجابة أولاً:

كيف حقق المسلمون ذلك كله وعهدهم كان مليئاً بالنزاع والخلافات المذهبية والعنصرية؟ وقد حكموا مدة لم تكمل ثلاثة قرون بثلاثة أنواع من الحكومات، أو على وجه الدقة بأربعة، وكانت كل حكوممة تخالف الأخرى وكل واحدة لها أتباع يتعصبون لها ضد الآخرين؟

هناك أمران جديران بملاحظة كل مؤرخ أو باحث في تاريخ صقلية:

أولهما: أن هذه الجزيرة فتحت باسم الدين الإسلامي، وأول وصاة من أول قائد كانت تدعو إلى العلم وتحصيله، وظل حكامها المختلفون المتنازعون يعملون على التوسع في بناء المساجد وتشجيع الدعوة الإسلامية بمعناها الواسع الكبير، فلم يكن ثمة عائق للحركة العلمية واستمرار الآداب والفنون في ازدهارها، ولم يملوا الإقامة في صقلية إلا في الأيام الأخيرة، وقبيل الغزو النورماندي.

والأمر الثاني: أن المسلمين دخلوا هذه الجزيرة وهم في أوج ازدهارهم ورقيهم الحضاري، وكان المشارقة قد ترجموا من علوم الأمم الأخرى، ودرسوا وابتكروا شيئاً كثيراً، فكانت البلاد الأوروبية التي دخلها المسلمون تتلقى ثماراً ناضجة وعلوماً قد آتت أكلها في جوانب الفكر والحضارة، ولم تكن صقلية منقطعة عن الشرق، كما لم تكن إسبانيا منقطعة، بل كانت رحلات الحج وطلب العلم ولقاء العلماء مما يغذي تيارات الثقافة بها، فطل النشاط الثقافي والحضاري بها مستمراً متجدداً.

وقد أعطانا ابن حوقل الذي زار باليرمو في عهد الكلبيين صورة عما شاهده فيها من كثرة المساجد، فقال: »إنها كانت نيفاً وثلائمائة مسجداً، وإنه عد في مساجد السنيين ستة وثلاثين صفاً، في كل صف نحو مائتي شخص، وكان بمدارسها العمومية ثلاثمائة مدرس، كانوا يمتازون بالصلاح والتقوى، ومن أعظم الناس رقياً وحسن مظهر.« كما ذكر: »أنه كان بجوار مسجد الشيخ القفصي -الفقيه المالكي- فرأى على مقدار رمية سهم نحو عشرة مساجد يدركها بصره، وبعضها في مقابلة الآخر لا يفصلها إلا عرض الطريق، وعلم أن القوم لتباهيهم وتفاخرهم كان كل واحد يحب أن يكون له مسجد باسمه، وربما كان أخوان دورهما متلاصقة، ولكل واحد منهما مسجده الخاص به«، وكثرة المساجد استلزمت كثرة الدراسة وسعة التعليم مما جعل بعض الباحثين يؤكد أن صقلية الإسلامية لم يكن فيها شخص أمي لا يقرأ ولا يكتب أو يحفظ حظاً من القرآن، وهذا سر ما نجده من كثرة العلماء وما نقرؤه من أسماء من ينتسبون إلى صقلية..

النورمانديون.. أنصار الثقافة العربية

ورث النورمانديون هذه الحضارة فلم يسعهم إلا الخضوع لها والاقتباس منها، وبرز بين الحكام أنصار الثقافة العربية (روجر الأول) فاتح الجزيرة، وابنه (روجر الثاني)، وسماهما ابن خلدون في تاريخه باسم (روجار)، والملك (فريدريك الثاني ووليم الثاني).

لم يكن روجر الأول مثقفاً ولكن كان ذا تسامح، ورأى أن يستفيد من المسلمين في كل شيء وجده، فكان في جيشه عدد من المسلمين يكون غالبيته، وكان حوله من المسلمين فلاسفة وأطباء، وكان بلاطه بلاط ملك شرقي، وكان كثير من كبار موظفيه مسلمين. وكان روجر الثاني يلبس ملابس المسلمين، ويطرز رداءه بحروف عربية، وكانت هذه ظاهرة شائعة، ولكن خصومه وصفوه بأنه نصف وثني، يعنون نصف مسلم! وجرى حفيده وليم الثاني علىنهج أسلافه، ولكن أسمى ازدهار للحضارة العربية كان أثناء حكم روجر الثاني.

كان الإدريسي، صاحب كتاب »نزهة المشتاق في اختراق الآفاق« يعيش في بلاطه ويحظى برعايته وتشجيعه، وقد سمى كتابه هذا باسم »الروجري«. والإدريسي من مشهوري الجغرافيين والرسامين للخرائط، ولا ينافسه أحد في هذا الميدان خلال العصور الوسطى كلها. وقد صنع لروجر كرة سماوية وخريطة للدنيا على شكل كرة، وكلاهما من الفضة.

وبنى روجر الثاني كنيسة في باليرمو زخرفَ سقفها بنقوش كوفيه. وكانت النساء النصرانيات يلبسن الملابس الإسلامية، وكان الصناع العرب والزراع العرب والملاحون العرب يقومون بكل الأعمال التي تتطلبها حال الدولة، ولم يكن عجيباً بعد هذا أن يفد رواد الدراسة الاستشراقية من أوروبا إلى صقلية، وأن تتبوأ هذه الجزيرة زعامة البحر الأبيض، وكل ذلك بفضل العرب فلاسفة وعلماء وعمالاً.

أما فريدريك الثاني - حفيد روجر الثاني - فكان أبرز وأعجب ملوك صقلية. كان وريث عرش ألمانيا من قبل أمه، ووارث الملك في صقلية من قبل أبيه وعن طريق زواجه من الأميرة إيزابيلا ولية عهد أبيها في ملك بيت المقدس - تلك المملكة التي نشأت أثناء الحروب الصليبية- صار أيضاً ملك بيت المقدس، ثم هو شأن النورمانديين جميعاً إمبراطور لإيطاليا، وكان يسمى إمبراطور الدولة الرومانية المقدسة. وقد شارك في الحروب الصليبية بغية الحكم والسيادة، ولكن اختلاطه بالمسلمين في الشرق جعله يوليهم تقديراً واحتراماً أكثر، وجعلت العادات والمظاهر الشرقية تتأصل فيه وفي دولته.

كان بعد حلمته الصليبية الفاشلة على صلة بخلفاء صلاح الدين، وكان هو والملك الكامل محمد يتبادلات الهدايا، ولم تخل سيرته من غرابة، أهمها: أنه كانت يجمع بين الأعمال الجادة النافعة والأعمال اللاهية التي لا طائل وراءها غير الأبهة والتباهي. كان في بلاطه عدد من الفلاسفة وفدوا من الشرق، وكانوا ذوي لحى طويلة وملابس فضفاضة، وكان الناس يحاكونهم في زيهم وسائر مظاهر حياتهم، وكان في بيته راقصات يهوديات من الشرق، وكان له مجموعة من الحيوانات النادرة ومن الطيور، وكان كلفاً بها حتى إنه يصطحبها في تنقلاته في أوروبا وحين يرحل من صقلية إلى ألمانيا. ولكن هذا اللهو لم يخل من وجهة نظر علمية، فقد أحضر من سورية مدربين للصقور التي لديه، ولكنه قام بتجربة علمية إذ ذاك، وهي تغطيته أعين الصقور بغطاء محكم ليرى مدى اهتدائها بحاسة الشم، وكان يقرأ الفلسفة والرياضة والفلك، ولما صادفته مرة مسائل معضلة فيها ولم يستطع حلها، أرسلها إلى السلطان الكامل الأيوبي طالباً للحل أو معجزاً لعلمائه، ولكن بعض العلماء المصريين حلها حلاً شافياً، وأضيف هذا إلى ما أخذ الغرب عن الشرق. وطلب مرة أخرى علماء مصريين ليجربوا تجارب على بيض النعام كي يمكن تفريخه وفقسه على حرارة الشمس، وترجمت له كتب عربية وفارسية في تدريب الصقور، وأخرج هو نفسه كتاباً عنها، كما ترجمت له كتب أرسطو عن الحيوان والنبات، وشروح ابن سينا عليها. وهكذا كان هذا الملك جاداً في لهوه، ولم يكن يعبث فيما يعمل ولا يجعل عمله لمجرد الإمتاع.

كان عصر هذا الإمبراطور يمثل فجر النهضة الأدبية في إيطاليا، وهي بداية النهضة الأوروبية كلها. وكنا نود من هذا الملك الحصيف بعد ما رأى من ثمار التسامح مع المسلمين ألا يحدث منه اضطهاد ينغصهم وينغص سيرته، ولكنه لم يستطع التخلص من التيارات التي كانت تعاصره، ولا من سيطرة الروح الصليبية عليه.

الخلاصة

ومهما يكن من أمر صقلية فإنها أسهمت بحظ وافر في نقل العلوم الشرقية إلى الغرب وكانت مركز ترجمة نشيطة، وبحكم موقعها وتاريخها كانت ملتقى أجناس ولغات، وسادت فيها اللغات الحية إذ ذاك الواسعة الانتشار، اليونانية واللاتينية والعربية، وكانت بها يهود مترجمون أيضاً على نحو ما كان في طليطلة. وفي صقلية ترجم المجسطي من اليونانية إلى اللاتينية مباشرة، وترجم في الأندلس من العربية. وفيها ترجم كتاب البصريات الذي كان بطليموس أخرجه في الاسكندرية، وفيها ترجمت كتب أدبية أخرى. وتوج فريدريك الثاني أعماله الجميلة بتأسيسه جامعة نابل في إيطاليا الجنوبية وأودعها مجموعة كبيرة من كتبه الخاصة، ودرست فيها مؤلفات ابن رشدج، وهذا عمل له قيمته، لأن أوروبا عادت فلسفة ابن رشد مدة طويلة، وقيمة جامعة نابل أنها أول جامعة رسمية، وكانت الجامعات الأخرى إلى ما بعد ذلك العهد جامعات أهلية تابعة للأديرة والكنائس، وكانت تقوم على التبرعات والهبات، أما جامعة نابل فقد نشأت ملكية مشمولة برعاية إمبراطور عالم، واستعارت منها بعض الجامعات الأخرى، وعلى الأخص جامعة باريس ما لديها من التراجم التي أمر بها فريدريك، ومن الذين تخرجوا في هذه الجامعة توما الإكويني، وأثره معروف في نشر الفلسفة والثقافة الشرقية في أوروبا.

ويكفي صقلية، وهي جزيرة صغيرة بجانب إسبانيا الواسعة، أن تكون قد أسهمت في نقل الحضارة الشرقية إلى الغرب، وأن يكون لها نصيب غير خفي في إيقاظ أوروبا العصر الوسيط من سباتها العميق، وأن تكون برزخاً في نقل جزء كبير من حضارة الشرق إلى الغرب.

هذا، وأخبار صقلية مبعثرة في مصادر كثيرة عربية، بعضها يكمل بعضاً، أو يوضح ويفصل ما أجمله الآخر، وقد جمع المستشرق الصقلي ميكي أماري أخبارها مستوفاة في مجموعة أسماها »تاريخ مسلمي صقلية«، ويقوم على درس هذه الحقبة من تاريخ هذه الجزيرة الآن الأستاذ أمبرتو ريزيتانو، وتنبئ كتابته وكتابة أماري عن المجهود الجبار الذي بذله كل منهما في قراءة الموسوعات العربية حتى خرجا بهذه المعلومات الدقيقة القيمة، وكل منهما أنصف المسلمين وأنصف أعمالهم النافعة، وما أخذاه على المسلمين نشاركهم أيضاً في مؤاخذتهما به، أخذا عليهم تفرقهم وميلهم إلى الأثرة، وحبهم مصالح أنفسهم أكثر من مصالح أوطانهم، وأخذا عليهم كما أخذ مستشرقون منصفون أنهم بعدوا بسرعة عما لهم القرآن وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو أنهم بوجه عام خالفوا الإسلام الذي بنى نهضتهم وحضارتهم، فسلبوا العزة التي جاءت بسببه، وهو كلام أولى أن يقوله المسلمون.

________________________________________

مجلة الأمة، العدد 27، ربيع الأول 1403هـ

__________

[1] انظر: »المنطلق الأساسي في التاريخ الإسلامي - خطبة طارق بن زياد« في الفسطاط.

[2] انظر: »لمحة تاريخية عن الدولة العبيدية« في الفسطاط.

=============

#حضارة في طريق الانحلال

يلوك سماسرة الغرب عندنا نظرية " الحضارة الإنسانية " كجزء من خطتهم في إلحاقنا بالغرب وهم في الطريق إلى ذلك يعملون على محو خصوصية الدين الإسلامي عقيدة وحضارة

وهم ينشطون لذلك اليوم بشكل خاص لتمرير خطة تطوير التعليم في البلاد الإسلامية كما تسوقها الإدارة الأمريكية في قيامها على محو خصوصية الأديان والتركيز على فكرة تلاقي الحضارات في طريق ريادة الحضارة الغربية وهيمنتها

فقد تم اختيار مصر - كما جاء بجريدة الأسبوع بتاريخ 30 \6 \2003 - لتكون البلد العربي الأول لإحداث تغيير تدريجي في مناهج التعليم ثم تليها المملكة العربية السعودية، حيث طلبت واشنطن إلغاء تدريس المذهب الوهابي في المدارس السعودية وإلغاء المدارس السلفية هناك ويري الخبراء الأمريكان أن التغيير سيبدأ من المرحلة الابتدائية بحيث يتم تغيير محتوي المادة الدينية ليطلق عليها مادة 'الأخلاق والثقافة الدينية' بهدف إعطاء صورة إيجابية عن الفضائل الأساسية للديانات الثلاث (اليهودية، والمسيحية، والإسلام) والتأكيد علي دور كل الأديان في بناء الحضارة الإنسانية، علي أن يمتد التغيير إلي مناهج اللغة العربية خاصة فيما يتعلق بالنصوص والمطالعة الأدبية بعد أن لوحظ أن هذه النصوص بها بعض العبارات التي تحض على كراهية اليهود والأمريكان ، ثم يمتد التغيير إلى التاريخ وذلك بمحو الذاكرة التاريخية لدي التلاميذ والتي تذكرهم بانتصارات الأمة الإسلامية في المعارك والفتوحات الإسلامية ، وتصوير ذلك علي أنه سلوك دموي وغير حضاري وليست له علاقة بالبطولات التاريخية. وأن يتم بدلا من ذلك التركيز علي تاريخ الثورات العلمية في العالم ، والتركيز علي العادات والتقاليد العامة التي كانت سائدة في المراحل الأولي لحياة الإنسان ، ومدي تطور هذه العادات ، مع ترسيخ إيجابيات الحضارة الغربية ودورها الرائد عالميا .

وفي تأكيد رئاسي لهذا الاتجاه طالب بوش الإبن في كلمته أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة بتاريخ 23 \ 9\2003 ( بإضعاف الأيديولوجيات التي تصدر العنف في الشرق الأوسط ) في إشارة واضحة لعقيدة الجهاد في الإسلام ، لا يجرؤ على إطلاق مثلها بالنسبة لأيديولوجيته الأصولية المسيصهيونية القائمة على نبوءة القضاء على قوى الشر في معركة هرمجدون بفلسطين ، كما لا يجرؤ على إطلاق مثلها بالنسبة للكيان الصهيوني الذي يمارس قتل الأبرياء والمدنيين ويدمر المنازل على رءوس " المطلوبين " ، ويطرد الفلسطينين ، ويقرر قتل الزعيم ،انطلاقا من تعاليم التلمود والعهد القديم .

( وفي تأكيد رسمي لجدية الولايات المتحدة في التدخل في الشئون الداخلية لدول المنطقة اعترفت إيلينا رومانسكي المسئولة عن مبادرة المشاركة والديمقراطية بوزارة الخارجية بأن الإدارة الأمريكية تسعى إلى تغيير المناهج التعليمية في الدول العربية .

وزعمت أن المبادرة التي طرحها كولين باول وزير الخارجية الأمريكية عن الديمقراطية في الشرق الأوسط تهدف إلي تغيير المناهج بما يؤدي إلي التخلص من الحقد والتحريض علي الكراهية والعنف في المنطقة علي حد قولها .

ونقلا عن وكالة أنباء الشرق الأوسط قالت رومانسكي في تصريحات للصحفيين في أثناء زيارتها الحالية لقطر إن المنطقة والأجيال المقبلة ليست في حاجة إلي مزيد من العنف ، وأضافت أن الولايات المتحدة ستساعد دول المنطقة علي تغيير كل ما يدعو إلي تعميق الحقد والكراهية في المناهج التعليمية ـ علي حد قولها . )

ومع إقرار رومانسكي بصعوبة التدخل في النصوص الدينية ، مثل القرآن الكريم ، فقد

ذكرت ( أن الولايات المتحدة تسعي إلي تغيير المناهج التعليمية بما يؤدي إلي تكريس التسامح والإخاء بين شعوبها حسب تعبيرها .

وتجاهلت رومانسكي تماما أي حديث عن الصراع العربي ــ الإسرائيلي وانعكاساته علي المنطقة ، وزعمت أن المناهج التعليمية في العالم العربي هي المسئولة عن تراجع معدلات التنمية العربية ، وأن أي نظام تعليمي يسمح بمناهج تدعو صراحة إلي العنف والكراهية لن يكون قادرا علي إعداد أفراد قادرين علي التعامل مع العولمة والنظام العالمي الجديد ،،.) مفكرة الإسلام من الإنترنيت 22\9\2003

وبالطبع تجاهلت رومانسكي أن للحب بالضرورة وجها آخر يحميه من أعداء الحب ، وتجاهلت أنني لا يمكن أن أحب الحب إلا أن أكره الكراهية ، ولا يمكن أن أحب السلام إلا أنني أكره الحرب ، ولا يمكن أن أحب الغنى إلا أنني أكره الفقر ، وفي تراثنا أنه لو كان رجلا لقتلته ، ولا يمكن أن أحب الصحة إلا أنني أكره المرض ، ولا يمكن أن أكره المرض إلا أنني أكره السبب فيه ، ولو كان هو اليورانيوم المنضب ، أكرهه إذ يرمي أطفالي ، ليبعث بأكثر من مليون ونصف منهم في العراق إلى القبور ، وأكره البولدوزر الذي يهدم منزلي ليخرج منه " المطلوبين " في لغة الصهاينة ، ولا أنسى أن أكره من رماني به بأحدث الصواريخ أو بأحدث الطائرات أو بأحدث الآلات ، ، ولو كان هو أمريكا المحتكرة لمنتجات الدمار التي أنتجتها حضارتها : حضارة " أسلحة الدمار الشامل " ، التي ما ضربت بها غير شعوب الشرق ، حضارة " الكراهية " التي يزورونها باسم" "الإنسانية" ، وبالجملة فإنني لا يمكن أن أحب ما أحب إلا أن أكره ما أكره من ذلك كله ولو كان هو البرنامج التربوي الجديد ، وإلا أن أكره من يسوقه في بيتي وضميري منتهزا فرصة ضعفي ، ، ولو كان هو السيدة رومانسكي مسوقة البرنامج الكريه ، مع الاعتذار لشخصها الذي لا أراه في الميزان .

والتغريبيون لدينا يتذرعون في خطتهم لترويج هذا التخريب بإسقاط السيادة الوطنية باسم العولمة ، انطلاقا مما يسمى " الحضارة الإنسانية " ، وهم يفعلون ذلك دون أن يفصحوا - أو يعلموا - أنهم إنما يرددون كالببغاوات نظريات استعلائية غربية غاربة .

وترجع فكرة " الحضارة الإنسانية " إلى الفيلسوف الفرنسي " أوجست كونت " ( ) الذي استبدلها بالدين ، زاعما أن الدين إنما هو من مخلفات المرحلة البدائية أو الخرافية التي تطورت الإنسانية منها إلى المرحلة الميتافيزيقية على يد الفلسفة اليونانية ، ثم تطورت منها إلى " المرحلة الوضعية أو العلمية ، على يد النهضة الأوربية الحديثة ، هكذا في خط تاريخي واحد ممتد نظر إليه تحت وهم أن الإنسانية هي أوربا وأن أوربا هي الإنسانية ، وعند ما وجد أن الإنسانية لا تستغني بطبيعتها عن الدين زيف في كتابه الأخير شيئا سماه " ديانة الإنسانية " ضمن رؤية شاملة عما يسمى " الحضارة الإنسانية "

وترجع فكرة التطور المستمر في التاريخ إلى ما شاع بين الناس في أوربا في المائتي سنة الأخيرة ، - ومن ثم بين الببغاوات الشرقية - من " فكرة التقدم " العام ، وما تحمله من فكرة وجود مستقبل زاهر للبشرية دون حاجة إلى الإشارة إلى أية " حياة أخرى " ، وقد شاع ذلك بعد أن تيسر للناس تسخير العالم المادي لصالح الإنسان ، وتدعمت الفكرة بظهور " نظرية التطور" الحيوي عند دارون ثم الاجتماعي عند هربرت سبنسر .

يقول جون بانيل بيوري (1861 - 1927 ) صاحب كتاب " فكرة التقدم " الذي نشره المجلس الأعلى للثقافة بالقاهرة عام 1882 ترجمة أحمد خاكي ص 6 ، 17 -

( أصبحت فكرة التقدم موضع إيمان في سبعينات وثمانينات القرن السالف ( التاسع عشر ) وربما آمن البعض بها في صورتها القدرية التي تصور البشرية سائرة في اتجاه مرغوب فيه مهما فعل الناس ، أو أغفلوا القيام به ، ) ص 292

وغاب عن الببغاوات ما ظهر فيما بعد في نفس البيئة التي ظهرت فيها فكرة التقدم أنها - أي هذه الفكرة - لا تتمتع بقوة القانون الطبيعي كقانون الجاذبية على سبيل المثال كما كانوا يظنون ، ولا هي نتيجة مستخلصة من وقائع التاريخ تفرض نفسها علينا كأشياء حتمية كما يقول تشارلز بيرد ( 1874- 1948 م ) - في التمهيد الذي قدمه لكتاب " فكرة التقدم "

وقصارى القول في نقد فكرة التقدم كما يقول بيوري في كتابه أنه ( تكون الحركة تقدما إذا كانت مرغوبة ، أو ربما اتجهت اتجاها غير مرغوب وبذلك لا تكون تقدما ، إن هذه مسألة خارجة عن نطاق الاستدلال العقلي وهي من المسائل المتعذر حلها في الوقت الحاضر على الأقل ) ص 30 ، و يذهب إلى أنه من الصعب أن نستخلص نتائج من تجارب الأربعة قرون التي تم التنقيب فيها بنجاح لنتوقعها كنتائج في غضون الأربعة أو الأربعة آلاف قرن التالية ، ( وهكذا يكون التقدم المتواصل افتراضا قد يصح وقد لا يصح ) ص31.

وينطوي مفهوم التقدم عند الفيلسوف الأمريكي الشهير وليم جيمس ( 1842 - 1910 م ) ( على عنصر من المخاطرة المستمرة ، فالتقدم عارض غير يقيني ، وهو في جوهره مسألة إرادة حيث يحسم الأفراد أمرهم ، ويعزمون على العمل بشجاعة لصالح معتقداتهم الأخلاقية ) ص 132 من كناب " فلسفة التقدم " لدافيد ومارسيل ترجمة د: خالد المنصوري نشر الأنجلو عام 1978 م

أما عن فكرة " الحضارة الإنسانية الواحدة " فيفصح الفيلسوف الألماني الشهير أزفلد اشبنجلر 1880 - 1936( كتاب عبد الرحمن بدوي نشر عام 1982 دار القلم لبنان ) عن بطلانها في كتابه الضخم الشهير " انحلال الغرب " وعنده أنه لا الحضارة إنسانية ممتدة بامتداد التاريخ ، ولا الحضارة الغربية صالحة للاستمرار في المستقبل القريب

فمن ناحية الأصل الأول يتبين أن ما يسمى الحضارة الإنسانية إنما هو حيلة يستخدمها الغربي ليتخذ ( من حضارته محورا ثابتا يدور من حوله التاريخ ، ومن حضارته الشمسَ المركزية التي منها ينتشر الضوء على كل الوجود ، محاولا أن يوهمنا أن تاريخا بعيدا حافلا بالأحداث ممتدا إلى عدة آلاف من السنين كتاريخ مصر أو الصين أو { الإسلام } يمكن أن يركز ويضغط في بضعة حوادث عارضة مشتتة ، بينما تاريخ قريب تافه الأحداث لا يكاد يمتد إلى عشرات قليلة من السنين كتاريخ نابليون ينتفخ ويتضخم كما تتضخم الأشباح فيبدو أحفل من التاريخ الأول بمرات و مرات )

أجل من حق هذا الغربي أن يهتم بتاريخه ولكن ليس من حقه أن يقيم على أساسه صورة للتاريخ العام يصدرها إلينا في برامجنا التعليمية والثقافية ، كما أنه ليس من حقنا نحن أن نبتلع أكاذيبه لمجرد انه يتربع على عرش القوة في العصر الحاضر

وقد ترتب على أكذوبة الحضارة الإنسانية أكذوبة أخرى ناتجة عنها : تلك هي القول بأن التاريخ العام يسير على خط أفقي ممتد يمثل " إنسانية " واحدة تتقدم باستمرار ، وقد حرص التغريبيون عندنا على دس هذه الأكذوبة في نسيج الثقافة العامة في البلاد العربية والإسلامية ليسهل عليهم بعد ذلك إقصاء الذاتية الإسلامية وإخراجها من مسار التاريخ والمجتمع والحضارة معا ، ، وفي هذا التيار انساق نفر من هؤلاء إلى الزعم بما أطلقوه من صياغات حالمة عن " تقدم الإنسانية " و" التطور " و" التنوير" و" حرية الشعوب " و" السيطرة على الطبيعة " والحداثة إلخ ص 98

ويدحض اشبنجلر هذه المزاعم بتقرير ما هو محل اتفاق من أن الحضارة ككل وجود حيوي : " كائن عضوي في زمانه وصورته ومدة حياته ، فلا يشك أحد أن شجرة من البلوط مثلا بعد أن بلغت من العمر ألف سنة فإنه لا يمكن أن تبدأ اليوم نفس النمو الذي بدأت به يوم أن نبتت " لابد للكائن العضوي من حد عنده يقف النمو ، وهذا الحد يتوقف على الصورة الباطنة " الذاتية " للنبات أو الحيوان ، أو التاريخ أو الحضارة ، الأمر الذي لا يسمح بالقول بحضارة إنسانية تستمر في سيرها في خط أفقي ممتد وتاريخ عام ، ص 99 وكما يقول جيتة " الإنسانية ؟ كلمة مجردة ، فلم يوجد مطلقا في يوم من الأيام إلا الناس ، ولن يوجد مطلقا غير الناس "

ومن هنا ينتهي اشبنجلر إلى خصوصية الحضارة ، أية حضارة ، وكونها كائنا عضويا ينتهي عند أجل ، و يضع مكان الصورة العامة للتاريخ مسرحا لعدد كبير من الحضارات العظمى ، تنمو كل منها بقوة كونية وروح خاصة ذاتية زرعت في بطن بيئتها التي هي بمثابة الأم لها ، وترتبط كل واحدة منها بهذه الروح من حيث ما سيكون لها طوال مدة وجودها من تنوع في الفكر أو العلم أو العاطفة أو الفن أو الحياة أو الإرادة أو الشعور ، ومن نضج أو ذبول ، ومن نمو وشيخوخة ، وموت أو فناء ص 100 .

هذه الدورة التي تمر بها الحضارة الغربية كما تمر بها كل حضارة وكما يمر بها كل كائن عضوي .. دورة مقفلة لا ارتباط بينها وبين الدائرة الأخرى التي توجد بجوارها أو التي وجدت بعدها أو قبلها ، فليس هناك تأثير متبادل حقيقي بأن يأخذ الكائن الحي شيئا أجنبيا عنه فيدخله في كيانه كما هو بل لابد له إذا كان يريد أن يأخذ شيئا من الخارج أن يحيله إلى طبيعته هو بأن يتمثله ثم يهضمه ، أو بأن يبدعه من جديد ، لأن طبيعة الكائن الحي تختلف عن الآخر كل الاختلاف . ص 127 ، وما يشاهد من تشابه في أسلوب التعبير عن حضارتين مختلفتين إنما هو وهم ، وتشابه في الظاهر، لا يتعدى إلى الجوهر ، لأن كل حضارة تعبير عن روح ، والروح تختلف بين الحضارة والحضارة الأخرى تمام الاختلاف : في جوهرها وأسلوبها وممكنات وجودها ص 128 . فإذا اشتركت العناصر المؤثرة في حضارتين تقبلت كل منهما هذه العناصر على نحو مباين كل المباينة للنحو الذي عليه تتقبل الحضارة الأخرى هذه العناصر، لأن كلا منهما لا تستطيع أن تهضم هذه العناصر إلا إذا أجرت عليها عملية معقدة طويلة من التحويل ثم التمثيل ثم الهضم أحالتها إلى طبيعتها ص 128 . أي أن تجري عليه الكثير من التغيير مما يجعله يفقد روحه الأصلية ( وكلما ازداد تمجيد المرء لمبادئ فكر أجنبي ازداد تشويهه لمعناه . فبين أرسطو عند اليونان وأرسطو عند العرب وأرسطو عند القوط في العصور الوسطى فارق لا حد له حتى لا يكاد المرء يجد فكرة واحدة مشتركة حقا بين هذه الصور الثلاث لأرسطو .

وبين المسيحية الشرقية والمسيحية الغربية هوة سحيقة من غير الممكن عبورها ) وكذلك الأمر بالنسبة للقانون الروماني : الذي تطرق إلى الحياة في كل من الحضارة القديمة وانتقل منها إلى الحضارة العربية ثم وصل إلى الحضارة الأوربية الحديثة : تحول إلى ثلاثة أنواع من التشريع لا رابطة بينها إلا في بعض الألفاظ والصيغ أما الروح فمختلفة أشد الاختلاف . ص 142

الحضارات إذن تقوم مستقلة عن بعضها البعض تمام الاستقلال - كأي كائن حي - كل منها تكون وحدة أو دائرة مقفلة على نفسها ليس بينها وبين غيرها من الحضارات غير منافذ من نوع خاص لا تسمح بنفوذ شيء لا يتلاءم وجوهر هذه الحضارة ، وما تسمح به لا تلبث أن تحيله إلى طبيعتها ، وما يتحدثون به عن وجود " حقائق أزلية " أو فتوحات أبدية " للعلم أو للفلسفة إن هو إلا من وهم الخيال . وما يحاولونه من دمج شخصية حضارية لحساب أخرى ما هي إلا محاولات عقيمة ، لا تنتج غير كائن مشوه أو القضاء عليه بالكلية ، أو هي تنتج ما يسميه اشيبنجلر " التشكل الكاذب " الذي يوجد في بعض التطورات الجيولوجية ، حيث طبق اشبنجلر هذه الظاهرة الجيولوجية على تكوين الحضارات فوجد أن هناك حالة مشابهة لها تماما تحدث حينما تنتصر حضارة قديمة على البقعة التي تولد فيها حضارة جديدة انتصارا يحول بين الحضارة الجديدة وبين التنفس والنمو الطبيعي ، فلا تستطيع هذه الحضارة الجديدة أن تنمي صور تعبيرها الخالصة ، ص144

وهذه في رأينا هي النتيجة البائسة التي سوف تلاقيها بعض صورالحضارة الغربية التي تحاول الانزراع ببعض قيمها السلبية في جسم الحضارة الإسلامية عندما تحاول الاستخفاف ببعض المقدسات الإسلامية ليتحول - على سبيل المثال - إلى رفض لمجموع الحضارة الغربية في كل صورها ، ، كما أنها هي النتيجة المؤسفة التي أخذت تلاقيها عندما تحاول زرع قشرة حضارية استهلاكية - في بعض مشيخات الخليج مثلا - بينما الباطن ما يزال يرزح تحت تقاليد قبلية موروثة مما قبل ظهور الحضارة أصلا ، كما أنها هي النتيجة المؤسفة عندما أخذت تحاول زرع مبدأ تداول السلطة عن طريق الانتخاب بينما الباطن ما يزال متخما بتقاليد الوراثة القبلية والفرعونية والملكية فإذا به يلوي ذراع " الجمهورية" المستوردة لتصبح وراثية تحت أعين " المتفرجين " .

ويؤكد اشبنجلر تباين المفاهيم الأولية في تصور كل من حضارة وأخرى : في الفن والتصوير والألوان ، والموسيقى وآلاتها ، و المباني وهندساتها، والطبيعة والفيزياء والكيمياء والعناصر ، والدين والألوهية والتوحيد والتسليم والإيمان ، والإلحاد ، والروح والنفس ، والذات والجسم والأخلاق والفضيلة والقيم ، والإرادة ، والفلسفة والميتافيزيقا ، ومصطلحاتها كالهيولى والصورة والجوهر والزمان والمكان والكتلة والحرارة والعلم ص 185 ( فليس العلم حقائق خالدة لا تتأثر بطبيعة واضعيها والحضارة التي نشأوا فيها ، فإنما العلم كالدين سواء بسواء ، يقوم على عقيدة آمن بها العلماء إيمانا ، لأنها صادرة عن روح الحياة التي يحيون فيها . إن كل علم يقوم على يقين باطن ، وكل الاعتراضات التي وجهتها العلوم الطبيعية ضد الدين تصيب هذه العلوم نفسها ) وإذا كان كل دين يقوم على عقيدة معينة فكذلك كل فيزياء تقوم على عقيدة فيها تعبير عن الرمز الأولي للحضارة التي صدرت عنها هذه الفيزياء ، فالفيزياء الغربية تقوم كلها على عقيدة واحدة هي القوة ، والقوة في الفيزياء الغربية كمية أسطورية لم تصدر عن التجربة العلمية ، وفرضتها فرضا ، فليس في غير هذه الفيزياء - أي الغربية - يتم التعبير بالعَرض بعد إزاحة الجوهر ، حيث نجد القوة المغناطيسية في المجال المغناطيسي تحل محل حجر المغناطيس ، وأن طاقة الإشعاع تحل محل الأجسام المشعة ، وأن كل الظواهر الفزيائية والحيوية هي صورة من الحركة قابلة للتحول بعضها إلى بعض ، وفي كل هذه التحولات تظل كمية العمل الميكانيكي ثابتة إلخ ص 210 -212- 220

فتاريخ كل حضارة إذن كتاريخ الإنسان أو الحيوان أو الشجرة سواء بسواء ، والثغرة التي يدخل منها ما يسمى التاريخ العام ينحصر في ترجمة حياة هذه الحضارات ، من حيث دورات الحياة المتشابهة التي تمر بها كل منها - كما يمر الأفراد - بين دورات خاصة بالطفولة والشباب والشيخوخة أو بالربيع والصيف والخريف والشتاء .

فللحضارات جميعا دورات تسير عليها ، فإذا استطعنا أن نعينها بالنسبة إلى واحدة استطعنا أن نعينها بالنسبة إلى بقية الحضارات ، كما يكون من المتيسر أيضا أن نتنبأ بما سيجري للحضارة الموجودة الآن على الأرض وهي الحضارة الأوربية الأمريكية

ويحدد اشبنجلر مراحل هذه الدورات أو هذا السياق الذي من خلاله يحكم بانحلال هذه الحضارة

إذ يمتد هذا السياق من المرحلة الأولى في اللحظة التي تستيقظ فيها روح كبيرة تنفصل عن الحالة الروحية الأولية للطفولة الإنسانية ، ثم تنمو في تربة بيئة تظل مرتبطة بها ارتباط النبتة بالأرض التي تنمو فيها ، ثم تموت حينما تكون الروح قد حققت جميع ما بها من إمكانات : على هيئة شعوب ، ولغات ، ومذاهب دينية ، وفنون ، ودول وعلوم ، ومن ثم تعود إلى الحالة "الروحية الأولية الفطرية " ص 102

وتصل الحضارة إلى مرحلة الانحلال عندما تفقد قواها الحيوية ، إما باختناقها تحت تأثير روح أخرى أقوى منها وأخصب ، وإما لأنها بلغت غايتها وحققت صورتها النهائية ، ولم يعد في استطاعتها أن تعلو على الحد الذي وصلت إليه ، بأن حققت في الخارج كل ما تحتوي عليه من إمكانات باطنة ، عندئذ ينضب دمها ، وتتحطم قواها ، ويتحجر كيانها ، فتصبح " مدنية " بعد أن كانت " حضارة " . ولكن هذا لا يعني فناءها نهائيا ، بل تظل قادرة على البقاء ربما لقرون ، كما تبقى الشجرة التي استنفدت عصارتها سنوات طوالا ، تظل تمد فيها أغصانها التي أصبحت فريسة للسوس ، أو كما يبقى الشيخ في أخريات أيامه غير قادر على الإنجاب أو العطاء . ص 103

وإذا كانت الحضارة ككائن عضوي تمر بدورات : الطفولة والشباب والنضج والشيخوخة ، فيمكن القول بأنها باعتبارها كائنا زمنيا تمر بأطوار الربيع والصيف والخريف والشتاء ، ولكل دور من هذه الأدوار من الخصائص ما للفصول السنوية التي تناظرها من خصائص ، أو ما لأدوار حياة الإنسان المناظرة لها من خصائص ، فالحضارة الغربية ( الأوربية الأمريكية ) بدت في أول أمرها في فجر العصر الروماني القوطي حوالي سنة 900 م طفلة لم تشعر بعد بقواها ، ولكنها كانت تؤذن بنمو فذ سريع ، فزكت وترعرعت ، وهكذا رفت عليها روح الربيع ، فأشاعت فيها قشعريرة " الإبداع " والحياة المليئة ، وأصبح كل شيء يوحي بميلاد روح جديدة ، ص 104 وكلما نمت واقتربت شيئا فشيئا من صيفها تحددت ملامحها ، واستقرت خصائصها التي تعبر عنها ، فإذا ما وصلت إلى قمة تطورها وحققت كل ما فيها من إمكانات واستنفدت قواها الخالقة بدأت تدخل دور شيخوختها وانتقلت من حالة " الحضارة " بمعناها الدقيق إلى حالة " المدنية " : فينطفئ النور الذي كان متوهجا بها من قبل شيئا فشيئا ، ولا يرسل غير شعاع فيه من القوة الحقيقية أقل مما يدل عليه المظهر ، ثم تشعر روح الحضارة حينئذ بالحنين إلى طفولتها الأولى ، وأخيرا وبعد أن أصبحت منهوكة القوى خالية من العصارة قد نضب منها دم الحياة تفقد الحضارة الرغبة في الوجود 105 فتظهر فيها مشاكل الشك المتزايد في قيمة العلم ، وانحلال الفن ، وتضخم المدينة على حساب الريف ، وهبوط النسل ، ومشكلة الزواج ، والأزمات العنيفة في أوضاع العمال ، والنظم النيابية ، وموقف الفرد بإزاء الدولة ، ومشكلة الملكية إلخ ص 120

ويذهب اشبنجلر إلى أن روح الحضارة في أدوارها الأولى - ربيعها وصيفها - روح دينية وليس في مقدورها أن تكون غير دينية ، وإن كان في إمكانها أن تلهو بالدين عن طريق الفكر ، والإلحاد إنما يأتي كظاهرة مرتبطة بزمان محدود في تطور الحضارة تعبيرا عن عقلية استنفدت كل إمكانياتها الدينية وأصبحت فريسة اللاعضوي ( المادي ) ص 222 وهو يأتي في دور المدنية منذ ابتداء هذا الدور - أي دور المدنية - وينتسب إلى المدن الكبرى ، ولكل حضارة نوعها الخاص من الإلحاد ص 223 ، وثمة ظاهرة دينية أخرى تشاهد في كل الحضارات عندما تمر بنفس المرحلة في سيرورتها الخاصة : هي ظاهرة الإصلاح الديني ، ومعناها رجوع الدين إلى طهارة فكرته الأولى وصفائها ، ، وليس من الضروري أن تنتهي حركة الإصلاح الديني إلى قيام أديان جديدة ، وهي إذن حركة عقلية توجد في دور انتقال " الحضارة " إلى " المدنية " على وجه الخصوص أو قبل ذلك بقليل

(1) وهنا نصل إلى الظاهرة الأولى لانحلال الحضارة الغربية : من حيث إنه إذا بلغت المدنية آخر دور من أدوار نضوجها وأصبحت خارجة من التاريخ ظهرت فيها نزعة دينية جديدة ثانية يسميها اشبنجلر باسم " التدين الثاني " ، كما تستهويها حينئذ نزعة دينية صوفية غامضة يشوبها شيء من الجزع العقيم ص 105 - 106، واشبنجلر المتوفى عام 1936 كان يرى أن الحضارة الغربية لا زالت بعيدة عن هذا الدور ، إذ لم يشاهد انبعاث المسيحية الصهيونية في أوربا وأمريكا بوجه خاص بعد وفاته بوقت قليل ، وهو يصف هذا الدور بما يكاد ينطبق حرفيا على هذه الظاهرة الصهيونية المسيحية ، حيث يرى " أنها تمتاز بالتقوى الخالية من كل إبداع وكل طرافة " فلا شيء يَبنى ولا فكرة تُنمِّي، وكأن سحابة تخرج من البيئة مظهرة الصور القديمة الغامضة المترددة في أول الأمر ، الواضحة الصريحة قليلا فيما بعد " لأن الدين البدائي يعود من جديد فيغمر الشعور الديني كله ، ويفرض نفسه على الناس في صورة تجمع بين أخلاط عدة من الأديان البدائية الفطرية ، وتعود بعودته الفوضى الأولية التي تحيا فيها كل حضارة قذف بها خارج تيار التاريخ ، إلى حيث ترقد في ناووس الطبيعة اللاعضوية . ص 225

وإذا كان هذا الوصف لهذه الظاهرة يكاد ينطبق تمام الانطباق على المسيصهيونية الجديدة بما أحيته من التفسير الحرفي لنبوءات العهد القديم والعهد الجديد فإن اشبنجلر يضع بذلك في أيدينا العلامة الأولى على انحلال هذه الحضارة ، وبخاصة إذا ضممنا إليها قيام الكيان الصهيوني على أساس هذه النبوءات ، وأيضا إذا ضممنا إليها هرولة الاتحاد الأوربي أخيرا إلى الوقوف بالصف عندما نص في دستوره الجديد - بعد قرون من العلمانية - على أن المسيحية هي الإطار الثقافي الذي يتميز به الاتحاد ، ويشكل أساس الهوية الأوربية ، وحيث قام الرئيس الفرنسي الأسبق جيسكار ديستان بالإشراف على هذه الصياغة بهذا الدستور، وكان هو أحد المعترضين على قبول تركيا في الاتحاد الأوروبي لأنها دولة إسلامية لما تؤدي إليه من إخلال بالهوية الأوروبية. . حسب تعبير الأستاذ أحمد عباس صالح في مقاله بجريدة الشعب في 5\7\2003

وكما جاء في النشرة اليومية لقناة الجزيرة بتاريخ 25\8\2003 : لقد شدد البابا يوحنا بولص الثاني ( اليوم ) مجددا مطالبة الكنيسة بأن يشير دستور الاتحاد الأوروبي إلى التراث المسيحي لأوروبا. وقال البابا خلال صلاة الأحد في مقره الصيفي بكاستيل غاندولفو على مسافة ثلاثين كيلو متر جنوب شرق روما "إن الكنيسة على قناعة بأن إنجيل المسيح الذي شكل عنصر لحمة بين الشعوب الأوروبية على مدى قرون، ما زال في يومنا هذا مصدر قيم روحية وأخوة لا ينضب".وأضاف أن الإقرار بذلك هو مكسب للجميع وأن اعترافا صريحا في المعاهدة (دستور الاتحاد الأوروبي) بجذور أوروبا المسيحية يصبح الضمانة الرئيسية لمستقبل القارة. وكان البابا قد دعا لتعديل مقدمة الدستور الأوروبي في أكثر من مناسبة بما لا يغفل الناحية الدينية للمسيحية

هكذا دسوا فينا العلمانية وبعد أن اطمأنوا إلى ما قامت به من تصفية دمائنا أعلنوها دينية : في الولايات المتحدة ، وأعلنوها دينية في الاتحاد الأوربي ، ومهدوا لذلك بأن أعلنوها دينية في الكيان الصهيوني

وإذا كان هذا التدين المفاجئ الزائف المكون من أخلاط من الأديان البدائية الفطرية - حسب تعبير شبنجلر ص 224- والذي يأتي في دور المدنية المتأخرة من أدوار الحضارة ظاهرة انحلال فيها حسب ما ذهب إليه فإنه يضيف إليه ظواهر أخرى تنبت أيضا في دور خريف الحضارة أو شتائها .

(2) إذ يتوقع اشبنجلر نهاية الحضارة الغربية من حيث ما وصلت إليه من سيادة الروح العلمية التي هي بطبعها لا تتفق مع روح الحضارة ، فروح الحضارة كروح الفنان سواء بسواء هي شيء يريد أن يتحقق ، أما الروح العلمية المنطقية المجردة من الإحساس فظاهرة متأخرة محدودة الأفق مؤقتة تنتسب إلى الأدوار الأخيرة الناضجة جدا في حضارة من الحضارات ص 86 ، وهو يقصد بكونها تنتسب إلى الأدوار الأخيرة الناضجة أنها تنتسب إلى دور الانحلال

(3) ويتوقع اشبنجلر نهاية هذه الحضارة من حيث حولت الوسائل إلى غايات

وقد تحقق ذلك فيما سماه مأساة سيادة العقل ، وهو يقصد بذلك البحث العقلي الدائم عن العلية أو السببيية ، إذ أن إدمان ذلك في سلسلة الأسباب يترتب عليه في المجرى الوسط أن يصبح كل سبب نتيجة ، وكل نتيجة سببا ، ثم يترتب عليه أن يصبح كل غاية وسيلة وكل وسيلة غاية ، ومن ثم تتحول الوسائل إلى غايات ص 287 ولعل أعنف صورة لهذا النوع من المآسي تلك التي نجدها في ميدان الاقتصاد .

ففي ميدان الاقتصاد تحول النقد المفترض كونه وسيلة إلى غاية ، ص 288 ، وبسيطرة النقد أصبحت الملكية ثروة تقدر بكمها لا بكيفها ، وليست مجموعة خيرات بل استثمارا لخيرات ، وتحول السوق القديم الذي كان في الريف مركز حياة إلى سوق مالي في المدينة يسكن فيه النقد ، وتتبادل فيه الأموال بطريقة تجريدية بواسطة الأوراق المالية ، وبعد أن كان التاجر وسيطا فحسب يصبح سيد الحياة الاقتصادية كلها ، ولما كان في الواقع مغتصبا للإنتاج لا صاحبه الأصيل نرى اعتماده في نجاحه الاقتصادي يقوم كله على المداهنة والمكر وتلفيق الأكاذيب ونشر الإشاعات ، ثم يرتفع النقد إلى مرتبة السيادة المطلقة حينما تنشأ المدينة العالمية ويصبح الاقتصاد اقتصادا عالميا يسوده النقد ، وبعد أن كان الإنسان ثريا لأنه قوي ، يصبح قويا لأنه ثري بالنقد 293 ، والشاهد في هذا التطور بوجه عام أن النقد بعد أن كان وسيلة لغاية هي الخيرات أصبح هو نفسه الغاية بل وغاية الغايات التي تقاس بها كل قيمة .

(4) ومثل هذا التطور نراه في شيء آخر هو الآلة ، التي كانت وسيلة - بل اسمها لا يدل على شيء آخر غير هذا - فأصبحت غاية استعبدت القوى الروحية التي أبدعتها

وللعجب فقد كان هذا التطور خاصا بالإنسان ، ذلك أن أسلحة الحيوانات المفترسة كلها أسلحة طبيعية أما قبضة يد الإنسان المسلحة بأداة ركبتها واختارتها فليست طبيعية بل صناعية ، ومن هنا بدأت بوادر التعارض بين الصناعة والطبيعة ، وبين سيطرة الإنسان وسيطرة الطبيعة ، وكل صناعة في الواقع قد قصد بها إلى تحدي الطبيعة ، وكان لابد من الكفاح مع الطبيعة ، وقد كان هذا الكفاح في الحضارة اليونانية من أجل التأمل { وكان في الحضارة العربية من أجل استخدام ما سخره الله أصلا للإنسان - وهذا ما لم يفهمه اشبنجلر بخصوص هذه الحضارة } وكان في الحضارة الغربية من أجل إخضاع الطبيعة للإرادة الإنسانية ، وهذا ما لم يحدث في حضارة من قبل سواء على مستوى الأمل أو على مستوى الإنجاز الفعلي ،

أخيرا حدث ذلك - جزئيا بالطبع - ولكن على نطاق واسع ، فقد صمم الناس والقادة في هذه الحضارة على النضال ضد الطبيعة ، وتوجيهها والسيطرة عليها ، مهما كلفهم ذلك من ثمن ، فاندفعوا في هذا التيار ينافسون الطبيعة حتى استطاعوا أن يبدعوا كونا صغيرا لا يخضع إلا لإرادة الإنسان هو الآلة ، ثم شهد التطور انقلابا هائلا في علاقة الإنسان بالطبيعة ، وذلك بفضل اختراع الآلة البخارية وما بعدها ، فإلى ذلك الحين كانت الطبيعة تؤدي خدمات أما الآن فقد وضع في عنقها النير ، وصارت كالإماء يقاس عملها بقوة الأحصنة البخارية ، وامتدت حمى النشاط إلى كل شيء ، فأصبحت كأنها قوة شيطانية زلزلت الأرض ، لكن إبليس ما لبث أن كشف عن نفسه في الآلة ، فثار هذا المخلوق على خالقه - مع التحفظ على هذا التعبير - واستعبده ، وكما ثار الإنسان من قبل على الطبيعة وحاول استعبادها فإن الآلة قد أصبحت غاية خالصة بعد أن كانت وسيلة ، وتحكمت النزعة الآلية في كل شيء في هذه الحضارة ، وخضع كل ما هو حيوي للآلة ، واستحال العالم الطبيعي إلى عالم صناعي قد خلا من الروح والحياة ، بل أصبحت المدنية نفسها - وهي المرحلة الأخيرة من الحضارة - آلة تفرض نفسها على كل شيء ، وأصبح التفكير بواسطة الأحصنة لا بالقوة الروحية ، وبعد أن كانت السيادة في الحياة الاجتماعية لطبقة النبلاء الممثلين للدم والجنس أصبحت في أيدي طائفة من أصحاب الأعمال الصناعية والمهندسين والصناع في المدن الكبرى ، وأصبحت قيمة الكم المعيار لكل شيء ، فزالت القيمة الفردية وفقدت الشخصية ، وصار الطابع المثالي للإنسانية هو طابع سائق الآلة المستعبد لها في الوقت نفسه، و قام التوتر شديدا بين مديري الأعمال ومنجزيها حتى أصبح يهدد بكارثة .فكان ذلك إيذانا بتمام الانحلال .

وكمثال يوضح قيادة الآلة للإنسان - وليس العكس - ما ذكره تشارلز فرانكل في كتابه " أزمة الإنسان الحديث " ص 202 بقوله ( إن القرار الذي يعين موعد ومكان وكيفية إحداث تغيير تكنولوجي هو في الحقيقة قرار اجتماعي يؤثر في أنواع هائلة من القيم ، ومع ذلك فهذه القرارات تتخذ فيما يشبه الفراغ الاجتماعي ، فالتجديدات التكنولوجية تحدث بانتظام من أجل التسهيلات التكنولوجية ، دون أي وسيلة مقررة لتقدير نتائجها أو ضبطها ، أو على الأقل تخفيف أثر صدمة هذه النتائج ) ص 202: ( إن القرارات الخاصة بكيفية استعمال التليفزيون أو عدم استعماله قد اتخذها كلها تقريبا قوم ضاقت رقعة مسئوليتهم وانحصر أفق تفكيرهم ضمن بضع قيم قليلة منتقاة ، فالثوريون الحقيقيون هم المهندسون ، وهذا وإن كنا نقوله باعتزاز لكننا ننسى أن نضيف إلى ذلك أنه لو جاءنا هؤلاء على أنهم مخططون اجتماعيون لاعتبرهم الكثيرون منا طغاة ، فالمهندسون والصناعيون الذين يتخذون القرارات الخاصة بالتغييرات التكنولوجية يملكون قوة ضخمة تؤثر في نوع حياتنا وأحوالها ، مع أنهم لا يعرفون أنهم يملكون هذه القوة ولا يهمهم أن يستخدموها ، وهذا هو أحد الأسباب التي جعلت الكثيرين من الرجال والنساء يشعرون بأنهم في أيدي أشخاص يحركونهم كما يشاءون ، ولكنهم لا يعرفون هؤلاء الأشخاص ولا يمكن السيطرة عليهم ) ص 203

وبالأحرى لأن هؤلاء الأشخاص لا يدركون كنه ما يترتب على جهودهم من قرارات .

(5 ) وإذا كان لابد من اعتراف بعبقرية هذه الحضارة فعبقريتها الأكبر التي لا يشبهها فيها حضارة قط هي أن الحضارات التي بادت كان يأتيها دمارها - على حد علمنا - من حيث قصرت في الشروط التي نهضت بها ، ونحن هنا أمام ظاهرة متميزة : أمام حضارة يأتيها أمر الله من حيث مواصلتها الشروط التي نهضت بها ، وعلى الأخص في التقدم العلمي ( المتمرد على الدين ) :

إن التقدم فيما أصبح يسمى " هندسة العقول " تارة و" هندسة الشخصية " تارة أخرى كما يقول جون ج تايلور في كتابه " عقول المستقبل " ص 41-42 ترجمة الدكتور لطفي فهيم العدد 92 من سلسلة عالم المعرفة التي تصدر بالكويت : أصبح يبشر بتطورات يقول عنها : ( لاشك أنها سترى النور خلال القرن القادم { الواحد والعشرين } إذ سيكون ممكنا ظهور عرائس متحركة إنسانية بزرع أقطاب كهربية في المراكز الحركية للحاء المخ ، فإذا أمكن للمخرج أن يتحكم في النبضات الكهربية عن طريق الراديو إلى ممثل زرعت في رأسه هذه الأسلاك فإن مسرحا للعرائس المتحركة الحقيقية سيظهر إلى الوجود .. . ومن غير المعروف الآن ما ذا ستكون اتجاهات الناس نحو شخص زرعت في رأسه الأقطاب الكهربية ، ومع تطور الثورة العقلية قد تتغير آراء الناس ويقبلون على الأشخاص ذوي الأقطاب الكهربية المزروعة ويصبح قبولهم في المجتمع أمرا عاديا شأنهم شأن الأشخاص الذين عرف عنهم أنهم يتعاطون المخدرات )!! وسيكون من الممكن توجيه التنبيه الكهربائي لأجزاء معينة من لحاء المخ ليصبح الشخص عدوانيا ، أو وديعا ص 50 !! ولكي نجعله معتمدا على نفسه بعد ذلك لا يستدعي الأمر سوى تسليمه جهاز الترانزستور الذي يوصل التيار الكهربي وبه مفتاح " ضد العدوان " يضغط عليه عندما يحس بقدوم النوبة ، ومن الممكن إجراء عمليات استئصال لأجزاء من اللحاء يمكن بها أن يعيش المرء حياة هادئة !! ص 51 .

يقول المؤلف ( إن هذه التطورات تؤدي بنا إلى تصور رؤى مشابهة لما أورده جورج أورويل المؤلف الروائي الإنجليزي في روايته المعروفة " 1984" عن الناس المبرمجين ، إلا أن هذا يبدو غير محتمل لعشرات السنوات المقبلة ، وعلى أي حال فإن التغير لن يكون دائما ، ومع ذلك فقد تنشأ مشاكل قانونية إذا استخدمت هذه الأجهزة المصغرة في السلوك العدواني ، فلنفرض شخصا يعاني من نوبات عدوانية حادة فإذا سمح له بالاختلاط بالناس وهو يحمل مثل تلك الأجهزة فمن سيكون مسئولا إذا عطب الكومبيوتر أو غيره من المكونات وارتكب الرجل أو المرأة عملا إجراميا أو ارتكب جريمة قتل ؟ هل سيكون المسئول صناع تلك الأجهزة أو الجراح الذي قام بعملية غرسها أم الشخص نفسه ؟ وكيف نعاقبه على فعلته ؟ ) ص 54

ويقول ( يحمل المستقبل في طياته توسعا كبيرا للعقل وامتدادا للخبرات العقلية يفوق تلك التي يخبرها العقل في حالته الطبيعية ، فسيكون الإنسان في المستقبل أقرب بكثير إلى العرائس المتحركة … ويثور السؤال هل سيكون دمية حية أم سيكون أقرب إلى الآلة مما هو عليه الآن ؟ .. يبدو أنه سيسير في طريق التحول إلى آلة ) ص 43

يقول المؤلف : ( لقد حملتنا الثورة العقلية إلى بداية عصر هندسة الشخصية ، فمنذ فترة أمكن إدخال تعديلات كثيرة على الشخصية ، وهذه الشخصية التي يعتريها التغيير سواء المؤقت أو الدائم يمكن اعتبارها المقابل العقلي الثابت للمظهر الجسماني الثابت الذي يحفظ للشخصية شكلها المستمر من يوم إلى يوم ويضفي على الشخصية واحدية تميزه عن كافة البشر الآخرين ، وهذه الشخصية نفسها هي التي ينتابها التعديل بمختلف وسائل الثورة العقلية وهي تتم اليوم بنفس السرعة التي تؤدي بها جراحة التجميل إلى تغيير مظهر الشخص الجسماني الخارجي ) ص 57

فأية هندسة ؟ وأية شخصية ؟ وأية آلة بشرية سيتحول إليها الإنسان ؟ وأية مهزلة ؟ وهل من الممكن عمليا أن نتوقع أن يقوم المجتمع بتغيير بنائه الأخلاقي والجزائي استجابة لطموح علمي شديد التسارع أخذ يعمل أو يعبث في مجال ما يسمى " هندسة الشخصية " ، وليصبح أسيرا بعد ذلك بيد القائمين على هذه العمليات الجراحية والعقاقيرية من أطباء وعلماء لا ندري أية قيم يؤمنون بها أو يعملون في خدمتها غير شهوة التقدم العلمي التكنولوجي الذي يتحرك ثوريا بينما أن القيم هي بطبيعتها إذا لم تستقر فإنها تتلوث ؟

يقول فيرنر هايزنبرج عالم الفيزياء الشهير في كتابه " المشاكل الفلسفية للعلوم النووية " - ترجمة الدكتور أحمد مستجير إصدار الهيئة المصرية العامة للكتاب عام 1972 : ( الناحية الرهيبة في وجودنا الحالي - وأنا لا أذكر فقط المصادر الجديدة للطاقة التي سيطرت عليها الفيزيقا والتي يمكنها أن تجر إلى خراب لا يمكن تخيله - فهناك احتمالات جديدة للتدخل في الطبيعة تهددنا في حقول كثيرة ، ولو أنه من الصحيح أن الوسائل الكيميائية لتحطيم الحياة لم تستعمل في الحرب الماضية فلقد اكتسبنا في البيولوجيا أيضا كثيرا من التبصر في عمليات الوراثة ، وفي تركيب جزيئات البروتين الكبيرة ، حتى أصبحت إمكانية الإنتاج الصناعي للأمراض المعدية قائمة ، بل ربما كان هناك ما هو أكثر شرا ، فإن التطور البيولوجي للإنسان قد يوجه نحو طريق انتخاب معين ، وأخيرا فإنه من الممكن التأثير على الحالة الذهنية والروحية للناس ، وهذا قد يقود إذا أجري علميا إلى تخريب ذهني رهيب لكتل بشرية ضخمة ، إن لدينا الآن الانطباع بأن العلم يخطو على جبهة واسعة نحو منطقة يمكن أن يتوقف فيها فناء أو بقاء حياة البشرية كلها على عمل عدد قليل من مجاميع صغيرة جدا من الناس ، ولقد نوقشت هذه الموضوعات حتى الآن في الجرائد بشكل صحفي وعاطفي ، ولم يعرف الكثير من الناس للآن الخطر الرهيب الذي يتهددهم نتيجة للتطورات العلمية ) ص 122

(6) يقول الكاتب أبو خلدون في جريدة الخليج 6\9\1995تحت عنوان( اقتلونا ولكن بشرف : في 21 يوليو 1969 قدم الدكتور هنري كيسنجر بوصفه مستشارا لشئون الأمن القومي في إدارة نيكسون دراسة إلى الكونجرس الأمريكي بعنوان " النمو السكاني في العالم الثالث حطر على الأمن القومي للولايات المتحدة " وأخطر ما في هذه الدراسة التي ساهم في إعدادها برينت سكوكروفت في إدارة ريجان ، وكان مساعدا لكيسنجر في إدارة نيكسون هو أنها تقول : " عن طريق تحديد النسل والمجاعات والكوارث الطبيعية ينبغي على الولايات المتحدة أن تسعى إلى تخفيض العدد عن طريق الحروب والأوبئة "

والأخطر من ذلك ما نشره ليندون لاروش مرشح الرئاسة الأمريكية عن المستقلين في مجلة يصدرها بعنوان " إيسيكيوتيف "إنتليجنس ريفيو " من أن الولايات المتحدة طلبت من منظمة الصحة العالمية تطوير فيروس يساعد على تخفيض عدد السكان ، وكانت النتيجة أن دخل لاروش السجن لمدة 15 سنة .

وتزامن تقدم علم هندسة الجينات في الولايات المتحدة مع طروحات كيسنجر وسكوكروفت واتجاهات الكونجرس ، وفي تقرير قدمته هيئة العلاقات العامة إلى مجلس العموم البريطاني عام 1987 جاء أن العالم الأمريكي روبرت جالو لم يكن يقول الحقيقة عندما زعم أنه اكتشف فيروس الإيدز وإنما هندسه وراثيا .

ويقول التقرير أن روبرت جالو أدخل الفيروس مع لقاح الجدري الذي جرى إرساله إلى أفريقيا لكي يقال إن المرض أصله أفريقي ، كما جرى إدخال فيروس الإيدز مع لقاح التهاب الكبد الوبائي الذي يصيب الشواذ .

وفي شريط فيديو علمي موثق صدر عام 1987 الدكتور روبرت ستريكر : إن الفيروس الذي يسبب سرطان الدم لدى البقر وفيروس آخر اسمه " شيب فيسنا " الذي يصيب الخراف إذا دخلا نسيجا بشريا يتبادلان جينات معينة تحدث طفرة ينجم عنها فيروس مشابه لفيروس الإيدز ، وهذا مافعله روبرت جالو في مختبراته .

وياروبرت جالو وياكيسنجر ويا سكوكروفت ويا كل أمريكا اقتلونا ولكن بشرف )

تلك صرخة كاتب تبين كيف تتفاقم المشكلة من حيث إن كتلا بشرية كبيرة ومعها المسيطرون على الحكم كما يقول فرينر هايزنبرج ( تعمل بلا وعي وبتحامل أعمى ، فإذا ما أعطيناهم المعرفة العلمية فمن الممكن أن يتحرك العالم إلى موقع تصفه كلمات الشاعر شيلر : " الويل لمن يهبون نور السماء للأعمى ، إنه لا يلقي له ضوءا ، إنما يحرق الأرض والمدائن ويملؤها سوادا " ) ص 123 ، والأعمى هنا هو الحضارة التي قامت أصلا على العلمانية .

( 6 ) ولابد من أن نسجل هنا أنه لقد غاب عن اشبنجلر التنبؤ بما سوف تصير إليه خطة هذه الحضارة في السيطرة على الطبيعة من الكارثة البيئية التي تسير إليها الإنسانية سيرا حثيثا ، من حيث لا تستطيع لها دفعا ، وبحيث تؤدي إلى جعل كوكب الأرض - حرفيا - غير صالح لسكنى الإنسان ، وفقا لما يقرره خبراء البيئة والحضارة ، الأمر الذي نجده ملخصا جامعا فيما كتبه آل جور نائب رئيس الولايات المتحدة في التسعينيات في كتابه عن " الأرض في الميزان " ، وهذه هي الحفرة النهائية لقاع التدهور الذي تنجر إليه هذه الحضارة والتي تجر إليها البشرية معها .

تلك هي الأعراض الخطيرة المؤذنة بمقتل شبه حتمي ، تلك التي تعاني منها الحضارة الأوربية الأمريكية ، وهي أعراض بارزة واضحة يكاد المرء يلمسها بيديه ، انتبه إليها بعض المفكرين والفلاسفة والفيزيائيين الكبار ، إلى أن أودعها اشبنجلر في كتابه الضخم " انحلال الغرب "

لهذا تعالت الصيحات من كل مكان ضد الآلية ، وبأن النزعة الآلية في تصوير الوجود يجب أن ترفض ، أو أن تعدل بنزعة روحية على أقل تقدير ، فاتجه البعض إلى صور الحياة البسيطة ، ونادوا بالعودة للطبيعة ، وأخذوا يمارسون الألعاب الرياضية بدلا من الحركة الطبيعية التي تركت للآلة ، وأصبح منظر المدينة الكبرى يثير في نفوسهم كراهية وجزعا ، وانصرف أصحاب المواهب المبدعة إلى التفكير النظري ، ثم جاءت موجة هائلة من المذاهب التي يسودها اللامعقول والخوارق ، فطغت على الحياة الفكرية ، وشاعت روح اليأس

ولكن هذه الصرخات وتلك الصيحات تحولت إلى أصداء .

وفي تقديري انه إذا كان لابد من لصق وصف الإنسانية بهذه الحضارة فإنني استسمح اشبنجلر في أن نعطيه لها من حيث ما أعدته للجميع من دمار بمشروعها الحضاري التليد ، كما أنها استحقت وصف العبقرية مرتين : مرة لأن مقتلها يأتيها من موطن تقدمها ، ومرة من حيث إن هذه النهاية التي لم تحدث على هذا النحو لحضارة من قبل كامنة في كونها قد عاشت كحضارة خاصة ، ولكنها عندما انتهت جرت معها الجميع .

وأخيرا فهل هي أمراض قابلة للعلاج أو لإعادة التأهيل :؟

على العكس من ذلك فإن فلسفة اشبنجلر وصلت في نهايتها إلى أن العذاب الذي تعانيه هذه الحضارة الأوربية الأمريكية اليوم ليس عذاب أزمة طارئة لابد من أن تزول يوما ، وإنما هو عذاب كارثة هائلة بها سوف تنتهي مأساتها الطويلة الدرامية الرائعة - ص 305 - ككائن عضوي كان لا بد له من شيخوخة ظهرت ، ومن نهاية أشرفت .

وختاما فإنني أرجو ألا أكون قد أثرت غضب - وربما - حقد - التغريبيين في بلادنا دروايش هذه الحضارة ، وببغاواتها من أصحاب الأسماء الكبيرة والصغيرة ، فإن لم يكن ذلك كذلك فإنني أرجو ألا يكون غضبهم غيرة عليها بقدر ما هو خشية من انبعاث الحضارة التي قطعوا جذورهم عنها .

=============

#سقوط حضارة

كثير من الدراسات والتقارير - كما جاء بجريدة آفاق عربية بعددها بتاريخ 1\10\2003 تعرضت بالرصد والتحليل للحدث «الجلل» - الحادي عشر من سبتمبر - وتداعياته منذ وقوعه وحتى الآن.

وفي هذا الإطار جاء العدد الجديد من حولية «أمتي في العالم» الذي يرصد عام 2001 و2002 ويصدره مركز دراسات الحضارة وتديره الدكتورة نادية مصطفي - أستاذ العلوم السياسية بجامعة القاهرة - وفي هذا العدد أكد الباحث أسامة مجاهد في بحثه عن «الاستجابة الرسمية الأمريكية» أن المسألة الثقافية - الحضارية والدينية - لم تعد في الظل ولم تعد تابعًا بل أصبحت المحرك للتاريخ منذ 11 سبتمبر حيث أصبح هناك كثافة في استخدام المصطلحات الدينية في الخطاب الرسمي الأمريكي وصعود البعد الثقافي والديني إلي المرتبة الأولي في الصراع علي الأقل ظاهريًا.

هذا الخطاب الذي يسيطر عليه البعد الديني انتقل كذلك إلي الخطاب الأوروبي في تعامله مع الأزمة وبخاصة في بريطانيا. وفي بحثها بعنوان «الدائرة الأوروبية والانعكاسات علي الأزمة» أكدت الباحثة مروة فكري أن الخطاب السياسي لرئيس الوزراء البريطاني توني بلير برز فيه البعد الثقافي» فقد شدد علي القيم التي يؤمن بها الغرب . بل إن خطاب بلير جعل أوروبا والولايات المتحدة في كفة واحدة مقابل العالم أجمع فالعالم عنده أصبح منقسمًا إلي عالم غربي متحضر وآخر غير غربي وغير متحضر.

ولم يقتصر ذلك التوصيف - طبقًا للباحثة - لطبيعة الأزمة علي الخطاب البريطاني، بل امتد لأوروبا كلها حيث جاء التوصيف الرسمي الأوروبي بشقيه الجماعي والقومي للهجمات علي الولايات المتحدة علي أساس ثقافي حضاري فيه إعلاء لقيم أوروبا وحط للآخرين.) اهـ

وفي الحرب الأمريكية علي ما تسميه الإرهاب ترصد الدكتورة زينب عبد العظيم في دراستها «الاستراتيجية الأمريكية العالمية واستمرار الحرب ضد الإرهاب» ضمن حولية «أمتي في العالم» أهداف تلك الاستراتيجية وتذكر من بينها ( شن حرب مفتوحة ضد دائرة الحضارة الإسلامية بالتحالف مع الصهيونية. فالرئيس بوش وصف حملته علي الإرهاب بأنها «حملة صليبية» والدراسات تؤكد - وهو ما تؤيده الباحثة - أن السياسات الأمريكية منذ 11 سبتمبر هي تجسيد دقيق لمقولة صراع الحضارات. )

أية قيم وأية ثقافة وأية حضارة ساقطة تلك التي يطرحونها بين أقدامنا ؟

إنها الحضارة الجثة : تعبيرا لا عن موتها النهائي بالضرورة ولكن تعبيرا عن افتقارها إلى الروح ومن ثم إلى الخلق ، وأخيرا تعبيرا بكونها على حافة السقوط .

وإذا كان الشيء بالشيء يذكر فإننا لا نبتعد كثيرا إذا نحن دعونا إلى تشريح جثة تلك الحضارة بداية من خلال هذا السؤال الحضاري ونحن نوجهه إلى طبيب شرعي : هل يمكن أن تكون الخياطة الطبية التي رأيناها منذ وقت مضى على جثتي قصي وعدي - ولدي صدام حسين - بادئة من يمين الصدر ويساره ملتقية فوق السرة منتهية إلى أسفل البطن في كل من الجثتين على شكل دقيق منتظم بالمسطرة كحرف Y هل يمكن أن تكون نتيجة ضربات عشوائية أثناء القتال ؟ أم هي نتيجة مشرط طبي قام بعمله لهدف معين ؟ وما هو ؟ هل هو للتخلص من قلبين يملكان أسرارا يخشى القاتل من أن يتكلما ؟ هل يمكن أن يكون من أجل سواد عيون " هند" آكلة أكباد العصر ؟ أم من أجل هدف حضاري - على الطريقة الغربية - للتجارة في قطع الغيار البشرية ؟ وهل كان هذا هو السبب في تأخير عرض الجثتين أياما بعد قتلهما ؟ وهو السبب في تأخير تسليمهما لأهلهما حتى تؤخذ الضمانات لمنع الخبثاء من إعادة التشريح وفضح هذا العمل الحضاري الفريد ؟ وهل يجري ذلك على كافة جثث العراقيين والفلسطينيين والأفغان الذين يقتلون بدم بارد مما يوحي برواج قادم في تجارة حضارية واسعة في عالم الطب الغربي ؟ أم ماذا ؟

أية حضارة تلك ؟ بل أي حقارة ؟

أليس من العجيب أن نكتشف أخيرا أن المثل القائل : من كان بيته من زجاج فلا يرمي الناس بالحجارة لم يعد صحيحا ، لقد اكتشفنا أخيرا أن صحته تتوقف على ما إذا كان صاحب البيت على قدر ولو ضئيل من الحياء ، أو كان الطرف الآخر على استعداد لاستعمال ذراعيه ، لهذا وجدنا " الأمريكي " صاحب البيت الزجاجي المتهالك ( المتحضر ) على النحو المبين أعلاه يعاير المسلمين بأنهم أعداء عالمه ( المتحضر ) المسكون بروح يأجوج ومأجوج ، ويسلط عليهم ثوره الشاروني الهائج لكي يبيدهم باعتبارهم غير مؤهلين للانخراط في معبد " حضارته " المنكوس ، ثم يأمر عملاءه بينهم أن يعيدوا " تأهيل الدعاة " وخطباء المساجد ، فيسرعون إلى ما أمر ، ولو كانت لهم ذراع يستعملونها للرد لأشاروا بأصبع من يدهم - مجرد إشارة - إلى " جثة حضارته " المرموز لها بما عرضوه علينا من جثث الشهداء ، أن يعيد تأهيلها بينما هي جثة حضارة عفنة جرى تشريحها على يد أطبائهم فلم يجدوا بها من قطع الغيار المطلوبة شيئا : لا عقلا ولا روحا ولا قلبا ولا خلقا ، غير مشرط دقيق بيد علم أجوف جاهل بقسم أبقراط

وإذا لم يكن للمسلمين اليوم قدرة على استعمال أصبع يشيرون بها لاستغراقهم في بركة آسنة من السكون ، فإن لبعضهم ما تزال حاسة استماع تجعلهم في حالة أرق مدمن ، يطلبون النوم كالذين من حولهم ولكنهم لا يستطيعون ، ذلك أنهم يسمعون أصواتا تأتي مرعدة ، أو مقعقعة كأنها طقطقة عظام التاريخ ، أو كأنها تكسر أعمدة الجغرافيا : حدث جلل ، إنه سقوط حضارة لا يصلحها " إعادة التأهيل " !

لماذا والأمر الذي لاشك فيه أن لهذه الحضارة تلك التي تتساقط إيجابيات شامخة - كما يقول بعض المراقبين - : في مجال العلوم ، والتخصص ، والتكنولوجيا ، وتوزيع العمل ، والإنتاج والتسويق ، والاستهلاك ، واختزال المعرفة ( الكمبيوتر ) واختزال الزمن والمكان ، وهي اليوم تتربع على عرش العلم ، وتملك قوة الذرة ، وتمشى على القمر ، وتجوب الفضاء وتزرع قلوب الموتى في الأحياء ، وتصنع أجناساً جديدة من النبات والحيوان بالهندسة الوراثية ، وتفجر الطاقة الكهربائية من شعاع الشمس ، وتصنع السدود والأنفاق والكباري مئات الكيلومترات ، وتحفر تحت المحيط أنفاقاً مثل المدن .

لكن أليست هذه هي القشرة " الشمعية " فوق ظاهر الجثة المادية ؟ تعالوا بنا نتجاوزها لنلقى نظرة على صانع الخلايا في العظام لنرى ما إذا كانت آيلة للسقوط أم بحاجة إلى " إعادة تأهيل " كشأن آلاف الدعاة في بعض البلاد الإسلامية وفقا لسجود وزارات الأوقاف والشئون الإسلامية فيها أمام تعليمات " الغزاة ؟!

إن المشكلة بدأت في خطة قيام هذه الحضارة في مشروع النهضة الأوربية ، والتي تلقت درس القرون الوسطى استبعادا للكنيسة ، والدين ، باعتبارهما العائق الأكبر في طريق التقدم ، ومن ثم قررت التوجه في مشروعها .. لبناء الحياة الدنيا وإقصاء ما يتصل بالآخرة ، يقول الدكتور هرمان راندال في كتابه " تكوين العقل الحديث " وهو يتكلم عن الروح الجديدة التي سيطرت على النهضة الأوربية : ( تقوم هذه الروح الجديدة في أعماقها على اهتمام متزايد بالحياة الإنسانية كما يمكن أن نعيشها على هذه الأرض ، ضمن حدود الزمان والمكان ودون ارتباط بالعالم الثاني أو الأخروي ) ج1 ص 184: وهؤلاء هم الذين قال الله فيهم ( فمن الناس من يقول ربنا آتنا في الدنيا وما له في الآخرة من خلاق ) 200 البقرة .

وإنسان هذه الحضارة عموما هو النموذج العالمي الذي يغزو الكرة الأرضية ويسيطر على الذهن البشري في الأقطار المتقدمة والمتخلفة على السواء .

ومن هنا عبر الفيلسوف الفرنسي الشهير هنري برجسون عن حالة الخواء الروحي في الحضارة المعاصرة تعبيرا رائعا - على حد قول الفيزيائي الشهير لويس دي برولي الحائز على جائزة نوبل عام 1929 في كتابه " الفيزياء والميكروفيزياء " ترجمة ونشر سلسلة الألف كتاب عام 1967 - بقوله : ( " يتطلب جسدنا المتوسع زيادة في الروح " ثم يقول : هل سنستطيع الحصول على هذه الزيادة بنفس سرعة تقدم العلم ؟ لاشك أن مصير البشرية متوقف على ذلك)

يقول دي برولي ( والآن في هذا الجسد الذي اتسع أكثر مما ينبغي بقيت الروح كما كانت أضأل من أن تملأه وأضعف من أن ترشده .. إن هذا الجسد المتخم ينتظر إضافة في الروح ، وإن الآلة تتطلب تصوفا .. إن الإنسانية تئن ، تكاد تسحقها أثقال التقدم الذي صنعته ) فماذا يعني جسد خلا من الروح ؟ أليس يعني أنه صار جثة ؟ حضارة هي جثة ؟

إننا نمسك هنا بتلابيب المأساة الحقيقية - هكذا يقول دي برولي - ..( إن إرادة رجل واحد فقط تكفي لأن تفك من إسارها ظاهرة ذات قوة هائلة ، وتزداد مسئولية الإنسان نتيجة لهذه الزيادة الهائلة في قوته ، بنسبة واحدة ، ويمكن أن تصبح نتائج سقطة واحدة مما يفوق الحصر ، وعلى ذلك يصبح للمشكلة الأخلاقية مغزى أعظم مما كان لها في الماضي .)

نعم لقد أصبحت المشكلة الأخلاقية لرجل واحد يتربع على قمة السلطة في بضع دول غربية يمسك بيده الحقيبة النووية - ربما يكون قد شرب قدرا من الكحول في ليلته الليلاء أكثر من المسموح به - أصبحت على قدر هائل من الخطر بالنسبة للإنسانية كلها .

فهل يفهم " العم سام " أن الأولى به إعادة تأهيل لجثة حضارته بدلا من شغله بـ" دعاة المساجد " في السعودية أو مصر ؟ لكن أليس هذا مستحيلا ؟

ويضع ألبرت شفايتزر يده على نفس المشكلة في كتابه الشهير " فلسفة الحضارة " عندما يقول :" إن الاتساع الرائع في المعارف المادية والقوة لا يكوَِن جوهر الحضارة " . و يرى أن الأعمال المبتكرة : عقلية ومادية لا تعطى آثارها الحقيقية إلا إذا استندت الحضارة في بقائها ونمائها إلى استعداد نفسي يكون أخلاقياً حقاً. وأنه إذا فقد الأساس الأخلاقي تداعت الحضارة حتى لو كانت العوامل العقلية والفنية والمادية تعمل عملها في اتجاهات أخرى . وأنه لن يكون في وسع أحد إنقاذها إلا إذا اكتشف غالبية الناس لأنفسهم معنى أخلاقياً عميقاً راسخاً عن طريق نظرية أو عقيدة في الكون . وأنه بغير هذه التجربة الروحية العامة لا سبيل إلى المباعدة بين عالمنا وبين الانهيار الذي يغذ السير إليه.

وهو يذهب إلى أنه منذ أن تخلت الحضارة الغربية عن الدين في مشروعها الأساسي للنهضة ثم انصرفت الفلسفة الأوربية المعاصرة عن القيام بدور إيجابي في هذا المجال ، سواء على المستوى العالي من الفلاسفة ، أو على المستوى الشعبي من أتباعهم فإن ( الأفكار الأخلاقية التي تقوم عليها الحضارة تجوس منذ ذلك الوقت أنحاء العالم فقيرة لا مأوى لها ، ولم تتقدم نظرية في الكون لتسندها إلى أساس متين . ) فهل يفهم توماس فريدمان الصحفي الأمريكي فاضح الصيت هذا الكلام ، وأليس الأولى به أن يركبه هم إعادة تأهيل جثته الحضارية التي أفرزته ويا للعجب كيف أفرزته ، أم أنه لا عجب لأن جثتة هكذا تفرز ؟

وهاهو تشارلز فرانكل في كتابه " أزمة الإنسان الحديث " يشير إلى أن كثيراً من فلاسفة العلم المعاصر مثل مرتيان ونيبور ومانهيم يتحدثون عن ( التقدم الفكري والعلمي ـ وهو أكبر مفخرة لما أتاه الإنسان الحديث ـ على أنه مجرد أحبولة وخداع ، وأن هذا العالم الحديث قد أعطى مكاناً مركزياً في الحضارة لجزء من الحياة البشرية ، ليس في حقيقته سوى جزء صغير بالنسبة إلى الأجزاء التي تعمل على التقدم الإنساني ، وأن حماسة كوندورسيه ، وجون ستيوارت مل ، للعلم الحديث وإيمانهما بالعلم وأملهما في المستقبل تنبذ ـ الآن ـ على أنها أوهام قوم ، معرفتهم بالطبيعة البشرية مسطحة جداً ، مثل مفهومهم لإمكانات الحياة البشرية ومعضلاتها . ) فهل يفهم هذا الكلام العم سام ، وأليس هو الأولى بالعمل على إعادة تأهيل الجثة التي أفرزته ، أم أن الفرصة قد أفلتت منه إلى الأبد ؟

ولا يمكن اعتبار ما ظهرت به الصهيومسيحية في الولايات المتحدة وبعض البلاد الأوربية الأخرى رجعة حقيقية إلى الدين أو نوعا من إعادة التأهيل ، فهذا أولا : مالا يمكن تاريخيا أن يكون تعديلا في بنية حضارة و مسيرتها الأساسية وهيكليتها التي عقدت وقامت واستمرت منذ قرون على استبعاد الدين من مشروع النهضة ، تماما كمالا يمكن لحضارة أخروية كالحضارة الإسلامية أن تعدل هيكليتها لتكون على منوال الحضارة الغربية ، محاولة كل منهما عندئذ تصبح انخلاعا من الطبيعة الخاصة بها من جهة وفشلا في الوصول من جهة أخرى .

وهذه الرجعة ثانيا لا قيمة دينية لها وهي لم تربط بالقيم الأساسية للدين ، في العقيدة والأخلاق والقيم الإنسانية والتشريع ، وطالما اقتصرت خارجيا - وهو بيت القصيد - على اختراع العدو (الإسلام )، والشحن ضده ، وشن الحروب الاستباقية ضده ، والصراع على النفط والأرض والمال في أرضه ، وطالما ظلت تقتصر داخليا - كما هو الحال - على ما يشبه مذهب الإرجاء : " لا يضر مع الإيمان معصية كما لا ينفع مع الكفر طاعة " ، وطالما انحصر دور المسيح - حسب تصورهم - في الغفران للممسوحين مهما ارتكبوا من آثام .

واقرءوا ما نشرته بعض جرائد الإمارات ( الخليج \ الاتحاد ) في 27\5\1988من حلقات الفساد الخلقي لكبار وأعلام المؤسسات الدينية في أمريكا من أمثال جيم بيكر الذي بدأ حياته كواعظ ديني يبث برامجه على شاشة التليفزيون ، وارتقى في هذا المسلك إلى أن بدأ في عام 1974 في ( بناء امبراطوريته الدينية ، وفيما بعد قام بالاشتراك مع زوجته المغنية والراقصة " تيم فاي " ببث برنامج تليفزيوني يشاهده 13،5 مليون عائلة عن طريق قمره الصناعي الخاص ومن خلال 178محطة تليفزيونية ، وأما العائدات فبلغت عام 1986 حوالي 129 مليون دولار وهو العام الذي سبق الفضيحة الأخلاقية المالية المدوية التي انفجرت عن علاقته الغرامية مع السكرتيرة " جاسكا هان " والتي اتضح فيما بعد أنها مستمرة منذ سبع سنوات مضت ، مما دعا قادة العمل الكنائسي في أمريكا إلى مواجهته بها : مما اضطره إلى الاعتذار بما هو أقبح : فتارة يعتذر بأنه وقع ضحية بريئة لامرأة متمرسة جنسيا ، وتارة بأنه فعل ذلك بقصد إثارة غيرة زوجته فحسب ، وتارة بأن زوجته كانت على علاقة مع رجل آخر ، والطامة ما أجاب به أحد مساعدي جيم بيكر السابقين وهو " جاري سميث " في ( تقرير مسجل قانونيا بأن الواعظ جيم بيكر " شاذ جنسيا ") ، وأخيرا فإنه عندما أنكر ما نسب إليه في برنامج تليفزيوني شهير اسمه " نايت لاين " وعندما قال له مقدم البرنامج : إذا كانت هذه التهم غير صحيحة فلماذا لا تقوم برفع قضية قانونية ضد الذين اتهموك ؟ أجاب ( إنهم يعرفون أني لن أرفع أية قضية ، فأي شخص يعرف طبيعة جيم بيكر يعرف بأن جيم بيكر لا يرفع قضايا ضد الناس ) !! وللقصة ذيول طويلة في جانبها المالي ، وفي أشباهها من رجال الدين الآخرين في أمريكا أولئك الذين يقودون أمريكا اليوم إلى حرب صهيونية ضد الإسلام ، والحبل على الجرار طويل .

تلك إذن قشرة دينية أشبه بالقشرة الحضارية ويظل الخواء هو الخواء ، ولو أمسك بها خبراء التأهيل ليعيدوها إلى الطريق لتفسخت بين أيديهم . فهل يفهم سدنة الحضارة الغربية " هذا الكلام أم هم بحاجة إلى إعادة تأهيل بكونهم رمزا لحضارة كاملة طالها العفن من زمن كما طال أنوفا من حولهم كان من شأنها أن تستحيي فتشم ؟

وإذا كان الردع النووي الذي يحتكره كبار السدنة في هذه الحضارة هو الذي يؤجل انهيار المعبد على رءوس الجميع فهل بقى في المعبد رادع أخلاقي أو عقلاني يمنع انفلات الكارثة النووية الشاملة من بين أصابع رئيس مخمور؟ وماذا تكون هذه الكارثة المحتملة والتي إن لم تقع فعلا فإنها تؤثر سلباً بمجرد احتمال وقوعها .. ؟ ماذا تكون هذه الكارثة . سؤال طرحته منظمة الأمم المتحدة على عشرة من كبار العلماء في العالم ـ من بينهم أ. الدكتور محمد عبد الفتاح القصاص ـ واستغرقت الدراسة حوالي عام ، وتم تسليمها إلى بيريز دى كويلار السكرتير العام للأمم المتحدة آنذاك . وكانت نتائج الدراسة على النحو التالي - كما جاء بجريدة الأهرام 10\9\ 1988 ص 3 : سوف يموت في الساعات الأولى ما بين 2 إلى 3 بليون شخص ، 2 بليون آخرون ينتظرهم شتاء نووي مظلم تنخفض فيه درجة الحرارة إلى ما بين 20 ـ 25 درجة تحت الصفر . وفي نهاية الشتاء النووي المظلم وبعد أن تنقشع غمامة الدخان الأسود هناك مرحلة تساقط الغبار الذرى . تنشأ ـ عن قنبلة ذرية عادية ـ عاصفة سرعتها 750 كيلومتراً ، وتدمر أي مبان ـ مهما كانت قوتها ـ في بؤرة التدمير . الموجة الحرارية الناشئة عن طاقة القنبلة تكفي لإشعال حرائق تصل درجة حرارتها إلى مئات الدرجات المئوية . وتحدث نبضة ألكترو مغناطيسية تكفي لتعطيل كل الاتصالات السلكية واللاسلكية ، وتدمر كل الأجهزة الالكترونية في قارة أوربا. ؟

وبغير السلاح النووي ماذا صنعت ـ بالفعل ـ هذه الحضارة ؟ يعلق الفيلسوف الفرنسي روجيه جارودى على ضحايا الحضارة المعاصرة فيقول في كتابه " ما يعد به الإسلام " ص 37 - 39 : ( لقد أطلق مؤرخونا بحق اسم الغزوات البربرية على الأهرامات التي بناها تيمورلنك بسبعمائة ألف جمجمة بعد احتلاله أصفهان ، فماذا نقول عن إبادة ملايين الهنود الحمر في أمريكا على يد الفاتحين الأوربيين أصحاب المدافع ؟ وماذا نقول عن تخريب أفريقيا بانتزاع حوالي عشرين مليوناً من سكانها السود مما يعني أن عدد الضحايا بلغ مائتي مليون إذ كان أسر كل أسير يكلف قتل عشرة أفراد . بل ماذا نقول عن مذابح آسيا وحرب الأفيون ؟ والمجاعات التي فتكت بملايين الهنود بفضل الاستعمار وفرض الضرائب ؟ وماذا نرى في ضحايا الحرب العالمية الأولى والثانية ؟ وماذا نرى في قنبلة هيروشيما ؟ وماذا نرى في حرب فيتنام ؟ وماذا نرى في ضحايا فلسطين ؟ ( والعراق ) ، وماذا نسمي في عالمنا اليوم النظام العالمي للسيطرة الغربية ، هذا النظام الذي أنفق أربعمائة وخمسين ملياراً من الدولارات على التسلح عام 1980 وتسبب في العام نفسه في موت خمسين مليوناً من البشر في العالم بسبب لعبة المبادلات التجارية ؟ وهكذا ـ يقول جارودى ـ يعتبر الغرب إلى أبد الآبدين أكبر مجرم في التاريخ . ) فهل يفهم دراويش هذه الحضارة هذا الكلام أم هم بحاجة إلى إعادة تأهيل بدلا من حضارتهم ، إن هم بادروا فانسلخوا منها ثم اغتسلوا ؟

ومن غير ممارسة فعلية للقتال : هل كف الرجل الغربي عن ابتداع المناسبات " السعيدة " لاستئصال المسلمين الواقعين تحت سيطرته كالذي حدث في تحويل طائفة من الكازاخستانيين إلى فئران تجربة لقنبلته الذرية الأولى عام 1949 التي فاقت في قوتها التدميرية قتبلة هيروشيما ونجازاكي عشرات المرات ؟

إن المشكلة لا تقبل إعادة التأهيل ،إذ هي ترجع إلى سياق التطور الحضاري للغرب : تقدم هائل في تكنولوجيا الدمار مع تخلف هائل يتزايد بنفس النسبة في القيم والأخلاق ، هنا نمسك بتلابيب المأساة كما يقول دي برولي ، وهي مأساة المآسي التي لا يصلح لها خبير إعادة تأهيل الدعاة في السعودية أو في مصر أو في غيرهما .

هذا الخواء هو ما جعل بعض كبار المسئولين - على سبيل المثال - في الولايات المتحدة والمملكة المتحدة يبدون دهشتهم - وفي بعض الأحيان امتعاضهم - من النقد الموجه إليهم في كذبتهم الكبرى عن أسلحة الدمار الشامل كسبب في احتلالهم العراق ، وجعل أحد المدبرين لهذه الحرب - جون فولفولتز - يستغرب الإلحاح على هذه الفضيحة ، ويصرح في غير استحياء أو لنقل كطفل يكشف عن عورته في براءة منبوذة - بأن هذا السبب كان مطروحا لأجل كسب التأييد لحرب كان يجب أن تقع ، وقد وقعت كما يجب وهذا هو المهم ، وهذا كولن باول وزير خارجية الولايات المتحدة يقول في تصريح له بنشرة الجزيرة 23\6\2003 وهو يرد على سؤال عن هذه الكذبة بصوت مكيافيلي آت من قاع الجحيم : دعونا نستمتع بسقوط صدام ، وهو لا يدري - وربما كان يدري - أنه يحتفي بصعود الرذيلة ، ويخفي سقوط الفضيلة : سقوط جوهر الحضارة ، فلا هو ولا حضارته مما يصلح مع أحدهما إعادة التأهيل بينما هو يتلذذ بعفن الجثة إذ ماذا يعني جسد خلا من الروح ؟ أليس يعني أنه صار جثة ؟

أمثال هؤلاء في خوائهم أشبه بطفل لم يعن أحد بتربيته على قيم غير قيم الغابة ، والنفعية والانتهازية ، وهو الخواء الذي تحدث عنه شفايتزر عن فقدان هذه الحضارة لعقيدة صحيحة في الكون تقوم عليها

حتى في مجال تحرير الرقيق في الولايات المتحدة نجد الخواء ...وفي هذا يقرر أرنولد توينبى - في كتابه " تاريخ البشرية " ترجمة نقولا زيادة \ بيروت - : أن المحرر قانوناً لم يكن أحسن حالاً من مملوك مسلم إذ يقول ( بالنسبة لهذا المملوك فإن استرقاقه الشرعي قد يفتح الطريق أمامه ليصبح سيد عدد من المحررين قانوناً ) . ثم يقول : ( والسود في الولايات المتحدة الذين حرروا قانوناً في سنة 1862 لا يزالون يشعرون إلى الآن - وقد مر على تحريرهم أكثر من قرن - بأن الغالبية البيضاء من مواطنيهم لا تزال تنكر عليهم حقوقهم المدنية الكاملة ، وهم في شعورهم هذا على شيء كثير من الحق ) ج1 ص 24

في مقال للدكتور زكي نجيب محمود - الأهرام 22\11\1988 - عن ملاحظات له أثناء زيارته للولايات المتحدة الأمريكية خلال العام الجامعي 1953-1954يقول :

( وتصادف أن قرأ صاحبنا في صحيفة يومية تصدر في البلد الذي كان يقضي فيه النصف الأول من مهمته - يتحدث الكاتب عن نفسه - خبرا عن محاكمة مواطن أبيض قتل مواطنا أسود في حانة ، ولنلحظ هنا أنه بينما يسمح للبيض أن يرتادوا أماكن السود فإنه لا يسمح للسود أن يرتادوا أماكن البيض . وجاء في الخبر المنشور في الصحيفة عن محاكمة القاتل الأبيض نص العبارة التي نطق بها القاضي بحكمه وفيه يقول مخاطبا المتهم ما معناه : لقد قضت المحكمة بسجنك سنتين لا لأنك قتلت رجلا أسود بل لأنك سمحت لنفسك أن تخالط السود ، فوصلت بذلك جنسين أراد الله لهما أن ينفصلا ) ويكتفي الكاتب الدكتور بالتعليق بما علق به مدير الجامعة التي ذهب يعمل بها : " لقد عوقب القاضي الذي أصدر هذا الحكم" !! دون أن يبين كاتبنا على أي شيء عوقب القاضي : على الحكم بسنتين ثمنا لقتل إنسان ؟ أم على نطق القاضي بسبب الحكم بهما ؟

إن المشكلة هي في صميم تركيب هذه الحضارة : قوة في الجسد لم تسعفها قوة مطلوبة في الروح ، اللهم إلا الروح البوشية الانتقامية النابعة من المستوى الحضاري المتدهور ذاته ، قوة عمياء تنتقي من كتابهم المقدس ما يستهوي قتلة الأنبياء ، في غفلة بائسة عن التناقض الذي تلوثوا فيه ما بين الدين والنبوءة والفضيلة والحق ، قوة غاشمة جعلتها ترى المنكر معروفا ، والمعروف منكرا : إنها تفاخر بإنجازاتها على مستوى السلبيات كما يقول الأستاذ الدكتور رشدي فكار - في كتابه نهاية عمالقة ص 132- 137 وما بعدها - ( الحروب المدمرة الأولى والثانية - : { والثالثة المستمرة من انتهاء الحرب العالمية الثانية ، في البلاد الإسلامية ابتداء من مسلسل فلسطين إلى البوسنة إلى الشيشان إلى العراق } . تعدد وسائل الفناء للبشرية كأنما لا تكفي المتفجرات الذرية ، وإنما أضيفت إليها الهيدروجينية والكيماوية والبيولوجية . التلوث الذري لتشرنوبيل وما أحدثته من رعب ، وما حملته من سموم رياح الشمال القاتلة التي وصلت أصداؤها إلى الجنوب ، والتي أتلفت آلاف الأطنان من المحاصيل والمنتجات . المضاربات التجارية ليس فقط في البنيات الاقتصادية وإنما في المستخرجات الطبية والصيدلية سعياً وراء الربح . تعدد أنواع الأدوية والسموم بحثاً عن الكسب ولو لحساب إفشال الكبد والكلى . التلوث القيمي حيث يفاخر البعض بخروجهم على القيم والتقاليد والتنكر لكل رباط مقدس ، حتى المحرمات أبيحت باعتبار أنها مجرد ( تابو) . وأسست جمعيات وأقيمت مؤتمرات وصدرت قوانين لإباحة العلاقة مع المحارم والعلاقة المثلية في مجال الجنس . وأصبح موكب الفضائح الأخلاقية بما فيه من رشوة وجنس وعلاقات جنسية علنياً على كل المستويات ، وأصبح قاسماً مشتركاً لا ينفصل عن العظمة !! وأصبح المنتحرون على مستوى كبار الأدباء ، والقادة والمتخصصين في الدراسات النفسية والاجتماعية والانثروبولوجية من أمثال : جاكوب مورينو ، وجان لوفيفر وهمنجواي ، ومارياكالاس ، وداليدا ... إلخ . وقامت المراهنة الصناعية على دعائم فاسدة من : تلوث البيئة بافتقاد سلامة الجو ، وتلوث الجسد بالكيمائيات ...وتلوث العلاقات الاجتماعية ، بأمراض الجنس والإيدز . وتلوث العلاقات القومية بالفتن والقلاقل وبرك الدماء . وتلوث العلاقات السياسية والاقتصادية بالزيف والغش والمضاربة : حيث أعطيت لها أسماء التكتيك والاستراتيجية ومناطق النفوذ . وصارت الحضارة حضارة العقل التي قدمت اللامعقول على حد تعبير برتراندرسل . ) اهـ بل نقول : حضارة الجثة التي تأقلمت مع " الدود " .

إنها الحضارة التي قننت واقعيا في حربها ضرب المدنيين الأبرياء عبر تطور قيمي وحضاري وتكنولوجي امتد لعشرات القرون ، انتقلت فيه الإنسانية من حضارة إلى أخرى ، واصطحبت معها تغيرا في الثقافة المساندة بررت ما كان إرهابا لحساب أساليب الحرب الجديدة .

إن الحرب في ظل هذه الحضارة الحديثة لم تعد أسلحتها تعتمد على الطابع الأخلاقي أصلا ، كالشجاعة والشرف والمواجهة والمروءة والرجولة والمهارات الجسدية والإنفاق الشخصي ، لقد تطورت الحرب الحديثة تحت لواء التقدم العلمي التكنولوجي الهائل الذي أحرزته الدول الكبرى ومن يليها إلى حرب ليست لا تبالي فقط بضرب الأبرياء من المدنيين بل هي تجعلهم هدفها الأول والرئيس ، ولقد ذهب - ربما إلى غير رجعة - أسلوب القتال في العصور القديمة والعصور الوسطى " المتخلفة " الذي كان يعتمد على المواجهة بين صفوف القتال في أرض المعركة ، فإذا انهزم الجيش انتهت الحرب ، أما في التطور الحديث فقد انقلب الترتيب وأصبحت المعركة تبدأ أو تتطور إلى ضرب المدنيين أصلا فإذا تحطمت المدينة انتهت الحرب وتلك ثمرة من ثمرات التدهور الإنساني في معطيات الحضارة المعاصرة ،

إن الجيش الأمريكي في الحرب العالمية الثانية قام بضرب المدنيين دونما حاجة عسكرية استراتيجية وانظر ما فعله كما جاء في مقال الأستاذهشام الناصر في مقاله بجريدة الشعب في 26\7\ 2003 حيث يقول : ( لم يتدخل الأمريكيون مباشرة ضد هتلر إلا في يونيو 1944، عندما كان يعاني من هزيمته الأولى في يناير 1944، حيث تحطم جيشه في ستالينغراد، بعد أن خسر 400 ألف جندي بينهم 140 ألف أسير. وهنا ارتكب الجيش الأمريكي الفظائع التالية :

( قصف مرعب على التجمعات السكانية المدنية، أثناء أعمال الإنزال، راح ضحيته 570 ألف قتيل و 800 ألف جريح من المدنيين . قصف درسدن 135 ألف قتيل مدني، على الرغم من أن الزحف الروسي كان قد تجاوز المدينة، التي لم تعد لهذا السبب تشكل هدفا.

وفي عام 1945، هاري ترومان يصدر أوامره بإلقاء القنبلة الذرية علي هيروشيما، وفي أعقابها نجازاكي، أدت إلى مقتل وتشويه مئات الألاف من المدنين، إضافة للحيوانات وحتى الحشرات، وتدمير المباني والبنية التحتية واستمرار أخطار الإشعاع لسنوات طوال، رغم أن اليابان كانت قد هُزمت بالفعل في المعارك التقليدية، وكان الإمبراطور الياباني يتباحث بالفعل مع بعض الدول الوسيطة حول الاستسلام . وفي تصريحات وتحليلات لاحقة، اتضح أن الغرض الأساسي كان يتمحور حول إرهاب المعسكر الشرقي !!، وإبراز القوة النووية الأمريكية للعالم أجمع ) فبماذا يأتي جسد خلا من الروح ؟ أليس قد صار جثة مسكونة بالأباليس ؟

إن الجوهر الأخلاقي لأية حضارة إنما يظهر في غضبتها وهي تمارس الحرب كما هو الشأن في الفرد عند الغضب ، ومن هنا يتضح التركيب الدموي والطابع الهمجي لعمق هذه الحضارة ، كأنها نسخة من يأجوج ومأجوج ، أو كأنها جثة متعفنة لم تجد من يحنطها كجثة فرعون ، فتناثرت منها الآثام العفنة يمينا ويسارا فكيف يجدي معها إذن " إعادة التأهيل " التي أسقطتها على الأحياء .

إن هذه الحضارة هي التي صنعت تيارا عارما من قتل المدنيين أصبحت تكتوي به الإنسانية على المستوى العالمي : فالمراقبون السياسيون يسجلون أن العالم الغربى يشهد تياراً من العنف لم يسبق له مثيل منذ نهاية الحرب الباردة : الحروب الأهلية في المناطق الإسلامية من الاتحاد السوفيتى السابق . وحرب الإبادة التي استمرت سنوات في البوسنة والهرسك وكوسوفو ، ولم تهدأ إلا لفترة مؤقتة إلى أن يفيق المسلمون هناك من خديعة استبدال الذئب الأمريكي بالذئب الصربي . والحروب التي تجرى في المدن بين عصابات الشوارع : في الولايات المتحدة الأمريكية ، وبريطانيا ، وإيطاليا وألمانيا وفرنسا واليابان ، والتي تنظمها منظمات على أعلى مستوى من السيطرة والتحكم والإدارة والمال . .

وهل أغنت المظلة النووية شيئاً ؟! إن الاتحاد السوفيتي تبدد - كما يقول الأستاذ مصطفي محمود - الأهرام 30\9\1992 - وهو مسلح نووياً ، ، ماتت روسيا وهي واقفة بدون حرب ، وعلى ظهرها حمولة من القنابل الذرية تكفي لنسف الكرة الأرضية وفي الفضاء تدور سفينتها العجيبة " مير " ، . وسوف يسقط العملاق الغربى بنفس الداء .. سوف يموت من الداخل ، هذه المرة بمرض مختلف : اسمه الترف ، والوفرة والشبع ، والتخمة ، وعبادة الشهوات ، والغرق في الملذات . هذه المرة الميكروب : اسمه البطالة ، و المخدرات ، والجريمة المنظمة والمافيا ، وعجز الميزان التجاري ، وصراع العملات ، وكساد السوق …وكعادة كل حضارة مترفة ازدهرت فنون الانحلال ، وسينما العنف ، ومسرح العبث ، وغناء العهر ، وروايات الجنس التي تخلق البلادة والاكتئاب. ( ثم سر المكروبات : غرور القوة الذي يورث التمرد على كل شيء ، حتى على الخالق وقوانينه وسننه ، فنراهم يقننون الشذوذ … وكأنهم يخرجون لسانهم لحكمة الخالق التي أعمرت لهم الأرض فراحوا يخربونها بهذا الزواج العقيم ، ويحتفلون بهذا العقم ، ويتبادلون التهاني . )

وليس صحيحا ما يساق إلينا من الاستخفاف بخطورة الانحطاط الأخلاقي في عالم الجنس السائد في أركان هذه الحضارة ، فبالرغم مما يروج لها تحت عناوين التطور والتحرر والنسبية نجد من كبار قادتهم من يحذر من الخطر القادم من هذه الزاوية ، ففي آخر شريط مسجل للرئيس الأسبق للولايات المتحدة ريتشارد نيكسون أذيع أوائل العام ( 2002) بعد مرور 30 عاما علي توثيقه، يسوق الرجل اتهاما غليظا لليهود بأنهم وراء إباحة المارجوانا قانونا، ومساندة الشذوذ الجنسي وتقنين الزواج المثلي.. رجل برجل وامرأة بامرأة.. والأدهي أن المحركين لهذا الانحطاط والانحلال الإنساني من اليهود المشتغلين بالطب النفسي.. ويصفهم نيكسون بأنهم أصحاب أذهان مشوشة ، وأنهم بذلك إنما يقوضون أركان المجتمع الأمريكي. ويقول نيكسون إن الذي أضاع الامبراطورية الاغريقية هو الشذوذ الجنسي.. أرسطو كان شاذا.. وكذلك سقراط! وأن الذي هدم الامبراطورية الرومانية هو انحلال الأباطرة، ومضاجعة البابوات للراهبات! ويخلص نيكسون في النهاية إلي أن يهود أمريكا يدفعونها إلي نفس المصير! ( نقلا عن مجلة العالم اليوم 26\9\2002)،

هكذا تحدثت بقايا العقلاء من المفكرين من أبناء هذه الحضارة قبل أن يظهر الحادي عشر من سبتمبر في الولايات المتحدة ، بعشرات السنين .

إن المشكلة هي في صميم تركيب هذه الحضارة : قوة في الجسد لم تسعفها قوة مطلوبة في الروح ، اللهم إلا الروح البوشية الممسوخة الانتقامية النابعة من المستوى الحضاري المنحط ذاته ، وإن تلفعت فجأة بنبوءات دينية ذرائعية كاذبة ، ليس لها من أثر في حياتهم غير إثارة الحقد ضد الآخر : دفعت العالم وما تزال تدفعه إلى هوة سحيقة بأسباب : من غرور الأقوياء ، وجهل الرؤساء ، وانحطاط المسئولين ، وكذب الحكام ، واختفاء الحكماء ، وانسحاق الضعفاء ، واستلاب البسطاء ، واستجابة الأرقاء ، وشيوع القلق والخوف ، والتهديد بالدمار تسعى إليه هذه الحضارة بخطى حثيثة ، تنبأ بها هنري برجسون ، وشفايتزر ، وألمح إليها دي برولي ، وتشارلز فرانكل وأرنولد توينبي ، وروجيه جارودي ، ورشدي فكار وغيرهم .

إن ذلك كله يمكن أن ننظر إليه بموازاة آثام حضارات تداعت من قبل ، أو على حضارات سقطت بسبب ما تخلت عن أسباب الصعود ، لكن أهم أسباب سقوط هذه الحضارة التي نحن بصددها - في رأيي - وفي ضوء ما شخصه حكماؤها من " تزايد التوسع في الجسد مع تزايد الهزال في الروح " ، هو في تماديها في أسباب صعودها : التقدم العلمي المتمرد على خالق الكون .. فهل وصلت حضارة من قبل إلى حضيض أن تجعل الأرض كوكبا غير صالح للسكنى ؟؟ ، أو أن تجعل من الإنسان ما ليس إنسانا وهي تغلق أبواب التاريخ ؟؟ : كليهما لم يكن إلا نتيجة مشروعها للتقدم ، وهو يتضح لنا مما شهد به أهلها : خبراؤها ، ومن أبرزهم " آل جور" نائب الرئيس كلينتون في كتابه ( الأرض في الميزان ) ، وفوكوياما في نظريته عن نهاية التاريخ ، فكيف يجدي معها إذن " إعادة التأهيل " وهي في نعش المثوى الأخير

وأخيرا وبالإضافة لما تقدم فإنه لا يصح لنا أن نستخف بالهوة المفتوحة أمام مسيرة هذه الحضارة في مجال القوة المادية نفسها التي تفوقت فيها لو أحسن المهزومون أمامها في التعامل معها . ففي مقال د مصطفى السعيد بجريدة العرب بعنوان " اطردوا الأمريكان من الخليج " بتاريخ 12\10\2003 نقلا عن جريدة التايم الأمريكية في عددها الصادر بتاريخ 4 أغسطس 2003 تحت عنوان " أزمة الطاقة الجديدة".. لماذا أمريكا أكثر اعتمادا، عن أي وقت مضي، علي البترول الأجنبي". حيث ركز المقال علي الحقائق الآتية:

أولا: إن جميع المحاولات والجهود التي بذلتها الولايات المتحدة، منذ الأزمة البترولية التي صاحبت حرب أكتوبر 1973، لم تنجح في تحقيق أهدافها في تقليل اعتماد الولايات المتحدة علي البترول المستورد من الخارج، سواء في ذلك البترول الخام أو الغاز الطبيعي أو المنتجات البترولية المختلفة، ففي عام 1973 كانت واردات الولايات المتحدة الأمريكية من البترول الخام حوالي 6 ملايين برميل يوميا، ثم زاد ليصل إلي 6.4 مليون برميل يوميا 1980 وإلي 12 مليون برميل يوميا عام 2002 كما جاء بمقال الدكتور حسن عبد الله في جريدة "الأهرام" بتاريخ 23/ 8/ 2003.. كما أن واردات الولايات المتحدة الأمريكية للبترول الخام كنسبة من إجمالي استهلاكها قد زادت من حوالي 28% عام 1972 لتصل إلي حوالي 53% عام 2002.

ثانيا: إن زيادة الاعتماد علي الخارج لم تقتصر علي البترول الخام، بل امتدت إلي الغاز الطبيعي، حيث زادت الفجوة بين الاستهلاك والإنتاج لتصل إلي حوالي 4 ملايين متر مكعب عام 2002، في الوقت الذي لم تتجاوز فيه هذه الفجوة أكثر من نصف مليون متر مكعب عام 1988.. وترجع أهمية الغاز الطبيعي إلي أن أكثر من 88% من الطاقة الكهربائية في الولايات المتحدة يتم توليدها باستخدام الغاز الطبيعي.

ثالثا: إن البترول لا يزال هو المصدر الرئيسي لتوليد الطاقة في الولايات المتحدة الأمريكية، وأن المصادر الأخرى من الفحم، والطاقة الشمسية، والطاقة النووية، وطاقة الرياح، والطاقة الهيدروليكية، لا تمثل أكثر من 20% من مصادر الطاقة في الولايات المتحدة الأمريكية.

رابعا: إن الرئيس بوش قد أعلن في يناير 2003 في حديثه عن أحوال الاتحاد عن برنامج لتوليد الطاقة من الهيدروجين، واقترح تخصيص 1.2 مليار دولار لتشجيع الأبحاث في هذا المجال وصولا إلي قدر أكبر من استقلالية الولايات المتحدة في استهلاكها لمصادر الطاقة.. إلا أن هذا البرنامج لا يتوقع له النجاح، كما تشير جريدة التايم، شأنه شأن البرامج السابقة عليه، وإن نجح هذه المرة فإنه لا يتوقع أن يحقق نتائج واضحة قبل مرور أكثر من عشرين عاما من الآن.

خلاصة القول.. فإن الولايات المتحدة الأمريكية سيستمر اعتمادها علي الاستيراد من الخارج للبترول الخام والغاز الطبيعي، وذلك خلال فترة العشرين سنة المقبلة علي الأقل..

ومن هنا فإن الفرصة متاحة تاريخيا -قبل انقضاء العشرين عاما المذكورة أعلاه - للدول النفطية في الشرق الأوسط والإسلامية لتوجيه الضربة القاصمة ضد الذي أعلن عليهم وصف " العدو الأول " وبدأ في محاربتهم عسكريا تحت عنوان الإرهاب ، وهم إنما يستثمرون هذه الفرصة المتاحة إن أحسنوا التعامل معها ووقفوا منها الموقف التاريخي الجذري بتعطيل إنتاج بترولهم ، هكذا ، ودفعوا الثمن الغالي لهذا الموقف بكل أخطاره وتداعياته وهو الثمن الذي لا مهرب مما هو أخطر منه وأشد لو تركوا منطق التعامل يجري وفقا لخطة العدو في الاستيلاء عليه ، بدلا من فرصتهم المفترضة في التعطيل والتي إن ضيعوها سيحاسبهم عليها التاريخ ، وهي فرصة محسوبة عليهم في حساب الله قبل حساب التاريخ ، وعند ذاك يضيفون إلى الذل الفقر المقيم ، فمن أي شيء يهربون ؟

وبالجملة : تلك نذر واضحة لسقوط حضارة قد اتسع خرقها وألقت أوزارها ، ومن ثم فهي لا تنفعها " إعادة تأهيل " وتشرذمت جثتها فهي لا يجدي معها طب الأطباء ، وتم عرضها على الأنظار في مسلخ التاريخ فما وجدت لوجهها غير البصاق ، وانتظرت من يشيعها فما وجدت رجل دين صادق ، ولذا استحقت أن يأرق لها الآرقون من أصحاب الضمائر . إذ هم والنائمون مع الجميع غدا : أشلاء . فأي الفريقين أحق بلوم من سيأتي بعد غد ؟!!

أد : يحيى هاشم حسن فرغل

من علماء الأزهر

عميد كلية أصول الدين بالأزهر سابقا ،

yehia_hashem@ hotmail .com

المقالة الثانية

سقوط الحضارة وكارثة الأرض

أيهما طريق إلى الآخر ؟

أد : يحيى هاشم حسن فرغل

yehia_hashem@ hotmail .com

تمر الحضارة المعاصرة اليوم بمنحنى خطير فيما يتعلق بشئون البيئة يهدد بما يطلق عليه : " مأساة الأرض " ـ ككوكب صالح للسكنى .ومنذ ظهر الإنسان على الأرض وإلى اليوم ما كان لأحد أن يساوره الشك لكي يطرح سؤالا على النحو الوارد أعلاه ، إذ ما كان يشك أحد في أن الطريق إلى الكارثة الكبرى مفتوح من الأرض إلى الإنسان أن تزلزل الأرض زلزالها أولا ، وليس العكس ، إلى أن بدا لنا اليوم أن الآية القرآنية في قوله تعالى { ظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس لعلهم يرجعون . } 41 الروم ، تجيب بغير ما كنا نظن : بأن كارثة يصنعها الإنسان في سياق حضارة العصر هي التي ستؤدي إلى كارثة للأرض ، وتلك هي مشكلة البيئة التي يصنعها الإنسان المعاصر ، إذ وصلت هذه المشكلة إلى مستوى تهديد الأرض ككوكب صالح للسكنى ، وصار طريق الخطر الأكبر مفتوحا من الإنسان إلى الأرض ، عندئذ تزلزل . إن الأخطار التي تهدد البيئة اليوم لم تعد أخطاراً محلية يمكن أن يقتصر ضررها على وطن ، أو إقليم ، أو قارة بعينها ولكنها أخطار تهدد بيئة الأرض كلها .إنها أخطار تأتى على مستويات متدرجة : في الفضلات ودفن المخلفات ، والأمطار الحمضية ، وتلوث مستودعات المياه الجوفية ، و زيادة كمية الكلوروفلور في الغلاف الجوى ، و الاحترار العالمي و قطع الغابات ، وتجفيف البحيرات ، وتحويل الأنهار ، والنفايات ، والتلوث النووي ، وتهديد التنوع الحيوي.. إلخ.

ومن الملاحظ أن كبار الخبراء والباحثين قد أدركوا عمق المأساة التي تنحدر إليها الأرض في هاوية البيئة . يقول بارى كوموز في كتابه الشهير " الدوامة " ـ كما ينقل عنه الأستاذ راشد الحمد ومحمد صبارينى في كتابهما بعنوان " البيئة ومشكلاتها " ص 199 نشر عالم المعرفة بالكويت ـ : ( أنقذوا الإنسان من الموت المؤكد ، ساهموا في مكافحة التلوث ، إن مدنية قبائل البوشمن في وسط إفريقيا هي أرقى من مدنية الإنسان المعاصر في البيئة المرفهة الأمريكية) . وتقول الدكتورة هند صادق أستاذة علم طبقات الجو العليا والتلوث في واشنطن . ( إن الإنسان القديم كان متفاعلاً مع الطبيعة ومع كل مظاهر الحياة من حوله .أما ما يفعله أحفاده اليوم ، فهو تدمير كل ما هو جميل ، وخير وطيب ، في هذه الأرض التي نحيا عليها . ) الأهرام 23\12\1989 ، ويقول الأستاذ الدكتور طلبه عويس في دراسة له نشرت بكتاب بعنوان ترجمته " من أجل الحفاظ على الأرض " مع الدكتورة هند وآخرين : ( إن الإنسان ابن الطبيعة قد طعنها في مقتل . )

إن الأرض كلها هي التي تمر اليوم بالمأساة . إن حجم المشكلة وصل إلى حد الوصف القرآنى لها في قوله تعالى :{ حتى إذا أخذت الأرض زخرفها وازينت وظن أهلها أنهم قادرون عليها أتاها أمرنا ليلاً أو نهاراً فجعلناها حصيداً كأن لم تغن بالأمس ، كذلك نفصل الآيات لقوم يتفكرون . } 24 يونس .

ويقدم آل جور ، نائب رئيس الولايات المتحدة السابق صورة المأساة في دراسة عالمية حديثة ، جاءت في كتابه ( الأرض في الميزان ) ، قام بها فريق كبير من الخبراء والباحثين بقيادته ، وترجمت إلى اللغة العربية ، وأصدرها مركز النشر والترجمة في الأهرام بالقاهرة عام 1994م ، وتتمثل المأساة وفقا لهذه الدراسة في :

(1) مشكلة القمامة : وهي تأتي في تيار عارم ، يتدفق بكميات هائلة لم تعد الأرض قادرة على استيعابها كما يؤكد خبراء البيئة . وإذا كان البعض يحاول التخلص من القمامة بحرقها ـ حيث توجهت استثمارات ضخمة إلى هذا السبيل بلغت حوالي عشرين مليار دولار في وقت من الأوقات ـ فإن بعض الخبراء ينظر إلى هذه الوسيلة على أنها غير مجدية وتزيد الطين بلة ، وأنه إذا ما استمرت عمليات حرق الفضلات فإن كمية الزئبق المتصاعد عن هذا الطريق تضيف ملايين الأرطال من الزئبق إلى النظام البيئي ، عبر حدود الدول ، ثم تصل بالضرورة إلى الغلاف الجوى لكوكب الأرض بأسره .

(2) مشكلة تلوث الهواء : يقول بعض خبراء البيئة : إن أوصال العالم ترتعد فزعاً من مستويات التلوث التي لا يصدقها عقل ، وبالذات تلوث الهواء على مستوى العالم كله .

وعلى سبيل المثال فإنه في بعض المناطق في بولندا يؤخذ الأطفال بصفة منتظمة إلى مناجم عميقة تحت الأرض لمدة من الوقت يريحون فيها صدورهم من الغازات المتراكمة ، والتلوث الذي يملأ الهواء بكل أنواعه . ولقد لاحظ زائر لأحد المدن الرومانية تسمى ( كوسباميكا ) أو ( المدينة السوداء ) : أن الأشجار والحشائش ملطخة بالدخان إلى حد أنها بدت كأنها مشربة بالمداد . وذكر أحد الأطباء المحليين هناك أنه حتى الخيول لا تستطيع البقاء في تلك المدينة لأكثر من عامين ، وتعاني مدينة مكسيكوسيتى يومياً من أقسى درجات التلوث الهوائي على مستوى مدن العالم بأسره الأمر الذي يؤكد أن تلوث الهواء يصل من شمال أوروبا إلى المنطقة القطبية وينتقل إلى كل بقعة في الأرض . ص 85-87 .

(3) ثقب الأوزون : وغاز الأوزون يدخل كطبقة هامة في تركيب الغلاف الجوى للأرض يعمل على حماية سطح الأرض من سقوط الكميات الضارة للأشعة ذات الموجة القصيرة ( فوق البنفسجية ) . ومن الملاحظ أن هذه الطبقة من الأوزون أخذت تتآكل بسبب تصاعد غاز الكولوروفلوروكربون الذي يتزايد إنتاجه بكميات هائلة في الصناعات الحديثة . ومن هنا فإن هذا التآكل أخذ يسمح لمزيد من الأشعة فوق البنفسجية بأن ترتطم بسطح الأرض ، وتصطدم بكل الأحياء ، ومن أسوأ العواقب المترتبة على تلك الزيادة : سرطان الجلد ، ومرض إعتمام عدسة العين ( الكاتاراكت ) وكلا المرضين يزدادان انتشاراً ، وبالذات في مناطق بنصف الكرة الجنوبي مثل استراليا ونيوزيلندا ، وجنوب أفريقيا ، وفي كوينزلاند بشمال شرق استراليا ـ على سبيل المثال ـ فإن أكثر من 75% من السكان الذين بلغوا الخامسة والستين من العمر مصابون الآن بنوع من سرطان الجلد . ومنذ اكتشاف ثقب الأوزون وهو يزداد عمقاً واتساعاً ، وهو يغطى حالياً في الغلاف الجوى مساحة تعادل ثلاثة أمثال مساحة الولايات المتحدة الأمريكية .

(4) نقص التأكسد : وذلك أنه في الظروف العادية ينظف الغلاف الجوى نفسه ـ بسنة الله في الطبيعة ـ من الملوثات من خلال عملية تعرف بالتأكسد ، حيث تتفاعل المواد والغازات الضارة مثل الميثان وأول أكسيد الكربون مع منظف طبيعي إلهي يعرف باسم الهيدروكسيل ، واليوم في ظل الحضارة الصناعية فإن الإنسان يدفع بكميات هائلة من غاز أول أكسيد الكربون في الطبقات العليا من الجو ـ من خلال عمليات حرق الوقود وحرق الغابات ـ لدرجة أن حجمه أصبح طاغياً بالقياس إلى الكمية المتاحة في الطبيعة من الهيدروكسيل ، وبهذا تتزايد كميات أول أكسيد الكربون وغاز الميثان في الغلاف الجوى بسرعة كبيرة ، وأصبح له دوره الفعال بين الغازات الأخرى المسببة لظاهرة الاحترار ، وهنا يأتى الخطر الاستراتيجي العالمي ، ألا وهو ظاهرة الاحترار وهو الأشد خطورة على الإطلاق ، على مستوى الكرة الأرضية كلها .

(5) ولب المشكلة في ظاهرة الاحترار أن الحضارة الحديثة - طبقا لخطوات التقدم الصناعي - تضيف إلى الغلاف الجوي العديد من الغازات التي تجعل الغلاف الجوى أكثر سُمكاً بدرجة كبيرة ، ونتيجة لذلك فإنه يحتجز المزيد من الحرارة ، التي كان من المفروض ــ في ظل موازين الله ــ أن تخرج من جو الأرض في الأحوال العادية السابقة . في السابق كانت تحدث تغيرات في حرارة الأرض على مدى عصور جيولوجية طويلة ، أما التغيرات التي يتوقعها الخبراء بفعل الإنسان المعاصر فإنها من المنتظر أن تحدث خلال عمر فرد واحد ، ومعنى هذا أنه عندما كانت التغيرات تحدث بسنة الله ، ودون تدخل الإنسان ، كانت الفرصة متاحة للإنسان للتكيف ، ولكنه لم يحدث في تاريخ الإنسان أن اضطر للتكيف مع تغيرات هائلة في عمر جيل واحد . ومن المؤكد أن هذه الزيادة في مستويات ثاني أكسيد الكربون ــ الذي سيظل محبوساً في الغلاف الجوى للأرض ــ تؤدى إلى زيادة ملحوظة في مستوى الحرارة للكرة الأرضية . والخطر هنا لا يكمن في ارتفاع درجة الحرارة بضع درجات قليلة ، ولكنه يكمن في أن هذا الارتفاع سوف يؤدى إلى الإطاحة بالنظام المناخي للعالم كله دفعة واحدة . وعندما يتغير النمط المناخي للعالم فإنه ستتغير أيضاً تحركات الرياح والأمطار ، ونوبات الفيضان ، والجفاف والمراعى والصحارى والحشرات والحشائش ، وفصول الرخاء والمجاعة ، ومواسم الحرب والسلام . والخطر الذي يترتب على اختلال النظام المائي على ظهر الأرض لا يتوقف على الاضطراب الشديد في إعادة توزيع الموارد المائية العذبة ، وإنما يتعداه إلى خطر استراتيجي ثان : هو ذوبان الجليد ، ومن ثم ارتفاع مستوى سطح البحر ، وغرق المناطق الساحلية الواطئة حول العالم كله ، وهذا يهدد دولاً مثل بنجلاديش ، والهند ، ودلتا مصر ، وجامبيا ، وإندونيسيا ، وموزمبيق ، وباكستان ، والسنغال ، وتايلاند ، والصين ، وجزر المالديف ، وهولندا ، وبلجيكا ، وسوف تكون الدول الفقيرة بالطبع هي الأكثر تضرراً ، لأنها الأضعف من حيث القدرة على مواجهة هذه الأخطار . ص 102.

(6) اقتلاع الغابات : وهناك خطر استراتيجي يمارسه الإنسان المعاصر ، ويهدد النظام المائي لكوكب الأرض . وهو يختص باقتلاع الغابات على نطاق واسع ، حيث إن تدمير غابة يمكنه أن يؤثر في النظام الطبيعي لتوزيع المياه بما يمثل اختفاء بحر كبير مغلق .

ونجد مثالاً مأساوياً بذلك في أثيوبيا ــ لفقدان الغابات حيث تراجعت كميات الأمطار المتساقطة ، إلى درجة جعلت الأراضي تتحول بسرعة إلى أرض بور ، ثم دخلت البلاد بعد ذلك ــ مع تضافر أسباب أخرى ــ في مأساة المجاعة والحرب الأهلية ، وفي جنوب أمريكا هناك خطر مماثل ، بسبب تدمير الغابات ص 110.

(7) وهناك خطر تلوث مصادر المياه على مستوى العالم بالملوثات الكيماوية التي تنتجها الحضارة المعاصرة ، ويأتى انسكاب البترول كواحد من أكثر الملوثات وضوحاً في المحيطات ، وفي بعض الأنهار الداخلية . وهل سمعتم من قبل عن أنهار تشتعل فيها النيران ؟ لقد حدث ذلك في نهر كياهوجا في ولاية كليفلاند ، وفي الاتحاد السوفيتي فإن الأنهار ــ كما يقول آل جور ــ ما زالت يمكن أن تشتعل فيها النيران .وبصفة عامة ، فإن تلوث مصادر مياه كوكب الأرض آخذ في الزيادة بصفة مستمرة ، ويزداد سوءاً بصورة مفزعة ، وطبقاً لعملية مسح قامت بها وكالة متخصصة في حماية البيئة فإن حوالي نصف أنهار وبحيرات وجداول أمريكا إما أنه يعانى بالفعل من تلوث مياهه أو في طريقه إلى ذلك .

ومع ذلك فإن تلوث المياه وتأثيراته الرهيبة المؤلمة يمكن الإحساس بها بوجه خاص في العالم الثالث ، حيث زاد معدل الوفيات الناتج عن الإصابة بالكوليرا والتيفود والدوسنتاريا والإسهال .

(8) سوق النفايات : تتمركز سياسة الدول الغربية والأوربية ــ كما يقول مسئول بمنظمة الصحة العالمية ــ حول إدراك سياسي واقتصادي بأن العالم الثالث هو سوق كبير للنفايات الأوربية التكنولوجية ، الملوثة والمدمرة للبيئة ، ولبيع المبيدات والبذور الفاسدة المؤثرة على صلاحية التربة الزراعية ، وإجراء التجارب على البشر والزراعة ، فضلاً عن الأغذية الفاسدة والأدوية التي تجعل من البشر في العالم الثالث حقلاً لتجاربها ، وقد أعلن في تقارير رسمية نشرتها الصحف في أمريكا أن لديها 265 مليون طن من هذه النفايات سنوياً تحتاج إلى التخلص منها ، وأن مجموعة دول السوق الأوربية لديها سنوياً 35 مليون طن سنوياً . ويقول بعض المعلقين إن تجارة النفايات الكيمائية أصبحت كبيرة جداً، وتعمل فيها شبكة من المافيا والسماسرة والمهربين

(9) احتمالاتً الكوارث النووية : ما الذي يمكن أن تحدثه حرب ذرية في البيئة ؟ سؤال طرحته منظمة الأمم المتحدة على عشرة من كبار علماء العالم واستغرقت الدراسة حوالى عام كامل ، وتم تسليمها إلى بيريزدى كويلار السكرتير العام للأمم المتحدة آنذاك : وقد قدمنا نتائج هذه الدراسة في مقال سابق .

وتلخص جريدة الأهرام 27\4\1990 المأساة في أروقة السياسيين وعدم مبالاتهم تحت عنوان " الكارثة تقترب والإنسان عدو نفسه " : ( مع احتفال العالم كله بيوم " كوكب الأرض " هذا الأسبوع تعالت صرخات التحذير من كارثة مناخية مدمرة تهدد آلاف الملايين من البشر بسبب ارتفاع درجة حرارة الأرض ، وزيادة معدلات التلوث ، إلى درجة بالغة الخطورة . وبينما كان العلماء يصرخون من أن الوقت لم يعد في صالح البشر وأنه يتعين علينا جميعا أن نخوض " حربا عالمية " لإنقاذ الكرة الأرضية من دمار التلوث دخل ساسة الدول الكبرى في خلافات ومتاهات عميقة حول كيفية مواجهة هذه الأزمة .

وفي مؤتمرهم الذي عقد تحت إشراف الولايات المتحدة اتخذت الأزمة طابعا سياسيا عاصفا طغت عليه المصالح الاقتصادية والانتخابية . وانتهى المؤتمر - كما كان متوقعا - دون اتخاذ أية قرارت عاجلة أو طارئة للحد من السموم التي تهدد مناخ الأرض ورفضت أمريكا - رغم مسئوليتها وحدها عن حوالي ربع التلوث الصناعي في العالم - أن تقدم أية تعهدات أو تنازلات صناعية من شانها أن تؤثر على نموها الاقتصادي .

وفي ذات المؤتمر قال بوش - الأب - الذي كان يطلق عليه أيام الانتخابات اسم " رئيس البيئة " " إننا نريد حقائق علمية أولا .. نريد بحوثا دولية توضح لنا " الغموض " في هذا العلم .. إننا لا نستطيع أن نحسن المناخ على حساب نمونا الاقتصادي "

العلماء يريدون خفضا حادا في ثاني أكسيد الكربون والغازات الأخرى التي ترفع درجة حرارة الأرض وذلك بما يتراوح بين 50 و 80 % ، وهذا يتطلب على أقل تقدير الخفض الجذري في استخدام السيارات ومعظم إمكانات الحياة الحديثة ، فهل يجرؤ أي زعيم سياسي على فرض مثل هذه الإجراءات ؟

إن درجة حرارة الأرض سوف ترتفع 3 درجات مئوية ، فيذوب الجليد ، ويرتفع منسوب مياه البحار والمحيطات وتغرق الأراضي المنخفضة وربما دولا بأكملها .

وقد حذر العالم المصري مصطفى طلبة من أن شواطئ مصر والوجه البحري كله ليست بمنأى عن هذا الخطر ..

كما حذر الدكتور طلبة من أن التصحر والقحط سينتشر في الدول البعيدة عن المياه مما سيؤثر على الإنتاج الغذائي في العالم ، وسوف تموت الغابات والحيوانات التي لا تتحمل درجات الحرارة المرتفعة وستكثر العواصف والأعاصير ، فتقطع الاتصالات وتزيد من الكوارث الطبيعية ، وذلك علاوة على ما سيصيب الإنسان من أمراض مثل السرطان وفقدان المناعة وفقد البصر … )

وتلخص الأهرام في تقريرها ما آل إليه الوضع فعلا في أوربا وأفريقيا والولايات المتحدة وآسيا مصر حتى كتابة التقرير فتقول :

( يقول العلماء إننا دخلنا العد التنازلي للكارثة وان 50% من الضرر قد وقع فعلا خلال العقود الثلاثة الماضية وأنه في المستقبل القريب سوف تفقد 40 دولة احتياجاتها من الماء

وتظهر صور الأقمار الصناعية للمناخ في أوربا الشرقية كتلا كثيفة سوداء من الغازات والأتربة الصناعية تنتشر فوق مصانع ألمانيا الشرقية وتشكوسلوفاكيا وتغطي بولندا بأكلها ، وفي بولندا بالذات كل شيء مسمم : الجو والتربة والماء

وتتعرض أوربا الغربية أيضا وخاصة في المناطق السياحية بجبال الألب لأزمة بيئية نتيجة للأمطار الحمضية والتلوث النووي من تشرنوبل

وفي بريطانيا هناك نسبة تلوث عالية من الـ 1900 مصنع على أراضيها فأحد هذه المصانع يبعث بثمانية أطنان من ثاني أكسيد الكبريت في الجو يوميا وهو ما يزيد عشر مرات عن المعدلات المسموح بها

ووفقا لهذه التقارير فإن قارة أفريقيا لم تعد تصلح للحياة بسبب التلوث والجفاف وأن خمسين مليونا من البشر يعيشون في أراض متصحرة تهددهم المجاعات كل عام ، وأن القحط في أفريقيا ينتشر بمعدل 2,3 مليون متر مربع سنويا

ويقول تقرير أصدره مجلس السوفييت الأعلى أن شخصا من بين كل خمسة أشخاص بالاتحاد السوفيتي - قبل تفككه بالطبع - يتنفس هواء يحتوي على نسبة من الكيماويات الخطيرة تزيد عشر مرات عن الحد الأقصى المسموح به ، وان 600 مدينة سوفيتية نصحت مواطنيها بشرب المياه المعبأة

وفي الصين كلما هبت الرياح فوق المدن الصناعية انتشر دخان أحمر وأسود ليغطي الأراضي والسلطات هناك تواجه مشكلات رهيبة في مواجهة التلوث بإمكاناتها المحدودة .

وفي الولايات المتحدة مازالت الدولة تواجه مشكلات بيئية خطيرة ففي مائة مدينة يصل الدخان في الجو إلى نسب تزيد عن المسموح به ، مما يزيد من نسبة الإصابة بالسرطان ، كما أوقفت 2000 سفينة شحن في نهر المسيسبي بعد أن انخفض مستوى النهر عشرة أمتار

ويقول الباحثون إنه في العاصمة المصرية أصبح مجرد تنفس الهواء خطرا يهدد الحياة وهو لا يقل خطورة عن تدخين علبتي سجائر يوميا . )

والحق أننا ونحن نتحدث عن مشكلة الأرض والإنسان في العصر الحديث على هذا النحو ، يجب أن نعلم أننا نتحدث عن نوع " جديد " من الإنسان غير الذي نعرف على وجه التاريخ من قبل ، كذلك ونحن نتحدث عن وضعية الأرض فإننا نتحدث عن وضعية غير التي عرفها الإنسان على وجه التاريخ الطبيعي من قبل ، فالإنسان الجديد هو نوع جديد لم يعد يشرك بالله آلهة أخرى تنتسب إلى كائنات علوية ، أو سفلية مجردة أو غير مجردة ، يحصل عليها من مصدر الحكايات والأساطير والأصنام ، أو التراث الشعبي ، ولكنه أصبح يضع نفسه ــ حسب زعمه ــ في موضع الألوهية منذ أمكنه ــ حسب وهمه ــ أن يسيطر على الطبيعة بأداة العلم حسب مشروع النهضة الأوربية منذ القرن السادس عشر .

كذلك فالأرض ليست هي الأرض الموكول أمرها إلى قدرة الله وعنايته ورحمته وموازنته ، ولكنها الأرض المتروكة بسخط الله ــ وإلى أمد ــ إلى قدرة الإنسان في السيطرة على الطبيعة حسب زعم هذه الحضارة منذ وضع الإنسان أركانها في عصر النهضة .

إن الصانع لمأساة البيئة ــ مأساة الأرض ، هو وجهة النظر الفلسفية التي قامت عليها الحضارة الغربية المعاصرة . وفي هذا المعنى يقول أرنولد توينبى : ( في عصرنا نجد أن سيادة الإنسان التامة على المحيط الحيوي بأكمله تهدد بتحطيم المحيط الحيوي والقضاء على الحياة بما في ذلك الحياة البشرية كلها . ) . وهو يذكرنا بوجود هذا التوجه ــ السيطرة على الطبيعة ــ في الثقافة اليهودية القديمة ، في العدد الثامن والعشرين من الإصحاح الأول من سفر التكوين القائل ( وباركهم الله ، وقال لهم أثمروا وأكثروا واملأوا الأرض وأخضعوها وتسلطوا على سمك البحر ، وعلى طير السماء ، وعلى كل حيوان يدب على الأرض ) . تاريخ البشرية ج 1 ص 30-31 " .ثم يشير إلى مخالفة هذا التوجه لما جاء في ثقافات الشرق إذ يحكى على لسان تاوتى تشينج قوله : ( كلما ازدادت الأسلحة الحادة تزداد الأرض كلها انغماساً في الظلام ، وكلما ازداد عدد الصناع الحاذقين تزداد الآلات المتلفة التي تخترع ، وكلما ازدادت القوانين التي تشرع يزداد عدد اللصوص وقطاع الطرق . شد القوس إلى النهاية وستتمنى لو أنك توقفت في الوقت المناسب ) تاريخ البشرية ج1 ص 30 .

ويتفق آل جور ــ وهو أحد كبار القيادات المسئولة في هذه الحضارة - مع التحليل الذي وصل إليه أرنولد توينبى للمشكلة ، حيث يقول آل جور : ( إن الثقافة الغربية المعاصرة تقوم على افتراضات متعلقة بالحياة ، يتم تلقينها للأطفال ، ألا وهي : إن الطبيعة يتعين إخضاعها ) . (وهي افتراضات انتقلت من جيل إلى جيل ، منذ زمن ديكارت وبيكون ، ورواد الثورة العلمية الآخرين ، أى منذ 375 عاماً مضت ، وقد استوعبت هذه الحضارة تلك القواعد ، وتعايشت معها قروناً دون أن يراجعها أحد بجدية ) ، وهو يربط بين هذه العقيدة الحضارية وبين أزمة البيئة المعاصرة ، ثم يقول : ( إن الأزمة البيئية بلغت اليوم حداً من الخطورة يجعلنا نعتقد أن حضارتنا يجب أن تعتبر بطريقة أساسية مختلة الوظائف ، وأن إحدى القواعد التي تقوم عليها الحضارة مختلة الوظائف هي أنك لا يمكنك مراجعة هذه القواعد أو مناقشتها ) . كأنه يتطابق في ذلك مع قوله تعالى : { ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم وعلى أبصارهم غشاوة } 7 البقرة . وهذا يعني أن الحل لا يمكن أن يأتي في سياق الحضارة المعاصرة .

ثم يقول آل جور في تشخيص مرض الحضارة الذي أدى إلى أمراض هذه البيئة : ( كل جيل جديد في حضارتنا المعاصرة يشعر الآن بالاعتماد الكامل على تلك الحضارة نفسها . ذلك أن حضارتنا هي التي تزودنا بأنواع الطعام فوق أرفف السوبر ماركت ، والماء المتدفق من الصنابير داخل بيوتنا والمأوى ، والمأكل ، والملبس ، والعمل ، ووسائل التسلية …. إن أحداً لا يجرؤ على مجرد التفكير في حرمان أنفسنا من هذه العطايا الكثيرة ) ص 233 ، ــ مما يعتبر مصداقاً لقوله r عن الكافر أنه يأكل في سبعة أمعاء ( المؤمن يأكل في معى واحد والكافر يأكل في سبعة أمعاء ) أخرجه مسلم في صحيحه : إنها نزعة الاستهلاك الجنوني الذي أطلقته هذه الحضارة من عقاله ، ليصبح وحشا كاسرا يستحيل إيقافه سواء على المستوى الفردي أو الاجتماعي أو السياسي أو الاقتصادي ، وهي وإن كانت أمعاءً سبعة ، إلا أنها أمعاء زائفة ، يقول : ( إننا شيدنا في حضارتنا عالماً زائفاً من الزهور البلاستيكية وحلبات السباق الفلكية ، وأجهزة التكييف ، وأنوار الفلورسنت ، والنوافذ الشكلية التي لا تفتح ، والموسيقى الخلفية التي لا تتوقف ، والليالى الوهاجة بالبريق ، ومواخير التسلية وأوكارها، والطعام المجمد لأفران المكروييف ، والقدرات الذهنية التي تعتمد على الكافيين ، والكحول ، والمخدرات ، والأوهام والخيالات .... إن العديد من القواعد غير المدونة لحضارتنا مختلة الوظائف يشجع على الإذعان الصامت فيما يختص بأنماط السلوك المدمر التي نتعامل بها مع عالم الطبيعة .. ) ص 234 ، ثم يقول : ( إن المرء يكاد يصيبه الهلع من جراء اندفاعنا المسعور والقسري الواضح ، لكي نفرض سيطرتنا على كل بقعة فوق ظهر الأرض .. ودائماً فإن حاجات الحضارة التي لا يتم إشباعها تزيد نيران العدوان اشتعالاً ، والوصول إلى إشباع حقيقي لهذه الحاجات هو أمر بعيد المنال تماماً ) . ثم يقول آل جور ( إن الأراضي التي يتم غزوها - يقصد بالتكنولوجيا الحديثة - لا تلبث أن تصبح أرضاً جدباء خربة ، وقد انتزعت منها خصوبتها ، وسلبت مواردها الطبيعية ، واستهلكت على وجه السرعة ، وكل هذا التدمير لا يؤدي إلى شيء سوى إذكاء شهيتنا للمزيد ، إننا نقوم بشكل منتظم بالاعتداء على أكثر مناطق عالم الطبيعة تعرضاً للخطر وأقلها قدرة على الدفاع عن نفسها : تلك هي الأرض المطيرة والمحيطات ..) ثم يقول ص 234 : ( ونحن أيضاً نعتدي على أعضاء آخرين من الأسرة الإنسانية ، وبخاصة أولئك الذين لا يستطيعون التعبير عن أنفسهم ، لقد سمحنا بسرقة الأرض من السكان الأصليين ، وباستغلال المناطق التي يسكنها أشد الناس فقراً . والأسوأ من ذلك كله أننا قمنا بالعدوان على حقوق الأجيال التي سوف تأتى بعدنا ، فعندما نقوم بتجريف الأرض بمعدلات تفوق قدرتها على الاحتمال تماماً فإننا نجعل من المستحيل على أحفادنا أن ينعموا حتى بمستوى معيشة يقل كثيراً عما ننعم به نحن . إننا الآن نفرض نموذجنا مختل الوظائف وإيقاعنا المتنافر على أجيال المستقبل ، ، وذلك بطريقة فاسدة ) مما يعتبر مصداقاً لحديث الرسول r عن جماعة ركبوا سفينة ، أراد من في أسفلها أن يخرقوا خرقا ليأخذوا منه الماء ( فإن تركوهم وأمرهم هلكوا جميعا ، وإن أخذوا على يدهم نجوا جميعا )أخرجه أحمد في مسنده .

وإنه لمن الغريب أن بعض المفكرين والمخططين من أبناء الحضارة الغربية المعاصرة يدعون إلى علاج عنصري لكارثة البيئة التي وصلت إلى حد جعل الأرض غير صالحة للسكنى ، فيقترح بعضهم - كما يذكر الدكتور رشدي فكار - : تبنى مسلسل " الكوارث المحسوبة " بالنسبة للبيئات الخاصة بالسكان بلا إنتاج (!!) ، يعنون بذلك " العالم الثالث " . أو دفع هذا العالم ــ بالذات ــ إلى تحديد النسل بكل الوسائل والسُبل . أو تشجيع الحروب المحلية في العالم المذكور . وبتعميم الجفاف على أرضه وفق تخطيط معين . أو بنشر التلوث المقنن فيه !!! : أنظر " نهاية عمالقة " لرشدي فكار ص 131 .

وهناك فئة من العلماء تكتسب أهمية يوماً بعد يوم يطلق عليهم علماء " الأيكولوجيا العميقة " يبنون تصورهم للحل على أساس نظرتهم للإنسان باعتباره نوعاً من أنواع الفيروس ، أصاب الأرض بالطفح الجلدي والحمى ، وينسبون إليه القيام بدور سرطان يهدد الكرة الأرضية وينتشر فيها على نحو لا يمكن التحكم فيه ، واستمراراً لهذه الرؤية فإن العلاج الممكن الوحيد لأمراض الأرض التي أصابتها هي ( استئصال الناس من على وجه الأرض) باستثناء فئة محدودة ينتسبون هم إليها ، باعتبار أنهم يقومون عندئذ بدور الأجسام المضادة للحد من انتشار المرض وهم بذلك يدفعون منطق التطور إلى نتائجه الحقيقية ( آل جور ص 219 ) .

وهناك فئة أخرى - تلتقي مع الحل الإسلامي - تشير إلى أن البداية الصحيحة تأتى من خلال تغيير النفس ، ومن ثم تغيير القواعد التي بُنيت عليها هذه الحضارة الغربية المعاصرة . يقول أرنولد توينبى ( يظهر أن الإنسان لن يستطيع إنقاذ نفسه من الدمار الذي تسببه قوته المادية وطمعه الشيطانيان ما لم يسمح بأن تتغير نفسه كلياً ، بحيث يحفزه ذلك إلى أن يتخلى عن غايته الحالية ، ويعتنق المثل الأعلى المخالف لذلك تماماً .... فهل باستطاعته أن يقبل .. ؟؟ إن المناصرة حول هذه القضية التي طال عليها الزمن والتي يبدو وكأنها تكاد تبلغ نهاية تصعيدها في يومنا هذا هي الموضوع الذي يتناوله الصدام بين البشرية والأرض الأم … ) تاريخ البشرية لأرنولد توينبي ص 32 ج 1 .

إنه في نظر كثير من الخبراء والباحثين لا أمل في مواجهة كارثة البيئة المتفاقمة ما لم يُعدٌل الإنسانُ من سلوكه بالنسبة للأرض ، وجهاز الضبط الحرارى - الترموستات - الوحيد القادر على منع هذه الكارثة هو ما يكون في داخل رءوسنا وقلوبنا وعقيدتنا ص 95 ، يقول آل جور : ( إنه إذا كانت أزمة البيئة العالمية ضاربة الجذور في النمط مختل الوظائف ، المميز لعلاقة حضارتنا بعالم الطبيعة ، فإن الخطوة الأولى في الحل تتمثل في مواجهة هذا النمط .. وفهمه بالكامل وإدراك أثره المدمر على البيئة ، وعلينا أن ننتقل من مفهوم السيطرة على الأرض إلى مفهوم آخر ) ص 232 -239 .

وهذه إشارة إلى بداية الحل الصحيح للمشكلة في رحاب قوله تعالى { إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم } 11 الرعد .

إن العلاج لا مفر له من أن يعود إلى تفكير الإنسان في طريقة معيشته ، إن أزمة التخلص من الفضلات مثلاً وهي أزمة عالمية ــ وهي أهون مشاكل أزمة البيئة المعاصرة ــ هذه الأزمة تنبع من أسلوب هذا الإنسان في الإنتاج والاستهلاك ، إنها تنبع من فهمه للاقتصاد ، تنبع من فهمه لعلاقته بالحياة الدنيا . تنبع من تكوينه العقدي الذي يصوغ علاقته بالطبيعة ، وعلاقته بالله . إن كل الأنواع الحية تنتج فضلات وجميعها بغير استثناء يمر بعمليات " إعادة التدوير " ليس بواسطة تلك الأنواع الحية نفسها، ولكن بأشكال أخرى من الحياة ترتبط معها بعلاقات التكامل والتوازن . وتقوم سُنن الله في الطبيعة بفصل العناصر ذات السمية لتدخلها في عمليات بطيئة لتحولها إلى مواد غير سامة ، وهذا بالطبع يفترض المحافظة على علاقات التوازن التي وضعها الله بين الأنواع الحية .

وإذا حدث أن تخطى أحد هذه الأنواع حدوده المرسومة له في هذا النظام ــ كشأن الإنسان المعاصر في طموحه للسيطرة على الطبيعة بواسطة العلم ــ فإن هذا النوع يتعرض لخطر أن يصبح عاجزاً عن الهرب من النتائج المترتبة على زيادة فضلاته ، فضلاً عن ذلك فإن احترام سُنن الله في الطبيعة من شأنه أن يساعد على عدم إنتاج مشكلة الفضلات أصلاً ، ذلك لأن فضلات أحد الأنواع الحية تصبح مادة نافعة لنوع حي آخر ، هذا ولأننا نحن البشر في ظل قيمة السيطرة على الطبيعة من قيم الحضارة المعاصرة ــ قد اكتسبنا ــ كما نتوهم ــ زيادة في قدرتنا على تشكيل العالم ، فقد بدأنا في إنتاج فضلات خرجت من ناحية كميتها واحتمالاتها السمية ، على الميزان الإلهي الموضوع لامتصاص هذه الفضلات ، ونتيجة لذلك فإن هذا الإنسان " الحضاري " الذي استبعد عقيدة الألوهية ، وتعامل معها من موقف حيادي ، أو على الأقل أنكر عقيدة العناية الإلهية .. هذا الإنسان أصبح ــ وفقاً للنواميس الإلهية نفسها " متروكاً لنفسه " وكان عليه أن يبحث عن طريق مستقل عن الله { قل ما يعبأ بكم ربى لولا دعاؤكم ، فقد كذبتم فسوف يكون لزاماً }77 الفرقان ، ويقول تعالى { نسوا الله فنسيهم، إن المنافقين هم الفاسقون } 67 التوبة .

إن المطلوب هو تغيير يتناول أعماق النفس .

إن المطلوب هو طريقة جديدة في إنتاج السلع الاستهلاكية والتعامل معها .

لقد يسر الإنتاج الضخم للناس أن يمتلكوا منتجات الحضارة الصناعية المرغوبة بدرجة أكبر ، وينظر إلى هذا التطور على مستوى العالم كله تقريباً باعتباره خطوة كبرى إلى الأمام . والحقيقة أنه حقق فعلاً تقدماً هائلاً في مستوى المعيشة ونوعية الحياة، لمئات الملايين من البشر ، ومع ذلك فمن خلال تلك العملية لم تصبح المنتجات متاحة فقط ، ولكنها أصبحت رخيصة أيضاً ، ولما كان في الإمكان استبدال منتجات أخرى بها مماثلة لها وأرقى منها ، فلم يعد هناك لدى الإنسان المتحضر المعاصر ، ما يدعوه لحمايتها أو ادخارها ، أو العناية بها كما كان الحال في الماضي .

وإذا ما واظب هذا الإنسان على عاداته الاستهلاكية فسوف تنتصر القمامة في نهاية الأمر وفقاً لما يقوله المفوض العام السابق للشئون الصحية بولاية نيويورك ( يستطيع الناس التذمر من أفران حرق القمامة كما يحلو لهم ، بل إنهم يستطيعون أن يثيروا الجدل حولها ، أو يرسلوا شكواهم بشأنها للصحف ، لكن في النهاية يكون النصر للقمامة ) .

إن المشكلة ترجع إلى صميم التكوين النفسي ، ومن ثم الفكري ، والعقدي لإنسان هذه الحضارة الذي تم صياغته في نسيج حضارة زعمت أنها محايدة فيما يتعلق بالله ، فهي منفصلة عنه ، واتجهت إلى تأليه الإنسان ، وتأليه العلم ، ورفعت شعار السيطرة على الطبيعة ، منذ بدء عصر النهضة ، بدلاً من شعار " الانسجام " مع هذه الطبيعة ، ضمن منظومة العناية الإلهية التي يقررها الدين . إنه كما يقول آل جور : ( ما لم نعثر على طريقة نغير بها على نحو جذري حضارتنا وطريقتنا في التفكير فيما يتصل بالعلاقة بين الجنس البشري وكوكب الأرض فإن أولادنا سيرثون أرضاً خراباً ) .

إنه كما جاء في مؤتمر " مرور ربع قرن على إنشاء المركز الإسلامي " في آخن بألمانيا في 17 مايو 1989 ووفقا لما ذكره مراد هوفمان في كتابه " الإسلام كبديل " : ( فإن السبب الحقيقي لما آلت إليه البيئة من وضع متدهور وخيم العاقبة تجاوز حدود التحمل الطبيعي إنما هو اعتزاز الإنسان ــ غير المؤمن بوجود الله ــ اعتزازُه بجبروته ، حيث سولت له نفسه بأنه السيد المسيطر على الطبيعة والبيئة ، فاعتقد ذلك يقيناً ) (1) .

إننا نصل من ذلك إلى أن الصانع الرئيسي لكارثة الأرض المعاصرة ، هو مشروع الحضارة الغربية الذي قام بتصميمه المهندسون " المحايدون في العقيدة الإلهية " ولا يزالون يشرفون على مساره ويدفعون خطواته حتى الخطوة الأخيرة ، في أعماق الهاوية ، ولن يتراجعوا لأنهم اجتازوا نفسياً وتاريخياً نقطة الرجوع )

إن نقطة البدء في الحل لن تكون بمزيد من الارتباط بمنطلقات هذه الحضارة ( السيطرة ــ الاستهلاك ــ العلم وحده ) . ذلك لأن الكارثة إنما تقبل علينا من واقع تقدم هذه الحضارة ، فهل يمكن لهذه الحضارة أن تقدم الحل ؟ إذن لا تكون هذه الحضارة هي نفسها ، إن الحل لا يتصور مجيئه من هذه الحضارة بتركيبتها التي بدأت وآلتها التي انطلقت منذ عصر النهضة لأنها إنما قامت على استبعاد الدين .

يقول هارولد لاسكى المفكر السياسي الشهير : ( إن منهج الغرب في الحياة قد وضع في بوتقة الانصهار وصارت العلوم ــ سواء علوم الطبيعة أو علوم الحياة ــ جزءا من رد الفعل شبه التلقائي ، وتفتقر إلى الهدف ، فهي لا تقدم لنا شيئاً غير تلك القيم التي تشيع الفوضى ، وفي مقدور هذه العلوم أن تتيح شيئاً من الرفاهية المادية ، ولكن يبدو أنها عاجزة عن اكتشاف مبادئ الرضا الروحي ) .

إن كثيراً من فلاسفة العلم المعاصر يتحدثون كما يقول تشارلز فرانكل في كتابه " أزمة الإنسان الحديث " ص 152-153 عن ( التقدم الفكري والعلمي ــ وهو أكبر مفخرة لما أتاه الإنسان الحديث ــ على أنه مجرد أحبولة وخداع ) . ونحن نقول : العيب ليس في العلم ولكن في وضعه بعيداً عن الله .

ونحن نتساءل - وهذا بيت القصيد - : هل هناك أمل في أن تقوم حضارة بُنيت على مبادئ ثابتة ظلت تعمل وفقاً لآليتها مدة قرون أن تقوم بدور في تغيير جلدها ؟ مرة أخرى إنه لابد لهذه الحضارة كما يقول شفايتزر أيضاً من أن تقوم بالتغيير لا عن طريق الوعظ .. ولكن لابد من أن تنشأ العقلية الإيجابية الأخلاقية التي تنبع من نظرة عقدية تشمل الكون والحياة ، ثم يقول بما يشبه اليأس ( هذا هو المصير الذي انتهينا إليه : لقد فقدنا كل نظرية في الكون ) ص 6 .

و يحلل أرنولد توينبى المشكلة فيرجعها إلى غفلة الإنسان عن تكوينه المزدوج بين المادة والروح ، فيقول : ( إذا فقد الكائن البشرى روحه فإنه يفقد إنسانيته ، وذلك بأن جوهر الكيان البشرى هو إدراك لوجود روحي خلف المظاهر الطبيعية .. ) . وبسبب أنه يعيش في وقت واحد في المحيط الحيوي وفي العالم الروحي فهو كما وصفه السير توماس براون بدقة : حيوان برمائى ! وفي كل من الوضعين حيث يشعر أنه منسجم مع الوضع يكون له غاية خاصة ، ولكنه لن يتمكن من متابعة كل من الغايتين ، أو أن يخدم كلا من السيدين بإخلاص تام .... فأى البديلين يختار ..؟ ) .ثم يقول ( وفي عصرنا فقط أصبح الاختيار أمراً لا مفر منه للبشرية ككل . ) تاريخ البشرية ج 1 ص 31 . وهذا بالضرورة يشير إلى ضرورة تحديد موقف الإنسان من الحياة الدنيا والآخرة تحديدا صحيحا . وهذا ما لا تملكه الحضارة الغربية المعاصرة التي لا تنفعها " إعادة تأهيل " ، وساءت سمعتها فهي لا يجديها " رد شرف " ، وبخست عملتها البالونية فهي لا ينفعها عند الخبراء "تسويق " ، وقبح وجهها المتفسخ إلى حد لا يصلح معه " شمع التجميل " ،

============

#المسلمون وضرورة الوعي التاريخي

عبد القادر عبار

بسم الله الرحمن الرحيم

تقديم

هذه الخواطر التي تأخذ شكل المقالات التي كنت نشرتها في بعض الصحف والمجلات . وقد عزمت على لمَ شتاتها وتجميعها في هذا الكتيب قصد تعميم الفائدة من قراءتها وتدبرها رغم تواضعها.

وإذا كانت مواضيعها مختلفة وعناوينها متنوعة.. إلا أنها تلتقي حول محور واحد ? وهو محور الوعي التاريخي.

وهو محور يحتاج في الحقيقة إلى تخصصات عالية وكفاءات ممتازة لمعالجته معالجة دقيقة وشاملة وإيفائه حقه في التحليل والطرح... إلا أن ذلك لا يعني عدم المشاركة في الكتابة فيه وإثارته من طرف الآخرين ممن هم اقل كفاءة وتجربة وتخصصا.. ما دامت تشغلهم هموم المسلمين التاريخية والحضارية وغيرها... وتهمهم قضايا الترشيد الثقافي وتنمية الوعي الحضاري لدى شباب المسلمين حتى يستعيدوا دورهم الخلافي والقيادي في تعمير الأرض وإقامة البديل الإسلامي المشرق? حيث العدل والأمن والحرية.

عبد القادر عبار

بين الجزم والتميّع

1) الإسلام محجوب بالمسلمين

ما اقبح أن توضع صورة متقنة بديعة براقة في إطار بخس عتيق لا يلائمها البتة فهو بقدر ما يزهد العين في النظر إليها وتأملها يصد النفس عن تذوقها وتلمس ملامح الحسن فيها ويحجبها عن أي تقييم صحيح . ومن هذا المنطلق ندرك مدى عمق تلك المقالة الجامعة التي أعلنها الشيخ الداعية محمد عبده في قولته الحكيمة "الإسلام محجوب بالمسلمين" بعد تجربته الطويلة في أغوار النفس والمجتمع الإسلامي.

الإسلام بتعاليمه السمحاء وتشريعاته القويمة يمثل الصورة الكاملة البديعة والمثالية للأديان السماوية غير أن الإطار الذي وجد فيه خلال السنين والقرون الأخيرة هو إطار فاسد متآكل لا يلائم حسنه وإشراقه ? إذ المسلمون الذين انتسبوا إليه ومثلوه في تلك السنين العجاف ببدعهم المظلمة وتجاوزاتهم المجحفة وأعمالهم المخالفة وجهلهم وكسلهم وتميعهم.. قد حجبوا الإسلام وغطوا حقيقته بما اقترفوا من بدع العبادات وفساد العادات الشيء الذي مهد -وللأسف- للأعداء على اختلافهم فرص التجريح والنقد والهدم والاتهامات القاسية لهذا الدين الحنيف الذي رأوا فيه- من خلال ما شاهدوا لا من خلال ما علموا وتحققوا- سبب التخلف والجهل والمرض والوسخ.

وفي هذا الصدد يقول المرحوم محمد فريد وجدي في بيان هذا الموقف الذي يقفه الغرب منا ومن ديننا ? " يجب أن نغفر للأوروبيين تصديقهم لكل الافتراءات ضد الإسلام والمسلمين.. فهم- أي الأوربيون- على حق إذا اظهروا العداء تجاه ديننا طالما كانوا لا يجدون أمامهم إلا البدع التي حذقها أناس تافهوا العقول وقبلها الجمهور وزاد فيها أشكالا أخرى من الخطأ ومخالفة الطبيعة البشرية وقوانين الحضارة.. وكيف نأمل أن يفهم الأوروبيون لب ديننا -الدين الوحيد الذي يحمل السعادة الحقة- طالما كانوا لا يعلمون إلا ملامح خارجية معينة للإسلام يشاهدونها كل يوم مثل الاجتماعات الصاخبة في الشوارع سائرة خلف الأعلام والطبول ( يشير بهذا إلى مواكب الصوفية -الحضرة- التي تزحف في الشوارع بأعلامها وطبولها تملا الآفاق صياحا بما يسمونه ذكر الله)... والحفلات الممجوجة المخالفة لكل وعي والتي تقام في عدد من المدن الإسلامية يوم مولد الرسول صلى الله عليه وسلم... والاجتماعات في حلقات واسعة أمام الآلاف من الناس والتراتيل الصوفية التي تؤدى بصوت قوي مصحوبة بالتمايل يمينا وشمالا ونحو ذلك..." (1)

أ) قرآن يتحرك

وخلافا لذلك كان السلف الطيبون الصالحون الترجمان الصادق الناصع للإسلام والإطار الملائم البديع للدعوة فقد كانت تعاليم الدين السمحاء وتشريعاته النقية ترى في كل صغير وكبير فيهم? كانوا بحق والله إسلاما يمشي في الطريق وقرآنا يتحرك في الأسواق لم يضيفوا إليه ما يخدش حسنه أو يجفف إشعاعه أو يحجب في كثير أو قليل عن العالمين كماله وبهاءه.

والحقيقة المرة أن المشاهد لحال المسلمين الآن وفي فترة التخلف والدارس لحقيقة الإسلام وأحوال المسلمين الأوائل يقع في حيرة ويأسف للتناقض الحاصل ? " فالتاريخ يقول لهم عن الإسلام شيئا ويرسم في آبائهم الأولين صورة مشرقة لآثار الإسلام فيهم وواقع الحال يقول لهم عن الإسلام شيئا آخر مختلفا اشد الاختلاف عما يقوله التاريخ ويريهم في أنفسهم صورة تختلف تماما عن الصورة التي يقال أن آباءهم الأولين كانوا عليها..." (2)

فالمطلوب من المسلمين الآن إذا كان بهم عزم صادق حقيقي في إظهار حقيقة الإسلام ناصعة للعيان ومؤثرة حقا وحتى يتجنبوا المزالق والاتهامات والتجريح الذي يكيله أعداء الإسلام لهذا الدين.. المطلوب منهم أن يكونوا ترجمانا عمليا ناصعا لتعاليم الإسلام القيم في سلوكياتهم وأعمالهم في سرهم وجهرهم وفي الباطن والظاهر.

ب) شهادة لهذا الدين

يقول المفسر سيد قطب في تفسير آية آل عمران (( ربنا آمنا بما أنزلت واتبعنا الرسول فاكتبنا مع الشاهدين)) يقول ? إن المسلم المؤمن بدين الله مطلوب منه أن يؤدي شهادة لهذا الدين شهادة تؤيد حق هذا الدين في البقاء وتؤيد الخير الذي يحمله هذا الدين للبشر وهو لا يؤدي هذه الشهادة حتى يجعل من نفسه ومن خلقه ومن سلوكه ومن حياته صورة حية لهذا الدين صورة يراها الناس فيرون فيها مثلا رائعا رفيعا يشهد لهذا الدين بالأحقية في الوجود وبالخيرية والأفضلية على سائر ما في الأرض من أنظمة وأوضاع وتشكيلات وهو لا يؤدي هذه الشهادة كذلك حتى يجعل من هذا الدين قاعدة حياته ونظام مجتمعه وشريعة نفسه وقومه فيقوم مجتمع من حوله تدبر أموره وفق هذا المنهج الإلهي القويم..." (3).

وهذا- بحق- ما فهمه اتباع الأنبياء والصديقون والمخلصون وهذا ما حققه الذين اسلموا وجههم لله -حقيقة- وشهد لهم به التاريخ (( أولئك هم المؤمنون حقا لهم درجات عند ربهم ومغفرة ورزق كريم))

2) لماذا شاخ المسلمون ؟

* متى افترش العنكبوت الغربي ديار المسلمين حتى التقم خيراتهم وكنز ذهبهم وفضتهم واستحم بعرق عمالهم؟

* متى فقد المسلمون مقعد "الشهادة" على العالم وزج بهم في ذيل القافلة الحضارية في نومة عميقة لم يستفيقوا منها حتى كادت خفاف الغرب- رأسمالية وشيوعية وصهيونية- أن تطأهم وطأ لا حراك بعده لولا أن الله تعالى يقيض لهذه الأمة على راس كل مائة عام من يجدد لها دينها ويبعث الوعي في اتباعها...؟

هذان السؤالان يطرحهما واقع الوضع المتردي الذي ركن إليه المسلمون في فترات الانحطاط الذي احتواهم .. وواضح أن الجواب على هذين السؤالين يتبلور جليا في إرجاع ذلك إلى تلك الفترة الحالكة التي اعترت المسلمين من غياب الجد وفتور روح الجزم والحسم في تنفيذ تعاليم الدين على مستوى الفرد والجماعة... ونبذهم لمقومات الذاتية الإسلامية وتركهم لأخلاقية الاستخلاف التي كرم الله تعالى بها بني آدم من أمر بالمعروف ونهي عن المنكر.. مع تكاسلهم عن تحقيق فريضة الجهاد وخورهم عن المجابهة الحركية للظلم بمختلف أنواعه...

هذا بالإضافة إلى عوامل أخرى متشابكة ساهمت بقسطها المخزي في سقوط المسلمين وإضعافهم في شتى المجالات.

أ) شيخوخة المسلمين

ضعف العالم الإسلامي في القرن التاسع عشر في الدعوة والعقيدة والعقلية والعلم والجهاد... وبدا عليه الإعياء والشيخوخة. والإسلام لا يعرف الشيخوخة والهرم...انه جديد كالشمس ولكن المسلمين هم الذين شاخوا وهرموا وضعفوا فلا سعة في العلم ولا ابتكار في التفكير ولا إبداع في الإنتاج ولا حماسة في الدعوة ولا عرضا جميلا ومؤثرا للإسلام ومزاياه ورسالته.. ولا صلة بالشباب المثقف والتأثير على عقليته وهوامه الغد وجيله المرتجى.. وفي هذه الحال هجمت أوروبا بفلسفتها" التمييعية" التي تعب في تدوينها كبار الفلاسفة.. وهكذا انتشر الإلحاد والارتداد في الأوساط الإسلامية ثم تطور الأمر وعظم الخطب وشملت المجتمعات الإسلامية على طولها ضبابية حالكة- عقليا وفكريا وعقائديا- حتى فترت في المسلمين جدية الالتزام بحقائق هذا الدين وكسفت شمس المحاسبة الواعية أفقيا وعموديا.

ب) عادات.... لا عبادات

فالشعائر التعبدية لا تحس لها تأثيرا ولا حياة في الوجدان والسلوك لأنها أصبحت تؤدى وكأنها عادات لا عبادات.. حتى لكإنما أصبحت الصلوات ترفيها رياضيا لتنشيط العضلات الرخوة... أو مسلكا صحيا ( ريجيم) لتخفيف ثقل الوزن طلبا للرشاقة.. فتؤدى بالجسد لا بالروح.. لا خشوع فيها ولا لذيذ مناجاة وهزل اليقين في النفوس وغاب الإخلاص والصدق وتذبذبت العقيدة قي القلوب.. وهذا له خطره.. وفي هذا المضمار يقول أحد المفسرين " إن الطاغوت لا يقوم إلا في غيبة الدين القيم والعقيدة الخالصة عن قلوب الناس.. فما يمكن أن يقوم وقد استقر اعتقاد الناس فعلا أن الحكم لله وحده لأن العبادة لا تكون إلا لله وحده. والخضوع للحكم عبادة بل هي أصلا مدلول العبادة ."

وأما في مجال الاخوة والروابط الاجتماعية... فقد أصبحت الاخوة تحية عابرة باللسان و إشارة فاترة باليد.. قد بعدت عن مدلولها الصحيح الهادف كتلك التي مثلها الصحابة رضوان الله تعالى عليهم ? قسمة وإيثارا في الأهل والمال والدماء.

وأما المساجد عندنا فقد أمست هياكل معمارية باهرة نتباهى زخرفتها ونغفل عن الدور الأساسي الذي من اجله جعلت.

ويتعرض أحد العلماء مبينا ومفسرا سنة من سنن التغيير التي تصيب الأمم وهي في أوج حضارتها ورقيها والمفضية إلى انحلالها وتميعها فيقول " في هذه المرحلة الحاسمة- أي مرحلة القناعة بالمحصول والوقوف عند ذلك الحد المحرز عليه من المعرفة- تتخلى هذه الجماعة عن مكانها في القيادة ..إن لم يكن بالرضا والاختيار فبالقوة والجبر لتحل مكانها جماعة أخرى أحرزت قدرا كبيرا من المعرفة وحظا أوفر من العلم ويلازمها عزم وتصميم على بناء الحياة... أما هؤلاء الذين كانوا قادة فيصبحون اتباعا وبعد أن تقدموا القافلة .. يحتلون مكانهم الرمزي من ذيلها..".

ج) التطرف الصوفي

وتمثله في أنكى وجه "الطرقية" الغالية?

فقد اقبل العامة- بقيادة المتصوفين- على الطقوس والأوراد... واقبل الحكام ومن كان في ركابهم وحواشيهم على الشهوات والملذات ... وهذا الخلط الصوفي الأحمق يعتبر أول صدع أصاب التفكير الإسلامي في صميمه بل أول صدع أصاب كيان الأمة الإسلامية فيما بعد بالانهيار... فالأفكار الصوفية إذن لا مبادئ الإسلام هي التي حَملت الجماهير أوزار الاستعمار الداخلي والخارجي ووطدت للمظالم الخطيرة وخذلت الناس... حتى تركوا الجهاد وركنوا إلى الكسل والميوعة لا يعرفون معروفا ولا ينكرون منكرا.. الأمر الذي اطمع في استغلالهم الأعداء وزين للظالمين استعبادهم.

3) حين يتخلى المسلمون عن الجد....

إن إرسال أمة من الرسل الأخيار .. من سيدنا نوح إلى خاتم الأنبياء والمرسلين وتحمل الأتعاب التي تنوء دون حملها شم الجبال وتلك الابتلاءات ثم ذلك الجهاد وأخطاره والهجرة وأعباؤها كل ذلك إنما هو برهان ساطع على جدية هذا الدين وجزم هذه العقيدة حيث يلخص ذلك في انسق عبارة المفسر الشهيد سيد قطب رحمة الله تعالى عليه قائلا " إن هذا الدين جد لا يقبل الهزل وجزم لا يقبل التميع وحق في كل نص فيه وفي كل كلمة. فمن لم يجد في نفسه هذا الجد وهذا الجزم وهذه الثقة فما أغنى هذا الدين عنه والله غني عن العالمين"

لقد كانت يقظة المسلمين الصادقين الأوائل في حين جدهم ووعيهم بأمانات الدعوة والرسالة تمثل قمعا صارما وتحديا جازما لتحركات المغرضين والمتربصين وسدا منيعا أمام مطامع ودسائس المناوئين والكائدين.

فحركة الردة السامة لولا جدية الخليفة والصدّيق الراشد وحسمه الواعي في وقفها وقطعها من جذورها لكانت بمثابة جرثومة الموت للدعوة الإسلامية في شبابها كما أن جدية الخليفة الخامس عمر بن عبد العزيز في رد أمور الخلافة وشؤون الدولة إلى إطارها الصحيح قد قطعت خبث روح الملك العضوض الذي مد عنقه في ذلك الحين.

أ) في غيبة الجد

بيد انه ما إن تفتر روح الجد لدى المسلمين ويغيب عنهم العزم الصادق في إقامة أمور الدين ... حتى تنقض عليهم جيوش المتربصين وتتداعى عليهم الأمم كما تتداعى الأكلة على قصعتها وهذا ما مهد للحركات الهدامة أن تبرز وتنشط وتمتد هنا وهناك في ديار المسلمين.

فمع بداية القرن ظهرت حركات عدائية ماكرة تستهدف تشويه الساحة العقائدية لامة الإسلام من ماسونية وقاديانية وبهائية وكلها ترضع من الصهيونية القذرة وتقف مع بعضها البعض في تشويه وإلغاء- مثلا- فكرة الجهاد من تصور المسلمين مع خلق بلبلات ونعرات مفتعلة لتشتيت وحدة المسلمين خدمة وتوطينا للاستعمار الغربي ومساعدته على تدمير وتخريب ديار المسلمين.

" هذا الاستعمار الذي استهدف في العصر الأخير أن يضرب الإسلام ضربة تقض مجامعه وتقض مضاجعه وتبعثر أمته بعثرة نفسية وفكرية لا نهاية لها واخترع من فنون الغزو الثقافي ما يملأ به الفراغ الروحي والعقلي الذي اصطنعه في كل ميدان ومهد له في كل مكان..."

ب) حقائق عن بعض هذه الحركات

فمن حقائق البهائية يقول الشيخ العالم محمد الغزالي " عبد البها يمجد الصهيونية والصليبية ويزعم انه مسلم... وقد التحمت البهائية أخيرا بالهجوم اليهودي ووجدت من المال الأمريكي ما يعينها على التمدد والبعث بل إن اغلب خصوم الإسلام والعرب يعينونها على اختطاف الشباب التائه ومسخ عقله وخلقه وماذا عليهم ؟ إن ذلك في نظرهم جبهة تفتح ضد الإسلام ويمكن أن تنال منه."

وأما في القاديانية الفاسدة فانظر ماذا يقول القدياني صاحبها? " لقد خطوت اكبر مرحلة من حياتي في نصرة الدولة البريطانية والدفاع عنها والفت كتبا كثيرة احرم فيها الجهاد ضدها. لو جمع كل ما كتبته في هذا الصدد لبلغ خمسين كتابا ووزعت هذه الكتب كلها في جميع أقطار العالم... ووجب على كل مسلم ومسلمة تقديم الشكر إلى هذه الحكومة وحرام على كل مؤمن مقاتلتها بنية الجهاد".

وأما عن المآسي التي لحقت المسلمين في فترات الخمول وغياب الجد والعزم من سموم الماسونية العالمية فهذا بند من بنودها الدنيئة التي نفذتها وترى في مجتمعاتنا بعض آثارها المؤسفة فانظر ما توصي به جنودها ?" على الماسونيين أن ينفذوا في صفوف الجماعات الدينية وغيرها ...لا بل عليهم إن احتاج الأمر أن يقوموا بتأسيسها على أن لا تشم منها أي رائحة حقيقية للدين.. وعليكم أن تولوا أمورها السذج من الرجال ولتطمعوا- خفية- ذوي القلوب الكبيرة من الرجال بقطرات من سمومكم بغية التفرقة بين الفرد وأسرته... عليكم أن تنزعوا الأخلاق من أسسها لأن النفوس تميل إلى قطع روابط الأسرة والاقتراب من الأمور المحرمة لأنها تؤثر الثرثرة في المقاهي على القيام بتبعات الأسرة... ولتنفذوا بهم إلى ملاذ الحياة البهيمية".

إن هذا الاعتراف المخزي من الماسونيين لكاف للتدليل على مدى ما بلغت إليه روح المكر والهدم والحقد عندهم إزاء الجماعات الدينية بل إزاء الإنسانية قاطبة.

ج) وبعد...

إننا لم نورد هذه الحقائق إلا لنبرهن على أن جميع المآسي التي نخرت في كيان الأمة الإسلامية الشاهدة ... إنما حدثت كلها في فترات غاب فيها جد المسلمين وضعف فيها عزمهم وتركوا فيها جهادهم.

فتسلح "الذين آمنوا" بعنوان الدعوة المحمدية -الذي هو الجد والجزم والحق- وتحقيقه تحقيقا كاملا في سلوكياتهم وأعمالهم يمثل الغيظ المنغص لأهل الباطل وأصحاب القلوب المريضة... تماما كما تحقق ذلك في سلفهم الصالح واعترف لهم به عدوهم. جاء ذلك على لسان أحد الملوك في قوله ? " كيف لي بقوم لو اقسموا على أن يزيلوا جبلا من مكانه لأزالوه " ( أو كما جاء في رواية أخرى " لا طاقة لي بقوم إذا أرادوا خلع الجبال لخلعوها").

4) المسجد.... ليس مكانا لطقطقة المسابيح

المسجد في الإسلام ليس مجرد مكان للكوع ولسجود وطقطقة المسابيح. فذلك ما خطط له الاستعمار وأقنعنا به نحن في هذا العصر.

إنما المسجد هو أيضا مركب جامعي ومكان لمناقشة مشاغل الناس ومشاكلهم الحياتية والأخروية.

ونظرة منصفة إلى التاريخ تؤكد ذلك.

إن أول عمل بادر بإنجازه الرسول صلى الله عليه وسلم بطيبة- المدينة المنورة- هو وضعه لحجر الأساس لأول مسجد جامع بها والمشاركة في بنائه وتجهيزه.

ولا يخفى على الدارس الحصيف أن الرسول إنما أراد بعمله هذا أن يربط العباد بخالقهم من هذا المكان بعد أن غرس فيهم بذور التوحيد وزين لهم الإيمان وحببه إليهم وشوقهم إلى الطاعات والعبادات. فكان هذا المسجد النبوي البكر بمثابة المكان "اللقيا" الذي يتجمع فيه المسلمون.

وكانت تبرم داخله عناوين الفتوحات وتسوى فيه أمور الدولة وتفصل فيه قضايا ومشاغل الأمة.

ولم يأخذ قط تلك الصبغة الإدارية الجافة التي تردى فيها في عصرنا الحاضر والمتمثلة في فتحه وغلقه في أوقات معينة ومحدودة بعد أن كان- في أيام عزه- مفتوحا على مصراعيه آناء الليل وأطراف النهار لا يمنع من دخوله مسلم أيا كان وكيف يغلق وهو منزل عابر السبيل وكلية التعليم ومنتدى التثقيف ومجلس القضاء وخلوة الذكر والتسبيح ؟؟

أ) المسجد ? مركب جامعي

كان جامع "المنصور ببغداد" وهو اقدم جامع بها اشهر مركز للتعليم في المملكة الإسلامية وقد أحصى المقدسي في تاريخه ( ص 205) في المسجد الجامع بالقاهرة وقت العشاء مائة وعشرة من مجالس العلم أي بمصطلحاتنا المعاصرة نقول 110 كلية هذا بدون أن ننسى "الأزهر" و"الزيتونة" و"عقبة"...

غير أن هذا لم يدم طويلا للأسف " فقد كان تغير طريقة التعليم سببا في إيجاد نوع جديد من المؤسسات العلمية ذلك انه لما انتشرت طريقة التدريس نشأت المدارس ولعل من اكبر الأسباب في ذلك أن المساجد لم يكن يحسن تخصيصها للتدريس بما يتبعه من مناظرة وجدل قد يخرج بأصحابها أحيانا عن الآداب التي تجب مراعاتها للمسجد.

فالقرن الرابع هجري كما يقول " آدم متز" في كتابه عن الحضارة الإسلامية ( ص336) هو الذي اظهر هذه المعاهد الجديدة التي بقيت إلى يومنا هذا.

ب) المسجد ? دار قضاء

يذكر صاحب الأغاني ( ج10 ص 123 ) أن القاضي كان في أول الأمر يجلس في مكان لا يمنع أحد من المسلمين من الدخول إليه وهو المسجد الجامع حيث كان يجلس إلى اسطوانة من أساطين المسجد.

غير أن المعتضد ( سنة 279 هجري) أمر أن لا يقعد القضاة في المسجد بحجة أن جلوس القاضي في المسجد يتنافى مع ما يجب لبيوت الله من الحرمة.

أما في عصرنا الحاضر فلم يبق للمسجد من الخصوصيات والميزات التي كان يتمتع بها قديما والتي ذكرنا بعضها آنفا ... في حاضر أيامه إلا انه "مصلى" يفتح خمس مرات في اليوم يلتقي عندها أعداد محدودة لأداء الصلاة.

ولاعجب في ذلك إذا علمنا أن الاستعمار لما خطط لإسقاط الأمة الإسلامية كان همه الأساسي يستهدف تشويه رسالة المسلم في هذه الحياة وإضعاف دوره فيها واثباط فاعليته في التمدن والتحضر وعرف انه لن ينجح في ذلك إلا بتحقيق شرطين اثنين ?

1- تمييع علاقة المسلم بكتابه- القرآن- وصرفه عن الأخذ بآدابه والتحلي بأخلاقياته والعمل بأحكامه والتناصح بأوامره. وهذا الشرط الماكر لا يؤتي أكله إلا بتحقيق الثاني ?

2- تقزيم دور المسجد في الحياة الاجتماعية وتهميشه وحصر دوره في مجال الركوع والسجود وطقطقة المسابيح... ومن ثم تولى- الاستعمار- إيجاد وبناء مؤسسات بديلة للتثقيف واللهو وخنق الفراغ حتى يستولي على اهتمام المواطن المسلم ويزهده في ارتياد المسجد.

والحقيقة المرة أن هذه البدائل المائعة قد ضيعت على المواطن المسلم كثيرا من فرص الاستفادة الحقة والتلقي النافع والتربية القويمة وهو ما ابطل فيه روح الإبداع الواسع.

ونظرة منصفة إلى الواقع تبين بوضوح مدى جدوى وسلبية وسائل ومضامين هذه البدائل التي استحوذت باهتمامات الشباب وتبين أيضا مدى الانحطاط الخلقي والفساد التربوي الذي حصل عندما تخلى المسجد عن دوره كمدرسة وكموجه.

ولأنهم يدركون- بالتجربة- مدى خطر دور المسجد في تحصين الفرد المسلم نرى الأعداء (أعداء الأمة الإسلامية) على اختلافهم يخططون بكل طرقهم ووسائلهم لتقليص دور المسجد ولو اقتضى الأمر هدمه أو تشويهه. واليك بعض الشواهد?

1- في روسيا الشيوعية لم يبق من جملة 30 ألف مسجد إلا 30 منها.

2- مجمع الأحبار الإسرائيلي شكل لجنة من ثلاثة أعضاء متخصصين في التلمود لإصدار فتوى حول جواز ممارسة الطقوس الدينية اليهودية من فوق جبل المعبد الذي يطلقه اليهود على منطقة المسجد الأقصى... وتجمع التقارير على أن الهدف الواضح من وراء ذلك هو هدم المسجد الأقصى ومسجد إبراهيم برخصة تلمودية ( مجلة الأمة- عدد 26- ص 88) لأنهم أيقنوا أن الفدائي الذي ينطلق من ثكنة المسجد لا ينهزم ولا تقف أمامه قوة ما.

الهوامش?

(1) فقرة لمحمد فريد وجدي- نقلا عن كتاب "مسلمون وكفى"- لعبد الكريم الخطيب- ص 15/16

(2) "مسلمون وكفى" -ص 38

(3) "الظلال "- سيد قطب- المجلد الأول- ص 401 /402.

(4) " الإسلام المفترى عليه"- محمد الغزالي

(5) ردة- للندوي

(6) منهج جديد في التربية والتعليم- المودودي

المسلمون وضرورة الوعي التاريخي

تعتبر الصحوة الإسلامية المباركة مرشحة حضاريا قبل غيرها للقيام بدورين جد بالغين?

الأول دور" المنقذ من الضلال" للبشرية المصفوعة بمادية الغرب الملحد وجشع الصهيونية العالمية المدمرة.

والثاني ? دور "المنقذ من التخلف والتبعية" للمسلمين الذين تعصف بهم أطماع الشرق والغرب وتتربص بهم القوى الغاضبة والحاقدة وتخطط لتقليص دورهم في حركة التاريخ بإذابة فاعليتهم ونشر الأمية المثلثة في وعيهم بدءا بالأمية التاريخية فالدينية فالعقلية.

1) تعميق البناء الداخلي وبعث الوعي التاريخي

إلا أن هذين الدورين الجليلين والثقيلين- لكي يؤتيا نتائجهما المنشودة ويرتقيا إلى مستوى التأثير والفاعلية -مشروطان أساسا بتحقيق عاملين هامين ? أن يكون المسلمون أبناء هذه الصحوة المباركة على مستوى الرسالة التي يحملونها ويجاهدون من اجلها وفي الوقت نفسه أن يكونوا على مستوى العصر الذي فيه يعيشون عصر الوعي والعلم والتقنية.

ولتحقيق العامل الأول نرى وجوب تعميق البناء الداخلي والشامل للفرد المسلم وبعث الشخصية الإسلامية الفذة في بعدها العقائدي السليم وتكوينها الشرعي والعلمي الموسوعي وفاعليتها المبدعة وواقعيتها الإيجابية.

وأما عن العامل الثاني فنرى ضرورة بعث الوعي التاريخي والحضاري عموما مع حذق أسباب النهوض وأساليب التحدي الحضاري فكرا وثقافة وتقنية وفقه كل ما من شانه أن يعين على توثيق ارتباط المسلم بالسنن الكونية والاجتماعية حتى يستعيد فاعليته وقدرته على التغيير والبناء وتنتفي العشوائية من حركته والانهزامية من مواقفه ? " ذلك أن الإنسان المسلم عبر مسيرته التاريخية ولا سيما في القرون الأخيرة قد فقد كثيرا من مقومات شخصيته بفعل عوامل الاحتكاك الحضارية التي واجهته وهو في حالة لا تؤهله للاستجابة الملائمة للتحدي الحضاري... ثم إن المسلم في مراحل انزلاقه قد انفك ارتباطه بالسنن الكونية والاجتماعية وسرعان ما وجد أشباه فلاسفة ومتصوفين يقدمون له التبريرات المطلوبة لفك ارتباطه بالحركة الكونية وللسير عشوائيا على ارض التاريخ فهو يتحرك دون وعي مسبق يتحرك غريزيا..." ( مجلة منار الإسلام- العدد11- السنة 5 -ص 56) مما يوجب ضرورة بعث الوعي التاريخي كما أشرت قبل قليل مع تفهم طبيعة الواقع الذاتي والموضوعي من خلال التركيز الجاد على القراءة المتفهمة للأحداث وتدبر السنن المؤثرة والمسيرة لحركة التاريخ.. لدى شبابنا الإسلامي في إطار الترشيد الثقافي وتعميق التربية وتأصيل التعليم ...

فماذا نعني بالوعي التاريخي ؟ ثم ما هي المبررات الذاتية والموضوعية التي تلح على اكتسابه والتعامل والتحرك من خلاله ؟

2) معنى الوعي التاريخي...

الوعي التاريخي نعني به ? ذلك التبصر الدائم والهادف بالتاريخ القريب والبعيد الذاتي والموضوعي الحاصل- أي التبصر- من غلال التوغل المركز في قراءة صفحات التجارب البشرية الكثيرة والمتنوعة وفحصها وتدبر أبعادها وخلفياتها واكتشاف المؤثرات والسنن التي ساهمت في بعثها وإيجادها قصد التزود والاعتبار ومحاولة تفهم الأسس السيكولوجية للكثير من الأحداث والصراعات والانفعالات والتأثيرات والحروب... الحاصلة والمتولدة عبر الأيام في تاريخ البشرية الحافل والطويل.

3) قيمة الوعي التاريخي....

وقيمة الوعي التاريخي بهذا المفهوم ترجع أساسا إلى كون علم التاريخ ومعرفته تجربة وعبرة أو كما يعبر عنه علامتنا ابن خلدون ? " فن التاريخ فن عزيز المذهب جم الفوائد شريف الغاية إذ هو يوقفنا على أحوال الماضين من الأمم في أخلاقهم والأنبياء في سيرهم والملوك في دولهم وسياستهم حتى تتم فائدة الاقتداء في ذلك لمن يرومه في أحوال الدين والدنيا..." ( المقدمة- 13) ذلك أن التاريخ في حقيقته " خبر عن الاجتماع الإنساني الذي هو عمران العالم وما يعرض لطبيعة ذلك العمران من الأحوال" ( المقدمة- 57)

ثم في كونه أيضا " تجربة عطاء في شتى مجالات المعرفة والحركة الإنسانية ... وانه حصيلة سنن تحكم الطبيعة والإنسان والعالم" ( في النقد الإسلامي المعاصر 123 للدكتور عماد الدين خليل)ومن هنا نرى القرآن الكريم يولي المسألة التاريخية أهمية كبرى.

4) القرآن الكريم والدعوة إلى التبصر والتاريخ

كثيرا ما يؤكد القرآن العظيم وهو الكتاب الحق والخالد على ضرورة الوعي التاريخي ويدعو المسلمين إلى التبصر الجاد والمستمر بأحوال الأولين والتمعن في سيرهم للاعتبار والاتعاظ بما جرى لهم حتى لا تتكرر الأخطاء وحتى يتجنبوا مزالق التيه والضلال التي وقع فيها من سبقهم من الأمم ومن ثم لينقذوا أنفسهم والبشرية من حولهم بما انهم شهداء عليها من سوء العذاب وخسران المصير.

كما أوضح لهم اكثر من مرة أن السنن المسيرة لحركة التاريخ لا تقتصر على شعب دون شعب ولا على إقليم دون آخر حتى يأخذوا حذرهم.

فالمسائل التاريخية- إذن- المتعلقة بالشعوب السابقة وبمصير الأمم وأحوالها وعلاقاتها الحضارية ثم أسباب سقوطها... وانهيار الحضارات السالفة متوافرة ومطروحة في القرآن الكريم بشكل بارز ? "... إن آياته البينات ترحل بالمؤمنين عبر كل تلاوة في مجرى الزمن وتحكي لهم عن وقائع التاريخ المزدحمة وأحداثه المتلاحقة ومعطياته المتمخضة عن القيم والعبر والدلالات... ومعظم سور القرآن تضرب على الوتر نفسه فلا تكاد تخلو من واقعة تاريخية أو حدث ماض أو دعوة لاستلهام المغزى من هذه التجربة أو تلك .. إن الامتداد الذهني والوجداني إلى الماضي يشكل مساحة واسعة في كتاب الله.." ( الأمة- العدد- 18 ص8)

وهذا لا يعني أن القرآن كتاب تاريخ أو مدونة تاريخية ذلك أن كلمة التاريخ لم تذكر لا في القرآن ولا في السنة -كما يؤكد العلامة علال الفاسي- و إن قص علينا القرآن قصصا للأولين لا لنعتبرها تاريخا بأوقاتها وظروفها ولكن لنتعظ بما فيها من عبرة لأولي الألباب.

قال تعالى ? (( ألم يروا كم أهلكنا من قبلهم من قرن مكناهم في الأرض ما لم نمكن لكم وأرسلنا السماء عليهم مدرارا وجعلنا الأنهار تجري من تحتهم فأهلكناهم بذنوبهم و أنشأنا من بعدهم قرنا آخرين)) ( الأنعام 6).

وقال أيضا ? (( وكم أهلكنا قبلهم من قرن هم اشد منهم بطشا فنقًبوا في البلاد هل من محيص. إن في ذلك لذكرى لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد)) ( ق 36/37)

وقد عرض القرآن الكريم المرتكزات الأساسية لهذه السنن وطلب النظر والتبصر والسير في الأرض وتحقيق العبرة والاعتبار بأحوال الأمم السابقة وسبب انقراضها وتداعيها لتكون الأمة التي تحمل الرسالة الخاتمة على بينة من أمرها وبصيرة بموضع أقدامها ومعرفة بأعدائها...( الأمة- العدد- 25 -ص5).

وهكذا فإن الدارس للسور القرآنية مكيها ومدنيها يلاحظ في جلاء عددا هائلا من الآيات المتمحورة حول القصص والحافلة بالعروض التاريخية المتنوعة والهادفة أساسا إلى ? "إثارة الفكر البشري ودفعه إلى التساؤل الدائم والدائب عن الحق وتقديم خلاصات التجارب البشرية عبرا يسير على هديها أولوا الألباب. وإزاحة ستار الغفلة والنسيان في نفس الإنسان وصقل ذاكرته وقدرته على المقاومة لكي تظل في مقدمة قواه الفعالة التي هو بأمس الحاجة إلى تفجير طاقاتها دوما" ( التفسير الإسلامي للتاريخ- ص 106- للدكتور عماد الدين خليل) وقد دعانا القرآن اكثر من مرة عند سرده وعرضه للواقعة التاريخية إلى ?" تأملها واعتماد مدلولاتها في أفعالنا الراهنة ونزوعنا المستقبلي". ( التفسير الإسلامي للتاريخ- ص 97)

5) الرسول صلى الله عليه وسلم والتاريخ...

وقد نحا الرسول صلى الله عليه وسلم المنحى القرآني في الدعوة إلى الاعتبار بالأولين واخذ الموعظة من تجاربهم وذلك عند توظيفه للحدث الماضي ضمن قصص حية مرغبة ومرهبة آمرة وناهية حتى لقد اشتملت الأحاديث النبوية الشريفة على أربع وأربعين قصة تاريخية تضم قصصا عن الرسل والأنبياء وغيرهم مثل قصة "أصحاب الأخدود" و"الثلاثة المبتلون" و"أصحاب الغار" وهذا لا يعني أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان مؤرخا أو مدونا للتاريخ بإيراده هذا العدد الهائل من القصص التاريخي وإنما أراد أن يضع للمسلمين الإطار الذي عليهم أن يملؤوه بما يكتشفونه من أحداث وما يصنعونه من عمليات.

6) التاريخ في نظر المسلم....

التاريخ في نظر المسلم حسب تعبير " ولفرد كانتول سميث" سجل المحاولات البشرية الدائمة لتحقيق ملكوت الله في الأرض ومن ثم فكل عمل وكل شعور فرديا كان أو اجتماعيا ذو أهمية بالغة لأن الحاضر هو نتيجة الماضي والمستقبل متوقف على الحاضر...

والإنسان في التصور الإسلامي يشكل محور فلسفة التاريخ ? "بحيث يصبح التاريخ الإنساني من صنع الإنسان وبالتالي إبراز قدرة الإنسان على صنع مصيره دون أن يتعارض ذلك مع قدرة الله على الخلق وما دام الإنسان يصنع تاريخه بنفسه فالأولى به أن يعي هذا التاريخ ويحاول تدبر علل ظواهره " ( سوسيولوجيا الفكر الإسلامي- ص 238- للدكتور محمود إسماعيل) ذلك أن الجبرية غير موجودة في الإسلام- كما يقول العلامة علال الفاسي- لأن الإنسان ليس خارج التاريخ بل هو من عوامله الداخلية والفاعلة والمفتعلة وليست عمليات التاريخ دون غاية.

وهذا ما يجعل الإنسان المسلم اشد اهتماما بالتاريخ من غيره فهو على خلاف الماركسي الذي يؤمن بحتمية التاريخ وبالتالي يتبع عجلة التاريخ دون أن يوجهها أو يؤثر فيها ثم هو أيضا على خلاف النصراني الذي يرى في التاريخ نقطة الضعف البشري وسجل الانحرافات البشرية .

ومن هنا احتل الفكر التاريخي مكانة مرموقة في الثقافة الإسلامية سواء في التكوين الثقافي للرجل المسلم أو في الحياة الاجتماعية والأدب أو في النشاطات السياسية... وهو يتخذ أشكالا متنوعة من سير حياة وبالدرجة الأولى حياة النبي صلىالله عليه وسلم  ومعاجم سير وسجلات مدن أو سلالات ووقائع وقصص...

وباختصار نريد أن نقول والعبارة للباحث ولفرد كانتول سميث ?" أن المسلم يحس إحساسا جادا بالتاريخ انه يؤمن بأن الله قد وضع نظاما عمليا واقعيا يسير البشر في الأرض على مقتضاه ويحاول دائما أن يصوغ واقع الأرض في إطاره ومن ثم فهو دائما يعيش كل عمل فردي أو اجتماعي وكل شعور فردي أو اجتماعي بمقدار قربه أو بعده من ذلك النظام الذي وضعه الله والذي ينبغي تحقيقه في واقع الأرض لأنه قابل للتحقيق..." ( الإسلام والعالم المعاصر- 163- للأستاذ أنور الجندي)

فأين نحن من هذا الإحساس ؟؟

7) هل وعينا التاريخ ؟

لنصارح أنفسنا فنبادر بالإجابة ? لا.. لم نع بعد تاريخنا لأننا في الحقيقة لم نشغل أنفسنا بعد بالبحث الجازم في هذه القضية رغم حساسيتها وأهميتها وذلك ناتج- ربما- من تجاهلنا وعدم وعينا بخطورة تغييبها عن حسنا وتفكيرنا فيما نخطط وندرس وننظّر وكذلك عدم إدراكنا لمدى مساهمتها وانعكاساتها- سلبا وإيجابا- على حركتنا وممارستنا ومن هنا فيجب علينا أن لا نخجل من القول بأننا نعاني جفافا في التعامل مع التاريخ وإلا فبماذا تفسر ملامح تخلفنا في شتى المجالات وسلسلة الهزائم والنكسات التي تكبدناها إبان المواجهات العسكرية والجولات السياسية تجاه أعدائنا من يهود وصليبيين وغيرهم ؟؟ فقد اكتفينا- أو بالأصح اكتفى الذين يسطرون سياستنا التعليمية والساهرون ( ؟) على مواردنا التثقيفية والتربوية والتعليمية- بالسرد السطحي الجاف والمسلي للأحداث التاريخية والتلميح الهزيل والمعتم إلى الأساس السيكولوجي لصراعنا وتعاملنا مع الغرب شرقيّه وغربيّه بينما نرى الغرب قد نجح- بذكائه الماكر- في توظيف الحدث التاريخي لخدمة أغراضه رغم خبثها ودناءتها? ".. فخيال الحروب الصليبية- التي نتج عنها تسمم العقل الغربي ضد العالم الإسلامي -لا يزال يرفرف فوق الغرب حتى يومنا هذا . كما أن جميع اتجاهاتها وإرجاعها نحو الإسلام والعالم الإسلامي لا تزال تحمل آثارا واضحة جلية من ذلك الشبح العنيد الخالد "

8) اليهود ومدى الحرص على التاريخ...

وأما اليهود فقد أدركوا الدور الخطير الذي يلعبه التاريخ في حاضر الشعوب ومستقبلها ومدى الإسهام والعطاء الذي يمنحه وعي الحدث التاريخي وفقه أبعاده لمن يهتم به ..ذلك أن التاريخ هو بمثابة ذاكرة الأمة.. وبقدر ما تسلم للأمة ذاكرتها وتحسن التعامل معها بقدر ما يمتد تأثيرها وتبرز قدراتها وتقوى شخصيتها.

ولهذا فإن اليهود وهم أساتذة المكر المدروس قد ركزوا كثيرا على التاريخ احتواء وتشويها خاصة في إطار المناهج التعليمية والتربوية التي حرصوا منذ وقت مبكر على احتوائها وتوجيهها تنفيذا لأغراضهم العدوانية وهذه الشواهد الصارخة من بروتوكولاتهم السامة خير دليل على ذلك .. فقد جاء في البروتوكول السادس عشر ? ".... سنتقدم بدراسة مشكلات المستقبل بدلا من الكلاسيكيات وبدراسة التاريخ القديم الذي يشتمل على مثل سيئة اكثر من اشتماله على مثل حسنة وسنطمس في ذاكرة الإنسان العصور الماضية التي تكون شؤما علينا ولا نترك إلا الحقائق التي ستظهر أخطاء الحكومات في ألوان قاتمة...".

وجاء في البروتوكول الرابع عشر ? "...وسنوجه عناية خاصة إلى الأخطاء التاريخية للحكومات الأممية التي عذبت الإنسانية خلال قرون كثيرة جدا..." أي أن اليهود سيدرسون للشباب صفحات التاريخ السوداء ليعرفوهم أن الشعوب عندما كانت محكومة بالنظم القديمة كانت حياتها سيئة ولا يدرسون لهم الفترات التي كانت فيها الشعوب سعيدة لكي يقنعوهم بهذه الدراسة الزائفة الكاذبة أن النظام الجديد افضل من القديم.

وكانت عناية اليهود مركزة بصفة أدق واشمل على التاريخ الإسلامي قصد تشويه حقائقه أو تقزيمها وتضخيم نقاطه السوداء إن وجدت وإلا فاختلاقها وإلصاقها به سهل يسير على أرباب المكر والدهاء ولهذا فقد خصت الصهيونية العالمية مؤتمر " بلتيمور" في الولايات المتحدة من اجل تزييف تاريخ الإسلام وإثارة الجدل حول قضايا الشعوبية والباطنية وتوظيف بعض المواقف الهدامة في التاريخ لإضفاء مصطلحات عصرية "مغلفة" عليها كما فعلت في وصفها لحركة "القرامطة" بأنها تمثل حركة العدل الاجتماعي وحركة الزنج التي استغلها دعاة التفسير المادي وهم يهود طبعا لأن جدهم ماركس يهودي وأبرزوها في ثوب "حركة ثورية تقدمية بروليتارية" ... وغيرها كثير ( منار الإسلام العدد 5 السنة 7 ص103)

وقد وجد هؤلاء اليهود وغيرهم من أعداء الإسلام ... من القيادات الفكرية التغريرية والرموز الثقافية والإعلامية في العالم العربي والإسلامي مساعدات مجانية مشجعة على مستوى التأليف والدعاية والنشر....

هذه باختصار بعض ملامح الحرص اليهودي على تشويه ذاكرة الأمم بمسخ تاريخها وتزييفه وتعتيمه وأما على المستوى الآخر.. الذاتي الداخلي لليهود فالأمر جد مختلف فالبرامج التعليمية الخاصة باليهود تركز في جانب كبير منها على بعث الحس التاريخي والعقيدي وتجذيرهما في النشء اليهودي...فأول كلمة يتعلمها الطفل اليهودي ضمن محفوظاته اليومية في دور الحضانة لها حس تاريخي " أورشليم حبيبتي" ثم حين يشب الأطفال عندهم يدرسون بدقة وتفصيل وإحكام تاريخ الشعب الإسرائيلي ? شعب الله المختار على الأرض..؟؟... وحين يذهب شبابهم إلى الجامعات يستمرون في تعميق تعاليم دينهم وأمجاد تاريخهم في دروس يومية لا هوادة فيها.

فأين نحن من هذا ؟؟

وبعد...

فخلاصة القول من كل ما أوردناه تتلخص كآلاتي ?

أولا ? يجب علينا أن نضع حدا للجفاف الذي يصبغ تعاملنا مع التاريخ وان نجدد رؤيتنا وفهمنا ودراستنا لتاريخنا الإسلامي وان نعمل على إيجاد صيغ سليمة ومتينة تمكننا من التفاعل الهادف مع التاريخ ومن التزود الواعي والمستمر من معينه الخصب... وهذا لن يحصل إلا من خلال دراسة عميقة واعية ومتكاملة للتاريخ الإسلامي ? "....إن دراسة تاريخ الإسلام في هذه المرحلة من حياتنا ضرورة لا سبيل إلى تجاوزها لفهم الأحداث وتطور المجتمع ولمعرفة مكان العالم الإسلامي والأمة العربية من الحضارة العصرية. فإن نظرتنا إلى الأحداث لا تصدق إلا إذا قامت في ظل مفهوم شامل وفي إطار تاريخ الإسلام نفسه كما أن اتصالنا بالغرب اليوم يجب أن يقوم على مفهوم مرحلة هي ? رد فعل لمرحلة قد سبقتها بحسبان أن هذه الحضارة العصرية الغربية ليست منفصلة عن عالم الإسلام وإنما قامت قواعدها على المنهج التجريبي الإسلامي وعلى بناء صاغه العلماء المسلمون فنحن حين نتصل بها اليوم لا نكوم غرباء عن جذورها فهي ملك للبشرية كلها التي صاغتها وشاركت في تكوين جوانبها المختلفة..." ( الإسلام وحركة التاريخ- 485- للأستاذ أنور الجندي).

وثانيا ? يجب أن يتأكد لدينا أن قضية الوعي التاريخي أصبحت ضرورية بل مصيرية يتحتم علينا أن نوليها اهتماما بالغا وعناية فائقة لا على مستوى الترف الفكري بتكديس الدراسات وتحبير المقالات ولكن- وهذا هو الأهم- على مستوى الوعي والتربية والحركة وعلى مستوى التعامل والممارسات اليومية وهذا لن يتيسر إلا ببعث سياسة تعليمية وتربوية متأصلة تركز على بعث الوعي التاريخي الهادف وتعميق البعد العقيدي في برامجها على طول المراحل التعليمية بدءا برياض الأطفال وانتهاء بالتعليم العالي ويرادفها- أي هذه السياسة التعليمية- جهاز ثقافي وإعلامي في مستوى العصر تجهيزا وتقنية يؤثر ولا يتأثر ويتوخى الصدق والعلمية والموضوعية في كل أعماله.

وبذلك حسب- رأيي- نتمكن من تجاوز كثير من العوائق المادية والمعنوية التي تحول دون تحقيق أهدافنا وغاياتنا? من نشر الدعوة الإسلامية بما فيها من خير وأمن وعدل للإنسانية ... إلى إقامة المجتمع الإسلامي المنشود الذي هو أمل البشرية وربيعها المنتظر...

تعاملنا مع الحضارة الغربية

هل الحضارة تكديس للأشياء وتجميع للمنتجات وإحصائيات للمبتكرات والمستحدثات ؟؟ أم هي بناء وهندسة وتصميم وتوجيه للطاقات والإبداعات ورقي مستمر للخلق والقيم السامية ؟

إن المجتمع الذي يكتفي بأن يستورد حضارة من الخارج ثم يجهد نفسه في تركيبها وتجميعها دون الاتكاء الواعي على أصالته والتمسك بجذوره ودونما استعدادات ذكية وعمل جزمي على تغيير الفكر والتفكير وتثبيت الأسس الصالحة والقواعد السليمة والنابعة من ترابه الثقافي والتاريخي... مثل هذا المجتمع لا يستطيع يوما أن يصبح ذا حضارة.

إذ أن الحضارة والثقافة بضاعة لا تصدر ولا تستورد .. ليست الحضارة والثقافة في الراديو والتلفزة والثلاجة تنقل من هناك إلى هنا ثم توصل بالكهرباء فتعمل .الحضارة والثقافة يوجدان بإعداد الأرض والعمل فيها بصبر ودراسة ووعي ومعرفة بتغيير الإنسان وتغيير الفكر مع معرفة أرضية المكان الذي يعيش فيه وجوًه وباختبار البذور... إن الحضارة التي تصدر وتستورد عبارة عن تكرار مستمر لخدعة تستلفت الأنظار لكنها خادعة كاذبة ولا تصل إلى نتيجة أبدا " (1).

وهذا ما وقعت فيه المجتمعات العربية والإسلامية على السواء حين انتهجت سبيل هذا الظن الخاطئ في استيراد الحضارة لقد ضيعت بذلك فرصة بناء أو بالأحرى فرصة استئناف وإعادة بناء حضارة إسلامية ذاتية ... ذلك انه حينما وقع التفاعل بين العالم الغربي المتحضر والعالم العربي الإسلامي... وجد العربي المسلم نفسه أمام واجهة حضارية فتانة أبهرته وملكت عليه لبه وسلبته عقله واستولت على تفكيره ووجدانه فلم يتمالك نفسه أن ارتمى في أحضانها ارتماء اليتيم الضائع في أول حضن مفتوح قابله حتى صاح احمد باي- باي تونس- في غمرة نشوته عند رحلته الأولى إلى فرنسا "باريس وما أدراك ما باريس.. ليت هذا عندنا بتونس ليت هذا عندنا بتونس". وصرخ رفاعة الطهطاوي من كل أعماقه " لقد سبقونا إلى الحضارة حتى صارت من طباعهم... سوف القي عمامتي واحب فرنسا"

وفي هذا الإطار الواهي زمن خلال ذلك المفهوم الضيق المهزوم بدأت رحلة التعامل الغبي بين المجتمعات الإسلامية والغرب المتبجح بحضارته... وامتد هذا التعامل حتى شمل مجالات الفكر والثقافة والمادة....

1) على الصعيد الفكري

لقد ظلت المجتمعات العربية الإسلامية رازحة تحت ثقل الاستعمار الغربي الحاقد ردحا من الزمن فكانت بذلك تمثل دور المستضعف المغلوب والمغلوب كما قال العلامة عبد الرحمان بن خلدون "....مولع بالاقتداء بالغالب في شعاره وزيه ونحلته وسائر أحواله وعوائده" وهذه الظاهرة معروفة في الاصطلاح الحديث "بقانون التكيف".

ولكي تتبلور لنا مأساة تعاملنا الفكري- الخاطئ- مع الفكر الغربي فمن اللازم تبيان بعض خصائص ومواصفات هذا الفكر.. إن له أربع ميزات مركزية فهو فكر علماني- مادي -قومي- علماوي وهي مواصفات جاءت كرد فعل منطقي وطبيعي لما كانت عليه الحالة الاجتماعية في أوروبا فيما قبل ما يسمى بعصر النهضة.

" فمادية الفكر الغربي لم تكن مادية فيلسوف يضع الدنيا والأرض والسماء والمبادئ الفكرية قيد بحثه ثم يميل إلى المادية بل على العكس من ذلك نجدها رد فعل طبيعي للأوضاع الاجتماعية التي كانت سائدة في القرون 14- 15- 16 .أي مادية طبقة أهل الفكر في أوروبا تعد رد فعل طبيعي جدا ومنطقي للإفراط في الروحانيات والميل -المنحرف- إلى الآخرة ... الذي كان سائدا في مجتمعاتها " (2) يقول العلامة "جودي" أستاذ الفلسفة الإنجليزية في كتابه " سخافات المدنية الحديثة" ? " إن المدنية الحديثة ليس فيها توازن بين القوة والأخلاق ومنذ النهضة ظل العلم في ارتقاء والأخلاق في انحطاط وقد غلب على الفكر الغربي طابع التحرر المطلق في مجال المجتمع والمرأة والفن." ولا شك أن هذه الحركات كانت ردة فعل أكيد لمفاهيم المسيحية الغربية في الأخلاق هذه المفاهيم التي قامت على أساس الحرمان والرهبنة وتعذيب الأجساد لما يعوق الفطرة مما خلف انفجارا طاغيا في الدعوة إلى التحرر فالتحلل.

وهذا ما يؤكد ويبرهن على أن الحضارة الغربية كلما امتدت وانتشرت إلا وانتشرت معها الرذيلة وامتد معها الانحلال والميوعة والبغض.

فالمفكر العربي عندما يتعامل مع الفكر "الغالب" في جانبه المادي يبدو شاذا وغبيا في نفس الوقت .. ذلك أن المناخ الاجتماعي والديني الذي يتقلب في أعطافه المسلم لا يقر الرهبانية التي اصطدم بها الفكر الغربي ولا يعزل الإنسان عن طيبات الرزق بل هو مناخ له منهاجه الحياتي والتوجيهي الخاص والذي يضع الإنسان في مكانه الحق من حيث هو بشر له مطالبه وحاجاته الروحية والترابية دونما غمط جانب على حساب جانب آخر.

ثم إن القرآن على -خلاف النصرانية- قد قرر أن الحياة البشرية ذات معنى و أن الإنسان هو محور فلسفة التاريخ والقرآن لا يعتبر الزاد إلى الآخرة في الحرمان والتعذيب والرضوخ. والإسلام- كما قال محمد أسد- "ينظر إلى الحياة بهدوء واحترام ولكنه لا يعبدها والنجاح المادي مرغوب فيه ولكنه ليس غاية في ذاته بل يقود الإنسان نحو التبعية الأدبية في كل ما يعمل والغاية من جميع نشاطنا العملي يجب أن تكون خلقية" .

وأما علمانية هذا الفكر "المتحضر" ونبذه للدين نبذا ساخرا حاقدا وركله لكل مقوماته وتعاليمه فهي أيضا جاءت كرد فعل لتسلط الكنيسة وتحجرها واستبداد رجالاتها وانغلاقهم وجهالاتهم الحمقاء ومحاربتهم- باسم الدين- لكل الإبداعات العلمية والفكرية وتصديهم الغبي والإجرامي للخلق العلمي والتجارب والاستكشافات الخارقة لمفاهيمهم والمقوضة لتصوراتهم ومعتقداتهم ولعل إعدام "قاليلي" اشهرها وهو ليس بوحيدها.

ومن هنا نفهم عقدة الرفض في موقف أوروبا من العطاء الحضاري الإسلامي " فلقد أراد الإسلام( كما يقول أنور الجندي) أن يهدي إلى أوروبا هدية الإيمان وهدية العلم ولكن أوروبا قبلت هدية العلم ورفضت هدية الإيمان وكان هذا مصدر شقائها ومتاعبها" (3)

غير انه يبدو للدارس المتعمق للحضارة الغربية والمتمعن في أي شيء من أشيائها أن البعد الديني مازال مستترا وحافزا للكثير من إبداعاتها. يقول المفكر " هرمان دي كيسرلنج" في كتابه "البحث التحليلي لأوروبا" ? "كان اعظم ارتكز حضارة أوروبا على روحها الدينية وتفسر هذه الروح بذلك العامل الاجتماعي..ذلك الشعور في الإنسان والذي تصدر عنه مخترعاته وتصوراته وتبليغه لرسالته."

وبصرف النظر عن كل ذلك فإن الهوة تبدو واسعة- لو تمعنا- بين نبذنا ونبذهم للدين. يقول محمد عبده ?"أولئك نبذوا الدين فنالوا الحرية والسيادة والسيطرة على العالم ونحن نبذناه فمنينا بالذلة والانقسام والتفرقة والانحطاط والاستعداد لقبول كل ما يملى علينا ونجبر عليه ويلقى أمامنا.. ذلك أن فصل الدين عن الدولة نغمة ولدت في الغرب للخلاص من القيود الكنيسية على حرية العقل والضمير ثم نقلت إلى الشرق كي تمهد العقبات أمام الزحف الاستعماري وتهدد قلاع المقاومة الهائلة التي ثارت في وجهه أي أنها فشت هناك للحد من طغيان رجال الدين وتعالت هنا لهدم دين كامل والإتيان على بنيانه من القواعد" (4).

" وأول ما فعله المفكر في المجتمع الإسلامي والشرقي هو مقاومة الدين ? كان في ثمار مقاومة الدين في أوروبا حرية الفكر والنضج الفكري والمدنية المزدهرة وأنواع التقدم العلمي السريع والمدهش في كل مجالات الحياة . لكن نفس هذا الأمر عندنا- أي مقاومة الدين في المجتمعات الإسلامية- كانت أولى ثمارها وأسرعها وافدحها هي تحطيم السد الذي كان يقف حائلا في وجه النفوذ الإمبريالي والانحطاط الفكري". (5)

ثم إن هناك مفارقة أخرى يجب أن لا تهمل وهي أن النصراني لا يستسهل ترك دينه إلا إذا صار عالما وذلك للتناقض الحاصل الذي يلحظه بين استنتاجات العلم وتعاليم دينه المحرف بخلاف المسلم فانه لا يهمل دينه ولا يتقاعس عن أداء فرائضه والتزاماته الدينية إلا إذا صار جاهلا. إذ الدين الإسلامي لا يمكن أن يبقى على قيد الحياة إلا بانتشار العلوم وتقدمها فإن بين الإسلام والعلوم رابطة كلية متينة.

ثم إن المفكر الغربي عندما واجه سطحية الفكر الكنسي وبدائية تصوراته ومعلوماته الخاوية وتفسيراته اللاعلمية والقائمة على غير برهان للظواهر والأحداث... كان رد فعله- المنطقي- هو رفعه لشعار "العلماوية" أي انه قرر جازما أن لا يقبل أي تفسير لحادث ما إلا تحت الفحص العلمي وتحت مجهر التجربة. ولهذا قال "كلود برنار"? "إذا لم أر الروح تحت مبضع الجراح فلن أؤمن بوجودها".

والمفكر المسلم عندما يرفع هذا الشعار رفعا غبيا صبيانيا كما حصل فانه يكون غير واقعي ولا منطقي ذلك أن دستوره القرآني لم يكن يصده عن إعمال العقل والمطالبة بالبرهان وانتهاج الميدان التجريبي (( قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين)) (( فاعلم انه لا اله إلا الله)).

ثم إن القرآن قد قاوم النظرة العفوية والنظرة الغبية الاستسلامية لتفسير الأحداث ذلك أن الإنسان الاعتيادي الذي وجده القرآن في الجزيرة العربية كان يفسر الأحداث التاريخية بوصفها كومة متراكمة من الأحداث يفسرها على أساس الصدفة تارة وعلى أساس القضاء والقدر تارة أخرى... والاستسلام لأمر الله تعالى.. القرآن قاوم هذه النظرة العفوية والاستسلامية ونبه العقل البشري إلى أن هذه الساحة لها سنن ولها قوانين وانه لكي تستطيع أن تكون إنسانا فاعلا مؤثرا لا بد لك أن تكتشف هذه السنن. (6)

ثم إن القرآن الكريم لم يطرح نفسه بديلا عن قدرة الإنسان الخلاقة وعن مواهبه وقابلياته في مقام الكدح والتجربة .. القرآن لم يطرح نفسه بديلا عن هذه الميادين وإنما طرح نفسه طاقة روحية موجهة للإنسان مفجرة لطاقاته محركة له في المسار الصحيح. (7)

فهل بعد هذا يجد المفكر في المجتمع الإسلامي ثغرة في منهاجه حتى يتبنى ذلك الشعار الذي رفعه الفكر الغربي؟

2) على الصعيد الثقافي

هناك حادثة وقعت في الأربعينيات ملخصها أن شابا زيتونيا بعد أن اكمل دراسته الزيتونية طلب من إدارته السماح له بالسفر إلى فرنسا لاستكمال دراسته هناك. فكان رد الإدارة في قولها ? ليست لنا حاجة في تعلم اللغة الفرنسية..(؟؟)

هذه الملاحظة تبين بجلاء- كما يقول مالك بن نبي- كيف يتصور المجتمع الإسلامي في عصور الانحطاط دور الطالب الذي يسافر إلى الخارج. فالهدف الوحيد أن يدرس لغة أو يتعلم حرفة لا أن يكتشف ثقافة. فكل ما يهمه المنفعة العاجلة. لكنا -والكلام لمالك- لا ينبغي أن نعزوا هذا الاتجاه إلى عدم اكتراث المسلم بالحضارة الغربية فحسب بل إن المدرسة الغربية الاستعمارية قد ساهمت في خلق هذا الوضع إذ لم تكن تهتم بنشر عناصر الثقافة الأوروبية بقدر ما تحرص على توزيع نفاياتها التي تحيل المسلم عبدا للاقتصاد الأوروبي فهي لا تسعى إلى اكتشاف ذكاء تلاميذها أو دفع مواهبهم وإنما تسعى إلى خلق آلات ذات كفاءات محدودة(8)... ذلك أن الأوروبي لم يتحمل عناء السفر إلى الشرق ليقوم بدور الممدن وإنما ليتولى خطة المستعمر.

ثم إن نظرتنا إلى حضارة الرجل الأبيض- في إطار التفاعل والتعامل- وخاصة على الصعيد الثقافي كانت مرتكزة بصفة كلية على المظاهر الطافية والخادعة وكان انبهارنا محصورا فيما نرى ونشاهد بالعين المجردة ليس إلا.. فنحن نرى وننبهر بتلك المرأة القابعة في المقهى والمترنحة في المرقص والضائعة في الشارع والتي تصبغ أظافرها وشعرها وتدخن ولا نرى المرأة الأوروبية التي تجمع الحشيش لأرانبها أو تنشر الحب لدجاجها أو تنكب على حلب بقراتها... أو تلك التي لا تترك فرصة تمر دون مطالعة جادة في كتاب أو تأمل منظر تمر إزاءه أو تفكر في اثر يشد انتباهها.

وبدل أن نعجب بذلك العامل الحريص على إتقان صنعته والمتفاني حد الهيام في عمله أو بذلك الفنان المبدع والمتعمق في أثره... المنظم لدقائقه الحريص على الإبداع والابتكار... ترانا نهيم بذلك الفوضوي المتهور في شوارع أوروبا نقتبس منه شطحاته وفضوله ونحاكي تميعه ومجونه ونقلد طريقة أكله ولباسه وحتى موضة نفثه لدخان غليونه.

ومن هنا تولدت عندنا أشكال غريبة جدا في سلوكياتنا وطفرت فجأة عندنا أخلاقيات وقيم مشينة لم تعرف في عاداتنا ولا تراثنا ولعل أقربها أظهرها موضات التسريحات واللباس والاختلاط الماجن. وما نسمع ونشاهد ونقرأ ونتعلم في مدارسنا وملاهينا ووسائل إعلامنا.

لقد اختل- حقا- مزاجنا وفقدنا توازننا في كل شيء . يقول مالك بن نبي ? " إن مجتمعاتنا قد فقدت توازنها الأصيل وهي لا تزال تتذبذب ولا تعرف لها قرارا حتى اليوم وإننا لنشاهد عدم الاستقرار هذا حتى في أنفسنا وفي تصوراتنا للأشياء حين تختلف باختلاف الناظرين إليها.. فهناك منا من يشك في كل شيء ويرى المدنية معركة اقتصادية و إن تخليص الشعب لن يتأتى إلا بحيلة اقتصادية ... أو بكارثة مالية في السوق السوداء ومنا من يرى المدنية في الأعراس الانتخابية والمظاهرات العمومية وهو يظن أن خطبة يهتف لها تقلب النظام العالمي.

وهناك النظرة المخدرة يرى صاحبها أن المثل الأعلى للمدنية يبرق في قعر كأسه ويلمع في جو الخمارة ومنا من يرى تحرير الشعوب في تحرير النساء ويظن انه ملك المدنية إذا ما فاز بامرأة عصرية" (9)

" إننا بحق لم نعد نملك اليوم أي ذاتية تستبين من خلالها منطلقات فكرية أو ثقافية متميزة تحدد معالم وجودنا الحضاري المستقل ... أصولنا الثقافية التي كانت دعامة حضارتنا الإسلامية العظمى ملقاة على رفوف الإهمال بل مرمية في زوايا النسيان وإنما نعكف اليوم على أصول ثقافية أخرى اقتطعناها كما هي من الغرب ففنون التربية وعلوم النفس والاجتماع والأخلاق التي تدرس في مدارسنا وجامعاتنا ليست إلا مجموعة نظريات ومواصفات وضعت تعبيرا عن النظرة الغربية إلى الوجود ودعما لأصول الفلسفة الاجتماعية التي ارتضاها الغرب لنفسه" (10)

غير أننا- في غمرة نشوة الانبهار والتفاعل- لم نفقه الصيغة السليمة للأخذ والرد ولم يدر بخلدنا أننا إذا احتجنا إلى الاستفادة من خبرة الغرب وتفوقه في الصناعات الآلية التي كانت سببا في مجده وسيادته فمن المؤكد أننا في غير حاجة إلى استيراد قواعد السلوك والتربية والأخلاق التي تدل الإمارات والبوادر على أنها ستؤدي حتما إلى تدمير حضارته والقضاء عليها قضاءا تاما في القريب العاجل (11).

3) على الصعيد المادي أو الشيئي

إن تعاملنا على هذا الصعيد تعامل تجاري -غبي- فنحن نتعامل مع الحضارة كزبائن لا كتلاميذ ? نريد من الغرب المتحضر أن يفتح لنا- بشره- متاجره ومغازاته ويبعثر أمامنا سلعه ومنتجاته بدل أن يفتح لنا مدارسه ويكشف لنا تجاربه ويمدنا بأصول نهضته وتقدمه ويعلمنا تقنياته والياته وبهذه الصيغة- الباهتة- نكون قد حرصنا على جمع أكوام من المنتجات الحضارية اكثر من أن نهدف إلى تشييد حضارة.

" إن علاقتنا بالحضارة الغربية لا تستطيع أن تأتينا بالحضارة طالما يوجد في مجتمعنا من يستورد فرو السيدات الباهظ الثمن وهو في صحراء العرب حتى إذا أراد استعماله جعل داخل القصور مكيفا للهواء في درجة الصفر لتستطيع السيدات استعماله فإن هذا عبث وصبيانية وإتلاف لإمكانيات المجتمع" (12).

وأسوق مثالا لإحصائية عادية من مجلة تجارية عالمية ليتضح لنا اكثر سوء تعاملنا الشيئي الجاف نع الغرب وهو مثال يغني عن كثير من الكلام ?

فقد نشرت مجلة للتجارة الدولية (بوم) في عددها الصادر في نوفمبر 1949 إحصائية جاء فيها ?

دولة إسرائيل عرض ? إسمنت- رخام- امنيات- حقائب

طلب ? حديد للصناعات والبناءات- منتجات كيماوية وعلاجية- فلين

الدول العربية? ( العراق- الأردن- الكويت...)

عرض? لا شيء

طلب ? مجوهرات- ملابس- مساحيق- عطور- لعب- حلوى- فواكه محفوظة - حرير- أقطان.

فهل بمثل هذا التعامل وهذه العلاقة نستطيع أن نرسي حضارة ؟؟

4) من أين العلة ؟

بعد ما بينا أطوار هذا التعامل .. ولم يبق أدنى شك- لدى العاقل- في انه تعامل سلبي ومريض إذ برغم طول المسافة الزمنية التي قطعها لم يأت بنتيجة ولم يبن حضارة ولم يزد على أن قدم تخمة شيئية اثقل بها كاهل المجتمعات ... بقي أن نتساءل بجد ? ما علة ذلك ؟ ما أسباب فساد تلك الصيغة في التفاعل والتعامل مع حضارة الغرب ؟

أرى أن هناك أسبابا خارجية وأخرى داخلية ?

أما السبب الخارجي فهو الاستعمار الذي ابتليت به المجتمعات الإسلامية ? هذا الاستعمار الذي استخدم كل وسائله واستعمل كل ذكائه ومكره ودهائه ووظف كل طاقاته في إذابة فاعلية الشعوب التي أخضعها لقوته وتمييع تصوراتها وإهدار إبداعاتها وخنق طموحاتها مما ولد فيها عقدة الشعور بالنقص والإقرار الضمني بالانهزامية حتى لكأن لسان حالها يقول..لم التعب ومشقة الخلق والبحث والغرب قد كفانا كل ذلك... فما علينا إلا أن نمد يدنا فنأخذ ونشتري ما نشاء. وهذا ما الزمها على التبعية المضلة والذيلية الغبية للغرب ولكل ما هو غربي فهو لم يبسط نفوذه على الشرق ليمدنه ويعلمه أسباب التقدم والقوة وإنما جاءه ليسلبه خيراته ويسرق جهود رجالاته ويصرفه بأي حال عن التطلع إلى الشروق المدني والبناء الحضاري... بما نشر فيه من فلسفات هدامة وشبهات وأفكار متهمة ? فهو مثلا لم يفتح جامعاته أمام الوفود الطلابية- المسلمة- إلا لتعليم العلوم الإنسانية كالتاريخ والفلسفة والفنون وعلوم النفس .. المواد التي يسهل فيها التزييف والتضليل... أما كليات العلوم التجريبية التي ليس فيها منافذ للتضليل فهي موصدة أمامهم.

وأما عن السبب الثاني ? فناتج من أننا ابتعدنا عن مثلنا الأعلى وبهت تطلعنا إليه وانحزنا إلى مثل أعلى أجنبي مستورد وناتج من أن أمة ما بعد أن تفتقد مثلها العليا النابعة منها تفقد فاعليتها وأصالتها ? إذ بقدر ما تتبنى الأمة مثلا أعلى قابلا للتحريك فالله سبحانه يمنحها ويعطيها من خيراته ونعمه..فعندما تشبث المسلمون الأوائل بمثلهم الأعلى الذي هو الله سبحانه وتعالى بنوا حضارة وحازوا قيادة العالم وتربعوا على عرش الأستاذية يعلمون الأجيال مكارم الأخلاق ويمدون الحياة البشرية بأسباب السعادة والخير والأمن.

ذلك أن عقيدتهم التوحيدية علمتهم كيفية التعامل الفعال والصالح مع صفات الله وأخلاق الله بوصفها حقائق عينية وبوصفها رائدا عمليا وهدفا لمسيرتهم ومؤشرات على الطريق نحو الله سبحانه.

والمسلمون من قرون فقدوا ذلك العطاء ونخلوا عن التكامل... عندما تميعت علاقتهم مع المثل الأعلى .. عندما ضيعوا الصيغة الرشيدة للتعامل السليم مع الكتاب... مع دستورهم الخالد فقدوا بذلك الفاعلية ولم يسيروا في اتجاه التاريخ.

فالتاريخ- كما يقول مالك بن نبي- بيد الإنسان المتكامل الذي يطابق دائما بين جهده وبين مثله الأعلى وحاجاته الأساسية والذي يؤدي في المجتمع رسالته المزدوجة كممثل وكشاهد وينتهي التاريخ بالإنسان المتحلل وبالفرد الذي يعيش في مجتمع منحل لم يعد يقدم لوجوده أساسا روحيا أو أساسا ماديا.

ثم هناك علة أخرى كامنة فينا وهي سوء فهمنا للحقيقة الاجتماعية والحقيقة العلمية ? فنحن في تعاملنا مع الغرب لم نفرق بين الصيغتين وكان ذلك مصدرا آخر لتخلفنا وترسيخا لتبعيتنا.. فقد ظننا بعد أن تبينا الغرب كمثل أعلى نرنو أتليه في عليائه ونتمنى اللحاق به على عجل ودون كدح وجهد.. ظننا أن كل ما يتقيؤه الغرب من نظريات وأفكار وفلسفات ومطارحات هي بمثابة الحقائق والقضايا العلمية التي مادامت صحتها ظهرت في الغرب فمن المؤكد أن تصح وتؤتي ثمارها عندنا أيضا وغفلنا عن ترتيبها ضمن الحقائق والقضايا الاجتماعية التي تخضع لمعيار آخر غير الصحة والبطلان..فهي خاضعة للزمان والبيئة والدافع فمثلا قضية نبذ الدين وفصله عن الساسة والنشاطات الاجتماعية هي قضية اجتماعية وليست علمية.. نجحت في الغرب وآتت أكلها هناك .... وفشلت عندنا لأن الدافع والبيئة والزمان مغايرين لما عند الغرب وقس على ذلك قضايا المرأة والأسرة والأخلاق.

5) خاتمة

فماهو السبيل إذن إلى تدارك خطئنا وماهو المسلك السليم لبناء حضارتنا؟

إن الحياة كما قال الفيلسوف المسلم محمد إقبال ? جهاد لتحصيل الاختيار ومقصد الذات أن تبلغ الاختيار بجهادها.

وبناء حضارة راقية صالحة تسعد في أعطافها البشرية ويعم فيها العدل والخير والأمن وإخراج مجتمع متطور إنساني يحتاج إلى أناس طيبين أحرارا يعتزون باستقلالهم في كل المجالات وبكرامتهم ويثقون في أنفسهم... أما التميع والتبعية والإمعية الغبية والشعور بالنقص فلن يخلق سوى نفوس مشوهة رخوة لا تستطيع بأي حال إرساء أسس حضارية قابلة أن تخرج المجتمع الإنساني من الجور والظلم إلى العدل والحرية والنور.

فالقضية إذن ليست قضية أدوات ولا إمكانات ( هذا لا يعني النفي التام لهذه الأسباب ) إن القضية كانت في أنفسنا إن علينا أن ندرس الجهاز الاجتماعي الأول وهو الإنسان فإذا تحرك الإنسان تحرك المجتمع والتاريخ وإذا سكن سكن المجتمع والتاريخ ذلك ما تشير إليه النظرة في تاريخ الإنسانية منذ بدأ التاريخ فترى المجتمع حينا يزخر بوجوه النشاط وتزدهر فيه الحضارة وأحيانا تراه ساكنا لا يتحرك يسوده الكساد وتغمره الظلمات.

ومن جوامع الحكم القديمة ? غير نفسك تغير التاريخ..

هوامش ?

(1) الدكتور علي شريعتي- المفكر ومسئوليته في المجتمع

(2) نفس المصدر

(3) أنور الجندي- الإسلام والعالم المعاصر

(4) محمد الغزالي- من هنا نعلم

(5) الدكتور علي شريعتي- المفكر ومسئوليته في المجتمع

(6) محمد باقر الصدر- مقدمات في التفسير الموضوعي للقرآن

(7) محمد باقر الصدر- مقدمات في التفسير الموضوعي للقرآن

(8) مالك بن نبي- وجهة العالم الإسلامي

(9) مالك بن نبي- وجهة العالم الإسلامي

(10) مجلة "الأمة" -عدد 31 سنة 3- صفحات 12 و22

(11) مجلة "الأمة"- عدد31 -سنة 3 -صفحات 12و22

(12) مالك بن نبي- أحاديث في البناء الجديد.

البشرية وتجارب العقائد

لقد صارعت البشرية على امتداد تاريخها الحافل والطويل حضارات عديدة وعايشت تجارب "أيدلوجيات" واديانا ومذاهب مختلفة ومتفاوتة.

وبما أنها كانت بمثابة" فأر المخبر" لكل طارئ وجديد فقد لقي الإنسان- الضحية- من ذلك الحلو والمر والطيب والخبيث وعاين القسوة والرحمة وتحمل الظلم والإنصاف ففي تجربة يؤله ويقدس وفي أخرى تراه مهانا ومستعبدا وفي ثالثة يذبح ويدمر...

مع هذه الأيدلوجية يذهب به إلى ذات اليمين ومع أخرى يطوح به إلى ذات اليسار هذه تبعده عن فطرته بالإفراط والأخرى بالتفريط .

هذه تحرص على دوس كرامته وذبح أخلاقياته وتلك تستهدف خنق مقوماته وأخرى ترى فيه صنو البهيمة مأكلا ومشربا ومنكحا....

ولم يجد المسكين طعما حقيقيا لمعنى ذاته كإنسان ولم ينعم بكرامته وإنسانيته إلا في ظل تجربة التوحيد في واحة " الفتح الإسلامي الشامل".... الذي وقف من البشرية موقف الكرامة والعزة والسماحة أعادها إلى دائرة الفطرة النقية والحق الواضح والأمن الكامل ... والذي أعطى لكل فرد حق الحياة وحق العيش والاستمتاع بحياته بعيدا عن كل خطر يتهدده وعرّفه كما تقول الدكتورة بنت الشاطئ ?

انه لا ينبغي لأي كان أن يملك إنهاء حياة شخص ما- إعداما أو وأدا أو ...-.فالله هو واهب الحياة للإنسان ومن ثم فإنهاء الحياة يجب أن لا يكون إلا لله سبحانه.

1) النظرة المتباينة للإنسان....

إن السؤال الدرامي القديم الذي ظل الإنسان يطرحه على نفسه في حيرة وقلق ? من أنا ؟ من أين أتيت ؟ إلى أين أنا ذاهب ؟ ما هدفي في الوجود ؟.... قد ولد عدة رؤى ومطارحات وإجابات متشائمة حينا ومتفائلة أحيانا مختلفة ومتباينة لدى مفكري ومنظري المذاهب واتباع العقائد على اختلافها.

2) النظرة الوجودية للإنسان....

فالوجودية ترى أن الإنسان اله نفسه وسيد موقفه وموجه ذاته ومالك إرادته وبالتالي فهو حر في كل تصرفاته ولا أحد يحد من طموحاته أو يعكر صفو أمانيه وكل السبل يجب أن تؤدي إلى تحقيق شهواته ورغباته فلا قيود ولا رباطات ولا رقيب ولا حسيب و" الجحيم هم الآخرون" كما أعلنها سارتر.

" بينما نرى أرسطو يحدد للفرد فرديته وحريته لا يجعلها من حق الناس جميعا بل يقصرها على السادة وعنده أن للأعلى- السيد- أن يبسط نفوذه على الأدنى- العبد- كما أن على الأدنى أن يخضع للأعلى ويطيعه. وعنده أن الحر حر رغم استعباده و أن العبد عبد رغم ما يحقق من نصر.

أما أفلاطون فانه يجرد الفرد من قيمته الفردية ليجعله أداة مسخرة لخدمة الدولة " (1)

3) النظرة اليهودية...

والنظرة اليهودية اقذر ما تكون إذ هي مزيج من عنصرية بغيضة وحقد فائر فالإنسان الآخر- غير اليهودي -لا حق له في الحياة وخير دليل على ذلك ما جاء في سفر يشوع ?

" اهلكوا جميع من في المدينة من رجل وامرأة وطفل وشيخ حتى الغنم والحمير... بحد السيف واحرقوا المدينة وجميع ما فيها بالنار". وما المجازر الرهيبة والوحشية التي يقترفها اليهود إزاء المسلمين في الأرض المحتلة وبيروت ومذبحة صبرا وشاتيلا ... عنا ببعيدة ولا غائبة.

4) الإنسان عند الرومان...

أما الرومان فقد عرف عنهم القسوة التي لا تعرف الحدود والظلم الذي يصل إلى ابعد الدرجات فكانوا يعمدون إلى رمي العبيد إلى الوحوش الضارية والاستمتاع بمشاهدتها وهي تنقض على الآدميين وكان الإعدام بالإلقاء إلى الوحوش على عهد الإمبراطور أغسطس قيصر عقوبة قانونية.

5) التفسيرات النصرانية...

بينما تذهب التفسيرات النصرانية أن الإنسان- الطفل- يولد شريرا بطبعه وانه يولد محملا بكثير من الشرور والآثام فيجب أن يقمع ذلك بالشدة والعنف و أن يسلك به سبل التعذيب والإيلام (2).

6) النظرية الماركسية....

وترى الماركسية أن الفرد وسيلة لا غاية ولا يتعدى أن يكون اكثر من ذرة تذوب في جسم الدولة لا حق له في ملكية ولا في ثمار الكسب ... فالإنسان في الكهف الماركسي المظلم يعيش مأساة حمراء مزدوجة معنوية ومادية . ورحم الله العلامة محمد باقر الصدر حيث يقول ? " إن إنسانا يعتصر الآخرون طاقاته ولا يطمئن إلى حياة طيبة واجر عادل وتامين في أوقات الحاجة لهو إنسان قد حرم من التمتع بالحياة وحيل بينه وبين الحياة الهادئة المستقرة كما أن إنسانا يعيش مهددا في كل لحظة محاسبا على كل حركة معرضا للاعتقال بدون محاكمة وللسجن والنفي لأدنى ريبة لهو إنسان مروع يسلبه الخوف حلاوة العيش وينغص الرعب ملاذ الحياة" (3)

7) الإنسان في الإسلام..

بينما يرى الإسلام- ذلك الدين القيم الحق- أن الإنسان حر الإرادة و أن إرادته تلزمه التبعية والمسؤولية أمام ربه والالتزام الأخلاقي أمام الناس و أن ذلك كله مرتبط بالبعث والجزاء الأخروي. (4)

والإسلام قد أعلى من شأن الإنسان واعتبره خليفة الله في أرضه وأكد كرامته واعتبرها كرامة ذاتية أصيلة لا تنبع من جنسه ولا من لونه ولا من بلده ولا من قومه ولا من عشيرته ولا من ماله ولا من عرض من أعراض الدنيا الزائلة وإنما تنبع من كونه إنسانا من هذا الجنس الذي أفاض عليه ربه التكريم وسخر له ما في السماوات والأرض ورزقه من الطيبات وفضله على غيره من المخلوقات (5) قال تعالى (( ولقد كرمنا بني آدم وحملناهم في البر والبحر ورزقناهم من الطيبات وفضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلا)) (الإسراء 70).

والإسلام- من جهة أخرى- يفرض كفالة مشتركة بين أهله ويجعل العجزة والضعفاء والمحرومين موضع تقدير كبير ولا يطالب بإسقاطهم أو قتلهم بل على العكس يطلب لهم حمايات وضمانات كاملة ويعتبرهم موضع الرزق (( إنما ترزقون بضعفائكم)) (6)

وإذا كان القانوني الفرنسي "منتسكيو" يرى انه من المستحيل أن يرثي الإنسان للإفريقيين ذوي البشرة السوداء وانه لا يمكن للمرء أن يتصور أن الله سبحانه وتعالى- وهو ذو الحكمة السامية- قد وضع روحا طيبة داخل جسم حالك السواد... فإن المؤرخ المسلم- ابن خلكان- قد أعلنها صريحة ? إن البشرة السوداء لا تقلل من شرف النفس الطاهرة ولا تنقص من علم العالم ولا من سمو الفكر.

8) النظرة المجحفة للحياة...

لقد قرر القرآن الكريم أن الحياة البشرية ذات معنى و أن الإنسان هو محور فلسفة التاريخ والقرآن لا يعتبر الأرض مكانا للعذاب أو سجنا يسجن فيه البشر الآثمون في أصول تكوينهم لسبب خطيئة أصلية ذلك انه لا توجد أصلا خطيئة للبشر و أن خطيئة آدم قد غفرها الله له. (7).

وكما يقول صاحب كتاب " الإسلام على مفترق الطرق" ( الإسلام ينظر إلى الحياة بهدوء واحترام ولكنه لا يعبدها. إن النجاح المادي مرغوب فيه ولكنه ليس غاية في ذاته بل يقود الإنسان نحو الشعور بالتبعية الأدبية في كل ما يعمل والغاية من جميع نشاطنا العملي يجب أن يكون خاتميا (8)

ومن هنا نرى أن الإسلام لا يقر الرهبنة التي تعزل الإنسان عن طيبات الرزق ولا يقر في الوقت نفسه الإباحية والتحلل الذي يحطم كيان الإنسان وهو حين يفعل ذلك يضع الإنسان في مكانه الحق من حيث هو بشر له أمانته ومسؤوليته وإرادته الحرة وحسابه وجزاؤه على أعماله .(9)

بينما تقرر الماركسية بتبجح لا يرتكز على برهان في مقولتها الواهية " لا اله والحياة مادة ".

أما عند الرومان واليونان فالحياة مسرح للذة والشهوة والبطولات المتهورة وفرصة عفوية للتمتع بالجسد العاري والتسلي بمشاهدة الصراعات الدرامية بين الآلهة والإنسان وبين السادة والعبيد وأما عند اليهود فهي تنافس بغيض وفوضوي على مزيد من العنصرية والربا والمادية الطاغية والتخريب والتدمير للآخرين ثم جاءت النصرانية لتنحرف بها إلى الروحانيات الجافة والزهد الانهزامي والرهبانية الذليلة والنفور المقيت من الحياة والجهاد والتكسب.

وبعد...

يقول المفكر المسلم (أنور الجندي) " إن أحق الأديان بطول البقاء والأخذ بتجربتها وقيادتها للبشرية ما وجدت أحواله متوسطة بين الشدة واللين ليجد كل امرئ من ذوي الطبائع المختلفة ما يصلح به حاله في معاده ومعاشه ويستجمع له فيه خير دنياه وآخرته وكل دين أو مذهب لم يوجد على هذه الصفة بل أسس على مثال يعود بهلاك الحرث والنسل فمن المحال أن يسمى دينا فاضلا. " (10).

ولقد طوفت البشرية بين كثير من الأديان والمذاهب وجربت كل الأيدلوجيات المطروحة قديما وحديثا فهل حققت سعادتها المنشودة واكتمل رشدها وهل حافظت على مقوماتها وأخلاقياتها وكرامتها ؟ فلقد أذاقتها اليهودية سموم العنصرية الحمراء ولطختها بوحل المادية الطاغية ثم جاءت النصرانية فعطلت طاقاتها وطمست مواهبها وإبداعاتها وحالت بينها وبين زينة الحياة الدنيا بانتهاجها سبيل الرهبانية المبتدعة ولا يخفى على عاقل ما لاقته وتلاقيه من مجون الوجودية وانحلالها وشهوانيتها ومن بغي الشيوعية وطغيانها الأحمر الحاقد ومن جشع الرأسمالية وميوعتها ومن علمانية الغرب وإلحاده.

فهلا آن لها أن تستريح في ظلال التوحيد وتنعم بسماحة الإسلام وتكريمه وتوقيره وتسترد بالتالي نقاوة فطرتها وسالف عزها وأمجادها وما دنس وشوه من مقوماتها حتى تعود إلى استئناف دورها الخلافي في الأرض من الإصلاح والتعمير إلى نشر الخير والعدل والأمن..

هوامش ?

(1) الإسلام والعالم المعاصر- أنور الجندي -ص54

(2) المصدر السابق نفسه- ص 236

(3) فلسفتنا- محمد باقر الصدر- ص 34

(4) الإسلام والعالم المعاصر- ص 238

(5) مجلة الأمة- مقال النظرة الإنسانية في فلسفة التربية الإسلامية- عيسى حسن الجراجرة- ص 33 العدد 36

(6) الإسلام والعالم المعاصر- ص 214

(7) المصدر السابق نفسه- ص 164

(8) الإسلام على مفترق الطرق- محمد أسد

(9) الإسلام والعالم المعاصر- ص 250

(10) المصدر السابق نفسه- ص 295.

العطش الروحي... من يرويه ؟

في الوقت الذي يظن فيه المشدوهون والمبهورون بالحضارة الغربية... إن الغرب المتحضر قد اكتمل رشده الإنساني وبلغ سعادته المثلى وحاز الأهلية المطلقة في السيادة والريادة والسيطرة الأدبية والمادية على العالم... في الوقت ذاته تتعالى صيحات عميقة منذرة من قلب هذا الغرب من عقلائه ومفكريه وفلاسفته تحذر من إهمال الوجه الروحاني للحضارة ومن فراغ هذه الأخيرة من المثل والقيم والالتزامات الأخلاقية.... مما يعتبره هؤلاء المفكرون الغربيون مؤشر هدم خطير وهو اعتبار واقعي وموضوعي.

أي إن ما ننعته نحن الآن ومن سنين في الشرق الإسلامي بأسباب تخلفنا ومن مواصفات رجعيتنا وجمودنا وبالمعوق لتحضرنا وتقدمنا ... اصبح هو المؤمل المرتجى عند عقلاء الغرب وأرباب هذه الحضارة.

ذلك أن الأديان التي نبذها في أول العهد منظرو هذه الحضارة أزاحوا ظلها عن تفكيرهم وحرصوا على محو أي اثر لتعاليمها فيما يقولون ويعملون ولم يتخذوا منها ولو لبنة واحدة كبرت أم صغرت في بنائهم لحضارتهم إذ اعتبروا الدين والتدين مسألة شخصية... ثم هو مخدر وأفيون يصرف الشعوب عن التمدن والبناء والتغيير و أن على الإنسان وحده أن يبحث عما يلائمه حتى بلغ الأمر بهم أن علقوا إبان الثورة الفرنسية في قرية ( هوتفيلر) منشورا يقول " ابتداء من الغد على مواطني ومواطنات هذه القرية أن لا يعترفوا بأية عبادة باستثناء عبادة العقل والحرية والمساواة وأما مبنى الكنيسة الذي اغلق الآن فسوف يصبح معبدا للعقل ويخصص من الآن للاحتفال بالأعياد الوطنية".

بعد كل ذلك العداء الظاهر والباطن والتهكم الصارخ اصبحوا الآن ينظرون إلى الدين والتدين والقيم والمثل والالتزام الخلقي والروحانيات على أنها الواقي الصلب الذي يحول بين الحضارة والاندثار بعد ما رأوا بطلان اطروحاتهم وفساد نظرياتهم وشلل رؤيتهم.

ولن اذهب بكم بعيدا فهذا " توينيبي" يقول في إحدى محاضراته " إن الأديان الكبرى جميعا مهملة وآخذة في الانحسار وربما توقف مستقبل الجنس البشري على عودتها ثانية إلى سيطرتها السابقة على البشرية" "ثم إن الإنسان الغربي وهو تائه في غمار حضارته قد فشل في دوره كإله ارضي و أقر بأنه يفتقر إلى شيء ما ليكون سعيدا " ( ماهو الغرب ؟ راشد الغنوشي)

سفينة بلا قيادة ..

وهذا الطبيب الفيلسوف الألماني "البرت شفيتزر" يصرخ من كل أعماقه ".... الخاصية الروعة في حضارتنا هي أن تقدمها المادي اكبر بكثير من تقدمها الروحي ..لقد اختل توازنها.... والحضارة التي لا تنمو فيها إلا النواحي المادية دون أن يواكب ذلك النمو نمو متكافئ في ميدان الروح هي أشبه ما يكون بسفينة اختلت قيادتها ومضت بسرعة متزايدة نحو الكارثة التي ستقضي عليها... إن توكيد العالم والحياة قد تزعزع عندنا فلم يعد الرجل العصري المتحضر يشعر بدافع إلى التفكير في المثل العليا ذلك انه لم يعد يؤمن بالتقدم الروحي والأخلاقي للناس والإنسانية مع أن هذا التقدم الروحي والأخلاقي هو العنصر الجوهري في الحضارة...".

" ومن هنا نشأ الإنسان الغربي المتحضر يتيما تافها لا يعدو أن يكون مجرد جسد ومجرد حاجيات مادية.. نشأ يتيما لأنه لا ينتظر أية مساعدة من الله- كما قال " شبنهاور"- ... ونشأ تافها لأنه اعتبر العالم فوضى من المعقولات والقبائح" ( ما هو الغرب ؟ للغنوشي) .

ونحن لا ننكر أن الحضارة الغربية بإقلاعها المادي الباهر قد أشبعت الجانب البطني الترابي من الإنسان وملأت حياته- حد التخمة- بأسباب الرفاه والترف الشيء الذي حبب إليه المجون واللامبالاة والتميع وأوقعه بالقلق والقسوة...

وإزاء هذه الحال المنذرة بمزيد من الشر وهو شر لن يتوقف خطره على الغرب فحسب إنما هو قادم في سباق نحونا إن عاجلا أو آجلا. وذلك بحكم التبعية العمياء التي نسلكها إزاء الغرب والمنهج الذيلي الذي نطبقه في شتى المجالات.... إزاء كل هذا فواجب على المسلمين الصادقين أن ينقذوا الإنسانية من هذه الظلمات المتراكمة و أن يعجلوا بتقديم الجرعة الشافية للبشرية المريضة ذلك أن الله سبحانه قد حملهم الشهادة على العالم.

لقاح ضد جراثيم الفساد....

وهم لن يستطيعوا ذلك إلا عندما يقدمون الدين للعالمين كموعظة للعقل? دعوة إلى الإبداع والخلق والابتكار.. وكشفاء للنفس يحميها ويلقحها من جراثيم الفساد والانحلال والتميع .. وكهدى ورحمة للفرد والجماعة يبصر به سواء السبيل ويحفظ به عرض الإنسانية ويذود عن شرفها وكرامتها من أن يتطفل عليها عابث ماجن.

وهذا شرط يؤهلنا- كمسلمين- للدخول في المجتمع العالمي ويمكن لنا- كمسلمين شهداء على الناس- من قيادة الإنسانية قيادة هي في اشد الحاجة إليها .. قيادة نحو النور نحو العدل نحو الحرية قيادة نحو دائرة الضوء الرباني.... وفي هذا الصدد يقول المفكر الجزائري المسلم مالك بن نبي ? " إن شرط دخولنا في المجتمع العالمي في أن يكون في نشاطنا الروحي ما تعترف به الإنسانية كحاجة مثل السلم والحرية والديمقراطية.... حاجة لابد من إشباعها ".

الفهرس?

تقديم 3

بين الجزم والتميع 5

* الإسلام محجوب بالمسلمين 5

* لماذا شاخ المسلمون 9

* حين يتخلى المسلمون عن الجد 13

* المسجد..ليس مكانا لطقطقة المسابيح 17

المسلمون وضرورة الوعي التاريخي 23

تعاملنا مع الحضارة الغربية 39

البشرية وتجارب العقائد 57

العطش الروحي من يرويه 67

==============

#ابن خلدون: محاولة في المنهجية الإسلامية

د. عماد الدين خليل

هناك مدى قد يبدو شاسعا بين (المنهج العلمي) و(الروح العلمية) فالمنتهج انما هو تقنية عمل في هذا الحقل او ذاك من حقول المعرفة البشرية للكشف عن حقيقة ما او مقاربتها تحليلا وتركيبا، وهو بهذا قد يكون مسألة (موضوعية) يتحكم فيها قانون تراكم الخبرة ويتلقاها الباحث عن الخارج مضيفا اليها حينا، ومنفذا مطالبها دونما أي قدر من الاضافة او التعديل حينا آخر.

وهذا يبدو أكثر ما يبدو في العصر الحديث الذي تبلورت عبره الملامح الاساسية لمنهج البحث العلمي بمقاطعه ومراحله جميعا.

اما الروح العلمية فهي أقرب الى أن تكون أمرا ذاتيا يرتبط بالباحث نفسه ويصبغ ـ أو يحكم ـ رؤيته للعالم والظواهر والاشياء، وهو يتعامل معها بحثا وكشفا وتحليلا وتركيبا.

لكننا يجب أن نكون حذرين، فأن هذه الرؤية التي قد تبدو ذاتية ليست منفصلة بالكلية عن الخارج، عن الموضوع.. وبعبارة أخرى فأن البيئة الحضارية التي ينتمي اليها الباحث ستلعب دورا مؤثرا في تشكيل روحه العلمية سلبا وايجابا.

بالنسبة لابن خلدون، حيث لم يكن منهج البحث العلمي في التاريخ على وجه الخصوص قد قطع شوطا كبيرا صوب النضج والاكتمال، تبدو محاولته في (المقدمة) خطوة جريئة بمقدار ما تتضمنه من قدرة على ارتياد آفاق عمل جديدة من أجل صياغة، أو اضافة تقنيات وضوابط منهجية في هذا الحقل ولا ريب أن تكون الروح العلمية في حالة كهذه ذات دور فعال في صياغة المنهج، وأن تكون المرتكزات الاساسية للحضارة الاسلامية ذات تأثير لا يقل خطورة.

وهكذا فأن المدى المتباعد بين المنهج والروح سيتقارب هاهنا وسيكون الحديث عنهما او اعتمادهما كمفردتين أمرا متصلا متداخلا بقدر ما يتعلق الامر بابن خلدون.

***

ثمة مسألة اخرى يجب التأشير عليها قبل المضي في الموضوع.. أن المنهج نفسه ليس طبقة أو دائرة واحدة وإنما هو طبقات ودوائر تنداح من بؤرتها المركزية الحرفية الصرفة باتجاه التأثر بالمعطيات الحضارية ذات الخصوصية، وتمضي لكي تكون في مداها الأكثر اتساعا مرادفا للشريعة التي تتولى مهمة تنفيذ مطالب العقيدة على أرضية العالم.

اذا بدأنا من هاهنا فأننا سنجد القرآن الكريم يعتمد اللفظة للدلالة على هذا المعنى.

ابن كثير ـ مثلا ـ وهو يتناول الآية الثامنة والاربعين من سورة المائدة يفسر قوله تعالى (ولكم جعلنا منكم شرعة ومنهاجا) بالسبيل والسنة (أي الطريقة)، وأن الشرعة هي الشريعة.. اما المنهاج فهو الطريق الواضح السهل، والسنن الطرائق، وفي (صفوة التفاسير) اننا جعلنا لكل امة شريعة وطريقا بينا واضحا خاصا بتلك الامة. واختلاف المناهج هذا ينصب على الاحكام أما المعتقد فهو واحد لجميع الناس: توحيد وإيمان بالرسل وجميع الكتب وما تضمنته من المعاد والجزاء(2)، أي لكافة المنتمين للديانات السماوية في جوهرها الاصيل.

ما الذي يقوله المعجم العربي بصدد المفردة؟

النهج هو الطريق الواضح البين والجمع نهجات.. وطرق نهجة أي واضحة كالمنهج والمنهاج..

وأنهج أي أوضح، قال يزيد العبدي

سبل المكارم والهدى تعدى ... ولقد أضاء لك الطريق وأنهجت

أي تعين وتقوى..

ونهج الطريق أي سلكه، واستنهج الطريق صار نهجا واضحا بينا..

وأنهج الطريق اذا وضح واستبان..

وفلان استنهج طريق فلان اذا سلك مسلكه..

وطريق ناهجة أي واضحة بينة) 3)..

فالمفردة ـ إذن ـ لا تتجاوز هنا حدود اللغوية باتجاه المصطلح الاكثر حداثة والذي يدل على حرفية البحث العلمي حينا، كما يدل في مداه الواسع على رؤية جماعة ما، وبرنامج عملها، أو شريعتها التي تتولى مهمة تحويل مفردات الرؤية الى واقع معاش.

***

بما أن هذه الورقات ليست حديثا عن المنهج، وإنما هي متابعة موجزة لملامح (العلمية الاسلامية) في منهج ابن خلدون فأن هذا يكفي.. كل ما هنالك هو ضرورة أن نضع هذه المسائل في الحسبان ونحن نتحدث عن الرجل، فان المنهج عنده مزيج من التقنيات الحرفية (الموضوعية) التي لعب دورا كبيرا في إغنائها بل في تأسيسها، والروح التي تمثل حصيلة رؤيته المعرفية (الابستمولوجية).. ثم وهذا هو المهم رؤيته الاسلامية التي طبعت بصماتها منهجه وروحه العلمية معا.

وبما أن المنهج العلمي لابن خلدون في حقول المعرفة عامة، والتاريخ على وجه الخصوص، قد قل فيه كثيرا وكتب كثيرا فان الصفحات التالية ستتجاوز هذه المسألة، قدر الامكان، صوب محاولة للكشف، أو التأكيد، بعبارة أدق على طبيعة الارتباط بين الاسلامية والمنهج في مقدمة ابن خلدون، وصولا الى أن العلمية التي أخذ بها الرجل ودعا اليها، لم تكن هبة قادمة من الفراغ، وهي لم تتشكل في عقل ابن خلدون ابتداء، ولكنها وليدة البيئة الحضارية الاسلامية التي قدر له ان يكون ابنها البار.

وقد يكون غريبا التأكيد على هذه المسألة التي قد تبدو للبعض امرا بديهيا ولكننا اذا تذكرنا عددا من استنتاجات الباحثين والمفكرين المحدثين والمعاصرين بصدد المقدمة، عرفنا ان تأكيدا كهذا ضروري كنوع من إعادة الامر الى نصابه بعد أن جنحت به التحليلات الخاطئة التي لم تقف عند حد إقامة جدار عازل أو حفر خندق عميق بين الاسلامية و(المقدمة) في المنهج والمعطيات، وانما مضت خطوات أكثر تطرفا بجعلها (المقدمة) بشكل من الاشكال، نقيضة للاسلامية.

اننا نجد ـ مثلاـ ان احد الباحثين الغربيين وهو دي بوير T. J. de Boer (الهولندي) يذكر (ان الدين لم يؤثر في آراء ابن خلدون العلمية بقدر ما أثرت الارسطوطاليسية الافلاطونية) ويشير باحث آخر هو تاتنيل شميت N. Snhmidt الاستاذ بجامعة كورنل بامريكا الى ان ابن خلدون «اذا كان يذكر خلال بحثه كثيرا من آيات القرآن، فليس لذكره علاقة جوهرية بتدليله، ولعله يذكرها فقط ليحمل قارئه على الاعتقاد بأنه في بحثه متفق مع نصوص القرآن»(5). وثمة مستشرق الماني هو فون فيسندنك Von Wesendonk يقول ان ابن خلدون «تحرر من اصفاد التقاليد الاسلامية في درس شؤون الدولة والادارة وغيرهما، وانه حرر ذهنه ـ كذلك ـ من القيود الفكرية التي ارتبطت في عصره بالعقائد العربية الصحيحة»(6).

وبهذا سيكون المنهج العلمي لابن خلدون متشكلا من الفراغ وستكون روحه العلمية في حالة انشقاق عن مطالب الرؤية العقيدية للاسلام الذي ينتمي اليه، وستكون النتيجة النهائية ان (العلمية) لا صلة لها (بالاسلامية) بل قد تكون في حالة اصطراع معها، وقد يقود هذا الى تكرار الصورة المحزنة للصراع بين العلم والدين والى ان يوضع ابن خلدون في قائمة واحدة مع برونو ونيكوس وغاليلية، والى جعل الحضارة الاسلامية وجها آخر للحضارة النصرانية بقدر ما يتعلق الأمر بطبيعة الارتباط بين العلم والايمان.

بل ان التحليل المادي للتاريخ يمضي خطوة أبعد فيحاول ان يصور منهج ابن خلدون كما لو كان منهجا جدليا ومعطياته كما لو انها وليدة رؤية للعالم والظواهر والاشياء لا علاقة لها بالاسلامية من قريب أو بعيد، بل هي نقيضة لها من أول الرحلة حتى منتهاها.

إننا نقرأ ـ على سبيل المثال ـ واحدة من المحاولات الاكثر حداثة في هذا السياق (في علمية الفكر الخلدوني)(7) ونجد الناشر يلخص المحاولة بالاستنتاج التالي: أن «ثورة ابن خلدون الفكرية تكمن، في انه حرر الفكر التاريخي من هيمنة الفكر الديني، بان اكتشف في واقعات التاريخ عقلها المادي فأحل ضرورة العمران محل الله ـ او ما يشبهه ـ في تفسير الظاهرات جميعا، فاستبدل التأويل بالتفسير، فكان التفسير بالضرورة ماديا، وكان علميا من حيث هو مادي، دون ان يعني هذا رفضا للدين او الشرع ومبادئه، فالشرع شيء والتاريخ او العمران ـ شيء آخر، وليس هذا ذاك ولا ذاك هذا ولئن دخل الشرع، أو الدين: في حقل العمران او التاريخ كما هو واقع الامر في المقدمة فكأمر عمراني او تاريخي مادي لا كأمر غيبي أو الهي. وينظر فيه حينئذ بعين العمران وقوانينه، لا بعين الدين ومبادئه، او بعين الشرع واحكامه فلمسائل الشرع منطقها ولمسائل العمران والتاريخ منطقها، ولا يصح، الخلط بين المنطقين»)8 ) .

والمسألة في أساسها ليست لعبة لجر الحبل بين الاسلاميين والطرف الآخر نصرانيا كان أم علمانيا أم ماديا، لكنها محاولة للاضاءة يتبين من خلالها الموقع الذي وقف عليه ابن خلدون، والدائرة التي تحرك في إطارها.

وفي حالة كهذه فأن تفنيد حجج الاخرين سيتضمن ابتداء - موافقة على الدخول في اللعبة. ومن أجل الا نمسك بالحبل من طرفه الاخر لكي نجر الينا ابن خلدون بطريقة متعسفة، فان علينا ان نتابع بعض الملامح المنهجية والموضوعية في معطياته لكي نعرف الارضية التي ينشط عليها، دونما حاجة لاقناع الاخرين او ارغامهم ـ بقوة الشد ـ على إعادة الفكر الخلدوني الينا.

والمدى واسع، وما قاله ابن خلدون في هذا السياق اوسع بكثير من أن تتحمله صفحات بحث كهذا. ولذا سيكون الايجاز أمرا لا مفر منه وستتحرك المقاطع التالية على محاور أساسية ثلاثة فحسب في الفكر الخلدوني من بين محاور عديدة اخرى، مؤشرة على علمية الرجل، وعلى إرتباط هذه العملية بمنظوره الاسلامي الاصيل: النشاط المعرفي، الرؤية التربوية، وحركة التاريخ.

أولا: النشاط المعرفي

في حيث ابن خلدون عن طبيعة النشاط المعرفي، وضوابطه، لا يكفي أن نقول بأنه كان يملك (روحا علميا) ولكن أن نضيف الى هذا صفة (الاسلامية) التي كانت تشكل هذه الروح وترسم ملامحها.

يتحدث في مقدمة له بعنوان (الانسان جاهل بالذات عالم بالكسب) عن الفكر بما انه الخصيصة التي تميز الانسان عن سائر الحيوانات وتمكنه من اداء دوره العمراني في العالم كخليفة عن الله سبحانه فيه. وهو هنا يشير الى ثلاثة انماط من النشاط العقلي الذي يمارسه الانسان ويطرح في هذا المجال ـ كما فعل في مجالات اخرى من الباب السادس ـ جوانب عديدة من تصوره لنظرية المعرفة، ولا يكاد وهو يتوغل في الموضوع أن يفارق طريقته التي اعتادها: الاحساس الدائم بالحضور الالهي المستمر في التاريخ، والاستشهاد بآيات من كتاب الله وهما امران لهما دلالتهما على عمق المعنى والرؤية الدينية لدى ابن خلدون (قد بينا أن الانسان من جنس الحيوانات وأن الله تعالى ميزه عنها بالفكر الذي جعل له، يوقع به افعاله على انتظام وهو العقل التمييزي، أو يقتنص به العلم بالاراء، والمصالح والمفاسد من ابناء جنسه وهو العقل التجريبي، أو يحصل به في تصور الموجودات غائبا وشاهدا على ما هي عليه وهو العقل النظري. وهذا الفكر انما يحصل له بعد كمال الحيوانية فيه. ويبدأ من التمييز، فهو قبل التمييز من النطفة والعلقة والمضغة، وما حصل له بعد ذلك فهو بما جعل له الله في مدارك الحس والافئدة التي هي الفكر. قال تعالى في الامتنان علينا (وجعل لكم السمع والابصار والافئدة)، فهو في الحالة الاولى قبل التمييز فقط لجهله بجميع المعارف، ثم تستكمل صورته بالعلم الذي يكتسبه بآلاته فتكمل ذاته الانسانية في وجودها.

وانظر الى قوله تعالى مبدأ الوحي الى نبيه (اقرأ باسم ربك الذي خلق، خلق الانسان من علق. اقرأ وربك الاكرم. الذي علم بالقلم. علم الانسان ما لم يعلم)»، أي اكسبه من العلم ما لم يكن حاصلا له، بعد ان كان علقة ومضغة فقد كشفت لنا طبيعته وذاته ما هو عليه من الجهل الذاتي والعلم الكسبي، واشارت اليه الآية الكريمة تقرر فيه الامتنان عليه بأول مراتب وجوده وهي الانسانية وحالتاها الفطرية والكسبية في أول التنزيل ومبدأ الوحي وكان الله عليما حكيما)(11).

بصدد الفلسفة كطريقة للمعرفة يتحدد موقف ابن خلدون المرتبط برؤيته الدينية الواضحة تحت هذا العنوان(فصل في إبطال الفلسفة وفساد منتحلها) وهو يرد في الباب السادس من مقدمته والذي يتناول فيه (العلوم وأصنافها)(12) حيث يقوده تحليله العميق الى القول بتعارض الفلسفة والدين.

وهو موقف اسلامي ذكي مقنع يصدر عن فهم دقيق للعلاقات المتبادلة بين العقل والشرع، وبين العقل والعالم، لولا أن ابن خلدون اخطأ العنوان، أو أن العنوان اخطأ الرجل، فجاء بهذه الصيغة التعميمية، و(التعميم) هو احدى ثغرات (المقدمة).

(إبطال الفلسفة) وللوهلة الاولى يبدو أنه يرفض الفلسفة بانماطها وحقولها واختصاصاتها جميعا، ولما كانت هناك انماط شتى من الفلسفة، كفلسفة الاخلاق وفلسفة الجمال، فلسفة الفن، وفلسفة التاريخ: الى آخره.. وكان هو نفسه فيلسوفا على هذا المستوى الاخير، وان لم يكن مصطلح (فلسفة التاريخ) قد برز بعد وتبلور، تبدى لنا كيف ان الرجل يناقض نفسه، وكيف يعلم عن إبطاله للفلسفة وفيها من الفروع ما هو ضروري جدا للتقدم الجاد في حقول المعرفة، ولفهم الارتباطات الشاملة بين الحقائق والظواهر التي تتضمنها هذه الحقول.

لكننا بتجاوز العنوان يتبين لنا، بمجرد اجتياز الاسطر الاولى، ان الرجل لا يقول بابطال عموم الفلسفة، وإنما نوع واحد منها فقط هو المسمى بفلسفة الالهيات أو ما وراء الطبيعة (الميتافيزيقا)، بما أن العقل البشري والادوات الحسية التي يعتمدها، غير قادرتين على سبر أغوار هذا العالم الذي يتحتم ـ على ذلك ـ ان يبقى في دائرة اختصاص الشرائع القومية الموحى بها من الله الذي لا يخفى عليه شيء في الارض ولا في السماء والي أحاط ـ سبحانه ـ بك شيء علما.

وطالما تجاوز العقل وأدواته الحسية حدود اختصاصاتها المعقولة حيثما انتهى بهما المطاف الى الضياع، وحيثما مورس نوع من التبذير في الطاقات البشرية التي كان احرى بها ان تتجه للعمل في ما هو أقرب اليها وأجدى عليها، وأن تترك ما وراء العيان لاصحابه الحقيقيين، فتسلم وتعرف كيف تضع خطاها، مستمدة الضوء في تلك الدائرة اللامتناهية من مصادر اخرى تفوق العقل والحواس قدرة على رؤية ما يجري هنالك.

أن ابن خلدون يذكرنا، بموقفه الملتزم هذا، بالغزالي، الذي كان فيلسوفا هو الآخر، ولكنه سدد ضربات قاسية للفلسفة بمعناها الميتافيزيقي هذا في كتابه (تهافت الفلاسفة) على وجه الخصوص، ويذكرنا ـ في الجهة الاخرى ـ بجهود حشد كبير من الفلاسفة المسلمين: الكندي، الفارابي، ابن سينا.. الى آخره، كانوا اشبه بظلال لفلاسفة اليونان، افنوا اعمارهم في هذا الحقل وكتبوا كثيرا في الالهيات، وأجهدوا عقولهم في تحليل معطيات ما وراء الطبيعة بحثا عن العلة والمعلول وواجب الوجود ومتناهي الاول، ولم يصلوا ـ في نهاية الامر ـ إلا الى تعميمات وإشارات معقدة غامضة.

صحيح انها في معظمها اكدت التوجه صوب الله الواحد سبحانه، إلا انها استنزفت من قدرات العقل البشري جهدا اكبر بكثير من النتائج التي بلغتها لانه ضرب في يم ليس من السهولة بمكان الوصول الى مرافئه وشواطئه في وقت كانت الشرائع الموحى بها من الله سبحانه وتعالى قد حسمته بوضوح وإعجاز بالغين، ولان جهدا كهذا أحرى أن يبذل فيما هو أجدى على الانسان والعمران البشري في تقدمه ورقيه.

وما لنا الا نرجع الى ابن خلدون نفسه لكي نرى ما الذي يريد أن يقوله: «هذا الفصل وما بعده(13) مهم لان هذه العلوم عارضة في العمران كثيرة في المدن، وضررها في الدين كثير، فوجب أن يصرح بشأنها ويكشف عن المعتقد الحق فيها، وذلك أن نوعا من عقلاء النوع الانساني زعموا أن الوجودكله، الحسي منه وما وراء الحسي، تدرك ذواته واحواله باسبابه وعللها بالانظار الفكرية والاقيسة العقلية، وأن تصحيح العقائد الايمانية من قبل النظر (اي العقل) لا من جهة السمع (أي النقل عن الشرائع الموحى بها من الله سبحانه) فأنها بغض من مدارك العقل.

وهؤلاء يسمون فلاسفة، جمع فيلسوف، وهو باللسان اليوناني محب الحكمة. فبحثوا عن ذلك وشمروا له ووضعوا قانونا يهتدي به العقل في نظره الى التمييز بين الحق والباطل وسموه بالمنطق وبع أن يعرف بالمنطق يقول «.. ثم يزعمون أن السعادة في إدراك الموجودات كلها، ما في الحس وما وراء الحس، بهذا النظر وتلك البراهين»)14 ) .

فهو اذن يرفض ما يريده هؤلاء الفلاسفة من تحكيم للعقل في مسائل الحس وما وراء الحس، ومن إخضاعه ـ حتى ـ للعقائد الايمانية التي تند عن دائرة المعقول والمحسوس، ويرى في ذلك ضررا كبيرا يلحق بالدين، لان هذا الموقف هو في نهاية التحليل تجاوز للاختصاص الذي اختصت به طاقات الانسان وقدراته وهذا التجاوز سيكون على حساب المعطيات الدينية التي وان جاءت في كثير من جوانبها مساوقة لبداهات العقل والحس السليمين، الا انها بصدورها عن مصدر هو أكبر بكثير في رؤيته من العقل والحس، واكثر شمولية وموضوعية واستشراقا، بما لا يقبل القياس، يجعلها لا تخضع للحصر الحسي أو العقلي والا كانت النتائج التي ستصل اليها اما خاطئة من الاساس، او انها ـ على أقل تقدير ستجعل العقل فوق الدين، وستفقد الاخير بالتالي الزاماته الفوقية وابعاده الغيبية، وتجعله في نهاية الامر لعبة يتلهى بها الفلاسفة في ضوء معطيات عقولهم النسبية دون ان يحاول احدهم يوما التزام مقولاتها.. وحاشا للدين من هذا المصير

بل يحدث ما هو أبعد من ذلك: رفض لشريعة الله الموحى بها الى انبيائه (عليهم السلام) واتباع للشرائع التي يسنها العقل البشري، وابتكار طريف لمعنى النعيم والعذاب لم يقل به دين من الاديان. وهذا ما يصل اليه ابن خلدون من خلال تحليله لطرائق هؤلاء الفلاسفة في التدرج من الحسي الى ما وراء الحسي، وفي الحكم على مجريات السماء البعيدة استنادا الى ما يلحظونه في الارض القريبة.. يقول «وحاصل مداركهم في الوجود على الجملة، وما آلت اليه، وهو الذي فرعوا عليه قضايا انظارهم، انهم عثروا اولا على الجسم السفلي بحكم الشهود والحس، ثم ترقى ادراكهم قليلا فشعروا بوجود النفس من قبل الحركة والحس بالحيوانات، ثم احسوا من قوى النفس بسلطان العقل ووقف ادراكهم فقضوا على الجسم العالي السماوي بنحو من القضاء على الذات الانسانية ووجب عندهم ان يكون للفلك نفس وعقل كما للانسان. ثم انهوا ذلك نهاية عدد الاحاد وهي العشر، تسع مفصلة ذواتها جمل وواحد اول مفرد وهو العاشر(15). ويزعمون ان السعادة في إدراك الوجود على هذا النحو من القضاء مع تهذيب النفس وتخلقها بالفضائل، وان ذلك ممكن للانسان ولو لم يرد شرع لتمييزه بين الفضيلة والرذيلة من الافعال بمقتضى عقله ونظره وميله الى المحمود منها واجتنابه للمذموم بفطرته، وان ذلك اذا حصل للنفس حصلت لها البهجة واللذة، وان الجهل بذلك هو البقاء السرمدي. وهذا عندهم هو النعيم والعذاب في الآخرة.. الى خبط لهم في تفاصيل ذلك معروف من كلماتهم»(15).

فلا معنى لنزول الاديان اذن، ولا حاجة لاتصال الوحي ببني آدم عن طريق رسل الله سبحانه، ما دام ان مجموعة الفلاسفة قادرة بمنهجها الذي يبدأ من الاسفل ويصعد الى الاعلى، على منح الانسان الدين الذي يسعده ويبهجه! وهكذا يتبدى لنا الضرر الذي حذر منه ابن خلدون في بداية فصله هذا.

إننا هنا قبالة منهج مقلوب: أن نصل الى الدين السماوي من خال الارض السفلية، وان نحظى بنعيم الكلي الخالد من خلال رؤية المحدود الفاني وفضلا عن ذلك، فان هذا الجهد المقلوب، يستنزف من العقول البشرية طاقات كبيرة وهي تعمل في غير حقها، كان أحرى ان تبذل في مجال تنمية العمران في العالم من خلال فهم هذا العالم القريب ومحاولة كشف سننه والسيطرة عليها وتسخيرها لصالح الانسان فيما هو من إختصاص العقل والحس البشريين.

أما المنهج الديني فهو على العكس من ذلك، يجعلنا نعتمد منهجا يقف دائما في وضعه الصحيح: ان السماء هي التي تمنح الارض الهدى الذي تسير فيه الى غايتها، والله سبحانه، الذي هو ادرى بخلقه هو الذي يبحث بوحيه الامين، بين الحين والحين، ينقله الانبياء الكرام الى أجيال البشرية حقبة في إثر حقبة حتى خاتم الانبياء عليهم السلام. وهكذا فأن الكلي هو الذي يقود المحدود، وان الخالد هو الذي يحدد الفاني، ما دام عالم السماء، عالم ما وراء الحس والادراكات العقلية النسبية، يند عن طاقة الانسان، وسعيه فيه لا يعدو أن يكون سعيا ظنيا، فأحرى بالعقل والحس البشريين ان يتجها للعمل في قلب العالم، في دراسة مادته وفهم علاقاته وادراك سننه.. وحينذاك سيعرف الانسان، ليس فقط الطرائق التي تمكنه من إعمار العالم كخليفة عن الله فيه، وإنما سيزداد إيماننا بالله والتزاما بوحيه الامين من خلال إدراكه لحكمة المقصودة في خلق هذا العالم، والتناسق المعجز في وظائفه وتركيبه، وهكذا فبينما ينتهي الامر بالفلسفة الى ان تقف نقيضا للعلم المجدي الفعال، وأدواته عقلا وحواسا، ينتهي الدين الى تأكيد لهذا العلم وتنشيط لادواته.

وبع ان يشير ابن خلدون الى ان امام هذه الفلسفة الذي استوفى مسائلها هو ارسطو المسمى بالمعلم الاول، يلتفت التفاتة ذكية بقوله «.... ثم كان من بعده في السلام من أخذ بتلك المذاهب واتبع فيها رأيه حذو النعل بالنعل الا في التعليل، وذلك لان كتب اولئك المتقدمين لما ترجمها الخلفاء من بني العباس من اللسان اليوناني الى اللسان العربي، تصفحها كثير من أهل الملة من منتحلي العلوم (الفلسفية) وجادلوا عنها واختلفوا في مسائل تفاريعها وكان من اشهرهم ابو نصر الفارابي وابو علي بن سينا.. وغيرهما»(17).

ولكن مهما يكن من أمر هذه الاختلافات فأن فلاسفة المسلمين الاول ما كانوا بأكثر من ظلال لاسلافهم اليونان، اتبعوا رؤيتهم في الفلسفة «حذو النعل بالنعل».

يأخذ ابن خلدون بعد ذلك بمناقشة وجهات هؤلاء الفلاسفة وتفنيد ما يستحق التفنيد، فيما لا مجال لاستعراض تفاصيله(18)، ويختتم مناقشته هذه بقوله «فهذا العلم كما رأيته غير واف بمقاصدهم التي حوموا عليها مع ما فيه من مخالفة الشرائع وظواهرها» ثم يشير الى الثمرة الوحيدة التي نحظى بها من شجرة الفلسفة هذه تلك هي شحذ الذهن البشري وتمكينه من ترتيب الادلة المنطقية وسوق البراهين على ما يسعى الى إثباته. وهذا يدل على انفساح صدر ابن خلدون لكل علم بشري وملاحظة سلبياته وإيجابياته على السواء في محاولة منه ان يأخذ الحكمة من أي وعاء خرجت كما علمه الرسول صلى الله عليه وسلم ان يكون، «وأما مضارها ـ أي الفلسفة ـ فهي ما علمت. فليكن الناظر فيها متحرزا جهده من معاطبها، وليكن نظر من ينظر فيها بعد الامتلاء من الشرعيات والاطلاع على التفسير والفقه، ولا يكبن أحد عليها وهو خلو من علوم الملة، فقل ان يسلم لذلك من معاطبها»(19). وأما الذين يختارون ان يتحصنوا ـ أولا ـ بكتاب الله وسنة رسوله عليه السلام، فلهم ان يسيروا حيث يشاؤون، وان يسبروا غور الفلسفة ايا كانت، فأنهم سوف يصلون شاطئ الامان وقد ازدادوا إيمانا ويقينا.

الا أن ابن خلدون يحبذ«الاعراض عن النظر فيها إذ هو من ترك المسلم ما لا يعنيه» فأن هذه المسائل «لا تهمنا في ديننا ولا في معاشنا فوجب علينا تركها»(20). فكأنه، انطلاقا من موقف الاسلام نفسه، يريد ان يحفظ على العقل البشري طاقته الفعالة فلا تستنزف فيما هو غير مجد، ولا تعمل إلا فيما يعود على الانسان المسلم بالخير في دينه ومعاشه، أي ان ينصب جهدها في صميم العالم، لا فيما وراء العالم حيث إختصاص الاديان.

ومن زاوية الرؤية المتسلحة بالعقل، نفسها، يدعو ابن خلدون الى إبطال خرافة التنجيم، تماما كما دعا الى إبطال خرافة فلسفة الالهيات وما وراء الطبيعة.. كلتاهما خرافة، بما انهما تقودان العقل البشري الى مساحة الكون غير المنظور، بما لم يتهيأ له أساسا. والخرافة بمعنى ما، هي أن نتحرك الى اهدافنا بدون الوسائل المنطقية التي تبلغنا تلك الاهداف. وإذا كانت الممارسة الفلسفية لما وراء الطبيعة تغطي على عبثها وعقلانيتها بنوع من المنهجية المدعاة وبحشد من المصطلحات المعماة، فان التنجيم يضرب بهذا كله عرض الحائط، ويعتمد اسلوبا في العلم ما انزلت معطيات العقل والمنطق وبداهاتهما به من سلطان «فهذه الصناعة ـ يقول ابن خلدون ـ يزعم اصحابها انهم يعرفون بها الكائنات في عالم العناصر قبل حدوثها من قبل معرفة قوى الكواكب وتأثيرها في المولدات العنصرية مفردة ومجتمعة، فتكون لذلك اوضاع الافلاك والكواكب دالة على ما سيحدث من نوع من أنواع الكائنات الكلية والشخصية..»(21) الى آخر هذا الغشاء.

وهو ينفي ان يكون الانبياء عليهم السالم قد مارسوا هذا المنهج الخاصي وحاشاهم «.. ذهب ضعفاء ـ من اصحاب التنجيم ـ الى ان معرفة قوى الكواكب وتأثيراتها كانت بالوحي، وهو رأي قائل «خاطئ وضعيف» وقد كفونا مؤونة ابطاله.. ومن اوضح الادلة فيه ان تعلم ان الانبياء عليهم الصلاة والسلام أبعد الناس عن الصنائع، وانهم لا يتعرضون للاخبار عن الغيب ألا أن يكون عن الله، فكيف يدعون استنباطه بالصناعة ويشيرون بذلك لتابعيهم من الخلق»(22).

وبعد ان يستعرض ابن خلدون مقولات بطليموس وتلامذته في هذا الميدان يتقدم لتفنيدها بحجج عقلية بينة ويصل الى القول بأن «تثير الكواكب فيما تحتها باطل، اذ قد تبين في باب التوحيد ان لا فاعل الا الله، بطريق استلالي كما رأيته، واحتج له أهل علم الكلام بما هو غني عن البيان من أن اسناد الاسباب الى المسببات مجهول الكيفية والعقل متهم على ما يقضي به فيما يظهر بادئ الرأي من التأثير، فلعل استنادها على غير صورة التأثير المتعارف والقدرة الالهية رابطة بينها كما ربطت جميع الكائنات علوا وسفلا، سيما والشرع يرد الحوادث كلها الى درة الله تعالى ويبدأ مما سوى ذلك.

والنبوات أيضا منكرة لشأن النجوم وتأثراتها واستقراء الشرعيات شاهد بذلك مثل قوله (صلى الله عليه وسلم) «أن الشمس والقمر لا ينخسفان لموت أحد ولا لحياته» فقد بان لك بطلان هذه الصناعة عن طريق الشرع، وضعف مداركها مع ذلك من طريق العقل، كما لها من المضار في العمران الانساني لما تبعث في عقائد العوام من الفساد اذا اتفق الصدق في إخفائها في بعض الاحايين اتفاقا لا يرجع الى تعليل ولا تحقيق. فليلهج بذلك من لا معرفة له ويظن اطراد الصدق في سائر احكامها، وليس كذلك، فيقع في رد الاشياء الى غير خالقها». ثم يبين ان حظر الشريعة لهذا العبث المدعو علما، دفع اصحابه الى ممارسته بمعزل عن الجمهور، وتسترهم عن الناس كي لا ينكشف امرهم وهذا مما زاده الغازا وتعيدا..»(23).

ومن المنطلق نفسه يرفض ابن خلدون الكيمياء، لا بمفهومها التجريبي المختبري الذي عرفته بمرور الوقت، ولكن بمفهومها السحري القديم القائم على الدجل والخرافة والذي كان يطمح بتحويل المعادن الرخيصة الى ثمينة بأساليب سحرية ملغزة لا تقل سخفا في تعاملها مع حقائق الطبيعة والكون من الميتافيزيقا او التنجيم»(24).

ان ابن خلدون في دعوته الجادة الى ابطال تلك الفنون الثلاثة ـ ولا أقول علوما ـ الميتافيزيقا والكيمياء السحرية والتنجمي، بقدر ما ينطلق من رؤية دينية واضحة وعميقة، تستمد من كتاب الله وسنة رسوله صلىالله عليه وسلم ، بقدر ما يؤكد مدى احترامه للعقل البشري، وانه برفضه هذه الفنون لا يقف بمواجهة العقل والروح العلمية وانما معها، وتلك هي طبيعة الرؤية الدينية كما يمنحنا إياها كتاب الله وسنة رسوله عليه السلام.(24)

***

ثانيا: الرؤية التربوية

التربية بايجاز شيد، عمل داينمي يستهدف صقل وتنمية قدرات الانسان العقلية والروحية والجسدية والوجدانية، وبما ان الانسان ـ بايجاز ايضا ـ هو صانع الحضارة، فان التربية ـ بالضرورة ـ تغدو صيغة عمل حضاري يحمل قدرا كبيرا من الأهمية.

وابن خلدون هو واحد من المفكرين الرواد الذين أولوا المسألة الحضارية أهمية بالغة، وتجاوزوا المنظور التسطيحي لقراءة التاريخ البشري صوب التوغل عمقا لفهم أبعاد معطياته الحضارية، والقوانين التي تحكمها، بدءا وصيرورة ونموا وغناء.. وليس من قبل الصدفة ـ إذن ـ ولا لمجرد استكمال الحديث عن كل موضوع وفق نزعة موضوعية فضفاضة، كما كان يفعل الكثير من الكتاب قبله، أو بعده، ليس من هذا القبيل تلك المساحات الواسعة التي يمنحها الرجل للمسألة التربوية في العديد من شعبها واهتماماتها وأنشطتها ما دام ان العمل التربوي سعي متواصل في صميم النشاط الحضاري للجماعة البشرية.

وهو يمنحنا تحليلات طيبة، وعلى قدر كبير من النضج، بالمقارنة مع المعطيات التربوية الحديثة: عن القيم والاهداف ومحتوى التعليم وطرائقه وأساليبه، والمعلم المتعلم، كما انه يقف طويلا عند (نظرية المعرفة) ذات الارتباط الوثيق بالتربية، ويقدم ـ في الوقت نسه ـ رؤية للانسان من خلال نظرة التربية الاسلامية اليه.

وبما أن الرجل هو ابن البيئة الاسلامية لحما ودما وفكرا، فان معطياته التربوية كانت تتشكل بالضرورة من مادة هذه البيئة وتتداخل مع نسيجها.

بعبارة اخرى، انه يتحدث عن التربية الاسلامية على وجه الخصوص لا عن اية تربية اخرى، وضعية او غير وضعية، كما حاول ويحاول بعض الباحثين، منذ اواخر القرن الماضي وعبر القرن الاخير، أن يذهبوا ـ كما رأينا ـ ليس على مستوى التربية فحسب، بل على كافة المستويات المعرفية التي تتضمنها المقدمة.

وتتوزع المادة التربوية على مدى المقدمة، وتنتشر في أبوابها الستة لكنها تتكاثف هنا وتقل هناك، وفقا لطبيعة الباب، أو الفصل الذي يتحدث عن (موضوعة) ما قد ترتبط بالمنظور التربوي بشكل مباشر أو غير مباشر، وقد لا ترتبط به اساسا.

يصدر ابن خلدون في نظرته للانسان، والتعامل التربوي معه بالتالي عن رؤية اسلامية واضحة تضع هذا الكائن المتفرد في مكانه الحق من العالم.

وهو يؤكد ويعيد تأكيده المرة تلو المرة، على تميز الانسان بالفكر الذي وهبه الله اياه، متجاوزا «النظرة التجزيئية للانسان، متعاملا معه بمكوناته كافة: العقل والروح والوجدان والحس والغرائز والجسم، دونما عزل أو نفي أو فصل أو تقطيع، الانسان كما خلقه الله سبحانه وكما اراد له ان يكون.. كما يؤكد حتمية النبوات التي أعان الله الانسان بها على اكتشاف الطريق، وعلى استخلافه العمراني في العالم، وتسخير العالم، بطاقاته وسننه، لهذا المخلوق المستخلف عن الله في الارض، لكي يقدر على مواصلة مهمته في التقدم والتحضر والاعمار.(26)

هذه هي الخطوط الاساسية، أو مراكز الثقل الخمسة التي تميز التصور الاسلامي للانسان، عن سائر المذاهب والتصورات، والتي تنبثق عنها بالضرورة طبيعة التربية التي يتحتم اعتمادها لتنمية قدرات هذا الكائن وتمكينه من أداء مهمته في الأرض، كما تنبثق عنها ملامح وأسس نظرية للمعرفة تتميز هي الاخرى عن سائر النظريات الوضعية، باتساع مداها وتجاوزه لظواهر الاشياء صوب عالم الباطن والغيب.

ويحمل التعليم قيمته الاساسية في مقدمة ابن خلدون من حيث انه ضرورة من ضرورات الاجماع البشري، وأداء لابد منها لتمكين الجماعة من التحقق بالعيش والرفاهية من خلال الخبرات والصنائع التي تنالها بالتعليم. بل أن الأمر ليتجاوز هذا كله فيغدو التعليم ضرورة لقبول ما جاء به الانبياء عليهم السلام والانتماء لدعواتهم. من خلال نظرة إسلامية شمولية يطل بها أبن خلدون على قيمة التعليم فيجدها تمتد كلي تشمل الارض والسماء، الدنيا والاخرة على السواء وتلك هي بحق واحدة من أهم ملامح التربية الاسلامية، بل أهمها على الاطلاق(27).

ويقف ابن خلدون طويلا «عند قيمة العمل ـ الذي تبرمجه وتؤكده الممارسة التربوية التعليمية ـ ويراه ضرورة من ضرورات العمران، ثم هو كعادته يعالجه من زاوية رؤياه الاسلامية ويبلغ به الامر القول بأن قيمة الاشياء انما تقاس بمقدار ما بذل فيها من عمل، وهو يربط ـ كذلك ـ بين مبدأ التسخير الذي يعرض له كتاب الله للانسان في هذا العالم، وحيثما تلفتنا وجدنا الرجل يولي العمل قيمة كبرى كواحد من الوسائل الاساسية لتحقيق مهمة الانسان في الارض واستخلافه العمراني في العالم على عين اله وهدى انبيائه عليهم السلام(28).

حتى اذا ما بلغنا المسائل المباشرة الاكثر ارتباطا بالعملية التربوية التعليمية وجدنا ابن خلدون يقدم مادة طيبة، ويقف وقفات قد تطول وقد تقصر عند هذه المسألة أو تلك من مسائل التربية والتعليم.

انه يرى حتمية وجود (المعلم) كطرف اساسي في هذه العملية، سواء استهدفت تخريج العلماء أم الصناع(29). ليس المعلم فحسب ولكنه المعلم الجيد هو المطلوب لتحقيق النتيجة الافضل. ونجد ابن خلدون يركز المسالة بمبدأ واضح بسيط ولكنه ضروري، أنه (على قدر جودة التعليم وملكة المعلم يكون المتعلم) وهكذا يحتل المعلم مكانه المناسب.

والمهمة التي يمارسها المعلم ليست مجالا «كيفيا» ولا عمل مستقلا بذاته لا يحتاج الى عوامل مساعدة، انها برنامج مرسوم يتدرج من البسيط الى المركب، ومن الضروري الى الكمالي، وهذا يحتاج الى زمن، ولا يستكمل اسبابه الا بعد تقدم الجماعة خطوات واسعة في تحضرها30 ثم أن مهمة المعلم لا تنحصر في تعليم هذا الجانب او ذاك فحسب من أمور المعرفة، بل تمتد لكي تشمل الجوانب كافة، أي ما هو علمي وما هو عملي في الوقت نفسه(31).

وهو يعتبر التعليم من (جملة الصنائع) باعتباره فنا لابد من الالمام بأصوله وقواعده لكي يتمكن المعلم الذي يمارسه من تأدية مهمته على الوجه المطلوب(32) أنه يؤكد (مهنية) المعلم وأن يمارسه ليس مجرد علم فحسب وأنما هو (منهج) للتوصيل يختلف فيه هذا المعلم عن ذاك، ويتباين هذا الجيل عن ذاك(33).

وابن خلدون يعرف كيف يرتبط بين ما يبلغه فن التعليم من مستوى وبين البيئة الحضارية التي ينشط فيها. فالعلاقة بينهما طردية، وحيثما بلغت جماعة ما شأوا متقدم في المضمار الحضاري حيثما تقدم معها فن التعليم ونفق سوقه(34). أنه يجد فرصته للحذق والاكتمال في البيئة المتحضرة بسبب ما تتيحه من مجالات أوسع للمناظرة والجدل والحوار في مناحي العلوم، وتسمح به من الاحتكاك والاتصال والاخذ والعطاء بين الطرائق والمناهج هنالك حيث يتألق المعلم وحيث يجد طلبة المعلم مبتغاهم فيمن يعرف كيف يوصل اليهم المعرفة التي يطلبونها.(35)

والتعليم ليس تحفيظا كما أن التعلم ليس حفظا وإنما هو على جانبيه إعمال للقدرات العقلية وكسب لزمن من أجل التمكن من المعرف في هذا الحقل او ذاك(36). إن غياب المعلم الجيد يحرم الطلبة من الفرص المواتية للتعلم، كما يحرم الجماعات من كسب عامل الزمن في الصراع من أجل المعرفة(37).

واذا كان ابن خلدون ـ فيما سبق ـ يقف عند حدود العلاقة بين درجة التحضر عموما ومستوى التعليم والتعلم، فأنه لا ينسى أن يشير الى بعض المفردات (المساعدة) التي تعين على تحسين العملية التعليمية والتربوية عموما. منها ـ بطبيعة الحال ـ الاكثار من بناء المؤسسات التعليمية من مدرسة وزاوية ومسجد ورباط، ومنها وقف الاوقاف المنحلة على هذه المؤسسات من أجل أن تسير العملية بنجاح، ويجد المعلم والمتعلم فرصته لتجاوز الانهماك بالضرورات فيتحرر منها، بالضمان المعاشي الاكيد، لكي يتفرغ لما هو بصدده: ذاك لمهنته وهذا لمهمته. فحيثما كثرت الاوقاف والضمانات وعظمت الغلات والفوائد حيثما كثر طالب العلم ومعلمه وأحسنوا مهمتهم (ونفقت اسواق العلوم وزخرت بحارها)(38).

وبما ان التعليم يعني توصيل الحقائق المعرفية بين طرفين، فأن ابن خلدون يقف بعض الوقت عند نوعين من صيغ التوصيل: الصيغة الشفافية التي تتم مباشرة بين العلم والمتعلم، والصيغة الكتابية التي تتم بشكل غير مباشر بينهما من خلال الكتب والمؤلفات(39)، هي الصيغة الاكثر ذيوعا وانتشارا بسبب من أن المؤلف كخزين للمعرفة اكثر دواما من صاحبه، واكثر قدرة على الانتشار في المكان. وهكذا يكون دور المعلم ضروريا على هذا المستوى كذلك، بما أن التدليف تحتاج الى من يتقن توصيلها بمهنته المتخصصة في فنه، الى عقول المتعلمين(40).

وابن خلدون يتخذ ازاء (الكتاب) كواحد من أهم الوسائل التعليمية، طريقا وسطا يتميز بالمرونة، ويلاحظ جيدا سايكولوجية التعلم، والقدرات النفسية للمتعلم فهو من جهة يرفض فكرة الاكثار من التأليف وتحميل المناهج التعليمية بالمزيد من الكتب التي تعالج موضوعا واحدا، لأن ذلك يعوق الطالب عن التحصيل ويحدث لديه نوعا من الارباك الذهني(41)، فضلا عن انه يستغرق وقته فيما لا مبرر له ثم ان اختلاف الكتب في المادة الواحدة يعني عند ابن خلدون اختلاف الطرائق المنهجية في العرض والشرح والتعليل الامر الذي يقود الى السلبيات آنفة الذكر ويرى، بدلا من الدخول الى التفاصيل والجزئيات التي تكرر نفسها بصيغ مختلفة، أن يقدم للطالب جوهر المادة العلمية وخطوطا العريضة ـ دون الحاح في الايجاز ـ في كتاب واحد لكي يعينه ذلك على كسب الوقت والتمكن من الالمام بالملامح الاساسية للمادة(42).

وهو ـ بالمقابل ـ يندد بالتلخيصات والاختصارات في المؤلفات المنهجية ويرى أن ذلك بدوره يخل بالتعليم بسبب من الحاحه في الايجاز الامر الذي يجعل المادة عسرة على الفهم بتركيزه المعاني الكثيرة في الفاظ محدودة(43).

ولا ينسى ابن خلدون ان يقدم تصوره لعقلانية التعلم، وصي توصل العقل لحقائق الاشياء، داعيا المتعلم الى إدراك كنه هذا النشاط لكي يتمكن من تجاوز صعابه وعقابيله، ولكي ينفذ الى المعاني من وراء حجب الالفاظ والاستدلالات المنطقية الصناعية باعمال الفكر (الطبيعي) مباشرة في الحقائق المستغلقة وصولا الى الجوهر والمعنى(44).

كما انه لا ينسى ان يفرد فصلا لمسألة التخصص العلمي، أو المهني، أو سايكولوجيته بعبارة أدق، ويرى ان المرء اذا اجاد مهنة ما ورسخت في نفسه فانه قد لا يجيد بعدها مهنة أخرى(45).

وبصدد المراحل المبكرة للتعليم، فيما يسمى بتعليم الولدان، يمنحنا ابن خلدون مادة مقارنة يستمدها من طرائق التعليم الاسلامية واختلافها ويكاد يكون تعلم القرآن الكريم القاسم المشترك، والاساس في هذه الطرائق جميعا عبر مراحل التعليم المبكرة. فالقرآن الكريم كتاب هذه الامة، وهاديها ودليلها، وهو دستور عقيدتها، ومنهاج حركتها في العالم.. وتعليمه لاجيال الناشئة ضرورة محتومة اذا ما اريد لهذه الاجيال ان تكون مسلمة حقا (46).

لكن الذي يختلف فيه بين مصر ومصر ومدرسة وأخرى، هو منهج التعليم وهاهنا يقدم ابن خلدون عرضا مقارنا لهذا المنهج في تعليم كتاب الله في كل من المغرب والانلس، والمشرق، والنتائج التي ترتبت عليه في كل من هذه الاقاليم.(47).

وابن خلدون وهو يتحدث عن محتوى التعليم يشير الى صنفين من العلوم عقلي ونقلي دون أن يغفل عن أن هذا الاخير يتحتم ان يتم التعامل معه عقليا بالقياس والتفريع والاجتهاد. كما ان الرجل لا يفوته كذلك ان يؤكد هاهنا رؤيته الاسلامية وخصوصيته العقيدية اسوة بما كان يفعل في جل مساحات مقدمته الخصبة، بصيغ مباشرة حينا وغير مباشرة حيانا اخرى، فكأنه يرد بذلك على الذين جاءوا في قرون تالية لكي يخرجوه عن الرحم الذي تخلق فيه، ويضعوه على غير إرادة منه في دائرة (الوضعية) هجينا غريبا(48).

ثالثا: الحركة التاريخية

وضع ابن خلدون (مقدمته) في الاساس، وكما يؤكد في تمهيده لها اكثر من مرة(49) لكي تكون اداة أو معيارا في التعامل مع الواقعة التاريخية. فهناك، في نسيج هذه الواقعة، ما يمكن قبوله والتسليم به، وما يستعصي على القبول والتسليم.. ما يمكن ان يصدق وما يخرج الى دائرة الكذب والتلفيق.

واذا كان المؤرخون قبله، في معظمهم، قد اكتفوا بأن يكونوا جماعين للرواية، أو المادة التاريخية، دونما اخذها بما يتطلبه من منهج يمحص ويعزل.. يقبل ويرفض.. يثبت وينفي.. كي لا يمر الا ما هو متحقق في حركة التاريخ، أو مقارب للحقيقة في أقل تقدير، فأنه رأى أن قد آن الاوان لاعتماد منهج مرسوم لكي يصير النشاط التاريخي علما منضبطا لا عواطف وتحزبات واهواء وميولا.

ولقد قيل الكثير في هذه المسألة، ولذا سنجد انفسنا مضطربين لتجاوزها صوب بعض التأشيرات التي تؤكد (اسلامية) هذا التوجه (العلمي)في التعامل مع التاريخ، واستمداده الكثير من الخصائص والمواصفات من البيئة التي انتمى اليها الرجل لا من أية بيئة أخرى. وهكذا ستكون النتائج التي توصل اليها الرجل من خلال منهجه هذا وتساوقه في نسيجها العام، وفي معظم مفرداتها، مع المنظور والمعطيات الاسلامية.

ابتداء وعى سبيل المثال، يطرح ابن خلدون هذه المقولة الاستقرائية ذات التأثير البالغ في صميم الحركة التاريخية للجماعات والشعوب انه ما من دولة (كبيرة) الا وأصلها الدين «اما من نبوة أو دعوة حق» والدول الكبيرة التي يسميها البعض بالامبراطوريات ويسميها ابن خلدون (الدول العامة الاستيلاء، العظيم الملك) هي الدول الاكثر ثقلا وتأثيرا في حركة التاريخ، ليس فقط في مجرياته السياسية، بل في نموه الحضاري، وهذا هو الاهم.

كيف يفسر ابن خلدون ذلك (أن الملك ـ يقول الرجل ـ انما يحصل بالتغلب، والتغلب انما يكون بالعصبية واتفاق الاهواء على المطالب وجمع القلوب وتأليفها انما يكون بمعونة من الله في إقامة دينه.

قال تعالى (لو انفقت ما في الارض جميعا ما الفت بين قلوبهم)(50). وسره ان القلوب اذا تداعت الى اهواء الباطل والميل الى الدنيا حصل التنافس ونشأ الخلاف، واذا انصرفت الى الحق ورفضت الدنيا والباطل وأقبلت على الله، اتحدت وجهتها فذهب التنافس وقل الخلاف وحسن التعاون والتعاضد واتسع نطاق الكلمة لذلك فعظمت الدولة(51).

إنه يتحدث هنا عما يمكن تسميته بالمعامل العقائدي، وذلك الذي يشد طاقات الجماعة البشرية الواحدة التي تنتمي الى عقيدة ما، ويوجهها صوب هدف واحد.. بؤرة واحدة، فتزداد قدرتها على الفعل التاريخي، تماما كما تزداد قدرة أشعة الشمس على الاحراق من خلال تجميعها بالعدسات اللامة. فالدولة الكبيرة ـ إذن ـ هي تعبير تاريخي عن قدرة امة ما على الفعل الموحد الذي صاغته ووجهته صوب هدفه الواحد، عقيدة حيوية آمن بها الجميع.

وبعكس هذا، فان غياب الدين يعني تبعثر الفعل وتشتته صوب اهداف متغايرة متضاربة، ومن ثم تضاؤل دوره التاريخي. فليست الجماعة التي لا تربطها عقيدة بقادرة على ان تمتد في الزمان والمكان، واذا حث وان امتدت فعلا، فان هذا يجيء استثناء للقاعدة، ولا يحكم عليه، ومصيره ان يتلاشى لاول تحد يبرز له في الطريق، ولن يؤخذ يوما بالاستثناء.

في الانتماء الديني ثمة حقيقة اخرى يشير اليها ابن خلدون تزيد فاعلية هذا الانتماء.. انه رفض الانقياد للباطل والاقبال على اله. وتلك هي حجر الزاوية في قدرة الانسان الفرد والجماعة البشرية على التجرد الكامل في مواجهة التاريخ بأقصى قدر من التوتر والفاعلية والتناغم، وباقل قدر من الجذب والشد والاعاقة.. ان القرآن الكريم يصف المؤمنين مرارا بأنهم (يسارعون في الخيرات)52 فيكشف هاهنا البعد الزمني، البعد التاريخي، في حركة الانسان المؤمن في العالم لتحقيق اكبر قدر ممكن من الانجاز في أقل حيز ممكن.

وابن خلدون يختم مقولته تلك بهذه العبارة ذات الدلالة «.. اتسع نطاق الكلمة لذلك فعظمت الدولة»، فالكلمة كما هو معروف، لا تتحول الى فعل تاريخي الا بالايمان الذي يحيلها الى طاقة حركية تعبر عن نفسها من خلال الجماعة المؤمنة وتكون نتيجة هذا التعبير: دولة عظيمة. وكذلك كانت دولة الاسلام الاولى في أعقاب الفتحات التي اختزلت الزمن والمكان، وكذلك كانت الدول الكبرى في التاريخ.

واذا كان ابن خلدون قد أكد مرارا على مفهوم العصبية، باعتباره أساسا لقيام الدول، فانه لم يغفل عن ان الدعوة الدينية تزيد الدولة في اصلها قوة على قوة العصبية التي كانت لها من عددها، كما يقول في احدى فصول الباب الثالث من مقدمته.. لماذا؟ وكيف؟ لأن السبب في ذلك «ان الصيغة الدينية تذهب بالتنافس والتحاسد الذي في اهل العصبية وتفرد الوجهة الى الحق. فاذا حصل لهم الاستبصار في امرهم لم يقف لهم شيء لان الوجهة واحدة والمطلوب متساو عندهم وهم مستميتون عليه. وأهل الدولة التي هم طالبوها، وان كانوا اضعافهم فاغراضهم متباينة بالباطل، وتخاذلهم لتقنية الموت حاصل، فلا يقاومونهم وان كانوا اكثر منهم، بل يغلبون عليهم ويعاجلهم الفناء بما فيهم من الترف والذل كما قدمناه.

وهذا كما وقع للعرب في صدر الفتوحات الاسلامية.. واعتبر ذلك في دولتي المرابطين والموحدين، فقد كان بالمغرب من القبائل كثير من يقاومهم في العدد والعصبية او يشف عليهم، الا ان الاجتماع الديني ضاعف قوة عصبيتهم بالاستبصار والاستماتة، كما قلناه، فلم يقف له شيء». ويواصل ابن خلدون تحليله قائلا «واعتبر ذلك اذا حالت صبغة الدين وفسدت، كيف ينتقض الامر، ويصير الغالب على نسبة العصبية وحدها دون زيادة الدين، فيغلب الدولة من كان تحت يدها من العصائب المكافئة لها او الزائدة القوة عليها الذي غلبتهم، بمضاعفة الدين لقوتها ولو كانوا اكثر عصبية منها وأشد بداوة..»(53).

ان ابن خلدون هنا (يحيد) العصبية في حالة دخول الدين في الصراع فاذا ما غاب الدين كان للعصبية، كقوة عددية واجتماعية، ان تلعب دورها اما مع الدين فتكون اشبه باداة، او عامل مساعد، وهذا الموقف خطير لانه رغم تأكيدات ابن خلدون المتكررة على العصبية، وإقامة اقسام واسعة من نظريته على قواعدها فانه هنا يفوق الدين عليها ويجعله صاحب الفاعلية الاولى في الغلبة السياسية، والفعل التاريخي عموما.

فاذا ما استرجعنا الآن عبارته الدقيقة ذات الدلالة، والتي وردت في ثنايا مقولته، لم ندهش لتأكيد ابن خلدون على دور الدين، فوالذي ادرك بعمق ابعاد هذا الدور «اذا حصل لهم الاستبصار في أمرهم لم يقف لهم شيء لان الوجهة واحدة والمطلوب متساو عندهم وهم مستميتون عليه»

ومن ثم ينهار منطق الاعداد في الصراع التاريخي، ينهار حتى منطق الارتباط النسبي بالعصبية والقوة البدائية المجردة التي تنبثق عنه، لكي يحل محلها جميعا (استبصار) ديني لموقف الانسان العالم وعلاقته بالله خالق الكون والحياة والانسان. وعند ذاك يتحول الانسان المؤمن الى طاقة حركية متقدة لا يقف لها شيء، وهو مع الجماعة المؤمنة التي ينتمي اليها والتي وجهها الايمان الديني والاستبصار صوب الهدف الواحد، تقلب المقاييس الظاهرية للصراع وتفعل المعجزات.

وبرجوع متبصر الى واقعة الفتوحات الاسلامية، والى العديد من التجارب التي شهدها التاريخ الاسلامي، يمكن ان نعثر على النموذج التطبيقي الذي أكد عليه ابن خلدون واستشهد به.

وبالمقابل «فان الدعوة الدينية من غير عصبية لا تتم» كما يؤكد الرجل في فصل آخر من الباب الثالث، ويسعى للتدليل عليه بحشد من الادلة المنطقية والاحايث الصحيحة والوقائع التاريخية «ان كل امر تحمل عليه الكافة لابد له من العصبية».

وفي الحديث الصحيح «ما بعث الله نبيا الا في منعة من قومه» واذا كان هذا في الانبياء وهم اولى الناس من برق العوائد، فما ظنك بغيرهم؟ الا تخرق له العادة في الغلب بغير العصبية؟».

انه يشير الى قدرة الانبياء عليهم السلام على تجاوز التحديات التاريخية فوق العادة، كما حدث لكثير من منهم، لكنهم مع ذلك يعملون في التاريخ في صياغة أبعاد جديدة مستمدة من معطيات الزمان والمكان، فلابد لهم اذن من الافادة من اسبابه الذاتية للانقلاب عليه. وحديث الرسول (صلى اله عليه وسلم) هنا يبدو متساوقا مع معطيات الحركة الاسلامية كلها، تلك التي جاءت لكي تنقلب على التاريخ من خلال التاريخ نفسه، على ضوء برنامج الهي فوقي هو بمثابة دليل عمل أو (استبصار)، اذا اعتمدنا تعابير ابن خلدون، في هذا الانقلاب. ومن أجل مزيد من القانعة يقودنا الرجل الى عديد من الشواهد التاريخية(54).

ولا ينسى ابن خلدون ان يطرح تحفظه الذكي وهو يتحدث عن دعوات الانبياء عليهم السلام.. انهم مؤيدون من الله سبحانه بالكون كله لو شاء، لكنه انما اجرى الامور على مستقر العادة (55). ان الله سبحانه قادر، حيث لا يعجزه شيء في الارض ولا في السماء، على حمل رسله بكلمته التي لا راد لها الى |فاق الانتصار النهائي، لكن حكمته سبحانه، وعلمه المسبق بمصائر لدعوات، في الوقت نفسه، شاءت ان يتحرك رسله في قلب العالم، في صميم التاريخ، ان يعانوا من اثقاله وعوائقه، وان يتجشموا واتباعهم عناء اوهاقه، والا يبلغوا النصر النهائي الا باتخاذ الاسباب التي تمكنهم من هذا الصراع القاسي الذي لا يرحم احدا ولا ينحني لاحد. وذلك هو ما يعنيه ابن خلدون «بمجرى الامور على مستقر العادة» أي سنن التاريخ ونواميس الكون.

ذلك اذن هو التقابل الفعال في نظرية ابن خلدون: الدين والعصبية.. الرؤية أو الاستبصار الايماني، والاداة التاريخية. ان العصبية بدون دين لا تحقق شيئا كبيرا، والدين بدون عصبية لا يتحرك وقتا طويلا.. لابد من اقتران الجانبين. واذا كانت رؤية ابن خلدون للعصبية محدودة في نطاق الروابط القبلية يومذاك فأنها قد تنسحب في الفترات اللاحقة وفي القرن العشرين، على التنظيمات البشرية التي تعتمد القوة والعصبية الحزبية وتحل فيها رابطة الولاء بدلا من رابطة النسب.. والامر سواء.

ولا يقف ابن خلدون عند هذا الحد، بل ان رؤيته الدينية لا تفارق منهجه في الاستقرار والتحليل وهو يطرح مقولاته ويبرهن عليها في ابواب مقدمته الستة عن مسائل مختلفة تتعلق بصيرورة الواقعة التاريخية، ونشاط الجماعات البشرية وعوامل تكوينها ومؤثرات سلوكها التاريخي مما لا يتسع المجال لاستعراضه وربما تكفي الا حالة عليه(56).

بل اننا نلتقي في تمهيده للمقدمة بهذا المقطع«اعلم ان فن التاريخ فن عزيز المذهب، جم الفوائد شريف الغاية، اذ هو يوقفنا على احوال الماضين من الامم في اخلاقهم والانبياء في سيرهم والملوك في دولهم وسياستهم حتى تتم فائدة الاقتداء في ذلك لمن يرومه في احوال الدين والدنيا»(57). فمنذ اللحظات الاولى يبرز جدوى علم التاريخ كاداة تستهدف خدمة الجماعات البشرية وترقية أحوالها دينيا ودنيا، بجعلها تتحرك على هذين المستويين معا، وهي أكثر ادراكا وأعمق تجربة بما يمنحه التاريخ اياها من قيم وتعاليم.

ومما يؤكد الرؤية الدينية الاصيلة عند ابن خلدون، وكونها مسألة اساسية في منهجه، ذلك الحشد من الاستشهادات المستمدة من كتاب الله حينا، وسنة رسوله عليه السلام حينا آخر، وأقوال ومعطيات صحابته الكرام رضي الله عنهم حينا ثالثا، والتي طالما اعتمدها لتعزيز وجهات نظره وجعل استدلالاته اكثر حجية وإقناعا.

وللوهلة الاولى يبدو ان طريقة ابن خلدون هذه لا تعدو ان تكون مسألة تقليدية قد لا تعني شيئا، لكن المتمعن في هذا التكرار المقصود، وفي النماذج التعبيرية التي ينتقيها الرجل، يتضح له ان الامر أبعد من هذا.. وأبعد حتى من مجرد دلالته على عمق الاحساس الديني لدى ابن خلدون، فالرجل، فضلا عن ذلك، يرى في حركة التاريخ، وقائع وسننا، انعكاسا لمشيئة الله سبحانه وقدره في العالم.

وثمة اخيرا مسألتان اساسيتان في نظرية ابن خلدون طالما اكد عليهما وعلى ارتباطهما الوثيق بصلب النظرية وهما الترف وحتمية السقوط، اذ اننا لا نعتقد انه كان بمعز عن معطيات القرآن والسنة وهو يتحدث عن هاتين المسألتين اللتين كان لهما في المصدرين المذكورين مكان كبير(58).

هذا على المستوى العام للحركة التاريخية، اما على مستوى التاريخ الاسلامي، على وجه الخصوص، فأن ابن خلدون يمضي بالمنهج نفسه، بالروح العلمية المنضبطة برؤيته الاسلامية والمستمدة من حقائقها ومفرداتها لكي يناقش ويحلل مسائل شتى تتميز بأهميتها وحساسيتها. وهو هاهنا يؤكد موقفه الديني من خلال تفسيراته الملتزمة لعديد من وقائع تاريخنا الاسلامي وهو الساحة التي انصبت جل اختباراته عليها والتي مارس فيها معظم جوانب استقرائه الذي قاده الى صياغة قوانينه العديدة التي ضمنها مقدمته.

وابن خلدون في هذا الاتجاه يمارس تحليلا للتاريخ الاسلامي، أو بالاحرى لجوانب من التاريخ الاسلامي، يلقي المزيد من الاضواء على خصائصه وصيرورته وفق معايير منهجية تنحت مفرداتها وأدواتها من معطيات هذا التاريخ وليس من أية بيئة اخرى كما توهم بعض المفكرين والباحثين ممن المحنا الى بعضهم في بداية هذه الصفحات(59).

هوامش البحث

1 ـ تفسير ابن كثير 2/588 (در الاندلس، بيروت ـ 1966م).

2 ـ محمد علي الصابوني: صفوة التفاسير/346 ـ 347 (الطبعة الرابعة دار القرآن الكريم، بيروت ـ 1981م).

3 ـ محمد مرتضى الزبيدي: تاج العروس، 2/109 ـ 110، (دار ليبيا بنغازي ـ 1966م).

4 ـ محمد عبد الله عنان: ابن خلدون، حياته وتراثه الفكري ص177 ـ 178 (الطبعة الثالثة، لجنة التأليف والترجمة والنشر، القاهرة ـ 1965م) عن كتاب

Geschichte der philosophic in Islam

للباحث المذكور.

5 ـ عنان: ابن خلدون ص190 عن:

Ibn Khaldon Historian Sociologist and philosopher

للمؤرخ المذكور.

6 ـ عنان: نفسه ص281 عن

Ibn Khaldoun: Ein arabischer Kulturhistor ker des 14 jahrhunderts.

(ابن خلدون مؤرخ الحضارة العربية في القرن الرابع عشر) للمستشرق المذكور.

7 ـ مهدي عامل (الطبعة الثانية، دار الفارابي، بيروت ـ 1986م).

8 ـ من تعليق الناشر على غلاف المرجع السابق.

9 ـ سورة النحل آية78.

10 ـ سورة العلق الآيات 1 ـ 5.

11 ـ مقدمة ابن خلدون6/983 ـ 984 (الطبعة الثانية، تحقيق د. علي عبد الواحد وافي، لجنة البيان العربي، القاهرة ـ 1965م).

12 ـ المقدمة6/1199 ـ 1210.

13 ـ ابطال صناعة النجوم: المقدمة6/1207 ـ 1215.

14 ـ المقدمة6/1199 ـ 1201.

15 ـ يشير بذلك الى نظرية العقول عند الفارابي وبقية فلاسفة المسلمين، انظر بالتفصيل الهامش رقم 1322 المقدمة ص980.

16ـ المقدمة 6/1210.

17ـ نفسه.

18ـ انظر المقدمة 6/1202 ـ 1207.

19 ـ نفسه 6/1207.

20 ـ نفسه 6/1203.

21 ـ نفسه 6/1207.

22 ـ نفسه 6/1207 ـ 1208.

23 ـ عماد الدين خليل: ابن خلدون اسلاميا ص135 ـ 136 (المكتب الاسلامي بيروت ـ 1983م).

25ـ نفسه ص136 ـ 137.

26 ـ عماد الدين خليل: الرؤية التربوية في مقدمة ابن خلدون، كتاب (من اعلام التربية العربية الاسلامية) المجلد الرابع ص128 (مكتب التربية العربية لدول الخليج، الرياض ـ 1989).

27 ـ نفسه 4/131 ـ 132.

28 ـ نفسه 4/133.

29 ـ المقدمة 3/923.

30 ـ نفسه 3/923 ـ 924.

31 ـ نفسه 3/924.

32ـ نفسه 3/985.

د. عماد الدين خليل

==============

#حوار مع المستشرق المنصف[1]

الدكتور آينربرج

سمعت المسلمين يثنون على هذا الرجل (AINRBERG) النرويجي. وعلى كتاباته عن الإسلام، وعلى ترجمته لمعاني القرآن الكريم، فاشتقت للقائه أكثر من غيره من المستشرقين الآخرين، وضرب لي الأخ أبو يوسف موعدا مع الرجل لأجتمع به في جامعة أوسلو في مقر عمله في الساعة الواحدة من ظهر هذا اليوم.

وكنا عنده في الساعة الواحدة والربع.

رحب بنا ترحيبا حارا، وهو يتحدث باللغة الإنجليزية، واللغة العربية باللهجة المصرية، وبعد أن تعارفنا وبدأ هو يثنى على الإسلام، طلبت منه أن نبدأ الحوار لأسجل المعلومات الممكن تسجيلها، فكانت كما يأتي:

ولد الدكتور آينربرج في 1921م وقال: غدا سيكون عمره 66 سنة.

اهتمامه بالإسلام ومؤلفاته.

قلت له: متى أول ما سمعت عن الإسلام في حياتك؟

قال: في الحرب العالمية الثانية، كان طيارا، وكان عندهم أسرى من المسلمين في شمال إفريقيا، وكانوا عمالا في إنجلترا، وكان هو تابعا للجيش الإنجليزي، وكان أولئك العمال يصلون، واهتم هو بذلك وسألهم عن دينهم، ولم يكن قبل ذلك يعرف شيئا عن الإسلام، ولا كان دارسا له.

قلت: متى بدأ اهتمامك بالإسلام؟

قال: عندما جئت إلى النرويج في سنة 1960م.

قلت: وما سبب اهتمامك به؟

قال: إنه كان مهتما بالدين بصفة عامة، والتقى المسلمين في إنجلترا فزاد اهتمامه به وذلك قبل 45 سنة من الآن، وأغلبهم أسرى كانوا منفيين في إنجلترا، ودرس تاريخ الأديان وخاصة الإسلام سنة 1965م.

من مؤلفاته كتاب لم يستطع الأخ أبو يوسف أن يترجم لي عنوانه إلا بمشقة وهو: الإسلام بين الصدام والحوار، وسألت عن مضمون هذا العنوان فقال الدكتور: إن الإسلام حصل بينه وبين الكنيسة في الأندلس صدام، والآن هو مع الكنيسة في حوار، يقصد أنه يمكن أن يتفاهم المسلمون والنصارى بدلا من أن يتحاربوا.

وترجم الدكتور كتاب الأيام لطه حسين، وكذلك ترجم مبادئ الإسلام للمودودي، وقال عن كتاب المودودي هذا: إنه بين أصول الإسلام.

وترجم معاني القرآن الكريم، وقال: إنه بدأ في ترجمته عندما كان يدرس الطلبة في الجامعة، وكان يترجم لهم بعض الآيات، فلما كثرت عنده الآيات المترجمة، أحب أن يكمل ذلك، وكان بداية الترجمة سنة 1970م، وأول طبعة خرجت سنة 1980م.

سبب اتجاهه لدراسة الإسلام، وتدريسه أكثر من الديانات الأخرى كاليهودية والبوذية؟

قال: كان يعرف الأديان الأخرى من قبل، ولكن الإسلام يفسر معنى الإله تفسيرا واضحا، ويبين سبب وجودنا بطريقة يقبلها العقل والقلب [2]...؟!

وقال: إنه قد دعي من قِبَل بعض المؤسسات المسيحية والمدارس، لإلقاء محاضرات عن الإسلام.

قلت له: هل تعرف متى دخل الإسلام النرويج ؟

فقال: في سنة 1000 ميلادية كانت توجد تجارة جيدة بين النرويج وروسيا، وكان من بين تجار روسيا مسلمون، ويرجع أصلهم إلى الخليفة البغدادي، ووصل هؤلاء المسلمون إلى النرويج بدليل وجود عملة عربية قديمة [3].

وكتب في سنة 1967م كتيبا صغيرا ضد اليهود، واحتجت سفارة اليهود في النرويج، واتصلوا برئيس الجامعة يطلبون منه أن يفصله من الجامعة، ولكنهم أخفقوا.

وسألته عن القرآن الكريم ورسالة محمد صلى الله عليه وسلم: ماذا يرى فيهما، وقد ترجم معاني القرآن الكريم، ودرس الإسلام وسيرة الرسول صلى الله عليه وسلم ؟

فقال: لا أشك في أن القرآن من الله، ولا أشك في ثبوت رسالة محمد صلى الله عليه وسلم [4] .

و قال: إني عندما ترجمت القرآن الكريم، كنت أشعر أن الله ساعدني على ترجمته.

وكانت ترجمته من العربية إلى النرويجية، واستعان بالترجمة الفرنسية والإنجليزية والألمانية واللاتينية.

درس اللغة العربية في هذه الجامعة-جامعة أوسلو-ودرسها في القاهرة لمدة سنة.

وكان يوجد أستاذ في جامعة أوسلو يعرف كل اللغات السامية، ومنها العربية وتعلم الدكتور آينربرج العربية قليلا منه.

ويوجد أستاذ سوداني في الجامعة يسمى عبد المجيد العرقي، أثنى عليه الدكتور وقال: إنه مخلص وطيب، وهو معجب به، لأنه يفيد النرويجيين ويحب الحضارة الإسلامية [5].

وقال الدكتور: إنني الآن أدرس اللغة العربية على قواعدها.

علماء أعجب بهم.

قلت له: من أعجبك من علماء المسلمين قديما وحديثا ؟

فقال: في هذه الأيام حسن البنا وسيد قطب، وقبلهما محمد عبده، وقبله ابن تيمية. وقال: إن السبب في إعجابه بهؤلاء أنهم يقولون أشياء منطقية صحيحة، يقبلها الإنسان العاقل وكذلك ابن الجوزي.

وقال: إننا في حاجة إلى مسند الإمام ابن حنبل، عندنا نسخة واحدة فقط منه والطلاب يقبلون إليه كثيرا، ويسأل: هل طبع من جديد؟

وكانت لديه نسخة من كتاب أصول الإيمان للشيخ محمد بن عبد الوهاب أخذ الكتاب بيده وأثنى عليه كثيرا.

ولديه مكتبة جيدة من المراجع الإسلامية في الجامعة، وهو في حاجة إلى المزيد.

وسألته عن عدد المسلمين من أصل نرويجي؟

فقال: لا يدري، وعنده هو طلاب نرويجيون أسلموا وعددهم ستة: رجلان وأربع نساء.

قلت له: ماذا ترى عن مستقبل الإسلام في أوروبا؟

قال: عدد المسلمين كثير جدا في أوروبا، ولكن المستقبل يتوقف على عدم استعمال العنف الذي يجري الآن بين بعض المسلمين، كما يحصل من الخميني، فإن ذلك يحد من انتشار الإسلام في أوروبا.

الموضوعات الإسلامية التي يمكن أن يتأثر بها الأوربي.

قلت له: ما الموضوعات التي ترى أنها يمكن أن تؤثر في الأوروبي؟

قال: أهم موضوع هو العقيدة الصافية، وإبراز الحضارة الإسلامية.

وقال: لا أعتقد أن الاقتصاد المشاع حاليا كالبنوك الإسلامية، مفيد لأنها-أي البنوك- لا تختلف عن البنوك الأخرى، فهي تأخذ فائدة بأسلوب آخر[6] .

ومن الموضوعات المهمة بيان النواحي الاجتماعية في الإسلام، كتربية الأطفال، وكونهم لهم مكانتهم في الإسلام وعلاقة الوالدين بهم.

وكذلك قضية المرأة في الإسلام، لأن الأوروبي يعتقد أن المرأة ليس لها مكانة في الإسلام.

قلت له: هل تظن أن هذا الاعتقاد خطأ من الناس، أو لهم مستند في ذلك؟

فقال: الرسول صلى الله عليه وسلم كان طيبا مع نسائه، ولكن التطورات التي حصلت بعد ذلك غيرت من المعاملة للمرأة قليلا.

مثال ذلك: أن الرسول صلى الله عليه وسلم تزوج خديجة رضي الله عنها ولم يتزوج عليها امرأة أخرى خلال 25 سنة، ثم تزوج بعد ذلك عددا من النساء لأسباب كثيرة، لكن الآن ـ وإن كان القرآن يحل الزواج بأكثر من واحدة، فعلى الزوج أن يبقى 25 سنة مع زوجته قبل أن يتزوج عليها غيرها، كما فعل الرسول صلى الله عليه وسلم، ولأن العدل بين الزوجات صعب، كما دل على ذلك القرآن ولهذا ينبغي الاكتفاء بزوجة واحدة[7] .

صفات الداعية المؤثر في الأوربي.

وسألته عن صفات الداعية المسلم الذي يمكن أن يؤثر في الأوربي بدعوة الإسلام؟

فاهتم بذكر أمرين يعتبران موضوعين، وليسا صفات للداعية إلا من حيث قدرته على إتقانهما:

الأول: أن يخاطب الناس بالأمور التي يتفق فيها المسلمون والمسيحيون حتى يستميلهم، فإذا حصل ذلك تدرج معهم بالأمور الأخرى التي يخالفون فيها.

والثاني: دفع الشبهات المنسوبة للرسول صلى الله عليه وسلم، مثل قولهم إنه كان نزاعا إلى النساء ولذلك تزوج نساء كثيرات، وأنه كان يعتمد على العنف في دعوته إلى الإسلام.

وأكد الدكتور أمرا ثالثا يجب أن يكون الداعية إلى الإسلام متمكنا منه، وهو مقارنة الأديان، بحيث يكون عنده علم بالدين الذي يدعو أهله إلى الإسلام، كالمسيحية مثلا، لأنه بذلك يستطيع أن يبين لهم عدم صحة دينهم، ويبين لهم سمو الإسلام وضرب لذلك مثالين:

المثال الأول: أن القرآن الكريم اعتبر آدم وحواء مشتركين في الخطيئة عندما أكلا من الشجرة، ولكن المسيحيين يعتبرون المرأة هي سبب الخطيئة، وأن حواء هي التي أغوت آدم، ويعتبرون أن الخطيئة ما زالت مستمرة في ابن آدم.

المثال الثاني: أن الإسلام يعتبر الطفل مولودا على الفطرة والمسيحيون الإيمان عندهم باستمرار الخطيئة في ابن آدم، يحكمون على الطفل أنه يولد متحملا الخطيئة، وقبل مائة سنة كانوا يغطسون الأطفال في الماء عندما يولدون، حتى يطهروهم من الخطيئة في زعمهم، فإذا ماتوا قبل الغسل لم يدفنوهم وإنما يرمونهم في الزبالة، لأنهم متسخون بالخطيئة.

لقد أشار هذا الرجل بأمرين مهمين:

الأمر الأول: دفع الشبهات عن الإسلام.

الأمر الثاني: ذكر مثال النصرانية، وسبق أن قال: إن أهم موضوع إسلامي هو تقديم العقيدة الصافية للناس!

هل أقام المسلمون الحجة على الناس في أوربا؟

وسألته: هل قام المسلمون بواجبهم في نشر الإسلام، وإقامة الحجة على الناس؟

فقال: أغلب المسلمين هنا جهال، ولكن في استطاعة المتعلمين منهم أن يقوموا باجتماعات ومحاضرات لتفهيم الناس بالإسلام، وكان يعرض برنامج في التلفزيون عن الإسلام منذ سنوات، وكان له أثر جيد وليته يعاد هذا البرنامج مرة أخرى، ووجود المسلمين في النرويج يلفت انتباه الناس للإسلام، ولا أرى أن الحجة قد قامت على الناس بالدعوة إلى الإسلام، لعدم من يبلغ الإسلام إليهم.

والأخطر من ذلك أن الكتب الموجودة في المدارس، تتضمن موضوعات ضد الإسلام.

قلت له: أيهما أكثر تأثيرا في النرويجي من المسلمين: الطلاب، أم الجالية؟

فقال: كلهم سيؤثرون، لأن وجودهم ينبه الناس على الإسلام، والنرويجي إذا أراد أن يسأل عن الإسلام توجه إليهم.

قلت له: ما رأيك في اتخاذ الإعجاز العلمي في القرآن الكريم وسيلة لدعوة الأوروبي؟

فقال: لا أعتقد أن أحدا يرى أن القرآن يتناقض مع العلم، وعلى الرغم من أن الكنيسة هاجمت العلماء، ولكنها الآن تحترم العلماء فلا أرى داعيا لطرح ذلك[8] .

هذا وقد بقينا معه ساعتين كاملتين، كانت المناقشة معه ممتعة جدا، وكان هو في غاية السرور.

وقد ودعنا بحرارة أرجو الله أن يوفقه ويزيده بصيرة، وقد سألني بعض الأسئلة في معنى بعض الآيات القرآنية من ذلك قوله تعالى:{وفرعون ذي الأوتاد} ما معنى الأوتاد؟ فأخبرته في حينه بما استحضرته، وهو أن لفرعون الطاغية أوتادا كان يربط أرجل الناس وأيديهم إليها، إذا غضب عليهم.

فقال هو: إن المعنى الذي تبادر إلى ذهني أنها الأهرامات، لأنها كالجبال، والجبال سميت أوتادا في القرآن الكريم، فقلت له: الأفضل أن تعود إلى تفسير السلف أولا، كتفسير بن جرير وتفسير ابن كثير، فوعد بذلك.

مكاتبات جرت بيني وبين الأستاذ آينر بيرج.

هذا وقد جرت بيني وبين الأستاذ المذكور مكاتبات بعد رجوعي إلى المدينة بفترة، حيث بدأ هو بالمكاتبة، مستفسرا عن بعض الأحكام الإسلامية، وبعض معاني الآيات القرآنية، وكنت أرد على كتبه التي يبعث بها إليَّ، وأرى أن من المناسب إثباتها هنا، وفي هذا حفظ لها.

موضوع ختان البنت

13/3/1409هـ ـ 23/10/1988

سعادة المكرم البروفيسور آينر ، وفقه الله.

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

أما بعد: فقد وصل منكم رسالتان:

الأولى: ذكرتم فيها وصول الكتب التي بعثت بها إليكم [9].

والثانية: أنكم تستفسرون فيها عن حكم ختان المرأة في الإسلام، وهل يدخل في تغيير خلق الله الذي يوسوس به إبليس للناس، كما أشرتم إلى ذلك في آية سورة النساء:(119) التي ذكر الله تعالى فيها عن إبليس قوله: {ولآمرنهم فليغيرن خلق الله}.

والذي أود أن أقوله لكم باختصار في هذا الأمر ما يأتي:

1-أن المراد بخلق الله-هنا-فطرته التي فطر الناس عليها، بحيث تنسجم مع دينه، إذا لم تجتلها الشياطين، فكل شخص خالف ما أمر الله به، أو ارتكب ما نهى الله عنه، فقد أطاع إبليس في تغيير خلق الله وفطرته المتفقه مع دينه.

ولا يدخل في ذلك فعل ما شرعه الله تعالى، حتى ولو كان فيه تغيير لخلقه، وأضرب لكم مثلا بخصال الفطرة، مثل ختان الرجال، ونتف شعر الإبط وقص الأظافر، وحلق العانة، فإنها سنن مشروعة، ولا يجوز أن يقال عنها: إنها من تغيير خلق الله الذي يوسوس به إبليس، لأن الله تعالى أذن في ذلك، بل شرعه[10].

ويدخل في ذلك ختان المرأة، فهو مستحب، وليس بواجب، وقد وردت به بعض الأحاديث عن الرسول صلى الله عليه وسلم، وفيها كلام لعلماء الحديث، من حيث تضعيفها، والذي يظهر لي أنها بمجموعها ترقى إلى درجة الحسن لغيره، وهو من أنواع الحديث المعمول به، والحديث الحسن لغيره هو الذي فيه ضعف، ولكنه يتقوى بمجموع طرقه، ولا يصل إلى درجة الحديث الصحيح.

وبناء على ذلك، فإن ختان المرأة لا ينبغي إدخاله في ما يوسوس به إبليس من تغيير خلق الله، كما أن ختان الرجل ليس مما يوسوس به إبليس من تغيير خلق الله، بل كلاهما مما شرع-وإن كانت أحاديث ختان الرجل أصح-.

وقد ذكر العلماء من حكمة مشروعية ختان المرأة، أن ترك تلك القطعة كاملة من أسباب قوة الشهوة عندها، فيؤخذ منها شيء يسير لكسر الشهوة الزائدة، ولهذا يقال: إن النساء اللاتي لا تختن يكثر فيهن السحاق، وهو إتيان المرأة المرأة،وهو أمر شاذ مخالف للفطرة، فضلا عن كونه سببا لفعل الفاحشة مع الرجال-والله أعلم.

وإذا أردتم مراجعة هذه المسألة-حكم ختان المرأة-فإن من الكتب التي اهتمت بها كتاب المغني، لابن قدامة الحنبلي، في الجزء الأول، بعنوان: فصول في الفطرة-يلاحظ أنه أدخل ختان المرأة في خصال الفطرة، وذلك عكس الزعم بأنه مما يوسوس به الشيطان-واستدل على ذلك بقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (إذا التقى الختانان -أي فرج الرجل وفرج المرأة-..) وهو في صحيح البخاري، كما استدل بحديث في المسند[11] وبحديث في مجمع الزوائد[12] ويمكن مراجعة الجزء الأول من كتاب (نيل الأوطار) للشوكاني.

وأخيرا فإنني سأتصل بالدكتور عبد الله عمر نصيف في شأن المساعدة على طبع كتابكم ترجمة معاني القرآن الكريم، للعل الله ييسر الأمر.

وإذا بدا لكم أن تستفسروا عن أي شيء يتعلق بالإسلام، فأرجو أن لا تترددوا في الكتابة إلي، وأنا سأرد على أسئلتكم، وإذا أشكل علي شيء منها فسأسأل عنه أساتذتي وزملائي إن شاء الله.

وأنا مسرور جدا بلقائكم في مكتبكم بجامعة أوسلو، ومسرور جدا بتلك الكلمة التي سمعتها منكم، وهي قولكم: (إن قلبي مؤمن بالله وبكتابه وبرسوله).

وأود أن أسألكم:

لقد قابلت عددا من الأوربيين، منهم المسلم، ومنهم غير المسلم، وقد أعددت كتابين-استخرجتهما من مذكراتي في الرحلة الأوربية الطويلة التي قابلتكم فيها-للنشر:

الأول بعنوان: حوارات مع مسلمين أوربيين.

الثاني بعنوان: حوارات مع أوربيين غير مسلمين.

وترددت في أمركم: هل أدرجكم في الكتاب الأول، أو في الثاني، لأنكم صارحتموني أنكم مسلمون تكتمون إسلامكم، أو أضعكم في الكتاب الثاني، بحسب ما يظهر للناس الذين لا يعرفون إسلامكم؟

أرجو إفادتي برأيكم في الموضوع. وإني أكرر لكم وصيتي بأن تحافظوا على أركان الإسلام، حتى إذا لقيتم الله وجدتموه راضيا عنكم بالأعمال الصالحة، كما أرجو أن تكثروا من الاتصال بالمسلمين وتساعدوهم باستمرار، وبخاصة الرابطة والمركز الإسلامي.

والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته

أخوكم في الله د. عبد الله قادري الأهدل

الأستاذ بالجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة

حول ختان المرأة.

25/4/1409هـ 4/12/1988

سعادة الأستاذ المحترم آينر ، وفقه الله.

تحية طيبة.

أما بعد فقد وصلت رسالتك، وفيها ثلاث مسائل:

المسألة الأولى تتعلق بختان المرأة. [13]

وأحب أن أكرر لكم ما ذكرته لكم في خطابي السابق، من أن ذلك مستحب، وليس بواجب، وكون ذلك لكسر الشهوة هو من اجتهاد العلماء، وليس من قول الله ولا من قول رسوله، وقد يكونون عرفوا ذلك عن طريق التجارب في بعض البلدان، وبخاصة البلدان الحارة، وكسر الشهوة الشديدة مطلوب لأمرين:

الأمر الأول: إذا كانت الفتاة لا زوج لها، فكسر شهوتها يفيدها، كما يفيد الصيام الشاب الذي لا يجد وسائل النكاح المادية.

الأمر الثاني: إذا كانت متزوجة فقد لا يغنيها زوجها إذا كانت شديد الشهوة، فكسر شهوتها من مصلحتها في الحالتين.

وهذه كلها مجرد اجتهادات، وليس من شرط تنفيذ الحكم الشرعي عند المسلم أن يعرف الحكمة من التشريع، بل قد تخفى عليه الحكمة، ومع ذلك يجب عليه أن ينفذ ما ثبت عن رسول الله، إن كان الحكم واجبا، ويسن له أن يعمل بالسنة، إن كان مسنونا...

ولا أظن أن هذه المسألة في حاجة إلى كثير بحث، مادامت ليست واجبة.

معنى الأوتاد في قوله تعالى: (وفرعون ذي الأوتاد)؟

المسألة الثانية: تتعلق بمعنى: {ذي الأوتاد} في وصف فرعون.

وأذكر لكم فيها أن ابن جرير الطبري، رحمه الله، ذكر فيها ثلاثة أقوال، في تفسير الآية (12) من سورة (ص)، في كتابه: (جامع البيان ‘ن تأويل آي القرآن: 22/ 131):

القول الأول: أنها أخشاب يلعب بها.

القول الثاني: أنها أوتاد يعذب بها من أراد، بأن يسمرها في أجسادهم (مسامير).

القول الثالث: أنها بنيان.

وذكر هذه الأقوال الثلاثة ابن جزي في التسهيل، وذكر أن ابن عطية رجح أن المراد بالأوتاد المباني العظام، وبناء على ذلك لا أرى مانعا من تفسيرها بالأهرامات، لأنها مبان عظام، ويؤيده ما ذكرتم من أن الله تعالى سمى الجبال أوتادا، كما في سورة النبأ،والله أعلم.

المسألة الثالثة: تتعلق بإسلامكم.

فأنا قد فهمت منكم عند زيارتكم بأنكم تؤمنون بالله ورسوله، واعْتَبَرْتُكَ بذلك مسلما.

وما ذكرت في خطابك من أن الرسول صلى الله عليه وسلم لا يريد منك أن تدير ظهرك لأخيه عيسى عليه السلام، هذا كلام صحيح، لأن عيسى عليه السلام رسول من عند الله، وكذلك موسى ومن قبله من الأنبياء والرسل ابتداء من نوح عليه السلام-بل آدم-، والذي يكفر بواحد منهم يكون كافرا بجميعهم، ولو ادعى الإيمان ببعضهم، وإنما الشيء الذي أريد أن أفهمه منكم هو الجواب على الأسئلة الآتية:

1-هل تعتقدون أن القرآن وحي أنزله الله على رسوله محمد صلى الله عليه وسلم؟

2-هل ترون أن الكتب السماوية السابقة للقرآن-وأهمها التوراة والإنجيل- قد حرفت، وأصبحت غير موثوق بها من حيث السند، ومن حيث إن فيها ما يخالف القرآن والعقل، وأن القرآن هو الكتاب الوحيد الذي بقي سليما محفوظا من التحريف والتغيير وهو الحاكم على كل الأديان؟

3-هل اقتنعتم بأن الرسول صلى الله عليه وسلم خاتم الرسل، وتؤمنون بأركان الإيمان، وأركان الإسلام؟

أرجو أن أتلقى جوابكم على هذه الأسئلة، وأسأل الله لي ولكم التوفيق والسداد.

وأخبركم أني قد كلمت الدكتور عبد الله بن عمر نصيف بالهاتف، في موضوع طبع كتابكم (ترجمة معاني القرآن) باللغة النرويجية، وسألتقيه قريبا شخصيا في هذا الشأن، بإذن الله.

د. عبد الله قادري الأهدل

الأستاذ بالجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة

خطاب من الأستاذ آينر -جامعة أوسلو بالنرويج

معهد الدراسات السامية-قسم الدراسات الإسلامية والعربة

16ديسمبر 1988م [14] .

إلى فضيلة الدكتور عبد الله قادري

قسم الدراسات العليا بالجامعة الإسلامية.

من آينر ...

سيدي العزيز تلقيت بسرور خطابكم المؤرخ 25/41409هـ.

وإني أتفق معكم في أن مسألة ختان البنات لا تستحق مزيدا من المناقشة، طالما أنها ليست أمرا واجبا، إلا أنني أقدم جزيل الشكر على ما أفدتموني به من معلومات.

كما يسرني أنكم قد قبلتم ترجمة "أوتاد فرعون" على أنها تعني أهرامات-أي المنزل الكبير الحجم أو الضخم-وهذا في الحقيقة هو معناه في اللغة المصرية القديمة.

وبالنسبة لسؤالكم رقم (1) فإني أستطيع أن أجزم بكل قلبي بأنني أومن بأن القرآن منزل من عند الله على نبيه محمد (صلى الله عليه وسلم).

أما بالنسبة لسؤالكم رقم (2) حول ما إذا كان الكتب المقدسة لليهود والنصارى، قد تعرضت للتحريف، فينبغي القول: بأنني لست عالما أصوليا، ولكن إذا كان أهل المدينة قد اعتقدوا أن أسلوب حياة النصارى وأفعالهم، وبخاصة اليهود، كانت وفق كتبهم المقدسة، فلا بد من اعتبارهم (لست أدري أكان الكاتب يقصد اليهود والنصارى أم كتبهم-المترجم) لا بد أن يكونوا قد فسدوا، لأن الله لم يكن ليقرهم على أفعالهم.. وأنا أعتبر المسيح قد ولد ولادة عادية (طبيعية) على الرغم من أن الإسلام[15] يقبل بفكرة الميلاد العذري، فليس ثم مشكلة بالنسبة لله أن يخلق عيسى (عليه السلام) في رحم مريم، حيث إنه خلق آدم من قبل.. ولكن عيسى كان نبيا، وعاش حياته وهو على صلة بأبيه، إلهنا (باعتبار مرجعه أو مصدر سلطته) تماما كما فعل النبي محمد (صلى الله عليه وسلم) كما لو كان يربط بينهما خط هاتفي مفتوح، ومن خلال تأملاتهما استطاعا تقديم مشكلاتهما إلى ربنا، أو أن الله استطاع أن يوحي إليهما بصورة تلقائية، بكلمته وحكمته، ويتضح هذا في القرآن، حيث إن المجتهدين هم عند الله أفضل درجة من القاعدين، إلا أن المؤمنين من المعوقين والمكفوفين الذين لم يشاركوا في الجهاد، قد أوحى الله إلى نبيه الترخيص لهم،(استثناهم) إني أعتقد أن المسيح قد صلب، إلا أنهم لم يقتلوه، ولكن شبه لهم، وفي سفر بطرس الذي تم العثور عليه مؤخرا، فقد رأى في المنام المسيح وهو يحلق فوق الصليب، وقد ارتسمت على محياه ابتسامة، عندما شاهد الجنود يسومون جسده أنواع العذاب، إ ذًا فهم لم يقتلوا سوى جسده، وإنني أعتقد أنه والنبي محمد (عليهما الصلاة والسلام) أحياء بالقرب من الله لصالح المؤمنين بهما.

وهناك أيضا رواية تقول إنه هو في طريقه إلى مكان الصلب، ثم صلب شخص آخر، بطريق الخطأ بدلا من عيسى (عليه السلام).

أما بالنسبة لسؤالكم رقم (3) فإنني أشك ما إذا كنت سأفهم عبارة (خاتم النبيين) تماما كما يختم المزارعون زجاجات خمر الحصاد، أو أنها تعني آخر الأنبياء؟.

فالقرآن لم يحسم هذه المسألة، ولست أدري ما إذا كان الله خلال آلاف السنوات القادمة سيرى من الضروري إرسال نبي آخر أو أكثر، فهذا الأمر يفوق رؤياي (يقصد رأيه وتفكيره).

إنني شديد الامتنان أن أعلم أنكم قد تحدثتم مع الدكتور نصيف، وكان آخر خطاب تلقيته من الرابطة، يحمل توقيع السيد محمد سعيد قطب، إلا أنني لم أتلق قرارهم بعد.

وبالنسبة لإعادة طبع القرآن الكريم، فالعمل يجري فيها حاليا، وستضم كل صفحة عمودين: أحدهما للغة العربية، والآخر للترجمة النرويجية.

وبالنسبة للترجمة التي أضطلع بها الآن، فإني أتحمل مسئولية ذلك أمام الله والناس، وسأقوم بنقل النص العربي من النص الموجود في ترجمة (مارمادوك بيكثال)، وإنني أرى النص العربي صحيحا [16] أما بالنسبة للترجمة الإنجليزية، فهي ذات مستوى متدن، وقد قرأت في إحدى الصحف الصادرة في المملكة العربية السعودية أنه قد تم سحب (منع) هذه الترجمة من التداول، إلا أنني لا أرى خطأ بالنسبة للمتن العربي، فهل تفضلتم بالتحقق من ذلك من أجلي؟ إنني أشكركم جزيل الشكر على جهودكم التي بذلتموها من أجلي حتى الآن، وإنني أقدر لكم كل التقدير عونكم الكريم لي. لقد طالت هذه الرسالة... وفي الواقع فأنا لا أجد من أتناقش معه في مثل هذه الأمور الإسلامية هنا في (جامعة أوسلو) لذا فإن الكتابة إليكم تشعرني بأن لي شريكا في الحوار والمناقشة. ثمة سؤال أخير في سورة (الممتحنة) أية: (11)، فيما يتعلق بالزوجات اللاتي فاتوكم إلى الكفار فعاقبتم [17] ، فإن الترجمة العادية تقول: فزتم وانتصرتم عليهم وعاقبتم، فإذا أخذنا في الاعتبار الاشتقاقات العديدة لأصل الفعل (عقب)، فهل يمكن أن يعني هذا: خذوا على سبيل التكافل والتضامن، النتيجة (أي العاقبة) الزوجة التي فقدت، وادفعوا للرجل أي عوضوه كلا؟ [18] المخلص: آينر

بسم الله الرحمن الرحيم

3/6/1409هـ[19]-10/1148919.10.95

الرد على خطابه السابق.

من عبد الله بن أحمد قادري الأهدل إلى الأستاذ آينر[20] ،وفقه الله.

تحية طيبة.

أما بعد: فقد وصل خطابك المؤرخ في: 16/ ديسمبر 1988م، وهو يتضمن ما يأتي:

أولا: الموافقة على إنهاء المناقشة في حكم ختان البنت [21] .

ثانيا: اعترافكم، بل جزمكم وإيمانكم القاطع من صميم قلبكم، بأن القرآن منزل من عند الله على نبيه محمد، صلى الله عليه وسلم.

وهذا هو المدخل إلى الإسلام، والقاعدة الرئيسة التي تبنى عليها كل فروع الإسلام.

ومعنى هذا أنكم تعترفون بكلمة التوحيد التي هي (لا إله إلا الله) وتعترفون كذلك برسالة محمد صلى الله عليه وسلم، وتعترفون بأن ما جاء في القرآن حق، وإليه يرد ما تنازع فيه المؤمنون بهذا القرآن، وأنا أعتبرك-لذلك-مسلما في الجملة، وإذا وجد عندك شيء يخالف بعض النصوص من القرآن أو السنة الصحيحة، أو بعض قواعد الإسلام، فهو ناتج عن تصور يحتاج إلى إعادة نظر ليصحح، وليس صادرا عن عمد (إن شاء الله).

هذا ما أفهمه من إيمانكم بالوحي.

ثالثا: عدم علمكم بأصول الديانات، ولذلك لم تجزموا بتحريف الكتب السابقة: التوراة التي أنزلت على موسى، والإنجيل الذي أنزل على عيسى، عليهما السلام، وإن كان أتباعهما قد حصل منهم شيء من الفساد.

واستطردتم في هذا البند ببيان اعتقادكم بأن عيسى عليه السلام ولد ولادة طبيعية-مع تجويزكم أن الله خلقه في رحم أمه بدون أب.

وكذلك ترون أن عيسى عليه السلام، قد صلب ولم يقتل، وذكرتم رواية أنه صلب شخص آخر غيره عن طريق الخطأ.

وأحب أن أبين لكم في هذه الأمور المسائل الآتية:

المسألة الأولى: ما دمنا قد اتفقنا على أن هذا لقرآن وحي من الله على عبده ورسوله محمد، صلى الله عليه وسلم، فيلزمنا أن نصدق كل ما جاء فيه، وقد نص القرآن الكريم أن اليهود حرفوا كتابهم، وأن النصارى حرفوا كتابهم كذلك.

بعض النصوص الدالة على ما ذكر.

وإليك بعض الآيات التي نصت على ذلك:

1- في الآية (46) من سورة النساء ذكر الله تعالى أن اليهود حرفوا وبدلوا، فقال تعالى: {من الذين هادوا يحرفون الكلم عن مواضعه ويقولون سمعنا وعصينا واسمع غير مسمع وراعنا ليا بألسنتهم وطعنا في الدين ولو أنهم قالوا سمعنا وأطعنا واسمع وانظرنا لكان خيرا لهم وأقوم ولكن لعنهم الله بكفرهم فلا يؤمنون إلا قليلا}.ويمكنكم مراجعة تفسيرها.

2- وفي سورة المائدة آيات (13، 14، 15) ذكر الله تعالى تحريف أهل الكتاب، وتركهم حظا مما ذكروا به، وأنهم أخفوا عن الناس ما جاء الرسول صلى الله عليه وسلم ببيان كثير منه، وأنهم مستمرون في الخيانة، فقال تعالى: {فبما نقضهم ميثاقهم لعناهم وجعلنا قلوبهم قاسية يحرفون الكلم عن مواضعه ونسوا حظا مما ذكروا به ولا تزال تطلع على خائنة منهم إلا قليلا منهم فاعف عنهم واصفح إن الله يحب المحسنين ومن الذين قالوا إنا نصارى أخذنا ميثاقهم فنسوا حظا مما ذكروا به فأغرينا بينهم العداوة والبغضاء إلى يوم القيامة وسوف ينبئهم الله بما كانوا يصنعون يا أهل الكتاب قد جاءكم رسولنا يبين لكم كثيرا مما كنتم تخفون من الكتاب ويعفو عن كثير قد جاءكم من الله نور وكتاب مبين}.

3- وفي سورة المائدة أيضا آية (41) ذكر تعالى أن من اليهود من يحرفون الكلم فقال تعالى: {ومن الذين هادوا سماعون للكذب سماعون لقوم آخرين لم يأتوك يحرفون الكلم من بعد مواضعه يقولون إن أوتيتم هذا فخذوه وإن لم تؤتوه فاحذروا}.

وفي سورة البقرة آية (75) ذكر أن فريقا من بني -وهم أحبارهم-كانوا يحرفون كلام الله بعد أن عقلوه وعلموه، فقال تعالى: {أفتطمعون أن يؤمنوا لكم وقد كان فريق منهم يسمعون كلام الله ثم يحرفونه من بعد ما عقلوه وهم يعلمون}.

5- وقال تعالى في نفس السورة، آية (79):{فويل للذين يكتبون الكتاب بأيديهم ثم يقولون هذا من عند الله ليشتروا به ثمنا قليلا فويل لهم مما كتبت أيديهم وويل لهم مما يكسبون}.

6- وذكر الله تعالى أن أهل الكتاب يكتمون الحق، ويلبسون الحق بالباطل، فقال في سورة آل عمران آية (71): {يا أهل الكتاب لم تكفرون بآيات الله وأنتم تشهدون يا أهل الكتاب لم تلبسون الحق بالباطل وتكتمون الحق وأنتم تعلمون}.

7- وذكر تعالى في سورة الأنعام آية (91) أن أهل الكتاب وبخاصة اليهود، كانوا يخفون الحق الذي جاء به موسى، وكانوا بدلا من بيانه يكتبون تحريفهم وكذبهم في قراطيس-أي ورق-ويظهرون ذلك للناس ويقولون لهم: إنه من عند الله، قال تعالى: {وما قدروا الله حق قدره إذ قالوا ما أنزل الله على بشر من شيء قل من أنزل الكتاب الذي جاء به موسى نورا وهدى للناس تجعلونه قراطيس تبدونها وتخفون كثيرا وعلمتم ما لم تعلموا أنتم ولا آباؤكم قل الله ثم ذرهم في خوضهم يلعبون}.

8- وقد ذكر الله تعالى في سورة المائدة آية (48) أن القرآن الكريم هو الذي يصدق الكتب التي قبله، وهو الذي يهيمن عليها، فما شهد له القرآن أنه حق فهو حق، وما شهد بكذبه أو بطلانه فهو كذب وباطل، فقال تعالى: {وأنزلنا إليك الكتاب بالحق مصدقا لما بين يديه ومهيمنا عليه فاحكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم...}.

ولعل هذه الآيات كافية في إثبات أن أهل الكتاب حرفوا كتابهم، اليهود والنصارى جميعا.

يضاف إلى ذلك أن الخلاف شديد بين الكتب الموجودة لدى اليهود والنصارى، ولا يوجد برهان على أن الكتب الموجودة بين أيديهم، هي من كلام الله الذي أنزله على موسى وعيسى عليهما السلام.

أما القرآن الكريم، فهو كلام الله، كما نص الله على ذلك في آيات منه، وذكر تعالى أنه حفظه من التحريف، وأمة محمد، صلى الله عليه وسلم، مجمعة أن هذا القرآن هو الذي نزل على الرسول صلى الله عليه وسلم، ولا زال صغار المسلمين و كبارهم يحفظونه في صدورهم، بحيث لو حاول أحد في مشارق الأرض أو مغاربها تبديل آية أو كلمة منه، لصححوا ذلك في أسرع وقت وبينوه.

المسألة الثانية: فيما يتعلق بولادة عيسى عليه السلام، فقد دل القرآن الكريم، أن ولادته ليست كولادة كل الناس، أي إنه لم يكن له أب، وإنما خلقه الله تعالى في رحم أمه بقدرته، وقوله له: كن فكان.

ودلالة القرآن على ذلك من وجوه:

الوجه الأول: أن مريم عليها السلام، عندما جاءها لملك وتمثل لها في صورة بشر، وأخبرها بأنه سكون لها ولد، تعجبت من وجود ولها، وهي لم يمسسها بشر-أي لم يجامعها زوج كما هو معروف في إنجاب الذرية، وهي الطهور العفيفة البعيدة عن ريبة الوقوع في الفاحشة-فأخبرها الملك أن الله تعالى قال ذلك، وأنه يسير هين عليه، لأنه على كل شيء قدير، قال تعالى في سورة مريم (20،21):

{قالت أنى يكون لي غلام ولم يمسسني بشر ولم أك بغيا قال كذلك قال ربك هو علي هين ولنجعله آية للناس ورحمة منا وكان أمرا مقضيا}.

الوجه الثاني: أن قوم مريم عندما جاءت تحمل عيسى عليه السلام تعجبوا من ذلك، وأنكروا عليها، كيف تأتي بولد وهي من أسرة طاهرة، فلا أبوها كان رجل سوء، ولا أمها كانت زانية، وليس لها زوج-وكانوا يعرضون بزناها-، فأحالتهم على عيسى، فأنطقه الله وكلمهم، وهو صغير، ليبرئها الله بذلك مما دار بخلد القوم، كما قال تعالى في سورة مريم

نفسها (27-34): {فأتت به قومها تحمله قالوا يا مريم لقد جئت شيئا فريا يا أخت هارون ما كان أبوك امرأ سوء وما كانت أمك بغيا فأشارت إليه قالوا كيف نكلم من كان في المهد صبيا قال إني عبد الله آتاني الكتاب وجعلني نبيا وجعلني مباركا أينما كنت وأوصاني بالصلاة والزكاة ما دمت حيا وبرا بوالدتي ولم يجعلني جبارا شقيا والسلام علي يوم ولدت ويوم أموت ويوم أبعث حيا ذلك عيسى ابن مريم قول الحق الذي فيه يمترون}.

الوجه الثالث: أن الله تعالى سمى عيسى كلمته-وهي تعني أنه قال له: {كن} فكان.وتسميته بذلك تدل على ما دلت عليه الآيات المذكورة في سورة مريم السابقة، قال تعالى في سورة النساء (171): {إنما المسيح عيسى ابن مريم رسول الله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه فآمنوا بالله ورسوله}.

المسألة الثالثة: ما يتعلق بقتل عيسى أو صلبه. نص القرآن الكريم على أنه لم يقتل ولم يصلب، وأن الذي قتل وصلب رجل آخر ألقى الله عليه الشبه بعيسى عليه السلام، فقتله اليهود وصلبوه، ظنا منهم أنه عيسى، ولم يكن كذلك، والرواية الأخرى التي ذكرتموها توافق ذلك، ففي سورة النساء آيات (156-158) كذب الله أهل الكتاب في افترائهم على مريم بأنها زنت، وفي قولهم إنهم قتلوا عيسى وصلبوه، وبين تعالى أنهم إنما قتلوا وصلبوا رجلا آخر شبه لهم بعيسى عليه السلام، وذكر تعالى عدم علمهم بأن القتيل الصليب هو عيسى، وأن زعمهم أنه هو، إنما هو اتباع للظن-أي الشك-وأكد تعالى نفي قتله وصلبه بوصف ذلك النفي باليقين، فقال تعالى: {وبكفرهم وقولهم على مريم بهتانا عظيما وقولهم إنا قتلنا المسيح عيس ابن مريم رسول الله وما قتلوه وما صلبوه ولكن شبه لهم وإن الذين اختلفوا في لفي شك منه مالهم به من علم إلا اتباع الظن وما قتلوه يقينا بل رفعه الله إليه وكان الله عزيزا حكيما}.

فالآيات صريحة أن عيسى عليه السلام، لم يقتل ولم يصلب، وأن الذين ادعوا قتله وصلبه، لا علم لهم، بل قالوا ذلك عن شك، وأن عدم قتله يقين لا ريب فيه.

المسألة الرابعة: وهي أن عندكم تردد في معنى كون الرسول صلى الله عليه وسلم خاتم النبيين، هل المراد كما يختم المزارعون زجاجات صادرات مبيعاتهم، بحيث تكون مجموعة من تلك المبيعات متميزة عما يأتي بعدها، أو أنه فعلا خاتم الأنبياء، ولا ينتظر أن يأتي بعده نبي؟

وأقول لكم أن المعنى الثاني هو المقصود، وقد أكد الرسول صلى الله عليه وسلم أن المراد به آخر الأنبياء في أحاديث صحيحة.

والآية التي ذكر فيها أنه صلى الله عليه وسلم خاتم النبيين هي آية الأحزاب (40)، وهي قوله تعالى: {ما كان محمد أبا أحد من رجالكم ولكن رسول الله وخاتم النبيين وكان الله بكل شيء عليما}.

فأما الأحاديث فهي صحيحة وصريحة في أنه صلى الله عليه وسلم خاتم النبيين، لا نبي بعده.

فقد شبه نفسه مع الأنبياء عليه وعليه الصلاة والسلام، ببيت جميل اكتمل بناؤه، ما عدا موضع لبنة فيه، وأنه صلى الله عليه وسلم هو تلك اللبنة التي أصبح البناء بها كاملا لا نقص فيه بوجه من الوجوه، وفسر ذلك بقوله: إنه خاتم النبيين.

كما في حديث أبي هريرة، رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: [إن مثلي ومثل الأنبياء قبلي، كمثل رجل بنى بيتا فأحسنه وأجمله، إلا موضع لبنة من زاوية، فجعل الناس يطوفون به ويعجبون به ويقولون: هلا وضعت هذه اللبنة؟ قال: فأنا اللبنة وأنا خاتم النبيين] [22].

وفي رواية: [فأنا موضع اللبنة، جئت فختمت الأنبياء] [23].

وفي حديث أبي هريرة-أيضا-وهو من أحاد بث الشفاعة يوم الحشر، عندما يطلب الناس من الأنبياء أن يشفعوا لهم، فيذهبون إلى آدم، فيأمرهم بالذهاب إلى نوح، ويأمرهم نوح أن يذهبوا إلى إبراهيم، ويأمرهم إبراهيم أن يذهبوا إلى موسى، ويأمرهم موسى أن يذهبوا إلى عيسى، فيأمرهم عيسى أن يذهبوا إلى محمد صلى الله عليه وسلم أجمعين، فيأتون محمدا، ويقولون: يا محمد أنت رسول الله وخاتم الأنبياء [24].

وفي حديث آخر: [وختم بي النبيون] [25]

وإذا كان النبيون قد ختموا به فإنه لا يأتي بعده نبي.

ومن الأحاديث الصريحة في أن المراد بخاتم النبيين آخر هم نفيه صلى الله عليه وسلم الثابت في حديث أبي هريرة، رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: [كانت بنو إسرائيل تسوسهم الأنبياء، كلما هلك نبي خلفه نبي، وأنه لا نبي بعدي، وسيكون خلفاء فيكثرون....] [26]

وأورد الإمام أحمد أحاديث في كونه صلى الله عليه وسلم خاتم الأنبياء [27]، ويظهر من العبارة الواردة فيها أن الأنبياء كلهم مثل الوعاء وأن ذلك الوعاء ختم به صلى الله عليه وسلم.

وراجع تفسير ابن كثير لآية (40) من سورة الأحزاب، فقد ساق أحاديث كثيرة في هذا الباب.

هذا، ومن المعلوم أن الرسول صلى الله عليه وسلم بعث إلى العالمين، فما من جيل يوجد على ظهر الأرض إلى يوم القيامة، إلا كان مأمورا بالإيمان به صلى الله عليه وسلم، كما قال تعالى في سورة الفرقان آية (1): {تبارك الذي نزل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيرا}.

وقال تعالى في سورة الأعراف (158) : {قل يا أيها الناس إني رسول الله إليكم جميعا}.

ثم إن هذا القرآن فيه ما يغني الأمم كلها إلى يوم القيامة، وقد وصفه الله تعالى في آيات كثيرة أنه هدى للناس، كما قال تعالى في أول سورة البقرة: {ألم ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين}.

وقال تعالى في سورة الإسراء (9): {إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم }.

وقد فصل الله في دين الإسلام كل ما يحتاج إليه البشر في حياتهم، ولهذا قال تعالى في سورة المائدة (3): {اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا} .

وقال تعالى في سورة آل عمران، آية: (19): {إن الدين عند الله الإسلام}.

وقال في السورة نفسها، آية (85): {ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين}.

أرجو أن تكون هذه الأدلة كافية لبيان أن الرسول صلى الله عليه وسلم خاتم الأنبياء أي آخرهم جميعا، ولا مانع من أن نفهم بأنه شبيه بختم الإناء، ويكون الأنبياء كلهم كإناء واحد ختم هذا الإناء بمحمد صلى الله عليه وسلم، كما شبههم بالبيت الجميل الذي بقي في موضع لبنة، فكان هو صلى الله عليه وسلم تلك اللبنة التي اكتمل بها ذلك البناء الجميل.

المسألة الخامسة: أما الكتاب الذي ذكرتموه، وهو ترجمة:

(مارمادوك بيكثال) فلا أعرف عنه شيئا، وسأسأل عنه فإذا وجدت عنه معلومات أخبرتكم به إن شاء الله.

المسألة السادسة: أما آية سورة الممتحنة (11) وهي قوله تعالى: {وإن فاتكم شيء من أزواجكم إلى الكفار فعاقبتم فآتوا الذين ذهبت أزواجهم مثل ما أنفقوا واتقوا الله الذي أنتم به مؤمنون}.

فخلاصة الكلام فيها أنه عندما حصلت هدنة-أي وقف الحرب بين المسلمين والمشركين مؤقتا-كان من حكم الله تعالى أنه إذا جاء بعض نساء المشركين مهاجرات إلى المسلمين، وجب على المسلمين إبقاءهن عندهم، وتعويض أزواجهن من المشركين مهورهن، وإذا ذهبت نساء المسلمين مرتدات إلى المشركين، وجب على المشركين دفع مهورهن لأزواجهن المسلمين.

هذا المعنى سبق في الآية العاشرة من السورة، فقبل المسلمون حكم الله، ولكن المشركين لم يقبلوا ذلك، وأبوا أن يدفعوا للمسلمين مهور زوجاتهم إذا ذهبن إلى مكة، فأمر الله المسلمين في الآية الحادية عشرة من السورة، أنهم إذا عاقبوا المشركين بعدم دفع مهور زوجاتهم المهاجرات بسبب امتناع المشركين من دفع مهور زوجات المسلمين، أن يدفعوا مهر الزوجة المرتدة لزوجها المسلم من المال الذي كان يستحقه المشركون مهورا لنسائهم المهاجرات، أو إذا قاتل المسلمون بعض المشركين الذين لا عهد لهم فغنموا منهم أموالا، فعليهم-أي المسلمون-أن يدفعوا للمسلم الذي ذهبت زوجته مهرها من تلك الغنيمة التي حصلوا عليها من قتال المشركين، وهو عقاب بمعنى المجازاة والتأديب، يقال: عاقبه بذنبه إذا أخذه به، أو عاقبه غزاه غزوة بعد غزوة.

وأرجو أن يكون هذا المعنى مفهوما.

ويمكن مراجعة خلاصة ذلك في كتاب (جامع البيان عن تأويل آي القرآن) لابن جرير الطبري [28].

وأخيرا فإني قد اضطررت إلى أن أطيل في هذا الخطاب لأن فيه أمورا مهمة جدا، تتعلق بأصول الإسلام، وأرى من واجبي أن أبين لكم ما هو الحق، بحسب ما يفتح الله به علي، وما ييسره الله لي من الاطلاع على الأدلة، وما بينه العلماء في ذلك، وأرجو إشعاري برأيكم بعد قراءة هذا الخطاب فيما ذكر فيه.

وأنا أطمع أن يوفقك الله للتفقه في الدين والدخول في الإسلام، والأخذ بأصوله وفروعه الواضحة، حتى تلقى ربك تعالى وهو راض عنك، وأنا ليس من عادتي أن أكاتب الناس، ولكني وجدت نفسي في غاية الشوق والرغبة في مكاتبتك، لأني أشعر بأنك تريد معرفة الحق.

وأسأل الله لي ولك وللمسلمين كلهم، وبخاصة النرويجيين الهدى والتوفيق.

وأرجو إذا كان عندكم عنوان الأخ أبي يوسف ورقم هاتفه أن تخبروني بهما، وبلغوه سلامي هو وكل المسلمين من طلابكم في الجامعة.

د./عبد الله بن أحمد قادري الأهدل

جواب بروفيسور/آينر على هذا الخطاب [29]

سيدي العزيز

بالغ شكري لك، لخطابك المؤرخ بتاريخ: 3/6/1409هـ، والكتيب المفيد عن الإسلام في أوروبا {[30]}.

وشكرا لك للوقت والجهد الذين بذلتهما لإرشادي-ومن خلال الطلاب والناس الذين ألتقي بهم-.

أعتقد أن لديك فكرة عن مكاني في الأشياء الدينية، أنا لدي ثقافة جيدة، ولكن لست خبيرا لاهوتيا، ولكن اللاهوتية [31] واجب لإبقاء الدين على الطريق.

أنا مؤمن متواضع في الرب ووحيه، بالإضافة إلى مساعدة حدس قلبي.

الولادة العذراء لعيسى جزء من المسيحية والإسلام.

أما بالنسبة لموته، فهناك وجهة نظر عامة، لذا لا أجد أية مشكلات في قلبي. الحقيقة الهامة هي أن عيسى كان نبيا عاش وعلم تحت توجيه مباشر ومتعاون مع ربنا مثل محمد(صلى الله عليه وسلم).

الإنجيل هو مجموعة من التقارير من رجال معاصرين عن حياة وتعاليم عيسى-سيرته- (عليه السلام)، وأخيرا اختار مجالس الكنائس وأقر أربعة من مجموعة أعظم، وفي هذه العملية كانت هناك إمكانية كافية للتحريف بدوافع مختلفة، لذا فأنا أقبل بهذه الإمكانية {[32]}

ولكن كانت النتيجة قواعد للاعتقاد لقرون، وأعتقد أن الرب في الوقت المحدد سوف يفحص قلوبنا وليس علمنا اللاهوتي.

وأومن إيمانا كاملا بما يخبرنا القرآن عن اليهود وطريقتهم في عملهم في كتابهم وكلمات نبهم وأخلاقهم.

وأقدر تقديرا عميقا كلماته في سورة المائدة أن الوحي الرباني قد أكمل وأنه يقبل التسليم والإله (الإسلام [33] ) بأنه دين الإنسان.

إن معنى خاتم الأنبياء بأنه آخر الأنبياء، لجميع العصور قد قُمْتَ بتدعيمه دعما قويا بالأحاديث.

الكلمات نهائية، مع ذلك كون أن الرب سيقيد إدارة الرحمة والخير لجميع الأجيال الآتية يشعر بصعوبة، ولكن عندنا المجددون، ربما بعضهم سيكون عند حدود النبوة، ولذا سيستمر الإنسان في عمل ما وصله من الوحي[34].

أرفق لكم صورة من تفسيري 1980 المعاد الطبع للقرآن الكريم،

وهذه المرة يتضمن النص العربي[35].

لو أن لديك اتصالا مع رابطة العالم الإسلامي في مكة المكرمة الدكتور محمد سعيد قطب، أو الدكتور عبد الله عمر نصيف، فربما يمكنك إخبارهم بأني رجل جاد ويمكن الوثوق به-إذا كنت تشعر بذلك-وقد طالبت-وكما أخبرتكم سابقا-دعما ماديا، لجعل الطبعة المعادة متوفرة في السوق للإنسان العادي، بسعر يمكنه دفعه، وأشكرك للاهتمام الذي أعطيتني، وأشعر أن لدي صديقا لإرشادي.

آينر [36]

==========

[1] - إذا وجد شئ في كتابات هذا الرجل فيه مخالفة لبعض معاني القرآن الكريم والسنة فهو ناتج عن سوء فهم، وليس عن سوء قصد، وهذا هو الغالب على ظني.

[2] - في سنة 1967م التقى في القاهرة ببعض الأزهريين وبعض العلماء من دولة عربية أخرى (5/989.

[3] - الشرق الأوسط عدد 3719، الخميس 2/2/1989م، معرض النقود الإسلامية في السويد.

[4] - يوجد عند بعض المسيحيين اعتقاد أن القرآن وحي وأن محمدا صلى الله عليه وسلم رسول، ولكن لا يعتقدون أن الأديان الأخرى خاصة النصرانية منسوخة بذلك!.

[5] - سمعت أن هذا الأستاذ السوداني غير ملتزم بالإسلام كما ينبغي.

[6] - على المسؤولين عن البنوك الإسلامية أن يوضحوا للناس عدم صحة هذه التهمة التي سمعتها من كثير من الناس مسلمين وغير مسلمين.

[7] - أخبرته أن هذا الموضوع يحتاج إلى نقاش طويل معه، ولكن الوقت لم يكن متسعا ونحن في حاجة إلى المزيد من المعلومات ولكن يبدو أن الرجل عنده استعداد طيب لقبول الحق إذا اتضح له.

[8] - كنت أتريد أن أوضح له عن معنى الإعجاز العلمي في القرآن ولكن الوقت كان ضيقا فلم نستطع مناقشة كثير من المسائل.

[9]- كنت بعثت له بمسند الإمام أحمد، وتفسير ابن كثير، وبعض مؤلفاتي، بناء على طلبه.

[10]- ولوقيل: إن حلق اللحية يدخل في تغيير خلق الله الذي يوسوس به إبليس، لكان القائل به على حق لأن الله تعالى شرع إعفاءها، فحلقها من تغيير خلقه غير المأذون فيه.

[11]-(5/ 75).

[12]-(5 / 172).

[13]-اتضح لي من رسالته التي رددت عليها بهذا الخطاب أن طلابه في الجامعة ناقشوه في مضمون خطابي السابق في موضوع ختان المرأة، فأحب أن يستفسر زيادة، حتى يقنعهم بالنتيجة.

[14]- ترجم هذا الخطاب أحد الموظفين في الجامعة الإسلامية، ويدعى (محمد كمال علي) في قسم الترجمة بأمر من رئيس الجامعة د/عبد الله بن صالح العبيد، وكانت الترجمة بتاريخ: 29/5/1409 هـ ويلاحظ أن كثيرا من خطابات آينر لم أثبتها هنا، لعدم وجود ترجمة كافية لها، لأن خطاباته كانت باللغة الإنجليزية

[15]- راجع ردي عليه في خطابي الآتي على كل ما ذكره في هذا الخطاب.

[16]- نسيت أن أنبهه على أخذ نص القرآن من المصحف الموجودة نسخه عند المسلمين في أوسلو، وهو يعرف كثيرا منهم، ولكن الرابطة إذا وافقت على طبع ترجمت ستتولى ذلك.

[17]- يقصد قوله تعالى {وإن فاتكم شيء من أزواجكم إلى الكفار فعاقبتم فآتوا الذين ذهبت أزواجهم مثل ما أنفقوا واتقوا الله الذي أنتم به مؤمنون}.

[18] - الترجمة رديئة جدا.

[19]-هذا التاريخ هو تاريخ كتابتي الرد على خطابه.

[20]-هو بروفيسور (AINER BERG) مستشرق نرويجي، أستاذ الدراسات الإسلامية واللغة العربية في جامعة أوسلو، التقيته في نفس الجامعة عندما زرت بلدان غرب أوروبا لمدة تزيد عن ثلاثة أشهر، وغلب على ظني بعد مقابلته أن الرجل مسلم يكتم إيمانه، وقد عرض لي بما يدل على ذلك، راجع كتابي (حوارات مع أوربيين غير مسلمين ص: 159) نشر دار القلم، بيروت، عام: 1410هـ 1990م

وقد كاتبني أكثر من مرة يستفسر عن بعض الموضوعات والأحكام الإسلامية، وكنت أرد عليه عندما يتاح لي وجود مترجم يترجم لي خطاباته التي كانت ترد إلي باللغة الإنجليزية، لأنه لا يجيد الكتابة بالعربية، ولم أستطع الرد على خطاباته كلها، بسبب تعذر وجود من يترجمها لي، لأنه كان يبعث معها-أحيانا-بعض الكتب من تأليفه، تتعلق بالعقيدة أو الأحكام تتضمن مصطلحات تحتاج إلى مترجم ماهر صبور، وهذا لا يسهل الحصول عليه بدون أجر .وخطاباته كلها محفوظة عندي في ملف خاص.

[21]- كان قد بعث إلي قبل هذا الخطاب الذي أجبته عنه بهذه الرسالة، بخطاب يسأل فيه عن حكم ختان البنت في الإسلام، وأجبته عنه، فأفادني في خطابه الأخير بأن الرد كان كافيا، وأن النقاش فيه يعتبر منتهيا.

[22]- صحيح البخاري (4/162)، وصحيح مسلم (4/1790).

[23]- صحيح مسلم.

[24]- ولو كان يوجد نبي بعده كان خاتم جميع الأنبياء لما صح هذا الإطلاق، وإذا كان هذا يقال في يوم القيامة الذي انتهت به الرسالات والتكاليف، فكيف يصح أن يقال إن ختم الرسول صلى الله عليه وسلم هو ختم نسبي لمجموعة من الأنبياء، وذلك لا يمنع من وجود رسل بعده يختمهم نبي آخر؟‍

والحديث في صحيح مسلم (1/184).

[25]-صحيح مسلم: (1/371).

[26]-الترمذي: 4/499)، وقال: حديث حسن صحيح، وأبو داود (4/450-452).

[27]- المسند (2/ 398، 412)، (3/ 248)، (4/81، 84)، (5/ 278).

[28]- (28/74-77). مطبعة مصطفى الحلبي، مصر الطبعة الثانية

[29]-تطوع بعض الإخوة بترجمة خلاصة جواب البروفيسور / آينر / مع اعتراف المترجم بأنه لم يستطع النقل الكامل للجواب، ولا الترجمة الدقيقة لبعض المصطلحات.

[30]-كنت أرسلت له كتابي: (الدعوة إلى الإسلام في أوروبا) الذي لخصته من كتاب يقع في أكثر من ألف صفحة، وهو ما كنت أسجله يوميا في تلك الرحلة التي استغرقت أكثر من ثلاثة أشهر، وألقيت ذلك التلخيص في محاضرة بقاعة المحاضرات الكبرى بالجامعة الإسلامية، ثم طبع ته دار حافظ للنشر والتوزيع بجدة سنة:1408هـ-1988م.

[31]- يقصد التدين ومعرفة الدين.

[32]- تسليم بالتحريف في الكتابين.

[33]-هذه نص الترجمة ما قبل القوسين وما بينهما.

[34]- يبدو لي أن قصده من هذا المقطع كله أنه مع اقتناعه بأن الرسول صلى الله عليه وسلم هو خاتم كل النبيين، أنه يشعر بأن العالم يحتاج إلى من يجدد لهم دينهم ويبين لهم كل ما يهديهم إلى الصراط المستقيم، والأصل في ذلك أن يأتي رسول من عند الله، ولكن ما دام قد ثبت إن الرسول هو خاتم النبيين، فلا بد أن يوجد من يشبه الأنبياء (عند حدود النبوة) ليصل الناس بالوحي الإلهي الذي هو القرآن.

[35]-الرجل ترجم معاني القرآن الكريم، والمسلمون الغيورون على الدين الذين عندهم وعي ثقافي جيد-وإن كانوا غير متخصصين في الدراسات الإسلامية-يثنون على ترجمته ويقولون إنها أكثر دقة وسلامة من الترجمات الأخرى، وهي باللغة النرويجية.

[36]-إلى هنا انتهى ما يتعلق بالدكتور إينر بيررغ، وبعد هذا كله أريد أن أنبه على ثلاثة أمور:

الأمر الأول: أن بعض المستشرقين يجتهدون في فهم حقيقة الإسلام بالطرق المتاحة لهم، ومن أهم تلك الطرق الرجوع إلى ترجمات من سبقهم بالكتابات في ترجمات المعاني الإسلامية، سواء أكانت ترجمات لمعاني القرآن أم غير ذلك.

الأمر الثاني: أن غالب الترجمات التي يعودون إليها لا تؤدي المعنى المراد منها في اللغة العربية، إما لتعمد الكتاب السابقين تشويه تلك الحقائق، وإما لسوء فهمهم لذلك، وهذا يوقع مريد الحق في الفهم غير السليم.

الأمر الثالث: أن الذي يريد معرفة الحقيقة لا يجد من يأخذ بيده من علماء الإسلام، بالزيارات المباشرة لهم، ومكاتبتهم، وإذا وجد من يريد مساعدتهم، قد لا يكون أهلا لذلك، لعدم فهمه لغتهم، كما حصل لي مع هذا الرجل، فقد بعث لي بجزء من ترجمته لمعاني القرآن الكريم، فلم أجد من يساعدني بقراءة شيء منها-ولو يسيرا-وعندما لم أستطع الرد عليه في ذلك، لم أتلق منه خطابات أخرى، مع أن الرجل يسأل عما يشكل عليه، كما يتبين ذلك من خطاباته هذه.

كتبه

د . عبد الله قادري الأهدل

==============

#طريق السعادة في القرآن الكريم

أحمد دعدوش

سؤال جوهري لا بد وأن يؤرق كل شاب وفتاة مقبلان على دروب النضج،. فعليه تتوقف سعادة الإنسان، وبه ترسم الأهداف، وعليه تدور كل أشكال الحياة. إنه السؤال الذي ما زال يعبث بعقول الفلاسفة، ويلهب خيال الشعراء، ويدير دفة التاريخ. وهو الذي قلّما اهتدى الإنسان إلى جوابه، بل لطخ تاريخه الطويل بالمحن التي ما كانت لتنزل به لو أنه أحسن السعي في طلبه والاهتداء إليه. فما أكثر التجاءه إلى الأساطير التي فر إليها من مواجهة الحقيقة، وما أقبح خيانته للأمانة التي حملها على عاتقه طائعا غير مكره: "وحملها الإنسان إنه كان ظلوما جهولا".

إنه سؤال الوجود الكبير، سؤال كيف ولماذا ومن أين وإلى أين، السؤال الذي يكاد يلاحق الإنسان كيفما أدار وجهه وهو يشق طريقه في هذه الحياة، وهو السؤال ذاته الذي ما فتئ الإنسان يصطنع الأعذار للإفلات من قبضته، بعد أن زين له الشيطان طول الأمل، فغمس نفسه في الشهوات غير عابئ بما كان وما يكون، يقول ابن الجوزي في (تلبيس إبليس): " ثم جاء إبليس يحث على العمل بمقتضى ما في الطبع، صعُبت المجاهدة، إلا أنه من انتبه لنفسه علم أنه في صف حرب وأن عدوه لا يفتر عنه، فإن فتر في الظاهر بطّن له مكيدة وأقام له كمينا"[1].

هذا السؤال هو الذي يجب أن يقف كل منا عنده، وأن يبذل كل جهده في سبيل الخلوص إلى جواب محكم عليه، كي يتصالح مع نفسه وقلبه، ويعيش حياة متوازنة توصله بثقة وثبات إلى بر الأمان، أما المتغافل عن حقيقة وجوده وحكمة خلقه فهو كالذي شبهه الدكتور البوطي برجل دخل مغارة مظلمة في مكان موحش، فوجد عند مدخلها بقايا لجثة إنسان، فما كان منه إلا أن وضع رأسه وأسلم جفنيه للنوم، غير آبه بما يحتمل أن يكون في جوف هذه المغارة من وحوش ضارية، وهو يمنّي نفسه بالفرار إذا استيقظ، مع أن الموت قد يفاجئه في أي لحظة.

ولخطورة الأمر وإلحاح عجلة الزمن، أرى أن أخوض معكم أحبتي القراء غمار هذا السؤال العنيد، ولا أقصد بذلك أن نخرج في هذه العجالة بجواب قاطع يريح العقول ويهدئ النفوس، فكل منيتي أن نضع أقدامنا معا على درب النجاة، وأن نواجه شيطان الهوى بالسعي الدءوب بحثا عن الحقيقة، عسى أن نصل بإذن الله تعالى إلى مفاتيح السعادة في الدنيا والآخرة.

كيف نبدأ؟

لا شك في أننا جميعا نؤمن بوجودنا الحقيقي ضمن هذا الزمان والمكان، فلم يشذ عن هذه القاعدة إلا بعض السفسطائيين الذين أمتعوا دارسي الفلسفة بخزعبلات شكوكهم التي لا تنتهي، فبداية بحثنا عن الحقيقة يجب أن تنطلق من تحديد مكاننا على طريق البحث، وهو واحد من احتمالات ثلاث[2]:

1- أن يكون أحدنا قد آمن بالله وكل ما جاء به رسوله بالفطرة والبداهة، ولم يخطر بباله شيء من الشك في أصول عقيدته، وهو مشغول بعمله والسعي في رزقه، فهذا الإنسان قد وصل إلى طريق النجاة بأقصر الطرق، ولن نكلفه بشيء من البحث كي لا نفسد عليه إيمانه، لأن الرسول (ص) لم يطالب العرب بأكثر من الإيمان، ولم يكلف أحدا بمعرفة البراهين العقلية الموصلة إليه.

2- أن يكون قد وصل إلى الإيمان بفطرته، ولكنه يتمتع بذكاء قد يحرك في عقله دائما نوازع الشك والتساؤل حتى اهتزت طمأنينته، فعليه إذن ألا يتغافل عن هذه الشكوك، بل يبحث عن الحقيقة عند أهلها بالحجة والبرهان حتى تطمئن نفسه.

3- ألا يكون الحظ قد حالفه في الوصول إلى الحقيقة بعد، فهو إما باحث عنها راغب فيها، وهو من نسعى للأخذ بيده وهدايته، وإما معاند مستكبر قد ختم الله على قلبه، فلا بد من ملاطفته بالحكمة والموعظة الحسنة لأن الهداية نور من الله يرسلها إلى من يشاء من قلوب عباده ولا سلطة لنا على ما وراء ذلك.

وبعد أن يحدد كل فرد منا مكانه على هذه الخارطة، ينبغي له الانتقال إلى المرحلة التالية، فإن كان من الفئة الأخيرة، فعليه أن يبدأ إذن بالبحث الجدي عن حقيقة وجوده، وعن حقائق الكون الكبرى، وعن علاقته بكل المكونات من حوله، فإذا وصل معنا إلى الطمأنينة بالإيمان الكامل بالله تعالى خالقا ومدبرا لهذا الكون بكل ما فيه، وبأن هذا الكون قد خُلق لغاية عظمى قد تخفى على عقولنا، وأن غاية وجودنا تتلخص في السعي إلى مرضاة الله تعالى بإعمار أرضه والقيام بحقوقه وحقوق عباده، آن له إذن البحث معنا عن الوسيلة التي يصل بها إلى تحقيق هذه الغايات الكبرى، وهي التي تقوم عليها فلسفة السعادة التي ضل عنها معظم البشر، وجاء بها القرآن الكريم في أكمل صورة وأبلغ بيان.

طريق السعادة

لكي يصل الإنسان إلى طريق السعادة، وبعد أن أدرك حقائق الوجود الكبرى، عليه أن يتطلع إلى الكشف عن الطريقة السليمة للتعامل مع المحاور الرئيسية لهذا الوجود، وهي: الله جل وعلا، الإنسان، والكون[3]. ونبدأ بالموجود الأول الذي تخضع له كل الموجودات، فبعد أن يتعرف الإنسان إلى الله سبحانه من خلال ما ورد عنه في كتابه الكريم وفي سنة رسوله الخاتم صلى الله عليه وسلم، أو من خلال الأدلة البرهانية التي أبدعها علماء الكلام بطريق المنطق والفلسفة، فإنه سيستنتج بالبداهة حقيقة الوجود الأولى، وهي أن السعادة في الدارين منوطة برضاه تعالى والامتثال لأوامره والوقوف عند حدوده.

أما المحور الثاني وهو الإنسان، فلعله من أكثر الألغاز استغلاقا على العقول منذ القدم، ولا يقتصر ذلك على مرحلة ما بعد سقراط الذي صرف الفلاسفة عن البحث في الكون إلى البحث في الإنسان، بل إن البحث في الكون نفسه لم يكن عند القدماء الذي لم يصل إليهم نور الوحي إلا إسقاطا لطبيعة الإنسان على ما حوله من ظواهر الوجود، بدءاً من التصور الحيوي للطبيعة - وكأنها مخلوق عاقل- ووصولا إلى أنسنة الآلهة المتعددة. أما القرآن الكريم فقد وضع للإنسان منهجا متكاملا ليتبصر ذاته عبر إدراكه للحقيقتين التاليتين:

1- أنه مخلوق تافه، أصله من تراب وماء مهين، ومصيره إلى جثة هامدة، وهو فيما بينهما يحمل النجاسة في جوفه، ويستقذر كل ما يخرج من بدنه. يقول الله تعالى: "قتل الإنسان ما أكفره، من أي شيء خلقه، من نطفة خلقه فقدره، ثم السبيل يسره، ثم أماته فأقبره" [عبس: 17- 21].

2- أنه مع ذلك مكرم على سائر المخلوقات الأخرى[4]، فقد أسجد الله الملائكة لجده آدم، وسخّر له الأرض والدواب، وأكرمه بالعقل الذي صنع به المعجزات. قال تعالى: " ولقد كرمنا بني آدم وحملناهم في البر والبحر ورزقناهم من الطيبات وفضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلا" [الإسراء: 70].

فجوهر الإنسان إذن لا يمكن فهمه إلا بتصور هاتين الحقيقتين معا، وبهذا التصور يستقيم التوازن القائم على الإيمان بأن كل ما يحققه الإنسان من مجد وعز ومال وعلم وغير ذلك فإنه ليس إلا من فيض الله تعالى عليه، أما الإنسان بذاته فليس إلا كتلة من اللحم والعظم تسمو بها نفسه التي يجب عليه تهذيبها وترويضها بالعلم النافع والعمل الصالح، وأنه على الرغم من ضعفه وتفاهته إلا أن الله تعالى قد أكرمه بصفات تؤهله لحمل الأمانة التي لم تقدر عليها الكائنات الأخرى من حوله: " إنا عرضنا الأمانة على السموات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها، وحملها الإنسان إنه كان ظلوما جهولا" [الأحزاب: 72] . وإذا أخل الإنسان في إيمانه بشرط التوازن بين الحقيقتين فإما أن ينصرف ذهنه إلى حقيقته الأولى فلا يرى من نفسه إلا جسدا قذرا شهوانيا لا هدف له ولا غاية، فيقبل على ملذاته كالبهائم حتى يقضي على نفسه بإذلالها كما هو حال الماديين (الماركسيين) الذين لم يروا في الإنسان أكثر من آلة. أو أن تطغى على فكره الحقيقة الثانية فتؤدي به إلى التكبر والتأله كما هو الحال عند الوجوديين[5].

وبعد أن يدرك الإنسان حقيقة وجوده، تتطلع نفسه للتأمل في كنه الحياة التي جُبل على التعلق بها، فهي الأساس الذي تقوم عليه كل ملذات الدنيا ومباهجها، وعليها يقوم الأمل في تحصيل ما ترغب فيه النفس وتميل إليه. وإذا عاد مرة أخرى إلى القرآن الكريم ليستشف منه تعريف الحياة فسيجد نفسه أمام منهج تربوي كامل يقوم على محورين:

الأول: أن الحياة ليست إلا جسرًا تمر عليه الكائنات في طريقها نحو الآخرة، وأن هذه الدنيا في قصرها وسرعة زوالها لا تساوي شيئا يذكر في جنب الخلود الذي سيعقبها، كما أن الآخرة على امتدادها اللانهائي متوقفة على ما يكون عليه حال الإنسان في هذه الحياة الأولى، فهو إذن في مرحلة امتحان دائم، وكل ما يراه من حوله من مباهج وملذات ومتع، أو من مآسي وجراح وكوارث، فإن هذا كله ليس إلا أياما قليلة سرعان ما تنقضي، وستوضع بكل ما تحتويه في كفة الميزان لتحدد مصيره الأبدي، قال تعالى: "وما هذه الحياة الدنيا إلا لهو ولعب، وإن الدار الآخرة لهي الحيوان لو كانوا يعلمون" [العنكبوت: 64].

أما المحور الثاني فهو مكمل لهذا الأول، إذ يعمل على إعادة التوازن لهذه الرؤية، فلا تهون الحياة في نظر الإنسان، ولا ينصرف عن إعمار الأرض بالعلم والعمل إلى التقشف وانتظار الموت. قال تعالى: "هو أنشأكم من الأرض واستعمركم فيها" [هود: 61]، "ولا تنس نصيبك من الدنيا، وأحسن كما أحسن الله إليك" [القصص: 77]، "من عمل صالحا من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينه حياة طيبة" [النحل: 97]. وقال المصطفى صلى الله عليه وسلم في خطبة الوداع: "فإن دماءكم وأموالكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا إلى يوم تلقون ربكم"، كما أعلن أن زوال الدنيا أهون عند الله من قتل امرئ مسلم.

وبهذه الرؤية المتكاملة تغدو الحياة في نظر المسلم كنزاً ثمينا يتوجب عليه استثماره، فهي في جوهرها لا تستحق من الاهتمام أكثر من كونها جسرا للسعادة الأبدية، كما أنه في الوقت نفسه مأمور بعدم التفريط فيها لقدسيتها وقيمتها العظيمة عند الله تعالى "من قتل نفسا بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعا، ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعا" [المائدة: 32]. أما المباهج وألوان المتع التي تصادفه فيها فليست إلا زخارف تتزين بها لإغواء ضعاف النفوس، ولكنها لا تُكره أيضا لِذاتها إذا ما أحسن استخدامها "قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق، قل هي للذين آمنوا في الحياة الدنيا خالصة يوم القيامة" [الأعراف: 32]. وبهذا الفهم يخوض المسلم غمار الحياة بملذاتها واثق الخطى، بعد أن استيقن أن كل ما ملكه فيها غير باق، فهو إذن في سعي دائم للاستمتاع بها دون إسراف، مع إيمان داخلي بأن ما امتلكه منها في قبضة يده وليس في قلبه "لكيلا تأسوا على ما فاتكم ولا تفرحوا بما آتاكم" ، وهكذا فهم السلف الصالح الزهد بأنه قصر الأمل، ليس بأكل الغليظ ولا بلبس العباء[6].

وبهذا ينتقل المسلم في تأمله إلى المحور الثالث والأخير في فهمه للوجود، وهو الكون الذي يحوي كل الكائنات المحيطة به، ويبدأ التأمل فيه من قوله تعالى: "قل انظروا ماذا في السموات والأرض" [يونس: 101]، ثم يمضي في دراسة عشرات الآيات التي تدعوه للتفكر في خلق الله وبديع صنعه، ليخرج منها بنتيجة مشابهة للتي حصل عليها من تأمله السابق في حقيقة وجوده وحياته، وسيكتشف أن فهمه للكون يجب أن ينطلق أيضا من إدراك حقيقتين متكاملتين: الأولى هي حقيقة أن الله تعالى قد سخّر له معظم ما يحيط به من كائنات، إذ أن تفضيله عليها ليس مقتصرا فقط على تمتعه ببعض الميزات، بل يعدوه إلى تسخير هذه الكائنات لخدمته وتحقيق رفاهيته. قال تعالى: "ألم تروا أن الله سخر لكم ما في السموات وما في الأرض وأسبغ عليكم نعمه ظاهرة وباطنة" [لقمان: 20]، "وسخر لكم الليل والنهار والشمس والقمر والنجوم مسخرات بأمره إن في ذلك لآيات لقوم يعقلون" [النحل: 12]، "هو الذي جعل لكم الأرض ذلولا فامشوا في مناكبها وكلوا من رزقه وإليه النشور" [الملك: 15]. وسيجد المسلم في مزيد من الآيات دلائل باهرة على تسخير هذا الكون له وتمكينه منه، وفي هذا إشارة لطيفة إلى ضرورة استئناسه بهذا الكون، واستبطانٌ للنهي عن الجزع مما قد يلاقيه فيه من كوارث ونوازل قد تحل به، فالطبيعة إذن ليست في تحدٍ دائم مع الإنسان الضعيف، والإنسان أيضا ليس في صراع مستمر للتغلب على طغيان الطبيعة. أما الحقيقة الثانية فهي أن الكون لم يكشف للإنسان كل أسراره بعد، فعلى الرغم من التسخير والتمكين إلا إن طائفة أخرى من المكوَّنات ما زالت غائبة عن إدراك الإنسان أو خارجة عن سيطرته، فالكون يضج بالملائكة والجان، وقد يحتوي أيضا على مخلوقات أخرى ليس في مُكنة الإنسان التعرف على حقيقتها أو حتى العلم بوجودها. ووجود الإنسان فيه لا يعدو أن يكون ذرة صغيرة لا تكاد تذكر أمام عظمة هذا الكون واتساعه.

وبهاتين الحقيقتين تتكامل رؤية المسلم للكون المحيط، فهو مدرك تماما لمكانته المتميزة بين كافة المخلوقات، حيث جعله الله تعالى مركز الوجود الذي تُسخر له معظم الموجودات الأخرى، وهو في الوقت نفسه مدرك لحقيقة استغلاق بعض الأبواب عليه، وأن قدراته العجيبة مهما بلغت من سمو فإنها لن تطرق تلك الأبواب، ولكنه مع ذلك مدعوّ للبحث والفضول، فقد حث القرآن الكريم على التساؤل والنظر، وهذا ما فهمه إبراهيم الخليل عليه السلام عندما سأل ربه أن يريه كيفية إحياء الموتى، لعلمه بأن التطلع إلى معرفه هذه الأسرار لا يتناقض مع الإيمان بها على الرغم من استغلاقها.

النتيجة

بهذا الإيمان يتصالح المسلم مع خالقه ونفسه والكون الذي من حوله، فهو مدرك أولا لحقيقة عبوديته لله تعالى وقائم بما يلزم عنها من واجبات، ومدرك ثانيا لقيمة نفسه كمخلوق أكرمه الله بتسخير الكائنات له، وأنه قد هبط إلى الأرض ليمتحن فيها قبل أن يعود إلى الجنة التي خُلقت له، فهو مكلف بإعمار هذه الأرض "هو أنشأكم من الأرض واستعمركم فيها" [هود: 61]، ومكلف أيضا بترويض نفسه للأخذ من الشهوات ضمن قيود الشرع وحدود الحاجة.

فإذا انتهينا إلى هذا الفهم المتكامل للخالق سبحانه وللنفس والكون، فقد حقّ لنا الآن أن نتساءل عن النتيجة العملية التي يمكن أن نجنيها من تطبيق هذا المفهوم، ولعل خير إجابة عن هذا السؤال تتخلص في استقراء الواقع الذي عايشه أشخاص سبق لهم وأن طبّقوه، ولن نجد مثالا أفضل من الصحابة رضي الله عنهم.

لقد نشأ الرعيل الأول من أمة الإسلام على تربية قرآنية فريدة، فهي لا تقتصر في عرض المفهوم الشامل للوجود -السالف بيانه- على الجانب الفكري فحسب، بل تخاطب كلا من العقل والوجدان في تناسق بديع معجز. وقد لخص أبو بكر الصديق رضي الله عنه هذا المنهج في وصيته لخليفته عمر بقوله: "ألم تر يا عمر، إنما نزلت آية الرخاء مع آية الشدة، ونزلت آية الشدة مع آية الرخاء، ليكون المؤمن راغبا راهبا، لا يرغب رغبة يتمنى فيها على الله ما ليس له، ولا يرهب رهبة يلقي فيها بيديه" [7]، فكان الصحابة يقرءون القرآن على حال من الرغبة والرهبة، وقلوبهم تتفطر شوقا إلى لقاء الله وخوفا منه في آن معا[8]. وكان القرآن الكريم يتنزل تبعا لتدرجهم في هذه التربية، فبعد أن انتصروا في أول غزوة لهم في بدر ووجدوا بين أيديهم الكثير من الغنائم، وكانوا قد تركوا لقريش أموالهم وهاجروا إلى يثرب محتسبين أجرهم على الله، عندها تنازع الشيوخ الذين بقوا تحت الرايات مع الشباب المحاربين في اقتسام الغنائم، فما أن لجأوا إلى رسول الله ليقسم بينهم حتى تنزل الوحي ينهرهم: "يسألونك عن الأنفال قل الأنفال لله والرسول فاتقوا الله وأصلحوا ذات بينكم وأطيعوا الله ورسوله إن كنتم مؤمنين، إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيمانا وعلى ربهم يتوكلون، الذين يقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون، أولئك هم المؤمنون حقا لهم درجات عند ربهم ومغفرة ورزق كريم" [الأنفال: 1-4]، عندئذ ارتدعوا جميعا -رضي الله عنهم- وتركوا الغنائم للرسول فرحين بنصر الله تائبين إليه، وما أن عادت الطمأنينة إلى قلوبهم الطاهرة وطردوا عنها علائق الدنيا حتى تنزل الوحي بقسمة الغنائم: "واعلموا أنما غنمتم من شيء فأن لله خمسه وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل..." الآية [الأنفال: 41]. وما أن نضج المفهوم المتكامل للإيمان في قلوب تلك الأمة حتى خرجوا ليفتحوا مشارق الأرض ومغاربها، غير آبهين بزخارف الدنيا التي انبسطت تحت أقدامهم، إلى أن دخل ربعي بن عامر بثوبه المرقع على قائد الفرس رستم وهو يمزق البُسط الفاخرة برأس رمحه، ويقف رافع الرأس وهو يتحسر على الرعية التي طأطأت الرؤوس للقائد قائلا: "أتينا لنخرج العباد من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد، ومن جور الأديان إلى عدالة الإسلام، ومن ضيق الدنيا إلى سعة الآخرة"، فيتهامس الجلوس من كبار القوم: "والله لقد تحدث بكلام طالما تطلع إليه عبيدنا".

أما اليوم، فلن نفاجأ كثيرا بنتائج الاستقصاء الذي أجرته مجلة النيوزويك الأمريكية حول أكثر شعوب العالم سعادة، حيث تربّع الشعب النيجيري الفقير ذو الأغلبية المسلمة على رأس القائمة التي تضم خمسا وستين دولة، وتلته شعوب كل من المكسيك، فنزويلا، سلفادور وبورتوريكو، بينما احتلّت الدول المتقدمة - أمام دهشة معدّي التقرير- مراكز متأخرة على سلم السعادة. ولكننا قد نقف طويلا أمام اعتراف معظم الأمريكيين المستجوبين في التقرير بأن السعادة لا تتعلق بالغنى والمال[9]، وهو ما يبدو مستغربا في مجتمع براغماتي قام في تأسيسه على أكثر أشكال الرأسمالية تطرفا. الأمر الذي دفع المجلة ذاتها فيما بعد لتقصي ظاهرة عودة الدين للانتشار في الولايات المتحدة[10]، لتدور التساؤلات من جديد حول السعي اللاهث للأمريكيين في البحث عن السعادة، عبر وصفات التأمل العابرة، والتي تؤخذ كجرعات لعلاج النفوس المتعبة.

أما التساؤل الذي لم يتجرأ أحدهم على طرحه فهو: ماذا عن العلاج المتكامل الذي يفي بحاجات كل من الروح والجسد والمجتمع عامة في تناسق تام ويهدي الإنسان إلى طريق السعادة الحقيقية في هذه الحياة، ثم يضمن له السعادة الأبدية في ما بعدها؟

هذا هو السؤال الذي ما زال الإنسان مصرّاً على التفلسف حوله، وبعيدا عن مصدره الأصيل. قال تعالى: "يا حسرة على العباد، ما يأتيهم من رسول إلا كانوا به يستهزئون" [يس: 30].

-----------------------------------------------------

[1] ابن الجوزي، تلبيس إبليس، السطور الأخيرة من الكتاب.

[2] الإمام الغزالي، الاقتصاد في الاعتقاد، دار غار حراء، دمشق، ص 9- 13، بتصرف.

[3] هذا التصنيف مأخوذ بتصرف عن كتاب منهج الحضارة الإسلامية في القرآن الكريم للدكتور محمد سعيد رمضان البوطي، فيرجى الرجوع إليه للاستزادة.

[4] يرى جمهور العلماء أن الإنسان مكرم حتى على الملائكة، انظر شرح العقائد النسفية ص 501

[5] قد يظن القارئ لفكر الوجودية للوهلة الأولى أنها كرّمت الإنسان بجعله محور الوجود، وبقصرها للحقيقة على الإنسان وحده، بل على الفرد بحد ذاته، ولكني أرى أن تطرف هذا الفكر عند سارتر وأتباعه قد أدى إلى النقيض، وذلك بانطلاق سارتر في فلسفته من منح الفرد حريته المطلقة، مما أدى به إلى الاعتراف بأن الوجود الإنساني ليس إلا مأساة، وأن حياته مجرد عبث تتصارع فيه الظروف القاسية مع الحرية التي لا تعترف بالقيود مما يؤدي إلى الصراع النفسي الذي عايشه كل الفلاسفة الوجوديين الأحرار وفاضت به آدابهم من أمثال سيمون دوبوفوار وأندريه جيد وفرانسواز ساغان، ولعل كتاب (الغثيان) لسارتر يغني عن الشرح.

[6] هذه المقولة للتابعي الجليل سفيان الثوري.

[7] الجاحظ، البيان والتبيين، 2/45

[8] لمزيد من التفصيل حول هذا الموضوع، انظر كتاب: منهج تربوي فريد في القرآن، د. محمد سعيد رمضان البوطي، مكتبة الفارابي، ط1، ص 61 وما بعدها.

[9] نيوزويك، الطبعة العربية، 3/8/2004 ، ص 58

[10] نيوزويك، الطبعة العربية، 6/9/2005

==============

#غير المسلمين في المجتمع المسلم

د. منقذ بن محمود السقار

مقدمة

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله ، وعلى آله وصحبه ومن والاه، وبعد:

فإن مما يشهد بالقيمة الحضارية والثقافية لأمة ما ، ما تحققه من مبادئ إنسانية زاهية، تتجاوز حدودها لتعم بإنسانيتها الآخرين ، ولو خالفوا في الدين والجنس واللغة.

وقد اصطفى الله نبينا r للرسالة، وجعله رحمة إلى الناس أجمعين ] وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين [ (الأنبياء: 107)، فكانت رسالة الإسلام أول رسالة عالمية، تجاوزت حدود الزمان والمكان واللغة والجنس ((وكان النبي يبعث إلى قومه خاصة، وبعثتُ إلى الناس عامة )).1

فرسالته r هي الرسالة التي جعلها الله خاتمة الرسالات المهيمنة عليها، ودعا الناس إلى الإيمان بها، لأنها الحق الذي ارتضاه الله للبشرية ديناً ] إن الدين عند الله الإسلام[ (آل عمران: 19) ]ومن يبتغ غير الإسلام ديناً فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين[ (آل عمران: 85).

لكن الله تبارك وتعالى شاء بمشيئته وحكمته أن يخلق الإنسان كائنا فريداً متميزاً بالاختيار، فقدر سبحانه أن ينقسم الناس إلى مؤمن مصدق ، وكافر جاحد ] هو الذي خلقكم فمنكم كافر ومنكم مؤمن والله بما تعملون بصير [ (التغابن: 2)، ولو شاء الله لألزم الإنسانية دينه فطرة وقهراً، فلا تملك في قبوله حولاً ولا طولاً، لكنه سبحانه وتعالى لم يشأ ذلك ]ولو شاء ربك لجعل الناس أمةً واحدةً ولا يزالون مختلفين # إلا من رحم ربك ولذلك خلقهم [ ( هود : 118– 119).

قال ابن كثير عن قول الله تبارك وتعالى ]ولا يزالون مختلفين # إلا من رحم ربك[: "أي: ولا يزال الخلف بين الناس في أديانهم واعتقادات مللهم ونحلهم ومذاهبهم وآرائهم ..".2

إذاً فاختلاف الناس في أديانهم قدر الله وسنته الماضية في خلقه ]وما أكثر الناس ولو حرصت بمؤمنين[ (يوسف: 103).

ولنا أن نتساءل عن مصير أولئك الذين آثروا إرث الأجداد على الهدي المستبان، وقالوا: ] إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مقتدون [، كيف يتعامل الإسلام مع هؤلاء؟ وكيف يحكم فيهم إذا سكنوا ربوعه وتفيؤوا ظلاله؟

وسنهدف للإجابة عن هذه الأسئلة في هذا البحث من خلال دراسة نصوص الكتاب والسنة، وتبصر معانيها بهدي العلماء، فقهاء الأمة، وتطبيقات سلفنا الكرام خلال قرون الإسلام الظافرة، والتي كانت في مجملها جواباً عملياً عن هذه الأسئلة، فكانت اجتهاداتهم المشكورة تجسيداً لنظام الإسلام العادل في التعامل مع غير المسلمين.

وما أحرانا اليوم ونحن ندعو الأمة المسلمة إلى الوحدة من جديد أن نبدد مخاوف الآخرين الذين يعيشون داخل العالم الإسلامي، فوحدتنا لن تؤدي إلى شيء مما يفرقونه ويحذرونه.

وهذه المخاوف نبددها باستدعاء التجربة التاريخية الفريدة التي عاشها أجدادهم ضمن المجتمع المسلم طوال قرون رغيدة، حفظت للأحفاد حتى اليوم وجودهم وكينونتهم داخل مجتمعنا وحضارتنا.

والموضوع الذي نحن بصدده رسالة نتقدم بها إلى أولئك الذين دأبوا على اتهام الإسلام بالانغلاق، ووصموه بما يكذبه التاريخ ولا تعشى عنه الأبصار.

إنه لمن العجب أن يوسم الإسلام بالصفة ونقيضها، فلئن اتهمه بعضهم بالعنف فإن آخرين عابوا عليه نزعته التسامحية ورأوها سبب أفول الدولة الإسلامية، يقول الكونت هنري دي كاستري في كتابه "الإسلام": "تطرف المسلمون في المحاسنة؛ لأنها سهلت العصيان للعصاة، ومهدت لبعض الأسر المستقلة في المغرب الخروج على الجماعة في بلاد الأندلس وبلاد المغرب، وانتهى الأمر – مع المحاسنة – إلى انحلال عناصر المملكة العربية، ومن المرجح أن المسلمين لو عاملوا الأندلسيين كما عامل المسيحيون الأمم السكسونية والواندية؛ لأخلدت إلى الإسلام واستقرت عليه".3

ولِم نستبق سطور البحث لنصل إلى نتيجته، لِم لا ندع التاريخ يقول كلمته المنصفة في دورتنا الحضارية الفذة التي قدمها المسلمون في تعاملهم مع الآخرين، مستلهمين أسسها وعظمتها من كتاب ربهم وسنة نبيهم r.

وتنتظم هذه الدراسة في تمهيد ومبحثين وخاتمة:

التمهيد: وفيه أعرّف بأنواع الكافرين في بلاد المسلمين والأحكام العامة لكل منهم.

المبحث الأول : وأذكر فيه حقوق غير المسلمين وضماناتهم في المجتمع المسلم، وأعرض لتطبيقات ذلك في التاريخ الإسلامي.

المبحث الثاني: وأتناول فيه مسألة الجزية في الإسلام، وأبين الحق في هذه الشرعة والمقصود منها.

الخاتمة : وألخص فيها أهم ما توصلت إليه الدراسة من نتائج.

وإذ أشكر الله على توفيقه فإني أنسب توفيق هذا العمل إلى أهله، فنشكر السادة العلماء ، وبخاصة أولئك الذين أفدت من كتبهم وأشرت إليها في قائمة المراجع، فقد كانت دراساتهم القيمة شمعة أضاءت لي الطريق، كما كانت الركن الركين الذي قامت على أساساته هذه الدراسة، فلهم مني الشكر والاعتراف بالجميل والسبق.

وأسأل الله أن يجعل هذا العمل خالصاً لوجهه الكريم، إنه ولي ذلك والقادر عليه، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.

د. منقذ بن محمود السقار

مكة المكرمة – صفر – 1427هـ

mongiz@maktoob.com

التمهيد

قبل الشروع في تبيان حكم الإسلام في غير المسلمين المقيمين في بلاد المسلمين أرى ضرورة التعريف بأنواعهم وتبيان الملامح الرئيسة والأحكام العامة لكل منهم.

الكفر: وصف يشمل كل من كذب الرسول عليه الصلاة والسلام، في شيء مما جاء به، أو صدقه وامتنع عن الدخول في الإسلام، يقول ابن تيمية: " الكفر يكون بتكذيب الرسول r فيما أخبر به، أو الامتناع عن متابعته مع العلم بصدقه، مثل كفر فرعون واليهود ونحوهم".4 فالمقصود به ما سوى المسلمين من أهل الملل والأديان.

والكفار تجاه المجتمع المسلم على أنواع: أولها الحربي، وهو المقيم في بلاد الكفر المحاربة للمسلمين، ولا تعلق له بمبحثنا إلا إذا دخل بلاد المسلمين بهدنة أو أمان، فلا يصير حينذاك حربياً، بل معاهداً أو مستأمناً. قال ابن القيم: "الكفار إما أهل حرب وإما أهل عهد؛ وأهل العهد ثلاثة أصناف: أهل ذمة، وأهل هدنة، وأهل أمان".5

والأصل في ألفاظ الأمان والعهد والذمة أنها ألفاظ عامة، تشمل المستأمنين والمعاهدين وغيرهم ممن هم في بلاد الإسلام بعقد ذمة أو هدنة أو أمان، فذمَّة المسلمين وعهودهم وأمانهم ثابتة لكل هذه الأصناف.

والأصل في معاملة هذه الأصناف جميعاً قوله تعالى : ]يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود [ (المائدة: 1).

ورغم ترادف ألفاظ الذمة والهدنة والأمان وغيرها؛ فإن الفقهاء فرقوا بينها من الناحية الاصطلاحية، فخصوا كل واحد منها بنوع.

فأهل الذمة هم المقيمون تحت ذمَّة المسلمين بدفع الجزيَّة حصراً، قال ابن القيم: "ولفظ الذمة والعهد يتناول هؤلاء [أهل الذمة وأهل الهدنة وأهل الأمان] كلهم في الأصل , وكذلك لفظ الصلح ، فإن الذمة من جنس لفظ العهد والعقد.

وقولهم: هذا في ذمة فلان، أصله من هذا، أي: في عهده وعقده .. ولكن صار في اصطلاح كثير من الفقهاء أهل الذمة عبارة عمن يؤدي الجزية ، وهؤلاء لهم ذمة مؤبدة، وهؤلاء قد عاهدوا المسلمين على أن يجري عليهم حكم الله ورسوله، إذ هم مقيمون في الدار التي يجري فيها حكم الله ورسوله".6 ومقصوده رحمه الله بجريان أحكام الإسلام أي العامة منها، وإلا فإنه لا يعرض لهم في خاصة أمورهم وما تعلق بدينهم من شرائع.

قال سليمان البجيرمي: " ذمة المسلمين أي عهدهم وأمانهم وحرمتهم".7

وأما أهل العهد من غير المسلمين فهم الذين صالحهم الإمام أو هادنهم، قال ابن القيم: "أهل الهدنة فإنهم صالحوا المسلمين على أن يكونوا في دارهم، سواء كان الصلح على مال أو غير مال، لا تجري عليهم أحكام الإسلام كما تجري على أهل الذمة، ولكن عليهم الكف عن محاربة المسلمين، وهؤلاء يسمون أهل العهد وأهل الصلح وأهل الهدنة".8

وأما المستأمن فهو من أهل بلاد الحرب يدخل بلاد المسلمين بأمان لغرض ما ، لا على وجه الديمومة، قال النووي: "المستأمن هو الحربي الذي دخل دار الإسلام بأمان".9

وفصّل ابن القيم فقال: "وأما المستأمن فهو الذي يقدم بلاد المسلمين من غير استيطان لها، وهؤلاء أقسام: رسل وتجار ومستجيرون، وحكم هؤلاء ألا يهاجروا ولا يقتلوا، ولا تؤخذ منهم الجزية".10

والأصل في الأمان أن يكون من الوالي، ولو أعطاه أحد المسلمين ثبت له ، فقد أجارت زينب بنت النبي e أبا العاص بن الربيع , فأمضاه عليه الصلاة والسلام.11

كما أمضى r جوار أم هانىء لأحمائها، فقال لها: ((قد أجرنا من أجرتِ يا أم هانىء, إنما يجير على المسلمين أدناهم)). 12

وعليه فأي مسلم أمّن حربياً دخل بلاد المسلمين ثبت أمانه - كائناً من كان - ، لأن ((ذمة المسلمين واحدة, يسعى بها أدناهم, فمن أخفر مسلماً فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين , لا يُقبل منهم صرف ولا عدل)).13

ويلحق بالمستأمن من كان له شبهة عهد أو ادعاه، قال محمد بن الحسن الشيباني: "لو خرج من دار الحرب كافر مع مسلم، فادعى المسلم أسره، وادعى الآخر الامان؛ فالقول قول الحربي".14

وبمثله لو ادعى أنه رسول، قال ابن قدامة : "إذا دخل حربي دار الإسلام بغير أمان , وادعى أنه رسول قُبِل منه, ولم يجز التعرض له؛ لقول النبي e لرسولي مسيلمة : (( لولا أن الرسل لا تقتل لقتلتكما))".15 وذلك أن العادة جارية بذلك.

وكل ما يشتبه على الحربي أنه أمان؛ يصير أماناً له، قال ابن قدامة: "وإن أشار إليه [مسلم] بالأمان فهو آمن .. وإن قال له: قف أو قم أو ألق سلاحك فقال أصحابنا: هو أمان؛ لأن الكافر يعتقده أماناً، فأشبه قوله: لا تخف".16

وممن يأمن بأمان المسلمين في بلادهم؛ التجار. قال أحمد: " إذا ركب القوم في البحر فاستقبلهم فيه تجار مشركون من أرض العدو يريدون بلاد الإسلام لم يعرضوا لهم ولم يقاتلوهم، وكل من دخل بلاد المسلمين من أهل الحرب بتجارة بويع، ولم يسأل عن شيء".17

وهكذا فالكافر إذا دخل بلاد المسلمين بعهد أو امان، أو أقام بينهم؛ فهو في ذمة المسلمين وعهدهم، والله يقول: ]وأوفوا بالعهد إن العهد كان مسئولاً[ (الإسراء: 34).

المبحث الأول: حقوق غير المسلمين في المجتمع المسلم

تمتع غير المسلمين - المقيمون في بلاد المسلمين – بسلسلة من الضمانات التي منحها لهم المجتمع المسلم بهدي من كتاب الله وسنة رسوله r.

ولسوف نعرض لأهم هذه الضمانات، ونوثقها بشهادة التاريخ ونصوص الفقهاء، حراس الشريعة، ورثة النبي r.

ومن هذه الضمانات:

أولاً : ضمان حرية المعتقد

يعتقد المسلمون أن دينهم هو الحق المبين، وأن ما عداه إنما هي ديانات حُرفت ونُسخت بالإسلام أو ضلالات وقع فيها البشر جهلاً منهم بحقيقة الدين والمعتقد.

وقد عمل المسلمون على استمالة الأمم والشعوب التي اختلطوا بها إلى الإسلام، وذلك بما آتاهم الله من حجة ظاهرة وخلق قويم ودين ميسر تقبله الفطر ولا تستغلق عن فهم مبادئه العقول.

ولم يعمد المسلمون طوال تاريخهم الحضاري العظيم إلى إجبار الشعوب أو الأفراد الذين تحت ولايتهم، وذلك تطبيقاً لمجموعة من المبادئ الإسلامية التي رسخت فيهم هذا السلوك:

أً. حتمية الخلاف وطبيعته

إن التعدّد في المخلوقات وتنوّعها سنة الله في الكون وناموسه الثابت، فطبيعة الوجود في الكون أساسها التّنوّع والتّعدّد.

والإنسانية خلقها الله وفق هذه السنة الكونية، فاختلف البشر إلى أجناس مختلفة وطبائع شتى، وكلّ من تجاهل وتجاوز أو رفض هذه السُّنة الماضية لله في خلقه، فقد ناقض الفطرة وأنكر المحسوس.

واختلاف البشر في شرائعهم هو أيضاً واقع بمشيئة الله تعالى ومرتبط بحكمته، يقول الله: ]لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجاً ولو شاء الله لجعلكم أمة واحدة ولكن ليبلوكم فيما آتاكم فاستبقوا الخيرات إلى الله مرجعكم جميعاً[ (المائدة: 48).

قال ابن كثير : "هذا إخبار عن الأمم المختلفة الأديان باعتبار ما بعث اللّه به رسله الكرام من الشرائع المختلفة في الأحكام المتفقة في التوحيد ".18

وقال تعالى: ]ولو شاء ربك لجعل الناس أمةً واحدةً ولا يزالون مختلفين # إلا من رحم ربك ولذلك خلقهم [ ( هود : 118– 119).

قال ابن حزم: "وقد نص تعالى على أن الاختلاف ليس من عنده، ومعنى ذلك أنه تعالى لم يرض به، وإنما أراده تعالى إرادة كونٍ، كما أراد الكفر وسائر المعاصي".19

وقال ابن كثيرعن قول الله ]ولا يزالون مختلفين # إلا من رحم ربك[ : "أي: ولا يزال الخلف بين الناس في أديانهم واعتقادات مللهم ونحلهم ومذاهبهم وآرائهم .. قال الحسن البصري: الناس مختلفون على أديان شتى إلا من رحم ربك، فمن رحم ربك غير مختلف".20

ولما كان الاختلاف والتّعدّد آية من آيات الله، فإنّ الذي يسعى لإلغاء هذا التّعدّد كلية، فإنما يروم محالاً ويطلب ممتنعاً، لذا كان لابد من الاعتراف بالاختلاف.

ب. مهمة المسلمين الدعوة إلى الله لا أسلمة الناس

أدرك المسلمون أن هداية الجميع من المحال، وأن أكثر الناس لا يؤمنون، وأن واجب الدعاة الدأب في دعوتهم وطلب أسباب هدايتهم. فإنما مهمتهم هي البلاغ فحسب، والله يتولى حساب المعرضين في الآخرة، قال الله مخاطباً نبيه r: ] فإن تولوا فإنما عليك البلاغ[ (النحل: 82). وقال تعالى: ]فإن أسلموا فقد اهتدوا وإن تولوا فإنما عليك البلاغ والله بصيرٌ بالعباد[ (آل عمران: 20).

قال القرطبي: " فإن تولوا أي أعرضوا عن النظر والاستدلال والإيمان؛ فإنما عليك البلاغ، أي ليس عليك إلا التبليغ، وأما الهداية فإلينا".21

قال الشوكاني في سياق شرحه لقول الله تعالى: ] فإنما عليك البلاغ وعلينا الحساب[ (الرعد: 40): " أي: فليس عليك إلا تبليغ أحكام الرسالة، ولا يلزمك حصول الإجابة منهم، لما بلّغته إليهم، ]وعلينا الحساب[ أي: محاسبتهم بأعمالهم ومجازاتهم عليها، وليس ذلك عليك".22

وقال تعالى: ]فذكر إنما أنت مذكر # لست عليهم بمسيطر[ (الغاشية: 21-22).

ولذلك فإن المسلم لا يشعر بحالة الصراع مع شخص ذلك الذي تنكب الهداية وأعرض عن أسبابها، فإنما حسابه على الله في يوم القيامة ، فقد قال الله تعالى لنبيه r : ]ليس عليك هداهم ولكن الله يهدي من يشاء [ (البقرة: 272). وقال له وللأمة من بعده: ]فلذلك فادع واستقم كما أمرت ولا تتبع أهواءهم وقل آمنت بما أنزل الله من كتاب وأمرت لأعدل بينكم الله ربنا وربكم لنا أعمالنا ولكم أعمالكم لا حجة بيننا وبينكم الله يجمع بيننا وإليه المصير[ (الشورى: 15).

ج. التكريم الإلهي للإنسان، ومبدأ عدم الإكراه على الدين

خلق الله آدم عليه السلام، وأسجد له ملائكته ] وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس قال أأسجد لمن خلقت طيناً [ (الإسراء: 61)، وندبه وذريته من بعده إلى عمارة الأرض بمنهج الله: ] إني جاعل في الأرض خليفة[ (البقرة: 30).

ووفق هذه الغاية كرم الله الجنس البشري على سائر مخلوقات الله ] ولقد كرمنا بني آدم وحملناهم في البر والبحر ورزقناهم من الطيبات وفضلناهم على كثيرٍ ممن خلقنا تفضيلاً [ (الإسراء: 70).

وأكد نبينا r وصحبه احترام النفس الإنسانية ، ففي الخبر أن سهل بن حنيف وقيس بن سعد كانا قاعدين بالقادسية، فمروا عليهما بجنازة فقاما، فقيل لهما: إنها من أهل الأرض، أي من أهل الذمة فقالا: إن النبي r مرت به جنازة فقام. فقيل له: إنها جنازة يهودي؟! فقال: ((أليست نفساً)).23

ومن تكريم الله للجنس البشري ما وهبه من العقل الذي يميز به بين الحق والباطل }وهديناه النجدين { (البلد: 10) ، وبموجبه وهبه الحرية والإرادة الحرة لاختيار ما يشاء} إنا هديناه السبيل إما شاكراً وإما كفوراً { (الإنسان: 3)} ولو شاء ربك لآمن من في الأرض كلهم جميعاً أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين { (يونس: 99).

وعليه فالإنسان يختار ما يشاء من المعتقد} لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي{ (البقرة: 256) ، والله يتولى في الآخرة حسابه } وقل الحق من ربكم فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر إنا أعتدنا للظالمين ناراً أحاط بهم سرادقها{ (الكهف: 29).

قال ابن كثير : "أي لا تُكرِهوا أحدًا على الدخول في دين الإسلام، فإنه بَيِّن واضح، جلي دلائله وبراهينه، لا يحتاج إلى أن يكره أحد على الدخول فيه، بل من هداه الله للإسلام وشرح صدره ونور بصيرته؛ دخل فيه على بينة، ومن أعمى الله قلبه وختم على سمعه وبصره؛ فإنه لا يفيده الدخول في الدين مكرهاً مقسوراً".24

و يقول تعالى: }قل الله أعبد مخلصاً له ديني # فاعبدوا ما شئتم من دونه قل إن الخاسرين الذين خسروا أنفسهم و أهليهم يوم القيامة ألا ذلك هو الخسران المبين{ (الزمر: 14- 15)، ويقول: ]وإن جادلوك فقل الله أعلم بما تعملون # الله يحكم بينكم يوم القيامة فيما كنتم فيه تختلفون[ (الحج: 68-69).

وقد امتثل سلفنا هدي الله، فلم يلزموا أحداً بالإسلام إكراهاً، ومن ذلك أن عمر بن الخطاب قال لعجوز نصرانية: أسلمي تسلمي، إن الله بعث محمداً بالحق قالت: أنا عجوز كبيرة، والموت أقرب إليّ! فقال عمر: اللهم اشهد، وتلا: ] لا إكراه في الدين[ (البقرة: 256).25

والإيمان ابتداء هو عمل قلبي، فليس بمؤمن من لم ينطو قلبه على الإيمان، ولو نطق به كرهاً فإنه لا يغير في حقيقة قائله ولا حكمه، وعليه فالمكره على الإسلام لا يصح إسلامه، ولا تلزمه أحكامه في الدنيا، ولا ينفعه في الآخرة.

قال الإمام محمد بن الحسن الشيباني تلميذ أبي حنيفة: "لم ينقل عن النبي r ولا عن أحد من خلفائه؛ أنه أجبر أحداً من أهل الذمة على الإسلام ... وإذا أكره على الإسلام من لا يجوز إكراهه كالذمي والمستأمن فأسلم؛ لم يثبت له حكم الإسلام حتى يوجد منه ما يدل على إسلامه طوعاً؛ مثل أن يثبت على الإسلام بعد زوال الإكراه عنه، وإن مات قبل ذلك فحكمه حكم الكفار، وإن رجع إلى دين الكفر لم يجز قتله ولا إكراهه على الإسلام .. ولنا أنه أكره على ما لا يجوز إكراهه عليه، فلم يثبت حكمه في حقه، كالمسلم إذا أكره على الكفر والدليل على تحريم الإكراه قول الله تعالى : ] لا إكراه في الدين [ (البقرة: 256)".26

وبمثله قال الفقيه الحنبلي ابن قدامة: "وإذا أكره على الإسلام من لا يجوز إكراهه كالذمي والمستأمن فأسلم؛ لم يثبت له حكم الإسلام حتى يوجد منه ما يدل على إسلامه طوعاً".27

وهذا ما حصل بالفعل زمن الحاكم بأمر الله الذي يصفه ترتون بالخبل والجنون، وقد كان من خبله أن أكره كثيرين من أهل الذمة على الإسلام، فسمح لهم الخليفة الظاهر بالعودة إلى دينهم، فارتد منهم كثير سنة 418هـ. 28

ولما أُجبر على التظاهر بالإسلام موسى بن ميمون فر إلى مصر، وعاد إلى دينه، ولم يعتبره القاضي عبد الرحمن البيساني مرتداً، بل قال: "رجل يكره على الإسلام، لا يصح إسلامه شرعاً"، وعلق عليها الدكتور ترتون بقوله: "وهذه عبارة تنطوي على التسامح الجميل".29

لقد فقه المسلمون هذا ووعوه، فتركوا لرعاياهم من غير المسلمين حرية الاعتقاد وممارسة الشعائر التعبدية، ولم يأمروا أحداً باعتناق الإسلام قسراً وكرهاً.

ثانياً: حرية ممارسة العبادة وضمان سلامة دورها

وإذا لم يجبر الإسلام من تحت ولايته على الدخول فيه؛ فإنه يكون بذلك قد ترك الناس على أديانهم، وأول مقتضياته الإعراض عن ممارسة الآخرين لعباداتهم، وضمان سلامة دور العبادة.

وهذا – بالفعل - ما ضمنه المسلمون في عهودهم التي أعطوها للأمم التي دخلت في ولايتهم أو عهدهم، فقد كتب النبي r لأهل نجران أماناً شمل سلامة كنائسهم وعدم التدخل في شؤونهم وعباداتهم ، وأعطاهم على ذلك ذمة الله ورسوله، يقول ابن سعد: "وكتب رسول الله e لأسقف بني الحارث بن كعب وأساقفة نجران وكهنتهم ومن تبعهم ورهبانهم: أن لهم ما تحت أيديهم من قليل وكثير، من بيعهم وصلواتهم ورهبانهم، وجوار الله ورسوله، لا يغير أسقف عن أسقفيته، ولا راهب عن رهبانيته، ولا كاهن عن كهانته". 30

ووفق هذا الهدي السمح سار الخلفاء الراشدون من بعده r ، فقد ضمن الخليفة عمر بن الخطاب نحوه في العهدة العمرية التي كتبها لأهل القدس، وفيها: "بسم الله الرحمن الرحيم ؛ هذا ما أعطى عبد الله عمر أمير المؤمنين أهل إيلياء من الأمان ، أعطاهم أماناً لأنفسهم وأموالهم ، ولكنائسهم وصلبانهم وسقيمها وبريئها وسائر ملتها، أن لا تُسكن كنائسهم، ولا تُهدم، ولا يُنتقص منها ولا من حيزها ، ولا من صليبهم، ولا من شيء من أموالهم .

ولا يكرهون على دينهم، ولا يُضار أحد منهم .. وعلى ما في هذا الكتاب عهد الله وذمة رسوله وذمة الخلفاء وذمة المؤمنين ".31

وبمثله كتب عمر لأهل اللُد.32

وبمثله أيضاً كتب عياض بن غنم t لأهل الرقة، ولأسقف الرها.33

وقد خاف عمر من انتقاض عهده من بعده فلم يصل في كنيسة القمامة34 حين أتاها وجلس في صحنها، فلما حان وقت الصلاة قال للبترك: أريد الصلاة. فقال له البترك: صل موضعك. فامتنع عمر t وصلى على الدرجة التي على باب الكنيسة منفرداً، فلما قضى صلاته قال للبترك: (لو صليتُ داخل الكنيسة أخذها المسلمون بعدي، وقالوا: هنا صلى عمر).

وكتب لهم أن لا يجمع على الدرجة للصلاة، ولا يؤذن عليها، ثم قال للبترك: أرني موضعاً أبني فيه مسجداً فقال: على الصخرة التي كلم الله عليها يعقوب، ووجد عليها دماً كثيراً، فشرع في إزالته".35

وحين فتح خالد بن الوليد دمشق كتب لأهلها : "بسم الله الرحمن الرحيم ، هذا ما أعطى خالد بن الوليد أهل دمشق إذا دخلها أماناً على أنفسهم وأموالهم وكنائسهم وسور مدينتهم لا يهدم، ولا يسكن شيء من دورهم ، لهم بذلك عهد الله وذمة رسول الله e والخلفاء والمؤمنين".36

وتضمن كتابه t لأهل عانات عدم التعرض لهم في ممارسة شعائرهم وإظهارها: "ولهم أن يضربوا نواقيسهم في أي ساعة شاءوا من ليل أو نهار، إلا في أوقات الصلاة، وأن يخرجوا الصلبان في أيام عيدهم".37

وكتب عمر بن عبد العزيز إلى عماله: "لا تهدموا كنيسة ولا بيعة ولا بيت نار".38

قال أبو الوليد الباجي: " إن أهل الذمة يقرون على دينهم ويكونون من دينهم على ما كانوا عليه، لا يمنعون من شيءٍ منه في باطن أمرهم، وإنما يمنعون من إظهاره في المحافل والأسواق".39

وقال الفقهاء المسلمون بتأمين المسلمين لحقوق رعاياهم في العبادة، فقرروا أنه "يحرم إحضار يهودي في سبته، وتحريمه باق بالنسبة إليه، فيستثنى شرعاً من عمل في إجازة، لحديث النسائي والترمذي وصححه: ((وأنتم يهود عليكم خاصة ألا تعدوا في السبت)).40

ويمتد أمان الذمي على ماله ، ولو كان خمراً أو خنزيراً ، وينقل الطحاوي إجماع المسلمين على حرية أهل الذمة في أكل الخنازير والخمر وغيره مما يحل في دينهم، فيقول: "وأجمعوا على أنه ليس للإمام منع أهل الذمة من شرب الخمر وأكل لحم الخنازير واتخاذ المساكن التي صالحوا عليها، إذا كان مِصراً ليس فيه أهل إسلام (أي في بلادهم التي هم فيها الكثرة)".41

قال مالك: "إذا زنى أهل الذمة أو شربوا الخمر فلا يعرض لهم الإمام؛ إلا أن يظهروا ذلك في ديار المسلمين ويدخلوا عليهم الضرر؛ فيمنعهم السلطان من الإضرار بالمسلمين".42

وحين أخل بعض حكام المسلمين بهذه العهود اعتبر المسلمون ذلك ظلماً، وأمر أئمة العدل بإزالته وإبطاله، ومنه أن الوليد بن عبد الملك لما أخذ كنيسة يوحنا من النصارى قهراً، وأدخلها في المسجد، اعتبر المسلمون ذلك من الغصب، فلما ولي عمر بن عبد العزيز شكا إليه النصارى ذلك، فكتب إلى عامله يأمره برد ما زاد في المسجد عليهم، فاسترضاهم المسلمون، وصالحوهم، فرضوا.43

كما شكا النصارى إلى عمر بن عبد العزيز في شأن كنيسة أخرى في دمشق كان بعض أمراء بني أمية أقطعها لبني نصر، فردها إليهم.44

ومن أمارات تسامح المسلمين مع غيرهم أنهم لم يتدخلوا في الشؤون التفصيلية لهم ، ولم يجبروهم على التحاكم أمام المسلمين وإن طلبوا منهم الانصياع للأحكام العامة للشريعة المتعلقة بسلامة المجتمع وأمنه.

وينقل العيني عن الزهري قوله: "مضت السنة أن يرد أهل الذمة في حقوقهم ومعاملاتهم ومواريثهم إلى أهل دينهم؛ إلا أن يأتوا راغبين في حكمنا، فنحكم بينهم بكتاب الله تعالى".45

كما ينقل عن ابن القاسم: " إن تحاكم أهل الذمة إلى حاكم المسلمين ورضي الخصمان به جميعاً؛ فلا يحكم بينهما إلا برضا من أساقفهما، فإن كره ذلك أساقفهم فلا يحكم بينهم، وكذلك إن رضي الأساقفة ولم يرض الخصمان أو أحدهما لم يحكم بينهما".46

وقد بين المرداوي المراد من التزام الأحكام الإسلامية فقال: "لا يجوز عقد الذمة إلا بشرطين : بذل الجزية والتزام أحكام الملة من جريان أحكام المسلمين عليهم .. يلزم أن يأخذوهم بأحكام المسلمين في ضمان النفس والمال والعرض وإقامة الحدود عليهم فيما يعتقدون تحريمه".47

شهادات المؤرخين الغربيين على سماحة المسلمين مع غيرهم

وإن خير شاهد على التزام المسلمين بهذه المبادئ، تلك الشهادات التاريخية المتتابعة التي سجلها مؤرخو الغرب والشرق عن تسامي المسلمين عن إجبار أحد - ممن تحت سلطانهم – في الدخول في الإسلام.

يقول ول ديورانت: "لقد كان أهل الذمة، المسيحيون والزرادشتيون واليهود والصابئون يستمتعون في عهد الخلافة الأموية بدرجة من التسامح، لا نجد لها نظيراً في البلاد المسيحية في هذه الأيام، فلقد كانوا أحراراً في ممارسة شعائر دينهم، واحتفظوا بكنائسهم ومعابدهم". 48

ويقول: "وكان اليهود في بلاد الشرق الأدنى قد رحبوا بالعرب الذين حرروهم من ظلم حكامهم السابقين .. وأصبحوا يتمتعون بكامل الحرية في حياتهم وممارسة شعائر دينهم .. وكان المسيحيون أحراراً في الاحتفال بأعيادهم علناً، والحجاج المسيحيون يأتون أفواجاً آمنين لزيارة الأضرحة المسيحية في فلسطين .. وأصبح المسيحيون الخارجون على كنيسة الدولة البيزنطية، الذين كانوا يلقون صوراً من الاضطهاد على يد بطاركة القسطنطينية وأورشليم والاسكندرية وإنطاكيا، أصبح هؤلاء الآن أحراراً آمنين تحت حكم المسلمين".49

يقول توماس آرنولد : "لم نسمع عن أية محاولة مدبرة لإرغام غير المسلمين على قبول الإسلام أو عن أي اضطهاد منظم قصد منه استئصال الدين المسيحي".50

وينقل معرب "حضارة العرب" قول روبرتسن في كتابه "تاريخ شارلكن": "إن المسلمين وحدهم الذين جمعوا بين الغيرة لدينهم وروح التسامح نحو أتباع الأديان الأخرى، وإنهم مع امتشاقهم الحسام نشراً لدينهم، تركوا مَن لم يرغبوا فيه أحراراً في التمسك بتعاليمهم الدينية".

وينقل أيضاً عن الراهب ميشود في كتابه "رحلة دينية في الشرق" (ص 29) قوله: "ومن المؤسف أن تقتبس الشعوب النصرانية من المسلمين التسامح ، الذي هو آية الإحسان بين الأمم واحترام عقائد الآخرين وعدم فرض أي معتقد عليهم بالقوة". 51

وينقل ترتون في كتابه "أهل الذمة في الإسلام" شهادة البطريك " عيشو يابه " الذي تولى منصب البابوية حتى عام 657م:" إن العرب الذين مكنهم الرب من السيطرة على العالم يعاملوننا كما تعرفون. إنهم ليسوا بأعداء للنصرانية ، بل يمتدحون ملتنا ، ويوقرون قديسينا وقسسنا، ويمدون يد العون إلى كنائسنا وأديرتنا ".52

ويقول المفكر الأسباني بلاسكوا أبانيز في كتابه "ظلال الكنيسة" (ص 64) متحدثاً عن الفتح الإسلامي للأندلس: "لقد أحسنت أسبانيا استقبال أولئك الرجال الذين قدموا إليها من القارة الإفريقية، وأسلمتهم القرى أزمتها بغير مقاومة ولا عداء، فما هو إلا أن تقترب كوكبة من فرسان العرب من إحدى القرى؛ حتى تفتح لها الأبواب وتتلقاها بالترحاب .. كانت غزوة تمدين، ولم تكن غزوة فتح وقهر .. ولم يتخل أبناء تلك الحضارة زمناً عن فضيلة حرية الضمير، وهي الدعامة التي تقوم عليها كل عظمة حقة للشعوب، فقبلوا في المدن التي ملكوها كنائس النصارى وبيع اليهود، ولم يخشَ المسجد معابد الأديان التي سبقته، فعرف لها حقها، واستقر إلى جانبها، غير حاسد لها، ولا راغب في السيادة عليها".53

ويقول المؤرخ الإنجليزي السير توماس أرنولد في كتابه "الدعوة إلى الإسلام": " لقد عامل المسلمون الظافرون العرب المسيحيين بتسامح عظيم منذ القرن الأول للهجرة ، واستمر هذا التسامح في القرون المتعاقبة ، ونستطيع أن نحكم بحق أن القبائل المسيحية التي اعتنقت الإسلام قد اعتنقته عن اختيار وإرادة حرة ، وإن العرب المسيحيين الذين يعيشون في وقتنا هذا بين جماعات المسلمين لشاهد على هذا التسامح ". 54

وتقول المستشرقة الألمانية زيغريد هونكه : " العرب لم يفرضوا على الشعوب المغلوبة الدخول في الإسلام، فالمسيحيون والزرادشتية واليهود الذين لاقوا قبل الإسلام أبشع أمثلة للتعصب الديني وأفظعها؛ سمح لهم جميعاً دون أي عائق يمنعهم بممارسة شعائر دينهم، وترك المسلمون لهم بيوت عبادتهم وأديرتهم وكهنتهم وأحبارهم دون أن يمسوهم بأدنى أذى، أو ليس هذا منتهى التسامح؟ أين روى التاريخ مثل تلك الأعمال؟ ومتى؟".55

يقول المؤرخ الإسباني أولاغي: "فخلال النصف الأول من القرن التاسع كانت أقلية مسيحية مهمة تعيش في قرطبة وتمارس عبادتها بحرية كاملة".

يقول القس إيِلُوج : "نعيش بينهم دون أنْ نتعرض إلى أيّ مضايقات، في ما يتعلق بمعتقدنا". 56

بل ينقل المؤرخون الغربيون باستغراب بعض الحوادث الغريبة المشينة في تاريخنا، وهي على كل حال تنقض ما يزعمه الزاعمون المفترون على الإسلام، تقول المؤرخة زيغرد: "لقد عسّر المنتصرون على الشعوب المغلوبة دخول الإسلام حتى لا يقللوا من دخلهم من الضرائب التي كان يدفعها من لم يدخل في الإسلام".57

ويقول ول ديورانت في سياق حديثه عن الخليفة عمر بن عبد العزيز: " وبينما كان أسلافه من خلفاء الأمويين لا يشجعون غير المسلمين في بلاد الدولة على اعتناق الإسلام، حتى لا تقل الضرائب المفروضة عليهم، فإن عمر قد شجع المسيحيين، واليهود، والزرادشتيين على اعتناقه، ولما شكا إليه عماله القائمون على شؤون المال من هذه السياسة ستفقر بيت المال أجابهم بقولهِ: (والله لوددت أن الناس كلهم أسلموا، حتى نكون أنا وأنت حراثين نأكل من كسب أيدينا)".58

ويبين لنا توماس أرنولد أن خراج مصر كان على عهد عثمان اثنا عشر مليون دينار، فنقص على عهد معاوية حتى بلغ خمسة ملايين، ومثله كان في خراسان، فلم يسقط بعض الأمراء الجزية عمن أسلم من أهل الذمة، ولهذا السبب عزل عمر بن عبد العزيز واليه على خراسان الجراح بن عبد الله الحكمي ، وكتب: "إن الله بعث محمداً هادياً ولم يبعثه جابياً".59

إذا كان الحال كما عرفنا، فما السر في تقبل الشعوب للإسلام وإقبالها عليه؟

وينقل الخربوطلي عن المستشرق دوزي في كتابه "نظرات في تاريخ الإسلام" قوله: "إن تسامح ومعاملة المسلمين الطيبة لأهل الذمة أدى إلى إقبالهم على الإسلام وأنهم رأوا فيه اليسر والبساطة مما لم يألفوه في دياناتهم السابقة ".60

ويقول غوستاف لوبون في كتابه "حضارة العرب" : " إن القوة لم تكن عاملاً في انتشار القرآن ، فقد ترك العرب المغلوبين أحراراً في أديانهم .. فإذا حدث أن انتحل بعض الشعوب النصرانية الإسلام واتخذ العربية لغة له؛ فذلك لما كان يتصف به العرب الغالبون من ضروب العدل الذي لم يكن للناس عهد بمثله، ولما كان عليه الإسلام من السهولة التي لم تعرفها الأديان الأخرى".61

ويقول: "وما جهله المؤرخون من حلم العرب الفاتحين وتسامحهم كان من الأسباب السريعة في اتساع فتوحاتهم وفي سهولة اقتناع كثير من الأمم بدينهم ولغتهم .. والحق أن الأمم لم تعرف فاتحين رحماء متسامحين مثل العرب ، ولا ديناً سمحاً مثل دينهم ".62

ويوافقه المؤرخ ول ديورانت فيقول: "وعلى الرغم من خطة التسامح الديني التي كان ينتهجها المسلمون الأولون، أو بسبب هذه الخطة اعتنق الدين الجديدَ معظمُ المسيحيين وجميع الزرادشتيين والوثنيين إلا عدداً قليلاً منهم .. واستحوذ الدين الإسلامي على قلوب مئات الشعوب في البلدان الممتدة من الصين وأندنوسيا إلى مراكش والأندلس، وتملك خيالهم، وسيطر على أخلاقهم، وصاغ حياتهم، وبعث آمالاً تخفف عنهم بؤس الحياة ومتاعبها".63

ويقول روبرتسون في كتابه "تاريخ شارلكن": "لكنا لا نعلم للإسلام مجمعاً دينياً، ولا رسلاً وراء الجيوش، ولا رهبنة بعد الفتح، فلم يُكره أحد عليه بالسيف ولا باللسان، بل دخل القلوب عن شوق واختيار، وكان نتيجة ما أودع في القرآن من مواهب التأثير والأخذ بالأسباب ".64

ويقول آدم متز: "ولما كان الشرع الإسلامي خاصاً بالمسلمين، فقد خلَّت الدولة الإسلامية بين أهل الملل الأخرى وبين محاكمهم الخاصة بهم، والذي نعلمه من أمر هذه المحاكم أنها كانت محاكم كنسية، وكان رؤساء المحاكم الروحيون يقومون فيها مقام كبار القضاة أيضاً، وقد كتبوا كثيراً من كتب القانون، ولم تقتصر أحكامهم على مسائل الزواج، بل كانت تشمل إلى جانب ذلك مسائل الميراث وأكثر المنازعات التي تخص المسيحيين وحدهم مما لا شأن للدولة به".65

ويقول أيضاً: "أما في الأندلس، فعندنا من مصدر جدير بالثقة أن النصارى كانوا يفصلون في خصوماتهم بأنفسهم، وأنهم لم يكونوا يلجؤون للقاضي إلا في مسائل القتل".66

لكن الخربوطلي ينقل عن الدكتور فيليب في كتابه "تاريخ العرب" حديثه عن رغبة أهل الذمة في التحاكم إلى التشريع الإسلامي، واستئذانهم للسلطات الدينية في أن تكون مواريثهم حسب ما قرره الإسلام.67

ثالثاً : حسن العشرة والمعاملة الحسنة

أمر الله في القرآن الكريم المسلمين ببر مخالفيهم في الدين، الذين لم يتعرضوا لهم بالأذى والقتال، فقال: ]لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم إن الله يحب المقسطين[ (الممتحنة: 8).

قال الطبري: "عنى بذلك لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين من جميع أصناف الملل والأديان أن تبروهم وتصلوهم وتقسطوا إليهم .. وقوله: } إن الله يحب المقسطين { يقول : إن الله يحب المنصفين الذين ينصفون الناس ويعطونهم الحق والعدل من أنفسهم، فيبرون من برهم، ويحسنون إلى من أحسن إليهم".68

والبر أعلى أنواع المعاملة ، فقد أمر الله به في باب التعامل مع الوالدين ، وقد وضحه رسول الله e بقوله : (( البر حسن الخلق )).69

قال القرافي وهو يعدد صوراً للبر أمر بها المسلم تجاه أهل الذمة: " ولين القول على سبيل اللطف لهم والرحمة، لا على سبيل الخوف والذلة، واحتمال إذايتهم في الجوار مع القدرة على إزالته، لطفاً منا بهم، لا خوفاً وتعظيماً ، والدعاء لهم بالهداية، وأن يجعلوا من أهل السعادة، نصيحتهم في جميع أمور دينهم، وحفظ غيبتهم إذا تعرض أحد لأذيتهم .. وكل خير يحسُن من الأعلى مع الأسفل أن يفعله، ومن العدو أن يفعله مع عدوه، فإن ذلك من مكارم الأخلاق .. نعاملهم – بعد ذلك بما تقدم ذكره - امتثالاً لأمر ربنا عز وجل وأمر نبينا r".70

وقد تجلى حسن الخلق عند المسلمين في تعاملهم مع غيرهم في كثير من تشريعات الإسلام التي أبدعت الكثير من المواقف الفياضة بمشاعر الإنسانية والرفق.

فقد أوجب الإسلام حسن العشرة وصلة الرحم حتى مع الاختلاف في الدين ، فقد أمر الله بحسن الصحبة للوالدين وإن جهدا في رد ابنهما عن التوحيد إلى الشرك، فإن ذلك لا يقطع حقهما في بره وحسن صحبته: ]وإن جاهداك على أن تشرك بي ما ليس لك به علم فلا تطعهما وصاحبهما في الدنيا معروفاً[ (لقمان: 15).

قال ابن كثير: " إن حرصا عليك كل الحرص، على أن تتابعهما على دينهما؛ فلا تقبل منهما ذلك، ولا يمنعك ذلك أن تصاحبهما في الدنيا ]معروفاً[ أي محسناً إليهما".71

وقد جاءت أسماء بنت الصديق إلى رسول الله r تقول: يا رسول الله ، قدمت عليّ أُمّي وهي راغبة ، أفأَصِلُ أُمي؟ فأجابها الرحمة المهداة : (( صِلِي أُمَّك)).72

قال الخطابي: "فيه أن الرحم الكافرة توصل من المال ونحوه كما توصل المسلمة، ويستنبط منه وجوب نفقة الأب الكافر والأم الكافرة؛ وإن كان الولد مسلماً".73

قال محمد بن الحسن: "يجب على الولد المسلم نفقة أبويه الذميين لقوله تعالى: ]وصاحبهما في الدنيا معروفاً[ (لقمان: 15)، وليس من المصاحبة بالمعروف أن يتقلب في نعم الله، ويدعهما يموتان جوعاً، والنوازل والأجداد والجدات من قبل الأب والأم بمنزلة الأبوين في ذلك، استحقاقهم باعتبار الولاد بمنزلة استحقاق الأبوين".74

وفي مثل آخر لصلة الرحم – وإن كانت كافرة - يقول عبد الله بن مروان: قلت لمجاهد: إن لي قرابة مشركة، ولي عليه دين، أفأتركه له؟ قال: نعم. وصِله.75

ويمتد البر وصلة الرحم بالمسلم حتى تبلغ الرحم البعيدة التي مرت عليها المئات من السنين، فها هو r يوصي أصحابه بأهل مصر خيراً ، براً وصلة لرحم قديمة تعود إلى إبراهيم عليه الصلاة والسلام، حيث قال r : ((إنكم ستفتحون مصر .. فإذا فتحتموها فأحسنوا إلى أهلها؛ فإن لهم ذِمة ورحِماً)).76

قال النووي: " وأما الذمة فهي الحرمة والحق , وهي هنا بمعنى الذمام ، وأما الرحم فلكون هاجر أم إسماعيل منهم".77

ومن البر وصلة الأرحام عيادة المريض ، فقد عاد النبي r عمه أبا طالب في مرضه78، وعاد أيضاً جاراً له من اليهود في مرضه، فقعد عند رأسه. 79

ومن صور البر التي تهدف إلى كسب القلوب واستلال الشحناء؛ الهدية، وقد أهدى النبي r إلى مخالفيه في الدين، من ذلك ما رواه ابن زنجويه أن رسول الله أهدى إلى أبي سفيان تمر عجوة، وهو بمكة، وكتب إليه يستهديه أدماً، فأهدى إليه أبو سفيان.80

وقبِل r في خيبر هدية زينب بنت الحارث اليهودية، لكنها هدية غدر لا مودة، فقد أهدت له شاة مشوية دست له فيها السم.81

وفي مرة أخرى دعا يهودي النبي r إلى خبز شعير وإهالة سنخة، فأجابه r.82

كما قبِل النبي r هدايا الملوك إليه، فقِبل هدية المقوقس، وهدية ملك أيلة أكيدر، وهدية كسرى. 83

قال ابن قدامة : "ويجوز قبول هدية الكفار من أهل الحرب لأن النبي e قبل هدية المقوقس صاحب مصر".84

وأهدى النبيُّ r عمر بن الخطاب t حُلّةً ثمينة، فأهداها عمر t أخيه بمكة كان يومئذ مشركاً.85

قال النوويّ: " وفي هذا دليل لجواز صلة الأقارب الكفار , والإحسان إليهم, وجواز الهدية إلى الكفار".86

ويروي البخاري في الأدب المفرد عن مجاهد أنه سمع عبد الله بن عمرو t يقول لغلام له يسلخ شاة: يا غلام إذا فرغت فابدأ بجارنا اليهودي. فقال رجل من القوم : اليهودي أصلحك الله!؟ فقال : سمعت النبي e يوصي بالجار، حتى خشينا أنه سيورثه.87

وحين تحدث الفقهاء عن حقوق الضيف رأوا وجوبها لكل ضيف، سواء كان مسلماً أم غير مسلم، قال أبو يعلى: "وتجب الضيافة على المسلمين للمسلمين والكفار لعموم الخبر، وقد نص عليه أحمد في رواية حنبل، وقد سأله إن أضاف الرجل ضيفان من أهل الكفر؟ فقال: قال r : ((ليلة الضيف حق واجب على كل مسلم))، دل على أن المسلم والمشرك مضاف .. يعم المسلم والكافر".88

ومن حق الضيافة إكرام الضيف على قدر الاستطاعة ، وقد صنعه النبي r لما جاءه عدي بن حاتم، يقول عدي: "أتيتُ رسول الله r وهو جالس في المسجد، فقال القوم: هذا عدي بن حاتم. وجئتُ بغير أمان ولا كتاب، فلما دُفعتُ إليه أخذ بيدي .. حتى أتى بي داره، فألقت له الوليدة وسادة، فجلس عليها". 89

ومن أعظم أنواع البر وصوره؛ دعاءُ النبي r لغير المسلمين، وهو بعض رحمته r للعالمين، ومنه دعاؤه لقبيلة دوس ، وقد قدم عليه الطفيل بن عمرو الدوسي وأصحابه فقالوا: يا رسول الله إن دوساً قد كفرت وأبت ؛ فادع الله عليها، فقيل : هلكت دوس - أي ستهلك بدعائه عليها - فقال e : (( اللهم اهد دوساً، وائت بهم)).90

ولما قيل له r في موطن آخر: يا رسول اللّه، ادع على المشركين .. قال: ((إنّي لم أبعث لعّاناً، وإنّما بعثت رحمةً)).91

رابعاً : العدل في معاملتهم ورفع الظلم عنهم

إن من أهم المُثل ومكارم الأخلاق التي جاء الإسلام لحمايتها وتتميمها؛ العدل، والعدل غاية قريبة ميسورة إذا كان الأمر متعلقاً بإخوة الدين أو النسب، وغيرها مما يتعاطف له البشر.

لكن صدق هذه الخُلة إنما يظهر إذا تباينت الأديان وتعارضت المصالح، وهو ما يعنينا في هذا المبحث، فما هو حكم الإسلام في العدل مع غير المسلمين، وهل حقق المسلمون ما دعاهم إليه دينهم أم خالفوه؟

لقد أمر القرآن الكريم بالعدل، وخصَّ - بمزيد تأكيده – على العدل مع المخالفين الذين قد يظلمهم المرء بسبب الاختلاف والنفرة، قال تعالى: ] يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين لله شهداء بالقسط ولا يجرمنكم شنآن قوم على أن لا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى[ (المائدة: 8).

قال القرطبي: " ودلت الآية أيضاً على أن كفر الكافر لا يمنع من العدل عليه، وأن يُقتصر بهم على المستحق من القتال والاسترقاق، وأن المُثلة بهم غير جائزة ، وإن قتلوا نساءنا وأطفالنا، وغمّونا بذلك؛ فليس لنا أن نقتلهم بمثله قصداً لإيصال الغم والحزن إليهم ".92

وقال البيضاوي: "لا يحملنكم شدة بغضكم للمشركين على ترك العدل فيهم، فتعتدوا عليهم بارتكاب ما لا يحل، كمُثلة وقذف وقتل نساء وصِبية ونقض عهد، تشفياً مما في قلوبكم ]اعدلوا هو أقرب للتقوى[ أي: العدل أقرب للتقوى ".93

وأعلم الله تعالى المؤمنين بمحبته للذين يعدلون في معاملتهم مع مخالفيهم في الدين الذين لم يتعرضوا لهم بالأذى والقتال، فقال: ]لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم إن الله يحب المقسطين[ (الممتحنة: 8). فالعدل مع الآخرين موجب لمحبة الله.

وحذر النبي r من ظلم أهل الذمة وانتقاص حقوقهم، وجعل نفسه الشريفة خصماً للمعتدي عليهم، فقال: ((من ظلم معاهداً أو انتقصه حقه أو كلفه فوق طاقته أو أخذ منه شيئاً بغير طيب نفس؛ فأنا حجيجه يوم القيامة)).94

وأكد أن ظلم غير المسلم موجب لانتقام الله الذي يقبل شكاته ودعوته على ظالمه المسلم ، فقال r ((اتقوا دعوة المظلوم - وإن كان كافرًا - فإنه ليس دونها حجاب)).95

ولمزيد التأكيد يوصي رسول الله r المسلمين بعدم التعرض للمستضعفين من غير المسلمين بالظلم والتسلط، فيقول: ((لعلكم تقاتلون قوماً فتظهرون عليهم، فيتقوكم بأموالهم دون أنفسهم وذراريهم، فيصالحونكم على صلح، فلا تصيبوا منهم فوق ذلك ، فإنه لا يصلح لكم)).96

لذا لما سأل رجل ابن عباس فقال: إنا نمر بأهل الذمة، فنصيب من الشعير أو الشيء؟ فقال الحبر ترجمان القرآن: (لا يحل لكم من ذمتكم إلا ما صالحتموهم عليه).97

ولما كتب النبي كتاب صلحه لأهل نجران قال فيه: ((ولا يغير حق من حقوقهم ، ولا سلطانهم ولا شيء مما كانوا عليه، ما نصحوا وأصلحوا فيما عليهم غير مثقلين بظلم ولا ظالمين)). 98

أما منتهى الظلم وأشنعه، فهو قتل النفس بغير حق، لهذا جاء فيه أشد الوعيد وأعظمه، يقول r : ((من قتل معاهَداً لم يرح رائحة الجنة، وإن ريحها ليوجد من مسيرة أربعين عاماً )).99

قال ابن حجر: "المراد به من له عهد مع المسلمين، سواء كان بعقد جزية أو هدنة من سلطان أو أمان من مسلم".100

ومن الطريف أن الخوارج الذين استباحوا دماء المسلمين وأوغلوا فيها توقفوا عن قتل أهل الذمة خشية نقض عهدهم. قال ابن حجر: " الخوارج لما حكموا بكفر من خالفهم استباحوا دماءهم، وتركوا أهل الذمة فقالوا: نفي لهم بعهدهم".101

وقال r : ((أيما رجل أمّن رجلاً على دمه، ثم قتله، فأنا من القاتل بريء، وإن كان المقتول كافراً)).102

قال ابن القيم: " المستأمن يحرم قتله، وتضمن نفسه، ويقطع بسرقة ماله".103

ويقول القرطبي: "الذمي محقون الدم على التأبيد، والمسلم كذلك، وكلاهما قد صار من أهل دار الإسلام، والذي يحقِق ذلك: أنّ المسلم يقطع بسرقة مال الذمي، وهذا يدل على أنّ مال الذمي قد ساوى مال المسلم، فدل على مساواته لدمه، إذ المال إنّما يحرم بحرمة مالكه". 104

وقد ذهب جمع من العلماء على أن المسلم يقتل بقتله النفس المعصومة من غير المسلمين، وتأولوا الحديث الوارد في النهي عن ذلك.

ويروي عبد الرزاق عن إبراهيم النخعي أن رجلاً مسلماً قتل رجلاً من أهل الذمة من أهل الحيرة على عهد عمر، فأقاد منه عمر. 105

ويروي الشافعي في مسنده أن رجلاً من المسلمين أُخذ على عهد علي t وقد قتل رجلاً من أهل الذمة، فحكم عليه بالقصاص، فجاء أخوه، واختار الدية بدلاً عن القود، فقال له علي: "لعلهم فرقوك أو فزّعوك أو هددوك؟" فقال: لا ، بل قد أخذت الدية، ولا أظن أخي يعود إلي بقتل هذا الرجل، فأطلق علي القاتل، وقال: "أنت أعلم، من كانت له ذمتنا، فدمه كدمنا، وديته كديتنا". 106

ويحدث ميمون بن مهران أن عمر بن عبد العزيز كتب إلى بعض أمرائه في مسلم قتل ذميّاً، فأمره أن يدفعه إلى وليه، فإن شاء قتله، وإن شاء عفا عنه. يقول ميمون: فدفع إليه، فضرب عنقه، وأنا أنظر.107

ولئن اختلف الفقهاء في مسألة قتل المسلم بالذمي؛ فإنهم لم يختلفوا في عظم الجناية وشناعة الفعل، كما لم يختلفوا في وجوب العدل مع مخالفيهم في الدين ووجوب كف الأذى والظلم عنهم.

قال r : (( إن الله عز وجل لم يُحِلَّ لكم أن تدخلوا بيوت أهل الكتاب إلا بإذن ، ولا ضَرْبَ نسائهم ، ولا أكلَ ثمارهم ، إذا أعطوكم الذي عليهم )).108

ويرى ابن عابدين في حاشية الدر المختار وجوب " كف الأذى عن الذمي، وتحرم غيبته كالمسلم".109

ويفسر ابن عابدين ذلك بقوله: "لأنه بعقد الذمة وجب له ما لنا، فإذا حرمت غيبة المسلم حرمت غيبته، بل قالوا: إن ظلم الذمي أشد". 110

قال القرافي: "عقد الذمة يوجب حقوقاً علينا لهم، لأنهم في جوارنا وفي خفارتنا وذمة الله تعالى وذمة رسوله r ودين الإسلام، فمن اعتدى عليهم ولو بكلمة سوء أو غيبة في عِرْض أحدهم، أو نوع من أنواع الأذية، أو أعان على ذلك؛ فقد ضيع ذمة الله تعالى وذمة رسوله r وذمة دين الإسلام".111

وشواهد عدل المسلمين مع أهل ذمتهم كثيرة، منها العدل معهم في خصومتهم مع الخلفاء والأمراء، ومنه خصومة الخليفة علي بن أبي طالب t مع يهودي في درعه التي فقدها ثم وجدها عند يهودي، فاحتكما إلى شريح القاضي، فحكم بها لليهودي، فأسلم اليهودي وقال: "أما إني أشهد أن هذه أحكام أنبياء! أمير المؤمنين يدينني إلى قاضيه، فيقضي لي عليه! أشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، الدرع درعك يا أمير المؤمنين، اتبعت الجيش وأنت منطلق من صفين، فخرجت من بعيرك الأورق". فقال علي t: أما إذ أسلمت فهي لك.112

ومنه أيضاً قصة القبطي مع عمرو بن العاص والي مصر وابنه، وقد اقتص الخليفة للقبطي في مظلمته، وقال مقولته التي أضحت مثلاً: "يا عمرو، متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحراراً؟".113

ولما كان ابن رواحة t يخرص ليهود خيبر حاولوا رشوته فأبى، وقال: (وليس يحملني بغضي إياكم على أن أحيف عليكم، قد خرصت عشرين ألف وسق من تمر، فإن شئتم فلكم، وإن أبيتم فلي). فقالوا: بهذا قامت السموات والأرض، قد أخذنا، فاخرجوا عنا.114

ومن عجيب الأخبار، أخبار عدل الخلفاء مع أهل ذمة الله ورسوله والمؤمنين ؛ أن عمير بن سعد t ترك ولاية حمص لإساءته إلى ذمي، فقد قال للخليفة مستعتباً عن الرجوع إلى الإمارة: (إن ذلك لسيء، لا عملت لك، ولا لأحد بعدك، والله ما سلِمت، بل لم أسلم، قلت لنصراني: أخزاك الله، فهذا ما عرضتني به يا عمر، وإن أشقى أيامي يوماً خلفت معك يا عمر)، ولم يجد الخليفة بُداً من قبول هذه الاستقالة، فتقبلها على مضض وهو يقول: (وددت أن لي رجلاً مثل عمير بن سعد استعين به على أعمال المسلمين). 115

وفي تاريخ دمشق أن عميراً t قال للخليفة عمر: " فما يؤمنني أن يكون محمد r خصمي يوم القيامة، ومن خاصمه خصمه".116

ولما ولي أمير العدل عمر بن عبد العزيز أمر مناديه أن ينادي: ألا من كانت له مظلمة فليرفعها، فقام إليه رجل ذمي يشكو الأمير العباس بن الوليد بن عبد الملك في ضيعة له أقطعها الوليد لحفيده العباس، فحكم له الخليفة بالضيعة، فردها عليه.117

وفي أحيان أخرى لم يأخذ المسلمون العدل من خصومهم، بل عفوا وتجاوزوا كما جرى زمن معاوية بن أبي سفيان حين نقض أهل بعلبك عهدهم مع المسلمين، وفي أيدي المسلمين رهائن من الروم، فامتنع المسلمون من قتلهم، ورأوا جميعاً تخلية سبيلهم، وقالوا:

"وفاء بغدر خير من غدر بغدر". قال هشام: وهو قول العلماء، الأوزاعي وغيره.118

ولم يخلُ تاريخنا - على وضاءته - من بعض المظالم التي وقعت للمسلمين ولغيرهم، وقد استنكرها فقهاء الإسلام، ورأوا فيها جوراً وخروجاً عن رسوم الشريعة، ومنه أن هشام بن حكيم بن حزام t مرّ على أناس من الأنباط بالشام قد أقيموا في الشمس، فقال: ما شأنهم؟ قالوا: حبسوا في الجزية، فقال هشام: أشهد لسمعت رسول الله e يقول: ((إن الله يعذب الذين يعذبون الناس في الدنيا)). قال: وأميرهم يومئذ عمير بن سعد على فلسطين، فدخل عليه، فحدثه، فأمر بهم فخُلوا. 119

ولما خاف الخليفة الوليد بن يزيد من نصارى قبرص أجلاهم منها، فاستفظع المسلمون ذلك، واعتبروه من الظلم ، يقول إسماعيل بن عياش : "فاستفظع ذلك المسلمون، واستعظمه الفقهاء، فلما ولي يزيد بن الوليد ردهم إلى قبرص ، فاستحسن المسلمون ذلك من فعله، ورأوه عدلاً".120

كما حطَّ عمر بن عبد العزيز عن أهل قبرص ألف دينار زادها عبد الملك عما في عهد معاوية t لهم، ثم ردها عليهم هشام بن عبد الملك، فلما كانت خلافة أبي جعفر المنصور أسقطها عنهم، وقال: "نحن أحق من أنصفهم، ولم نتكثر بظلمهم".121

ومثله صنع الأوزاعي فقيه الشام حين أجلى الأمير صالح بن عليٍّ بن عبد الله بن عباس أهل ذمة من جبل لبنان، فكتب إليه الأوزاعي: "فكيف تؤخذ عامة بذنوب خاصة، حتى يُخرَجوا من ديارهم وأموالهم؟ وحكم الله تعالى: ]ألا تزر وازرة وزر أخرى[ (النجم: 38)، وهو أحق ما وقف عنده واقتدي به ، وأحق الوصايا أن تحفظ وترعى وصية رسول الله r فإنه قال: ((من ظلم ذميًا أو كلَّفه فوق طاقته فأنا حجيجه)) ... فإنهم ليسوا بعبيد، فتكونَ في حِلٍ من تحويلهم من بلد إلى بلد، ولكنهم أحرار أهلُ ذمة".122

وما زال العلماء والخلفاء يتواصون بحقوق الذمة، كل يحذر أن تخفر ذمة الله وذمة نبيه r وهو شاهد، لأجل ذلك حرصوا على تفقد أحوالهم ومعرفة أمورهم، ومن ذلك أن وفداً من أهل الذمة جاء إلى عمر، قال عمر للوفد: (لعل المسلمين يفضون إلى أهل الذمة بأذى وبأمور لها ما ينتقضون بكم؟) فقالوا: ما نعلم إلا وفاء وحسن ملكة".123

ويرسل عمر كتاباً إلى عامله أبي عبيدة، فيقول موصياً بأهل الذمة: "وامنع المسلمين من ظلمهم والإضرار بهم، وأكل أموالهم إلا بحلها، ووف لهم بشرطهم الذي شرطت لهم في جميع ما أعطيتهم". 124

ولما جاءه مال الجباية سأل t عن مصدره مخافة العنت والمشقة على أهل الذمة، ففي الأثر عنه t "أنه أتي بمال كثير، أحسبه قال: من الجزية. فقال: إني لأظنكم قد أهلكتم الناس؟ قالوا: لا، والله ما أخذنا إلا عفواً صفواً. قال: بلا سوط ولا نوط؟ قالوا: نعم. قال: الحمد لله الذي لم يجعل ذلك على يدي ولا في سلطاني ". 125

ولما جاء عمر t الشام تلقاه المقلسون من أهل أذرعات بالسيوف والريحان يلعبون بين يديه. فكره عمر لعبهم، وأمر بمنعهم . فقال له أبو عبيدة : يا أمير المؤمنين هذه سُنتهم، وإنك إن منعتهم منها يروا أن في نفسك نقضاً لعهدهم . فقال عمر : دعوهم .

وفي رواية ابن زنجويه أنه قال: (دعوهم ، عمر وآل عمر في طاعة أبي عبيدة).126 فقد كره t مساءتهم، وأن يظنوا به النقض، فأذعن لقول أبي عبيدة.

ولما تدانى الأجل به t لم يفُته أن يوصي المسلمين برعاية أهل الذمة فقال: (أوصي الخليفة من بعدي بأهل الذمة خيراً، وأن يوفي لهم بعهدهم ، وأن يقاتلوا من ورائهم ، وألا يكلفوا فوق طاقتهم). 127

وكتب إلى واليه في مصر: "واعلم يا عمرو أن الله يراك ويرى عملك، فإنه قال تبارك وتعالى في كتابه : ] واجعلنا للمتقين إماماً [ (الفرقان: 74) يريد [أي من المؤمن] أن يُقتدى به، وأن معك أهل ذمة وعهد، وقد أوصى رسول الله r بهم، وأوصى بالقبط فقال : ((استوصوا بالقبط خيراً، فإن لهم ذمة ورحماً))، ورحِمُهم أن أم إسماعيل منهم، وقد قال r : ((من ظلم معاهداً أو كلفه فوق طاقته؛ فأنا خصمه يوم القيامة)) احذر يا عمرو أن يكون رسول الله r لك خصماً، فإنه من خاصمه خَصَمه".128

وكتب علي بن أبي طالب t بلسان الوجِل من ربه إلى عماله على الخراج: "إذا قدمت عليهم فلا تبيعن لهم كسوة، شتاءً ولا صيفاً، ولا رزقاً يأكلونه، ولا دابة يعملون عليها، ولا تضربن أحداً منهم سوطاً واحداً في درهم، ولا تقمه على رجله في طلب درهم، ولا تبع لأحد منهم عَرَضاً في شيء من الخراج، فإنا إنما أمرنا الله أن نأخذ منهم العفو، فإن أنت خالفت ما أمرتك به يأخذك الله به دوني، وإن بلغني عنك خلاف ذلك عزلتُك". 129

ولما فتح المسلمون دمشق ولي قسم منازلها بين المسلمين سبرة بن فاتك الأسدي، فكان ينزل الرومي في العلو، وينزل المسلم في السفل؛ لأنْ لا يضر المسلم بالذمي.130

ويدخل فقيه عصره أبو يوسف تلميذ أبي حنيفة على الخليفة هارون الرشيد يذكره برعاية أهل الذمة وتفقد أحوالهم، ويستميل قلبه بذكر قرابته من رسول الله r صاحب ذمتهم، فيقول: "وقد ينبغي يا أمير المؤمنين - أيدك الله - أن تتقدم بالرفق بأهل ذمة نبيك وابن عمك محمد r ، والتفقد لهم حتى لا يظلموا، ولا يؤذوا، ولا يكلفوا فوق طاقتهم، ولا يؤخذ من أموالهم إلا بحق يجب عليهم". 131

وقد شهد المؤرخون بسمو حضارتنا في هذا الباب، فقد اعترف بريادتنا له نصارى حمص حين كتبوا إلى أبي عبيدة بن الجراح t: " لولايتكم وعدلكم أحب إلينا مما كنا فيه من الظلم والغشم، ولندفعن جند هرقل عن المدينة مع عاملكم"، ثم أغلقوا أبواب المدينة في وجه الروم إخوانهم في العقيدة.132

وتنقل المستشرقة الألمانية زيغريد هونكه في كتابها الماتع " شمس العرب تسطع على الغرب" شهادة مهمة من بطريك بيت المقدس، فتقول: " فبطريرك بيت المقدس يكتب في القرن التاسع لأخيه بطريرك القسطنطينية عن العرب: إنهم يمتازون بالعدل، ولا يظلموننا البتة، وهم لا يستخدمون معنا أي عنف".133

خامساً : التكافل الاجتماعي

لعل من أهم الضمانات التي يقدمها الإسلام لغير المسلمين - الذين يقيمون في المجتمع المسلم - كفالتهم ضمن نظام التكافل الإسلامي.

فإن الله عز وجل بعث نبيه r رحمة للعالمين ]وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين [ (الأنبياء: 107)، وقد أمر r المسلمين أن يتصفوا بصفة الرحمة، في تعاملهم فيما بينهم ومع غيرهم، بل وحتى مع الحيوان ، فقال r (( لا يرحم الله من لا يرحم الناس)) 134، وكلمة الناس لفظة عامة تشمل كل أحد ، دون اعتبار لجنس أو دين .

قال ابن بطال: "فيه الحض على استعمال الرحمة لجميع الخلق , فيدخل المؤمن والكافر والبهائم والمملوك منها وغير المملوك ".135

وحث الإسلام أيضاً المؤمنين وألزمهم بالإحسان والبر في معاملة من لا يعتدي على المسلمين، فقال تبارك وتعالى: ] وأحسنوا إن الله يحب المحسنين [ (البقرة: 195).

وقد جعل الإسلام دفع الزكاة إلى مستحقيها من المسلمين وغيرهم ركناً من أركان الإسلام، فقال تعالى: ] إنما الصدقات للفقراء والمساكين [ (التوبة: 60) قال القرطبي: " ومطلق لفظ الفقراء لا يقتضي الاختصاص بالمسلمين دون أهل الذمة .. وقال عكرمة: الفقراء فقراء المسلمين، والمساكين فقراء أهل الكتاب". 136

ويقول السرخسي: "لنا أن المقصود سد خلة المحتاج ودفع حاجته بفعل هو قربة من المؤدي، وهذا المقصود حاصل بالصرف إلى أهل الذمة، فإن التصديق عليهم قربة بدليل التطوعات، لأنّا لم ننه عن المبرة لمن لا يقاتلنا، قال الله تعالى : ] لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين [ (الممتحنة: 8)".137

ولئن كان الخلاف بين الفقهاء قوياً في بر أهل الذمة من أموال الزكاة المفروضة، فإنهم أجازوا دفع الكفارة الواجبة إلى أهل الذمة، بل قدمهم الكاساني فيها حتى على المسلم ، لأنها " وجبت لدفع المسكنة، والمسكنة موجودة في الكفرة، فيجوز صرف الصدقة إليهم، كما يجوز صرفها إلى المسلم، بل أولى، لأن التصدق عليهم بعض ما يرغبهم إلى الإسلام ويحملهم عليه".138

وأمر القرآن الكريم ورغَّب بالصدقة على غير المسلمين، فقد روى أبو عبيد أن بعض المسلمين كان لهم أنسباء وقرابة من قريظة والنضير، وكانوا يتقون أن يتصدقوا عليهم، يريدوهم أن يسلموا ، فنزلت : ] ليس عليك هداهم ولكن الله يهدي من يشاء وما تنفقوا من خير فلأنفسكم[ (البقرة: 272).139

وقد جاء في مراسيل سعيد بن المسيب أن رسول الله r تصدق بصدقة على أهل بيت من اليهود، فهي تجري عليهم ".140

وعليه قد أجاز فقهاء الشريعة التصدق على أهل الذمة، يقول أبي رزين: كنت مع سفيان بن سلمة، فمر عليه أسارى من المشركين، فأمرني أن أتصدق عليهم، ثم تلا هذه الآية: ]ويطعمون الطعام على حبه مسكيناً ويتيماً وأسيراً[ (الإنسان: 8).

يقول أبو عزيز بن عمير: كنت في الأسارى يوم بدر، فقال رسول الله r : ((استوصوا بالأسارى خيراً))، وكنت في نفر من الأنصار، وكانوا إذا قدموا غداءهم وعشاءهم أكلوا التمر وأطعموني الخبز، بوصية رسول الله r إياهم. 141

كما أجاز الفقهاء الوقف لهم، واعتبروه من وجوه البر التي يحبها الله، يقول محمد بن الحسن الشيباني: " ويصح [الوقف] على أهل الذمة؛ لأنهم يملكون ملكاً محترماً، وتجوز الصدقة عليهم .. وإذا جازت الصدقة عليهم جاز الوقف عليهم كالمسلمين، وروي أن صفية زوج النبي r وقفت على أخ لها يهودي، ولأن من جاز أن يقف عليه الذمي جاز أن يقف المسلم عليه كالمسلم، ولو وقف على من ينزل كنائسهم وبيعهم من المارة والمجتازين من أهل الذمة وغيرهم؛ صح".142

وهذا كما رأينا بعض البر والعدل الذي حثَّ عليه القرآن الكريم ، حين ذكر أهل الذمة المسالمين الذين لا يعتدون على المسلمين، فقال: } لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم إن الله يحب المقسطين { ( الممتحنة: 8 ).

ويفصل الإمام القرافي في شرحه للبر والعدل المأمور به في معاملة غير المسلمين، فيقول: "وأما ما أمر به من برِّهم من غيرمودة باطنية، فالرفق بضعيفهم، وسد خلة فقيرهم ، وإطعام جائعهم، وكساء عاريهم .. وصون أموالهم، وعيالهم، وأعراضهم، وجميع حقوقهم ومصالحهم، وأن يعانوا على دفع الظلم عنهم، وإيصالهم لجميع حقوقهم...".143

ويقول القرشي المالكي في شرحه على مختصر خليل: "دفع الضرر وكشف الأذى عن المسلمين أو ما في حكمهم من أهل الذمة من فروض الكفايات، من إطعام جائع وستر عورة، حيث لم تفِ الصدقات ولا بيت المال بذلك".144

ووفق هذا الهدي سلك أصحاب النبي r من بعده ، فكتب خالد بن الوليد t لنصارى الحيرة : " وجعلتُ لهم أيما شيخ ضعف عن العمل ، أو أصابته آفة من الآفات، أو كان غنياً فافتقر وصار أهل دينه يتصدقون عليه؛ طرحت جزيته، وعيل من بيت مال المسلمين هو وعياله".145

وروى ابن زنجويه بإسناده أن عمر بن الخطاب رأى شيخاً كبيراً من أهل الجزية يسأل الناس فقال: (ما أنصفناك إن أكلنا شبيبتك، ثم نأخذ منك الجزية، ثم كتب إلى عماله أن لا يأخذوا الجزية من شيخ كبير).146

وفي رواية أن عمر أخذ بيده وذهب به إلى منزله، فرضخ له بشيء من المنزل، ثم أرسل إلى خازن بيت المال فقال : (انظر هذا وضرباءه، فوالله ما أنصفناه أن أكلنا شبيبته ثم نخذله عند الهرم ] إنما الصدقات للفقراء والمساكين [ والفقراء هم المسلمون ، وهذا من المساكين من أهل الكتاب)، ووضع عنه الجزية وعن ضربائه.147

وكان مما أمر به رضي الله عنه : "من لم يطق الجزية خففوا عنه، ومن عجز فأعينوه".148

ومر t في الجابية على مجذومين من أهل الذمة، فأمر أن يعطوا من صدقات المسلمين، وأن يجرى عليهم القوت من بيت المال.149

وكتب الخليفة الراشد عمر بن عبد العزيز إلى واليه عدي بن أرطأة : "وانظر من قِبَلك من أهل الذمة قد كبرت سنه وضعفت قوته وولت عنه المكاسب؛ فأجرِ عليه من بيت مال المسلمين ما يصلحه".150

وقد سجل هذه الرعاية الفريدة المستشرق بارتولد في كتابه "الحضارة الإسلامية"، فقال :" إن النصارى كانوا أحسن حالاً تحت حكم المسلمين، إذ أن المسلمين اتبعوا في معاملاتهم الدينية والاقتصادية لأهل الذمة مبدأ الرعاية والتساهل ".151

المبحث الثاني : الجزية

ما يزال البعض - ممن حرم التحقيق والإنصاف - يعيب على المسلمين ما قرره القرآن من الجزية على الذين رفضوا الدخول في الإسلام، }قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون { (التوبة: 29) واعتبروا ذلك نوعاً من الإكراه على الإسلام، واعتبروها جزاء على الكفر، وأنها نوع من الظلم لأهل الذمة، وزاد نفورهم من هذه الشرعة حين قرؤوا قوله تعالى: ] وهم صاغرون [ فأخطؤوا في فهمها.

ولسوف نعرض في هذه الدراسة لمعنى الجزية والصغار، والحكمة منها ومقدارها، كما نلقي إيماءة على تاريخها:

أ. الجزية في اللغة والاصطلاح والتاريخ الإنساني

الجزية في اللغة مشتقة من مادة (ج ز ي)، تقول العرب: "جزى ، يجزي، إذا كافأ عما أسدي إليه"، والجزية مشتق على وزن فِعلة من المجازاة، بمعنى "أعطوها جزاء ما منحوا من الأمن"، وقال ابن المطرز: بل هي من الإجزاء "لأنها تجزئ عن الذمي". 152

وعلى كلا المعنيين فهي ليست – كما زعم بعض الفقهاء وتلقفها المتربصون - عقوبة ينالها الكافر على كفره، فإن عقوبة الكفر لن تكون بضعة دنانير.

ولو كانت الجزية عقوبة على الكفر لما أسقطت عن النساء والشيوخ والأطفال لاشتراكهم في صفة الكفر، بل لو كان كذلك لزاد مقدارها على الرهبان ورجال الدين، بدلاً من أن يُعفوا منها.

قال الباجي: "الجزية تؤخذ منهم على وجه العوض، لإقامتهم في بلاد المسلمين والذبِّ عنهم والحماية لهم".153

وقد تبين لنا قبلُ أن الله هو يتولى حساب من كفر به في الآخرة: }قل الله أعبد مخلصاً له ديني # فاعبدوا ما شئتم من دونه قل إن الخاسرين الذين خسروا أنفسهم وأهليهم يوم القيامة ألا ذلك هو الخسران المبين{ (الزمر: 14-15).

وأما الجزية عند أهل الاصطلاح فعرفها ابن قدامة بقوله: "هي الوظيفة المأخوذة من الكافر لإقامته بدار الإسلام في كل عام".154

الجزية قبل الإسلام

لم يكن الإسلام بدعاً بين الأديان، كما لم يكن المسلمون كذلك بين الأمم؛ حين أخذوا الجزية من الأمم التي دخلت تحت ولايتهم، فإن أخذ الأمم الغالبة للجزية من الأمم المغلوبة أشهر من علم ، والتاريخ البشري أصدق شاهد على ذلك.

وقد نقل العهد القديم والجديد شيوع هذه الصورة ، ففي إنجيل متى أن المسيح عليه السلام قال لسمعان: " ماذا تظن يا سمعان؟ ممن يأخذ ملوك الأرض الجباية أو الجزية، أمن بنيهم أم من الأجانب؟ قال له بطرس من الأجانب. قال له يسوع: فإذاً البنون أحرار" (متى 17/24-25).

ويذكر العهد القديم شرعة الجزية في شرائع التوراة ، وأن الأنبياء عليهم السلام أخذوا الجزية من الأمم المغلوبة حين غلبوا على بعض الممالك ، كما صنع النبي يشوع مع الكنعانيين حين تغلب عليهم "فلم يطردوا الكنعانيين الساكنين في جازر، فسكن الكنعانيون في وسط افرايم إلى هذا اليوم، وكانوا عبيداً تحت الجزية" (يشوع 16/10)، وقد جمع لهم بين العبودية والجزية.

وفي المسيحية أمر المسيح أتباعه بدفع الجزية للرومان، وسارع هو إلى دفعها ، فقد ذكر إنجيل متى أنه قال لسمعان بطرس: " اذهب إلى البحر وألق صنارة، والسمكة التي تطلع أولاً خذها، ومتى فتحت فاها تجد أستاراً، فخذه وأعطهم عني وعنك" (متى 17/24-27).

ويذكر إنجيل متّى أنه في مرة أخرى سئل: "أيجوز أن تعطى جزية لقيصر أم لا؟ .. فقال لهم: لمن هذه الصورة والكتابة؟ قالوا له: لقيصر. فقال لهم: أعطوا إذاً ما لقيصر لقيصر، وما للّه للّه" (متى 22/17-21).

ويعتبر العهد الجديد أداء الجزية للسلاطين حقاً مشروعاً، بل ويعطيه قداسة، ويجعله أمراً دينياً، إذ يقول بولس: "لتخضع كل نفس للسلاطين، السلاطين الكائنة هي مرتبة من الله، حتى إن من يقاوم السلطان يقاوم ترتيب الله، والمقاومون سيأخذون لأنفسهم دينونة ... إذ هو خادم الله، منتقم للغضب من الذي يفعل الشر، لذلك يلزم أن يخضع له ليس بسبب الغضب فقط، بل أيضا بسبب الضمير، فإنكم لأجل هذا توفون الجزية أيضاً، إذ هم خدام الله مواظبون على ذلك بعينه، فأعطوا الجميع حقوقهم، الجزية لمن له الجزية، الجباية لمن له الجباية، والخوف لمن له الخوف، والإكرام لمن له الإكرام" (رومية 13/1-7).

ب. شرعة الجزية في الإسلام

إن أصل شرعة الجزية في الإسلام قوله تعالى: }قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون { (التوبة: 29)، وأول ما نلحظه أن الآية خطاب إلى المؤمنين تأمرهم بأخذ الجزية من المقاتلين دون غيرهم.

قال القرطبي: "قال علماؤنا: الذي دل عليه القرآن أن الجزية تؤخذ من المقاتلين ... وهذا إجماع من العلماء على أن الجزية إنما توضع على جماجم الرجال الأحرار البالغين، وهم الذين يقاتلون، دون النساء والذرية والعبيد والمجانين المغلوبين على عقولهم والشيخ الفاني".155 قال مالك: "مضت السنة أن لا جزية على نساء أهل الكتاب ولا على صبيانهم، وأن الجزية لا تؤخذ إلا من الرجال الذين قد بلغوا الحلم، وليس على أهل الذمة ولا على المجوس في نخيلهم ولا كرومهم ولا زروعهم ولا مواشيهم صدقة".156

قال ابن حجر: " لا تؤخذ من شيخ فانٍ ولا زمِن ولا امرأة ولا مجنون ولا عاجز عن الكسب ولا أجير ولا من أصحاب الصوامع والديارات في قولٍ, والأصح عند الشافعية الوجوب على من ذكر آخراً [أي أصحاب الصوامع]". 157

وقد كتب عمر بذلك إلى أمراء الأجناد: (لا تضربوا الجزية على النساء والصبيان، ولا تضربوها إلا على من جرت عليه المواسي)158 أي ناهز الاحتلام، وهو من يقدر عادة على حمل السلاح.

والتزم بذلك أمراء الإسلام ، ومنهم عمرو بن العاص والي مصر، فقد اصطلح مع المقوقس (على أن يفرض على جميع من بمصر أعلاها وأسفلها من القبط ديناران ديناران، عن كل نفس، شريفهم ووضيعهم، من بلغ الحلم منهم، ليس على الشيخ الفاني ولا على الصغير الذي لم يبلغ الحلم ولا النساء شيء).159

ويشهد آدم متز بالتزام المسلمين بذلك في البلاد التي تحت سلطانهم، فيقول: " فكان لا يدفعها إلا الرجل القادر على حمل السلاح، فلا يدفعها ذوو العاهات، ولا المترهبون وأهل الصوامع إلا إذا كان لهم يسار". 160

وبمثله شهد ول ديورانت: " ولم يفرض عليهم أكثر من ارتداء زي ذي لون خاص، وأداء ضريبة عن كل شخص تختلف باختلاف دخله، وتتراوح بين دينار وأربعة دنانير .. ويعفى منها الرهبان، والنساء، والذكور الذين هم دون البلوغ، والأَرِقَّاء، والشيوخ، والعَجَزة، والعُمي، والشديد الفقر". 161

ومن النص السابق والشهادتين اللتين بعده يبين لنا أن المبلغ المدفوع للجزية لم يكن كبيراً يعجز عن دفعه الرجال، بل كان ميسوراً يطيقه كل أحد.

ففي زمن النبي r لم تجاوز جزية الفرد الدينار الواحد في كل سنة، فحين أرسل النبي معاذاً إلى اليمن أخذ من كل حالم منهم ديناراً، يقول معاذ: (بعثني النبي r إلى اليمن، فأمرني أن آخذ من كل ثلاثين بقرة تبيعاً، أو تبيعة، ومن كل أربعين مسنة [هذه زكاة على المسلمين منهم]، ومن كل حالم ديناراً، أو عدله مَعافر[للجزية]).162 والمعافري: الثياب.

وعلى عهد عمر بن الخطاب r كانت الجزية على أهل الذهب: أربعة دنانير، وعلى أهل الورِق: أربعين درهماً؛ مع ذلك أرزاق المسلمين، وضيافة ثلاثة أيام.163

وقد تفاوت مقدار الجزية في عصور الإسلام، وقد مر معنا أن عمرو بن العاص أوجب على أهل مصر دينارين فقط في كل سنة ، تدفع عن الرجال دون النساء والأطفال والشيوخ، فيما لم تتجاوز جزية الشخص الواحد الأربعة دنانير زمن الدولة الأموية.

والذي يظهر من هذا التفاوت أن مقدار الجزية متروك للإمام، قال ابن أبي نجيح: قلت لمجاهد: ما شأن أهل الشام عليهم أربعة دنانير، وأهل اليمن عليهم دينار؟ قال: جعل ذلك من قبل اليسار.164

لكنه على كل حال لن يجاوز هذه المبالغ البسيطة التي تراعي حالة الناس ويسارهم، ولا تكلفهم فوق طاقتهم، وهو ما نفهمه من وصية عمر للخليفة بعده بأهل الذمة، إذ يقول: ( وألا يكلفوا فوق طاقتهم). 165

قال ابن حجر: "ويستفاد من هذه الزيادة أن لا يؤخذ من أهل الجزية إلا قدر ما يطيق المأخوذ منه ". 166

وفي هذا الصدد ينقل آدم متز عن المؤرخ بنيامين قوله: "إن اليهود في كل بلاد الإسلام يدفعون ديناراً واحداً".167

ويقول دربير في كتابه "المنازعة بين العلم والدين": "إن المسلمين ما كانوا يتقاضون من مقهوريهم إلا شيئاً ضئيلاً من المال لا يقارن بما كانت تتقاضاه منهم حكوماتهم الوطنية".168

ويقول مونتسكيو في كتابه "روح الشرائع" : "إن هذه الأتاوات المفروضة كانت سبباً لهذه السهولة الغريبة التي صادفها المسلمون في فتوحاتهم، فالشعوب رأت – بدل أن تخضع لسلسلة لا تنتهي من المغارم التي تخيلها حرص الأباطرة – أن تخضع لأداء جزية خفيفة يمكن توفيتها بسهولة، وتسلمها بسهولة كذلك".169

وأما من عجز عن دفع هذا المبلغ الزهيد، فإن الفقهاء أسقطوها عنه، يقول ابن القيم: " تسقط الجزية بزوال الرقبة أو عجزها عن الأداء ".170

قال القاضي أبو يعلى: "وتسقط الجزية عن الفقير وعن الشيخ وعن الزَمِن".171

وفي مقابل هذه الدنانير المعدودات فإن المسلمين يلتزمون بالدفاع عن أهل الذمة وحمايتهم، ولو أدى ذلك إلى إزهاق أرواحهم في سبيل حماية أهل ذمتهم.

فقد ضمنه كتاب النبي r لربيعة الحضرمي، إذ يقول: "وأن نَصْرَ آل ذي مرحب على جماعة المسلمين ، وأن أرضهم بريئة من الجور". 172

وبمثله ضمن عبادة بن الصامت للمقوقس عظيم القبط ، حين قال: " نقاتل عنكم من ناوأكم وعرض لكم في شيء من أرضكم ودمائكم وأموالكم، ونقوم بذلك عنكم إن كنتم في ذمتنا ، وكان لكم به عهد علينا ...".173

وكتب خالد لأهل بعض النواحي في العراق : "فإن منعناكم فلنا الجزية، وإلا فلا حتى نمنعكم".174

قال أبو الوليد الباجي: " وذلك أن الجزية إنما تؤخذ منهم على وجه العوض لإقامتهم في بلاد المسلمين والذب عنهم والحماية لهم". 175

وأكد فقهاء الإسلام على حق أهل الذمة بالحماية، واعتبروا قيام المسلمين به من الوفاء بالعهود الذي تحرسه الشريعة وتأمر به.

قال الماورديّ: "ويلتزم ـ أي الإمام ـ لهم ببذل حقَّين: أحدهما: الكفُّ عنهم. والثانِي: الحماية لهم، ليكونوا بالكفِّ آمنين، وبالحماية محروسين". 176

وقال النوويّ: "ويلزمنا الكفُّ عنهم، وضمان ما نُتلفه عليهم، نفسًا ومالاً، ودفعُ أهلِ الحرب عنهم". 177

قال ابن قدامة: "الجزية تجب على أهل الذمة في كل عام، وهي بدل عن النصرة".178

وينقل القرافي عن ابن حزم إجماعاً للمسلمين لا تجد له نظيراً عند أمة من الأمم، فيقول: "من كان في الذمة، وجاء أهل الحرب إلى بلادنا يقصدونه، وجب علينا أن نخرج لقتالهم بالكراع والسلاح، ونموت دون ذلك، صوناً لمن هو في ذمة الله تعالى وذمة رسوله r؛ فإن تسليمه دون ذلك إهمال لعقد الذمة".179

ويعلق القرافي فيقول: "فعقد يؤدي إلى إتلاف النفوس والأموال صوناً لمقتضاه عن الضياع إنه لعظيم".180

ولا يسقط واجب المسلمين بحماية أهل الذمة وهم في ديار الإسلام، بل يمتد إلى إطلاق أسراهم الذين غُلبنا عليهم، يقول ابن النجار الحنبلي: "يجب على الإمام حفظ أهل الذمة، ومنع من يؤذيهم، وفكُّ أسرهم، ودفع من قصدهم بأذى". 181

ولما أغار أمير التتار قطلوشاه على دمشق في أوائل القرن الثامن الهجري، وأسر من المسلمين والذميين من النصارى واليهود عدداً، ذهب إليه الإمام ابن تيمية ومعه جمع من العلماء، وطلبوا فك الأسرى، فسمح له بالمسلمين، ولم يطلق الأسرى الذميين، فقال له شيخ الإسلام: "لابد من افتكاك جميع من معك من اليهود والنصارى الذين هم أهل ذمتنا، ولا ندع لديك أسيراً، لا من أهل الملة، ولا من أهل الذمة، فإن لهم ما لنا، وعليهم ما علينا"، فأطلقهم الأمير التتري جميعاً. 182

وهذه الأحكام الشرعية لا تختص بأهل الذمة، بل تسري على كل من كان ببلاد المسلمين من المعاهدين والمستأمنين، فإنهم جميعاً أهل ذمة كما سبق بيانه، يقول السرخسي: "قد بيَّنا أنّ المستأمنين فينا إذا لم يكونوا أهل منعة؛ فحالهم كحالِ أهل الذمّة في وجوب نصرتِهم على أمير المسلمين، ودفع الظلم عنهم؛ لأنّهم تحت ولايته.

ألا ترى أنّه كان يجب على الإمام والمسلمين اتّباعهم لاستنقاذهم من أيدي المشركين الذين قهروهم ما لم يدخلوا حصونَهم ومدائنهم، كما يجب عليهم ذلك إذا وقع الظهور على المسلمين، أو على أهل الذمّة؟ وكذلك لو أنّ هؤلاء المستأمنين كانوا من أهل دار الموادعة، دخلوا إلينا بتلك الموادعة".183

وحين عجز المسلمون عن حماية أهل الذمة ردوا إليهم ما أخذوه من الجزية لفوات شرطها، وهو الحماية، فقد روى القاضي أبو يوسف في كتاب الخراج وغيره من أصحاب السير عن مكحول أن الأخبار تتابعت على أبي عبيدة بجموع الروم، فاشتد ذلك عليه وعلى المسلمين، فكتب أبو عبيدة لكل والٍ ممن خلَّفه في المدن التي صالح أهلها يأمرهم أن يردوا عليهم ما جُبي منهم من الجزية والخراج، كتب إليهم أن يقولوا لهم: إنما رددنا عليكم أموالكم، لأنه قد بلغنا ما جمع لنا من الجموع، وإنكم قد اشترطتم علينا أن نمنعكم، وإنا لا نقدر على ذلك، وقد رددنا عليكم ما أخذنا منكم، ونحن لكم على الشرط وما كان بيننا وبينكم ؛ إن نصرنا الله عليهم". 184

وحين قام أهل الذمة بالمشاركة بالذود عن بلادهم أسقط عنهم المسلمون الجزية، كما صنع معاوية t مع الأرمن، يقول لوران المؤرخ الفرنسي في كتابه "أرمينية بين بيزنطة والإسلام" : "إن الأرمن أحسنوا استقبال المسلمين ليتحرروا من ربقة بيزنطة، وتحالفوا معهم ليستعينوا بهم على مقاتلة الخزر، وترك العرب لهم أوضاعهم التي ألفوها وساروا عليها، والعهد أعطاه معاوية سنة 653م، إلى القائد تيودور رختوني ولجميع أبناء جنسه ماداموا راغبين فيه، وفي جملته: (أن لا يأخذ منهم جزية ثلاث سنين، ثم يبذلون بعدها ما شاؤوا، كما عاهدوه وأوثقوه على أن يقوموا بحاجة خمسة عشر ألف مقاتل من الفرسان منهم بدلاً من الجزية، وأن لا يرسل الخليفة إلى معاقل أرمينيا أمراء ولا قادة ولا خيلاً ولا قضاة... وإذا أغار عليهم الروم أمدهم بكل ما يريدونه من نجدات. وأشهد معاويةُ الله على ذلك). 185

ولما تعهد الجراجمة (قريباً من أنطاكيا) بالقيام بالدفاع عن ثغرهم مع المسلمين، وأن يكونوا عيوناً للمسلمين وأعواناً لهم؛ أسقط عنهم أبو عبيدة t الجزية، بل صالحهم على أن ينفلوا مع المسلمين إذا غنموا في حربهم إلى جانب المسلمين.186

وبمثله صالح t أهل السامرة فأسقط عنهم الجزية ، يقول البلاذري: "كانوا عيوناً وأدلاء للمسلمين على جزية رؤوسهم".187

وأما أهل جرجان، فقد نقل الطبري أن سويد بن مقرن رفع الجزية عمن يقوم بحمايتها منهم، وكتب لهم بذلك كتاباً جاء فيه: " إن لكم الذمة، وعلينا المنعة، على أن عليكم من الجزاء (أي الجزية) في كل سنة على قدر طاقتكم، على كل حالم، ومن استعنا به منكم فله جزاؤه (جزيته) في معونته عوضاً من جزائه، ولهم الأمان على أنفسهم وأموالهم ومللهم وشرائعهم، ولا يغير شيء من ذلك هو إليهم؛ ما أدوا وأرشدوا ابن السبيل ونصحوا وقروا المسلمين، ولم يبد منهم سل ولا غل ".188

ومثله ما كتبه عتبة بن فرقد عامل عمر بن الخطاب لأهل أذربيجان ، فقد أعطاهم "كلهم الأمان على أنفسهم وأموالهم ومللهم وشرائعهم، على أن يؤدوا الجزية، على قدر طاقتهم ليس على صبي ولا امرأة، ولا زمِن ليس في يديه شيء من الدنيا، ولا متعبد متخل ليس في يديه من الدنيا شيء ... ومن حشر منهم في سنة (أي دعي للمشاركة في الدفاع) وضع عنه جزاء تلك السنة".

ثم يضيف الطبري بأن عتبة قدم بالكتاب على الخليفة عمر " وذلك أن عمر كان يأخذ عماله بموافاة الموسم في كل سنة، يحجر عليهم بذلك الظلم، ويحجزهم به عنه".189

ومثله أيضاً كتب سراقة بن عمرو لأهل أرمينيا، فقد تضمن عهدهم: " أن ينفروا لكل غارة، وينفذوا لكل أمر ناب أو لم ينب؛ رآه الوالي صلاحاً؛ على أن توضع الجزاء عمن أجاب إلى ذلك .. والحشر عوض من جزائهم، ومن استغنى عنه منهم وقعد فعليه مثل ما على أهل أذربيجان من الجزاء .. فإن حشروا وضع ذلك عنهم ".190

لذا حق لآدم ميتز أن يرى الجزية أشبهت ما نسميه اليوم بالخدمة العسكرية، إذ يقول: " وكانت هذه الجزية أشبه بضريبة الدفاع الوطني، فكان لا يدفعها إلا الرجل القادر على حمل السلاح ". 191

ويوافقه المؤرخ توماس أرنولد، فيقول: "ولم يكن الغرض من فرض هذه الضريبة على المسيحيين - كما يريدنا بعض الباحثين على الظن - لوناً من ألوان العقاب لامتناعهم عن قبول الإسلام، وإنما كانوا يؤدونها مع سائر أهل الذمة. وهم غير المسلمين من رعايا الدولة الذين كانت تحول ديانتهم بينهم وبين الخدمة في الجيش، في مقابل الحماية التي كفلتها لهم سيوف المسلمين". 192

ويقول ول ديورانت: " ولم تكن هذه الضريبة تفرض إلا على غير المسلمين القادرين على حمل السلاح .. وكان الذميون يعفون في نظير هذه الضريبة من الخدمة العسكرية .. وكان لهم على الحكومة أن تحميهم ". 193

وينقل الدكتور علي الخربوطلي عن فان فلوتن قوله بأن "الضرائب ليست فادحة بالنسبة لما كانت تقوم به الحكومة العربية من بناء الطرق وحفر الترع وتوطيد الأمن وما إلى ذلك من ضروب الإصلاح، والحقيقة أن الجزية لم تكن عقاباً لأهل الذمة، فهي نظير إعفائهم من الجندية وفي مقابل حماية المسلمين لهم".194

وحين يعجز دافع الجزية عنها فإنها تسقط عنه، لا بل يدفع له من بيت مال المسلمين ما يكفيه ويقوته – كما سبق بيانه – ، ويقول أبو الوليد الباجي: " إذا اجتمعت على الذمي جزية سنتين أو أكثر لم تتداخل في قول الشافعي، وتتداخل في قول أبي حنيفة، وتجب عليه جزية سنةٍ واحدةٍ، والظاهر من مذهب مالكٍ أنه إن كان فر منها أخذ منه للسنين الماضية، وإن كان ذلك لعجزٍ لم تتداخل، ولم يبق في ذمته ما يعجز عنه من السنين .. وهذا القول مبني على أن الفقير لا جزية عليه ولا تبقى في ذمته". 195

قال القرطبي: "وأما عقوبتهم إذا امتنعوا عن أدائها مع التمكين فجائز، فأما مع تبين عجزهم فلا تحل عقوبتهم، لأن من عجز عن الجزية سقطت عنه، ولا يكلف الأغنياء أداءها عن الفقراء". 196

وأما عن تفسير قوله: ] عن يدٍ [ فقال ابن حجر: " أي عن طيب نفس , وكل من أطاع لقاهرٍ وأعطاه عن طيب نفس من يد فقد أعطاه عن يد . وقيل معنى قوله : ] عن يد [ أي نعمة منكم عليهم , وقيل: يعطيها من يده ولا يبعث بها".197

وأما الأمر بالصغار الوارد في قوله: } وهم صاغرون {، فهو معنى لا يمكن أن يتنافى مع ما رأيناه في أقوال النبي r من وجوب البر والعدل، وحرمة الظلم والعنت، وهو ما فهمه علماء الإسلام ، ففسره الشافعي بأن تجري عليهم أحكام الإسلام، أي العامة منها، فالجزية علامة على خضوع الأمة المغلوبة للخصائص العامة للأمة الغالبة.

وفسره التابعي عكرمة مولى ابن عباس بصورة دفع الجزية للمسلمين، فقال: "أن يكونوا قياماً، والآخذ لها جلوساً"، إذ لما كانت اليد المعطية على العادة هي العالية، طلب منهم أن يشعروا العاطي للجزية بتفضلهم عليه، لا بفضله عليهم، يقول القرطبي في تفسيره: "فجعل يد المعطي في الصدقة عليا، وجعل يد المعطي في الجزية سفلى، ويد الآخذ عليا".198

وقال ابن القيم: " لما كانت يد المعطي العليا، ويد الآخذ السفلة؛ احترز الأئمة أن يكون الأمر كذلك في الجزية، وأخذوها على وجه تكون يد المعطي السفلى، ويد الآخذ العليا".199

وأما ما نقل عن بعض الفقهاء من صور مستقبحة في معنى الصغار فهي مما استقبحه العلماء وأنكروه، ومنه ما نقله تقي الدين الحصني الشافعي عن بعضهم بقولهم: "وتؤخذ على وجه الصغار والإهانة؛ بأن يكون الذمي قائماً، والمسلم جالساً، ويأمره أن يخرج يده من جيبه، ويحني ظهره، ويطأطئ رأسه، ويصب ما معه في كفة الميزان، ويأخذ المستوفي بلحيته، ويضرب في لهزمته، وفي مجمع اللحم بين الماضغ والأذن".

وتعقبها النووي بقوله: "هذه الهيئة باطلة، ولا نعلم لها أصلاً معتمداً، وإنما ذكرها بعضهم .. فالصواب الجزم ببطلانها، وردها على من اخترعها، ولم ينقل أنه عليه الصلاة والسلام ولا أحد من الخلفاء الراشدين فعل شيئاً منها".200

ولما ذكر ابن القيم صوراً شبيهة ذكرها الفقهاء عقّب بقوله: "وهذا كله مما لا دليل عليه ولا هو مقتضى الآية، ولا نقل عن رسول الله ولا عن الصحابة أنهم فعلوا ذلك، والصواب في الآية أن الصغار هو التزامهم لجريان أحكام الملة عليهم وإعطاء الجزية، فإن التزام ذلك هو الصغار".201

ونقل النووي عن جمهور العلماء قولهم: "تؤخذ برفق كأخذ الديون". 202

وليست الحماية السبب الوحيد الذي لأجله شرعت الجزية، بل ذكر العلماء أموراً ، منها أن الجزية والصغار وسيلة ضغط محدودة تدفع الذمي إلى التفكر في الإسلام والاطلاع على محاسنه والاهتداء إليه والفوز بالجنة.

قال ابن حجر: "قال العلماء: الحكمة في وضع الجزية أن الذل الذي يلحقهم ويحملهم على الدخول في الإسلام مع ما في مخالطة المسلمين من الاطلاع على محاسن الإسلام".203

خاتمة

- الإسلام دين الله الخاتم الذي أرسل به الله تعالى محمداً e رحمة للعالمين ، وارتضى دينه من بين سائر الأديان ديناً.

- الإسلام سبق إلى رعاية حرية الإنسان في البقاء على دينه، وأن لا يكره على تركه، كما ضمن حرية العبادة وسلامة دورها.

- أهل الذمة والأمان والعهد مصطلحات أطلقها الفقهاء المسلمون على غير المسلمين المقيمين أو الوافدين إلى بلاد الإسلام، وتفيد أن هؤلاء في عهد المسلمين وذمتهم وحمايتهم.

- اعترف الإسلام بوجود الأديان تجانساً مع اعترافه بحتمية الخلاف وبقدرة الإنسان على التمييز والاختيار.

- الإكراه على الإسلام سوءة لم يصنعها المسلمون طوال تاريخهم بسبب قطعية النصوص المحرمة لذلك، وقد شهد لهذا المؤرخون الغربيون وغيرهم.

- حرص فقهاء الإسلام وملوكهم على رعاية أهل الذمة وحراسة حقوقهم فرقاً من وعيد النبي e لمن ظلمهم واعتدى عليهم.

- الله يحب المسلم الذي يعدل ويبر أهل الذمة بصور البر المختلفة من صلة وهدية وعيادة وضيافة وإكرام.

- أدركت الأمم عظمة الإسلام وسماحة دين الفاتحين ، فأحسنت استقبالهم وكانت عوناً لهم على حفظ الثغور ورد العدوان.

- شمل الإسلام بتعاليمه أهل الذمة في نظامه التكافلي، فتحول الذمي من دافع للجزية إلى مكفول من قبل المجتمع المسلم.

- الجزية نظام عرفته الأمم قديماً كما شرعته الكتب المقدسة عند اليهود والنصارى، بيد أن الإسلام سما بهذه الشريعة، وأضاف إليها ضمانات فريدة في مقابل دنانير معدودة سارع المغلوبون إلى دفعها.

فهرس المصادر والمراجع

* الأحكام السلطانية، أبو يعلى الفراء الحنبلي، دار الفكر، 1406هـ.

* أحكام أهل الذمة، ابن قيم الجوزية، تحقيق: يوسف أحمد البكري وشاكر العاروري، دار ابن حزم، الدمام، 1408هـ.

* الإسلام وأهل الذمة، علي حسن الخربوطلي، المجلس الأعلى للشؤون الإسلامية، القاهرة، 1389 هـ.

* الأموال، أبو عبيد القاسم بن سلام، تحقيق: محمد خليل هراس، ط2، دار الفكر للطباعة والنشر، 1395هـ.

* الأموال، حميد بن زنجويه، تحقيق: د. شاكر ذيب فياض ، مركز الملك فيصل لبحوث والدراسات الإسلامية، 1406هـ.

* أهل الذمة في الإسلام، د. أ.س. ترتون، ترجمة وتعليق: حسن حبشي، ط3، الهيئة المصرية العامة للكتاب، 1994م.

* تاريخ الأمم والملوك، محمد بن جرير الطبري، دار الكتب العلمية، بيروت، 1407هـ.

* تاريخ عمر، أبو الفرج ابن الجوزي، تحقيق: علي محمد عمر، دار البيان العربي.

* تحفة الأحوذي، محمد عبد الرحمن المباركفوري، دار الكتب العلمية، بيروت.

* تفسير القرآن العظيم، ابن كثير ، دار الفكر ، بيروت، 1401هـ.

* جامع البيان، محمد بن جرير الطبري، دار الفكر، بيروت، 1405هـ.

* الجامع لأحكام القرآن، أبو عبد الله القرطبي، تحقيق: أحمد البردوني، ط2، دار الشعب، القاهرة، 1372هـ.

* الحضارة الإسلامية في القرن الرابع الهجري، آدم متز، تعريب: محمد عبد الهادي أبو ريدة، ط4، دار الكتاب العربي، بيروت، 1387هـ.

* حضارة العرب، غوستاف لوبون، ترجمة: عادل زعيتر، مطبعة عيسى البابي الحلبي.

* حقوق غير المسلمين في بلاد الإسلام، صالح حسين العايد، دار أشبيليا، 1422هـ.

* الخراج، أبو يوسف يعقوب بن إبراهيم، المطبعة السلفية، القاهرة، 1346هـ.

* روح الدين الإسلامي، عفيف طبارة، ط17، دار العلم للملايين، 1978م.

* سماحة الإسلام، أحمد الحوفي، إصدارات المجلس الأعلى للشؤون الإسلامية، 1391م.

* شرح السير الكبير، محمد بن الحسن الشيباني، تحقيق: صلاح الدين المنجد، [بدون معلومات نشر].

* شرح النووي على صحيح مسلم، النووي، ط2، دار إحياء التراث، بيروت، 1392هـ.

* شمس العرب تسطع على الغرب، زيغريد هونكه، ترجمة: فاروق بيضون وكمال دسوقي، ط 10، دار صادر، بيروت، 1423هـ.

* الطبقات الكبرى، ابن سعد، دار صادر ، بيروت.

* غير المسلمين في المجتمع المسلم، يوسف القرضاوي، مكتبة وهبة، 1397هـ.

* فتح الباري بشرح صحيح البخاري، دار المعرفة، بيروت، 1379هـ.

* فتوح البلدان، أحمد بن يحيى البلاذري، مؤسسة المعارف ، بيروت، 1407هـ.

* فتوح مصر وأخبارها، أبو القاسم عبد الرحمن بن عبد الحكم، طبع في مدينة ليدن.

* الفروق، أحمد بن إدريس الصنهاجي القرافي [بدون معلومات نشر].

* فن الحكم في الإسلام، مصطفى أبو زيد فهمي، المكتب المصري الحديث.

* قالوا عن الإسلام، عماد الدين خليل، الندوة العالمية للشباب الإسلامي،1412هـ.

* قصة الحضارة، ول ديورانت، ترجمة محمد بدران، ط2، مطبعة لجنة التأليف والترجمة والنشر، 1964م.

* المنتقى شرح موطأ إمام دار الهجرة، أبو الوليد الباجي، مطبعة دار السعادة، 1331هـ.

================

#موتوا بغيظكم يا عُباد الصليب

عبد العزيز بن ناصر الجليل

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد الله الذي رضي لنا الإسلام ديناً , ونصب لنا الدلالة على صحته برهاناً مبيناً , وأوضح السبيل إلى معرفته واعتقاده حقاً يقيناً , ووعد من قام بأحكامه وحفظ حدوده أجراً جسيماً , وذخراً لمن وفاه به ثوابا جزيلا وفوزاً عظيماً , وفرض علينا الانقياد له ولأحكامه , والتمسك بدعائمه وأركانه , والاعتصام بعراه وأسبابه

فهو دينه الذي ارتضاه لنفسه ولأنبيائه ورسله وملائكة قدسه , فبه اهتدى المهتدون وإليه دعا الأنبياء والمرسلون ( أفغير دين الله يبغون وله أسلم من في السموات والأرض طوعا وكرها وإليه يرجعون ) , فلا يقبل من أحد دينا سواه من الأولين والآخرين , {وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِيناً فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ } ]آل عمران :85[.

وحكم سبحانه بأنه أحسن الأديان , ولا أحسن من حكمه ولا أصدق منه قيلا فقال {وَمَنْ أَحْسَنُ دِيناً مِّمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لله وَهُوَ مُحْسِنٌ واتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً وَاتَّخَذَ اللّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلاً }]النساء 125[

وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له , ولا ضد له , ولا ند له , ولا صاحب له , ولا ولد له , ولا كفؤ له , تعالى عن إفك المبطلين , وخرص الكاذبين , وتقدس عن شرك المشركين وأباطيل الملحدين .

وأشهد أن محمداً عبده ورسوله وصفوته من خلقه وخيرته من بريته , وأمينه على وحيه , وسفيره بينه وبين عباده , ابتعثه بخير ملة و أحسن شرعة , و أظهر دلالة وأوضح حجة , وأبين برهان إلى جميع العالمين أنسهم وجنهم , عربهم وعجمهم , حاضرهم وباديهم , الذي بشرت به الكتب السالفة , وأخبرت به الرسل الماضية , وجرى ذكره في الإعصار وفي القرى الأمصار والأمم الخالية , ضربت لنبوته البشائر من عهد آدم أبي البشر , إلى عهد المسيح ابن البشر .

رضي المسلمون بالله ربا وبالإسلام دينا وبمحمد رسولا , ورضي المخذول بالصليب والوثن إلها وبالتثليث والكفر ديناً , وبسبيل الضلال والغضب سبيلا ... ( أما بعد )

فإن من بعض حقوق الله على عبده : رد الطاعنين على كتابه ورسوله ودينه ومجاهدتهم بالحجة والبيان , والسيف والسنان , والقلب والجنان , وليس وراء ذلك حبة خردل من الإيمان ........) ]اقتباساً من مقدمة كتاب (هداية الحيارى) لابن القيم رحمه الله باختصار.[

وإن ما تفوه به عابد الصليب وإمام الكفر ورئيسه في (الفاتيكان) لم يكن هو الأول من نوعه وليس غريباً أن يخرج من أفواههم النجسة مثل هذا الكلام لأنه وأمثاله قد ملئوا كفراً وحقداً وكل إناء بما فيه ينضح ومثل هذا الكفر المتجدد إنما هو زيادة في الكفر على كفرهم وإملاء من الله عز وجل لهم حتى يسرعوا إلى الأجل الذي قدره الله لهم ليقصمهم فيه ويمحقهم قال الله عزوجل {وَلاَ يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِّأَنفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُواْ إِثْماً وَلَهْمُ عَذَابٌ مُّهِينٌ } ]آل عمران178. [

وليس الغرض من هذه الكتابة الرد على ماتفوه به إمام الكفر ومرجع النصرانية الوثنية في العالم اليوم فقد كفانا الرد على شبهاتهم أئمة الإسلام في القديم والحديث كشيخ الإسلام بن تيمية رحمه الله تعالى في كتابه العظيم ( الجواب الصحيح ) , وتلميذه الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى في كتابه النفيس ( هداية الحيارى ) . هذا لو كان ما قاله رئيس الكفر ناشئاً عن جهل بالإسلام ورسول الإسلام أما وإنه يعرف حقيقة الإسلام وحقيقة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم كما يعرف أبناءه وما صده عن ذلك وجعله يقول ما قال إلا العناد الاستكبار فإن مثل هذا لا يستحق الرد ولا الالتفات وإنما الله عز وجل هو الذي يتولى الرد على هذا وأمثاله بما يشاء {إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ }]الحج38.[

وإنما المقصود من هذه الكتابة مخاطبة إخواني المسلمين الموحدين بتوظيف هذا الحدث في التركيز والتأكيد على بعض المسائل والأصول المهمة التي يسعى أعداء هذا الدين من الكفرة والمنافقين في توهينها والتشويش عليها لعلمهم بأنها هي التي تحفظ للمسلمين كيانهم وعقيدتهم وأخلاقهم .

ويمكن الحديث عن هذه المسائل المهمة في ظل هذه الهجمة الشرسة من أئمة الكفر على ديننا حسب الوقفات التالية :

الوقفة الأولى : النظر إلى هذه الأحداث في ضوء السنن الإلهية .

الوقفة الثانية : من ألطاف الله عزوجل وحكمته في هذه الأحداث .

الوقفة الثالثة : موتوا بغيظكم .

الوقفة الرابعة : رمتني بدائها وانسلت .

الوقفة الخامسة : بل انتشر الإسلام بالسيف والبيان .

الوقفة الأولى : النظر إلى هذه الأحداث في ضوء السنن الإلهية :

يقول الله تعالى : {قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُواْ فِي الأَرْضِ فَانْظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذَّبِينَ }]آل عمران137.[

ويقول سبحانه { فَهَلْ يَنظُرُونَ إِلَّا سُنَّتَ الْأَوَّلِينَ فَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلاً وَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلاً }]فاطر43[

والآيات من كتاب الله عز وجل في الحث على النظر في السنن الربانية كثيرة جداً وبخاصة عند التقديم والتعقيب على قصص الأنبياء عليه الصلاة والسلام مع أقوامهم , إنه من الواجب على دعاة الحق والمجاهدين في سبيل الله أن يقفوا طويلاً مع كتاب الله عز وجل وما تضمن من الهدى والنور ومن ذلك ما تضمنه من السنن الربانية المستوحاة من دعوة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام , وذلك لأن في معرفتها والسير على هداها أخذ بأسباب النصر والتمكين والفلاح , ونجاة مما وقع فيه الغير من تخبط وشقاء وفي الغفلة عنها تفريط في الأخذ بأسباب النجاة , وحرمان التوفيق في النظر الصحيح للأحداث والمواقف وليس المقصود هنا التفصيل في موضوع السنن الربانية فهذا له مقام آخر , وإنما المقصود هو الاستضاءة بهذه السنن في الوصول إلى الموقف الحق الذي نحسب أنه يرضي الله عز وجل وذلك في الأحداث الساخنة التي تدور رحاها اليوم في حرب الإسلام وأهله .

وأكتفي بذكر سنة واحدة من سنن الله تعالى تتناسب هذا الحدث الذي نحن بصدده . وبفهم هذه السنة يزول الاستغراب مما يحدث ونتمكن من الفهم الصحيح لحقيقة هذه الهجمات المتتالية من أعداء الإسلام ودوافعها وحكمة الله عز وجل في إيجادها لأن من أسمائه سبحانه : العليم الحكيم ومن أثار هذين الاسمين الكريمين اليقين بأن أي شيء يحدث في خلقه سبحانه فإنما هو بعلم الله تعالى وإرادته وحكمته البالغة . وهذه السنة التي أعنيها هنا والتي هي مقتضى حكمته سبحانه وعلمه هي سنة المدافعة والصراع بين الحق والباطل :

يقول الله عزوجل : { وَلَوْلاَ دَفْعُ اللّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَّفَسَدَتِ الأَرْضُ وَلَكِنَّ اللّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ }]البقرة251. [

ويقول تبارك وتعالى { وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيراً وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ }]الحج40[.

في هاتين الآيتين أبلغ دليل على أن الصراع حتمي بين الحق وأهله من جهة والباطل وأهله من جهة أخرى , هذه سنة إلهية لا تتخلف ووقائع التاريخ القديم والحديث تشهد على ذلك وهذه المدافعة وهذا الصراع بين الحق والباطل إن هو إلا مقتضى علمه سبحانه وحكمته ورحمته ولطفه وهو لصالح البشرية وإنقاذها من فساد المبطلين , ولذلك ختم الله عز وجل آية المدافعة في سورة البقرة , بقوله سبحانه (وَلَكِنَّ اللّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ).

حيث لم يجعل الباطل وأهله ينفردون بالناس بل قيض الله له الحق وأهله يدمغونه حتى يزهق فالله تعالى يقول {بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ } ]الأنبياء:18[.

إن الذين يطمعون في الإصلاح ودرء الفساد عن الأمة بدون هذه السنة – أعني سنة المدافعة مع الباطل وأهل الفساد - إنهم يتنكبون منهج الأنبياء في الدعوة إلى الله عزوجل الذي ارتضاه واختاره لهم , وإن الذين يؤثرون السلامة والخوف من عناء المدافعة مع الفساد وأهله , إنهم بهذا التصرف لا يسلمون من العناء والمشقة , بل إنهم يقعون في مشقة أعظم وعناء أكبر يقاسونه في دينهم , وأنفسهم, وأعراضهم , وأموالهم , وهذه هي ضريبة القعود عن مدافعة الباطل , وإيثار الحياة الدنيا .

والمدافعة بين الحق والباطل تأخذ صوراً متعددة : فبيان الحق وإزالة الشبه ورفع اللبس عن الحق وأهله مدافعة , والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مدافعة , وبيان سبيل المؤمنين وسبيل المجرمين مدافعة , والصبر والثبات على ابتلاء الأعداء من الكفرة والظلمة مدافعة , ويأتي الجهاد والقتال في سبيل الله عز وجل على رأس وذروة هذا المدافعات لكف شر الكفار وفسادهم عن ديار المسلمين ودينهم وأنفسهم وأعراضهم وأموالهم .

واليوم لم يعد خافياً على كل مسلم ما تتعرض له بلدان المسلمين قاطبة من غزو سافر وحرب شرسة على مختلف الأصعدة , وذلك من قبل أعدائها الكفرة , وأذنابهم المنافقين , فعلى الصعيد العسكري ترزح بعض بلدان المسلمين تحت الاحتلال العسكري لجيوش الكفرة المعتدين التي غزت أهل هذه البلدان في عقر دارهم كما هي الحال في أفغانستان والشيشان والعراق وفلسطين وكشمير , وعلى صعيد الحرب على الدين والأخلاق والإعلام والتعليم والاقتصاد لم يسلم بلد من بلدان المسلمين من ذلك.

وقد تقرر عند أهل العلم أن الجهاد يتعين على المسلمين إذا غزاهم الكفار في عقر دارهم, ويصبح واجباً على كل مسلم قادر أن يشارك في دفع الصائل عن بلده بكل ممكن , فإن كان الغزو عسكرياً وبالسلاح وجب رده بالقوة الممكنة والسلاح , وإذا كان الغزو بسلاح الكلمة والكتاب و المجلة والوسائل الإعلامية الخبيثة بأنواعها المقروءة والمسموعة والمشاهدة منها أقول : إذا كان الغزو من الكفار للمسلمين في عقر دارهم بهذه الوسائل والمعاول الخطيرة والتي يباشر الكفار بعضها وينيبون إخوانهم من المنافقين في بعضها فإن الجهاد بالبيان والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والمدافعة والتحصين يصبح واجباً عينياً على كل قادر من المسلمين كل بحسبه .

وحينما نربط هذه السنة ومقتضى اسمائه الحسنى بهذه الأحداث التي تزامنت وتتالت وتشابهت قلوب أصحابها في الهجوم على دين الإسلام وأهله وبلدانه تتضح لنا هذه السنة بجلاء وحينئذ يرتفع الاستغراب مما يقوم به الكفار من هجوم وافتراء على دين الإسلام ويشمر المسلم للدخول في الصراع ضد أعداء الله تعالى بما يستطيع من نفسه وماله ولسانه وقلمه . قال صلى الله عليه وسلم : ( جاهدوا المشركين بأموالكم وأيديكم وألسنتكم ) ( رواه النسائي (3045)وصححه الألباني )

الوقفة الثانية : ذكر بعض الحكم والألطاف الإلهية المتجلية في هذه الأحداث.

يقول الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى ( وأسماءه الحسنى تقتضي آثارها , وتستلزمها استلزام المقتضي المُوجب لمُوجبه ومُقتضاه , فلا بد من ظهور آثارها في الوجود فإن من أسمائه : الخلاق المقتضي لوجود الخلق , ومن أسمائه الرزاق المقتضى لوجود الرزق والمرزوق , وكذلك الغفار والتواب والحكيم والعفو, وكذلك الرحمن الرحيم , وكذلك الحكم العدل , إلى سائر الأسماء , ومنها الحكيم المستلزم لظهور حكمته في الوجود , والوجود متضمن لخلقه وأمره , { أَلاَ لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ تَبَارَكَ اللّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ } ] الأعراف :54[ فخلقه وأمره صدرا عن حكمته وعلمه ، وحكمته وعلمه اقتضيا ظهور خلقه وأمره , فمصدر الخلق والأمر عن هذين الاسمين المتضمنين لهاتين الصفتين , ولهذا يقرن – سبحانه – بينهما عند ذكر إنزال كتابه , وعند ذكر ملكه وربوبيته , إذ هما مصدر الخلق والأمر. ) ( الصواعق المرسلة : 4/1564)

إذا تبين لنا هذا الأصل العظيم أيقنا أن ما يجري اليوم من كيد وافتراء وهجوم شرس من الكفار على دين الإسلام فإنما هو بعلم الله تعالى وإرادته { ً وَلَوْ شَاء رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ } ]الأنعام : 112[ .

وأن له سبحانه الحكم البالغة في ذلك . والمؤمنون يحسنون الظن بربهم سبحانه ويوقنون أن عاقبة هذه الأحداث التي يقدرها الله عز وجل هي خير ومصلحة ولطف بالموحدين إن شاء الله تعالى . ومع أن المعركة مع الكفار لازالت في بدايتها . ومع أنها موجعة وكريهة إلا أننا نلمس لطف الله عز وجل ورحمته في أعطافها ., وأقتصر على ثلاث من أهم هذه الألطاف والثمار العظيمة :

الأولى : تلك اليقظة الشاملة بين المسلمين والوعي بحقيقة أعدائهم وما يكيدون به للإسلام وأهله . ومع إن هذا العداء والكيد من الكفار قد حذرنا الله عز وجل منه في كتابه الكريم إلا أن كثيرا من المسلمين وبحكم غفلتهم عن كتاب ربهم سبحانه تلاوة أو تدبرا لم يتعظوا بكلام ربهم سبحانه فنسوا حظا مما ذكروا به وغفلوا عن عدوهم . ولذا فمن رحمته سبحانه أن يقدر أحداثاً مؤلمة للمسلمين لكنها تحمل في طياتها خيرا ومن ذلك كما أسلفت –يقظة المسلمين ورجوعهم إلى دينهم وتقوية عقيدة الولاء والبراء , وشحذ هممهم وعزائمهم لنصرة الدين والبراءة من أعدائهم وجهادهم باللسان والسنان . وهذا مكسب عظيم إذا قارناه بأحوال الأمة قبل ذلك وما كانت تعيشه من الغفلة والإنخداع بما يزعمه الكفرة والمنافقين أنهم دعاة سلام وأمن وحرية .

والمتدبرون لكتاب الله تعالى وتاريخ الصراع بين الحق والباطل لم يكونوا بحاجة إلي إقناعهم بعداوة الكفار وكيدهم من خلال هذه الهجمات الأخيرة بل إن هذه الهجمات زادتهم إيمانا ويقينا لما حذرهم الله عزوجل منه في كتابه الكريم .

ومن هذه التحذيرات قوله تعالى :{وَلَن تَرْضَى عَنكَ الْيَهُودُ وَلاَ النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ } ]البقرة:120[ وقوله عز وجل :( وَلاَ يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّىَ يَرُدُّوكُمْ عَن دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُواْ.... الآية { ] البقرة:217[ .

وقوله سبحانه : {مَّا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلاَ الْمُشْرِكِينَ أَن يُنَزَّلَ عَلَيْكُم مِّنْ خَيْرٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَاللّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَن يَشَاءُ وَاللّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ.... الآية} ]البقرة :105[ .

وقوله سبحانه {وَدَّ كَثِيرٌ مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُم مِّن بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّاراً حَسَداً مِّنْ عِندِ أَنفُسِهِم مِّن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ ..... الآية} ] البقرة:109 [ .

وقال سبحانه {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاء بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ } ]المائدة :51 [ .

إذن فلا غرابة إذا هاجموا دين الإسلام ورسول الإسلام صلى الله عليه وسلم فهذا شأنهم وشنشنتهم في قديم الزمان وحديثه , وأعظم من ذلك وأشنع سبهم لله عز وجل وطعنهم في ربوبيته و ألوهيته بنسبة الولد إليه وجعله شريكا مع الله عز وجل في ربوبيته و ألوهيته تعالى الله عما يقول الظالمون علوا كبيرا .

ولكن الملفت في هذه الهجمات المتأخرة تزامنها وتتابعها وتوزيع الأدوار بين رموز الكفر عندهم بمختلف توجهاتهم , السياسية , والدينية , والثقافية , و العسكرية .

والتصريح الذي صدر من رئيس الفتيكان يأتي في سياق حملة عالمية وراءها اليهود والنصارى وأذنابهم من المنافقين على الإسلام والمسلمين بدأت في دوائر الثقافة والفكر والإعلام فيما سمي بصراع الحضارات , وما سمي بنهاية التاريخ , وعبر عنه المحافظون الجدد في أمريكا والأحزاب والأنظمة والشخصيات المتناغمة معهم في أوروبا وأستراليا , وأيضاً عبر عنه الإنجيليون وعبرت عنه التجمعات الماسونية المختلفة في العالم , ثم تحولت هذه الحملة المحمومة المسمومة الحاقدة إلى فعل سياسي واحتلال عسكري يمارس من خلال الجيوش الغربية , حين أعلن الطاغوت الأول "بوش " أنها حرب صليبية , واحتلت العراق وأفغانستان , وتهدد وتحاصر البلدان الإسلامية الأخرى وتمارس عليها الضغوط ومن ذلك كلام بوش الأخير ووصفه للمسلمين بالفاشيين وقبله كلام رئيس الوزراء الإيطالي عن الحضارة والإسلام وبعده الرسوم المسيئة في الصحف الدنماركية ثم ها نحن نرى الآن رئيس الفاتيكان يبارك هذه الجهود , ويعلن من كرسي البابوية انسياقه في هذه الحملة , وهذا يذكرنا بدور الباباوات في الحروب الصليبية السيئة الذكر , التي حفل بها تاريخ الغربيين .

إذن فإن يقظة المسلمين ووقوفهم على حقيقة أعدائهم وما يخططون من حروب صليبية بدأت طلائعها في بعض بلدان المسلمين . إن هذا من فوائد هذه الأحداث المرة والتي يجب على دعاة هذه الأمة وعلمائها توظيفها في شحن الهمم وتقوية عقيدة الولاء والبراء ودعوة كل قادر في هذه الأمة إلى مواجهة هذا الغزو الخطير على بلدان المسلمين عقدياً وعسكرياً واستنفار المسلمين في جهاد الأعداء الغزاة باللسان والبيان والسنان .

الثانية : فضح الدعوات التي يرفعها رموز المنافقين وبعض المهزومين من المسلمين التي تدعو إلى التعايش مع الآخر وترك تسميته بالكافر والقضاء على مشاعر الكراهية نحوه بل الدعوة إلى محبته وموالاته !!

فهاهو حقد الآخر وكيده وحربه فماذا يقول دعاة ( نحن ولآخر ) ؟ وماذا يقوله رموز السلام الذين يريدون نزع الكراهية والبراءة من الكفار من صدور المسلمين ؟ ، وقال كلينتون –الرئيس الأمريكي الأسبق - في تصريحات لشبكة سي.إن.إن الإخبارية" إن البابا ساهم من خلال هذه التصريحات في إضعاف تأثير رجال الدين الإسلامي المعتدلين الذين يحاولون “استعادة” راية دينهم من الإسلاميين المتعصبين، وقال أيضا في برنامج لاري كينج لايف الحواري الشهير على الشبكة الأمريكية إن كل شخص منا يدلي بهذه التصريحات وخاصة إذا كان في منصب مرموق مثل البابا، يزيد من صعوبة مهمة المعتدلين في العالم الإسلامي".

إنهم يفتضحون وتتهاوى دعواتهم وبرامجهم, هذا عن المنافقين منهم . أما من انخدع بهذه الدعوات من جهلة المسلمين ومهزوميهم فأحسب أن الغفلة والتلبيس قد زالت عنهم وحل مكانهما الشعور بكراهية الكافر والبراءة منه ومن كفره والاستعداد لجهاده ورد كيده وكفره . وهذه ثمرة عظيمة أفرزها هذا الهجوم السافر الظالم من رموز الكفار المحاربين لله ولرسوله{فَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئاً وَيَجْعَلَ اللّهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً }]النساء19[

الثالثة : السقوط الذريع لما يسمى بالدعوة إلى وحدة الأديان وتقاربها !! ومع أن هذه الدعوة الخطيرة متهافتة وباطلة من أصلها بما تعرفه من استحالة اجتماع التوحيد مع الشرك حيث علمنا الله عز وجل أن لا وحدة ولا تقارب ولا تفاهم بين الإيمان والكفر وذلك في كتابه سبحانه حيث قال (فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلاَّ الضَّلاَلُ) ]يونس: 32 [ ويبين لنا سبحانه موقف الكفار مع انبيائهم الذين يدعونهم إلى التوحيد بقوله {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُم مِّنْ أَرْضِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ } ] ابراهيم : 13 [

وقال سبحانه عن نبيه هود عليه السلام وهو يتحدى قومه الكفار : ({قَالَ إِنِّي أُشْهِدُ اللّهِ وَاشْهَدُواْ أَنِّي بَرِيءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ }هود54*مِن دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعاً ثُمَّ لاَ تُنظِرُونِ }] هود:55 [ ومع وضوح هذه الأدلة الدامغة إلا أنه وجد من المسلمين من انخدع بمثل هذه الدعوات فراح يضيع عمره في اللهث وراءها . ولكن من رحمة الله تعالى ولطفه أن يقدر مثل هذه الأحداث التي تبين خبث القوم وكيدهم وغطرستهم مما كان له الأثر الكبير في استيقاظ المخدوعين من المسلمين على استحالة هذا التقارب وبطلانه من أصله .

ومن باب الفائدة في هذا المقام أحيل القارئ الكريم إلي فتوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء في حكم الدعوة إلي وحدة الأديان وتقاربها وتحمل هذه الفتوى رقم(19042).

الوقفة الثالثة : ( قل موتوا بغيظكم )

يعجب بعض المتابعين من الحملة المتزايدة على الإسلام من بعض الزعماء الدينيين والسياسيين النصارى في السنوات الأخيرة , ويتساءل بعضهم عن سر التوقيت والتزامن , فمن كلام بوش عن المسلمين الفاشيين , إلى كلام البابا بندكت السادس عن – النبي صلى الله عليه وسلم – وقبلها كلام رئيس الوزراء الايطالي عن الحضارة الإسلامية , وبعده الرسوم المسيئة , وغير ذلك من حملات التشويه ويتساءل البعض عن الأسباب الكامنة في هذه الحملات ولماذا في هذا الوقت بالذات ؟ ولا شك أن هناك أسباباً لهذه الحملات في هذا الوقت من أهمها ما يلي :

السبب الأول : الانتشار الواسع لدين الإسلام في معاقل النصرانية والذي أقض مضاجعهم وملأ قلوبهم غيظاً وحقداً وحسداً على أهل الاسلام والتوحيد ويمثل هذا الانتشار الواسع لدين الإسلام وكثرة المعتنقين له في المظاهر التالية :

أ- زيادة أعداد المساجد في دول الغرب :

ففي قلب أوروبا بدأت أعداد المساجد فيها تنافس أعداد الكنائس في باريس ولندن ومدريد وروما ونيويورك , وصوت الأذان الذي يرفع كل يوم في تلك البلاد خمس مرات , خير شاهد على ان الإسلام يكسب كل يوم أرضاً جديدة وأتباعا جدداً . فقد أصبح للأذان من يلبيه في كل أنحاء الأرض, من طوكيو حتى نيويورك , وعند نيويورك ومساجدها نتوقف , ففي أوقات الأذان الخمس ينطلق الأذان في نيويورك وحدها في مائة مسجد , وبلغ عدد المساجد في الولايات المتحدة الأمريكية ما يقرب (2000) مسجد والحمدالله.

وترتفع في بريطانيا مئذنة نحو (1000) مسجد , وتعلو سماء فرنسا وحدها مئذنة (1554) مسجداً ولا تتسع المصلين , وأما ألمانيا فتقدر المساجد وأماكن الصلاة فيها بـ (2200 ) مسجد ومصلى , وأما بلجيكا فيوجد فيها نحو (300) مسجد ومصلى ووصل عدد المساجد ومصليات في هولندا الى مايزيد عن (400) مسجد , كما ترتفع في إيطاليا وحدها مئذنة ( 130 ) مسجداً , أبرزها مسجد روما الكبير , وأما النمسا فيبلغ عدد المساجد فيها حوالي (76) مسجداً .

هذه فقط بعض الدول في أوروبا الغربية ، عدا عن أوروبا الشرقية، والاقبال يزداد يوماً بعد يوم، ومن هذه المساجد يتحرك الإسلام وينطلق .

ب – تحذير الصحف الغربية من إنتشار الإسلام :

فقد بدأت الصحف الغربية تطلق صيحات تحذير من إنتشار واسع لدين الإسلام بين النصارى , ومن ذلك ما جاء في مقال نشر في مجلة (التايم) الأمريكية " وستشرق شمس الإسلام من جديد , ولكنها هذه المرة تعكس كل حقائق الجغرافيا , فهي لا تشرق من المشرق كالعادة , وإنما ستشرق في هذه المرة من الغرب "

أما جريدة ( الصاندي تلغراف ) البريطانية فقالت في نهاية القرن الماضى : " إن إنتشار الإسلام مع نهاية هذا القرن – يعني الذي مضى – ومطلع القرن الجديد يعني الذي نحن فيه – ليس له من سبب مباشر إلا أن سكان العالم من غير المسلمين بدؤوا يتطلعون إلى الإسلام , وبدؤوا يقرؤون عن الإسلام, فعرفوا من خلال اطلاعهم أن الإسلام هو الدين الوحيد القادر على حل كل مشاكل البشرية "

مجلة (لودينا) الفرنسية قالت بعد دراسة قام بها متخصصون " إن مستقبل نظام العالم سيكون دينياً , وسيعود النظام الإسلامي على الرغم من ضعفه الحالي , لأنه الدين الوحيد الذي يمتلك قوة شمولية هائلة "

ج – انتشار بيع نسخ القران الكريم والكتب الإسلامية وبعد تفجيرات الحادي عشر من سبتمبر , التي كان لها آثار سيئة واسعة على النشاطات الإسلامية في الغرب وعلى دول الإسلام , إلا أنه مع ذلك ازداد في العالم الغربي الإقبال على التعرف على الإسلام بصورة غير متوقعة , وأصبحت نسخ القران الكريم المترجمة من أكثر الكتب مبيعاً في الأسواق الأمريكية والأوروبية حتى نفدت من المكتبات , لكثرة الإقبال على اقتنائها , وتسبب ذلك في دخول الكثير منهم في الإسلام , وفي ألمانيا وحدها بيعت خلال سنة (40) ألف نسخة من كتاب ترجمة معاني القران الكريم باللغة الألمانية . كما أعادت دار نشر (لاروس) الفرنسية الشهيرة طباعة ترجمة معاني القران الكريم بعد نفادها من الأسواق .

د- تزايد أعداد الداخلين في الإسلام

ففي عام 2001 نشرت صحيفة ( نيويورك تايمز ) مقالاً ذكرت فيه أن بعض الخبراء الأمريكيين الذين يعتنقون الإسلام سنوياً ب(25) ألف شخص ، وأن عدد الذين يدخلون دين الله يومياً تضاعف أربع مرات بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر حسب تقديرات أوساط دينية. والمدهش أن أحد التقارير الأمريكية الذي نُشر قبل أربع سنوات ذكر أن عدد الداخلين في الإسلام بعد ضربات الحادي عشر من سبتمبر قد بلغ أكثر من ثلاثين ألف مسلم ومسلمة ، وهذا ما أكده رئيس مجلس العلاقات الإسلامية الأمريكي ؛ إذ قال : "إن أكثر من (24) ألف أمريكي قد اعتنقوا الإسلام بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر " وهو أعلى مستوى تحقق في الولايات المتحدة منذ أن دخلها الإسلام " .

أما في فرنسا فقد أوردت صحيفة(لاكسبرس) الفرنسية تقريراً عن انتشار الفرنسيين جاء فيه : "على الرغم من كافة الإجراءات التي اتخذتها الحكومة الفرنسية مؤخراً ضد الحجاب الإسلامي وضد كل رمز ديني في البلاد ، أشارت الأرقام الرسمية الفرنسية إلى أن أعداد الفرنسيين الذين يدخلون في دين الله بلغت عشرات الآلاف مؤخراً ، وهو ما يعادل إسلام عشرة أشخاص يومياً من ذوي الأصول الفرنسية ، هذا خلاف عدد المسلمين الفعلي من المهاجرين ومن المسلمين القدامى في البلاد"

وقد أشار التقرير إلى أن أعداد المسلمين في ازدياد من كافة الطبقات والمهن في المجتمع الفرنسي، وكذلك من مختلف المذاهب الفكرية.

وهذا الانتشار الواسع لدين الإسلام يحصل مع التضييق الشديد على الأنشطة الإسلامية والجمعيات الخيرية الإسلامية في كثير من الدول ، ومع وجود الجهود الهائلة والإمكانات الضخمة التي يبذلها النصارى في نشر الديانة النصرانية والصد عن الإسلام على كافة الأصعدة حتى بلغت ميزانيات بعض الكنائس العالمية أكثر من مليار دولار للسنة الواحدة أ. هـ (باختصار عن مقال في موقع أنا المسلم).

وصدق الله العظيم {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّواْ عَن سَبِيلِ اللّهِ فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُواْ إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ } ]الأنفال: 36 [

كل هذا مما أغاظ الكفار ونفسوا عن هذا الغيظ والحقد بهذة الهجمات المخذولة . وهنا نقول ما قال الله عز وجل لسلفهم ( قل موتوا بغيظكم إن الله عليم بذات الصدور) ال عمران.

السبب الثاني لهذه الحملات :

ما حققه الله عز وجل على أيدي المجاهدين في هذه الأمة جزآهم الله خيراً من نكاية وإثخان في الغزاة حيث نسمع ونرى من انتصارات المجاهدين في أفغانستان والعراق وفلسطين ما يثلج الصدور ويغم الكفار حيث أصبح الكفرة الغزاة في متناول المجاهدين الأسود تنالهم أيديهم ورماحهم فقذف الله في قلوبهم الرعب ورد الله كيدهم في نحورهم وصاروا يفكرون في الخروج من مأزقهم بعد أن ضنوا أن ديار المسلمين لقمة سائغة لهم . ولما رأى رموز الكفر في الغرب السياسيون منهم والدينيون تصاعد العمل الجهادي أمامهم وتصاعد الكراهية والبغض والبراءة منهم كل هذا زادهم غيضاً وحنقاً فلجئوا إلى هذه الحملات الفجة الحاقدة على الإسلام لينفسوا عن غيظهم نسأل الله عز وجل أن يزيدهم حسرة وأن يموتوا بغيظهم {يُرِيدُونَ أَن يُطْفِؤُواْ نُورَ اللّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللّهُ إِلاَّ أَن يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ } ]التوبة :32.[

السبب الثالث :

التغطية على جرائمهم البشعة بنشر التشويه لسمعة المسلمين في العالم وتبرير حملاتهم البربرية على بلدان المسلمين بحجة الحرب على الإرهاب ونشر السلام حيث أن هذه الحملات تأتي بمباركة رئيس الفاتيكان كما كان ذلك في الحروب الصليبية القديمة التي حفل بها تاريخ الغرب الصليبي حيث سبقها مباركة الباباوات وتشجيعهم للنصارى على حرب المسلمين ، وتصويرهم لأنفسهم بأنهم رسل حضارة وتقدم ، وإظهار إبادتهم للمسلمين بأنها دعوة للسلام والحرية والديموقراطية!!.

الوقفة الرابعة: رمتني بدائها وانسلت

هذا المثل يضرب لمن يعير غيره بعيب هو فيه ( أنظر مجمع الأمثال 2/23) وإنه لمن العجائب والمضحكات أن يتهم عابد الصليب دين الإسلام بأنه مخالف للعقل والمنطق أو أنه متعطش للدماء، وأنه ما قام إلا على العنف والحقد والإكراه!!

إن عابد الصليب حينما تفوه بهذا الكلام من فمه النجس ليعلم في قراره نفسه أنه كذاب وأن دين النصرانية الذي هو رئيسة اليوم عارق في أوحال الشرك والهمجية وإلغاء العقل والتفكير ، كما يعلم في نفس الوقت أن دين الإسلام بريئ من كل ما قال وأنه ما من دين أكرم العقل و وضعة في مكانة اللائق به كالإسلام .

إن رئيس الفاتيكان يعلم ذلك علم اليقين ولكنه الاستكبار والحسد والغيظ قال الله عز وجل عن سلفه

(الذين أتاهم الكتاب يعرفونه كما يعرفون أبناءهم وإن فريقاً منهم ليكتمون الحق وهم يعلمون ) البقرة :

وقال عن من آمن منهم وانقاد للتوحيد والإسلام {وَإِذَا سَمِعُواْ مَا أُنزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُواْ مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ } ]لمائدة : 83[

فسبحان من وفق من شاء من عبادة إلى هدايته وحرم من حرم منهم حكمة منه وعدلا.

وأكتفي بمثال واحد ساقه الإمام أبن القيم رحمه الله تعالى من دين النصارى المحرف يدل على همجية العقول وانتكاسها قال رحمة الله تعالى : ( وكيف لا يميز من له أدنى عقل يرجع إليه بين دين قام أساسه وارتفع بناؤه على عبادة الرحمن ،والعمل بما يحبه ويرضاه مع الإخلاص في السر والإعلان ، ومعاملة خلقه بما أمر به من العدل ولإحسان، مع إيثار طاعته على طاعة الشيطان ، وبين دين أسس بنيانه على شفا جرف هار فانهار بصاحبه في النار ، أسس على عبادة النيران ، وعقد الشركة بين الرحمن والشيطان ، وبينه وبين الأوثان ، أو دين أسس بنيانه على عبادة الصلبان والصور المدهونة في السقوف والحيطان. وأن رب العالمين نزل عن كرسي عظمته فالتحم ببطن أنثى ، وأقام هناك مدة من الزمان بين دم الطمث وظلمات الأحشاء تحت ملتقى الأعكان، ثم خرج صبياً رضيعاً يشب شيئاً فشيئاً ويأكل ويشرب ويبول وينام ، ويتقلب مع الصبيان .

ثم أودع في المكتب بين صبيان اليهود يتعلم ما ينبغي للإنسان ،هذا وقد قطعت منه القلفة حين الختان، ثم جعل اليهود يطردونه ويشردونه من مكان إلى مكان .

ثم قبضوا عليه ، وأحلوه أصناف الذل والهوان ، فعقدوا على رأسه من الشوك تاجا من أقبح التيجان، وأركبوه قصبة ليس لها لجام ولا عنان ، ثم ساقوه إلى خشبة الصلب مصفوعاً مبصوقاً في وجهه ، وهم خلفه وأمامه وعن شمائله وعن الأيمان .

ثم أركبوه ذلك المركب الذي تقشعر منه القلوب مع الأبدان ، ثم شدت بالحبال يداه مع الرجلان ، ثم خالطهما تلك المسامير التي تكسر العظام وتمزق اللحمان ، وهو يستغيث : ياقوم ارحموني! فلا يرحمه منهم إنسان .

هذا وهوا مدبر العالم العلوي والسفلي الذي يسأله من في السموات والأرض كل يوم هو في شان ) من مقدمة كتاب هداية الحيارى.

ولكن العجيب المضحك كما أسلفت هو أن يرمي هذا المخذول خصمه بما هو غارق فيه وفي أوحاله ولكنها الغطرسة والاستخفاف بعقول الناس إذ كيف يرمي غيره بحجر من بيته من زجاج!؟

أما الأشد عجباً وسخفاً فهو رميه لدين الإسلام بأنة متعطش للدماء والعنف وأنه انتشر على جماجم الناس وأشلائهم !! ألا يستحي هذا الظالم المخذول من نفسه؟ إنه والله يعلم أنه كاذب وأن الناس يعلمون أنه كاذب ولكنه الاستخفاف بعقول الناس والكبر و الغطرسة. وإلا فماذا يقول عباد الصليب عن حروبهم الدينية المخزية عبر مئات السنين التي شنوها قديماً في حروبهم الصليبية؟! ومن هم الذين وراءها وماذا يقولون عن محاكم التفتيش. وماذا يقولون عن الحربين العالميتين التي قتل فيها الملايين من بني جلدتهم ومن غيرهم . ومن هم الذين غزوا بلاد المسلمين واحتلوها في القرن الماضي ومن هم الذين قتلوا عشرات الآلاف بالقنبلة الذرية التي تحرق الأخضر واليابس!!

ومن هم الذين قتلوا وشردوا مئات الآلاف في أفغانستان والعراق !!؟

ومن الذين قتلوا المسلمين ودفنوهم في مقابر جماعية في حرب البوسنة والهرسك؟!!

ومن هم الذين ساهموا في المذابح المروعة في أفريقية بمباركة قسيس ورهبان الهوتو التي حدثت لقبائل التوتسي ؟! ! ومن ومن؟

إن كل هذه الجرائم والدماء والأشلاء إنما تمت على يد النصارى بمباركة قساوسهم فكيف لا يستحي هذا المتغطرس النجس من هذه الجرائم؟ لكنهم استخفوا بعقول الناس وبدلاً من الاعتراف بهذه الجرائم والانكفاء على أنفسهم راحوا يزيدون جرائمهم ويشعلونها حرباً على الإسلام ثم يسمون جميع ضحاياهم إرهابيين أو أنهم دعاة للإسلام بالعنف ويسمون إبادتهم دعوة للسلام والحرية والديمقراطية!! إنهم هم فقط لهم حق القتل والإبادة ويجب أن يقبل المسلمون بالموت وأن يعتبروه حرية وتقدماً وسلاماً مسيحياً !!

الوقفة الخامسة : بل انتشر الإسلام بالسيف والبيان.

إنه لمن المؤسف أن يضع بعض الدعاة والمفكرين من المسلمين أنفسهم موضع المتهم المنهزم الذي يريد أن يبرئ نفسه من تهمه ويحسن وضعه عند خصمه . إن هذا المنهج الأعوج هو ما يتبناه اليوم بعض من قام بالرد على عابد الصليب المخذول عندما قال أن الإسلام أنتشر بالسيف ، فبادر هؤلاء بالرد عليه بقولهم إن الإسلام لم ينتشر بالسيف ،وإنما بالدعوة والبيان وإنما كان السيف للدفاع عن النفس و عن الديار فقط!! ولا يخفى ما في هذا الكلام من مخالفة لما ذكره الله عز وجل في كتابة الكريم عن غاية الجهاد وما فيه أيضاً من مخالفة لسيرة الرسول صلى الله عليه وسلم والخلفاء وأمراء المسلمين من بعدة في تسيير الجيوش لفتح الدنيا وإزالة الطواغيت الذين يصدون عن الدين الحق وحتى لا تكون فتنة أي شرك . ويكون الدين كله لله يقول الإمام أبن القيم رحمه الله تعالى:( والسيف إنما جاء منفذاً للحجة مقوماً للمعاند ، وحداً للجاحد، قال تعالى : {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ }]الحديد25 [

دين الإسلام قام بالكتاب الهادي ونفذه السيف الماضي شعر:

فما هو إلا الوحي أوحد مرهف ** يقيم ضباه أخدعي كل مائل

فهذا شفاء الداء من كل عاقل * وهذا دواء الداء من كل جاهل

]هداية الحيارى (المقدمة)[

ويقول سيد قطب رحمه الله تعالى : ( إن الباحثين الإسلاميين المعاصرين المهزومين تحت ضغط الواقع الحاضر ، وتحت الهجوم الإستشراقي الماكر ، يتحرجون من تقرير تلك الحقيقة لأن المستشرقين صوروا الإسلام حركة قهر بالسيف للإكراه على العقيدة . والمستشرقون الخبثاء يعرفون جيداً أن هذه ليست الحقيقة ، ولكنهم يشوهون بواعث الجهاد الإسلامي بهذه الطريقة .. ومن ثم يقوم المنافحون – المهزومون- عن سمعة الإسلام،

بنفي هذا الاتهام! فيلجأون إلي تلمس المبررات الدفاعية! ويغفلون عن طبيعة الإسلام ووظيفته، وحقه في ((تحرير الإنسان)) ابتداء...

والمهزومون روحياً وعقلياً حين يكتبون عن ((الجهاد في الإسلام)) ليدفعوا عن الإسلام هذا الاتهام.. يخلطون بين منهج هذا الدين في النص على استنكار الإكراه على العقيدة، وبين منهجه في تحطيم القوى السياسية المادية التي تحول بين الناس وبينه، والتي تعبد الناس للناس وتمنعهم من العبودية لله ومن أجل هذا التخليط –وقبل ذلك من أجل الهزيمة! – يحاولون أن يحصروا الجهاد في الإسلام فيما يسمونه اليوم : ((الحرب الدفاعية)).. والجهاد في الإسلام أمر آخر لا علاقة له بحروب الناس اليوم، ولا بواعثها، ولا تكييفها كذلك.. ان بواعث الجهاد في الإسلام ينبغي تلمسها في طبيعة ((الإسلام)) ذاته، ودوره في هذه الارض، وأهدافه العليا التي قررها الله، وذكر الله أنه أرسل من أجلها هذا الرسول بهذه الرسالة، وجعله خاتم النبيين، وجعلها خاتمة الرسالات..

إن هذا الدين إعلان عام لتحرير ((الإنسان))في ((الأرض)) من العبودية للعباد- وذلك بإعلان الوهية الله وحده – سبحانه- وربوبيته للعالمين..

ترى لو كان أبو بكر وعمر وعثمان رضي الله عنهم قد امنوا عدوان الروم والفرس على الجزيرة أكانوا يقعدون إذن عن دفع المد الإسلامي إلي أطراف الأرض؟ وكيف كانوا يدافعون هذا المد، وأمام الدعوة تلك العقبات المادية من: أنظمة الدول السياسية، وأنظمة المجتمع العنصرية إنها سذاجة أن يتصور الإنسان دعوة تعلن تحرير ((الإنسان)) نوع الإنسان .. في ((الأرض)) .. ملء الأرض.. ثم تقف أمام العقبات تجاهدها باللسان والبيان!.. إنها تجاهد باللسان والبيان حينما يخلى بينها وبين الأفراد، تخاطبهم بحرية، وهم مطلقو السراح من جميع تلك المؤثرات .. فهنا: ((لا إكراه في الدين)).. أما حين توجد تلك العقبات والمؤثرات المادية، فلا بد من إزالتها أولاً بالقوة، للتمكن من مخاطبة قلب الإنسان وعقله، وهو طليق من الأغلال)) [ أنظر في ظلال القران 3/1440-1444 ،3/1433-1436 ].

ولقد وقفت على مقال مسدد في موقع (المختصر) أحسب ان صاحبه وفق لبيان الحق في هذه المسالة ومن باب الفائدة أنقله مختصراً : "إنَّ الإسلام يحتاج اليوم إلى من يقدمه للناس كما هو بِعزَّة ووضوح، نعم بحكمة ولكن دون تحريف أو انهزام. والذي أعتقده أنَّ الفرصة هذه الأيام سانحة لمثل هذا التقديم، فلا ينبغي تضييعها. والإسلام ليس ضعيفاً كي نضعه في قفص الاتهام ثم نجهد في الدفاع عنه لإخراجه منه!

وهكذا أوقعونا في الفخ فقالوا: إنَّ إسلامكم انتشر بالسيف، ودينكم دين إرهاب، وإنَّ نبيكم لم يأتِ إلا بالدمار للعالم! وأنتم معشر المسلمين تحبون الدماء! فقام المخلصون، وهم إما جهلة، وإما منهزمون، وإما يريدون تجميل الإسلام إلى أن يفتح الله، وإما ـ وللإنصاف ـ مجتهدون، يَردون: كلا ديننا لم ينتشر بالسيف، انظروا إلى شرق آسيا لم يدخله الإسلام إلا عن طريق التجار، وكلا نحن لسنا إرهابيين، نحن ألطف مَن خلَقَ الله! ونبينا نبي الرحمة، حتى الحيوانات لم تهملها رحمته! أما عن حبنا للدماء فإشاعات مغرضة والله!

ألا دعونا مما قاله رئيس الفاتيكان وأجداده وأبناؤه، وقولوا لنا ماذا قال الله سبحانه، وماذا قال رسوله صلى الله عليه وسلم! دعونا من فقه الأزمة هذا الذي يقودكم وخذونا إلى فقه الرشد الذي دلَّنا اللهُ عليه ورسولُه، وحمله الصحابةُ ومن بعدهم من كبار الأمة وفقهائها وعليه ساروا حتى وهم في أصعب حالاتهم أيام الصليبيين والتتار، ذلك أنَّ الهزيمة لا تقاس بكم احتل من أشبار، وإنما بكم احتل من قلوب!

قال الله تعالى: "{لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ }]الحديد25 [

لقد بينت الآية القاعدة التي يقوم عليها الإسلام، وهي الكتاب، والقوة. وقد قال ابن تيمية رحمه الله: "قِوام الدين: كتاب يهدي وسيف ينصر"، لقد جاء الإسلام معلنا للحق، ومؤيدا للحق في نفس الوقت، وما الطغيان الذي نراه اليوم إلا لأن الحق لا قوة له، ولذلك أمر الله المسلمين بالإعداد{وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدْوَّ اللّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِن دُونِهِمْ لاَ تَعْلَمُونَهُمُ اللّهُ يَعْلَمُهُمْ ..... }]الأنفال: 60[. أمر بذلك لأنه لا يوجد مبدأ دون قوة، وسواء كان هذا المبدأ حقا أم باطلا، أرضيا أم سماويا فلا بد له من قوة تحميه.

الإسلام دين السيف لأنه جاء لقيادة البشرية نحو خيرها، فمن حقها أن تبلغَها الدعوةُ، ولا يمكن هذا إلا بتحطيم الأنظمة التي تحول بين الناس وبين أن يسمعوا كلمة الله . والإسلام دين السيف لمنع الفتنة التي يقترفها المفسدون في الأرض، وليكون الدين كله لله "لا بمعنى إكراه الناس على الإيمان، ولكن بمعنى استعلاء دين الله في الأرض"، قال تعالى: "وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين لله، فإن انتهوا فلا عدوان إلا على الظالمين" (البقرة: 193).

وهل نريد هذا فعلا؟! مع كل هذا الضعف: نعم! ومع كل هذا الهوان: نعم! ونحن تحت القصف: نعم! ونحن مشردون: نعم! هذا هو فقه الرشد الذي لا يتغير في الأزمات! وغيره فقه أزمة لا يمثل الإسلام، وإنما يمثل النفوس المسحوقة...

والإسلام دين السيف لأن الصراع بين الخير والشر لا ينقطع، فالحياة قائمة على قانون التدافع، ولو تمكن الشر وحده من الأمر ـ كما يحصل الآن ـ لفسدت الحياة. وما الطغيان الذي نراه اليوم إلا لانعدام القوة المقابلة. قال الله تعالى{ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيراً وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ } ]الحج: 40[...والإسلام دين السيف لأنه فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم، نبي المرحمة ونبي الملحمة؛ نبي المرحمة في وقتها، ونبي الملحمة في وقتها، وهذا مقتضى الحكمة التي بعث بها صلى الله عليه وسلم:

فإن قيل حلم فقل للحلم موضع ** وحلم الفتى في غير موضعه جهل

فهو صلى الله عليه وسلم الذي أمر بقتال الناس حتى يشهدوا ألا إله إلا الله ... كما صح عنه، والنص عام والقول بأنه خاص بوقته ضعيف. وهو الذي أمر كما قال الصحابي فيما رواه البخاري: "أمرنا نبينا أن نقاتلكم حتى تعبدوا الله وحده أو تؤدوا الجزية".[ البخاري (2925) ].

لقد آن للمسلمين أن يتحولوا إلى موقف الهجوم بدلا من موقف الدفاع الذي لصقوا به دهرا طويلا، وليقولوا للعالمين: إذا كان الإرهاب لحفظ الحق، فنحن إرهابيون، ذلك أن الإرهاب ليس وصفا مطلقا فقد يكون خيرا وقد يكون شرا! كالقتل، منه ما هو شر، ومنه ما هو خير، فقتل النفس البريئة شر، وقتل القاتل خير! وهكذا...

إن من يتهمنا بالإرهاب هم آخر من يحق لهم الكلام عنه، فلسنا نحن الذين استعمرنا العالم في القرون الوسطى، أنهكنا الشعوب وسرقنا خيراتها، ولسنا نحن الذين اصطحبنا رجال الدين ليخدعوا الشعوب باسم الرب! ولسنا نحن الذين أشعلنا أقذر حربين في قرن واحد أكلتا ملايين البشر، ومحقتا خيرات الدنيا! والقائمة تطول.) أ .هـ ]أنظر موقع المختصر المقال بعنوان (بل الإسلام دين السيف)[ إبراهيم العسعس.

( هذا هو قوام الأمر في نظر الإسلام. وهكذا ينبغي أن يعرف المسلمون حقيقة دينهم، وحقيقة تاريخهم، فلا يقفوا بدينهم موقف المتهم الذي يحاول الدفاع، إنما يقفون به دائماً موقف المطمئن الواثق المستعلي على تصورات الأرض جميعاً، وعلى نظم الأرض جميعاً، وعلى مذاهب الأرض جميعاً، ولا ينخدعوا بمن يتظاهر بالدفاع عن دينهم بتجريده في حسهم من حقه في الجهاد لتأمين أهله، والجهاد لكسر شوكة الباطل المعتدي، والجهاد لتمتيع البشرية كلها بالخير الذي جاء به، والذي لا يجني أحد على البشرية جناية من يحرمها منه، ويحول بينها وبينه. فهذا هو أعدى أعداء البشرية، الذي ينبغي أن يطارده المؤمنون، الذين أختارهم الله وحباهم بنعمة الإيمان، فذلك واجبهم لأنفسهم وللبشرية كلها، وهم مطالبون بهذا الواجب أمام الله..

جاهد الإسلام أولاً ليدفع عن المؤمنين الأذى، والفتنة التي كانوا يسامونها، وليكفل لهم الأمن على أنفسهم، وأموالهم، وعقيدتهم. وقرر ذلك المبدأ العظيم { والفتنة أشد من القتل}. فأعتبر الاعتداء على العقيدة والإيذاء بسببها، وفتنة أهلها أشد من الاعتداء على الحياة ذاتها. فالعقيدة أعظم قيمة من الحياة وفق هذا المبدأ العظيم، وإذا كان المؤمن مأذون في القتال ليدفع عن حياته وعن ماله، فهو من باب أولى مأذون في القتال ليدفع عن عقيدته ودينه .....

وجاهد الإسلام ثانياً لتقرير حرية الدعوة- بعد تقرير حرية العقيدة- فقد جاء الإسلام بأكمل تصور للوجود والحياة ، وبأرقى نظام لتطوير الحياة جاء بهذا الخير ليهديه إلى البشرية كلها ؛ ويبلغه إلى أسماعها وإلى قلوبها فمن شاء بعد البيان والبلاغ فليؤمن ومن شاء فليكفر . ولا إكراه في الدين ولكن ينبغي قبل ذلك أن تزول العقبات من طريق إبلاغ هذا الخير للناس كافة ؛ كما جاء من عند الله للناس كافة . وأن تزول الحواجز التي تمنع الناس أن يسمعوا وأن يقتنعوا وأن ينضموا إلى موكب الهدى إذا أرادوا . ومن هذه الحواجز أن تكون هناك نظم طاغية في الأرض تصد الناس عن الإسماع إلى الهدى ، وتفتن المهتدين أيضاً فجاهد الإسلام ليحطم هذه النظم الطاغية ؛ وليقيم مكانها نظاماً عادلاً يكفل حرية الدعوة إلى الحق في كل مكان وحرية الدعاة . وما يزال الجهاد مفروضاً على المسلمين ليبلغوه إن كانوا مسلمين !

وجاهد الإسلام ثالثاً ليقيم في الأرض نظامه الخاص ويقرره ويحميه . وهو وحده النظام الذي يحقق حرية الإنسان تجاه أخيه الإنسان ؛ حينما يقرر أن هناك عبودية واحدة لله الكبير المتعال؛ ويلغي من الأرض عبودية البشر للبشر في جميع أشكالها وصورها ..) أنظر باختصار في ظلال القرآن 1/294-296

وقد يستغرب القارئ هذا الاستطراد في هذه المسألة ولكن هذا الاستغراب يزول إذا نظرنا إلى ضخامة هذا التلبيس والتضليل الذي تتعرض له ثوابت هذا الدين وشعائره . فعندما ندرك خطورة هذا التبديل في دين الله عز وجل فإنه لا يستكثر الكلام في إزالة هذا اللبس وبيان الحق للناس . بل أن الأمر يستحق بسطاً وتفصيلاً أكثر من ذلك . ولكن مالا يدرك كله لا يترك جله . والله سبحانه الموفق والمعين والمسدد .

وفي ختام هذه المقالة أقول ما قاله ابن القيم رحمه الله تعالى في آخر خطبة كتابة

(هداية الحيارى)

((فلله الحمد الذي أنقذنا بمحمد صلى الله عليه وسلم من تلك الظلمات ، وفتح لنا به باب الهدى فلا يغلق إلى يوم الميقات ، وأرانا في نوره أهل الضلال وهم في ضلالهم يتخبطون ، وفي سكرتهم يعمهون ، وفي جهالتهم يتقلبون وفي ريبهم يترددون ، يؤمنون ولكن بالجبت والطاغوت ،يؤمنون ويعدلون ، ولكن بربهم يعدلون ، ويعلمون ولكن ظاهراً من الحياة الدنيا وهم عن الآخرة هم غافلون ، ويسجدون ولكن للصليب والوثن والشمس يسجدون ، ويمكرون ولكن لا يمكرون إلا بأنفسهم وما يشعرون {لَقَدْ مَنَّ اللّهُ عَلَى الْمُؤمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْ أَنفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُواْ مِن قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُّبِينٍ } ]ال عمران :164[

{كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولاً مِّنكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُم مَّا لَمْ تَكُونُواْ تَعْلَمُونَ } ]البقرة :151[

الحمد لله الذي أغنانا بشريعته التي تدعوا إلى الحكمة والموعظة الحسنة، وتتضمن الأمر بالعدل والإحسان ، والنهي عن الفحشاء والمنكر والبغي ، فله المنة والفضل على ما أنعم به علينا وآثرنا به على سائر الأمم ، وإليه الرغبة أن يوزعنا شكر هذه النعمة ، وأن يفتح لنا أبواب التوبة والمغفرة والرحمة ..))

وكتبه: عبد العزيز بن ناصر الجليل

===============

# " طاش ؟ طاش "{ اسْتَهْزِؤُواْ إِنَّ اللّهَ مُخْرِجٌ مَّا تَحْذَرُونَ }

قرأه واطلع عليه أصحاب الفضيلة:

الشيخ: صالح بن فوزان الفوزان

الشيخ: عبدالرحمن بن ناصر البراك

وقدّم له صاحب الفضيلة:

الشيخ: عبدالله بن عبدالرحمن الجبرين

بدر بن نادر المشاري

تقديم سماحة الوالد الشيخ :عبدالله بن جبرين

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله الولي الحميد المبدئي المعيد الفعال لما يريد أقرب الى العبد من حبل الوريد أحمده وأشكره وأسأله من فضله المزيد

وأشهد إن لا اله إلا الله وحده ولا شريك ولا نديد واشهد إن محمدا عبده ورسوله الذي فند الشرك واظهر التوحيد صلى الله عليه وسلم وعلى اله وصحبه وإتباعهم من صالحي العبيد

إما بعد فقد قرأت هذه المقالة التي أنشأها أخونا الشيخ بدر بن نادر بن مشاري حمله على كتابتها ما تذيعه إذاعاتنا الإسلامية الوطنية في اشرف الأزمنة شهر رمضان المعظم زعما إن فيه تسلية وترفية وتفكه مع احتوائه على استهتار بالدين الصحيح والعلم النافع وأهل الصلاح وأهل الخير من المتعبدين والصالحين لقصد شغل الوقت وأضاعته في هذا العمل الممقوت وقصد ا ضحك والإعجاب بهذا التركيب والابتداع مع العلم الخاص والعام بأنة كذب وبتهان وقول على أهل الخير بالظن والتخمين وقد عاب الله من استهزأ بالصالحين كما في قوله تعالى (ولئن سألتهم ليقولن إنما كنا نخوض ونلعب قل أبالله واياته ورسوله كنتم تستهزون لا تعتذروا قد كفرتم بعد إيمانكم ) فنصيحتنا للمعدين لذلك المقالات إن يتوبوا ويمنعوا نشره وإذاعته على جمهور المسلمين كما ننصح كل مسلم غيور إن يمنع أهله وولده من سماع هذا البرنامج (طاش ما طاش) وما أشبهه لما يحتويه من سخرية بحملة الشرع وعيب خفي لبعض شرائع الإسلام لتسلم العقائد من الانحراف ولا يعلق بأذهانهم شيء من الأفكار الرديئة التي تولدها تلك الكلمات والجمل الساخرة ونعوذ بالله من كيد الكائدين ومكر الماكرين والله حسبنا ونعم الوكيل وصلى الله على محمد واله وصحبة وسلم 18/10/1425هـ

عبدا لله بن عبدا لرحمن الحبرين

صورة التقديم 1 أو 2

http://www.saaid.net/Minute/104.swf

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده:

من بدر بن نادر المشاري إلى من يراه ...

السلام عليكم جميعاً ورحمة الله وبركاته أما بعد؛ ؛ ؛

فمن المعلوم عند المتتبعين والمتابعين أن أهل العلم والناصحين ـ وفّقهم الله ـ قد أفتوا وبيّنوا الموقفَ الشرعيَّ من البرنامج السافر الساخر: (طاش ما طاش)الذي يبث ـ ومع الأسف مرئيًّا ـ عبر الشاشات، وقد استعرض أهل العلم ما فيه من المخالفات للشرع المطهَّر والآداب والقيم منتهين إلى القول بتحريمه؛ لما اشتمل عليه من مخالفات خطيرة، وفيما ذكروه إن شاء الله مقنع وهداية,وعظة وكفاية لمن نوَّر الله بصيرته،وأراد هدايته وتثبيته،وقد أبلغوا وبلَّغوا وحسبهم الله ونعم الوكيل .

ورغبة مني في ضم الصوت إلى أصواتهم،والقول إلى أقوالهم، وإدراكٍا أنه لابد من كلمة حق تعضد أختها، وأن نعلنها ونجهر بها لنرفع الضيم عن إعلامنا وندفع شر المستهزئين الساخرين المعتدين عن ديننا وأمتنا، ونذكّر الجميع بما تعبّد اللهُ به المسلمينَ من إقامة الحق والعدل وحفظ الدين والدفاع عنه.

فأقول مستعينًا بالله منبهًا ومحذرًا السالكين الغافلين من أعمال الجاهلين المستهزئين :

اللهُ أكبرُ في الدفاع سأبتدِي *** وهو المعينُ على نجاحِ المقصدِ

وهو الَّذِي نصرَ النبيَّ محمدًا *** ولأنصرن التابعينَ لأحمدِ

وبِهِ أَصُولُ على جميع خصومِنَا *** وأعدّه عوناً علَى مَنْ يعتدِي

سَأَسل سَهماً مِنْ كنانةِ وَحْيهِ *** وَبِهِ أشدّ علَى كَتَائب حُسّدِي

وَبِهِ سأجدعُ أنفَ كلِّ مكابرٍ *** وَبِهِ سأرصدُ للكَفُورِ الملحدِ

وسأَسْتجِيرُ بِذِي الجلالِ وذِي العُلاَ *** لا لن أضام إذا استجرت بسيدِي

وسأستمد العون منه على الذي *** لمز الأحبة بالكلام المفسدِ

حتى أُشتت شملهم بأدلة *** مثل الصواعق في السحاب الأسودِ

وبنور وحي الله أكشف جهلهم *** حتى يبين على رؤوس المشهدِ

والناظر في عالمنا اليوم يدرك أن مناطق الصراع المنتشرة على مساحة واسعة كلها بُئر صراع فكري الطابع، عقائدي المحتوى، إنها سنة الله في الصراع بين الحق والباطل.ومن هنا تأتي هذه الأسئلة ، أين دور إعلام المسلمين؟! وما أهدافه؟! وماذا عن خططه؟! ،وهل الأعمال والأفكار والآراء المطروحة في الإعلام تتفق مع الإسلام وأصوله ومبادئه وتعاليمه وأحكامه، أم أن الإسلام من أفعالها براء؟

إذًا لابد أن يجلَّى هذا الأمر ويفضح ويبين فكر أصحابه وتوجههم من أجل صيانة الأمن الفكري ومن هنا جاءت هذه الرسالة.

( 1 )

(محفوفة بالأخطار)

من المعلوم أن حياة المسلمين المتمسكين بدينهم اليوم محفوفة بالأخطار من كل جانب تعرض لها أمراض الشبهات والشهوات أمراض يروجها ويعمقها في حياة المسلمين دعاة الباطل والرذيلة حتى تحوّل كثير من المسلمين إلى سائمة تُسام , وقطيعٍ مهزوز اعتقاده, غارق في شهواته, مستغرق في ملذاته , متبلد في إحساسه , لا يعرف معروفًا ولا ينكر منكرًا, إنهم يسعون إلى لف الحبال حول الأعناق لجرّ الناس نحو أعدائهم جرًّا، وهي نذر سوء تنال من الأمن الفكري ومن انتماء النفس المسلمة و تقود إلى إفراز مجتمع ممسوخ متذبذب لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء،حتى انقلب من غلبت عليه الشقاوة على عقبيه خاسرًا؛ فارتد عن دينه فالحذر منهم { وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطً } [الكهف: 28].

( 2 )

(أشأم المساعي)

لنعلم جميعًا أن مِنْ أشأم المساعي الهدَّامة وأشدها خطرًا في تمييع الأمة وإفسادها فكرًا وخلقًا الإعلام الفاسد وسعي دعاته الذين لم يقولوا خيرًا ولم يصمتوا؛ بل ولم يألوا جهدًا في إشاعة الشر والانحراف والرذيلة في مجال من أخطر المجالات تأثيرًا على الناشئة والجيل والأمة ألا وهو مجال الإعلام المرئي، فهم يتنافسون تنافسًا غير شريف في ترفيه غير بريء، وتسلية غير عفة، فضائيات وإعلام فيه يعكر صفو المؤمنين، ويؤدي إلى انحراف المشاهدين والمتابعين متلبسين بقناعات وأفكار تسربت إليهم وتشربت بها قلوبهم فجعلوا أيام الناس ولياليهم أوقاتًا ضائعة وحياة لاهية وسمرًا عابثًا يبث فيه الفكر الملحد والتطاول على الدين مع السلوك المنحرف، واللقطات الراقصة، والحركات الفاتنة، والأحوال المزرية وكأن في آذانهم صممًا عن النداء الإيماني، يا باغي الخير أقبل، ويا باغي الشر أقصر، ماذا دهاهم ليجعلوا من وسائلهم وقنواتهم مشروعات تجارية بحتة في صور محرمة، وبضائع ممنوعة، وسلع فاسدة، ومن المؤلم والمحزن أن بعضها بل أكثرها تؤدي بلا شك إلى التمرد على الدين وإفساد الخلق { لِّيُوَاطِؤُواْ عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللّهُ فَيُحِلُّواْ مَا حَرَّمَ اللّهُ زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمَالِهِمْ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ } [التوبة: 37] .

(3)

(ديمومة الصراع بين الحق والباطل)

نحن نؤمن بأن من سنن الله سنةَ التدافع بين الحق والباطل، وأنهما في صراعين دائمين دائبين إلى قيام الساعة؛ ولكن لأن التكليفَ الشرعيَّ يقتضي منَّا أن نطبَِّق أحكام ديننا الحنيف، وأن نقفَ في وجه أي إلحاد فيه أو تحريف لنصوصه أو تعطيل لأحكامه أو تعدٍّ عليه بغض النظر عن الموقع الذي نكون فيه أو الحالة التي نكون عليها، وفي خضم هذا العبث ظهرت نداءات متبصرة من بعض الغيورين المتبصرين ينادون بها وهم فيها محقون إنهم ينادون بضرورة النظر الجاد في الأمن الفكري والتحصين للعقول من الوافد، والحفاظ على خصوصية المسلم في عقيدته الخالصة وشخصية المسلم .

نداء صادق لتحصين الأفكار من كلِّ ما يلطخها ويدنِّسها، وإلا ستغزى العقول، وتغير المفاهيم، وتنسلخ الشعوب عن معتقداتها، وينتشر الباطل، والقوي العزيز لا ينصر إلا من نصره، وبالمدافعة يكون النصر { وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ } [الحج: 40]

(4)

(حذو النعل بالنعل)

إن هذا البرنامج الهابط الذي يبث مرئيًّا هاجم الساخرون الفاسقون فيه ومن خلاله دينَ الله، والمتمسكين به ،وثوابت المجتمع وأعرافه التي دانت الأمة باحترامها،وهو نموذج واضح وصريح لما يبثه الإعلام من فساد، والعجب كل العجب أنه إعلام ينطلق من ديار أهل الإسلام ويدعم بأموال المسلمين مردِّدًا كالصدى كلَّ ما ينعق به أعداء هذا الدين؛ ليعلن تبعية قاتلة لا يرجى فيها تحصين فكر ولا حفظ دين؛ بل إن هذه الفئة المسكينة هزيلة مهزومة قتلها اللهث وراء ما يسمونه: المنافسة الإعلامية، وهنا تأتي قاصمة الظهر حين تكون المنافسة في الهزيمة حتى يدخلوا معهم جحر الضب الخرب ويسيروا خلفهم حذو النعل بالنعل، والذيل بالذيل، وهذا من العيب والأمر المشين، أن تعيش وسائل إعلام الأمة في هذا التنافس البائس لبث الفكر المنحرف وتأكيد التبعية للإلحاد الغربي والمادية المعاصرة .

ولقد طفحت كثير من هذه الوسائل بنشر الفلسفات التي تعزز المادية وتضعف الجوانب الإيمانية، وهي ـ باختصارـ لفيف وخليط وأمشاج من المعتقدات والتصورات بدءًا من الوثنية اليونانية ثم ديانات محرفة من يهودية ونصرانية وانتهاء بالمذاهب المادية المعاصرة، { بَلْ عَجِبْتَ وَيَسْخَرُونَ {12} وَإِذَا ذُكِّرُوا لا يَذْكُرُونَ {13} وَإِذَا رَأَوْا آيَةً يَسْتَسْخِرُونَ {14} } [الصافات :12 ـ 14] .

(5)

(شعارات مضلِّلة)

من المؤلم حقًّا أن كل هذا الهجوم والاعتداء والسخرية والاستهزاء كان من خلال دعوات آثمة وشعارات مضلِّلة يطلقونها تارة باسم ( معالجة القضايا الاجتماعية ) وتارة باسم (المشاركة الوطنية) وتارة باسم ( الترفيه البريء) , وتارة باسم ( مقاومة الفكر الجامد أو الرجعي ) وتارة باسم ( الإسهام في بناء الوطن من خلال النقد البناء ) زعموا أو كما يحلو لهم أن يسموها { بِئْسَ الاِسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الإِيمَانِ } [الحجرات: 11].

وهي في الحقيقة ليست سوى أفلام وبرامج وأقلام عربية الحرف أجنبية الفكر ضالة المعتقد مترددة الولاء ، عقولٌ مسترقة، ونفوس مستعبدة، وأفكار مستوردة، التحرر عندهم: الخروج من الدين، والتقدم في فهمهم: الجري في ساحة الإلحاد، والتغيير المنشود عندهم: هو التقلب في عرصات الجاهلية الوثنية القديمة والحديثة { إِنْ هِيَ إِلا أَسْمَاء سَمَّيْتُمُوهَا أَنتُمْ وَآبَاؤُكُم مَّا أَنزَلَ اللَّهُ بِهَا مِن سُلْطَانٍ } [النجم: 23]، ومع هذا كله يدّعون الإصلاح.

وَغَيْرُ تَقِيٍّ يَأْمُرُ النَّاسَ بِالتُّقَى *** طَبِيبٌ يُدَاوِي النَّاسَ وَهْوُ عَلِيلُ

{ وَمِمَّنْ حَوْلَكُم مِّنَ الأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُواْ عَلَى النِّفَاقِ لاَ تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ سَنُعَذِّبُهُم مَّرَّتَيْنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلَى عَذَابٍ عَظِيمٍ } [التوبة: 101].

(6)

(خوض ولعب)

لقد طفح الكيل وبلغ السيل الزبى في هذا البرنامج الهابط وغيره من البرامج الفاسدة، وكشَّر دعاة الرذيلة عن أنيابهم، وأفرزوا توجهاتهم خلال السنوات الماضية كلها في بثهم الجريء في الباطل، وازداد ذلك بعد الأحداث الأخيرة التي حصلت في بلاد الحرمين مؤخرًا ـ حماها الله ـ إذ صيروها واستغلوها لصالح فكرهم وأهدافهم، وكان من الطبعي أن تلتفت الأنظار للاستهزاء اللامحدود ،والمطلق وبدون قيود بدين الله، والعلماء، والصالحين من عباد الله، وحِلَق القرآن، والمساجد، والقضاة، والآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر، والحكام، والمسئولين، وثوابت، ومبادئ، وعادات الناس وأعرافهم، دون خوف من الخالق، أو حياء من المخلوقين فصنعوا ماشاءوا خوضًا ولعبًا { وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِؤُنَ } [التوبة: 65]،هذا بعض الواقع من الهجمات التي تسمُّ العقول، وتحرف السلوك، وتسيء إلى الدين، وتقضي على الأصالة، وتشكك في الولاء وصدق الانتماء { أَفَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُواْ السَّيِّئَاتِ أَن يَخْسِفَ اللّهُ بِهِمُ الأَرْضَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَشْعُرُونَ } [النحل: 45].

(7)

(يُرِيدُونَ لِيُطْفِؤُوا نُورَ اللَّهِ)

لنعلم أن أولئك الساقطين والعصبة المستهزئة الساخرة ترتدي قفازًا من حرير، وتحتمي وراء مظاهر الوطنية؛ لتعمل عملها، وتبث سمومها؛ لتدفع الجيل إلى التمرد وتمييع دينه وثوابته؛ ليكون لقمة سائغة في فم التغريب الذي هو من أخطر أسلحة الدمار لتخريب مجتمعات المسلمين،ووسائل الإعلام بهذه الصورة تخلط بين الحق والباطل، ولا تميز بين الصالحين الغيورين على الإسلام ومجتمعاتهم وبين الفئات الضالة المنحرفة العلمانية والإلحادية والحداثية ومن على شاكلتهم من أصحاب الفكر المنحرف بطرفيه: الإفراط والتفريط الذين يسعون لإطفاء نور الله ـ زعمواـ بأفعالهم وأقوالهم، { يُرِيدُونَ لِيُطْفِؤُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ } [ الصف : 8].

أتطفئ نور الله نفخة ساخرٍ *** تعالى الذي بالكبرياء تفرَّدا

{ اسْتِكْبَارًا فِي الأَرْضِ وَمَكْرَ السَّيِّئِ وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلا بِأَهْلِهِ فَهَلْ يَنظُرُونَ إِلا سُنَّتَ الأَوَّلِينَ فَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلا وَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلا } } [فاطر: 42].

(8)

(الإعلام بوابته)

هل يليق بهؤلاء السخفاء ومن على شاكلتهم وفي ظل ما تعيشه الأمة المسلمة اليوم عمومًا وما تعيشه بلاد الحرمين ـ حماها الله ـ على وجه الخصوص أن يقوموا بهذه الأعمال التي تؤدي إلى إيغار صدور الناس وتأليبهم وتأجيج ما في نفوسهم من غيره مما قد ينعكس سلبًا على غير المتأني ويصل به إلى أمور لا تحمد عقباها { إِنْ هَذَا إِلا إِفْكٌ افْتَرَاهُ وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ فَقَدْ جَاؤُوا ظُلْمًا وَزُورًا } [الفرقان: 4].

كيف يُطْمَأنُّ على الأمن الفكري وهناك من يجوس خلال الأمة بأفكار ضالة ومنحرفة، أفكار تدميرية ثائرة تجأر بالتطاول على مقام الألوهية والربوبية والإسلام؟! كيف يُطْمَأنُّ على الأمن الفكري وهناك من يجاهر بالقول بفصل الدين عن الدولة بعقول وأفكار وكتابات ونداءات تأبى أن يكون لدين الإسلام موقع في تصريف شؤون الحياة ؟!

هل يليق بهم ـ ونحن في فترة إخماد الفتن ـ ولله الحمد ـ وجمع الكلمة وتوحيد الصف ـ أن يهيجوا مشاعر الناس مما يؤدي إلى البلبلة والقلق وغرس الوساوس والمخاوف في الصدور فهذا البرنامج وغيره يدعو إلى تفكك الصف وإثارة الناس، فهو برنامج متطرف إرهابي ساخر داعٍ وداعم للإرهاب جملةً وتفصيلاً { فَقَدْ كَذَّبُواْ بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءهُمْ فَسَوْفَ يَأْتِيهِمْ أَنبَاء مَا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِؤُونَ } [الأنعام :5] .

إن الأمن الفكري يجب أن يأتي في مقدمة الاهتمام بمفهوم الأمن كله؛ لأن فيه أمنَ الأرواح، وأمنَ الأعراض، وأمنَ الأموال، وأمنَ الغذاء، وأمنَ الصحة، وأمنَ العمل .

وماذا يرجى من أمة أصيبت في فكرها، واضطربت في توجهها، واهتزت في قيمها، وتزعزت في عقيدتها؟!!

إنها لا تفقد الأمن وحده ولكنها ـ والله ـ تفقد الوجود كلَّه، نعم تفقد الوجود كلَّه وتخسر الكيان كلَّه دفعةً واحدة دون سابق إنذارٍ أو وعيد، وهي إذ تخسر ذاك إنما تفقد في الوقت نفسه هويتها وإنسانيتها بين سائر الشعوب والأمم .

هاجس الأمن الفكري هاجس الجميع، والإعلام هو بوابته،وإذا راق لبعض الناس المرح واللعب في زمن من الأزمان؛ فينبغي في هذا الزمان ألاّ يخطر لنا على بالٍ، في زمان داهمنا فيه الأعداءُ من فوقنا، ومن تحت أرجلنا، وحاصرونا من كل مكان،وخرّبوا ـ ولا يزالون يخرّبون ـ بلاد المسلمين في فلسطين وأفغانستان والعراق وهكذا دواليك دواليك, وقد كشرت الصليبية الحاقدة عن أنياب الغدر والوحشية الهمجية بعداوتها حتى على هذه البلاد حماها الله بالإسلام والإيمان { وَإِن يُرِيدُواْ خِيَانَتَكَ فَقَدْ خَانُواْ اللّهَ مِن قَبْلُ } [الأنفال : 71].

أتضحكون وصوت القدس منتحبُ *** والقردُ مستبسلٌ في ساحة الحَرمِ

طيّشتم الفكر في لهو وفي لعبِ *** فطاشت القدسُ بين الخصم والحكمِ

طفل الحجارة تحت القصف منتفضٌ *** ضاعت نداءاته في نشوة النغمِ !!

وعيشكم ضحك قد طاش من ضحكِ *** وأرضهم لغمٌ قد ثار من لغَم

أرى على وجهه المجهود أسئلةً *** تستمطر الدمع في حزنِ وفي سقم ِ

ماذا دهى أمة الإقدام فانخذلتْ *** أين الإخاءُ ؟! أما أشجاكم ألمِي ؟!!

أما لكم في نشيج الأم من شجنٍ *** والقردُ يُذكي لظى أحقاده بدمِي

إذًا فلنعرف إلى أي أمة ننتمي؟! وأي فكر يجب أن نحمل؟! ومن أي المعارف نستقي؟! فأمتنا تنتمي إلى خير فكر، معارفنا هي أصح المعارف، وقرآننا وحده هو الذي يهدي للتي هي أقوم، وهو الذي يثير هذا السؤال { فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالأَمْنِ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ } [الأنعام: 81] فيأتي الجواب فيه صريحًا قاطعًا { الَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُواْ إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُم مُّهْتَدُونَ } [الأنعام: 82]، فلنلتزم كتاب ربنا، ولنسر على نهج نبينا محمد صلى الله عليه وسلم ، وبهما تحفظ بوابة أمننا، ونتميز عن غيرنا.

(9)

(هل راق لكم فعلكم؟)

هل يروق لهؤلاء وغيرهم من السخفاء في مثل هذا الشهر والموسم العظيم أن يلهوا عباد الله عن دين الله ويبعدوا الخلق عن الخالق ويزرعوا في نفوسهم الشُّبه وحب الشهوة {لاَ تَخُونُواْ اللّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُواْ أَمَانَاتِكُمْ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ } } [الأنفال : 27] .

إذا كان أسلاف الأمة وصالحوها كانوا يعكفون بكل صدق وإقبال على الطاعات منشغلين بالقرآن والقيام لإدراكهم ومعرفتهم بقيمة وخصائص وفضائل هذا الشهر حتى قطعوا المفاوز ففازوا ولفضل السبق في تنافس الخيرات في مواسم النفحات نالوا وحازوا، صونٌ عن فضول الطعام والكلام، وكفٌّ عن الحرام ليس فقط في رمضان بل في سائر الشهور والأعوام والحياة كلها فيجب أن تصوم الجوارح عن الأذى، وتنفطم المشاعر عن الهوى ألا يكفي هؤلاء ضياعًا وسخرية طوال أحد عشر شهرًا خلال كل عام, وهم يستقبلون الشهر كغيرهم من فئات وفئام من المفرِّطين بالضياع ويعيشونه كأنهم لا يستقبلون ركنًا من أركان الإسلام، ركنًا يقيم الدين من أقامه، ويهدم الدين من هدمه، إنهم لا يعيشونه إلا باعتباره تقليدًا موروثًا وموسمًا مقررًا يتكرر كل عام، يقطعونه ـ وسائر السنة ـ باللهو بالاستعدادات المبكرة، والوعود المخزية لبث اللهو المقيت، والأفكار المنحرفة، والأهداف التي يرونها بأعينهم صغيرة حقيرة فالله { لا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلا أَحْصَاهَا }.

قال ابن عباس: (( الصغيرة: التبسم. والكبيرة: الضحك على حالة الاستهزاء )) وهذا تصريح بأن ذلك من الكبائر.

وقال الغزالي في قول ابن عباس: هذا إشارة إلى أن الضحك على الناس من الجرائم والذنوب { وَكَذَلِكَ نفَصِّلُ الآيَاتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ } [الأنعام :55], فهلاّ صفدتم شياطينكم الذين يوحون إليكم؛ لتريحون العباد من شركم وطيشكم .

يا طاش طيّشت أعمال العباد فهلْ *** يلقون منك سوى الغفلات واللممِ

كل الشياطين قد باتت مصفّدةً *** وطيشك اليوم وثّاب على قدم ِ

سخرت بالحق واستحللت في صخب ٍ *** قتل الفضائل في ساعاتها الحُرم ِ

وقد أخرج البيهقي في شعب الإيمان برقم ( 6757) عن الحسن البصري ـ رحمه الله ـ عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( إن المستهزئين بالناس ليفتح لأحدهم باب الجنة فيقال: هلم فيجيء بكربه وغمه، فإذا جاء أغلق دونه، ثم يفتح له باب آخر فيقال: هلم هلم فيجيء بكربه وغمه، فإذا جاء أغلق دونه، فما يزال كذلك حتى إن الرجل ليفتح له الباب فيقال: هلم هلم فلا يأبه من اليأس ) , { قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُهُ بَيَاتًا أَوْ نَهَارًا مَّاذَا يَسْتَعْجِلُ مِنْهُ الْمُجْرِمُونَ } [يونس: 50]

(10)

(لماذا طاش ما طاش ؟)

لأنه جمع من المعايب مايقيم على أهله الحجة، ومنها:

1- العمل على تهوين الأخذ بأحكام الشرع المطهر والاحتكام والأخذ بغيره { أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللّهِ حُكْمًا لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ } [ المائدة : 50]. ناهيك عن ترويج الاستعداء والشحناء والتعويد على رؤية المنكرات وعدم التفكير في إنكارها فضلاً عن إنكارها .

2- السخريه بأهل الخير والصلاح وإلصاق المعايب بهم, لا لذوات الأشخاص على ما فيها من مخالفة شرعية ولكن لديانتهم وصلاحهم ويحسبونه هينًا وهو عند الله عظيم { زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُواْ وَالَّذِينَ اتَّقَواْ فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَاللّهُ يَرْزُقُ مَن يَشَاء بِغَيْرِ حِسَابٍ } } [البقرة : 212].

3- لمز المتصفين بالغيرة على محارمهم ونسائهم، والمعارضة الصريحة لحجاب المرأة المسلمة، وترويج الاستحسان للتأخر في الزواج، ومحاربة التعدد المشروع.

لقد أخرجوا المرأة من عفتها وكرامتها وحجابها وطهرها، وكل ما نخشاه أن تصبح الخمور والعهر الصريح ـ كما أصبحت لغيرهم ـ من الأمور اللازمة لموادِّهم الإعلامية الساقطة ولاحول ولا قوة إلا بالله { وَكُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ مَلأٌ مِّن قَوْمِهِ سَخِرُواْ مِنْهُ قَالَ إِن تَسْخَرُواْ مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ {38} فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَن يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُّقِيمٌ } [ هود: 38، 39].

4- خروج المرأة مع الرجال الأجانب والدعوة للاختلاط والتبرج والسفور وخضوعًا بالقول وغير ذلك { إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنكُمْ وَاللَّهُ لا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِن وَرَاء حِجَابٍ ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ } [الأحزاب :53].

5- إثارة الشهوات في مشاهد بشعة تقتل الحياء، وتقضي على العفة بتفجير الغرائز، والعريّ الفاضح، وعرض المفاتن لاستمالة النشء وضياعه {وَاللّهُ يُرِيدُ أَن يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَن تَمِيلُواْ مَيْلاً عَظِيمً } [ النساء 27].

6- القيام بأفعال رعونة وسخرية وخرم مروءة وخيانة وإفلات من العقاب فأين تحصين أفكار الشباب من كل دخيل وشاذ ؟! {أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلا كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيل } [ الفرقان: 44].

7- تناول عادات بعض البلدان والمناطق ومحاكاة لهجاتهم على وجه التحقير لأهلها وإظهار معايبهم؛ لبث الفرقة والانقسام بين طبقات الأمة والمجتمع { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَسْخَرْ قَومٌ مِّن قَوْمٍ عَسَى أَن يَكُونُوا خَيْرًا مِّنْهُمْ وَلا نِسَاء مِّن نِّسَاء عَسَى أَن يَكُنَّ خَيْرًا مِّنْهُنَّ وَلا تَلْمِزُوا أَنفُسَكُمْ وَلا تَنَابَزُوا بِالأَلْقَابِ بِئْسَ الاِسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الإِيمَانِ وَمَن لَّمْ يَتُبْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ }[الحجرات: 11] , وقد حكى القرطبي في تفسير قوله تعالى: {بِئْسَ الاِسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الإِيمَانِ } أن من لقّب أخاه وسخر منه؛ فهو فاسق .

8- إثارة النعرات والعصبيات الجاهلية عن طريق السخرية وهذا منافٍ لمقاصد الشريعة من الحث على المحبة والألفة والإخاء والصفاء بين المسلمين { وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ } [الحجرات: 13] , وقوله: { إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ } [الحجرات: 10] وليعلم أن من معاني السخرية والاستهزاء والاستهانة التنبيه على العيوب والنقائص على من يضحك منه، وقد يكون ذلك بالمحاكاة في الفعل والقول،وقد يكون بالإشارة والإيماء، وقد يكون بالضحك كأن يضحك على كلام إذا تخبط فيه أو غلط، أو على بيان صنعه، أو قبح صورته ونحو ذلك.

(11)

( هل طاش ما طاش هو المعني بهذا الرد وحده؟)

إن تخصيص الكلام في هذا المسلسل والرد على من يشارك فيه لا يعني سلامة غيره من البرامج والمسلسلات التي تنقل الفجور وتبث الرذيلة والسخرية سواء أكانت مرئية أو مسموعة أو مقروءة أو بأي وسيلة أخرى، فكل ما قيل في حق (طاش ما طاش) يقال في حق غيره إذا خالف الشرع، وانتهك الحرمات، وأفسد الأخلاق، وقتل الغيرة، وحطم المروءة الإنسانية، ودعى إلى الانحراف والضلالة بشتى أنواعها، حتى ولو كان ذلك على سبيل الضحك واللعب { إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُواْ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ {29} وَإِذَا مَرُّواْ بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ {30} وَإِذَا انقَلَبُواْ إِلَى أَهْلِهِمُ انقَلَبُواْ فَكِهِينَ {31} وَإِذَا رَأَوْهُمْ قَالُوا إِنَّ هَؤُلاء لَضَالُّونَ {32} وَمَا أُرْسِلُوا عَلَيْهِمْ حَافِظِينَ {33} فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُواْ مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ {34} عَلَى الأَرَائِكِ يَنظُرُونَ {35} هَلْ ثُوِّبَ الْكُفَّارُ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ } [المطففين: 29 - 36]

(12)

(شبه النقد)

الانتقاد البنَّاء ومعالجة المشاكل والقضايا الاجتماعية:

قد يفهم من كلامي هذا أنني ضد الانتقاد البنََّاء أو معالجة المشاكل والقضايا الاجتماعية وهذا غير صحيح؛ بل إنني على يقين أن الأمة المسلمة وهي تعيش اليوم أحطَّ عصورها، وأردى أيامها، وتعيش في تخلف مطبق من أقصاها إلى أقصاها سواء من الناحية العلمية أو الدعوية، أو الناحية الاجتماعية والاقتصادية، أو من الناحية السياسية على مستوى الفرد والجماعة هي في أمس الحاجة إلى النقد الصحيح الصادق الهادف .

والناقد والمراجع والمصحح المتقيد بشروط وضوابط وأبواب وأصول النقد يقبل منه بشرط أن يكون النقد بمعناه الحقيقي وهو كما قيل: اختيار الخير وتميز الزيف، ولا يسلم أحد من النقد كما قال أبو الدرداء رضي الله عنه "الناس إن نقدتهم نقدوك، وإن تركتهم لم يتركوك، فلا سلامة منهم "

سلمت وهل حي من الناس يسلمُ

إذًا فليكن النقد تمييز الطيب من الخبيث، والصالح من الطالح، والحسن من القبيح، والزيف من الحقيقي، والعاقل المنصف يقبل النقد بهذا المعنى الذي ينطبق على المفهوم الشرعي ألا وهو معرفة الخطأ والصواب بمعنى الثناء على الخير ومدحه وذم الشر وقدحه سواء أكان هذا الخير والشر في شخص أو كتاب أو في عمل أو دولة أو جماعة أو غير ذلك، وهذا هو المعروف لدى أهل الإيمان والخوف من الله أفرادًا أو جماعات خاصة لدى أهل القرون الأولى المفضلة الذين يعملون بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديث الحسن ـ كما يقول الحافظ بن حجر في بلوغ المرام الذي يرويه أبو داود: " المؤمن مرآة أخيه المؤمن" .

فإن الغالب على نقدهم أنهم كانوا ينقدون لبيان الحق والأمر به، ولبيان المنكر والنهي عنه .

فالعين تبصر منها ما دنى ونأَى *** ولا ترى نفسها إلا بمرآةِ

فهذا من باب المراقبة للنفس على جميع المستويات وهو عين القوة وعين الصواب، ولذلك قال عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ كما في سنن الترمذي: "حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا، وزنوها قبل أن توزنوا، فإنه أهون عليكم في الحساب غدًا عند الله ـ عز وجل ـ أن تحاسبوا أنفسكم اليوم، وتهيئوا للعرض الأكبر يومئذ تعرضون لا تخفى منكم خافية" والحديث رواه ابن أبي الدنيا في كتابه: محاسبة النفس والإزراء عليها.

والسؤال الذي يطرح نفسه: هل هؤلاء السخفاء في هذا المسلسل الماجن يتقيدون بهذه الأصول والضوابط في النقد أم أنهم استهدفوا دين الله سخرية واستهزاء وتنقصًا واستهانة وتباعدوا وابتعدوا عن جادة الصواب حين اعتبروا الإبداع والتجديد والنقد هو نبذ العقيدة والتنكر للشريعة، والفن هو استكثار صور العفن .

ومما يقترح في باب الإصلاح والنقد:

1) أن يكون لدينا نقد بنَّاء يشمل جميع مجالات الحياة بلا استثناء فلا يستهدف النقد جانبًا ويدع آخر لاعتبارات شخصية ,وهذا النقد لابد منه لكي لا نقف موقف الدفاع، أو موقف التلاوم والتشكِّي وبث الأحزان والتأوهات من وسائل الإعلام أو غيرها؛ بل الواجب يقتضي توظيف وسائل العصر للاستفادة في غرس القيم وحماية العقول وتدعيم الثوابت الإيمانية .

2) يجب أن تُعرَّى أساليب كل من يستغل الإعلام لنشر الفساد من أعداء الدين وكشف أصحاب القلوب المريضة أتباع كل ناعق للحذر من شرهم.

3) يجب ترسيخ مفهوم حق السمع والطاعة، وحفظ حقوق ولاة الأمور في المنشط والمكره، والارتباط بالثقات من أهل العلم وكبارهم وحماية سياج الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من عبث العابثين.

4) فتح باب الحوار المنضبط بالضابط الشرعي لمناقشة ما نحتاجه ووضع حلول لمشاكلنا.

5) رفض الغلو ونبذ التعصب والتحزب والانغلاق المذهبي دون سخرية أو تلبس بمحرم أو دخول في شهوة وشبهة .

6) الاعتراف بالخطأ والنقص على كافة المستويات من الناس، وعدم الخوف من النقد الهادف سواء أكان عالمًا أو حاكمًا أو داعية أو غيره.

7) يجب أن ننتقل من مرحلة الاعترافات المجمَّلَة العامة بالنقص والتقصير إلى مرحلة التشخيص الدقيق للأخطاء وتحديدها والاعتراف بآحادها ونوعياتها وعينياتها،ومن ثَمَّ السعي إلى التصحيح،وبدون ذلك فالنقدُ لايسمن ولا يغني من جوع، ولا ينفعنا في قليل ولا في كثير.

8) الاستفادة ممن سبقونا في متابعة الأخطاء ومراقبتها و مراجعتها لتصحيحها وتعديلها كنوع من المحاسبة على مستوى الفرد والجماعة على أن تجعل الدول مؤسسات وأجهزة تقوم بهذه المهمة حقيقة ً لا على سبيل التغطية أو التورية والتسكيت.

9) وضع قنوات واضحة إعلامية دعوية وغيرها للنقد الهادف البنَّاء على جميع المستويات بالضابط الشرعي، وبغير ذلك سيتحدث كل أحد صغر أم كبر، وينفلت الزمام للمهرِّجين والمستهزئين والحمقى، فمن يوقف سيل السخفاء, ويعالج داء الحمقى الذي ـ في الغالب ـ لا علاج لحماقتهم.

لكل داء دواء يستطب بهِ *** إلا الحماقة أعيت من يداويهَا

(13)

(يا علماء المسلمين)

لقد أخذ الله منكم العهد والميثاق على مقالة الحق وعدم كتمان العلم فلا تسكتوا عن باطل رأيتموه وتبيين حق عرفتموه، ولا تبيعوا دينكم بدنيا غيركم، فأنتم القدوة الحقيقيون للأمة إن اتقيتم الله في وراثتكم للنبوة وبينتم للأمة طريق الفلاح والسعادة على ضوء الكتاب والسنة، فلا خير فيكم إن لم تقولوا للمنحرف عن شرع الله: قف واستقم على منهج الله، وناصحوا حكَّامَ المسلمين وأصحاب القرار فيما يستوجب النصيحة خاصة وأنتم ترون وتشاهدون في هذا العصر ما يحتم على كل صادق وناصح ويوجب على كلِّ مسؤول في أي موقع أن يرى بعين باصرة وفكر ثاقب مداخل الشر الكثيرة ومنافذ التلوث المتنوعة وما يتسرب عن طريقها من فكرٍ منحرف مما يُحتاج معه إلى عناية خاصة واهتمام متميز، وإن المسؤولية لتتركز أول ما تتركز عليكم وعلى جميع الجهات الشرعية والإسلامية المباشرة في جميع الدول الإسلامية من وزارات الشؤون الإسلامية، ودور الإفتاء، ومراكز الدعوة، والجامعات والمدارس الإسلامية.

وقولوا لكل أحد إننا :

ندعو إلى التوحيد طول حياتنا *** في كل حين في الخفا والمشهدِ

ونحارب الشرك الخبيث وأهلهُ *** حربًا ضروسًا باللسان وباليدِ

وكذلك البدع الخبيثة كلّها *** نقضي عليها دون باب المسجدِ

هذي طريقتنا وهذا نهجُنا *** فعلام أنتم دوننا بالمرصدِ

لِمَ تطعنون وتلمزون كأننا *** جئنا برأي للعقيدة مفسدِ

ولا يثنينكم عن الصدع بالحق استهزاء مستهزئ وسخرية ساخر فالله كافيكم إياهم،وتذكروا قول الله: { فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ {94} إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ {95} } [ الحجر: 94 ـ 95].

(14)

(إلى حكام المسلمين و صناع القرار)

إلى حكام المسلمين ،اتقوا الله في رعاياكم التي استرعاكم الله إياها وأنتم مسئولون عنها يوم القيامة، وكلُّكم راعٍ وكلُّكم مسؤول عن رعيته، واعلموا أن الله جعلكم أوصياء على هذه الأمة لترعوا مصالحها الدينية والدنيوية فتكونوا بمثابة وصي اليتيم، وجنبوهم الأرض المجدبة والمسبعة.

ولئن أحاطت بكم ظروف لم تستطيعوا معها الدفاع عن بلاد المسلمين وتحرير الأوطان المضطهدة فلا أقلَّ أن تحافظوا على إقامة دين الله في بلدانكم ولا تفرطوا فيها؛ بل عليكم القيام بالأمانة التي جعلها الله في أعنقاكم بالحفاظ على ما تحت أيديكم من البلاد من الشرك والبدع والمعاصي كلها؛ لتكونوا سببًا لجلب الأمن والأمان لبلدانكم ورعاياكم بعدم لبس الإيمان بشوائب تشوبه {الَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُواْ إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُم مُّهْتَدُونَ } [الأنعام: 82].

ومثل هذه البرامج الهابطة تهدم عقيدة الناس وسلوكهم وأخلاقهم وتوغر صدروهم، فإذا فسدت الرعية؛ تزعزع الأمن، ودبَّت الفوضى، وانتشرت الفواحش، واختلت الطاعة التي أوجبها الله لكم في المعروف فأدركوا رعيتكم وفَّقكم الله قبل فوات الأوان، واعلموا أن هذه الوسائل إن لم يحسن توجهها فهي كفيلة بأن تخرج أجيالاً لا ترى الخير ولا التقدم إلا فيما عند الأعداء، ولا ترى الشر والتخلف إلا فيما عند أهلها وذويها، فيجب أن يفهم الجيل ـ وقبلهم أولئك الساقطون ـ أن الأمن الفكري هاجس يحظى بمكانته لديكم خصوصًا في جزيرة الإسلام ومهبط الوحي ومهاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم ؛ لأن الجزيرة معقل الإيمان وما لم يرسخ هذا المنهج في أذهان الناس فسيتجرأ هؤلاء وغيرهم من المتربصين على انتهاك حرمة الأمن الفكري لبلدانكم؛ فالعمل منكم واجب في تقييم المفاهيم المدخولة والأفكار المغلوطة بأن تدافعوا عن دين الله وتقاوموا كلَّ دخيل وشاذ، وأهم منطلقات هذا التصحيح الاعتقاد الجازم بأن أمة الإسلام لن يعزها الله إلا بالإسلام، ومهما ابتغت العزة في غيره فهي إلى الذلة والتبعية تصير وتسير .

والإعلام في بلاد الحرمين المباركة له رسالته الخاصة ودوره المتميز ومسؤوليته الكبرى بما يجسد الاهتمام بالحفاظ على الدين والمواطنة الصالحة فلا يرضى لنفسه ولا يقبل منه أهله ومحبوه أن يجاري الأبواق الناعقة ويسير في ركاب المنافسة الإعلامية الهزيلة والتبعية المهينة أبدًا { يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأَرْضِ فَاحْكُم بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ } [ ص: 26].

(15)

(إلى القائمين على إعلام المسلمين)

على القائمين على إعلام المسلمين أن يتقوا الله وأن يقوموا بحصانة الفكر من كل شر وأن لا يغالطوا أنفسهم وهم لا يبثون ولا يكتبون إلا ما يثير الفتن في تفسيرات مفرطة للأحداث ـ من خلال التحليلات الإخبارية والتعليقات الإعلامية ـ تسير في تيار مكشوف يولد البلبلة والقلق، ولا أدلَّ على ذلك من مقابلاتهم ونداءاتهم وترَّهاتهم التي تُدَوَّى في مجاملات لمن يحبون ومحاكمة لمن يكرهون فاقدة للمصداقية ومحكومة بالهوى والمذهبية والتوجهات السياسية؛ بل يقال ـ وبكل صراحة وجرأة ووضوح ـ: لقد بدأت وجهة الحياة الفكرية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية في كثير من البلاد والشعوب تتخذ مسارًا؛ بل مسارات مغايرة لما يجب أن تكون عليه من استقامة على طريق الحق كل ذلك لتأثرها بهذا الطرح الموجة والمدروس لترسيخ جذور الاستعمار، إنه استعمار له تلامذته من ضحايا الغزو الفكري والاختراق الأمني العقائدي وسائل وتوجيهات وكأنها متكفلة وملتزمة بإيجاد أجيال مبتورة الصلة بدينها وأمتها مستنقصة بتراثها وحضارتها ملتصقة بالعدو الكافر الذي لا يرضى ولن يرضى إلا أن يكون الأجيال أداة لتنفيذ كلِّ المآرب ـ ناهيك بما تقوم به هذه الوسائل من تخدير الشعوب بوسائلها الخطيرة .

أين تحصين فكر الشباب عن كلِّ دخيل وشاذ؟! وأين حفظ الدعوة إلى الله على بصيرة؟! وماذا قدمتم لنشر العقيدة الإسلامية الصافية النقية؟!

أين البسط لسيرة النبي صلى الله عليه وسلم ؟! أين إبراز صور الحضارة الإسلامية وأخلاقياتها؟! أين دور وزارات الإعلام والجهات المسؤولة المعنية بالشباب والتربية للحفاظ على الناشئة من الانحراف والشذوذ في طرفيه: الإفراط والغلو والتفلت؟! فلا تكونوا باب شر على الأمة، ولتكونوا صادقين ناصحين لدينكم وأمتكم، ولا تعينوا أهل الباطل عليها { قَالَ رَبِّ بِمَا أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيرًا لِّلْمُجْرِمِينَ } (17) [ القصص: 17].

(16)

(يا معشر المؤمنين ويا أهل الإسلام)

أهكذا تكون حياة المسلمين هزل لا جدَّ فيه، وفراغ لا شغل نافع فيه، أرضيتم بالحياة الدنيا من الآخرة، أرضيتم أن يهزأ بكم الساقطون ويضيعوا دينكم ويحطُّوا من قدركم ويهدروا أوقاتكم، وقبل ذلك يستهزئوا ويسخروا بدينكم { وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللّهِ يُكَفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلاَ تَقْعُدُواْ مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُواْ فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِّثْلُهُمْ إِنَّ اللّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعًا } [النساء.: 140]

إنه لحري بكم أن تعمروا أوقاتكم بالطاعات وتربأوا أن تكون عمارتها بالباطل وسفاسف الأمور، قوموا بحق الله في أنفسكم وبيوتكم وأبنائكم وتربية جيلكم على الحق والفضيلة وجنِّبوهم العبث والفساد والرذيلة وتذكروا {إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُواْ مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُواْ وَرَأَوُاْ الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الأَسْبَابُ } [البقرة: 166]، وكفى تبعية واتباع لهؤلاء .

والحذر كل الحذر أن يأتيَ أحدكم الموت على هذه الحال وتذكروا عظم الشهر؛ بل واحذروا المعصية في سائر الأيام {وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ } [إبراهيم: 99]

يا باغي الخير أقبل في قرى ملكٍ *** فصاحب اللغو لم يفطر ولم يصمِ

كم ضحكة همجية في غمض شاردةٍ *** لكنها حسرة في ساعة الندمِ

هذي طيوف من الإشفاق صادقةٌ *** وربما يعصف الإفساد بالنعمِ

أيها المسلمون؛ اتقوا الله في أنفسكم فلا تكونوا كقطعان الماشية تساق إلى حتفها بظلفها، فأنتم الذين فتحتم لهم المجال بتشجيعكم وسكوتكم على المنكر وقبولكم للباطل، فاتقوا الله في أنفسكم وفيمن ولاَّكم اللهُ أمرَهم، قال الفضيل بن عياض: (اتبع طرق الهدى ولا يضرك قلة السالكين، وإياك وطرق الضلالة ولا تغتر بكثرة الهالكين) [الاعتصام :1/ 83].

ابدأ بنفسك وبمن تعول بالتغيير الذي تستطيعه بلا تصرف عشوائي هائج ولا سكوت مقيت مائج ولكن بتقوى الله ومناصحة أهل الشأن والأمر بالأسلوب الأمثل وإرجاع الأمر إلى أهله من أهل العلم وولاة الأمر ورفع المقترحات في البدائل النافعة ومناصحة الإعلام وأهله لتحصين الأمة من كل سوء بكل الطرق المعتدلة الصحيحة المستقيمة بعيدًا عن الإثارة والبلبلة والتصرفات التي لا تحمد عقباها وتجر على الأمة الويلات.

(17)

(أيها العابثون اتقوا الله)

إلى كل ساخر من دين الله وعابث بثوابت الحق . . . اتقِ] الله ولا تأخذك العزة بالإثم أما سرت في الأرض أما نظرت عاقبة الذين سخروا { أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ وَأَشَدَّ قُوَّةً وَآثَارًا فِي الأَرْضِ فَمَا أَغْنَى عَنْهُم مَّا كَانُوا يَكْسِبُونَ {82} فَلَمَّا جَاءتْهُمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ فَرِحُوا بِمَا عِندَهُم مِّنَ الْعِلْمِ وَحَاقَ بِهِم مَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُون {83} فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا قَالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ {84} فَلَمْ يَكُ يَنفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا سُنَّتَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْكَافِرُونَ } [غافر: 82 ـ85].

احذر واسمع قول الله { وَبَدَا لَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا عَمِلُوا وَحَاقَ بِهِم مَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُون {33} وَقِيلَ الْيَوْمَ نَنسَاكُمْ كَمَا نَسِيتُمْ لِقَاء يَوْمِكُمْ هَذَا وَمَأْوَاكُمْ النَّارُ وَمَا لَكُم مِّن نَّاصِرِينَ {34} ذَلِكُم بِأَنَّكُمُ اتَّخَذْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ هُزُوًا وَغَرَّتْكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فَالْيَوْمَ لا يُخْرَجُونَ مِنْهَا وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ {35} فَلِلَّهِ الْحَمْدُ رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَرَبِّ الأَرْضِ رَبِّ الْعَالَمِينَ {36} وَلَهُ الْكِبْرِيَاء فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ {37} } [النحل: 33 -37].

أيها القائم على مثل هذا العمل ممثلاً كنت أو مخرجاً أو مصوراً أو باثاً وناقلاً ومؤيداً ماذا تريد من هذا العمل؟ أتريد مالاً وتطمح لشهرة؟! فبطاقتك وقوتك وحيويتك ومواهبك إذا سخرت في الخير واتقيت الله جعل لك مخرجًا ورزقك من حيث لا تحتسب، فلا تغرنك الحياة الدنيا ولا يغرنك بالله الغرور.

فأعظم واعظ كتاب الله، فيه وعد ووعيد، وتخويف وتهديد، فقف الآن مع هذه الآيات: { قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالأَخْسَرِينَ أَعْمَالا {103} الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا {104} أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا {105} ذَلِكَ جَزَاؤُهُمْ جَهَنَّمُ بِمَا كَفَرُوا وَاتَّخَذُوا آيَاتِي وَرُسُلِي هُزُوًا {106} } [الكهف: 103- 106] .

وقول الله تعالى:{ وَمَا يَأْتِيهِم مِّن ذِكْرٍ مِّنَ الرَّحْمَنِ مُحْدَثٍ إِلا كَانُوا عَنْهُ مُعْرِضِينَ {5} فَقَدْ كَذَّبُوا فَسَيَأْتِيهِمْ أَنبَاء مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُون } [الشعراء: 5 :6]. ألست ترى من هذه الأعمال وبعد هذه الأقوال أنك كنت أو ستكون سببًا في انحراف الناس رجالاً ونساءًَ صغارًا وكبارًا، واعلم أن عليك وزرها ووزر من عمل بها إلى قيام الساعه وقد تعاقب في زوجك إذا ضلت زوجة، وفي ولدك إذا ضل أولاد المسلمين، وفي نفسك ومالك وحياتك إذا انخرط في عملك المتأثرون. . . ثم ما الذي سينفعك ومن الذي سيقف معك وخصوصًا يوم تعرضون على الله لا تخفى منكم خافية { قُلِ اسْتَهْزِؤُواْ إِنَّ اللّهَ مُخْرِجٌ مَّا تَحْذَرُونَ } [التوبة: 64] .

ولا يلبسن الشيطان عليكم بشبه واهية تنطلي عليكم وتظنون أنكم قادرون على إقناع الناس ـ وأعني العقلاء منهم ـ بأنكم تؤدون أدوارًا صحيحة القصد هادفة المحتوى !! { لاَ جَرَمَ أَنَّ اللّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْتَكْبِرِينَ } [النحل: 23] ،وكل عاقل يعلم أن الحق خلاف ما تقولون وتفعلون، وأمة رسول الله صلى الله عليه وسلم لا تجتمع ولن تجتمع بإذن الله على ضلالة وخطأ.

فيا أيها الممثلون . . . و يا أيها المستهزئون ها نحن ندعوكم إلى النجاة وتدعوننا إلى الضياع والاستهزاء والسخرية والنار ولكن لا جرم أنما تدعوننا إليه ليس له دعوة في الدنيا ولا في الآخرة {وَيَا قَوْمِ مَا لِي أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجَاةِ وَتَدْعُونَنِي إِلَى النَّارِ {41} تَدْعُونَنِي لأَكْفُرَ بِاللَّهِ وَأُشْرِكَ بِهِ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَأَنَا أَدْعُوكُمْ إِلَى الْعَزِيزِ الْغَفَّارِ {42} لا جَرَمَ أَنَّمَا تَدْعُونَنِي إِلَيْهِ لَيْسَ لَهُ دَعْوَةٌ فِي الدُّنْيَا وَلا فِي الآخِرَةِ وَأَنَّ مَرَدَّنَا إِلَى اللَّهِ وَأَنَّ الْمُسْرِفِينَ هُمْ أَصْحَابُ النَّارِ {43} فَسَتَذْكُرُونَ مَا أَقُولُ لَكُمْ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ } [ غافر 41 ـ 44]، إذًا {اسْتَجِيبُوا لِرَبِّكُم مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ يَوْمٌ لا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ مَا لَكُم مِّن مَّلْجَأٍ يَوْمَئِذٍ وَمَا لَكُم مِّن نَّكِيرٍ } [الشورى: 47]. واحذروا من عذاب الله فإنه وإن تأخر لإمهالكم فلا تكثر عليكم سيئاتكم {وَلَئِنْ أَخَّرْنَا عَنْهُمُ الْعَذَابَ إِلَى أُمَّةٍ مَّعْدُودَةٍ لَّيَقُولُنَّ مَا يَحْبِسُهُ أَلاَ يَوْمَ يَأْتِيهِمْ لَيْسَ مَصْرُوفًا عَنْهُمْ وَحَاقَ بِهِم مَّا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِؤُونَ } [هود: 8].

أسألكم بالله أهذا حق أمتكم عليكم، وهذا هو الوفاء لها ولبلادكم ولولاة أمركم الذين وضعوا في أعناقكم أمانة؛ فخنتم الأمانة، وضيعتم حق الله تعالى وحق ولاة أمركم عليكم وأنتم تنتسبون إلى أعظم ملة، وتحملون أشرف ديانة، ولكن هداكم الله وردكم للصواب .

أخيرًا أيها الناس جميعًا ثقوا بنصر الله وإن تسلط الأعداء في الخارج أو في الداخل وكما يجاهد الكفار بالسنان فجاهدوا المنافقين باللسان والبيان { يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ } [التحريم.: 9] ،ولا تعاونوا على الإثم والعدوان ومعصية الرسول، واعلموا أن العاقبة لدين الله والنصر لأوليائه وإن استبطأنا ذلك فهذه طبيعة البشر { أَلا إِنَّ نَصْرَ اللّهِ قَرِيبٌ } [البقرة.: 214]

يا معشر الإخوان سيروا وأبشرُوا *** وثقوا بنصر الواحد المتفردِ

سيروا على نهج الرسول وصحبِهِ *** لا تعبأوا بالآثم المتمردِ

ولتعلنوها للبرية كلِّها *** إنا بغير محمد لا نقتدِي

لا نطلب الدنيا ولا نسعى لها *** الله مقصدنا ونعم المقصدِ

ليس المناصب همَّنَا ومرادَنَا *** كلا ولا ثوب الخديعة نرتدِي

إنا لنسعى في صلاح نفوسِنَا *** بعلاج أنفسنا المريضة نبتدِي

ونحب أن نهدي البرية كلَّها *** ندعو القريب قبيل نصح الأبعدِي

وبواجب المعروف نأمر قومَنَا *** ونقوم صفًّا في طريق المفسدِ

سدَّد الله الخطى، وبارك في الجهود، وتقبَّل من الجميع،وحفظ الجوارح، وأصلح القلوب، وجمع الكلمة، ووحَّد الصف، وهدانا إلى الطريق المستقيم، وأتم علينا النعمة، وزادنا أمنًا وتوفيقًا.

كتبت هذا إبراء للذمة، ونصحًا للأمة، وحسبنا الله ونعم الوكيل، ولاحول ولا قوة إلا بالله، ألا هل بلغت اللهم فاشهد، وصلَّى الله وسلَّم على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.

كتبه

بدر بن نادر المشاري

حرر في شهر رمضان للعام الخامس والعشرين بعد الأربع مائة والألف من هجرة النبي محمد صلى الله عليه وسلم

===============

#دليل العقول الحائرة في كشف المذاهب المعاصرة

حامد بن عبد الله العلي

الحمد لله ، والصلاة والسلام على نبينا محمد ، وعلى آله ، وصحبه ، وبعد :

فهذه ثلاثة دروس في وريقات مختصرة ، تلقي الضوء على المذاهب المعاصرة ، التي جاءت بلادنا من الغرب الملحد الكافر ، وتعرّف بها تعريفا موجزا ، مع بعض الإشارات بلطيف العبارات إلى فوائد أخرى لها علاقة ، وهو بمثابة مدخل موجز لهذا العلم الذي بحاجة إلى تأليف أوسع ، وكتاب لشتاته أجمع ، فنسأل الله أن ييسر ذلك لاحقا ، ويزيل ما قد يكون دونه عائقا آمين

الدرس الأول :

نشأة المذاهب المعاصرة

عندما نطلق مصطلح المذاهب المعاصرة ، فالمقصود ما ظهر في العصور الأخيرة من مناهج ، وأفكار ، انتشرت في العالم ، وهي في الغالب قد جاءت من الغرب ، وتبلورت بعد عزل الكنيسة عن السيطرة على الفرد ، والمجتمع ، والدولة في أوربا.

فقد أدّى ضلال الكنيسة ، وجهلها ، ومحاربتها للعلم ، والمعرفة ، والعلماء ، وطغيانها السياسي ، والإجتماعي ، إلى فصل الدين عن الحياة ، فالإنطلاق في تفسير الكون ، والإنسان ، والحياة ، بعيدا عن هداية الدين.

المراحل التي مرت بها أوربا وتشكلت بها المذاهب المعاصرة :

وقد مرت أ وربا بأربع مراحل منذ القرن 14 ميلادي حتى الآن :

المرحلة الأولى : سيطرة الكثلكة ، وهي تعني سيطرة البابا بسلطة إلهية على كلّ شيء ، فهو يزعم أنه يتكلم بإسم الله تعالى ، كما تعني إمتلاك الكنيسة وحدها حق تفسير الكتاب المقدّس، فلافرق بين نص الكتاب المقدس ، وأفهام الكنيسة .

المرحلة الثانية : مرحلة اللوثرية الكالفنية ، حيث ظهر مارتن لوثر ( 1453م ـ 1546م ) ، وبعده كالفن ( 1509ـ 1564) فعارضا تعاليم الكثلكة ، وتمردا على الكنيسة الكاثوليكية ، وحاربا سلطة البابا ، وطالبا بالحرية في بحث الكتاب المقدس ، وأنّ البابا لايملك وحده حق تفسيره ، ولكنهما بقيا على أن الكتاب المقدس هو وحده مصدر المعرفة .

المرحلة الثالثة : مرحلة عصر التنوير ، أو العصر الإنساني ، بدأ من النصف الثاني من القرن الثامن عشر ، وفيه انطلقت فكرتان :

أولا : إعتداد العقل الغربي بنفسه ، وأنّه قادر أن يصوغ كلّ شيء في حياة الإنسان.

ثانيا : الجرأة في إخضاع كلّ شيء لسلطان العقل بعيدا عن تأثير الدين.

بمعنى آخر أنه بداية طغيان الإنسان الغربي ، بعد ضلاله الديني ، وأنه بدأ ينظر إلى نفسه أنّه إله ، فليس هناك إله فوقه يتقرب إليه ، بل هو نفسه الهدف، من كل شيء ، وإليه يرجع كل شيء .

ومع إنطلاق العقل الغربي ، في هذه المرحلة والتالية ـ سنذكرها بعد قليل ـ بعيدا عن هداية الدين ، صار الجدل الفكري يدور حول العلاقة بين ثلاثة أمور ،

العقل ، والدين ، والطبيعة

وما هو مصدر المعرفة المطلق.

فهذا العصر ، في هذه المرحلة ، سادت فيه الفلسفة المثالية ، التي تجعل العقل مصدر المعرفة المطلق .

المرحلة الرابعة : مرحلة ( عصر الوضعية ) ، بدأ مع فجر القرن التاسع عشر ، وفي هذا العصر ، نزوع كبير إلى الواقع ، واعتبر فلاسفته أن الحس ( الطبيعة ) هو الذي له السيادة المطلقة ، فالطبيعة هي المصدر الفريد للمعرفة ،

قالوا : لأن الطبيعة هي التي تصنع عقل الإنسان أصلا ، فالعقل وليد الطبيعة ، وما فيه من معرفة نتاج الطبيعة أصلا ، فالعقل متولد من الوراثة ، و البيئة ، والحياة الإقتصادية ، والإجتماعية ..إلخ ، فهي التي تخلق العقل.

والطبيعة هي هذا الواقع والحس ، عالم المادة ، فلا حقيقة لشيء وراء المادة ، ووراء هذا الواقع الحسي ، فالطبيعة هي كل شيء ، هي التي صنعت الإنسان ، وهي التي تنقش في عقله المعرفة ، فعلينا أن لانؤمن إلا بشيء واحد فقط ، هو هذا العالم المادي الذي حولنا .

ومن هنا بدأ ينتشر الإلحاد .

ونلاحظ أن الغرب بدأ أولا بتأليه الكنيسة وشركها ، كما قال تعالى ( اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله و المسيح ابن مريم ) ،

ثم كفروا بها ، فألّهوا العقل ، كما قال تعالى ( أفرأيت من اتخذ إلهه هواه )

ثم كفروا به ، فاتخذوا الطبيعة والمادة إلها ، كما قال تعالى ( إن الذين لايرجون لقاءنا ورضوا بالحياة الدنيا واطمأنوا بها ، والذين هم عن آياتنا غافلون أولئك.. الآية )

الدرس الثاني :

أهم المذاهب المعاصرة

ينبغي أن نعلم أولا أن جميع المذاهب المعاصرة ، يجمعها إسم العلمانية ، ولهذا نبدأ بتعريفها

العلمانية :

العلمانية

التعريف :

العلمانية كلمة منقول بترجمة خاطئة عن : اللادينية أو الدنيوية ، فهي لاعلاقة لها بالعلم ، ولكن اختير لها هذا الإصطلاح ( العلمانية ) تجميلا لقبحها ،

ومعناها فصل الدين عن الحياة ، وإبقاءه حبيسا في ضمير الفرد ، ودور العبادة ، على أنه علاقة خاصة بين معتقد العقيدة الدينية وربه ، وقد ظهرت في أوربا منذ القرن السابع عشر ، وانتقلت إلى الشرق في بداية القرن التاسع عشر

ظروف النشأة :

- تحول رجال الكنيسة ، إلى طغاة ، ومستبدين ، وإنحيازهم إلى جانب الإقطاعيين الظلمة ،و الملوك الجائرة.

- محاربة الكنيسة للعلم ، وتسلطها بغير حق على الفكر ،

حتى كانت تشكل محاكمات ، لإتهام المكتشفين بالهرطقة .

ومن الأمثلة :

- نجاح الثورة الفرنسية : فقد كانت ولادة أول حكومة فرنسية سنة 1789م ، لا دينية تحكم باسم الشعب ، سبب في إنتشار العلمانية كالنار في الهشيم .

- ظهور مؤلفات انتشرت ونشرت الفكر العلماني ، مثل العقد الاجتماعي الذي يعد إنجيل الثورة الفرنسية ، للمفكر جان جاك روسو سنة 1778، وكذلك روح القوانين للمفكر مونتسكيو القوانين , ورسالة اللاهوت و السياسة ، للمفكر سبينوزا ، وهذا اليهودي يعد رائد العلمانية باعتبارها منهجا للحياة والسلوك ، ومؤلف الدين في حدود العقل لفولتير صاحب القانون الطبيعي ، ثم وليم جودين 1793م له العدالة السياسية لوليم جودين .

* ظهور نيتشه : وفلسفته التي تزعم بأن الإله قد مات وأن الإنسان الأعلى (السوبر مان ) ينبغي أن يحل محله!

الأفكار والمعتقدات:

العلمانيون : أقسام كثيرة جدا ، ذلك أن كل فكر ينطلق من التمرد على الخضوع على تعاليم الدين فهو فكر علماني

ثم هم ينقسمون إلى قسمين :

علمانيون يعتقدون وجوب القضاء على الدين بالكلية مثل الشيوعية.

وعلمانيون يعتقدون ترك الدين وشأنه ما دام لايتدخل في الحياة ، ثم هؤلاء يقول بعضهم أنه قد يكون من المفيد توظيف المعتقدات الدينية في بعض جوانب الحياة بشرط أن يكون ذلك تحت سلطة النهج العلماني .

أقسام العلمانيين بالنسبة للإيمان بالله والرسول :

ثم هم بالنسبة للإيمان بالله والرسول أقسام :

منهم من لايؤمن بالله تعالى ، وينكر وجوده .

ومنهم من يؤمن بالله تعالى الخالق ، وينكر أنه أرسل الرسل ، ويقول هؤلاء إن الله تعالى جعل في الإنسان العقل الذي يغنيه عن كل هداية.

ومنهم من يؤمن بالله تعالى وبالرسل ولكن يقولون إن الرسل جاؤوا لمن يحتاجهم فقط ، فإذا استغنت البشرية عنهم ، بتطورها ، ومعارفها ، جاز لها أن تعتمد في الهداية على نفسها .

ومنهم من يؤمن بالله تعالى والرسل ، ولكنهم يقولون إنهم جاؤوا بالتعاليم الروحية فقط ، وحتى لو مارسوا مهام الحكم والسياسة وهدوا الناس إلى مبادىء الإقتصاد ، والاجتماع ، وغيرها من جوانب الحياة ، فإنهم فعلوا ذلك من منطلق دنيوية ، لا من منطلق رسالي ، فلا يجب علينا إتباعهم إلا في الجوانب الروحية فقط ، أما غيره فهم لم يلزمونا أصلا بها .

وهذا القسم الأخير هو الذي يكثر في المتدثرين بالعلمانية في بلادنا الإسلامية ، لاسيما إذا كان الجو العام في المجتمع ضدهم ، فليجأون إلى هذه الشبهة ، ليدفعوا عن أنفسهم معرة التمرد على تعاليم الرسول محمد صلى الله عليه وسلم ،

وهم بذلك يتعلقون بشبه ساقطة متهافتة ، مردود عليها بأن النبي صلى الله عليه وسلم عندما قام بمهام الحكم والدولة ، وهدى الناس إلى مختلف شؤون الحياة وأمرهم بإتباعه فيها ، كان إنما يمتثل الأوامر القرآنية الصريحة ، ويقول إنه يقوم بمهمة الرسالة باتباع أوامر المرسِل سبحانه ، الذي جاء بهذا الهدى ملزما للناس جميعا ، كما قال ( كل أمتي يدخلون الجنة إلا من أبى ، قيل ومن يأبى يارسول الله ، قال من أطاعني دخل الجنة ، ومن عصاني فقد أبى ) .

من أفكار العلمانية :

ـ الحياة تقوم على أساس دلالة العقل ، والتجربة ، والحس ، الذي لايخضع للدين ، بل الدين هو الذي يجب أن يخضع للعقل ، والتجربة ، والحس ، وكل شيء وراء الواقع والحس لايستحق الإهتمام .

ـ إقامة حاجز بين عالمي الروح والمادة ، بينما الواقع أن بينهما ارتباط وثيق ولكنه خفي في كثير من الأحيان ، لايراه إلا المؤمنون .

،ـ فصل الدين عن السياسة ، وإقامة الحكم على أساس مادي ، يجعل الدين تباعا وليس متبوعا

ـ إعمال مبدأ النفعية على كل شئ في الحياة .

أما مبادىء الذين تمثلوا العلمانية في البلاد الإسلامية ومن بني جلدتنا

ـ الطعن في شريعة الإسلام ، والقرآن ، والنبوّة.

ـ الزعم بان الإسلام لايصلح لهذا الزمان ، وهو يصلح طقوسا وشعائر روحية فحسب .

ـ يقولون : الفقه الإسلامي فقير ، وما فيه مأخوذ عن القانون الروماني ، وليس فيه جانب سياسي يصلح لقيادة المجتمعات ،

ـ الدعوة إلى التحرر من القيم ، لاسيما قيم المرأة وفق الأسلوب الغربي .

ـ تشويه الحضارة الإسلامية ، والتاريخ الإسلامي ، وتضخيم حجم الحركات الهدامة فيه ، وترويجها على أنها حركات إصلاح ، وإحياء الحضارات التي قبل الإسلام

الدعوة إلى الإرتباط بالغرب ، وإلحاق الأمة به ، وتقليده في كل شيء ، بما فيه نشر التفسخ الأخلاقي .

السخرية من المعتقدات الغيبية في الإسلام ، والهزؤ بها .

التغريب :

التعريف

التغريب هو تيار فكري كبير ذو أبعاد سياسية واجتماعية وثقافية وفنية ، يرمي الى صبغ حياة الأمم بعامة ، والمسلمين بخاصة بالأسلوب الغربي ، وذلك بهدف إلغاء شخصيتهم المستقلة وخصائصهم المتفرده وجعلهم أسرى التبعية الكاملة للحضارة الغربية.

بدأ التغريب في العالم الإسلامي مع ابتعاث بعض المفكرين إلى أوربا ، أمثال رفاعة الطهطاوي الذي ابعث إلى باريس وأقام فيها خمس سنوات 1826/1831م ، وكذلك ابتعث خير الدين التونسي إليها وأقام فيها أربع سنوات 1852 – 1856م ، فعادا يبشران بضرورة بناء المجتمع العربي على أساس أفكار ونهج المجتمعات الغربية.

وبعد ذلك بدأت حركة ترجمة كتب المفكرين الغربيين ، أمثال فولتير ، وروسو ، ومونتسكيو ، لتكريس المفاهيم الأوربية في العقول العربية .

وبعد ذلك أنشأ كرومر كلية فيكتوريا بالإسكندرية لتربية جيل من أبناء النخبة ، نخبة المجتمع ، في أجواء الثقافة الإنجليزية ، ليكونوا أداة المستقبل في نقل ونشر الحضارة الغربية.

ثم ظهرت حركة جمال الدين الأفغاني 1838-1897م ، وبعد الشيخ محمد عبده 1849 – 1905م وكانا على صلة بالمستر بلنت البريطاني ، وكان محمد عبده له صداقة خاصة باللورد كرومر ، وقد عمل محمد عبده على تأويل نصوص الشريعة لتلائم المفاهيم الغربية ،

ومن تلاميذه قاسم أمين 1865 – 1908م وهو تلميذ محمد عبده ، الدعوة الى تحرير المرأة وتمكينها من العمل في الوظائف والأعمال العامة . وذلك عن طريق مؤلفين : تحرير المرأة 1899م ، والمرأة الجديدة 1900م.

ثم جاء السياسي سعد زغلول : الذي صار وزيرا للمعارف سنة 1906م شديد التأثر بآراء محمد عبده وقد نفذ فكرة كرومر القديمة والداعية إلى إنشاء مدرسة للقضاء الشرعي بقصد تطوير الفكر الإسلامي من خلال مؤسسة غير أزهرية منافسة له.

بعض رموز تيار التغريب القديمة :

1ـ احمد لطفي السيد 1872 – 1963م ، وكان يدعو إلى الانفصال عن العروبة والإسلام وأن مصر للمصريين ، الضيقة ، وقد تولى شؤون الجامعة المصرية منذ تسلمتها الحكومة المصرية عام 1916م وحتى 1941م تقريبا.

2ـ طه حسين 1889 – 1973م ، وكان من أبرز دعاة التغريب في العالم الإسلامي ، وقد تلقى علومه على يد المستشرق كايم دور ، وكان أخطر ما كتبه في كتابيه الشعر الجاهلي ، ومستقبل الثقافة في مصر، فقد صرح بالدعوة إلى إخضاع حتى ما في القرآن لمعايير الثقافة الغربية .

فمثلا : يقول في كتابه الشعر الجاهلي ص26 : للتوراة أن تحدثنا عن ابراهيم وإسماعيل وللقرآن أن يحدثنا أيضا ، ولكن ورورد هذين الاسمين في التوراة والقرآن لا يكفي لإثبات وجودهما التاريخي.

ويقول بعد ذلك : وقد كانت قريش مستعدة كل الاستعداد لقبول هذه الأسطورة في القرن السابع للمسيح . كما أنه ينفي فيه نسب النبي صلى الله عليه وسلم إلى أشراف قريش.

3ـ علي عبد الرزاق : نشر سنة 1925م كتابه الإسلام وأصول الحكم الذي ترجم إلى الانجليزية والأردية ، قرر فيه بأن الإسلام دين فقط وليس دينا ودولة ، وقد حوكم الكتاب ، والمؤلف من قبل هيئة العلماء بالأزهر في 12/08/1925م ، وصدرت ضده إدانة أخرجته من زمرة العلماء .

أهم الأفكار :

يقول لورنس بروان : إن الخطر الحقيقي كامن في نظام الإسلام ، وفي قدرته على التوسع ، والإخضاع وفي حيويته ، إنه الجدار الوحيد في وجه الاستعمار الغربي . ولهذا فلابد من الدعوة إلى أن يطبع العالم الإسلامي بطابع الغرب الحضاري.

تشجيع فكرة إسلام مشوه يوافق الأنماط الغربية ، ومحو تميّز الشخصية الإسلامية .

الدعوة الى الحرية على أساس المفهوم الغربي ، والتشكيك بتشريعات الإسلام الاجتماعية مثل تعدد الزوجات في الإسلام ، وتحديد الطلاق ، واختلاط الجنسين.

نشر فكرة العالمية والإنسانية ، بديلا عن الرابطة الإسلامية بين الشعوب الإسلامية .

الديمقراطية الغربية :

التعريف

الديمقراطية كلمة يونانية الأصل تتكون من مقطعين «ديموس» و «كراتُوس» بمعنى حكم الشعب للشعب أي أن الشعب يحكم نفسه بنفسه .

يقوم المبدأ الديمقراطي على ما يسمى بالحريات الأربع :

1ـ حرية الرأي.

2ـ حرية الاعتقاد.

3ـ حرية التملك.

4ـ الحرية الشخصية.

والشعب في الفكرة الديمقراطية هو السيد المطلق، وهو صاحب السيادة الذي يملك وحده زمام أمره، ، وهو غير مسؤول أمام سلطة غير سلطته ، ولهذا هو الذي يشرع القوانين من غير خضوع منه لسلطة أعلى منه ، لا رب معبود ، ولا رسول مرسل ، وبهذا فالشعب هو أيضا الذي ينفذ القوانين التي شرعها.

منطلق الفكرة العلمانية

كان مبدأ إنطلاق الفكرة العلمانية من أمرين :

أحدهما : إلغاء " الحق الإلهي المقدس " الذي كان مفروضا من الكنيسة فيما قبل الثورة الفرنسية ، فقد كانت الكنيسة قد أضفت هذا الحق على السلطة ، فلما قامت الثورة الفرنسية بفكرة الديمقراطية ، أخضعت الحكومة لرقابة الشعب علي تصرفاتها ، وعملت بمبدأ فصل السلطات ، فجعلت الحكومة سلطة تنفيذية فحسب ، لا سلطة تشريعية ..

الثاني : إعطاء الشعب حقوقه " الإنسانية " التي حرم منها أكثر من ألف عام في ظل نظام الإقطاع الذي كان سائدا في أوربا.

وبهذا يعلم أن الديمقراطية لها شقان :

أحدهما : منع الظلم والإستبداد ، ومنح الشعوب حقوقها ، ومنها المشاركة السياسية ، وهذا الشقّ جاء به الإسلام ، شريطة أن تكون الحقوق تبعا لأحكام الله تعالى .

الشق الثاني : جعل السيادة المطلقة بيد الشعب ، لا يخضع لشريعة الله تعالى ، ولا يلزمه الإنقياد لها .

ذلك أنه لما كانت تلك الثورة على الظلم والإستبداد ، التي انبثقت عنها فكرة الديمقراطية ، منطلقة من غير هدى من الله تعالى ، ومصحوبة بكراهيتة شديد لإرث الكنيسة المقيت في الظلم ومحاربة العلم في تلك العصور، إضافة إلى أنه لم يكن يمثّل الهدى ، بل هو دين محرف عن دين الحق الذي جاء به عيسى عليه السلام ،

لما كان الأمر كذلك ، تولد من الثورة نظام حكم نقل السيادة المطلقة إلى الشعب ، جاحدا أن لله تعالى شريعة له السيادة المطلقة على العباد ، لأنهم أصلا لم يعرفوا شريعة سوى شريعة الكنيسة المحرفة لرسالة الرسل ،

الشق الأخطر للديمقراطية

وبهذا يعلم أن هذا الشق من الديمقراطية بمفهومها الغربي ما هي سوى التمرد على شريعة الله تعالى ، والحكم بغير ما أنزل الله تعالى ،

ولئن كانت في إنطلاقتها الأولى في أوربا صادقت بيئة لاتعرف دينا إلاّ الدين المحرف الذي كان سببا لشقاءهم ، فتمردت عليه ، فإن استنساخها إلى بلاد المسلمين ،وبين أيديهم هدى الله الذي لايأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه ، ليس سوى تقليد أعمى لايأتيه إلا من بدّل نعمة الله التي أنعم الله بها عليه .

وقد سمّى الله تعالى ، الحاكمين بغير شريعته كافرين ، وظالمين ، وفاسقين ، ومرتدّين ، ومتحاكمين إلى الطاغوت ، ومؤمنين به ، ونفي نفيا مقرونا بالقسم بربويته الخاصة المضافة إلى من انزل عليه الشريعة ، نفى عنهم الإيمان ، وسماهم المبدّلين نعمة الله كفرا ، والمتّخذين أربابا من دون الله تعالى ، وجعل إيمان الذين يريدون ـ حتى لو لم يفعلوا ـ التحاكم إلى غير شريعة الله تعالى زعما محضا ، وأنهّم المبتغون حكم الجاهلية ،والمشركون بالله تعالى في الحكم ، وسماهم المنافقين ، والمشاقّين للرسول ، والمتبعين غير سبيل المؤمنين .

فهذه خمسة عشر وصفا ، هي أشدّ الأوصاف ذمّا ، وأعظما جُرما، كلّها قد وُصِم بها الحكم بغير ما أنزل الله تعالى .

فليتأمّل المؤمن برب الشريعة العلية المطهرة ، التي انزلها نورا على خير الناس ، هدى وشفاء للناس ، فليتأمل هذه الآيات الكريمات :

قال تعالى : (وَمَن لَّمْ يَحْكُم بما أنزل اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ)، وقال : ( وَمَن لَّمْ يَحْكُم بما أنزل اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) ، وقال : ( وَمَن لَّمْ يَحْكُم بما أنزل اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُون) ، وقال : ( أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ)، فسمى غير أحكام الله ، أحكام الجاهلية ، وسمى المعرضين عن تحكيم الشريعة مبتغين أحكام الجاهلية ، وإذا كان (أبغض الناس إلى الله تعالى مبتغ في الإسلام سنّة الجاهلية) ، خرجه البخاري من حديث ابن عباس ، فكيف بمن يحكم في الناس بحكم الجاهلية ؟!

وقال : (أَلَمْ تَرَإِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُواْ بِمَاأُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَاأُنزِلَ مِن قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَن يَتَحَاكَمُو اْإِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُواْ أَن يَكْفُرُواْ بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُضِلَّهُمْ ضَلاَلاً بَعِيدًا) ، فجعل الذين يريدون التحاكم إلى غير ما أنزل الله تعالى ، غير كافرين بالطاغوت ، وهذا يعني أنهم مؤمنون بالطاغوت ، ولهذا جعل إيمانهم بما أنزل الله تعالى زعما ، ومعلوم أن الكفر بالطاغوت أحد ركني الشهادتين ، فالطاغوت كل ما يتخذ من دون الله تعالى من أرباب ، أو آلهة ، أوأنداد ، وقد قال تعالى: (وَلَقَدْ بَعَثْنَافِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِاعْبُدُواْ اللَّهَ وَاجْتَنِبُواْ الطَّاغُوتَ فَمِنْهُم مَّنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُم مَّنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ فَسِيرُواْ فِي الأَرْضِ فَانظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ) ، وقال ( فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِن بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَىَ لاَانفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ)

وفي هذا بيان واضح أن مريد التحاكم إلى غير ما أنزل الله مؤمنٌ بالطاغوت ، كافرٌ بالله تعالى ، مجانبٌ لما جاءت به الرسل الكرام ، عليهم السلام ، ذلك أن ما أرسلوا به هو الحكم بالكتاب بالحق ، قال تعالى :(فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ وَأَنزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُواْ فِيهِ).

وقال تعالى : (وإذا قيل لهم تعالوا إلى ما أنزل الله وإلى الرسول رأيت المنافقين يصدون عنك صدودا ) . فقد وصفهم بالمنافقين

وقال تعالى : (ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ، ويتبع غير سبيل المؤمنين نوله ما تولى ونصله جهنم وساءت مصيرا). وأيّ مشاقّة للرسول صلى الله عليه وسلم أعظم من الإعراض عن شريعته ؟! وأيّ تولِّ لغير سبيل المؤمنين ، أعظم من نبذ التحاكم إلى التنزيل الذي آمن به المؤمنون واتّبعوه ؟!

وقال تعالى : (اتخذوا أحبارهم وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَاأُمِرُواْ إلا ليعبدوا إِلَهًا وَاحِدًا لاَّإِلَهَ إِلاَّهُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ) ، ،ومعلوم أنهم أطاعو الأحبار، والرهبان ، في تحليل ما حرم الله ، وتحريم ما أحل الله تعالى ، فكان ذلك اتخاذهم أحبارهم ، ورهبانهم ، أربابا من دون الله تعالى ، مع أنهم كانوا يفعلون ذلك تدينا ، وتعظيما لدينهم المحرّف ، ظانين أن للأحبار ، والرهبان ، ذلك الحقّ ، وليس تحقيرا للدين ، ولا إقصاء له ، ثم سمّاهم الله تعالى متخذي الأرباب من دون الله تعالى ، فكيف يكون حكم الذين يقصون الشريعة ، من المتحاكمين إلى القوانين الوضعية ؟!

ولهذا قال تعالى : (ولا يشرك في حكمه أحدا) ، فسمى المتخذ الطاغوت يتحاكم إليه ، مشركا بالله تعالى.

وقال تعالى : ( أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بدَّلُواْ نِعْمَةَ اللَّهِ كُفْرًا وَأَحَلُّواْ قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ* جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا وَبِئْسَ الْقَرَار) ، وأعظم نعمة هي الشريعة المنزلة على خير النبيين محمد صلى الله عليه وسلم ، كما قال تعالى : (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينًا فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَمُتَجَانِفٍ لِّإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌرَّحِيمٌ) ، وقد ذكر الله تعالى هذه الآية بعد أحكام الذّكاة ، وتحريم الميتة ، وقرن ذلك بشرك الذبح على الأنصاب ، والإستقسام بالأزلام ، وفيها بيان أنّ النعمة إنمّا تّمت على هذه الأمّة المرحومة ، بشريعتها الشاملة لكل مناحي الحياة ، حتى المآكل والمشارب ، فمن بدل شريعة الله بغيرها ، فقد بدل نعمة الله كفرا وأحل قومه دار البوار.

وقال تعالى) : إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِهِم مِّن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى الشَّيْطَانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلَى لَهُمْ* ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا مَانَزَّلَ اللَّهُ سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الأَمْرِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِسْرَارَهُمْ )

فهؤلاء قالوا للذين يكرهون ما نزل الله ، أنهم سيطيعونهم في بعض الأمر ، لاكله ، وقالوا ذلك سرا لا جهرا ، صارا مرتدين بذلك ، فكيف بالذين يطيعون الكارهين للشريعة من الكفار ، بتبديل الشريعة كلها ، ويفعلون ذلك جهرا لا سرا ، ويتبجحون بذلك زاعمين أن قوانينهم الوضعية عدل ، وصلاح ، وإصلاح للبلاد والعباد ؟!

وقال تعالى) : فَلاَوَرَبِّكَ لاَيُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَبَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَيَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيمًا( ، فقد أقسم الله تعالى بروبيته الخاصة على محمد صلى الله عليه وسلم الذي أنزل عليه الشريعة الحاكمة ، وشرفه بكونه المبلغ لها ، الحاكم بها ، الذي قوله حكمٌ ، وفعله حكمٌ ، وإقراره حكمٌ ، يتفرّق الناس على أساس ما جاء به ، إلى الإيمان والكفر ، والهدى والضلال ، والحق والباطل ، والسعيد والشقي ، أقسم عز وجل ، أنّ أحداً لن ينال حقيقة الإيمان حتى يجعل ما يأتي به الرسول صلى الله عليه وسلم ، هو الحُكمُ الفصلُ في كلّ شيء ، ثم لايجد في نفسه حرجا مسلِّما بذلك تسليما ، إذ كان هذا هو معنى الإسلام ، ولهذا ، وبهذا ، صار صلى الله عليه وسلم خير الأولين والآخرين ، ورحمة الله تعالى للناس أجمعين ،

ومعلوم أن دين الإسلام قائم على الإستسلام لأحكام الله تعالى ، والإنقياد التام لما أنزله سبحانه ، ولهذا عطف الله تعالى تفرده بالحكم على كلمة التوحيد ، (وَلاتَدْعُ مَعَ اللَّهِ إلها آخر لاإِلَهَ إِلاَّ هُوَكُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إلا وجهه لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ(، وعطف كلمة التوحيد على تفرده بالحكم وسماه الدين القيم ) : إِنِ الْحُكْمُ إلا لله أَمَرَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إلا إياه ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَيَعْلَمُونَ)، وهذا مثل قوله تعالى)وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّتَعْبُدُو اْإِلاَّ إِيَّاهُ( أي لماكان هو الحكم وإليه الحكم ، حكم أن لايُعبد سواه ، ولهذا قال ) قل أعوذ برب الناس ، ملك الناس ، إله الناس) ( ، أي :كون الرب الخالق المدبر ، والملك الحاكم الآمر ، استحق العبادة وحكمَ أنْ تكون العبادةُ له وحده ،وأن من جعلها لغيره ،فهو كافرٌ به سبحانه

ولهذا كان أوّل أسباب الشقاء ، التي وقعت في الوجود ، الخروج عن حكمه سبحانه ، كما فعل إبليس لعنه الله ، فاستحق اللعنة الأبديّة ،

كما كان عنوان السعادة الأبدية طاعة أحكامه ، والخضوع لسلطانه ، وفي الحديث: (كلّ أمّتي يدخلون الجنة إلاّ من أبى ، قالوا : ومن يأبى يارسول الله ، قال من أطاعني دخل الجنة ومن عصاني فقد أبى) خرجه البخاري من حديث أبي هريرة

ولهذا قال تعالى : (يا أيها الذين آمنوا لاتقدموا بين يدي الله ورسوله) ، أي لاتقولوا حتى يقول ، ولا تأمروا حتى يأمر ، ولا تفتوا حتى يفتي ، ولا تقطعوا أمرا حتى يكون هو الذين يحكم فيه ويُمضي .

وسبب هذه العناية العظيمة في القرآن بالحكم بما أنزل الله تعالى ، والتحذير العظيم من تعطيلها أن تعطيلها هو أعظم جريمة تقترف ،

ذلك أنها كما قال العلامة ابن القيم رحمه الله : (فالشريعة عدل الله بن عباده ، ورحمته بين خلقه ، وظله في أرضه ، وحكمته الدالة عليه وعلى صدق رسوله صلى الله عليه وسلم ، أتم دلاله وأصدقها ، وهي نوره الذي أبصر به المبصرون ، وهداه الذي به اهتدى المهتدون ، وشفاؤه التام الذي به دواء كل عليل ، وطريقه المستقيم الذي من استقام عليه في استقام على سواء السبيل ، فهي قرة العيون ، وحياة القلوب ، ولذة الأرواح ، فهي بها الحياة ، والغذاء ، والدواء ، والنور ، و الشفاء ، والعصمة ، وكل خير في الوجود فإنما هو مستفاد منها ، وحاصل بها ، وكل نقص في الوجود ، فسببه من إضاعتها ، ولولا رسوم قد بقيت لخربت الدنيا وطوي العالم ، وهي العصمة للناس وقوام العالم ، وبها يمسك الله السموات والأرض أن تزولا ، فإذا أراد الله سبحانه وتعالى خراب الدنيا وطي العالم ، رفع إليه ما بقي من رسومها ، فالشريعة التي بعث الله بها رسوله هي عمود العالم ، وقطب الفلاح والسعادة في الدنيا والآخرة ).

إذا تبيّن هذا ، فليُعلم أنّ ما يُسمى ( الديمقراطية ) بمعناها الذي أراده مخترعوها ، والدعاة إليها ـ فقد يُراد بإطلاقها جهلا أنها ما يُضاد الإستبداد فحسب ـ هي أعظم مناقضٍ للشريعة ، والداعون إليها ، هم الدعاة إلى أبواب جهنم ، لأنهم هم الداعون إلى رفض الحكم بما أنزل الله تعالى، المبتغون حكم الجاهلية ، المشركون بالله تعالى في حكمه ، الزاعمون الإيمان المنفيَّ عنهم ، الكافرون ، الظالمون ، الفاسقون ، المرتدون ، المتحاكمون إلى الطاغوت ، المؤمنون به ، المتخذون أربابا من دون الله ، المبدلون نعمة الله كفرا ، المنافقون ، المشاقون للرسول صلى الله عليه وسلم ، المتبعون غير سبيل المؤمنين .

ذلك أن الديمقراطية تعني إتخاذ أحكام البشر بإعتبار أصوات غالب ممثليهم ،شريعة بديلة عن شريعة الله تعالى ، مهيمنة بأحكامها على الأقوال ، والأفعال ،والأفكار ، وجميع السلوك الإنساني ، والعلاقات الدولية الداخلية ، والخارجية ، لها أنْ تحلّ ما حرّم الله ، وتحرّم ما أحلّ الله تعالى .

فهي أمّ القوانين التي تخلقها إفكا ، وهي منبع الطواغيت التي تحدثها باطلا ، وهي مصنع الجاهلية المعاصرة التي تصدّ عن سبيل الله تعالى ، وتحارب شريعته .

ومعلوم أن سدنة هذا الدين الجديد ، يقولون إنّه لايُحكم على السلوك الإنساني منفردا أومجتمعا في صورة دولة ، بأنه صواب أو خطأ ، فيكون جريمة ، أم سلوكا مباحا ، إلاّ بقانون ، ولابد للقانون من مشرِّع يشرّعه ، ومصدر يُحدثه ،ويُنشئه :

فإمّا إن يكون مصدره من غير البشر ، وهو الله تعالى ، عند أتباع الرسل.

وإما أن يكون من البشر ، وهذا الأخير لايخلو :

إمّا أن يكون من حاكم مستبد ، يفصل في الأمور برأيه ، ويقضي فيها بحكمه وهذه هي الدكتاتورية التي ثارت عليها الشعوب في القرن الماضي ، حتى ساد المذهب الثالث.

وهو أن يكون مصدر التشريع هو حكم الأغلبيّة بحسب العدّ المحض ، الذي يعدّ الرؤوس ولا يزنها ، فيجعل العاقل الحكيم المصلح ، مساويا للجاهل الأحمق المفسد ، والمؤمن الصالح الأمين ، مكافئا للكافر الفاسق الخائن ، وسيد القوم الشريف سديد الرأي ، معادلا للمرأة التي ربما تكون عاهرة تسعى بفرجها !

فكلهم سواء في ميزان هذا الدين الجديد ، فتُعدّ أصواتهم عدّا فحسب ، ثم يُعرف بأكثر العدّ ، الشرعُ الذي يجب أن يسيروا عليه ، والنهج الذي يهديهم سواء السبيل !

ولئن قال قائل إن هذا الحمق ،والجهل ، والضلال المبين ، لايمكن أن يتواطأ عليه العقلاء ، لأنه يعرف بالبداهة فساده ، ويتبين بمنطق الأمور مناقضته للعقل الصريح .

فالجوب أنهم علموا أنّه لافرق ـ في الحقيقة ـ بين هذا الدين الجديد ، وما قبله ، لأنّ فئة قليلة قادرة على التأثير على الغالب بالترغيب والترهيب ، ستسيطر على عدد الأصوات ، فيصير التشريع بأيديهم ،علموا ذلك ، غير أنهم وجدوا أنّ إبقاء اللعبة التي تُسمّى الديمقراطية ، في ظاهرها تخدع الشعوب ، وتخدّرهم يوم التصويت، أنفع لهم من المجاهرة بأنهم مستبدون ، يبتغون الإستيلاء والهيمنة بشعارات خداعة .

وهذا يُشبه ـ من وجه ـ ما يسمى الشركات المساهمة، حيث يظنّ المساهمون أنهم تّجار بما يملكون من أسهم في الشركات ، بينما يتحكم في الشركات الكبار الذين يخدرونهم بتلك الخدعة ، حتى يملكوا أموالهم ، كما ملكت تلك الخدعة المسماة الديمقراطية عقولهم وإرادتهم ، ولهذا قال احد المفكّرين الغربيين : إنّ أكبر كذبتين في التاريخ هما الديمقراطية ، والشركات المساهمة !

ولهذا كان ما فيهما من الفساد العام ، ومحق البركة من المجتمعات ما فيهما .

والمقصود أنّ سدنة هذا الصنم قالوا : إنّ التشريعات التي تنتج عن حكم الأغلبيّة ، مقدمة على كلّ حكم آخر حتى شريعة الله تعالى ، وأنها ملزمة للشعوب ، فهي شريعة كاملة ، وأحكام نافذة ، والخارج عليها مجرم ، والمتمرد عليها خائن ، والساعي في تعطليها مرتد يحكم عليه أحيانا بالإعدام ، أو الحبس المؤبد ، أوالنكال الشديد ، ثم جعلوا لهذا الدين خبراء يطوّرونه ، أطلقوا عليهم إسم ( فقهاء القانون ) كما أطلقوا على آراءهم ( الفتوى ) ، إمعانا في المضادة لشريعة الله تعالى واستبدالها بغيرها .

وبهذا يتبين أن هذه القوانين الوضعية ، ترجع إلى أصل عقدي ، هو دين الديمقراطية ، تنبثق منها على أساس إعتقاد أنّ الحكم بين الناس ، والتشريع لهم ، لايرجع فيه إلى الله تعالى خالق البشر بل إلى البشر أنفسهم .

والخلاصة أن الديمقراطية بشقها الثاني مناقضة تمام المناقضة لدين الإسلام ، عقيدة وشريعة .

الليبرالية

التعريف

هذا المصطلح الغربي من أشد المصطلحات غموضا ، وقد اختلف معرفوه الغربيون في تعريفه اختلافا كبيرا ، غير أنها كلها ترجع إلى أحد أركان الديمقراطية الغربية ، وهي الحرية ، والحرية بالمفهوم الغربي فحسب ، فهي حرية زائفة ترجع إلى كونها عبودية للغرب حتى في تعريف الحرية!

وبهذا يعلم أن الليبراليَّة هي وجه آخر من وجوه العلمانيِّة بمعناها العام الذي هو التمرد على الدين والتحلل من الإلتزام به ، ولهذا فمعتنقوها يقصدون بها أن يكون الإنسان حراً في أن يفعل ما يشاء ، ويقول ما يشاء ، ويعتقد ما يشاء ، ويحكم بما يشاء ، بدون التقيد بشريعة إلهية ، فالإنسان عند الليبراليين إله نفسه ، وعابد هواه ، غير محكوم بشريعة من الله تعالى ، ولا مأمور من خالقه باتباع منهج إلهيّ ينظم حياته كلها، كما قال تعالى ( قُل إنَّ صَلاتي ونُسُكِي وَمَحيايَ وَمَماتي للهِ رَبَّ العالَمِينَ ، لاشَريكَ لَهُ وَبِذلِكَ أُمِرتُ وَأَنا أَوَّلُ المِسلِمين) الأنعام 162، 163 ، وكما قال تعالى ( ثمَُّ جَعَلنَاكَ عَلى شَرِيعَةٍ مِنَ الأَمرِ فَاتَّبِعها وَلاتتَّبِع أَهواءَ الذِينَ لايَعلَمُون ) الجاثية 18

هل تملك الليبرالية إجابات حاسمة لما يحتاجه الإنسان :

الليبراليَّة لاتُعطيك إجابات حاسمة على الأسئلة التالية مثلا : هل الله موجود ؟ هل هناك حياة بعد الموت أم لا ؟ وهل هناك أنبياء أم لا ؟ وكيف نعبد الله كما يريد منّا أن نعبده ؟ وما هو الهدف من الحياة ؟ وهل النظام الإسلاميُّ حق أم لا ؟ وهل الربا حرام أم حلال ؟ وهل القمار حلال أم حرام ؟ وهل نسمح بالخمر أم نمنعها ، وهل للمرأة أن تتبرج أم تتحجب ، وهل تساوي الرجل في كل شيء أم تختلف معه في بعض الأمور ،

وهل الزنى جريمة أم علاقة شخصية وإشباع لغريزة طبيعية إذا وقعت برضا الطرفين ، وهل القرآن حق أم يشتمل على حق وباطل ، أم كله باطل ، أم كله من تأليف محمد صلى الله عليه وسلم ولا يصلح لهذا الزمان ، وهل سنة الرسول صلى الله عليه وسلم وحي من الله تعالى فيحب أتباعه فيما يأمر به ، أم مشكوك فيها ، وهل الرسول صلى الله عليه وسلم رسول من الله تعالى أم مصلح اجتماعي ،

وما هي القيم التي تحكم المجتمع ؟ هل هي تعاليم الإسلام أم الحرية المطلقة من كل قيد ، أم حرية مقيدة بقيود من ثقافات غربية أو شرقية ، وماهو نظام العقوبات الذي يكفل الأمن في المجتمع ، هل الحدود الشرعية أم القوانين الجنائية الوضعية ، وهل الإجهاض مسموح أم ممنوع ، وهل الشذوذ الجنسي حق أم باطل ، وهل نسمح بحرية نشر أي شيء أم نمنع نشر الإلحاد والإباحية ، وهل نسمح بالبرامج الجنسية في قنوات الإعلام أم نمنعه ، وهل نعلم الناس القرآن في المدارس على أنه منهج لحياتهم كلها ، أم هو كتاب روحي لاعلاقة له بالحياة ؟؟؟؟

المبدأ العام الليبرالية :

فالليبراليّة ليس عندها جواب تعطيه للناس على هذه الأسئلة ، ومبدؤها العام هو : دعوا الناس كلُّ إله لنفسه ومعبود لهواه ، فهم أحرار في الإجابة على هذه الأسئلة كما يشتهون ويشاؤون ، ولن يحاسبهم رب على شيء في الدنيا ، وليس بعد الموت شيء ، لاحساب ولا ثواب ولاعقاب

ماالذي يجب أن يسود المجتمع في المذهب الليبرالي :

وأما ما يجب أن يسود المجتمع من القوانين والأحكام ، فليس هناك سبيل إلا التصويت الديمقراطي ، وبه وحده تعرف القوانين التي تحكم الحياة العامة ، وهو شريعة الناس لاشريعة لهم سواها ، وذلك بجمع أصوات ممثلي الشعب ، فمتى وقعت الأصوات أكثر وجب الحكم بالنتيجة سواء وافقت حكم الله وخالفته 0

السمة الأساسية للمذهب الليبرالي :

السمة الأساسية للمذهب الليبرالية أن كل شيء في المذهب الليبراليِّ متغيِّر ، وقابل للجدل والأخذ والردِّ حتى أحكام القرآن المحكمة القطعيِّة ، وإذا تغيَّرت أصوات الأغلبية تغيَّرت الأحكام والقيم ، وتبدلت الثوابت بأخرى جديدة ، وهكذا دواليك ، لايوجد حقّ مطلق في الحياة ، وكل شيء متغير ، ولا يوجد حقيقة مطلقة سوى التغيُّر.

إله الليبرالية :

فإذن إله الليبراليِّة الحاكم على كل شيء بالصواب أو الخطأ ، حرية الإنسان وهواه وعقله وفكره ، وحكم الأغلبيِّة من الأصوات هو القول الفصل في كل شئون حياة الناس العامة ، سواءُُ عندهم عارض الشريعة الإلهيّة ووافقها ، وليس لأحد أن يتقدَّم بين يدي هذا الحكم بشيء ، ولا يعقب عليه إلا بمثله فقط 0

تناقض الليبرالية :

ومن أقبح تناقضات الليبرالية ، أنَّه لو صار حكمُ الأغلبيِّة هو الدين ـ في الليبرالية السياسية مثلا ـ واختار عامة الشعب بحرية الحكم بالإسلام ، واتباع منهج الله تعالى ، والسير على أحكامه العادلة الشاملة الهادية إلى كل خير ، فإن الليبراليّة هنا تنزعج انزعاجاً شديداً ، وتشن على هذا الاختيار الشعبي حرباً شعواء ، وتندِّدُ بالشعب وتزدري اختياره إذا اختار الإسلام ، وتطالب بنقض هذا الاختيار وتسميه إرهاباً وتطرفاً وتخلفاً وظلاميّة ورجعيّة 00الخ

كما قال تعالى ( وإذا ذُكِر الله ُوَحدَهُ اشمَأَزَّت قلوبُ الذين لايُؤمِنُونَ بِالآخرِةِ وَإِذا ذُكِرَ الذينَ مِنَ دونِهِ إذا هُم يَستَبشِروُن) الزمر 45 .

فإذا ذُكر منهج الله تعالى ، وأراد الناس شريعته اشمأزت قلوب الليبراليين ، وإذا ذُكِر أيُّ منهجٍ آخر ، أو شريعة أخرى ، أو قانون آخر ، إذا هم يستبشرون به ، ويرحِّبون به أيَّما ترحيب ، ولايتردَّدون في تأيِّيده.

حكم الاسلام في الليبرالية :

فإذن الليبراليِّة ماهي إلاّ وجه آخر للعلمانيِّة التي بنيت أركانها على الإعراض عن شريعة الله تعالى ، والكفر بما أنزل الله تعالى ، والصد عن سبيله ، ومحاربة المصلحين ، وتشجيع المنكرات الأخلاقيِّة ، والضلالات الفكريِّة ، تحت ذريعة الحريِّة الزائفة ، والتي هي في حقيقتها طاعة للشيطان وعبودية له0

هذه هي الليبراليّة ، وحكمها في الإسلام هو نفس حكم العلمانيّة سواء بسواء ، لأنها فرع من فروع تلك الشجرة ، ووجه آخر من وجوهها

التعددية

التعريف :

التعددية هي فرع عن الليرالية التي هي فرع عن العلمانية ، والديمقراطية الغربية تجعل التعددية من صور الحرية التي هي أحد أركانها ، وقد بينا فيما مضى أن الحرية هنا ، حرية زائفة ، يقصد بها العبودية للعقل الغربي في توصيف حتى معنى الحرية .

والتعددية تعني أن يسمح في المجتمع بالاختلاف والتعدد في كلّ شيء ، حتى لو كان هذا الإختلاف بين الحق والباطل ، بل لايوجد في التعددية ، حق مطلق ، وباطل مطلق ، ولهذا ترى التعددية أن الاختلاف مهما كان هو في حد ذاته ظاهرة محمودة بإطلاق ، تجب رعايتها ، وتشجيعها ، ومحاربة من يقف في طريقها ،

وحتى لو كان في المجتمع من يعبد إبليس نفسه ، فيجب أن يسمح لهم ـ في نظر التعددية ـ بإظهار دعوتهم ، وتمكينهم من دعوة الناس إليها ، ونشر كل ما يزينها ويشجع على إعتناقها ، وعلى الصعيد السياسي يجب أن يسمح لهم بتأسيس حزب سياسي يحمي معتقداتهم ، ويسمح لهم بنشرها .

وكذلك يجب أن يسمح العالم كله بعبور كلّ العقائد ، والأفكار ، والديانات ، ونشرها عبر المجتمعات من غير حجر ولا تضييق ولامنع .

والعجب من التعددية ـ كسائر ما يأتي من الغرب الأعور المنافق ـ أنها عندما يأتي دور الإسلام ، لايسمح لها بالتعددية ، بل يحارب حربا شعواء ، ويضيق عليه ، كما فعلت فرنسا مع الحجاب ، فإنها عندما رأت انتشار الحجاب في المدارس ، أعلنت حربا على التعددية الثقافية ، بل الحرية الشخصية ،

ومن الأمثلة الأخرى تلك القوانين الغربية التي تحظر مناقشة تاريخ الهلوكوست ، ( المذبحة اليهودية المزعومة ) ، ولا تسمح هنا بالتعددية في الآراء ، وقد تمت مطاردة عدة مفكرين غربيين قضائيا ، ومنهم من سجن ، لتشكيكهم في صحة ما تزعمه اليهود من وقوع الهلوكوست بالصورة التي وقعت بها .

وهاهي أمريكا تمارس أبشع أنواع التمييز العنصري ضد المسلمين ، بعد أحداث الحادي عشر من أيلول ، وتحذوا حذوها دول أوربية ، ضاربة عرض الحائط بمزاعمها عن التعددية الثقافية !

حكم التعددية

الأصل الجامع لهذا الدين ، وكل دين أرسل الله به المرسلين والنبيين ، أن الله تعالى أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين ، أن يُعلوا أحكام هذا الدين ، وهو كلمة الحق ، وأن ينصروه .

وأن يقيموا العدل ، وينصبوه ، وأن يمنعوا الباطل من العلوّ والظهور ، وكذا الظلم والفجور .

وأن معيار العلم بالحق والباطل ، إنما هو الوحي ، هو الحق وماذا بعد الحق إلا الضلال ، قال سبحانه " فاسْتَقْمْ كَمَا أُمِرَتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ وَلا تَطْغَوْا "

وذلك أن الله تعالى هو الحق ، وهو ربّ الناس ، ملك الناس ، إله الناس ، له الأمر كلّه ، كما له الملك و الخلق كلّه ، وقد أقام هذه السموات والأرض على الحق والعدل ، وأنزل به الوحي ، حاكما بين الناس ، وأمر المرسلين والمؤمنين أن يقوموا به في الأرض ، ويجاهدوا في سبيل إقامته ، بالعلم واللسان ، وبالقوة والسنان .

قال تعالى : (إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ * وَأَوْفُواْ بِعَهْدِ اللّهِ إِذَا عَاهَدتُّمْ وَلاَ تَنقُضُواْ الأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلاً إِنَّ اللّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ * وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِن بَعْدِ قُوَّةٍ أَنكَاثًا تَتَّخِذُونَ أَيْمَانَكُمْ دَخَلاً بَيْنَكُمْ أَن تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبَى مِنْ أُمَّةٍ إِنَّمَا يَبْلُوكُمُ اللّهُ بِهِ وَلَيُبَيِّنَنَّ لَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ ).

وقال تعالى (الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الأمُور ) ِ

وقال تعال : ( شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ ولا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ )

فأمر الناس أن يقيموا دين الله وأن يجتمعوا عليه ، ولا يتفرقوا .

والقرآن مليء بالأمر بالاجتماع على الحق ومدحه ، وذم الافتراق عنه والتفرق فيه ، والأمر بجهاد الباطل وأهله ، وقد سماهم أهل الشقاق ، وأهل النفاق ، وأهل الكفر ، أو الفسق والفجور ، وجمع لهم أوصاف الذم وأسماءه.

هذا هو الأصل العظيم الجامع ، المعلوم من الدين بالضرورة ، من دفعه كفر وارتد ، يستتاب فإن تاب وإلا ضربت عنقه بإتفاق العلماء .

وعلى هذا الأصل أقيمت شعيرة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في الإسلام ، بل جعل النظام السياسي كله قائما على هذا الأصل ، فمقصوده إظهار الحق الذي تحمله الأمّة بالوحي ، إظهاره أي جعله ظاهرا بالقوة والعلوّ ، بين المؤمنين ، وعلى الأرض كلها بجهاد الطلب .

قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله :

" وإذا كان جماع الدين وجميع الولايات هو أمر ونهي ؛ فالأمر الذي بعث الله به رسوله هو الأمر بالمعروف والنهي الذي بعثه به هو النهي عن المنكر وهذا نعت النبي والمؤمنين ؛ كما قال تعالى : { والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر}

وهذا واجب على كل مسلم قادر وهو فرض على الكفاية ويصير فرض عين على القادر الذي لم يقم به غيره والقدرة هو السلطان والولاية فذوو السلطان أقدر من غيرهم ؛ وعليهم من الوجوب ما ليس على غيرهم .

فإن مناط الوجوب هو القدرة ؛ فيجب على كل إنسان بحسب قدرته قال تعالى : { فاتقوا الله ما استطعتم}

وجميع الولايات الإسلامية إنما مقصودها الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر سواء في ذلك ولاية الحرب الكبرى : مثل نيابة السلطنة والصغرى مثل ولاية الشرطة : وولاية الحكم ؛ أو ولاية المال وهي ولاية الدواوين المالية ؛ وولاية الحسبة .

لكن من المتولين من يكون بمنزلة الشاهد المؤتمن ؛ والمطلوب منه الصدق ؛ مثل الشهود عند الحاكم ؛ ومثل صاحب الديوان الذي وظيفته أن يكتب المستخرج والمصروف ؛ والنقيب والعريف الذي وظيفته إخبار ذي الأمر بالأحوال .

ومنهم من يكون بمنزلة الأمين المطاع ؛ والمطلوب منه العدل مثل الأمير والحاكم والمحتسب وبالصدق في كل الأخبار والعدل في الإنشاء من الأقوال والأعمال : تصلح جميع الأحوال وهما قرينان كما قال تعالى : { وتمت كلمة ربك صدقا وعدلا } {وقال النبي صلى الله عليه وسلم لما ذكر الظلمة : " { من صدقهم بكذبهم وأعانهم على ظلمهم فليس مني ولست منه ؛ ولا يرد علي الحوض ومن لم يصدقهم بكذبهم ولم يعنهم على ظلمهم فهو مني وأنا منه : وسيرد على الحوض}

وفي الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " { عليكم بالصدق فإن الصدق يهدي إلى البر وإن البر يهدي إلى الجنة ولا يزال الرجل يصدق ويتحرى الصدق حتى يكتب عند الله صديقا وإياكم والكذب فإن الكذب يهدي إلى الفجور وإن الفجور يهدي إلى النار ولا يزال الرجل يكذب ويتحرى الكذب حتى يكتب عند الله كذابا}

ولهذا قال سبحانه وتعالى : { هل أنبئكم على من تنزل الشياطين }{ تنزل على كل أفاك أثيم } وقال : " { لنسفعن بالناصية } { ناصية كاذبة خاطئة} . مجموع الفتاوى 28/65

وكل هذا قد اتفقت عليه المذاهب الإسلامية من أهل السنة والجماعة .

*** غير أن هذا لايعني أنه ليس في الإسلام مساحة لتعدد الآراء ، والتسامح في الخلاف ، مادام ذلك لا يكون في دائرة المحكمات ، والثوابت.

فالتعدّدية إن أريد بها هذا فهي من الحقّ نفسه .

ولهذا لم يكن عند أحد من العلماء تعارض بين ما أمر الله به من إقامة الأمر بالمعروف والنهي عن المكر ، وبين القاعدة المشهورة : أنه لا إنكار في المسائل الاجتهادية ، لان الله تعالى شاء بحكمته أن يكون فيما أنزل محكمات هنّ أمّ الكتاب ، يجتمع عليها أهل الحق ولا يتفرقون ، ومتشابهات يجري وقد يسوغ فيها اختلاف النظر والاجتهاد ، ولهذا صح في الحديث : ( إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران ، وإن أخطأ فله اجر) ,

ولهذا ذكر من ذكر من العلماء أنه لا يجوز للحاكم أن يلزم الناس في مسائل الاجتهاد برأيه ،

قال شيخ الإسلام جوابا على سؤال هل يلزم ولي الأمر الناس بمذهبه في مسائلا الاجتهاد :

فَأَجَابَ : لَيْسَ لَهُ مَنْعُ النَّاسِ مِنْ مِثْلِ ذَلِكَ وَلا مِنْ نَظَائِرِهِ مِمَّا يَسُوغُ فِيهِ الاجْتِهَادُ وَلَيْسَ مَعَهُ بِالْمَنْعِ نَصٌّ مِنْ كِتَابٍ وَلاسُنَّةٍ وَلاإجْمَاعٍ وَلَا مَا هُوَ فِي مَعْنَى ذَلِكَ ؛ لا سِيَّمَا وَأَكْثَرُ الْعُلَمَاءِ عَلَى جَوَازِ مِثْلِ ذَلِكَ وَهُوَ مِمَّا يَعْمَلُ بِهِ عَامَّةُ الْمُسْلِمِينَ فِي عَامَّةِ الأمصار . وَهَذَا كَمَا أَنَّ الْحَاكِمَ لَيْسَ لَهُ أَنْ يَنْقُضَ حُكْمَ غَيْرِهِ فِي مِثْلِ هَذِهِ الْمَسَائِلِ وَلا لِلْعَالِمِ وَالْمُفْتِي أَنْ يُلْزِمَ النَّاسَ بِاتِّبَاعِهِ فِي مِثْلِ هَذِهِ الْمَسَائِلِ ؛ وَلِهَذَا لَمَّا اسْتَشَارَ الرَّشِيدُ مَالِكًا أَنْ يَحْمِلَ النَّاسَ عَلَى " مُوَطَّئِهِ " فِي مِثْلِ هَذِهِ الْمَسَائِلِ مَنَعَهُ مِنْ ذَلِكَ . وَقَالَ : إنَّ أَصْحَابَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَفَرَّقُوا فِي الآَمْصَارِ وَقَدْ أَخَذَ كُلُّ قَوْمٍ مِنْ الْعِلْمِ مَا بَلَغَهُمْ . وَصَنَّفَ رَجُلٌ كِتَابًا فِي الاخْتِلافِ فَقَالَ أَحْمَد : لا تُسَمِّهِ " كِتَابَ الاخْتِلافِ " وَلَكِنْ سَمِّهِ " كِتَابَ السُّعةِ " . وَلِهَذَا كَانَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ يَقُولُ : إجْمَاعُهُمْ حُجَّةٌ قَاطِعَةٌ وَاخْتِلافُهُمْ رَحْمَةٌ وَاسِعَةٌ .

وَكَانَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ يَقُولُ : مَا يَسُرُّنِي أَنَّ أَصْحَابَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَخْتَلِفُوا ؛ لاَنَّهُمْ إذَا اجْتَمَعُوا عَلَى قَوْلٍ فَخَالَفَهُمْ رَجُلٌ كَانَ ضَالا وَإِذَا اخْتَلَفُوا فَأَخَذَ رَجُلٌ بِقَوْلِ هَذَا وَرَجُلٌ بِقَوْلِ هَذَا كَانَ فِي الأمر سَعَةٌ .

وَكَذَلِكَ قَالَ غَيْرُ مَالِكٍ مِنْ الأئمة : لَيْسَ لِلْفَقِيهِ أَنْ يَحْمِلَ النَّاسَ عَلَى مَذْهَبِهِ .

وَلِهَذَا قَالَ الْعُلَمَاءُ الْمُصَنِّفُونَ فِي الأمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنْ الْمُنْكَرِ مِنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ وَغَيْرِهِ : إنَّ مِثْلَ هَذِهِ الْمَسَائِلِ الاجْتِهَادِيَّةِ لا تُنْكَرُ بِالْيَدِ وَلَيْسَ لأحَدِ أَنْ يُلْزِمَ النَّاسَ بِاتِّبَاعِهِ فِيهَا ؛

وَلَكِنْ يَتَكَلَّمُ فِيهَا بِالْحُجَجِ الْعِلْمِيَّةِ فَمَنْ تَبَيَّنَ لَهُ صِحَّةُ أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ تَبِعَهُ وَمَنْ قَلَّدَ أَهْلَ الْقَوْلِ الآخَرِ فَلا إنْكَارَ عَلَيْهِ.

وَنَظَائِرُ هَذِهِ الْمَسَائِلِ كَثِيرَةٌ : مِثْلَ تَنَازُعِ النَّاسِ فِي بَيْعِ الباقلا الأخْضَرِ فِي قِشْرَتِهِ وَفِي بَيْعِ المقاثي جُمْلَةً وَاحِدَةً وَبَيْعِ الْمُعَاطَاةِ وَالسَّلَمِ الْحَالِّ وَاسْتِعْمَالِ الْمَاءِ الْكَثِيرِ بَعْدَ وُقُوعِ النَّجَاسَةِ فِيهِ إذَا لَمْ تُغَيِّرْهُ وَالتَّوَضُّؤِ مِنْ مَسِّ الذَّكَرِ وَالنِّسَاءِ وَخُرُوجِ النَّجَاسَاتِ مِنْ غَيْرِ السَّبِيلَيْنِ وَالْقَهْقَهَةِ وَتَرْكِ الْوُضُوءِ مِنْ ذَلِكَ وَالْقِرَاءَةِ بِالْبَسْمَلَةِ سِرًّا أَوْ جَهْرًا وَتَرْكِ ذَلِكَ .

وَتَنْجِيسِ بَوْلِ مَا يُؤْكَلُ لَحْمُهُ وَرَوْثِهِ أَوْ الْقَوْلِ بِطَهَارَةِ ذَلِكَ وَبَيْعِ الأعْيَانِ الْغَائِبَةِ بِالصِّفَةِ وَتَرْكِ ذَلِكَ .

وَالتَّيَمُّمِ بِضَرْبَةٍ أَوْ ضَرْبَتَيْنِ إلَى الْكُوعَيْنِ أَوْ الْمِرْفَقَيْنِ وَالتَّيَمُّمِ لِكُلِّ صَلاةٍ أَوْ لِوَقْتِ كُلِّ صَلاةٍ أَوْ الاكتفاء بِتَيَمُّمِ وَاحِدٍ وَقَبُولِ شَهَادَةِ أَهْلِ الذِّمَّةِ بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ أَوْ الْمَنْعِ مِنْ قَبُولِ شَهَادَتِهِمْ " مجموع الفتاوى 30/79 ـ 81

*** كما أن الإسلام لا يعاقب على الخطأ في غير المسائل الجليلة والمحكمات ، مادام المخطئ متأوّلا ، ولهذا أقرّ عبر عصور الإسلام ، الخلاف بين المذاهب الفقهية ، في مسائل لا تحصى ، وكثير منها الخطأ فيها واضح ، لمخالفته النص ، غير أنه لما كان ذلك في مسائل الفروع العمليّة ، أو في مسائل دقيقة يعذر فيها المخطئ بتأويل ، فقد أقر فيها تعدد الآراء ، واختلاف المذاهب .

*** وكذا إن أريد بالتعددية ، التعددية السياسية المحضة ، أعني التي هي سياسة مصالح الأمة في هدى الشريعة ، كالأخذ بنظام سياسي يسمح بتداول السلطة بين أحزاب ، في نظام سياسي قائم على الشرع ، فتكون الأحزاب المتعددة تطرح حلولا للمشكلات الحياتية ، لا يخرج كل حزب منها ، عن الالتزام بأحكام الشريعة ، في نظام الخلافة الإسلامية ، بما يشبه ما كان يطلق عليه وزارة التفويض.

فهذا غاية ما يمكن أن يقال فيه ، إنه مشروع في الجملة ، إن احتيج إليه كان بها ، وإلا فمتى كان السلطان حاكما بالشرع ، قائما بالعدل ، ناصرا للملة ، حافظا للحقوق ومن أهمّها حقّ الشورى لمن هو أهل للشورى ، فقد أدى ما عليه ، فمن يوجب عليه التعددية السياسية مطلقا ، فهو مخطئ خطأ بينا ، زاعمٌ مالا برهان له به من الشرع .

وقد ذكرنا فيما سبق ، في غير موضع ، أنه ليس ثمة في الكتاب والسنة ، ما يمنع من الاستفادة من الوسائل العصرية السياسية التنظيمية ، حتى في إدارة الدولة ، مادامت تحقق مقاصد الشريعة ، ولا تعارض نصا من نصوصها .

*** وكذا يقر الإسلام التعددية في الأفكار والابتكارات العلميّة الدنيوية ، والفنون المباحة ، والعادات ، ونحو ذلك مما فطر الله الخلق على التنوّع فيه ، لأن ذلك من طبيعة الخلق التي فطر الله الناس عليها ، وهي تثري المجتمعات ، وتضفي عليها تلونا جميلا ، فهو أمر محمود مطلوب ، ومازالت أمتنا تحوي هذا التنوع المحمود في تاريخها منذ عصر الصحابة من غير نكير ، هذا ولم تزل أمتنا مزيجا متنوعا رائعا من شعوب شتى ، تختلف في عاداتها وألوان فنونها ، ومعايشها ، ولغاتها ، غير أنها تجتمع على ثوابت الأمة العامة وهي أصول هذا الدين العظيم .

*** أما التعددية في عرف العصر ، فإنها يقصد بها في الغالب عند الإطلاق ، السماح بما يسمى التعدد الثقافي ـ والسياسي تبع له ـ القائم على أصول تناقض أصول الشريعة ، وليس المقصود هنا ـ في هذا العرف العصري ـ السكوت عن الباطل ما بقي اعتقادا بالقلب ، أو إقرار أهل الأديان التي يكونون أهل ذمة على دينهم وعباداتهم ، بالشروط الشرعية المرعية .

بل المقصود الإذن بإظهار الدعوة إلى الكفر ، والمنكر ، وحماية الداعين إلى ذلك بالقوانين ، كما تنص على ذلك الدساتير العلمانيّة الوضعيّة تحت شعار الديمقراطيّة .

فهذا من الكفر ، بل هو الكفر نفسه ، وما أشبه هذه العقيدة الكفرية بقول المشركين ( أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلهاً وَاحِداً إنّ هَذّا لَشَيءٌ عُجَابْ).

*** ومن الواضح أن هذا ليس من التعددية في ثقافة أمة في شيء ، بل هو اختراق ثقافي لها ، وغزو عقدي من ثقافة أمة إلى أمة أخرى ، فتسميته تعددية من التلاعب بالألفاظ .

ومن يدعو إلى مثل هذا ، دون أن يشترط أن تغير الأحزاب عقائدها وتدين بالإسلام ، وتُسلك في نظام لايتحاكم إلا إلى الشريعة ، يبيّن له حقيقة ما يدعو إليه ، وأنه يناقض أصل الدين ، فإن أصر فهو مرتد له حكم أمثاله من المرتدين .

وأما من يحتج على جوازه بوجود الزنادقة في تاريخ الإسلام ، فهو كالقدرية المشركة التي تستدل بوقوع الكفر على إباحته ، كماقالى تعالى :

" وَقَالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا عَبَدْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ نَحْنُ وَلا آبَاؤُنَا وَلا حَرَّمْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ كَذَلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلا الْبَلاغُ الْمُبِينُ " .

وما هذه الأحزاب العلمانيّة اللادينيّة ، والمرتدة الضالة ، الداعية إلى ما ينقض الإسلام إلا زنادقة العصر ، ومن طالب بأن يشرع لهم تشريع يبيح لهم الدعوة إلى كفرهم وحماية دعوتهم ، فحكمه حكمهم .

وأما من يحتج على جواز ما يسمى "التعدديّة " ، بوجود الفرق الضالّة التي لم تخرج عن الإسلام ، وجودها في تاريخ الإسلام ، فيقال :

أولا : إن تلك الفرق كانت من جملة المسلمين ، المقرين بالتنزيل والانقياد للوحي في الجملة ، وإنما ضلّوا في تأويله ، لا في تنزيله ، فلا يصح قياس الزنادقة عليهم ، وهي هذه الأحزاب اللادينية العلمانية.

وثانيا : لا يحتج بما يقع في الوجود ، على أنه مشروع ، كما تقدم ، وقد وقع في تاريخ ملوك الإسلام من المخالفات الشرعية ما الله به عليم ، وليس هذا بحجة .

وأما زعم الزاعم إقرار العلماء لوجود الفرق الضالة ، فلم يقرّوه ، بل أنكروا عليهم بدعهم ، وبيّنوا ضلالهم وحذّروا منهم ، كما أمر النبيّ صلى الله عليه وسلم بقوله ( فإذا رأيتم الذين يتبعون ما تشابه منه ، فأولئك الذين سمّى الله فاحذروهم).

ولا أعلم عالما من أهل السنة ، أباح لسلطان أن يشرّع لأهل البدع والضلالة تشريعا يسمح لهم بالدعوة إلى منكراتهم وبدعهم ، أو ينصب لهم منبراً يمكنهم من ذلك ، كيف وقد أمر الله تعالى بإنكار المنكر إن ظهر ، وجعل ذلك من أعظم واجبات الدين ، وجعله حقا عاما للمسلمين ؟!!

ولهذا كان عمر رضي الله عنها يعاقب على إظهار منكرات البدع أشد العقوبة ، وكان في ذلك قائما بالقسط ، حاكما بالعدل ، عاملا بالكتاب ، كما فعل بصبيغ بن عسل .

وقد اتفق العلماء على وجوب منع أهل البدع من إظهار بدعهم ، وأن السلطان يكون مفرطا فيما يجب عليه إن لم يفعل ، كما اتفقوا على وجوب قتال أهل البدع إن كانوا طائفة ممتنعة ، وتنازعوا هل يجوز قتل الواحد منهم :

قال شيخ الإسلام : " وأما الواحد المقدور عليه من الخوارج والرافضة فقد روي عنهما - أعني عمر وعليا - قتلهما أيضا ، والفقهاء وإن تنازعوا في قتل الواحد المقدور عليه من هؤلاء فلم يتنازعوا في وجوب قتلهم إذا كانوا ممتنعين "

وأما الرد على من زعم أن عليا رضي الله عنه أباح للخوارج الدعوة إلى ضلالهم ، ومكّنهم من ذلك ، فنذكر أولا الرواية ، ثم نبيّن بطلان هذا الاستدلال .

قال ابن كثير رحمه الله :

"ذكر خروج الخوارج من الكوفة ومبارزتهم عليا رضي الله عنه بالعداوة والمخالفة وقتال علي إياهم وما ورد في ذلك من الأحاديث.

لما بعث علي أبا موسى ومن معه من الجيش إلى دومة الجندل اشتد أمر الخوارج وبالغوا في النكير على علي وصرحوا بكفره، فجاء إليه رجلان منهم، وهما زرعة بن البرج الطائي، وحرقوص بن زهير السعدي، فقالا: لا حكم إلا لله. فقال علي: لا حكم إلا لله. فقال له حرقوص: تب إلى الله من خطيئتك، وارجع عن قضيتك، اذهب بنا إلى عدونا حتى نقاتلهم حتى نلقى ربنا.

فقال علي: قد أردتكم على ذلك فأبيتم، وقد كتبنا بيننا وبين القوم كتابا وعهودا، وقد قال الله تعالى: وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ الآية ، فقال له حرقوص: ذلك ذنب ينبغي أن تتوب منه. فقال علي: ما هو بذنب ولكنه عجز من الرأي، وقد تقدمت إليكم فيما كان منه، ونهيتكم عنه.

فقال له زرعة بن البرج: أما والله يا علي لئن لم تدع تحكيم الرجال في كتاب الله لأقاتلنك أطلب بذلك وجه الله ورضوانه.

فقال له: تبا لك ما أشقاك! كأني بك قتيلا تسفى عليك الريح. فقال: وددت أن قد كان ذلك.

فقال له علي: إنك لو كنت محقا كان في الموت تعزية عن الدنيا، ولكن الشيطان قد استهواكم.

فخرجا من عنده يحكمان أمرهما، وفشى فيهم ذلك، وجاهروا به الناس، وتعرضوا لعلي في خطبه

وأسمعوه السب والشتم والتعريض بآيات من القرآن، وذلك أن عليا قام خطيبا في بعض الجمع فذكر أمر الخوارج فذمه وعابه.

فقام إليه جماعة منهم كل يقول: لا حكم إلا لله. وقام رجل منهم وهو واضع أصبعه في أذنيه يقول: وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ فجعل علي يقلب يديه هكذا وهكذا وهو على المنبر يقول: حكم الله ننتظر فيكم.

ثم قال: إن لكم علينا أن لا نمنعكم مساجدنا ما لم تخرجوا علينا، ولا نمنعكم نصيبكم من هذا الفيء ما دامت أيديكم مع أيدينا، ولا نقاتلكم حتى تقاتلونا " أ.هـ

فليس في هذا ـ إن صح إسناده ـ حجة البتة على أنه يجوز تمكين أهل البدع من إظهار بدعهم ، والدعوة إليها ، والمطالبة بتأسيس حزب يدعو إلى الضلالة بقانون يحميهم ، ولا يقول بهذا عالم يفقه هذه الشريعة ، فيعارض النصوص المحكمة الآمرة بإقامة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، باليد ، يد السلطان ، ويد من يقدر وجوبا ، قبل اللسان والقلب .

وإنما كان هذا القول من علي رضي الله عنه ، تبرئة للذمة ، وقطعا لأي حجة قد يحتج بها مبطل فيما لو قام رضي الله عنه فقاتلهم ، فقال : إن كنتم مع جماعة المسلمين ، لم تُمْنعوا من المساجد ، وإن كانت أيديكم معنا في جهاد أعداءنا ،لم تمنعوا الفيء ، ولا نقاتلكم حتى تقاتلونا ، وسكت عما وراء ذلك ، وكان بينه وبين القوم مناوشات ، وكانوا طائفة خرجت من جيشه ، في وقت يحارب أعداءه ، وكان يتربص بهم حكم الله فيهم ، وأن يحسّهم حسّا بسيفه فرحا بذلك ، مستبشرا بما سيجريه الله على يديه من الخير العظيم بإنكار منكرهم العظيم .

وليس في هذا من الدلالة ، من شيء ، على أن الإمام له أن يأذن بإظهار البدع ، أو يقر الدعاة إليها فلا يأخذ على أيديهم ! عجبا لهذا الاستدلال ما أضعفه ، وأبعده عن الفهم الصحيح !

بل ما يجب على الإمام العادل ، من منع إظهار البدع ، أعظم مما يجب من منع إظهار المعاصي ، فالولايات أصلا لم تنصب إلا للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر كما تقدم.

وقد كان علي رضي الله عنه ، يمنع ويعاقب على بدع أدنى من بدع الخوارج ،

كما قال شيخ الإسلام رحمه الله:

" وروي عنه بأسانيد جيدة أنه قال : لا أوتى بأحد يفضلني على أبي بكر وعمر إلا جلدته حد المفتري . وعنه أنه طلب عبد الله بن سبأ لما بلغه أنه سب أبا بكر وعمر ليقتله فهرب منه ، وعمر بن الخطاب رضي الله عنه أمر برجل فضله على أبي بكر أن يجلد لذلك ، وقال عمر رضي الله عنه لصبيغ بن عسل ؛ لما ظن أنه من الخوارج : لو وجدتك محلوقا لضربت الذي فيه عيناك ، فهذه سنة أمير المؤمنين علي وغيره قد أمر بعقوبة الشيعة : الأصناف الثلاثة وأخفهم المفضلة ، فأمر هو وعمر بجلدهم "

وكذا كانت سنة الخلفاء ، قال شيخ الإسلام ابن تيميه :

" فأما إذا كانت البدعة ظاهرة - تعرف العامة أنها مخالفة للشريعة - كبدعة الخوارج والروافض والقدرية والجهمية .

فهذه على السلطان إنكارها ؛ لأن علمها عام ، كما عليه الإنكار على من يستحل الفواحش والخمر وترك الصلاة ونحو ذلك .

ومع هذا فقد يكثر أهل هذه الأهواء في بعض الأمكنة والأزمنة حتى يصير بسبب كثرة كلامهم مكافئا - عند الجهال - لكلام أهل العلم والسنة حتى يشتبه الأمر على من يتولى أمر هؤلاء فيحتاج حينئذ إلى من يقوم بإظهار حجة الله وتبيينها حتى تكون العقوبة بعد الحجة .

وإلا فالعقوبة قبل الحجة ليست مشروعة : قال تعالى{ وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا} .

ولهذا قال الفقهاء في البغاة إن الإمام يراسلهم فإن ذكروا شبهة بينها وإن ذكروا مظلمة أزالها كما أرسل علي ابن عباس إلى الخوارج فناظرهم حتى رجع منهم أربعة آلاف وكما طلب عمر بن عبد العزيز دعاة القدرية والخوارج فناظرهم حتى ظهر لهم الحق وأقروا به ، ثم بعد موته نقض غيلان القدري التوبة فصلب " أ.هـ.

*** والحاصل : أن التعددية بالمفهوم العصري كفر وضلال مبين ، والتعددية ـ إن جاز هذا الإطلاق ـ التي وجدت في الإسلام ، هي أمر آخر يختلف اختلافا عظيما ، بل يتناقض تناقضا تاما مع التعددية في عرف العصر.

*** مع أنه يجب أن يعلم أن ثمة فرق كبير بين التعاطي مع واقع سياسي مخالف ، لم يصنعه الإسلام ، التعاطي معه بما يحقق مصلحة المسلمين ، وبين إقامة أو المشاركة أو الدعوة إلى إقامة هذا الواقع المخالف بإسم الإسلام.

وذلك يشبه من وجه ما يقوله الفقهاء : قد يجوز استدامة ، ما لا يجوز ابتداء.

وذلك أيضا كما يجوز للمسلم أن يرتكب أدنى الضررين ليدفع أشدهما عند التزاحم ، ولا يجوز له أن يصنع الضررين بنفسه ، ليختار أدناهما ضررا !!

ومن الأمثلة على هذا أن المسلمين لا يجوز لهم أن يطالبوا بقضاء لا يقضي بالشرع ، ولا أن يشاركوا في صناعة هذا النظام ، لكن إن وجدوا في نظام قضائي يخالف الشرع ، جاز لهم التحاكم إليه إن اضطروا لرفع الظلم عنهم ، كما رفع نبي الله يوسف عليه السلام شكايته على ظلم الوزير ، إلى الملك الكافر ، رسالة مع ساقي الملك الذي يسقيه الخمر.

فالعجب والله كل العجب ممن يقول ، إن هذه الأحزاب المخالفة للإسلام ودعوتها إلى كفرها وضلالها ، واقع ما له من دافع ، فلماذا لا نقنن هذا الواقع بما يحميه ، وينظّمه ، ويشرّعه ؟!

فما مثل هذا القائل ـ ليت شعري ـ إلا كمثل من يرى الخمر قد شاع شربها ، والفاحشة قد ذاع فعلها ، فدعا إلى تشريع ينظم العصابات القائمة على هذه المنكرات ، وتنظيمها في ناظم يقنّنها !!

بل الدعوة إلى تنظيم الداعين إلى المنكر في الاعتقادات ، والعلم ، والتصورات التي تفسد الإيمان ، وتقنين دعوتهم ، أشد قبحا ، لو كانوا يعلمون .

*** وأخيرا فإن هذه التعددية العصرية الزائفة ، ما هي إلا خداع ألقاه مفكروا الغرب التائهون إلينا ، فاغتر به من خضع لضغط هذا الواقع الجاهلي المزيّف ، لتبقي هذه الأمة في حال الفرقة والخلاف .

أما العالم الغربي فقد بقى متشبثا بالجامع الذي يجمع الأمة ، متعصبا له أشد التعصب ، متطلعا لفرضه على العالم .

كما قال المفكر الدكتور عبد الوهاب مسيري عن الفكر المادي الغربي بشكل عام:

" يمكن القول بأن النموذج الكامن وراء جميع الأيدلوجيات العلمانية الشاملة ـ ومثل لها بالليبرالية أيضا ـ هو ما يسمى " التطور أحادى الخط " UNILINAR، أي الإيمان بأن ثمة قانونا علميا وطبيعيا واحدا للتطور تخضع له المجتمعات والظواهر البشرية كافة ، وأن ثمة مراحل تمر بها كل المجتمعات البشرية تصل بعدها إلى نقطة تتلاقى عندها سائر المجتمعات والنظم بحيث يسود التجانس ، وهذا ما يسمى أيضا " نظرية التلاقي " CONVERGENC THEORY

والتلاقي هو تواجد النماذج كلها بحيث تبع نمطا واحدا وقانونا عاما واحدا ، هو قانون التطور والتقدم بحيث يصبح العالم مكونا من وحدات متجانسة ، ما يحدث في الواحدة يحدث في الأخرى ، ويرى بعض المؤرخين أن العصر الحديث هو بحق عصر نهاية التاريخ " أ.هـ الصهيونية والنازية ونهاية التاريخ 267

ولهذا فإني لا أجد في وصف هذا الزيف الذي يسمى التعددية أحسن من وصف الكاتب راسل جاكوبي في كتابه " نهاية اليوتوبيا " حيث قال :

" فضلا عن أن مونتييه الذب ابتكر الشعار عاش حياة لايمكن أن توصف بالاستقامة ، ولقي حتفه مختنقا في مبغى ، وباختصار إن الشعار المرفوع كشعار للتعددية الثقافية الأمريكية ، ليس فقط مفتقدا تراثا كلاسيكيا واضحا ، بل مختلطا أيضا بالغموض والفضيحة ، وهذا أحد مؤرخي القرن التاسع عشر ، حين بحث في هذا التاريخ الشائك ، وجدها أمرا مخزيا :

لقد كنا غير محظوظين بشكل استثنائي ، في اختيار هذا الشعار ، ومن الصعب أن تجد شعارا آخر أكثر ابتذالا ، وأقل لباقة منه بالتأكيد ، ليس ثمة شعار يمكن أن يكون نابيا وبلا دلالة مثله ، شعار ذو أصل حديث مبتذل لا علاقه له بأصل كلاسيكي ، شعار بلا مستدعيات أدبية أو تاريخيه ، شعار مجرد تماما من أي صدى ديني أو أخلاقي ، شعار يمكن أن يعني الإتحاد أو التفكك في أهواء كل فرد ، ولسوء الحظ غالبا ما يعني المعنى الأخير لدى واضعيه الأصليين " ص 45

وينبغي أن يعلم أنه يجب على المسلمين الدعوة إلى الحق الذي نزل به الوحي ، والاجتماع عليه ، وجهاد ضده .

ثم إن لهم أحوالا :

1ـ أن يُمكّنوا في الأرض ، فيجب عليهم أن يقيموه كما أمره الله تعالى ، بالسلطان القاهر ، والسيف الظافر ، وأن يجتمعوا على الحق ولا يتفرقوا فيه ، وأن يحكموا بين العباد بما أنزل الله تعالى ، وأن يجاهدوا في الأرض لإعلاء كلمة الله .

2ـ أن لا يُمَكّنوا فيجب عليهم الصبر على غربتهم ، مع التمسك بالحق دون تنازل عنه ، ولا مداهنة فيه ، والسعي لتجميع أسباب القوة ، حَتّى يُمَكَّن لِحَقّهِمْ ويعلون به على الجاهلية .

3ـ أن يستجمعوا أسبابا من القوة تمكنهم من الجهاد ، فيجب عليهم أن يقوموا به ، مجاهدين بالسلاح حتى يصلوا إلى التمكين .

أما أن يجدوا أنفسهم في غربة بسبب تمسكهم بالحقّ ، فيشتدّ عليهم بلاؤها ، فيدفعونها عنهم جزعا بتأويل الشرع المنزّل ، ليوافق الواقع الجاهلي المبدّل ؟! فهذا هو الذي حذر الله تعالى منه نبيه صلى الله عليه وسلم قائلا : " وَدّوُا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُوُن " ، وهو البلاء المنتشر هذه الأيام ، قد تكبكب الناس فيه زرافات ووحدانا ، وضلّ فيه من ضلّ ، وزاغ فيه من زاغ ، وهو خلاف ما أمر الله به من الثبات على الهدى ، والصبر على الغربة فيه ، نسأل الله أن يثبتنا بفضله ومنّه وكرمه .

وقد عاش من عاش من الأنبياء في غربةٍ فصبروا ولم يغيروا ولم يداهنوا ، ومضى من مضى من الصالحين أولي بقية ينهون عن الفساد في الأرض في غربة فثبتوا ، وما بدّلوا تبديلا.

وإنما الأمر لله ، بيده الأمر كلّه ، وإليه يرجع الأمر كلّه ، علانيته وسره ، ليس علينا سوى الاستقامة على ما أمر ، والدعوة إلى دينه بالثبات والصبر .

الدرس الثالث

عالمية الإسلامية في مواجهة عولمة المادية

الإسلام قوة عالمية تمتلك كلّ مقومات الحضارة القادرة على قيادة العالم ، فبلاد الإسلام تملك الطاقة ، والثروة ، والكثافة السكانية ، والامتداد الإقليمي ، في أغنى بقع العالم ، وأكثرها تحكما في المواصلات الجوية ، والبحرية ، والبرية .

والحضارة الإسلامية تمتلك أغنى ثقافة إنسانية مصدرها رباني محفوظ ، قادرة على إخراج الإنسان من الظلمات إلى النور ، ومن الباطل إلى الحق ، ومن الضياع إلى الهدى ، ومن التخبط إلى الرشاد ، قال تعالى ( ، فمن اتبع هداي فلا يضل ولايشقى ، ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكا ، ونحشره يوم القيامة أعمى ) .

ولكن العالم الإسلامي ، بات يعاني من هجوم أجنبي ، غربي ، هدفه :

الحليولة دون عودة الإسلام حضارة قيادية للعالم ، ولهذا فهو يستهدف حضارتنا ، على شتى المستويات ، وذلك عن طريق :

1ـ التشكيك في ثوابت الحضارة الإسلامية ، في الرسول صلى الله عليه وسلم ، والقرآن ، والشريعة الإسلامية ، والتاريخ الإسلامي.

2ـ تمزيق العالم الإسلامي ، وتشجيع التباعد بين أقطاره ، وشعوبه ، بدعم الحروب الداخلية ، والعنصريات البغيضة ، وتأجيج الأزمات فيه .

3ـ إبقاؤه في حالة تخلف إقتصادي ، وعسكري ، وإجتماعي ، وتكنلوجي ، وسياسي.

4ـ إشاعة الفساد الأخلاقي المتمثل في الإباحية ، والشذوذ ، والميوعة ، عن طريق الاعلام المفسد ، الذي يقدم النماذج المهترئة للشباب المسلم .

5ـ منع القيادات الإسلامية الملتزمة ، والجادة ، والنهضوية ، من تولي زمام الأمور في العالم الإسلامي ، على مستوى الأنظمة السياسية ، وعلى مستوى التوجيه الثقافي ، والفكري ، والحضاري.

6ـ غرس النماذج الثقافية ، والقيادية ، التي تخدم المخطط الغربي ، في مواقع صنع القرار ، والقيادة الفكرية في العالم الإسلامي .

والعالم الغربي يجدد هذا الغزو الفكري ، و الشمولي ، اليوم ، تحت شعار العولمة ، التي تدعو إلى الماديّة النفعيّة التي تقدّس المال ، واللذّة فحسب ، ويقدم هذا الدين الجديد ( العولمة ) على أنه البديل الحضاري العالمي ، الذي يجب أن يسود العالم .

فالعولمة في حقيقتها هي هوية بلا هوية ، وثقافة مفرغة من أيّ قيمة إنسانية تنفع البشرية ، فهي بإختصار تعبيد البشر للمادة ، فهي صنم العولة الأكبر ، وأما محرابها الذي تدعو الناس إلى السجود فيه ، وقبلتها التي تيمم وجوههم إليها ، فأسواق المال ، وأما شريعتها فهي عبادة الحياة الدنيا ، والتنافس فيها ، كما يتنافس الحيوانات في شريعة الغاب ، وأصدق شيء في وصفها ما قاله الله تعالى : ( ذلك بأنهم استحبوا الحياة الدنيا على الآخرة وأن الله لايهدي القوم الكافرين ) ، وقول النبي صلى الله عليه وسلم ( تعس عبد الدينار ، تعس عبد الدرهم ، تعس وإنتكس ، إن أعطي رضي ، وإن منع سخط ) .

فهذه العولمة الغربية تعست وانتكست ، وستقود العالم إلى الفوضى ، والدمار ، والصراع الحيواني على الملذّات ، والمنافع المادية ، ولهذا نجد الحروب ، والفقر ، و الدمار، قد ازدادت وتيرتها ، وتضاعفت ، بعد إنطلاق العولمة التي يقودها الغرب .

ولا خلاص من مصير البشرية الأسود الذي ينتظرها إذا إنحدرت وراء العولمة الغربية ، إلا بعالمية الإسلام الذي يدعو إلى :

1ـ غرس الإيمان بالله تعالى ، والآخرة ، في نفوس الناس ، فهو الوازع الأعظم الذي يعصم الإنسان من التحوّل إلى حالة البهيمية المدمرة للحضارة البشرية .

2ـ تقديم القيم الأخلاقية التي تقدس الإحسان ، والنفع الخيّر المتعدّي ، على الجشع الرأسمالي المادي.

3ـ الجمع بين حاجات الجسد المباحة ، وحاجات الروح التي لاقوام للإنسان ، ولا سعادة ، ولافلاح ، إلاّ بها .

مسؤولية الإسلام عالمية :

وقد غرس الإسلام في نفوس أتباعه الشعور بالمسؤولية تجاه العالم ، عندما وصف الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم بقوله : ( وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين ) .

وجعل عناوين هذا الدين الرئيسة هي : الإسلام ، والإيمان ، والإحسان ، ووصف أمته بأنها أمة الخير ، وما ذلك كلّه إلا لتحميلها مسؤولية قيادة البشرية ، و العالم ، إلى الهدى والنور ، إذ هي التي تحمل السلم ، والأمن ، والإحسان ، والخير للعالم .

ولهذا يجب على الأمة الإسلامية أن تسعى للقيام بدورها الحضاري العالمي عن طريق :

1ـ العودة إلى شريعتها التي تحدد هويّتها ، وتشكّل ثقافتها ، وإلى تحكيمها في كلّ مناحي الحياة.

2ـ توحيد الأمّة الإسلامية كلّها في نظام ينتظم جميع عوامل القوة والإستقلال ، ويحمل رسالتها العالمية في إطار حضاري شامل ، يواجه مشكلات العصر ، ويحلها ، بثوابته الهادية ، بوسائل مكافئة عصرية.

ملحق

العولمة الثقافية وخطرها

قال تعالى : (وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلَى عَلَيْكُمْ آيَاتُ اللَّهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ) .

إن الموقف المطلوب من المسلمين تجاه العولمة الثقافية والفكرية هو التفاعل الحضاري والتعامل الثقافي الحذر ، القادر على التمييز بين النافع والضار ، حفاظاً على عقيدة الأمة وهويتها من التضليل والعبث الفكري والثقافي

الحمد لله الذي لا إله إلاّ هو ، لا شريك له في ربوبيته وألوهيته وأسمائه وصفاته . والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء محمد وعلى آله وصحابته وبعد :

فإن الدعوة إلى العولمة الثقافية لا تخرج في حقيقتها عن محاولة لتذويب الثقافات والحضارات وإلغاء الخصوصيات الحضارية لصالح حضارة الغالب .. وعالم المسلمين يعد أول المستهدفين .. ذلك أن الثقافة الإسلامية التي تشكل هوية الأمة وقسمات شخصيتها الحضارية ، هي في ثوابتها من عطاء معرفة الوحي ، لذلك فالاستهداف يتركز حول عقيدة الأمة الإسلامية ؛ لأن الدين ليس أمراً مفصولاً عن الثقافة .

أعمدة الهيمنة الأربعة :

ولقد أصبح من الواضح في تحليل السياسة العالمية بصورة عامة منذ تفرد الولايات المتحدة بكونها القوة الكبرى المهيمنة بعد سقوط الاتحاد السوفيتي ، أن العولمة ما هي إلاّ أحد الأعمدة الأربعة التي أوثقت بها دول القلب ( الولايات المتحدة وأوروبا ) ، التي تشكل موقع صناعة القرار العالمي ، ما حولها من العالم تفي أسيا وأفريقيا وأمريكا الجنوبية وأوروبا الشرقية - والتي غدت لا تعني سوى كونها سوقاً مربحة أو ساحة مصالح لدول القلب - أو ثقتها بهذه الأعمدة لتجبرها على البقاء تحت هيمنة دول القلب ، تجري في فلكها لتضمن تحقق السيطرة الكفيلة بضمان تفوق الغرب على الشرق والشمال على الجنوب ، وتدفق المصالح الاستراتيجية من الشرق إلى الغرب ومن الجنوب إلى الشمال.

وأما الأعمدة الثلاثة الأخرى فهي :

الشرعية الدولية :

حيث تحتكر دول القلب هذه الشرعية المتمثلة في ( الأمم المتحدة ) وتستعملها لإسباغ الشرعية أو نزعها عن أي دولة تحاول التخلص من الوثاق ذي الأعمدة الأربعة التي أوثقت به دول القلب العالم ، ولم يعد يهم دول القلب أن تتعسف وتتناقض وتكيل بمكيالين في استعمال أداة (الشرعية الدولية) فتصدر قراراً من مجلس الأمن لعقاب من تريد ، لأنه أعلن رفضه لقانون الهيمنة الذي فرضته دول القلب على العالم ، بينما تكتفي بموقف المتفرج في حالات أشد خطورة وانتهاكاً لحقوق الإنسان وقيم الأمم المتحدة ، لسبب واضح وهو أن دول القلب لم تشعر بالحاجة إلى تحريك (الشرعية) هنا لضمان مصالح أو تأديب خارج على قانونها ، قانون الهيمنة والسيطرة .

السلاح :

وبوسيلة هذا العمود تتحكم دول القلب بالحروب والتوترات العالمية ، وتأجج أو تخمد مناطق الصراع العالمية على وفق مصالحها .

والخامات :

مثل النفط والقمح ، وبوسيلة هذا العمود تتحكم دول القلب بالتنمية والتطور والتكنولوجيا أيضاً في الدول الواقعة في أحزمة مصالح دول القلب ، وذلك وفق مصالحها وبما يضمن بقاء تفوقها وتدفق المصالح الاستراتيجية إليها.

والعولمة تعتمد على محورين أساسين :

المحور الأول :

التجارة العالمية .

المحور الثاني :

الإعلام الذي يحمل الثقافة والفكر .

والعولمة التجارية يقصد بها ضمان تدفق رؤوس الأموال الغريبة إلى أسواق العالم ، وضمان تدفق المصالح المادية نحو دول القلب ، كما تقدم .. والعولمة الإعلامية يقصد بها إخضاع العالم لقيم العالم الغربي .

الموقف من العولمة الفكرية والثقافية:

يمكن تلخيص المواقف تجاه العولمة في أربعة :

الأول :

الموقف القابل للعولمة ، الذائب فيها ، المؤيد لها تأييداً مطلقاً .

الثاني :

الموقف الرافض لها جملة وتفصيلاً .

الثالث :

الموقف الملفق الذي يحاول التلفيق بين ما تحمله العولمة والإسلام.

الرابع :

الموقف المتفاعل معها على أساس الانتقائية المشوبة بالحذر .

- أما الموقف القابل بإطلاق فهو موقف تابع ، و قد جلب ، ولا يزال يجلب سلبيات الحضارة الغربية ، لأنه موقف قائم على الخلط بين مقومات الحضارة الإنسانية التي هي بناء فكري ينبثق منه منهج للتعامل مع الخالق والحياة والإنسان والكون ، وبين الآلات والتكنولوجيا التي هي منجزات علمية مشتركة بين الناس .. فالأول هي الحضارة وهي لا تستورد ولا تشتري ولا يمكن نقلها من أمة إلى أمة إلاّ بإحداث انقلاب جذري استئصالي .

- وأما الموقف الرافض ، فهو موقف خاسر غير واقعي ، وسيؤدي إلى الانكفاء والانعزال فالموت الحضاري .

- وأما الموقف الملفق وهو الموقف الذي يتزعمه بعض من يسمون أنفسهم الليبراليين في عالمنا العربي ، والذي يعتبرون أنفسهم معتدلين ، لأن المتطرفين منهم هم أصحاب الموقف المؤيد تأييداً مطلقاً للعولمة .. ويدندن حول هذا الموقف من يسمون أنفسهم (اليسار الإسلامي ) أيضاً .. وهاتان الفئتان تضيعان وقت الأمة بممارستهما عملية (قص ولزق ) وبتر لبعض قيم الأمة وعزلها من سياقها المتكامل لإخضاعها للفلسفات المعاصرة ، وما هذا الصنيع إلاّ تكريس لإلغاء الذات أو تشويهها لصالح الأجنبي.

-وأما الموقف الرابع القائم على التفاعل الحضاري الناقد والانتقائي الحذر ، الذي يقوم على الفحص والتدقيق وتقليب الشعارات والتنقيب عن المسميات ، فيكشف ما تحت بريق العولمة من الظلمات كالإباحية والمادية النفعية والميكافيلية الشريرة والاستغلال الرأسمالي للإنسان باسم التحرير ، وفلسفة اللذة والمتعة وعبادة الدنيا ، ثم يأخذ ما في العولمة من الصواب والخير بعد التمييز والتفتيش والنقد الموضوعي المنبثق من الثقة بالذات والاعتزاز بالهوية ، ويرفض ما في العولمة من الشر والضلال.

الموقف الصواب من العولمة :

وهذا الموقف لا شك أنه هو الحق الذي يجب اتباعه ، وأصله في الشريعة الإسلامية قول النبيّ صلى الله عليه وسلم :((...حدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج)) رواه البخاري من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص ، وورد في بعض ألفاظه :((ولكن لا تصدقوهم .. ولا تكذبوهم)) أخرجه البخاري من حديث أبي هريرة رضي الله عنه .. ووجه الاستدلال به ، أنه إذن بالتفاعل الحضاري والتواصل الثقافي مع ما عند أهل الكتاب ، غير أنه صلى الله عليه وسلم أمر برفض ما يعارض القرآن وقبول ما يوافقه والحذر مما لا يعلم صدقه من كذبه .

وحتى نبرهن على صحة هذا الموقف من العولمة ، نقف عند أهم أخطارها الثقافية والفكرية على أمتنا ، لتأخذ حذرها وتدرك كيفية التعامل مع وجهة العالم الجديد ، مما يمكنها من إبلاغ رسالتها وإلحاق الرحمة بالعالمين قياماً بدورها في الشهود الحضاري.

أهم أخطار العولمة :

تعرف العولمة مطلقاً بأنها :

ظاهرة الانتماء العالمي بمعناه العام ، وهي تعبير مختصر عن مفاهيم عدة ، فهي تشمل الخروج من الأطر المحدودة - الإقليمية والعنصرية والطائفية ، وغيرها - إلى الانتماء العالمي الأعم .. ففي جانبها الاقتصادي تشمل الانفتاح التجاري وإلغاء القيود التجارية ، وتوفير فرص للتبادل التجاري الواسع محكوماً بقواعد السوق فقط ، بدون وجود إجراءات حمائية حكومية .. وفي جانبها الفكري والثقافي هي الانفتاح الفكري على الآخر وعدم الانغلاق على الذات ، ورفض التعصب الفكري الذي يدعو لإلغاء (الآخر) ، لا لشيء سوى أنه مغاير للفكر .. وفي جانبها السياسي هي شيوع تطبيق القانون على الجميع ومراعاة الحقوق السياسية للإنسان ..فهي باختصار الشعور بالانتماء الكبير العالمي بدلاً من الاقتصار على الانتماء المحلي الإقليمي ( الديني ، العنصري ، الطائفي).

لكن هذا العرض اللطيف الذي حاول تجميل وجه العولمة ، ليس سوى محاولة لإخفاء حقيقتها التي تنطوي عليها أهدافها .

أهداف العولمة :

1- محاولة سيطرة قيم وعادات وثقافات العالم الغربي على بقية دول العالم ، خاصة النامي منها ، وإذابة خصائصها .

2- تهميش تميز دين الإسلام ، وإزالة الحدود الفاصلة بينه وبين غيره من الأديان الباطلة ، تمهيداً لشن هجوم على مبادئه وتعاليمه وصد الناس عن الإيمان به .

3- فرض مفهوم نهاية التاريخ بانتظار قيم العالم الرأسمالي الغربي انتصاراً نهائياً ، والتسليم بلزوم تسليم القيادة البشرية إلى ثقافة الغرب إلى الأبد .

4- إبقاء حال الهيمنة الغربية - بأعمدتها المذكورة آنفاً - أطول فترة ممكنة تحت ستار مصطلح العولمة .

هوية بلا هوية :

وباختصار العولمة هي في الحقيقة ) هوية بلا هوية ) وهدفها باختصار تفريغ ثقافة (الغير) من محتواها واستدراجها إلى الثقافة الغربية بحيلة وشعار مزيف يطلق عليه اسم (العولمة) ، لأنه لو قيل للعالم )الأمركة) لنفر كثير من الناس من هذه الدعوى ، فاستبدل باسم (العولمة) ، فكأنهم يقولون تعالوا لنصير جميعاً عالماً واحداً ، وننصهر في ثقافة واحدة ، ونحتكم إلى قوانين عالمية واحدة ، وتسيرنا ثقافة وعادات واحدة أو متقاربة حتى نتعايش ونتفاهم ولا تقع بيننا الحروب ...إلخ ، حتى إذا وقع المدعوون في هذا الفخ ، اكتشفوا أنهم في قفص الأمركة والعالم الغربي ، ثم وجدوا اللافتة التي تحمل اسم (العولمة) تساقطت حروفها واختفت كهيئة الحبر السري ، وظهر من تحتها اسم جديد وشعار جديد هو (التغريب) ، واكتشف المخدوعون أن حضاراتهم سلبت من حيث لا يشعرون ، وثقافتهم ذابت من حيث لا يعلمون ، وهويتهم طمست بالتدريج من حيث لا يدرون.

- إذن العولمة في النهاية هي نتيجة انهيار نظام عالمي كان يقوم على (القطبية الثنائية ) بانهيار أحد قطبيه - وهو الاتحاد السوفيتي - وسيطرة قطب واحد أخذ يهيمن بانتهاء الحرب الباردة على العالم سياسياً وعسكرياً .

- هذا القطب الواحد - كما أشرنا في مطلع هذه المقالة - يستخدم آلات كثيرة خداعة للسيطرة الفكرية والثقافية على العالم تحت شعار كبير اسمه (العولمة).. وقد بدأت تظهر آثار سياسة هيمنة وسيطرة القطب الواحد) دول القلب) بملامح حملة تغريب الإنسان في أفكاره ومنهاج تعليمه ، وفي طراز حياته، وفي طعامه وشرابه ، حتى في صورته الظاهرية وشكله الخارجي ، التي أصبحت ظاهرة منتشرة في شباب اليوم الذي يحمل جراثيم التغريب ، باتت هذه القبعات الجديدة تذكرنا بالقبعة التي فرضها أتاتورك على الشعب التركي عندما أعلن أول خطوات الانهزام أمام التغريب عند بدء عصر الانحطاط أول هذا القرن .

المخاوف من العولمة على العالم الإسلامي:

أولاً : تهديد العولمة لأصل العقيدة الإسلامية :

لعل من أخطر ما تحمله العولمة هو تهديدها لأصل العقيدة الإسلامية ، وذلك لأن العولمة تشتمل على الدعوة إلى وحدة الأديان ، وهي دعوة تنقض عقيدة الإسلام من أساسها ، وتهدمها من أصلها، لأن دين الإسلام قائم على حقيقة أنه الرسالة الخاتمة من الله تعالى للبشرية ، الناسخة لكل الأديان السابقة التي نزلت من السماء ثم أصابها التحريف والتغيير ، ودخل على أتباعها الانحراف العقائدي.

والعولمة تحمل في طياتها اعتبار الأديان كلها سواء ، وأن الحق في هذه الدائرة نسبي بحسب اعتقاد كل أمة .. ولا يصحّ في العولمة الفكرية والثقافية اعتبار دين الإسلام هو الحق الذي ليس بعده إلاّ الضلال ، ولهذا تشجع العولمة ما يسمى (حوار الأديان) ، لا على أساس دعوة الأديان الأخرى إلى الإسلام ، بل على أساس إزالة التمييز بين الإسلام وغيره بالحوار الذي يتوقعون أنه سيحمل المسلمين على التنازل عن اعتزازهم بدينهم واعتقادهم ببطلان غيره ، وبذلك يزول التعصب وتتقارب الأديان .. وتتجلى خطورة هذه الدعوة في كونها تنقض عقد الإسلام من أصله ، فعقد الإسلام لا يستقيم إلاّ مع اعتقاد بطلان كل الأديان الأخرى ، والإيمان لا يعد صحيحاً إلاّ على أساس قوله تعالى: { قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ لا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ } (الكافرون :1-2) ، أي باعتقاد كفر كل من يعبد غير الله تعالى ، أو يزعم أنه يعبد الله تعالى بغير دين الإسلام وشريعة محمد صلى الله عليه وسلم ، كما قال تعالى:{ وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنْ الْخَاسِرِينَ } (آل عمران:85)، وقوله:{ إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلامُ } (آل عمران :( 19 )

كما يعبر عن هذه الحقيقة علماء الإسلام بأن من نواقض الإسلام ، من لم يكفر المشركين والكفار أو شك في كفرهم أو صحح دينهم .. والكفار هم أتباع كل دين غير دين الإسلام بعد بعثة محمد صلى الله عليه وسلم.

وقولهم : إن من نواقض الإسلام أيضاً من اعتقد جواز الخروج عن شريعة رسولنا محمد صلى الله عليه وسلم .

ثانياً : تهديد العولمة للمفاهيم الأساسية في العقيدة الإسلامية :

كما أن العولمة تسعى لإعادة تشكيل المفاهيم الأساسية عن الكون والإنسان والحياة عند المسلمين ، والاستعاضة عنها بالمفاهيم التي يروج لها الغرب ثقافياً وفكرياً .

فالكون - في نظر العولمة الثقافية والفكرية - لم يخلق تسخيراً للإنسان ، ليكون ميدان امتحان للناس ولابتلائهم أيهم أحسن عملاً !! والإنسان لم يخلق لهدف عبادة الله تعالى!! والحياة ليست صراعاً ابتدأ منذ خلق الإنسان، بين الحق الذي يمثله الرسل والأنبياء وأتباعهم الذين يدعون إلى سبيل الله تعالى بالوحي ، وبين الباطل الذي يدعو إليه الشيطان .. والشيطان ليس هو الذي يقود - في الحقيقة - معركة الباطل ويجند لها جنوده من الرجال والنساء كما قال سبحانه وتعالى:{ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ }(الإسراء :64) .. وقال سبحانه وتعالى: { أَلَمْ تَرَى أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّيَاطِينَ عَلَى الْكَافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزّاً } (مريم : 83) ، وقال الله تعالى : { الَّذِينَ آمَنُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ فَقَاتِلُوا أَوْلِيَاءَ الشَّيْطَانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفاً } (النساء:76)، وقال سبحانه :{ كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ لِلإِنسَانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ } (الحشر:16) ...هذه المفاهيم الأساسية للعقيدة الإسلامية ، ليست في نظر العولمة الفكرية والثقافية سوى خرافة .

كما أن الموقف من أمم الأرض - في نظر العولمة الفكرية والثقافية - ليس على أساس المفهوم القرآني القائم على التقسيم العقائدي إلى :

أ- ((المسلمون تتكافأ دماؤهم ، ويسعى بذمتهم أدناهم ، وهم يد على من سواهم))أخرجه احمد وأبو داود و غيرهما ، وأنه تجب موالاة المسلم لأخيه المسلم ونصرته ، وأن يكونوا أمة واحدة تجمعها العقيدة ولا تفرقها أي وشيجة أخرى .

ب- وإلى كفار تجري عليهم الأحكام الشرعية بحسب علاقتهم بالمسلمين .

- هذه المفاهيم القرآنية الإسلامية الأساسية كلها تنقضها العولمة الفكرية والثقافية من أصلها ، وتهدمها من أساسها ، فالكون - في نظر العولمة - ما هو إلاّ ميدان تنافس على المصالح الدنيوية ، والإنسان حيوان دائب البحث عن ملذاته وشهواته ومنافعه ، وليست الحياة سوى فرصة قصيرة لا ينبغي أن تضيع في غير اللذة والشهرة والجنس والمال والثروة والجمال، وليس وراءها شيء آخر ، وما هي إلاّ سباق بين الناس في هذا الميدان لا ينقصه سوى تنظيم هذه اللعبة لئلا تفسد على الجميع ، ولا يصحّ التفريق بين الناس على أساس عقائدهم فهم أمة واحدة في الإنسانية تجري عليهم أحكام واحدة لا يجوز بحال أن تتفاوت هذه الأحكام بسبب الدين أو العقيدة .

- إن خطورة العولمة الفكرية والثقافية تكمن في أنها تعمل على إعادة تشكيل المفاهيم الأساسية التي تشكل أصول عقيدة المسلم ، بل تنقضها ، وتستعيض عنها بمفاهيم غربية كافرة ملحدة لا تؤمن بوجوب عبادة الله واتباع الوحي والاستعداد للآخرة .

ثالثاً : تهديد العولمة لمبادئ الشريعة الإسلامية :

كما أن العولمة تحمل في طياتها نقضاً لأحكام الشريعة الإسلامية ، بفرضها مبادئ تخالف الشريعة.

تسويق العولمة لوهم المساواة المطلقة بين الرجل والمرأة :

ومن الأمثلة الواضحة على هذا قضية فرض مفهوم المساواة المطلقة بين الرجل والمرأة ، فهذا المفهوم منصوص عليه في الميثاق العالمي لحقوق الإنسان ، ومقتضاه إزالة جميع الفوارق في الأحكام والحقوق والواجبات بين الرجل والمرأة ، وهو الأمر الذي يتناقض مع الشريعة الإسلامية التي تقوم على أساس الفرق الفطري والخلقي بين الرجل والمرأة .. ذلك الفرق الذي يقتضي اختلافاً في بعض الأحكام والحقوق والواجبات بحسب اختلاف الاستعدادات الفطرية والمؤهلات التكوينية بينهما ، ولهذا نجد الشريعة الإسلامية تقرر أن مبدأ عدم المساواة المطلقة بين الرجال والنساء أمر قطعي الثبوت والدلالة ، ولا خلاف فيه ، ولا مجال فيه للاجتهاد .. ونفي المساواة المطلقة لا يقتضي نفي مطلق المساواة كما لا يخفي .

- الشريعة الإسلامية تقوم على أساس الفروق بين الجنسين :

على هذا قام الفقه الإسلامي ، ودلت على ذلك نصوص الكتاب والسنة وإجماع العلماء .. وبدءاً من باب الطهارة إلى باب الشهادات ، آخر أبواب الفقه الإسلامي ، نجد المرأة والرجل يجتمعان في أحكام ويختلفان في أحكام أخرى .. ومن صور الاختلافات ما جاء في أحكام الحيض والنفاس ، وأحكام لباس المرأة في الصلاة ، وعدم وجوب الجمعة والجماعة عليها ، وكون صلاتها في بيتها أفضل، وأنها ممنوعة من الآذان بإجماع العلماء ، ومن إمامة الرجال في الصلاة وخطبة الجمعة لهم بإجماع العلماء ، وأنها تصفق لتنبيه الإمام إذا سهى ولا تسبح كالرجال ، وأن صفوف النساء في الصلاة وراء صفوف الرجال ، ولا يجوز تقدمهن ولا اختلاطهن بصفوف الرجال بإجماع الفقهاء ، و((خير صفوف النساء آخرها وشرها أولها)) أخرجه مسلم ، بعكس الرجال .

- ومن الأمثلة أيضاً على الاختلاف ، إحرامها للحج والعمرة في بعض الأحكام، وفي عدم وجوب الجهاد عليها ، وفي اختلاف أحكام الميراث والنفقة وجعل الطلاق بيد الرجل في الأصل ، وتقديمها في الحضانة في الجملة ، وفي تحريم الخلوة بها ، وفي تحريم التبرج ، وعدم قبول شهادتها في الحدود والدماء.

- وهذا كله على سبيل المثال ، وإلاّ فثمة أحكام كثيرة غير هذه قد أجمع العلماء على أن المرأة لا تتساوى فيها والرجل ، كما دل على ذلك صريح قوله سبحانه وتعالى : { وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالأُنْثَى } (آل عمران:36).

- وأما العولمة فإنها كما ترفض التمييز بين الناس على أساس الإيمان والكفر ، ترفض أيضا التمييز بين الرجل والمرأة ، مناقضة لأحكام الشريعة الإسلامية التي بنيت على أساس التقسيم الوظيفي بين الرجل والمرأة في المجتمع ، وأن دور كل منهما مكمل لدور الآخر في النظام الاجتماعي الإسلامي ، بناء على أساس أن التكوين الخلقي للمرأة يختلف عن الرجل ، وأن مؤهلاتها واستعدادتها الفطرية تقتضي توليها دوراً ما في المجتمع يختلف عن دور الرجل ، وهو الدور الأسري .

- إن الحقائق العلمية لتؤكد الفرق البيولوجي الأساس بين الجنسين ، ولا بأس أن أستشهد هنا بما أورده مؤلفا كتاب جنس الدماغ ( Brainsex ) الدكتور في علم الوراثة ((آن موير)) و ((ديفيد جيسيل ))، وهو في الحقيقة مؤلف اشترك فيه أكثر من (25) اختصاصي على رأسهم رائدة علم الفروق الدكتورة ((كوراين هت )) ، لأنهما نقلا نتيجة إجابات كل هؤلاء الأخصائيين في الكتاب.

- يقول مؤلفا الكتاب في المقدمة : (( تمت صياغة المادة الأساسية لهذا الكتاب من أبحاث قام بها علماء كثيرون من جميع أنحاء العالم))..ثم قالا في وصف دقيق للحقيقة التي توصلا إليها بعد أبحاث مضنية (( الرجال مختلفون عن النساء،وهم لا يتساوون إلاّ في عضويتهم المشتركة في الجنس البشري .. والادعاء بأنهم متماثلون في القدرات والمهارات والسلوك تعني بأننا نقوم ببناء مجتمع يرتكز على كذبة بيولوجية وعلمية ، فالجنسان مختلفان ، لأن أدمغتهم تختلف عن بعضهما ، فالدماغ وهو العضو الذي يضطلع بالمهام الإرادية والعاطفية في الحياة،قد تم تركيبه بصورة مختلفة عند كل منهما،والذي ينتج عنه في النهاية اختلاف في المفاهيم والأولويات والسلوك)).

- وإنما أطلت في هذا المثال ، لأن حمى مبدأ المساواة بين الرجل والمرأة أضحت موجة آخذة في الصعود في الخليج ، متساوقة مع تنامي الدعوة إلى العولمة الثقافية والفكرية ، ولأنها قضية بالغة الخطورة ، لأن الغرب يسعى من خلالها إلى إعادة تشكيل النظام الاجتماعي في المجتمعات الخليجية وفقاً للمفاهيم الغربية .

إنه مثال واضح لما تفرضه العولمة من مبادئ وتشريعات تناقض الشريعة الإسلامية ومبادئها .

رابعاً: تهديد العولمة للأخلاق الإسلامية :

- كما أن العولمة تهدد النظام الأخلاقي الإسلامي ، فمن خلال العولمة يروج للشذوذ الجنسي ، ويحاول الغرب استصدار قوانين لحماية الشذوذ الجنسي في العالم .. ومن أحدث محاولات العولمة محاولة فرض مصطلح جديد يطلق عليه (Gender ) بدل كلمة ( sex ) ، يقول الدكتور محمد الركن في مجلة المستقبل الإسلامية : ((ومن المسائل الجديد المستحدثة التي تحاول بعض المنظمات والحكومات الغربية فرضها وإلزام شعوب العالم الأخرى بوجهة نظرهم فيها مسألة تعريف الجنس والأسرة ، ومما حداني للحديث حول هذا الموضوع ما شاهدته في المستندات الرسمية ، فقد تمت ترجمة الجنس الغربي إلى مصطلح (Gender ) باللغة الإنجليزية ، وهي تنم عن عدم إلمام بما يسعى إليه الغربيون في فرض ثقافتهم على الآخرين ، فلفظة الجندر لا تتطابق تماماً مع لفظة ( sex ) ، بل إن لها أبعاداً خطيرة قلما نتنبه إليها .

- والموسوعة البريطانية تعرف الجندر بأنه : (( تقبل المرء لذاته ، وتعريفه لنفسه كشيء متميز عن جنسه البيولوجي الحقيقي )).. فهناك من الأشخاص من يرون أنه لا صلة بين الجنس والجندر ، إذ أن ملامح الإنسان البيولوجية الخارجية الجنسية مختلفة عن الإحساس الشخصي الداخلي لذاته أو للجندر.. بعبارة أخرى أكثر تبسيطاً ، فإن الجندر بعبارتهم تنصرف إلى غير الذكر والأنثى كجنسين فقط، ونحن لا نعرف ولا نقر في ديننا وثقافتنا إلاّ بهما ، فالجندر تشمل الشاذين جنسياً من سحاقيات ولواطيين ومتحولي الجنس ، إذ أنها ترتبط بتعريف المرء لذاته وهويته وليس بجنسه البيولوجي .. ومن هنا تأتي خطورة المسألة ، ولهذا نرى في المؤتمرات الدولية تسابقاً محموماً من المنظومات الغربية وبعض الحكومات الغربية ، وخصوصاً الأوربية لفرض لفظ ( Gender ) بدل لفظ ( sex ) التي تنصرف إلى الذكر والأنثى فقط ، وذلك عند الحديث عن حقوق الإنسان أو محاربة التمييز ضد الإنسان أو تجريم أفعال ترتكب ضد الإنسان )) .

خلاصة

وبعد هذا العرض لمخاطر العولمة ، لا يبقى مجال للشك أن الموقف الواجب تجاه العولمة الثقافية والفكرية هو التفاعل الحضاري والتعامل الثقافي الانتقائي بحذر، حفاظاً على عقيدة الأمة وهويتها وأخلاقها من عبث العولمة الفكرية والثقافية.. ولا يتم ذلك إلاّ بإحياء مشروع نهضوي ثقافي شامل يعيد للأمة ثقتها بثقافتها واعتزازها بتاريخها وفخرها بهويتها ، على أساس الالتفاف حول الإسلام النقي الخالص من شوائب الموروث المتخلف ، بفهم صحيح يضع الثوابت والمتغيرات في مواضعها الصحيحة ، ويوجه الاجتهاد الشرعي العصري توجيهاً سليماً جامعاً بين الأصالة والأسس السلفية ، والاستفادة من المعاصرة النافعة ، وسطاً بين الغلو والإجحاف .. ذلك أن الموقف الرافض المنكفئ العاجز عن التعامل مع حقبة العولمة ، يحمل من المخاطر على الأمة المسلمة وطمس هويتها وتوهين قيمها وعزلها عن الواقع العالمي الشيء الكثير ، لذلك لابد من التفكير بامتلاك الوسائل القادرة على حماية الأمة ، والإفادة من وسائل العولمة وطروحاتها لتقديم البديل الإسلامي على المستوى العالمي .

كما لابد من تفعيل كل جهود الوحدة التي تقرب الأمة ، حكومات وشعوباً، من بعضها ، وتقرب الحكام من الشعوب والشعوب من الحكام ، وتصلح بين السياسة والثقافة ، والحكام والعلماء، وتجمع بين الكتاب والميزان والحديد ، لتعود هذه الأمة إلى مجدها من جديد .. حيث تتمكن من حشد قواها التي تمكنها من استئناف دورها في إلحاق الرحمة بالعالمين.

هذا وحسبنا الله ونعم الوكيل ، نعم المولى ونعم النصير ، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا

============

#نقد الفكر الاعتزاليّ " الليبرالي" السعودي )

فئة ضالة جديدة

إنّ من المعلوم أنّ هذه الدولة السعوديّة منذ نشأتها على يد الإمامين الجليلين محمّد بن عبد الوهّاب ومحمّد بن سعود - رحمهما الله تعالى - قد قامت على العقيدة السلفيّة النقيّة التي كان عليها السلف الصالح منذ عهد الصحابة رضوان الله عليهم.

والإمام محمّد بن عبد الوهّاب رحمه الله لم يأت بجديد فيما دعا إليه، وإنّما جدّد ما اندرس من معالم هذا الدين لا سيّما ما يتعلّق بالتوحيد ونبذ الشرك، فكانت دعوته تحريراً للعقول من الجهل والخرافات والخزعبلات، وجرى على ذلك أتباعه من بعده حكاماً ومحكومين، ولقد تعرّضت هذه الدولة السلفيّة المباركة منذ نشأتها للكثير من الأذى والمواجهات والتحديات من قبل جهات عدّة، لكنّها - بفضل الله تعالى ثم بفضل تمسّك أهلها بهذه العقيدة السلفيّة النقية - صمدت في وجه أعدائها، وعاودت الظهور كلّما ظنّ أعداؤها أنّها قد زالت إلى الأبد..

وفي أعقاب أحداث الحادي عشر من سبتمبر، ثمّ الأحداث التي وقعت في هذه البلاد من تفجيرات آثمة، مع ما صاحب ذلك من وفاة كبار أئمّة هذه الدعوة السلفيّة المعاصرين الذين كان لهم كبير الأثر في حمايتها والذود عنها؛ وجد الأعداء فرصتهم في النيل من هذه الدعوة السلفية ممثلّة في أهلها والقائمين عليها، ولم يكن عدوّها الخارجي بأخطر من عدوّها الداخلي المتمثلّ في بعض أبنائها العاقّين الذين تشرّبوا مبادئ وأفكاراً منحرفة، كان منهم طائفة تبنت الفكر الاعتزالي القديم، وراحت تدعو إليه وتنافح عنه، وترى في السلفيّة عدوّاً لدوداً له، وهم بذلك يسعون إلى إعادة فتنة سلفهم القديمة مع إمام أهل السنة في وقته الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله، ولكن بوجه عصري جديد يتماشى مع ما يريده العدو الخارجي المتمكن، هذا الوجه يتلخص في اتهام هذه السلفية النقيّة بأنّها هي مصدر الإرهاب - الذي لم يتم الاتفاق على تعريفه إلى هذه اللحظة - ومصدّرته، بل ذهبوا إلى أبعد من ذلك فجعلوا السلفية المسكينة هي السبب الرئيس في جميع النكبات التي حلّت بالأمّة من تخلّف وتأخر وتفرّق (!) ، وأنّه لا سبيل إلى التقدم والازدهار إلا بنبذ هذه السلفية النقية التي تدعو إلى إتباع منهج السلف الصالح ابتداء من رسول الله صلى الله عليه وسلم وخلفائه الراشدين وأصحابه الكرام رضوان الله عليهم، ومروراً بأئمّة الإسلام العظام كسعيد بن المسيب وسعيد بن جبير والأئمّة الأربعة وابن تيمية وانتهاء بأئمة السلفية المعاصرين كابن باديس وابن باز وابن عثيمين وغيرهم عليهم جميعاً رحمة الله تعالى، وفي الوقت نفسه راحوا يبشّرون بمشروعهم التغريبي الجديد المتمثّل في إحياء الفكر الاعتزالي العقلاني، بدعوى الإنسانية والتعددية.

وقد رأيت أن أقصر الحديث على هذه الطائفة الاعتزالية دون غيرها لأسباب أهمّها:

1- أنّهم من أبناء جلدتنا اللصيقين، ويتكلّمون بألسنتنا..

2- تمكنهم من بعض وسائل الإعلام المحلية، وإعطاؤهم الضوء الأخضر من قبل القائمين على تلك الوسائل ليقولوا جلّ ما يريدون، وعدم السماح بنشر الردود عليهم إلا بشكل ضئيل جداً.

3- أنّهم يتحدّثون باسم الدين ويلبسّون على الناس بخلط الحقّ بالباطل، وإثارة الشبه القديمة التي أثارها الأعداء من قبل.

4- تمكنهم من بعض المنابر الجامعية في بلادنا، وبلبلة أفكار الطلاب وتشكيكهم في دينهم وعلمائهم بل وفي أقرب الناس إليهم وفي هذا يقول أحدهم - وهو أشدّهم تطرّفاً وبذاءة - في مقال له بعنوان: (نحن والخوارج إلى أين) (الرياض: 13709) : ما أؤكّده لطلابي دائماً، ويقع منهم موقع الغرابة أن الفكر الخارجي حالة ليست ببعيدة عنا، الحالة الخارجية لها نسبتها الخاصة، وقد تنمو داخل الفرد ببطء دون أن يشعر، وقد تتسرب إليه من أقرب الأقربين، بل قد يكون أقرب الناس إليه - والداه أو إخوته مثلاً - من غلاة الخوارج، ولكنه يستبعد أن يكون هذا القريب الذي يطمئن إليه غاية الاطمئنان من الخوارج الغلاة الذين يقرأ عنهم وعن تكفيرهم ووحشيتهم.. لا يكادون يصدقون هذا، مع أنهم يعرفون تمام المعرفة أن الخوارج القدامى خرجوا من صميم المجتمع.. "، بهذه الطريقة الماكرة يشكك الأستاذ الجامعي تلاميذه في والدِيهم وإخوانهم، بل العجيب أن يتحوّل مدرس العربية، إلى أستاذ في العقيدة، ليلقنهم درساً في الفِرَق، وهذا الذي طالما استنكروه في صحفهم، وعدوه من أسباب تدني التعليم عندنا كما يقول أحدهم في مقال له بعنوان: ( دعاة لا معلمون) (الوطن: 921).

ثم يقول الأول في مقاله إن الطلاب لا يكادون يصدقون ما يقوله، وكيف يصدقون هذا الهراء من كاتب يعلمون خبثه وانحرافه العقدي والفكري، وقد قابلت بعض طلابه فأبدوا استياءهم من فكره المنحرف الذي يبثه في قاعة الدرس.

ولقد كنت منذ زمن أتتبع كتاباتهم التي يسوّدون بها الصحف والمجلات، فجمعت منها كمّاً هائلاً مليئاً بالجهالات والمغالطات والتلبيس والدسّ الرخيص، وتقرير العقائد الباطلة، وغير ذلك من أنواع الباطل، وما فاتني منها ربما أضعاف ما جمعته، مما يصعب معه نقد هذا الفكر نقداً شاملاً دقيقاً، إذ يحتاج ذلك إلى مجلدات ضخمة ربما فني العمر قبل الفراغ منها.. ولا أقول ذلك مبالغة وإنّما هي الحقيقة، لذا سأحاول نقد ما تيسر لي من هذا الفكر بحسب ما يتسع له الوقت، وهو كاف - بإذن الله -لفضحه وبيان فساده وخطله..

وسيكون الحديث عنهم في النقاط التالية:

أوّلاً : سماتهم الشكلية الظاهرة..

ثانياً : سماتهم الفكرية والثقافية من خلال كتاباتهم المعلنة..

ولن أحرص على ذكر الأسماء، لأنّ الأسماء تتغيّر وتتبدّل، بخلاف السمات فإنّها ثابتة لا تتغير بتغير الزمان إلا قليلاً، وهذا هو منهج القرآن في الحديث عن مثل هذه الطائفة..

هذا؛ ومن الملاحظ من خلال كتاباتهم أنّهم يتبادلون الأدوار، فبعضهم متخصّص في الطعن في السلفية وتشويهها وتنفير الناس منها، وبعض آخر متخصّص في التقليل من خطورة المذاهب المنحرفة، والأفكار الضالة، بل الدعوة إلى بعضها وتلميعها وخصوصاً الفكر الاعتزالي كما سيأتي بإذن الله، وهكذا، وبعض ثالث متخصّص في النيل من حضارتنا الإسلامية، وتشويهها، والثناء المغالي على الحضارة الغربية، وتمجيدها إلى حدّ الهوس، وهلمّ جرّاً..

أمّا مصادرهم التي ينهلون منها، فهي بعض الكتب الفكريّة لبعض الكُتّاب المنحرفين من تلامذة المستشرقين الحاقدين، ومن أصحاب التوجّهات العلمانية المشبوهة، الذين يجيدون بثّ الشبه، والتشكيك في أصول الدين ومصادره، وتاريخ المسلمين، بطريقة ماكرة، وغير منهجية، قد تخفى على كثير من الشباب الغضّ الذي ليس له حظّ وافر من العلم الشرعي، ومن أبرز هؤلاء المفكّرين، وأكثرهم حضوراً في كتاباتهم: المفكّر المغربي محمّد عابد الجابري.

ففي الوقت الذي يطعنون فيه بأئمّة السلف وعلماء الأمّة كما سيأتي؛ نجدهم يسبغون أوصاف التعظيم والتبجيل لهذا المفكر وأمثاله.

يقول أحدهم - وهو أشدّهم تطرّفاً - في مقال له بعنوان (إشكالية العنف الفلسطيني الإسرائيلي) (الرياض: 13401) : فلسطين والنهضة العربية، أيهما الوسيلة، وأيهما الهدف ؟ تاه العربي في هذا السياق وغمّ عليه! وأصبحت الحيرة في هذا من الإشكاليات المزمنة في الوعي العربي ذي البعد الوحدويّ؛ كما يرى ذلك المفكّر المغربيّ الكبير: محمد عابد الجابريّ..!!! .

ويقول آخر - وهو أكثرهم حديثاً عن العقائد، وتقرير مذهب الاعتزال في مقال له بعنوان : (غرس المفاهيم من خلال الطرح غير العقلاني) (الرياض: 13477) : يرى الدكتور محمد عابد الجابري أنّه لكي يتمّ غرس المفاهيم الحداثية في الذاكرة الجمعية لمجتمع معين مثل مفاهيم الديمقراطية والتسامح وحقوق الإنسان والمجتمع المدني فلا بدّ من تجذيرها تراثياً.. ويستمر الكاتب في شرح وجهة نظر الجابري، وعلى الرغم من أنّه أبدى شيئاً من التحفظ المؤدب تجاه تلك الوجهة، إلا أنّه يختم مقاله بقوله: وهذه على الأقلّ تظلّ مجالاً للتساؤلات التي على المفكّرين الكبار من طراز الجابري بالذات أن يولونها (هكذا) اهتمامهم. ، وأضع تحت كلمتي (طراز) و(بالذات) عدّة خطوط.

وفي مقال آخر بعنوان : (النظام المعرفي والهوية الثقافية) الرياض: (13551).

يقول الكاتب نفسه: مفكرون عرب كبار وعلى رأسهم الجابري.

أمّا ترديد أفكار الجابريّ، وحتى ألفاظه ومصطلحاته، فهو كثير في كتاباتهم، ومن ذلك:

* ( بنية العقل العربي) من مقال بعنوان: (بائعو الكلام) الرياض: (13490).

* ( الإيبيستيمولوجيا، النظام البياني والعرفاني والبرهاني) من مقال بعنوان: ( النظام المعرفي والهوية الثقافية ) (الرياض: 13551).

* (التاريخ السياسي المتدثّر برداء الدين، والمحافظ على أيدلوجيته القبليّة، ومكاسبه الغنائميّة) من مقال بعنوان: (قراءة في بعض فروع العقائد) (الرياض: 13667) .

* ( المخيال الجمعي) من مقال بعنوان: ( مفهوم الحاكمية ) (الرياض: 13716) وغيرها من العبارات.

وهم إذ يتّهمون السلفية بالتقليدية، ويلمزونها بذلك، وهي من أشدّ المذاهب حرصاً على اتباع الدليل، ونبذ التقليد؛ نراهم يقلدون هذا الجابري وأمثاله، ويرددون ذات الأفكار، بل ذات الألفاظ التي يردّدها، والتي صدرت - أوّل ما صدرت - من المستشرقين الحاقدين، وأخذها عنهم هؤلاء المقلدون، فعاد الأمر إلى تقليد المستشرقين، وترديد شبههم..، وإذا كان ولا بد من التقليد، فتقليد السلف الصالح خير من تقليد المنصّرين من المستشرقين، وأذنابهم من المفكّرين بعقول غيرهم (!!!).

وبعد، فهذا أوان البدء بالمقصود:

أوّلاً : السمات الظاهرة: فأمّا سماتهم الشكلية الظاهرة فأبرزها إعفاء اللحى مع الأخذ منها، أو على حدّ تعبير أحد مشايخنا الأجلاء - اللحى الليبرالية - حتى إنّ أشدّهم تطرّفاً لو رأيت صورته لحسبته من الصالحين، بينما كتاباته تمتليء حقداً وغلاً على الصالحين والمصلحين لا سيما أصحاب المنهج السلفي القويم من الأوّلين والآخرين 1وليس ذلك خاصّاً بهم، فقد يشترك معهم في ذلك بعض العامّة ممن لا يحمل فكرهم المنحرف..

ومع ذلك، فقد تقتضي مرحلة من المراحل الظهور بغير لحى، فهي ليست ضرورية عندهم..

كما أنّ من سماتهم الظاهرة حضور الجمع والجماعات، مع انتقادهم الشديد لأئمّة المساجد واحتقارهم وكراهيتهم، إلى درجة الطعن والتشكيك في دينهم أحياناً، والتأليب عليهم، وأحياناً السخرية منهم والتندّر بهم لا سيما إذا خالفوهم في الأفكار المطروحة.. ويظهر ذلك جليّاً في مواقعهم على الأنترنت، فما لا يقدرون على بثه في صحفهم ومجلاتهم بأسمائهم الصريحة، يبثونه عبر تلك المواقع بأسماء مستعارة.. بل إنّ أحدهم - وهو أشدّهم تطرفاً وبذاءة _ دعا في مقال له بعنوان: (نحن والخوارج إلى أين) (الرياض: 13716) إلى فرض الوصاية على الخطباء - الذين هم في الغالب من طلاب العلم وأساتذة الجامعات _ وكتابة الخطب لهم بل حتى الأدعية، فلا يكون لهم دور إلا مجرد قراءة الخطب المكتوبة فقط(!)، هذا مع طنطنة هذا الكاتب وغيره من هذه الفئة على ضرورة رفع الوصاية المفروضة على عامة الناس من قِبل العلماء، والتي تحول بينهم وبين الاقتناع بالأفكار المضللة التي تدعو إليها هذه الفئة الضالة وغيرها، وهذه من أعجب تناقضاتهم كما سيأتي إن شاء الله..

يقول أحدهم _ وهو من أكثرهم حديثاً عن السياسة والدعوة إلى الفكر الاعتزالي -في مقال له تفوح منه رائحة العلمنة بعنوان: (التجييش الطائفي على المنابر) (الرياض: 13770) _ وكلّ من يدعو إلى الدين والعقيدة عندهم فهو طائفي -، يقول: " أدركتني صلاة الجمعة الماضية مع أحد الخطباء ذي الباع الطويل في التسييس المنبري(!) ومنذ قد غادرت مسجده منذ مدّة ليست بالقصيرة عندما أدركت حينها أنني لا أكاد أسمع وأنا منصت لخطبته إلا تحاليل(!) سياسية رديئة المضمون(!) رائجة السوق لدى الخطاب الديماغوغي(!) القابل للتجييش بطبيعته.. إلى آخر ما ذكر بأسلوبه الركيك المتهالك، أمّا الخطاب الديماغوغي!!! فهذا الذي لم أفهمه إلى هذه الساعة، ولعلّه مشتق من الدماغ، والله تعالى أعلم، أما (التحاليل)، فذكرتني بالمستشفيات، والدماء المسحوبة، ولعله اختار هذا اللفظ لمناسبته للإرهاب وسفك الدماء..

وفي مقال بعنوان : (نجاحات الأمن قدوة كيف نبرر قتلنا المجاني) الوطن: 1156، يلمز أحدهم خطيب العيد الذي صلى خلفه، لأنّه _ كما يقول _ ذكر أنّ للتطرف وجهين، وجه محسوس وهو الذي يؤدي إلى التفجير والتخريب، والوجه الآخر تطرف فكري وهو تطرف العلمانيين والمنحرفين من كتّاب ومثقفين... وذِكْرُ هذا الوجه الأخير هو الذي أقضّ مضجع هذا الكاتب، واغتاظ منه (كاد المريب أن يقول خذوني)، فما كان منه إلا أن اتهم الخطيب بالتبرير للإرهاب المحسوس، مع أنّه لم يقل ذلك، لكنه الصيد في الماء العكر، والدفاع عن وجودهم، حيث استغلوا الأحداث الأخيرة لتصفية الحساب مع خصومهم التقليديين.

هذه مجمل سماتهم الظاهرة..

أمّا سماتهم الفكرية العامّة التي ظهرت من خلال كتاباتهم المعلنة، فهي كثيرة جداً، منها:

أوّلاً: محاربة السلفية، وهذه سمة ظاهرة في كتاباتهم، بل هي أبرز سماتهم، يبدونها أحياناً، ويخفونها أحياناً كثيراً، وليس المراد بالسلفية هنا: المدّعاة من قبل بعض النوابت الذين شوّهوا السلفية الحقّة ما بين إفراط أو تفريط، فهؤلاء أمرهم مكشوف لكل ذي بصيرة، بل العجب إنّ بعضهم قد وضعوا أيديهم في أيدي هؤلاء الاعتزاليين المارقين لمحاربة السلفية الحقّة ممثّلة في أهلها العاملين بها.. ومع هذا فإنّ هؤلاء الاعتزاليين يسخرون منهم، ومن سلفيتهم بل من السلفية كلّها أيّاً كانت، يقول أحدهم _ وهو أشدّهم تطرفاً _ بأسلوب ماكر لا يخلو من السخرية في مقال له بعنوان: (المعاصرة وتقليدية التقليدي) وعلامات التعجب من عندي: " السلفيات وإن تنوعت، بل وإن وقف بعضها من بعض موقف التضادّ؛ إلا أن الوعي الماضوي (!) يجمعها. إن السباق فيما بينها ليس سباقاً في ميدان الحاضر أو المستقبل، وإنّما هو سباق في ميدان الماضي، والسابق هو الذي يصل - بأقصى سرعة - إلى الماضي السحيق (!).." إلى أن يقول: " وهكذا نجد أنّ كلّ سلفية - أيّاً كان نوعها ودعواها وتمظهرها _ تدعم الوعي السلفي(!) وترسّخ للماضوية، وتكافح في سبيل التقليد، بدعوى أنّه الحصن المنيع ضدّ الابتداع، وهي بهذا تقف ضدّ أي حراك تقدّمي، تقف ضدّ التقدّم كوعي(!)، وإن تهادنت معه في هذا الموقف أو ذاك. إنّ هذه الهدنة من قبل السلفي فعل تكتيكي لا يرقى إلى الاستراتيجي ولا يقاربه، حتى في مداه النسبي، لأنّ السلفية - دائماً(!) - في صف الماضي على حساب الحاضر(!) (الرياض: 13366). والماضي السحيق الذي أشار إليه هذا الكاتب، هو رسول الله صلى الله عليه سلم وأصحابه الكرام، إذ إن هذا هو أقصى ما يرجع إليه السلفي المتبع، فهو تعبير آثم يدلّ على شناعة هذا الفكر الاعتزالي وقبحه، واستهانته بسلف الأمّة.. وأما اتهام السلفية بأنّها في صف الماضي على حساب الحاضر! فهو محض افتراء وكذب، فلا تعارض بين الماضي السحيق _ على حدّ تعبير الكاتب _ الذي منتهاه رسول الهدى صلى الله عليه وسلم، وبين الحاضر والمستقبل في الفكر السلفي الصحيح، ولن يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها كما دلت على ذلك النصوص الشرعية.

وقبل الحديث عن هذه الحرب القذرة، لا بد من بيان بعض المصطلحات التي تتردد في كتاباتهم، حتى يتفهم القارىء ما يهدفون إليه.

فمن هذه المصطلحات:

* (السلفية التقليدية) ويريدون بها المؤسسات الدينية الرسمية في الدولة كهيئة كبار العلماء، واللجنة الدائمة للإفتاء، وسائر علمائنا الكبار..

* (الفكر الصحوي) ويريدون به طلبة العلم والدعاة النشطين، وهو الذي يعدونه _ كما يقول أحدهم _ النشاط الحركي العصري للسلفية التقليدية وأن العلاقة بينهما علاقة عضوية يستحيل تمايزها (الرياض:13436).

* (الإسلام الحركي) أو (الحراك المتأسلم!!)، ويريدون به أيضاً الدعاة النشطين في الدعوة... فهم لا يريدون إسلاماً نشطاً متحرّكاً، وإنّما يريدون إسلاماً جامداً خاملاً لا يتحرك، حتى يتمكنوا من تنفيذ مشروعهم التغريبي دون مقاومة تذكر!!!.

* (الإسلام السياسي) ويريدون به العلماء والدعاة الذين يشاركون في الشأن العام، لا سيما القضايا السياسية، ولهم دور فاعل فيها... وهم يريدون إسلاماً دراويشياً لا يفقه شيئاً في القضايا العامة حتى تخلو لهم الساحة..

* (التنميط) ويريدون به تربية الناس على منهج أهل السنة والجماعة، وعقيدة السلف الصالح، وحمايتهم من المذاهب المنحرفة، والعقائد الفاسدة..

* (الأيديولوجيا) ، وهو مصطلح وافد غير عربي يتردد كثيراً في كتاباتهم ويريدون به المعتقد الديني أو الثقافي الذي يؤمن به الفرد ويترجمه سلوكاً في الواقع المعاش. والأدلجة عندهم فيما يتعلّق بالسلفية: تشبه التنميط، فهي دعوة الناس إلى الدين والمعتقد الصحيح وتربيتهم عليه ليكون واقعاً معاشاً، وهذا هو الذي يقضّ مضاجعهم، ويحول بينهم وبين تحقيق مشروعهم التغريبي.

وقد سلك هؤلاء المارقين في حربهم للسلفية مسالك عدّة، من أبرزها:

1- محاولة تشويه السلفية، والتنفير منها، وتصويرها بصورة مقزّزة لصرف الناس عنها، وذلك للتمهيد لطرح مشروعهم التغريبي العفن المتقنّع بقناع العقلانية والتنوير!! وهم وإن كانوا كلّهم يعملون في هذا السياق؛ إلا أنّ أحدهم _ وهو أشدّهم تطرّفاً وأكثرهم بذاءة _ قد تخصّص في ذلك كما سبق، فلم يترك شتيمة، ولا نقيصة إلا رمى بها هذه السلفية التي يدين بها عامّة أهل هذه البلاد وغيرهم، وكلّ ما تقاطع معها من "الإسلامويين" _ كما يعبّرون استهزاء _ ولو من بعيد، وحتى لا أكون متجنّياً، فإنّي سأذكر بعض هذه الشتائم، ليعلم القارىء مدى الإسفاف الذي وصلوا إليه، مع دعواتهم المتكرّرة للتسامح مع "الآخر" واحترامه وتقديره!!!. فمن هذه الشتائم:

(السلفية العتيقة) الرياض: 12953، (السلفية التقليدية) الرياض: 13065، (الانغلاق السلفي) (الرياض: 13338) ، (قوى التقليد والجمود والظلام) (الرياض: 13485) ، (قوى التقليد والظلام والإرهاب) (الرياض: 13331) ، (قوى التأسلم) (الرياض: 13359) ، (قوى التخلف والتوحش والانغلاق) الرياض: 13352، (قوى التطرف) الرياض: 13331، ( قوى تخلف وتقليد ) الرياض: 13331، (التقليدية البلهاء ) (الرياض: 13065) ،(التقليدية الميتة) (الرياض: 13331) ، (الثقافة الميتة) (الرياض: 13072) ، (الثقافة التي تصنع الغباء) (الرياض: 13072) ، (الثقافة التقليدية البائسة) (الرياض: 13065) ، (ثقافة الانغلاق) (الرياض: 13065) ، (ثقافة تقتل الوعي) الرياض: 13065، (ثقافة التجميع واللاعقل) (الرياض: 13072) ، (ثقافة الموت الوعظية الحمقاء) (الرياض: 13072) ، (ثقافة كسيحة) (الرياض: 13156) ، (الوعي الكسيح) (الرياض: 13002) ، (الوعي المتسطح الكسيح) (الرياض: 13072) ، (الوعي المأزوم) (الرياض: 13380)، (وعي غارق في مخلفات عصور الانحطاط) (الرياض: 13156) ، (القراءة التراثية المبعثرة) (الرياض: 13331) ، (الطرح المتسطح ثقافياً) (الرياض: 13163) ، (رؤى الانغلاق وتيارات الكره ودعاة النفي) الرياض: 13128، (براثن التنميط والمحافظة والتقليد) (الرياض: 13128، (الاحتيال اللامعرفي وجرثومة الوصاية) (الرياض: 13065، (الدروشة الوعظية التي تفتقد الحكمة) (الرياض: 13072) ، (الإفلاس المعرفي) (الرياض: 13072) ، (الاستغفال المعرفي) (الرياض: 13121) ، (الترنح المعرفي) (الرياض: 13282) ، (تيار الجمود والارتياب) (الرياض: 13282) ، (الاختطاف الثقافي والاجتماعي) (الرياض: 13128) ، (قصور معرفي حاد) (الرياض: 13163) ، (البلاهة السياسية) الرياض: 13191، ( الغباء السياسي ) الرياض: ، ( ضمور الوعي السياسي ) الرياض: 13380، ( الجماعات المتأسلمة ) الرياض: 13247، ( نمطية بلهاء ) الرياض: 13338، ( المتأسلمون )، ( تيارات التأسلم ) الرياض: 13282، ( فكر الإقصاء والنفي ) الرياض: 13282، ( اللاوعي بالتاريخ ) الرياض: 13002، ( الفهم القاصر ) الرياض: 13002، ( جماهير الغوغاء ) الرياض: 13002، ( المن_زل القديم المتداعي بوحشيته المعتمة ) الرياض: 13002، ( سيكولوجية البدائي ) الرياض: 13002، ( خطاب موعظة لا معرفة ) الرياض: 12953 ، ( ألاعيب الحواة ) الرياض: 13436، ( ممارسة خرقاء ) الرياض: 13436، ( الحراك المتأسلم ) الرياض: 13478، ( الخرافة والتقليد والخداع ) الرياض: 13485 ، ( طمر الحقائق ) الرياض: 13485، ( حراك سلبي ) الرياض: 13485، ( الأيدلوجي المنمط ) الرياض: 13499، ( المجتمعات المحافظة الأصولية ) الرياض: 13499، ( حركات الأدلجة ) الرياض: 13499 ، ( الأدلجة الماكرة ) الرياض: 13324 ، ( تجهيل الجماهير ) الرياض: 13499، ( الجماهير البائسة الظامئة ) الرياض: 13506، ( الجماهير الغائبة المغيّبة ) الرياض: 13338، ( الحواشي وحواشي الحواشي ) الرياض: 13506، ( الإسلام الحركي السياسي ) الرياض: 13506، ( المراهقة الصحوية ) الرياض: 13303، ( أوهام التقليدية الميتة ) الرياض: 13065، ( مفرقعات صحوية ) الرياض: 13289، ( شريط الكاسيت الغبي ) الرياض: 13289، ( الهراء الإعلامي والسطحية ) الرياض: 13289، ( المتأسلمون ) الرياض: 13303، ( الحراك الثقافي المتأسلم ) الرياض: 13359، ( دعوى النقاء الأخلاقي المزعوم ) الرياض: 13331..

هذه بعض الشتائم المقذعة التي قمت بإحصائها من مقالات كاتب واحد منهم فقط، ودون استقصاء تام (!) ويلاحظ على هذه الشتائم ما يلي:

أ- كثرتها، حتّى إنّها لتصل إلى الخمس والستّ في المقال الواحد!!!!، وفي هذا دليل واضح على افتقاد الحجّة الصحيحة المقنعة، فإنّ المبطل إذا عجز عن الإقناع بالحجّة؛ لجأ إلى السباب والشتائم للنيل من خصمه.

نعم؛ قد يضطر الإنسان أحياناً إلى توجيه بعض الشتائم إلى خصمه اللدود، لكن أن تكون بهذه الكثرة المفرطة، ومن أناس " أكاديميين" يدّعون الفكر والعقل المستنير؛ فهو أمر يدعو إلى التأمّل والعجب!!.

ب- تضمنّها العديد من التهم ذات العيار الثقيل بلا دليل ولا برهان صحيح، وما أسهل أن يطلق المرء على خصومه التهم جزافاً بلا بيّنة صحيحة، والتي قد يصل بعضها إلى الإخراج من الدين والإسلام، كقولهم: (المتأسلمون)، (قوى التأسلم) ، (الحراك الثقافي المتأسلم) ونحوها من الشتائم، فالمتأسلم هو الذي يدعي الإسلام وهو ليس كذلك كما يُفهم من هذا الوصف، ولطالما دندن هؤلاء حول خطورة التكفير، والإخراج من الدين، حتى وإن كان بحقّ، فما بالهم يصفون خصومهم المسلمين بالضد من ذلك !!!.

ج- أنّ هذه الشتائم لم تفتصر على أهل العلم والفكر والدعوة من السلفيين من الأوّلين والآخرين، بل تجاوزت ذلك إلى عامّة الناس المقتنعين بهذه العقيدة، والذين يطلقون عليهم وصف (الجماهير): فهم (الجماهير البائسة الظامئة)، و(جماهير الغوغاء)، و(الجماهير المجهّلة)، و(الجماهير الغائبة المغيّبة)، و(المجتمعات المحافظة الأصولية)، لا لشيء إلا لأنّ هذه الجماهير المسلمة اختارت هذه العقيدة النقية، ولم تستجب لدعواتهم التغريبية المضللة، ولن تستجب بإذن الله تعالى..

د- أنّ الكثير من هذه الأوصاف (الشتائم) هم الأقرب إلى الاتصاف بها، والتخلّق بها لمن تأمل ذلك، لكنهم يقلبون الأمور، ويلبّسون على الناس على قول المثل السائر: (رمتني بدائها وانسلّت)!!.

هـ- أنّ مثل هذه الشتائم لا تصدر إلا من نفس موتورة حاقدة، قد تشبّعت بالشبهات، فاستقرّت فيها وتمكّنت منها، وداء الشبهات أعظم أثراً في النفوس والقلوب من داء الشهوات، فكيف إذا اجتمع الأمران، نسأل الله السلامة والعافية.

والأعجب من ذلك والأدهى أنّهم يرون أنّ مثل هذه الشتائم القبيحة التي يسمونها نقداً ضرورية لإيقاظ المجتمع من سباته، وتنويره(!!!)، يقول أحدهم _ وهو كبيرهم وأشدّهم فتنة بالحضارة الغربية - في مقال له بعنوان: (تخصّص في الطب وأبدع في الفكر والمسرح) الرياض: 13502: " وبذلك أدرك (بريخت) بأنّ مواجهة الطوفان بالنقد الحادّ، والتهكّم الموجع من أهمّ وسائل إيقاظ المجتمع من سباته، وتنويره للمصير المظلم الذي يساق إليه ". وبريخت هذا مبدع عالمي عند الكاتب ترك تخصصه في الطب (!)، واشتغل بالمسرح (!)، وهو حين يذكر قول هذا المبدع(!) لسان قلمه يقول: إياك أعني واسمعي يا جارة، كما يدل على ذلك باقي المقال، ومقالاته الأخرى. وقد فهم تلميذه السابق الرسالة - وبئست التربية - فأطلق تلك الشتائم والتهكّم الموجع بذلك الكمّ الهائل لمواجهة (طوفان) السلفية، وإيقاظ الفتنة النائمة.. وحتماً سيغرقه هذا الطوفان بإذن الله تعالى.

1- محاولة ربط السلفية بالإرهاب _ الذي لم يُتفق على تعريفه إلى هذه الساعة _ والاستماتة في ذلك، ونسبة بعض المارقين إليها وهو ما يطلقون عليه: (السلفيّة الجهادية).. فكلما خالفهم مخالف، أو حاجّهم محاجّ، أو احتسب عليهم محتسب من أهل الدين والعلم والدعوة رموه بالإرهاب بجرة قلم، والعامة يروون في هذا المقام قصة رمزية طريفة، وهي أن امرأة أراد زوجها أن يتزوج عليها، ففكرت في حيلة لمنعه من الزواج، فما كان منها إلا أن اتصلت برجال الأمن، وذكرت لهم ارتيابها من زوجها، وأن له صلة بـ (الإرهابيين)، وقبيل ليلة الزواج تم القبض عليه بهذه التهمة، واعتذر أهل الزوجة عن تزويجه، وبهذا نجحت الخطة..

يقول أحدهم _ وهو مقيم في لندن _ في مقال له بعنوان: (الحالة الدينية في السعودية..هل تستمر القاعدة بتجنيد السعوديين) (الوطن: 1139) : ما هي وضعية الحالة الدينية اليوم في السعودية ؟.. لا يمكن القول إنّها متسامحة وعصرية، فالأحداث الإرهابية هي نتاج غلو ديني اشترك بعض أفراد المذهبيّة الدينية السلفية السائدة، والأيديولوجيا الصحوية في صنعها في المقام الأوّل بغض النظر عن المسببات الأخرى التي وضعتها في موضع التنفيذ. ومظاهر التشدد الديني التي تلمس كل يوم في خطب الجوامع وأدعية القنوت، والفتاوى المتشددة، والخطاب الديني بمجمله مغرق في التزمت بعيد كل البعد عن حال التسامح واليسر المنتظرة منه "، وهكذا تطلق التهم جزافاً بلا بيّنة سوى أنّ الذين قاموا بالتفجيرات يستشهدون ببعض أقوال السلف، ولو أننا أخذنا بهذا المنطق المعوج لحكمنا على القرآن نفسه بأنّه سبب الإرهاب، لأنّ الخوارج الأوّلين استدلوا به على مذهبهم، وكذلك سائر الفرق الضالة.

ثم، ومن أجل حلّ هذه الأزمة يرى الكاتب أنّ الحل يكمن في: " تغيير الطريقة التي يتم التعامل بها مع الأفكار والطوائف أو الأديان بوصفها كافرة أو مبتدعة أو علمانية، وينبغي أن ينظر إلى نقد وتقييم المناهج والمؤسسات الدينية، وإصلاحها(!) بالطريقة العصرية، والحدّ (!) من تضخّم الأدلجة الإسلاموية.. وهو كلام في غاية الخطورة والضلال، والغلو المضاد، حيث يدعو الكاتب إلى عدم وصف الأديان - ويريد بها بطبيعة الحال أصحابها المتدينين بها اليوم - بالوصف الذي وصفها الله به في كتابه الكريم، ووصفها به رسوله الأمين كما في قوله تعالى: (( لَّقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَآلُواْ إِنَّ اللّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ َ.)) (المائدة:17) .

وقوله: (( لَّقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ اللّهَ ثَالِثُ ثَلاَثَةٍ..)) (المائدة:73)، وقول النبيّ صلى الله عليه وسلم : (( والذي نفس محمد بيده، لا يسمع بي أحد من هذه الأمة؛ يهودي ولا نصراني، ثم يموت ولم يؤمن بالذي أرسلت به إلا كان من أصحاب النار )) أخرجه مسلم.

ولا خلاف عند أهل الإسلام في كفر اليهود والنصارى وغيرهم من أصحاب الملل الأخرى، فمن لم يكفرهم فهو مكذب للقرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة. وكذلك يدعو الكاتب إلى عدم تبديع أهل البدع وأهل العلمنة، وفي ذلك مضادة لقول نبينا صلى الله عليه وسلم : (( كل بدعة ضلالة )) .

وهذا في نظر الكاتب يعدّ إصلاحاً بالطريقة العصرية، وصدق الله إذ يقول: (( وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ تُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ قَالُواْ إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ * أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَ_كِن لاَّ يَشْعُرُونَ )) (البقرة:11) .

ويقول آخر - وهو أشدّهم تطرّفاً - في مقال له بعنوان: (الإنترنت والخطاب الديني) (الرياض: 13247) : - .. كما أظهر هذا الخطاب (يعني خطاب التطرّف ) أنّ مرجعيّة التطرّف والغلو، ومن ثم الإرهاب، ليس الفكر القطبي، ولا طرح الجماعات المتأسلمة (!) وإنّما مصدر الاستدلال _ في الغالب العام _: السلفية التقليدية، بمرجعيّاتها المشهورة التي لها اعتبارها في الخطاب السلفي ".

إذن، السلفية بمرجعياتها المشهورة هي مصدر الإرهاب، فيجب محاربتها، والقضاء عليها، هذا ما يهدف إليه الكاتب. والردّ عليه كالرد على الذي قبله.

أمّا المرجعيات المشهورة فيريدون بها: أمثال شيخ الإسلام ابن تيمية، وابن القيم، وابن عبد الوهاب رحمهم الله..، وقد صرّح أحدهم بذلك _ وهو أكثرهم تعالماً، وأشدّهم جهلاً - في مقال له بعنوان: (الإنسان والوطن أهمّ من ابن تيمية) الوطن: (965)، زعم فيه - زوراً وبهتاناً _ أنّ ابن تيمية هو منظّر الجهاديين، وأنه سبب الإرهاب، معتمداً على نص لابن تيمية مبتور من سياقه، وهو إذ يعيب على من أسماهم بالجهاديين سوء الفهم؛ يقع في الخطأ نفسه وهو لا يشعر.

وأخطر من ذلك، ما سطّره الكاتب الأوّل في مقال له بعنوان: (واحذرهم أن يفتنوك) (الرياض: 13128) ، يتحدّث فيه عمّا أسماه بالفرادة، يقول منظرّاً لهذه الفرادة: إنّ الأصل في الكائن الإنساني خاصّة هو الاختلاف والتنوّع والتفرّد، وليس التشابه والتماثل كما يحاول دعاة المحافظة والتقليد ترويجه - تطبيقاً - في بيئتنا الاجتماعيّة، وإن ادّعوا تنظيراً غير ذلك".. وهذا كلام مجمل يحتاج إلى تفصيل، فالفرادة إن كانت فيما لا يتعارض مع أصل الدين وثوابته، ونصوصه القاطعة، فهي مطلوبة، وإلا فإنّها ابتداع وخروج عن الدين، وحقّها _ لفظاً _ أن تكون بالمثناة (قرادة)، لكنّ الكاتب تعمد الإطلاق للوصول إلى ما يهدف إليه، لذا فهو يواصل مقاله قائلاً - بعد أن قرّر أنّ إلغاء هذه الفرادة المطلقة جريمة -: ويبقى السؤال الأهم في هذا الطرح: إذا كان إلغاء معالم التفرد في الإنسان جريمة، فهل تمارس هذه الجريمة في محيطنا الثقافي والاجتماعي؟، وإذا كانت تمارس، فهل هي مقصودة أم أنها جزء من الحراك الاجتماعي التلقائي؟، وعلى أية صورة تمارس هذه الجريمة؟، هل هي فردية أم جريمة منظمة؟، وما مدى انتشارها وذيوعها؟ ومن الفاعل؟، وأين؟، ومتى؟.

وإذا كان بعض هذه الأسئلة لا يمكن الإجابة عليها تفصيلاً؛ لهذا السبب أو ذاك، فإن الإجابة العامة التي ينطق بها الواقع (الثقافي/ الاجتماعي) لدينا إجابة لا تدعو للتفاؤل، من حيث الوقوع المتعين لهذه الجريمة المعنوية ".

ثم تبدأ معركته مع السلفية، أو على حدّ تعبيره: ( الاتجاه المحافظ التقليدي لدينا )، وهذا هو المقصود، فيقول: " إن ما فعله - ويفعله - الاتجاه المحافظ التقليدي لدينا إنما هو عملية قتل متعمد لكل معالم الفرادة الطبيعية، إنه في الحقيقة (اغتيال للعقل) على نحو تدريجي، وبأساليب قد لا تكون واضحة في كل الأحيان، وفي كل الحالات. لا أستطيع أن أقول: إن عملية المسخ الاختياري (والقسر في بعض الأحيان) التي يمتزج بها الاجتماعي بالديني ( وفق رؤية خاصة يتم تعميمها)، بالثقافي، بالواقعي، وبطريقة لا تبقي أي خيار، لا أظن أن لها مثيلاً على مستوى التجمعات الإنسانية المعاصرة كافة..".

وبعد الطعن في السلفية _ خصمه اللدود _ بإجمال، يبدأ في التفصيل، فيستعرض المراحل الدراسية جميعها إلى مرحلة الدراسات العليا، فيقرّر أنّ هذه المراحل كلّها عندنا تقضي على هذه الفرادة المزعومه، والسبب أنّها تلتزم بمذهب أهل السنّة والجماعة وسلف الأّمة، أو على حدّ تعبيره: " نمط التربية المستمد من موروث اجتماعي موغل في القدم يبدأ عمله منذ السنوات الأولى للطفولة؛ لكون القائم على التربية الأولى ابناً باراً لثقافة التقليد والمحافظة في الغالب " أو بتعبير آخر له: " أفكار مغرقة في محافظتها وسلفيتها وتزمتها.. "، أو بتعبير ثالث عن النشاط اللامنهجي: " وفق المنطلقات ذات الزوايا الحادة للمنظومة السلفية التقليدية التي تجتهد في التنميط؛ فضلاً عن أن التنميط كامن في البنية العامة للمناهج "..

ثم يتحدث عن المرحلة الجامعية، فيصفها بأنّها: " أكبر (ورشة) للتنميط، وقتل ما أبقته المراحل الأولى من الفرادة العقلية، وترسيخ قيم المحافظة والتقليد، فتمارس بين أروقة الجامعة أكبر عملية اجترار للتراث، بكل ما يحمله من إيجاب وسلب، وبكل ما تعنيه هذه العملية في ذاتها ( من حيث هي اجترار) من نكوص إلى وعي قد طواه الزمن في مقبرته الأبدية، ولكننا نأبى إلا نبش تلك القبور، والبحث في تلك العظام النخرة عن مصدر للحياة!.. ". وهو يريد بذلك الأقسام الشرعية في الجامعات ذات التوجه السلفي خصمه اللدود، أمّا كليات الطب والهندسة والعلوم وغيرها، فلا يتحدّث عنها.

ثم يتحدّث عن مرحلة الدراسات العليا، فيصفها بأسلوب مسفّ ينم عن حقد دفين على المنهج السلفي القويم، مدعم بالافتراء والكذب وكيل التهم الجائرة فيقول: " إن الدارس لا يمكن أن يقبل في هذه الدراسات ابتداء، ولا يمكن أن يتقبل فيما بعد، ما لم يكن ذا مهارة في النسخ، مع قدر لا يستهان به من عدم الأمانة في النقل والاجتزاء؛ لخدمة الفكرة الموروثة في التيار المندغم فيه، فليست الحقيقة هي الغاية، وإنما الإبقاء على ما يؤيده تيار المحافظة من مخلفات القرون الوسطى هو الغاية، وفي سبيلها فليتم الإجهاز على الحقيقة بسيف العلمية!، وبهذا لا يمكن أن يعترف بالدارس باحثاً علمياً في مؤسسات التقليد ما لم يتنكر لبدهيات البحث العلمي. وهذا هو الشرط الأولي لقبوله (باحثاً!) في المنظومة التقليدية ".. إنّها تهم شنيعة، في غاية البشاعة والشناعة لجامعاتنا الإسلامية العريقة التي خرّجت الكثير من العلماء والدعاة والمفكّرين حتى من غير أبناء هذا البلد، ولكن الحقد الدفين يعمي ويصم..

فعين الرضا عن كلّ عيب كليلة كما أنّ عين السخط تبدي المساويا

ثم يدلل هذا الكاتب الموتور على ما ذهب إليه من حقد دفين وفق طريقته السابقة من الافتراء والكذب والتلبيس والألفاظ النابية فيقول: " ومما يدل على مستوى هيمنة هذا النمط الببغاوي في المؤسسات العلمية التي تهيمن عليها الاتجاهات المحافظة، أن الحكم بموضوعية على شخصيات أو تيارات في القديم أو الحديث، بما يخالف رؤية هذه الاتجاهات، وما يسود في أروقتها من مسلمات يودي بصاحبه، ويعرضه للنفي خارج المؤسسة العلمية، فضلاً عن الإقصاء الديني، يشهد على ذلك أن كل دراسة لشخصية أو فكرة أو تيار، تتم في هذه الأقسام تعرف النتيجة فيها سلفا، بل لا يمكن أن تكون النتيجة إلا ما قررته المنظومة في أدبياتها، فمهما حاول (هذا إذا حاول) الباحث الاستقلال فهو لا يستطيع، وموقفه البحثي في النهاية دفاعي عن الأفكار العامة لمؤسسته العلمية التي تحتويه. هذا هو الواقع، وإلا فدلوني على رسالة واحدة طعن(!)

صاحبها في فكرة أو شخصية لها وزنها في المنظومة الفكرية لمؤسسته العلمية، أو أثنى على تيار مخالف أو شخصية ليست محل القبول في هذه المؤسسة، فقبلت المؤسسة المحافظة بذلك ".. إنّ هذا الكاتب يريد من الباحث الملتزم بعقيدة أهل السنّة والجماعة أن يطعن في أئمّة السلف أو مذهب السلف، أويثني على أهل البدع، والفرق الضالة وخاصة المعتزلة(!) ، ويريد من الجامعات الإسلامية أن تفتح المجال لكلّ من أراد ذلك باسم الاستقلال والفرادة كما يزعم، وإلا فإنّ ذلك ضرب من الإقصاء والنفي والقضاء على الفرادة المزعومة، أمّا أن يبتكر الباحث موضوعاً في تخصّصه _ مع التزامه بثوابت الأمة ومنهج أهل السنّة _ فذلك ليس من الفرادة في شيء في مفهوم الكاتب، الفرادة عنده هي الخروج عن مذهب السلف، والطعن فيهم _ كما يفعل هو مراراً في مقالاته كما سيأتي _ ، إنّ هذا لهو عين الضلال وانتكاس المفاهيم..

ثمّ إني أوجه سؤالاً لهذا الكاتب ولن يستطيع الإجابة عليه فأقول: هل صحيفتك التي تكتب فيها، وتهاجم مِنْ على منبرها مذهب السلف الصالح تسمح بمثل ما ذكرت من نقد لفكرة أو شخص ينتمي إليها أو إلى الفكر الذي تتبناه ؟؟ الجواب: لا وألف لا، لأني قد جربت ذلك، وجربّه غيري، فلم نجد إلا الإقصاء والنفي والتجاهل إلا في حدود ضيقة، فهل من معتبر..؟

ثم يواصل الكاتب بذاءته وافتراءاته وشتائمه المعتادة _ سأضع تحتها خط _ قائلاً: "بهذا يتضح أن كل مرحلة علمية، وكل تناغم مع المجتمع في تياره المحافظ خاصة، تفقد المرء جزءاً من فرادته، مما يعني أنه كلما قطع مرحلة من ذلك، وظن أنه قد تحقق له شيء من العلم، فإنه لم يزدد بذلك إلا جهلاً. وبمقدار حظه من هذا التنميط والاختطاف الثقافي والاجتماعي يكون حظه من الجهل المركب؛ لأنه بهذا يفقد التفرد في الرؤى والأفكار، بمقدار ما يندغم في تيارات المحافظة، وبقدر ما يتناغم مع المؤسسات العلمية التي تهيمن المحافظة عليها. ويزداد الأمر سوءا ومأساوية، عندما ندرك أن هذا الاغتيال للفرادة، وهنا التنميط الذي يتم في هذه المراحل العمرية لا يجري لصالح رؤى الانفتاح - مع أن اغتيال الفرادة جريمة، أيا كانت مبرراته - وفي سبيل الرقي بالإنسان، وإنما هو لصالح رؤى الانغلاق، وتيارات الكره، ودعاة نفي الآخر، كل ذلك بالإيحاءات الخاصة للسلفية التقليدية التي لا تني عن إنتاج نفسها كلما أشرفت على الهلاك "..

ويختم مقاله بهذا التحذير: " وأخيراً لا يسعني إلا أن أقول لكل قارئ: احذرهم.. احذرهم (وأنت تعرفهم) أن يفتنوك. قد تكون نجوت منهم كليا أو جزئيا، قد تكون ممن هلك بفتنتهم التي ظاهرها الرحمة، لكن أدرك من نفسك ما يمكن إدراكه، مارس إنسانيتك(!) على أكمل وجه، كن ابن نفسك في كل شيء(!)، حاول قدر الاستطاعة، مهما كلفك ذلك، هذا بالنسبة لك، ولكن، تبقى المهمة الصعبة: استنقاذ الأجيال الناشئة من براثن التنميط والمحافظة(!) والتقليد، وهي مهمة لابد أن ينهض بها كل (إنسان) لتحقيق أكبر قدر من الفرادة (من الإنسانية)(!) قبل أن تغتال في مهدها ".. وهكذا تصبح المحافظة على العقيدة السلفية النقيّة _ حسب رأي هذا الكاتب _ فتنة ظاهرها الرحمة وباطنها العذاب، ويحذّر منها في معقلها ومهدها، فإلى الله المشتكى.

أمّا دندنة الكاتب _ بل سائر المنتمين إلى هذا الفكر الاعتزالي الليبرالي التغريبي _ حول ( الإنسانية ) فذلك موضوع آخر سأفرد له فصلاً مستقلاً بإذن الله تعالى.

كما أنّ من الملاحظ أنّ الكاتب(!) جعل عنوان مقالته هذه جزءاً من آية كريمة نزلت في جماعة من اليهود(!)، وهو ها هنا ين_زلها على خصومه السلفيين المسلمين المحافظين(!!)، وهذه سمة متكرّرة في مقالات هذا الكاتب وأصحابه، سأفرد لها أيضاً فصلاً خاصّاً بإذن الله تعالى. وهي جريمة نكراء في حقّ كلام الله تعالى، وحقّ إخوانه المسلمين.

وحتى يعرف القاريء حقيقة هذه الفرادة التي تحدث عنها هذه الكاتب وغيره من أصحاب هذا الفكر، وحقيقة موقفهم من عقيدة السلف والعقائد الأخرى المنحرفة وخاصّة المعتزلة؛ أسوق لكم هذه الأقوال لبعضهم:

فهذا أحدهم _ وهو الكاتب السابق نفسه _ في مقال له بعنوان ( ثقافة تصنع الغباء ) الرياض: 13072، وهذا العنوان من جملة شتائمه المعتادة للسلفية، يقول عن السلفية التي يسميها تقليدية بأنّها: " لا تعدو كونها تأويلاً خاصّاً للإسلام، محلّه متاحف الفكر، لا الحراك الاجتماعي "، فهل رأيتم إقصاء ونفياً أشدّ من هذا الإقصاء والنفي؟!!!

والغريب أنّ هذا الكاتب نفسه في مقال له بعنوان: ( من التطرف إلى الإرهاب ) الرياض: 12953،يصف بعض الأقسام في بعض جامعاتنا أنّها " ما زالت معاقل للفكر الذي ينفي الآخر، وما زالت تقتات على الترسيخ لثقافة الإقصاء ونفي الآخر، وتروج لها في أطروحاتها "، ويريد بهذه الأقسام التي في جامعاتنا _ كما هو ظاهر _: الأقسام الشرعية، والعقدية على وجه الخصوص، ويريد بثقافة الإقصاء والنفي ثقافتنا الإسلامية السلفية، أمّا الآخر المنفي فهي الفرق الضالة المنحرفة من معتزلة وحرورية ومرجئة وصوفية وغيرها.

ويقول آخر _ وهو أكثرهم حديثاً عن العقائد وأكثرهم خلطاً بين النصوص _ في مقال له بعنوان: ( قراءة في بعض فروع العقائد ) الرياض: 13667: " ومما يجدر التنبيه عليه أنّ مصطلح ( العقيدة ) أمر تواضع عليه العلماء الذين تبنوا مجال البحث في مجال الغيبيات فيما بعد الصدر الأوّل، إذ لم يكن لذلك لمصطلح أساس من النصوص الوحييه سواء من القرآن أو السنة، إذ إنّ المصطلح الأساسي الشرعي الذي جاء به القرآن والسنة النبوية هو مصطلح ( الإيمان ).. " وكأنّ مصطلح ( الديمقراطية) و( الليبرالية ) و(الإيبيستيمولوجيا ) و( الأيديولوجيا ) وغيرها من المصطلحات التي يرددونها في مقالاتهم ليل نهار، لها أصل في الكتاب والسنة !!!

ثمّ يمضي الكاتب في تقريره لحقيقة الإيمان ومن هو المؤمن فيقول: " وهو [ أي الإيمان ] عبارة عن مفهوم بسيط ( هكذا ) يرمز إلى ستة أمور، من آمن بها أصبح مسلماً ومؤمناً كامل الإيمان لا يحتاج معه إلى امتحانات قلبية أو مماحكات لفظية، أو حفظ مدونات عقدية لإثبات إيمان المرء ودخوله حظيرة الإسلام "..

وهو كلام خطير يدلّ على جهل فاضح، وانحراف واضح عن المنهج القويم والفهم السليم لدين الإسلام.. فإنّ لفظ الإيمان والإسلام إذا اجتمعا صار لفظ الإيمان مراداً به الاعتقاد الباطن، ولفظ الإسلام العمل الظاهر كالنطق بالشهادتين، وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة والصوم والحج، كما قال الله تعالى عن الأعراب: (( قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُل لَّمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِن قُولُوا أَسْلَمْنَا..)) (الحجرات:14) ففرق بين الإيمان والإسلام، وهذا أمر بدهي عند أطفال المسلمين، فمن لم يأت بأركان الإسلام الظاهرة لم يكن مسلماً ولا مؤمناً، حتى وإن ادّعى الإيمان والإسلام، ولهذا قاتل أبو بكر الصديق tمانعي الزكاة، مع أنّهم كانوا يشهدون أن لا إله إلا الله وأنّ محمداً رسوله الله، ولما أنكر عليه عمر t كما جاء في الصحيح، قال له: والله لأقاتلنّ من فرق بين الصلاة والزكاة.. أمّا الامتحان، فقد قال الله تعالى في سورة الممتحنة: (( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا جَاءكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلَا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ..)) (الممتحنة:10) ، وهي تسمى ( آية الامتحان )، وقد سئل ابن عباس t كيف كان امتحان رسول الله r النساء؟ قال: كان يمتحنهنّ: بالله ما خرجت من بغض زوج، وبالله ما خرجت رغبة عن أرض إلى أرض، وبالله ما خرجت التماس دنيا، وبالله ما خرجت إلا حباً لله ولرسوله.. وهذا خلاف ما قرره الكاتب، بل إنّ ما قرّره هو مذهب المرجئة القائلين بأنّ الإيمان مجرّد الاعتقاد بالقلب، وأنّ العمل غير داخل في مسمّى الإيمان، وأنّه لا يضر مع الإيمان ذنب.. فكلّ من ادّعى الإيمان _ حسب زعمهم _ صار مؤمناً مسلماً.. وقد صدرت عدة فتاوى من اللجنة الدائمة للإفتاء في هذه البلاد في التحذير من هذا الفكر الإرجائي الخطير.

ثم يقرر الكاتب مذهبه الفاسد مؤكّداً فيقول: " وبالتالي فليس هناك من الوجهة الشرعية(!) ما يعرف بأصول العقائد مقابل فروعها، بل هو أصل واحد هو الإيمان، وكلّ ما جاء بعد ذلك مما أصطلح عليه أصول العقائد وفروعها، وهي التي ألحقت بالعقائد وفقاً لأيديولوجية الجماعة أو المذهب القائلة بها؛ فهي مما تواضع عليه من امتهنوا ما اصطلح عليه لاحقاً بعلم العقائد، ومن الطبيعي أن يضطر الباحث إلى مسايرة هذه المواضعة عند البحث عن أي من مفرداتها بعد أن أصبحت واقعاً تراثياً في حياة المسلمين ".. ، وفي موضع آخر يصفها الكاتب بأنّها: " مماحكات ومجادلات سفسطائية، أدخلت في العقيدة قسراً بمؤثرات أيديولوجية" الرياض: 13561، وهكذا يلغي الكاتب بجرّة قلم كلّ ما قرره سلفنا الصالح من العقائد والأصول المجمع عليها عند أهل السنة والجماعة، مما هو مستمد من الكتاب والسنة الصحيحة، والتي يتميز بها أهل السنة والجماعة عن أهل البدعة ، ليفتح الباب على مصراعيه لكلّ مبتدع وضال ليكونوا جميعاً على درجة واحدة من الإيمان والاعتقاد الصحيح، ولعمر الله إنّ هذا لهو الضلال المبين.

ويقول هذا الكاتب في مقال له آخر بعنوان: ( الخوف من النقد ) الرياض: 13509، بعد أنّ قرر حق ( الآخر )(!) في الاختلاف من زاوية عدم احتكار الحقيقة من جانب واحد _ يريد مذهب السلف _: " هنا أجد أنّه من المناسب القول بضرورة إعادة النظر في المناهج التعليمية، خاصّة المناهج الجامعية في الأقسام التي تدرّس العقديات والمذاهب بحيث يجعلها تؤسّس لنظرة تسامحية تنطلق من إبراز أهداف ومنطلقات الفرق المخالفة عندما أرست قواعد مذهبها _ خاصّة الفرق الإسلاميّة الماضية المنظور لها على أنّها مخالفة _ بدلاً من تكريس وضع منهجي ينظر لها على أنّها ذات أهداف خاصّة لهدم الإسلام وتقويض بنيانه، بحيث تتأسس المخرجات التعليمية البشرية على التعامل مع حقّ وحيد ورأي فريد هو ما تلقنه إياه تلك المناهج كحقّ حصري لمبادىء مذهبه وقواعد مرجعيته " يريد مذهب أهل السنة والجماعة، ثم يذكر المذهب الاعتزالي على وجه الخصوص ويدافع عنه، وهذا هو مربط الفرس عنده، لتقرير مذهب الاعتزال، فيقول: " ومن ثم فإنّ الحاجة ماسّة لتأسيسٍ جديد لأقسام العقيدة والمذاهب في الجامعات لتأسيس طلابها على النظرة المجردة(!) للمذاهب والفرق المخالفة عن طريق وضع مناهج تؤسس هي الأخرى للدراسة التاريخية المجرّدة باستصحاب كامل لتاريخ نشأة تلك الفرق وأهمها الظروف السياسية التي صاحبت نشأتها وتأسيسها مذهبياً، بدل أن تقدّم للطالب باعتبارها فرقاً ضالة هالكة في مقابل فرقة ناجية وحيدة.."، وهكذا يريدون تمييع العقيدة السلفية الصحيحة، باسم التجرّد والفرادة. وتلميع الفرق الضالة المنحرفة، ومن ضمنها المعتزلة والرافضة والخوارج وغيرها من الفرق التي شوهت الدين، وآذى أصحابها عباد الله المؤمنين، ويلاحظ فيما ختم الكاتب مقاله ملاحظتين، إحداهما: التفسير السياسي للتاريخ والأحداث بشكل عام، وسأتحدث عن هذه المسألة بإذن الله في فصل مستقل. والثانية: التعريض بالحديث النبوي الشريف، حديث الفرقة الناجية، والاعتراض عليه(!)، بحجّة أنّه يخالف العقل، وهذا بناء على مذهبهم العقلي الفاسد.

وفي مقال آخر للكاتب نفسه بعنوان: ( أصالة التعدد في الطبيعة البشرية ) الرياض: 13160، يحاول الكاتب تأصيل مبدأ الاختلاف بين الناس ( التعددية ) وأنّها (( فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ.. )) (الروم:30) ، ويستدل بالآية الكريمة الأخرى: (( لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً وَلَوْ شَاء اللّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَ_كِن لِّيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُم )) (المائدة:48) ، واستشهاده بهاتين الآيتين على ما ذهب إليه خطأ فادح يدل على جهل فاضح، فأمّا الآية الأولى فإن من المعلوم _ بلا خلاف أعلمه _ أنّ المراد بالفطرة: الإسلام وليس الاختلاف، كما جاء في الحديث الشريف: (( كل مولود يولد على الفطرة، فأبواه يهودانه أو ينصرّانه أو يمجّسانه..)) .. وأمّا الآية الثانية فهي في سياق الحديث عن اليهود، ولا علاقة بالاختلاف الذي بين الفرق المنتسبة إلى الإسلام، بل إنّ نصوص الكتاب تدل على عكس ما أراد الكاتب تأصيله، فالله تعالى يقول: (( وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ تَفَرَّقُواْ وَاخْتَلَفُواْ مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُوْلَ_ئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ )) (آل عمران:105) ، وقوله تعالى: (( وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ * إِلاَّ مَن رَّحِمَ رَبُّكَ.. )) (هود:118-119)، فجعل الرحمة في مقابل الاختلاف، فدل ذلك على أنّ الاختلاف ليس برحمة، بل هو شرّ ونقمة، وإن كان الله قد أراده كوناً، لا شرعاً، وأنّ الحقّ واحد لا يتعدد، وتأويل الآيات على غير ما جاءت له سمة بارزة من سمات أصحاب هذا الفكر الاعتزالي كما سبق في مبحث جهلهم.

ثمّ يواصل الكاتب جهله فيقول مقلداً للجابري: " كان فيروس الضيق قد تحدد سلفاً في الفكر العربي حيث دشّن الخوارج ومباينوهم في الطرف القصيّ من المعادلة ( الأمويون وشيعتهم ) مبدأ ثنائبة القيم الذي يقول عنه المفكر المغربي محمد عابد الجابري إنّه مبدأ (إمّا وإمّا ) ولا مجال لحطّ الركاب بينهما، إمّا مع وإّما ضدّ، إمّا مسلماً وإمّا كافراً، وإمّا ناجياً وإمّا هالكاً، وإمّا مقتفياً وإمّا مبتدعاً.."

إنّ هذه الثنائية التي ذكرها مقلداً الجابري، قد نصّ الله عليها في كتابه الكريم، فقال سبحانه: (( هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنكُمْ كَافِرٌ وَمِنكُم مُّؤْمِنٌ.. )) (التغابن:2) ، وقال سبحانه: (( إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً )) (الإنسان:3) ، فهي ذات الثنائية ( إمّا وإمّا ).. والذي أراده الجابري ولم يتفطّن له الكاتب أو تفطّن له ووافق عليه، هو تقرير مذهب الاعتزال القائل بأن مرتكب الكبيرة في من_زلة بين المن_زلتين ( لا مؤمن ولا كافر )، ولهذا قال: ( ولا مجال لحطّ الركاب بينهما )، وهو تقرير في غاية الخفاء والخبث، ويشبه فعل صاحب تفسير الكشّاف المعتزلي في تقريره لمذهب الاعتزال في تفسيره، حتى قال البلقيني رحمه الله: " استخرجت من الكشّاف اعتزاليات بالمناقيش ".. وهذا يحدث في صحيفة سيّارة تصدر في بلاد التوحيد التي قامت على العقيدة السلفية النقيّة، وفي ظني أنّ ولاة أمرنا _ وفقهم الله لطاعته _ لو تنبهوا لذلك لما رضوا به..

ولا يكتفي الكاتب بذلك، بل يختم مقاله بتوجيه بعض الشتائم، والانتقاص لأهل السنة وسلف الأمّة، ويضيف إلى ذلك بعض النصوص الحديثية، بطريقة فاضحة لا تدلّ على مقصوده، وما أقبح الجهل والتعالم إذا اجتمعا..

يقول _ وتأمّلوا ما تحته خط _: " إنّ أكبر مشكلة واجهت الفكر العربي الإسلامي حين مواجهته مشكلة التعددية، وبالذات من النصف الأوّل من القرن الثالث الهجري، وهي ظن أولئك المتحذلقين والمتقوقعين حول فهومهم الخاصّة أنّهم بنفيهم وإقصائهم لخصومهم إنّما هم آخذون بحجزهم عن النار، وهؤلاء المخالفون ما فتئوا يتفلّتون منهم ويقعون فيها في تصنيف حصري لحقّ النجاة لفهوم بعينها دون بقيّة الأفهام المباينة والمقاربة... ".

فهو يعدّ تصدي سلفنا الصالح لأصحاب الفرق الضالة، والردّ عليهم، أكبر مشكلة واجهت الفكر العربي الإسلامي، ويخصّ النصف الأّوّل من القرن الثالث الهجري، لأنّه وقت نشوء فرقة المعتزلة التي جنّد نفسه للدفاع عنها، ويلاحظ شتائمه التي وصف بها أهل السنة وسلف الأمّة: ( المتحذلقين المتقوقعين حول فهومهم الخاصّة )، والتهم التي وجهها ( النفي والإقصاء للخصوم )، والتعريض بالحديث النبوي الشريف الذي يُشبّه فيه النبي r المتهافتين على الباطل _ كهذا الكاتب وأمثاله _ كالفراش المتهافت على النار.. وتعريضٌ آخر بحديث الفرقة الناجية الوحيدة دون سائر فرق الضلال، ويصف ذلك ساخراً بلفظ سوقي فضائي بأنّه: ( تصنيف حصري لحقّ النجاة لفهوم بعينها دون بقية الأفهام.. ) ويريد بذلك فهم السلف الصالح!!!، فما حكم من استهزأ بالنصوص الشرعية ؟!.

ثم يستشهد على ما ذهب إليه من التعددية بقوله: " ومن ثمّ يتساءل الإنسان كيف حاص أولئك [ يعني السلف الصالح ] عن حياض المنهج النبويّ الكريم حين كان r يقرّ أصحابه على تباين أفهامهم لما كان يلقي عليهم من نصوص ( قصّة الصلاة في بني قريظة مثلاً ) وعن مسار الصحابة بعده على هذا المنهج المتفرّد في قراءة النصوص، وامتثال مكنوناتها ( اختلاف عمر بن الخطّاب وأبي بكر حول الكيفية التي ينبغي بواسطتها مجابهة مانعي الزكاة فكلاهما انطلق في تفسيره من ذات النصّ ) .. " ا. ه_ واستشهاد الكاتب بهاتين الواقعتين فيه جهل عظيم، وتلبيس واضح، وبعد كبير جداً عما أراد التوصل إليه، وهذه هي طريقة هذا الفكر الاعتزالي في التعامل مع النصوص، فأمّا الحادثة الأولى، فهي اختلاف في مسألة فقهية فرعية لا تعلّق لها بمسألة الاعتقاد والإيمان، لذا أقرّ النبي r الفريقين.. ومثل هذا الاختلاف لم يزل موجوداً عند أهل السنة حتى وقتنا الحاضر، وليس فيه تثريب إذا صدر من مؤهل.. وأمّا اختلاف عمر مع الصديق y في قضية مانعي الزكاة، فهو ليس اختلافاً، وإنّما هو إشكال وقع في نفس عمر، فما لبث أن زال بعد ذلك وحصل الاتفاق على ذلك الأصل، والكاتب _ للتلبيس _ لم يذكر تمام القصّة، وهو قول عمر بعد أن زال عنه الإشكال: " فو الله ما هو إلا أن رأيت الله قد شرح صدر أبي بكر للقتال، فعرفت أنّه الحقّ "، فأين في هذين الحادثتين ما يدلّ على ما أراد أن يقرره الكاتب من التعددية في أصول الدين والإيمان والاعتقاد ؟!!

ومن قبيل هذا الخلط والتلبيس المتعمّد بين الأصول والفروع، يذكر أحدهم _ وهو أشدّهم تطرّفاً وخبثاً _ في مقال له بعنوان ( المعاصرة وتقليدية التقليدي ) الرياض: 13366، بعد الخلط المتعمّد بين السلفية الحقّة والسلفية المدّعاة أنّ " السلف لم يتفقوا إلا على القليل(!)، واختلفوا على الكثير، فعن أيّهم يأخذ ؟ " يعني السلفي، ثم يذكر مسألة واحدة _ واحدة فقط _ اختلف فيها السلف، وهي خروج الحسين بن عليّ على الحاكم، ومخالفة بعض الصحابة له في هذا الخروج رضي الله عنهم جميعاً، وهذا الاختلاف ليس في أصل المسألة، وإنّما هو في بعض تطبيقاتها مع ما صاحب تلك الحادثة من ظروف وملابسات خاصّة، والقول بأنّ السلف لم يتفقوا إلا على القليل _ من مسائل الاعتقاد _ قول في غاية التجني والجهل بأحوال السلف ومنهجهم وعقيدتهم، وهو من أعظم التلبيس على عامة الناس، بل المعروف عند صغار أهل العلم، أنّ السلف الصالح في مسائل الاعتقاد الكبرى لم يختلفوا إلا في مسألة واحدة أو مسألتين، وبعض العلماء يعدها من قبيل الخلاف اللفظي لا الحقيقي.

وفي سياق الحديث عن الفرق الضالة، يتباكى أحدهم على إقصاء تلك الفرق المارقة بل _ وحتى الإلحادية منها(!) _ في مقال له بعنوان ( تلاشي الفكر العربي ) الوطن: 980، فيقول: " نحن حتى اليوم(!) لم نقف على قراءة صحيحة للقضايا الكبرى أو حتّى الصغرى(!) في فكرنا، ولا للحركات الدينية التي مارست أشكالاً متعدّدة من حركات النقد للموروث بطريقة أو بأخرى، سواء الحركات الإلحادية أو الصوفية أو المعتزلية أو حتى الحركات الشعرية، فمن التجنّي إقصاء كلّ هذا الموروث وعدم الإفادة منه(!!!).."، ولا أدري ما الذي يريد بالقراءة الصحيحة التي لم نقف عليها حتى اليوم، ووقف عليها هو وأضرابه؟! وليست القضايا الكبرى فقط، بل حتى الصغرى !!!!. كما لا أدري ما الذي سنفيده من الحركات الإلحادية، والصوفية والمعتزلية الضالة ؟!!.

1- الطعن في مذهب السلف، والتندر به، وكيل التهم له بلا حساب..

في مقال بعنوان: ( التاريخ وأزمة الفكر الإسلامي ) الرياض: 13688، كتب أحدهم _ وهو أشدّهم تطرّفاً _ مقالاً تحدّث فيه عن مسألة عقدية، وهي الكف عما شجر بين الأصحاب، وترك الخوض في ذلك، لأن الله U أثنى عليهم جميعاً، فهم ما بين مجتهد مصيب فله أجران، ومجتهد مخطيء فله أجر واحد، وهذا مما اتفق عليه أهل السنة والجماعة، ولذا يذكر في كتب العقائد، وقد عدّ الكاتب هذه العقيدة المتفق عليها عقبة تقف _ حسب زعمه _ دون تحقيق الحدّ الأدنى من الموضوعية العلمية(!)، ثم يقول بأسلوب ماكر خفي: " دراسة طبيعة الفكر الديني، وتتبع مراحل تشكله في فتراته الحاسمة تواجه الرفض في مجتمعات تقليدية لا تزال تستعصي على العلمية، وتتماهى مع الأسطرة(!)، بل والخرافة بوعي منها بهذا التماهي وما يتضمنه من مدلولات في الفكر والواقع أو بلا وعي. وهذا الرفض إما أن يكون رفضاً للدراسة ذاتها أي للمراجعة الفاحصة باعتبارها تتناول ميداناً مقدّساً لا يجوز الاقتراب منه، وإما أن يكون رفضاً للآلية ( المنهج النقدي) التي تجري مقاربة الموضوع بواسطتها، وفي أكثر الأحيان يجتمع السببان كمبرر للرفض"، أستاذ اللغة العربية، وصاحب الفكر الاعتزالي المنحرف، الحاقد على منهج السلف، يريد أن يخضع تاريخ الصحابة الأطهار y للفحص والمراجعة!!!، أمّا الآلية التي يريد أن يسلكها فهي آلية شيخه الجابري والتي تتلخص في انتقاء بعض الصور القاتمة من بعض المصادر المشبوهة التي لا تميز بين الغث والسمين، وجعلها مناطاً للأحكام والنتائج، هذه هي الموضوعية التي يتحدّث عنها(!).

ثم يقول: " لا شيء يزعج البنى التقليدية الراسخة في الأعماق الوجدانية [ يريد عقيدة أهل السنة ] سوى إعادة فحص الحدث التاريخي، والنظر إليه من خلال أبعاد أخرى(!) غير التي اعتادت التقليدية أن تقدمه بها "، إنه يريد منا أن نسلك منهجاً آخر غير منهج أهل السنة والجماعة في تقرير العقائد، ليفتح الباب على مصراعيه لكل مبتدع وحاقد وموتور ليقرر ما يريد، وتالله ذلك هو الضلال البعيد..

ثم يواصل: " مما يعني أن الأشخاص ( الذوات المقدسة صراحة أو ضمناً ) ستكون على المحك، ولن تبقى كما هي عليه من قبل في تراتبيتها التي تتغيا الفكرة _ براجماتياً(!) _ في النهاية "، وهذا هو مربط الفرس عنده: النيل من الصحابة، على حد قول أهل الاعتزال: (هم رجال ونحن رجال ) وشتان بين أولئك الرجال وهؤلاء أشباه الرجال ولا رجال..

ثم يضرب مثالاً للذوات التي يصفها بالمقدّسة بالخلفاء الراشدين y ومذهب أهل السنة في ذلك أن التفاضل بينهم على حسب ترتيبهم في الخلافة، لكنّ هذا الكاتب لا يروق له ذلك، ويعده أمراً مبيتاً في الضمائر قبل وجوده(!!!)، يقول: " جرى الحدث التاريخي فيما يخص السلطة على التراتبية المعروفة بالنسبة للخلفاء الراشدين رضوان الله عليهم أجمعين، ومع أنه _ أي الترتيب التاريخي للخلفاء _ كان حدثاً تاريخياً مجرداً إلا أنه قد جرى تحميله معنى دينياً في تراتبية الأفضلية لهؤلاء، وهنا يظهر أثر الحدث التاريخي الواقعي _ بأقصى حدود الواقعية الصريحة _ على الفكري، وكيف جرى ضمه إلى مجمل المنظومة العقائدية بوصفه معبراً عن مضمر عقائدي كان موجوداً قبل وجوده المتعين في الواقع "، فهو لجهله _ أو خبثه _ يرى أن ترتيب الخلفاء كان حدثاً تاريخياً مجرداً..!! ولم يكن الأمر كذلك، بل إن الصحابة y اجتهدوا في تعيين الأفضل، بدليل أنهم توقفوا طويلاً بعد موت عمر t أيهما الأحق والأفضل عثمان أم علي، وكان عبد الرحمن ابن عوف t يطوف حتى على العذارى في خدورهن يسألهن حتى انتهى الأمر إلى تقديم عثمان t. ولهذا يقول أحد السلف: " من فضل علياً على عثمان فقد أزرى بالمهاجرين والأنصار "، فكيف يقال إن ترتيب الخلفاء الذي اتفق عليه أهل السنة والجماعة كان حدثاً تاريخياً مجرداً ؟! لكنه الجهل والهوى، وإذا كانوا قد اختلفوا في عثمان وعلي، فإنهم لم يختلفوا في أبي بكر وعمر.. .

ولا يفوته في مقاله هذا أن يعرج على الصحابي الجليل، وكاتب الوحي معاوية t ويتهمه ببعض التهم الجائرة التي تنال من عدالته ونزاهته بناء على ما قرره سابقاً من الفحص والمراجعة(!)، ثم في نهاية مقاله يتباكى على مذهبه الاعتزالي العقلاني فيقول: " لا شك أن هذا يفسر كيف أن تيار العقلانية لا يظهر في مكان من العالم الإسلامي إلا ريثما يندثر، لا يتم هذا بقرار سلطوي في الغالب، وإنما بإرادة جماهيرية لا تزال تتدثر بلحاف الخرافة الصريحة أو الخرافة التي تؤسس على هذا القول أو ذاك "، وشتم الجماهير سمة بارزة من سماتهم كلما عجزوا عن بث فكرهم المنحرف، وستستمر الجماهير المسلمة التي تتدثر بلحاف أهل السنة والجماعة في رفض هذا الفكر الضال الذي ينال من ثوابتها وعقيدتها الراسخة ورموزها الشامخة ولو كره أدعياء العقلانية والتنوير بل التزوير.

وتقريراً لهذه العقيدة يقول شيخ الإسلام ابن تيمية _ رحمه الله _ في الواسطية: " ومن أصول أهل السنة والجماعة: سلامة قلوبهم وألسنتهم لأصحاب رسول الله y كما وصفهم الله في قوله تعالى: (( وَالَّذِينَ جَاؤُوا مِن بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلّاً لِّلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ)) [الحشر:10]، وطاعة النبي r في قوله: (( لا تسبّوا أصحابي، فوالذي نفسي بيده لو أنّ أحدكم أنفق مثل أحد ذهباً، ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه )) ، ويقبلون ما جاء به الكتاب والسنة والإجماع من فضائلهم ومراتبهم .." إلى أن قال: " ويتبرؤون من طريقة الروافض الذين يبغضون الصحابة ويسبونهم، وطريقة النواصب الذين يؤذون أهل البيت بقول أو عمل، ويمسكون عما شجر بين الصحابة، ويقولون إن هذه الآثار المروية في مساويهم منها ما هو كذب ومنها ما قد زيد فيه ونقص وغُيّر عن وجهه، والصحيح أنهم معذورون إما مجتهدون مصيبون وإما مجتهدون مخطئون، وهم مع ذلك لا يعتقدون أن كل واحد من الصحابة معصوم.. " آخر ما ذكر.

هذا مثال واحد على طعنهم في عقيدة السلف والتشكيك فيها بطريقة ماكرة خفية، لا تخلو من مسلك التقية، مع ما فيها من التصريح ببعض ما تكنه نفوسهم، ومع هذا فهم يشتكون من عدم تمكنهم من قول كل ما يريدون. كفانا الله شرهم.

وفي مقال بعنوان: ( هيمنة الخرافة ) الرياض: 13566، يسخر آخر _ وكان تكفيرياً فصار مرجئاً _ من عقيدة من عقائد أهل السنة والجماعة، وهي إثبات كرامات الأولياء، _ وهي عقيدة ثابتة بالكتاب والسنة _، فيعدّها من الخرافة، ثم يقرر(!!) أنّ الخرافة والعقل ضدان لا يجتمعان!! ولا أدري أي عقل يقصد، فعقله يرى أنها خرافة، وعقول أئمة أهل السنة والجماعة بناء على ما جاء في الكتاب والسنة يرون أنها عقيدة ثابتة، فإلى أي عقل نتحاكم ؟ ثم يخلط الكاتب _ وهذه عادتهم في الخلط والتلبيس _ بين هذه العقيدة الثابتة وبين بعض الاجتهادات البشرية من بعض المجاهدين أو بعض المنحرفين فكرياً، وهذا الخلط منهج فاسد يدل إما على الجهل الفاضح، وإما على الهوى الواضح، للتوصل إلى أغراض في نفس الكاتب..

وتقريراً لهذه العقيدة يقول شيخ الإسلام ابن تيمية _ رحمه الله _ في الواسطية: " ومن أصول أهل السنة: التصديق بكرامات الأولياء، وما يجري الله على أيديهم من خوارق العادات.. "..

ومن سماتهم البارزة: الخلل العقدي الواضح في كتاباتهم، وذلك ناتج عن تلوث المصادر الفكرية التي ينهلون منها، وهل تلد الحيّة إلا الحية!..وقد سبق شيء من انحرافاتهم العقدية، ويضاف إليها:

1. نسبة الإعطاء والمنح والضرب للطبيعة(!)..

يقول أحدهم في مقال له بعنوان: ( الثقافة والإرهاب علاقة تضادّ ) الرياض: 13772، عازفاً على وتر الإرهاب والإنسانية: " والإرهاب تنكّر للبعد الإنساني في الإنسان، ومحاولة جنونية للرجوع إلى ما قبل الفطري والإنساني، أي أنّه محاولة رجعية ليست للقضاء على مكتسبات الأنسنة(!) فحسب، بل وللقضاء على ما منحته الطبيعة فطرياً للإنسان "، وسيأتي الحديث عن موضوع الأنسنة لاحقاً بإذن الله تعالى.

وفي مقال له بعنوان: ( المرأة من الأيديولوجيا إلى الإنسان ) الرياض: 13758، يكرر هذا الخلل العقدي مع عزفه المعتاد على وتر الإنسانية، وشتم السلفية، يقول: " ربّما كان من قدر المرأة لدينا أن تواجه أكثر من سور منيع يحول بينها وبين الحصول على أقلّ القليل من حقوقها الفطرية، تلك الحقوق التي منحتها إياها الطبيعة ابتداء.. "، وهكذا تصبح الطبيعة الجامدة هي المانحة ابتداء(!!!)، أليس هذا هو منطق الإلحاد ؟.

وفي السياق نفسه يقول آخر في مقال له بعنوان: ( إعصار كاترينا وعصارة الكره ) الرياض: 13607، وهو يتحدّث عن الإعصار الذي ضرب أمريكا: " ما ذنب أطفال وشيوخ وعجائز وأبرياء ضربتهم قوى الطبيعة(!) حتى غدوا كأنهم أعجاز نخل خاوية أن نحملهم وزر حكوماتهم في أخف المبررات(!) أو نربط بين ما حل بهم وبين ما مارسوا فيه حقهم المضمون(!) من رب العالمين في اختيار المعتقد الذي يريدونه في أسوأ المبررات.."، فربنا جل وعلا يقول: (( ذَلِكَ جَزَيْنَاهُم بِمَا كَفَرُوا وَهَلْ نُجَازِي إِلَّا الْكَفُورَ )) [سبأ:17 ]، والآيات في هذا المعنى كثيرة جداً، والكاتب يقول: لا تسمعوا لكلام الله بل إنّ الضارب والمهلك هي قوى الطبيعة!!!. أمّا الكفر الذي هو ظلم للنفس قبل أن يكون جريمة يستحق صاحبها العذاب، فهو عند الكاتب حق مضمون من رب العالمين لأولئك الكفرة..!! فأي خلل أعظم من هذا الخلل العقدي الصارخ.

ثم يضيف إلى هذه الخلل خللاً آخر أطم فيقول: " لماذا لا نجيد إلا التشفّي والتمني بالمزيد بعد أن قصرت بنا الثقافة المنغلقة عن إشاعة ثقافة العون والمساعدة المنبثقة من روح الأخوّة الإنسانية التي تشكل أصلاً من أصول الإنسان العظيم الإسلام في صفائه ونقائه وعزته وإنسانيته قبل أن تختطفه قوى الظلام والكراهية لتجعل منه أيديولوجية ساخطة على العالم كله.." ، والأخوّة الإنسانية التي يتحدث عنها سيأتي الحديث عنها بشكل مفصل بإذن الله، أمّا التشفي فلا أعلم قوماً أشدّ تشفياً من هؤلاء القوم، لا سيما مع خصومهم السلفيين، وقد رأينا قمة هذا التشفي في حادثة حريق الرئاسة، نثراً وشعراً ورسماً، وبكائيات عجيبة لوفاة بضع فتيات من آثار التدافع والهلع، لا بسبب الحريق.. ولم يقتصر الأمر على هذا بل حاولوا الزج بهيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في هذه القضية زوراً وبهتاناً، وبطريقة قذرة، لولا تصريحات المسؤولين المبرئة للهيئة.. ثم هم ينكرون تشفي (بعض) المسلمين المظلومين الذين فقدوا الكثير من أولادهم وأعزائهم والكثير من أموالهم وممتلكاتهم بسبب الجبروت الأمريكي المدمر في كثير من بلاد المسلمين.. ثم أي أخوّة إنسانية مع قوم يمتهنون المصحف الشريف في سجونهم، ويسخرون من سيد الخلق وخاتم المرسلين عليه من ربه أفضل الصلاة وأتم التسليم.

2. الدفاع عن القبوريين وأصحاب المذاهب الكفرية..

ففي مقال له بعنوان: ( نحن والخوارج إلى أين ) الرياض: 13716، يقول الكاتب السابق، بعد أن قرر أن مرجعية من وصفهم بالخوارج هي السلفية ( التقليدية ): "إننا نريد أن نعرف من هؤلاء الخوارج القعدة هل نحن أي كدولة ومجتمع في نظرهم مسلمون أم لا؟ " إلى أن يقول: " أنا هنا لا أقصد موقفهم من عموم المجتمعات الإسلامية، لأنها في تصنيفهم العام غير المفصل كافرة إما لأنها لا تحكم بما أنزل الله أو تسكت عن الحاكم في هذا الأمر وإما لأنها بدعية أو مذهبية أو قبورية أو حزبية.. إلخ هذا الهراء وإما لا تنكر كل ذلك ".. والقبوريون هم عبّاد القبور، المعظمون لها بالذبح والنذر والسجود وغير ذلك من أنواع الشرك الأكبر، وهؤلاء لا شك في كفرهم، والكاتب يجعل ذلك من الهراء، وهذا خلل كبير في الاعتقاد، فإنّه إذا كان تكفير المسلم الموحّد لا يجوز، فكذلك عدم تكفير الكافر هو أيضاً لا يجوز، وهو تطرّف مضاد للتطرف الأوّل الذي أراد أن يحذر منه..

وأمّا حديثه عن الدولة والمجتمع، وتمسحه بذلك فهو من باب التقيّة التي يشتركون فيها مع الرافضة، وذلك أنّهم أصلاً لا يرون شرعية هذه الدولة السلفية ( الوهابية ) لأنّها غير ديموقراطية في نظرهم، أي غير منتخبة من الشعب، وهم يسعون لتحقيق مشروعهم التغريبي الغربي إلى إزاحة هذه الدولة، لإقامة دولتهم ( الإنسانية ) المرتقبة التي لا دين لها ولا مذهب ولا طعم ولا لون ولا رائحة.!!!.

وأمّا المجتمع الذي يزعمون تكفيره من قبل الخوارج القعدة، فهو المجتمع الذي استعصى عليهم ولذا فهم يرمونه _ على سبيل الشتم _ بالتجهيل أو على حدّ تعبيرهم كما سبق: (الجماهير البائسة الظامئة )، و(جماهير الغوغاء )، و( الجماهير المجهّلة )، و(الجماهير الغائبة المغيّبة )، و(المجتمعات المحافظة الأصولية )، وهي الآن بعد هذه الشتائم أصبحت متهمة بالكفر من قِبَل من يزعمون أنهم قد اختطفوها، فأي تناقض بعد هذا التناقض الحادّ ؟!!.

3. الخلل في مفهوم الولاء والبراء..

وقد كتب أحدهم _ وهو أكثرهم حديثاً عن العقائد وأشدّهم جهلاً _ مقالاً بعنوان: ( فلسفة الولاء والبراء في الإسلام ) الرياض: 13546، وقرر مفهوماً غريباً للولاء والبراء، يفرّغه من مضمونه الشرعي الذي أراده الله U ، بل يضاده ويخالفه، يقول: " وهو يشي بعلاقات سلمية قوامها الصلة والإحسان والبرّ ودعم ممكنات السلام الإجتماعي الذي أتى الإسلام ليجعلها الأصل في حياة الناس قبل أن تختطفها جماعات الإسلام السياسي لتجعل بدلاً منها العنف والقتل والدمار هو الأساس في علاقة الإسلام بغير من الديانات الأخرى افتئاتاً على الله تعالى ورسوله ومكراً للسوء ولا يحيق المكر السيّء إلا بأهله ".. فهو يخلط بجهل فاضح بين عقيدة الولاء والبراء التي قوامها ولبّها وروحها: الحب والبغض وموالاة المسلم أيّاً كان، والتبري من الكافر ومعاداته أيّاً كان، وبين معاملة الكفّار والتفريق بين من كان منهم محارباً، ومن كان منهم مسالماً.. وبغض الكافر ومعاداته كما قال الله عن الخليل إبراهيم u: (( قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَاء مِنكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاء أَبَداً حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ إِلَّا قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَمَا أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِن شَيْءٍ رَّبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ )) [الممتحنة:4]، فنحن نبغض الكافر ونعاديه بقلوبنا من أجل كفره، لكن ذلك لا يمنعنا من بره إذا كان قريباً مسالماً كالوالدين ونحوهما، وكذلك لا نظلمه بل نقسط إليه، ونحسن معاملته ترغيباً له في ديننا، ومن أجل إنقاذه من الكفر الذي هو فيه، بل إنّ عقيدة الولاء والبراء لا تختص بالكافر، بل تشمل حتى العاصي، فنبغضه لمعصيته، لكن نحبه من وجه آخر لما عنده من الإيمان والإسلام، فمن لم يبغض الكافر لكفره، والعاصي لمعصيته، فلديه خلل في هذه العقيدة العظيمة، وما تأخر المسلمون، ولا تسلط عليهم العدو، إلا لتخليهم عن هذه العقيدة، أو اختلال مفهومها لديهم.

ولم يقف الأمر عند هؤلاء على مجرد الاختلال في المفهوم، بل تجاوزه إلى ما هو أعظم من ذلك، ألا وهو إلغاء هذه العقيدة من أصلها(!)، يقول أحدهم في مقال له بعنوان: (الخطاب الديني وضرورة التجديد ) الجزيرة: 11595، عن مفهوم الولاء والبراء: "هذا المفهوم كان في الماضي، وفي زمن عدم وجود ( الدولة ) بمعناها وشكلها الحالي، ضرورة احترازية، ودفاعية وقائية مهمة، فقد كان بمثابة آلية عالية الفعالية آنذاك لمنع ما يمكن أن نسميه بلغة اليوم ( منع اختراق مجتمعاتنا من الآخر ) في حقبة كان الصراع والتطاحن فيها بين الأمم والثقافات هو السمة الطاغية على العلاقات الدولية، أما اليوم فقد تغير الوضع حيث أصبح التعاون بين الأمم(!!!) وتكريس كل ما من شأنه إثراء هذا التعاون، هو الثقافة السائدة بين شعوب الدنيا، لهذا فإن التغير النوعي في العلاقات الدولية الذي نعايشه اليوم كان يجب أن يتبعه تغير مواكب في مفهومنا للولاء والبراء بالشكل الذي يحافظ على فعالية هذا المفهوم.."، وقد ذكرني قوله ( ضرورة احترازية ودفاعية وقائية ) بالحرب الاستباقية الوقائية التي دشنها ( الآخر ) في ظل التعاون الدولي بين الأمم(!) دفاعاً عن نفسه، ولو كان ذلك مبنياً على استخبارات خاطئة أو مبالغ فيها، وهي ليست مجرّد عقيدة في القلب، أو بغض باللسان، وإنما حرب بالأسلحة المدمرة وربما المحرمة دولياً التي لا تفرق بين المحارب والمدني، ويبدو أن مفهوم هذه العقيدة قد انتقل إلى ذلك الآخر في حين غفلة منا، فكان علينا التخلي عنه.. أما التعاون بين الأمم! فصحيح لكنه ضد الإسلام وأهله، كما في فلسطين والعراق وأفغانستان وغيرها مما يطمع فيه ( الآخر )..

ويستشهد الكاتب المذكور على ما ذهب إليه من تعطيل مفهوم الولاء والبراء، بقول كبيرهم الجابري الذي يقول: " إذا تعارضت المصلحة مع النص، روعيت المصلحة(!) باعتبار أن المصلحة هي السبب في ورود النص، واعتبار المصلحة قد يكون تارة في اتجاه، وتارة في اتجاه مخالف(!!!!!!) "، فتأملوا هذا القول العجيب الذي يفترض تعارض المصلحة مع النص، ثم من الذي يحدد المصلحة ؟، وكيف يكون اعتبار المصلحة تارة في اتجاه، وتارة في اتجاه مخالف ؟ فما قيمة الدين حينئذ، إذا كانت ثوابته عرضة للاعتداء والإلغاء بحجّة المصلحة المزعومة ؟.. نعم قد يتخلى المسلم عن عقيدة الولاء والبراء ظاهراً في حالات استثنائية خاصة جداً، لكنها تبقى عقيدة قلبية لا يجوز له أن يتخلى عنها: (( مَن كَفَرَ بِاللّهِ مِن بَعْدِ إيمَانِهِ إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ وَلَ_كِن مَّن شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِّنَ اللّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ )) [النحل:106].

4. الثناء على الفرق الضالّة، وخصوصاً المعتزلة التي تتخذ من السلفية خصماً تقليدياً لها، والدفاع عنها، بل الدعوة إليها !!...

ففي مقال بعنوان: ( الخوف من النقد ) الرياض: 13509، كتب أحدهم يستنكر فزع خصومه السلفيين عند شتم مذهب السلف، وكيل التهم للسلفيه بلا حساب ولا برهان، والذي يعدونه من النقد!!. ويقرر بفهم مغلوط ومنقوص للآية الكريمة: (( وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ )) [هود:118]، أنّ الاختلاف بين البشر أمر جبلي قد فُطر عليه البشر، وليس بمذموم، ولو أتمّ الآية لتبين له خطأ ما ذهب إليه، فإنّ الله قال بعدها: (( إِلاَّ مَن رَّحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لأَمْلأنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ )) [هود:119]، فجعل الاختلاف مقابل الرحمة، وقوله (( وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ )) قيل للاختلاف. وقيل للرحمة. وقيل للأمرين: فريق في الجنة وفريق في السعير، وهو الصحيح. ولذا ختم الآية بتوعد الكافرين من الجن والإنس بنار جهنم، ولم يعذرهم بكفرهم بحجة أنّ الاختلاف أمر جبلي فطري كما يقول هذا الكاتب الجاهل، ويدلّ على أنّ الأصل هو الاجتماع والاتفاق على التوحيد والإيمان الصحيح قوله تعالى: (( كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً..)) [البقرة:213]، وقد روي عن ابن عباس t أن الناس قبل نوح كانوا على التوحيد عشرة قرون، ثم حدث الاختلاف والتفرق بعد أن زين الشيطان لقوم نوح عبادة الأصنام وتعظيم الصور..فكان نوح u هو أوّل الرسل لمحو الشرك.

ثم يقرر هذا الكاتب " حق الآخر (الكافر)(!) في الاختلاف من زاوية عدم احتكار الحقيقة من جانب واحد!! أياً كان هذا الجانب... "..

ثم يقول مدافعاً عن المذهب الاعتزالي _ وهذا هو مربط الفرس لديه _: " هنا أجد أنّه من المناسب القول بضرورة إعادة النظر في المناهج الجامعية في الأقسام التي تدرس العقديات والمذاهب بحيث يجعلها تؤسس لنظرة تسامحية تنطلق من إبراز أهداف ومنطلقات الفرق المخالفة عندما أرست قواعد مذهبها _ خاصة الفرق الإسلامية الماضية المنظور لها على أنها مخالفة _ بدلاً من تكريس وضع منهجي يُنظر لها على أنها ذات أهداف خاصة لهدم الإسلام وتقويض بنيانه بحيث تتأسس المخرجات التعليمية البشرية على التعامل مع حق وحيد ورأي فريد هو ما تلقنه إياه تلك المناهج كحق حصري لمباديء مذهبه وقواعد مرجعيته "، وبعد هذا التلميح غير المليح، ينتقل إلى التصريح فيقول: " المذهب الاعتزالي مثلاً عندما أسس للنظرة العقلية في الإشراقات(!) المبكرة من تألق الحضارة الإسلامية كان له هدف نبيل واضح وهو محاربة الهجمة الشعوبية على الإسلام آنذاك المتخذة من مذهب الشك أساساً لإتيان بنيان الإسلام من قواعده، فكان أن قام المعتزلة بالتأسيس للمذهب العقلي القاضي بتقديم العقل(!!!!) على النقل كسلاح مماثل ووحيد لردّ تلك الهجمة على الإسلام... " إلى آخر ما ذكر من التلبيس وقلب الحقائق، فأما الشك الذي يتحدث عنه فهم أهله والداعون إليه كما سبق من دندنتهم حول أنّ أحداً ما _ أيّاً كان دينه ومذهبه _ لا يمتلك الحقيقة المطلقة، فأي شك بعد هذا الشك ؟!، وأما تقديم العقل على النقل فهو الضلال المبين، فكيف تكون السيئة حسنة يُمدح صاحبها ؟!، إن هذا من انقلاب المفاهيم..

ثم يختم مقاله بالتعريض بالحديث الشريف _ حديث الافتراق والفرقة الناجية _، وهو مخالف للعقل عندهم(!)، فيقول: " ومن ثم فإن الحاجة ماسّة لتأسيس جديد لأقسام العقيدة والمذاهب في الجامعات لتأسيس طلابها على النظرة المجرّدة(!) للمذاهب والفرق المخالفة عن طريق وضع مناهج تؤسس هي الأخرى للدراسة التاريخية المجرّدة(!) باستصحاب كامل لتأريخ نشأة تلك الفرق وأهمها الظروف السياسية التي صاحبت نشأتها وتأسيسها مذهبياً بدل أن تقدم للطالب باعتبارها فرقاً ضالة هالكة في مقابل فرقة ناجية وحيدة... "، أما التفسير السياسي للتاريخ والأحداث، واستبعاد الدين والعقيدة كمؤثّر رئيس، فذلك من أبرز سماتهم كما سيأتي، للتوصّل إلى ما يهدفون إليه من العلمنة.

وفي مقال لهذا الكاتب بعنوان: ( العقل قبل ورود السمع ) الرياض: 13688، الذي هو أصل من أصول المعتزلة، يثني الكاتب على هذا الأصل، الذي يعلي من شأن الفلسفة والمنطق وعلم الكلام المذموم، ويصف موقف السلف من ذلك بالركام الظلامي الراكد على ثقافتنا منذ قرون... أمّا تراجع بعض كبار أساطين الفلاسفة عنها، وتسجيل اعترافاتهم في ذمها، وأنها لا تشفي عليلاً، ولا تروي غليلاً، فيعدّه الكاتب في مقال له ساخر بعنوان: ( التراجعات المذهبية ) الرياض: 13572، مجرد دعوى لا حقيقة لها، وأنّ ما قالوه معظمه منحول عليهم، ولا يخفى ما في قوله هذا من اتهام للسلف بالكذب والافتراء على أولئك المتراجعين، ودفاع عن تلك الفلسفة البائسة العقيمة باعتراف أساطينها.

_ ومن السمات الظاهرة لأصحاب هذا الفكر: كثرة الحديث عمّا يسمونه ب_ ( امتلاك الحقيقة المطلقة ) وأنّ أحداً من الناس _ كائناً من كان _ لا يمتلك هذه الحقيقة، وهم لا يفرقون عن عمد بين أمور الاعتقاد (الثوابت )، وبين غيرها من الأمور الخاضعة للنظر والاجتهاد، بل ظاهر كلامهم ينصرف إلى هذه الثوابت للتوصّل إلى مرادهم، وهو التشكيك في مذهب أهل السنّة والجماعة، أو ما يطلقون عليه: ( السلفية التقليدية )، فلا أحد عندهم يمتلك الحقيقة المطلقة حتى في أصول الدين وأمور الاعتقاد التي أجمع عليها سلف الأمّة منذ فجر الإسلام، وإلى وقتنا الحاضر، فالمسلم الموحد، واليهودي، والنصراني، والمبتدع، كلّهم سواء من ناحية الحقيقة، لا حقّ لأحد منهم _ حسب زعم هؤلاء _ في امتلاكها(!) وهذا هو حالهم على الحقيقة، فهم حائرون تائهون مرتابون، أمّا نحن _ ولله الحمد والمنّة _ فليس لدينا شك في ديننا وعقيدتنا، فنحن مطمئنون موقنون. إمامنا في ذلك رسولنا الكريم الذي قال الله له: (( فَإِن كُنتَ فِي شَكٍّ مِّمَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ فَاسْأَلِ الَّذِينَ يَقْرَؤُونَ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكَ لَقَدْ جَاءكَ الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ )) (يونس:94) .

وفيما يلي بعض أقوالهم في هذه القضية التي أقلقتهم، وأقضّت مضاجعهم، وحالت بينهم وبين تحقيق مشروعهم التغريبي:

تقول إحداهم في مقال لها بعنوان ( الن_زعة الإنسانية ) الجزيرة: 11966 " تتميز التوجهات الفكرية المحافظة والمغلقة على نفسها، بالجمود والتشدد وعدم الرغبة في أيّ نوع من أنواع الاتصال مع المغاير أو المختلف، يرافق هذا شعور متأصل بالرعب والتهديد من العالم الخارجي، على اعتبار أنّ هذا العالم هو غابة من الشرّ والفساد والعهر.. حتى تصبح حالة من التيبس داخل طهرانية وأوهام بامتلاك الحقيقة المطلقة دون العالمين.."، ولا أدري عن أي مجتمع محافظ تتحدث _ وهي بالتأكيد تتحدث مجتمعنا السلفي المسلم المحافظ، لكنها لا تجرؤ على التصريح _، فهل يوجد اليوم مجتمع ليس لديه الرغبة في أيّ نوع من أنواع الاتصال مع المغاير والمختلف، يبدو أنّ الكاتبة تتحدث عن بعض مجتمعات مجاهل أفريقيا، أو الواق واق.. أمّا أوهام امتلاك الحقيقة المطلقة دون العالمين فهو الشاهد من هذا النقل التغريبي الواضح.

ويقول آخر في مقال له بعنوان: ( النظام المعرفي والهوية الثقافية ) الرياض: 13551: "..العنف ومن ثم التطرف ينتج غالباً من اعتقاد المجتمع عموماً ( وهو ما يربى أفراده عليه بالطبع ) بأنّه مالك خطام الحقيقة المطلقة في نظرته للناس والكون والحياة، ومن ثم فلا يجد سبيلاً لأداء مهمته في الحياة سوى إجبار الناس المخالفين على عدم إهلاك أنفسهم، وردهم لحياض الحقيقة المطلقة ".. وهكذا ينبغي للناس _ كما يريد الكاتب _ ألا تكون لديهم عقيدة ثابتة راسخة يقينية، يربيهم عليها علماؤهم، ليظلوا في ريبهم يترددون.

ويوضح هذا الكاتب ما أجمله في هذا المقال في مقال آخر له بعنوان: ( الخوف من النقد ) الرياض: 13509، فيقول: " يعتضد ذلك السلوك المبني على تضعضع الحجّة [ ويقصد به الرعب عند الطعن في الأصول ونقدها ] بانعدام التربية _ كجزء من الحالة الثقافية المعاشة _ على مراعاة حقّ الآخر في الاختلاف من زاوية عدم احتكار الحقيقة من جانب واحد، أيّاً كان هذا الجانب، سواء أكان فرداً أو جماعة أو هيئة أو مذهباً أو خلافه.. "، فلا فرق _ على رأي الكاتب _ بين مذهب أهل السنة والجماعة، وغيره من المذاهب الأخرى المنحرفة، وكلّ ذلك توطئة وتميداً للتبشير بفكرهم الليبرالي الاعتزالي التغريبي.

ويقول آخر _ وكان تكفيرياً فصار مرجئاً _ في مقال له بعنوان: ( أيضاً في الطائفية ) الرياض: 13503، وهو يساوي بين أهل السنة وبين الرافضة: " وكانت تنشأ في الإسلام [ أي الفرقة والاختلاف ] جرّاء صراعات مريرة بين الطوائف والفرق المتصارعة على النصّ الديني، يغذّيها الوهم الزائف بامتلاك الحقيقة.."، وهكذا أصبح التمسك بمذهب أهل السنة والجماعة وهم زائف بامتلاك الحقيقة!!!.

وفي هذا السياق يقول أشدّهم تطرّفاً وبذاءة في مقال له بعنوان: ( التفكير.. وإشكالية الوصاية ) الرياض: 13065: " وإذا عرفنا أنّ ( التفرّد ) في الفكر وفي الممارسة المادية، هو المتعين السلوكي لمعنى الحريّة، وأنّ الحرية هي جوهر المعنى الإنساني، وأنّ كلّ إنسان يولد _ على الفطرة _ حرّاً؛ أدركنا حجم الجناية التي ترتكبها الثقافة التقليدية البائسة في سعيها الحثيث لقولبة الأفراد وقسرهم على رؤى متشابهة إلى حد التطابق بإلزامهم بأقوال ختمت _ زوراً _ بختم المطلق الإيماني والثابت اليقيني، كي يتنازلوا _ طائعين _ عن ( فرديتهم/ إنسانيتهم/ وجودهم ) في سبيل أوهام التقليدية الميتة، وأشباحها الآتية من عصور الظلام والانحطاط ".. والثقافة التقليدية البائسة وأوهامها الميتة وأشباحها الآتية من عصور الظلام والانحطاط يريد بها السلفية التي يسمها بالتقليدية كما صرّح بذلك في المقال نفسه، بل إنّه ضرب مثلاً على ذلك بحادثة قتل الجعد بن درهم الذي أعلن كفره وإلحاده وتكذيبه للقرآن فقتله الخليفة آنذاك خالد القسري حداً لردته، فينبري هذا الكاتب مدافعاً عنه، فيقول" ولعلّه ليس من قبيل المصادفة أن يتغنى التقليدي في هذا الزمن الراهن بكل ما شهده ذلك الصراع التاريخي من قمع لمظاهر الاختلاف والمغايرة(!)، ويترحم على القاتل ويلعن المقتول، ويتمنى أمثالها قرابين ترضي مرضه السادي، ولا يزال التقليدي [ يعني السني السلفي ] يطرب كلما سمع أو تذكر قصّة الطاغية الذي ضحى يوم عيد الأضحى ب_ ( إنسان ) بدل أضحيته في أوائل القرن الثاني الهجري ".. وهكذا يتحوّل من يقيم حدود الله إلى طاغية، ويتحوّل الطاغية المرتدّ المكذب للقرآن وللرسول r إلى ( إنسان ) مسكين يستحق الشفقة، ويصبح إقامة الحد الشرعي جريمة !! إنّ هذا لعمر الله قلب للحقائق، بل هي ردة يجب أن يستتاب عليها هذا الكاتب.

وليته اكتفى بذلك، بل يواصل بذاءته ساخراً من الإمام الرباني ابن القيم رحمه الله وسائر علمائنا السلفيين بعده، وتلامذتهم، واصفاً إياهم جميعاً بالسفهاء(!!) فيقولً: " وأصبحت هذه الجريمة منقبة للقاتل يمتدح بها عبر القرون بحيث لا يخجل أحدهم _ وكان على علم _ أن يمتدحه في نونيته التي قالها بعد الجريمة بستة قرون فيقول: (لله درك من أخي قربان )، ويردده من خلفه السفهاء(!) وأشباه السفهاء(!) على مرور الأيام ".. فهل بعد هذا التطرّف من تطرّف، وهل بعد هذا الإرهاب الفكري من إرهاب ؟!!.

_ ومن سماتهم البارزة: العزف على وتر الإنسانية، في مقابل الأخوّة الإيمانية، وأخوّة العقيدة، وهذا بناء على ما قرّروه سابقاً من أنّ أحداً لا يمتلك الحقيقة المطلقة ! وقد كتب أحدهم مقالاً بعنوان: ( الإنسانية والطائفية: صراع الأضداد ) الرياض: 13754، يؤصّل فيه هذه الن_زعة الإنسانية شرعاً(!!) في جرأة متناهية حسب فهمه للنصوص ومقاصدها(!!) وبئسما ما فهم، فيذكر إن الإسلام جاء أوّلاً لتفكيك العصبية القبلية التي كانت سائدة عند العرب في الجاهلية، وعندما خلخل الأساس المعرفي القيمي التي تقوم عليه العصبية الجاهلية؛ قام بتجذير أساس قيمي جديد قوامه (( أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ )) (الحجرات:13) وهي نقلة نوعية متطورة _ كما يقول _ على طريق أنسنة(!) العلاقات في المجتمع العربي على أنقاض العصبية القبلية وما شاكلها من مقومات الطائفية(!)، ولأنّ القرآن كنص مؤسس لاجتماع جديد لا يستطيع وفق لقوانين الاجتماع البشري من جهة، ووفقاً لحركته ضمن جدلية التأثر بالواقع والتأثير فيه أن ينقل مجتمعاً غارقاً في قبليته كالمجتمع العربي القديم من أقصى قيمة سلبية _ كما هي العصبية القبلية _ إلى أقصى قيمة إيجابية _ كما هي الإنسانية المطلقة فقد بدأ باستبدال الأخوة التي تقوم على العصبية القبلية بالأخوّة التي تقوم على الرابطة العقدية من جنس (( إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ )) (الحجرات:10) ، ومن جنس: (( وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ )) (التوبة:71) ولكنها ليست تجسيداً نهائياً لأنموذج العلاقة التي يجب أن تحتذيها المجتمعات، بل إنّها لا تعدو أن تكون خطوة على طريق الأنسنة الشاملة ليس إلا، يؤيّد ذلك قوله تعالى (( وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ )) (الإسراء:70) وأيضاً : ((يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً)) (النساء : 1) انتهى كلامه بنصّه.

وهو كلام في غاية الخطورة والجهل والجرأة على النصوص الشرعية، حيث جعل النصّ المكيّ المتقدّم ناسخاً للنصّ المدني المتأخّر، وهذا لا يصحّ شرعاً ولا عقلاً، بل هو دليل على غاية الجهل والعبث بالنصوص الشرعية، لتقرير الن_زعة الإنسانية في مقابل الأخوة الإيمانية والرابطة العقدية التي يصنفها هذا الجاهل بأنّها من ضروب الطائفية(!!!).

وفي هذا السياق يقول أحدهم _ وهو أشدّهم تطرّفاً وحقداً على السلفية _ موضحاً ولكن بعبارات تمويهية في مقال له بعنوان: ( ما بعد الكائن النمطي ) الرياض: 13499: " فقدان المشروعية الإنسانية يتم عندما يتقدّم سؤال الهويّة _ أيّة هويّة _ على سؤال الإنسان، أي على حساب الإنسان.. عندما يبدأ التنميط بإيديولوجيا الهوية ينتهي الإنسان الفرد المحقق للمعنى الإنساني، ومن ثم ينتهي الإنسان "، فهو يرى أنّ إثبات الهوية، _ ويؤكد ذلك بقوله: (أية هوية) حتى تشمل الهوية الإسلامية والسلفية على وجه الخصوص كما نص على ذلك في بقية مقاله _ يكون على حساب الإنسان!! وهذه _ عنده _ بداية ما يسميه بالتنميط بإيديولوجيا الهوية، أي أن يكون للمسلم هوية وعقيدة تميّزه عن غيره، فذلك عنده يعني نهاية الإنسان..

ويؤكّد ذلك بقوله: " المجتمعات المحافظة _ والمنتجة للأصولية بالضرورة _ مجتمعات نمطية يشكل التنميط جوهر حراكها المعلن وغير المعلن، من حيث كونها ترتكز على وحدة القيم الصادرة عن وحدة الرؤية والمرجعية.. ".. فمن هي يا ترى هذه المجتمعات المحافظة والمنتجة للأصولية بالضرورة؟! وماذا يقصد بالأصولية؟ لا شك أنّه يقصد مجتمعنا السعودي المحافظ، بعقيدته السلفية الأصيلة، ومرجعيته المعتبرة، وقد أوضح ذلك فيما بعد من مقاله هذا بمن وصفهم ب_ " رموز التنميط الذين كانت تدور عليهم حراك الأيديولوجيا المحلية " وزعم أن هذه الرموز أصبحت _ بعد الانفتاح الإعلامي الهائل _ فضيحة إعلامية بعد أن وضعت على المحكّ في مواجهة رموز المعرفة الحداثية التي واجهها _ وانتصر عليها في الماضي _ بالأدلجة وبتجهيل الجماهير لا بالحوار المعرفي الجاد.. وهكذا تصبح رموز الحداثة المارقة رموزاً معرفية(!!)، أمّا الرموز الإسلامية بمرجعيتها الشرعية المعتبرة فهي تنميطية مؤدلِجة مجهلة للجماهير !!!

وفي مقال آخر له بعنوان: ( تأملات في الغضب الإسلامي ) الرياض: 13744، وذلك في أعقاب استهزاء الدنمارك بالرسول الكريم يقول: " يخيّل إليك _ أحياناً _ أنّ بعض أطياف الإسلامويّة(!) مبتهجة بالحدث لما تراه من تقاطع كثير من الأصوات الغاضبة مع شعاراتها، وإذا كنا لا بد أن نغضب _ مهما استخدم غضبنا لغير ما نأمل ونريد؛ فإننا لا بد أن نكون حذرين غاية الحذر في لغة الإدانة التي نختارها، كيلا نسهم في الحشد والتجييش لفصائل ليست من خياراتنا الحضارية(!)، بل تقف _ من خلال مجمل مضامينها _ على الضد من المنحى الإنساني الذي تجتمع عليه قوى التقدّم والتحرّر الإنساني(!) ".. فهو لم ينس خصومه الذي ينعتهم استهزاء بالإسلامويين حتى في هذه النازلة الكارثية التي لم يسبق أن اجتمع المسلمون جميعا عليها، كما لا ينسى أن يبشّر بمشروعهم التغريبي ذي المنحى الإنساني(!) الذي تجتمع عليه قوى التقدّم والتحرر الإنساني، في مقابل قوى التقليد والظلام والإرهاب والتأسلم والتخلف والتوحش والانغلاق والتطرف، وهي الأوصاف الذي أسبغها كما سبق على السلفية وكل ما تقطع معها من الحركات الإسلامية ولو من بعيد. أمّا قوى التقدّم والتحرّر الإنساني عنده فهي القوى الحاملة للواء الحداثة _ لا بوصفها منهجاً أدبياً فقط _ كما يصفها في مقال له بعنوان: ( المرأة والحداثة ) الرياض: 13457: فيقول: " نزل خطاب الحداثة إلى الواقع كخطاب نهضة واعدة، نهضة تتمركز حول الإنسان(!)، وتعنى بكل ما تقاطع مع البعد الإنساني، من مساواة(!) وتحرير، وديمقراطية.. الخ، وهذا الإنساني في خطاب الحداثة يعني _ بالضرورة _ أنه خطاب مهموم بالمسألة النسوبة بوصفها إشكالاً يلازم المجتمعات التقليدية التي تسعى الحداثة لتقويضها(!!!) "، فهو يصرّح بأنّ الحداثة تسعى إلى تقويض المجتمعات التي يصفها بالتقليدية، ويريد بذلك _ كما تدل عليه سائر مقالاته _ المجتمعات المسلمة المحافظة، وخاصّة السلفية منها كمجتمعنا، لكن هؤلاء الكتّاب على عادتهم لا يجرؤن على التصريح وتسمية الأشياء بأسمائها الحقيقية.

وفي مقال له بعنوان: ( إشكالية العنف الفلسطيني الإسرائيلي ) الرياض: 13401، يكثر من العزف على هذا الوتر _ وتر الإنسانية _ فهو يقرّر أوّلاً أنّ الصراع بين الطرفين ليس صراعاً عقدياً، ويَسِمُ من يعتقد ذلك بأنّه متطرّف: يقول: " المتطرّفون من هنا ( العرب والمسلمون ) ، ومن هناك ( الإسرائيليون ) يفترضون الصراع الدائر الآن صراعاً عقائدياً، لا مجرّد وقائع سياسية تقوم على دعاوى عقائدية ".. ولم يحدثنا الكاتب عن سبب اختيار اليهود لدولة فلسطين ( أرض الميعاد ) دون غيرها من بقاع الأرض، ولا عن هيكل سليمان الذي يراد بناؤه على أنقاض المسجد الأقصى، فكل ذلك في نظره ليس شأناً عقائدياً، والحقيقة أنّ اليهود أنفسهم هم الذين ألقوا في روع المسلمين أنّ هذا الصراع ليس عقائدياً ليأمنوا جيشان العقيدة في نفوس المسلمين، وليعزلوا الفلسطينيين المسلمين عن باقي المسلمين!

ثم يهزأ بالأحاديث الشريفة التي تُحدّث عن نهاية هذا الصراع، ومنها الحديث الذي أخرجه الشيخان عن أبي هريرة t أن رسول الله r قال: (( لا تقوم الساعة حتى تقاتلوا اليهود، حتى يقول الحجر وراءه اليهودي: يا مسلم، هذا يهودي ورائي فاقتله )) ولعلّ هذا الحديث لا تقبله عقولهم المريضة لأنّ فيه نطق الحجر، وهذا أمر مخالف للعقل عندهم، فيقول: " إنّهم يرونه صراعاً لا في لحظته الراهنة فحسب، وإنّما هو كذلك منذ البداية وحتى النهاية "..!!

ثم يبدأ العزف على وتر الإنسانية ساخراً ببعض النصوص الأخرى التي تفصّل في هذا الصراع، فيقول: " النهاية عقائدية كما يراها مَن هنا ومَن هناك، وهي ذات ملامح تفصيلية في ضمير الغيب الآتي، ملامح تلتهم إمكانيات الرؤية الواقعية الآنية، وتحدد خيارات الحوار(!) والحراك. إنّها رؤية إيمانية قطعية عند كلا الطرفين ومن ثم يصعب الحلّ تحت هذا السقف أو ذاك، فلا خيار للإنسان.. يتم تصوّر ما هو كائن وما سيكون بواسطة تفكير غيبي يلغي الفاعلية الإنسانية أو يكاد، ويؤطّر ما بقي منها لينتهي في مضمار الإلغاء.."، وهكذا يساوي بين الرؤية الإيمانية القطعية عند الطرفين، فلا فرق عنده بين ما يعتقده المسلمون حسب نصوص الكتاب والسنة التي تكفّل الله بحفظها، وبين ما يعتقده اليهود حسب نصوص توراتهم المحرّفة، ثم هو لا يفرّق أيضاً بين الفلسطيني المسلم صاحب الحقّ والأرض المغتصبة، وبين اليهودي الكافر المحتلّ الذي يمارس أبشع أنواع الإرهاب ضدّ الفلسطيني المسلم الأعزل، بل يرى أن لا ثوابت في هذه القضية أصلاً في ميدان الفعل السياسي، فيقول: " إنّ لدى الفلسطيني ثوابت! كما أنّ لدى الإسرائيلي ثوابت. وثوابت هذا تتناقض _ واقعياً _ مع ثوابت ذاك، لكنها ثوابت في التصور لا في الواقع، لأن الواقع _ وهو ميدان الفعل السياسي _ لا ثوابت له، ومن هنا فأية جراحة فكرية إنسانية لبنية التصور، كفيلة بأن تمهد للحل السلمي ، ليس الواقع صلداً كما يتصوّره كثير منا، أو كما يريدونه أن يكون، بل هو مفتوح على كافة الاحتمالات، شرط أن تتفتح لها الأذهان!!! ".

وبعد أن ساوى بين الطرفين، أخذ يتباكى على ضحايا هذا الصراع، ولو كانوا من اليهود الغاصبين المحتلين، ويصفهم بالأبرياء عازفاً على وتر الإنسانية، مع أنّ الشعب اليهودي كلّه مجند ضد الفلسطيني المسلم صاحب الأرض، يقول: " للأسف نحن لم ننظر إلى العنف نظرة محايدة، بوصفه ظاهرة لا إنسانية، تطال الإنسان، أيّاً كان هذا الإنسان، سواء كان فلسطينياً أو إسرائيلياً. ضحايا العنف في معظم الأحيان من الأبرياء(!!!) وحتى ما سوى ذلك، فإنه يبقي خلفه مآسي تطال أبرياء لا محالة. يجب ألا يغيب عن الوعي أن لهؤلاء وهؤلاء أمهات وأبناء وأزواج وأحباب تكاد قلوبهم تتفطر حزناً وألماً بعد كل مشهد من مشاهد العنف، تلك المشاهد التي ليست مقصورة على طرف دون آخر. هل انغرس في وعينا أن الإنسان هو الإنسان على هذا الطرف من أطراف الصراع أو ذاك، مهما حاول أحدهما قصر الإنساني عليه ؟! ما لم يكن هناك إحساس عميق ومشترك بالمأساة التي تطال الإنسان من كلا الطرفين ؛ فستبقى دائرة العنف اللاإنسانية تدور رحاها دون توقف ".

ولم يفته في هذا المقام أن يعرض بحركات المقاومة الإسلامية في فلسطين _ على عادته في لمز كل ما هو إسلامي _ ، فيقول: " لا شك أن الأيديولوجيا حاضرة بقوة في هذا العنف المتبادل(!)، بدليل أن العنف في طرفي الصراع يصدر بالدرجة الأولى من المحاضن الأيديولوجية، وكلما تضخمت الأيديولوجيا زادت حدة العنف ، زادت فعلاً وتهديداً"..

ثم ينكر على المثقفين على امتداد العالم العربي والإسلامي الوقوف مع المقاومة الفلسطينية وتأييدها فيقول: " تزداد المسألة قتامة حين نرى الطلائع الثقافية والفكرية على امتداد العالم العربي والإسلامي تبارك هذا العنف(!) بل وتهتف له، إلا فيما ندر مما يعدّ نشازاً في سياق العنف الذي تباركه جماعات اليقين(!) ، بل أصبح هذا الصوت النادر _ المنطوي على تصورات إنسانية _ موضع اتهام وتخوين ".. وصدق من قال: كاد المريب أن يقول خذوني!! أمّا جماعات اليقين التي يسخر منها فهي الواثقة بوعد الله بقتل اليهود ونطق الحجر والشجر لصالح المسلمين كما صحّت بذلك الأخبار، وليسمّ الكاتب ذلك ما يسميه، فإن وعد الله آت لا مرية فيه... هذا وإنّ مما يلاحظ في مقال هذا الكاتب _ مع طوله _ أنّه لم يصف المحتل بالوصف الشرعي الذي وصفه الله به وهو اليهودي، وإنّما يصفه بالإسرائيلي، ولذلك دلالته العقدية التي تدل على فكر هذا الكاتب، ونظرته العلمانية ( الإنسانية ) لهذا الصراع التي أفصح عن شيء منها في هذا المقال.

وأخطر ممّا سبق وأشدّ وضوحاً ما سطّره أحدهم _ وكان تكفيرياً ثم تحوّل بمقدار 180درجة إلى مرجيء غالٍ _ في مقال له بعنوان: ( كثيراً من الإنسانية قليلاً من الرهبانية ) الرياض: 12928: يقول وهو يقرر مذهب الإرجاء: " إنّ الله يكفيه منّا أن نحمل الشعلة في قلوبنا، أن نكون دائماً على أهبّة الاستعداد للعكوف بمحرابه لنقدّم شيئاً ( لعياله ) لعباده، فهو غنيّ عن عبادتنا(!)".. فهو يزعم _ مفترياً على الله _ أنّ مجرّد حمل الإيمان في القلب كاف عند الله، دون الإتيان بالشعائر التعبدية المعروفة من صلاة وصيام وحج.. الخ

ويؤكّد ذلك فيقول: " الرسول r يذكر أنّ رجلاً دخل الجنّة لم يعمل خيراً ولا حسنة في حياته، وارتكب الكثير من الذنوب، ومع ذلك دخل الجنّة، لأنّهم وجدوا له بطاقة يعلن فيها صادقاً مخلصاً عن حبّه له وإيمان به: ( لا إله إلا الله ) ".. هذه هو فهمه لكلمة ( لا إله إلا الله )، وتالله لقد كان أبو جهل ومشركو قريش أعلم منه بهذه الكلمة، فلو أنّ مجرّد الإيمان بها في القلب كاف في دخول الجنّة، لما وقفت قريش بخيلها ورجلها في وجه رسول الله r، ولقالتها وظلت على شركها وطقوسها، ثم كيف يكون المرء صادقاً مخلصاً وهو لم يعمل بمقتضى هذه الكلمة، إلا أن يكون قد منعه مانع، أو حال بينه وبين العمل حائل، كمن أسلم ثم مات قبل أن يعمل ونحو ذلك، وعلى هذا يحمل الحديث المذكور، أمّا أن يطلق هذا الحكم، فهو أمر في غاية الخطورة، إذ فيه ترغيب للناس على ترك الخير والاكتفاء بمجرد ترديد هذه الكلمة دون عمل، وهذا هو مذهب الإرجاء..

ثم يختم حديثه _ وهذا هو الشاهد _ فيقول: " لتعلموا أنّ ديناً لا يسعى لسعادة الإنسان لحفظ مصالحه الحقيقية، ليس إلا وبالاً، وتذكروا قول النبيّ محمّد r: (( إنّ هدم الكعبة أهون عند الله من سفك دم مؤمن)) كلّ المؤمنين من كلّ الأديان: (( إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَالَّذِينَ هَادُواْ وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحاً..)) (البقرة:62) ، الإيمان عندي هو كثير من الإنسانية، قليل من الرهبانية، ربما يكون لحياتنا طعم آخر ".. ولا شكّ أنّ الدين الذي لا يسعى لسعادة الإنسان فهو وبال، ولكن ما الحل إذا رفض الإنسان هذا الدين، وأصرّ على دين باطل منسوخ محرّف يسعى لشقائه؟ ويبدو أنّ عدوى التحريف قد انتقلت إلى الكاتب نفسه فحرّف الحديث الشريف، كما حرّف معنى الآية الكريمة.. فأمّا الحديث فلفظه الصحيح: " .. أهون عند الله من سفك دم مسلم "، والكاتب حرّفها إلى ( مؤمن ) لتشمل جميع المؤمنين بزعمه من الأديان الأخرى ممّن أدرك النبيّ الخاتم، ثمّ راح يؤكّد تحريفه مستشهداً بالآية الشريفة التي لم يفهم معناها الصحيح، فإنّ المقصود بها من آمن بالله من الطوائف المذكورة في زمن نبيّهم قبل بعثة نبينا r،وليس بعد البعثة، وسبب نزول الآية يبيّن معناها، فقد نزلت في أصحاب سلمان الفارسي t، فإنّه لما قدم على رسول الله r جعل يخبر عن عبادة أصحابه واجتهادهم وقال: يا رسول الله، كانوا يصلون ويصومون ويؤمنون بك ويشهدون أنّك تبعث نبياً، فلما فرغ سلمان من ثنائه عليهم قال رسول الله r: (( يا سلمان، هم من أهل النار ))، فأنزل الله: (( إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَالَّذِينَ هَادُوا..)) وتلا إلى قوله: (( وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ)) . ( أسباب الن_زول للواحدي ص 13 )، فتبين من سبب الن_زول أنّ الآية نزلت في قوم من أهل الكتاب قبل مبعث النبيّ، كانوا يؤمنون بمبعثه، ويشهدون أنّه رسول من عند الله، لكنّهم لم يدركوه، فأين هؤلاء من قوم أدركوا بعثته، بل راحوا يسخرون منه r، ويصورونه في رسوم ساخرة بأنّه إرهابي، أو امرأة، ويتواطئون على ذلك غير مبالين بمشاعر الملايين من أتباعه؟!!!

أمّا مرجعيّة هذه الإنسانية عندهم، فيبيّنها أحدهم _ وهو مقيم في لندن _ في مقال له بعنوان تفوح منه رائحة العلمنة والسخرية وهو: ( الإسلام السياسي وتجديد الأحكام السلطانية ) الوطن: 1188، يقول: " إنّ الأخذ بالمفاهيم الإنسانيّة يجب أن يكون على أساس عقلي في المقام الأوّل، بعيداً عن كلّ الاعتبارات المتعلّقة بالنصوص(!) " وليس هذا التأصيل بغريب عليهم إذا كانوا يطمحون إلى إحلال الإنسانية محلّ الرابطة الدينية، وتحطيم عقيدة الولاء والبراء.

_ ومن سماتهم البيّنة _ وهي لب مشروعهم الذي يبشرون به _: الدعوة إلى علمنة الحياة، وإقصاء الدين بحيث لا يكون له أي سلطان على مناحي الحياة المختلفة، ومن هذا المنطلق فإنّهم يهزؤن من فكرة أسلمة العلوم _ أي صبغها بالصبغة الإسلامية بعد تنقيتها من الشوائب الكفرية والإلحادية _، ويقللون جداً من شأن الإعجاز العلمي في الكتاب والسنّة، ويرفضون أن يكون ( الإسلام هو الحلّ )، ويحاربون كل من يرفع هذا الشعار، بل ويفسّرون التاريخ والأحداث بشكل عامّ تفسيراً سياسياً بمعزل عن الدين، وفيما يلي شواهد من أقوالهم على كلّ ما سبق:

يقول أحدهم في مقال له تفوح منه رائحة العلمانية بعنوان: ( ممارسة السياسة شأن مدني خالص ) الرياض: 13756: " من نافلة القول أنّ مثل هذه الشمولية لا تختصّ بها قومية معينة، أو دين بعينه، ولكنّ العبرة تكمن في النهاية في قدرة المجتمع من خلال تجاوز مرحلة تزييف وعيه، ومن ثم عبور ذلك الوهم الأيديولوجي عبر الإيمان المطلق بنسبيّة السياسة ووضعيتها، ومن ثم تعرضها للتغير والتبدل وفقاً لقوانين الاجتماع البشري وليس ثباتها المتوهم وفقاً لما يعرف بمفهوم الحقّ الإلهي في الحكم.." فالكاتب هنا يشير أوّلاً إلى ضرورة إقصاء الدين عن السياسة، وأنّ هذا الإقصاء لا يختصّ بدين بعينه، فيشمل حتى الإسلام، فلا يحقّ لأحد كائناً من كان أن يزعم أنّ ديناً بعينه هو الحلّ(!)، أمّا مفهوم الحقّ الإلهي في الحكم، فيريد به قول الله تعالى: (( إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلّهِ..)) (يوسف:40) فيرى أنّه وهم لا بدّ من تجاوزه(!)، أو على حدّ تعبيره في المقال نفسه: " إنزالها [ إي السياسة ] من السماء إلى الأرض "..

ثم لا يفوته في آخر المقال أن يعرّج على بعض خصومه التقليديين من الإسلاميين، الذين يرفعون شعار ( الإسلام هو الحلّ ) فيسخر منهم بحجج واهية لا تخلو من مغالطات وجهالات، ثم يختم المقال بطامّة كبرى من طاماته فيقول: " ويبقى القول بأنّه لا خيار في مجال السياسة الإسلاميّة إلا استخدام المنطق الذي أعلنه الرسول r في وجه مؤسلمي السياسة عندما أعلنها مدويّة بقوله (( أنتم أعلم بشؤون دنياكم )) وهو منطق مدني على أيّة حال.. " إنّه _ لعمر الله _ عبث بالنصوص، واعتداء على حرمة الدين، ومقام سيد المرسلين، فهل ترك النبيّ r السياسة لغيره واعتكف في مسجده، أم أنّه أقام دولة الإسلام، وجيّش الجيوش، وفتح الفتوح، وساس الأمة، أم أنّه _ عليه الصلاة والسلام _ كما صوّره الكاتب يقول خلاف ما يفعل ؟!!، وهل قوله r " أنتم أعلم بأمور دنياكم " مراد به أمور السياسة وشؤون الأمّة، أم المراد قضية عين في أمر دنيوي خالص لا علاقة له بالسياسة العامّة كما يدل على ذلك سبب الحديث؟.. إنّها مهزلة يجب إيقافها ومحاسبة أصحابها احتراماً لديننا وعقيدتنا..

أمّا المجتمع المدني الذي يدندنون حوله كثيراً، ويعدونه النموذج الأمثل للدولة الحديثة، فيصفه أحدهم _ وهو متخصّص في الكتابة السياسية _ في مقال له بعنوان: ( الخطاب الديني هل يستمرّ كعائق في الحرب على الإرهاب ) الوطن: 1160، بأنّه: " مجتمع مدني رحب، ليس هناك مساحة لأوصاف من قبيل: ( كافر )، أو ( مبتدع )، أو ( علماني )، أو غير ذلك(!).."، هذا هو المجتمع المدني الذي يريدونه، والذي لا يقوم إلا على أنقاض التوحيد، وعقيدة الولاء والبراء التي وصفها النبيّ r بأنّها أوثق عرى الإيمان، وكأنّهم لم يقرأوا قوله الله تعالى: (( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ بِطَانَةً مِّن دُونِكُمْ لاَ يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً وَدُّواْ مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاء مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الآيَاتِ إِن كُنتُمْ تَعْقِلُونَ )) (آل عمران:118) ، ولكنّ هؤلاء القوم لا يعقلون، وإن كانوا يدّعون العقلانية.

قال الحافظ ابن كثير رحمه الله عند تفسير هذه الآية 1/398: " قيل لعمر بن الخطاب t إن ههنا غلاماً من أهل الحيرة ( أي نصراني ) حافظ كاتب فلو اتخذته كاتباً، فقال: قد اتخذتُ إذاً بطانة من دون المؤمنين.." قال ابن كثير رحمه الله: " ففي هذا الأثر مع هذه الآية دليل على أن أهل الذمة لا يجوز استعمالهم في الكتابة التي فيها استطالة على المسلمين واطلاع على دواخل أمورهم التي يخشى أن يفشوها إلى الأعداء من أهل الحرب ".. هذه في مجرد الكتابة، فكيف بغيرها من شؤون الدولة ؟!! وهو أيضاً في الذمي الذي يدفع الجزية وهو صاغر، فكيف بمن يرى أنّه مساو لك في جميع الحقوق والواجبات في ظل مجتمعهم المدني المزعوم.

وفي سياق العلمنة يقول الكاتب نفسه في مقال له بعنوان: ( الحالة الدينية في السعودية.. ) الوطن: 1139: وهو يتحدث عن التفجيرات الأخيرة " هل كان هذا بسبب ذنوبنا حسبما يخبرنا رجال الدين(!) نعم، ولكن الذنب هذه المرة هو التطرّف الديني والغلو المتضخم(!) في ثقافة المجتمع. الذنب هو في القبول بصبغ الحياة الاجتماعية كلّها بصبغة الأيديولوجيا الإسلامية، والإصرار على إقحام الدين في شؤون الدنيا لإعاقة الحداثة "، إنّ إقحام الدين _ حسب تعبيره _ في شؤون الدنيا لإعاقة الحداثة المارقة ذنب عند هذا الكاتب، وهكذا تصبح العلمنة وإقصاء الدين عن شؤون الحياة حسنة يُدعى إليها.

ويقول آخر _ وهو أشدّهم تطرّفاً وبذاءة _ في مقال له بعنوان: ( الإرهاب من الفكر الخارجي إلى السلوك القرمطي ) الرياض: 13436: " ليس صحيحاً ما يروّج له الإسلامويّ(!) من أنّ الزجّ بالدين في كلّ صغيرة وكبيرة هو عنوان التدين الحقيقي، أو أنّ ممارسه والمتحمّس له من أفراد المجتمع هو الأكثر تديّناً من غيره ".. إلى أن يقول: " تحييد الديني في الوقائع المدنية(!) التي ليس فيها حكم شرعي صريح، أمر ضروري لئلا تمنح القداسة إلا للديني الخالص الذي نصّ عليه الشرع الحنيف..".. أنّها علمنة خفية، تتدثر بلباس العلمية، ولو أنّا أخذنا بقول هذا الكاتب، واقتصرنا على ما فيه نصّ صريح، لما بقي لنا من ديننا إلا القليل، وهذا ما يريده أهل العلمنة.. وإنّ من المعروف لدى صغار طلبة العلم، أنّ الشريعة جاءت بكليات تندرج تحتها جميع الجزئيات، فلم ينصّ الله تعالى على كل جزئية بعينها، إذ إنّ ذلك يطول ولا يكاد ينتهي، مع ما يستجدّ من الجزئيات التي لم تكن قد وجدت عند نزول النصّ، ومهمة العالم أن يرجع هذه الجزئيات إلى كلياتها، ليبين حكمها، وما من قضية ولا مسألة إلا وفي كتاب الله وسنة رسوله r بيان لها، إمّا بالنصّ الصريح، وإمّا بالتلميح من خلال الكليات المذكورة، قال تعالى : (( ما فَرَّطْنَا فِي الكِتَابِ مِن شَيْءٍ )) (الأنعام:30) ، وقال تعالى (( الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِيناً )) (المائدة:3) .

ويقول الكاتب نفسه في مقال له بعنوان: ( ما بعد الأيديولوجيا.. العقد الاجتماعي ) الرياض: 13702 بعد أن شتم السلفيّة أو ما أسماه بالوعي السلفي(!): " لا بدّ من التأكيد على مدنية حراكنا الاجتماعي، وأنّ العقد الذي يجب الالتفاف حوله هو العقد الاجتماعي المدني الذي يضمن التساوي في الحقوق والواجبات، لا طائفية، ولا مذهبية ولا مناطقية ولا جنسوية... لا بدّ أن ينغرس في أعماق كل مواطن أن الجميع متساوون جميعاً دون تعنصر من أي نوع، ولكل بعد ذلك خصوصياته التي يراها ويختارها، دون فرضها على الآخرين، ودون الإخلال بمبدأ المساواة المقدّس ".. فالكاتب يريد مجتمعاً بلا هوية ولا دين، يريد دولة لا دين لها، ولا فرق فيها بين المسلم والكافر _ كما صرح بذلك غيره من أصحاب هذا الفكر _، ولا فرق فيها بين الموحّد والمشرك، وصاحب السنة وصاحب البدعة، بل لا فرق فيها بين الرجل والمرأة كما صرّح بذلك بقوله: " وخاصة التمييز الجنسي ضد المرأة في أي صورة كان ". ويضيف إلى ذلك ( المناطقية ) ليعزف على وتر حسّاس يثير الطائفية التي يحذر منها..

ثم يقول بعد ذلك: " لأجل ذلك؛ يجب أن تكون الخصوصية _ أيّاً كان نوعها _ بعد ذلك المقدّس وليس قبله، وإلا بقينا رهن صراع لا ينتهي.. لا بد أن يدرك المؤدلج أنّ العقد الاجتماعي المدني لا يمنحه أكثر من حريّة إبداء الرأي ( المؤدّب ) في سلوك الآخر، وبعد ذلك فليس على أحد بمسيطر ".. فالمقدس لديه هو هذا العقد الاجتماعي العلماني المزعوم، أمّا الدين والتوحيد فليس ذلك بمقدّس عنده، وإنّما هو مجرّد خصوصية تخص كل فرد على حدة، وليته يخبرنا ما الذي جعل رسول الهدى r يعاني في مكة وأصحابه ثلاثة عشر عاماً، ويصبرون على البطش والأذى والتعذيب والتشريد، وقد عرضت قريش عليه كلّ ما يريد مقابل تخلّيه عن دينه وعقيدته ودعوته، والتعايش السلمي معهم، مع الكف عن عيب آلهتهم، فيأبى حتى يقيم دولة الإسلام والتوحيد في المدينة، ومن ثم يعلن الجهاد على المشركين لرفع راية التوحيد خفّاقة، وإزالة كل مظهر من مظاهر الشرك، ولم يكتف بذلك بل يجهّز قبل وفاته جيشاً ضخماً لمحاربة الروم في الشام، وإخضاعهم لدين الله الحقّ.. سيقول هذا الكاتب وأمثاله: إنّ الزمن تغيّر، ولم يعد دين الرسول الكريم صالحاً لهذا الزمن، وهذه هي الطامة الكبرى والفجيعة العظمى التي حلّت ببعض أبنائنا، ليعتنقوا هذا الفكر المنحرف..

أمّا قوله: ( حرية إبداء الرأي المؤدب(!))، فذلك واضح جداً في أدبه الجم مع خصومه السلفيين والسلفية خاصة، فهو لم يترك شتيمة إلا رماها بها كما سبق ( انظر ص )، فإذا كان هذا هو الأدب الذي يدعو إليه، فعلى الأدب السلام..

وفي هذا السياق نراهم يدافعون عن العلمنة، ويغضبون من ذكرها على سبيل الاتهام، مع أنّهم لا يتورعون عن كيل التهم جزافاً لخصومهم التقليديين ( السلفيين خاصّة والإسلاميين بشكل عام )..

يقول أحدهم في مقال له بعنوان: ( العلمانية تهمة جاهزة لكل من اختلف معهم ) الجزيرة: 12022: " لا أدافع عن العلمانية، لأنني أعتقد اعتقاداً جازماً بأنّ العلمانية على اعتبار أنّها ( فصل الدين عن السياسة ) مصطلح ( وافد ) إلينا من الخارج، وله دلالات فكرية وحمولات تاريخية تجعل من تطبيقه على غير المجتمعات ( المسيحية ) أمر لا بد من التوقف عنده، والتعامل معه بحذر.."، هكذا ينفي التهمة عن نفسه، وعن زملائه الذين يقررون كثيراً في كتاباتهم _ كما سبق شيء من ذلك قريباً _ ضرورة تحييد الديني عن المدني كما يقولون، وهو بهذا التعميم ينطبق عليه المثل القائل ( كاد المريب أن يقول خذوني).

ويقول آخر في مقال له بعنوان: ( الإسلاميون والمشاركة السياسية.. الحزب المسيحي الديمقراطي الألماني ) الوطن: : " أثناء وجودي في ألمانيا الشهر الماضي كان على مقربة من جامعة أيرلنجن حيث أتردد: مكتب حزبي للاتحاد المسيحي الديمقراطي الألماني. لقد ترددت بعض الشيء في دخول المقرّ سذاجة مني لتوهمي أنّه يشبه تلك التجمعات الإسلامويّة المتشددة الموجودة في بعض البلاد العربية، المليئة بالكتيبات والأشرطة الصوتية الصاخبة التي تتحدث عن الحكم بغير ما أنزل الله، وعفن العلمانية التي يتبارى نوابها في المطالبة بإيقاف الكاتب فلان، أو محاكمة السياسي علان، أو حتى في أوقات الاستراحة السياسية يتم التصعيد في البرلمان ضد راقصة أو مغنية بحجّة حماية الأخلاق ومراقبة الذوق العام.." ثم راح بعد ذلك يكيل الثناء لذلك الحزب النصراني الكافر، ويصفه بالحزب الناجح، ويدافع عن تسميته بالحزب المسيحي ( نسبة إلى المسيح u ) في دولة تدعي العلمانية ... إلى آخر ما ذكر.. ويلاحظ في ما نقلته من هذا المقال سخريته من إخوانه المسلمين المحتسبين الذين يتحدثون عن قضايا شرعية كالحكم بغير ما أنزل الله، وعفن العلمانية، والمطالبة بإيقاف الكتّاب المنحرفين ومحاكمتهم، ومحاربة العفن الفني من رقص وغناء ماجن.. كلّ ذلك يسخر منه الكاتب، ويعدّه تشدداً، فهذا هو مفهوم التشدد عندهم، في الوقت الذي يثني فيه على حزب نصراني زاره للمرّة الأولى، فراح يكيل له عبارات الثناء.. إنّها قلوب مريضة، غطتها ظلمات الشهوات والشبهات، فلم تعد ترى الأشياء على حقيقتها، نعوذ بالله من الخذلان.

وأختم الحديث عن هذه السمة بطامة أتى بها أحدهم _ وهو كاتب له روايات أفتى عدد من علمائنا بكفر ما في بعضها _، يقرر هذا الكاتب في مقال له بعنوان: ( من خطاب التدمير إلى خطاب التعمير ) الشر الأوسط: 8952 أنّ: " منطق الدولة الحديثة متناقض مع منطق الدين " ثم يوضح ذلك قائلاً: " منطق الدولة محدود ومحدد، ومنطق الدين هو المطلق ذاته، وتأتي الكارثة للدولة والدين معاً حين محاولة الدمج بين منطقين لا يلتقيان، وهنا تكمن معضلة الإسلامويّة(!) المعاصرة وجوداً لا عقلاً .."..

وعلى الرغم من العلمنة الواضحة فيما ذكر، مع الجهل الفاضح بدين الإسلام وحقيقته؛ إلا أنّه يحاول أن ينفي هذه التهمة عن نفسه على طريقة ( كاد المريب أن يقول خذوني ) فيقول: " قد يقول قائل هنا: إذن فهي دعوة للعلمانية!، والحقيقة أنّ القضية لا علاقة لها بعلمانية أو أصوليّة إذا كانت الغاية هي البحث عن جواب يخرجنا من المأزق أو المآزق التي نحن فيها .." وهكذا بكل بساطة ينفي التهمة الساطعة كالشمس عن نفسه إذ الغاية عنده تبرر الوسيلة، ولو كانت هذه الوسيلة هي الإساءة إلى ديننا وانتقاصه، والافتراء على نبينا r ليرضى عنّا أعداؤنا !!.

ومن سماتهم الواضحة: الإعجاب بمن يسمّونه ( الآخر )، وحبّه، وكيل الثناء له بغير حساب، والدعوة إلى احتذائه حتى في ثقافته وأخلاقه، ويريدون بالآخر في الغالب: الغربي الكافر صاحب الحضارة الماديّة، والعقل الفلسفي، وهذا الإعجاب نتاج طبعي للهزيمة النفسيّة، والصدمة الحضارية التي أصابتهم، وعقدة النقص التي تلازم قلوبهم المظلمة الممتلئة بالشهوات والشبهات، ونحن لسنا ضدّ الاستفادة من علوم الآخرين فيما لا يتعارض مع ديننا وعقيدتنا، لكنّ هؤلاء فهموا الحضارة فهماً ناقصاً مغلوطاً، فاختزلوها في صناعة طائرة أو سيارة أو صاروخ، أو أيّ آله من الآلات الحديثة، أو في بناء ناطحات سحاب، أو تقدم طبي أو تقني، وكلّها أمور مادية يمكن لأيّ أمّة وأيّ شعب اللحاق بها والوصول إليها إذا تهيأت له الظروف المناسبة، وسلم من هيمنة هذا الآخر وجبروته وكيده..

إنّ الحضارة الحقيقية هي التي تجمع بين التقدّم المادي التقني، والسمو الروحي والأخلاقي، وهذا الأخير هو ما تفتقده الحضارة الغربية المعاصرة التي بلغت الحضيض في تردّي الأخلاق وموت الروح، فهي كما وصفها سيد قطب رحمه الله: كطائر ضخم، أحد جناحيه كبير يرفرف في السماء، والآخر مهيض كسير لا يكاد يقوى على الحركة، فماذا سيكون حاله سوى التخبط وإيذاء من حوله، وهذا هو حال الحضارة الغربية اليوم حيث إنّها _ مع ما فيها من الجوانب الإيجابية المضيئة _ نشرت الخراب والدمار، ونشرت معه أسوأ الأخلاق من تفسخ وعري وفساد أخلاقي.

وليس الغرب ملوماً في إقصاء الدين عن الحياة، فقد كان الدين الذي يدينون به محرّفاً، يحارب التقدّم المادي النافع، ويقتل المبدعين والنابغين في العلوم الطبيعية التي لا تتعارض مع ثوابت الدين الصحيح، ولذا فإنّه لا خلاص للبشرية اليوم، ولا سبيل لها إلى الوصول إلى الحضارة الحقّة المكتملة التي تجمع بين التقدّم المادي التقني، والسمو الأخلاقي والروحي إلا بأن تعتنق هذا الدين الحقّ ( الإسلام ) الذي تكفّل الله بحفظ مصادره، وجعله الدين الوحيد الذي لا يُقبل سواه، قال تعالى: (( وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِيناً فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ )) [ آل عمران: 85].

وفي هذا السياق يحاول أحدهم بجهل فاضح أن يؤصّل لهذه المسألة تأصيلاً شرعياً(!!)، فيزعم في مقال له بعنون ( المقاومة الفكرية للإرهاب ) الرياض: 13561، أنّ الأصل في الولاء والبراء "موالاة ( الكافر ) المسالم الموادع مهما كانت ديانته"، وفي مقال آخر له بعنوان: ( فلسفة الولاء والبراء في الإسلام ) الرياض: 13546، أتى بما هو أطم، فيقول: "والرسول r عندما أرسل صحابته الأول إبان الفترة المكية إلى الحبشة اتقاء لشر قريش قال لهم إنّ فيها _ يعني الحبشة _ ملكاً لا يظلم عنده أحد، ولم يبرر إرساله لصحابته بإسلام المجتمع الحبشي بدليل أن ذلك المجتمع ظل حتى وفاة النجاشي نصرانياً خالصاً مما يؤكد(!) أن الولاء حين ينصب على العلاقة مع الآخر فهو يدشن لموالاة المسالم والبراءة من المعتدي بغض النظر عما يدين الله به وهذه العلاقة السلمية _ الأهلية منها والدولية _ المبنية على الولاء للمسالم والبراء من المعتدي منظمة بشكل واضح لا لبس فيه في القرآن الكرين إذ يقول تعالى في الآية الثامنة من سورة الممتحنة: (( لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ )) [الممتحنة:8]، وهي إشارة إلى موالاة الآخر(!) المسالم الملتزم بشروط العلاقة السلمية ببرّه والقسط إليه.. " إلى أن يقول: " هذا هو المسار الصحيح(!) لمفهوم الولاء والبراء المتكيف مع أصول الإسلام وغاياته العظام(!) " إلى آخر ما ذكر، وأنا أتحدّى هذا الكاتب وغيره أن يأتي بنص واحد من كتاب الله أو سنة رسوله r يدعو إلى موالاة الكفار أياً كانوا، بل إن نصوص الكتاب والسنة تحذر من موالاة الكفار بإطلاق كما في قوله تعالى: (( لاَّ يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاء مِن دُوْنِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللّهِ فِي شَيْءٍ إِلاَّ أَن تَتَّقُواْ مِنْهُمْ تُقَاةً وَيُحَذِّرُكُمُ اللّهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللّهِ الْمَصِيرُ )) [آل عمران:28]، وقوله في سياق الحديث عن المنافقين: (( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاء مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَتُرِيدُونَ أَن تَجْعَلُواْ لِلّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَاناً مُّبِيناً )) [النساء:144]، (( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاء بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ )) [المائدة:51]، بل في السورة نفسها التي استشهد الكاتب بآية منها قال الله تعالى: (( قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَاء مِنكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاء أَبَداً حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ إِلَّا قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَمَا أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِن شَيْءٍ رَّبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ )) [الممتحنة:4]، والآيات في هذا المعنى كثيرة جداً، وذلك أنّ مقتضى الموالاة: المحبة والنصرة، وذلك لا يصدر من مؤمن لكافر على الإطلاق، وإنّما الذي أذن الله فيه تجاه الكافر المسالم: البر والعدل كما قال تعالى: (( لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ )) [الممتحنة:8]، ويوضح معنى الآية سبب نزولها، فقد أخرج البخاري عن أسماء بنت أبي بكر y، قالت: أتتني أمي راغبة، فسألت النبيّ r : أأصلها؟ قال: (( نعم)) فأنزل الله فيها: (( لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ)) . فإذا كان للمسلم أب كافر أو قريب أو جار ونحو ذلك، ولم يكن محارباً، فلا حرج على المسلم أن يحسن إليه ويبره ولا يظلمه، لكن أن يحبه وينصره أو يفضله على إخوانه المسلمين مهما كانوا عاصين، فذلك خلل عقدي عظيم، وهذا هو حال هذه الفئة الضالة، كما سبق قريباً من تفضيل أحدهم الحزب المسيحي الديموقراطي الألماني على من أسماهم تهكماً ب_ (الإسلامويين ) المتشددين الذين يتحدثون عن عفن العلمانية، ويطالبون بمحاكمة الكتّاب المنحرفين فكرياً !!!.

ثم هل الكافر الذي ( يوالونه ) الآن مسالم حقّاً، أم أنّّه يقتل المسلمين بالأسلحة المحرمة دولياً، ويسخر من نبي الإسلام في رسوم سخيفة ماجنة ؟؟؟؟؟، بل ويهين المصحف في معتقلات غير شرعية ولا قانونية.. فأين عقول هؤلاء؟!!!. وهل الذين يصفهم بالخوارج اليوم هم الذين بدأوا بالاعتداء على ( الآخر ) الصليبيّ الكافر، أم العكس ؟!!..

وبمناسبة ذكر الآخر ( الكافر ) يلاحظ في مقال هذا الكاتب الذي امتد من أعلى الصفحة إلى أسفلها بما يزيد عن نصف المتر أنّه لم يذكر لفظ ( الكافر ) بتاتاً بناء على مذهبهم في ضرورة التخلي عن هذا المصطلح الشرعي الأصيل الذي امتلأ به القرآن والسنة، والعدول عنه إلى ألفاظ مثل: ( الآخر )، و ( غير المسلم )، وما شابه ذلك حتى لا يغضب هذا الآخر، بل بعضهم (يتوّرع ) عن اعتقاد كفر اليهود والنصارى، ويعدهم مؤمنين و(إخوة) لنا في الإنسانية(!)، كما مر سابقاً.

أمّا قضية النجاشي، والهجرة إلى الحبشة، فلا علاقة لها بموضوع الولاء والبراء، وذكرها في هذا المقام من الخلط العجيب، فإنّ المسلم إذا لم يتمكن من إظهار دينه في بلد فله أن يهاجر إلى بلد آخر يتمكن فيه من إظهار دينه، وهذا قبل أن تقوم للإسلام دولة تحكم بشرع الله، فإذا قامت الدولة فلا هجرة بعد الفتح، ولكن جهاد ونية، كما قال الصادق المصدوق r، فما علاقة ذلك بالولاء والبراء ؟!!.

ويقول آخر _ وهو من أصحاب التحولات الإنفراجية _ في مقال له في غاية السذاجة بعنوان: ( نحن وأمريكا والديموقراطية ) الشر الأوسط: 9212 مدافعاً عن الآخر الكافر: ".. الغرب حينما يدعم الديموقراطية، ويفكر في وضع هذا الجزء من العالم، فليس ذلك من قبيل التبشير أو الاهتداء بروح الأم تيريزا، قدر أنها مصلحة غربية جوهرية تكمن في إنقاذ الشرق الأوسط المتعثر(!!!) "، وعلى الرغم من أن الآخر النصراني ممثلاً في زعيمه صرّح بأنّ الحرب على العالم الإسلامي حرب صليبية، إلا أنّ هؤلاء ( العقلانيين ) لا يزالون أشدّ إخلاصاً للآخر من الآخر نفسه، حيث يعدونه في سذاجة واضحة (جبهة إنقاذ) للشرق المتعثر!!!!.

ولم يكتف هذا الكاتب بالثناء على ( الآخر ) وديموقراطيته المزعومة، بل راح ينتقص دينه الحق ( الإسلام ) ومبدأ الشورى المذكور في القرآن، يقول: " طُرحت فكرة الشورى كبديل أصيل عن الديموقراطية، ولكن اتّضح(!) أنها تختلف اختلافاً فلسفياً ومفارقاً للديموقراطية، فرفضت من الإسلاميين الأصلاء(!)، والليبراليين الخلصاء(!)، أمّا الأخيرون فبحجة أن الشورى أبعد ما تكون عن العقد الاجتماعي والمشاركة الشعبية الواسعة، فهي ليست إلا تدبير أهل الحلّ والعقد، وهم طبقة ضيقة من كبار القوم والملأ.." إلى آخر ما ذكر.

_ ومن سماتهم البارزة: الجهل؛ فعلى الرغم من أنّهم أشدّ الناس تعالماً وادّعاءً لفهم النصوص ومقاصد الشريعة، ورميهم العلماء وطلاب العلم السلفيين بالضدّ من ذلك!!؛ إلا أنّهم أكثر الناس جهلاً بالنصوص وبالمقاصد وبالناسخ والمنسوخ والعام والخاصّ والمطلق والمقيّد من نصوص الشريعة، كما تشهد بذلك كتاباتهم، والسر في ذلك أنّ معظمهم ليسوا من أهل التخصّص الشرعي، فإذا انضاف إلى ذلك الهوى وتمكن الشبهات من قلوبهم؛ كانت الطامة أكبر، وفيما يلي بعض الأمثلة على جهلهم بالنصوص الشرعيّة:

1. في مقال لأحدهم بعنوان: ( الذين يجلدون المختلفين معهم في الرأي بإطلاق التهم) الرياض: 13698، يقول: " أُعطي الرسول r جوامع الكلم، وهي ميزة خصّه الله تعالى بها من بين سائر الأنبياء والمرسلين u، فهو r يقول الكلمة أو اللفظة الواحدة لتكون جامعة لمعاني ومتطلبات موضوع بأكمله، ومن بين ما أخبر به r في ألفاظ قصيرة، لكنّها حملت معاني عظاماً، قوله r : (( الدين المعاملة )).. ".. ثمّ بنى مقاله على ما زعم أنّه حديث، وجزم بنسبته إلى رسول الله r !! وهو ليس بحديث، وإن اشتهر على ألسنة العامّة، بل إنّ معناه في غاية البطلان لمن تأمّله بعقل منضبط بالشرع، لا بعقل منفلت كعقول هؤلاء الزاعمين بأنّهم عقلانيون، فإنّ مقتضى هذا الحديث المزعوم أنّ الكافر إذا كان حسن المعاملة فهو مسلم ومتدين، والمسلم إذا كان سيء المعاملة ليس بمسلم، لأنّ المقصود بالدين هنا هو الإسلام كما قال تعالى: (( إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللّهِ الإِسْلاَمُ )) (آل عمران:119) ، وقد ثبت في صحيح مسلم في كتاب الإيمان، عن عائشة t قالت: قلت: يا رسول الله، ابن جدعان؛ كان في الجاهلية يصل الرحم، ويطعم المسكين، فهل ذاك نافعه ؟ قال: (( لا ينفعه. إنّه لم يقل يوماً: ربّ اغفر لي خطيئتي يوم الدين )). فلم ينفعه حسن خلقه، وإحسانه للناس مع كفره.

2. وفي مقال آخر بعنوان فضائي: ( الحوار الوطني: سيرة وانفتحت ) الرياض: 13702، يقول الكاتب نفسه: " من غير المجدي وفقاً لمعطيات العمران البشري أن تقسر شخصاً على رؤية معينة، لمجرّد أنّك تعتقد بصوابها، فهذا الآخر الذي تودّ قسره على رؤيتك يملك من الأدلّة والطرائق الحكمية(!) ما يستطيع بها نفي صوابية ما تعتقده حتى وإن كنت لا تؤمن بمرجعيته الدلالية بنفس الوقت الذي لا يعترف فيه هو أيضاً بمرجعيتك في استنباط أدلة تصويبك لرؤيتك، وإذا كان الله تعالى يأمر نبيّه الكريم بأن يعتزل مقام مشركي قريش حين يخوضون في آيات الله تعالى حتى يصرفوا حديثهم إلى جانب آخر، ولم يأمره بحربهم أو قسرهم على رؤيته ممثلاً بقوله تعالى: (( وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُواْ فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ... )) (الأنعام:68) أفلا نترك نحن غيرنا أحراراً ...".. فاستدلاله بهذه الآية في غاية البطلان، ودليل على جهله الفاضح _ أو تجاهله _ لنصوص الشريعة، والمراحل التي مرّت بها الدعوة، فماذا يصنع هذا الكاتب بمثل قوله تعالى في سورة التوبة: (( فَاقْتُلُواْ الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُواْ لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ.. )) (التوبة:5) ، وقوله في السورة نفسها: (( قَاتِلُواْ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَلاَ بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَلاَ يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَلاَ يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُواْ الْجِزْيَةَ عَن يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ )) (التوبة:29) ، وقوله r : (( أُمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله.. )) الحديث، وقوله: (( لا والذي نفسي بيده حتى تأطروهم على الحقّ أطراً)) أي تقسروهم عليه قسراً، يعني العصاة، فضلاً عن المبتدعة.. وليس في دين الله تعارض، ولكنّ الواجب أن تن_زل النصوص منازلها، فاعتزال المشركين كان في العهد المكي، وأما آيات القتال والأطر على الحقّ ففي العهد المدني، وبهذا يتبين جهل هؤلاء بمدلولات النصوص مجتمعة، فكيف يؤتمنون على توجيه الناس في صحف سيّارة !!!!!.

3. وفي مقال بعنوان: ( هل الحضارة الإسلامية حضارة شاملة ؟) الجزيرة: 11980، كتب أحدهم _ وهو من سلالة الشيخ المجدد محمد بن عبد الوهاب رحمه الله !!! _ مقللاً من شأن الحضارة الإسلامية يقول: " الثقافة الإسلامية ثقافة فقه ولغة، وليست ثقافة كشف واختراع وابتكار على مستوى المنجزات الدنيوية.." إلى أن يقول: " وهذا ما نلحظه بوضوح من خلال القراءة لكبار العلماء الدينيين المسلمين، فالإمام ابن تيمية رحمه الله _ مثلاً _ اتّخذ موقفاً مناهضاً بشدّة لعلم الكيمياء.." إلى آخر ما ذكر، وهو دليل على جهل فاضح، لأنّه ظن أنّ الكيمياء التي ذكرها ابن تيمية رحمه الله هي الكيمياء المعروفة اليوم، وليس الأمر كذلك، فالكيمياء التي ذكرها شيخ الإسلام نوع من الغشّ، وصناعة ذهب مغشوش يشبه الذهب الذي خلقه الله، وبيعه على الناس على أنّه ذهب خالص، ولذا قال الشيخ رحمه الله: " وأهل الكيمياء من أعظم الناس غشاً، ولهذا لا يُظهرون للناس إذا عاملوهم أنّ هذا من الكيمياء، ولو أظهروا للناس ذلك لم يشتروه منهم.. " إلى آخر ما ذكره رحمه الله.

4. وفي مقال بعنوان ( الحقوق ) الجزيرة: 11408، كتبت إحداهم وهي تتحدّث عن الحقوق الزوجية للزوجة لا للمطلّقة تقول: " وهناك فتوى صدرت مؤخّراً من مصر أفتاها شيخ أزهري أشار فيها إلى الآية الكريمة: (( فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ.. )) (الطلاق:6) إلى وجوب أن تمنح المرأة أجراً على إرضاع الأطفال.. ".. وهو دليل على جهل فاضح، فالآية إنما هي في المطلقات، أما الزوجات فلم يقل أحد من أهل العلم بأن الزوجة تأخذ أجراً على إرضاع طفلها. ولو أنّ هذه الكاتبة قرأت الآية من أولها لعرفت ذلك، لكنّهم من أجهل الناس بالنصوص الشرعية ودلالاتها.

5. وفي مقال بعنوان: ( فلا يلومنّ إلا نفسه.. فلسفة جديدة ) الوطن: 1173، كتب أحدهم _ وهو طبيب يكثر من الحديث عن الدين _ كتب بعد أن ساق الحديث القدسي (( يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي)) يقول: " وما يدفعني إلى سرد هذا الحديث فكرة التمعت في ذهني أن أفعل ما فعله النووي، فهذا الرجل جمع أربعين حديثاً اشتهرت باسمه، وهي رياض الصالحين..".. وهذا جهل فاضح، فهو يظن لجهله أنّ كتيب الأربعين النووية الصغير، هو نفسه كتاب رياض الصالحين المجلّد الضخم، وكلاهما للإمام النووي رحمه الله، وصغار طلاب العلم يعرفون الفرق بينهما.

6. وفي مقال بعنوان ( ذكريات غير صحوية وحديث عن الثبات والتحوّل ) الرياض: 12722، كتب أحدهم منظرّاً _ وكان من هواة التكفير والتفجير ثم أصبح من غلاة المرجئة _ يقول: " وقد نسمع أحياناً وصف الآخرين بالفسق أيضاً. وفي القرآن الكريم لم يأت وصف الفسق إلا في حقّ الكفّار والمشركين كما في سورة السجدة، غير أنها في فترة متأخّرة جرى التوسّع في استخدام لفظ الفاسق على المسلم الذي يأتي بعض المخالفات الشرعية..".. وهذا جهل فاضح، وجرأة على كلام الله تعالى، وقد يعجب هذا الكاتب إذا علم أنّ وصف الفسق جاء في القرآن الكريم في حقّ أحد أصحاب رسول الله r وهو الوليد بن عقبة t، كما في قوله تعالى في سورة الحجرات: (( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن جَاءكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَن تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ)) (الحجرات:6) ، وذلك باتّفاق المفسّرين. ولكنّ الجهل داء لا دواء له.

7. وفي نفس المقال يقول هذا الكاتب: " لبس جوارب اليدين أصبح اليوم دلالة على عفّة المرأة، وشدّة تديّنها، في وقت سابق لم تكن النساء تعرف ذلك.. " وهذا من جهله، فقد كان هذا معروفاً في زمن النبوّة، فقد صحّ عنه r أنّه قال: (( لا تنتقب المحرمة، ولا تلبس القفازين )) ، ففيه دليل بيّن على أنّ الصحابيات كن يلبسن القفازين لكمال الستر، وإنّما نهين عن ذلك وقت الإحرام.

هذا غيض من فيض من جهلهم بالنصوص الشرعيّة، وكيفية تعاملهم معها، ومع كلام الأئمة، ولو ذهبت أستقصي جهلهم، من خلال كتاباتهم لطال بي الأمر..

والعجيب أنّهم على الرغم من جهلهم الواضح الذي سبق الكثير منه؛ إلا أنّهم يزعمون أنّهم أكثر فهماً للإسلام ممّن شابت لحاهم في تعلّم العلم الشرعي، ومزاحمة العلماء بالركب، بل أكثر فهماً للإسلام حتى من العلماء الكبار، مع أنّ جلّ أصحاب هذا الفكر قد عاشوا ردحاً من الزمن في بلاد الغرب لتعلّم تخصّصات غير شرعية قد تكون مفيدة في مجالها لكنها لا تؤهل صاحبها للحديث عن الأمور الشرعية الدقيقة.. وفي هذا السياق يقول أحدهم _ وهو رئيس تحرير إحدى صحفهم _ في مقال له بعنوان: ( الأسهم تقول إنّهم أقليّة محدودة ) الرياض: 13770: " نحن جميعاً مسلمون.. بل إنّ معظم الليبراليين هم أكثر فهماً للإسلام وسعياً لحلّ مشاكله وتقديمه بصورته الحضارية للعالم الأجنبي..!! " قال ذلك في أعقاب تصدي بعض العلماء له في محاضرة أقيمت في فعاليات معرض الكتاب الدولي بالرياض.. والليبراليون يعني بهم نفسه وزمرته، وسيأتي المزيد حول هذه المسألة في مبحث خاص بإذن الله تعالى.

_ ومن سماتهم الظاهرة: تنزيل الآيات التي جاءت في حقّ الكفرة من المشركين وأهل الكتاب، على خصومهم المؤمنين من العلماء والدعاة وطلبة العلم:

وقد سلك هذا المسلك أشدّهم تطرّفاً وحقداً على السلفية، ففي مقال له بعنوان: (التفكير وإشكالية الوصاية ) الرياض: 13065، شتم فيه السلفية عدة شتائم، يقول: " إنّ ما نراه في الخطاب التقليدي _ السائد ثقافياً على المستوى الشعبوي(!) خاصّة _ من محاولة التقليدية البلهاء _ المتلبّسة بصيانة الأعراف والتقاليد و.. الخ _ فرض الوصاية على أعين الناس، وعلى آذانهم، وألسنتهم وأقلامهم ليس بدعاً في سلوك المنظومة التقليدية أياً كانت طبيعتها، فهي _ دائماً _ تسعى لتعطيل هذه الحواس التي هي نوافذ العقل، ومنها يستمد العقل مادته وتجتهد في لتقنيتها في أتباعها بفرض الوصاية عليها ليصبح الناس _ إذا تعطلت لديهم فاعلية هذه الحواس ومن ثم تعطل العقل _ كالأنعام بل هو أضل وهذه الحال شعر الأيديولوجي التقليدي أو لم يشعر منتهى الأماني لديه ". فهو يرى أن تحصين الناس من الأفكار المضللة، وحمايتهم منها، ضرب من ضروب الوصاية، ويرى أن يترك الناس بلا تحصين كافٍ ليعتنقوا مثل أفكاره المنحرفة التي يدعو إليها، ويدافع عنها، لذا فهو يرى أنّ : " مفردات من نوع ( الإرشاد/ التوجيه/ الرعاية الفكرية/ الأمن الفكري/ التحصين ضد الأفكار الهدامة/ مروجي الشبهات/ التغريب/ البرامج الهابطة/ العهر الفضائي ) " مفردات تستخدمها الثقافة التقليدية ( السلفية ) في وقوفها ضد الفكر الحديث ( يعني فكره العفن ) وصدق والله، فهو تحصين ضد الأفكار الهدامة ومروجي الشبهات من أمثاله، وهذا هو سر عدائه للسلفية..

والشاهد هنا من مقاله تن_زيل الآية التي وردت في الكفار وهي قوله تعالى: (( وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِّنَ الْجِنِّ وَالإِنسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لاَّ يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لاَّ يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لاَّ يَسْمَعُونَ بِهَا أُوْلَ_ئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُوْلَ_ئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ )) [الأعراف:179]، وقد أنزلها في الناس السلفيين الذين يفرض عليهم السلفي ( التقليدي ) كما يزعم هذا الكاتب وصايته، وسيأتي المزيد من الحديث عن الوصاية لاحقاً بإذن الله تعالى..

وفي مقال له بعنوان: ( واحذرهم أن يفتنوك ) الرياض: 13128، وهو جزء من آية نزلت في اليهود وأذنابهم من المنافقين، وقد أنزلها في خصومه السلفيين، في مقال شتم فيه السلفية على عادته، وقد سبق الحديث عن هذا المقال..

وفي مقال له بعنوان: ( من صور التطرف والاعتدال ) الرياض: 13282، سخر فيه من بعض ناصحيه من السلفيين، إضافة إلى شتم السلفية، والثناء على رموز التغريب،لم يكتف بآية واحدة، بل ثنّى بآيتين، إحداهما قوله تعالى: (( اللّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ )) [البقرة:15]، اقتصر على آخرها، وقد أنزلها في ما يراه ضحايا للمدرسة السلفية، وأطلق عليهم ( الأبرياء المذنبون ) حيث يجري توظيفهم من حيث لا يشعرون(!)، يقول: " في الغالب لا يكون التوظيف مباشراً ومقصوداً، بل تفعل المنظومة التي يجري الترويج لها فعلها بقوة الدفع الذاتي فيها، دون أن يشعر بنوها أنهم في طغيانهم يعمهون "(!).

ثم يختم مقاله باتهام الناصح له بالتكفير فضلاً عن بذيء السباب(!)، على الرغم من أنه في هذا المقال يصف الصحوة الإسلامية بالمتأسلمة أو ما أسماه ب_ ( تيارات التأسلم ) و (تيار الجمود والارتياب )، وهي تهمة تعني عدم الإسلام الحقيقي، أما السباب فقد ضمن مقاله هذا عدداً لا بأس به من الشتائم للسلفية، إضافة إلى تهم الإرهاب وغيره، فضلاً عما في سائر مقالاته من السباب البذيء ليس للأشخاص فحسب، بل للمذهب والمعتقد، وبعد أن اتهم ناصحه بالتكفير والإرهاب(!) راح ين_زل عليه آية نزلت في المنافقين، يقول: "أتذكر كل هذا وأقول: صدق الله العظيم القائل: (( لَوْ يَجِدُونَ مَلْجَأً أَوْ مَغَارَاتٍ أَوْ مُدَّخَلاً لَّوَلَّوْاْ إِلَيْهِ وَهُمْ يَجْمَحُونَ)) [التوبة:57 ] "، وهكذا يرمي كل من اختلف معه تاره بالآيات التي نزلت في الكفار، وتارة بالآيات التي نزلت في المنافقين، ثم يرميهم بتهم التكفير والإرهاب(!!!!)، فأي إرهاب فكري أعظم من هذا الإرهاب.

وفي مقال له بعنوان: ( ما بعد المعركة الخاسرة ) الرياض: 13303، شتم فيه السلفية على عادته، وتشفى مما حدث في الفلوجة من قتل ودمار، وسبب هذا التشفي أن الفلوجة تعد معقل السلفية في العراق، ثم أنزل عليهم آية نزلت في المنافقين بأسلوب تهكمي ساخر، يقول: " انتهت معركة الفلوجة، معركة خاسرة بلا ريب، انتهت معركة ومعارك أخرى غيرها على صورتها ( صورة طبق الأصل ) في الانتظار ما دامت بيانات الحماس الديني والقومي تشعل أوارها، ومؤتمرات الأحزاب الحالمة تنفخ فيها بالكثير من غبائها التاريخي المجيد! الإسلاموي(!) والقومي كلاهما نسي التاريخ خاصة إذا ما كان تاريخ هزائم وعبر مع أنه تاريخ ليس بالبعيد، إنهم يفتنون في كل عام مرة أو مرتين ثم لا يتوبون ولا هم يذكرون "(!!).

وفي مقال له بعنوان: (الاتصال والانفصال بين الديني والمدني) الرياض: 13324،تفوح منه رائحة العلمنة، يذكر فيه إشكالية العلاقة بين الديني والمدني عنده هو، وعلى عادته في شتم خصومه وتن_زيل الآيات التي في الكفار عليهم، يقول: " حل الإشكال يتم من خلال الوعي بدرجة تعقيده، لا بتبسيطه أو تجاهله في سبيل الأدلجة الماكرة بأصحابها قبل أن تمكر بغيرهم، وإن كان مكرهم لتزول منه الجبال.

وفي مقال له بعنوان: (المرأة من الأيديولوجيا إلى الإنسان) الرياض: 13758، وعلى عادته قام بشتم السلفية، وعدها (الخصم الأيديولوجي الشرس ) للمرأة، ثم أنزل عليها آية نزلت في حق الكفار، يقول: قبل استفحال الأيديولوجيا المتأسلمة (ويعني بها الصحوة الإسلامية المباركة) كانت المجتمعات على براءتها الأولى (يعني الجهل والغفلة) صحيح أنها كانت محكومة بأعراف وتقاليد تحد من حرية الإنسان، وترسم له كثيراً من الخطوط التي قد لا يرضاها، لكنها _ على كل حال - كانت بريئة من الارتياب الذي يقود إلى التزمت (!) وإلى خلق مسارات للمجتمع ما أنزل الله بها من سلطان (ليته ذكر بعض هذه المسارات) وليست إلا من اتباع الظن، والظن لا يغني عن الحق شيئاً ".. وهكذا يشبّه هذه الصحوة المباركة التي قامت برعاية علمائنا الكبار من أمثال الإمام ابن باز والعلامة العثيمين وغيرهما من الأموات والأحياء، بحال المشركين الذين قال الله فيهم: ((إِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ لَيُسَمُّونَ الْمَلَائِكَةَ تَسْمِيَةَ الْأُنثَى * وَمَا لَهُم بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِن يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً)) (النجم: 27، 28) .

ألا يعدّ هذا ضرب من ضروب التكفير، أو في أقل الأحوال: التضليل الذي ينهون عنه من أجل إقامة مجتمعهم المدني المزعوم ؟!!!.

والعجيب أنّ أحدهم كتب مقالاً في الجريدة نفسها بعنوان: ( الشيخ السعدي وميتافيزقيا اللغة ) (الرياض: 13058).

اتهم فيه الشيخ العلامة المفسر عبد الرحمن بن ناصر السعدي _ رحمه الله - بإنزال الآيات الواردة في أذى المشركين والكفار للمؤمنين الصالحين على قومه الذين ثاروا عليه وآذوه، وعد الكاتب ذلك معضلة، وأن الشيخ - رحمه الله - أخطأ طريق الإصلاح (!!!)..

أما عنوان كتاب الشيخ السعدي الذي انتقده هذا الكاتب النكرة فهو: (الإيضاحات السلفية لبعض المنكرات والخرافات الوثنية المنتشرة في قضاء الظفير) .

ويلاحظ من خلال هذا العنوان أن القوم الذين أنزل الشيخ السعدي عليهم الآيات ذوو خرافات وثنية، أي أنهم أهل شرك وخرافة، ولو أنّ هذا الكاتب بدلاً من التنقيب في كتب الأئمة الأعلام واتهامهم بما هم منه براء، نظر إلى كتابات زميله في الصحيفة الذي نقلتُ بعض مقالاته آنفاً، وهو يقوم في القرن الحادي والعشرين بتن_زيل الآيات التي نزلت في الكفار والمنافقين على المختلفين معه من أصحاب العقيدة السلفية، لو أنه نظر إلى هذه الكتابات لوجد فيها ضالته التي أراد إنكارها، إن كان هذا هو مراده حقاً، لكنه عمي عن الجذع في عينه وعين زميله البذيء، وأبصر الذرة في عين غيره، بل أبصر الوهم، فيا لله العجب كيف يفكر هؤلاء، وكيف يحكمون.

=============

#الإسلام والآخر الحوار هو الحل

بقلم

حمدى شفيق

رئيس تحرير جريدة النور الإسلامية المصرية

بسم الله الرحمن الرحيم

]يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى

وجعلناكم شعوبًا وقبائل لتعارفوا

إن أكرمكم عند الله أتقاكم

إن الله عليم خبير[

صدق الله العظيم

(الحجرات : 13)

بسم الله الرحمن الرحيم

مقدمة

الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين سيدنا محمد وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين . وبعد ..

فإن علاقة المسلمين بالآخر هى من أهم الموضوعات المطروحة الآن على الساحة ، خاصة بعد أحداث 11 سبتمبر 2001م فى الولايات المتحدة الأمريكية ، وما تلاها من احتلال القوات الأمريكية لأفغانستان ثم العراق ، وكذلك استمرار المذابح المروعة التى يرتكبها الاحتلال الصهيونى فى فلسطين ، وتعرض المسلمين للمظالم والفتك والتشريد فىكشمير والشيشان وغيرهما ..

ويُثار الكثير من الأسئلة فى ظل الحملات الإعلامية المسعورة ضدنا فى وسائل الإعلام الغربية : ما هو مضمون علاقة المسلم بالآخر ؟ أهو الحوار والتفاهم والتبادل الحضارى ، أم هو الصراع والتربص والقتال الضارى حتى يهلك الأعجل من الفريقين ؟! وماذا يقول التاريخ عنا وعنهم ؟ وما هو وضع الأقليات الإسلامية فى الخارج فى ظل هذه الظروف ؟ وما هى الأحكام المنظمة لأوضاع غير المسلمين فى المجتمعات الإسلامية ؟ وما هى الوسائل التى يمكن من خلالها أن يسمع الآخر صوت الإسلام والمسلمين لعله يتذكر أو يخشى ؟ .

للإجابة عن هذه الأسئلة وغيرها يأتى هذا الكتاب ، وهو جهد متواضع نسأل الله أن يتقبله بكرمه وجوده وإحسانه ، وأن يغفر لنا ما كان من زلل أو تقصير، إنه سبحانه نعم المولى ونعم النصير .

حمدى شفيق

الفصل الأول

نظرية صراع الحضارات

لم يكن صمويل هنتنجتون هو أول من زعم وجود صراع بين الحضارات، فالحملة على الإسلام والمسلمين تعود إلى قرون ، بل بدأت مع ظهور الدعوة الإسلامية المباركة منذ 14 قرناً من الزمان .. وتبلورت أكثر فى أوقات الحروب الصليبية وحملة الإبادة الجماعية لمسلمى الأندلس ، ثم رسخت جذور العنصرية الغربية أكثر فى حقبة الاستعمار الأوروبى لمعظم بلاد العالم الإسلامى .. ثم وجد الغرب نفسه بحاجة إلى ملء الفراغ الذى سببه انهيار الشيوعية وزوال خطرها باختلاق خطر آخر ؛ لأنه من الصعب بعث الحياة فى فكرة أوروبا الموحدة إن لم يكن هناك خطر خارجى .. وبطبيعة الحال تستثمر الدوائر الصهيونية فى الولايات المتحدة الأمريكية وأوروبا مثل هذه الأوضاع لسكب مزيد من البنزين على نار التعصب ضد العرب والمسلمين ، والإلحاح باستمرار وعبر وسائل الإعلام الخاضعة لنفوذهم على مقولة صراع الحضارات .. وتجدر الإشارة هنا إلى أن صمويل هنتنجتون صاحب النظرية الأشهر بهذا الصدد يهودى الديانة ، فضلاً عن علاقاته الوثيقة بدوائر المخابرات الأمريكية ، ولهذا دلالته التى لا تخفى على أحد .. كما أنه نقل النظرية عن أستاذه برنارد لويس وهو يهودى أيضًا ..

وقد سبق هنتنجتون فى حكاية الصراع هذه الرئيس الأمريكى الأسبق ريتشارد نيكسون الذى أكد صراحة فى كتابه (الفرصة السانحة) أو (انتهزوا الفرصة) أن العالم الإسلامى هو العدو المستقبلى للغرب بعد انهيار الاتحاد السوفيتى .. وكرر ذات المقولة أمين عام سابق لحلف شمال الأطلنطى .. ثم تلاه فرانسيس فوكوياما الأمريكى من أصل يابانى الذى تحدث عن قرب نهاية التاريخ وانتصار الحضارة الغربية على العالم الإسلامى .. وهناك أيضًا الحملات المسعورة التي يقودها كبار المنصرين أمثال جراهام بل وبات روبرتسون وجيمى سواجارات ، والتى تلح على ضرورة ضرب الإسلام تمهيدًا لحرب (هرمجدون) المزعومة التى يقود فيها السيد المسيح اليهود والنصارى للقضاء على المسلمين والوثنيين ، ولهذا .. لابد - من وجهة نظر هؤلاء - من دعم إسرائيل واستمرارها، لأن قيامها وبقاءها شرطان لازمان لوقوع (هرمجدون) المزعومة !!

و (هرمجدون) كلمة عبرية تعنى إما : تل مجيدون شمال فلسطين وهو موجود هناك ويعرفه الأهالى باسم: تل المجيدية، أو أن معناها جبل مجيدو وهو موجود بفلسطين أيضاً . وأهم كتاب دينى أمريكى يكشف خلفية الأمريكان المؤمنين بحكاية هرمجدون هذه فى حربهم المقبلة مع المسلمين وعقيدتهم الشيطانية هو كتاب (Forcing of God's Hand) - ترجمة حسام تمام - وهو أهم ما صدر فى الشأن الدينى الأمريكي فى العام الماضي . وربما كان من أهم الكتب التى عالجت باقتدار قضية التوظيف السياسي - الذى يصل إلى حد الابتزاز - للنبوءات الدينية فى العقد الأخير من القرن العشرين. والمؤلفة هى الكاتبة الأمريكية المعروفة جريس هالسل التى عملت محررة لخطابات الرئيس الأمريكي الأسبق ليندون جونسون، وهى صحفية مشهورة ومرموقة صدرت لها عدة كتب، أهمها وأكثرها شهرة (النبوءة والسياسة) .. والكتاب عبارة عن إجابات عن أسئلة جمعتها المؤلفة من سلسلة مقابلات شخصية مع مسئولين من مراجع كنسية أمريكية مختلفة ، وتتصدى فيه جريس هالسل - ربما لأول مرة - لظاهرة المنصرين التوراتيين التلفزيونيين، الذين يمثلون اليمين المسيحي المتطرف فى الولايات المتحدة الأمريكية، والذى يعرف إعلاميا بـ (الصهيونية المسيحية). وهى الظاهرة التى تجسد أغرب وأسوأ أشكال الدجل السياسي الدينى فى العقد الأخير، ربما على مستوى العالم كله، والتى صنعها عدد من المنصرين التوراتيين الذين احترفوا تقديم برامج تليفزيونية عن النبوءات التوراتية التى تبشر بقرب نزول المسيح المخلص ونهاية العالم فيما يعرف بمعركة (الهرمجدون)، واستطاعوا من خلال نشاطهم - الذى يعد أكبر وأهم حركة تنصير فى تاريخ المسيحية - إقامة ما يعرف بـ (حزام التوراة)، والذى يتكون من مجموعة ولايات الجنوب والوسط الأمريكي، والتى تكونت فيها قطاعات واسعة من المسيحيين المتشددين دينياً والمؤمنين بنبوءة (الهرمجدون)، أو نهاية العالم الوشيكة والمرتبطة بنزول المسيح المخلص من الشر والخطيئة. ويعتمد خطاب المنصرين التوراتيين على رؤية سهلة للحياة، مفادها أن العالم أصبح تملؤه الشرور والخطايا، وهو ما سيعجل بظهور (المسيح الدجال) وجيوش الشر . ولن يصبح هناك حل لإنقاذ البشرية والخلاص من الشرور إلا عودة المسيح المخلص لانتزاع المسيحيين المؤمنين من هذا العالم الملئ بالخطيئة والشر، وهذا الخلاص - عندهم - رهين بعودة المسيح فقط . أما المطلوب عمله من هؤلاء المؤمنين فهو السعى لتحقيق هذه النبوءة أو الإسراع بإجبار يد الله على تحقيق (النبوءة)!. وتحقق النبوءة عندهم رهن بقيام إسرائيل الكبرى وتجميع كل يهود العالم بها، ومن ثم فلابد من تقديم وحشد كل التأييد المادى والمعنوى، المطلق وغير المحدود أو المشروط للكيان الصهيوني؛ لأن ذلك هو شرط نزول المسيح المخلص .

والطريف أن هذا التأييد لا يعنى الإيمان باليهود أو حتى مبادلتهم مشاعر الحب أو التعاطف معهم، لأن هؤلاء التوراتيين يعتقدون أن المسيح المخلص سيقضى على كل اليهود أتباع المسيح الدجال الذين سيرفضون الإيمان به، أى أنهم يدعمون الكيان الصهيونى باعتباره وسيلة تحقق النبوءة فقط . هذه العقيدة تلقفها كبار القادة اليهود فى أمريكا والكيان الصهيونى، وخاصة من اليمين الديني المتطرف الذى يسيطر على مجريات ومقاليد اللعبة السياسية، واستغلوها جيداً للحصول على كافة أشكال الدعم والتأييد . وهم لا يعنيهم محبة اليمين المسيحي المتطرف فى أمريكا أو إيمانه بهم بقدر ما يعنيهم ما يدره عليهم الإيمان بهذه النبوءة من أموال ودعم سياسي واقتصادي غير محدود. فبفضلها تتدفق الرحلات السياحية الأمريكية على الكيان الصهيوني، وتنظم مظاهرات التأييد وحملات جمع التبرعات، وتسخر الإدارة والسياسة الأمريكية لخدمة المصالح الصهيونية، خاصة مع تزايد إيمان الشعب الأمريكي بهذه النبوءة والاعتقاد بها، حتى أن استطلاعا أجرته مجلة (تايم) الأمريكية سنة 1998 أكد أن 51% من الشعب الأمريكي يؤمن بهذه النبوءة ، ومن هؤلاء عدد كبير من أعضاء النخبة الحاكمة فى الولايات المتحدة، بعضهم وزراء وأعضاء فى الكونجرس وحكام ولايات . بل ويؤكد الكتاب أن جورج بوش، وجيمي كارتر، ورونالد ريجان كانوا من المؤمنين بهذه النبوءة ، والأخير كان يتخذ معظم قراراته السياسية أثناء توليه الرئاسة الأمريكية على أساس النبوءات التوراتية .

وتكشف جريس هالسل فى كتابها عن أن هناك اقتصاديات ضخمة تقوم على هذه النبوءة التى تدر مليارات الدولارات سنوياً على نجوم التنصير التوراتي، الذين يمتلكون عشرات المحطات التلفزيونية والإذاعية فى أمريكا وأنحاء العالم، وأبرزهم بات روبرتسون الذى يطلق عليه لقب (الرجل الأخطر فى أمريكا).. فقد أسس وحده شبكة البث المسيحية (CBN)، وشبكة المحطة العائلية إحدى كبريات الشبكات الأمريكية، كما أسس التحالف المسيحي الذى يعد الأوسع نفوذاً وتأثيراً فى الانتخابات الأمريكية بفضل ملايين الدولارات التى يحصل عليها كتبرعات من أتباعه ومشاهدى نبوءاته التلفزيونية، وكذلك بات بيوكاتن الذى كان مرشحاً لانتخابات الرئاسة الأمريكية الأخيرة عن حزب الإصلاح .

وتعد برامج هؤلاء المنصرين التوراتيين من أمثال هالويل، وجيري فالويل، وتشارلز تايلور، وبول كرواسي ، وتشال سميث ، وروبرتسون ، وبيوكاتن ، من أكثر البرامج جماهيرية فى الولايات المتحدة كما تشهد أشرطة الفيديو والكاسيت التى تحمل هذه البرامج رواجاً هائلاً فى أوساط الطبقة المتوسطة الأمريكية (ومعظم المؤمنين بهذه النبوءة منها وهم بالملايين)، وكذلك الكتب الخاصة بها والتى صارت تباع كالخبز؛ حتى أن كتاب (الكرة الأرضية العظيمة المأسوف عليها) للمنصر التوراتى هول ليفدسى بيعت منه أكثر من 25 مليون نسخة بعد أيام من طرحه فى الأسواق. وينتشر المنصرون التوراتيون فى معظم أنحاء الولايات المتحدة فى عدة آلاف من الكنائس التى يعملون فى كهانتها، عبر مؤسسة الزمالة الدولية لكنائس الكتاب المقدس. ويؤمن أتباع هذه النبوءة بأنهم شعب نهاية الزمن، وأنهم يعيشون اللحظة التى كتب عليهم فيها تدمير الإنسانية، ويؤكدون قرب نهاية العالم بمعركة الهرمجدون التى بشرت بها التوراة، والتى سيسبقها اندلاع حرب نووية تذهب بأرواح أكثر من 3 مليارات إنسان! وتبدأ شرارتها من جبل الهرمجدون الذى يبعد مسافة 55 ميلاً عن تل أبيب بمسافة 15 ميلاً من شاطئ البحر المتوسط، وهو المكان الذى أخذ أكبر حيز من اهتمام المسيحيين بعد الجنة والنار!.

وتحلل جريس هالسل كيف أفرزت هذه الحركة المسيحية أكثر من ألف ومائتى حركة دينية متطرفة، يؤمن أعضاؤها بنبوءة نهاية العالم الوشيكة فى الهرمجدون، وترصد سلوك وأفكار هذه الحركات الغريبة التى دفعت ببعضها الى القيام بانتحارات جماعية من أجل التعجيل بعودة المسيح المخلص وقيام القيامة، ومنها جماعة (كوكلوكس كلان) العنصرية، والنازيون الجدد وحليقو الرؤوس، وجماعة (دان كورش) الشهيرة والتى قاد فيها (كورش) أتباعه لانتحار جماعى قبل عدة سنوات بمدينة (أكوا) بولاية تكساس من أجل الإسراع بنهاية العالم، وكذلك القس (جونز) الذى قاد انتحاراً جماعياً لأتباعه أيضاً فى (جواينا) لنفس السبب، وقد كان (ماك تيموثى) الذى دبر انفجار (أوكلاهوما) الشهير من المنتمين لهذه الجماعات .

ويكشف الكتاب عن العلاقة العنصرية الغريبة التى تربط بين اليمين المسيحي المتطرف فى أمريكا ونظيره اليهودى فى الكيان الصهيونى ، على الرغم من التناقض العقائدى بينهما. العلاقة التى تقوم على استمرار الدعم والتأييد المطلق رغم الكراهية المتبادلة! فتؤكد هالسل أن اللاسامية نوعان: نوع يكره اليهود ويريد التخلص منهم وإبعادهم بكل الوسائل، ونوع آخر يكرههم، ولكن يريد تجميعهم فى فلسطين مهبط المسيح فى مجيئه الثانى المنتظر.

وتشرح هالسل كيف يستفيد الكيان الصهيونى من هذه النبوءة التى تمنع المسيحي الأمريكي المؤمن بها من التعامل الراشد مع الواقع، وتجبره على رؤية الواقع والمستقبل فى إطار محدد ومعروف سلفاً، وهو ما يؤدى إلى الوقوع فى انتهاكات أخلاقية فاضحة تأتى من تأييد المشروع الصهيوني العنصرى الذى يقوم على الاستيطان، وتهجير الآخرين، وطردهم من أرضهم، والاستيلاء عليها، بل والقيام بمذابح جماعية ضدهم، وهو ما يظهر فى التعاطف الذى يبديه المسيحيون التوراتيون مع السفاحين اليهود إلى حد المشاركة فى المجازر التى يرتكبونها ضد الفلسطينيين، كما فعل بات روبرتسون الذى شارك فى غزو لبنان مع إريل شارون والمذابح الوحشية التى ارتكبها وشارك معه متطوعون من المسيحيين التوراتيين الذين حاربوا مع الجيش الصهيوني، وهى المعلومات التى حرصت هالسل على ذكرها رغم الحظر المفروض عليها إعلامياً فى الولايات المتحدة والكيان الصهيوني. كما تكشف هالسل عن أن معظم المحاولات التى جرت لحرق المسجد الأقصى أو هدمه وبقية المقدسات الإسلامية فى القدس من أجل إقامة الهيكل موَّلها وخطط لها مسيحيون توراتيون من المؤمنين بنبوءة الهرمجدون وإن لم يشاركوا فيها !!. وفى فكر المنصرين التوراتيين تغيب كل معانى المحبة والتسامح المقترنة بالمسيحية، ويبدو المسيح فى أحاديثهم فى صورة جنرال بخمسة نجوم يمتطي جواداً، ويقود جيوش العالم كلها، مسلحاً برؤوس نووية ليقتل مليارات البشر فى معركة الهرمجدون(1) .

ولا ننسى تصريحات العجوز الشمطاء مارجريت ثاتشر رئيس وزراء انجلترا الأسبق - فى عدة مناسبات - المعادية للإسلام والمسلمين ، وأيضًا بيرلسكونى رئيس وزراء إيطاليا حليف عصابات المافيا الدولية ، رغم اضطراره إلى الاعتذار عنها فيما بعد ، ثم السقطة المدوية للرئيس الأمريكى جورج بوش الابن الذى وصف حربه العدوانية ضد العراق بأنها (حملة صليبية) جديدة !! ولا يجدى طبعًا فى محو أثر هذه العبارة بالغة الخطورة ، الادعاء بأنها كانت (زلة لسان) ، أو قيام بوش بعد ذلك بزيارة المركز الإسلامى فى واشنطن لتهدئة مشاعر المسلمين ، لأن بوش من أتباع الكنيسة المتطرفة التى تؤمن كما أشرنا بضرورة قيام ودعم دولة إسرائيل تمهيدًا لمعركة (هرمجدون) المزعومة لسحق المسلمين والوثنيين وبدء الألف عام السعيدة لهم على الأرض بعد تخلصهم من غير المسيحيين !!! طبعًا لو قلنا نحن هذا لقامت الدنيا ولم تقعد احتجاجًا على وحشية المسلمين وأفكارهم التصفوية التى تعمل على إبادة الآخرين واستئصالهم ، ولكن لأن هذه هى نظرية كثير من السادة الأمريكان فلا وجود لأية ردود أفعال تذكر!!!

ولأن نظرية هنتنجتون هى الأشهر فسوف نعرضها فيما يلى بإيجاز ثم يأتى الرد عليها تفصيليًا :

تحدث صمويل هنتنجتون عن صراع الحضارات لأول مرة فى مقال نشره عام 1993 فى مجلة (فورن أفيرز) ثم فى كتاب كامل وقال : إنه بعد انتهاء الحرب الباردة سوف تسيطر الصراعات بين الحضارات . وأن (الإسلام تحيط به حدود دموية ، ويبدو أن ما يحدث فى تيمور الشرقية والشيشان وكوسوفا والعراق وكشمير يؤكد هذه الملاحظة . وسواء اعتقد المرء ذلك أم لم يعتقد فإن اللوم يقع على الإسلام !!

وفى عام 1996 قدم هنتنجتون وجهة نظره فى كتاب بعنوان : (صراع الحضارات وإعادة تشكيل النظام العالمى) وصفه هنرى كيسنجر بأنه يقدم إطارًا جريئاً لفهم السياسات العالمية فى القرن الحادى والعشرين ، وقال كيسنجر : إن تحليلات هنتنجتون تثبت صحتها ودقتها إلى درجة تنذر بالخطر . وتتلخص نظريته فى أن الحضارات الرئيسية المعاصرة هي الحضارات الصينية، واليابانية ، والهندوسية ، والإسلامية ، والأرثوذكسية ، والغربية (أوروبا وأمريكا) وحضارة أمريكا اللاتينية . والحضارات الأربع الكبرى فى العالم هى الحضارات الصينية ، والهندوسية ، والإسلامية ، والحضارة الغربية ، وكل من هذه الحضارات تضم حوالى مليار نسمة ، وكل حضارة منها لها دين مؤسس لها تشكلت وتبلورت حوله ، وهذه الديانات هى: الإسلام، والمسيحية، والكونفوشية ، والهندوسية ، وتعتبر كل من الصين والهند قلبًا أو محورًا لحضارة كل منهما ، أما الغرب فينظر إليه على أنه منقسم إلى محورين رئيسيين هما : الولايات المتحدة وأوروبا . وبالنسبة للإسلام فليست هناك دولة تمثل قلب أو محور حضارته ، وهذا ما يجعل من الصعوبة فهم الإسلام وحضارته بالنسبة لمن هم خارج هذه الحضارة ، ويقول هنتنجتون أيضًا : إن صراع الإسلام والغرب يثير مشكلات ضخمة للعالم بطريقة أو بأخرى .

إن الغرب يطالب بسيطرة فريدة على العالم ، والمبرر لذلك أنه يمثل القوة العالمية القائمة على أساسين هما : تفوق التكنولوجيا الأمريكية ، وتفوق الأيديولوجية العالمية القائمة علىالليبرالية وحقوق الإنسان . وتنظر الحضارات الأخرى إلى الغرب على أنه يمتلك قوة عسكرية واقتصادية خطيرة ، ولكنه منهار من الناحية الاجتماعية . ويتمثل هذا الانهيار الاجتماعى فى التفكك الأسرى ، وعدم التمسك بالمعتقدات الدينية , وانتشار الجريمة ، والمخدرات ، وارتفاع نسبة المسنين , وانتشار البطالة.. أما الغرب فإنه ينظر إلى نفسه على أنه نموذج لحضارة القرن الحادى والعشرين ، وتنظر إليه الحضارات الأخرى على أنه نموذج سيىء يحسن تجنبه وليس محاكاته .

ويضيف هنتنجتون : إن الغرب يسيطر على العالم الآن سيطرة كاملة، وسيظل مسيطرًا ومتفوقًا فى القوة خلال القرن الحادى والعشرين ، إلا أن التغييرات التدريجية والحتمية الأساسية تؤثر أيضًا على توازن القوى بين الحضارات، وستأخذ قوة الغرب فى الاضمحلال . فخلال خمسة وسبعين عامًا من 1920 حتى 1995 تراجعت السيطرة السياسية للغرب على المناطق العالمية بنسبة 50% , وتراجعت نسبة من يسيطر عليهم الغرب من سكان العالم 80%، وتراجعت سيطرة الغرب على الصناعة العالمية بنسبة 35% ، أما سيطرة الغرب على القوة العسكرية فقد تراجعت بنسبة 60% . وفى العالم 45 دولة مستقلة تنضوى تحت راية الإسلام ، وهو أقوى الديانات العالمية من حيث سيطرته الثقافية على المؤمنين به ، كما أنه دين له ميزة اقتصادية كبرى ، هى أنه يسيطر على معظم احتياطى البترول العالمى ، ولن ينضب هذا البترول إلا بعد سنوات طويلة جدًا , ولايزال الإسلام يمر بمرحلة النمو السكانى السريع ، ومن المتوقع أن يشكل المسلمون 30% من سكان العالم فى عام 2025 ، وقد تسببت الهجرة من الدول الإسلامية إلى دول أوروبا فى ردود فعل شديدة فى أوروبا ، حتى إن نصف عدد الأطفال فى بروكسل - مقر الاتحاد الأوروبى - يولدون من أمهات عربيات ، ويشكل الشباب المسلم الساخط العاطل عن العمل تهديدًا لأوطانهم الأصلية ولدول الغرب التى هاجروا إليها .. أما الصحوة الإسلاميةلاملام الجديدة فقد منحت المسلمين الثقة فى شخصيتهم المميزة ، وفى الإحساس بأهمية حضارتهم ، وفى القيم الإسلامية بالمقارنة بالقيم والحضارة الغربية فى العالم ، ويقول أيضًا : إن الخطر يكمن فى التفاعل بين هذه الصحوة والثقة الإسلامية التى تدعمها الزيادة السكانية المستمرة وبين مخاوف الحضارات المجاورة ، وهذه الحضارات المجاورة لحضارة الإسلام لديها شعور كامل بالخوف من التهديد الإسلامى .. الغرب قلق بسبب البترول وهواجس الانتشار النووى فى الدول الإسلامية , والهجرة من الدول الإسلامية، كما يشعر الغرب بالقلق على إسرائيل ، والانتقاص من حقوق الإنسان فى الدول الإسلامية . وكذلك فإن روسيا تشعر بالتهديد الإسلامى بصورة مباشرة ، ويتمثل فى انفصال الدول الإسلامية والمطالبة المسلحة للشيشان بالاستقلال ، وكذلك يخشى الصرب من قيام (ألبانيا العظمى) . وتخشى الهند من باكستان ، ومن جاذبية الإسلام لنحو مائتى مليون مسلم فى الهند واحتمال انسلاخهم منها، والصين أيضًا تشعر بالقلق تجاه المسلمين فى آسيا الوسطى ومن مطالبة المسلمين فى إقليم سنكيانج الصينى بالانفصال ، والصينيين فى أندونيسيا ، بل إن سكان أفريقيا جنوب الصحراء من غير المسلمين لديهم مخاوف أيضًا تجاه الإسلام .

أما عن مستقبل العلاقة بين الحضارات الأربع : الحضارة الغربية وحضارة الصين وحضارة الهند والحضارة الإسلامية ، فإن هنتنجتون يرى أن الصراع بينها حتمى ، ويرى أن الإسلام يمثل مشكلة ليس لها حل ، وليس أمام الغرب إلا أن يظهر تفهمًا أكبر للصحوة الإسلامية ، لأن هذه الصحوة سوف تتطور فى المستقبل أكثر مما هى عليه الآن ، وعلى الغرب أن يغير ردود فعله تجاه هذه الصحوة الإسلامية ، لأن موقف العجرفة والشعور بالتفوق الثقافى ومشاعر العداء الصريحة من جانب الغرب تجاه الإسلام هى أسوأ ردود فعل ممكنة , وإن كان هنتنجتون يصل أخيرًا إلى التنبؤ بأن الدول المجاورة للإسلام ستفعل كما حدث فى صربيا وتتصدى للصحوة الإسلامية , وكما كان الخوف من الألبان المسلمين هو الذى أتى بميلوسيفيتش عام 1987 إلى السلطة على أمل أن يقضى بالمذابح على المسلمين ، ولكن لن يجد العالم الأمر سهلاً حين يسعى إلى تحجيم (الحدود الدموية) للإسلام وعدم اتساعها .

وهكذا فإن الخوف من الإسلام واعتباره هو (العدو) للحضارة الغربية وللحضارات الأخرى أصبح قائمًا على أساس نظرية متكاملة ، لها جذور تاريخية قديمة ، اكتملت وتبلورت على يد صمويل هنتنجتون أستاذ الدراسات الدولية فى جامعة هارفارد .. النظرية إذن نظرية أمريكية .. وهى فى حقيقتها ليست إلا تبريرًا فلسفيًا للحرب ضد الإسلام .. وقد ينكر بعض الأمريكيين أنهم يعتقدون صحة هذه النظرية .. ولكن ما تفعله أمريكا ليس إلا التطبيق العملى لها ، فالمفهوم الغربى فى هذا القرن - كما عبّر عنه هنتنجتون ، وكما نرى فى كتابات المفكرين والمحللين وتصريحات السياسيين ، ومواقف الدول الغربية ، وكما نرى على أرض الواقع - هو حوار بالصواريخ والطائرات والقنابل الذكية وآلة الحرب الهائلة التى تتحرك لتدمير دول إسلامية .

والدليل على نظرية هنتنجتون عن حتمية الصراع بين الإسلام والحضارة الغربية ما نراه فى مناهج تدريس التاريخ للتلاميذ فى أمريكا والدول الغربية من تصوير المسلمين وفقًا لأنماط ذهنية ثابتة stereotypes فى الوعى الأمريكى والأوروبى ، تعكس التحيز وفقدان الموضوعية عند الحديث عن الإسلام والمسلمين .

وفى دراسة للدكتورة فوزية العشماوى للكتب المدرسية فى المناهج الأمريكية والأوروبية أكدت أن ما يدرسه التلاميذ عن الإسلام والعالم الإسلامى لا يزيد عن 3% من المقرر الدراسى ، و 97% من المقرر مخصصة لتاريخ أوروبا وأمريكا , وفى الغالب يكون الجزء المخصص للعالم الإسلامى فى إطار بلاد العالم الثالث سواء من الناحية الجغرافية أم التاريخية ، أم فى إطار توزيع الثروات الطبيعية فى العالم وخاصة البترول ، بينما تجعل المناهج من أوروبا وأمريكا المحور الذى تدور حوله الأحداث التاريخية المهمة ، وكأن الدول الإسلامية هوامش أو زوائد . ويتبين ذلك من إغفال الأحداث التاريخية المهمة التى تعتبر علامات ثابتة فى التاريخ العربى والإسلامى ، ويتم التركيز فقط على الأحداث التى تبرز تفوق الغرب وانتصاره على المسلمين ، مما يؤكد حرص واضعى المناهج الدراسية على غرس الاتجاه لرفض (الآخر) العربى والمسلم ، على أساس أنه مختلف عن الإنسان الغربى ، وعدم تفهم دوره فى التاريخ وقيمة هذا الدور . وتشير الدكتورة فوزية العشماوى إلى دراسة قامت بها تحت إشراف اليونسكو عن صورة المسلم فى الكتب المدرسية فى فرنسا وأسبانيا واليونان وخاصة كتب التاريخ فى نهاية المرحلة الابتدائية ، وكانت نتيجة البحث أن التاريخ الذى يتم تدريسه للتلاميذ الأوروبيين الصغار يعلمهم أشياء مختلفة تمامًا عما يتم تدريسه للتلاميذ العرب والمسلمين ، وتقدم للتلاميذ الإسلام والرسول صلى الله عليه وسلم بمعلومات تجرح شعور المسلمين ، فتجد نبى الإسلام صلى الله عليه وسلم يتم تقديمه أحيانًا على أنه شاعر يرى رؤى خارقة ، ويشار إليه بألفاظ توحى بالشك فى مصداقيته ، وفى أغلب الأحيان يبدأ تدريس الإسلام بذكر الانتشار السريع المخيف للإسلام بالغزوات فى صدر الإسلام ثم بالفتوحات فى القرنين السابع والثامن الميلاديين ، وكيف أن جيوش المسلمين زحفت إلى أوروبا واكتسحت تلك البلاد واستولت عليها بقوة السيف، ونهبت أموالهم وثرواتهم إلى أن تمت هزيمة المسلمين على يد (شارل مارتال) القائد الفرنسى الذى أوقف الغزو الإسلامى فى معركة (بواتييه) فى جنوب فرنسا عام 732 ميلادية .

كذلك يتم تصوير العرب فى حروبهم على أنهم يتعاملون بوحشية ، وتؤدى هذه الكتابات إلى أن تثبت فى أذهان الغربيين صورة المسلمين على أنهم الغزاة المتوحشون الذين يثيرون الرعب ، ويمثلون تهديدًا لجيرانهم . وفى الفصل الخاص بالحروب الصليبية تصور المناهج هذه الحروب على أنها كانت بهدف (تحرير بيت المقدس من أيدى الكفار) المسلمين الذين كانوا يحتلونها ويسيئون معاملة الحجاج المسيحيين القادمين من أوروبا لزيارة الأماكن المسيحية المقدسة فى القدس . ويدل على ذلك أن الأوروبيين مازالوا يرددون حتى اليوم الوصف الذى كان يطلق على المسلمين فى أوروبا فى القرون الوسطى ، وهو أنهم كفار دون محاولة من مؤلف الكتاب المدرسى لتصحيح هذا المفهوم الخاطىء.. وفى نفس الوقت تغفل المناهج الدراسية الإشارة إلى وحشية جيوش الصليبيين وعدم تسامحهم مع المسلمين سكان القدس حين انتزعوها من أيدى المسلمين عام 1099م , (بينما تعترف الموسوعات العلمية الكبرى بأن الصليبيين ذبحوا أكثر من 70 ألفًا من أهالى القدس المدنيين دون تمييز بين النساء والأطفال والشيوخ ، أو بين مسلمين ويهود ، وحتى بين المسيحيين من أهالى المدينة العزل ، ولا تشير المناهج إلى تسامح المسلمين حين استعادوا القدس عام 1187 على يد صلاح الدين الأيوبى الذى أصدر العفو عن كل الذين أساءوا إلى أهل المدينة) ، وهذه الواقعة سجلها التاريخ ، ولا يعلمها الغربيون لأنهم لم يدرسوها فى مدارسهم ، وتغفل المناهج الدراسية فضل العلماء والفلاسفة العرب المسلمين على النهضة الأوروبية فى القرن الخامس عشر الميلادى ، ونادرًا ما يذكر ابن رشد وابن المقفع والخوارزمى وابن سينا وابن النفيس الذين كانوا أساتذة ومعلمين لأوروبا بأسرها منذ القرن التاسع الميلادى ، ولهم اكتشافات علمية واختراعات ونظريات علمية وفلسفية كانت الأساس للنهضة الأوروبية حيت ترجمت أعمالهم إلى اللاتينية ثم إلى اللغات الأوروبية , وكثير من علماء عصر النهضة نسبوا لأنفسهم أفكارًا واكتشافات ونظريات المسلمين إلى أن بدأ بعض المستشرقين الغربيين يعترفون بفضل العرب والمسلمين على النهضة الأوروبية .

هكذا يعلمون تلاميذهم فى الغرب عن الإسلام والمسلمين ما يغرس الكراهية والعداء منذ الصغر ، فلا غرابة أن يعبروا عن هذه الروح العدائية عندما يكبرون ، ولا غرابة أن يظهر عندهم نظرية صراع الحضارات وحتمية الحرب العالمية الثالثة ضد الإسلام هذه المرة !(2) .

المراجع

(1) حمدى شفيق - العلماء يردون على أسطورة هرمجدون - الفصل الأول .

(2) رجب البنا - صناعة العداء للإسلام - دار المعارف - مصر .

الفصل الثانى

نقد نظرية الصراع

تنطوى الرؤية الهنتنجتونية هذه للعالم المعاصر على قدر هائل من التلفيق العلمى و (لَىِّ) عنق التاريخ , ولعل التلفيق الأكبر يكمن فى تجاهله للدول والمؤسسات السياسية ، رغم الدور المحورى الذى تلعبه الدولة - سواء امبراطوريات الأسر القديمة أو الدولة القومية الحديثة - فى قيام أية حضارة ، فالغرب عنده هو كتلة واحدة متجانسة ، رغم الاختلافات الشديدة بين أمريكا من جهة والدول الغربية من جهة أخرى . والحضارة الإسلامية كذلك كتلة واحدة وليست دولاً وشعوبًا وقوميات مختلفة ، سواء كان ذلك فى ذورة قوتها ومجدها (عندما كانت حضارة عربية) إبان العصرين الأموى والعباسي ، أو كان ذلك فى ظل الخلافة العثمانية التى فرضت هيمنتها على جزء كبير من العالم القديم ، أو حتى فى العصر الراهن ، الذى تعانى فيه الدول الإسلامية من أقصى درجات الفقر والضعف الاقتصادى والسياسى والعسكرى والعلمى ، ناهيك عن التفكك فيما بينها .

ومن المعروف أنه لا يمكن لأى حضارة أن تقوم دون وجود مركز - الدولة - قوى اقتصاديًا وعلميًا وعسكريًا يقوم بدور الحاضن لها . ووفقًا لهذه الرؤية ، كانت الدولة العثمانية آخر مركز قوى - على الأقل عسكريًا - للحضارة الإسلامية . وفى ظل الوضع العالمى الراهن والتوازنات الإقليمية والدولية السياسية والاقتصادية والعسكرية ، لا يمكن لأية دولة إسلامية كبيرة نسبيًا (إيران ، مصر ، أندونيسيا ، باكستان ، تركيا) ، أن تقوم بدور (الدولة المركز) التى يمكن لها أن تقود هذه الحضارة الإسلامية المعاصرة - المزعومة - فى مواجهتها للحضارة الغربية - المزعومة أيضًا - أو أية حضارة هامشية أخرى .

أما التلفيق الأكبر الذى لجأ إليه هنتنجتون فهو رؤيته للحضارة الغربية ذاتها التى يصنفها استنادًا إلى معيارى الجغرافيا والدين فقط .

هذا التلفيق الهنتنجتونى يتعلق بجوهر الحضارة الغربية ذاته .

فالحضارة الغربية هى الحضارة الوحيدة غير الدينية، أو بتعبير أدق هى الحضارة الأولى الما بعد دينية . وهى ليست نتاج ثورة أو طفرة نوعية ، وإنما هى محصلة لتراكمات هائلة وسلسلة ممتدة ، على طول امتداد التاريخ البشرى، من التحولات والحركات الثقافية والاجتماعية والمكتشفات العلمية والسياسية الكبرى . فمنذ ثلاثة قرون ، أو أكثر قليلاً ، لم يكن هناك من يتحدث عن حضارة غربية ، فالمصطلح الذى كان سائدًا آنذاك هو (العالم المسيحى) ومع عصر الاكتشافات الجغرافية والثورة الصناعية التى تلته ، وانتشار أفكار عصر التنوير وصعود الطبقة التجارية البرجوازية ، تغلغلت العلمانية بين قطاعات واسعة من السكان , وكفت أوروبا عن حروبها الدينية ولم تعد (العالم المسيحى)، ولم يظهر مصطلح (الحضارة الغربية) إلا فى أوائل القرن العشرين . وهو مصطلح ينطوى ضمناً على الوعى بأن هذه الحضارة ، على النقيض من الحضارات المهيمنة السابقة ، لا تضع الدين فى مكانة محورية بالنسبة لها .

والمفارقة أنه فى الوقت الذي يروج فيه هنتنجتون وأتباعه لمفهومه التلفيقى عن (الحضارة الغربية) فإن النخبة الثقافية والسياسية لم تعد تنظر إلى أمريكا باعتبارها جزءًا من - أو حتى ناقلة لـ - الحضارة الغربية ، بل ينظرون إليها باعتبارها مجتمعًا متميزًا يجسد التعددية الثقافية والعرقية ، ثقافته محصلة تفاعل ثقافى بين الثقافات الأوروبية ، والإفريقية ، والإسلامية ، والآسيوية ، والسلافية ... إلخ . وتضرب هذه الثقافات بجذورها فى الحضارات الإفريقية والأمريكية اللاتينية والكونفوشيوسية والإسلامية ، وليس الأوروبية فقط . وهكذا تبشر أمريكا بنموذجها الثقافى باعتباره النموذج الوحيد لعصر العولمة . وبعد أن قادت العالم قسرًا إلى تحقيق التجانس الاقتصادى والتجارى والقانونى على الصعيد الكونى ، فإنها تحاول تحقيق تجانس كونى مماثل على الصعيد الثقافى .

ونحن لا نرى فى أطروحة هنتنجتون حول صراع الحضارات سوى فكرة تعبوية ذات رائحة عنصرية لا تستند إلى أية حقائق علمية أو مبررات أخلاقية، هدفها فقط تبرير الصدامات العنيفة التى يشهدها العالم نتيجة لرفض أناس كثيرين لمنطق (الهيمنة والابتلاع) وليس لمنطق العولمة .

وإذا كان هنتنجتون يقصد بفكرته حول (صراع الحضارات) أن (الحضارة الغربية تواجه الحضارات الأخرى) فإن معناها الحقيقى هو (أمريكا فى مواجهة العالم)(1) .

ويرى المفكر السويدى إنجمار كارلسون أن نظرية الصراع بها عدة نقاط ضعف :

فـ (هنتنجتون) يقسم العالم إلى سبع أو ثمانى حضارات كبرى : (الغربية وتحتوى على حضارة غرب أوروبا وأمريكا الشمالية ، والحضارة الكونفوشيوسية، واليابانية ، والإسلامية ، والهندوسية ، والسلافية – الأرثوذكسية ، وحضارة أمريكا اللاتينية ، وربما الحضارة الأفريقية) . غير أنه لا يعزى أية مكانة مميزة للديانة اليهودية ، وهو فى هذا المقال يصف إسرائيل بأنها (صناعة الغرب) (تعمد هنتنجتون ذلك لأنه يهودى) .

وتقسيم هنتنجتون لا يسير على نسق واحد ، فبعض الحضارات تعرف على أساس معايير دينية وثقافية ، غير أن العامل الرئيس فى حالات أخرى هو الجغرافيا . وما الذى يميز حضارة أمريكا الشمالية عن حضارة أمريكا اللاتينية؟ إن كلاً من أمريكا الشمالية والجنوبية يقطنها المهاجرون الأوروبيون الذين حملوا معهم قيمًا لازالوا يتمسكون بها حتى الآن ، ومن الصحيح أن عنصر الهنود الحمر هو أكبر بكثير فى دول معينة من أمريكا اللاتينية كالمكسيك وجواتيمالا وبيرو والإكوادور عما هو عليه فى الولايات المتحدة ، غير أنه من الصحيح أيضًا أن تشيلى والأرجنتين وكوستاريكا هى أكثر أوروبية من الولايات المتحدة الأمريكية التى تتحول سريعًا إلى حضارة إسبانية ، وفى الواقع فكل من أمريكا الشمالية واللاتينية يمكن تمييزهما كحضارات غربية تمتزج بكل منها عناصر حضارية أخرى بدرجات متفاوتة.

وهل الفيليبينيون الكاثوليك غربيون أم آسيويون ؟ إن (هنتنجتون) يتحدث عن الحضارة البوذية , لكن ما الذى يجمع بين التايلانديين وأهل التبت والمغول والقلموقيين الذين يعيشون فى اتحاد الجمهوريات الروسية ؟

وأين يوجد العالم الكونفوشيوسى الذى يتحدث عنه (هنتنجتون) ؟ فعلى الرغم من الموروث الكونفوشيوسى المشترك ، فإن الصين وفيتنام كانتا دومًا أعداء, فـ (فيتنام) تساورها شكوك كبيرة بشأن نوايا الصين بغض النظر عمن تولى السلطة فى هانوى وبكين ، وبالمثل فجهود بكين للتأكيد على الموروث الكونفوشيوسى المشترك كتمهيد للاتحاد مجددًا بتايلاند كانت تقابل بنظرة احتقار من التايلانديين(2) .

ويرسم (هنتنجتون) خطوطًا مستقيمة عبر الخرائط التى تبين بدايات ونهايات الحضارات المختلفة ، ويعترف بأن مجال الحضارة الإسلامية ينقسم إلى العرب والأتراك والمالايويين ، ولكن لسبب ما يغفل عن الرافد الإسلامى الكبير فى إفريقيا ، ولا يتطرق حتى إلى الفروق الكبيرة بين المسلمين فى الأرخبيل الإندونيسى ، والمسلمين فى غرب أفريقيا ، والمسلمين فى قلب العالم العربى . و (هنتنجتون) يغفل أيضًا حقيقة أن الوحدة الإسلامية يكاد ينعدم أثرها بعد خمسين عامًا . وفى الحقيقة فقد ساد الانقسام العالم الإسلامى منذ وفاة رابع الخلفاء الراشدين عام 661 ميلاديًا ، وهذا لم يحدث بين السنة والشيعة فحسب ، ولكن على مستويات أخرى أيضًا .

ويعرّف (هنتنجتون) حرب الخليج بأنها حرب بين الحضارات ، وفى الواقع لم يظهر أى صراع آخر بمثل هذا الوضوح ، كيف أن مصالح الدولة لها الغلبة على المناخ الدينى. فصدّام لم يبرر هجومه على الكويت بأسباب دينية ، فهو لم يلجأ إلى مثل هذا التبرير إلا حينما أرغم على الانسحاب فى مواجهة التحالف الذى تألف من المملكة العربية السعودية وتركيا ومصر وسوريا، فضلاً عن القوات الأمريكية والفرنسية والبريطانية ، بل إن الأسرة المالكة السعودية نجحت فى تحريك المراجع الإسلامية التى أصدرت فتوى مفادها أن دفاع الجنود الأمريكيين غير المسلمين عن مكة لا يتعارض مع تعاليم القرآن .

أما إيران فلا زالت تتحين الفرص ، وعلى الرغم من نبرة العداء لأمريكا ، فليس هناك ما تأخذه على (الشيطان الأكبر) إذا كان ما يفعله فى صالح أنصار آية الله .

وإحدى النقاط المهمة التى يثيرها (هنتنجتون) هى أننا نشهد الآن ظهور المحور الإسلامى الكونفوشيوسى أو (الرابطة) : فبؤرة الصراع الأساسية فى المستقبل القريب ستكون بين الغرب والدول الإسلامية الكونفوشيوسية العديدة).

إن الدليل المادى الوحيد الذى يقدمه (هنتنجتون) لتأييد نظريته هو صادرات السلاح التى تقدمها كوريا الشمالية والصين إلى ليبيا ، وإيران ، والعراق ، وسوريا . وهذه الاتصالات بين النظامين الديكتاتوريين الشيوعيين وليبيا - التي تخضع لحكم القذافى الذى يسير على نهج (نظريات الكتاب الأخضر) التى يعتبرها جميع رجال الدين الإسلامى بدعًا – وكذلك مع نظامى حزب البعث المتنافسين فى دمشق وبغداد ، من الواضح تمامًا أنها لاتعبر عن أى تقارب أيديولوجى ، أو عن مؤامرة إسلامية كونفوشيوسية ، فالأمر لايتعلق سوى بالمادة ، وفضلاً عن ذلك فإحدى المشاكل الداخلية الكبرى التى تواجهها الحكومة الصينية هى الخوف من امتداد الصحوة الإسلامية لتصل إلى شعب يويجور فى سينكيانج ، عن طريق بنى جلدتهم من الأتراك فى وسط آسيا ، وهذا هو سبب تأييد الصين للهجمات على أفغانستان .

وإلا فيمكننا بالمثل القول بأن مبيعات الأسلحة الأمريكية والفرنسية إلى المملكة العربية السعودية تدل على إقامة تحالف إسلامى مسيحى .

وعلى هذا ، فما أوحى به (هنتنجتون) من الصدام بين الحضارات على المستوى الواسع لا يستند إلى أساس سليم ، ويبدو أنه يستند إلى حجة أقوى عندما يزعم أن الصراعات على المستوى الجزئى تتبع (الشروخ) بين مواطن الحضارات ، ويبدو أن الحرب الأهلية فى طاجيكستان والصراعات فى القوقاز تؤيد هذه النظرية ، بل والأكثر منها الحروب الأهلية فى جمهورية يوغسلافيا السابقة ، حيث اتبعت الخطوط الأمامية إلى حد كبير الخط التقليدى الفاصل بين الإمبراطوريات الرومانية الشرقية والغربية ، وبين الإمبراطورية العثمانية وإمبراطورية هابسبورج .

غير أن هذه الحجج ذاتها لم تتحر قدرًا كبيرًا من التمحيص ، فلم تنشب حرب واحدة خلال القرن الماضى بسبب الصدام بين الحضارات أيّاً كان تعريفها.

وفى عام 1914م ، تحالفت برلين البروتستانية مع فيينا الكاثوليكية واستانبول المسلمة ضد موسكو الأرثوذكسية وباريس الكاثوليكية ولندن البروتستانتية ، وقد دخلت صربيا الأرثوذكسية بالفعل الحرب ضد فيينا الكاثوليكية ، غير أنها كانت فى حالة حرب أيضًا مع بلغاريا الأرثوذكسية ، كما أن الدول البادئة بالعدو فى الحرب العالمية الثانية وهى ألمانيا وإيطاليا والاتحاد السوفييتى نجحت فى التعاون فيما بينها ، رغم أنها تنتمى إلى أقاليم ثقافية مختلفة ، وحينما هاجم (هتلر) (ستالين) لم يسأل (تشرشل) و (روزفلت) ما إذا كان حليفهما الجديد مسيحيًّا أو أرثوذكسيًّا أو شيوعيًّا .

والحربان العالميتان قتل فيهما أكثر من ستين مليونًا من البشر وكانتا بين المسيحيين ، ومعظم الحروب التى وقعت بعد عام 1945م كانت حروبًا داخل حضارات : حروب كوريا ، وفيتنام , وكمبوديا ، والصومال ، والعراق ، وإيران ، والكويت . فأطول الصراعات وأكثرها دموية فى الشرق الأوسط لم تنشب بين العرب واليهود ، ولكن بين المسلمين ، وهى الحرب بين العراق وإيران ، كما استخدم العرب العراقيون الغاز السام ضد الأكراد وليس ضد غير ذوى الملة .

وعلى النقيض من نظرية (هنتنجتون) فالحروب التى اشتعلت فى يوغسلافيا السابقة بما فيها من تطهير عرقى لم تكن جهادًا ولكن حروبًا على السلطة والأرض بين الأرثوذكس والكاثوليك من غير ذوى الملة من جهة ، وبين المسلمين من جهة أخرى من خلال تحالفات غير دينية . أما صبغة الدين التى اصطبغت بها القومية فقد نمت بشكل واع إلى جوار العداوات والقلاقل الاجتماعية ، والصراعات التى شهدتها يوغسلافيا السابقة تبين كيف أنه من اليسير توظيف القومية كأداة ، غير أنها لا يمكن أن تقوم كدليل يؤيد نظرية الحرب بين الحضارات .

وفى البوسنة زعم الصرب أنهم يقاتلون الإسلام من أجل المسيحية ، ومن الصحيح أن الحروب التى نشبت فى يوغسلافيا السابقة اتبعت التخوم الثقافية بين الإمبراطوريات الرومانية الشرقية والغربية ، وتطورت فيما بعد إلى حرب بين الأرثوذكسية والكاثوليكية ، وبين الأرثوذكسية والكاثوليكية من جهة والإسلام من جهة أخرى . ولكن هذا يرجع فى المقام الأول إلى اقتران القومية الصربية بإصرار قادة الحزب الشيوعى على عدم التخلى عن سلطتهم . أما الهجوم الصربى الذى كان يهدف إلى إقامة صربيا العظمى فقد كان موجهًا منذ البداية إلى الجارتين المسيحيتين سلوفينيا وكرواتيا . وفى البوسنة دافع المسلمون عن مجتمع متحضر ، بينما أظهر الصرب الأرثوذكس تعصبًا وضيق أفق لا يقل عما هو خليق بأشد المتعصبين من أية ديانة أخرى , وفى البوسنة وكوسوفا أيضًا تدخلت قوات من الحضارة الغربية لنصرة المسلمين .

إن الحضارات لا تسيطر على الدول ، بل على العكس من ذلك تسيطر الدول على الحضارات ، وهى لا تتدخل للدفاع عن حضاراتها إلا إذا كان هذا فى مصلحة الدولة .

وفى الحرب بين أذربيجان وأرمينيا ، حاولت إيران أن تقوم بدور الوساطة وجنحت إلى تأييد مسيحيى أرمينيا لا مسلمى أذربيجان ؛ خشية أن يؤدى انتصار أذربيجان إلى تقوية النزاعات الانفصالية بين الأقلية الأذربيجانية الكبيرة العدد .

فما يعطى الانطباع لأول وهلة بوجود صدام بين الحضارات يتبين عند تناوله بالتحليل أنه خصومة بين الدول على الموارد والأرض ؛ سعيًا وراء المزايا الاستراتيجية والسطوة السياسية . فالحرب ضد صدام حسين لم تكن حربًا بين الحضارات - فالحضارات لا تصنع الحروب - ولكنها قتال من أجل البترول والتوازن الاستراتيجى فى الشرق الأوسط ، والعداء بين بكين وواشنطن حول تايوان ، أو قرصنة نسخ أسطوانات الكمبيوتر ، أو صادرات السلاح ليس حربًا بين الكونفوشيوسية وتوماس جيفرسون ، لكنه صراع بين قوتين عظميين .

إن (هنتنجتون) يعرّف الحضارة بأنها : (أوسع مستويات الهوية التى يمكن للمرء أن ينتمى إليها) . وقليل جدّاً من الأشخاص هم الذين بإمكانهم أن ينتموا بأجسادهم إلى مفهوم واسع كمفهوم الحضارة ، فهم ينشدون بدلاً من هذا هويات ضيقة كالأمم أو الجماعات العرقية أو الدينية . وعلى الرغم من الإلحاح الدائم على الهوية الأوروبية فى هذه الآونة ، إلا أن التحقيقات التى قامت بها المفوضية الأوروبية تبين أن ما يزيد على 70% من سكان جميع الدول الأوروبية ينظرون إلى أنفسهم فى المقام الأول فى ضوء انتمائهم إلى أمم ، بينما تأتى الهوية الأوروبية فى مرتبة تالية .

إن الحضارات التي يتحدث عنها (هنتنجتون) ليست شرائح متماثلة ومتنافرة يفنى بعضها الآخر ، ولكنها تتواءم مع بعضها البعض ، ليس فقط فى الأقاليم الحدودية ولكن فى مراكزها أيضًا ، بل إن الإسلاميين يستخدمون التقنيات الغربية كما ظهر جليًا فى أحداث 11 سبتمبر ، وهم بذلك يظهرون أيضًا أسلوبًا للتفكير غريبًا عن ثقافتهم ، ولنضرب مثالاً آخر : فى عام 1957م كان يوجد 1.7 مليون مسيحى فى كوريا الجنوبية ، وفى الوقت الحاضر يتراوح عددهم ما بين 14 و 17 مليونًا ، أى ما نسبته 40% من عدد السكان ، ويقال : إن الضربات المتوالية كانت موجهة إلى القيم الكونفوشيوسية التى تعد الأساس الذى قامت عليه المعجزة الاقتصادية الكورية والتى أفل نجمها الآن .

إن نظرية (هنتنجتون) أحادية السبب تمامًا ، فهو لا يأخذ فى الحسبان الآثار التى تركها اقتصاد السوق الحر على الأنظمة السياسية ، وكذلك القوى التى حررت قيودها عمليات التكامل الاقتصادية ؛ ولهذا السبب فافتراض أن الصراعات المستقبلية سوف ترتبط بتوزيع الثروة بين الدول يستند إلى قدر أكبر من االمصداقية . ونسق العالم ذو القطبية الثنائية لم يحل محله (الصدام بين الحضارات) الذى ذكره (هنتنجتون) ، ولكن جاء بدلاً منه على حد قول (جيرجين هيبرمان) : (عدم القدرة على التنبؤ مجددًا) . وعلى الرغم من ذلك يمكننا أن نؤكد أن المستقبل لن يأتى معه بنهاية التاريخ ، أو بالصدام بين الحضارات .

أما الصدام الحقيقى اليوم فليس بين الحضارات ، ولكن فى داخلها بين ذوى النظرة الحديثة التقدمية وبين من يتمسكون منهم بنظرة العصور الوسطى . وكمثال على ذلك : فبعد الهجوم على مركز التجارة العالمى قام (جيري فالويل) بمخاطبة مشاهدى التليفريون قائلاً : إن أمريكا تستحق العقاب ! فمن وجهة نظره أن من يجرون عمليات الإجهاض ، والمناصرين لحقوق الشواذ، وكذلك المحاكم الفيدرالية التى منعت الصلاة فى المدارس ، قد أثارت غضب الرب .

وعلى حد قول (هنتنجتون) ، فللإسلام حدود مخضبة بالدماء ، وهذه المقولة ليست فقط رمزية تاريخية ، ولكن لها خطورتها أيضًا ، فالإسلام والمسيحية عاشا جنبًا إلى جنب لمدة 1400 عام تقريبًا ، دومًا كجيران ، وفى معظم الوقت كخصوم ، وفى الواقع من الجائز اعتبارهما شركاء ؛ حيث إنهما يشتركان فى نفس الموروث اليهودى الهيلينى الشرقى ، وهما فى آن واحد تجمعهما معرفة قديمة .

والحضارة الإسلامية ليست غريبة كما تبدو غالبًا فى ضوء التحاملات والتصورات الغربية المسبقة . ومن أكثر الأساطير شيوعًا أسطورة تشارلز مارتل الذى أنقذ الغرب من الدمار بانتصاره على العرب فى بواتييه فى عام 732م، فقد أجبر العرب على الانسحاب من جبال البرانس حتى عادوا إلى جنوب أسبانيا ؛ حيث استمرت الدولة الإسلامية التى قامت هناك فى الازدهار لما يناهز 800 سنة، وهذا التواجد الإسلامى فى القارة الأوروبية لم يتسبب فى انهيار الحضارة الغربية ، بل أسفر عن تآلف متفرد ومثمر بين الإسلام والمسيحية واليهودية ، مما أدى إلى ازدهار ليس له مثيل فى العلم والفلسفة والثقافة والأدب .

• • •

إن الصراع بين بنى الإنسان لا يكون بالضرورة بين حضارات مختلفة . فالحضارة الحقيقية تعنى فى جوهرها التقدم المادى والروحى للأفراد والجماعات، أى أنها ترتقى بالإنسان ماديًا وروحيًا ، وتهذب من أخلاقه ، وتحد من نزعاته العدوانية ، وإنما يكون الصراع بين البشر من أجل مصالح ومطامع وأيديولوجيات متباينة وأهداف دينية أو سياسية ، فهو إذن صراع قُوَى تهدف به إلى فرض سيطرتها وتسلطها على قوى أخرى . أما الحضارات فإنها تدفع بالأحرى إلى الحوار لا إلى الصدام .

وقد شهدت البشرية هذا وذاك . فالمسلمون مثلاً قد اضطروا فى عصور الإسلام الأولى إلى الدخول فى صدام مسلح مع الروم - الذين كانت تمثلهم فى ذلك الوقت الدولة الرومانية الشرقية - ولكن مع ذلك لم يمنعهم على المستوى الحضارى من إجراء حوار حضارى مع الروم ، وإن كان حوارًا صامتًا - إذا جاز هذا التعبير - وقد تمثل ذلك فى ترجمة العلوم المختلفة لليونان إلى العربية، وتم ذلك أيضًا بالنسبة للفرس والهند ... إلخ .

وفى المقابل خاضت أوروبا بجحافلها القادمة من مختلف البلاد الأوروبية حربًا ضد المسلمين - سميت بالحروب الصليبية - استمرت ما يقرب من قرنين من الزمان ، ولكن ذلك لم يمنع أوروبا من القيام بحوار - على المستوى الحضارى - مع المسلمين تمثل فى حركة ترجمة نشطة لعلوم المسلمين إلى اللغة اللاتينية . وقد بلغت هذه الحركة ذروتها فى الفترة من القرن الحادى عشر حتى نهاية القرن الثالث عشر الميلادى .

وقد كان من الطريف فى هذا الصدد أن أوروبا أول ما عرفت الفلسفة اليونانية - وهى فلسفة أوروبية - عرفتها عن طريق النقل من العربية ، ولم تبدأ فى نقلها من اليونانية مباشرة إلا بعد سقوط القسطنطينية فى يد الأتراك العثمانيين , وهجرة العلماء اليونانيين على أثر ذلك إلى إيطاليا .

وفى العصر الحاضر بدأ العالم الإسلامى يترجم ما أنتجته الحضارة الغربية الحديثة من منجزات علمية ، ويرسل البعوث إلى جامعات الغرب للاغتراف من علومها وفنونها . وقد فعلت أوروبا الشىء نفسه فى الماضى بإرسال بعثات إلى الأندلس حينما كان للمسلمين فى الأندلس حضارة مزدهرة .

ومن ذلك يتضح أن الصراع الحضارى لم يكن هو القاعدة فى علاقة أوروبا بالإسلام ، بل كان التفاعل الثقافى يفرض نفسه دائمًا ، ويترك آثاره البعيدة والفعالة بعد زوال أسباب الصراعات الأخرى .

ونحن نزعم أن القرن الجديد لن يشهد صدامًا بين الحضارات وإن كانت هناك محاولات من جانب العولمة للترويج لنظم وقيم معينة تثير استفزاز الآخرين .

والذى يدعونا إلى القول بأن القرن الجديد لن يكون قرن صراع حضارى وإنما قرن حوار حضارى هو ما يلى :

أولاً : صراعات الماضى تختلف عن صراعات الحاضر اختلافًا أساسيًا . فنحن فى عصر ثورة المعلومات والاتصالات والثورة التكنولوجية قد أصبحنا نعيش فى عالم يمثل قرية كونية كبيرة ، والأخطار التى تهدد عالمنا المعاصر قد أصبحت أخطارًا عالمية تهدد الجميع ، وتتطلب جهودًا دولية لمواجهتها مثل قضايا البيئة والمخدرات والإرهاب الدولى والجريمة المنظمة وأسلحة الدمار الشامل وأمراض العصر ، وعلى رأسها أمراض نقص المناعة أو (الإيدز) ،وغيرها من القضايا التى تتطلب تكاتف الجهود الدولية . ولعل ذلك هو الذى شجع الأمم المتحدة على الإعداد لتنظيم منتدى للحوار بين الحضارات عُقد عام 2001م دعمًا للتفاهم بين الثقافات والحضارات المختلفة .

ثانيًا : إذا كانت الأصوات التى تروج لصدام الحضارات قد وجدت أصداء واسعة فى الشرق وفى الغرب ، فإن هناك جهودًا وأصواتًا مضادة فى الغرب ترفض بشدة مقولة هنتنجتون حول صدام الحضارات ، وبصفة خاصة بين الحضارة الإسلامية والحضارة الغربية .

ومن الأمثلة على ذلك ما شهده العقد الأخير من القرن العشرين من رفض واضح فى بعض الدوائر الغربية لنظرية صدام الحضارات - إذا جاز أن تسمى هذه الدعوة بالنظرية - . ومن بين تلك الأصوات العاقلة فى الغرب (الأمير تشارلز) ولى عهد بريطانيا الذى ألقى محاضرة مهمة فى 27 أكتوبر 1993(3) فى مسرح شيلدونيان بأكسفورد بمناسبة زيارته إلى مركز أكسفورد للدراسات الإسلامية ، وأكد فيها أن (الذى يربط العالمين الغربى والإسلامى أقوى بكثير مما يقسمهما ؛ فالمسلمون والمسيحيون واليهود جميعهم (أصحاب كتاب) . والإسلام والمسيحية يشتركان فى النظرة الوحدانية : الإيمان بإله واحد ، وبأن الحياة الدنيا فانية ، وبالمسئولية عن أفعالنا ، والإيمان بالآخرة . إننا نشترك فى كثير من القيم) .

وأشار إلى أن حكم الغرب على الإسلام قد عانى من التحريف الجسيم نتيجة الاعتبار بأن التطرف هو القاعدة وقال :(إن التطرف ليس حكرًا على الإسلام ، بل ينسحب على ديانات أخرى بما فيها الديانة المسيحية . والغالبية العظمى من المسلمين يتسمون بالاعتدال . ودينهم هو دين الاعتدال) .

وأشار كذلك إلى أن هناك الكثير مما يمكن أن نتعلمه من الإسلام (وأن العالمَين الإسلامى والغربى يمكن أن يتعلما كثيرًا من بعضهما البعض) .

ورفض مقولة صدام الحضارات قائلاً : (أنا لا أوفق على مقولة أنهما (العالم الإسلامى والغربى) يتجهان نحو صدام فى عهد جديد من الخصومة والعداء ، بل إننى على قناعة تامة بأن لدى عالمَينا الكثير لكى يقدماه إلى بعضهما البعض) .

كما أشار أيضًا إلى أن الكثير من المزايا التى تفخر بها أوروبا العصرية قد جاءت أصلاً من إسبانيا أثناء الحكم الإسلامى . وخلص إلى القول : (إن الإسلام جزء من ماضينا وحاضرنا فى جميع مجالات البحث الإنسانى . وقد ساهم فى إنشاء أوروبا المعاصرة . إنه جزء من تراثنا وليس شيئاً منفصلاً عنه) .

وفى نفس الإطار نجد أن وزير الخارجية البريطانية (روبين كوك) يشير فى محاضرته فى المركز الإسماعيلى فى لندن فى 8 أكتوبر 1998م(4) إلى أن جذور الثقافة الغربية ليست يونانية أو رومانية الأصل فحسب ، بل هى إسلامية أيضًا . ويبين أن التحديات التى نواجهها تحديات عالمية . ويرفض مقولة صراع الحضارات ، وأن الإسلام هو العدو الجديد للغرب ويقول : (إن البعض يقول : إن الغرب بحاجة إلى عدو ، وبما أن الحرب الباردة قد ولت إلى غير رجعة ، فإن الإسلام سيأخذ مكان الاتحاد السوفييتى القديم كعدو . ويقولون: إن صراع الحضارات قادم وأنه لا مفر منه . وأنا أقول : إنهم مخطئون، بل ومخطئون خطأ فادحًا . فنحن لسنا بحاجة إلى الإسلام كعدو ، بل نحن بحاجة إلى الإسلام كصديق) .

ويشير إلى أن (الغرب مدين للإسلام بالشىء الكثير ، فالإسلام قد وضع الأسس الفكرية لمجالات عديدة مهمة وكبيرة فى الحضارة الغربية . إن ثقافتينا قد تشابكتا مع بعضهما البعض عبر التاريخ والأجيال ، وهى تتشابك أيضًا فى وقتنا الحاضر) .

ويبرز كوك أهمية الحوار بين الجانبين ويقول : (اليوم أريد أن أقترح بأن نبدأ حوارًا جديدًا جديًا بين أوروبا والعالم الإسلامى . فقد حان الوقت لكى يبدأ الاتحاد الأوروبى ومنظمة المؤتمر الإسلامى بالحديث مع بعضهما البعض على أعلى مستوى ممكن) .

فإذا اتجهنا شطر أكبر دولة فى أوروبا ، ونعنى بها ألمانيا ، فإننا نجد اتجاهًا مماثلاً رافضًا تمامًا لفكرة صراع الحضارات ، ومتبنيًا أسلوب الحوار الحضارى . وقد ذهب الرئيس الألمانى (رومان هيرتسوج) خطوة أبعد فى هذا المجال بالدعوة إلى عقد مؤتمر فى العاصمة الألمانية برلين للحوار بين الحضارتين الإسلامية والغربية .

وقد وجه الدعوة إلى رؤساء خمس من الدول الإسلامية هى مصر والمغرب والأردن وأندونيسيا وماليزيا ، ورؤساء خمس من الدول الأوروبية هى إيطاليا وإسبانيا والنمسا والنرويج وفنلندا ، بالإضافة إلى ألمانيا الدولة المضيفة . وتم اللقاء فى 23 أبريل 1999م على مستوى المراكز البحثية المتخصصة .

وقد اشترك فى المؤتمر أيضًا ممثلون لدول أخرى مثل إنجلترا وفرنسا وسويسرا والسويد ولبنان . وصدر عن المؤتمر (بيان برلين) الذى يمثل خطة للعمل المستقبلى . وقد تضمن البيان العديد من التوصيات التى تدعم الحوار الحضارى بين الشرق والغرب ، وتستشرف مستقبل العلاقات بين المجتمعات الإسلامية والغربية .

وبالإضافة إلى ذلك صدر فى شهر مايو 1999م - كتاب للرئيس الألمانى بعنوان (الحيلولة دون صدام الحضارات - استراتيجية السلام للقرن الحادى والعشرين) . وقد تضمن هذا الكتاب آراء الرئيس الألمانى التى أعلنها حول هذا الموضوع فى الفترة من 1995م حتى 1999م ، كما تضمن أيضًا تعقيبات لأربعة من المفكرين المعروفين .

ويؤكد الرئيس الألمانى رفضه المطلق للزعم بأن الشرق والغرب يستعدان لمواجهة مزعومة بين الإسلام والمسيحية . ويحذر من خطورة الترويج لمثل هذه الأفكار ، ويؤكد على ضرورة التركيز على القواسم المشتركة بين الحضارات .

ويشير الرئيس الألمانى إلى ضرورة بناء جسور الثقة بين الجانبين لمواجهة تحديات المستقبل التى تعد تحديات لنا جميعًا ، وتتطلب حلولاً دولية وتعاونًا مشتركًا بين الجميع ، كما يدعو إلى ضرورة تعرف الشعوب والحضارات على بعضها البعض على نحو أفضل للوصول إلى فهم مشترك ، واحترام متبادل وثقة متبادلة أيضًا . ويرى أن الحوار بين الحضارات والأديان يُعد أهم الواجبات الملقاة على عصرنا . وبصفة خاصة الحوار بين الإسلام والمسيحية .

ومن خلال هذه التوجهات الصادرة فى أوروبا من شخصيات لها وزنها يتضح لنا أن هناك تيارًا أوروبيًا قويًا رافضًا فكرة صدام الحضارات ، وهو تيار أقوى كثيرًا من تيار صمويل هنتنجتون ومن يشايعه . ولكن الشىء المؤسف أنه قد تم تسليط الضوء على نحو مريب على أفكار هنتنجتون السلبية ، وتم تضخيمها إعلاميًا ، وفى الوقت نفسه غابت عن الساحة الإعلامية تلك الأفكار الإيجابية والأصوات العاقلة التى ترفض صدام الحضارات وتتبنى حوار الحضارات(5) .

المراجع

1. مجلة (العربى) - العدد 518 - يناير 2002 .

2. انجمار كارلسون - (الإسلام وأوروبا) - ترجمة سمير بوتانى - مكتبة الشروق الدولية.

3. نشر مركز أكسفورد للدراسات الإسلامية هذه المحاضرة تحت عنوان: (الإسلام والغرب) عام 1993م .

4. مجلة منبر الإسلام - العدد الصادر فى شعبان 1419هـ الموافق ديسمبر 1998م ص 55-58 .

5. جريدة الأهرام 13/8/1999م .

الفصل الثالث

الحوار هو الحل

فى مواجهة مزاعم الصراع طرح علماء المسلمين خيار الحوار مع الآخر كمنهج إسلامى أصيل ، صرح به القرآن الكريم وطبقه الرسول صلى الله عليه وسلم والخلفاء الراشدون من بعده .. يقول الدكتور بكر مصباح تنيرة(1) :

الحوار فى معناه اللغوى ، يفيد المحادثة والمناقشة والمناظرة التى تدور بين طرفين أو أكثر ، وتشمل موضوعات متعددة ومتباينة ، بعضها عام وبعضها خاص ، كما تتعرض للمشكلات التى تهم هذه الأطراف ، وهى تسعى وراء الحوار فيما بينها إلى معرفة الحقائق ، وتبادل الآراء والأفكار والخبرات حول الموضوعات المشتركة(2) . وتحديد المواقف من المشكلات القائمة، وطرح حلول لها ، والحوار بذلك يساعد على تنظيم العلاقات الإنسانية بما يوفر لكل طرف حاجاته التى يتطلع إليها ، ويحقق له غاياته المشروعة دون أن يكون ذلك على حساب حقوق الآخرين أو يسبب لهم أضرارًا تلحق بهم .

والحوار بهذا المعنى أسلوب من أساليب التفاهم بين الأفراد والجماعات والدول والحضارات ، وهو يرمى إلى تحقيق التعارف والتعايش والتعاون بين الناس جميعًا على أساس حرية الرأى واحترام الآخرين ، وتبادل المنافع .

والإسلام بحضارته الخالدة وتجربته الإنسانية العميقة ، والحافلة بأشكال تطبيق الحوار فى شؤون الدين الدنيا بين جميع البشر ؛ دون تمييز أو تحيز لأى سبب له دوره الرئيس الذى ينبغى أن يقوم به فى هذه المرحلة التاريخية المعاصرة .

وليس هذا بجديد ، فقد ازدهر الحوار فى ظل الحضارة الإسلامية ، وهذا لكون الحوار يمثل منهجًا من مناهج الدعوة الإسلامية إلى الناس كافة لعبادة الله الواحد الأحد وتحقيق الإصلاح وتطهير المجتمع الإنسانى من الفساد وتنمية العلاقات الأخلاقية بين الجماعات والديانات والدول(3) .

وأوجز الرسول الكريم محمد صلى الله عليه وسلم فى بيان جوهر رسالة الإسلام فى كلمات جامعة بليغة فقال : (إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق) رواه الإمام أحمد والحاكم .

والحوار منهج من مناهج الدعوة الإسلامية دعا إليه القرآن فى قوله سبحانه وتعالى : (ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتى هى أحسن إن ربك هو أعلم بمن ضل عن سبيله وهو أعلم بالمهتدين) النحل:125 .

وقد أرسى الإسلام فى أصوله الثابتة الطاهرة ، القرآن الكريم والسُّنة النبوية الشريفة ، وإجماع السلف الصالح مبادىء الحوار ، وقد حفلت به مظاهر الحياة فى الحضارة الإسلامية فى جميع مراحل تطورها التاريخى منذ ما يزيد على أربعة عشر قرناً .

مبادىء الحوار فى الإسلام

لقد انفرد الإسلام بتفعيل وتحديد المبادىء الثابتة التى ينبغى أن يقوم عليها أى حوار ناجح ، يؤدى إلى تحقيق الأهداف المطلوبة منه ، ولاسيما الحوار السياسى الذى يختص بشؤون المجتمع والدولة ويشمل أمور الدين والدنيا ، وقد سبق الإسلام وحضارته بذلك الديانات والحضارات الماضية ، فالمبادىء الواضحة هى فى الحقيقة بمثابة القواعدالتى ينبغى أن يلتزم بها جميع أطراف الحوار ؛ كى يبلغ كل طرف الغايات التى يسعى إليها ، ومن أبرز المبادىء التى فصلها الإسلام للحوار الإيجابى والبنَّاء ما يلى :

1- العلم الذى يستند إلى الحقائق الثابتة والمعلومات الدقيقة والصحيحة والخبرة العملية ؛ ولاسيما إذا كانت موضوعات الحوار تتناول القضايا العامة فى المجتمع والدولة السياسية والاقتصادية والاجتماعية وغيرها من شؤون الحكم . وينبغى أن يشارك المتخصصون فى مثل هذه المحاورات حتى تأتى النتائج والأحكام مفيدة تخدم أغراض الحوار ، وتعود بالنفع على أفراد المجتمع ورجال الحكم . وفى الدول الحديثة يتم تطبيق هذا المبدأ قبل إجراء أى حوار أو مناقشة، فيتم إعداد البحوث والدراسات التى تتناول الموضوعات من جميع جوانبها .

2- حرية الرأى التى تُعطى كل طرف من أطراف الحوار الحق فى أن يقبل أو يرفض ما يُعرض عليه من آراء وأفكار وعقائد وموضوعات شتى , وعلى الآخرين أن يحترموا هذه الحرية . والقاعدة الشرعية فى الفقه الإسلامى تقول: (إن كل عمل أو اتفاق يتم تحت الضغط والإكراه فهو باطل) ، كما يقول فقهاء الإسلام (يمين المكره باطلة وما بنى على باطل فهو باطل) ، يقول الله تعالى : (ولو شاء ربك لآمن من فى الأرض كلهم جميعًا أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين) يونس:99 .

ويؤكد الحق عز وجل هذا المبدأ وضرورة تطبيقه حتى مع الكافرين ، يقول تعالى : (وإن أحدٌُ من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله ثم أبلغه مأمنه ذلك بأنهم قوم لا يعلمون) التوبة:6 .

وقد حمى الإسلام هذه العناصر فمنع الإكراه والإغراء لتحرر الفكر ويمنع التقليد ، بل دعا الناس إلى النظر الحر فى الكون وما شمل من أسرار، فالحرية فى الإسلام مبدأ مقدس حتى فى اختيارالعقيدة لقوله تعالى : (لا إكراه فى الدين قد تبين الرشد من الغى) البقرة:256 .

3- العدالة بمعناها الواضح والشامل مبدأ إنسانى أقره الإسلام وجعله قاعدة من قواعد الحكم بين الناس ، وهو يقوم على إعطاء كل ذى حق حقه، والعدالة الإسلامية تحمى المسلمين وغير المسلمين ، وتفرض على أولى الأمر حماية حقوق الإنسان دون تمييز أو تحيز ، وهذا يقوى ثقة الإنسان بنفسه وفى النظام السياسى الذى يعيش فى كنفه ، وهذا يدفعه إلى المطالبة بحقوقه وممارستها من دون حرج أو خوف ، يقول تعالى فى محكم آياته : (يأيها الذين آمنوا كونوا قوامين لله شهداء بالقسط ولا يجرمنكم شنآن قوم على ألا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى واتقوا الله إن الله خبير بما تعملون) المائدة:8 .

ويدعو الله رسوله الكريم إلى الحكم بالعدل حتى مع المخالفين لدين الإسلام، فيقول تعالى : (فلذلك فادع واستقم كما أمرت ولا تتبع أهواءهم وقل آمنت بما أنزل الله من كتاب وأمرت لأعدل بينكم الله ربنا وربكم لنا أعمالنا ولكم أعمالكم لا حُجّة بيننا وبينكم الله يجمع بيننا وإليه المصير) الشورى:15 .

يقول فضيلة الشيخ محمد أبو زهرة فى ذلك : (ألا فليعلم الناس اليوم أنه لا يصلح العالم إلا إذا كانت العدالة ميزان العلاقات الإنسانية فى كل أحوالها، فلا يبغى قوى على ضعيف ولا يضيع حق ...)(4) .

4- المساواة وهى فى الإسلام تعنى إلغاء الفروق بين بنى الإنسان بسبب اللون أو الجنس أو الدين أو اللغة أو المال أو العلم، وإنما يكون التمايز بين الناس بالعمل الصالح الذى يعود عليهم جميعًا بالفائدة ، ولكل أجره على ذلك . والمساواة بهذا المعنى تبث الثقة بين الناس وتدفعهم إلى التعايش والتعاون، يقول الله سبحانه وتعالى : (فاستجاب لهم ربهم أنى لا أضيع عمل عامل منكم من ذكر أو أنثى) آل عمران:195 .

وأيضًا (من عمل صالحًا من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينه حياة طيبة ولنجزينهم أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون) النحل:97 .

ثم ينهى الله جل شأنه عباده عن أن يسخر بعضهم من بعض ، ويحقر بعضهم بعضًا ، أو يفخر بعضهم على بعض لأن مثل هذا السلوك يفسد العلاقات الإنسانية ، يقول تعالى : (يأيها الذين آمنوا لا يسخر قوم من قوم عسى أن يكونوا خيرًا منهم ولا نساء من نساء عسى أن يكن خيرًا منهن ولا تلمزوا أنفسكم ولا تنابزوا بالألقاب بئس الاسم الفسوق بعد الإيمان ومن لم يتب فأولئك هم الظالمون) الحجرات:11 .

وإذا قامت المساواة فى المجتمع استقامت العلاقات بين أعضائه وتحقق التعاون فيما بينهم لحل المشكلات ومواجهة الصعوبات .

5- التسامح وهو خُلق إنسانى أصيل دعا إليه الإسلام ؛ لأنه يرفع الحرج فى العلاقات بين الناس ويجعل الإنسان يترفع عن الكره والبغضاء وروح الثأر والانتقام ، وهى صفات تفسد وتدمر الحياة البشرية على الأرض ، وتقطع سبل التفاهم والتعاون بين الناس .

وفى مقابل ذلك يدعو سبحانه وتعالى إلى العفو والتسامح ونسيان الأحقاد والعمل بالحسنى ، فيقول تعالى : (ولا تستوى الحسنة ولا السيئة ادفع بالتى هى أحسن فإذا الذى بينك وبينه عداوة كأنه ولى حميم , وما يلقاها إلا الذين صبروا وما يلقاها إلا ذو حظ عظيم) فصلت:34-35 .

وقد ضرب الرسول صلى الله عليه وسلم المثل الأعلى فى التسامح مع أعدائه الذين حاربوا دعوته وأخرجوه من بلده وآذوه وحاولوا قتله ، وعندما نصره الله عليهم يوم فتح مكة المكرمة قال لقريش فى حوار نموذجى بين المنتصر والمهزوم : (ما تظنون أنى فاعل بكم)؟ قالوا : خيرًا ، أخ كريم وابن أخ كريم، فقال عليه الصلاة والسلام : (أقول لكم كما قال أخى يوسف لإخوته : لا تثريب عليكم اليوم يغفر الله لكم ، اذهبوا فأنتم الطلقاء) .

هذه هى المبادىء السامية التى وضعها الإسلام لتقوم عليها العلاقات الإنسانية ، ويدور فى ضوئها الحوار أياً كان نوعه وموضوعه وغايته ، وإذا أخذت الجماعات والدول بهذه المبادىء فى المحاورات فيما بينها تكون قد خطت الخطوة الصحيحة فى حل المشكلات ، وتحقيق التعاون فيما بينها مصداقًا لقول الله جل شأنه : (وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان واتقوا الله إن الله شديد العقاب) المائدة:2 .

تفاعل مع الآخر

ويرى الدكتور حسن عزوزى أن التقاء الحضارات معلم من معالم التاريخ الحضارى للإنسانية ، وهو قدر لا سبيل إلى مغالبته أو تجنبه ، وقد تمّ دائمًا وأبدًا وفق هذا القانون الحاكم (التمييز بين ما هو مشترك إنسانى عام وبين ما هو خصوصية حضارية) .

ولا شك أن الخيار البديل لصدام الحضارات هو أن تتفاعل الحضارات الإنسانية مع بعضها بعضًا ، بما يعود على الإنسان والبشرية جمعاء بالخير والفائدة ، فالتفاعل عملية صراعية ولكنها متجهة نحو البناء والاستجابة الحضارية لتحديات الراهن ، عكس نظرية (صدام الحضارات) التى هى مقولة صراعية تدفع الغرب بإمكاناته العلمية والمادية لممارسة الهيمنة ونفى الآخر، والسيطرة على مقدراته وثرواته تحت دعوى وتبرير أن نزاعات العالم المقبلة سيتحكم فيها العامل الحضارى .

والإسلام كدين وحضارة عندما يدعو إلى التفاعل بين الحضارات ينكر (المركزية الحضارية) التى تريد العالم حضارة واحدة مهيمنة ومتحكمة فى الأنماط والتكتلات الحضارية الأخرى ، فالإسلام يريد العالم (منتدى حضارات) متعدد الأطراف ،ولكنه مع ذلك لا يريد للحضارات المتعددة أن تستبدل التعصب بالمركزية الحضارية القسرية، إنما يريد الإسلام لهذه الحضارات المتعددة أن تتفاعل وتتساند فى كل ما هو مشترك إنسانى عام .

وإذا كان الإسلام ديناً عالمياً وخاتم الأديان ، فإنه فى روح دعوته وجوهر رسالته لا يرمى إلى تسنم (المركزية الدينية) التى تجبر العالم على التمسك بدين واحد ، إنه ينكر هذا القسر عندما يرى فى تعددية الشرائع الدينية سنة من سنن الله تعالى فى الكون ، قال تعالى : (لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجًا ولو شاء الله لجعلكم أمة واحدة ولكن ليبلوكم فيما آتاكم فاستبقوا الخيرات) المائدة:84، وقال أيضًا : (ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة ولا يزالون مختلفين . إلا من رحم ربك ولذلك خلقهم) هود:118 - 119 .

إن دعوة الإسلام إلى التفاعل مع باقى الديانات والحضارات تنبع من رؤيته للتعامل مع غير المسلمين الذين يؤمنون برسالاتهم السماوية ، فعقيدة المسلم لا تكتمل إلا إذا آمن بالرسل جميعًا : (آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه والمؤمنون كل آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله لا نفرق بين أحد من رسله) البقرة:285، بيد أنه لا يجوز أن يُفهم هذا التسامح الإنسانى الذى جعله الإسلام أساسًا راسخًا لعلاقة المسلم مع غير المسلم على أنه انفلات أو استعداد للذوبان فى أى كيان من الكيانات التى لا تتفق مع جوهر هذا الدين . فهذا التسامح لا يلغى الفارق والاختلاف ، ولكنه يؤسس للعلاقات الإنسانية التى يريد الإسلام أن تسود حياة الناس، فالتأكيد على الخصوصيات العقائدية والحضارية والثقافية، لا سبيل إلى إلغائه، ولكن الإسلام لا يريد لهذه الخصوصيات أن تمنع التفاعل الحضارى بين الأمم والشعوب والتعاون فيما بينها .

وفى سياق التفاعل الحضارى المنشود يمكن القول : إن احتمال أن تتقدم حضارة على أخرى بهذا الجانب المنشود أو ذاك وارد ، كما هو الشأن بالنسبة للحضارة الغربية فى عالم اليوم، ولكن القول بأفضلية حضارة على أخرى هو قول متهالك، فمن يستطيع إثبات أن هذه الحضارة أفضل من تلك أو أغزر ثقافة وحكمة وإنسانية وتسامحًا، ولا يوجد فى الواقع أى مقياس أو معيار نقيس به هذه الأفضلية فى كل الجوانب ؟

إن شرط ازدهار هذه القيم فى أى حضارة يرتبط أساسًا بمدى قدرتها على التفاعل مع معطيات الحضارات الأخرى ومكوناتها ، وبالتالى الاعتراف بهذه الحضارات ومحاورتها وقبول تعددية الثقافات وتفهم مفاهيم وتقاليد الآخرين، واعتبار الحضارة الإنسانية نتاجًا لتلاقح وتفاعل هذه الحضارات لا صراعها فيما بينها ، أو استعلاء بعضها على البعض الآخر . والحضارة الإسلامية منذ نشوئها وتكونها لم تخرج عن هذا الإطار التواق إلى التفاعل مع الحضارات الأخرى أخذاً وعطاءً، تأثرًا وتأثيرًا. لقد حمل العرب قيم الإسلام العليا ومثله السامية وأخذوا فى نشرها وتعميمها فى كل أرجاء الدنيا، وبدأت عملية التفاعل بينها وبين الحضارات الفارسية والهندية والمصرية والحضارة الأوروبية الغربية فيما بعد، ومع مرور الزمن وانصرام القرون نتجت حضارة إسلامية جديدة أسهمت فى إنضاجها مكونات حضارات الشعوب والأمم التى دخلت فى الإسلام، فاغتنت الحضارة الإسلامية بكل ذلك عن طريق التلاقح والتفاعل، وكانت هى بدورها فيما بعد عندما استيقظت أوروبا من سباتها وأخذت تستعد للنهوض مكوناً حضاريًا ذا بال أمدّ الحضارة الأوروبية الغربية بما تزخر به من علوم وقيم وعطاء حضارى متنوع .

ويمكن قول الشىء عينه عن الحضارة الغربية التي لم تظهر فجأة ، بل تكونت خلال قرون كثيرة حتى بلغت أوجها فى عصرنا الحاضر ، وذلك نتيجة التفاعل الحضارى مع حضارات أخرى هيلينية ورومانية وغيرها، وبفعل التراكم التاريخى وعمليات متفاعلة من التأثر والتأثير خلال التاريخ الإنسانى الحديث. إن أكبر دليل على أن الحضارة الإسلامية لم تسع فى أى وقت من الأوقات إلى التصادم مع الحضارة الغربية كما ينذر بذلك أصحاب نظرية الصدام الحضارى هو أن العرب والمسلمين لم يضعوا فى أى زمن من الأزمان صوب أهدافهم القضاء على خصوصيات الحضارة الغربية وهويتها الحضارية ، كما نجد الفكر العربى والإسلامى قد اتجه بانفتاح وقوة صوب التراث الغربى للاستفادة منه وتطويره، لقد كان هنالك فعلاً استجابة سريعة للحضارة العربية الإسلامية فى تفاعلها مع الحضارة الغربية، وهذا ما لا نلمسه فى الحضارة الغربية التى لا تسعى إلى الاستفادة من تراث ومعطيات الحضارات الأخرى(5).

تدافع الحضارات

ويميل بعض الكتّاب الإسلاميين إلى تسمية العلاقة بين الحضارات المختلفة بـ (التدافع بين الحضارات) بدلاً من (الصراع) .. ويستند هؤلاء في ذلك إلى قوله تعالى : (ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض) البقرة:251 .. فغاية التدافع هى عمارة الأرض والإبقاء على الأنفع والأحسن والأكثر فائدة للبشرية، فالبقاء للأصلح وليس للأقوى، ولا للظلم كما يريد هنتنجتون وأمثاله .. فنحن فى إطار التدافع لا نستهدف القضاء على الآخر ولا مصارعته بل تبادل المنافع وتحقيق المصالح المشتركة لبنى الإنسان .. ويميل فريق آخر إلى تعبير (مصالح الحضارات) لما يجسده من قيم إنسانية تسهم فى بناء مجتمعات تقوم على مبدأ (التبادل الخلاق بين كل الثقافات) ، وهو ما لا يمكن تحقيقه عن طريق حضارة واحدة هى الحضارة الغربية ، بل لابد من مشاركة لحل الحضارات العالمية الموجودة على الساحة .. والتبادل ليس للسلع الاستهلاكية وحدها ، وإنما يشمل ما هو أسمى وأبقى ، ألا وهو الندية والاحترام المتبادل والحوار الفكرى العالمى(6) .

نظرية التعارف

كما أسلفنا تبنى الكثير من المفكرين والمثقفين مقولة (حوار الحضارات)، وهى الرؤية التى دعا إليها فى وقت مبكر المفكر الفرنسى المسلم (روجيه جارودى)، وأكدها السيد (محمد خاتمى) فى خطابه الشهير الذى ألقاه سنة 1998م، فى الجمعية العامة للأمم المتحدة، مما حدا بها لاختيار سنة 2001م عامًا للحوار بين الحضارات . وأصبحت هذه المقولة المقابل الأبرز لمصطلح الصدام . وبين هاتين المقولتين هناك نظرية ثالثة تُعرف بـ (تعارف الحضارات)، وهى أطروحة أطلقها المفكر الإسلامى زكى الميلاد ، فى رؤية مغايرة للنظريتين السابقتين ، وهى نظرية مستوحاة - كما لا يخفى - من القرآن الكريم .

وقد بدأ التعريف بهذه النظرية فى 1418هـ/1997م ضمن العدد(16) من مجلة (الكلمة) الفصلية التى يرأس تحريرها، ثم العددين 35 و 36 من ذات المجلة ، كما طرحها أيضًا فى مجلة الحج والعمرة عدد ربيع الأول عام 1424هـ/ 2003م ..

يقول زكى الميلاد شارحًا نظرية التعارف :

نظرية حوار الحضارات : هى نظرية أراد منها جارودى أن تكون خطاباً نقديًا وعلاجياً لأزمة الغرب الحضارية - كما يصفها - ولأنماط علاقاته بالعالم والحضارات غير الأوروبية. كما أراد منها أيضًا أن تكون خطابًا موجهاً إلى الغرب بصورة أساسية. لذلك فهى تنتمى وتصنف على النظريات الغربية التى تنطلق من نقد التجربة الغربية والفكر الغربى . ومن حيث نسقها المعرفى فهى تنتمى إلى المجال الثقافى وتحدد به لأنها تركز على الأبعاد الثقافية والفكرية والأخلاقية .

وأما حوار الحضارات فى رؤية السيد محمد خاتمى فقد جاءت استجابة لبعض المعطيات والضرورات السياسية فى الدرجة الأولى، ومن أجل أن تكون خطاباً نقدياً بديلاً لخطاب صدام الحضارات. وقد ظلت تتحدد فى هذا النطاق، ولم تحول إلى نظرية واضحة ومتماسكة, ومازال العالم العربى والإسلامى يفتقر إلى نظرية تعبر عن رؤيته فى كيفية التقدم والتحضر، وعن أنماط علاقاته بالعالم.

فإذا اعتبرنا (صدام) الحضارات بوصفها نظرية تفسيرية، و (حوار الحضارات) بوصفها نظرية نقدية أو علاجية ، فإن تعارف الحضارات هى نظرية إنشائية بمعنى أن القاعدة فيها هى الإنشاء وليس الإخبار، فقد جاءت لإنشاء شكل العلاقات المفترض بين الناس كافة حينما انقسموا إلى شعوب وقبائل ، كما نصت الآية الكريمة التى أطلق عليها بآية التعارف ، رقم 13 فى سورة الحجرات : (يأيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبًا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم إن الله عليم خبير) .

فالتعارف هو المفهوم العام والكلى والجامع والشامل الذى اختارته هذه الآية فى تحديد النمط العام لعلاقات الناس كافة ، مهما تعددت وتنوعت أعراقهم وسلالاتهم، لغاتهم وألسنتهم، دياناتهم ومذاهبهم، تاريخهم وجغرافياتهم. ولأن خطاب الآية إلى الناس كافة ، ولأن الحديث عن شعوب وقبائل وليس عن أفراد، أى أنه حديث عن أمم ومجتمعات وتجمعات لذلك فقد جاز لنا تطبيق هذا المفهوم على مستوى الحضارات، ومن هنا تحدد مفهوم تعارف الحضارات. فهى نظرية مستنبطة من القرآن الكريم، وهو الكتاب الذى بإمكانه تحديد وصياغة العناوين أو المفاهيم الكلية والعامة والجامعة والشاملة ، إذا جاءت فى سياق يقتضى هذا الشأن - كما هو الحال فى آية التعارف - علمًا بأن جملة (شعوبًا وقبائل) لم ترد فى القرآن الكريم إلا فى هذه الآية . لهذا فإن تعارف الحضارات فيها من المقومات والركائز والشرائط بالشكل الذى يجعلنا نطلق عليها مصطلح النظرية .

ويضيف زكى الميلاد :

إن نظرية تعارف الحضارات هى أكثر من كونها مرحلة وسيطة أو انتقالية، فهى وسيطة بمعنى أن على أساسها تتحدد مستويات ودرجات واتجاهات العلاقات ونظام التواصلات بين الناس، وبين المجموعات البشرية، وبين الحضارات، وهكذا أنماط وأشكال وصور هذه العلاقات والتواصلات. فالتعارف هو الذى يؤسس لأشكال الحوار ومستوياته ودرجاته، وإلى أشكال ومستويات ودرجات أخرى من العلاقات والتواصلات أيضًا ، كالتعاون والتحالف والتبادل والإنماء والاندماج والتكامل .. إلى غير ذلك من صور وأشكال وأنماط العلاقات . وبقدر ما يتطور التعارف تتطور تلك الصور والأنماط من العلاقات والتواصلات ، وهذا يعنى أن التعارف يسبق الحوار ويؤسس له أرضياته ومناخاته , ويشكل له بواعثه وحوافزه ، ويطور له صوره وأنماطه ، ويرتقى بدرجاته ومستوياته ، ولهذا فإن التعارف هو القاعدة وليس الحوار .

كما أن التعارف له من الفاعلية ما بإمكانه أن يجنب الحضارات مصير الصدام ، لأن الناس - كما قال الإمام على (رضى الله عنه) - أعداء ما جهلوا . وفى هذا المجال نستحضر من التاريخ الإسلامى الوسيط تجربة التحول العظيم الذى حصل عند المغول الذين بدؤوا بغزو كان من نتائجه تدمير الحضارة الإسلامية والإطاحة بها , وممارسة أعلى درجات البربرية وهو السلوك الذى كان يتصف بالقسوة والعنف والتخريب . ولكنهم وبعد زمن من السيطرة والتواجد فى المنطقة الإسلامية وبين المسلمين ، انتهوا إلى اعتناق الإسلام . والتعارف هو الذى أحدث هذا المستوى من التحول فى ذهنيات المغول . فالجهل قادهم إلى الحرب والتدمير ، والتعارف قادهم إلى السلم والإيمان .

وهناك أيضًا نموذج آخر هو التحول الذى حصل عند الأوروبيين بعد الحروب الصليبية التى قادتهم إلى قناعة جديدة ، هى ضرورة التعرف على الحضارة الإسلامية وعلى الشرق عمومًا ، الذى كان أكثر تقدمًا وتحضرًا ومدنية من الغرب . القناعة التى حرضت الغرب على أن ينهض بأكبر وأعظم جهد بحثى فى دراسة الإسلام والحضارة والشرق ، وهو الجهد الذى عرف بحركة الاستشراق ، وكان من المفترض لهذا الجهد أن يقود أوروبا إلى نوع من التفاهم وبناء علاقات جديدة بينها وبين الإسلام والعالم الإسلامى . لكن الذى حصل هو عكس الاتجاه تمامًا ، لأن المعرفة التى نهض بها الغرب ارتبطت بدوافع وخلفيات ومصالح استعمارية وإمبريالية ، وهذا يعنى أن التعارف لم يكن أخلاقيًا ، وإنما كان توظيفيًا ويخدم مصالح استعمارية .

وينتقد زكى الميلاد تعبير (حوار الحضارات) قائلاً :

قد وجدت بعد فحص مقولة حوار الحضارات أن هذه المقولة تفتقر إلى الدقة والوضوح والإحكام والتماسك . وأول ما يعترض هذه المقول هو : هل أن الحضارات تتحاور فعلاً ؟ وكيف نتصور هذا التحاور ونبرهن عليه ؟ علمًا بأن الدارسين والباحثين والمؤرخين فى ميادين التاريخ والاجتماع والانثربولوجيا والحضارة والثقافة ، الذين درسوا صور وأشكال وأنماط العلاقات بين الحضارات لم يتحدثوا عن ظاهرة الحوار بين الحضارات ، وإنما تحدثوا عن ظواهر أخرى كالتفاعل والتعاقب والتبادل والاحتكاك ، إلى جانب الصراع والصدام . وقد شرحوا هذه الظواهر وعرفوا بها وعن صورها وأشكالها وأنماطها . ولعل فى أكثر الأحيان يكون المقصود من حوار الحضارات تلك الظواهر المذكورة، لكن هذا لا يعفى من سلب الدقة عن هذه المقولة . وفى الأدبيات العربية المعاصرة هناك لفتات متزايدة ومقنعة لحد ما فى نقد هذه المقولة بعد أن دخلت فى دائرة التداول والاهتمام . وهناك من يصنفها مثل الدكتور الجابرى بأنها مفعمة بالغموض والالتباس ، وحسب رأيه أن الذين يطرحون هذه المقولة يتوقفون عند منطوقها حيث ينطوى موقفهم على نوع من الغفلة ، لأن الحوار بين الحضارات إما أن يكون عفويًا تلقائيًا نتيجة الاحتكاك الطبيعى فيكون عبارة عن تبادل التأثير عن أخذ وعطاء بفعل الصيرورة التاريخية، وهذا النوع من تلاقح الحضارات لا يحتاج إلى دعوة ، ولا يكون بتخطيط مسبق بل هو عملية تاريخية تلقائية .

ومن جهة أخرى فى نقد هذه المقولة : أنها غير ممكنة فعلاً من جهة التطبيق ، لأن الغرب الذى يفترض فيه أن يكون طرفًا أساسيًا فى أى حوار على مستوى الحضارات ، فإنه ليس على استعداد فى أنها ينخرط فى هذا الحوار مع حضارات يعتبرها غير متكافئة معه ، وهو الذى يمثل الحضارة الغالبة والمسيطرة على العالم والمتحكمة فى ثرواته . كما أن تاريخ علاقات الغرب بالحضارات الأخرى قد لا يشجعه على هذا الحوار ، وهو الذى دخل فى صدام وتدمير مع بقية الحضارات الأخرى وسلب منها ثرواتها وأوصلها إلى درجة الإفقار والتخلف .

يضاف إلى ذلك أننا على مستوى العالم العربى والإسلامى لا نمتلك نظرية واضحة حول حوار الحضارات ، ولا نفهمها أو نتعامل معها إلا بطريقة تغلب عليها العمومية والإطلاقية التى تفتقد إلى التحديد والتقييد والتبيين . لكنها مع ذلك تبقى من المقولات التى يمكن اعتبارها دعوة أخلاقية نبيلة .

وهذا ما دفعنى إلى التمسك بمقولة (تعارف الحضارات) التى يمكن فهمها وتحديدها والبرهنة عليها , وحتى الاتفاق عليها . ويلاحظ زكى الميلاد أنه بعد 11 سبتمبر 2001م تنامت فى المجتمعات الغربية ظاهرة لفتت إليها الكثيرين فى داخل هذه المجتمعات ، وفى خارجها ، وهى ظاهرة تزايد واتساع الاهتمام نحو الاطلاع والتعرف والتساؤل عن الإسلام من جديد ، لدرجة أصبحت المؤلفات والكتابات فى هذا المجال هى الأكثر انتشارًا وتداولاً وطلبًا ، وبدأت المراكز والمعاهد والجمعيات الإسلامية هناك تستقبل اتصالات لم تشهد مثيلاً لها من قبل ، وتدور هذه الاتصالات حول الإسلام والقضايا الإسلامية والمجتمعات الإسلامية . ووصل الحال ببعض المعاهد والكليات والجامعات الأوروبية والأمريكية - التى وجدت من الضرورى تخصيص برامج دراسية حول الإسلام - أن تستجيب لحاجات طلابها فى تكوين المعرفة بالإسلام والثقافة الإسلامية ، ويمكن وصف هذه الظواهر بأنها تأتى فى سياق تأكيد الحاجة إلى تعارف الحضارات .

من جهة أخرى إن هذه الأحداث كشفت عن اختلالات عميقة فى طبيعة الرؤية المتشكلة حول العالم عند بعض الفئات والجماعات الإسلامية التى تحاول أن تصادم العالم وتنقطع عنه وترفض الاندماج فيه , وتعتبر أنها فى حالة حرب ومواجهة مع الذين يختلفون معها فى الدين والعقيدة . وهذه الحالة فى جوهرها تعبر عن أزمة فكرية ناشئة من عدم القدرة على تكوين المعرفة بالآخر المختلف . فىحين أن الذى ينبغى إعادة النظر فيه هو أن حقيقة مشكلتنا نحن فى العالم الإسلامى هى مع تخلفنا بالدرجة الأولى وليس مع الغرب أو الحضارات الأخرى . وبالتالى فإن القضية هى كيف نتغلب على هذا التخلف ونسلك طريق التحضر ، ومتى ما قطعنا هذه الخطوات أو بعضها سوف يتغير موقعنا فى العالم ، كما سوف تتغير نظرة العالم والحضارات الأخرى إلينا. لذلك فإننا ندرك وبعمق حاجتنا لأن ننهض بمشروع يكون بمستوى التعارف مع الحضارات على قاعدة أن نكتشف لأنفسنا الطريق الذى نستقل به فى سعينا نحو التمدن والتحضر .

كان يفترض فى أحداث 11 سبتمبر 2001م ، أن تهيىء اللحظة التاريخية لانطلاقة فكرة أو نظرية حول تعارف الحضارات ، لكى يتحصن العالم من النزاعات والصدامات والحروب ، ولكى لا تتكرر مثل هذه الأحداث مرة أخرى فى أى مكان من العالم . وهذا يتطلب صياغة رؤية جديدة للعالم يشترك الجميع بكل تنوعاتهم الدينية والثقافية ، العرقية والقومية ، اللغوية واللسانية ، فى صياغتها وبلورتها وتكاملها ، وفى التضامن حولها ، والدفاع عنها . الرؤية التى تنطلق من مراجعة شاملة ونقد جذرى لطبيعة النظام العالمى السائد بكل مكوناته وعناصره وشرائطه ، ويصل إلى جوهره وحقيقته . لأن هذا النظام العالمى يرسخ العنصرية والطبقية وبكل صورها وأنماطها ، ولا يضمن كرامة الجميع ولا يحفظ حقوق الجميع . وهذه الوضعيات هى التى تحرض على انتشار ظواهر العنف ، وتسبب النزاعات ، وتشعل الحروب ، وهى التى تجعل مثل أحداث أيلول/سبتمبر ممكنة الحدوث . والأفدح من ذلك محاولة الغرب أن يحتكر الحضارة والمدنية لنفسه ، ويرسخ فى العالم الانقسام بين أمم متحضرة وأمم متخلفة ، هذا الاختلال هو ما ينبغى أن يتغير .

وفكرة تعارف الحضارات تأتى فى سياق نقد هذا الاختلال والعمل على إنهاض وبناء وعمران الحضارات المختلفة ، لأنها - أى تعارف الحضارات - تنطلق من نزعة إنسانية عميقة هى التأكيد على وحدة الأصل الإنسانى ، والغاية من تأكيد وحدة الأصل الإنسانى فى هذه الآية هو أن ينظر الناس من أمم ومجتمعات وحضارات إلى أنفسهم كما لو أنهم أسرة واحدة ، لكنها منتشرة على مساحات هذه الأرض . وهذه النظرة الإنسانية والأخلاقية بحاجة إلى تنظيم قواعد السلوك على المستوى الدولى . يضاف إلى ذلك أن هناك اعتقادًا بدأ يتأكد بين الحضارات ، هو أن هذه الحضارات لا تعرف بعضها بعضًا كما ينبغى ، وتفتقد إلى جسور التواصل فى عالم تطورت فيه تقنيات الاتصال وأنظمة المواصلات التى باتت تربط العالم ، وتجعل منه أشبه ما يكون بقرية صغيرة. لهذا يمكن الاستفادة من العولمة فى تطوير وتعميم فكرة التعارف بين الحضارات، وتقليص المسافات التى تفصل بينها وإزالة جميع صور الجهل أو عدم الفهم أو غير ذلك فيما بين هذه الحضارات .

رأى المؤلف

نظن أن الاختلاف فى تحديد اسم العلاقة مع الآخر ، وهل هو (حوار) أم (تعارف) أم (تدافع) لا يهم .. المهم فى نظرنا أن يكون جوهر العلاقة مع الآخرين هو : التفاهم والتواصل والتبادل الحضارى ؛ أى تبادل المنافع والخيرات والخبرات ، كما نلاحظ أن المعانى متقاربة للغاية ، وكل منها يقره الإسلام بل يدعو إليه ..كذلك فإن التحاور هو الوسيلة إلى التعارف ، كما أن التدافع يعنى التفاعل الإيجابى، وأن يفيد كل طرف بما هو نافع وحسن لدى الآخر وينبذ الباقى .. وتبادل المنافع والثقافات والخيرات مرحلة تتبع الحوار والتعارف ثم التواصل والتآلف .. وبناء على ذلك ينبغى على علمائنا عدم التوقف كثيرًا عند المسميات ، وإثارة الخلافات النظرية حولها ، بل ننصرف سريعًا إلى المضمون والجوهر ، فمازلنا فى بداية الطريق ، والعبرة بالتطبيق وسرعة تحويل الأفكار والنظريات إلى واقع ملموس على الأرض .

والمطلوب الآن ترسيخ ثقافة الحوار مع الآخر ، وبث مفاهيم التواصل والتبادل الحضارى على الجانبين ، وحشد أنصار جدد لها للتصدى للمعسكر الآخر الداعى إلى الصراع والصدام ، واستخدام كل السبل والوسائل المتاحة - وعلى رأسها وسائل الإعلام العالمية - للرد على جميع مزاعم هنتنجتون وأمثاله وتفنيد آرائهم الهدَّامة ، وإقناع الجميع بخطورة التسليم بها، وضرورة شيوع ثقافة الحوار والتفاهم والتبادل الحضارى، فهى الحل الوحيد لإنقاذ البشرية كلها من ويلات ومخاطر لا تُبقى ولا تذر .

ضوابط الحوار :

ويحدد الدكتور يوسف القرضاوى ضوابط الحوار فيما يلى :

الحوار بالحسنى : فالقرآن الكريم يأمرنا صراحة (ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتى هى أحسن) النحل:125 . فالموافقون لك فى الدين تدعوهم بالحكمة والموعظة الحسنة ، والآخرون تجادلهم بالتى هى أحسن ، وهناك طريقتان للحوار : طريقة حسنة ، وطريقة أحسن منها وأجود ، فالمسلم مأمور أن يستخدم الطريقة التى هى أحسن وأمثل. وقد اكتفى القرآن مع الموافقين بأن تكون الموعظة حسنة ، ولم يرض مع المخالفين إلا أن يكون الجدال بالتى هى أحسن .

وقد نص القرآن على ذلك فى خصوص أهل الكتاب ، فقال تعالى : (ولاتجادلوا أهل الكتاب إلا بالتى هى أحسن إلا الذين ظلموا منهم) العنكبوت:46 .

ومن أجل ذلك أفضل أن يكون عنوان الدعوة (الحوار بين الأديان) وليس (التقريب)؛ لأنها تفهم خطأ .

التركيز على القواسم المشتركة بيننا وبين أهل الكتاب ؛ ولهذا جاء فى تتمة الآية السابقة فى مجادلة أهل الكتاب : (وقولوا آمنا بالذى أُنزل إلينا وأُنزل إليكم وإلهنا وإلهكم واحد ونحن له مسلمون) العنكبوت:46 .

ففى مجال التقريب والحوار بالتى هى أحسن : ينبغى ذكر نقاط الاتفاق، لا نقاط التمايز والاختلاف .

وهناك من المسلمين المتشددين من يزعم أنه لا توجد بيننا وبين اليهود والنصارى أية جوامع مشتركة، ما دمنا نحكم عليهم بالكفر، وأنهم حرفوا وبدلوا كلام الله .

وهذا فهم خاطىء للموقف الإسلامى من القوم . فلماذا أباح الله تعالى مؤاكلتهم ومصاهرتهم؟ وكيف أجاز للمسلم أن تكون زوجته وربة بيته وأم أولاده كتابية ؟ ومقتضى هذا : أن يكون أجداد أولاده وجداتهم، وأخوالهم وخالاتهم وأولادهم من أهل الكتاب، وهؤلاء جميعًا لهم حقوق ذوى الرحم وأولى القربى .

ولماذا حزن المسلمون حين انتصر الفرس - وهم مجوس يعبدون النار - على الروم ، وهم نصارى أهل الكتاب ؟ حتى أنزل الله قرآنًا يبشر المسلمين بأن الروم سينتصرون فى المستقبل القريب (ويومئذ يفرح المؤمنون بنصر الله) الروم:4 ، 5 ، كما جاء فى أول سورة الروم .

وهذا يدل على أن أهل الكتاب - وإن كفروا برسالة محمد صلى الله عليه وسلم - أقرب إلى المسلمين من غيرهم من الجاحدين أو الوثنيين .

الوقوف معًا لمواجهة أعداء الإيمان ، ودعاة الإلحاد فى العقيدة، والإباحية فى السلوك ، من أنصار المادية ، ودعاة العرى، والتحلل الجنسى والإجهاض والشذوذ الجنسى ، وزواج الرجال بالرجال ، والنساء بالنساء .

فلا مانع أن نقف مع أهل الكتاب فى جبهة واحدة ، ضد هؤلاء الذين يريدون دمار البشرية بدعاواهم المضللة ، وسلوكياتهم الغاوية، وأن يهبطوا بها من نقاء الإنسانية إلى درك الحيوانية : (أرأيت من اتخذ إلهه هواه أفأنت تكون عليه وكيلاً ، أم تحسب أن أكثرهم يسمعون أو يعقلون إن هم إلا كالأنعام بل هم أضل سبيلاً) الفرقان : 43 ، 44 .

وقد رأينا الأزهر ورابطة العالم الإسلامى والفاتيكان يقفون فى (مؤتمر السكان) فى القاهرة سنة 1994م، وفى مؤتمر المرأة فى بكين سنة 1995م فى صف واحد، لمواجهة دعاة الإباحية .

الوقوف معًا لنصرة قضايا العدل، وتأييد المستضعفين والمظلومين فى العالم، مثل قضية فلسطين والبوسنة والهرسك، وكوسوفا ، وكشمير ، واضطهاد السود والملونين فى أمريكا وفى غيرها، ومساندة الشعوب المقهورة ضد الظالمين والمستكبرين فى الأرض بغير الحق، الذين يريدون أن يتخذوا عباد الله عبادًا لهم .

فالإسلام يقاوم الظلم، ويناصر المظلومين، من أى شعب ، ومن أى جنس، ومن أى دين .

والرسول صلى الله عليه وسلم ذكر حلف الفضول الذى شارك فيه فى شبابه فى الجاهلية ، وكان حلفًا لنصرة المظلومين ، والمطالبة بحقوقهم، ولو كانت عند أشراف القوم وسراتهم .

وقال عليه الصلاة والسلام: (لو دعيت إلى مثله فى الإسلام لأجبت)(6).

ومما ينبغى أن تتضمنه هذه الدعوة : إشاعة روح السماحة والرحمة والرفق فى التعامل بين أهل الأديان ، لا روح التعصب والقسوة والعنف .

فقد خاطب الله تعالى رسوله محمدًا بقوله : (وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين) الأنبياء:107 .

وقال عليه الصلاة والسلام عن نفسه : (إنما أنا رحمة مهداة)(7) .

وذم الله بنى إسرائيل بقوله : (فبما نقضهم ميثاقهم لعناهم وجعلنا قلوبهم قاسية) المائدة:13 ، وفى موضع آخر قال فى مخاطبتهم : (ثم قست قلوبكم من بعد ذلك فهى كالحجارة أو أشد قسوة) البقرة:74 .

وقال النبى لزوجه عائشة : (إن الله يحب الرفق فى الأمر كله)(8) ، (ما دخل الرفق فى شىء إلا زانه وما نزع من شىء إلا شانه) ، (إن الله يحب الرفق، ويعطى عليه ما لا يعطى على العنف)(9) .

ولا تتنافى روح التسامح والرحمة والرفق فى معاملة أهل الكتاب مع ما يعتقده المسلم من كفرهم بدين الإسلام، وأنهم على ضلال، فهناك عناصر أخرى تخفف من هذا الأمر فى فكر المسلم وضميره :

1- فهو يعتقد أن اختلاف البشر فى أديانهم واقع بمشيئة الله تعالى، المرتبطة بحكمته . كما قال تعالى : (ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة ولايزالون مختلفين، إلا من رحم ربك ولذلك خلقهم) هود:119،118، أى خلقهم ليختلفوا مادام قد منحهم العقل وحرية الإرادة .

2- وأن الحساب على ضلال الضالين، وكفر الكافرين ليس فى هذه الدنيا، ولكن فى الآخرة, وليس موكولاً إلينا ، ولكن إلى الله الحكم العدل، واللطيف الخبير . كما قال تعالى لرسوله : (فلذلك فادع واستقم كما أمرت ولاتتبع أهواءهم وقل آمنت بما أنزل الله من كتاب وأُمرت لأعدل بينكم الله ربنا وربكم لنا أعمالنا ولكم أعمالكم لا حجة بيننا وبينكم الله يجمع بيننا وإليه المصير) الشورى:15 .

3- اعتقاد المسلم بكرامة الإنسان من حيث هو إنسان . وفى هذا روى البخارى عن جابر : أن النبى صلى الله عليه وسلم مروا عليه بجنازة، فقام لها واقفًا، فقالوا : يا رسول الله ، إنها جنازة يهودى! فقال : (أليست نفسًا؟) بلى فما أعظم الموقف، وما أروع التعليل !!

4- إيمان المسلم بأن عدل الله لجميع عباد الله، مسلمين وغير مسلمين، كما قال تعالى : (ولا يجرمنكم شنآن قوم على ألا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى) المائدة:8، وبهذا لا يتحيز المسلم الحق لمن يحب، ولا يحيف على من يكره. بل يؤدى الحق لأهله، مسلمًا أو غير مسلم، صديقًا أم عدوًا(10) .

المراجع

1. مجلة الوعى الإسلامى - العدد 455 رجب 1424 هـ .

2. المعجم الوسيط - مجمع اللغة العربية - القاهرة - دار المعارف ص 205 .

3. الشيخ محمد الخضيرى - تاريخ التشريع الإسلامى - المكتبة التجارية - مصر .

4. محمد أبو زهرة - العلاقات الدولية فى الإسلام - الدار القومية - القاهرة - 1964هـ ص 29 .

(5) موقع البلاغ www.balagh.com .

6. الدكتور أحمد عبد العزيز المزينى - مجلة الوعى الإسلامى - العدد 455 .

7. رواه ابن إسحاق فى السيرة كما فى ابن هشام (1/29) من الطبعة الجمالية، قال ابن زيد بن المهاجر قنفذ التيمى أنه سمع طلحة بن عبد الله بن عوف الزهرى يقول : قال رسول الله : فذكره، قلت : وهذا سند صحيح لولا أنه مرسل . ولكن له شواهد تقويه ، فرواه الحميدى بإسناد آخر مرسلاً أيضًا كما فى (البداية) 2/29. وأخرجه الإمام أحمد (رقم 1655/ 1676) من حديث عبد الرحمن بن عوف مرفوعًا دون قوله : (ولو دُعيت به فى الإسلام لأجبت) وسنده صحيح .

8. الحاكم : عن أبى هريرة :1/35 صححه الحاكم ووافقه الذهبى، تفسير ابن كثير 3/202،201.

9. متفق عليه : اللؤلؤ والمرجان عن عائشة (1400) .

(10) د. يوسف عبد الله - فى فقه الأقليات المسلمة - دار الشروق - مصر .

الفصل الرابع

هل انتشر الإسلام بالسيف ؟

من المزاعم التىتخيف الآخرين وتعرقل الحوار والتعارف ، تلك الأكذوبة التى يتداولها كثير من المستشرقين، وخلاصتها : أن الإسلام قد انتشر بالسيف.. ويمكننا الرد على هذه الفرية بكل سهولة وإيجاز فيما يلى :

لقد عاش الرسول صلى الله عليه وسلم قرابة 13 عامًا فى مكة يدعو إلى الله سراً وعلانيةً .. وتعرض هو وكل أصحابه لأذى المشركين واضطهادهم بكل الوسائل والأساليب ، فما رفع أحدهم سيفًا على مشرك .. وقد يقول قائل : هذا لأنهم كانوا مستضعفين فى ذلك الوقت .. ونرد فورًا بأن النبى صلى الله عليه وسلم عفا عمن آذوه وعذبوا أصحابه وقتلوا بعضهم عندما أمكنه الله منهم بفتح مكة ، وقال لهم قولته الشهيرة : (اذهبوا فأنتم الطلقاء)(1) .

إن استمرار وجود ملايين من غير المسلمين فى معظم دول العالم الإسلامى حتى الآن بكنائسهم ومعابدهم هو الدليل القاطع على تسامح المسلمين وعدلهم ، وحمايتهم للآخر ، وعدم إكراه أحد على الإسلام بعد أن فتحوا تلك البلدان . (قارن هذا التسامح بالإبادة الجماعية للمسلمين فى إسبانيا بعد انتهاء الحكم الإسلامى بها ، وإبادة الهنود الحمر سكان أمريكا الأصليين على أيدى البيض الذين قدموا من شتى أنحاء أوروبا واحتلوا الأمريكتين بقوة السلاح) .

فى عصرنا الحديث اعتنق الملايين من الأوروبيين والأمريكان الإسلام .. ومازال عشرات الألوف يدخلون فى دين الله أفواجًا يوميًا بعد اقتناع ودراسة متأنية .. أى سيف الآن أجبر هؤلاء على الإسلام ؟! لقد اعترف الرئيس الأمريكى السابق بيل كلينتون بأن الإسلام هو أسرع الأديان انتشارًا الآن فى الولايات المتحدة الأمريكية (أقوى دولة فى العالم والتى تحتل الآن دولاً إسلامية مثل العراق وأفغانستان) فهل نقدر الآن - كمسلمين - على ممارسة أى ضغط أو إجبار على أحد من الأمريكان أو الأوروبيين لاعتناق الإسلام ؟ هل أرغم أحد المفكر العالمى الفرنسى رجاء جارودى على اعتناق الإسلام ؟ هل هدد أحد النجم العالمى كات ستيفن ليصبح مسلماً ؟ وهل أجبر أحد الملاكم العالمى محمد على كلاى وزميله مايك تايسون على الإسلام ؟ وماذا عن مئات القساوسة فى الغرب الذين أسلموا بعد مقارنة للأديان ؟(2) .

دخل الإسلام معظم أنحاء آسيا وأفريقيا عن طريق التجار المسلمين العزل من أى سلاح - سوى العقيدة الراسخة - الذين جذبوا أنظار السكان الأصليين بالأمانة والصدق ومكارم الأخلاق ، ونجحوا فى دعوتهم إلى الإسلام بالقدوة الحسنة .

نصوص القرآن قاطعة فى النص على حرية العقيدة .. يقول الإمام محمد عبده وتلميذه محمد رشيد رضا فى تفسير قوله تعالى : (لا إكراه فى الدين) البقرة:256 . أخرج ابن جرير من طريق سعيد وعكرمة عن ابن عباس قال : (لا إكراه فى الدين) هذه الآية فى رجل من الأنصار من بنى سالم بن عوف يقال له الحصين ، كان له ابنان نصرانيان ، وكان هو مسلماً ، فقال للنبى صلى الله عليه وسلم : ألا أستكرههما ؛ فإنهما قد أبيا إلا النصرانية ، فأنزل الله الآية . وفى بعض التفاسير أنه حاول إكراههما ، فاختصموا إلى النبى صلى الله عليه وسلم ، فقال: يا رسول الله ، أيدخل بعضى النار وأنا أنظر ! ولابن جرير عدة روايات فى نذر النساء فى الجاهلية تهويد أولادهم ليعيشوا ، وإن المسلمين بعد الإسلام أرادوا إكراه من لهم من الأولاد على دين أهل الكتاب على الإسلام ، فنزلت الآية ، فكانت فصل ما بينهم ، وفى رواية له عن سعيد بن جبير أن النبى صلى الله عليه وسلم قال عندما أنزلت : (قد خيَّرَ الله أصحابكم ، فإن اختاروكم فهم منكم ، وإن اختاروهم فهم منهم) .

قال الشيخ رشيد رضا فى تفسير الآية(3) : هذا حكم الدين الذى يزعم الكثيرون من أعدائه - وفيهم من يظن أنه من أوليائه - أنه قام بالسيف والقوة، فكان يعرض على الناس والقوة عن يمينه ، فمن قبله نجا ، ومن رفضه حكم السيف فيه حكمه ، فهل كان السيف يعمل عمله فى إكراه الناس على الإسلام فى مكة أيام كان النبى صلى الله عليه وسلم يصلى مستخفياً ، وأيام كان المشركون يفتنون المسلم بأنواع من التعذيب ولا يجدون رادعاً ، حتى اضطر النبى وأصحابه إلى الهجرة ؟ أم يقولون إن ذلك الإكراه وقع فى المدينة بعد أن اعتز الإسلام ، وهذه الآية قد نزلت فى غرة هذا الاعتزاز ؟ فإن غزوة بنى النضير كانت فى ربيع الأول من السنة الرابعة ، وقال البخارى : إنها كانت قبل غزوة أحد التى لا خلاف فى أنها كانت فى شوال سنة ثلاث ، وكان كفار مكة لا يزالون يقصدون المسلمين بالحرب . نقض بنو النضير عهد النبى صلى الله عليه وسلم ، فكادوا له وهمَّوا باغتياله مرتين ، وهم بجواره فى ضواحى المدينة ، فلم يكن بُدّ من إجلائهم عن المدينة ، فحاصرهم حتى أجلاهم ، فخرجوا مغلوبين على أمرهم ، ولم يأذن لمن استأذنه من أصحابه بإكراه أولادهم المتهودين على الإسلام ومنعهم من الخروج مع اليهود، فذلك أول يوم خطر فيه على بال بعض المسلمين الإكراه على الإسلام ، وهو اليوم الذى نزل فيه (لا إكراه فى الدين) .

ثم نقل عن الأستاذ الإمام محمد عبده رحمه الله أنه قال : كان معهودًا عند بعض الملل لاسيما النصارى حمل الناس على الدخول فى دينهم بالإكراه ، وهذه المسألة ألصق بالسياسة منها بالدين، لأن الإيمان - وهو أصل الدين وجوهره - عبارة عن إذعان النفس ، ويستحيل أن يكون الإذعان بالإلزام والإكراه ، وإنما يكون بالبيان والبرهان ، ولذلك قال تعالى بعد نفى الإكراه : (قد تبين الرشد من الغى) البقرة:256 ، أى قد ظهر أن فى هذا الدين الرشد والهدى والفلاح والسير فى الجادة على نور، وأن ما خالفه من الملل والنحلل على غى وضلال .

ثم قال : ورد بمعنى هذه الآية (يونس:99) قوله تعالى : (ولو شاء ربك لآمن من فى الأرض جميعًا أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين) وتؤيدهما الآيات الكثيرة الناطقة بأن الدين هداية اختيارية للناس ، تعرض عليهم مؤيدة بالآيات والبينات ، وأن الرسل لم يبعثوا جبارين ولا مسيطرين ، وإنما بعثوا مبشرين ومنذرين . ولكن يُرد علينا أنا أمرنا بالقتال ، وقد تقدم بيان حكمة ذلك ، بلى أقول : إن الآية التى نفسرها نزلت فى غزوة بنى النضير، إذ أراد بعض الصحابة إجبار أولادهم المتهودين أن يسلموا ولا يكونوا مع بنى النضير فى جلائهم كما مر ، فبين الله لهم أن الإكراه ممنوع ، وأن العمدة فى دعوة الدين بيانه حتي يبين الرشد من الغى، وأن الناس مخيرون بعد ذلك فى قبوله أو تركه . ثم قال : شرع القتال لتأمين الدعوة، ولكف شر الكافرين عن المؤمنين، لكيلا يزعزعوا ضعيفهم قبل أن تتمكن الهداية من قلبه، ويقهروا قويهم بفتنته عن دينه، كما كانوا يفعلون ذلك فى مكة جهرًا، ولذلك قال : (وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله) البقرة:193 ، أى حتى يكون الإيمان فى قلب المؤمن آمنا من زلزلة المعاندين له بإيذاء صاحبه، فيكون دينه خالصاً لله غير مزعزع ولا مضطرب، فالدين لا يكون خالصاً لله إلا إذا كفت الفتن عنه وقوى سلطانه، حتى لا يجرؤ على أهله أحد.

ثم نقل عن الأستاذ الإمام محمد عبده أن الفتن إنما تكف بأحد أمرين :

الأول : إظهار المعاندين للإسلام ولو باللسان، لأن من فعل ذلك لا يكون من خصومنا، ولا يبارزنا بالعداء، وبذلك تكون كلمتنا بالنسبة إليه هى العليا، ويكون الدين لله، ولا يفتن صاحبه فيه، ولا يمنع من الدعوة إليه .

والثانى : - وهو أدل على عدم الإكراه - قبول الجزية، وهى شىء من المال يعطوننا إياه جزاء حمايتنا لهم بعد خضوعهم لنا، وبهذا الخضوع نكتفى شرهم، وتكون كلمة الله هى العليا .

فقوله تعالى : (لا إكراه فى الدين) قاعدة كبرى من قواعد دين الإسلام، وركن عظيم من أركان سياسته، فهو لا يجيز إكراه أحد على الدخول فيه، ولايسمح لأحد أن يكره أحداً من أهله على الخروج منه . وإنما نكون متمكنين من إقامة هذا الركن وحفظ هذه القاعدة إذا كنا أصحاب قوة ومنعة نحمى بها ديننا وأنفسنا ممن يحاول فتنتنا فى ديننا اعتداء علينا بما هو آمن أن نعتدى بمثله عليه ، إذ أمرنا أن ندعو إلى سبيل ربنا بالحكمة والموعظة الحسنة، وأن نجادل المخالفين بالتى هى أحسن ، معتمدين على أن تَبَيُّن الرشد من الغى هو الطريق المستقيم إلى الإيمان، مع حرية الدعوة، وأمن الفتنة . فالجهاد من الدين بهذا الاعتبار، أى أنه ليس من جوهره ومقاصده، وإنما هو سياج له وجُنَّة، فهو أمر سياسى لازم له للضرورة، ولا التفات لما يهذى به العوام ومعلموهم الطغام، إذ يزعمون أن الدين قام بالسيف، وأن الجهاد مطلوب لذاته، فالقرآن فى جملته وتفصيله حجة عليهم .

وذكر أيضًا فى تفسير قوله تعالى : (ولو شاء ربك لآمن من فى الأرض كلهم جميعًا أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين) أن هذه أول آية نزلت فى أن الدين لا يكون بالإكراه، أى لا يمكن للبشر ولا يُستطاع، ثم نزل عند التنفيذ (لا إكراه فى الدين) (البقرة:256) أى لا يجوز ولا يصح به، لأن علماء المسلمين أجمعوا على أن إيمان المُكْره باطل لا يصح، لكن نصارى أوروبا ومقلديهم من أهل الشرق لا يستحون من افتراء الكذب على الإسلام والمسلمين، ومنه رميهم بأنهم كانوا يكرهون الناس على الإسلام ، ويُخَيِّرونهم بينه وبين السيف يقطع رقابهم، على حد المثل : (رمتنى بدائها وانسلت) .

فهذا ما يقوله الأستاذ الإمام الشيخ محمد عبده وتلميذه محمد رشيد رضا فى تفسير تلك الآية, وهما اللذان كان لهما ولأستاذهما جمال الدين الأفغانى الفضل فى تطهير الإسلام مما لصق به من آثار الجمود، حتى أعادوه إلى طهارته وروعته الأولى، فأمكنه أن يقف كالصخرة العاتية أمام سيل الشبهات التى توجه إليه فى هذا العصر، ولولا هذا لتزعزعت أركانه ، ولاختفى فى ظلمات الجمود التى كانت تخيم عليه، وتساعد أعداء الإسلام فيما يوجهونه من طعنات إليه، كما يساعدونهم فى جمودهم على تفسير تلك الآية بما يفيد أن الإسلام لم ينتشر إلا بالإكراه .

شهادة مفكر مسيحى

وهناك أيضًا شهادات المنصفين من غير المسلمين ، ونختار منها شهادة ذلك المفكر المصرى المسيحى الدكتور نبيل لوقا بباوي(4) الذى أصدر مؤخرًا دراسة تحت عنوان : (انتشار الإسلام بحد السيف بين الحقيقة والافتراء) رد فيها على الذين يتهمون الإسلام بأنه انتشر بحد السيف وأجبر الناس على الدخول فيه واعتناقه بالقوة .

وناقشت الدراسة هذه التهمة الكاذبة بموضوعية علمية وتاريخية أوضحت خلالها أن الإسلام، بوصفه دينًا سماويًا، لم ينفرد وحده بوجود بفئة من أتباعه لاتلتزم بأحكامه وشرائعه ومبادئه التى ترفض الإكراه فى الدين، وتحرم الاعتداء على النفس البشرية، وأن سلوك وأفعال وفتاوى هذه الفئة القليلة من الولاة والحكام والمسلمين غير الملتزمين لا تمت إلى تعاليم الإسلام بصلة .

فقد حدث فى المسيحية أيضاً التناقض بين تعاليمها ومبادئها التى تدعو إلى المحبة والتسامح والسلام بين البشر وعدم الاعتداء على الغير ، وبين ما فعله بعض أتباعها فى البعض الآخر من قتل وسفك دماء واضطهاد وتعذيب، مما ترفضه المسيحية ولا تقره مبادئها، مشيرة إلى الاضطهاد والتعذيب والتنكيل والمذابح التى وقت على المسيحيين الكاثوليك، لاسيما فى عهد الإمبراطور دقلديانوس الذى تولى الحكم فى عام 248م، فكان فى عهده يتم تعذيب المسيحيين الأرثوذكس فى مصر بإلقائهم فى النار أحياء ، أو تعليقهم على الصليب حتى يهلكوا جوعًا، ثم تترك جثثهم لتأكلها الغربان، أو كانوا يوثقون فى فروع الأشجار، بعد أن يتم تقريبها بآلات خاصة ، ثم تترك لتعود لوضعها الطبيعى فتتمزق الأعضاء الجسدية للمسيحيين إرباً إرباً .

وأضاف بباوي : أن أعداد المسيحيين الذين قتلوا بالتعذيب في عهد الإمبراطور دقلديانوس يقدر بأكثر من مليون مسيحى ، إضافة إلى المغالاة فى الضرائب التى كانت تفرض على كل شىء حتى على دفن الموتى ، لذلك قررت الكنيسة القبطية الأرثوذكسية فى مصر اعتبار ذلك العهد عصر الشهداء، وأرخوا به التقويم القبطى تذكيرًا بالتطرف المسيحى. وأشار الباحث إلى الحروب الدموية التى حدثت بين الكاثوليك والبروتستانت فى أوروبا، وما لاقاه البروتستانت من العذاب والقتل والتشريد والحبس في غياهب السجون إثر ظهور المذهب البروتستانتى الذى أسسه الراهب مارتن لوثر الذى ضاق ذرعاً بمتاجرة الكهنة بصكوك الغفران ، فتصدوا له ولأتباعه وذبحوا الملايين منهم .

وهدفت الدراسة من عرض هذا الصراع المسيحى إلى :

أولاً : عقد مقارنة بين هذا الاضطهاد الدينى الذى وقع على المسيحيين الأرثوذكس من قبل الدولة الرومانية ، ومن المسيحيين الكاثوليك ، وبين التسامح الدينى الذى حققته الدولة الإسلامية في مصر، وحرية العقيدة الدينية التى أقرها الإسلام لغير المسلمين ، وتركهم أحراراً في ممارسة شعائرهم الدينية داخل كنائسهم، وتطبيق شرائع ملتهم في الأحوال الشخصية، مصداقًا لقوله تعالى في سورة البقرة : (لا إكراه في الدين) البقرة:256، وتحقيق العدالة والمساواة في الحقوق والواجبات بين المسلمين وغير المسلمين في الدولة الإسلامية إعمالاً للقاعدة الإسلامية (لهم ما لنا وعليهم ما علينا)، وهذا يثبت أن الإسلام لم ينتشر بالسيف والقوة لأنه تم تخيير غير المسلمين بين قبول الإسلام أو البقاء على دينهم مع دفع الجزية (ضريبة الدفاع عنهم وحمايتهم وتمتعهم بالخدمات)، فمن اختار البقاء على دينه فهو حر، وقد كان في قدرة الدولة الإسلامية أن تجبر المسيحيين على الدخول في الإسلام بقوتها، أو أن تقضى عليهم بالقتل إذا لم يدخلوا قهرًا، ولكن الدولة الإسلامية لم تفعل ذلك تنفيذاً لتعاليم الإسلام ومبادئه، فأين دعوى انتشار الإسلام بالسيف ؟

ثانيًا : إثبات أن الجزية التى فرضت على غير المسلمين فى الدولة الإسلامية بموجب عقود الأمان التى وقعت معهم، إنما هى ضريبة دفاع عنهم فى مقابل حمايتهم والدفاع عنهم من أى اعتداء خارجى، لإعفائهم من الاشتراك فى الجيش الإسلامى حتى لا يدخلوا حربًا يدافعون فيها عن دين لا يؤمنون به، ومع ذلك فإذا اختار غير المسلم أن ينضم إلى الجيش الإسلامى برضاه فإنه يعفى من دفع الجزية .

وتقول الدراسة : إن الجزية كانت تأتى أيضًا نظير التمتع بالخدمات العامة التى تقدمها الدولة للمواطنين مسلمين وغير مسلمين، والتى تنفق من أموال الزكاة التى يدفعها المسلمون بصفتها ركناً من أركان الإسلام، وهذه الجزية لا تمثل إلا قدرًا ضئيلاً متواضعًا لو قورنت بالضرائب الباهظة التى كانت تفرضها الدولة الرومانية على المسيحيين فى مصر، ولا يعفى منها أحد، فى حين أن أكثر من 70% من الأقباط الأرثوذكس كانوا يعفون من دفع هذه الجزية، فقد كان يعفى من دفعها : القُصّر والنساء والشيوخ والعجزة وأصحاب الأمراض والرهبان والفقراء أيضًا كانوا يعفون .

ثالثاً : إثبات أن تجاوز بعض الولاة المسلمين ، أو بعض الأفراد أو بعض الجماعات من المسلمين فى معاملاتهم لغير المسلمين إنما هى تصرفات فردية شخصية لا تمت لتعاليم الإسلام بصلة، ولا علاقة لها بمبادىء الدين الإسلامى وأحكامه، فإنصافاً للحقيقة يجب ألا ينسب هذا التجاوز للدين الإسلامى، وإنما ينسب إلى من تجاوز، وهذا الضبط يتساوى مع رفض المسيحية للتجاوزات التى حدثت من الدولة الرومانية ، ومن المسيحيين الكاثوليك ضد المسيحيين الأرثوذكس، ويتساءل قائلاً : لماذا إذن يغمض بعض المؤرخين عيونهم عن التجاوز الذى حدث فى جانب المسيحية ولا يتحدثون عنه بينما يضخمون الذى حدث فى جانب الإسلام، ويتحدثون عنه ؟ ولماذا الكيل بمكيالين ؟ والوزن بميزانين؟!

ونشير فى هذا الصدد إلى الواقعة المشهورة التى ترويها كتب التاريخ (سيرة عمر بن الخطاب للإمام الجوزى) التى اقتص فيها الفاروق عمر من ابن والى مصر عمرو بن العاص الذى ضرب قبطيًا ظلمًا ، وقال الفاروق كلمته المشهورة : (متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارًا ؟!) .

المراجع

(1) راجع سيرة ابن هشام – السيرة النبوية لابن كثير – فقه السيرة للشيخ محمد الغزالى .

(2) انظر قصص إسلام هؤلاء فى : www.thetruereligion.org/converts ، وموقع www.saaid.net ، www.islamway.com .

(3) تفسير المنار - سورة البقرة - الآية 256 . وقارن تفسير هذه الآية فى الجامع لأحكام القرآن للقرطبى - تفسير ابن كثير - تفسير النسفى - تفسير البيضاوى - تفسير الطبرى - فى ظلال القرآن للأستاذ سيد قطب .

(4) نبيل لوقا بباوى - انتشار الإسلام بحد السيف بين الحقيقة والافتراء - دار بباوى للنشر - القاهرة 2003م .

الفصل الخامس

الأقليات فى المجتمع الإسلامى

لكى ندرك عظمة التشريع الإسلامى فى الاعتراف (بالآخر) وحفظ حقوقه فى إطار من التعايش السلمى للمجتمع بجميع طوائفه وفئاته، علينا أن نشير إلى ما كانت عليه الأمم الأخرى قبل ظهور الإسلام ..

فالرومان كانوا يحتكرون (السيادة والشرف) للجنس الرومانى، ويرون فى الأخرين والأغيار (برابرة) لا يستحقون حتى أن يطبق عليهم القانون الرومانى! .. ولا حق لهم فى التدين بغير دين السادة الرومان - وثنّيا كان هذا الدين أو نصرانيًا - ولقد صبوا جام اضطهادهم، فى حقبة الوثنية، على اليهود وعلى النصارى، وفى حقبة تنصرهم، على النصرانية الشرقية - المخالفة لهم فى المذهب - فى مصر والشام .

واليهودية التلمودية، قد تحولت إلى (وثنية) جعلت الله، سبحانه وتعالى، إله بنى إسرائيل وحدهم، وللشعوب الأخرى آلهتها، وذلك بدلاً من الإيمان بأنه، سبحانه، هو إله العالمين .. ولقد صبوا جام اضطهادهم على المسيح عيسى ابن مريم، عليه السلام، وعلى حوارييه والذين آمنوا به واتبعوه.

والنصرانية - هى الأخرى - بادلت الآخرين إنكارًا بإنكار، واضطهادًا باضطهاد.. فبمجرد أن أفاقت - فى مصر مثلاً - من الاضطهاد الوثنى الرومانى، وفور تدين الدولة الرومانية بالنصرانية، على عهد الإمبراطور (قسطنطين) (274 - 337م) صبت هذه النصرانية جام اضطهادها على الوثنية المصرية، فدمرت معابدها، وأحرقت مكتباتها، وسحلت وقتلت ومزقت وأحرقت فلاسفتها .. وسجل التاريخ كيف قاد بطرك الكنيسة المصرية (تيوفيلوس) (385 - 412م) (حملة اضطهاد عنيفة ضد الوثنيين، واتجه للقضاء على مدرسة الإسكندرية، وتدمير مكتبتها وإشعال النار فيها .. وطالت هذه الإبادة مكتبات المعابد .. وتم السحل والتمزيق والحرق لفيلسوفة الأفلاطونية الحديثة، وعالمة الفلك والرياضيات (إناتيه) (370 - 415م) وذلك فضلاً عن تحطيم التماثيل .. والعبث بالآثار ..)(1).

ثم عادت النصرانية اليعقوبية إلى موقع الضحية والمضطهد من النصرانية الملكانية الرومانية، بعد الاختلاف حول طبيعة المسيح، عليه السلام ..

ثم جاء الإسلام فأحدث (الإصلاح الثورى) فى العلاقة بالآخرين، وبلغ فى العمق والسمو الحد الذى جعل فيه الآخر جزءًا من الذات ، وكما يقول المفكر الإسلامى الدكتور محمد عمارة : فقد وضع الإسلام هذه المبادئ كمواد فى دستور دولته الأولى - دولة النبوة والخلافة الراشدة - .. وصياغات دستورية فى المواثيق والمعاهدات والعهود التى عقدتها الدولة الإسلامية مع (الآخرين) الذين قامت بينهم وبين دولة الإسلام علاقات ومصالح وارتباطات، ثم تجسد كل ذلك فى الواقع والحضارة والتاريخ ..

ففى دستور دولة المدينة - (الصحيفة .. الكتاب) - الذى وضعه رسوله الله صلى الله عليه وسلم عند قيام هذه الدولة، عقب الهجرة، لينظم الحقوق والواجبات بين مكونات الأمة، فى الوطن .. نص هذا الدستور على أن القطاعات العربية المتهودة من قبائل المدينة، ومن لحق بهم وعاهدوه، قد أصبحوا جزءًا أصيلاً فى الأمة الواحدة والرعية المتحدة لهذه الدولة الإسلامية.. فنص هذا الدستور على أن (يهود أمة مع المؤمنين، لليهود دينهم وللمسلمين دينهم .. ومن تبعنا من يهود فإن لهم النصر والأسوة، غير مظلومين ولا مُتَنَاصر عليهم .. وأن بطانة يهود ومواليهم كأنفسهم .. وأن اليهود ينفقون مع المؤمنين ماداموا محاربين، على اليهود نفقتهم وعلى المسلمين نفقتهم، وأن بينهم النصر على من حارب أهل هذه الصحيفة، وأن بينهم النصح والنصيحة، والبر المحض من أهل هذه الصحيفة دون الإثم، لا يكسب كاسب إلا على نفسه)(1) .

وهكذا تجسد التحام (الآخر اليهودى) فى الأمة الواحدة والرعية المتحدة للدولة، فى ظل المرجعية الإسلامية، ومن خلال سعتها التى نص عليها هذا الدستور عندما قال: (.. وأنه ما كان من أهل هذه الصحيفة من حدث أو اشتجار يخاف فساده ، فإن مرده إلى الله وإلى محمد رسول الله ..)(3) .

كذلك تجسد هذا الالتحام (بالآخر)، وتحققت هذه المساواة وإياه فى العلاقة التى أدخلت النصارى - نصارى (نجران) وكل المتدينين بالنصرانية - فى صلب الأمة الواحدة، وفى رعية الدولة المتحدة، فنص ميثاق العهد الذى كتبه رسول الله صلى الله عليه وسلم لنصارى (نجران) على مجموعة من المبادئ الدستورية التى وضعت مبادئ علاقة الإسلام بالآخرين فى الممارسة والتطبيق .. فجاء هذا الميثاق :

(.. ولنجران وحاشيتها، ولأهل ملتها ، ولجميع من ينتحل دعوة النصرانية .. جوار الله وذمة محمد رسول الله على أموالهم، وأنفسهم، وملتهم، وغائبهم وشاهدهم، وعشيرتهم، وبِيَعهم، وكل ما تحت أيديهم من قليل أو كثير .. أن أحمى جانبهم، وأذُب عنهم وعن كنائسهم وبيعهم وبيوت صلواتهم، ومواضع الرهبان، ومواطن السياح، حيث كانوا من بر أو بحر، شرقًا وغربًا، بما أحفظ به نفسى وأهل الإسلام من ملتى) ..

ولم يقف هذا الميثاق، فقط ، عند ضمان حرية الاختلاف فى المعتقد الدينى، وحرية إقامة هذا المعتقد المخالف للإسلام ..وإنما نص على احترام (الوجودالمؤسسى) لهذا التنوع والاختلاف .. (..فلا يُغَيَّر أسقف، ولا راهب من رهبانيته ..) .

ولأن الجزية هى (بدل جندية)، لا تُؤخذ إلا من القادرين ماليًا، الذين يستطيعون حمل السلاح وأداء ضريبة القتال دفاعًا عن الوطن، وليست (بدلاً من الإيمان بالإسلام) وإلا لفرضت على الرهبان ورجال الدين .. وبدليل أن الذين اختاروا أداء ضريبة أداء الجندية فى صفوف المسلمين، ضد الفرس والروم، وهم على دياناتهم غير الإسلامية - فى الشام .. والعراق .. ومصر - لم تفرض عليهم الجزية، وإنما اقتسموا مع المسلمين الغنائم على قدم المساواة.. لأن هذا هو موقع (الجزية) فى علاقة الدولة الإسلامية بالآخرين، جاء فى ميثاق نصارى (نجران) : (..ولايُحشرون) أى لا يكلفون التعبئة العامة للقتال، ولا يكلف أحد من أهل الذمة منهم الخروج مع المسلمين إلى عدوهم، لملاقاة الحروب ومكاشفة الأقران، فإنه ليس على أهل الذمة مباشرة القتال، وإنما أُعطوا الذمة على أن لا يُكلفوا ذلك، وأن يكون المسلمون مدافعين عنهم، وجوارًا دونهم ولا يكرهون على تجهيز أحد من المسلمين للحرب ، بقوة وسلاح وخيل، إلا أن يتبرعوا من تلقاء أنفسهم، فيكون من فعل ذلك منهم وتبرع به حُمد عليه، وعُرف له وكُوفئ به ..) .

كما نص هذا الميثاق على أن العدل فى القضاء والمساواة فى تحمل الأعباء المالية إنما هى فريضة إلهية شاملة لكل الأمة، على اختلاف معتقداتها الدينية (.. فلا خراج ولا جزية إلا على من يكون فى يده ميراث من ميراث الأرض، ممن يجب عليه فيه للسلطان حق، فيؤدى ذلك على ما يؤديه مثله، لا يُجار عليه، ولا يُحمل منه إلا قدر طاقته وقوته على عمل الأرض وعمارتها وإقبال ثمراتها، ولا يُكلف شططا ولا يُتجاوز به حد أصحاب الخراج من نظرائه .. ولا يُدخل شئ من بنائهم فى شئ من أبنية المساجد ولا منازل المسلمين .. ومن سأل منهم حقًا فبينهم النَّصَف غير ظالمين ولا مظلومين ..) .

وإمعانا من الإسلام فى توفير عوامل التلاحم للأمة الواحدة، التى جعل الإسلام وحدتها فريضة نص عليها القرآن الكريم : (إن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاعبدون) الأنبياء : 92 . فلقد حققت التطبيقات الإسلامية فى الواقع الإجتماعى عددًا من الإنجازات التى سلكت الجميع فى الأمة الواحدة.. فالموالى - الذين كانوا أرقاء ثم حررهم الإسلام - دمجهم النظام الإسلامى فى قبائلهم، التى كانوا أرقاء فيها، ولحمهم فيها بلحمة (الولاء)، الذى جعله كالنسب سواء بسواء، يكسب هؤلاء الموالى شرف هذه القبائل وحسبها ونسبها .. ونصت سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم على أن (مولى القوم منهم) - رواه البخارى - وعلى (أن الولاء لحمة كلحمة النسب) - رواه الدارمى وأبو داود - حتى لقد أصبح بلال الحبشى (سيدًا) يقول عنه عمر بن الخطاب، وعن أبى بكر، الذى اشتراه وأعتقه : (سيدنا أعتق سيدنا!) .. وحتى لقد تمنى عمر أن يكون أحد الموالى - (سالم مولى أبى حذيفة) (12هـ - 633م) - حيا ليجعله خليفة على المسلمين! ..

والقبائل والعشائر، التى اندمج فيها الموالى، قد تحولت إلى لبنات فى بناء الأمة الواحدة ..

كذلك سلكت التطبيقات الإسلامية باب المصاهرة والزواج بين المسلمين وبين الكتابيات المحصنات؛ لتحقيق أعلى درجات التلاحم بين غير المسلمين وبين المسلمين فى بناء الأمة الواحدة .. فزواج المسلم من الكتابية يدخل ذويها من غير المسلمين فى دائرة (أولى الأرحام) عند المسلمين، وتلك قمة التلاحم والاندماج .. وعنها يقول الإمام محمد عبده : (أباح الإسلام للمسلم أن يتزوج الكتابية، نصرانية أو يهودية، وجعل من حقوق الزوجة الكتابية على زوجها المسلم أن تتمتع بالبقاء على عقيدتها، والقيام بفروض عبادتها، والذهاب إلى كنيستها أو بيعتها، وهى منه بمنزلة البعض من الكل، وألزم له من الظل، وصاحبته فى العز والذل، والترحال والحل،بهجة قلبه، وريحانة نفسه، وأميرة بيته، وأم بناته وبنيه، تتصرف فيهم كما تتصرف فيه .. لم يفرق الدين فى حقوق الزوجية بين الزوجة المسلمة والزوجة الكتابية ، ولم تخرج الزوجة الكتابية، بإختلافها فى العقيدة مع زوجها، من حكم قوله تعالى : (ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجًا لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة إن فى ذلك لآيات لقوم يتفكرون) الروم:21 ، فلها حظها من المودة ونصيبها من الرحمة وهى كما هى.. وهو يسكن إليها كما تسكن إليه، وهو لباس لها كما أنها لباس له . أين أنت من صلة المصاهرة التى تحدث بين أقارب الزوج وأقارب الزوجة، وما يكون بين الفريقين من الموالاة والمناصرة، على ما عهد فى طبيعة البشر؟ وما أجلى ما يظهر من ذلك بين الأولاد وأخوالهم وذوى القربى لوالدتهم. أيغيب عنك ما يستحكم من روابط الألفة بين المسلم وغير المسلم بأمثال هذا التسامح الذى لم يُعهد عند من سبق ولا فيمن لحق من أهل الدينين السابقين عليه؟ ..)(4).

ولذلك وحتى يكون هذا الزواج سبيلاً لهذا التلاحم، حرص عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم مع نصارى (نجران) على أن يتوافر لهذا الزواج عنصر الرضا والقبول.. فالمرأة لابد، فى زواجها، من (ولى) ، وأولياء الكتابية كتابيون، فلا بد أن يكون هذا الزواج عن محبة ورضا وقبول واختيار .. وعن هذا المبدأ الإسلامى جاء فى هذا الميثاق : (ولا يُحمِّلوا من النكاح - (الزواج) - شططا لايريدونه، ولا يُكره أهل البنت على تزويج المسلمين، ولا يُضاروا فى ذلك إن منعوا خاطبًا وأبوا تزويجًا، لأن ذلك لا يكون إلا بطيبة قلوبهم، ومسامحة أهوائهم، إن أحبوه ورضوا به ..) .

ولأن هذا التلاحم، بواسطة المصاهرة، لا يتحقق إلا فى ظل الاعتراف الإسلامى (بالآخر الدينى) ، وبحق هذا الآخر فى المغايرة الدينية - وهو ما تميز به الإسلام عن كل الآخرين، وبسببه جاز زواج المسلم من (الأخرى)، لأنه يعترف بدينها، ومُكلَّف باحترام عقيدتها وتدينها - على عكس موقف الآخرين من الإسلام، ومن عقيدة المسلمة - . لهذا التميز الإسلامى، كان زواج المسلم من الكتابية بابا للتلاحم، ولإدخال غير المسلمين فى دائرة (أولى الأرحام)، ولم يكن هذا الزواج سببًا من أسباب الشقاق الاجتماعى ، فنص العهد مع نصارى (نجران) على أنه (إذا صارت النصرانية عند المسلم - (زوجة) - فعليه أن يرضى بنصرانيتها . فمن خالف ذلك وأكرهها على شئ من أمر دينها فقد خالف عهد الله وعصى ميثاق رسول الله، وهو عند الله من الكاذبين..).

وإذا كانت تطبيقات الدولة الإسلامية لهذه المبادئ الإسلامية، قد بلغت، وحققت - قبل أربعة عشر قرنًا - الحد الذى يدهش له الكثيرون فى عصرنا الحاضر .. من مثل تحرير جيش الفتح الإسلامى لمصر كنائس نصارى مصر من الاحتلال والاغتصاب الرومانى، لا ليحولها إلى مساجد للمسلمين، وإنما ليردها للنصارى اليعاقبة يتعبدون فيها .. فإن عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم مع نصارى (نجران) قد بلغ الذروة - فى تعامل الدولة الإسلامية مع دور العبادة هذه - إلى الحد الذى نص فيه على أن مساعدة الدولة الإسلامية لغير المسلمين فى ترميم دور عباداتهم هى جزء من واجبات هذه الدولة .. ولأن غير المسلمين هم جزء أصيل فى الأمة الواحدة، والرعية المتحدة لهذه الدولة، فجاء فى هذا الميثاق مع نصارى (نجران) : (.. ولهم إن احتاجوا فى مرمة بيعهم وصوامعهم أو شئ من مصالح أمور دينهم، إلى رفد - (مساعدة) - من المسلمين وتقوية لهم على مرمتها، أن يُرفدوا على ذلك ويُعاونوا، ولا يكون ذلك دَيْنًا عليهم بل تقوية لهم على مصلحة دينهم، ووفاء بعهد رسول الله، وموهبة لهم، ومنة لله ورسوله عليهم) .

ثم يتوج هذا الميثاق بنود هذه الحقوق بالنص على كامل المساواة بين المختلفين فى الدين والمتحدين فى الأمة الواحدة، والملتحمين فى الرعية المتحدة للدولة الإسلامية، بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم : (.. لأنى أعطيتهم عهد الله أن لهم ما للمسلمين ، وعليهم ما على المسلمين، وعلى المسلمين ما عليهم.. حتى يكونوا للمسلمين شركاء فيما لهم وفيما عليهم ..) .

ولأن وحدة الأمة لا تتحقق إلا بولاء كل أبنائها لها، وانتماء جميعهم لدولتها ولمقومات هويتها وأمنها الوطنى والقومى والحضارى، اشترط هذا العهد على نصارى (نجران) أن يكون الولاء خالصًا والانتماء كاملاً لهذه الأمة الواحدة ، ولهذه الدولة الإسلامية .. فالولاء - كل الولاء - لها وحدها، والبراء - كل البراء - من جميع أعدائها .. ولذلك، جاء فى هذا الميثاق : (.. واشترط عليه أمورًا يجب عليهم فى دينهم التمسك بها والوفاء بما عاهدهم عليه، منها: ألا يكون أحد منهم عينًا ولا رقيبًا لأحد من أهل الحرب على أحد من المسلمين فى سره وعلانيته ، ولا يأوى منازلهم عدو للمسلمين، يريدون به أخذ الفرصة وانتهاز الوثبة، ولا ينزلوا أوطانهم ولا ضياعهم ولا فى شئ من مساكن عباداتهم ولا غيرهم من أهل الملة، ولا يرفدوا - (يساعدوا) - أحدًا من أهل الحرب على المسلمين، بتقوية لهم بسلاح ولا خيل ولا رجال ولا غيرهم، ولا يصانعوهم.. وإن احتيج إلى إخفاء أحد من المسلمين عندهم، وعند منازلهم، ومواطن عباداتهم، أن يؤووهم ويرفدوهم ويواسوهم فيما يعيشون به ما كانوا مجتمعين، وأن يكتموا عليهم، ولا يظهروا العدو على عوراتهم، ولا يخلوا شيئًا من الواجب عليهم)(5).

ويزيد من سمو هذا الإنجاز الإسلامى، تعميم التطبيقات الإسلامية لهذا المنهاج وهذه المبادئ على الديانات الوضعية أيضًا .. فلم يقف المسلمون بهذه (الثورة الإصلاحية)، فى العلاقة بالآخر، عند اليهود - أهل التوراة - والنصارى - أهل الإنجيل - فقط، وإنما عمموها لتشمل (المجوس) و(الهندوس) و(البوذيين) .. وعندما فتح المسلمون فارس - وأهلها مجوس يعبدون النار، ويقولون بإلهين أحدهما للخير والنور وثانيهما للشر والظلمة - عرض أمير المؤمنين عمر بن الخطاب (40ق - 32هـ - 584 - 644م) رضى الله عنه، هذا الأمر و (الواقع المستجد) على مجلس الشورى - فى مسجد المدينة - وقال :

- (كيف أصنع بالمجوس؟

- فوثب عبد الرحمن بن عوف (44ق هـ - 32هـ - 580 - 652م) رضى الله عنه، فقال :

- أشهد على رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : (سُنوا فيهم سنة أهل الكتاب ..)(6)

فطبقت الخلافة الراشدة هذه السنة النبوية، وساد هذا التطبيق على امتداد تاريخ الإسلام فى بلاد الديانات الوضعية - من فارس إلى الهند إلى الصين - حتى لقد تمتع أهل هذه الديانات، لا بحرية الاعتقاد فقط وإنما - أيضًا - بحرية مناظرة علماء الإسلام، فى مجالس الخلفاء، إبان مجد وقوة وعظمة الخلافة الإسلامية .. ولقد أورد (السير توماس أرنولد) (1864 - 1930م) - بإعجاب - كيف أن زعيم المانوية(7) المجوس - فى فارس - (يزدانبخت) قد أتى بغداد، وناظر المتكلمين المسلمين، فى حضرة الخليفة (المأمون) (170-218هـ 786-833م)، فلما أفحمه علماء الإسلام، تاق (المأمون) إلى أن يسلم (يزدانبخت)، ففاتحه فى ذلك، لكنه رفض فى أدب، وقال للخليفة :

- نصيحتك، يا أمير المؤمنين، مسموعة، وقولك مقبول، ولكنك ممن لا يُجبر الناس على ترك مذهبهم .

فتركه المأمون وشأنه .. بل وطلب حمايته من العامة حتى يبلغ مأمنه بين أتباعه وأنصار مذهبه من المجوس (8) .

وهكذا بلغ الإسلام القمة، عندما لم يكتف بالوصايا والمنظومة الفكرية والفلسفية، التى تعترف بالآخر - الذى لا يعترف بالإسلام! - وإنما تجاوز (الفكر) إلى (الممارسة والتطبيق)، فى الدولة.. والأمة.. والاجتماع.. وعندما تجاوز (الاعتراف بالأخر) إلى حيث دمج هذا (الآخر) فى (الذات)، مع الحرص على التعددية الدينية، التى سلكها فى إطار (وحدة الدين) الإلهى الواحد.. لا باعتبارها مجرد حق من حقوق الضمير الإنسانى، وإنما باعتبارها سنة من سنن الله التى لا تبديل لها ولا تحويل.. فحقق الإسلام بهذا (الإصلاح الثورى) مستوى غير مسبوق فى التاريخ الإنسانى، سواء على المستوى الفكرى أو فى الممارسة والتطبيق(9) .

أهل الذمة : الذمة فى اللغة تعنى العهد والأمان والضمان . وفى الشرع تعنى عقدًا مؤبدًا يتضمن إقرار غير المسلمين على دينهم وتمتعهم بأمان الجماعة الإسلامية وضمانها بشرط بذلهم الجزية وقبولهم أحكام دار الإسلام فى غير شؤونهم الدينية .وهذا العقد يعطى لكل طرف حقوقًا ويفرض عليه واجبات، وليست عبارة أهل الذمة عبارة تنقيص أو ذم ، بل هو شرف لهم أن يكونوا فى ذمة الله ورسوله ، وهى عبارة توحى بضرورة وأهمية حفظ العهد والوفاء تدينًا وامتثالاً للشرع، وإن كان بعضهم يتأذى منها فيمكن تغييرها لأن الله لم يتعبدنا بها . وقد غير سيدنا عمر بن الخطاب لفظ الجزية الذى ورد فى القرآن استجابة لعرب بنى تغلب من النصارى الذين أنفوا من الاسم وطلبوا أن يأخذ منهم ما يُؤخذ وإن كان مضاعفًا تحت مسمى آخر فوافقهم عمر وقال: (هؤلاء قوم حمقى رضوا المعنى وأبوا الاسم) .

ومما يلاحظ كما يقول الدكتور عصام أحمد البشير(10) أن فكرة عقد الذمة ليست فكرة إسلامية مبتدأة، وإنما هى مما وجده الإسلام بين الناس عند بعثة النبى صلى الله عليه وسلم فأكسبه مشروعية، وأضاف إليه تحصينًا جديدًا بأن حول الذمة من ذمة العاقد أو ذمة المجير إلى ذمة الله ورسوله أى ذمة الدولة الإسلامية نفسها. وبأن جعل العقد مؤبدًا لا يقبل الفسخ حماية للداخلين فيه من غير المسلمين . انتهى

عقد الأمان

أما الذين يأتون إلى ديار الإسلام لفترة مؤقتة - مثل السياح والدارسين والدبلوماسين الأجانب - فهؤلاء يشملهم عقد الأمان، وهو عقد يكفل حماية غير المسلم إذا قدم إلى بلادنا لأغراض سلمية - وليس للتخريب أو التجسس - فهذا يحرم الاعتداء على حياته أو ماله أو عرضه ، وعلى جميع المسلمين حمايته وتأمينه حتى يخرج من بلادنا سالمًا بعد إنتهاء الغرض الذى قدم لأجله .

وأساس عقد الأمان قوله تعالى : (وإن أحد من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله ثم أبلغه مأمنه ذلك بأنهم قومٌ لا يعلمون) التوبة:6. كما أجار النبى صلى الله عليه وسلم من أجارت ابنته زينب وهو زوجها العاص بن الربيع وكان لم يزل مشركًا حينها ، وأجار النبى كذلك من أجارت أم هانىء ابنة عمه أبى طالب، وأكد عليه السلام أنه يجير على المسلمين أدناهم، ولو كان طفلاً أو امرأة أو عبدًا ، فيجب على جميع المسلمين احترام هذا الجوار وتأمين المشرك الذى يتمتع به حتى يبلغ مأمنه .

الجزية

وهى ضريبة سنوية على الرؤوس تتمثل فى مقدار زهيد من المال - دينار أو دينارين سنوياً - على الرجال البالغين القادرين ، حسب ثرواتهم ، والجزية ليست ملازمة لعقد الذمة فى كل حال كما يظن بعضهم، بل استفاضت أقوال الفقهاء فى تعيينها وقالوا : إنها بدل عن اشتراك الذمى فى الدفاع عن دار الإسلام ، لذلك أسقطها الصحابة والتابعون عمن قبل منهم الاشتراك فى الدفاع عنها ،فعل ذلك المسلمون مع أهل أرمينية سنة 522 ، وحبيب بن مسلمة الفهرى مع أهل إنطاكية ، وأبرمه مندوب أبى عبيدة بن الجراح وأقره عليه مَنْ معه من الصحابة ، وصالح المسلمون أهل النوبة على عهد الصحابى عبد الله بن أبى السرح على غير جزية بل هدايا فى كل عام، وصالحوا أهل قبرص فى زمن معاوية على خراج وحياد بين المسلمين والروم .

غير المسلمين من المواطنين الذين يؤدون واجب الجندية ، ويسهمون فى حماية دار الإسلام لا تجب عليهم الجزية ، والنص الوارد فى آية التوبة يقصد به خضوعهم لحكم القانون وسلطان الدولة .وهناك من رد إلى النصارى، الجزية عند مظنة العجز عن حمايتهم، فعلها أبو عبيدة بن الجراح رضى الله عنه عندما تجمع الروم لقتاله فخاف ألا يمكنه الدفاع عن مدن الشام وسكانها النصارى ، فكتب يرد إليهم أموالهم على أن يرجعوا إلى سابق العهد إذا انتصر المسلمون على الروم .

أهل الكتاب ارتضوا أن يعيشوا تحت رعاية الدولة المسلمة فلهم بذلك من الحقوق مثل ما للمسلمين وعليهم من الواجبات ما على المسلمين إلا ما استثنى بنص، قال الإمام على كرم الله وجهه : (إنما بذلوا الجزية لتكون أموالهم كأموالنا ودماؤهم كدمائنا ..) .

حقوق وواجبات أهل الكتاب

لأهل الكتاب جملة من الحقوق منها :

1- حق الحماية من الاعتداء الخارجى والحماية من الظلم الداخلى (من آذى ذميًا فقد أذانى ومن أذانى فقد أذى الله) فلا يلحقهم أذى فى أبدانهم ولا أموالهم ولا أعراضهم .

2- حق التأمين عند العجز والشيخوخة والفقر، قال سيدنا عمر بن الخطاب : (ما أنصفناه إذا أخذنا منه الجزية فى شبيبته ثم نتركه فى هرمه) وقد أمر رضى الله عنه - وكذلك الخليفة الخامس عمر بن عبد العزيز - بصرف معاشات من بيت مال المسلمين للعجزة والمسنين من أهل الكتاب .

3- حرية التدين (لاإكراه فى الدين) ومن ذلك ممارسة شعائرهم الدينية فى دور عبادتهم وعدم جواز منعهم من ذلك . أما واجبات غير المسلمين فهى:

على غير المسلمين أن يراعوا مشاعر المسلمين وحرمة دينهم فلا يظهروا شعائرهم وصلبانهم فى الأمصار الإسلامية ولا يحدثوا كنيسة فى مدينة إسلامية لم تكن فيها كنيسة من قبل ذلك، لما فى الإظهار والإحداث من تحدى الشعور الإسلامى الذى يؤدى إلى فتنة واضطراب لكن يتعين حماية ماهو قائم منها بالفعل وعدم هدمه ، والدليل قوله سبحانه وتعالى :(ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لهدمت صوامع وبيع وصلوات ومساجد يذكر فيها اسم الله) يدل على أن من أساليب الإذن بالقتال حماية حرية العبادة

كما أن العهود التى أقامها الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه مع اليهود والنصارى تضمنت الحفاظ على دور عبادتهم، وكذلك عهد الرسول صلى الله عليه وسلم لأهل نجران أن لهم جوار الله وذمة رسوله على أموالهم وبيعهم. وأيضاً فإن عهد سيدنا عمر لأهل إيلياء فيه نص على كنائسهم، فلا تسكن ولا تهدم ولا ينتقص منها ولا من صليبها. وهناك أيضاً عهد سيدنا خالد بن الوليد لأهل عانات أن يضربوا نواقيسهم فى أى وقت شاؤوا من ليل أو نهار .

كما يقول الدكتور عصام البشير : أن واقع حال المسلمين يدل على جواز بقاء الكنائس فى ظل الدولة المسلمة. روى المقريزى أن جميع كنائس مصر محدثة فى الإسلام بلا خلاف ، ولهم حرية العمل والكسب وحرية تولى وظائف الدولة ونحو ذلك إلا ما اسثنى بنص لعدم جواز تولى الكتابيين للوظائف الدينية أو تغلب عليها الصيغة الدينية كالإمامة التى هى رئاسة الدين والدنيا وخلافة النبى صلى الله عليه وسلم ، ولا يعقل أن يقوم بإمامة المسلمين وقيادة الجيش وإمرة الجهاد الذى هو ذروة سنام الاسلام، والقضاء بين المسلمين الذى يقتضى العلم بشريعة الاسلام،إلا مسلم عالم بدينه وشريعته.

ضمانات الوفاء بحقوق أهل الكتاب

إن الضمانات لتنفيذ هذه الحقوق وكفالة تلك الحريات تتمثل فى:

ضمان العقيدة:فالمسلمون يحرصون على الالتزام بعقيدتهم وتطبيق أحكام دينهم، لا يمنعهم من ذلك عواطف القرابة ولا يصدهم عن ذلك مشاعر العداوة والشنآن .

ضمان المجتمع المسلم بدستوره وسلوكه

فالمجتمع الإسلامى مسؤول بالتضامن عن تنفيذ الشريعة وتطبيق أحكامها فى كل الأمور ، ومنها ما يتعلق بغير المسلمين ولو قصر بعض الناس أو انحرف أو جار وتعدى ، وجد فى المجتمع من يرده إلى الحق ،ويأمره بالمعروف وينهاه عن المنكر ويقف بجانب المظلوم المعتدى عليه ،ولو كان مخالفًا له فى الدين .

وهناك القضاء : فالذمى المظلوم له أن يشكو إلى الوالى أو الحاكم المحلى، فيجد عنده العدل والحماية ، فإن لم ينصفه فله أن يلجأ إلى القضاء فيجد عنده الإنصاف والأمان ، حتى لو كانت القضية بينه وبين الخليفة نفسه، ففى الاسلام يجد القضاء المستقل العادل والذى له حق محاكمة أى مدعى عليه مهما علا منصبه فى الدولة . مثال ذلك واقعة تخاصم الإمام على بن أبى طالب رضى الله عنه ويهودى إلى القاضى شُريح الذى حكم لصالح اليهودى على أمير المؤمنين لعدم وجود دليل يرجح دعواه ، وبسبب هذه العدالة أسلم اليهودى .

واجبات أهل الكتاب

واجبات أهل الكتاب تنحصر فى أمور معدودة هى :

أداء التكاليف المالية : من جزية وخراج وضرائب وغيرها . (وقد سبق الحديث عن الجزية) . وأهل الكتاب فى التكاليف والرسوم والضرائب الأخرى سواء والمسلمون ، فليس فيها شىء يجب باختلاف الدين وإنما تجب على أنواع الأموال والأراضى المزروعة دون نظر إلى صاحب أى منها : أمسلم هو أم غير مسلم .

التزام أحكام القانون الإسلامى

والواجب الثانى على أهل الكتاب أن يلتزموا أحكام الإسلام ، التى تطبق على المسلمين لأنهم بمقتضى العهد ينتمون إلى جنسية الدولة الإسلامية، فعليهم أن يتقيدوا بقوانينها التى لا تمس عقائدهم وحريتهم الدينية . ولكن مع مراعاة أنه ليس عليهم تكاليف من التكاليف التعبدية للمسلمين ، أو التى لها صبغة تعبدية أو دينية ، مثل الزكاة التى هى فريضة إسلامية ، ومثل الجهاد الذى هو خدمة عسكرية وفريضة إسلامية ، ومن أجل ذلك فرض الإسلام عليهم الجزية بدلاً عن الجهاد والزكاة .

والواجب الثالث عليهم : أن يحترموا شعور المسلمين ، الذين يعيشون بين ظهرانيهم ، وأن يراعوا هيبة الإسلام والدولة التى يتمتعون بحمايتها ورعايتها .

فلا يجوز لهم أن يسبوا الإسلام أو رسوله أو كتابه جهرة ، ولا أن يروجوا من العقائد والأفكار ما ينافى عقيدة التوحيد ، ولا يعملوا على تنصير أبناء المسلمين أو محاولة فتنتهم عن دينهم .

ولا يجوز لهم أن يتظاهروا بشرب الخمر وأكل الخنزير ، ونحو ذلك مما يحرم فى دين الإسلام . كما لا يجوز لهم تحدى مشاعر المسلمين ، وعليهم ألا يظهروا الأكل والشرب فى نهار رمضان ، مراعاة لمشاعر المسلمين .

النموذج المصرى

إذا أخذنا الأقلية النصرانية فى مصر ، وهى أكبر أقلية غير مسلمة فى بلاد العالم العربى - كنموذج للتعايش السلمى لغير المسلمين فى بلد إسلامى -فإننا نلاحظ الآتى :

يبلغ عدد النصارى فى مصر أقل من 6% (5.9%) حسب إحصاءات 1986م . ورغم ذلك فإنهم يمتلكون حوالى 40% من ثروة مصر .. ويعترف الأنبا موسى أسقف الشباب فى الكنيسة الأرثوذكسية المصرية بأن : (الأقباط نسبتهم فى رجال الأعمال مرتفعة أكثر من نسبتهم العددية فى مصر)(11) ، وكذلك المهن المرموقة مثل الطب والصيدلة والمحاماة والهندسة وغيرها .. ولذلك كان العلامة الشيخ محمد الغزالى - رحمه الله - يصف النصارى فى مصر بأنهم أسعد أقلية فى العالم .

يمتلك نصارى مصر 22.5% من الشركات التى تأسست من عام 1974م - 1995م ، و 20% من شركات المقاولات فى مصر ، و 50% من المكاتب الاستشارية ، و 60% من الصيدليات ، و45% من العيادات الخاصة، و35% من عضوية الغرفة التجارية الأمريكية والألمانية ، و 60% من عضوية غرفة التجارة الفرنسية ، ويشكلون 20% من رجال أعمال مصر ، و 20% من المديرين بقطاعات النشاط الاقتصادى ، وحوالى 16% من وظائف وزارة المالية المصرية ، و25% من المهن الممتازة كالأطباء والمحامين والمهندسين ..

يسيطر النصارى على أكثر من ثلثى تجارة الذهب والمعادن النفيسة الأخرى فى مصر ، كما يمتلكون من الأراضى والعقارات أضعاف نسبتهم العددية .

ونضيف أيضًا أن الحكومة المصرية لا تخلو دائمًا من وزيرين أو ثلاثة وزراء من الأقباط ، كما يوجد عدد منهم فى مجلسى الشعب والشورى بالانتخاب وبالتعيين أيضًا .. فى المقابل يُلاحظ أنه لا يوجد أى وزير مسلم فى أية دولة أوروبية أو أمريكية رغم تواجد عشرات الملايين من المسلمين هناك، وكذلك المجالس التشريعية الأوروبية والكونجرس الأمريكى لا يوجد بها أعضاء يمثلون الأقليات الإسلامية هناك (!!!) .

وبعد كل هذا يزعمون أنهم دعاة الحريات والديمقراطية والمشاركة السياسية ويتطاول علينا أذنابهم بادعاء اضطهاد الأقلية عندنا !!!

حقًا إذا لم تستح فاصنع ما شئت ، وازعم ما شئت أيضًا !!!

ونختتم بشهادة المفكر البريطانى الكبير سير توماس أرنولد الذى أكد فيها: (من الحق أن نقول أن غير المسلمين قد نعموا – بوجه الإجمال – فى ظل الحكم الإسلامى بدرجة من التسامح لا نجد لها معادلاً فى أوروبا) . ويضيف ان عشرات الملايين من نصارى الشرق الذين اعتنقوا الإسلام قد فعلوا ذلك طواعية وعن رغبة كاملة فى التحول إليه دون أية محاولة للإرغام أو الاضطهاد(12) .

كما أن تسامح المسلمين وتركهم للنصارى قابضين على الدواوين وإدارات الدولة الإسلامية جعل المستشرق الألمانى آدم متز يقول : (لقد كان النصارى هم الذين يحكمون الدولة الإسلامية)(13) ، فأى تسامح وتواد مع الآخر أكثر من ذلك ؟! كل هذا يدفعنا إلى أن نردد مع المفكر والعبقرى الألمانى يوهان جوته مقولته الشهيرة فى ديوانه (الشرق والغرب) : إذا كان الإسلام هو القنوت ، فعليه نحيا ونموت ..

المراجع

6. تاريخ مصر - يوحنا النيقوسى ص 529 - 534 ترجمة وتعليق د . عمر صابر عبد الجليل القاهرة 2000م - تاريخ مصر فى العصر البيزنطى ص 40-49 ، وص 167-168 طبعة القاهرة 2000 .

7. مجموع الوثائق السياسية للعهد النبوى والخلافة الراشدة ص 17 - 21 جمع وتحقيق الدكتور محمد حميد الله الحيد آبادى – طبعة القاهرة 1956م

8. المصدر السابق ص 20 .

9. الشيخ محمد عبده - الأعمال الكاملة جـ3 صـ312 دراسة وتحقيق د . محمد عمارة - طبعة القاهرة 1993م .

10. مجموع الوثائق السياسية للعهد النبوى - مشار إليه من قبل - ص 112- 123 - 127

11. البلاذرى – فتوح البلدان صـ327 - تحقيق د . صلاح الدين المنجد – طبعة القاهرة 1956م .

12. هم أتباع (مانى) ويسمون (المانوية) وهو مذهب مجوسى .

13. سير توماس أرنولد - الدعوة إلى الإسلام - ترجمة د . حسن إبراهيم حسن ود. عبد المجيد عابدين وإسماعيل النحراوى - طبعةالقاهرة 1970م .

14. الدكتور محمد عمارة - الإسلام والأقليات - الماضى والحاضر والمستقبل - طبعة مكتبة الشروق الدولية سنة 2003م .

15. الدكتور عصام أحمد البشير - معالم حول أوضاع غير المسلمين فى الدولة الإسلامية - بحث مقدم لمؤتمر الإسلام والغرب فى عالم متغير - الخرطوم - 2003م .

16. الملل والنحل والأعراق ص 529 .

17. سير توماس أرنولد - الدعوة إلى الإسلام - سبقت الإشارة إليه .

18. آدم متز - الحضارة الإسلامية فى القرن الرابع الهجرى - ترجمة د . محمد عبد الهادى أبو ريدة - طبعة بيروت سنة 1967م .

الفصل السادس

المسلمون فى دار العهد

يبلغ عدد المسلمين فى أوروبا أكثر من خمسين مليونًا(1) من بينهم أعداد كبيرة من العرب والمسلمين المهاجرين من بلدان لأسباب اقتصادية غالبًا - بحثًا عن فرص عمل - ولأسباب سياسية أحيانًا، فضلاً عن ملايين من الأوروبين الذين اعتنقوا الإسلام عن اقتناع وفهم بعد دراسة عميقة .. وهناك توقعات بأن ترتفع أعداد المسلمين فى أوروبا، وتتناقص أعداد غير المسلمين - بسبب قلة عدد المواليد هناك عن عدد المتوفين سنويًا - إلى أن يصبح المسلمون هم أغلب سكان أوروبا خلال أقل من عشرين عامًا (ولهذا يمكن فهم أحد أهم أسباب الحملة المسعورة الآن على الإسلام والمسلمين فى وسائل الإعلام الغربى) بل إن صمويل هنتنجتون نفسه يتوقع - كما سبق - أن يبلغ المسلمون أكثر من 30% من سكان العالم قبل حلول عام 2025م .. ويبلغ عدد مسلمى أمريكا الشمالية أكثر من عشرة ملايين نسمة طبقًا للتقديرات شبه الرسمية، لكن العدد الحقيقى أكبر من ذلك، لأنه لاتوجد جهة رسمية تسجل أعداد من يعتنقون الإسلام وهم بالآلاف يوميًا، كما أنه لا تسجل الديانة فى وثائق تحديد الهوية، وبالتالى لا يمكن تحديد أعداد أتباع كل ديانة بدقة ..

أما الأقلية الإسلامية فى الهند فهى أكبر عددًا من معظم الدول الإسلامية - كل على حدة - إذ يبلغ تعداد مسلمى الهند أكثر من مائتى مليون نسمة .. ويؤكد كثير من المسلمين الهنود أن عددهم الحقيقى أكبر من ذلك ، وأن السلطات الهندوسية هى التى تتعمد تقليل العدد المعلن لأسباب سياسية (بسبب النزاع الطائفى بين الهندوس والمسلمين من جهة ،والنزاع بين الهند وباكستان من جهة أخرى) .

ويبلغ عدد مسلمى الصين أكثر من 25 مليون شخص ، ويقترب عدد المسلمين الروس من هذا الرقم(2) . وهكذا نرى بوضوح أن كل دول العالم غير الإسلامى يحتضن جاليات إسلامية كبيرة وذات حضور واضح هناك لا يمكن تجاهله أو تهميشه مهما اشتدت محاولات الاحتواء أو الإضعاف أو القمع أحيانًا .. وهنا يثور التساؤل : هل يعتبر المسلمون هناك فى دار حرب كما يقول الفقهاء القدامى طبقًا للتقسيم الشهير للعالم إلى دار إسلام ودار حرب ؟

أما دار الإسلام فهى البلاد التى تسودها أحكام الإسلام وشعائره ويأمن فيها المسلمون والذميون أيضًا .

وأما دار الحرب فهى البلاد التى لا تطبق فيها أحكام الإسلام وشرائعه لأن السيادة فيها للكفار وليست للمسلمين .. وهذا التقسيم الثنائى للعالم لم يرد فى القرآن الكريم ولا فى السُنَّة النبوية المطهرة ، ولذلك عارضه فريق من العلماء على رأسهم الإمام الشافعى رضى الله عنه فى كتابه (الأم) - يرى أن الأصل هو أن العالم دار واحدة - والإمام محمد بن الحسن الشيبانى فى كتابه (السير الكبير) والشيخ محمد أبو زهرة(3) .

يقول العلامة الشيخ أبو زهرة : إن دار العهد حقيقة اقتضاها الفرض العلمى وحققها الواقع ، فقد كانت هناك قبائل ودول لا تخضع خضوعًا تامًا للمسلمين وليس للمسلمين فيها حكم ، ولكن لها عهد محترم وسيادة فى أرضها ولو لم تكن كاملة فى بعض الأحوال .. ودار العهد : هى البلاد التى كان بينها وبين المسلمين عهد عقد ابتداء ، أو عقد عند ابتداء القتال معها عندما يخيرهم المسلمون بين العهد أو الإسلام أو القتال ، فأهلها يعقدون صلحًا مع الحاكم الإسلامى على شروط تشترط من الفريقين، وهذه الشروط تختلف قوة وضعفًا على حسب ما يتراضى عليه الطرفان ، وعلى حسب هذه القبائل وتلك الدولة قوة وضعفًا ، وعلى مقدار حاجتها إلى مناصرة الدولة الإسلامية .

ومن هذه القبائل ما كان الصلح معها على أساس جُعل من المال يدفعه أهلها فى نظير حماية المسلمين لهم ، والذود عنهم ، كما حصل فى صلح النبى صلى الله عليه وسلم مع نصارى نجران ، فقد أمّنهم النبى صلى الله عليه وسلم على أنفسهم وأموالهم من أى اعتداء يكون عليهم ، سواء أكان من المسلمين أم من غيرهم .

وكذلك فعل القائد الصحابى أبو عبيدة عامر بن الجراح مع أهالى حمص فقد أمَّنَهم ، وتعهد لهم بأن يدفع الرومان عنهم فى نظير مال دفعوه إليه، ولكن حدث أن أصاب الجيش الإسلامى ضعف بسبب طاعون سرى فيه، فأعاد القائد الوفى - الذى سماه محمد صلى الله عليه وسلم - أمين هذه الأمة - إليهم أموالهم ، وبين عجزه عن مدافعة الرومان عنهم ، فنشطوا هم لمعاونة القائد العادل الأمين .

وفى عهد عثمان رضى الله عنه عقد عبد الله بن أبى السرح صلحًا مع أهل النوبة كانت أساسه تأمينهم على أنفسهم ، ورعاية استقلالهم، ومبادلة التجارة معهم، ولم يأخذ منهم فريضة مالية يؤدونها .

وكذلك فعل معاوية مع أهل أرمينية، فقد عقد صلحًا يقرر سيادتهم الداخلية المطلقة

ونرى من هذا أن هذا النوع من القبائل أو الدول لا يمكن أن يعد دار حرب ولا دار إسلام، ولكن يعد دار موادعة أو دار عهد، وقد قال بعض الفقهاء :إن هذه الديار تدخل فى عموم دار الإسلام، لأن المسلمين لم يعقدوا هذه العهود، إلا وهم أهل المنعة والقوة .

ولكن الفقهاء الذين حرروا القول فى القانون الدولى الإسلامى كالشافعى فى (الأم)، ومحمد بن الحسن الشيبانى قرروا أن دار العهد نوع آخر، فقد جاء فى كتاب (السير الكبير) لمحمد ما نصه :

(المعتبر فى حكم الدار هو السلطان والمنعة فى ظهور الحكم، فإن كان الحكم حكم الموادعين فبظهورهم على الأخرى كانت الدار موادعة، وإن كان الحكم حكم سلطان آخر فى الدار الأخرى فليس لواحد من أهل الدار حكم الموادعة) .

ونرى محمد بن الحسن الشيبانى يؤكد فرض دار أخرى هى الموادعة أو العهد ، ولكنه يأتى بأمر جديد لم نذكره من قبل، وهو أنه يفرض أن أهل العهد قد يكونون خاضعين فى نظامهم لدولة أخرى لاتدخل فى حكم العهد، فيقرر أنه إن كان السلطان والمنعة لأهل الجماعة التى عقد معها عقد الموادعة فإنها دار عهد، وإن كان السلطان والمنعة لدولة أخرى فإنه لا يقرر العهد لإحداهما إلا أن تكون لها ومن معها معاهدة .

يجب أن يلاحظ أن العالم الآن تجمعه منظمة واحدة - الأمم المتحدة - قد التزم كل أعضائها بقانونها ونظمها، وحكم الإسلام فى هذه أنه يجب الوفاء بكل العهود والالتزامات التى تلتزمها الدول الإسلامية عملاً بقانون الوفاء بالعهد الذى قرره القرآن الكريم، وعلى ذلك لا تعد ديار المخالفين الى تنتمى لهذه المؤسسة العالمية دار حرب ابتداء بل تعتبر دار عهد .. انتهى كلام الشيخ أبو زهرة .

رأى المؤلف

ويرى كاتب هذه السطور أن معظم دول العالم غير الإسلامى ينطبق عليها حاليًا وصف : (دار العهد) ،وعلى ذلك يأمن فيها المسلمون على أنفسهم وأموالهم وأعراضهم ،وعليهم أيضًا أن يطبقوا منهج التعايش السلمى مع رعايا هذه الدول باعتبارهم (معاهدين) أمرنا الإسلام باحترام العهود المبرمة معهم والوفاء لهم بما اتفقنا عليه .. فلا يجوز لنا قتل أحد منهم - إلا فى حالة الاضطرار إلى الدفاع عن النفس أو المال أو العرض أو الدين شأنه فى ذلك شأن المعتدى المسلم - كما يحرم علينا سلب أموالهم أو الاعتداء على أعراضهم أو المساس بدور عبادتهم .

وتوجد علاقات دبلوماسية واقتصادية بين معظم بلاد العالم الإسلامى وباقى الدول ، فهناك إذن معاهدات معهم علينا أن نفى بها .

كذلك فمن أقوى الأدلة عندنا على اعتبار معظم الدول اليوم - خارج العالم الإسلامى - دار عهد أن آلاف المآذن ترتفع الآن فى سماء أوروبا وأمريكا وآسيا واستراليا وأفريقيا ، ولم يكن الحال كذلك فى زمن الفقهاء القدامى الذين قسموا العالم إلى دار إسلام ودار حرب فقط .. وتوجد الآن بكل القارات مراكز إسلامية ومدارس لتحفيظ القرآن الكريم , ويتمتع المسلمون بحرية العبادة بصفة عامة - باستثناء حالات قليلة والاستثناء لا يُقاس عليه - فكيف نعتبر كل هذه الدول (دار حرب) وفيها عشرات الملايين من المسلمين، وفيها أيضًا مئات الملايين ممن يحبون الإسلام والمسلمين وينصفون الإسلام وأهله ولو لم يدخلوا فيه ؟!!

وكيف نعتبر الأصدقاء المنصفين من أمثال (جوته) و (جوستاف لوبون) و (الأمير تشارلز) و ( زنجريد هونكه) وغيرهم من أهل دار الحرب ؟! هؤلاء الذين يدافعون عن الإسلام ضد الآخرين المتعصبين الحاقدين ، كيف بالله نضعهم فى خندق واحد مع من يناصبوننا العداء كالصهاينة والمتعصبين الصليبيين أمثال هنتنجتون ؟! لقد علمنا الإسلام أن، المهادن لنا أو المحب من المشركين ليس كالمحارب ، قال تعالى : (لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم فى الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم إن الله يحب المقسطين ، إنما ينهاكم الله عن الذين قاتلوكم فى الدين وأخرجوكم من دياركم وظاهروا على إخراجكم أن تولوهم ومن يتولهم فأولئك هم الظالمون) الممتحنة:8،9 .

فقه الأقليات المسلمة

وتبدو الحاجة ماسة إلى تأصيل قواعد فقهية خاصة بما يصادف المسلم خارج دار الإسلام . ويضع الدكتور يوسف القرضاوى عدة ضوابط هامة بهذا الصدد منها :

إن الأقليات المسلمة هم جزء من الأمة الإسلامية من ناحية، التى تشمل كل مسلم فى أنحاء العالم، أيّاً كان جنسه أو لونه أو لسانه، أو وطنه ، أو وظيفته، وهم - من ناحية أخرى - جزء من مجتمعهم الذى يعيشون فيه، وينتمون إليه . فلابد من مراعاة هذين الجانبين، بحيث لا يطغى أحدهما على الآخر، ولا يتضخم أحدهما على حساب الآخر .

إن (فقه الأقليات) المنشود، لا يخرج عن كونه جزءًا من (الفقه العام) ولكنه فقه له خصوصيته وموضوعه ، ومشكلاته المتميزة، وإن لم يعرفه فقهاؤنا السابقون بعنوان يميزه ، لأن العالم القديم لم يعرف اختلاط الأمم بعضها ببعض، وهجرة بعضها إلى بعض، وتقارب الأقطار فيما بينها، حتى أصبحت كأنها بلد واحد، كما هو واقع اليوم .

وإذا كان عندنا الآن ما يمكن أن نسميه (الفقه الطبى)، وعندنا ما يسمى (الفقه الاقتصادى) ، وكذلك عندنا ما يمكن أن نسميه (الفقه السياسى) . إذا كان عندنا هذه الأنواع من الفقه، فلماذا لا يكون عندنا (فقه الأقليات) كى يهتم بعلاج مشكلاتهم، والإجابة عن تساؤلاتهم . وإن كانت كل هذه الأنواع من الفقه لها جذور فى فقهنا الإسلامى، ولكنها غير منظمة، وهى مجملة غير مفصلة، ناقصة غير مكتملة، مناسبة لعصرها وبيئتها، لأن هذه طبيعة الفقه، ولا يتصور من فقه عصر مضى أن يعالج قضايا عصر لم تنشأ عنده، ولم يخطر ببال أهله حدوثها.

يجب أن يكون للمسلمين - بوصفهم أمة ذات رسالة عالمية - (وجود إسلامى) ذو أثر، فى بلاد الغرب، باعتبار أن الغرب هو الذى أصبح يقود العالم، ويوجه سياسته واقتصاده وثقافته . وهذه حقيقة لا نملك أن ننكرها .

فلو لم يكن للإسلام وجود هناك، لوجب على المسلمين أن يعملوا متضامنين على إنشاء هذا الوجود، ليقوم بالمحافظة على المسلمين الأصليين فى ديارهم، ودعم كيانهم المعنوى والروحى، ورعاية من يدخل فى الإسلام منهم، وتلقّى الوافدين من المسلمين، وإمدادهم بما يلزمهم من حسن التوجيه والتفقيه والتثقيف. بالإضافة إلى نشر الدعوة الإسلامية بين غير المسلمين .

ولا يجوز أن يترك هذا الغرب القوى المؤثر للنفوذ اليهودى وحده، يستغله لحساب أهدافه وأطماعه، ويؤثر فى سياسته وثقافته وفلسفاته، ويترك بصماته عليها. ونحن المسلمين بمعزل عن هذا كله ، قابعون فى أوطاننا، تاركين الساحة لغيرنا، فى حين نؤمن نظريًا بأن رسالتنا للناس جميعًا وللعالمين قاطبة . ونقرأ فى كتاب ربنا (وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين) الأنبياء:107 ، (تبارك الذى نزل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيرًا) الفرقان:1 .

ونقرأ فى حديث نبينا صلى الله عليه وسلم : (كان النبى يُبعث إلى قومه خاصة، وبعثت إلى الناس كافة) متفق عليه عن جابر .

ومن هنا لا مجال للسؤال عن جواز إقامة المسلم فى بلد غير مسلم، أو فى (دار الكفر) كما يسميها الفقهاء، ولو منعنا هذا - كما يتصور بعض العلماء لأغلقنا باب الدعوة إلى الإسلام وانتشاره فى العالم، ولانحصر الإسلام من قديم فى جزيرة العرب ولم يخرج منها .

ولو قرأنا التاريخ وتأملناه جيدًا ، لوجدنا أن انتشار الإسلام فى البلاد التى تسمى الآن :العالم العربى ، والعالم الإسلامى ، إنما كان بتأثير أفراد من المسلمين، تجار أو شيوخ طرق، ونحوهم، ممن هاجروا من بلادهم إلى تلك البلاد فى آسيا وإفريقيا، واختلطوا بالناس فى بلاد الهجرة، وتعاملوا معهم، فأحبوهم لحسن أخلاقهم وإخلاصهم، وأحبوا دينهم الذى غرس فيهم هذه الفضائل ، فدخلوا فى هذا الدين أفواجًا وفرادى .

حتى البلاد التى دخلتها الجيوش الإسلامية فاتحة، إنما كان قصدها بالفتح إزاحة العوائق المادية من طريق الإسلام، حتى تبلغ دعوته للشعوب، ليمكنهم أن يختاروا لأنفسهم، وقد اختارت الشعوب هذا الدين راضية مختارة، حتى كان ولاة بنى أمية فى مصر يفرضون الجزية على من أسلم من المصريين لكثرة الداخلين فى الإسلام ، حتى أبطل ذلك عمر بن عبد العزيز ، وقال قولته المشهورة لواليه : (إن الله بعث محمدًا هاديًا ، ولم يبعثه جابيًا) .

أهداف الفقه المنشود للأقليات

ويحدد الدكتور يوسف القرضاوى أهداف فقه الأقليات فيما يلى :

أولاً : أن يعين هذه الأقليات المسلمة- أفرادًا وأسرًا وجماعات - على أن تحيا بإسلامها، حياة ميسرة، بلا حرج فى الدين، ولا إرهاق فى الدنيا.

ثانيًا : أن يساعدهم على المحافظة على (جوهر الشخصية الإسلامية) المتميزة بعقائدها وشعائرها وقيمها وأخلاقها وآدابها ومفاهيمها المشتركة، بحيث تكون صلاتها ونسكها ومحياها ومماتها لله رب العالمين، وبحيث تستطيع أن تنشىء ذراريها على ذلك .

ثالثاً : أن يمكَّن المجموعة المسلمة من القدرة على أداء واجب تبليغ رسالة الإسلام العالمية لمن يعيشون بين ظهرانيهم، بلسانهم الذى يفهمونه، ليبينوا لهم، ويدعوهم على بصيرة، ويحاوروهم بالتى هى أحسن، كما قال الله تعالى : (قل هذه سبيلى أدعو إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعنى) يوسف:108 ، فكل من اتبع محمدًا صلى الله عليه وسلم فهو داع إلى الله، وداع على بصيرة ، وخصوصًا من كان يعيش بين غير المسلمين .

رابعًا : أن يعاونها على المرونة والانفتاح المنضبط، حتى لا تنكمش وتتقوقع على ذاتها، وتنعزل عن مجتمعها، بل تتفاعل معه تفاعلاً إيجابيًا، تعطيه أفضل ما عندها، وتأخذ منه أفضل ما عنده، على بينة وبصيرة، وبذلك تحقق المجموعة الإسلامية هذه المعادلة الصعبة:محافظة بلا انغلاق ، واندماج بلا ذوبان .

خامسًا : أن يسهم فى تثقيف هذه الأقليات وتوعيتها، بحيث تحافظ على حقوقها وحرياتها الدينية والثقافية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية التى كفلها لها الدستور، حتى تمارس هذه الحقوق المشروعة دون ضغط ولا تنازلات .

سادساً : أن يعين هذا الفقه المجموعات الإسلامية على أداء واجباتهم المختلفة : الدينية والثقافية والاجتماعية وغيرها، دون أن يعوقهم عائق، من تنطع فى الدين، أو تكالب على الدنيا، ودون أن يفرطوا فيما أوجب الله عليهم، أو يتناولوا ما حرم الله عليهم، وبهذا يكون الدين حافزًا محركًا لهم، ودليلاً يأخذ بأيديهم، وليس غلاً فى أعناقهم، ولا قيدًا بأرجلهم .

سابعًا : أن يجيب هذا الفقه المنشود عن أسئلتهم المطروحة ، ويعالج مشكلاتهم المتجددة ، فى مجتمع غير مسلم، وفى بيئة لها عقائدها وقيمها ومفاهيمها وتقاليدها الخاصة، فى ضوء اجتهاد شرعى جديد، صادر من أهله فى محله .

خصائص هذا الفقه المنشود

ولهذا الفقه المنشود خصائص لابد أن يراعيها، حتى يؤتى أكله، ويحقق أهدافه، تتمثل فيما يلى :

1- فهو فقه ينظر إلى التراث الإسلامى الفقهى بعين، وينظر بالأخرى إلى ظروف العصر وتياراته ومشكلاته. فلا يهيل التراب على تركة هائلة أنتجتها عقول عبقرية خلال أربعة عشر قرناً، ولا يستغرق فى التراث بحيث ينسى عصره وتياراته ومعضلاته النظرية والعملية، وما يفرضه من دراسة وإلمام عام بثقافته واتجاهاته الكبرى على الاقل. وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب .

2- يربط بين عالمية الإسلام وبين واقع المجتمعات التى يطب لها ويشخص أمراضها، ويصف لها الدواء من صيدلية الشريعة السمحة، فقد رأينا الرسول - صلى الله عليه وسلم - يراعى طبائع الأقوام وعاداتهم، كما قال : (إن الأنصار يعجبهم اللهو) وكما أذن للحبشة أن يرقصوا بحرابهم فى مسجده.

3- يوازن بين النظر إلى نصوص الشرع الجزئية، ومقاصده الكلية، فلا يغفل ناحية لحساب أخرى، ولا يعطل النصوص الجزئية من الكتاب والسنة، بدعوى المحافظة على روح الإسلام، وأهداف الشريعة، ولا يهمل النظر إلى المقاصد الكلية والأهداف العامة, استمساكًا بالظواهر وعملاً بحرفية النصوص .

4- يرد الفروع إلى أصولها، ويعالج الجزئيات فى ضوء الكليات، موازناً بين المصالح بعضها وبعض، وبين المفاسد بعضها وبعض، وبين المصالح والمقاصد عند التعارض فى ضوء فقه الموازنات ، وفقه الأولويات .

5- يلاحظ ما قرره المحققون من علماء الأمة من أن الفتوى تختلف باختلاف المكان والزمان والحال والعرف وغيرها. ولا يوجد اختلاف بين زمان وزمان مثل اختلاف زماننا عن الأزمنة السابقة، كما لا يوجد اختلاف مكان عن مكان، كالاختلاف بين دار استقر فيها الإسلام وتوطدت أركانه وقامت شعائره، وتأسست مجتمعاته ،ودار يعيش فيها الإسلام غريبًا بعقائده ومفاهيمه وقيمه وشعائره وتقاليده .

6- يراعى هذه المعادلة الصعبة : الحفاظ على تميز الشخصية المسلمة للفرد المسلم وللجماعة المسلمة مع الحرص على التواصل مع المجتمع من حولهم، والاندماج به والتأثير فيه بالسلوك والعطاء(4) .

المراجع

19. أحمد الراوى - اتحاد المنظمات الإسلامية فى أوروبا - الإسلام والمسلمون والعمل الإسلامى فى أوروبا .

20. تتعمد الصين وروسيا أيضًا التقليل من الأعداد المعلنة للمسلمين فى كلا البلدين لأسباب استراتيجية، بسبب محاولات الأقلية المسلمة فى الصين الاستقلال عن الدولة الشيوعية ، والحرب التى تشنها روسيا على المسلمين الشيشان .

21. الإمام محمد أبو زهرة - العلاقات الدولية فى الإسلام - دار الفكر العربى - القاهرة 1994م .

22. د. يوسف عبد الله القرضاوى - فى فقه الأقليات المسلمة - دار الشروق - مصر .

الفصل السابع

ماذا قدمنا للآخرين ؟

لعل أقوى رد على منكرى التواصل والتعارف بين المسلمين والآخر ، هو تلك المآثر العظيمة التى سجلتها أقلام غربية منصفة أبت إلا تذكير العالم بما قدمه المسلمون والعرب للحضارة الإنسانية .. فقد كنا دومًا رسل هداية ورحمة وعطاء كما أمرنا الله ورسوله صلى الله عليه وسلم .. وفيما يلى نسوق أمثلة فحسب ، لأننا لو أردنا الإطالة لاحتجنا إلى مجلدات لحصر كل ما قدمناه للإنسانية ..

ذكرت مجلة "اليونسكو" (عدد تشرين الأول 1980م فى الصفحة 38) : أن كتاب القانون - لابن سينا - بقى يُدرَّس فى جامعة بروكسل حتى سنة 1909م ، وقال د. أوسلر :لقد عاش كتاب القانون مدة أطول من أى كتاب آخر كمرجع أوحد فى الطب، وقد وصل عدد طبعاته إلى خمس عشرة طبعة فى الثلاثين سنة الأخيرة من القرن السادس عشر، وقد زاد عدد الطبعات أكثر فى القرن السابع عشر، فابن سينا مكن علماء الغرب من الشروع فى الثورة العلمية، التى بدأت فعلاً فى القرن الثالث عشر وبلغت مرحلتها الأساسية فى القرن السابع عشر .

وحول أثر الحضارة العربية الإسلامية فى النهضة الأوربية، يقول الباحث الدكتور شوقى أبو خليل فى كتابه الحضارة العربية الإسلامية وموجز الحضارات السابقة(1) :

(لقد كانت العصور الوسطى الأوربية مظلمة، إلا البقاع التى وصلها الفتح العربى : الأندلس، صقلية، وجنوبى إيطاليا؛ فقد أنارت الحضارة العربية الإسلامية أرجاءها، وحركت عقول أبنائها، فليس من المصادفة أبداً أن تبدأ أوروبا نهضتها ويقظتها الفكرية من المناطق التى وصل إليها العرب ، ذلك لأنهم أصحاب تراث حضارى عظيم) .

ويضيف الباحث د. شوقى : (ولكن اقتباس هذه الحضارة الرائعة من قبل الأوروبيين كان أبتر ، وهذا الأخذ كان ناقصًا ، لأنهم أخذوا الجانب العلمى المادى ، وتركوا الجانب الروحى الإنسانى والتسامح الذى عاشته حضارتنا أينما حلت .. أجل إنها المعجزة العربية) .

وبكلمة مختصرة شهد القرن الحادى عشر ، انتقال بعض مظاهر أسس الحركة العلمية العربية إلى أوروبا من خلال الأندلس (مدرسة طليطلة) ، وجنوبى إيطاليا (مدرسة ساليرنو) ، بينما شهد عملية انتقال مشابهة عن طريق ثغور بلاد الشام المحتلة من قبل الصليبية (1907م - 1290م) .

وفى هذا الصدد قال المؤرخ الدكتور (لوسيان لوكليرك)(2) : (هناك تفكيران عصفا بأوروبا فى القرن الثانى عشر ؛ الأول : دينى متعصب ، دفع الأوروبيين للقيام بالحروب الصليبية ، والثانى : متعطش للعلم ، دفعهم للتفتيش عن منابعه لدى العرب المسلمين) .

مدرسة طليطلة

لقد مرت مدرسة طليطلة بعدة مراحل ، وفى كل مرحلة كانت تترجم المئات من الكتب والمخطوطات العربية إلى اللاتينية ، فمنذ استيلاء (الفونسو الثالث - ملك قشتالة) على مدينة طليطلة من أيدى العرب المسلمين عام 1085م، أمر بترجمة المخطوطات فى الخزائن التى كانت تحتوى على ملايين من المخطوطات والكتب الأدبية والعلمية والطبية - فالمكتبة العامة لمدينة قرطبة - وحدها - كانت تحتوى على أكثر من نصف مليون مخطوط عربى ، وإن فهارس هذه المكتبة ملأت مجلدين يحويان أكثر من ألفى صفحة - لاسيما أن الملك كان يحب الثقافة ، مما شجع حركة الترجمة ، لدرجة أن أقيمت ، ولأول مرة ، ورشات الترجمة ، وظهرت مفارز للترجمة ، يتعلم أفرادها اللغة العربية أولاً ، ثم يبدءون بترجمة عدد من المخطوطات القيمة الشهيرة من العربية إلى اللغة العامية القشتالية كلغة وسيط ، وبعدها تجرى صياغة هذه الترجمة باللغة اللاتينية الفصحى ، لأنها كانت اللغة الرسمية للعلم والكنيسة فى أوروبا .

وفى الفترة 1125م - 1151م حكم (ريمون) الذى تميز بشغفه للعلم ، مما شجع على ترجمة المزيد من الكتب العربية إلى اللاتينية ، لاسيما أن ثمة مترجمين مشهورين ، تولوا هذه المهمة ، منهم :

(يوحنا الإشبيلى) : تولى نقل الكتاب من اللغة العربية إلى اللغة القشتالية العامية (الكاستيجا) .

(دومينيكو جونديسالفى) : تولى الترجمة من القشتالية العامية إلى اللغة اللاتينية الفصحى ، ومن بعض الكتب التى ترجمت : كتب ابن سينا الطبية والعلمية الأخرى والفلسفية ..

(مرقص الطليطلى) : تولى ترجمة كتاب (جس النبض) لجالينوس ، ولكن ليس عن لغة الكتاب الأساسية ، التى هي اليونانية ، وإنما نقلاً عن ترجمة عربية سابقة لهذا الكتاب ، قام بها حنين بن إسحاق ، وبهذا يكون فضل العرب مضاعفًا بهذه الحالة .

(جيرار الكرمونى) (1187م) : هذا المترجم بالذات كان نشيطًا لدرجة أنه قام بالترجمة من اليونانية والعربية إلى اللغة اللاتينية لنيفٍ وسبعين كتابًا فى الصيدلة والطب والفلسفة وغيرها من العلوم ، وعلى سبيل المثال نورد بعضها :

- فى علم الصيدلة : ترجم كتاب (الأدوية المركبة) للكندى .

- فى علم الطب : ترجم كتاب (القانون) لابن سينا .

إضافة إلى كتاب : (التصريف لمن عجز عن التأليف) للزهراوى ، وكتاب (المنصورى) لأبى بكر الرازى .

ومن المفيد ذكره فى هذا الصدد ، أن كتاب (القانون) ظل يُدرس فى الجامعات الأوروبية حتى بداية القرن السادس عشر ، وكتاب (التصريف...) كان المرجع الأول لعلم الجراحة فى أوروبا ، وكذلك كتاب (الجراحة الكبرى) للزهراوى ، كان المعتمد الأساسى فى علم الجراحة فى أوروبا حتى ظهور الجراح الفرنسى (آمبروا زباريه) فى القرن السادس عشر . أما كتاب الرازى (المنصورى) فقد كان المجلد التاسع منه ذا تأثير كبير فى تطور علم الطب فى القرون الوسطى وكانوا يسمونه (Nonusal-Mansori) أى المنصورى التاسع(3).

مدرسة ساليرنو

تأتى أهمية مدرسة ساليرنو من حيث كونها أول جامعة أقيمت فى أوروبا ، والتى خرجت جيلاً من الرواد أنشأ الجامعات الأوروبية الأولى فى القرنين الثانى عشر والثالث عشر وما بعدهما ، ومن أمثال تلك الجامعات : (ديادوفا وبولونيا فى إيطاليا ، ومنبيليه وباريس فى فرنسا) . إضافة إلى جامعة أكسفورد ولايدن ولوفان ولايبزغ وتوبنجن وهايدلبرغ وبال ... إلخ .

ولقد لعب بعض الأطباء المهاجرين العرب دورًا كبيرًا فى تطور مدرسة ساليرنو للطب ، مثل : قسطنطين الأفريقى - التونسى الأصل – الذى ترجم العديد من الكتب العربية العلمية إلى اللغة اللاتينية ، مثل كتاب (الكامل فى الصناعة) وكتاب (الملكى) لعلى بن العباس ؛ وكتاب (فىأمراض العيون) لحنين بن إسحاق ، وكتاب (زاد المسافر) لابن الجزار ، وحوالى عشرين كتابًا أخرى أصبحت المراجع العلمية لها .

ناهيك عن أن (بارتولومو) ، وهو من تلامذة قسطنطين الأفريقى فى مدرسة ساليرنو ، قام بترجمة كتاب (الملكى) لعلى بن العباس من اللاتينية إلى الألمانية ، فكان أول كتاب طبى يدرس باللغة الألمانية الجديدة . ثم تلاه العديد من الكتب .

الثغور الشامية فى مرحلة الحروب الصليبية

شهد القرنان الثاني عشر والثالث عشر مرحلة الحروب الصليبية ، التي تمت فيها عملية تماس إجبارى على مستوى واسع ، بين المجتمع العربى الإسلامى من جهة ، وحشود من الأوروبيين الغزاة من جهة ثانية ، وقد حصل هذا التماس فى بلاد الشام بالذات حيث أنشأ الصليبيون إمارات أوروبية مستقلة فى كل من الرها (إيديسا) ، وأنطاكية ، وطرابلس الشام ، ومملكة مسيحية فى القدس ، لدرجة أن وصفت هذه المرحلة بأنها الأهم فى نقل مظاهر وأسس الحركة العلمية من (دار الإسلام) فى المشرق إلى البلدان الغربية فى أوروبا .

وثمة علاقات تمت على المستويات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والعلمية ، لاسيما فى أوقات المهادنة . ومن جملة ما أخذوه نظامنا العلمى التعليمى ، وكيفية تدريس العلوم ، وإجازة الأطباء ، وطرق العلاج ، والمؤسسات العلاجية ، وخاصة نظام المستشفيات (البيمارستانات) ، ناهيك إلى انتقال العديد من الصناعات إلى أوروبا ، لاسيما صناعة الورق ، لما لها من أهمية فى الثقافة والعلم والتعليم ، وكذلك صناعة النسيج إلى فرنسا ، إضافة إلى إجادة اللغة العربية من قبل الأوروبيين(الذين كانوا مع الوحدات الصليبية فى الشرق) ، بغية التمكن من ترجمة الكتب العلمية إلى اللغة اللاتينية أولاً ، ثم إلى فروعها من اللغات الأوروبية فى مرحلة لاحقة . كما أن ثمة مدن تميزت بحركة نشطة فى الترجمة من اللغة العربية إلى اللاتينية ، فمثلاً :

مدينة أنطاكية

كان من أهم المترجمين : (إيتين الإنطاكى) حيث ترجم كتاب (الملكى) لعلى بن العباس إلى اللاتينية، وذلك تحت عنوان Regalis Disposite عام 1127م .

مدينة طرابلس

اعتبر المترجم (فيليب الطرابلسى) ، من أنشط المترجمين ، حيث ترجم كتاب (سر الأسرار) لأرسطو إلى اللغة اللاتينية ، لكن ليس عن لغته الأصلية - وهى اليونانية - وإنما عن ترجمة عربية له تحت عنوان كتاب (السياسة فى تدبير الرئاسة) .

وإضافة لما سبق ، فالحقيقة العلمية تقول إن ازدياد المعلومات عن حضارات الشرق كالمصرية , والسومرية ، والبابلية .. يضطر المؤرخون إلى تعديل جذرى فى النظر إلى الحضارة اليونانية ، فليست هناك (معجزة يونانية) مطلقًا، لأن الحضارة اليونانية ، امتداد واقتباس للحضارة العربية القديمة فى وادى الرافدين ، ووادى النيل ، وبلاد الشام ، فاليونانيون اقتبسوا من الحضارة العربية فى شرقى البحر المتوسط الشىء الكثير فى مختلف العلوم ، وعاد إلينا على أنه علم وطب يونانيان ونُسى الأصل أو تنوسى .

وكما تقول الباحثة ليلى محمد محمد فإنه يبدو فضل العرب المسلمين على الحضارة الأوروبية مزدوجًا ومضاعفًا : نقل الفكر اليونانى إلى الغرب أولاً ، ورفده بأمهات الكتب العلمية والتصانيف التى أبدعها العرب المسلمون ثانيًا . ولاسيما أن اختراع الطباعة على يد يوحنا جوتنبرغ عام 1448م سهل انتشار الثقافة والعلم وعجل بنشوء الحضارة المعاصرة(4) .

وقد تحققت النقلة الحضارية المهمة بالترجمة المكثفة للأعمال اليونانية الكلاسيكية ، مثل أعمال أرسطو وإقليدس وأبيقراط وغيرهم ، والتى ترجمت إلى العربية من المصادر اليونانية والعبرية والسورية ، وقام المسيحيون العرب من أتباع الكنائس الأرثوذكسية السورية والنسطورية بإنجاز عدد من تلك الترجمات. على أن الترجمة لم تكن حرفية ؛ إذ غالبًا ما كان يجرى التعليق على المصدر الأصلى ونقده وإضافة حواشٍ إليه ، وبهذا الشكل بات المسلمون الورثة الحقيقيين للثقافة الهيلينية ، التى غالبًا ما يستخدمها الغرب كمرجع ومصدر ولاشك أن جهود الترجمة الإسلامية الكبيرة صانت هذا التراث الثمين وتولت إدارته(5) .

وصلت جهود الترجمة ذروتها على يد الطبيب المسيحى السورى حنين ابن إسحاق ، جمع ابن إسحاق فى رحلاته الطويلة المخطوطات المختلفة للمؤلفات الأساسية المتوفرة آنذاك ، وقام بمقارنتها قبل ترجمتها إلى السريانية أو العربية ، وفى مطلع القرن التاسع تم تأسيس (دار الحكمة) فى بغداد ، حيث باتت تلك الأعمال متوافرة باللغة العربية التى كانت قد أصبحت لغة العلوم آنذاك .

وكانت بغداد مركز العالم خلال الفترة من عام 750م وإلى العام 1258م حين قام المغول بتدميرها ، وفى الوقت الذى كان فيه أهل شمال أوروبا يهيمون على وجوههم ويكتسون بجلود الحيوانات ، كانت بغداد تنعم بحضارة مزدهرة متطورة تميزت بالتعايش بين المسلمين والمسيحيين واليهود ، وبغداد - التى اصبحت مؤخرًا رمزًا للمشاكسة وعدم التصالح - كانت آنذاك تعرف باسم (مدينة السلام)(6) .

ويقول إنجمار كارلسون : أن الثقافة الإسلامية - على ذلك - ليست غريبة كما تدعى كليشهات الغرب وأفكاره المسبقة .

تمكن المسلمون العرب والبربر من هزيمة مملكة الفيزغوطيين فى إسبانيا بسرعة بعد عبورهم لمضيق جبل طارق . كان أهل البلاد الأصليون آنذاك يعانون من حكم أرستقراطية غريبة ، فى حين كان اليهود عرضة لاضطهاد الكنيسة ، وبمساعدة اليهود سقطت طليطلة فى أيدى المسلمين دون مقاومة تذكر ،كما تم فتح قرطبة بمساعدة راع إسبانى دل المهاجمين على فجوة فى سور المدينة ، ومع افتتاح إشبيلية فى 716م وصل الفتح إلى ذروته ، وتم وضع أساس الإطار الجغرافى فى إسبانيا الذى انتعش فيه مجتمع التعددية الثقافية على امتداد ثمانية قرون تقريبًا .

لم يعتبر السكان الأصليون المسلمين الفاتحين همجًا بدائيين ، بل على العكس أعجبهم نمط الحياة الرفيع والرفاه والرقة التى جاء بها المسلمون ، وسرعان ما بات المسيحيون يقلدون المسلمين . ولقد قطع هذا الذوبان والاندماج الثقافى شوطًا بعيدًا إلى حد أن قسيسًا إسبانيًا كتب حانقًا يقول :

(إخوانى المسيحيون يتذوقون الشعر والحكاية العربية ، ويدرسون علوم الدين والفلسفة المحمدية ليس لغرض دحضها ، ولكن لتهذيب أذواقهم وامتلاك الأسلوب الرفيع . هل هناك الآن من هو قادر على قراءة التعليقات اللاتينية على الكتب المقدسة ؟ كلا للأسف الشديد . إن الموهوبين الشبان من المسيحيين لا يعرفون سوى الآداب العربية ، إنهم يقرأون ويدرسون الكتب العربية فحسب ، ويبذلون الغالى والرخيص لجمع الكتب العربية ، ويسبحون ويمجدون فى كل مناسبة بالعادات العربية) .

ذلك السعى المحموم تجاه نمط الحياة الرفيع مازال يعكس نفسه إلى يومنا هذا فى بعض التعابير المتداولة فى اللغات الأوروبية ، والمستعارة مباشرة من اللغة العربية . قليلون أولئك الذين يعرفون مثلاً أن كلمة (الجالا) (الحفل الكبير احتفاء بشخص أو حدث مهم) جاءت أصلاً من العربية ، وأصل التعبير والحدث هو (الحلة) التى كان الأمير الشرقى يخلعها على شخص قام بأداء عمل أو خدمة جليلة ، واليوم نجد فى العديد من اللغات الأوروبية استعارات محورة لمشتقات من هذا التعبير .

لاشك أن الدين كان قوام تأسيس الهوية ، وأن الدين كان بدوره يرتبط بنظام الحكم الإقطاعى ، ولكن العلاقة بين المجموعات الدينية كانت ترتكز على التسامح المتبادل فيما بينها ، والذى كان مستمدًا بدوره من مبدأ (أهل الكتاب) الذى ورد فى القرآن .

ويمكن اعتبار عمليات التحول بين الديانات الثلاث بمثابة مقياس خاص لمبدأ التسامح المعمول به آنذاك ، كان التحول من المسيحية واليهودية إلى الإسلام شائعًا ومازال .

وكانت هناك خمس لغات على الأقل قيد الاستعمال اليومى ، لغتان للحديث ، العربية الأندلسية ولغة الرومانا العامية (التى تطورت فيما بعد إلى اللغة الإسبانية) . أما لغات الكتابة فكانت العربية الفصحى والعبرية واللاتينية.

ويضيف إنجمار كارلسون : لقد حرر الفتح الإسلامى اليهود من الاضطهاد الذى كانوا يعانون منه تحت الحكم المسيحى ، ولقد تأقلم اليهود مع الثقافة العربية ، ووصلوا إلى مراكز رسمية عالية خلال فترة الازدهار تلك ، وأدلى اليهود أيضًا بقسطهم فى التطور العلمى والفلسفى والأدبى الذى تحقق خلال تلك الفترة والذى تمركز حول قرطبة . وتمت إعادة نفخ الحياة فى اللغة العبرية بظل الدعم العربى وحمايته، وعلى الرغم من أن اليهود كانوا يكتبون بالعربية عند تناول الفلسفة والعلوم ، إلا أن العبرية كانت لغتهم المفضلة عند كتابة الشعر ، وربما كانت هذه هى المرة الأولى التى جرى فيها استخدام العبرية لأغراض أخرى غير الطقوس الدينية .

ولقد ارتحل اليهود إلى إسبانيا العربية من جميع الأصقاع ، حتى إن غرناطة باتت مدينة ذات صبغة يهودية ، ويكفى أن نشير فى هذا الصدد إلى قيام ناشر إسرائيلى فى مطلع الثمانينيات بنشر مجموعة من الأعمال تحت عنوان (كنوز من الفكر اليهودى) ، وكانت جميع المجلدات الستة التى تم نشرها فى المجموعة أعمالاً كتبت فى إسبانيا خلال الفترة 1050 - 1428م ، لا بل إن خمسة من الأعمال الستة تمت كتابتها أصلاً باللغة العربية ، وتضمنت الأعمال كتابين للمؤلف جابريول (المعروف أكثر باسمه اللاتينى Avicebron، وقصائد للشاعر يهودا هاليفى ، وأعمالاً لموسى بن ميمون (قارن التسامح الإسلامى مع اليهود بما يفعلونه الآن فى فلسطين) .

كانت إسبانيا المقاطعة الأولى التى انفصلت عن دار الخلافة ، ولقد وصل الأمير الأموى عبد الرحمن الداخل إلى إسبانيا فى العام 755م هاربًا من دمشق، وكان الحكام فى إسبانيا قانعين فى البداية بلقب الإمارة ، ولكن عبد الرحمن الثالث أعطى لنفسه - فى العام 929م - لقب (أمير المؤمنين) ، وأصبحت الخلافة فى قرطبة خلال القرن العاشر أكثر ممالك أوروبا رخاء على الصعيدين الثقافى والمادى ، وفى الوقت الذى كانت فيه المدن فى وسط أوروبا مجرد أكواخ من الخشب ، كان سكان قرطبة الذين بلغ عددهم نصف مليون نسمة يتمتعون بشوارع مضاءة وشبكة لمياه التصريف وأكثر من 300 حمام عمومى .

إلا أن حكم الأمويين بدأ بالتضعضع مع الانقسامات الداخلية ، وأيضًا مع ضغوط المسيحيين المتزايدة من الشمال الذين كانوا يطالبون باسترجاع الأراضى المسيحية . ونتيجة لهذه الضغوط انقسمت الخلافة فى قرطبة إلى ممالك صغيرة متعددة منذ العام 1013م ، وكان بعض الحكام المسلمين شقرًا وذوى عيون زرق نتيجة للزيجات المختلطة بين اليهود والمسيحيين والمسلمين ، وجرى عقد معاهدات تحالف بين الحكام المسلمين والمسيحيين .

على أن رؤساء الكنيسة الكاثوليكية كانوا يعتبرون أن أى اتصال مع المسلمين ، أو أى تنازل لهم مهما صغر شأنه ، هو نصر لأعداء المسيحية ، وبدءًا بالقرن الحادى عشر كانت هناك عملية استرجاع تدريجية للأراضى من المسلمين ، إذ سقطت طليطلة فى 1085م ، وقرطبة فى 1236م ، وفالنسيا فى 1238م ، وإشبيلية فى 1248م . على أن الموقع الأخير ، غرناطة ، ظل صامدًا لأكثر من قرنين ونصف من الزمن ، كمدينة مفتوحة للفنانين والعلماء والكتّاب من شتى أرجاء حوض البحر المتوسط ، وظلت غرناطة واحدة من أجمل مدن الدنيا وواحة للاجئين (المور) (العرب الهاربين من إسبانيا المسيحية) وللمسيحيين واليهود على السواء .

ولكن غرناطة سقطت أخيرًا مع قلعتها الحمراء فى عام 1492م ، ولقد حدث هذا بعد أن أصبحت نموذجًا للتعايش بين المسلمين والمسيحيين واليهود، وهو النموذج الذى بات يعرف باسم التعايش التلاؤمى (Conviviencia)، وعلى امتداد كامل فترة الاسترجاع كان المسيحيون يواجهون طرفًا أكثر رفعة حضارية . ولقد كان الإسلام أكثر مدنية وأكثر تطورًا من الناحية التقنية ، فضلاً على أنه كان أكثر انفتاحًا على العالم وأغنى تنوعًا من الناحية الروحية .

وبعد الاجتياح المسيحى باتت طليطلة مركزًا لترجمة الأعمال العلمية من العربية إلى اللاتينية ، ولقد جرى جمع أفضل عقول أوروبا آنذاك فى تلك المدينة ، ويمكن على ضوء ذلك الاستنتاج القول بأن العلماء والبحاثة المسلمين والمسيحيين واليهود من طليطلة وقرطبة وإشبيلية وغرناطة كانوا أساس ولادة المنهج الإنسانى الأوروبى ، وذلك عبر تعريف أوروبا المسيحية بكلاسيكيات تاريخ العلوم ، وهذا يصح على نظريات الحساب التى طورها إقليدس وأبولونيوس وأرخميدس , وعلى علوم الفلك لدى المصرى بطلميس ، وعلى علوم الطب عند أبو قراط وجالينوس .

وقد تأثر التعليم والعلم والثقافة فى أوروبا بشكل قوى بالمعارف الإسلامية أيضًا عبر صقلية ؛ إذ كانت هذه الجزيرة مقاطعة بيزنطية فى بداية القرن التاسع ، فقد تمكن المسلمون فى العام 829م من الحصول على موطىء قدم فيها، ومع العام 902م سقطت الجزيرة بكاملها فى أيديهم إلى جانب أجزاء من جنوب إيطاليا ، ولكن السيطرة الإسلامية هناك لم تكن طويلة الأمد كما فى جنوب إسبانيا ؛ إذ تمكن النورمانديون من استرجاع صقلية فى أواخر القرن الحادى عشر . وعلى الرغم من قصر هذه الفترة الزمنية ، إلا أن المدن الصقلية بشكل خاص كانت قد تأسلمت مما انعكس فى انصهار ثقافى مرموق ظل حيًا ومشعًا لقرون ، وظل نظام حكم النورمانديين ذا طابع عربى كامل ؛ إذ إن (روجر الأول) ، وهو الذى بدأ الحملات ضد المسلمين فى الجزيرة أحاط نفسه بالفلاسفة وعلماء الفلك والعلماء العرب ، وكان بلاطه فى باليرمو بلاطًا شرقيًا أكثر مما كان غربيًا ، ولقد ظلت الجزيرة لأكثر من قرن من الزمن مملكة مسيحية يحتل المسلمون فيها أغلب المراكز الرفيعة .

لم يكن (فريدريك فون هوهينشتاوفن) حاكمًا لجزيرة صقلية فى النصف الأول من العام 1200م فقط ، بل كان أيضًا إمبراطورًا للإمبراطورية الرومانية المقدسة وملك القدس ، وعلى الرغم من أنه كان صاحب أعلى مركز مدنى فى العالم المسيحى ، إلا أن حياته الخاصة كان حياة شبه شرقية ، فلقد كان لديه حريم ، وكان بلاطه يضم فلاسفة من دمشق وبغداد ويهودا شرقيين وغربيين. إن الانفتاح المميز الذى ساد بلاطه كان أساس عهد النهضة الإيطالى ، وكانت العربية واليونانية واللاتينية تستخدم فى المناسبات الرسمية ، ولقد انتشرت الثقافة والعلوم العربية من جزيرة صقلية والجنوب الإيطالى إلى شمال إيطاليا وبقية أنحاء أوروبا ، وتجدر الإشارة إلى أن الإمبراطور (فريدريك) وابنه (مانفريد) كانا يتقنان العربية ، ولقد قاما بدراسة العلوم والفلسفة العربية ، وبترجمة الأدبيات العربية إلى اللاتينية .

ويشهد إنجمار كارلسون بأن : علم التاريخ جاء إلى أوروبا من الأندلس وصقلية ، وهو أيضًا الطريق الذى جاءت منه العلوم والتكنولوجيا العربية ، لا بل إن إسهام العرب فى خلق المعرفة الطبية فى أوروبا يعتبر واحدًا من أبرز وأكبر عمليات النقل العلمى التى تمت فى التاريخ . لقد جمع أبو بكر الرازى (المتوفى فى العام 935م) كل المعرفة الطبية الموجودة فى زمانه فى 30 مجلدًا، وقام أيضًا بتأليف أكثر من مائة رسالة طبية أعيد نشرها نحو 40 مرة مع حلول القرن التاسع عشر ، وكانت بحوثه تلك مادة تدريس فى الجامعات الأوروبية لقرون طويلة ، وقد حاز وصفه للجدرى والحصبة على شهرة خاصة ، وقام الطبيب والفيلسوف ابن سينا (المتوفى فى العام 1037م) أيضًا بوضع دائرة معارف للعلوم الطبية ظلت تستخدم فى الجامعات الأوروبية حتى القرن الماضى، وشرح (ابن الخطيب) (المتوفى فى العام 1374م) كيفية انتقال الطاعون بالعدوى . أما أعمال على بن عيسى حول أمراض العيون فإنها تعكس فهمًا ومعرفةً لم تصبح متوافرة فى أوروبا قبل القرن الثامن عشر ، وكان الطبيب المصرى (ابن النفيس) (المتوفى فى 1288م) أول من شرح نظام الدورة الدموية . وهذا مجرد غيض من فيض .

ومنذ القرن العاشر فرض المسلمون على الأطباء ضرورة اجتياز امتحان طبى قبل السماح لهم بممارسة المهنة ، وكان تعليم الأطباء يجرى فى مستشفيات خاصة فى المدن الكبيرة ، ولقد طور الأخصائيون فى هذه المستشفيات فنون الجراحة ، كما جرى مراقبة ووصف مراحل تطور الأمراض المختلفة ، وتمت دراسة الأدوية المستخلصة من الأعشاب وتحليل آثارها على الجسم البشرى . لقد كانت العلوم الطبية متطورة إلى درجة أن عالم النبات (ابن البيطار) من ملقا (الأندلس) جدول فى القرن الثالث عشر أكثر من 1400 عقار طبى مختلف، وفى الواقع أن الصيدليات كمؤسسات طبية هى إبداع عربى ، ولقد كان هناك محلات عطارة رسمية فى الأندلس توفر الدواء للعامة .

وحقق علماء الفلك العرب تطورًا كبيرًا فى تحديد المسارات التى يأخذها القمر والكواكب ، وكتبوا فى وقت مبكر عن المد والجزر ، وعن قوس القزح ، وعن الشفق ، وعن الهالات حول الشمس والقمر ، وافتراض العلماء العرب أن الأرض كروية منذ القرن الحادى عشر . إن إنجازات (كوبرنيكوس وكيبلر) ما كان يمكن لها أن تكون بدون الأعمال التأسيسية للفلكيين العرب .

ولقد تمكن القسيس (لوبيتوس) من برشلونة من تعلم كيفية استخدام الأسطرلاب عبر قراءة نصوص مترجمة من العربية ، وكتب فى العام 984م إلى إخوانه المسيحيين - على الجانب الآخر من سلسلة جبال البرانس - حاثًّا إياهم على استخدام العلوم العربية ؛ وذلك لتسهيل تحقيق أهدافهم الدينية قائلاً: إن من يرغب بأداء الصلوات فى أوقاتها الدقيقة ، والاحتفال بعيد الفصح فى التاريخ الصحيح ، وتفسير البشائر حول نهاية العالم ، عليه أن يستخدم الأسطرلاب . لقد نسينا نحن المسيحيين الحكمة والمعرفة الأصلية ، وها هو الله يهبنا إياها ثانية عبر العرب . انتهى .

ولم يمنح العرب أوروبا الأسطرلاب فقط ، بل أعطوها أيضًا أداة أكثر دقة للحساب ، ألا وهي الأرقام العربية ، التى يجدر أن نسميها بالأرقام الهندية كما يفعل العرب أنفسهم . كانت هذه الأرقام معروفة فى بغداد منذ نحو العام 720م ، ويرجح أنها جاءت إلى بغداد عبر التجار الهنود . إن المساهمة الأكثر أهمية لعلماء الحساب الهنود تتمثل فى إبداع رقم الصفر ، وفى وضع النظام العشرى ، وعقب نحو قرن من معرفة هذا النظام ، قام (أبو جعفر محمد بن موسى الخوارزمى) (المتوفى فى العام 846) بوضع كتابه عن تطوير مجالات استخدامه فى علم الحساب ونظام العد العشرى ، وهو يستحق عن جدارة لقب (أبو علم الجبر واللوغارتمات) ، بل إن كلمة (الجبرا) باللغات الأوروبية مشتقة مباشرة من كلمة الجبر بالعربية ، وكلمة اللوغارتمات مشتقة بدورها من تحريف اسم الخوارزمى .

كانت أساليب الحساب الجديد ثورة عظيمة الشأن ؛إذ وفرت الأرقام الجديدة إمكانية التعامل مع المسائل الرياضية بشكل لم يكن متاحًا فى السابق مع استعمال الأرقام الرومانية ، ولقد حرر هذا الإنجاز العربى أوروبا من (اضطهاد الأرقام الكاملة) حسب تعبير أحد الرهبان .

كان للانتشار السريع للإسلام نتائج على علوم الجغرافيا أيضًا ؛ إذ تم وضع وصف دقيق لمسالك الحج من الحواضر الإسلامية فى مصر وسوريا وما بين النهرين فى وقت مبكر . ونتج عن هذا تأليف دوائر المعارف الجغرافية وكتب الرحلات عبر القارات ، ولقد وضع (أبو عبد الله المقدسى) (المتوفى فى العام 1000م) مجلدًا حول الجغرافيا الفيزيائية والبشرية المعروفة فى ذلك الزمن ، على ضوء ملاحظاته والمراقبات الموثوقة للآخرين , وهو أيضًا مؤلف (أحسن التقاسيم فى معرفة الأقاليم) الذى نقله الأوروبيون إلى لغاتهم ، كما قام (ياقوت الحموى) (المتوفى فى العام 1229م) بتأليف قاموس جغرافى مهم بعنوان (معجم البلدان) .

ولقد استفادت أوروبا أيضًا من العلوم العربية فى هذا المجال ؛ إذ قام الملك النورماندى (روجر الثانى) بتكليف الجغرافى العربى الإدريسى برسم خرائط شاملة عن العالم ، فقام هذا برسم خريطة للعالم بالإضافة إلى 72 خريطة تفصيلية عن الحدود المعروفة آنذاك ، من خط الاستواء جنوبًا إلى المحيط الأطلسى غربًا وإلى المحيط الهادى شرقًا .

كانت المخططات التى وضعها راسمو الخرائط العرب واليهود فى صقلية ومايوركا فى القرن الثالث عشر فريدة من نوعها ؛ إذ استمر استعمالها ولم يجر تعديل المسافات المحددة فيها إلا فى وقت متأخر من القرن السابع عشر ، وكلمة أطلس المستخدمة فى اللغات الأوروبية مأخوذة مباشرة من اللغة العربية، وعندما قام (فاسكو دي جاما) بالاستعانة بالقبطان العربى (ابن ماجد) ؛ لاكتشاف طريق الهند عبر رأس الرجاء الصالح ، فإنه كان يعرف تمامًا بمن يجب أن يستعين .

أما الرحالة المغربى (ابن بطوطة) (المتوفى فى 1368م أو 1377م) فإنه ارتحل إلى أصقاع بعيدة أوصلته إلى تومبكو وإلى بكين وإلى الفولغا ، وهو لاشك رحالة على نفس مستوى (ماركو بولو) .

وفيما يلى ، نخبة من أسماء المسلمين الذين أغنوا أوروبا بعلومهم ومعارفهم، والذين وصفهم الباحث والرحالة الألمانى (الكسندر فون هومبولت) فى القرن التاسع عشر بأنهم (منقذو التعليم والثقافة الغربية) .

عباس بن فرناس (المتوفى فى 888م) الذى حاول تصميم طائرة قبل نحو 600 عام من قيام الإيطالى ليوناردو دافنشى بنفس المحاولة .

أبو الحسن بن الهيثم (المتوفى فى 1039م) الذى اخترع الحجرة المظلمة فى التصوير .

أبو الريحان البيرونى (المتوفى فى 1050م) العبقرى المتعدد المواهب الذى كان مؤرخًا وديبلوماسيًا وأخصائيًا فى اللغة السنسكريتية وعالم فلك ، وخبيرًا بالخامات وصيدلانيًا .

عمر الخيام (المتوفى ما بين 1123م و 1131م) الذى كان شاعرًا وعالم حساب فى آن واحد .

ابن رشد (ولد وتعلم فى الأندلس ، وتوفى فى 1198م) الذى تركت شروحاته وتعليقاته على أعمال أرسطو آثارًا عميقة على الفلسفة الغربية .

ابن خلدون (المتوفى فى 1406م) الذى يعتبر بحق (أبو التاريخ) و (أبو علم الاجتماع) ، عبر مُؤلفه الشهير المعروف بـ (مقدمة ابن خلدون) ،عن تاريخ العالم ومنهجه المميز فى نقد المصادر .

وكما تقول أغنية مصرية شائعة : (الأرض بتتكلم عربى) ، فإن أوروبا كثيرًا ما تستعمل العربية دون أن تدرى . إن الآثار التى خلّفها الحكم العربى فى إسبانيا وصقلية يمكن متابعتها بشكل خاص فى مفردات اللغات الأوروبية، وخاصة فى اللغة الإسبانية . إن واحدة من كل خمس كلمات فى اللغة الإسبانية ذات أصل عربى ، لا بل إن البطل الوطنى الإسبانى الذى هزم العرب، يحمل اسمًا عربيًا : (السيد) (El Cid) ، ومعظم السائحين الذين زاروا حلبات مصارعة الثيران قد لا يعرفون بأن نداء (أوليه) بالإسبانية تمتد جذوره فى اللغات العربية : إنهم يمجدون بهتافهم هنا اسم الله ، وإن اسم أطول نهر فى إسبانيا (Guadalquivir) مشتق فىالواقع من الاسم العربى (الوادى الكبير) ، وماذا عن اسم جبل طارق ؟ بل إن التعبير الشائع (هستا مانيانا) , والتى تعنى إلى الغد ، فإن كلمة (هستا) تعود بأصلها إلى كلمة (حتى) العربية .

ومن بين التعابير الحربية والعسكرية فى اللغات الأوروبية التى تعود بأصلها إلى اللغة العربية نذكر مثلاً دار الصناعة (Arsenal) ، والغزوة (Razzia) ، وقالب (Calibre) . وللتذكير فقط فإن المسلمين وليس البريطانيين هم الذين سادوا الأمواج (كما يقول النشيد الإنجليزى) ، بل إن اللقب العسكرى للأدميرال نيلسون مشتق من اللغة العربية . إن كلمة أدميرال مشتقة (أمير الرحل) التى تحرفت إلى (Ammiraglio) بالإيطالية ثم أدميرال بالإنجليزية، وكلمة (Mansoon) هي أيضًا كلمة بحرية مشتقة من كلمة الموسم .

وقد استعارت كل اللغات الأوروبية بشكل مكثف من العربية خصوصًا فى مجال أسماء النباتات والحيوانات . وكأمثلة على ذلك نذكر الحشيش (Hasch) ، الذرة (Durra grain) ، الطرحون (Tarragon)، الباذنجان (Aubergine) ، البرقوق (Apricot)، الكمون (Cumin)، الكافور (Camphor)، القهوة (Coffee)، الياسمين (Jasmine)، الزنجبيل (Ginger)، القطن (Cotton), الليمون والليمونادة (Lemon)، النارنج (Orange)، السبانخ (Spinach)، الزعفران (Saffron) .

وكبرهان على التأثير العربى الواسع الذى شمل مختلف المجالات، والذى يكاد أن يقارب ما نطلق عليه اليوم اسم (الاستعمار الثقافى)، نورد فيما يلى مجموعة من الكلمات السويدية المستعارة مباشرة من اللغة العربية :

الشفرة (Cipher)، العرق (Arrack) الكهف (Alcove) الملغم (Amalgam)، الكحول (Alcohol)، الجبر (Algebra)، الحبل (Cable)، الزهر (Hazard) ، الإكسير (Elixir)، الدمقس (Damask) .

ويشهد علماء الغرب على بشاعة أسلافهم : ولاشك أن الإحساس بالدونية الثقافية ساهم فى بلورة موقف المسيحيين تجاه المسلمين الذى تميز بالقسوة واللارحمة ، ويحفظ لنا التاريخ مثلاً أن (الكاردينال زيمينس) أمر فى العام 1499م بحرق ثمانين ألف كتاب عربى فى غرناطة ، بحجة أن (العربية هى لغة عرق كافر وعرق وضيع) . وبعد ثلاث سنوات أجبر المسلمون فى إسبانيا على الاختيار بين اعتناق المسيحية أو مغادرة البلاد أو الموت ، وخلال الحقبة الزمنية نفسها تم نفى نحو ربع مليون يهودى بعد أن رفضوا اعتناق المسيحية . وتم إحراق مئات الألوف من المسلمين أحياء بعد تعذيب وحشى مروع .

عانت إسبانيا آنذاك من نفس الجنون العرقى الذى تعانى منه البوسنة اليوم ، إذ إن حمى تحويل أتباع الأديان الأخرى إلى المسيحية سرعان ما أصبحت حملة للتمييز العنصرى ، وحتى ذلك الوقت لم يكن (الدم) أمرًا ذا شأن إلا للنبلاء الذين لا يمتلكون الأضياع ، ولكنه سرعان ما أصبح معيارًا حاسمًا للتمييز بين البشر ، وعلى هذه الخلفية فضل الملك (فرديناند) والملكة (إيزابيلا) دخول التاريخ لا بصفتهما ملكين على أتباع من ثلاث ديانات ، بل فضّلا صفة الملوك الكاثوليك . وهكذا انتهى عهد التعايش التلاؤمى على يد المسيحيين المتعصبين .

إن تجربة الأندلس تؤكد : أن بعض التجاوزات المتطرفة التى قد نراها اليوم على الأصعدة المختلفة ليست صنوًا للإسلام . إنها ببساطة ليست من الإسلام فى شىء . الإسلام هو مصهر للإبداعات المتنوعة ، وهو مستودع لأفكار متعددة ومتميزة ، من نظريات يوتوبية استرجاعية حول الخلاص الروحى إلى تأكيدات للهوية الثقافية واستيعاب لكل الأفكار والثقافات .

إسبانيا المسلمة هى برهان ملموس على كل هذا ، وهى تحد سافر للأفكار الجاهزة ، وللقوالب المسبقة حول الإسلام والمسلمين . الإسلام كان الحضارة المتفوقة ، وكان الطرف الخلاق حين كانت المسيحية متخلفة عنه قرونًا كثيرة، ولقد عاشت المجموعات السكانية المختلفة بظله بتناغم وتجانس دون اعتبار للعرق والدين . لقد تمكن الإسلام هناك من خلق مجتمع (التعايش السلمى) الذى وصفه المستشرق البريطانى (وليام مونتغمرى وات) بأنه مفهوم يتضمن التكافل والتكامل والانصهار .

تعليق

لقد استمر عطاء علماء المسلمين للبشرية حتى يومنا هذا برغم كل الظروف السيئة التى نمر بها الآن .. ويكفى أن نشير إلى حصول اثنين من علماء المسلمين على جائزة نوبل العالمية تقديرًا لعطائهما وجهودهما المتميزة .. الأول كان الفيزيائى الباكستانى أحمد عبد السلام .. والثانى هو الدكتور أحمد زويل عالم الفيزياء العربى المسلم صاحب الاكتشافات العلمية المذهلة فى العصر الحديث ، ومنها اكتشافه وحدة القياس الزمنى (الفمتوثانية) لأول مرة فى التاريخ .. وهناك أيضًا عالم الفضاء المصرى العربى الدكتور فاروق الباز أحد أبرز خبراء وكالة أبحاث الفضاء الأمريكية (ناسا) .. والعبقرى الدكتور مشرفة .. وعالمة الذرة المصرية الدكتورة سميرة موسى ، وعالم الذرة الدكتور يحيى المشد (اغتالتهما المخابرات الإسرائيلية الموساد بخسة ووضاعة لمنع العرب من الحصول على القنبلة النووية) .. وأيضًا نذكر جراح القلب العالمى الدكتور مجدى يعقوب ..والعالم الجليل الدكتور زغلول النجار أحد أكبر علماء طبقات الأرض فى العالم كله .. وهؤلاء فقط مجرد أمثلة لما قدمته عقول العرب والمسلمين للإنسانية من عطاء .. وهم وأمثالهم - قديماً وحديثاً - البرهان الساطع على أن المسلمين دائمًا كانوا حريصين على التواصل الإيجابى مع الآخر والتعاون المثمر على البر والتقوى والخير للبشرية كلها(7) .

المراجع

(1) الحضارة العربية الإسلامية والحضارات السابقة ، للباحث الدكتور شوقى أبو خليل .

(2) Lucien Leclerc, Histore de la medecien arabe, Tome 2, P. 343, 345. .

(3) مجموعة بحوث وأعمال المؤتمر العالمى الأول للطب الإسلامى ، الكويت ، 1981م ، الدكتور أبو الوفا التفتازانى .

(4) ليلى محمد محمد - مجلة النادى الأدبى لمنطقة حائل - العددان 8 ، 9.

(5) إنجمار كارلسون - الإسلام وأوروبا - ترجمة سمير بوتانى - مكتبة الشروق الدولية .

(6) هناك موسوعتان مشهورتان عن بغداد ، الأولى : دار السلام , والثانية : تاريخ بغداد، الخطيب البغدادى ، 14 مجلدًا ، مكتبة الخانجى .

(7) ومن أراد المزيد عن العطاء الإسلامى العظيم للعالم فليراجع كتاب المستشرقة الألمانية زنجريد هونكه : (شمس الإسلام تشرق على العالم) - ط دار الشروق - مصر ، وكتاب (حضارة العرب) للعلامة الفرنسى جوستاف لوبون - ط الهيئة المصرية العامة للكتاب .

الفصل الثامن

وسائل التواصل

أدى التطور الهائل في وسائل الاتصال والمواصلات إلى تيسير التواصل بين جميع الدول والشعوب .. ولاشك أننا نستطيع استثمار هذه الوسائل الحديثة فى التحاور والتواصل والتبادل الحضارى مع الآخرين ..

وعلى رأس هذه الوسائل الحديثة تأتى شبكة المعلومات الدولية - الإنترنت - وهىقفزة كبرى في عالم الاتصالات تيسر لنا - بأقل التكاليف -الوصول إلى كل بيت فى سائر أنحاء المعمورة بلا قيود أو معوقات .. ويكفى أن نشير إلى الملايين من الأوروبيين والأمريكيين الذين اعتنقوا الإسلام خلال بضع سنين منذ اكتشاف الإنترنت كوسيلة فائقة السرعة زهيدة التكلفة للحصول على المعلومات والاتصال بالآخرين .. وعلى سبيل المثال فقد زاد عدد زوار المواقع الإسلامية على الإنترنت - بعد 11سبتمبر 2001م - 76 ضعفًا بسبب الرغبة العارمة لدى الآخرين في التعرف على هذا الدين وما يدعو إليه .. والمؤكد أن هذا كله في صالحنا، لأن النتيجة في كثير من الحالات هى اعتناق هؤلاء الإسلام بعد معرفة الحقائق الكاملة عنه بعيدًا عن أكاذيب وتضليل الصحف الغربية ووسائل الإعلام الأخرى ؛ (تضاعف عدد من اعتنقوا الإسلام في أمريكا 3 مرات بعد 11 سبتمبر) ويمكن لمن يرغب في معرفة بعض ثمار التواصل عبر الإنترنت بهذا الصدد أن يقوم بزيارة بعض المواقع الآتية :

www.jews-for-allah-org وهو موقع أنشأه حاخام يهودى سابق اهتدى للإسلام - مع كل أسرته - بعد حوار قصير عبر الإنترنت مع شاب مسلم مثقف واعٍ نجح في عرض حقائق الإسلام العظيم على هذا الحاخام الذى أنشأ هذا الموقع لدعوة اليهود وغيرهم إلى الإسلام،بعد أن هداه الله إلى الدين الحق .

- قسيس أمريكى شهير اعتنق الإسلام مع والده - قسيس أيضًا - وصديقهما الوزير الأسبق وأسس موقعًا للدعوة إلى الإسلام www.islamtomorrow.net وأيضاً www.islam-guide.com موقع جيد لتعريف الآخرين بالإسلام.

www.thetruereligion.org/converts موقع هام يحتوى على عشرات من قصص إسلام مشاهير الغرب فى كل المجالات.

www.saaid.net أيضا موقع إسلامى ممتاز به كثير من القصص الرائعة لمئات من غير المسلمين الذين هداهم الله للإسلام .

- www.islamicweb.com وموقع آخر للحوار مع غير المسلمين وقصص المسلمين الجدد من مختلف البلدان والثقافات .

- وهناك أيضًا موقع رائع أسلم بسببه عشرات www.islamway.com .

وتجدر الإشارة إلى أن معظم هذه المواقع هى ثمرة مجهود فردى لدعاة وهبوا أنفسهم وما يملكون لنشر دين الله بين العالمين ..

ولكن الأمر يتطلب سرعة مشاركة الدول والهيئات الإسلامية ذات الإمكانيات الكبيرة بإنشاء مئات المواقع- بكل لغات العالم الأخرى وليست الإنجليزية أو العربية وحدها - وتوفير كل المعلومات الأساسية عن الإسلام بما في ذلك الردود العلمية المقنعة على كل ما يثار حول الإسلام من شبهات؛نظرًا لوجود الآف المواقع المعادية التى تنشر الأباطيل عن الإسلام وتربطه بالإرهاب والخرافات وكل ما ينفر الآخرين منه ..

لقد لاحظ كاتب هذه السطور - من خلال متابعة غرف الدردشة (الشات)الإسلامية بشبكة (ياهو) - قلة عدد الدعاة الذين يجيدون اللغة الإنجليزية وغيرها من اللغات الأجنبية والمؤهلين للرد على ما يثار من أسئلة أو افتراءات على الإسلام .. الأمر الذى يجعلنا نطالب بسرعة إعداد أعداد كافية من العلماء المتخصصين المسلحين بكل أدوات العصر - إجادة لغات أجنبية وكذلك إجادة استخدام الكمبيوتر والتحاور عبر الإنترنت - فضلاً عن الثقافة الإسلامية بالطبع، والدراية بكيفية التحاور مع الآخرين، ومهارات الإقناع بالحكمة والموعظة الحسنة، ومعرفة كل الإجابات الشافية والردود على الأباطيل التى تثيرها وسائل الإعلام الأجنبية لمحاولة تشويه الإسلام في وجدان الآخرين ..

صحيح أن هناك حاليًا كما أشرنا بعض الشباب ممن ألهمهم الله رشدهم ووفقهم لتحقيق إنجازات طيبة عبر الإنترنت،وكان من ثمرات جهدهم المبارك،أنه يعتنق الإسلام على أيديهم يوميًا،عشرات من غير المسلمين، لكن عددهم ما يزال ضئيلاً،وإمكانياتهم محدودة للغاية، إذا قورنت بالجيوش الجرارة من المنصرين ومئات المليارات المخصصة للحرب على الإسلام بوسائل مختلفة .. لذلك تعتبر المشاركة بالمال أو النفس في الدعوة إلى الله في هذا الميدان وغيره من أسمى مراتب الجهاد في سبيل الله،فهو كما وصفه الدكتور يوسف القرضاوى بحق (جهاد العصر).

وما ذكرناه عن الإنترنت يصدق أغلبه أيضًا على القنوات الفضائية ..

ففى الوقت التى يبث فيه الآخرون في مختلف أنحاء العالم مئات - بل آلاف - القنوات الفضائية بكل اللغات لنشر عقائدهم والترويج لثقافتهم وحضاراتهم،وكثير من هذه القنوات يتطاول على الإسلام العظيم ورسوله الأمين صلى الله عليه وسلم .. فإننا في المقابل لا نكاد نجد قنوات إسلامية ترد على هذا التطاول الإجرامى،أو تقدم للآخرين - بلغات أجنبية - كل ما يجب أن نقدمه لهم من معلومات عن ديننا الحنيف وحضارتنا العربية الإسلامية الخالدة!!! إننا نطالب بسرعة بث قنوات فضائية عالمية إسلامية بكل اللغات لسد النقص الخطير في هذا المجال،فالجهاد الإعلامى لا يقل أهمية عن الجهاد في ميادين القتال - بل هو الأهم في أوقات السلم - بدلاًمن التسابق الذى نراه الآن - للأسف الشديد - والتنافس في إنشاء قنوات فضائية تبث العرى والانحلال وتضرب الفضائل في مقتل !!!وكفانا إهدارًا للمال ، وكفانا إفسادًا لشباب وأطفال المسلمين وإهدارًا لأوقاتهم وطاقاتهم في متابعة مواد إعلامية أقل ما يقال فيها - في أحسن الأحوال - أنها غير ذات فائدة على الإطلاق!!!

ونطالب أيضًا بإنشاء إذاعات إسلامية تبث برامجها بلغات العالم الأخرى لنشر مبادئ الإسلام ، وتعريف الآخرين بحضارتنا وقيمنا، والرد على الحملات المضادة .

لابد أيضًا من إنشاء دار نشر إسلامية عالمية تتولى تنشيط حركة طبع وترجمة الكتب والمطبوعات الإسلامية إلىكل لغات العالم بإعتبارها من أهم وسائل التعارف والتواصل مع جميع الأمم والشعوب الأخرى،كما كان الحال في عصر ازدهار الحضارة الإسلامية في الأندلس وبغداد .. وعلى رأس هذه الكتب التى تبرز الحاجة الملحة إلى ترجمتها وطبعها معانى القرآن الكريم وكتب العقيدة والأحاديث الصحيحة والفقه الإسلامى وغيرها من الكنوز الإسلامية .. وما أكثر ما نطالع - عبر الإنترنت وغيره - أناسًا من غير المسلمين يناشدوننا إمدادهم بترجمة لمعانى القرآن الكريم وغيرها من الكتب والمراجع الإسلامية بلغاتهم،لأنهم لا يملكون أية مصادر للتعرف على الإسلام سوى وسائل الإعلام الغربية الحاقدة التى لا هم لها سوى إشاعة الخوف من الدين العظيم وتشويهه على الدوام ..

ملاحظة :(في أعقاب أحداث 11 سبتمبر نفدت ملايين من الكتب التى تتحدث عن الإسلام - إيجابًا أو سلبًا - من المكتبات الأمريكية خلال بضعة أشهر ،والأمر يحتاج إلى إمكانيات هائلة لا وجود لها سوى لدى الدول الإسلامية .

وقد أنعم الله علينا بثروات ضخمة من النفط وغيره،فلا أقل من إنفاق بعضها على وسائل الدعوة إلى الله،وما أعظمها من أوجه للإنفاق في سبيل الله وما أعظم الأجر عليها لمن يوفقه الله إلى ذلك ..

ويلحق بهذا إعداد دائرة معارف إسلامية وموسوعة شاملة بكل اللغات المعروفة،وهو ما يفعله الآخرون لنشر مذاهبهم وعقائدهم وحضارتهم .. فلماذا لا نفعل هذا ونحن أصحاب الدين الحق والحضارة الرائدة ؟!!

كذلك تبدو الحاجة ملحة إلى إصدار صحف ومجلات إسلامية عالمية بلغات مختلفة،لمواجهة الحرب الإعلامية الطاحنة التى يشنها الآخرون علينا،وعرض بضاعتنا النفيسة على الكافة .. ويكفى تخصيص جزء يسير من الميزانيات الضخمة لوزارات الإعلام في الدول العربية والإسلامية لتحقيق هذا الغرض النبيل،بدلاً من الدعاية ذات التوجهات الإقليمية لكل دولة على حدة !!!

وكذلك دعم المساجد والمراكز الإسلامية والثقافية في الخارج وإنشاء المزيد منها، وإنشاء معاهد ومراكز أبحاث إسلامية، وإمدادها بكل الإمكانيات اللازمة لأداء رسالتها العظيمة في التعارف مع الآخرين والتواصل معهم،وتصحيح ما لديهم من مفاهيم خاطئة عن الإسلام والمسلمين،وذلك بإمدادها بكل الكتب المترجمة والمواد السمعية والبصرية التى تشرح الإسلام شرحًا صحيحًا، وبالسبل التى تتلاءم مع أنماط تفكير الأخرين .. ومن الضرورى بالطبع إعداد العاملين بتلك المراكز وتدربيهم على كيفية التحاور والتعامل مع الناس في البلاد التى يعملون بها .. وكما أشار مسئول فرنسى ذات مرة،فإنه ليس من المعقول أن يعمل أئمة مساجد ووعاظ مسلمون في فرنسا وهم لا يعرفون من الفرنسية كلمة واحدة،فضلاً عن جهلهم التام بالبيئة هناك وعادات وتقاليد الفرنسيين !! وما ذكره المسئول الفرنسى ينطبق أيضًا على كثير من الدعاة والأئمة في بلدان أجنبية أخرى .. إنه لا مفر أمام من يريد العمل في حقل الدعوة بالخارج من إتقان لغة البلد الذى سيعمل به، والإلمام بكل المعلومات الضرورية عن المجتمع الذى سيعيش فيه ويدعو أبناءه إلى الإسلام .. ومرة أخرى نشير إلى التفاوت الهائل بين إمكانيات المراكز الإسلامية والثقافية في الخارج - وهى ضئيلة جدًا - وإمكانيات مراكز وبعثات التنصير مثلاً التى يرصدون لها أرقاماً فلكية - عشرات المليارات من الدولارات سنويًا - وبطبيعة الحال فإننا نظلم العاملين بهذه المراكز الإسلامية إن طالبناهم بمجاراة الآخرين في ظل هذه الظروف، فالمعركة نظريًا غير متكافئة .. ومع ذلك فإنه بفضل الله وحده،ينتشر الإسلام بقوة دفع ذاتية عظيمة .. ويعجز المنصرون عن تحقيق معشار ما يحققه الإسلام من انتشار عظيم رغم كل ما ينفقون من أموال هائلة .. (والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون) يوسف:21 .

وكذلك ينبغى تفعيل دور الملحقيات الثقافية والدينية في سفارات الدول العربية والإسلامية بالخارج، وجعلها حلقة تواصل وحوار مع الناس في الدول التى توجد بها هذه السفارات .. إذ إنه ليس من المعقول أن تنفق عشرات بل مئات الملايين على هذه الملحقيات سنويًا بغير عمل يُذكر-اللهم إلا إصدار نشرات دعائية للحكومات والمشاركة في استقبال ووداع كبار المسئولين القادمين لزيارة تلك البلدان في المطارات وإقامة حفلات التكريم لهم - إننا نطالب بتجاوز الشئون الإقليمية المحلية لكل بلد على حدة، فالتحديات القائمة والحملات المسعورة موجهة ضد الجميع،ومن البديهى أن يكون الدفاع ضدها مشتركًا، والتخطيط والتنسيق والتوجيه موحدًا أيضًا .. وليتنا ندع صراعاتنا وانقساماتنا ومشاكلنا الداخلية جانبًا لنتحاور مع الآخرين كجبهة موحدة تعمل فقط من أجل الإسلام ..

إن الآخر لن يحترمنا ولن يقيم لنا وزنًا إن تعاملنا معه فرادى - مفككين ومتطاحنين - وكما سأل أحد خصوم الإسلام كاتب هذه السطور ذات مرة - في حوار عبر الإنترنت - : أى إسلام تريدون منا أن نتبعه،أهو الوهابية السعودية أم الشيعية الخومينية أم الصوفية أم .... إلخ ؟!!! بطبيعة الحال كان الجواب هو: أن الله واحد، والإسلام واحد، والقرآن الكريم كتاب واحد،والكل مسلمون على إختلاف المذاهب والبلدان والحكومات ..والإسلام العظيم حجة على الجميع ولا أحد حجة على الإسلام .. فالمنهج كامل شامل لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه،ولكن أخطاء البشر هى التى تسبب هذه المشاكل والصراعات والإنقسامات، وليس من المنطقى أن يتحمل الإسلام - عقيدة وشريعة - المسئولية عن أية انحرافات أو أخطاء بشرية ناجمة عن الخروج على أحكامه .. انتهت الإجابة .. لكن يبدو لى أيضًا أننا بحاجة إلى حوار داخل البيت الإسلامى أولاً قبل أن نخرج للتحاور مع الآخرين .. أليس كذلك ؟!!

وهناك الدور الهام الذى يمكن للمبعوثين للدارسة بالخارج والقادمين من الخارج للدارسة بجامعاتنا القيام به لدعم الحوار والتفاهم والتبادل الحضارى بين الجانبين .

بهذا الصدد نطالب بزيادة المنح الدراسية لغير المسلمين للدراسة بالجامعات الإسلامية في بلادنا لمنحهم الفرصة كاملة للإطلاع على حضارتنا وديننا وتعلم لغتنا،فبذلك نكسب أنصارًا جددًا لنا هناك .. إذ أن هؤلاء سوف يتأثرون قطعًا بما درسوه، وبمعايشتهم للمسلمين هنا، وسوف يتحول أغلبهم - حتى ولو لم يعتنقوا الإسلام - إلى محامين بارعين يتصدون للحملات المعادية لنا في بلادهم، ويتعاملون مع خصومنا بذات أساليبهم - باعتبارهم جزءًا من المجتمع - فهم أقدر منا وأكثر خبرة في التصدى لهؤلاء،وإجهاض مخططاتهم ضد ديننا وحضارتنا ..

كذلك يتعين الإعداد الجيد للمبعوثين العرب والمسلمين إلى الخارج قبل سفرهم - حتى ذوو التخصصات العلمية البحتة ينبغى تزويدهم بجرعات كافية من الثقافة الإسلامية - ليتمكنوا من التحاور مع الآخرين والتواصل معهم عن علم ودراية، وأيضًا لنحميهم من الذوبان في المؤثرات الثقافية والحضارية المغايرة لثقافتنا وحضارتنا ..

ومن المؤلم جدًا أن كثيرًا من أبنائنا المبعوثين للخارج رغم تفوقهم في تخصصاتهم - كالطب والهندسة والكيمياء - فإن الحصيلة الثقافية الإسلامية لديهم متواضعة للغاية،ولهذا يعجزون عن التحاور مع الآخرين،ولا يحسنون تقديم إجابات صحيحة عن الإسئلة المحرجة التى يوجهها إليهم الجيران الأجانب في المسكن أو الزملاء في الجامعة عن الإسلام والمسلمين !!! والأكثر إيلامًا أن بعضهم لا يلتزم في حياته وسلوكياته بما ينبغى أن يكون عليه المسلم ليجد الآخرون فيه القدوة والمثال الطيب للمسلم !!!

وليت هؤلاء يتذكرون إن أسلافهم العظام - من التجار المسلمين وغيرهم -نشروا الإسلام في معظم أنحاء آسيا وأفريقيا بالقدوة الحسنة فقط لا غير، إذ كانوا قرآناً يمشى على الأرض فأحب الآخرون دينهم وأقبلوا عليه ..

ومن السبل الجيدة للتحاور والتواصل مع الأخرين إقامة المؤتمرات والندوات الإسلامية الدولية .. على ألا يقتصر الحضور والمشاركة فيها على كبار المفكرين والعلماء من المسلمين وحدهم .. فيجب لكى تتحقق الأهداف المرجوة منها أن يُدعى إليها الكُتاب والمفكرون والإعلاميون المنصفون من غير المسلمين - وعددهم ليس بالقليل - وكذلك مشاهير الغرب من علماء ومفكرين ونجوم في شتى المجالات ممن اعتنقوا الإسلام،فهؤلاء يشكلون واحدة من أهم وسائط الحوار والتواصل مع مجتمعاتهم،وتأثيرهم هناك أفضل بكثير من غيرهم،لأنهم أدرى بمجتمعاتهم ومواطنيهم،وأقدر على التفاهم معهم بذات السبل والأساليب والمناهج الفكرية والإعلامية السائدة هناك .. وعلى سبيل المثال فإن الشعب الفرنسى يعلم جيدًا من هو الدكتور رجاء جارودى - الفيلسوف الذى أسلم وتحول إلى مفكر إسلامى بارز - والملايين هناك يقرأون كتبه ومقالاته ويتأثرون بها - والفرنسيون يعلمون أيضًا من هو الدكتور موريس بوكاى - العالم والطبيب والجراح الفرنسى الشهير الذى تحول للإسلام بعد دراسة عميقة - وقراء كتبه بالملايين .. إذن تأثير مثل هذين في فرنسا يبلغ أضعاف تأثير فريق كامل من الدعاة العرب . ولهذا تجب الاستعانة بأمثال هذين العملاقين وكذلك بالمنصفين من مفكرى الغرب غير المسلمين،فتأثيرهم هائل لأن ما يقولونه هو شهادة نجوم من الغرب وليسوا عربًا ولا مسلمين، وهى أقوى نفوذًا وتأثيرًا هناك بالقطع ..

نشير أيضًا إلى المطرب العالمى كات ستيفن الذى اعتنق الإسلام وتحول إلى داعية إسلامى كبير في بريطانيا، وأسس دارًا للتعليم والدعوة في لندن، وقد اعتنق الإسلام على يديه مئات من الأوروبيين .. وكذلك الدكتور مراد هوفمان المفكر والسفير الألمانى الشهير الذى إعتنق الإسلام و كتب العديد من المؤلفات القيمة دفاعاً عن الإسلام والمسلمين .

نرى أيضًا ضرورة إنشاء هيئة عالمية للحوار مع غير المسلمين وفى اعتقادنا أنه لابد أن تتمتع هذه الهيئة بالاستقلال عن جميع الحكومات والتيارات والجماعات السياسية كى نضمن لها الحرية والحياد المناسبين لأداء دورها المهم فى إدارة الحوار مع الآخر والتعريف بالإسلام والحضارة الإسلامية وتحقيق وظيفة التبادل الحضارى مع الآخرين بدون أية مؤثرات سياسية أو إقليمية أو أيديولوجية من أية جهة .. ويمكن أن تكون إحدى العواصم الأوروبية الكبرى مقرًا لهذه الهيئة ، وينبغى أن تضم فى عضويتها عددًا كافيًا من العلماء المؤهلين جيدًا وخبراء فى التحاور مع الشعوب الأخرى بلغات مختلفة ، وتستخدم فى أعمالها كافة وسائل الإعلام والتواصل بكل تقنيات العصر الحديث .

إنشاء عدد من الجامعات والمعاهد والمدارس الإسلامية فى كل العواصم الكبرى بالخارج لتدريس العلوم الإسلامية لأبناء الجاليات الإسلامية هناك ، وأيضًا لتعريف الآخرين بالثقافة الإسلامية وتدريس مفاهيم الإسلام الصحيح لهم.. وكذلك دعم أقسام الدراسات الإسلامية واللغة العربية وإنشاء المزيد منها بشتى الجامعات العالمية الكبرى ، بشرط مهم هو تنقية مناهج الدراسة بتلك الأقسام من كل المعلومات الخاطئة المضللة عن الإسلام ، وأن يكون الإشراف عليها لعلماء مسلمين يكون لهم حق إلغاء أية مواد أو معلومات لا تتفق والمفاهيم الإسلامية الصحيحة .

دعم المنصفين من المفكرين والإعلاميين والساسة الغربيين المناصرين للإسلام والمسلمين ماديًا وأدبيًا من خلال بند (المؤلفة قلوبهم) فى مصارف الزكاة، فنحن نرى أن هؤلاء المنصفين للإسلام وأهله تنطبق عليهم شروط استحقاق الأخذ من الزكاة تحت هذا البند ، لما لهم من دور عظيم وضرورى فى مواجهة الحملات المسعورة ضد الإسلام والمسلمين . ولمن شاء أن يرجع إلى كتب السيرة العطرة ، ليجد أن النبى صلى الله عليه وسلم أعطى رجالاً من قريش من غنائم غزوة حنين أموالاً طائلة ليؤلف قلوبهم ، وترك الأنصار ثقة فى قوة إيمانهم وسماحة نفوسهم (سيرة ابن هشام - فقه السيرة للغزالى - الرحيق المختوم للمباركفورى) .

ألا هل بلغت .. اللهم فاشهد ..

وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين

===============

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

الفهرس العام

الباب السابع 1

الحضارة الإسلامية  وأسباب سقوطها وعوامل النهوض بها (2)   1

#ماذا يريدون من الإسلام؟   1

#الأوقاف وأثرها في دعم الأعمال الخيرية في المجتمع 10

#انهزام داخلي.. داء ودواء!   24

# التقنية والعمل الدعوي ضرورة شرعية ملحة   28

#التغريب في ديار الإسلام    40

# د.شوقي أبو خليل فارس فكر ورحّالة تاريخ   46

#منهج المحدِّثين بين نظرية المنهج وتاريخ العلوم  49

# فن الاتصال والحضارة الإسلامية  58

#سبل التقدم العلمي والتقني في البلاد الإسلامية 69

# حقيقة العلمانيين العرب 97

#{ وقل اعملوا .. }  100

#الاستشراق ومكانته بين المذاهب الفكرية المعاصرة 105

#الدولة الأموية نموذجا لتشويه التاريخ الإسلامي  120

#العلمانية 122

#أمة في خطر مداخلة عن مناهج التعليم في الوطن العربي 130

#أسرار وراء كلام البابا عن الإسلام ونبيّه   136

#الابتعاث ومخاطره 141

#اعترافات الدكتور محمد عماره .. !    168

#الأمة بين الإفراط والتفريط 174

#لماذا البراء من الكفار   177

#وإذا لم يعتذر البابا..فكان ماذا ؟.    180

#عبير نورة 187

#هل حصل انحطاط في الحضارة الإسلامية ؟  191

#هكذا أسلمنا – (1) 193

#هكذا أسلمنا – (2) 198

#الجزية في الإسلام 201

# لماذا تقدم الغرب ؟ ، ولماذا تأخرنا ؟ !!..  215

#معايير النصر 220

# قراءةٌ نقديةٌ لبحث سعود السرحان:    223

#الإسلام والغرب شقاق أم وفاق  259

#أيصبح العدو اللدود صديقاً حميماً!    338

#ظاهرة الإساءة للنبي _صلى الله عليه وسلم_ وشريعته في الغرب 364

#نظرية الأوتار الفائقة ... سبقناهم !    399

#ضعف شخصية النسوان ..! لعدم مخالطة الرجال والفتيان ..!!    401

#رحمة النبي صلى الله عليه وسلم بذوي الاحتياجات الخاصة 406

#العلمانية (أسباب ظهورها ،آثارها ,عوامل انتقالها إلى العالم الإسلامي ,أبرز دعاتها)  415

#الشخصية الإسلامية... الناجحة إداريًّا    441

# إما الخنوع والسلبية والاتباع للغير    462

#اللغة العربية التحديات والمواجهة    464

# النهضة.. من الصحوة إلى اليقظة    497

#فلسطين ألم وأمل   653

#رسالة إلى المعلم المسلم    660

#دعوة إلى العودة    666

#العِلْمُ وَالثَّقَافَةُ بَيْنَ الفَهْمِ الحَقِيقِيِّ وَالتَّضْلِيلِ المُتَعَمَّدِ 666

#كيف تسللت الليبرالية إلى العالم الإسلامي ؟   673

#طهارة السلاح   725

#صورٌ من سماحة الإسلام   728

#حينما تتوحد رؤية السياسي ورؤية الفقيه   736

#جودة الهدف والمضمون في البرامج الترفيهية *  738

#الشيء من معدنه لا يُستغرب 742

#هل تريد أن تكون سعيدا؟   744

# " بئس بيت مطبخه أكبر من مكتبته "    757

#تبدل الأحوال ! (1)    759

# لماذا فشلت الليبرالية العربيَّة ونجحت الليبرالية الغربية؟ 761

#أصداءُ كَلِمَة   768

#الهجمة الشرسة على التعليم (1)    770

#الرأسمالية ليست نهاية التاريخ  779

#حضارتنا تتحدّث 781

#قضاة زينوا ساحات القضاء   782

#بناء ثقافتنا والحفاظ عليها 788

#اعترافات متأخرة   791

#التسلل إلى نقد الشرعية الإسلامية العليا 822

#حضارة الإسلام  839

#سراييفو .. حضارة أخيرة!؟  843

#أي حضارة نريد؟! 844

#حضارة الإسلام دعامة أساسية في الحضارة الأوربية 845

#القدس بين حضارة التدمير وحضارة التعمير 851

#حضارة العرب في صقلية وأثرها في النهضة الأوروبية 855

#حضارة في طريق الانحلال 863

#سقوط حضارة   884

#المسلمون وضرورة الوعي التاريخي    918

#ابن خلدون: محاولة في المنهجية الإسلامية 956

#حوار مع المستشرق المنصف[1]    982

#طريق السعادة في القرآن الكريم 1009

#غير المسلمين في المجتمع المسلم    1018

#موتوا بغيظكم يا عُباد الصليب   1062

# " طاش ؟ طاش "{ اسْتَهْزِؤُواْ إِنَّ اللّهَ مُخْرِجٌ مَّا تَحْذَرُونَ } 1084

#دليل العقول الحائرة في كشف المذاهب المعاصرة 1106

#نقد الفكر الاعتزاليّ " الليبرالي" السعودي )   1153

#الإسلام والآخر الحوار هو الحل 1215 . 

 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

حمل القران بصغتيه

 حمل القران الكريم وورد وPDF.