حمل القران

 حمل القران وورد وPDF.

القرآن الكريم وورد word doc icon تحميل سورة العاديات مكتوبة pdf

الأحد، 2 أكتوبر 2022

ج7.الحضارة الإسلامية بين أصالة الماضي وآمال المستقبل جمع وإعداد الباحث في القرآن والسنة علي بن نايف الشحود

 

 

 

ج7.الحضارة الإسلامية بين أصالة الماضي وآمال المستقبل

(7)

الباب السابع

الحضارة الإسلامية  وأسباب سقوطها وعوامل النهوض بها

(3)

 

 

جمع وإعداد الباحث في القرآن والسنة علي بن نايف الشحود  

الباب السابع

الحضارة الإسلامية  وأسباب سقوطها وعوامل النهوض بها (3)

 

 

#القراءة منهج حياة

الدكتور / راغب السر جاني

www.islamstory.com

القراءة منهج حياة

إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستهديه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، إنه من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله..

أما بعد..

فكثيرًا ما نسمع بعض الناس يسأل: ما هي هوايتك؟

ونلاحظ الاختلاف الواضح في الإجابة، فأحد الناس يقول: إن هوايتي السباحة، بينما يجيب الآخر: هوايتي صيد الأسماك، ويخبر ثالث عن نفسه فيقول: وأنا هوايتي السفر والترحال... كل إنسان يخبر عن هوايته، وربما تكون هذه الهواية مختلفة عن غيره من الناس، لكن بعض الناس يخبرك عن هوايته قائلاً: "وأنا هوايتي القراءة!!"

وهذا ما أستغرب له كثيرًا، أن يقول إنسان ما :"أنا هوايتي القراءة"...

هل يصح أن يقول أحد: "هوايتي شرب الماء" مثلاً؟!! إن كل الناس يشربون الماء؛ فهذه ليست هواية، وإنما هي ضرورة، كذلك لا يصح أن يقول إنسان: "إن هوايتي الأكل!" لماذا؟ لأن الأكل ضرورة وليس هواية، فكل الناس يجوعون ولا بد أن يأكلوا، ربما تفضل طعامًا على آخر.. لك هذا، لكن أن تمتنع عن الطعام أو عن النوم أو عن التنفس فهذا يؤدي بك - ولا شك - إلى الهلاك؛ لأن كل هذه الأشياء من الضروريات لحياة أي إنسان.

وأنا أرى أيضًا أن أي إنسان لا بد له من القراءة..

يجب أن تقرأ ليس كتابًا أو اثنين فقط، وليس يومًا في الأسبوع أو شهرًا في السنة فحسب.. ولكن يجب أن تكون القراءة هي "منهج حياتك"...

لا يمر عليك يوم دون أن تقرأ... وليس المقصود أي قراءة...بل القراءة المفيدة النافعة.. القراءة التي تبني ولا تهدم، وتصلح ولا تفسد...

فالقراءة إذن - يا إخواني - ليست هواية... فمن غير المناسب أن نسمع من يقول: أنا لا أحب القراءة، أو: لست متعودًا عليها، أو: أملّ سريعًا منها، فهذا مثل من يقول: أنا أملّ الأكل؛ لذلك فلن آكل!!

وإذا تأملت بعض مواقف السيرة النبوية، تجد اهتمامًا كبيرًا جدًا بقضية القراءة. ومن ثَم فلن تجد غرابة في قولي: إن القراءة ليست مجرد هواية، وإنما هي بالفعل: منهج حياة...

فعلى سبيل المثال، أريدك أن تتدبر موقف النزول الأول لجبريل عليه السلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم، أليس مما يدعو للتفكير هذه الكلمة العظيمة التي بدأ بها الوحي على الرسول صلى الله عليه وسلم "اقرأ"؟! كان من الممكن أن يبدأ الوحي بأي كلمة أخرى غيرها، لكن هذا القرآن الذي استمرّ نزوله ثلاثًا وعشرين سنة بدأ بهذه الكلمة: "اقرأ"!

ومع أن النبي صلى الله عليه وسلم أمّيٌّ لا يقرأ... إلا أن هذه الكلمة توجَّه له وهو لا يعرف القراءة!.. مع أنه - صلى الله عليه وسلم - يتحلّى بآلاف الفضائل الحميدة والخصال الكريمة التي كان من الممكن أن يبدأ القرآن الكريم بالحديث عنها؛ لكن الوحي بدأ خطابه لخاتم الرسل بأمر صريح مباشر, مختصر في كلمة واحدة تحمل منهج حياة أمة الإسلام.. "اقرأ"..

ولأن الرسول صلى الله عليه وسلم لا يعرف كيف يقرأ, ولا ماذا يقرأ.. فقد ردَّ بوضوح: ما أنا بقارئ.. وظن أن هذه الكلمة كافية لأن يبدأ جبريل عليه السلام الكلام في موضوع آخر، أو أن يوضح المقصود الذي يريده.. لكن جبريل عليه السلام يضم رسول الله صلى الله عليه وسلم ضمة شديدة قوية حتى بلغ الجهد منه صلى الله عليه وسلم, ثم يعيد عليه الأمر المختصر: اقرأ..

ولم يزد جبريل عليه السلام في هذا الموقف على هذه الكلمة، والرسول صلى الله عليه وسلم لا يعرف ماذا يريد ولا ماذا يقصد.. بل لا يعرف من هو.. وكيف جاء إلى هذا المكان؟! إنه - صلى الله عليه وسلم - لا يرى أمامه إلا شخصًا غريبًا، يؤكد على معنى واحد لا يتعداه "اقرأ"... فقال صلى الله عليه وسلم للمرة الثانية: ما أنا بقارئ.. ويعود جبريل عليه السلام لنفس الفعل الشديد.. يضم الرسول صلى الله عليه وسلم ضمة قوية حتى يبلغ منه الجهد ثم قال له للمرة الثالثة: اقرأ.. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما أنا بقارئ..

هنا يضمه جبريل للمرة الثالثة ثم يرسله ويقول له:

"اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ {1} خَلَقَ الْإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ {2} اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ {3} الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ {4} عَلَّمَ الْإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ {5}"

كل ذلك قبل أن يقول جبريل عليه السلام للنبي صلى الله عليه وسلم إنه ملك مرسل من رب العالمين، وأنه - أي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم - رسول الله، وإن هذا هو القرآن.. وقبل أن يقول له إن هذا الدين الجديد هو الإسلام...قبل هذا كله يقول له وبصيغة الأمر"اقرأ".

ألا يحمل ذلك إشارة لأمة الإسلام؟!

هل يُعقل أن تكون أولى كلمات القرآن نزولاً إلى الأرض كلمة تتحدث عن هواية قد يحبها البعض وقد ينفر أو يملّ منها البعض الآخر؟

إن القرآن يزيد على سبع وسبعين ألف كلمة، ومن بين كل هذا السيل من الكلمات كانت كلمة "اقرأ" هي الأولى في النزول...

كما أن في القرآن آلافًا من الأوامر: أقم الصلاة.. آتوا الزكاة.. وجاهدوا في سبيل الله.. وأْمر بالمعروف.. انه عن المنكر.. اصبر على ما أصابك.. أنفقوا مما رزقناكم.. توبوا إلى الله... وغيرها الكثير في القرآن الكريم.. ومن بين كل هذه الأوامر.. نزل الأمر الأول: اقرأ..

ولم يتوقف الأمر عند حدود الكلمة الأولى.. بل إن الآيات الخمس الأولى من القرآن الكريم تتكلم كلها عن موضوع القراءة، وتكررت فيها كلمة "اقرأ" مرتين...

"اقرأ باسم ربك الذي خلق، خلق الإنسان من علق"... وبعد ذلك: "اقرأ وربك الأكرم".. ثم يقول: "الذي علم بالقلم".. ويذكر القلم بالتحديد حتى يبقى الأمر واضحًا غاية الوضوح أن المقصود هو القراءة للشيء المكتوب بالقلم، دون أي كناية أو احتمالات مجازية.

ويمكننا بعد ذلك أن نسأل: لماذا نقرأ؟ وهل القراءة وسيلة أم غاية؟

القراءة وسيلة، ونحن نقرأ لكي نتعلم، وقد وضح الله عز وجل هذا في الآيات الخمس الأولى من القرآن الكريم، قال تعالى:"..اقرأ وربك الأكرم الذي علم بالقلم.. علم الإنسان ما لم يعلم"

ومع أن العلم غاية القراءة.. إلا أن الله عزَّ وجل لم يبدأ القرآن بكلمة: "تعلم". ولكن حدد: اقرأ..

لا شك أنه توجد وسائل كثيرة للتعلم مثل السماع والرؤية والخبرة والتجربة... لكن تبقى الوسيلة الأعظم في التعلم هي "القراءة"، وكأن الله عز وجل يعلمنا أنه مهما تعددت وسائل التعليم فلا بد لنا من "القراءة".

والله عز وجل يحدد لنا في هذه الآيات الخمس ضابطين هامين للقراءة:

الأول: قال تعالى: "اقرأ باسم ربك الذي خلق"... فلابد أن تكون القراءة بسم الله، ولا يجوز أن نقرأ ما يغضب الله.. أو ما نهى الله عز وجل عن قراءته.. إنما القراءة لله عز وجل.. القراءة على منهج الله عز وجل.. القراءة لنفع الأرض والبشر.. ولخير الدنيا والآخرة.. أما القراءة التافهة أو المنحرفة أو الضالة أو المضلة فهذه ليست القراءة التي أمر الله عز وجل بها في قوله: "اقرأ باسم ربك الذي خلق..."

هذا ضابط هام...

الضابط الآخر: هو ألا تخرجك القراءة ولا العلم عن تواضعك.. فلا تتكبر بالعلم الذي علمت.. بل تذكَّر على الدوام أن الله عز وجل هو الذي منّ عليك به.. "اقرأ وربك الأكرم.. الذي علم بالقلم" هو الذي.. "علم الإنسان ما لم يعلم".. هذا المعنى لا يجب أن يغيب أبداً عن ذهن القارئ أو المتعلم.. مهما وصل إلى أعلى درجات العلم في زمانه.. فليعلم أن الله عز وجل هو الذي علمه..

يقول تعالى: "واتقوا الله.. ويعلمكم الله"..

ويقول: "وما أوتيتم من العلم إلا قليلاً"..

فلا تتكبر بما تعرف على من لا يعرف.

فأوائل الوحي ترسم لنا منهاجًا قويمًا في طلب العلم والانتفاع به: لابد من الاعتراف بأن نعمة العلم من الله.. ولابد – كذلك – من توجيه طاقة العلم والقراءة وجهة يرضاها الله.

إذا قلبنا هذه الصفحة من السيرة رأينا موقفًا آخر رائعًا وغريبًا جداً على الزمن الذي حدث فيه، وعلى غيره من الأزمنة.. حتى زماننا!

إنه موقف فداء الأسرى في بدر...

كان الرسول صلى الله عليه وسلم يطلب من الأسير المشرك الذي يريد فداء نفسه من الأسر تعليم عشرة من المسلمين القراءة والكتابة!! هذا شيء غريب جداً.. وخاصة في ذلك الزمن الذي انتشرت فيه الأمية...

لكن القراءة والكتابة والتعلم احتياجات ضرورية لأي أمة تريد النهوض والتقدم والرقي..

وإذا نظرنا إلى حال المسلمين أيام بدر وجدناهم في حاجة إلى الأموال وفي حاجة إلى الاحتفاظ بالأسرى للضغط على قريش، أو الاحتفاظ بهم لتبادل الأسرى إذا أسر مسلم، لكن الرسول صلى الله عليه وسلم يفكر فيما هو أهم من ذلك كله، وهو أن يعلم المسلمين القراءة... كانت هذه نقطة هامة في فكر النبي صلى الله عليه وسلم وهو يبني أمة الإسلام بناءً متكاملاً.. حتى أن الصحابي الذي يستطيع القراءة كان يُقدَّم على أصحابه.. انظر إلى زيد بن ثابت رضى الله عنه الذي قُدم على كثير من الصحابة، وصار ملاصقاً للرسول صلى الله عليه وسلم بصفة شبه دائمة لأنه يُتقن القراءة والكتابة.. فصار كاتبًا للوحي، وكاتبًا للرسائل ومترجما للسريانية والعبرية.. كل ذلك بينما كان عمره ثلاثة عشر عامًا فقط!!

وكلنا يعرف أبا هريرة رضي الله عنه كيف كان حفظه، كان أكثر الصحابة حفظًا لأحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، لننظر ماذا قال عن نفسه كما جاء في البخاري: "مَا مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَحَدٌ أَكْثَرَ حَدِيثًا عَنْهُ مِنِّي"

ومع هذا الدرجة فهو يرفع فوقه عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما.. لماذا؟

لأنه يقرأ.. ويكتب.. يقول أبو هريرة رضي الله عنه: " إِلَّا مَا كَانَ مِنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو.. فَإِنَّهُ كَانَ يَكْتُبُ وَلَا أَكْتُبُ".

لهذه المواقف – ولغيرها - غُرس حب القراءة في قلوب المسلمين، وكانت المكتبات الإسلامية في التاريخ الإسلامي من أعظم مكتبات العالم، بل أعظمها على الإطلاق ولقرون طويلة: مكتبات بغداد وقرطبه وإشبيلية وغرناطة والقاهرة ودمشق وطرابلس والمدينة والقدس.... تاريخ طويل جداً من الثقافة والحضارة والعلم..

هذه هي قيمة القراءة في الميزان الإسلامي..

وهذه هي قيمة القراءة في تاريخ المسلمين..

ومع كل هذا التاريخ وكل هذه القيمة إلا أن أمة الإسلام – للأسف الشديد – تعانى اليوم من أمية شديدة!!.. انتكاسة حقيقية في أمة القرآن..انتكاسة في الأمة التي كانت ولا زالت أول كلمة في دستورها: "اقرأ"!!

إن نسبة الأمية التامة - عدم القراءة أو الكتابة أصلاً - في الشعوب المسلمة تصل إلى

37%...!!!

ومع هذه الأمية الشديدة إلا أن العالم الإسلامي يُنفق على التعليم أقل من 4 % من الناتج القومي الإجمالي.. وهذا يعني أن الموضوع ليس في بؤرة الاهتمام، وهذه مشكلة خطيرة وتحتاج إلى وقفة.

وهذه النسبة المذكورة (37%) هي الأمية الواضحة.

لكن هناك درجات كثيرة من الأمية غير المباشرة تنتشر في الأمة غير هذه الأميّة...

درجات من الأمية موجودة عند أناس يعرفون القراءة والكتابة جيدًا، بل ربما يكونون قد أنهوا دراساتهم الجامعية، أناس ربما يكون لهم تاريخ طويل في القراءة والكتابة، لكنهم لا يعرفون أشياء كثيرة في غاية الأهمية تحدث في دنيا الناس...

هناك آخرون عندهم أمّية دينية...

ربما تجد أستاذًا في الجامعة، أو طبيبًا كبيرًا، أو محاميًا على درجة عالية من التميّز في تخصصه، ومع هذا فلا علم له بالأساسيات التي يقوم عليه دينه.

هذا أستاذ في الجامعة - بعدما عاد من العمرة - يسأل أحد زملائه: ماذا نقول في التشهد؟! هل نقرأ الفاتحة؟!! هذا أستاذ في الجامعة!!!..

وهذه أستاذة في الجامعة أيضًا تقول إنها تصلى مع زوجها في المنزل صلاة الجماعة؛ فمرةً يؤمها في الصلاة، ومرة تؤمّه هي!!!

يحدث هذا في الصلاة، التي هي عماد الدين!! فما بالنا بغير ذلك من الأمور؟! حقًا.. إنها أمية فاضحة...

أقيمت مسابقة بين الشباب الجامعي كان أحد الأسئلة فيها عن ترتيب الخلفاء الأربعة: مَن الأول؟ ومَن الثاني؟....، وللأسف.. لم يعرف أحد من الشباب (الجامعي) الإجابة!!

البعض الآخر لديهم أمية سياسية؛ لا يعرف ماذا يحدث حوله في دنيا الناس، وكيف تسير الأمور.. لا يعرف ما يحدث في فلسطين والعراق، ولا ما يحدث في أمريكا وأوروبا... بل إنه لا يعرف ما يحدث في بلده!

ومن الناس من لديه أمية في القانون، لا يعرف ما هي حقوقه، وما هي واجباته...

وعلى ذلك فقس كل العلوم...

الناس اليوم لا يقرءون مجرد القراءات التي تكفل لهم حياة سليمة، فضلًا عن تحصيل العلم, والقراءة المتخصصة، والثقافة العليا...

وهذه ردة حضارية خطيرة!..

إن مفتاح قيام هذه الأمة هو كلمة: "اقرأ"...

لا يمكن أن تقوم الأمة من غير قراءة...

لهذا كان أحد المسئولين اليهود يقول: "نحن لا نخشى أمة العرب؛ لأن أمة العرب أمة لا تقرأ".. وصدق اليهودي وهو كذوب؛ فالأمة التي لا تقرأ أمة غير مهيبة ولا مرهوبة...

وهناك مشكلة أخرى، وهي أن الكثير من الشباب الذين يقضون وقتًا كبيرًا في القراءة، لا يحسنون اختيار المادة التي يقرءونها... فمنهم من يضيّع الساعات كل يوم في قراءة عشرات الصفحات من أخبار الرياضة، أو أخبار الفن، أو قراءة القصص العاطفية والروايات الغرامية والألغاز البوليسية... هم بالفعل يقرءون حروفًا وكلمات كثيرة لكن دون جدوى، وتمر الساعات والأيام والشهور والسنين... وماذا بعد كل هذه القراءات؟؟ لا شيء!!

وهذا أمر في غاية الخطورة؛ فإذا كان للقراءة هذه الأهمية الكبرى؛ فإن المادة التي يجب أن نقرأها هي أيضًا من الأهمية بمكان...

إذن فلدينا مشكلتان رئيسيتان:

الأولى: أن بعض الناس لم يتعودوا على القراءة، ويملّون سريعًا، وكلما علت همتهم وبدءوا في القراءة عادوا من جديد إلى الكسل والخمول، وهؤلاء في حاجة إلى وسائل تعينهم على القراءة وعلى الاستمرار فيها...

أما المشكلة الثانية: فهي أن بعض الناس يقرءون فعلاً، وينفقون أوقاتًا طويلة في القراءة، ولكنهم لا يقرءون لهدف معيّن، ولا يعرفون ماذا يقرءون لتصبح قراءتهم نافعة ومفيدة، وهؤلاء في انتظار حسن التوجيه إلى الموضوعات الأكثر نفعًا وفائدة..

وسنحاول معًا في السطور القادمة الإجابة عن هذين السؤالين.. والله المستعان.

كيف أحب القراءة؟!

هناك عشر وسائل هامة يعينك الله بها على حب القراءة:

الوسيلة الأولى, وهي أهم الوسائل على الإطلاق: استحضار النية..

ما هو هدفك من القراءة؟ ولماذا تقرأ؟

أنا أقرأ لأن الله عز وجل أمرني بالقراءة، وقال لي ولكل المسلمين بصيغة الأمر المباشر: "اقرأ"... ولذلك فقراءتي طاعة لربي...

أقرأ لأنفع نفسي في الدنيا والآخرة؛ فلا فلاح في الدنيا بغير العلم، ولا فلاح في الآخرة بغير العلم أيضًا...

أقرأ لأنفع من حولي: أمي وأبي وأولادي وإخواني وأخواتي وأقاربي وأصحابي, ومن أعرف, ومن لا أعرف.. وأصبح كحامل المسك لا يجاوره أحد إلا انتفع بشم رائحته العطرة...

أقرأ - أيضًا - لأنفع أمتي... لأن الأمة التي لا تقرأ - كما سبق أن أشرت - أمة غير مرهوبة، أمة متخلفة عن الركب، متبعة لغيرها، ولهذا فأنا أقرأ لأجعل أمتي في مقدمة الأمم...

إنك بالقراءة يا أخي تُرضي رب العالمين، وتنفع نفسك، وتنفع من تحب، تنفع أمتك أيضًا... لا شك أن هذه الدوافع العظيمة تُشعل حماستك للقراءة...

وطالما كانت في ذهنك دائمًا هذه النية فلن تغيب عنك الضوابط التي ذُكرت في صدر سورة العلق؛ فأنت تقرأ باسم الله.. فلا بد أن تكون قراءتك على هذا المستوى، وأنت أيضًا لا تتكبر بقراءتك وعلمك.. لأنك تعلم أن الله عز وجل هو الذي منّ عليك بهذه المنة وهذا الفضل..

فهذه أولى وأهم الوسائل المعينة على القراءة: استحضار النية وتحديد الهدف، وبالحرص على هذه الوسيلة تتحقق لك أشياء في غاية الأهمية، منها أنك تحصل على الأجر والثواب لكل ما تقرأ من العلوم النافعة، ويكون لك بكل حرف تقرؤه حسنة، ولأن للمعلومة التي تقرؤها هدفًا نبيلاً سيتم ترسيخها في ذهنك جيدًا، أيضًا ستستمتع بكل ما تقرؤه استمتاعًا حقيقيًا.. ليس بالعلوم الشرعية فحسب, بل بكل العلوم؛ فالقارئ في السياسة سيستمتع بما يقرأ، وقارئ التاريخ، والقارئ في الاقتصاد كذلك سيستمتع كل منهما أيضًا بقراءته...

كذلك الطلاب سيستمتعون بمذاكرتهم، وسوف تختفي مشاكل الآباء والمدرسين مع الأبناء والطلاب، فبدلاً من أن يضغط الآباء والمدرسون على الطلاب.. عليهم أن يوجهوهم الوجهة الصحيحة نحو تجديد النية وتحديد الهدف، حتى لا تضيع الأيام والشهور والسنوات؛ فيخرج الطالب بعد دراسة ستة عشر أو سبعة عشر عامًا أقرب إلى الأمية منه إلى العلم!! كارثة حقيقية أن يضيع الهدف، وعلماء الإدارة يؤكدون دائمًا أن أول ما يجب عمله في أي مشروع في الحياة - إذا أُريد له النجاح - هو تحديد الهدف بوضوح.

الوسيلة الثانية من الوسائل المعينة على القراءة: أن تضع خطة للقراءة

لا داعي إذن للقراءة العشوائية، ينبغي وضع خطة واضحة للقراءة، ولكي تضع خطة بطريقة جيدة لا بد أن تكون على دراية كافية بإمكانياتك، والوقت المتاح للقراءة لديك، والكتب المتاحة، وما هي قدرتك على الاستيعاب، ولا بد أيضًا أن تعرف لماذا تقرأ...

بعد معرفة كل هذه العناصر ضع خطة واضحة في ظل إمكانياتك وقدراتك، مثلاً سوف أقرأ هذه الكتب الخمسة خلال الأشهر الستة القادمة، أو سوف أقرأ هذه الكتب العشرين خلال سنة أو سنتين، على أني سوف أقرأ أولاً الكتاب الفلاني في مدة كذا، وبعده كتاب كذا في مدة كذا... وعليك أن تلتزم بالخطة التي وضعتها لنفسك جيدًا، ولا تغيّر فيها إلا في حالة الضرورة، ربما تتعب أولاً في وضع الخطة، ولكن سوف تنجح إذا حرصت على الالتزام بها. والزم الوسطية في خطتك؛ فليس من الصواب أن تقرر قراءة عشرات الكتب في وقت قليل فتفشل في الإنجاز.. وربما أصبت بالإحباط، كما أنه ليس من الصواب أن تخصص وقتًا طويلاً جدًا لكتب قليلة؛ فيكون هذا تضييعًا للوقت.

وليكن لك كل عدة أشهر وقفة للمتابعة والتقييم، تسأل نفسك: هل كنتُ واقعيا في خطتي أم أن هناك أخطاءً؟، وإذا لم يتحقق الإنجاز المطلوب.. هل لأن الخطة ليست سليمة أم أن هناك معوقات تحتاج إلى دراسة ووضع وسائل للمقاومة والعلاج؟... وسيكون هذا التقييم المستمر من عوامل نجاح خطتك للقراءة إن شاء الله، فهذه هي الوسيلة الثانية من الوسائل المعينة على القراءة بعد تحديد الهدف.. وهي: وضع الخطة.

الوسيلة الثالثة: تحديد وقت ثابت للقراءة واستغلال الفراغات البينية:

وهذا يعني ألا تنتظر إلى آخر اليوم لتقرأ ما يجب عليك قراءته، بل حدد لنفسك وقتًا معروفًا للقراءة، وأحسن اختيار هذا الوقت، وحاول أن تختار وقتًا يكون ذهنك فيه نشيطًا، وتكون فيه مستريحًا حتى تستطيع التركيز في القراءة والخروج بنتيجة جيدة.

ويمكن أن يكون وقت القراءة مثلاً من بعد صلاة الفجر إلى الشروق، أو قبل المغرب بساعة، أو بين المغرب والعشاء، أو بعد العشاء مباشرة... وهكذا. حدد وقتًا معينًا.

كما ينبغي استغلال الأوقات البينية، وهي الأوقات التي عادة ما تكون بين عملٍ وآخر؛ فيمكن استغلالها في القراءة: في المواصلات، أو في متجرك عند عدم وجود زبائن، أو في أوقات انتظارك داخل عيادة أو مكتب لأداء عملٍ ما... وهكذا. سوف تجد أوقاتًا بينية كثيرة يمكن استثمارها في القراءة، وليكن كتابك دائمًا معك، وبمجرد أن تجد أي وقت فراغ سارع بفتحه واقرأ فيه... ستزداد بركة اليوم وسيصبح طويلاً ومتسعًا على عكس الماضي.

الوسيلة الرابعة: هي وسيلة من الأهمية بمكان وهي التدرج.

البعض عندما يقرأ هذه السطور عن أهمية القراءة سوف تشتعل حماسته، وتعلو همته, ويسارع إلى شراء مجموعة من الكتب, ويبدأ على الفور بقراءتها, ويفرّغ أوقاتًا طويلة للقراءة.. بل ربما يطغى وقت القراءة على أعمال أخرى هامة في حياته! ولمثل هذا نقول: عليك بالتدرج.. "إن هذا الدين متين؛ فأوغل فيه برفق" وخاصة إذا لم تكن متعودًا على القراءة، وإلا ستجد نفسك قد مللت سريعًا, وربما توقفت عن القراءة، ولتكن مثل لاعب "الماراثون" الذي يجري لمسافات طويلة، يبتدئ بهدوء وراحة, ثم يسرّع من خطواته تدريجيًا، وهذا يماثل القراءة؛ فإن طريقها طويل لأنها منهج حياة، وإذا جعلتها منهجًا لحياتك فيجب أن تبدأ بتعقل وروية حتى تصل بإذن الله.

الوسيلة الخامسة: الجدية

كما أكدنا في البداية أن القراءة ليست هواية، بل هي عمل جاد جدًا، ويحتاج إلى فكر ووقت ومال ومجهود وتضحية، ولا بد أن يُؤخذ الموضوع بجدية؛ فأنت تقرأ لكي تستوعب كل كلمة تقرؤها، تقرأ كي تفيد وتستفيد، فالقراءة عمل عظيم، وليس لك من هذا العمل إلا ما عقلته.

ونصيحتي لك عندما تقرأ أي كتابٍ أن تقرأه بنفس الهمة التي تقرؤه بها لو طلب منك مذاكرته لتؤدي فيه اختبارًا، وليس مجرد قراءة عابرة، وكلما قرأت شيئا سجّل ملاحظاتك، مثلا هنا معلومة تريد أن تتذكرها لتخبر بها إخوانك وأصحابك.. اكتبها، وهنا معلومة أخرى لا تفهم معناها جيدًا.. اكتبها لتسأل فيها أحد المتخصصين، وفي مكان ما في أحد الكتب التي تقرؤها عناصر هامة لأحد الموضوعات، ولك اعتراض على نقطة ما في أحد الكتب، أكتب كل ذلك في دفتر تحتفظ به معك أثناء قراءتك، وإذا التزمت بهذا الأسلوب فلا شك أنك سوف تكون دائما على وعي وتركيز في كل ما تقرأ، وسوف تلاحظ بالفعل الإمكانيات الهائلة التي تمتلكها، وسيزداد تحصيلك أضعاف ما كنت تعتقد.. إنك تستطيع مراجعة قصص الصحابة والتابعين وعلماء المسلمين لكي تعرف المعنى الحقيقي للجدية التي أقصدها، راجع قصة زيد بن ثابت رضي الله عنه، وعبد الله بن عباس رضي الله عنهما، والشافعي وأحمد بن حنبل والخوارزمي وجابر بن حيّان رحمهم الله، راجع سير هؤلاء ومواقفهم في القراءة وتحصيل العلوم لتكون على يقين أن إمكانيات البشر فوق كل تخيّل، وسبحان الله الذي خلق فسوّى.

الوسيلة السادسة: التنسيق للمعلومات, والنظام في كل شيء:

النظام والتنسيق مطلوبان في كل شيء، فحاول أن تكون منظمًا في كل حياتك، وعندما تقوم بتسجيل المعلومات في دفترك الخاص بعد القراءة الواعية لا تسجلها هكذا مبعثرة؛ لأن المسلم منظم في شئونه.. وليكن لديك دفتر خاص تدوّن فيه العلوم الشرعية، وآخر للعلوم السياسية، وثالث للقراءات الأدبية، ورابع للتاريخ وهكذا...، وإذا كنت أكثر تخصصًا فسّم هذه الدفاتر إلى أقسام أخرى أكثر تفصيلاً، وضع ذلك كله في مكان منظم في بيتك أو مكتبتك الخاصة، حتى يسهل الرجوع إلى أي معلومة تريدها بسهولة ويسر، وتضيف ما تريد من معلومات حيث شئت، وسيوفر ذلك لك كثيرًا من الوقت والجهد.

هذا الأسلوب الدقيق لن ينظم وقتك وبيتك فحسب، بل سينظم عقلك أيضًا، فبعض الناس تجدهم غير منظمين بالمرة، يأتي بمعلومة من الشرق ومعلومة من الغرب، دون دقة أو نظام، بينما تجد آخرين يحسنون تنظيم معلوماتهم، مما يدل على أن عقولهم منظمة؛ فهم يعملون كل شيء بعد حسابات دقيقة، ولا يبتعدون عن أهدافهم ولا يخرجون عن موضوعهم كثيرًا، وهذا لا يتأتى إلا بالمران والتدريب، وفوائده لا تحصى.

أنا الآن ألقي بعض المحاضرات من أوراق كتبتها منذ أكثر من عشر أو خمس عشرة سنة، وعاما بعد آخر، أنظر في هذه الأوراق وأضيف إليها، وأؤدي منها محاضراتي.

المحاضرة التي كنت أؤديها منذ عشر سنين أصبحت الآن عشرًا أو عشرين محاضرة، ولا شيء ينقص بل على العكس يزيد، والفضل – بعد الله - للنظام والتنسيق والترتيب، هذا فضلاً عن الراحة النفسية التي يضفيها النظام على حياتك وحياة من معك من الناس.

الوسيلة السابعة: تكوين مكتبة متنوعة في البيت:

اجعل هذا المشروع من أهم المشاريع في حياتك، وكما يفكر الزوجان في أن يكون لهما غرفة نوم، وغرفة استضافة...، عليهما أيضا أن يفكرا أن يكون لهما في المنزل غرفة للمكتبة.. وهذا العمل ليس ثانويًا، وليس من أدوات الترف، بل هو شيء أساسي في المنزل، ليس مهمًا أن تكون المكتبة فخمة أو فاخرة ذات أدراج مذهبة، ولكن المهم: ماذا فيها من كتب؟.. ينبغي أن يكون في ذهنك مشروع واضح لشراء مجموعة ضخمة من الكتب، وهذا الكلام ليس موجهًا إلى الأغنياء فحسب، بل هو للفقراء والأغنياء على حدٍ سواء؛ فالإنسان إذا أحس بقيمة الكتاب سيوفر - بلا شك - من مأكله ومشربه ليشتريه، وربما يأكل الإنسان أكلة واحدة بثمن أربعة أو خمسة كتب، وربما يشتري قميصًا بثمن عشرة كتب، بل ربما خرج في رحلة أسبوعًا مثلاً بثمن مكتبة قيمة جدًا.

وتستطيع - لو شغل هذا الموضوع ذهنك - أن تكوّن مكتبة متنوعة وشاملة لكل أنواع المعارف، ولو كتابًا واحدًا في كل فرع من فروع المعرفة، حتى إذا احتجت كتابًا في مجالٍ معين وجدته، وقد تملّ من القراءة في مجال بعينه فتجد لديك كتابًا في مجال آخر، وللعلم فإن هذه المكتبة التي تكوّنها تعد صدقةً من الصدقات العظيمة الجارية، لأنها تنفعك وتنفع أولادك... وربما أحفادك وأحفادهم بعد ذلك.

"إلى.. ومع.. ومِن..":

تلك هي الوسائل الثامنة والتاسعة والعاشرة، وهى علاقات بينك وبين الآخرين:

الوسيلة الثامنة: انقل ما تقرأ إلى غيرك:

يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: "بلغوا عني.. ولو آية" فالإنسان مطالب بأن يعلّم غيره ما تعلّمه هو، وفي هذا فوائد جمة، ومنافع عظيمة، منها تثبيت العلم في الذهن, وإفادة الغير بتعليمه، ويأخذ الإنسان مثل أجر من تعلم على يديه دون أن ينقص من المتعلم شيء، أضف إلى ذلك أن الله عز وجل يبارك له في علمه، وتذكر دائمًا القول المأثور "من عمل بما يعلم أورثه الله علم ما لم يعلم"؛ فكلما علّمت الناس شيئا زادك الله من العلم "

"واتقوا الله ويعلمكم الله والله بكل شيء عليم"

الوسيلة التاسعة: أن تتعاون مع أصحابك وإخوانك في القراءة:

تستطيع أن تكوّن أنت ومجموعة من أصحابك إن كنتم ثلاثة أو أربعة أو خمسة... مجموعةً للقراءة، كلٌ منكم يقرأ في مجال، وتلتقون أسبوعيًا مرة أو مرتين أو كل أسبوعين مرة.. حسبما تقتضي الظروف، ويعرض كلٌ منكم ما قرأه على أصحابه، ويتم تبادل المعلومات بشكل منظم وممتع؛ فليس ما تقرؤه عينا إنسان واحد كالذي تقرؤه هذه الأعين مجتمعة، وليس ما يستوعبه عقل واحد مثل ما تستوعبه عقول ثلاثة أو خمسة، وبهذا يحفّز كلٌ منكم الآخر، ويأخذ بيده للخير والنفع، ولن يستطيع الشيطان أن يتغلب عليكم فهو مع الواحد، ومن الاثنين أبعد.. فما بالنا بثلاثة أو خمسة؟!...

الوسيلة العاشرة والأخيرة من الوسائل المعينة على القراءة: هي أن تنقل مِن العلماء:

ففي الوسيلة الثامنة أنت تنقل العلم إلى من لا يعرف، وفي الوسيلة التاسعة أنت تتعاون مع أصحابك وإخوانك في تحصيل العلم والتحفيز على القراءة.. أما ها هنا فأنت تنقل من العلماء والمتخصصين وذوي الخبرة، فلا بد أن نبدأ من حيث انتهى الآخرون، ولتسأل المتخصصين: ماذا تقرأ، وبأي كتاب تبدأ، وما هو أفضل كتاب في هذا الموضوع، وإذا كنت قرأت كتابًا في موضوع معيّن فماذا تقرأ بعده وهكذا...

كثيرًا ما يضيّع الإنسان الكثير من وقته في قراءة كتاب غير مفيد، أو قراءة كتاب صعب بينما هناك الأسهل، أو كتاب سطحي بينما هناك الأعمق...

والعلماء السابقون - كما نعرف - أخذوا العلم عن غيرهم، وبدءوا من حيث انتهى من سبقوهم، ومن ثَمَّ استفادوا, وأفادوا غيرهم، وما تكبَّر أحد منهم على التعلم والسعي في طلب العلم وسؤال غيره، وكانوا يتواضعون عند من هو أعلم منهم، ويظهر ذلك بوضوح في قصص الأئمة العظماء والعلماء الأجلاء من أمثال البخاري والنووي وابن القيّم وغيرهم... وما وصلوا إلى هذه الدرجة من العلم إلا بنقل علوم غيرهم ثم الإضافة إليها وتطويرها.. فهداهم الله, وهدى بهم أجيالاً وأجيالاً.

تلك عشر وسائل يمكن أن تساعد الإنسان حتى يقرأ، ويستمر في القراءة، ويستفيد منها ويركز فيها، ولا شك أن هناك وسائل أخرى، لكننا نضع هنا رؤوس الموضوعات فحسب. والله المستعان.

ماذا أقرأ؟

لو أنني بالفعل سوف أقرأ, وأريد أن أحقق هدفًا من القراءة, ولديَّ من الحماسة والعزيمة ما يبلِّغني هدفي.. فالسؤال الذي يطرح نفسه هو: ماذا أقرأ؟

تعالوا نفكر معًا.. ماذا نقرأ؟؟...

قد يتصور البعض – بدايةً - أنني سوف أخبره بفروع مختلفة من العلوم الدينية، وأنا أقول له: ليس هذا ما أقصده بمنهج القراءة؛ فالمسلم إنسان متوازن، يحتاج إلى القراءة في أمور كثيرة حتى يبقى متوازنًا، والإسلام له دور في كل نقطة من نقاط حياتنا، ومن هنا.. فكل قراءة في أي مجال نافع في الدنيا تعتبر "قراءة نافعة مطلوبة" في ميزان الإسلام.

تعالوا بنا نحدد عشر مجالات نقرأ فيها، وبالطبع هذه المجالات ليست سوي عينة مما يفترض أن نقرأه، وهي بداية, وكل ميسر لما خلق له.

المجال الأول: أول ما نقرأ.. وأعظم ما نقرأ.. وأهم كلمات نقرؤها هي كلمات القرآن الكريم، والقرآن الكريم ليس مجرد كتاب سوف تقرؤه مرة أو مرتين، القرآن الكريم دستور الخلق، وقراءته يجب أن تكون بصفة دورية مستمرة ومركزة، حتى إن العلماء قالوا: يجب على المسلم أن يجتهد في ختم القرآن قراءة في شهر أو أقل، فلا بد إذن أن يكون للقرآن الكريم مكان واضح في برنامجك اليومي.

وهذا الكلام يكتسب أهمية خاصة، حيث إن الكثيرين ممن يهتمون بدراسة العلوم المختلفة والقراءة ينشغلون عن قراءة القرآن الكريم، وهذه مشكلة خطيرة، فالله عز وجل من رجمته بنا يشجعنا على قراءة دستورنا وكتابنا بأن يعطينا على كل حرف نقرؤه حسنة، ثم يضاعف الحسنة إلى عشر أمثالها... وهذا عجيب لأن الحرف لا يستقيم به المعنى, بل نحتاج إلى تكوين الكلمة حتى يتم فهم المعنى، وكان من الممكن أن يعطي الله عز وجل بكل كلمة حسنة، ولكن الله تعالى من كرمه جعل المكافأة بالحرف، وهذا المعنى يؤكد عليه النبي صلى الله عليه وسلم، حتى لا يُفهم على غير المقصود.. ففي الترمذي بسنده عن عَبْدَ اللَّهِ بْنَ مَسْعُودٍ يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مَنْ قَرَأَ حَرْفًا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ فَلَهُ بِهِ حَسَنَةٌ, وَالْحَسَنَةُ بِعَشْرِ أَمْثَالِهَا.. لَا أَقُولُ (ألم) حَرْفٌ, وَلَكِنْ أَلِفٌ حَرْفٌ, وَلَامٌ حَرْفٌ, وَمِيمٌ حَرْفٌ".. فالقرآن إذن هو أول ما نهتم بقراءته.

المجال الثاني: وهو أيضًا في غاية الأهمية: أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم.. وفي الحقيقة ومع أهمية هذا المصدر، وكونه المصدر الثاني من مصادر التشريع بعد القرآن الكريم، إلا أن لدينا قصورًا فيه، والرسول صلى الله عليه وسلم آتاه الله تعالى جوامع الكلم، بمعنى أن كلمات قصيرة يقولها، تجد فيها المعاني الضخمة، وبقراءة حديث واحد قصير جدًا تحصل على كمٍّ هائل من العلم والمعرفة والحكمة.

والكثير منا قد يقرأ القرآن الكريم، ولكن القليل هو الذي يمتِّع عينيه وعقله بكلمات الرسول الحبيب صلى الله عليه وسلم، وحتى لو قرأها أحدنا فإنه ربما يقرؤها بصورة عشوائية غير منظمة، ولكننا نريد أن تكون قراءة الأحاديث النبوية الشريفة جزءًا رئيسيًا من تكوينك.

وإذا قرأت كل يوم حديثًا أو اثنين من أحاديث النبوية الشريفة، واطلعت على بعض المعاني لهذين الحديثين، فسوف يكون حجم استفادتك كبيرًا جدًا، إن السنة كنز هائل من الكنوز التي بين أيدينا، وكتب السنة ولله الحمد كثيرة، فلتبدأ بالبسيط منها ومع التدرج يكون الخير، ابدأ مثلاً بالأربعين النووية، فرياض الصالحين وهو أيضًا للإمام النووي، ولتقرأ اللؤلؤ والمرجان فيما اتفق عليه الشيخان، ولتقرأ أيضًا مختصر البخاري ومختصر مسلم... المهم أن تقرأ.

المجال الثالث للقراءة هو: العلوم الشرعية: من خلال الاستعانة بأحد العلماء أو السابقين لك في مجال القراءة يمكنك أن تعمل برنامجًا للقراءة في العلوم الشرعية.. وعلوم الإسلام كثيرة جدًا، فحاول أن تقطف من كل بستان زهرة، وأن تقرأ كتابًا في كل فرع من فروع العلوم الشرعية، وسيعطيك هذا خلفية رائعة، ويبني لك قاعدة متينة يمكنك أن تبني عليها بعد ذلك بنيانًا ضخمًا إن شاء الله، ولتبدأ بكتب بسيطة مختصرة, ثم توسع بعد ذلك مع مرور الوقت.

وهذه بعض الأمثلة لبعض الكتب التي يمكنك من خلالها بناء قاعدة جيدة في العلوم الشرعية:

1 - مختصر تفسير ابن كثير: كتاب رائع لتفسير القرآن الكريم، وهو يتميز بالبساطة في الأسلوب والسهولة في العبارة، تستطيع البدء بجزء عمّ وتبارك، وبعد ذلك اقرأ تفسير السور التي تحفظها ( البقرة - الكهف - يس - الواقعة... وقم بعمل جدول لذلك وحاول الالتزام به.

2 - فقه السنة: والجزء الأول منه يتحدث عن أحكام الصلاة والزكاة والصوم والحج، وهو مهم جدًا لأداء هذه العبادات بالصورة الصحيحة التي أمر الله عز وجل بها...

3 - كتاب الإيمان للدكتور محمد نعيم ياسين: وهو كتاب مبسط جدًا عن العقائد الإسلامية، يتحدث فيه المؤلف عن كيفية الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والإيمان بالقضاء والقدر...

4 - مختصر منهاج القاصدين: وهو كتاب رائع في الرقائق والروحانيات وأمراض القلوب وكيفية معالجتها، ويتناول بعض آفات الأخلاق كالغضب والشح...، و يتحدث عن كيفية التوبة، وكيف تحب الله وكيف يحبك الله...وهو كتابٌ جميلٌ حقًا.

5 - كتاب خلق المسلم: للشيخ الغزالي, وهو كتاب رائع في فهم الأخلاق الأساسية لكل مؤمن.

6 - المرأة في التصور الإسلامي للدكتور عبد المتعال الجبري رحمه الله: وهو كتاب مهم وقوي في بيان قيمة المرأة ودورها, والشبهات التي أُثيرت حولها والرد عليها، وهو كتاب مهم ليس للنساء فحسب بل للرجال أيضًا.

7 - الرحيق المختوم للمباركفوري: وهو عبارة عن شرح بسيط لسيرة الرسول صلى الله عليه وسلم.. من ميلاده إلى وفاته، ومن خلال هذا الكتاب يمكنك أن تأخذ فكرة سريعة عن حياة أفضل الخلق وخاتم المرسلين محمد صلى الله عليه وسلم.

8 - صور من حياة الصحابة لعبد الرحمن رأفت باشا: وهو كتاب رائع عن سير بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، ويتميز الكتاب بلغته الجميلة وأسلوبه السهل البسيط ومعلوماته الكثيرة.

9 - ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين؟ لأبى الحسن الندوي.. كتاب مهم جداً لشرح حال الأرض قبل الإسلام، وكيف غيّر الإسلام مفاهيم الناس وصححها، وإن كان بودي لو أن المؤلف غيّر اسم الكتاب من "انحطاط المسلمين" إلى "تأخر المسلمين" ...لكن الكتاب -على العموم - ممتاز ورائع.

10 - من روائع حضارتنا.. للدكتور مصطفى السباعي رحمه الله: وهذا الكتاب من أروع ما كُتب عن جمال الحضارة الإسلامية، ومدى الرقي والتقدم الذي وصل إليه المسلمون في مجالات الحضارة المختلفة.

يمكن أيضًا أن تقرأ كتابًا جميلاً في شرح الأحاديث النبوية مثل كتاب: جامع العلوم والحكم لابن رجب الحنبلي، وهذا الكتاب يشرح أكثر من خمسين حديثًا من أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم بأسلوب جميل جداً ومنظم.

وكذلك كتاب العبادة في الإسلام للدكتور يوسف القرضاوي، وهو كتاب عميق في شرح معنى العبادة في الإسلام وبيان شمولها لكل أمور الحياة...

هذه بعض الأمثلة السريعة، ولا شك أن هناك كتبًا كثيرة مهمة جدًا، لكن الأهم هو البداية، فهذا هو إذن المجال الثالث بعد القرآن والحديث مجال العلوم الشرعية.

المجال الرابع للقراءة هو: القراءة في مجال التخصص: ومع الأهمية الكبيرة لهذا الجانب.. إلا إنني أرى أن معظم الملتزمين بالدين وخاصة الطلاب في الجامعات مقصرون فيه تقصيرًا كبيرًا...

فالقراءة في مجال التخصص الدنيوي مهمة للغاية، الطبيب لا بد أن يقرأ في الطب، والمهندس يقرأ في الهندسة, والكيميائي في الكيمياء، والجغرافي في الجغرافيا... وهكذا كلٌ في تخصصه..

اقرأ دائمًا الجديد، حسّن من مستواك، ارفع من قدراتك ومواهبك وإمكانياتك، حقًا هذا المجال في غاية الأهمية، نحن لا نريد من المهندس أن يترك الهندسة ويتخصص في الفقه، ولا نريد من الفيزيائي ترك الفيزياء والتخصص في التفسير؛ فنحن – وإن كنا في حاجة إلى علماء الشريعة – إلا أننا في أمسِّ الحاجة إلى علماء الحياة.

دعيت في إحدى المرات إلى حفل تخرجٍ لدفعة من دفعات كلية العلوم، وكان الحضور يسألون عن النصائح المهمة التي يمكن أن تفيدهم فيما هم مقبلون عليه من الحياة العملية، فقلت: أنا أعرف بداية أنكم مشغولون الآن بقضايا العمل والكسب والزواج.. وهي قضايا مهمة ولا شك، لكن أول نصحي لكم هو أن تستكملوا مسيرتكم العلمية، وتواصلوا تفوقكم في مجال دراستكم.. ينبغي على كل الحضور أن يسجلوا ماجستير ودكتوراة! ولم لا؟ ، وهل من يسجل هذه الدرجات العلمية يتميز عن المسلم الملتزم بدينه في شيء؟! على العكس.. إن المسلم المؤمن الملتزم بدينه لديه دوافع راقية جدًا للعلم؛ فهو يبغي بالعلم رضا الله تعالى والجنة ، كما أنه يريد عمارة الأرض، ونفع البشرية، وخدمة الإنسانية، وليس هذا إلا للمؤمن.

المجال الخامس من مجالات القراءة وهو مجال مهم جدًا أيضًا: هو مجال التاريخ:

وقد تحدثت معكم كثيرًا في مواطن مختلفة عن أهمية التاريخ... فالتاريخ في غاية الأهمية، ويكفي أن ثلث القرآن تاريخ، ثلث القرآن يتحدث عن قصص الأولين، والهدف واضح هو استخراج العبرة, والتفكر في الأحداث، واستنباط سنة الله تعالى في خلقه وفي أرضه.

ومع أهمية التاريخ كله إلا أن هناك أولويات؛ فأهم ما نقرؤه هو تاريخ الرسول صلى الله عليه وسلم، ثم تاريخ الخلفاء الأربعة، ثم بقية التاريخ الإسلامي، ثم التاريخ غير الإسلامي، ويمكن أن تقرأ في البداية بالنسبة لموضوع سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم كتاب الرحيق المختوم للمباركفوري (كما أشرنا منذ قليل) وهو شرح بسيط للسيرة النبوية من الميلاد إلى الوفاة، ويمكن بعد ذلك أن تستعين بكتاب سيرة ابن هشام، وفقه السيرة للبوطي، وفقه السيرة للغزالي... وغير هذا كثير.

من المهم أيضًا قراءة تاريخ الخلفاء الأربعة، ولتبدأ بكتاب "إتمام الوفاء في سيرة الخلفاء" للخضري.

وأنت في حاجة أيضًا أن تقرأ عن صحابة النبي صلى الله عليه وسلم، ويمكن أن تبدأ في هذا المجال بكتاب "صور من حياة الصحابة" لعبد الرحمن رأفت الباشا (الذي سبقت الإشارة إليه أيضًا).

ومن الكتب التي تلقي أضواء مهمة على التاريخ الإسلامي كتاب "ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين؟" لأبي الحسن الندوي رحمه الله، وكتاب "من روائع حضارتنا" للدكتور مصطفى السباعي رحمه الله، وكتاب "حماة الإسلام" لمصطفى نجيب رحمه الله.. وهذه الكتب في غاية الروعة، سوف توسع مداركك، وتفتح أمام عينيك أبوابًا كثيرة حاول أعداؤك قدر استطاعتهم أن يغلقوها...

المجال السادس في القراءة بعد التاريخ: هو قراءة الواقع:..

وهذا المجال خطير جدًا، ومهم جدًا وفي نفس الوقت هو حتميٌ للمسلم المثقف الواعي، وأقصد به قراءة الواقع الذي نعيشه، قراءة الواقع السياسي والاقتصادي والعلمي في العالم، قراءة هذا الواقع في بلادك، وفي بلاد المسلمين، وفي بلاد العالم بصفة عامة.

ولا شك أن للمتغيرات السياسية التي تحدث في الأرض تأثيرًا كبيرًا للغاية على أمة الإسلام، وإذا كنت تريد بالفعل أن تبني أمة الإسلام، فينبغي أن تعرف بصورة جيدة ما يدور حولك من أحداث على الصعيد المحلي والعالمي، وقد بات القول بأن الكلام في الجانب السياسي من المنكرات أو المحرمات.. بات هذا قولاً لا قيمة له، وفشلت المحاولات التي أُريد بها ترسيخ هذا القول؛ فالسياسة والاقتصاد والتجارة والزراعة والحروب والمعاهدات أجزاء لا تتجزأ من الإسلام.. وبعض الدعاة لا يهتمون بهذه الأمور, وبالتالي هم ينعزلون عن حياة الناس وعن واقعهم.. ومن ثَمَّ لا يؤثرون فيهم ولا يغيرونهم...

لا بد أن تتابع الصحف اليومية متابعة سريعة، وتطَّلع عل الصحف المختلفة الحكومية والمعارضة، المصرية وغير المصرية، الإسلامية وغير الإسلامية، العربية وغير العربية... ومتابعة المواقع العالمية للأخبار مثل BBC والـ CNN مع الحذر عند قراءة الأخبار من التضليل المقصود وغير المقصود، وحاول أن تقارن الأخبار ببعضها، وبعد فترة من الزمن تكتسب - بلا شك - حسًّا مرهفًا تستطيع أن تفرّق به بين الصواب والخطأ وبين الحقيقة والافتراء.

المجال السابع من مجلات القراءة مجال نعاني قصورًا شديدًا فيه: هو مجال قراءة الرأي الآخر:

وللأسف الشديد كثير منا ليس عنده استعداد لسماع أو قراءة الرأي الآخر، ليس عنده استعداد أن يقرأ أو يسمع لعالم مسلم ليس من نفس المدرسة الفكرية التي ينتمي إليها، فضلاً عن أن يقرأ لمن لا يحملون الفكرة الإسلامية أصلاً! بينما الذي نعرفه هو أن الحكمة ضالة المؤمن أنى وجدها فهو أحق الناس بها.

نحن في حاجة إلى أن نقرأ ما يقوله غيرنا، ونعرف ما هي وجهة نظره، وما هي أدلته، وما هو رأيه...

نحن في حاجة إلى أن نقرأ أيضًا للمدارس غير الإسلامية.. هناك مسلمون كثيرون لهم توجهات غير إسلامية؛ قومية، علمانية، اشتراكية، غربية، وطنية، ومنهم من لهم توجهات نفعية تصب في مصلحتهم الشخصية فقط... يجب أن نقرأ كيف يكتب هؤلاء, وكيف يفكرون وما هي أطروحاتهم؟!

وأذهب أبعد من ذلك فأقول نحن في حاجة أن نقرأ كتابات غير المسلمين، نحن في حاجة أن نعرف كيف يفكر اليهود، وكيف يفكر النصارى، وكيف يفكر حكام وعلماء وأدباء الغرب والشرق، نحن في حاجة أن نقرأ مذكرات نيكسون وريجان وبوش وكلينتون وكيسنجر وديفيد كوك وغيرهم... ما هي نظرتهم لنا؟ وكيف يقودون بلادهم؟ وكيف يحاربوننا أو يسالموننا؟؟.. هذا جانب في غاية الأهمية، ونحن في حاجة أن نفرغ له الأوقات والجهود، ولا شك أن مداركنا ستتسع كثيرًا عندما نقرأ ونسمع لغيرنا، وليكن في ذهنك دائمًا: "بدايةُ أن يسمع لك غيرُك.. أن تسمع أنت له"...

المجال الثامن للقراءة هو: القراءة في الشبهات التي أثيرت حول الإسلام وطرق الرد عليها...

ما أكثر الشبهات التي أثيرت حول الإسلام منذ نزول الرسالة وإلى الآن...

ما نعلمه ونوقن به أن الإسلام دين كامل بلا عيوب أو أخطاء؛ لأنه من عند رب العالمين.. ولكننا كثيراً ما نفتقد الحجة المقنعة لرد الشبهة.. وكثيراً ما نجهل الحق الذي معنا والذي نحن عليه..

وفى زماننا هذا كثرت الشبهات حول ديننا العظيم.. انعقدت لذلك مؤتمرات وأنفقت أموال وجُندت طاقات ضخمة وكثيرة.. ومن واجبنا أن نرد على كل هذه الشبهات ونقارع الحجة بالحجة والبرهان بالبرهان...

ما هو وضع المرأة في الإسلام؟

كيف نرد على من يقول إن الإسلام انتشر بحد السيف؟

ما الرد على من يقول بأن الحدود ستخرج لنا شعبًا معوّقا مقطوع الأيدي؟

ما هو الرد على من يتهم الإسلام بأنه دين الإرهاب والقسوة والجمود والتخلف؟

وهذا الكلام مردود عليه بردود عقلية منطقية قوية ومقنعة، وما يجب علينا هو أن نقرأ، ويمكن أن نستعين في هذا المجال بكتاب "شبهات حول الإسلام" للأستاذ محمد قطب، وكتاب"حقائق الإسلام وأباطيل خصومه" للعقاد وكتاب "الإسلام في قفص الاتهام" للدكتور شوقي أبو خليل... وغير هذا كثير.

المجال التاسع الذي نحتاج أن نقرأ فيه وربما يثير شيئًا من الغرابة: هو مجال الأطفال!!

كثيرًا ما يسقط من حساباتنا أن تربية الأطفال علم له أصوله وفنونه، ويوجد من الكتب الكثير الذي كُتب في هذا المجال، ومن هذه الكتب، كتاب"تربية الأولاد في الإسلام" لعبد الله ناصح علوان، ويوجد أيضًا ما كتبه علماء التربية عن نفسيات الأطفال واحتياجاتهم...

نحن في حاجة أيضًا أن نقرأ في مجال "قصص الأطفال" حتى نستطيع أن نستخدم الأسلوب المناسب في عرض قصة هادفة على الأطفال في النادي أو المسجد أو المنزل...

وعقول الأطفال أكبر مما نتخيل، وطاقة الاستيعاب عندهم أضعاف ما نعطي لهم، وليس من المناسب أن يكون ما في عقول أطفال المسلمين لا يتعدى بعض أفلام الكرتون التي تتناول العنف والإثارة... يوجد علوم ضخمة يمكن أن يستوعبها الأطفال شرط أن تُعْطَى لهم بالأسلوب المناسب...

ومهارة تعليم الأطفال هذه تُكتسب من قراءة كتب التربية، وقصص الأطفال، ولا شك أننا إذا نجحنا في إيجاد جيلٍ يحب القراءة ويحب العلم فإن حال الأمة سيتغير إلى الأحسن إن شاء الله...

المجال العاشر والأخير من مجالات القراءة - وإن كنت على يقين أن هناك مجالات أخرى مهمة لم أتطرق إليها مع حاجتنا إلى القراءة فيها - هو القراءة الترويحية!

النفس البشرية تملّ، وتحتاج إلى الترويح والتسلية، ولا مانع أن يقضي المسلم بعض وقته في القراءة الترويحية والترفيهية، لا مانع من قراءة الشعر الجميل، لا مانع من قراءة بعض الأخبار الرياضية، أو الكاريكاتير أو بعض الطُرف الجميلة، لكن لا بد أن نلتزم في هذا الجانب بشيئين مهمين:

الأول: ألا يوجد في هذا المجال خروج عن المنهج الإسلامي، أي لا نقرأ - مثلا - قصصًا غير أخلاقية؛ تشجع على الرذيلة، وتدفع البنت لتقابل حبيبها دون علم الأهل بذلك، مع تسمية هذا بالحب الشريف، ولا يكون ما نقرؤه من شعر إباحيًا نأثم بسببه...

الثاني: ألا يكون الوقت الذي ننفقه في الترفيه كبيرًا، لأننا أمة جادة، ترفّه عن نفسها أحيانًا، ولسنا أمة هزلية تعيش بعض لحظات الجد...

فهذه مجالات عشرة، يمكن أن نبدأ بها طريقنا للقراءة، وهو طريق طويل، لكنّ نهايته جميلة، جميلة جدًّا...

فالرسول صلى الله عليه وسلم يقول في الحديث الذي رواه مسلم: ".. وَمَنْ سَلَكَ طَرِيقًا يَلْتَمِسُ فِيهِ عِلْمًا سَهَّلَ اللَّهُ لَهُ بِهِ طَرِيقًا إِلَى الْجَنَّةِ"...

نسأل الله عز وجل أن يسهل لنا طرقَ العلم وأن يسهل لنا طرقَ الجنة.. وأن يفقهنا في ديننا وأن يعلمَنا ما ينفعنا، وأن ينفعَنا بما علمنا.. إنه ولي ذلك والقادر عليه.

فستذكرون ما أقول لكم، وأفوض أمري إلى الله.. إن الله بصير بالعباد..

والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته

==============

#أسلمة المعرفة

المبادئ العامة وخطة العمل

تأليف

د. إسماعيل راجي الفاروقي

الأستاذ بجامعة تمبل ، بنسلفانيا ، الولايات المتحدة الأمريكية

ترجمة

عبد الوارث سعيد

جامعة الكويت

دار البحوث العلمية بالكويت

1983

تمهيد

يسعد أمناء "المعهد العالمي للفكر الإسلامي" أن يقدموا للعلماء المسلمين في أنحاء العالم هذه الهدية العزيزة . إنها دراسة حول " أسلمة المعرفة"، ويعتقدون أنها أنسب هدية يمكن أن تقدم في هذا العقد الأول من القرن الخامس عشر الهجري ... إنها ثمرة بحثين حول الموضوع أعدهما رئيس هيئة الأمناء ومدير المعهد بالإضافة إلى ما تزود به عن طريق أكثر من خمسة عشر من علماء الإسلام العالميين ممن شاركوا في حلقة البحث التي عقدت في "إسلام أباد" و "المعهد العالمي للفكر الإسلامي"، في مدينة "إسلام أباد" من شهر ربيع الأول 1405 هـ يناير 1982م.

إن الأهمية الكبيرة لهذه الدراسة، التي تلي هذا التمهيد ، تنبع من حقيقة مفادها أن تقدير المرء لواقعه واستفادته من ماضيه وقيامه بالتخطيط ليوجه مسار التغيير نحو الأهداف المرجوة إنما هي الأسس المطلقة لضمان البقاء والازدهار. وإن الحكم الإلهي: "إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ......)(الرعد: من الآية12) لهو السنة المطلقة للتاريخ.

إن هذه الدراسة لَتُعلن بقوة أن "الأمة" تعانى من انحراف خطير يتهددها، وتحاول أن تقدم للأمة علاجاً أكيداً يعيد إليها العافية ، كما تستحثها إلى الأمام نحو الدور المقدر لها ، أن تحمل مسؤولية قيادة العالم: (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً) (البقرة: الآية143) .

وهذه الاعتبارات تعطى لهذه الدراسة الحق في أن تنال من المفكر المسلم أقصى ما يستطيع من الاهتمام الجاد، وتثير فيه إمكاناته الروحية فيبحث عن الغاية العظمى ويسهم في تحقيقها في المستقبل.

لقد شهد النصف الأخير من القرن الرابع عشر موجة هائلة من الوعي الإسلامي عمت العالم كله ، فضلاً عن عديد من الخطوات المهمة اتخذتها أجزاء من هذه الأمة على طريق التحرر الذاتي. ورغم هذه الخطوات إلى الأمام، فإن هذا القرن نفسه قد شهد انتكاسة شديدة تمثلت في اندفاع عام عند المسلمين لتقليد الحضارات الأخرى. هذا الاندفاع لم يحقق هدفه في أي مجال كان ، بل إنه نجح في تجريد الطبقة العليا من المجتمع الإسلامي من إسلامها وأن يوهن من عزيمة الباقين ... لقد غشيت الرؤية الإسلامية برؤية أجنبية وفدت إلينا مع الغزاة المستعمرين. ولما رحل المستعمر بقيت هذه الرؤية الأجنبية، بل أصبحت أشد خطراً. وبدا المسلمون لعدة أجيال غير قادرين على التخلص منها... إنك لتراها واضحة في كل مكان: في المؤسسات المستوردة ، وفي بانتشار اللغتين الإنجليزية والفرنسية بينهم، وفي تصميم مكاتبهم وبيوتهم ومدنهم ، وفي برامجهم الترفيهية ...في المناهج الاقتصادية والسياسية التي يتبعونها، وفيما يعتنقون من أفكار عن الحقيقة والطبيعة والإنسان والمجتمع.... وكان العامل الأول في انتشار هذا التصور الأجنبي هو النظام التعليمي، فقد شعبوه إلى نظامين: نعتوا أحدهما "بالحديث" والآخر "بالإسلامي"... هذا التشعيب يعتبر صورة مصغرة لانحطاط المسلمين. وما لم يتم علاج هذا الأمر والتخلص منه ، فسيظل يدمر جهد كل مسلم يبذله لإعادة بناء "الأمة" ولتمكينها من أداء "الأمانة" التي ائتمنها الله تعالى عليها.

لقد حاول كثيرون من كبار الشخصيات الإسلامية في الماضي أن يصلحوا نظام التعليم الإسلامي وذلك بأن يضيفوا إلى مناهجه الدراسية الموضوعات الأساسية في النظام الأجنبي. ويعتبر السيد أحمد خان والشيخ محمد عبده أبطال هذه المحاولة، أما جمال عبد الناصر فقد وصل إلى ذروة هذه الاستراتيجية عام 1961 حين حول الأزهر – أعظم حصن للتعليم الإسلامي – إلى جامعة "حديثة"... لقد استقرت جهود هؤلاء، وجهود الملايين من أمثالهم ، على فرضية أن تلك الموضوعات التي تدعى "بالحديثة" لا ضرر فيها وأنها يمكن أن تمد المسلمين بالقوة، وقليلاً ما أدركوا أن هذه الدراسات الأجنبية من "إنسانيات" و "علوم اجتماعية"، وحتى "العلوم الطبيعية" كذلك، ما هي إلا واجهات لنظرة متكاملة للحقيقة وللحياة وللعالم وللتاريخ – نظرة غريبة بنفس الدرجة عن نظرة الإسلام. وقليلا ما عرفوا عن العلاقة الدقيقة والضرورية التي تربط مناهج البحث في تلك الدراسات كما تربط نظرياتها في الحقيقة والمعرفة بنظام القيم لهذا العالم الأجنبي ، ومن هنا كان عقم إصلاحاتهم... فمن ناحية ظلت الدراسات الإسلامية الآسنة على حالها لم تمس ؛ ومن ناحية أخرى لم يؤد العلم الجديد الذي أضيف إلى إنتاج أي مهارة متميزة كتلك التي ينتجها في موطنه الأصلي... الذي حدث هو العكس ، إذ جعل المسلمين عالة تتبع البحث الأجنبي والقيادة الأجنبية ، لقد نجح – تحت تأثير مزاعمه الطنانة بالموضوعية العلمية – أن يقنعهم بأن فيه الحق الذي يعلو-بل يناهض- مقررات الإسلام التي وسمها أنصار التقدم المتحمسون بالمحافظة والتأخر.

لقد آن الأوان لكي يتبرأ علماء الإسلام من أمثال هذه الطرائق السطحية والضارة في الإصلاح التعليمي. إن إصلاح التعليم المرجو منهم هو صبغ المعرفة الحديثة ذاتها بالصبغة الإسلامية. وهي مهمة تشبه في خصائصها – وإن كانت أرحب مدى – ما اضطلع به أسلافنا ثقافياً وحضارياً. فالدراسات الإنسانية والعلوم الاجتماعية والطبيعية يجب – كمقررات دراسية – أن تُتصور وتُبنى من جديد وأن تقام على أسس إسلامية جديدة وتناط بها أغراض جديدة تتفق مع الإسلام. يجب أن يصاغ كل علم صياغة جديدة بحيث يجسد مبادئ الإسلام في منهجيته و استراتيجية، وفي معطياته ومشاكله، وفي أغراضه وطموحاته. يجب أن يعاد تشكيل كل علم كي يصبح ملائما للإسلام عبر محور أساسي هو "التوحيد" بأبعاده الثلاثة:

البعد الأول: هو وحدة المعرفة التي يجب بمقتضاها أن تسعى كل العلوم إلى طلب معرفة الحقيقة بمنهج عقلي موضوعي نقدي، وهذا سوف يريحنا وإلى الأبد من الزعم الذي يقسم العلم إلى "عقلي" و "نقلى" بما يوحى بأن الثاني غير عقلي؛ أو يقسمه إلى دراسات "علمية ومطلقة" وأخرى "اعتقادية نسبية".

والبعد الثاني: هو وحدة الحياة والتي بمقتضاها يجب أن تأخذ كل العلوم في اعتبارها الطبيعة "الهادفة" للخلق وتعمل على خدمتها، وهذا سيقضى وإلى الأبد على الزعم القائل بأن بعض العلوم عظيم القيمة وبعضها محايد أو عديم القيمة.

أما البعد الثالث: فهو وحدة التاريخ التي يجب بمقتضاها أن تعترف كل العلوم بأن النشاط الإنساني كله ذو طابع اجتماعي أو مرتبط "بالأمة" ، وأن تعمل على خدمة أهداف الأمة في التاريخ. وهذا سوف يقضى على تقسيم العلوم إلى "فردية" و "اجتماعية" مبرزا – وعلى الفور – جميع العلوم [على أنها] إنسانية الطابع وذات ارتباط بالأمة.

ومما لا ريب فيه أن الإسلام ملائم لكل جوانب التفكير والحياة والوجود. وهذا التلاؤم يجب أن يظهر بوضوح تام في كل علم. فالكتب الدراسية المستخدمة في كل علم يجب أن تُكتب من جديد بحيث تضع هذا في موقعه كجزء تكاملي من الرؤية الإسلامية للحقيقة، بل ويجب أن يتلقى المدرسون المسلمون تدريباً على كيفية استخدام الكتب الدراسية الجديدة ، وأن يعاد تشكيل جامعات المسلمين وكلياتهم ومدارسهم بحيث تستأنف قيادتها الرائدة في تاريخ العالم... لقد كانت "المدرسة الإسلامية" التي استمدت حياتها من رؤية الإسلام هذه هي التي أوجدت لنفسها أوقافا هي التي أعطتها شخصيتها القانونية المشتركة واستقلالها؛ مما جعلها نموذجا تحتذيه جامعات باريس وأكسفورد وكولون في القرن العشرين... كذلك فإن هذه الرؤية الإسلامية هي التي جعلت "المدرسة الإسلامية" رائدة في كل مجال من مجالات البحث الإنساني، وكانت هي القالب الذي تصاغ فيه الشخصية الإنسانية وخصائصها ، وهي المخطط لكل إنجازات الأمة في الثقافة والحضارة. وكانت هذه "المدرسة" تراعى برنامج الإسلام الذي يبدأ يومه بصلاة الفجر وينتهي بصلاة العشاء. وكان نشاطها التعليمي عملية معايشة يتعايش فيها الطالب والمعلم بصفة دائمة ويعملون معا وليس أمامها إلا هدف واحد – هو تطبيق سنن الله في الخليقة... كان منهجها التربوي يقوم على شخصية الشيخ المفعمة بالتقوى والتلميذ الذي عليه أن يحاكى شيخه. وكان افتتاحها بإلباس الشيخ تلميذه "العمامة" (وهي أصل القبعة والرداء اللذين يلبسان في حفل التخرج في الوقت الحاضر) وذلك رمزا إلى الثقة الكاملة التي يجب أن يتكلم بها التلميذ بإذن شيخه ونيابة عنه. كانت مستويات التعليم في أعلى درجة وذلك نظرا للخطورة البالغة لوضع كرامة الشيخ وسمعته في يدي الطالب. كان الوصول إلى هذا "الإحسان" [أو الإتقان] ممكنا لأنه قام على أساس الرؤية الإسلامية، ولأن العزيمة والتفاني في طلب الحقيقة كانا ممحضين لله وحده.

ومع هذا، وعلى الرغم من كل هذا، فقد وجد المسلمون أنفسهم في مطلع القرن الخامس عشر الهجري محاصرين بطوفان من الطلاب، وليس في أيديهم مخططات لنظام تعليمي ينمو نمواً طبيعياً، [يواجَهون] بانفجار في المعرفة على كل الجبهات مع انعدام المخططات التي تمكن الأساتذة والمؤسسات التعليمية من مواجهته بنجاح... والنتيجة أن العالم الإسلامي استمر يرسل إلى الغرب أعدادا متزايدة من شبابه ليتعلموا ويتدربوا ، ولكنه ظل مع ذلك يعانى فقده لهم نتيجة "هجرة الأدمغة". وزيادة في المأساة ، كان مطلع القرن الخامس عشر الهجري صدمة للضمير الإسلامي إذ تزامنت معه الحرب الدائرة بين العراق والجمهورية الإسلامية في إيران ، وغزو الاتحاد السوفيتي لأفغانستان وغزو إسرائيل للبنان وضم مرتفعات الجولان ومخططات ضم فلسطين كاملة وحروب الصحراء الغربية المستمرة واستمرار احتلال وضم كشمير وبنجلادش ، واضطهاد الشعب المسلم في الهند (وهم يشكلون أكبر أقلية عرفها التاريخ). والأمَرُّ من هذا، أن العاملين لإنهاض المسلمين أصبحوا على مستوى العالم هدفاً للاتهام والاضطهاد والتشويه. وأصبح مستقبل الإسلام نفسه في خطر.

كل هذه الظواهر لفَّت "الأمة" في ظلمة وكآبة ... وليس ثمة موقف عصيب إلى درجة المأساة أكثر من أن يصبح مفكرو "الأمة" وكل همهم أن يركزوا فكرهم في تشخيص دائها والبحث عن علاج له... إن صرخة الجهاد "الله أكبر" لم تكن يوما مطلباً ملحاً في التاريخ الإسلامي على المستوى الفكري أكثر منها اليوم.

عسى أن ينهض مفكرو "الأمة" ويرتفعوا إلى مستوى التحدي ! أسأل الله تعالى أن يحفهم دائما بهدايته ، وأن يوفقهم إلى أن يحققوا في هذا المجال ما يرضى الله تعالى ورسوله (r) وجميع المؤمنين.

ذو الحجة 1402 هـ/ 1982 م

إسماعيل راجي الفاروقي

مدير المعهد العالمي للفكر الإسلامي

وينيكوت ، بنسلفانيا

الولايات المتحدة الأمريكية

الفصل الأول

المشكلة

أولا : اعتلال الأمة

تقف الأمة الإسلامية اليوم في مؤخرة ركب الأمم ... ولم يشهد هذا القرن أمة تعرضت لمثل ما تعرضت له الأمة الإسلامية من هزيمة وإذلال. لقد هزم المسلمين وقتلوا وسلبت منهم أوطانهم وثرواتهم، بل وأرواحهم وآمالهم... لقد خُدعوا فاستُعمروا واستُغلوا؛ وفُتنوا في عقيدتهم وأُدخلوا بالقوة أو بالرشوة في أديان أخرى... وقام أعداؤهم من الخارج مستعينين بعملائهم في الداخل فحولوهم إلى علمانيين أو عبيد للغرب وجردوهم من إسلامهم. كل هذا حدث في كل دولة وكل ركن في العالم الإسلامي ، ورغم أن المسلمين كانوا ضحايا الظلم والعدوان في كل ناحية ، فقد ساهمت كل الأمم في تشويه صورتهم وتلطيخ سمعتهم ، إن صفحتهم هي أشد الصفحات سوادا في عالم اليوم... وقد دأبت وسائل الإعلام في أيامنا هذه على تصوير "المسلم" على أنه عدواني ، مخرب ، مخادع ، مستغل ، قاس ، متوحش ، متمرد ، إرهابي ، همجي ، متعصب ، متحجر الفكر ، متخلف ، سقيم الرأي... وقد أصبح لذلك محل الكراهية والاحتقار من غير المسلمين جميعهم سواء أكانوا متقدمين أم متخلفين، رأسماليين أم ماركسيين ، شرقيين أم غربيين، متحضرين أم همجيين... ولا يعرفون عن العالم الإسلامي إلا ما فيه من صراعات وانقسامات واضطرابات وتناقضات وحروب تهدد السلام العالمي، وإلا ما فيه من ثراء فاحش وفقر مدقع ، ومجاعات وأمراض وبائية ، إن "العالم الإسلامي" في نظر الناس اليوم هو "الرجل المريض" [المنتظَر موته] ، ويريد الأعداء أن يجعلوا العالم يقتنع بأن "دين الإسلام" يقف وراء كل هذه الشرور... والأمر الذي يجعل هذه الهزيمة وهذا الإذلال والتشويه أمورا لا تطاق أبداً أن تعداد هذه الأمة يفوق المليار ، وأنها تملك أوسع رقعة من الأرض المتصلة وأغناها ، وأن إمكانياتها من الموارد البشرية والمادية و الاستراتيجية أعظم من غيرها ، وأن عقيدتها "الإسلام" دين متكامل وصالح ، وإيجابي وواقعي.

ثانيا: الأعراض الرئيسية للمرض

1. على الصعيد السياسي:

"الأمة" منقسمة على نفسها... لقد نجحت القوى الاستعمارية في تفتيت "الأمة" إلى نحو خمسين وحدة سياسية أو أكثر ، وجعلت كلا منها عدوا للأخرى. وقد أقيمت الحدود بين الدول الإسلامية بحيث تخلق خلافات دائمة بين كل دولة والدول المجاورة لها.

والأعداء في مؤامراتهم يستغلون باستمرار مناطق الخلاف هذه لإثارة أسباب التنافر والعداوة... أما داخلياً، فإن كل دولة إسلامية منقسمة بدورها على نفسها ، لا وئام بين عناصر شعبها ، وتجد من بينها مجموعة معينة وضع السادة المستعمرون السلطات في يدها... وليس هناك دولة أعطيت الوقت أو السلام أو الموارد اللازمة لتحقيق التكامل بين أبناء شعبها وتكوّن منهم وحدة واحدة ؛ ولم يسمح لأي دولتين أن تتحدا لتكونا معا وحدة أكبر... ولكي يصبح الوضع أكثر سوءاً استقدم العدو عناصر أجنبية إلى العالم الإسلامي كي يضمن وجود صراع مستمر بينهم وبين أهل البلد ؛ أو عمل على إدخال بعض أهل البلد في المسيحية الغربية التي تجعلهم بالضرورة أجانب بالنسبة إلى مواطنيهم المسلمين ؛ أو دس بين غير المسلمين من المواطنين فكرة الشعور بشخصية متميزة مما يضعهم في مواجهة مع المسلمين . وأخيرا، خلق العدو كيانات "أجنبية" داخل جسم الأمة وجعل منها دولاً معادية بهدف توجيه طاقات المسلمين بعيداً عن البناء واستنزافها في حروب لا طائل وراءها ، أو لتكون قاعدة يستخدمها الاستعمار إذا ما قرر أن يحتل تلك البلاد ثانية من أجل مصالح القوى الاستعمارية الاقتصادية و الاستراتيجية... وليس من بين الدول الإسلامية دولة تشعر بالأمن الداخلي ولا بالأمن الخارجي . إن كل حكومات الدول الإسلامية تنفق الجزء الأكبر من مواردها وطاقاتها لتأمين قوتها في الداخل وسلامتها من الخارج ، ولكن دون فائدة.

قامت الإدارة الاستعمارية بتحطيم كافة المؤسسات السياسية في كل بلد على امتداد العالم الإسلامي كله باستثناء عدد قليل من الأقطار وجد العدو أن حكامها على استعداد للتعاون معه... وحين حان أوان انسحاب الإدارات الاستعمارية عهدت بالسلطة إلى "الصفوة" من أهل البلد ممن كان قد سبق تعبيدهم وصبغهم بالصبغة الغربية. أما القوة الحقيقية فقد بقيت في أيدي العسكريين وحدهم ، فعَدَوْا على السلطة واغتصبوها في أول فرصة سنحت ... إن المسلمين – في أغلب الحالات – يحكمهم العسكر وذلك لخلو مجتمعاتهم من التشكيلات السياسية القادرة على إدارة جهاز الحكم ، أو على تحريك الجماهير ودفعها إلى المقاومة أو على قيادتها للقيام بعمل سياسي بناء ، أو حتى على العمل في تعاون وذلك أضعف الإيمان.

2- على الصعيد الاقتصادي:

الأمة غير نامية بل ومتخلفة... أغلبيتها الساحقة في كل مكان أميون. إنتاجها من السلع والخدمات أقل كثيرا من الاحتياجات التي تُشبع دائما عن طريق البضائع الجاهزة المستوردة من القوى الاستعمارية. وحتى في مجال المتطلبات الأساسية للحياة من أطعمة وملابس وطاقة وآلات لا نجد دولة إسلامية تستطيع الاعتماد على نفسها... ومن الممكن أن تواجه أي من هذه الدول مجاعة إذا ما قررت القوى الاستعمارية لأي سبب أن توقف هذه التجارة الظالمة معها... في كل مكان تعمل المصالح الاستعمارية على خلق رغبات ومطالب استهلاكية لمنتجات الاستعماريين، بينما احتياجات المسلمين إلى آلات إنتاجية لا يلقى إليها أحد بالاً... وفي ميدان المنافسة مع المنتجات المحلية للمسلمين ينجح الاستعماريون في طردها من السوق، وإذا ساعد الاستعماريون في تنمية صناعة ما في بلاد المسلمين فإنهم يجعلونها معتمدة على ما لديهم من مواد خام أو مصنعة لا تتوفر إلا عندهم، فبذلك تصبح خاضعة لهم تعمل تحت رحمتهم ، وتخدم أغراضهم الاستعمارية ، وفي معظم الأحوال لا يخطط للصناعات الجديدة في بلاد المسلمين لتواجه الاحتياجات الأساسية ، وإنما لتواجه المتطلبات الكمالية التي خلقتها وسائل الدعاية الاستعمارية المكثفة... إن الاكتفاء الذاتي للمسلمين في مجال الزراعة هو العدو الأول للاستعماريين، إذ هو الأساس الذي لا غنى عنه ليتمكنوا من مقاومة أي مخطط استعماري في الوقت الراهن وفي المستقبل. في كل مكان تجد الفلاحين المسلمين يُقتلعون من قراهم نتيجة الوعود الزائفة بحياة أفضل في المدن ، وإغراء الوظائف المؤقتة في مشاريع لا أمان لها كالبناء وصناعات السلع الاستهلاكية ، ونتيجة لاستغلال ملاك الأراضي وجامعي الضرائب فإنهم يهاجرون إلى العواصم ليعيشوا في مدن من الأكواخ تعتمد أساساً على الأطعمة المستوردة ، وهم مستعدون للسير وراء أي مهرج يقودهم.

إن كنوز البترول التي شاء الله أن يمنحها لبعض الأقطار الإسلامية لم تصبح النعمة التي كانت ترتجى... هذه الثروة التي وُجدت غالباً في البلاد قليلة السكان قد دفعت الحكومات إلى انتهاج سياسة عنصرية ، وإلى تبديد الثروات في تطوير بلادهم تطويراً "تجميلياً" زائفا. والحق أن هذه الثروات طائلة إلى حد أن مثل هذه الاهتمامات لا يمكن أن تستنفذها، ومن هنا فإنها توجه نحو استثمار "سهل ومضمون" في أسواق المال غير الإسلامية ، وهناك تساعد أعداء الإسلام ليصبحوا أكثر قوة، وذلك لأن عدم الاستقرار السياسي في كل بلاد العالم الإسلامي يجعل من أي تخطيط أو استثمار طويل الأمد مخاطرة كبيرة لا يقدم عليها أي مستثمر حريص... وعلى هذا، فإن مناطق العالم الإسلامي التي تتمتع بإمكانات تؤهل لتطور مهم في الزراعة أو في الصناعة تبقى محرومة من رؤوس الأموال الممولة .. إن رؤوس الأموال التي يمكن أن تطور هذه الإمكانيات إلى رخاء حقيقي لصالح "الأمة" كلها إنما توجه إلى مواقع أخرى.

3- على الصعيد الثقافي والديني:

إن انحطاط المسلمين الذي دام قرونا قد أدى إلى انتشار الأمية والجهل والخرافة بينهم ... وهذه الشرور قد أدت بالمسلم العادي إلى أن "ينعم" بعقيدة قائمة على التقليد الأعمى ، وأن يتجه نحو الحَرْفية والشكلية القانونية، أو أن يعبِّد روحه لشيخه... وهذا بدوره قد ربى فيه استعدادا غير قليل للانهزامية... فحين فرض العالم الحديث نفسه عليه أصيب بالذعر نتيجة لضعفه العسكري والسياسي والاقتصادي ، فسارع لذلك إلى ضرب من الإصلاح الجزئي ظنا منه أن ذلك سيعينه سريعاً على أن يستعيد الأساس الذي ضاع منه ، فاتجه – دون وعى منه – إلى تقليد الغرب ، أغراه بذلك نموذج التجربة الغربية الناجح وناصِحُوه من الغربيين أو المستغربين... وفي المناطق الخاضعة للإدارة الاستعمارية فُرضت عملية "التغريب" فرضا ، وعُززت بكل ما تحت أيدي الحكام من وسائل متاحة... وسواء أكان ذلك عن حسن نية أو عن سوء نية ، فقد كان الزعماء المسلمون من دعاة التغريب لا يعلمون أن تلك البرامج ستؤدى – عاجلا أو آجلا – إلى تعريض الدين الإسلامي وثقافة شعوبهم للخطر... إن الروابط بين مظاهر الإنتاج والقوة الغربيين من ناحية ، والأفكار الغربية عن الله والإنسان ، وعن الحياة والطبيعة والعالم، وعن الزمان والتاريخ من ناحية أخرى،-- هذه الروابط كانت من الدقة بحيث لم يلحظوها أو يعقلوها في غمرة تعجلهم... والنتيجة أن قام نظام تعليمي عَلماني يلقن القيم والمناهج الغربية، وسرعان ما بدأ هذا النظام يصب في نهر المجتمع أجيالا من الخرجين الجاهلين بتراثهم الإسلامي، وقد صاحب هذا الجهل شك من حراس التراث ، أعنى "العلماء"، الذين كانوا حسني النية على الرغم من التراثية الجامدة أو الحَرفية أو الشكلية القانونية أو الصوفية التي نزعوا إليها... وهكذا بدأت الفجوة تتسع بين صفوف "الأمة" لتقسيمها ما بين دعاة للعَلمانية والتغريب في جانب ومناهضين للعلمانية من جانب آخر... وقد عنيت القوى الاستعمارية بالوضع بحيث أصبحت الفئة الأولى هي صانعة القرار في المتجمع.

وأصبح كل شيء إسلامي هدفاً للهجوم ... سواء على أيدي الاستعماريين مباشرة أو على أيدي أدواتهم من أهل البلاد ... ولم ينج من هذا الهجوم حتى النص القرآني ، أو صدق الرسول (r) وسنته ، أو كمال "الشريعة" ، أو أمجاد إنجازات المسلمين في ميادين الثقافة والحضارة... كان الهدف هو غرس الشك في ثقة المسلم بنفسه وبأمته وبعقيدته وسلفه الصالح وذلك لتدمير وعيه الإسلامي وإفساد شخصيته الإسلامية وجعله نتيجة لذلك أكثر خضوعاً تعوزه القدرة الروحية اللازمة للمقاومة. وعوضاً عن ذلك ملأ الاستعماريون وأدواتهم حياة المسلم اليومية بما يصبغه بصبغة الثقافة الغربية... فالصحف والكتب والمجلات والإذاعة المسموعة والسينما والمسرح والمواد المسجلة ولوحات الإعلانات واللافتات الضوئية ، كلها تمطره يومياً بوابل من تلك المؤامرات. لقد صارت الحكومات الإسلامية تفتخر بما لديها من شوارع واسعة في عواصمها مرصعة بالعمارات ذات الشقق أو المكاتب الفخمة على الطراز الغربي ، وذلك دون أن يشعروا بالخجل من الفساد السياسي والانحطاط الخلقي الذي ملأ مدنهم وقراهم... صارت العلية من المستغربين يترددون على الصالات العامة ليشاهدوا ويستمعوا إلى فيلم أو "أوبرا" أو حفلة موسيقية أو "دراما"، على حين يقرأ عنها أبناؤهم وبناتهم في المدارس والكليات العَلمانية أو التبشيرية دون أن يدركوا تناقض كل هذا مع كل ما يفكرون فيه أو يؤدونه... فأولئك الذين أكملوا "تغريب" أنفسهم من بينهم وقفوا في غرابة ضد بيئتهم وأرضيتهم الإسلامية ... أما الثقافة الإسلامية المتكاملة ووحدة النهج الإسلامي للحياة فقد تحطمت في ذواتهم، وفي فكرهم وفي عملهم، وفي بيوتهم وعائلاتهم... وبكل وقاحة أُدخلت المؤسسات والتقاليد الاجتماعية الغربية... فبدلا من أن تسمو النساء المسلمات بأنفسهم إلى ذرى الفضيلة والفعالية في المجتمع كما أراد لهن الإسلام ، إذ بهن يتهالكن على مظاهر الانحطاط الغربي : العرى المتزايد والتبرج ، والاستهلاك الاقتصادي بهدف التحلل الفردي، أو لانكباب الأناني على الملذات ، والتهرب من الواجبات التي تفرضها مطالب الحياة المتزايدة.

لا أثر في عواصمنا لفن المعمار ولا لفن تخطيط المدن الإسلاميين... مراكزنا الحضرية التي تتورم بسرعة تكرر كل الأخطاء والنقائص التي وقعت فيها المدينة الغربية وهي تتعرض لتجربة الثورة الصناعية قبل قرنين من الزمان، وكأننا أصبحنا عاجزين تماما عن الاستفادة من أخطاء الآخرين... بيوتنا وما فيها من أثاث وتنسيق إنما هي مزيج غريب من كل الأساليب مما يعكس اضطراب أفكارنا عن هويتنا وخصائصنا.

وباختصار، لقد نزل المسلم بنفسه إلى درك الهمجية وذلك على الرغم من ادعائه غير ذلك إلى حد صبغ نفسه بصبغة "الغرب"... لقد أصبحت حياته خليطاً من أساليب شتى و مبتوتة الصلة بماضيه... لقد جعل من نفسه شيئاً لا هو بالإسلامي ولا هو بالغربي ، جعلها "مسخاً ثقافياً" للعصور الحديثة.

ثالثا : مكمن الداء

ليس هناك أدنى ريب في أن مركز الداء ومنبعه في هذه الأمة إنما هو النظام التعليمي السائد... إنه التربة الخصبة لتربية العلل... في المدارس والكليات تولد وتؤيَّد عملية تغريب النفس عن الإسلام: عن تراثه وأسلوبه... إن النظام التعليمي هو المعمل الذي فيه يُعجن ويشكَّل الشباب المسلم ، وهناك يصاغ وعيهم في قالب هو صورة ممسوخة للغرب ، وتفصم الرابطة بين المسلم وماضيه وتوضع في وضع حرج رغبته الطبيعية في التطلع لمعرفة تراث أسلافه... ونتيجة للشكوك التي بثها هذا النظام في أعماق وعيه تصاب بالتبلد رغبته في أن يقف مع أسلافه على أرض مشتركة لينطلق منها نحو بعث لإسلام جديد وملائم للعصر.

1- الوضع الراهن للتعليم في العالم الإسلامي:

التعليم في العالم الإسلامي في أسوأ حالاته على الرغم من التوسع الهائل الذي تم حتى الآن، أما فيما يتعلق "بأسلمة التعليم" فلم تكن المدارس والكليات والجامعات – التقليدية منها والعلمانية – بأشد جرأة مما هي عليه اليوم في الدعوة إلى مبادئها اللاإسلامية ، كما أن الأغلبية الساحقة من الشباب المسلم لم تكن في يوم من الأيام أكثر افتنانا بهذه المبادئ منها اليوم... ولما كان النظام التعليمي العَلماني قد نشأ في ظل الإدارات الاستعمارية فقد احتل مساحة هائلة من المساحة وأُبعد عنها النظام الإسلامي... ظل التعليم الإسلامي في جملته قائماً على الجهد الذاتي الفردي محروماً من الاستفادة من الاعتمادات المالية الحكومية... وحيثما توفرت تلك الاعتمادات فإن متطلبات "العلمنة" كانت تفرض نفسها باسم الحداثة والتقدم... كان هذا يؤدى إلى تقسيم المنهج الدراسي إلى شعبتين متقابلتين بل متعارضتين – تدعى إحداهما "إسلامية" والأخرى "حديثة" (كذا!) ، معتبرين الأزهر هو النموذج التقليدي... فأما الشعبة الإسلامية فتبقى على حالها دون تغيير بدعوى المحافظة ومن أجل مصالح مكتسبة ، من ناحية، ومن ناحية أخرى لأن العلمانية تخطط لإبعاد التعليم الإسلامي عن الاحتكاك بالواقع وبالتطورات الحديثة وذلك حتى لا يشكل خريجوه عناصر منافسة لخريجي المعاهد العًلمانية... كل هذا خطط له دهاقنة الاستعمار بعد درس وتمحيص... أما الدَّفعة الكبرى للنظام العَلماني فقد جاءت بعد الاستقلال إذ تبنته الدولة طريقاً لها ومنهجاً وصبت فيه الاعتمادات المالية الحكومية ، بل وأغرقت من هذا المنهج العَلماني بدعوى القومية والوطنية... إن سيادة قوى "التغريب" و "العلمانية" وما ينتج عن ذلك من إبعاد المدرسين والطلاب عن الإسلام ، كل ذلك لا يزال يعمل عمله في الكليات والجامعات بكل قوة ولم يقم أحد بأي عمل يكبح جماح هذا الانحراف... والحق أن الوضع الآن أسوأ مما كان عليه أيام الاستعمار، زمانئذ كانت هناك روح المقاومة والبحث عن التحرير وعن حل إسلامي تفعل فعلها في كل النفوس تقريباً. أما الآن فقد سادت روح الاستخفاف والبلادة وانعدمت الثقة في كل القيادات ، ومردُّ ذلك في الجملة إلى الوعود الزائفة المتكررة التي لا يعقبها سوى الخيبة ، وإلى النماذج السيئة التي يراها الناس في أولئك القادة المفلسين أخلاقياً... وليس هناك حكومة إسلامية ولا إدارة جامعية ولا مؤسسة خاصة تفعل أي شيء لعلاج أخلاقيات الشباب المنهارة ، أو لإنقاذهم من هذا التعليم الذي لا يزال يعمل على سلخهم من إسلامهم . إن برامج الإنشاءات الضخمة في الدول الغنية ، وما يستتبع ذلك من توسع في أعداد الطلاب والكليات والإمكانيات المساعدة ، إنما توجه كلها لخدمة قضية العلمانية... وما أقل ما يوجه من تلك الاعتمادات لإحداث "تطور" حقيقي ، أعنى تحسين الصبغة الإسلامية للتعليم وتوجيه الطلاب والهيئة التدريسية توجيهاً إسلامياً... في كل مكان نجد أن نموذج التعليم الغربي هو ما يتسابق إليه الجميع في سرعة مذهلة.

2- انعدام الرؤية:

إن المحصلة النهائية لذلك ليست النموذج الغربي المنشود ، وإنما صورة مهزوزة منه ، مهما تكن الدعاوى الكثيرة التي تزعم غير ذلك. إن النموذج الغربي في التربية – شأنه شأن النموذج الإسلامي- يقوم أساسا على رؤية محددة ولكنها مباينة للرؤية الإسلامية ..ويقوم على عزيمة تنفث فيه الحياة ليحقق هذه الرؤية... إن المباني والمكاتب والمكتبات والمختبرات وفصول الدراسة والقاعات الكبيرة التي تعج بالطلاب ليست سوى أدوات مادية لا قيمة لها بدون رؤية واضحة، ومن طبيعة الرؤية أنها لا يمكن أن تقلَّد أو تستنسخ ، وإن كانت مظاهرها الخارجية والعَرَضية فقط يمكن أن تقتبس . ولهذا فإن المسلمين في خلال هذين القرنين من التربية العَلمانية لم ينتجوا شيئاً يوازى في الإبداع أو الامتياز ما في الغرب – لم ينتجوا مدرسة أو كلية أو جامعة أو جيلاً من العلماء المتميزين... والنتيجة الحتمية لغياب هذه الرؤية هي هذه المشكلة المستعصية على الحل – مشكلة انخفاض المستوى في مؤسسات العالم الإسلامي... إن البحث الأصيل عن المعرفة لا وجود له دون "روح" تبعث فيه الحياة ، وهذه الروح هي بالذات ما لا يمكن اقتباسه ، وذلك لأنها تتولد من الرؤية الواضحة للنفس وللعالم وللحقيقة ، أي من الدين... وهذا هو ما يفتقده نظام التعليم في العالم الإسلامي اليوم... إن القيادات التعليمية عندنا ليس لديها بالطبيعة رؤية الرجل الغربي ، كما أنها باختيارها – أي بسبب الجهل والخمول والسلبية – لا تمتلك الرؤية الإسلامية... إنها قيادات مادية المنزع ، ليس لديها ثقافة أو قضية تشغلها... لقد أصبحت القومية هي مصدر الإلهام للجامعات الغربية طيلة القرنين الماضيين ، وذلك لأن "الرومانسية" قد استبدلت "الأمة" بإله المسيحية الذي مات [بزعمهم] ، وجعلت من الأمة "الحقيقة المطلقة" والأصيلة... أما بالنسبة للمسلم فليس هناك "حقيقة مطلقة" سوى الله ؛ ومن ثم فإن الولاء المطلق للأمة أو للدولة عنده ليس أمرا مستحيلا فقط وإنما هو كفر... ومهما تكن الرابطة التي تربط المسلم بتراثه وماضيه ، فمن غير الممكن بالنسبة له أن يكون "قوميا" بنفس المعنى الذي لدى الأوروبي الذي تخلص من مسيحيته.

أنظر إلى المثل الأعلى للمدرس في الجامعات في العالم الإسلامي، أعنى الأستاذ الحاصل على الدكتوراه من إحدى الجامعات الغربية... لقد تعلم في الغرب وتخرج بمعدل متوسط أو دون المتوسط، ولما لم تكن دوافعه دينية ، بمعنى أنه لم يطلب العلم ابتغاء مرضاة الله جل وعلا ، بل لأهداف مادية أنانية (أو قومية على أحسن تقدير) فإنه لم يحرص على نيل كل المتاح من العلوم في الغرب ، ولم يستطع أن يتفوق على أساتذته الغربيين في مجالاتهم ، كما لم يتمثل ما تعلمه ولا حاول بالطبع إعادة تقييمه في إطار الرؤية الإسلامية للمعرفة وللحقيقة على غرار ما فعل أسلافه الذين تعلموا علوم الأمم القديمة من يونان وفرس وهنود وصبغوها بالصبغة الإسلامية... وبدلاً من أن يفعل ذلك ، اكتفي هذا الأستاذ بالنجاح ونيل الدرجة ثم العودة إلى بلده ليحصل على منصب يهيئ له الثروة والرفعة... ويكفيه ما قرأه من كتب أثناء الدراسة إذ لم يعد لديه الآن وقت أو طاقة أو دافع ليمد من آفاق معرفته إلى أبعد مما حصل... بل إن ظروف عمله ومعيشته لتزيد في إلهائه عن التطلع إلى مثل تلك الآفاق العليا... أما طَلَبته فمن الطبيعي أن يتخرجوا على يديه وهم أقل منه كفاءة وأضعف دفاعاً... حتى المثَل الأعلى الغربي صار في نظرهم أبعد وأضأل... وهكذا تهبط المستويات ويصبح التعليم الغربي في بلاد المسلمين صورة مهزوزة لحقيقته في الغرب.

إن المواد والمناهج التي تدرس في البلاد الإسلامية حالياً إنما هي نسخ مما عند الغربيين لكن مع افتقارها للرؤية التي تمدها بالحياة في بيئتها الأصلية... وهي بهذه الصورة تصبح من عوامل الضعف ، هذه المواد والمناهج التي لا روح فيها تظل – بشكل لا شعوري – تؤثر في الطالب تأثيراً سيئاً معادياً للإسلام من حيث إنها تقف كبدائل للمواد والمناهج الإسلامية وكعوامل للتقدم والتحديث. إنها تجعل من الخريج في جامعات العالم الإسلامي نموذجاً للشباب المغرور الذي يظن نفسه العلم مع أنه في الحقيقة لا يعرف إلا قليلاً.

وهكذا تصبح إمكانية تفوق الطالب المسلم في علوم الغرب أمراً بعيد المنال، ذلك لأن مثل هذا التفوق يتطلب من الدارس تصوراً شاملاً لمجموع المعارف في مجال الدراسة، كما يتطلب منه أن يكون مدفوعاً بفكرة تحركه ليستوعب هذه المعارف ثم يتجاوزها ويزيد عليها. هذا الاستيعاب الشامل والتفوق ثمرة للدوافع والفكرة المحركة، والأخيران لا يتولدان إلا من الالتزام بقضية. أما بدون قضية فلا يمكن أن ينهض الدارس ليستوعب مجموع المعارف في مجال دراسته. وإذا لم يستوعبها فكيف يمكنه أن يتجاوزها ويتفوق عليها؟! وليس للمسلم من قضية يلتزم بها سوى الإسلام. وإذا لم توجد هذه القضية فمحال أن يصل المدرسون الذين تعلموا في الغرب إلى استيعاب شامل للمعرفة... وإذا فقدوا – كمدرسين في الجامعات – هذه المتطلبات الضرورية للتفوق فهل يمكن أن يمنحوها لطلابهم؟ إنهم عادة يقنعون باستنساخ ما حصلوه من معارف جزئية أو بترجمتها ، وهذا يؤدى بهم وبطلابهم إلى ضعف في مستوى الأداء على أحسن الاحتمالات.

إن المأساة الكبرى للتعليم في العالم الإسلامي تتمثل يقيناً في أن الأساتذة في جامعات العالم الإسلامي لا تسيطر عليهم الرؤية الإسلامية ولا تحفزهم قضية الإسلام... إن الطلاب في كل بلاد العالم الإسلامي يدخلون الجامعات وكل ما تسلحوا به – فيما يتصل بالرؤية الإسلامية – معلومات ضئيلة عن الإسلام تلقوها في بيوتهم أو في المدرسة الابتدائية أو الثانوية... وواضح أن هذا لا يكوِّن "رؤية" ولا يوجِد "قضية"... ومن هنا، فإن الطالب المستجد يدخل وهو كالصفحة البيضاء من حيث "المبادئ"... إنه قد يحمل بعض العواطف ، لكنه بالتأكيد خلو من "الأفكار والمبادئ" الواضحة... فهذه العواطف – إن وجدت – لن تلبث أن تنهار حين تواجَه بما يقدمه له "العلم" في مجال التخصص على أنه "مبادئ" و "حقائق" وأحكام "موضوعية" في حين أنه ليس لدى هذا الطالب شيء يدفع به عن نفسه من نحو تصور إسلامي واضح يمكنه من المواجهة على هذا المستوى "الفكري". إن هذا الطالب إذا تخرج ولم يتأصل لديه الإلحاد أو العلمانية أو الشيوعية فإن الإسلام سيكون في نظره قد انحسر إلى مجرد رباط عاطفي شخصي بينه وبين أسرته أو الناس من حوله... أما الإسلام النابض بالحياة الغنى بأفضل المبادئ التي تلائم وتحل كل مشكلة فإنه لا يدرى عنه شيئاً... وعلى مستوى "الفكرة والمبدأ" نجد الطالب في جامعات العالم الإسلامي يواجِهُ الأفكار والمبادئ الأجنبية التي تقدم إليه في الكتب أو في قاعات الدرس بوسائل دفاع لا تجدي فتيلاً ، إنه يكون أشبه بجندي يواجه بالسيف والرمح جندياً آخر مدججاً بالدبابة والمدفع ... وليس هناك مكان في العالم الإسلامي يدرّس فيه التصور الإسلامي لمجموع الطلاب كما يدرس التصور الغربي لطلاب المدارس الثانوية في الغرب، أعنى بنفس ذلك المستوى من التناسق والشمولية والجدية والالتزام الفائقين بالنسبة لجميع الطلاب... فليس هناك جامعة في العالم الإسلامي تجعل مثل هذا التصور الإسلامي جزءاً من البرنامج الدراسي الأساسي وتفرضه على جميع الطلاب.

الفصل الثاني

الواجب المطلوب

إن أعظم مهمة تواجه "الأمة" في القرن الخامس عشر الهجري هي حل مشكلة التعليم ، وليس هناك أمل في بعث حقيقي للأمة مالم يتم تجديد النظام التعليمي وإصلاح أخطائه ، والحق أن ما نحتاج إليه إنما هو إعادة تشكيل النظام من جديد . إن هذه الثنائية في التعليم [في العالم] الإسلامي وتقسيمه إلى نظامين "إسلامي" و "علماني" يجب أن تزال ويقضى عليها إلى الأبد . يجب أن يدمج النظامان ويتكاملا في نظام واحد وأن يشبّع بروح الإسلام ليصبح جزءا وظيفيا لا يتجزأ من برنامجه "الفكري" . يجب ألا يسمح لهذا النظام الجديد أن يكون تقليدا للغرب ولا أن يترك حرا يختط لنفسه أي طريق كان . كذلك يجب ألا يُتهاون معه بحيث يصبح أداة لخدمة الاحتياجات الاقتصادية أو العملية للطلاب من أجل معارف مهنية ، أو تقدم شخصي ، أو منفعة مادية . يجب أن تناط بالنظام التعليمي رسالة ، ولا يمكن لهذه الرسالة إلا أن تكون "نقل الرؤية الإسلامية" ، وتربية الإرادة لتحقيقها في الزمان والمكان,

إن القيام بمثل هذه المهمة لاشك أمر صعب ومكلف ، لكن "الأمة" في مجموعها تنفق على التعليم نسبة من مجمل ناتجها القومي وميزانيتها السنوية أقل بكثير مما تنفقه الأمم الأخرى في العالم اليوم، وحتى في الدول الغنية التي ترصد ميزانيات غنية للتعليم فإن معظم ما ينفق يكون على المباني والإداريات وليس على البحوث والأنشطة التعليمية بكل ما في الكلمة من معنى . إن على "الأمة" أن تنفق على التعليم أكثر بكثير مما تفعل اليوم، وذلك لتجتذب أفضل العقول ولتعينهم على أن يحافظوا على النعمة والمنزلة التي أنعم الله تعالى عليهم بها إذ جعلهم "أهل العلم" أو "طلابه".

أولا : توحيد نظامي التعليم

ينبغي أن يوحد النظام التعليمي الإسلامي، المكون من المدارس الابتدائية والثانوية والكليات والجامعات مع النظام العلماني في المدارس العامة والجامعات. هذا التوحيد يجب أن يصطفي للنظام الجديد الموحد ما يتمتع به كل من النظامين من مزايا ، أعني: مصادر التمويل الحكومية والالتزام بالرؤية الإسلامية. كما يجب أن يكون هذا التوحيد فرصة للتخلص من نقائصهما وهي : عدم ملاءمة الكتب الدراسية القديمة ونقص كفاءة المدرسين في النظام التقليدي ، والتشبه بالغرب العلماني في مناهجه ومثله في النظام العلماني.

هذه المزايا يمكن أن تتوفر للنظام الجديد إذا ما وافقت الحكومات المعنية على أن تخصص له الاعتمادات اللازمة دون أن تمارس عليه سيطرة خانقة . لابد من اتخاذ الخطوات اللازمة لجعل هذا النظام التعليمي الجديد مؤمّنا- إن لم يكن مستقلاً تماماً- من الناحية المالية، وذلك بالحث على إيجاد أوقاف ينفق على النظام أو بعض جوانبه من ريعها . وتلك هي "الأوقاف" التي تعرفها الشريعة وتحميها من أجل صالح الأمة . لقد كان لأوقاف كل "مدرسة" الفضل في ضمان استقلالها في الماضي وتمكين أساتذتها وطلابها من أن يطلبوا العلم ابتغاء مرضاة الله تعالى وحده، وهذا هو الشرط الضروري لوجود أي بحث ناجح عن الحقيقة. كما كانت مؤسسة الوقف هي التي أعطت "المدرسة" شخصيتها الثانوية المتميزة لأول مرة في التاريخ. تلك "المدارس" التي قامت على أساس "الوقف" هي التي كانت النموذج الذي أنشئت على مثاله الجامعات الأولى في الغرب حين أسست منذ ثمانية قرون.

ولكن نتيجة للانفجار المعرفي وللزيادة في عدد الطلاب أيضا فقد أصبحت النفقات اللازمة للتعليم في الوقت الحاضر كبيرة جدا بحيث لا تستطيع الأوقاف وحدها أن تواجهها. ومن هنا يكون من الضروري تخصيص نسبة سنوية من الميزانية العامة. ولكن على الدولة أن يكون لديها القدر الكافي من الحكمة لتتفاوض مع رجال التعليم حول مقدار المعونة الحكومية وأن تأتمنهم على استخدامها على أفضل وجه ممكن. وإذا كانت الجامعات الحكومية في الغرب تفعل هذا، فمن اللغو أن يزعم أحد أن المسلمين الملتزمين بتعاليم القرآن غير قادرين على فعل الشيء نفسه. إن الأمة التي لا تحترم المتعلمين من أبنائها وبناتها ولا تبذل من نفسها لتنقل إليهم تراث أسلافهم الروحي والثقافي ولا تمكّن شبابها من أن يضيفوا إلى تقاليدهم ويثروها، مثل هذه الأمة لا خير فيها ولا مستقبل لها. إنه الدليل على الطغيان ألا تأمن الدولة رجال التعليم فيها على القيام بوظائفهم دون رقابة بوليسية على المؤسسات التعليمية. كما أن من أدلة التدهور أن يضطر المتخصصون في التعليم إلى أن يتلقوا من الحكام السياسيين تعليمات عن ماذا يدرّسون وكيف يديرون شؤونهم الأكاديمية.

ثانيا : غرس الرؤية الإسلامية

ينتظر من هذا الاتحاد بين النظامين أن يؤدي إلى شيء أبعد من مجرد توفير الوسائل للنظام الإسلامي وتحقيق الاستقلالية للنظام العلماني... إن من المنتظر منه أن يزود "العلماني" بالمعرفة الإسلامية و "الإسلامي" بالمعرفة الحديثة. بالنسبة للتعليم الابتدائي والثانوي يجب وضع حد لجريمة ترك الشباب المسلم تحت أيدي المبشرين ورجال التعليم غير المسلمين. من حق كل شاب مسلم أن يتلقى تعليماً دينياً كاملاً عن الإسلام: نظامه الأخلاقي وتشريعاته وتاريخه وثقافته. إن الأمة كلها، أو أي جزء منها، وكذلك القادة فيها مسؤولون قانوناً ومعرضون للعقاب أمام الله إذا هم أخفقوا في توفير هذا التعليم الأساسي عن الإسلام لكل شاب مسلم.

ومثل هذا تماماً يقال عن تعليم الكبار أيضاً. إن الطفل يجد من والديه أو من المسؤول عنه من الرعاية ما يقيه من ارتكاب منكر يكرهه الإسلام ومن التعدي على حدود الشريعة. أما البالغ فهو خلو من هذه المتابعة. إنه غرض مستهدف من قِبَل الدعايات غير الإسلامية داخل الجامعة وخارجها. ففي قاعات الدرس وفي القراءات المقررة تعرض عليه باستمرار أفكار ومبادئ أجنبية باسم العلم والتقدمية. هذه الأفكار وأنماط السلوك غير الإسلامية يزعمون له أنها حقائق علمية وأنها مبينة على حقائق موضوعية. هذا الطالب المسلم قدم إليه الإسلام أيام حداثته من خلال صوت السلطة الوالدية. وقتها لم يكن عقله قد نضج بالقدر الكافي لفهم الدعاوى "الموضوعية" أو تقديرها قدرها. لهذا كان ارتباطه بالموقف الإسلامي ناشئاً عن العاطفة وليس عن اقتناع مدعم بالدليل. وواضح أن التزامه هذا بالإسلام لا يمكن أن يثبت أمام انقضاض الحقائق التي تلبس ثوب "العلمية" و "الموضوعية" و "الحداثة". ولهذا السبب فإن طالب الجامعة المسلم لا يلبث أن يستسلم لهذه الدعاوى العلمانية ويؤمن بها نتيجة لغياب أي عرض لقضايا الإسلام يناهض تلك الدعاوى، مدعوماً بنفس القوة من "الموضوعية" و "العلمية" وبنفس المستوى من "الحداثة". وعلى هذا النحو تبدأ عملية سلخ طلاب الجامعات المسلمين عن دينهم. فبعد أربع سنوات من هذا التأثير التغريبي داخل الجامعة ، والتأثير الآخر الذي يساويه وربما يفوقه، والذي يأتي من وسائل الإعلام أو من قرنائه ومجتمعه، يتم القضاء على الوعي الإسلامي لدى المسلم. ولا عجب بعد ذلك أن يصبح من الناحية الثقافية ماديا متشككا ، لا هو بالمسلم ولا هو بالغربي رغم أنه في وطنه، ويكون على استعداد للسير وراء كل من يلبي له شهواته الآنيّة.

(1) فرض تدريس الحضارة الإسلامية:

إن الترياق الوحيد الممكن القادر على مقاومة عملية السلخ تلك على مستوى الجامعة هو فرض تدريس الحضارة الإسلامية على مدى السنوات الأربع . فعلى كل طالب في الجامعة – بصرف النظر عن التخصص – أن يدرس هذه المادة المقررة. إن كونه مواطناً أو فرداً من هذه الأمة يفرض عليه أن يحصل قدراً حياً ونامياً من المعرفة بتراث الأمة ومن التشبع بروحها وألفة بحضارتها. وكيف يمكن أن يكون مواطناً من لا يمتلك هذه المعرفة؟! وحتى لو كان الطالب ينتمي إلى إحدى الأقليات غير المسلمة ، فإن ذلك لا يجعله في حلّ من تحصيل هذا المتطلب الأساسي. فما دام قد ارتضى هو أو والده أن يكونوا مواطنين في دولة إسلامية، فلابد من توفر المعرفة الضرورية بالحضارة التي ينتمي إليها موطنه وبالروح والآمال التي تزكيه هو ومواطنيه. لا يترك شخص ما دون أن يؤقلم "ثقافيا" و "اجتماعيا" مع الإسلام والمجتمع الذي يعيش فيه. مثل هذه الدراسة هي التي يمكن أن تحصنه ضد الغزو الفكري والعقائدي، إذ تمكنه من أن يقارع الحجة بالحجة والبرهان الموضوعي بمثله. ومثل هذه الدراسة هي وحدها التي يمكن أن تعده ليسهم بأصالة في حياة الأمة الثقافية وتقدمها؛ إذ من خلال هذا المنهج وحده سوف يعرف جوهر الحضارة الإسلامية و "قناعة" الإسلام والطريق التي سوق تسلكها – أو تود تسلكها – الأمة؛ وسوف يعرف أيضا كيف يميز أمته – ونفسه بالتالي – عن الآخرين وكيف يعتز بهذا التميز ويحرص على صيانته وعلى جذب الآخرين للاقتراب منه.

إن دراسة الحضارة هي الطريق الوحيدة لتنمية معنى الشخصية في الفرد. وكيف يكون على وعي بذاته من لا يعرف أسلافه؟! أعني من لا يعرف الروح الذي بعثت فيهم الحياة ، وبعثت الحياة في كل ما أنجزوه في ميادين الفنون والعلوم ، وفي حياتهم السياسية والاقتصادية ونظامهم الاجتماعي وتجربتهم الجمالية ، وكيف يكون على وعي بذاته من لا تتحرك مشاعره لآلامهم ومآسيهم أو لأمجادهم وانتصاراتهم ولا تلهمه آمالهم؟! إن الوعي بالشخصية الذاتية لا يتأتى إلا حين يقارن المرء مثل هذه المعرفة بأصوله وتراثه بما يعرفه عن الشعوب والجماعات الأخرى وبحضارتهم. إن معرفة الذات فقط [هي الأساس ] لمعرفة الفرق بينه وبين الآخرين، ليس فقط في المطالب المنفعية ولكن في النظرة إلى الكون وفي الحكم الأخلاقي والروحي. هذا هو المجال الكامل للإسلام : مجال المدنية والحضارة اللتين بناهما الإسلام ونماهما على امتداد العصور، والوصول إلى ذلك لا يتم إلا بدراسة الإسلام وحضارته ثم بالدراسة المقارنة للديانات والحضارات الأخرى. ولكي يكون المرء "عصرياً" في زمننا هذا لابد أن يكون واعيا حضاريا ، أي واعيا بطبيعة تراثه الحضاري وبالروح الذي أوجد مظاهره المختلفة وبما يميزه عن بقية تيارات التاريخ الحضاري وبجاذبيته واتجاهه نحو المستقبل. وبدون هذه المعرفة لا يمكن للمرء أن يكون فعالا في تحديد مصيره، بل لا يمكن يقينا أن تمتد به الحياة في هذا العالم. فالقوى الحضارية المتنافسة في هذا القرن تستطيع – خلافا للماضي – أن تصل إلى أي فرد وتتجاوزه دونما حاجة إلى غزو أو احتلال عسكري لبلاده. يمكنها أن تفسد عقله وأن تحوله إلى وجهة نظر عوالمها ثم تحيده وتحتويه ليصير لعبة في يدها سواء أكان واعيا بهذا أم لا. ومن المؤكد أن هذه القوى تتنافس فيما بينها للسيطرة على العالم . وإحراز الإسلام الظفر غدا أمر يملك المسلمون اليوم البت فيه وفيما إذا كان المسلمون سيصبحون صناعا للتاريخ أو مجرد موضوعات يكتب عنها التاريخ. ومن المؤكد أن المعركة الحضارية الدائرة في العالم اليوم لن تترك أحدا بمنجاة من إصابتها. وكل إنسان لابد له من أن يتأثر بهذا الطرف أو ذاك من الأطراف المتنافسة ما لم يقم هو نفسه بمعاجلة الحضارة الغازية فيصبح، لذلك، مؤثرا في الآخرين.

إنه لا يليق بالمسلمين أن يعتقدوا أن الحضارة الإسلامية ستبقى حية ما دامت تدرس في أقسام الدراسات الإسلامية ومعاهدها وفي كليات الشريعة أو جامعاتها. والواقع أن إنشاء المسلمين أقساما للدراسات الإسلامية في جامعاتهم لدليل على انحطاطهم ، وأن تلك الأقسام ليست دائما سوى نسخ من أقسام الدراسات الاستشراقية في الجامعات الغربية حيث تكون دراسة الإسلام مجال تخصص لقلة ممن يحتاج إليهم المجتمع لتدبير شؤون علاقاته بالعالم الإسلامي. إن الطريق إلى دراسة الشريعة يجب أن يفتح أمام كل أفراد الأمة، وذلك على الرغم من أن الحاجة إلى متخصصين في الشريعة يقومون بالفصل في الخلافات بين المسلمين ستظل تتطلب ذلك التدريب الرفيع الذي تقدمه كليات الشريعة. إن كل فرد يجب أن يكون لديه علم حيوي بعلوم الشريعة فذلك هو المنهاج المعياري أو منهج الوجود الإسلامي.

زد على هذا أن معرفة الإسلام وحضارته ليست أمراً يخص القلة وحدهم، إذ ليس المتخصصون وحدهم هم الذين يعنيهم التصور الإسلامي أو يحتاجون إليه. إنه لكل البشرية، وقد وضع ليرتفع بكل من أخذوا به إلى مستوى أعلى من الوجود. إن الإسلام ليبغض تفرقة الناس إلى رجال دين ورجال دنيا، ويصر على أن واجب كل الناس أن يعرفوا الحق ويعملوا به ويدعوا إليه. ولذا فالرؤية الإسلامية يحتاجها الجميع لتحميهم من المبادئ الأجنبية التي تغزو وعيهم. ومتى لم يصبح كل فرد محصناً ضد الأمراض، فالضحية هي الأمة ولا شك. أضف إلى هذا أن الإسلام هو الدين الشامل الذي تلائم رؤيته كل نشاط وكل جهد إنساني سواء أكان بدنيا أو اجتماعيا أو اقتصاديا أو ثقافيا أو روحيا. إنه ليس – كالمسيحية أو البوذية – دينا أخرويا فقط يقنع بأمور اللاهوت تاركا ما وراء ذلك لقيصر. ليس هناك ما يمكن أن يقال أو يؤدى في أي متجر أو مصنع أو مكتب أو منزل أو مسرح أو حقل، ومن باب أولي في أي قاعة للدرس أو مختبر، دون أن يكون داخلاً في دائرة اختصاص الإسلام. ومن هنا فإن حصر هذا التصور الإسلامي الشامل في قسم واحد أو كلية واحدة إنما هو بترٌ له ، بل حكمٌ عليه بالموت. هذا التصور يجب أن يكون هو المبدأ الأول الموجه والمسيطر في كل فرع من فروع المعرفة وفي كل مهنة وكل عمل إنساني.

إننا نحتاج – بناء على هذا – إلى منهج دراسي يمتد على مدى أربع سنوات ويكون جزءاً من البرنامج "الأساسي" الذي يدرسه جميع الطلاب بصرف النظر عن تخصصاتهم أو مهنهم. ويجب أن يهدف هذا المنهج إلى تعريف الطالب المسلم في السنة الأولي بمبادئ الإسلام كجوهر للحضارة الإسلامية ؛ وفي السنة الثانية إلى التعريف بالإنجازات التاريخية للحضارة الإسلامية كثمرات للمبادئ الأولى للإسلام شهدها الزمان والمكان ؛ وفي السنة الثالثة إلى التعريف بوجوه الاتفاق والافتراق بين الحضارة الإسلامية والحضارات الأخرى في الجواهر والمظهر ؛ وفي السنة الرابعة إلى التعريف بتفرد الحضارة الإسلامية كخيار حي وحيد لمعالجة المشكلات الأساسية للمسلمين وغير المسلمين في عالمنا المعاصر.

(2) "أسلمة" المعارف الحديثة:

إنها لخطوة عظيمة إلى الأمام إذا ما فرضت الجامعات والكليات في العالم الإسلامي مقررات دراسية إجبارية في الحضارة الإسلامية كجزء من برنامج الدراسات الأساسية لجميع الطلاب. إن ذلك سيمد الطلاب بالإيمان بدينهم وتراثهم وسيزرع في نفوس الثقة بأنفسهم لينهضوا ويواجهوا مشكلاتهم الحالي ، ويتغلبوا عليها ثم ينطلقوا نحو الغاية التي كلفهم بها الله تعالى. لكن هذا لا يكفي.

إن الانطلاق نحو الغاية الإسلامية والعمل على جعل كلمة الله هي العليا في الزمان والمكان لا غنى لهما عن معرفة العالم المحيط بنا. هذه المعرفة هي هدف العلوم المختلفة. وقد وجدنا المسلمين قبل أن يسقطوا في الضعف والنوم يطورون العلوم ويحددون بوضوح علاقة الإسلام بكل واحد منها من حيث القيم والأنظار المتعلقة بالحياة ، وقد نجحوا كذلك في جعلها جزءاً لا يتجزأ من بناء المعرفة الإسلامية . لهذا حققوا إنجازات رائعة في كل الميادين ، كما استخدموا هذه المعرفة بكفاءة ليرتفعوا بمثلهم الإسلامية. وحين ركدت ريح المسلمين قام غير المسلمين فأخذوا تراث العلماء والمثقفين المسلمين وكيفوه مع نظرتهم للحياة وأقاموا على ذلك مختلف العلوم ، وأضافوا إليه مساهمات ذات قيمة ثم استغلوا كل تلك المعارف الجديدة فيما يحقق مصالحهم. واليوم، هانحن نجد أن غير المسلمين أساتذة لكل العلوم بلا منازع. واليوم نجد مؤلفات غير المسلمين وإنجازاتهم ونظرتهم للعالم ومشاكلهم ومثلهم العليا هي التي تدرس للشباب المسلم في جامعات العالم الإسلامي. إن شباب المسلمين اليوم وفي جامعات المسلمين يتم صبغهم بالصبغة الغربية وعلى أيدي الأساتذة المسلمين.

إن هذا الوضع يجب أن يتغير. لاشك في أن على المتخصصين من علماء المسلمين أن يتقنوا كافة العلوم الحديثة وأن يفهموها حق الفهم وأن يصبح في حوزتهم وطوع أمرهم كل ما يمكن أن تقدمه من فوائد. هذا شرط ضروري وأولي... يلي ذلك أن عليهم أن يدمجوا هذه المعارف الجديدة في بناء التراث الإسلامي عن طريق الحذف والتعديل وإعادة التفسير والتكييف لكل مكوناته طبقاً لما تمليه قيم الإسلام ونظرته للعالم. ومن الواجب أن تحدد بوضوح جهة التلاقي و الملاءمة بين الإسلام وفلسفة كل علم ، أعني مناهجه وأهدافه العليا. كما يجب أن تهيأ المثل الإسلامية. وفي النهاية، عليهم كطلائع أن يعطوا من أنفسهم المثل وأن يعلموا الأجيال الجديدة من المسلمين وغير المسلمين كيف يقتفون خطواتهم ويوسعون من آفاق المعرفة الإنسانية ، وأن يكتشفوا المزيد من قوانين الله في الخلق ، ويؤسسوا طرقا جديدة لوضع إرادته وتكاليفه موضع التحقيق في واقع الحياة.

إن مهمة أسلمة المعرفة (أعنى بالتحديد أسلمة العلوم ، أو بمعنى أوضح ، إنتاج كتب دراسية جامعية في نحو عشرين علما طبقا للتصور الإسلامي) لهي من أصعب المهمات. ولا نعرف مسلما من قبل قد درسها بعمق يكفي لإدراك متطلباتها إدراكا واضحا وتحديد خطواتها ومقاييسها التنفيذية. كل ما فكر فيه مصلحونا السابقون هو العمل على اكتساب معرفة الغرب وقوته ، بل إنهم لم يكونوا مدركين لما بين معارف الغرب والرؤية الإسلامية من تناقض. إن جيلنا الحاضر فقط هو الذي أدرك هذا التناقض إذ عاشه في حياته الفكرية. وإن العذاب الروحي الذي صبه التناقض علينا قد جعلنا ننتبه في فزع مدركين تماما لما يحدث أمام أنظارنا من استلاب للروح الإسلامي في جامعات المسلمين ومن هنا نهضنا ننذر العالم الإسلامي ونحذره من الخطر ونضع لأول مرة في التاريخ خطة مفصلة لإيقافه ومقاومة آثاره ثم وضع التعليم الإسلامي من جديد في مساره الصحيح حتى يؤدي إلى غايته المقدرة.

ومن المؤسف جداً أن العالم الإسلامي محروم حتى الآن من مركز علمي تتم فيه مناقشة مثل هذه القضايا العليا. إننا بحاجة إلى جامعة تكون بمثابة مركز رئيسي للفكر الإسلامي، فيها تتم عملية أسلمة العلوم ووضع النتائج موضع الاختبار في فصول دراسية وحلقات بحث تتناول مناهج كل من المرحلة الجامعية ومرحلة الدراسات العليا. وقبل أن تبدأ جامعة "إسلام أباد" التعاون مع "المعهد العالمي للفكر الإسلامي"، لم نجد أي معهد تعليمي في العالم الإسلامي قد حرك ساكنا نحو أسلمة المعرفة أو إعداد كتب إسلامية في المواد الدراسية تصلح للاستخدام في الكليات أو حتى إعداد الأدوات الضرورية للبحث من أجل تأليف هذه الكتب. ورغم ذلك، فإن المرء يسمع في كل مكان عن الحاجة إلى أسلمة التعليم: رجاله ومؤسساته، مناهجه وكتبه. وعلى المستوى الرسمي حيث تتوفر قوة اتخاذ القرار، لا يجد المرء أكثر من الكلام الذي يصدر عن الجهلاء أو يستهدف تضليل الجماهير.

إن هذه المهمة هي أنبل المهمات وأسمى تحقيق للإدارة الإلهية وأول الواجبات الأخلاقية وألزمها. إن ديانات العالم ونهضة الغرب الرأسمالي والشرق الشيوعي لم تبدأ نموها وتطورها ولم تنجز ما أنجزت بدون قضية كهذه تمد أتباعها بالحياة والحركة. وأضعف الإيمان أن يقال: إن المسلمين كذلك عليهم أن يعقدوا العزم الأكيد على التضحية بأرواحهم في سبيل قضية إن أرادوا لأنفسهم أن يصبحوا من صانعي التاريخ لا مجرد متأثرين به. ومع ذلك فإن الإسلام ليس واحدا من تلك النظريات يُنْظَم معها في سلك واحد، ولا هو بالذي يعرض دعواه على أنها عقيدة جاءت نتيجة التجربة الشخصية والاختيار الذاتي يجوز أن تتبنى ويجوز أن ترفض بطريقة اعتباطية. إن دعوى الإسلام دعوى عقلية وضرورية ونقدية. إنها ذات صلاحية عالمية ولها على البشرية شرعا حق الاعتراف بها والإذعان لها. فمن جانبها العقلي لا يمكن أن تقابل إلا بالدليل والبرهان وهو ما يجب أن يرحب به من يعتنقها من المسلمين ويرد عليها بالحجة. إن كل مكونات دعوى الإسلام، وكذلك علاقته بكل العلوم لا يمكن أن تقبل دون دليل مقنع. ومادامت الرؤية الإسلامية قد أقامت دعواها ورفعتها في وجه أعلى مستويات العلم وأبرزتها حقيقة واقعية في وجه أسمى درجات الوعي وأشدها حساسية ، فإنها – والحال هذه – لا يمكن أن ترفض أو تقاوم إلا بدافع من اللامنطقية أو الحقد. والأولى هي سمة الجهلاء ذوي الفقر العقلي، والأخرى هي سمة الأعداء الألداء. كلا الفريقين يشكل ما أسماه الإسلام "بالجاهلية".

هذه إذن هي المهمة التي تواجه رجال الفكر والقادة من المسلمين، أن يعيدوا صياغة التراث البشري كله من وجهة نظر الإسلام. ولن يوجد التصور الإسلامي ما لم يكن تصوراً للحياة والحقيقة والعالم ، وهذا المضمون هو هدف الدراسة في مختلف العلوم. إن إعادة صياغة المعرفة على أساس علاقة الإسلام بها ، بمعنى "أسلمتها" ، أي إعادة تعريف المعلومات وتنسيقها وإعادة التفكير في المقدمات والنتائج المتحصلة منها ، وأن يقوم من جديد ما انتهي إليه من استنتاجات وأن يعاد تحديد الأهداف.... على أن يتم كل ذلك بحيث يجعل تلك العلوم تثري التصور الإسلامي وتخدم قضية الإسلام – وأعني بها وحدة الحقيقة ووحدة المعرفة ووحدة الإنسانية ووحدة الحياة والطبيعة الغائية للخلق وتسخير الكون للإنسان، وعبودية الإنسان منه – أن تحل هذه محل التصورات الغربية وأن يتحدد على أساسها إدراك الحقيقة وتنظيمها. كذلك لابد للقيم الإسلامية – وأعني بها أثر المعرفة في تحقيق السعادة للإنسان وتفتح ملكاته وإعادة النظر في المخلوقات بحيث تجسد السنن الإلهية وبناء الثقافة والحضارة، وإقامة معالم إنسانية بارزة في المعرفة والحكمة والبطولة والفضيلة والتقوى والورع – لابد لهذه القيم من أن تحل محل القيم الغربية وأن توجه نشاط التعليم في كل المجالات.

ورغبة في الدقة والوضوح سأتناول في الفصل التالي المبادئ السابقة بشيء من التفصيل.

الفصل الثالث

التصور المنهجي

(أولا) جوانب القصور في المنهجية التقليدية

نتيجة للتدمير الرهيب الذي صبته القوى غير المسلمة على "الأمة" في القرنين السادس والسابع الهجريين – الهجوم التتري من الشرق والحملات الصليبية من الغرب – فََقََد قادة المسلمين أعصابهم وفقدوا الثقة في أنفسهم. ولما ظنوا أن عالمهم الإسلامي قد قضي عليه بالهلاك بالغوا في "المحافظة" وأرادوا أن يصونوا شخصيتهم وإسلامهم الذي هو أثمن ما يملكون وذلك بتحريم كل إبداع والدعوة إلى الاستمساك الحرفي بنصوص "الشريعة". وكانوا في تلك الفترة قد أعلنوا إغلاق باب "الاجتهاد" وهو المصدر الرئيسي للتجديد في القانون، ولما كانوا قد اعتبروا أن "الشريعة" قد بلغت حد الكمال فيما كتبه السلف فقد أعلنوا أن كل خروج على ما كتبوه بدعة ، والبدعة أمر غير مرغوب فيه بل مذموم. وهكذا انتهى الأمر بتجميد "الشريعة" على الصورة التي قدمتها مدارس الفقه ، ومن خلال ذلك (التجميد) فقد ساعدوا على بقاء الإسلام، ولكن بقاء الإسلام، وما تحقق للمسلمين من نصر وتوسع في روسيا وفي البلقان وفي جنوب شرق أوربا ووسطها فيما بين القرنين الثامن والثاني عشر الهجريين لم يحطم قيود الجمود. وإن كان تبني التصوف وطرقه على نطاق واسع قد ساعد المسلمين على مواجهة هذه الصعوبات في غياب "الاجتهاد" كمصدر للإبداع. ولهذا بقيت "الشريعة" نظاماً مغلقاً حتى العصور الحديثة التي أعطي العلم والتكنولوجيا فيها للغرب قوة واجهوا بها المسلمين وهزموهم.

في العصور الحديثة أوقف الغرب الفتوحات العثمانية في أوربا، ثم احتل كل العالم الإسلامي واستعمره وقسمه إلى فرق ، باستثناء تركيا – التي أخرج منها بالقوة – واليمن ووسط جزيرة العرب وغربها حيث لم يكن بها ما يغري بالاستعمار. وقد استغلت القوى الغربية ضعف المسلمين أبشع استغلال ، وساهمت بشكل رئيسي في مرض العالم الإسلامي الذي سبق وصفه في مطلع هذه الدراسة... وفي مواجهة هذه الهزائم والمآسي والأزمات التي أنزلها الغرب بالعالم الإسلامي خلال القرنين الماضيين، حاول زعماء المسلمين في كل من تركيا ومصر والهند أن "يغرِّبوا" الأمة على أمل أن يمنحوها بذلك روح الحياة سياسيا واقتصاديا وعسكريا. ولكن التجربة أثبتت فشلها حيثما تم استخدامها . وكان الحرص على تطبيقها أشد ما يكون في المواقع التي كان فيها فشلها صارخا كما في تركيا ومصر. ففي تركيا فإن التغريب مهد الطريق أمام مصطفى كمال ليلغي كافة المؤسسات الإسلامية ويرفض كل مبدأ إسلامي موروث ذي علاقة بالحياة العامة. أي استبدل النظام الغربي بالنظام الإسلامي كله... واليوم، وبعد جيلين من "التغريب" (ستين سنة وقت صدور الكتاب)، نرى تركيا تشبه سائر البلاد الإسلامية الأخرى ضعفا وفقرا في كافة المجالات... لقد نجح "التغريب" إلى حد ما في تجريد إحدى طبقات المجتمع من إسلامها، ولكنه لم يفعل شيئاً سوى ذلك. أما في مصر حيث كان الإصرار على "التغريب" أقل، فقد تم زرع نظام غربي وتُرِك النظام الإسلامي التقليدي يحيا معه جنباً إلى جنب. وكان هناك تنافس بين النظامين ؛ ولكن لم يحرز أي منهما تفوقا يذكر على الرغم من المزايا الهائلة التي تمتع بها النظام الغربي من إنفاق الميزانيات العامة والدعم والمحاباة الحكوميين للنظام الغربي ... وكل ما نجحا فيه هو أن أضعف أحدهما الآخر.

(1) الفقه والفقهاء؛ الاجتهاد والمجتهدون:

يعني مصطلح "فقه" اليوم العلم بالشريعة على مذهب معين ، ومنها "الفقيه" الذي لديه هذا العلم. كما قد يطلق لفظ "الفقه" بالمعنى العام – وكذلك ما اشتق منه – على المعرفة بالشريعة على كل المذاهب الفقهية... وتتطلب هذه المعرفة تمكنًا من اللغة العربية ومن نصوص الأحكام في القرآن والسنة. ومن الواضح أن هذا معنى "اصطلاحي" محصور في حدود ضيقة إذا ما قورن بمعني الكلمة القرآنية "فقه" و"تفقه" (كفعلين)، وقد تكرر ذكرهما في آيات عدة، وهو معنى يشير إلى الإدراك والفهم، والوصول إلى اللب، والتفسير، وباختصار إلى معرفة الإسلام ككل... إن الانتقال من هذا المعنى العام للكلمة إلى ذلك المعنى التخصصي الضيق لهو في حد ذاته إشارة إلى حاجة الأمة الشديدة إلى معنى عام قادر على استيعاب اتجاهاتها الخلاقة وأنشطتها المتباينة. كما أن هذا التحول في معنى الكلمة، وفقدان الجانب الحيوي الذي كان الاستعمال المبكر لها يشير إليه، ليعتبران دليلاً على "المحافظة" وضيق الرؤية. لقد فهم فقهاء الإسلام العظام – الشافعي وأبو حنيفة ومالك وأحمد بن حنبل – معنى المصطلح "أصول الفقه" لا على معنى الأصول العامة للقانون الإسلامي، بل على أنه المبادئ الأولى للفهم الإسلامي للحياة والواقع.

وأكثر من هذا فإننا نجد أن الأوائل من فقهاء الأمة – أعني: صحابة رسول الله وجيل التابعين ومؤسسي المذاهب (رضي الله عنهم) – كانوا مبرزين في العلم بكل الأمور التي تؤثر في حياة المسلمين. لقد كان فقهاء العصور الأول موسوعيين بحق ، وأساتذة فعلاً في كل التخصصات من الأدب والقانون إلى الفلك والطب، لقد كان هؤلاء رجالاً متخصصين عرفوا الإسلام لا على أنه قانون فقط، بل على أنه مثال ونظرية ونظام من الفكر وحياة يعيشها ويمارسها بالفعل ملايين من الناس... لقد كانوا يمتلكون أرقى المؤهلات الإسلامية على الإطلاق، وأعني بها "الذوق الشرعي" أو البديهة التي تدرك مقاصد القانون. وإذا كنا نعتبرهم مثلا لتناول مشاكل المسلمين تناولا خلاقا بسبب كفاءتهم المتميزة، فمن المؤكد أن ما لدى "فقيه" اليوم، خريج الجامعة، من علم وحكمة لا يؤهلانه للاضطلاع بالمسؤوليات التي نهض بها أولئك الأولون بنجاح باهر .

وفي داخل النظام التقليدي نفسه ، تمت عدة محاولات للإصلاح الذاتي ، كان أجرؤها ما طرحه محمد عبده وأستاذه جمال الدين الأفغاني. ومع أن أهل الوعي من المسلمين في كل مكان قد باركوا دعوتها لفتح باب الاجتهاد فإن المحاولة قد فشلت لسببين: أولاً لأن المؤهلات التقليدية المطلوبة من "المجتهدين" ظلت كما هي، وبذلك انحصرت ممارسة "الاجتهاد" في خريجي "المدارس" التقليدية، أعني في أولئك الذين لا يرون حاجة إلى الاجتهاد ، إذ أن خريجي المدارس التقليدية هم بالتحديد من تلقوا تعليما أقنعهم بأن المنهج مناسب تماماً وأن مشكلة العالم الإسلامي تكمن في عدم رغبة الناس في إدراك قيم الإسلام. وثانيا، لأن فهم "المجتهد" على أنه يعني بالضرورة "الفقيه" – أعني الشخص الذي تدرب حتى صار قادراً على أن يحول المشاكل إلى مصطلحات قانونية ويصدر عليها أحكاماً طبقاً للأنماط القانونية – هذا الفهم قد حصر أو أدرج مشاكل "التحديث" ضمن تلك الأنماط. وهذا قد زاد من تضييق مساحة "الاجتهاد" أكثر وأكثر عن طريق تركيز جهوده كلها في "الفتوى"، أو إصدار أحكام فقهية على أعمال معينة يفعلها – أو يفترض أن يفعلها – المسلمون في حياتهم اليومية. هذا "الفقيه" أو "المجتهد" التقليدي بهذا المفهوم قد أصبح عاجزا عن النظر إلى المشكلة ككل، وضاع على هذا النحو في عملية تحديد درجة التطابق بين الأعمال المعينة وبين المعايير والقواعد التي حددها مذهب أو أكثر. إن الموقف يستدعى منهجية جديدة لا قدرة للمجتهدين التقليديين على تصورها، يستدعى أن تنفتح من جديد طبيعة فهمنا للأصول، أو مصادر المعرفة الإسلامية.

(2) مصادمة "الوحي" "للعقل":

لعل أخطر تطور مأساوي في التاريخ الفكري للأمة كان هو القول بأن كلا من "الوحي" و "العقل" غريب عن الآخر. ولقد كان ظهور المنطق اليوناني وتأثيره على بعض المسلمين، الذين كانوا حريصين كل الحرص على استخدام أساليبه لإقناع غير المسلمين بحقائق الإسلام هو الذي وضعهم على بداية الطريق التي انتهت بهم إلى مثل هذا القول. إن النصارى واليهود الذين تأثروا بالثقافة الهللينية قد عاشوا قرونا تحت ظل هذه الثنائية؛ وكثيرون منهم نقلوها معهم إلى "الأمة" عندما أسلموا ، وكان الفارابي هو الذي أعطاها صيغتها التقليدية التي انتصر لها الفلاسفة ضد "المتكلمين". وقد قبلها بعض متأخري "المتكلمين" ممن كان يرضيهم أن يشرحوا العقيدة في تحديد ووضوح. ثم أصبحت سائدة في مجال المجادلات الفكرية في عصر الانحطاط، خاصة في ظل تأثير "التصوف" الذي دعا إلى منهجية قائمة على أساس حدسي خالص، أو خفي غالبا، ومن هنا لم تجد بأسا في القول بهذه الغربة بين العقل والوحي.

إن الفصل بين "الوحي" و "العقل" أمر غير مقبول بالمرة... بل إنه لأمر مناف لروح الإسلام كله ومعارض لما في القرآن من دعوة أساسية للعقل والمنهج المتسم بالوسطية. إن دعوة الإسلام عقلية ونقدية مميِّزة ، خلافا لتلك الأديان التي تحاول أن تجرف عقل الإنسان وتسيطر على ضميره بغية أن يسلم راغما بما ليس بمعقول بل بما هو سخيف. إن الإسلام يهيب بالناس دائما أن يستخدموا ذكاءهم ، وأن يمحصوا بملكاتهم النقدية كل الدعاوى ، وأن يفكروا في البدائل وأن يكون فكرهم دائما مقنعا ومنسجما ، وألا يقول أحدهم سوى الحق الذي هو على يقين منه ، وأن لا ينعزلوا بحال عن الواقع. ولا تخلو صفحة من صفحات القرآن من مثل هذا الحث والإلزام. وبدون العقل لا يمكن أن تدرك حقائق الوحي إدراكاً كاملاً أو تنكشف طبيعتها السماوية أو يعترف بها. وبدونه تستوي دعاوى الوحي مع غيرها من الدعاوى الباطلة. وإذا قبل الوحي على غير أساس من العقل، فإنه يكون مقبولا شخصيا اعتباطيا قابلا للتبدل. وليس لأي أطروحة دينية قائمة على أساس المزاج الشخصي أن تزعم أنها مستحقة للقبول لدى البشر جميعا أو لدى نسبة معتبرة منهم لفترة طويلة. وحين بالغ المسلمون في التأكيد على الحدس على حساب العقل أدى ذلك إلى فتح الأبواب لفساد العقيدة. إن عدم فصلها عقلياً عن اللغو يعطي الفرصة للخرافات وحكايات العجائز أن تتزيا بزي الحقيقة وتتسرب إلى العقيدة ، ومثل ذلك تماما أن المبالغة في التأكيد على "العقل" على حساب العقيدة الحدسية قد أفسد "حياة العقل" حيث اختزلته إلى المادية والنفعية والآلية والخواء.

(3) الفصل بين الفكر والفعل:

في الحقبة الأولى من تاريخ الإسلام كان المفكر هو القائد ، والقائد هو المفكر... كانت الرؤية الإسلامية هي المسيطرة ، وكانت الحماسة لتحويلها إلى واقع يعاش هي التي تحدد السلوك... كانت هي الشغل الشاغل للمجتمع الإسلامي كله. كان كل مسلم واع يعمل جاهداً لسبر أغوار الحقيقة كي تخضع الماديات والفرص لتشكيل جديد يصبها في القوالب الإسلامية... لقد كان الفقيه في الوقت ذاته "إماماً" و "مجتهداً" و "قارئاً" و "محدثاً" و "مدرساً" و "متكلماً" بالإضافة إلى كونه زعيماً سياسياً وقائداً عسكرياً وزراعياً أو تاجراً أو صاحب حرفة. وإذ أحس بضعف في أي من هذه الجوانب وجد كل فرد حوله على استعداد ليتقدم فيسد هذا النقص. كان كل فرد يعطي في سخاء كل ما لديه من أجل القضية، كما كان يشعر بأن قوة الآخرين قوة له.

كان المسلمون من التلاحم فيما بينهم إلى حد أن ضعف أي فرد منهم سرعان ما كان يزول نتيجة تضامن الجميع وتجربتهم الكلية. ونظراً إلى أن الفكر الإسلامي بطبيعته فكر متوجه نحو الحقيقة، فإن هذا الارتباط بالحياة والممارسة الفعلية كان بمثابة المختبر الذي امتحنت فيه كفاءة الأفكار الإسلامية. كذلك فإنه قد ربط الفكر بالحقيقة الواقعية واضطره إلى أن يجعل من الصالح العام للناس رجالاً ونساءً بؤرة اهتمامه. وإذا كانت تلك الفترة لم تشهد إلا قليلا من الفكر التأملي أو الميتافيزيقي فإن ذلك لم يكن ناشئاً عن عجز، بل لأن جمهور المفكرين المسلمين كانوا يعطون الأولوية لتمكين جماهير الأمة من أن تعيش حياة ملؤها العافية والعقل والفضيلة والازدهار.

ومن ناحية أخرى، فإن حياة الناس الواقعية قد استفادت من الأفكار القيادات المبدعة ، إذ كان ذلك الواقع الذي يعيشه الناس هو مجال تفكيرهم المستمر، فكان الفكر الملائم يوضع موضع التطبيق لحل مشاكل الأمة، وكانت الحلول تأتي مناسبة للمواقف. ولذلك ازدهرت الأمة في كافة مجالات الفكر والحياة؛ لأن مصلحة الأمة كانت دائماً هي موضع نظر العقول الممتازة، وكانت الحلول التي يقترحونها تنزل إلى ساحة الفعل وتنفذ لأن العقول المبدعة ذاتها كانت هي التي توجه القوى التي تقوم بالتنفيذ أو كانت على اتصال وثيق بمن يقومون بذلك.

لكن فيما بعد انفصمت هذه الرابطة بين الفكر والفعل . وما إن تم الانفصال بينهما حتى بدأ كل منهما يتدهور. فأصبحت القيادة السياسية ومن بيدهم القوة التنفيذية ينتقلون من أزمة إلى أزمة محرومين من الانتفاع بفكر العلماء ومشورتهم وحكمتهم. وكانت النتيجة تخبطاً في العمل ينفر من الموضوعات الجيدة ويضع القادة السياسيين في مزيد من العزلة. وإذ وجد القادة أنفسهم في موقف الدفاع فقد أدى ذلك إلى ارتكابهم مزيدا من الأخطاء الفادحة. أما المفكرون فقد أصبحوا غرباء ومبعدين عن المشاركة الفعالة في شؤون الأمة، ولذلك لجأوا إلى المثاليات كمسوغ لسخطهم على السلطة السياسية. بدأ بعضهم يبالغ في رفع منزلة ماهو "معياري" في مقابل ماهو "واقعي"... وقد تعرض أولئك الذين كان لسخطهم آثار سياسة للاضطهاد من قبل السلطة الحاكمة ، أما من لم يكن لسخطهم تلك الآثار فقد شُجعوا على التحليق بعيداً عن الحقيقة الواقعية . وهناك فريق آخر من المفكرين بدأوا يتنازلون عن المعايير الصحيحة بسبب ارتباطهم بالقيادة السياسية. وقد نتج عم التوتر المتزايد بين الفريقين تعددية أدت إلى تدمير الفكر والفعل معاً. فحين أصبح الفعل استبدادياً وميالا إلى استخدام العنف هجر الفكر ميدان الواقع التجريبي، وهو الصالح العام للناس، وأقنع نفسه بالتعليق على أعمال السابقين أو بالتحليق في أجواز التأمل الصوفي. وسرعان ما أصبحت الأمة معزول عن قيادتها السياسية. لقد مر على الأمة زمن طويل توالى فيه حكم الطغاة والقادة الفاسدين ومغتصبو العرش والخلفاء الدمى ممن يحركهم أصحاب القوة من ذوي السلطان، مما أضعف معنويات الأمة وأبعدها عن ساحة السياسة. في هذا الجو تلقفتهم الجماعات الصوفية وهيأت لهم التربية الروحية الذاتية والتثقيف من خلال التجربة الصوفية وعوضتهم بذلك عما فقدوه على مسرح التاريخ. وأصبح الدين عندهم مهرباً من الطغيان الذي لا يحتمل.

وبينما كان السلطان يحكم ولا معارض له كانت أعظم الطاقات العقلية في الأمة تتخذ طريقها وبسرعة نحو القيم الروحانية والفردية والذاتية التي تمخض عنها التصوف. واختفت السمة التي ميزت الحقبة المبكرة، وهي التكافؤ بين الروحي والمادي الدنيوي وقابلية التحول بين أحدهما والآخر ؛ وحل محلها الجري وراء الروحاني على حساب الدنيوي ووراء الآخرة على حساب هذه الحياة. وإذ فقد الفكر الإسلامي صلته الوثيقة بالتجربة الواقعية في حياة الأمة، أصبح محافظاً وحرفياً في مجال التشريع وتخمينياً في مجال تفسير القرآن والنظرة إلى الحياة الدنيا ومزدريا للدنيا في مجالي الأخلاق والسياسة ومستغلقاً في العلوم الطبيعية. وأصبح كبار المفكرين وعلماء الشريعة والأولياء لا يبالون بالسلطة السياسية ولا بالفعل وينظرون إليها من عل على أنها شيء تافه لاقيمة له. وصارت مقاومة الدنيا أولاً ثم نبذها كلية بعد ذلك هي الشروط الأولية للفضيلة. وبدا أن الأمة قد فقدت ذلك التوازن بين القيم الفردية والجماعية التي مثلتها حياة الرسول صلى الله عليه وسلم تمثيلاً رفيعاً.

(4) الثنائية الدينية والثقافية:

لقد كان "الصراط المستقيم" الذي هو محط آمال الجميع والذي كان يمثل واقع حياة الصدر الأول من المسلمين ... كان طريقا واحدا متكاملا ينبثق من الرؤية الإسلامية الأصلية ويجمع كافة اتجاهات الإنسان ونشاطاته في حركة واحدة تتجه نحو تحقيق الذات الإسلامية في التاريخ. أما في فترات الانحطاط، وبسبب الجفوة الواقعة بين الفكر والفعل، فقد انقسم هذا الطريق الموحد إلى اثنين: طريق الدنيا ، وطريق الله والفضيلة. هذا الانشعاب في الحياة الإسلامية إلى منهجين متناقضين على طول الخط – أحدهما جدير بالتقدير ويضم كل القيم الدينية والخلقية، والآخر مذموم يضم العالم المادي وسائر قيمه – هذا الانشعاب قد أفسد كليهما وقضى عليهما. لقد تبدل كل منهما، فأصبح الطريق الأول روحانية فارغة تشبه الروحانية الخاوية في الرهبنة البوذية والنصرانية... فالروحانية التي لا تشغل نفسها بالمصلحة الواقعية للجماهير والتي لا تسعى إلى تحقيق العدالة في مواطن الاضطراب والقسوة في هذا العالم لهي روحانية ذاتية تهتم بالرغبة الدينية لمن يؤمنون بها وحدهم. إنها روحانية قائمة على الأًثَرة حتى ولو دعت إلى شيء من أفعال الإيثار. أليس همها الأول هو حالة الوعي عند السالك. وما الآخرون ومصالحهم عندها إلا وسائل وأدوات لابتلاء النفس وتطهيرها وتزكيتها. ولا عجب، والحال هذه، أن تسقط هذه الروحانية في تراث الغنوصية وفي التجارب الخفية، وأن تصبح فريسة الخرافات والاتجار بالخوارق. ولم يرد أبداً على أذهان المشايخ الذين أسسوا الطرق الصوفية، والعقول الكبيرة التي وضعت لها مبادئها ونظرياتها الأساسية، أن جماعاتهم سوف تزيغ على هذا النحو وتنتهي إلى أخلاق وآمال تتعارض مع الإسلام. لكن الحق أن معظم تلك الجماعات قد استهواها هذا الإغراء.

أما طريق الدنيا، من الناحية الأخرى، فقد أقام له نظاماً لا أخلاقياً يخصه، متحللاً على هذا النحو من المتطلبات الأخلاقية التي أعلن من يمثلون الدين أنها تخص فئة أخرى من المسلمين. وبدون أن تكون القيم الخلقية هي قوام النظام الاجتماعي فلا مفر من أن يتدهور ويصبح هو في نفسه جائزة لكل طموح لا يتورع عن بذل جهده للفوز بالغنيمة . وعلى هذا النحو أصبحت الحكومة والقيادة أو المناصب السياسية وسيلة لتعظيم الذات والاستخدام الوحشي للقوة، أو لابتزاز المنافع الأدبية والمادية من الناس. ولذلك لم تبد الجماهير إلا مقاومة محدودة عندما هاجم العدو الاستعماري الأجنبي أرضها واحتلها. لقد أصبحت الجماهير مقتنعة بأن المعركة ليست معركتها. وفي النهاية، حين أقامت الإدارات الاستعمارية نظاماً تعليمياً جديداً وبدأت تؤثر نمطاً من الحياة والفكر والنشاط غريباً عما لدى الجماهير، نظرت إليه تلك الجماهير على أنه حلقة أخرى من مسلسل النظم التعسفية التي طالما عانوا منها في الماضي ، وأنه أهل لكل مقت وازدراء لكنه لا يستأهل أن تنتفض الأمة كلها لتجاهد ضده.

(ثانيا) المبادئ الأساسية للمنهجية الإسلامية

إن أسلمة المعرفة لهي مطلب حتمي لإزالة الثنائية الموجودة في النظام التعليمي، التي هي بدورها مطلب حتمي لإزالة الثنائية من حياة الأمة ولعلاج انحرافاتها ... إن "أسلمة المعرفة" فضلاً عن أنها تعالج ألوان القصور التي انزلقت إليها المنهجية التقليدية فإنها تأخذ في الاعتبار عدداً من المبادئ التي تمثل "جوهر" الإسلام ... ذلك أن عملية إعادة صياغة كافة فروع العلم في إطار الإسلام تعني إخضاع نظريات تلك العلوم ومناهج البحث فيها ومبادئها وغاياتها [لتلك المبادئ والمفاهيم الجوهرية ، والتي تتمثل] فيما يلي:

(1) وحدانية الله (سبحانه وتعالى):

إن وحدانية الله تعالى هي المبدأ الأول للإسلام ولكل ماهو إسلامي. وفحوى هذا المبدأ أن الإله الحق هو الله؛ وأنه لا إله غيره؛ وأنه تعالى هو الواحد الأحد، العلي الأعلى، وأنه مطلق الكمال بكل المقاييس. وكل موجود سواه مغاير له ومخلوق له. هو الخلاق، بأمره توجد كل الموجودات وتقع سائر الحادثات. هو مصدر كل خير ومصدر كل جمال، إرادته هي القانون الذي يحكم الكون ويقنن للأخلاق. وعبادته وحمده واجب كل الكائنات وعلى رأسها الإنسان الذي خلقه الله في أحسن تقويم وزوده بالقدرات التي بها يعرف ربه ويقدر عظمة صنعه، كما منحه القدرة على أن يتصرف فيما خلق الله ليحقق من خلال ذلك المثل الإلهية من الأخلاق والمثل الإلهية في الجمال.

أن يفكر المرء وأن يعيش واعياً بوحدانية الله معناه أن يعيش في عالم ملؤه الجمال والحيوية ، لأن كل شيء في الوجود موجود بصنعته عز وجل، معتمد في بقائه على ربوبيته ومتجه دائماً بطبيعته نحو تحقيق الإرادة الإلهية... في مثل هذا العالم لا شيء موجود صدفة أو عبثاً أو فارغاً من المعنى. فكل شيء خلقه الله تعالى بقَدَر. وحين يكون الإنسان جزءاً من عالم تلك صفته فإنه يدرك من العلاقات بينه وبين كل الكائنات ما لا يحده العد ، وفوق ذلك كله يدرك أنه مخلوق لله وفقير إلى الله ومدين له ، وأن عليه أن يحبه وأن يعبده حق العبادة. ولكي يكون المسلم مسلماً فإن عليه أن يكون وعيه دائماً عامراً بذكر الله . وما دام الله هو الخالق وهو الديان فلن تكون مسلماً حتى تفعل كل شيء كما شرعه لك قاصداً به وجه الله وحده. وكما أن الحياة والطاقة منحة من الله فكذلك كل الخير والسعادة. هذا هو ما يجب أن تكون عليه الحياة الإسلامية.

أما في الفكر الإسلامي فالله هو مبدأ كل شيء وهو غاية كل شيء. فوجوده تعالى وأفعاله هي الأسس الأولى التي عليها يقوم بناء كل المعارف ونظامها. وسواء أكان موضوع المعرفة هو عالم الذرة الصغير أم عالم النجوم الكبير أم أعماق النفس أم سلوك المجتمع أم مسيرة التاريخ ، فإن المعرفة الإسلامية تنظر إلى موضوع المعرفة من الناحية المادية على أن وراءه عوامل وملابسات تقدمه ومنها انبثق هذا الشيء، أما التصريف الفعلي للأسباب والذي به يوجد شيء معين من بين ما لا يحصى من الأشياء الممكنة الأخرى والتي يمكن أن تؤدي إليها تلك العوامل ذاتها فذلك عمل الخالق سبحانه ويتم بأمره. كذلك، فإن المعرفة الإسلامية تعتبر أن كل شيء في نطاق المعرفة إنما يحقق غاية أرادها الله أو يخدم غاية أخرى مرادةٌ لله تعالى أيضا. وذلك حتى يصبح نظام الأسباب في هذا الكون نظاماً من الغايات على قمتها تقف الإرادة الإلهية لتحدد غاية كل موجود فرد ، وغاية كل سلسلة من الغايات، وغاية النظام العام كله. وتدرك المعرفة الإسلامية أنه ليس ثمة موجود أو حقيقة أو قيمة خارج النظام العام بسلاسله وتشابكاته، النظام الذي مصدره وغايته هو الله تعالى، وأن أي شيء يُتصور أو يُعرف أو يُقوّم خارج النظام الذي حدده الخالق فهو إما غير موجود ، وإما زائف ، وإما لا قيمة له ، وإما أنه فحسب تصور خطأ على أنه خارج ذلك النظام.

(2) وحدة الخلق:

أ- النظام الكوني: إن وحدانية الله سبحانه وتعالى تستلزم بالضرورة العقلية وحدة الخليقة كلها. كما قال سبحانه في كتابه العزيز: (لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلا اللَّهُ لَفَسَدَتَا( (الأنبياء: 22). فلو كان هناك أكثر من حقيقة مطلقة واحد لما بقيت هناك حقيقة مطلقة. زد على هذا أن الكون حينئذ كان سيتبع لنظامين مختلفين، ولو حدث هذا فلن يكون ذلك كوناً منتظماً كما نعرف. وكذلك فلن يكون من الممكن لنا نحن البشر أن نعرف كوناً يسوده أكثر من نظام. إن علينا أن نتذكر أن النظام الكوني هو الذي يمكننا من أن نتبين الأشياء في صورة مواد أو خصائص أو علاقات أو أحداث. فمن خلال الاتساق أو الوحدة في النظام الكوني نتمكن من إدراك استمرارية المواد كأشياء وتكرار الحوادث كعلاقات سببية. وبدون هذا النظام الكوني لا تكون الأشياء ولا الأسباب والنتائج هي هي.

إن الخليقة كلٌّ واحد متكامل لأنها ببساطة من صنعة خالق واحد سرى نظامه وتقديره في كل جزء منها. إن النظام الكوني يتكون من قوانين الطبيعة. وهذه القوانين تؤدي وظيفتها في هذا العام وتسرى إلى كل جزء وكل جانب منه، مادياً كان أو فضائياً، جسمانياً أو نفسياً، اجتماعياً أو أخلاقياً – كل ما هو واقع يخضع لتلك القوانين وينفذها. هذه القوانين هي "سنن" الله تعالى في خلقه. إن الله سبحانه وتعالى ليس مجرد مصدر لهذه القوانين، كما أنه لم يخلق الطبيعة ويضع لها النظام والقانون الذي تسير عليه ليتركها تسير نفسها دون أن يتحكم فيها. إنه لم يتخل عن تدبير خلقه، وإنما هو حي فعال إلى ما لا نهاية. وعليه فإن كل كائن يوجد وكل حدث يقع في الكون إنما يتم بأمره. حقاً إن لدى كل كائن في أي من مراحل وجوده، قوة ذاتية دافعة تمكنه من التغير، لكن الحق أيضاً أن هذه القوة الدافعة قد أوجدها الله وهو الذي يحفظها. وأكثر من هذا فإن هذه القوة المحركة لا تؤدي دائما بذاتها إلى النتائج المرتبطة بها بشكل ضروري لا يتخلف، وإنما بأمر الله تتولد النتائج المعينة عن الأسباب المرتبطة بها عادة فالله سبحانه وتعالى قد يجعل سبباً ما يؤدى إلى نتيجته مباشرة، لكنه قد يحدث سبباً ما عن طريق أسباب أخرى فيكون ما يظهر لنا على أنه سلسلة حتمية من الأسباب لا يعدو أن يكون سبباً إلهياً تماماً كالسبب المفرد. ومن جانبنا نحن البشر فإننا نثق بالله تعالى، أو بنظامه الكوني فنطمئن إلى أن سبباً معيناً سوف تتبعه نتيجة معينة. وإذن فكما اكتشف "الغزالي" و "هيوم"، على ما بينها من خلاف في المبادئ، فإن ارتباط السبب بالمسبب ليس أمراً حتمياً. فالواقع أن ما نسميه بالسببية ليس إلا عملية "تتابع" وتكرار تقودنا إلى الاعتقاد بأن سبباً ما تتبعه عادة نتيجة ما. وليس لهذه العقيدة من أساس تقوم عليه سوى كرم الكائن الأعلى، فالله سبحانه وتعالى لا يخدع أو يضلل. إنه خالق كريم نظم الكون ليجعله صالحاً لأن نحيا فيه ولأن نفهمه، وكذلك كي نتمكن من ممارسة الخيارات الخلقية أمامنا ونبرهن – من خلال الأعمال – على ما لنا من قيمة أخلاقية.

ب- الخليقة كمملكة من الغايات: الله سبحانه وتعالى (خَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً) (الفرقان: الآية2). هذا التقدير هو الذي يعطي كل شيء طبيعته وعلاقاته بالأشياء الأخرى، ومنهجه في الوجود. كذلك، فإن التقدير الإلهي يًخضع كل شيء ليس فقط لنظام الأسباب المشار إليها فيما سبق ، بل أيضا لنظام من الغايات. فكل شيء له غاية ومسوغ لوجوده يخدمه من خلال حياته. هذه الغاية ليست نهائية أبداً، وإنما هي دائما خاضعة لغايات أخرى تكوّن معها سلسلة تنتهي نهايتها عند الله الذي هو الغاية المطلقة والنهاية التي إليها يعود كل شيء. إن إرادته تعالى هي التي تجعل الخير خيراً.

وعليه، فإن لكل شيء موجود علاقة السبب أو النتيجة بكل شيء آخر، فضلاً عن كونها علاقة ذات نهاية، أو هي وسيلة لغاية معينة. أليست غاية كل الغايات على اختلاف ضروبها تنتهي إلى الله سبحانه؟! إن شبكة العلاقات غير منتهية. وهي – بالتأكيد مجال مفتوح أمام البشر للبحث والمعرفة والإعجاب. ولكن ما دامت العلاقات لانهائية فلن يستطيع البشر أن يعرفوا سوى القليل منها على قدر الضوء الضئيل الذي معهم في تلك الغابة المظلمة إن صح التعبير. لكن واجبهم دون غيرهم أن يجتهدوا دائماً في البحث عنها واكتشافها. واكتشاف تلك العلاقات وتقنينها يعني وضع الأسس لمعرفة السنن الثابتة التي وضعها الله سبحانه وتعالى ولتقدير تلك السنن حق قدرها.

ولما كان لكل مخلوق غاية يعمل لخدمتها، ولما كانت كل الغايات مرتبطة ببعضها البعض برباط السبب والنتيجة فإن كل هذا يجعل من الكون نظاماً غائيا هادفاً نابضاً بالحياة مفعماً بالمعنى... فالطير في الفضاء والنجوم في السماء والأسماك في أعماق البحار والكواكب والعناصر – كل تلك أجزاء متفاعلة في النظام الواحد. لا شيء منها عاطل أو شرير، حيث إن كل كائن له وظيفته ودوره في حياة الكل. وهي معاً تكوّن بناء عضوياً تتفاعل أجزاؤه وأعضاؤه بطرق لا يزال البشر في بداية الطريق إلى اكتشافها بفضل العلم، لكن في أجزاء محدودة جداً من الطبيعة.

أما المسلمون فهم يعلمون جيداً أن الخليقة كيان عضوي، وأن كل جزء فيها يخدم غاية ما، حتى ولو كانوا لا يعرفونها. وهذا العلم هو ثمرة لإيمانهم. وحين تواجههم أمور مثل افتراس الذئب للحمل أو أكل الطائر للفراش أو تحول الجسد الإنساني إلى غذاء للديدان، فإنهم يفترضون أن كل ذلك خير، وأنه بنشاطه الطبيعي يحقق غرضاً إلهياً أو نظاماً من الأغراض التي تنتهي إلى الإرادة الإلهية. فالمسلمون لا يمكنهم أن ينسبوا شيئاً للصدفة أو للأقدار العمياء. فالزلازل والطواعين والجفاف والكوارث في نظر المسلمين إنما هي من تقدير الله. والمسلم يتقبل هذه الكوارث – مهما تكن فواجعها وآلامها – على أنها من فعل الله وأنها مرادةٌ لله تعالى من أجل هدف طيب قد لا يظهر للإنسان في الوقت الحاضر. وما دامت من فعل الله، فإن المسلم لا ينهار أمامها لأنه يعرف أن الله الذي قدرها وأوجدها هو في نفس الوقت الحافظ الرحيم بعباده. لهذا، فإنها في نظر المسلم ابتلاء من الله يختبر به عباده ليصل بهم من خلالها إلى مزيد من الثبات والإيمان والتفاؤل ، والمحصلة النهائية لهذا الجانب من العقيدة الإسلامية إنما هو على وجه التحديد ما تحتاجه البشرية في مواجهة المآسي والخطوب.

إن كون الله قد خلق العالم ككيان واحد ترتبط فيه النتائج بالأسباب، وحيث تغطي الأسباب كل شيء بصورة لانهائية ، وحيث تتباين الآثار في كل حادثة في مدى لا نهائي، وفيه توجد العلاقات المتبادلة اللانهائية لتربط الأشياء ببعضها في نظام من الغايات – هذا التقدير الإلهي نفسه مقصود به أن يهيئ المجال لحياة الإنسان وابتلائه الأخلاقي، فهذا المجال ليس غايته الكبرى ولا هو ملك له أو شغله الشاغل. فما دام الإنسان مخلوقاً لتكون حياته عبادة لخالقه، فإن العالم يكون منحة له من ربه. وواجب الإنسان على هذا هو أن يكتشف السنن الإلهية فيه، بل وأن يصونه من التدهور ويقوم بتعميره وتطويره باستمرار.

جـ- تسخير الخليقة للإنسان: منح الله تعالى العالم للإنسان كنعمة مؤقتة و ليكون مجالاً لنشاطه – وجعل كل شيء فيه مسخراً له ، بمعنى أنه تحت تصرف الإنسان يستخدمه لغذائه أو متعته أو راحته. هذا الاستخدام قد يكون مباشراً كما في حالة الغذاء والمتعة، وقد يكون غير مباشر كما يحدث حين تسخر قوى الطبيعة لتنتج ما يحتاج إليه الإنسان. وهناك تناسق ذاتي بين مفردات الخليقة والانتفاع الإنساني . فالحاجات الإنسانية جزء من بناء الخليقة، ومفردات الخليقة مصممة بقصد أن تخدم تلك الحاجات. وكل مكونات الطبيعة ذات استعداد لقبول تأثير الإنسان فيها، ولتحمل التغيير طبقاً لتصرفه والتحول إلى أي شكل يرغب فيه. يستطيع البشر أن يجففوا البحار ويستخدموا الشمس ويحركوا الجبال ويزرعوا الصحارى أو أن يتركوا الدنيا كلها خراباً. في إمكانهم أن يملأوا الدنيا بالجمال ويجعلوا كل شيء يزدهر، أو أن يملأوها بالقبح ويحطموا كل شيء. إن تسخير الكون للإنسان لا يقف عند حد... لقد شاء الله تعالى أن تكون العلاقات السببية والغائية المتبادلة بين أفراد الخليقة هي مادة هذا التسخير، وبدونها لا يكون للتسخير جدوى ولا معنى. فلو كان الإنسان لا يستطيع الاعتماد على الأسباب لإحداث نتائجها، أو كانت الوسائل غير صالحة لتوصِّل إلى الغايات، لفقد الإنسان اهتمامه بالكون ولكف عن أي محاولة لتغييره إلى الأنماط التي يجب أن يكون عليها طبقاً لوحي الله... "مادمت مكلفاً فإنك مستطيع" هذا المبدأ الذي ينسب إلى "كانط"، والذي يعد أول مبادئ "ميتافيزيقا الأخلاق" كان أول من عبر عنه أحد فلاسفة المسلمين مستوحياً إياه من المبدأ القرآني (لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلا وُسْعَهَا) (البقرة: الآية286) وبدون هذه النتيجة الضمنية الضرورية يصبح العالم إما جامداً عديم الحركة والتغير، وإما عالماً للمجانين.

(3) وحدة الحقيقة ووحدة المعرفة:

من المؤكد أن العقل تعرض له الأوهام والضلالات والشكوك. حقاً إن قدرته على تصحيح نفسه توفر له درجة لا بأس بها من الحماية، لكنه بالنسبة للحقيقة المطلقة – وبسبب قصوره البشري – يحتاج إلى تعزيز من مصدر مبرأ من الخطأ، وهو الوحي. وبمجرد أن يتم إرساء القضايا المتعلقة بالمبادئ الأولية أو المطلقة، فإن العقل يكتسب عندئذ قوة يستطيع بها أن يتغلب على ما يعترضه من مشكلات. يجب أن تكون كافة افتراضات العقل الأولية مؤكدة بشكل قاطع: بعضها يكون كذلك لأنه يدهي، والبعض الآخر لأنه عبارة عن تجارب عامة للبشرية ككل؛ ولكن هنالك ضربا ثالثا لا يمكن إدراكه إلا لأولئك الذين تتوفر فيهم الدرجة المطلوبة من الحكمة أو نضوج الرؤية الدينية أو الأخلاقية؛ وأمثال هؤلاء هم الذين يتوقع منهم – لهذا السبب – أن يروا الحقيقة على وجهها الصحيح. ومن هنا، فإن إدراك مثل هذه الحقائق والقيم قد لا يكون عاماً بالمفهوم الرياضي، وإنما يتطلب نوعاً آخر من المؤهلات الضرورية التي يتعين وجودها. وحيثما لا يتأتى للعقل اليقين الجازم فإن نور الإيمان يمكن أن يمده بهذا اليقين، بل إنه ليلقي ضوءاً كاشفاً على سائر الفرضيات الأولية الأخرى كما يضفي مزيداً من اليقين على النظرة الشاملة للكون المبنية على تلك الفرضيات. إن بين الإيمان والفرضيات العقلية الأولية التي تصل إلى حد الجزم لعلاقةً وتناغما واتصالا وتكاملا. وإن العقيدة في الإسلام – خلافا للديانات الأخرى القائمة على التسليم الكامل [حتى لما يناقض العقل] – لا تنفك عن العقل سواء في وظيفتها أو فيما تسهم به. فلا هي فوق العقل، وليس العقل كذلك فوقها. ولذا فليس من الإسلام أن نضع الإدراك العقلي والإدراك الإيماني على طرفي نقيض بحيث يكون على الإنسان أن يختار بينهما. "..إن اليهود يطلبون آية (معجزة)، واليونانيين يطلبون الحكمة. ولكننا نحن نكرز بالمسيح مصلوباً، لليهود عثرة ولليونانيين جهالة ... إن جهالة الله أحكم من الناس، وضعف الله أقوي من الناس. فانظروا دعوتكم أيها الإخوة أن ليس كثيرون حكماء ... بل اختار الله جهال العالم ليخزي الحكماء و ... ضعفاء العالم ليخزي الأقوياء، و ... أوفياء العالم والمزدرى وغير الموجود ليبطل الموجود ..." (هذا النص من رسالة بولس الرسول الأولى إلى أهل كورنثوس: الإصحاح الأول: 22 – 28) (والنص العربي منقول عن طبعة الكتاب المقدس 1977 التي أصدرتها جمعية الكتاب المقدس في الشرق الأدنى – المترجم). مثل هذا الكلام قد يكون يهودياً أو نصرانياً أو هندوسياً لكنه على النقيض من الموقف الإسلامي.

أما فيما يتعلق "بنظرية المعرفة" فإن خير ما يوصف به موقف الإسلام هو أنه قائم على "وحدة الحقيقة" ، وهذه الوحدة مستمدة من وحدانية الله المطلقة، إن "الحق" هو أحد أسماء الله الحسنى؛ وإذا كان الله واحداً بالفعل كما يؤكد الإسلام، فلا يمكن أن تتعدد الحقيقة. إن الله يعلم الحقيقة وينزلها من خلال الوحي صافية إلى خلقه، فلا يمكن أن يجيء ما يتنزل به الوحي مختلفاً عن ما في الحقيقة الواقعية لأن الله سبحانه هو خالق الحقائق كلها الواقعية منها والمطلقة. والحقائق التي تدخل في نطاق ما يحيط به عمل العقل متضمنة في قوانين الطبيعة التي هي سنن الله في خلقه، وهي سنن دائمة ثابتة، ومن هنا يمكن أن تُكتشف تلك الحقائق وتقنن وتستخدم لمصالح الإنسانية... والوحي – إضافة لما يقدمه من إعلان لوجود الله وأنه خالق الوجود – يبين أيضا حقيقة القوانين الطبيعية أو السنن الإلهية التي يسير الكون على أساسها. ومن الواضح أنه لا يمكن أن يكون هناك بيان أو تعبير عن تلك القوانين أصدق من بيان خالقها ومدبرها. وإذن فإنه نظريا لا يمكن أن تصور وجود أي تناقض بينهما. وهذا التطابق المنطقي بين العقل والحقيقة والواقع من جانب وبين ما يأتي به الوحي من جانب آخر لهو أخطر مبدأ عرفته نظرية المعرفة في تاريخها الطويل. وهذا التطابق يقوم على مباد ثلاثة عليها ترتكز المعرفة الإسلامية كلها:

الأول: إن وحدة الحقيقة تعني رفض أي إمكانية للتناقض بين الحقائق الواقعية وما يأتي به الوحي. فكل ما يقرره الوحي لابد أن يكون صادقاً منسجماً مع الواقع موافقاً له؛ إذ لا يتصور أن يكون الله – تعالى – جاهلاً أو غاشاً أو مضللاً لمخلوقاته. وعليه، فإن ما يبينه لهم لا يمكن أن يتعارض أبدا بأي وجه مع حقائق الواقع، لأنه ما أنزل الوحي إليهم إلا للإرشاد والتعليم. فإن ظهر أي تناقض بين الوحي والواقع، فإن على المسلم أن يراجع "فهمه" للوحي مادام يؤمن بمبدأ وحدة الحقيقة ، فهذا المبدأ يحميه من خطر التأويلات والتفسيرات المتسرعة أو المغرقة في المجازات أو المعتمدة على معان باطنية لا سند لها سوى الفهم الشخصي التحكمى. إن فهم معاني الوحي في الإسلام يقوم على ركيزتين صلبتين: اللغة العربية بمعجمها ونحوها ثم الحقائق الواقعية، وكلاهما محفوظ منذ نزل الوحي. ولهذا السبب لم يعرف الوحي القرآني مشاكل تأويلية من حيث هو، وإنما كل مسائل التفسير تدور حول أمور لغوية تتصل بالمعجم أو بالقواعد.

الثاني: إن وحدة الحقيقة تفرض أنه لا يوجد تعارض أو خلاف أو تفاوت مطلق بين العقل والوحي. فوحدة الحقيقة ترفض رفضاً قاطعاً فكرة عدم وجود مبدأ أو حقيقة أو فهم أعلى يمكن أن يزيل التناقض. إن الإنسان وهو يبحث في الطبيعة ويحاول أن يكتشف السنن القانونية التي أوجدها الخالق في الكون، يمكن – بل من المؤكد – أن يخطئ أو يتوهم أو يظن أنه قد أمسك بالحقيقة مع أنه يكون في الواقع مخطئا . ومثل هذا الموقف قد يخلق تعارضاً ظاهريا بين العقل والوحي. فوحدة الحقيقة ترفض هذا التعارض وترى أنه وهم، وتطالب الباحث بالعودة إلى النظر ثانية في معطياته وفحصها من جديد. فقد يكون سبب التعارض فيما انتهى إليه العلم أو العقل من نتائج، وفي مثل هذه الحالة يحسن بالباحث أن يعود إلى معطياته ويفحصها ثانية. وقد يرجع السبب كذلك إلى إساءة فهمه للوحي، وهنا أيضاً يكون عليه أن يراجع مسلماته.

الثالث: إن وحدة الحقيقة ، أو طبيعة قوانين المخلوقات والسنن الإلهية، تفرض أن باب البحث في طبيعة الخلق أو في أي جزئية منه لا يمكن أن يغلق، وذلك لأن سنن الله في خلقه غير محدودة. فمهما عرفنا منها، ومهما تعمقنا في هذه المعرفة، فلا يزال هناك دائماً المزيد منها ليكتشف. ومن هنا، فإن الاستعداد لقبول الجديد من البراهين، والإصرار على متابعة البحث هي خصائص لازمة للعقل المسلم الذي قبل مبدأ وحدة الحقيقة فالموقف الناقد لكل الدعاوى الإنسانية، والبحث الدائب وراء قوانين الطبيعة التي لا تكون نهائية أبداً، هما في ذات الوقت شرطان لازمان للمنهج الإسلامي وللعلم الأصيل. ومن هذا المنطلق، فإن أقوى حكم يبقى دائماً مؤقتاً، ويظل صالحاً حتى تظهر أدلة جديدة تشكك فيه أو تفنده أو تؤكد صحته. إذن، فإن أعلى حكمة، وأوثق قرار يجب أن يعقبه هذا التأكيد "والله أعلم".

(4) وحدة الحياة:

أ- "الأمانة الإلهية": يقول الله تعالى في كتابه العزيز: (وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ وَعَلَّمَ آدَمَ الأسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلائِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلاءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ قَالُوا سُبْحَانَكَ لا عِلْمَ لَنَا إِلا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ قَالَ يَا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لآدَمَ فَسَجَدُوا....) (البقرة: 30 – 34) وفي آيات أخرى من القرآن الكريم يقول الله تعالى: (إِنَّا عَرَضْنَا الأمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإنسان....) (23: 72)؛ (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإنْسَ إلا لِيَعْبُدُونِ) (51 :56)، (وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلا....ً ) (11 : 7) (تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً......) (67: 1-2)

هذه النصوص السابقة من القرآن الكريم تجيب، في كل آن، على التساؤل عما إذا كان – أو لم يكن – هناك سبب يفسر وجود الإنسان. والإسلام يؤكد كل التأكيد أن لوجود الإنسان سبباً وأن هذا السبب هو عبادة الله تعالى. إن الإرادة الإلهية على ضربين: ضرب متحقق حتماً يتمثل في السنن الإلهية التي يجري الكون على أساسها، وهي قوانين الطبيعة. وهذه السنن ثابتة ومتحققة على مستوى الكون كله. ومن الممكن أن تفهم عن طريق الوحي أو عن طريق العقل. وقد أوجب الله على الإنسان أن يبحث عنها وأن يفهمها ويقننها من أجل المعرفة ثم يستخدمها لصالحه. أما الضرب الثاني من القوانين الإلهية: فيتحقق فقط عن طريق الحرية والاختيار، أي عندما تتحقق في وضع يكون فيه تحقيقها أو عدم تحقيقها إمكانيتين متميزتين. وتلك هي القوانين الخلقية. إنها تتعايش مع قوانين الطبيعة، بمعنى أنها تتحقق دائماً في سياق من الأشياء والأشخاص والعلاقات في العالم الواقعي، لكنها تنتمي إلى ضرب مختلف عن الواقع المحتوم. إنها عملية أولويات. فأن تصبح جزءاً من الموقف الواقعي وأن تتحقق من خلاله أولاً، أمر يعتمد على تحقق ذلك الموقف، أو على المتطلبات الخاصة بهذه القوانين الخلقية. إنها تتطلب ممارسة الشخص لإرادته ممارسة حرة. ولهذا فإن "السماوات والأرض والجبال" عجزن عن حمل "الأمانة" الإلهية لعدم وجود هذه الإرادة لديهن. وحملها الإنسان لأنه دون باقي المخلوقات يتمتع بهذه الحرية الأخلاقية. وهذه الإمكانية لديه جعلته في وضع أسمى من الملائكة الذين لا يتمتعون بالحرية في أن يطيعوا أو لا يطيعوا. وهذا هو السبب في أمر الله لهم أن يسجدوا لآدم. فكان انعدام حرية الإرادة لديهم سبباً في إنزالهم عن مرتبة الإنسان. هم كاملون ويستطيعون فقط أن يطيعوا أوامر الله. إنهم يقدسون الله ويسبحونه دائماً ولا يعصون له أمراً. وعلى هذا، فإن طاعة الإنسان لله أعلى قيمة من طاعة الملائكة، وما ذلك إلا بسبب أنها تصدر عن إنسان لديه القدرة أن يفعل عكس ذلك. فإعراض مثل هذا الإنسان عن طريق الشر، أو ترفعه عما هو أدنى، أو إعراضه عن الخير المادي النفعي الأناني، ثم اتجاهه بمحض اختياره إلى فعل ما يتطلبه القانون الأخلاقي إنما هو إحراز لقيمة أسمى. إن الحياة الأخلاقية لهي ضرب من الحياة أعلى وأنبل وأعظم. وإن النمط الأعلى من الإرادة الإلهية يدخل التاريخ ويصبح واقعا حين يختار البشر في حرية أن يحققوه. ومن هنا، فإن الإنسان يعتبر وصلة كونية بين الإرادة الإلهية والواقع الحقيقي. وواضح أن وجوده عظيم الأهمية.

ب- الخلافة: إن حمل الإنسان للأمانة الإلهية يجعله في مقام الخلافة أو النيابة عن الله. وتتمثل خلافته في إنفاذ القوانين الأخلاقية التي هي والقوانين الدينية شيء واحد، وإن كانت الأخيرة تتحكم كذلك في الشعائر التعبدية وهي قليلة. لكن حتى هذه لها جوانب ليست تعبدية أو أخروية محضة، وإنما لها – من حيث خصائصها وآثارها – علاقة قوية بهذه الدنيا. أما باقي التشريعات الدينية أو الأخلاقية فكلها عبارة عن ممارسات فعلية للحياة والوجود والعمل. وما تضيفه هذه القوانين للممارسات الفعلية إنما هو الصفة أو المنظور أو الطريقة التي يتم بها تصريف تلك الممارسات المتشابهة. إن من الطبيعي أن يشتهي الناس وأن يكبروا ويتمتعوا، أن يطلبوا وأن يتملكوا، وأن يحبوا وأن يتزوجوا وأن ينجبوا، وأن يتسلطوا وأن يمارسوا القوة ..... الخ، والإسلام يحب لكل هذه الأنشطة أن تستمر، إنه لا يشجبها ولا يود لها أن تتوقف كما هو شأن النصرانية والبوذية ، كل ما يطلبه الإسلام ما الناس أن يقدموا على هذه الأفعال بدوافع مختلفة وأن يؤدوها بطريقة مختلفة. الدافع المختلف هو أن يبتغوا بها وجه الله. والأسلوب المختلف هو أن يؤدوها بالعدل وبالحق بحيث تؤدى إلى تحقيق غاياتها النفعية والأخلاقية دون أن يلزم من ذلك حدوث نتائج غير مرغوبة أو غير عادلة أو غير أخلاقية.

والوحدة المشار إليها سابقاً بين القوانين الأخلاقية والعبادات الدينية تأتي من أن الإسلام لا يفضل الدين عن الدنيا. فمن وجهة نظره، توجد حقيقة واحدة فقط لا حقيقتان كما هو شأن الأديان التي تقسم الحياة إلى قطاعين: ديني مقدس وعلماني. ليس هناك شيء مقدس بهذا المعنى سوى الله. كل شيء في نظر الإسلام مخلوق وليس مقدساً، ويفترض أنه خير ما دام من صنع الله. وطريقتنا في أداء ما نفعل هي التي تحقق المتطلبات الدينية أو الأخلاقية أو لا تحققها . فإن فعلت فالعمل خير، وإلا فهو شر. وعلى هذا، فإن أفعال الإنسان وحده هي التي يمكن أن تكون خيراً أو شراً بناء على ما تؤول إليه من تحقيق العدل والحق والجمال والسعادة أو عكس ذلك. وعلى هذا، فصفة "التدين" لا تعني أن ينسحب الإنسان من الممارسات المعتادة في الحياة ولا أن يقتصر على الأعمال الخالية من أي قيمة نفعية. فأمر الدين كله إنما هو صفة لنفس الممارسات الحياتية. وعلى هذا الأساس يبقى الإسلام ملتحماً بواقع الحياة والتاريخ. وفي خارج نطاق الحياة والتاريخ ليس ثمة فضيلة ولا تقوى، بل ولا إسلام. وقد ترى النصرانية والبوذية الدين في غير مجريات الحياة والتاريخ، وقد تفرضان إذلال النفس والتنسك والرهبنة والمجاهدة، بل وتجميد تلك المجريات نفسها. إنهما تفعلان ذلك لأن مجريات الحياة والتاريخ في نظرهما أهل للشجب على أساس أنها شر ومحكوم عليها بالهلاك. فالمسيحية تؤمن بأن الخليقة "آثمة" و "شر" و "لا خير فيها"، وترى الخلاص من ذلك في الإيمان بالمسيح وتقليده. كذلك، فإن البوذية تؤمن بأن الخليقة "شر" لا شيء فيه سوى الألم والمعاناة، وتفرض إنكار الذات وإنكار الحياة كباب للخلاص من مجريات الحياة والتاريخ.

أما الإسلام فإنه ينكر مثل هذه المسلمات المسبقة التي تلعن الحياة والتاريخ، ويرى أن الخلقة خير وأن الله سبحانه وتعالى خلقها لغاية طيبة ، وأن تحقيقها يتأتى بالإخلاص لله وطلب العدالة للبشر. والمشاركة في مجريات الحياة من أساسيات نظرة الإسلام للإنسان. لقد عين الله سبحانه وتعالى للإنسان هدفين ليحققهما. الأول، أي أن يعيد ترتيب جزئيات الحياة بحيث تصبح بكل طاقاتها في خدمة الحاجات الإنسانية، يستوي في ذلك الجزئيات المادية (من طعام ومأوى وراحة وإنجاب) والخلقية والفكرية والجمالية. الثاني، أن على البشر في عملية توجيه الخليقة نفسها أن يستعْلوُا بالقيم الخلقية فينتقوا منها – للدخول في عمليات التوجيه تلك وعلى أسس أخلاقية – ما يحقق ما يقتضيه الإخلاص لله وتحقيق العدالة البشرية.

إن مضمون "الأمانة" الإلهية، وبالتالي مضمون "الخلافة"، هو بناء الثقافة والحضارة والسمو بها، إن محور "الخلافة" هو تحقيق السلام والأمن على الحياة والممتلكات وتنظيم البشرية في مجتمعات منظمة قادرة على إنتاج الطعام وعلى معالجته وتخزينه وتوزيعه على الجميع بشكل كاف كماً ونوعاً، وتهيئة المأوى والدفء والراحة والاتصالات واليسر، وإعداد ما يكفي من الأدوات اللازمة لتحقيق هذه الأهداف، وأخيراً، تهيئة الفرص للتعليم وتحقيق الذات وللتمتع الترفيهي والجمالي. وهذا مرادف لإقامة ثقافة وحضارة ولبناء الحياة في هذا الوجود، ولقد أمر الله عز وجل بإقامة ذلك كله ، وأعلن أن ذلك هو السبب الحقيقي لخلق العالم، والمراد الإلهي الأسمى من وراء هذا كله هو أن يبرهن البشر على أهليتهم من الناحية الأخلاقية فيما يقومون به من أفعال ، وبإمكانهم أن يحققوا هذا ببساطة بأن يجعلوا الله قبلتهم في كل ما يقومون به إذ يمارسون كافة أنشطتهم الحياتية فيجعلونها لوجه الله سبحانه وتعالى، وبأن يحرصوا على إقامة مبدأ العدل من خلال هذا كله ... إن المسلمين يفهمون –وبحق- أن هذا الاستخلاف عمل سياسي في المقام الأول ، وكثيرا ما ربط القرآن الكريم الاستخلاف بإقامة السلطة السياسية (الأعراف : 73) وبضمان الأمن والسلام (النور 54) وبالقضاء على أعداء الله واستبدال نظم حكمهم الظالمة بحكم خلفاء الله في الأرض (الأعراف: 128) (يونس : 13) ... ويعتبر العمل السياسي أي المشاركة في العملية السياسية بدءا من اختيار الحاكم أو بيعته ، وتقديم المشورة والنصح للحاكم ووزرائه، ومراقبة أعمالهم ونقدهم أو حتى خلعهم – كل هذه ليست فقط أمورا مرغوبا فيها في الإسلام بل هي من أوجب الواجبات الدينية والأخلاقية ، والنكوص عن القيام بتلك الواجبات يعني الوقوع في الجاهلية كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم ، ولقد حارب أبو بكر والصحابة من رفضوا تلك المشاركة وإن احتفظوا بالعقيدة واعتبروهم كفارا خرجوا من الإسلام كله ، وإذا كانت المسيحية تعتبر العملية السياسية من مهاوي الشر وتنصح بعدم المشاركة فيها ، فإن الإسلام يعتبر ذلك من جوهر الإسلام وينهى عن الانسحابية ، ويصدق هذا الأمر نفسه –وبتأكيد أشد- على بناء الثقافة والحضارة ، فالإسلام يعتبر أن بناءهما هو الشغل الشاغل للدين ، ولهذا فإن تخلي جماهير المسلمين في عصور الضعف عن المشاركة في النشاط السياسي لمما يتناقض بالكلية مع معايير الإسلام.

كذلك، فإن المبدأ نفسه يصدق على متطلبات السلام والأمن، وهما أثمن جائزة يسعى إليها العالم الإسلامي اليوم. فكل مسلم يجب أن يأمن على حياته وممتلكاته وعلى كرامته الشخصية ومكانه في المجتمع. وتوفير هذا المطلب من أول الواجبات الاجتماعية. ومن أجل هذا، طلب الإسلام من كل مسلم أن يكون "مسيَّسا"، أي أن يكون يقظا وأن ينظَّم ويُدفع إلى أن يعمل على تحقيق هذا الهدف لنفسه ولأفراد أسرته ولجيرانه ولكل إخوانه من المسلمين.

ج- الشمولية: إن منهج الإسلام لبناء الثقافة والحضارة منهج شامل، كما يجب أن يكون إن فهمناه حق الفهم. وهذا الشمول هو من الخصائص الأساسية للشريعة. فكل جانب من الحياة الإنسانية له حكمه الملائم في الإسلام. هذا الحكم قد يكون واضحاً وقد يكون غير واضح، ملزِماً كما في "الواجبات" و "المحرمات" أو غير ملزم كما في الإرشادات "المندوبة" و "المكروهة" و "المباحة". المهم أن لا شيء يند عن أحكام الإسلام. حقاً إن دائرة "المباح" في الإسلام واسعة، لكن سعتها ليست دليلاً على عدم وجود ما يلائمها في الإسلام، وإنما سببها أن المباحات تقع خارج نطاق "المطلوبات" المحددة، سواء أكانت "إلزاميات" كالوجبات والمحرمات، أو "أفضليات" كالمندوبات والمكروهات. وخارج هذا النطاق تقع الثقافة وطرائق المعيشة، وهي لا تقل أهمية في نظر الإسلام عن قطاع "المطلوبات" التي تعتمد في الحقيقة، على التربية الموفقة؛ فهي تمثل المنطلقات الأولية لها وبدونها تصبح غير واردة. فلا شيء يمكن فرضه بالقوة ما لم تكن الجماهير قد تربت عليه من قبل وسبق اقتناعها به.

ومن هنا، فإن واجب المفكر المسلم أن "يؤسلم" الحياة، أي أن يحدد نظرياً وتطبيقياً علاقة الإسلام بكل جزئية في الحياة الإنسانية. ولقد أوضح القرآن ذلك بالفعل في عدد من ميادين النشاط الإنساني، وذلك عن طريق تحديد مكانة الأفضليات والمباحات، كما في التحية وخفض الصوت والاستئذان عند الدخول، وسرعة الانصراف بعد تناول الطعام (عند الغير) وإحسان معاملة الوالدين ومن يكبروننا سنا ... الخ. وقد بذل الرسول صلى الله عليه وسلم ما في وسعه لاستكمال التطبيق سواء بالإرشاد أو بالقدوة العملية في مجالات كيفية الأكل والشرب والمحافظة على النظافة والترويح عن النفس ومعاملة الجيران ... الخ . وأسلوب الحياة الذي قرره الإسلام تفصيلياً في العصور الأولى وما تفرع عن تلك التوجيهات القرآنية والنبوية، نراه اليوم بحاجة إلى إعادة تعريف وبلورة واستكمال بحيث تغطي ما لم يكن معروفاً من الأنشطة زمانئذ، أو تصبح أدق تطبيقاً على ما ترتب على التمدن الحديث من مجالات تمتد من الكماليات إلى الضروريات. مثال ذلك: مجالات العلاقات الاجتماعية والسفر والنقل والترفيه والفنون السمعية والبصرية ووسائل الاتصال الجماهيري وغيرها من الميادين التي تحتاج إلى أن تمتد إليها توجيهات الإسلام.

(5) وحدة الإنسانية:

مادامت الوحدانية صفة لله عز وجل، وهو سبحانه الخالق، فلابد أن تمتد صفة الوحدة الإلهية إلى كل البشر لأنهم من خلقه. ومن الطرف الآخر، لابد للبشر أن يرتبطوا جميعاً كمخلوقين بخالقهم. ولا يمكن أن يتعدد وجودهم من حيث هو، وإلا أدى ذلك إلى تعدد مماثل في الخالق. حقاً، إن البشر يمكن أن يتفاوتوا في الخصائص من العنصر واللون والبنية والشخصية واللغة والثقافة؛ لكن أيا من هذه الخصائص لا يمثل قيمة وجودية، بمعنى أنه لا يجعل من الشخص كائناً مختلفاً، كما لا يستطيع أي منها أن يؤثر في وضع الشخص كمخلوق أمام الله سبحانه وتعالى. فقيمتها ليست أساسية في مخلوقية الشخص لله، هذه الخصائص السلالية (الإثنية) التي تحدد معالم شخصية صاحبها وسلوكه قد يكون لها دور في امتيازه أو انهياره أخلاقياً، وهو أمر كثير الوقوع، لكن دورها في تحديد النتائج الأخلاقية ليس ضرورياً ولا نهائياً ولا مطلقاً. فليس من الضروري أبداً أن شخصاً ذا تركيبة خاصة متخيلة من تلك الخصائص يكون ذا قيمة خلقية عالية أو هابطة. فجوهر بناء وجود الشخص يجب أن يبقى إلى حد ما حراً من سيطرة تلك الخصائص قادراً على أن يتبع قوتها الموجهة أو أن يخالفها عن طريق تحويل تلك القوة إلى غايات أخرى.

هذا المبدأ هو السبب الذي يقف وراء الحقيقة الإلهية التي قررها القرآن: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ .....)(الحجرات: 13). إن الانتماء إلى نوع (ذكر أو أنثى) أو إلى قبيلة أو أمة أو إلى سلالة دون أخرى ربما كان أوضح خصائص البشر وأول عوامل التمييز بينهم. يلي ذلك عوامل اللغة والملامح الوراثية والذكاء والمهارة والقوة البدنية، وهي أقل ثباتاً عند الميلاد وأكثر قبولاً للتغير. وثالثاً، تأتي الشخصية بخصائصها ذات القابلية العالية للتغير والتي تكوِّن الفضائل والرذائل: من الحكمة والمعرفة والتقوى والصبر إلى الجهل والحمق والكفر والتمرد... هذه العوامل كلها تشكل الشخصية الإنسانية وطريقة الحياة، على الأقل من حيث الأساس والقاعدة. أما بقية بناء الشخصية ونمط الحياة فيتكون من العادات أو الآراء، من الميل أو المزاج، من السمعة ومن تاريخ وتقاليد هذه الشخصية عبر تراكمات أعمالها. كل من هذه العوامل له دور في بناء الفرد الإنساني وفي تحديد هويته. لكنها تختلف فيما بينها اختلافاً كبيراً، فبعضها خَلْقي محدد من قبل المولد، وهو – لهذا – ثابت لا يتغير، وبعضها مكتسب في مراحل مختلفة من الحياة، ولذلك ينمو ويتطور، أو يتغير ويزول.

والبشر معرضون كثيراً لأن يخطئوا تقدير قيمة هذه الخصائص وطبيعة الدور الذي تقوم به في حياة الشخص. ففي التاريخ لم يكن لأي من خصائص الإنسان دور في تحديد الحكم على الأشخاص والجماعات أعظم من الدور الذي قامت به المجموعة الأولى من الخصائص، وأعني بها النوع والسلالة. ومع ذلك فهي أشد تلك الخصائص براءة من هذه التبعة نظراً لأنها أقلها اعتماداً على قرار الإنسان أو عمله الأخلاقي، كما أنها أضعفها قابلية للتغير. إن طبيعة المباشرة الوضوح في هذه الخصائص كثيراً ما تضلل الحكم فنأخذها على أنها حقائق وجودية ويبنى التفرقة والتمييز بين الناس على أساسها. وهذا هو السبب في أن القرآن الكريم قد بدأ بها وقصد إلى هدم كافة الأحكام المبنية عليها. إن هذه خصائص من صنع الله، ضرورية ولا تتغير، وقد خلقها الله لتكون فقط عوامل تعارف. إن علينا أن نأخذها على أنها "جواز سفر" أو "هوية شخصية" لا تنبئ عن قيمة صاحبها أو طبيعته الأخلاقية. وهذا هو معنى الآية إن أخذناها على المعنى الحرفي. أما إن أخذنا "ليتعارفوا" مأخذاً مجازياً، فإن القرآن حينئذ يخبرنا بأن الله قد خلق الخصائص النوعية والسلالية كي يتمكن البشر من خلالها من التكامل والتعاون [بتبادل الخبرات المتميزة عند كل شعب].

إذن، كل البشر خلق واحد ومتساوون: وهذا أساس العالمية في الإسلام. كل البشر عند الله سواء لا تميزون إلا بأعمالهم وفي الفضائل الخلقية والإنجازات الحضارية والثقافية. فإذا كانت هذه الأعمال تعتمد على خصائص ثقافية موجودة تعرقل مثل هذا الإنجاز، فالواجب علينا أن نغير هذه الخصائص وننمي أخرى – وهذا أمر في الإمكان دائماً، والباب مفتوح أبداً أمام مثل هذا التغيير. أما حين يتم الحكم على أساس الخصائص الثابتة، فإننا نرتكب جريمة أخلاقية، وهي التعصب العنصري. والتورط في جريمة كهذه ينذر بشر مستطير يتمثل في انتهاك وحدة البشرية وانتهاك الوحدانية الإلهية أيضاً. لا شيء أشد مقتاً عند الله تعالى من الشرك، ولا شيء أقرب إلى الشرك من التعصب العنصري. ولا شيء كالعنصرية أدى إلى العداوة والحروب وإراقة الدماء بين البشر. لقد ألصقت بالدين وبضروب كثيرة من الأسباب تهمة التسبب في إثارة مختلف الصراعات بين جماعات البشر. والحق أن كافة الصراعات تقريباً بين الجماعات يمكن إرجاعها إلى قرارات عنصرية اتخذت على أساس الخصائص الثابتة لمن يدعون "أعداء".

إن الإسلام لا يلتقي أبداً مع التعصب العنصري الذي يعتبر التمييز العنصري والقومية من صوره السائدة. إن الصراع بينهما لا حد له نظرا أن ما ينزله التعصب العنصري من دمار في الروح الإنسانية – فاعلة أو مفعولة له – لا يمكن جبره.

وإدانة التعصب العنصري كما يفعل الإسلام ليست إدانة للوطنية ، إذ الأخيرة تعني موقفاً من الحب والإعزاز، والتقدير لحياة الجماعة وقيمتها، ومن الاستعداد لتحمل المرء كل بذل وتضحية، بما في ذلك التضحية بالنفس في سبيل الدفاع عنها. فليست الوطنية على هذا بريئة من الشر فقط، بل إنها عمل إيجابي صالح يفرضه الإسلام. فمن الواجب على المرء دينياً وأخلاقياً أن يحب قومه ويخدمهم ويدافع عنهم ضد كل اعتداء وظلم، وكذلك أرضه. فما أبعد الفرق بين التعصب العنصري والوطنية. إن جوهر الأول هو الإدعاء بأن مزايا الشخصية السلالية هي المعيار المطلق للخير والشر؛ وأشنع صوره هي اعتبار سلالة ما أسمى من كل البشر نتيجة للخصائص الذاتية في أفرادها ثم إجلال تلك المزايا والتمسك بها على حساب كل المزايا الأخرى. والتعصب العنصري بهذا الزعم يتطلب الولاء المطلق له ممن يؤمنون به، ما دامت الدعوى التي يقدمها هي أن العنصر أو السلالة هو الحقيقة المطلقة. إن الشعب المتعصب عنصريا، يهودياً كان أو ألمانياً أو فرنسياً أو روسياً، يدعى مخلصاً أن اليهود أو الألمان أو الفرنسيين أو الروس هم الحقائق المطلقة التي تمثل المعيار المطلق للخير والشر. إن ما غرسته الصهيونية في روح الشعب اليهودي، وما غرسه "هيجل" و "فيخته" و "نيشته" وغيرهم من المفكرين الرومانسيين في روح الشعب الألماني عما هو "الوطن الألماني"؛ وما غرسه "روسو" و "فوستيل دي كولانج" وغيرهما من روح الشعب الفرنسي عما هي "الأمة" أو "فرنسا"، قد وصل إلى ما يشبه المبدأ المقدس الذي نفخ الغرور في اليهود والألمان والفرنسيين فصار عندهم أشبه بالحقيقة المطلقة للمعتقد الديني. وإن ما تتطلبه مثل هذه الأساطير الغامضة من اعتداد بالنفس ومن إلهام، وإن التأثير الشديد الذي تمارسه على قلوب معتنقيها وخيالاتهم، ليسبه تماماً الآثار المرتبطة بحقيقة تتصف بأنها أسطورية وهائلة وأخاذة لها أولوية مطلقة ومتجاوزة للواقع.

أما المسلم فهو الشخص الذي يعتقد نقيض ذلك تماماً بأن "إلهه" هو الإله الواحد للجميع ولكل شيء ولا إله سواه ، فتلك هي المسلمة الضرورية التي تبني عليها لزوماً كل صور الوحدة المشار إليها سابقاً إضافة إلى وحدة الإنسانية كلها. ومن التناقض في التسمية أن نقول "مسلم قومي" أو "عنصري". والمسلم الذي يعلن أن ولاءه إنما هو لقوميته وحدها هو إما "منافق" أو "زنديق" وإما رجل ذو ولاء سطحي زائف لا يثبت أمام إغراء الرشوة والمصالح الشخصية. وهذا هو أيضا السبب الذي يفسر كيف أن الحياة العملية للغالبية العظمى ممن يدعون بالزعماء القوميين المسلمين الملتزمين قد خلت كثيراً من الانسجام والإخلاص للمبدأ المعلن والتكامل الخلقي.

إن معرفة الإنسان في العصر الحاضر تقوم كلها على أن العنصر أو السلالة هي التي تحدد إنسانية الإنسان بإطلاق ، ومعرفة المجتمع تقوم على العنصر كأساس مطلق للنظام والبناء الاجتماعي. ولم تتح أبداً فرصة التحقق الواقعي لمبدأ عالمية "عصر التنوير" قبل أن يتم رفضها لصالح المبدأ العنصري الذي دانت به الرومانتيكية. حتى عالمية "عصر التنوير" كانت نظرية وموضع شك، إذ كانت – حتى على يد أمير هذه الحركة "عمانويل كانط" – تعتبر أن مختلف شعوب البشر تتدرج ما بين رفيع ووضيع على أساس من تحيز أوربي موروث وغلى أساس الخصائص الذاتية الداخلية للشعوب الآسيوية والإفريقية والأوروبية. لقد اكتسحت الرومانتيكية الغرب كله، وأتت على كل أثر للعالمية العقلانية أو النصرانية، وقدمت أعظم دعم للدراسات الإنسانية والفنون والعلوم الاجتماعية. ولقد حدد المفكرون الإنسان على أنه حصيلة لعدد من الحقائق والقدرات والقوى التي تنبثق وتتغذى من تصور لوطن أسطوري ومن سلالة أو شعب أو دم يمتد في غموض إلى أبعاد زمنية لا نهائية ، ومن تقاليد تمتد جذورها إلى أعماق وأبعاد لا نهائية في كل من الزمان والمكان. أضف إلى هذا أن هذه الأمور لا تفهم عن طريق العقل، وإنما نلتقط من خلال العواطف والتجربة المباشرة والحدس، وتجد أبلغ وأوضح تعبير عنها في الفنون، خاصة الموسيقى والرسم والأدب. حتى الدين، تصوره أولئك المفكرون الرومانسيون ، خاصة "شليرماخر" Schleiermacher، تصوراً جديداً على أنه يرتكز على أساس وحيد هو تجربة المؤمن به التي لا يمكن وصفها، أي أحاسيسه الشخصية، وهو تصور يحط من قيمته بعد ذلك أنه تصور غير عقلاني بل اعتباطي تحكمي لا يختلف في طبيعته عن "الأوهام" و "المخدرات".

لقد استمرت الدراسات الإنسانية في الغرب تتحدث عن "الإنسان" و "الإنسانية"، لكن بالمفهوم الرومانسي الذي يحصر مضمون هذه المصطلحات في "الإنسان الغربي" و "الإنسانية الغربية". وإذا كانت لم تستبعد تماماً من دائرة الإنسانية المليار من "السود" والمليار من "الحمر" والمليار من "الصفر" في إفريقيا وآسيا وأمريكا اللاتينية، فإنها تعدهم مخلوقات تكاد تقترب من الإنسانية يمكن أن تستعمر وأن تستغل لصالح الإنسانية الغربية.وبالطبع فإن من الواجب إجراء الدراسات عليهم، لكن المطلوب هو أن يتم دراستهم كعينات لعصر كان الغرب قد مر به في فترة سابقة ، وبذلك يساهمون في تمكين الإنسان الغربي من أن يفهم تاريخ تطوره.

إن التمركز-حول-العنصر بطبيعته مثير للشقاق والتفرق، إذ من الممكن دائما أن تجد داخل أي مجموعة مجموعات أصغر تكشف عن مزيد من التركيز للخصائص الداخلية أكثر من المجموعة الأكبر، وهذه "الحقيقة" يمكن أن تمهد القاعدة لمجموعة أصغر ترى نفسها كياناً عنصرياً مزوداً بخصوصيات أنقى و أقوى. وإذا كانت الرومانتيكية قد فصلت الغربيين عن بقية العالم الذي كانوا على وشك أن يحتكوا به احتكاكاً مكثفاً نتيجة لتطور الصناعة والنقل، فإنها قد مزقت الغرب ذاته إلى قوميات متعادية متنافسة تسعى كل منها إلى "مصالحها القومية" وكأنها وحدها المعيار الوحيد للخير والشر. وسرعان ما تعلمت أمم الغرب من بعضها وقبلت كل منها ما انتهت إليه الأخرى. كما انتقلت بسرعة النظرات والتحليلات والتعبيرات الرومانتيكية من أمة إلى أخرى على أنها حقائق ، ثم تبنتها وطبقتها كما لو كانت من صنعها هي.

وبتأثير الدفعة التي قدمتها الرومانتيكية تطورت العلوم الاجتماعية الغربية: التاريخ والجغرافيا والاقتصاد وعلم السياسة والاجتماع و الأنثروبولوجيا (علم الإنسان). وهي تقوم كلها، كل بطريقته الخاصة، على أساس نظرة عنصرية مؤداها أن الأمة أو الكيان العنصري بمفهومهما المحدد جغرافياً وسكانياً وتاريخياً (لكن الأخير يكون مشوشا وغير محدد) هي الوحدة المطلقة للتحليل والتقويم. وحينما يتحدثون عن "المجتمع" أو "النظام الاجتماعي" فإنهم يقصدون كيانهم ونظامهم القومي. بعضهم يذكرها صراحة منذ الصفحة الأولى، وآخرون لا يصرحون بها على أساس أنها أقوى الفروض الأساسية التي لا تحتاج أن تذكر. ويؤكد علم الاجتماع بجرأة على المقولة العنصرية لأنه يتعامل مباشرة مع المجتمع والنظام الاجتماعي. وعلى إثره يقفو علم السياسة. أما علم الجغرافيا والتاريخ الغربيين فلا يتصوران العالم إلا كتابع للغرب، عالم يدور حول بريطانيا أو أمريكا أو فرنسا أو ألمانيا أو إيطاليا، التي هي بمثابة القلب والنواة له، وذلك حسب المؤلف ومكان النشر. أما علم الاقتصاد الغربي فقد كان في مراحله الأولى بعيداً عن الموضوعية العلمية بحيث ادعى لنفسه مكانة العلم العالمي. لكنه أعيد إلى مكانه كتحليل غربي لأمة غربية على أيدي النازيين وهم قادة الرومانتيكية والعنصرية في أوروبا. ونفس الدعاوى الفارغة التي أسبغها كارل ماركس على هذا العلم أنكرها لينين وخروشوف من خلال الممارسة العملية. لكن نظام حكمهم لم يسمح حتى الآن بإعلان أي شيء مكتوب بهذا الخصوص، وإن سمح بقدر معقول من الإعلانات العنصرية (المدعوة هنا بالاشتراكية – القومية) أن يدرج في الدستور (الجديد) للاتحاد السوفيتي عام 1978.

وأخيراً، فإن علم الإنسان (الأنثروبولوجيا) يعتبر أجرأ هذه العلوم جميعاً. فالإنسانية في نظره تعني العنصرية، وأنهما منطقياً متكافئتان وقابلتان لتحل إحداهما محل الأخرى. وفي القرنين الأخيرين كان تأثير هذا العلم يسوق البشرية إلى سعار من الوعي بالعنصرية وذلك من خلال فرز مجموعات ثانوية واحدة بعد الأخرى وإقامة نظام من المبادئ والقيم لكل مستقى من الخصائص الذاتية لها أو مما لفقه دعاة هذا العلم وأعلنوا أنه ذاتي ومختص بتلك المجموعة العرقية. فبدلاً من إدراك الخصائص العالمية في الإنسان وتأكيدها، إذ بهذا العلم ينمي ويضخم بشكل كبير الجوانب الخصوصية.

اعترف الإسلام بالأسرة على أنها وحدة البناء في النظام الاجتماعي، ودعم صورتها الممتدة بالتشريعات المتعلقة بالإرث والإنفاق حتى يمكن أكبر عدد ممكن من أعضاء الأسرة أن يأكلوا من مطبخ واحد، وأن يتكافلوا، من ثم، اقتصادياً. والغاية هي أن يصبح أفراد الأسرة الممتدة، من خلال عيشهم في تقارب وكثيراً ما يكون ذلك تحت سقف واحد، متكاتفين في سبيل صحتهم العقلية والعاطفية والاجتماعية وصالحهم العام. أما فيما وراء الأسرة فإن الإسلام لا يعترف بالجماعة القومية أو العنصرية، وإنما بالإنسانية والنظام الاجتماعي العام. فلا شيء يقف بين دائرتي الأسرة والإنسانية. وهما معاً يكونان كل شيء في النظام الاجتماعي. وعضوية الإنسان في هذا النظام هي ما يهتم به الإسلام في العلوم الاجتماعية. أما سائر التقسيمات للبشر بين دائرتي الأسرة والإنسانية، كالقطر والإقليم والشعب والأمة، فإن الإسلام يعتبرها وحدات إدارية بحتة لا علاقة لها بالمرة بتحديد الخير والشر ولا بفهم الشريعة أو تطبيقها. وعليه، فإن ما عند الغرب الحديث من فنون وعلوم إنسانية واجتماعية يجب أن تعاد صياغتها برمتها، وأن تقوم قواعدها الأولية على أساس جديد يتطابق مع عالمية الإسلام. كما ينبغي أن يمدها المفكرون المسلمون بقيم جديدة، أعني بقيم وغايات إسلامية، لتكون بمثابة أهداف عليا لترشيد البحوث الاجتماعية.

الفصل الرابع

خطة العمل

تتمثل أهداف خطة العمل فيما يلي:-

1- إتقان العلوم الحديثة.

2- التمكن من التراث الإسلامي.

3- إقامة العلاقة المناسبة بين التصور الإسلامي وبين كل مجال من مجالات المعرفة الحديثة.

4- الربط الخلاق بين التراث الإسلامي والمعرفة الحديثة.

5- الانطلاق بالفكر الإسلامي في المسار الذي يقوده إلى تحقيق سنن الله سبحانه وتعالي على أرضه.

وإذا أردنا تحقيق هذه الأهداف فعلينا السير في عدد من الخطوات المرتبة ترتيباً منطقياً يحدد الأولوية الملائمة لكل خطوة منها ... وفيما يلي نسوق الخطوات الضرورية لأسلمة المعرفة.

الخطوة الأولى: إتقان العلوم الحديثة وتقسيمها إلى فئات

من الواجب أن تقسم العلوم الحديثة في صورتها الراهنة وفي أعلى مستويات تقدمها في الغرب إلى أنواع وقواعد ومنهجيات ومشكلات وموضوعات .وهذا التقسيم يجب أن يعكس قائمة المحتويات لأي كتاب دراسي جامعي يغطي مناهج هذا الفرع ومجالاته، وبمعني آخر، يمثل محتوى مقرر دراسي في هذا الفرع لا يستغني طلاب الدراسات العليا في هذا التخصص عن دراسته واستيعابه. مثل هذا التوصيف للمقرر لا يكفي أن يصب في تعبيرات اصطلاحية وعناوين لأبواب وفصول، بل لابد أن يكون على شكل جمل معبرة توضح معاني المصطلحات وتفسر الأبواب والقواعد والمسائل والمواضيع الكلية لهذا الفرع الدراسي في أكمل شكل غربي له.

الخطوة الثانية: المسح الشامل للفروع أو التخصصات العلمية

يجب أن تتم عملية مسح شامل لأدبيات كل علم من العلوم ، وأن تكتب عنه المقالات لتبين الخطوط العريضة لنشأته وتطوره التاريخي ونمو مناهجه واتساع ميدان رؤيته ، والإضافات الأساسية التي أسهم بها المتخصصون فيه. كما يجب أن يلحق بكل مسح منها قائمة ببليوجرافية شارحة تعرف بأهم مراجع هذا العلم ؛ فتضم بشكل مبوب منظم أهم الكتب والمقالات التي تقوم على أساسها مادة هذا الفرع والتي بدونها لا يمكن الوصول إلى إتقانه.

إن من أهداف هذه الخطوة أن يتم التأكد من أن المسلمين قد توصلوا إلى فهم شامل لهذا العلم واستوعبوه بكل مراحل تطوره في الغرب. فإذا ما تحقق هذا المسح للعلم بشكل جيد ودُعم بالشروح والهوامش الشافية فإنه سيقدم للمتخصصين فيه أساساً لفهم مشترك لهذا العلم الذي ينتظر منهم أن يعيدوا صياغته في ضوء التصور الإسلامي. ولما كانت فروع العلم اليوم قد أصبحت في الغرب متعددة الجوانب بسبب انفجار المعرفة، فقد بات من الضروري للعلماء المسلمين ممن يتناولون هذا الفرع أن يقفوا على أساسه وأن يتفقوا فيما بينهم على الموضوع الذي سيبذلون جهودهم في "أسلمته" من حيث طبيعته وتاريخه وخصائصه وحدوده.

الخطوة الثالثة: التمكن من التراث الإسلامي: المختارات

قبل الدخول في تفاصيل نوع العلاقة و درجة الملاءمة بين الإسلام و بين علم معين يجب أن نكتشف ماذا في تراث الإسلام مما يتصل بهذا الفرع من فروع العلم... إن تراث أسلافنا يجب أن يظل بالنسبة لنا نقطة الانطلاق لتحديد مدى الارتباط بالإسلام. وإن أسلمتنا للعلوم ستكون ضحلة جدا إذا لم نأخذ تراثنا في الحسبان وإذا لم ننتفع بنظرات أسلافنا الثاقبة. ولكن مساهمة التراث في تخصص ما كثيرا ما لا تكون ميسرة للباحث الحديث حتى يصل إليها ويقرأها ويفهمها؛ بل إن الباحث الحديث ليس مؤهلاً حتى للبحث في التراث عن مساهمات الإسلام في تخصصه. والسبب هو أن تصنيفات العلم الحديث لا توجد، ولا حتى أسماؤها، في التراث على هذا النحو. كذلك، فإن التراث قد يحتوي على معلومات قيمة لا يمكن تصنيفها طبقاً لأي تصنيف حديث ولا ربطها به. وإن العالم المسلم الذي تدرب في الغرب كثيراً ما ينهزم أمام استغلاق التراث الأمر الذي يدفعه بقوة إلى الإعراض واليأس والحكم بأن ليس في التراث شيء حول موضوع البحث، مع أن الحقيقة أنه هو الذي لا خبرة له بتصنيفات التراث التي تندرج تحتها مثل تلك المادة الملائمة لموضوعه. وفوق هذا، فإن العالم المسلم الذي تدرب في الغرب لا يمتلك الأوقات ولا الحيوية المطلوبة للقيام باستطلاع ناجح للمؤلفات الضخمة والكثيرة التي تضم تراث العلم الإسلامي.

من ناحية أخرى فإن أساتذة التراث الإسلامي التقليديين – على الرغم من خبرتهم به – لا يمكنهم أن يكتشفوا ولا أن يحددوا جوانب الملاءمة بين هذا التراث والعلوم الحديثة نظراً لجهلهم بتلك العلوم، وعدم درايتهم بموضوعاتها ومسائلها وقضاياها. ومن هنا يتوجب أن نعرفهم بما نحتاج إليه ثم نتركهم ينطلقون إلى التراث في حرية ليستخرجوا منه ما هو مناسب. ولهذا كان ما تنتهي إليه الخطوتان الأولي والثانية يخدم هذه الغاية من خلال تعريف الخبراء بالعلوم الحديثة وإمدادهم على هذا النحو بمعايير التلاؤم التي يستطيعون استخدامها في بحوثهم.

وتتضمن هذه الخطوة إعداد عدة مجلدات من مختارات التراث تضم ما له صلة بالعلوم الحديثة ، على أن تكون مرتبة طبقا لمنهج التصنيف الحديث لكل علم. هذه المختارات ستضع أمام العالم المسلم الحديث طريقا ممهدة إلى التراث في مجال تخصصه، إذ ستقدم له – في منهج موضوعي مألوف لديه – أفضل ما ساهم به التراث في مجموعة القضايا التي تشكل الموضوعات الرئيسية لمجال دراسته. وما دام المتخصص المسلم الحديث لا يمتلك من الوقت ولا الخبرة للوصول بنفسه إلى التراث (بل إنه في معظم الأحوال لا يعرف حتى لغة التراث) فليس من الممكن له، بدون هذه المختارات، أن يصبح على إلف بالتراث، فما بالك بالتمكن منه؟!

الخطوة الرابعة: التمكن من التراث: التحليل

لكي نقرب منجزات التراث الإسلامي من فهم العالم المسلم الذي تربى في الغرب، فمن الضروري ألا نكتفي بأن نقدم له صفحات من التراث على شكل مختارات مادة علمية تتصل بموضوع معين. لقد قام الأسلاف بواجبهم في ربط المشكلات التي واجهتهم بالمنظور الإسلامي والرؤية الإسلامية. وقد فعلوا ذلك تحت تأثير شتى العوامل والقوى التي دفعتهم إلى التيقظ. وعلينا – كي نفهم طريقتهم في بلورة الرؤية الإسلامية – أن محلل كتاباتهم في ضوء الخلفية التاريخية التي ظهرت فيها ، وأن نتبين ونبرز علاقات المشكلات القائمة في عصرهم بالقطاعات الأخرى من الحياة والفكر. هذا التحليل التاريخي لمساهمات التراث سيكشف ولا ريب مناطق عديدة من الرؤية الإسلامية ذاتها. مما يقودنا إلى فهم أفضل لهذه الرؤية نتعلم منه كيف فهمها الأسلاف وكيف حركتهم ، وكيف ترجموها إلى مناهج تطبيقية في الأفعال والسلوك، وكيف أعانتهم على حل ما واجهوه من مشكلات وصعوبات خاصة.

مثل هذه الأنماط من التحليل لمساهمات التراث الإسلامي لا يمكن أن تتم اعتباطاً. بل يجب أن يقام نظام متدرج من الأولويات وأن يدعى العلماء الإسلاميون لتنفيذه بصورة منظمة. فبالإضافة إلى المبادئ الأساسية والمشكلات الكبرى والقضايا المستمرة، فإن المسائل التي يظهر أن لها علاقة بمشكلاتنا الحاضرة ينبغي أن تكون موضوع الاستراتيجية الإسلامية في التعليم والبحث.

الخطوة الخامسة: تأسيس مدى الملاءمة بين الإسلام وفروع العلوم الحديثة

تنتهي الخطوات الأربع السابقة إلى وضع المشكلة في صورتها الكاملة أمام المفكر المسلم، فهي تلخص له كل التطورات التي توصل إليها هذا العلم مما فات المسلمين ففي فترات غفلتهم. وبالمثل، فإنها يجب أن تعرفه، في أوضح وأوثق صورة ممكنة، بمساهمات التراث الإسلامي في المجالات التي تتناولها هذه العلوم وبالأهداف العامة لكل علم. هذه المواد العلمية يجب أن توضع في صورة أكثر تحديداً وذلك بتحويلها إلى مبادئ على نحو تلتقي فيه مع العلم الحديث على مستوى العموميات أو التنظير أو المراجع أو التطبيق. وفي هذا الصدد يجب الربط بين التراث الإسلامي وطبيعة العلم الحديث ومناهجه الأساسية ومبادئه ومشكلاته وأغراضه وآماله وإنجازاته ونواحي النقص فيه؛ كما تستخلص من المساهمة العامة العلاقة الخاصة بين التراث وكل واحدة من تلك النواحي. هنالك ثلاثة أسئلة رئيسية يجب أن تطرح وأن نجد لها جواباً. الأول، ما هي مساهمة الإسلام ابتداء من القرآن الكريم وانتهاء بالتراث الذي توصل إليه المجددون المحدثون في جملة القضايا التي يثيرها هذا العلم؟ والثاني، كيف تتطابق أو تتعارض مساهمات التراث الإسلامي مع ما أنجزه هذا العلم؟ وأين وصل التراث في مستوى رؤية هذا العلم وآفاقه وأين قصر عنها أو تخطاها؟ والثالث، بعد معرفة المجالات والقضايا التي كانت مساهمة التراث الإسلامي فيها قليلة أو معدومة، في أي اتجاه يحسن أن تبذل جهود المسلمين مستقبلاً لكي تسد هذا النقص وتعيد صياغة المشكلة وتوسع مدى الرؤية؟.

الخطوة السادسة: التقييم النقدي للعلم الحديث: بيان واقع الفرع العلمي

بعد استعراض كل من إسهامات العلم الحديث والتراث الإسلامي، والتعرف على مناهجهما ومبادئهما ومشكلاتهما وإنجازاتهما ومسحها وتحليلها، وبعد توضيح العلاقة الخاصة بين الإسلام والعلم وإقامة أسسها، يجب أن نخضع هذا العلم الحديث لتحليل نقدي من وجهة النظر الإسلامية . وهذه خطوة رئيسية من عملية "أسلمة المعرفة". وواضح أن الخطوات الخمس السابقة تقود إليها وتمهد لها. وفي مجال التطور التاريخي للتخصص العلمي يجب أن نميز ونظهر الملابسات التي جعلت هذا العلم يجئ على صورته الحالية هذه. ويجب أن نحلل ونختبر منهجيته – وأعني بها ما يتضمن تحديد مادته الأولية ومسائله الأساسية ، وتصنيفه وتبويبه، ونظريته ومبادئه التي على أساسها يحل مشكلاته – وذلك من أجل الاختصار والكفاية والمعقولية والانسجام مع "الوحدة" فيما يتصل بكل الأبعاد الخمسة التي يقررها الإسلام والتي شرحناها من قبل. كما يجب تحليل مشكلات هذا العلم الغالبة وقضاياه المستمرة لنعرف ما وراءها من فروض وما لها من أهمية وعلاقة بالرؤية الأساسية له. ومن الواجب أن يكون الغرض النهائي للعلم ذا ارتباط محدد بمنهجيته وبأهدافه القريبة أيضا. فنتساءل : هل حقق التخصص رؤية مؤسسيه؟ وهل أدى دوره في عملية البحث عن المعرفة التي هي مطلب الإنسان؟ وهل حقق ما توقعه الناس منه كجزء من المطلب الإنساني العام؟ وهل حدد من أجل الفهم والتاريخ السنن الإلهية في الخلق التي قصد من ورائه تحديدها؟ وبالإجابة على هذه الأسئلة نصل إلى تقرير واضح وأصيل عن حالة هذا العلم، كما تتضح الجوانب التي تستلزم هذا الضرب أو ذاك من التصحيح الإسلامي أو التعديل أو الإضافة أو الحذف.

الخطوة السابعة: التقييم النقدي للتراث الإسلامي: بيان واقع التراث في أحدث صوره

[المصادر الأصلية] للتراث الإسلامي هي القرآن الكريم الذي هو كلام الله سبحانه وتعالى، وسنة النبي محمد صلى الله عليه وسلم... وهذان [المصدران الأصليان] ليسا موضوعاً للنقد أو التقويم، فالطبيعة الإلهية للقرآن والطبيعة المعيارية للسنة فوق كل تساؤل. أما فهم المسلمين لهذين المصدرين فليس كذلك. بل إنه يخضع للتعديل والنقد في ضوء المبادئ التي يقدمها هذان المصدران الوحييّان. وينطبق هذا على كل الأشياء الأخرى في التراث والتي قد تكون مستقاة من أي من المصدرين الأصليين عن طريق الجهد العقلي البشري. إن هذا العنصر البشري بحاجة إلى إعادة النظر لأنه لم يعد يقوم بالدور الحيوي المحرك في حياة المسلمين كما فعل من قبل وكما يفترض أن يفعل دائماً. إن ربط فهمنا البشري للوحي بمختلف المشكلات الحاضرة يجب أن يخضع للنقد المستمد من ثلاثة مصادر:

الأول: الرؤية الإسلامية كما تستخلص بوضوح من مصادر الوحي مباشرة ومن تحقيقها تاريخياً على يد النبي صلى الله عليه وسلم وصحابته والتابعين رضي الله عنهم.

الثاني: ما تحتاجه "الأمة" في الوقت الحاضر في كل مكان من العالم.

الثالث: مجموع المعارف الحديثة التي يمثلها هذا الفرع من العلم.

فإذا وجدنا أن التراث [الذي توصلنا إليه باجتهادنا] به نقص أو خطأ وجب تصحيحه بالجهود المعاصرة. أما إن وجدنا أنه لا بأس به، فيلزم، من أجل المستقبل، العمل على مزيد من تطويره وبلورته من جديد وبشكل مبدع. ذلك أنه في كل الأحوال فلن يصلح أمر من أمور الأمة الإسلامية اليوم إلا من خلال ربطه بتراث الإسلام. ولإنجاز ذلك الربط على هذا النحو فيجب أن يتم العمل على أساس من الدراية الكاملة بالتراث من حيث نواحي القوة والضعف فيه. وفي كل الأحوال أيضا فإن أي موقف يمر به العالم الإسلامي في الحاضر أوفي المستقبل يجب أن يستصحب للتراث دائماً ولا يخالفه بأي صورة جذرية.

إن مهمة تقويم ما ساهم به التراث الإسلامي في كل ميدان من ميادين النشاط الإنساني تقع على عاتق الخبراء في هذا النشاط. إنهم ميزان لما يحتاجه المسلمون في هذا الميدان، كما أنهم حذاق العلم الحديث الذي يدرس هذا النشاط. ومن المؤكد أنهم سيكونون في حاجة إلى مساعدة خبراء التراث كي نضمن فهمهم له على أعلى مستوى من الصواب والكفاءة.

الخطوة الثامنة: تحديد أهم مشكلات "الأمة"

تواجه الأمة اليوم، وقد انتبهت من رقادها، مشكلات هائلة على كل الجبهات. إن مشكلاتها الاقتصادية والاجتماعية والسياسية وهى مشكلات مستعصية بكل المقاييس – ليست سوى الجوانب اليسيرة الظاهرة من مرضها الكامن في ناحيتي الفكر والأخلاق. وإن المشكلات الكبرى برمتها، و أسبابها ولظاهر المتفاعلة مع سواها من الظواهر والآثار المتصلة بمشكلات الأمة لتتطلب مسحاً علمياً وتحليلاً نقدياً. إن حكمة التخصص العلمي يجب أن توجه لتسهم في حل مشكلات الأمة، أعني أن تمكن المسلمين من أن يفهموا هذه المشكلات فهماً صحيحاً وأن يحددوا بدقة نوع تأثيرها على حياة الأمة وعلى قضية الإسلام في العالم. فليس لمسلم من أهل التخصص أن يتابع تخصصه العلمي لمجرد الترف العلمي لخالص المعتزل في برج عاجي كما لو كان لا علاقة له بواقع الأمة وآمالها وطموحاتها. وعلينا أن نطبق على مجالات تخصصاتنا ذلك الدعاء الذي نسأل الله فيه أن يمنحنا "علماً نافعاً"، وذلك بأن يوجه أنظارنا في قوة إلى مشكلاتنا القائمة. وقبل هذا كله وبعده تأتي مشكلة إصرار التخصصات العلمية والمؤسسات التعليمية على التباعد عن الإسلام في مواجهة جهودنا لإعادة أسلمتها. وفي الوقت نفسه فإن اهتماماتنا يجب أن تكرس للقضايا الرئيسية التي تؤثر على مشكلات الأمة في المجالات السياسية والاجتماعية والاقتصادية والفكرية والثقافية والأخلاقية والروحية، وفي كل قطاع من قطاعات الجهد الإنساني.

الخطوة التاسعة: تحديد مشكلات الإنسانية

إن حمل أمانة المسؤولية لما مصلحة الجنس البشري كله وليس مصلحة الأمة الإسلامية وحدها لهو جزء لايتجزأ من الرؤية الإسلامية. إن "أمة" الله سبحانه وتعالى تشمل الكون كله ويجب أن تتطابق مسؤولية الإنسان مع نطاقها كله... حقاً، إن "الأمة الإسلامية" تعتبر من بعض النواحي متخلفة وغير متقدمة إذا قيست بسواها من الأمم. ولكن هذه الأمة لا يسبقها أحد في مجال حيازتها للحقيقة والتعبير الأيديولوجي عنها على الوجه الأمثل الذي يضمن تحقيق الازدهار والرقي الديني والخلقي والمادي في الوقت نفسه. ذلك أن "الأمة" بإسلامها تمتلك وحدها الرؤية التي هي شرط ضروري كي تسعد البشرية كلها ليجيء تاريخها على النحو الذي يرضاه الله سبحانه وتعالى.

من هنا كان المفكر مطالباً بالتصدي للمشكلات التي تواجه العالم اليوم والبحث عن حلول لها طبقاً للرؤية الإسلامية. إن الأمة بحكم رؤيتها الإسلامية تعتبر اليوم هي المتحدث الحق والوحيد على ظهر الأرض اليوم باسم شعوب البشرية التي ضاعت قضيتها بين الاستعماريين والثوريين وهي تسعى للتخلص من نيرهم. إن التمركز-حول-العنصر يدمر العلاقات التي تربط البشر بعضها ببعضهم في كل مكان في العالم . أما البقية الباقية من الخير فقد تكفل بالقضاء عليها تعاطي الخمور والمخدرات وفوضى العلاقات الجنسية وتدهور أخلاقيات الأسرة والأمية والخمول وحكم العسكر وتكديس الأسلحة والعدوان الظالم على الطبيعة وتهديد التوازن البيئي على الأرض، وكل ذلك وغيره يستمر دون ما رادع فعال من أي مصدر كان. ومن المؤكد أن هذه المشكلات تمثل مجالا آخر من المجالات ينبغي أن يوجه الفكر الإسلامي بل والتخطيط والتنفيذ نحو مواجهتها إذ أن في ذلك سعادة "الأمة" وسعادة البشرية أيضا. وإن حل هذه المشكلات والسير بالبشرية إلى السعادة والازدهار في إطار من العدل والكرامة لهو جزء لا يتجزأ من أهداف الإسلام.

الخطوة العاشرة: التحليلات والتركيبات المبدعة

بعد فهم العلوم الحديثة والتمكن منها ، وفهم التراث الإسلامي وهضمه وتقدير جوانب القوة والضعف فيهما ، وتحديد مايقوله الإسلام في كل ميدان من ميادين البحث المتخصصة في كل العلوم؛ وبعد التشخيص الجيد وفهم المشكلات التي واجهت الأمة من في مسيرتها التاريخية في خلافتها عن الله في الأرض، وبعد فهم مشكلات البشرية من وجهة النظر الإسلامية التي تفرض على المسلمين أن كونوا "شهداء على الناس" عبر التاريخ الإنساني... بعد هذا كله يصبح المسرح الآن مهيأ أمام العقل المسلم ليتحرك حركته القوية الخلاقة ، بحيث نمهد طريقاً جديدة أمام الإسلام في هذا القرن الخامس عشر إذا كنا نريد له أن يستأنف قيادته للعالم، وأن يتابع دوره الإصلاحي والحضاري في حياة البشرية.

إن واجبنا عندئذ يتمثل في إيجاد تركيبة مبدعة تجمع بين التراث الإسلامي [وما صح] من العلوم الحديثة ...تركيبة قادرة على ردم فجوة التخلف التي امتدت عبر قرون . ولابد للتراث العلمي الإسلام أن يتواصل عطاؤه على الدوام في دفع المعارف والعلوم إلى حدود وآفاق أبعد مما تصورته العلوم الحديثة. وتلك التركيبة يجب أن تحافظ على صلتها الوثيقة بواقع الأمة الإسلامية. وذلك بالاشتغال بمشكلاتها التي تم التعرف عليها وتحديدها. إن عليها أن تهيئ الحلول الفعالة لمشكلات العالم كله بالإضافة إلى الاهتمام بالقضايا التي تتولد من خلال الآمال الإسلامية، ولكن علينا أن تتساءل ما هي بالتحديد محتويات تلك الآمال التي يلهمنا الإسلام إياها لخير البشرية في كل قطاع من حياة الإنسان؟ وكيف نضع هذه الآمال موضعها لتتحقق؟.

فإذا عرفنا بالتحديد ما يمليه التراث بالنسبة لموضوع أو مشكلة ما وعرفنا الطبيعة الخاصة للقضية التي تشغلنا، فأي الخيارات ينبغي اعتباره الخيار الصحيح الذي يجب أن يسير المسلم فيه؟ كما أنه ولا شك فإن عدداً كبيراً من الخيارات يكون مطروحاً في كل حالة ، فأيها أقرب إلى المثال الإسلامي وأيها أبعد عنه؟ أيها أكثر أو أقل فعالية؟ أيها يدفع بالحركة الإسلامية نحو الأهداف العليا للإسلام أو يعوقها؟ وأي هذه الخيارات ممكن وأيها ضروري وأيها لا مفر منه وأيها مرغوب فيه ؟ ما هي المعايير التي يمكن أن نؤكد بها أن الإسلام (شريعته وأخلاقه وثقافته وروحه) يلائم تماماً المشكلة التي نعالجها؟ وما هي الطرق التي يمكن أن نقيس بها مدى كفاءة الحلول المقترحة؟ وما هي المبادئ التي في ضوئها يمكن أن نبرز مساهمة "التركيبة" الإسلامية المبدعة وأن نقيسها ونقومها؛ أو التي يمكن في ضوئها أن ندخل عليها التعديلات والتصحيحات الملائمة وأن نوجهها ونقومها؟.

الخطوة الحادية عشرة: إعادة صياغة العلوم في إطار الإسلام الكتب الدراسية الجامعية

من الطبيعي أن العقول الملتزمة بالإسلام لن تصل كلها إلى نفس الحلول أو تختار نفس الخيارات وهي تحدد مقولات الإسلام فيما يتعلق بقضايا وهموم "الأمة" حاضراً ومستقبلاً. ومثل هذا الاختلاف لن يكون أمرا غير مرغوب فيه، بل سيكون أمراً مطلوباً بقوة. إننا بحاجة إلى العديد من التحليلات النقدية المتنوعة التي يقوم بها الملتزمون بالإسلام من أهل التخصصات الحديثة، وذلك لكي نثري وعي " الأمة" بأمانيها وأهدافها. فالحق أن أمتنا لا يمكن أن نقول إنها قد استعادت فاعليتها وحيويتها التي كانت لها في القرون الهجرية الأولي ما لم يصبح الإسلام نفسه بالنسبة للمسلمين مرجلا دائم التدفق بالجديد من الأفكار التي تجسد سنن الله في الخلق ونبعاً يفيض بالخيارات الأخلاقية الخلاقة التي تتجسد بها القيم والأوامر الإلهية وتصبح تاريخاً واقعاً.

إن الكتاب الجامعي أو المدرسي المنشود في أي تخصص علمي يمكن إعداده بفضل الخصب الذي تتميز به مثل هذه النظرات الثاقبة والمتبصرة في مفاهيم الإسلام، والخيارات المبدعة لتحقيق تلك المفاهيم. إننا بحاجة إلى الاستكثار من المقالات والبحوث التي تمثل اختراقات فردية متعمقة في أي موضوع أو فرع أو مشكلة كي تكون بمثابة "رؤية خلفية" أو "ميدان مواءمة" يمكن تنبع منها الرؤية الإسلامية في أي تخصص أو فرع علمي.

إن أسلمة علم ما لا تتم بتأليف كتاب واحد فيه، حتى ولو تحققت فيه كافة المواصفات المطلوبة. لابد من وجود عشرات الكتب الدراسية من أجل تنمية المقدرة الذهنية للعقول المسلمة. أضف إلى هذا، أننا بحاجة ماسة إلى العديد من الكتب التي تغطي الحاجات التربوية للمستويات الجامعية المختلفة (بدءاً من طلاب مرحلة البكالوريوس إلى طلاب الدراسات العليا)، كما أن ثمة حاجة إلى مزيد من الكتب التي تشبع حاجات المسلمين وهي غير محدودة، ولك التي تبرز وتبلور التصور الإسلامي وهي غير محدودة كذلك. لكن نظام الأولويات يفرض علينا أن نعبئ جهودنا في البداية لإعداد كتب دراسية نمطية لكل من التخصصات العلمية بحيث تبرز فيها بشكل حاسم علاقة التصور الإسلامي بهذا التخصص، وتصبح بمثابة الدليل الذي تسير على نهجه العقول الإسلامية في المستقبل. ولست في حاجة إلى القول بأن أية محاولة لتعجيل إنتاج الكتاب الدراسي الجامعي على حساب الالتزام بالخطوات المشار إليها سابقاً لا يمكن أن تنتج إلا شيئاً هزيلاً.

لقد أوصانا رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا عملنا عملاً أن نتقنه. والحق أن الكتاب الدراسي الجامعي هو الهدف النهائي لكل الإجراءات الطويلة التي تؤدي إلى عملية "أسلمة" العلوم. إنه العمل الذي يتوج البحوث الطويلة في الخطوات السابقة.

الخطوة الثانية عشرة: نشر المعرفة "المؤسلمة"

لو تم إنتاج كل هذه الأعمال بأيدي الأساتذة المسلمين ثم بقيت مخزونة في حدود ملكيتهم الخاصة لكان ذلك عبثاً مهما كانت قيمة الأعمال عظيمة في ذاته. كما أنه سيكون أمراً مؤسفاً للغاية لو بقيت تلك الذخائر محصورة في نطاق دائرة محدودة من أصدقاء المؤلفين ومعارفهم، أو اقتصر الانتفاع بها على المؤسسات التربوية في دولهم أو الدول المجاورة وحدها.. إن كل عمل يتم لوجه الله تعالى يصبح ملكاً للأمة الإسلامية كلها، ولن يبارك الله فيه ويتقبله ما لم ييسر طريق الانتفاع به لأكبر عدد من خلق الله. مع أن من حق المسلم، بل من الواجب، أن يكافأ مادياً على جهوده الفكرية، إلا أن الأعمال الفكرية في الإسلام ينبغي أن تنتشر وألا يحتكرها صاحبها سعياً وراء الربح المادي. إن القيام بالعمل لوجه الله تعالى يفرض على صاحبه أن يجعله متاحاً لكل من يرغب في أن يفيد منه وينقل ما فيه من علم بأي وسيلة كانت.

وأمر آخر؛ إن مثل هذا العمل الفكري الذي يأتي نتيجة للخطوات المذكورة سابقاً إنما قصد به أن يحقق اليقظة والتنوير والثراء الفكري لا للمسلمين في العالم وحدهم، بل للناس كافة. هؤلاء إذن هم القراء أو قل هم "المستهلكون" لهذه السلعة. إن العمل الذي يحمل صفة "إسلامي" والذي أنجز لوجه الله تعالى ويحمل في طياته رؤية الإسلام نفسه له غاية أسمى من مجرد نقل المعلومات. إن وعي الإنسانية كلها يمكن، أمام انبلاج التصور الإسلامي الحق، أن يفقد توازنه القديم ويموج بالحركة مولداً من الطاقات الجديدة ما لم تعرفه البشرية من قبل. فتحت تأثير هذا التصور يتوقع لهذا الموضوع العلمي أن يصبح وسيلة للإرادة الإلهية وأداة دفع إلى الأمام وأن ينجز باسم الله ما لم يحلم بإنجازه من قبل.

ومن هنا كان من أهداف خطة العمل أن نضع كل عمل ينجز وفقا للخطوات السابقة تحت تصرف كل باحث جامعي مسلم دون مقابل مادي. إن كل مقالة أو بحث أو نشرة أو كتاب المنتخبات يقدم إلى مثل هذا الباحث فإنما هو بمثابة دعوة شخصية تدعوه إلى الانضمام إلى هذا العمل وإلى أن يصبح "منتجا" لأعمال أفضل نتيجة لتمكنه من المؤلفات المتاحة. وبالمثل، فإن وضع تلك المؤلفات بين أيدي المفكرين المسلمين لهو أعظم مكافأة يمكن الحصول عليها في هذه الدنيا. إن هذا لا يعني استبعاد المكافأة المادية للمؤلف، وإنما نعني أن العالم الملتزم بالتصور الإسلامي، والذي ابتغى بعمله وجه الله تعالى، لا يرى أن ثمة مكافأة أعظم من أن يتمكن من غرس هذا التصور في عقل إنسان آخر وقلبه، ولا يرى واجباً أكبر من أن يربي على هذا التصور وعي المسلمين في العالم. وأمر أخير ، إن إنتاج هذه الخطة يجب أن يتم إهداؤه رسمياً إلى جامعات العالم الإسلامي ومعاهده مع حثها أن تنظر في إمكانية تبنيها كقراءات تتطلبها المقررات المناسبة في منهج الدراسة. ومن الطبيعي أن تترجم، ولابد، إلى لغة التدريس في مختلف أقطار العالم الإسلامي.

================

#الأمة الإسلامية من جديد وليس الشرق الأوسط الجديد

تأليف

الدكتور : أحمد بن سعد بن غرم الغامدي

بسم الله الرحمن الرحيم

هدايات ربانية

الهداية الأولى :

قول الله تعالى : ( وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الأرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ ) (النور : 55 ) .

الهداية الثانية :

قول الله تعالى : ( وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ ) (القصص : 5 ) .

الهداية الثالثة :

قوله تعالى : ( فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الأمْرُ مِن قَبْلُ وَمِن بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ ) (الروم : 4 ) .

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين ، محمد وعلى آله وصحبه أجمعين . أما بعد :

فهذه رسالة بعنوان : ( الأمة الإسلامية من جديد لا الشرق الأوسط الجديد ) . اجتهدت في كتابتها لأسباب سامية من أبرزها الآتي :

1. رجاء أن تكون موعظة للمغرر بهم الذين لم يتجاوزوا بأنفسهم ما رسمته لهم دول الاحتلال الغربي بعد سقوط الدولة العثمانية .

2. رجاء أن تكون نذارة للغافلين الذين لم يشعروا بعظم الخطر القادم من دول الاحتلال الجديد المتمثل في أمريكا ومن سار في ركابها والذي كان من أواخره احتلال أفعانستان والعراق والحرب اللبنانية وغيرها تمهيداً لمشروع : ( الشرق الأوسط الجديد ) ، أو غيره ، والذي سيزيد في الفرقة والتشرذم والبعد عن روح الوحدة الإسلامية .

3. رجاء أن تكون رداً للخادعين الذين يفتون في عضد الأمة الإسلامية بالطعن في عوامل الوحدة الإسلامية ومحاربتها .

4. رجاء أن تشحذ همم المبادرين للم شعث أمتنا الإسلامية ، ونظمها في منظومة واحدة قوية تحقيقاً لوعد الله تعالى بخلافة الأرض ووراثتها ، الوعد الذي لا يتغير ولا يتبدل .

5. استجابة لما تمليه العقيدة الإسلامية الصحيحة ، والأخوة الإيمانية الصادقة ، والضرورة الحياتية الملحة ، على الغيورين بالدفاع عن الحقوق الإسلامية ، والتي من أبرزها وحدة الأمة الإسلامية .

هذا و للرسالة أهمية كبرى تبرز عبر الآتي :

1. أنها تسعى أن تقوم بواجب النصيحة الدينية التي أخذت على المسلمين بعامة ، وأهل العلم بخاصة.

2. أنها تساهم في رد الوحدة الإسلامية كما كانت واقعاً في حياة الأمة الإسلامية من قبل اتفاقية سايكس بيكو الإحتلالية .

3. أنها تسهم في التأكيد بأن الوحدة الإسلامية حل ناجع لغالب ما يعيشه المسلمون في العصر الحاضر ، من تخلف وضعف وهوان وتبعية ، لأنها تشكل القوة التي تضمن بعد الله تعالى الحياة الكريمة .

4. أنها تحاول أن تساعد في التجاوز بالمسلمين إلى السعة بعد الضيق سياسياً واقتصادياً واجتماعياً ، هذا الضيق الذي رسمته الولاءات الغربية ، و الدعوات القومية ، والنعرات الطائفية ، والقوانين العشائرية ، والتحكمات الأسرية .

وأما محاور الرسالة فهي كالآتي :

المحور الأول : مدخل في التعريف بواقع الأمة الإسلامية .

المحور الثاني : التعريف بالأمة الإسلامية .

المحور الثالث : مقومات الأمة الإسلامية ، وفيه :

أولاً : العقيدة الإسلامية الصحيحة التي تطمئن الشعوب إليها .

ثانياً : الأرض التي يملكها الشعب ويدافع عنها .

ثالثاً : الإنسان الذي تتألف منه الأمة .

رابعاً : العزة والحمية الإيمانية القوية .

خامساً : النظام السياسي الذي يمثل الأمة .

المحور الرابع : سمات الأمة الإسلامية ، وفيه :

أولاً : إفراد الله تعالى وحده دون سواه بالطاعة .

ثانياً : إفراد القدوة في النبي محمد صلى الله وسلم وحده دون سواه .

ثالثاً : القيام بالعدل والإحسان

رابعاً :الحرص على التعاون على البر والتقوى .

خامساً : عدم التشبه بالكافرين .

المحور الخامس : واجبنا تجاه الأمة الإسلامية ، وفيه :

أولاً : الدفاع عن عقيدة الأمة الإسلامية .

ثانياً : الدفاع عن وجود الأمة الإسلامية .

ثالثاً : الدفاع عن بلاد الأمة الإسلامية .

رابعاً : الدفاع عن ثروات و مقدرات الأمة الإسلامية .

خامساً: الدفاع عن وحدة الأمة الإسلامية .

سادساً : الدفاع عن حق الأمة الإسلامية في اختيار من يحكمها .

ولا ريب أن هذا الموضوع العظيم لا يكفي في بعثه رسالة مختصرة كهذه ، لكني آمل أن تفتح الباب وغيرها الآن أمام دراسات صادقة جريئة تعيد الحق الغائب والمسلوب إلى نصابه .

وفق الله الجميع للقيام بواجب الدفاع عن الأمة الإسلامية ، عبادة لرب العالمين ، وحمية للدين ، ونصرة للمظلومين .

الباحث

الدكتور . أحمد بن سعد بن غرم الغامدي

المحور الأول : مدخل في التعريف بواقع الأمة الإسلامية :

من نافلة القول أن الأمة الإسلامية تعرضت لنكبات عدة قسمت أرضها وفرقت بين شعوبها وأحيت النعرات العرقية والطائفية بينها ، وما تعيشه الأمة الإسلامية الآن هو مرحلة من مراحل ذلك التقسيم ، وحيث إن هذه المرحلة استنفدت أغراضها عند المحتل وأدت الدور في كبح جماح المد الشيوعي الذي كان يهدد المعسكر الغربي والأمريكي تمثلت في معاهدة لوزان واتفاقية سايكس بيكو وغيرها ، كان من الطبيعي عند العدو النهم الجشع أن يبادر بمشروع يقتل ما بقي من عوامل الوحدة الإسلامية ، وكان هذا المشروع الإحتلالي الجديد هو ما يسمى بـ" الشرق الأوسط الجديد " ، ولأهمية هذا المشروع جعل الخبراء والمراقبون والمحللون السياسيون والدبلوماسيون يحرصون بقوة على معرفة خارطته الجديدة والاهتمام بتفاصيله الجغرافية والسياسية ، ويجدر بنا هنا الحديث بإلمامة عن أهم عناصر التقسيمات قديماً وحديثاً :

أولاً : التقسيمات قديماً :

هناك مؤامرة قديمة تعود إلى مئات السنين للوراء ، وكانت في الماضي القديم كما هي اليوم تستهدف إيقاظ النعرة المذهبية والطائفية والعرقية في الحاضر الإسلامي بهدف تمزيقه رغم أنه ممزق ، وبهدف تركيعه ، وشطب بعض دُوَلِهِ عن خارطة الوجود أو تقسيمها أو فرض دول جديدة مصطنعة ، ثم رسم خارطة جديدة بعد كل هذه المتغيرات تجسد من ضمن ما تجسد الشرق الأوسط الجديد الذي تسعى أمريكا اليوم إلى صناعته بما يتفق مع المصلحة (الأمريكية - الإسرائيلية) فقط !! نعم هكذا كانت أهداف هذه المؤامرة في الماضي القديم وهكذا هي أهدافها اليوم ، وهي نفس الأهداف لم تتغير سوى أن فاشية (بوش- رايس) تحاول أن تتحدث عنها اليوم بمصطلحات العصر الحاضر وتعابيره السياسية والإعلامية مع الاحتفاظ بنفس المعنى بالضبط .

وفي وثيقة محفوظة في دار الوثائق القومية في باريس ، هي عبارة عن رسالة كان قد أرسلها لويس التاسع ملك فرنسا عندما أُسر في دار ابن لقمان بالمنصورة في مصر خلال فترة الحروب الصليبية حيث يقول في هذه الرسالة الآتي :" إنه لا يمكن الانتصار على المسلمين من خلال حرب ، وإنما يمكن الانتصار عليهم بواسطة السياسة بإتباع الآتي :

أ- إشاعة الفرقة بين قادة المسلمين ، وإذا حدثت فليعمل على توسيع شقتها ما أمكن حتى يكون هذا الخلاف عاملا في إضعاف المسلمين .

ب- عدم تمكين البلاد الإسلامية والعربية أن يقوم فيها حكم صالح .

ج- إفساد أنظمة الحكم في البلاد الإسلامية بالرشوة والفساد والنساء ، حتى تنفصل القاعدة عن القمة .

د- الحيلولة دون قيام جيش مؤمن بحق وطنه عليه يضحي في سبيل مبادئه .

هـ - العمل على الحيلولة دون قيام وحدة عربية في المنطقة .

و- العمل على قيام دولة غربية في المنطقة العربية تمتد ما بين غزة جنوباً أنطاكية شمالاً ، ثم تتجه شرقاً ، وتمتد حتى تصل إلى الغرب."

وعند التأمل في هذه الوثيقة نجد أن فكرة المشروع الصهيوني لم تكن فكرة صهيونية فقط بل هي فكرة غربية كذلك ، وهي ليست فكرة جديدة تعود إلى مؤتمر بازل الذي عقد عام 1897م بل هي فكرة قديمة تعود إلى فترة الحروب الصليبية الأولى ، فها هو لويس التاسع ملك فرنسا يدعو صراحة في هذه الوثيقة إلى إقامة دولة غربية على أرض فلسطين التاريخية ، بحيث تكون هذه الدولة مشروعاً استيطانياً قابلاً للامتداد في العمق الإسلامي والعربي شرقاً ونحو أنطاكية شمالاً ، أي الحرص على الهيمنة على لبنان على الأقل وصولا إلى أنطاكية ، وما يجري على أرض الواقع اليوم هو صدى عملي لتلك الوثيقة ، بل إن الأبجديات الأساس لمشروع الشرق الأوسط الجديد نجدها في هذه الوثيقة ، إذ أن هذه الوثيقة كما هو واضح لكل من يتأملها تدعو إلى إحياء النعرات المذهبية والطائفية والعرقية في العمق الإسلامي والعربي ، وتدعو للإبقاء على أنظمة حكم تبعية فاسدة ، وتدعو إلى تجريد الحاضر الإسلامي والعربي من ثقافة المقاومة ، وتدعو إلى مواصلة شرذمة الحاضر الإسلامي والعربي إلى دويلات ، وإن كل هذه المطالب التي تدعو إليها هذه الوثيقة هي ذات المطالبة العلنية أو المدفونة بين السطور التي يدعو إليها مشروع الشرق الأوسط الجديد ، مع بض التعديلات إضافة أو حذفاً ،

ولم أقل أن مشروع (الشرق الأوسط الجديد) ليس جديداً استناداً إلى هذه الوثيقة فقط بل هناك عشرات الوثائق الأخرى التي جاءت بعد هذه الوثيقة وسأذكِّرُ بأهمها ، ومن أهمها ما نجده من أفكار متناثرة لمشاريع عمل يدعو إلى تنفيذها لورانس ملك العرب في كتابه المعروف (أعمدة الحكمة السبعة) ، فهو الذي عمل على إسقاط (مبدأ الخلافة) لتمزيق الحاضر الإسلامي إلى شذر مذر ، وهو الذي عمل على فرض شرخ عميق بين الحاضر العربي وتركيا ، وهو الذي هيأ الأرضية لمشروع ( سايكس-بيكو) فيما بعد ، وهذا ما كان حيث تمّ تقسيم الحاضر الإسلامي والعربي وفق مصالح (بريطانيا- فرنسا) ، وهو الذي هيأ الأرضية من خلال كل ذلك لإنجاح المشروع الصهيوني فيما بعد على أرض فلسطين التاريخية ، لذلك فإن لورانس ملك العرب كان ممن مارسوا عملياً فرض شرق أوسط جديد فيما مضى ، ولعله لا يختلف عن مشروع (بوش- رايس) إلا ببعض الفروع وإلاّ فالجوهر واحد والمستهدف واحد ، ولكن في هذه المرة ليس لصالح (بريطانيا- فرنسا) بل لصالح المؤسسة (الأمريكية- الإسرائيلية) ، وبذلك قدم لورانس النموذج العملي لمن بعده ، ومن أهم هذه الوثائق فيما بعد وثيقة " مؤتمر لوزان " وما حملت من شروط فرضتها بريطانيا يومها على تركيا ، حيث اشترطت بريطانيا على تركيا بواسطة هذه الوثيقة أنها لن تنسحب من الأراضي التركية إلاّ بعد تنفيذ الشروط الآتية :

أ- إلغاء الخلافة الإسلامية ، وطرد الخليفة من تركيا ومصادرة أمواله .

ب- أن تتعهد تركيا بإخماد كل حركة يقوم بها أنصار الخلافة .

ج- أن تقطع تركيا صلتها بالإسلام .

د- أن تختار لها دستوراً مدنياً بدلاً من دستورها المستمد من أحكام الإسلام ، فكان أن نفذ كمال أتاتورك الشروط السابقة فانسحبت الدول المحتلة من تركيا ، ولما وقف كرزون وزير خارجية بريطانيا في مجلس العموم البريطاني يستعرض ما جرى مع تركيا ، احتج عليه بعض النواب البريطانيين بعنف واستغربوا كيف اعترفت بريطانيا باستقلال تركيا ، التي يمكن أن تجمع حولها الدول الإسلامية مرة أخرى وتهجم على الغرب ، فأجاب كرزون : " لقد قضينا على تركيا ، التي لن تقوم لها قائمة بعد اليوم ... لأننا قضينا على قوتها المتمثلة في أمرين : الإسلام والخلافة" ، ولو تأملنا هذه الوثيقة وممارسات كرزون لوجدنا فيها خطوات سابقة ومتقدمة سعت إلى فرض شرق أوسط جديد كجزء من خارطة عالم إسلامي وعربي جديدة تقوم على أساس تفكيك عناصر القوة في العمق الإسلامي والعربي ، والتي كان فيها كرزون على قناعة أنه لن يتم تفكيكها إلا بإلغاء مبدأ الخلافة ، لأن إلغاء مبدأ الخلافة يعني إلغاء مبدأ القدرة على بناء وحدة إسلامية تجسد معسكراً مقاوِماً للطمع الإحتلالي الغربي في العمق الإسلامي ، ومن أهم هذه الوثائق فيما بعد ما نجده من تقييم لحاضر ومستقبل العالم الإسلامي والعربي وما نجده من مشاريع مقترحة قرينة لهذا التقسيم في كتاب : (الإسلام قوة الغد) للرحالة الألماني (بول أشميد) حيث يقول (أشميد) في هذا الكتاب : (إن مقومات القوة في الشرق الإسلامي تنحصر في عوامل ثلاثة :

أ- في قوة الإسلام كدين وفي الإعتقاد به ، وفي مُثُله ، وفي مؤاخاته بين مختلفي الجنس واللون والثقافة .

ب- في وفرة مصادر الثروة الطبيعية في رقعة الشرق الإسلامي ، وتمثيل هذه المصادر العديدة لوجهة اقتصادية سليمة قوية ، ولاكتفاء ذاتي ، لا يدع المسلمين في حاجة مطلقاً إلى أوروبا أو إلى غيرها إذا ما تقاربوا وتعاونوا .

ت- خصوبة النسل البشري لدى المسلمين ، مما جعل قوتهم العددية قوة متزايدة ، ثم يقول (أشميد) : ( فإذا اجتمعت هذه القوى الثلاث ، فتآخى المسلمون على وحدة العقيدة ، وتوحيد الله ، وغطت ثروتهم الطبيعية حاجة تزيد عددهم ، كان الخطر الإسلامي خطراً منذراً بفناء أوروبا وبسيادة عالمية في منطقة هي مركز العالم كله) ، ثم يقترح (أشميد) أن يتضامن الغرب شعوباً وحكومات ويعيدوا الحروب الصليبية في صورة أخرى ملائمة للعصر !! ولكن بأسلوب نافذ حاسم !! ولو تأملنا كتاب (أشميد) جيداً لاكتشفنا بسهولة أنه يتحدث عن (صدام الحضارات) دون أن يستخدم هذا المصطلح، ويتحدث عن ضرورة تفكيك عناصر القوة في العالم الإسلامي ، ويتحدث عن ضرورة غزو عسكري غربي في عقر دار العمق الإسلامي قبل أن يتحول هذا الحاضر الإسلامي إلى مارد يهدد أوروبا بالفناء !! وهي تحليلات سبق بها مدرسة (صدام الحضارات) في أمريكا !! وهي دعوة لصناعة شرق أوسط جديد تضمن فيه أوروبا دوام العجز الإسلامي !! وهي دعوة لأوروبا كي تتحد وكي تعود إلى حملاتها الصليبية تحت مسميات جديدة ، وبذلك يكون (أشميد) أذكى من (بوش الإبن) الذي أعلنها حرباً صليبية غربية على المكشوف ، عندما بدأ يستعد لغزو أفغانستان ، ثم غزو العراق ، ثم الانتشار في العمق الإسلامي !! ولذلك فإن الدور العدائي الذي تقوم به أمريكا ضد الحاضر الإسلامي على صعيد مفكريها وسياسييها ليس جديداً بكل ما قدم من أفكار مثل فكر (صدام الحضارات) ومن مشاريع مثل مشروع (الشرق الأوسط الجديد) ، بل أن هذا الدور العدائي الأمريكي فكراً ونهجاً هو استمرار للدور الغربي السابق شبراً بشبر وذراعاً بذراع سوى بعض المتغيرات التي تقتضيها قبل كل شيء المصلحة الأمريكية الإسرائيلية.

ومن الضروري أن نعلم أن روح هذه الوثائق ومعانيها وما تحمل من أفكار ومشاريع قد واصل العالم الغربي الحديث عنها شفاهة أو كتابة ، وواصل تحديد علاقته مع العالم الإسلامي على ضوئها حتى اليوم ، وعلى سبيل المثال فها هي مجلة روز اليوسف تنقل في عددها الصادر بتاريخ 29/6/1963 لأحد المسؤولين في وزارة الخارجية الفرنسية ما قاله عام 1952م وقد جاء فيه ما يلي :" ليست الشيوعية خطراً على أوروبا فيما يبدو لي ، إن الخطر الحقيقي الذي يهددنا تهديداً مباشراً وعنيفاً هو الخطر الإسلامي ، فالمسلمون عالم مستقل كل الاستقلال عن عالمنا الغربي ، فهم يملكون تراثهم الروحي الخاص بهم ، ويتمتعون بحضارة تاريخية ذات أصالة ، فهم جديرون أن يقيموا قواعد عالم جديد ، دون حاجة إلى إذابة شخصيتهم الحضارية والروحية في الحضارة الغربية ، فإذا تهيأت لهم أسباب الإنتاج الصناعي في النطاق الواسع ، انطلقوا في العالم يحملون تراثهم الحضاري الثمين ، وانتشروا في الأرض يزيلون منها قواعد الحضارة الغربية ، ويقذفون برسالتنا إلى متاحف التاريخ ، وقد حاولنا نحن الفرنسيين خلال حكمنا الطويل للجزائر أن نتغلب على شخصية الشعوب المسلمة ، فكان الإخفاق الكامل نتيجة مجهوداتنا الكبيرة الضخمة ، إن العالم الإسلامي عملاق مقيد ، عملاق لم يكتشف نفسه حتى الآن اكتشافاً تاماً ، فهو حائر وهو قلق ، وهو كاره لانحطاطه وتخلفه ، وراغب رغبة يخالطها الكسل والفوضى في مستقبل أحسن وحرية أوفر .. فلنعط هذا العالم الإسلامي ما يشاء ، ولنقو في نفسه الرغبة في عدم الإنتاج الصناعي والفني حتى لا ينهض ، فإذا عجزنا عن تحقيق هذا الهدف ، بإبقاء المسلم متخلفاً ، وتحرر العملاق من قيود جهله وعقدة الشعور بعجزه ، فقد بؤنا بإخفاق خطير ، وأصبح خطر العالم العربي وما وراءه من الطاقات الإسلامية الضخمة خطراً داهماً ينتهي به الغرب ، وتنتهي معه وظيفته الحضارية كقائد للعالم " . ولو تأملنا أقوال هذا المسؤول الفرنسي لوجدنا أنها تحمل روح أفكار (أشميد) الألماني وتدعو في سطرها الأخير إلى ( صدام حضارات) اضطراري وفق رؤية هذا المفهوم الفرنسي ، لأنه وفق رؤيته لا يمكن التعايش بين الحضارة الإسلامية العربية وبين الحضارة الغربية , وحتى تحافظ الحضارة الغربية على بقائها وتفوقها يجب عليها أن تمنع انبعاث جديد للحضارة الإسلامية !! هكذا يفكر هذا المسؤول الفرنسي وإذا افترضنا أنه يعبر عن فكر المؤسسة الفرنسية الرسمية فعندها سنفهم لماذا تبنت فرنسا إقامة المشروع الذري الإسرائيلي في ديمونا والذي عُرف باسم (خيار شمشوم) !! ولماذا منعت فرنسا الحجاب الإسلامي في أراضيها !! ولماذا كانت فرنسا اللاعب الأساس في صياغة قرار مجلس الأمن الأخير رقم (1701) الذي يطمعون من ورائه القضاء على ثقافة المقاومة في العمق الإسلامي !!

، وها هو أيوجين روستو رئيس قسم التخطيط في وزارة الخارجية الأمريكية ومساعد وزير الخارجية الأمريكية ومستشار الرئيس جونسون لشؤون الشرق الأوسط حتى عام 1967م يقول :" إن الظروف التاريخية تؤكد أن أمريكا إنما هي جزء مكمل للعالم الغربي ، فلسفته، وعقيدته، ونظامه وذلك يجعلها تقف معادية للعالم الشرقي الإسلامي ، بفلسفته وعقيدته المتمثلة بالدين الإسلامي ، ولا تستطيع أمريكا إلا أن تقف هذا الموقف في الصف المعادي للإسلام ، والى جانب العالم الغربي والدولة الصهيونية ، لأنها إن فعلت عكس ذلك فإنها تتنكر للغتها وفلسفتها وثقافتها ومؤسساتها " ، فهذا روستو لا يخفي ما يريد !! إنه يريد تدمير الحضارة الإسلامية ، وتبني دولة إسرائيل ، والسير خلف خُطى العالم الغربي المحاربة للإسلام !!(1)

ب ) التقسيمات حديثاً :

ـ مشروع الشرق الأوسط الجديد :

أن صاحب امتياز هذا الاسم " الشرق الأوسط الجديد " هو شيمون بيريز، المسئول الإسرائيلي وقطب حزب العمل الشهير والذي طرحه عبر كتابه الذي حمل اسم "الشرق الأوسط الجديد" - صدر عن دار نشر(إيليمنت) البريطانية عام ،1994 وأصدرت دار الجيل بعمان الأردن ترجمة عربية له في ذات العام، وفيه طرح بيريز مفهوماً لهذا الشرق الأوسط الذي بدأ أنه علي وشك ولوج حقبة جديدة، في أعقاب إنجاز التسوية الأمريكية للملف الفلسطيني - الإسرائيلي، المتمثلة في اتفاق أوسلو الموقع بين الرئيس الفلسطيني الراحل ياسر عرفات، ورئيس الوزراء الإسرائيلي المغتال، اسحق رابين عام ،1993 ومن هنا جاء مشروع " الشرق الأوسط الجديد " متكيفاً مع هذه الظروف المستجدة ، دون أن يتخلي بأي صورة من الصور عن مستهدفاته الإستراتيجية الثابتة، مستهدفات المشروع الصهيوني الإمبريالي الأصلي ، لكنها هذه المرة مع التحوير الضروري والملائم، الذي عبر عنه اسحق رابين رئيس الوزراء الصهيوني المقتول، قبل اغتياله، بقوله ساخراً من فجاجة معارضيه من حزب الليكود وضيق منظورهم! : ( إن هؤلاء يقيسون قوة إسرائيل بمساحة ما تستولي عليه من أراض، أما نحن فنقيس قوة إسرائيل بمقدار ما تسيطر عليه من أسواق ) . وكان أحد الأهداف المهمة لهذا الطرح، هو استبدال الهوية الإسلامية التاريخية والثقافية للمنطقة، بأخري مصطنعة، مشوشة، مائعة، هي الهوية الشرق أوسطية التي تعني إذابة العرب في كيان هلامي غير واضح المعالم ، أوضح ما فيه هو خضوعه للهيمنة الإسرائيلية المباشرة والكاملة، وقد تطور هذا الطرح في أعقاب 11 سبتمبر، وما تلاه من تداعيات أبرزها احتلال العراق وتدمير بنيته المؤسسية، وتحول دولة المنطقة وبالذات الخليجية إلي مستعمرات وقواعد عسكرية ومراكز استخباراتية وإدارية لآلة الحرب الأمريكية ، التي رأت أنه من الصالح لها التدخل المباشر لفرض السيطرة علي منابع النفط العربي ، من غير وسيط !. وتقدم مشروع الهيمنة الأمريكي في هذا السياق بتطوير أمريكي لمشروع "الشرق الأوسط الجديد" وطرحه في صور مستحدثة باسم " الشرق الأوسط الكبير" ، روج لها الرئيس بوش وأركان حربه، وعلى رأسهم وزيرة الخارجية كونداليزا رايس ، ونائب الرئيس ديك تشيني، ووزير الدفاع دونالد رامسفيلد، وغيرهم من أركان الإدارة الأمريكية، وفحوى مشروع الشرق الأوسط الكبير، كما قدمه الخبراء الأمريكيون يتبلور في عملية مزدوجة، لتفكيك وإعادة تركيب دول المنطقة بإجراء تقسيمات وتخطيطات جديدة تعيد رسم خرائطها على النحو الذي يضمن المصالح العليا الأمريكية، وأساسهاً البترول، وإسرائيل باستخدام القوة والتدخل المباشر، في مسار مشابه لما جرى عام ،1916 حينما تم تقاسم تركة " الرجل العثماني المريض " بين الإمبراطوريات الغربية المهيمنة آنذاك، وبالذات الإمبراطوريتان البريطانية والفرنسية... (2)

ج ) تقسيمات " مشروع الشرق الأوسط الجديد " :

توضح الخارطتان المرفقتان بالتقرير طبيعة التغيير المقترح ، وهاتان الخارطتان ليستا سوى خارطتين من جملة خرائط أخرى متداولة في أوساط البنتاغون ولكنها جميعاً تقوم على المبدأ نفسه ، التقسيم والتمزيق .

فقد نشرت مجلة "القوات المسلحة الأمريكية" في عددها الأخير، والذي يرسم مستقبلاً للمنطقة يقوم على "إعادة هيكلة الشرق الأوسط" -وكان هذا هو عنوان التقرير- بحيث يجرى تقسيم العراق وسوريا والسعودية، إلى دويلات طائفية متنازعة، فيما يتم توسيع المملكة الأردنية الهاشمية، على حساب العراق والسعودية، وتحافظ "اسرائيل" على سيطرتها على جميع الأراضي العربية والفلسطينية المحتلة، ليكون "السلام" قائما على أساس قوة الردع "الاسرائيلية" من ناحية، وتمزق وتنازع دول المنطقة فيما بينها وفى داخلها من ناحية أخرى.

وبالنظر إلى خارطة المنطقة الحالية وخارطة المشروع الجديد يتبين الفرق وعظم الخطر ، فالخارطة الأولى التي الخارطة الحالية التي رسمتها اتفاقية سايكس بيكو و هي كالآتيالآتي:

والتقرير أعده الخبير (رالف بيتر) الكولونيل المتقاعد من الجيش الأمريكي، الذي سبق له أن عمل في سلاح المدرعات وشعبة الاستخبارات العسكرية، وهو ما يزال على صلة وثيقة بمراكز الأبحاث التي يشرف عليها البنتاغون.

والرجل يملك دراية واسعة بتاريخ المنطقة وهو ملم إلى حد كبير بالرؤية الاستراتيجية التي يعبر عنها المحافظون الجدد، ناهيك عن معرفته عن قرب بالعوائق والصعوبات التي يمكن أن تعترض المشروع الأمريكي وتحول دون ترجمته على أرض الواقع.

وكان هذا الخبير العسكري عبر عن مخاوفه بهذا الصدد على مضض في حواره مع جيمي جلازوف رئيس تحرير المجلة الصهيونية الشهيرة Front page بتاريخ 2 أغسطس-آب الجاري بالقول : (أن هذه الحرب أول حرب تخسرها إسرائيل إعلامياً وعسكرياً ). ويتابع : ( إنه لا خيار لإسرائيل سوى تعديل الكفة... ودفع قواتها البرية بأقصى ما تملك للقضاء على حزب الله كلياً. فالمعركة مصيرية وهى مسألة حياة أو موت للكثير من الرهانات في المنطقة ).

فحكومة بوش عملت ما في وسعها لتمنح "إسرائيل" الوقت الكافي لإكمال المهمة وتحقيق الأهداف لكن صلابة المقاومة اللبنانية أثبتت أن حكومة أولمرت تعد الأضعف في تاريخ "إسرائيل" عسكريا. وبيت القصيد في هذا الحوار، كما في كتابهNever Quit the Fight - لا تتخلى عن القتال مطلقا - أن تستمر الحرب على نحو لا يجب إيقافها أبدا كما يبدو من عنوان الكتاب الذي اختاره.

وكان (رالف بيتر) استعار جوانب مهمة من هذا الكتاب في إعداد التقرير الذي قدمته مجلة " القوات المسلحة الأمريكية".

ولكي نقدم أبرز ما جرى في التقرير، تجدر الإشارة إلى أنه لا يتحدث أبداً عن "مشروع الشرق الأوسط الكبير" بل عن "مشروع الشرق الأوسط الجديد"، وذلك عطفاً على تصريح وزيرة الخارجية الأمريكية كوندوليزا رايس أثناء تعليقها على ما جرى في مجزرة قانا الرهيبة، والذي قالت فيه : ( أن ذلك هو بمثابة الألم الذي لا بد منه للولادة العسيرة لمشروع الشرق الأوسط الجديد ) !.

وكان من الواضح أنها اختارت تعبيراً كان يخضع في الأصل لمداولات وخطط وخرائط داخل المؤسستين العسكرية والسياسية حول شكل البيئة الإقليمية المناسبة لكي تعيش "إسرائيل بأمن وسلام"!.

ـ أهمية " مشروع الشرق الأوسط الجديد " استراتيجياً :

يكشف التقرير أن اهتمام الولايات المتحدة الأمريكية بهذه المنطقة عمّا عداها، لا يعدم تبريراً وأهميته للآتي :

أولاً : لأن المنطقة تقع على خطوط الممرات الجوية والبرية والبحرية ذات الأهمية الكبرى لمصالح الولايات المتحدة الأمريكية، علاوة على أنها شريان الطاقة العالمي بامتياز طوال خمسين سنة المقبلة.

ثانيا : إن هذه المنطقة تحفل بتهديدات شتى ، سواء تلك التي بدرت رفض شعوب المنطقة للمشروع الأمريكي أم تلك التي ستظهر مع تعاظم دول الشرق الأقصى -الصين، والهند...- العملاقان المقبلان .

ثالثاً : إن تكسير الجدار العربي مقدمة لتكسير أكثر الهويات التاريخية تجذراً وممانعة في تاريخ هذه المنطقة، تمهيداً لتكسير هويات قومية وثقافية أخرى للاستفراد بالعالم وإحلال هيمنة الثقافة الواحدة والنظام السياسي الواحد وتسييج العولمة بثوب ومقاس الإمبراطورية الجديدة.

الوجه الأول : ملامح خارطة "الشرق الأوسط" حالياً :

ويبدو أن نشر التقرير كان يعنى فيما يعنيه أن الحرب العدوانية "الإسرائيلية" على لبنان ليست سوى محطة من محطات أخرى للحرب المعلنة والخفية على الشعوب العربية والإسلامية في المنطقة بعامة والدول والتنظيمات الممانعة بخاصة.

ويقترح التقرير، أن يتم تقويض أركان دول وإعادة رسم جديدة لكيانات دول جديدة وابتعاث دول أخرى ، إذ تمثل الخريطة الجديدة المعروضة " للشرق الأوسط الجديد" إعادة رسم جذرية لكيانات الدول الوطنية التي خرجت من معطف الاستعمار الإنجليزي والفرنسي، وستتغير ملامح دول لتندمج بعض مناطقها في دول أخرى من ناحية، كما ينذر المشروع باقتطاع أجزاء من دول وطنية من ناحية أخرى، ناهيك أن حدود الخريطة الجديدة واضحة وتختلف عن الخريطة القديمة في مجملها، إذ إن الخريطة المقترحة تتضمن تعديلاً وتقسيماً يمس الدول التالية: سوريا، إيران، العراق، السعودية، باكستان، الإمارات العربية المتحدة، تركيا. وما يتم اقتطاعه يتم إلحاقه بالدول التالية: الأردن، اليمن وأفغانستان، كما يلوح المشروع بـ" دولة كردستان الجديدة " ، وبداية، يعلن التقرير ضرورة إعادة رسم حدود وكيان الدول التالية على المدى القصير والمتوسط، بحيث تأتى العراق والسعودية وإيران على قائمة الدول المعرضة للبلقنة والتقسيم على أساس طائفي ومذهبي ، وما جرى في العراق أثبت أن "الديموقراطية" التي بشر بها المسؤولون الأمريكيون في مشروعهم الأول، لم تؤد إلى كسب رهان السيطرة على العراق كلياً ، بيد أن العراق يكتوي حالياً بمؤامرة الحرب الأهلية وسياسات فرق تسد ما استطاعوا إلى ذلك سبيلا ، بطبيعة الحال، تعرض الخريطة الجديدة ميلاد " دولة كردستان الكبرى" تضم شمال العراق -كركوك النفطية- ومحافظات الموصل وخانقين وديالى والمناطق الكردية التي يتم اقتطاعها من تركيا وسوريا وإيران وأرمينيا وأذربيجان. ويتم هذا بدعوى "رد حقوق الأقليات التي هضمت تاريخياً". وبطبيعة الحال، بهدف كسبها لصالح الدفاع عن المشروع الأمريكي- "الإسرائيلي" في المنطقة ، ويعرض التقرير حدود هذه الدولة التي تمتد من ديار بكر التركية إلى تبريز في إيران. ومؤدى هذا المشروع أن ترك الأنظمة العربية كما هو عليه حالها اليوم، لن يمنع عن الولايات المتحدة من أن تتلقى مصالحها ردود فعل شعبية عنيفة في المنطقة، ستكتوي بنارها طال أم قصر الزمن. وبالتالي أصبح الرهان على الديموقراطية مجرد وهم نحن غير جديرين بها على ضوء هذا المشروع الجديد، ما دامت تجربة (حماس) وفوزها في الانتخابات بدَّدت حسابات ورهانات الإدارة الأمريكية حول الديموقراطية في "الشرق الأوسط".

ويمكن القول إن ما تسعى إليه إدارة بوش الجديدة هو وضع لبنات تغيير ملامح "الشرق الأوسط" قاطبة، على نحو يأتي مقاسه يناسب حذاء "إسرائيل": الحليف الوحيد الذي يمكن أن تثق به.

ويقوم عنوان هذه الخريطة الجديدة على تقسيم طائفي ومذهبي وعرقي يشمل خريطة "الشرق الأوسط" برمتها. وينتظر أن يشكل تقسيم العراق إلى دويلة للأكراد في الشمال، دويلة للشيعة في الجنوب ودويلة للسنة في الوسط النموذج الذي سيتم تعميمه في كل المنطقة.

ومن خلال هذا التقسيم يمكن أن تلعب الجماعات "الشيعية" الموالية للولايات المتحدة في العراق دور المساندة والدعم لإخوتهم "الشيعة" في محافظة الأحساء - موطن الأقلية الشيعية في السعودية - تمهيداً لإلحاقهم بـ"دولة عربية شيعية" في جنوب العراق تحول دون حلم "جمهورية إيران الإسلامية" أن تصبح " قبلة كل شيعة العالم".

لا يخفى هذا المشروع أن جمع الأقليات "الشيعية" في دولة يكون عمادها الجنوب العراقي وحكامها من "الشيعة" الموالين لواشنطن، تمكننا من فهم دلالات الحرب الدائرة ضد "حزب الله" في لبنان ومحاولة القضاء عليه للتخلص نهائيا من "مشروع شيعي" يدافع عن القضايا القومية العربية ويقف حائلاً أمام إدماج لبنان في "مشروع الشرق الأوسط الجديد".

وتمتد حدود هذه "الدولة الشيعية العربية" إلى الجزء الشرقي من السعودية والأجزاء الغربية من إيران الذي يعرف بالأهواز. ويمكن القول أن هذه "الدولة الشيعية العربية" سيلقى على عاتقها الوقوف في وجه إيران الحالية، فوجود "دولة شيعية" موالية للولايات المتحدة سيكون بمثابة قوة التوازن مع وجود "دولة شيعية" معادية، وستكون الأولى، بما يتوفر لديها من إمكانيات مادية - نفطية بالدرجة الأولى - وبما لديها من "آيات الله" تم ترويضهم لخدمة المصالح "الإسرائيلية"، قادرة على سحب البساط من تحت أقدام النزعة الثورية في إيران.

غير أن ما يتهدد البلدان الأخرى، بخاصة السعودية لا يقتصر على إذكاء نار التفرقة المذهبية والطائفية بين "الشيعة والسنة"، بخاصة في منطقة (الأحساء) التي تقطنها أقليات "شيعية"، فخبايا المشروع تهدف إلى حرمان خزينة المملكة من عوائد النفط التي تزخر بها المنطقة الغنية بالنفط، تمهيداً لتجريد "الدولة السعودية" من أي قوة وأية موارد، و"سيكون ذلك بمثابة العقاب النهائي على قيام سعوديين- وهابيين بتفجيرات 11 سبتمبر 2001"!. فـ"الوهابية" التي تثرى بالنفط اليوم يجب أن تفقر وتنشغل بحروب داخلية بين نجد والحجاز والأحساء لاستعادة أمجاد الماضي - الراهن-.

ويحمل في طياته ظهور "فاتيكان جديد" للعرب في إمارة الحجاز، يوكل الإشراف عليها لأمير هاشمي يعول عليه في إذكاء وإحياء نار الصراع المذهبي الذي حدث سنة 1924، بين آل سعود وآل هاشم حكام الأردن حالياً ، تمهداً لخروج الأماكن المقدسة من سيطرة " الدولة السعودية"، بحيث يتم إعداد لجنة دينية مكونة من المذاهب الإسلامية يعهد لها مهمة الإشراف على مناسك الحج والشؤون الدينية.

بطبيعة الحال، فأن ما يبرر ظهور هذا "الفاتيكان" الجديد في إمارة الحجاز، يجد سنداً في المزاعم التاريخية الآتية :

فالإمارة وقعت بالفعل تحت إمرة الأشراف، فرع بني هاشم الذين حكموها إلى غاية سنة 1924، موعد سقوطها في يد آل سعود. والهدف هو تحجيم التأثير الوهابي المسؤول في نظر واشنطن عن "التطرف الإسلامي"، كما عن امتداده وتغلغله في باقي البلدان العربية والإسلامية.

ويتعمد أصحاب المشروع تناسى الدور الذي قام به آل سعود من جهود لتوحيد قبائل المملكة في حينه وضمان الأمن في ربوع الحجاز ومنع لانتشار الفوضى القبلية، وما قام به الشيخ محمد بن عبد الوهاب من رد البدع وعدم التمسح بالأضرحة والقبور والدعاء ، ومهما يكن من أمر، فأن هذه الدعوة يتم اتخاذها مطية للتبشير بتقويض دور السعودية الديني ودورها في العالم العربي والإسلامي عبر السيطرة على الأماكن المقدسة، مما يسهل من أمر بعث هذه الإمارة من جديد. وما يتم تقديمه من ذرائع في هذا الباب يستند على ضرورة إحيائها من جديد، بحيث تتم الإشارة التاريخية إلى مؤسس الدولة الهاشمية الحسين بن على وأبنائه - علي، عبد الله، فيصل وزيد -. فابنه علي أكبرهم كان أمير الحجاز قبل سقوط الإمارة في يد سعود الكبير موحد الجزيرة العربية، أما عبد الله فتولى مقاليد الأردن ومن بعده جاء الملك الراحل الحسين . بينما عرف حكم فيصل للعراق فشلا ذريعاً بعد قيام الثورة. وهذا القسم الذي يتم بتره وإلحاقه بالمملكة الأردنية الهاشمية، يمثله الحجاز والقسم المتعلق بشمال وشرق المملكة.

مؤدى هذا التحول إغراق السعودية في بحر القلاقل والتوترات وعزل حكم آل سعود في منطقة نجد، ما يرشح المملكة الهاشمية الأردنية أن تمد من نفوذها وتستعيد ماضيها التليد في الحجاز. لكن الهدف من هذا كله هو ضمان عمق جغرافي وغيره "لإسرائيل" عبر هذه الدولة الحليفة، تحول دون أي مفاجآت قد تأتى من منطقة نجد.

ويعتبر التقرير أن المملكة العربية السعودية ليست سوى كيان مصطنع لا يملك شرعية تاريخية ولا مقومات البقاء، بالقياس إلى أن تاريخ نشأة المملكة حديث مقارنة مع تاريخ الدول والممالك.

لذلك تراه يعول بالأساس إلى ركوب موجة التذمر والغضب المستشرية بين الناقمين على آل سعود، بخاصة في منطقة (الأحساء وعسير والحجاز)، فهذه المناطق تعتبر مفتاحاً لإثارة المزيد من التوترات وإشعال فتيل الفتنة الطائفية والمذهبية، بغاية تفجيرها في الوقت المناسب لإعادة صياغة خريطة المملكة.

وما يقدمه التقرير من تعليل لإسناد مشروع التقسيم على أساس طائفي ومذهبي وعرقي يستند في عموميته إلى ما يلي :

إن طبيعة منطقة الحجاز أبعد ثقافيا واجتماعيا ومذهبيا من تمثل المذهب الوهابي الذي تم فرضه بحد السيف والإكراه فيها. فأهل الحجاز تبنوا طويلا مذهب الحنفية المعتدل، بحيث لن العودة لإذكاء نار الاحتراب الداخلي على قاعدة مذهبية يعنى محاولة تقليم أظافر الوهابية وإرجاعها إلى موطنها الأصلي في (الدرعية) وربوع نجد بعد تجريد آل سعود وآل الشيخ من الإشراف على الأماكن المقدسة في مكة والمدينة على نحو يضمن ويقلل من شرعية آل سعود القائمة على توحيد البلد سياسياً ومذهبياً ، فالحجاز قلب الإسلام، وأي سيطرة على المدينة ومكة يخول لصاحبها دوراً ومكانة رمزية لا يستهان بها، كما أن هوية الحجاز الإقليمية وطباع أهلها في نظر التقرير يؤهلها للاستقلال عن حكم آل سعود، بحيث تتميز مدن جدة والطائف عن سائر مدن المملكة طباعاً وسلوكاً ومذهباً ، علاوة أنهم اعتماداً على التقارير التي استندوا إليها وتصلهم من عين المكان تقوم على دراسة طباع أهل الحجاز، تثبت بالنسبة لهم أن أهلها يختلفون في كثير من تقاليدهم وعاداتهم عن عادات البدو الصلدة وأهل نجد. فأهلها في نظرهم متسامحون دينياً بفعل إتباعهم مذهب الحنفية الوجه النقيض للوهابية، مما ساعدهم على نبذ التعصب الديني. كما أنهم منفتحون ومن أكثر الناس اختلاطاً ، إذ تزاوجوا مع كثير من الوافدين من خارج الجزيرة.

ويتنبه الخبير (رالف بيتر) إلى أهمية استغلال عامل إضافي قد يذكى النعرات القبلية والمذهبية بشدة، فهو يرى "أن آل سعود أحكموا قبضتهم على موارد البلاد، ما وضع أهل الحجاز في مرتبة دونية"، أي جعلهم مواطنين من الدرجة الثانية يأتي بعدهم "الشيعة" في المرتبة الثالثة. ويطرح الخبير ضرورة بلورة مخطط لفصل الحجاز وانشقاقه بمساعدة عودة الهاشميين إلى الحكم في إمارة الحجاز، فهو يرى أن عودة أمير هاشمي لحكم إمارة الحجاز سيفتح آفاقاً أمام الأسرة الحاكمة في المملكة الأردنية الهاشمية كي تلعب دوراً كبيراً في المنطقة بمساعدة الولايات المتحدة و"إسرائيل"، ومن شأنه إضعاف آل سعود إلى الأبد.

لا يقف هوس العداء إلى أي حد بحيث يتم اتهام السعودية بأنها "تقف وراء الإرهاب"، بخاصة عندما يعتبر "أن انتماء عدد من منفذي أحداث 11 سبتمبر هم من منطقة عسير"، والمقصود من هذه الإشارة التي لا تخلو من مغزى، أن منطقة (عسير) أصبحت في نظرهم خزاناً لتفريغ المتطرفين والإرهابيين، لذلك يجب استغلال هذا الوضع لدفع أهلها لتفجير نقمتهم وغضبهم على آل سعود. ومن ثم التمهيد لانفصال هذه المحافظة عن السعودية وإعادة إلحاقها وإدماجها في اليمن.

أما بخصوص سيناريو الخريطة الجديدة بالنسبة لإيران، فهو يشابه في ضرره ما سيلحق السعودية أو يزيد، بحيث يلحقها الاقتطاعات الآتية :

جزء كردى يلتحق بـ"الدولة الكردية"، و"دولة شيعية عربية"، و"دولة بلوشية"، ودفع "الأقلية الأذربيجانية" للانفصال - حدثت بالفعل توترات كبيرة في هذه المنطقة مؤخرا ، وفي نفس الوقت، يتم اقتطاع جزء من أفغانستان الذي توجد به "أقلية شيعية" كي يتم إلحاقه بإيران الجديدة. كما يرى التقرير ضرورة اقتطاع أجزاء من باكستان وإلحاقها بأفغانستان الجديدة.

وبطبيعة الحال، يتم تبرير هذا التقسيم ومنطق الحدود الذي يتضمنها "مشروع الشرق الأوسط الجديد" استناداً للدعاوى الآتية :

1- لم تعد الحدود الموروثة عن الاستعمار البريطاني والفرنسي تفي بضمان مصالح الإمبراطورية الجديدة وممارستها الوصاية على الممرات البحرية والبرية على نحو كامل، ويتم ترجمة ذلك بلغة دبلوماسية، مفادها "أن الحدود الإقليمية الموروثة غير عادلة وأضرت كثيراً بالعديد من الأقليات والطوائف"...

2- منطق الجغرافيا السياسية الحالية في "الشرق الأوسط" تمت لصالح طوائف ومذاهب بعينها كرست الاستبداد والاستحواذ على السلطة، لذلك يجدر إعادة التوازن برسم "خريطة جديدة تمكن أقليات وطوائف ومذاهب لعب دور التوازن". ومؤدى هذا الأمر إضعاف الدول الوطنية الحالية وتحويل المنطقة إلى أشبه بمقاطعات... دائماً بحاجة إلى الحماية الأمريكية.

3- بدعوى أن العديد من الأقليات والطوائف تتحمل وزر الحدود الحالية، يجب تغيير الحدود السياسية وفق منطق طائفي يجعل في نظرها الحدود الجديدة أكثر ثباتاً وأمن الدول أكثر استقراراً ، ويشير التقرير إلى كثير من الأمثلة مثل ما لحق يوغوسلافيا من تفتيت وما تمخض عنه التقسيم: كوسوفو، صربيا وما جرى أيضاً في القوقاز.

4- الحدود الحالية في "الشرق الأوسط" تخدم أنظمة أقلية تسيطر على الدولة - الأمة وتستفرد بثرواتها على حساب الأقليات القومية والدينية والعرقية، ما يولد رد فعل لدى هذه الأقليات ويدفع العديد من أفرادها لحمل السلاح والتطرف.

وبإيجاز شديد، هكذا، انقلب مشروع "نشر الديموقراطية" على ظهر دبابة إلى مشروع طائفي وعرقي بامتياز، حيث يتم تسويغ مفاهيم حقوق الأقليات والمطالبة بالتوازن ورد الاعتبار للأقليات - الأكراد، البلوش، الشيعة العرب، المسيحيين...- كي يتم صياغة خريطة "الشرق الأوسط الجديد".

وبالعودة إلى ما سبق هذا التقرير من مشاريع سبقته وتحمل نفس المضمون، سنجد دراسة زاشاري لطيف التي تم نشرها سنة 2002، أي قبل الاحتلال الأمريكي للعراق، لتكون دليلا على أن يتم التخطيط له في البنتاغون ينفذ بالفعل في آخر المطاف. فقد اقترحت هذه الدراسة التي طبق "الحاكم المدني بريمر" بعض ما ورد فيها تقسيم العراق طائفيا وإخراج بدائل سياسية عرقية ومذهبية في كل من شمال ووسط وجنوب العراق، وقد شددت نفس الدراسة على ضرورة إعادة تشكيل خريطة العراق وإيران والسعودية وتقسيمها إلى عدة دويلات.

ـ الوجه الثاني لمشروع (رالف بيتر) :

أنه يجمع في محتوياته أيضاً ما كان قد اقترحه "شيمون بيريز" سنة 1992، للإجهاز على ما تبقى من لحمة "جامعة الدول العربية" المعطوبة وضم دولها إلى حظيرة "سوق مشتركة في الشرق الأوسط" تضمن من خلالها "إسرائيل" الاعتراف والتطبيع والريادة. غير أن اندلاع الانتفاضة الفلسطينية وفشل محاولات بيل كلينتون في "الشرق الأوسط" قبر المشروع في ذلك الوقت.

ولكن، يبدو أن الوقت قد حان، للبدء بمحاولات جديدة لمشروع " الشرق الأوسط الجديد " كما صرحت وزيرة الخارجية الأمريكية رايس . (3)

وصدق الله تعالى حيث يقول : (وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللّهُ وَاللّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ) (الأنفال : 30 ) ، ويقول تعالى : ( وَلاَ يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّىَ يَرُدُّوكُمْ عَن دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُواْ وَمَن يَرْتَدِدْ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُوْلَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ) (البقرة : 217 )

إن هذا المكر الغربي الخادع بهذه المشارع التقسيمية الإحتلالية وغيرها مما سيأتي غداً ، هو بحاجة ماسة من كل مؤمن غيور إن يدفعه بقوة بمشروع مضاد له ، يجمع الأمة الإسلامية ويشد من قوتها ، ويستوعب طموحاتها ، وليس ثمة مشروع يحقق الهدف ممثل مشروع الأمة الإسلامية من جديد ، وهذا المشروع الرباني هو ما تبشر به هذه الرسالة .

المحور الثاني : التعريف بالأمة الإسلامية .

أولاً : في اللسان العربي المقصود بالأمة : الجماعة . (4)

ثانياً : أقسام الأمة :

الأمة قسمان :

القسم الأول : أمة الدعوة ، وتشمل الثقلين جميع الإنس والجن ، كما جاء في حديث أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( والذي نفس محمد بيده ، لا يسمع بي أحد من هذه الأمة : يهودي ولا نصراني ، ثم يموت ولم يؤمن بالذي أرسلت به، إلا كان من أصحاب النار) . (5)

والقسم الثاني : أمة الإجابة ، وهي الأمة التي استجابت للدعوة الإسلامية ، ونسبتها إلى الإسلام لتمسكها به ، وكل من أستسلم لله تعالى بالتوحيد وانقاد له بالطاعة وخلص من الشرك دخل في جماعة المسلمين ، قال الله تعالى : ( إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ ) (الأنبياء : 92 ) ، وعن عرفجة ـ رضي الله عنه ـ قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول ( إنه ستكون هنات وهنات ، فمن أراد أن يفرق أمر هذه الأمة وهي جميع فاضربوه بالسيف كائناً من كان ) .(6)

والأمة الإسلامية بهذا الوصف تشمل البر وغيره ، كما قال تعالى : ( ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ وَمِنْهُم مُّقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ ) (فاطر : 32 ) وبهذا أفادت الأخبار النبوية ، فعن أبي سعيد الخدري ـ رضي الله عنه ـ قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( يكون في أمتي فرقتان فيخرج من بينهما مارقة يلي قتلهم أولاهم بالحق ) . (7) ، وهذه الأمة هي أعز الأمم على الله تعالى ، وآخرها بقاء ، وأكثر الأمم دخولاً الجنة ، كما قال تعالى : ( كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْراً لَّهُم مِّنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ ) (آل عمران : 110 ) وعن ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم ( عرضت علي الأمم فأجد النبي يمر معه الأمة ، النبي يمر معه النفر ، والنبي يمر معه العشرة ، والنبي يمر معه الخمسة ، والنبي يمر وحده ، فنظرت فإذا سواد كثير قلت : يا جبريل هؤلاء أمتي ؟ قال لا ولكن انظر إلى الأفق ، فنظرت فإذا سواد كثير ، قال : هؤلاء أمتك ، وهؤلاء سبعون ألفاً قدامهم لا حساب عليهم ولا عذاب ، قلت : ولم ؟ قال : كانوا لا يكتوون ولا يسترقون ولا يتطيرون وعلى ربهم يتوكلون ) . فقام إليه عكاشة بن محصن فقال : ادع الله أن يجعلني منهم قال : ( اللهم اجعله منهم ) . ثم قام إليه رجل آخر قال : ادع الله أن يجعلني منهم قال : ( سبقك بها عكاشة ) . (8) ، وعلى التحقيق فأول هذه الأمة خير من أخرها وفي كل خير كما جاء عن عبدالله ـ رضي الله عنه ـ قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( خير أمتي القرن الذين يلوني ، ثم الذين يلونهم ، ثم الذين يلونهم ) (9) وأما عن بقائها فقد جاء عن معاوية ـ رضي الله عنه ـ قال : سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول : ( من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين ، وإنما أنا قاسم ، والله يعطي ، ولن تزال هذه الأمة قائمة على أمر الله لا يضرهم من خالفهم حتى يأتي أمر الله ) .(10)

والجدير بالذكر هنا أن هذه الأمة يدخل فيها ظاهراً من ليس منها باطناً كالمنافقين الذين يظهرون الإسلام ، وكذا يدخل فيها من أهل البدع طوائف كثيرة ، وهم يقربون ويبتعدون عن الإسلام بحسب قربهم منه وبعدهم عن هدي النبوة النقي ، كما قال تعالى : ( وَإِذَا لَقُواْ الَّذِينَ آمَنُواْ قَالُواْ آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْاْ إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُواْ إِنَّا مَعَكْمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ )(البقرة : 14) وعن أهل البدع جاء عن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( افترقت اليهود على إحدى أو ثنتين وسبعين فرقة ، وتفرقت النصارى على إحدى أو ثنتين وسبعين فرقة ، وتفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة ) .(11)

وفي الجملة لكل طائفة من الطوائف التي تنتسب للإسلام حقها من الولاء والبراء بقدر قربها وبعدها من السنة النبوية ولا ينكر ما معها من الحق ، وتؤمر بالمعروف وتنهى عن المنكر .

المحور الثالث : مقومات الأمة الإسلامية .

لم تقم أمة من الأمم قديماً أو حديثاً إلا بمقومات تتظافر في لم شعثها ووحدة كلمتها ومواقفها ، وهذه المقومات كالآتي :

الأول : العقيدة التي تؤمن بها الشعوب وتقدسها وترتبط بها .

وعلى وجه اليقين التام ليس ثمة عقيدة تصدق بها النفوس ، وتطمئن لها القلوب ، وتزكي الروح والجسد ، وتبني الدنيا والآخرة ، وتجيب عن كل التساؤلات عن الله تعالى ، وما يجب له وما يمتنع عليه ، وعن الحياة والكون وما فيها ، والموقف من ذلك كله ، وعن المصير ، سوى هذه العقيدة الإسلامية الصحيحة التي كان عليها سلف هذه الأمة ، كما قال تعالى على لسان رسوله الكريم محمد صلى الله عليه وسلم : ( قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ دِيناً قِيَماً مِّلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ) (الأنعام : 161 ) ، وكما قال تعالى : ( قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ) (الأنعام : 162 ) ، إن هذه العقيدة هي التي سلمت من التحريف والتغيير والتبديل ، وهي التي تشبع حاجات الروح والجسد معاً ، وهي التي تلبي نداء الفطرة ، كما أكد الشرع الحنيف أن كل إنسان فطر مسلماً ، فعن أبي هريرة رضي الله عنه كان يحدث قال النبي صلى الله عليه وسلم ( ما من مولود إلا يولد على الفطرة ، فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه ، كما تنتج البهيمة بهيمة جمعاء هل تحسون فيها من جدعاء ) . ثم يقول أبو هريرة ـ رضي الله عنه ـ : ( فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ) (الروم : 30 ) ، (12) ، ثم عقب علماؤنا على هذا الحديث العظم ببيان يؤكد هذا المعنى ، فقال النووى ـ رحمه الله تعالى ـ : ( يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه ) يجعلانه يهودياً أو نصرانياً أو مجوسياً حسب ملتهما بترغيبهما له في ذلك أو بتبعيته لهما ، ( تنتج البهيمة ) تلد الدابة العجماء ، ( بهيمة جمعاء ) تامة الأعضاء مستوية الخلق ، ( تحسون ) تبصرون ، ( جدعاء ) مقطوعة الأذن أو الأنف أو غير ذلك أي إن الناس يفعلون بها ذلك ، فكذلك يفعلون بالمولود الذي يولد على الفطرة السليمة . ( اقرؤوا إن شئتم ) أن تتأكدوا هذا المعنى . ( فطرة الله ) ملة الإيمان والتوحيد ومعرفة الخالق سبحانه . ( فطر الناس ) خلقهم . ( الآية ) (13) ، إن هذه العقيدة هي التي تحقق للعبد عبوديته لله تعالى كما أراد الله تعالى لا كما أراد العبد والتي مصادرها الكتاب العزيز ، والثابت من السنة النبوية ، بدلالة اللغة العربية ، وفي ضوء فهم السلف الصالح لها لا غير ، وفي معنى العبادة كلام نفيس لابن القيم ـ رحمه الله تعالى ـ يعلن أن العقيدة الصحيحة هي تحرر العباد من كل طاعة إلا طاعة الله وحده وما أمر بطاعته في المعروف ديناً قال : التحقق بمعنى قوله : " إني أعبدك " : التزام عبوديته من الذل و الخضوع و الإنابة ، و امتثال أمر سيده ، و اجتناب نهيه ، و دوام الافتقار إليه ، و اللجوء إليه ، و الاستعانة به ، و التوكل عليه ، و عياذ العبد لربه ، و لياذه به ، و أن لا يتعلق قلبه بغيره محبة و خوفاً و رجاءاً ، و فيه أيضاً : إني عبد من جميع الوجوه : صغيراً و كبيراً ، حياً و ميتاً ، مطيعاً و عاصياً ، معافى و مبتلى ، بالروح و القلب و اللسان و الجوارح ، و لا حياة و لا نشوراً ، و أن ناصيتي بيدك ، أنت المتصرف فيَّ تصرفني كيف تشاء ، لست أنا المتصرف في نفسي و كيف يكون له في نفسه تصرف من نفسه بيد ربه و سيده ، و ناصيته بيده ، و قلبه بين أصبعين من أصابعه ، و موته و حياته ، و سعادته و شقاوته ، وعافيته و بلاؤه كله إليه سبحانه ليس إلي منه شيء ، بل هو في قبضة سيده أضعف من عبد مملوك ضعيف حقير ، ناصيته بيد سلطان قاهر مالك له ، تحت تصرفه و قهره ، بل الأمر فوق ذلك ، و متى شهد العبد أن ناصيته و نواصي العباد كلها بيد الله وحده يصرفهم كيف يشاء لم يخفهم بعد ذلك ، و لم يرهبهم ، و لم ينزلهم منزلة المالكين بل منزلة عبيد مقهورين مربوبين ، المتصرف فيهم سواهم ، و المدبر لهم غيرهم ، فمن شهد نفسه بهذا المشهد صار فقره و ضرورته إلى ربه وصفاً لازماً له ، و متى شهد الناس كذلك لم يفتقر إليهم و لم يتعلق أمله و رجاءه بهم فاستقام توحيده و توكله و عبوديته (14) . و قد أبان شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله – عن هذه العقيدة بما لا مزيد عليه .

فقال : أهل السنة و الجماعة : " الفرقة الناجية " وسط في النحل كما أن ملة الإسلام وسط في الملل ، فالمسلمون وسط في أنبياء الله و رسله و عباده الصالحين ، لم يغلوا فيهم كما غلت النصارى ، و لم يجفوا عنهم كما جفت اليهود ، و هم وسط في شرائع دين الله ، فلم يحرموا على الله أن ينسخ ما شاء و يمحو ما شاء و يثبت ما شاء ، كما قالته اليهود ، و لا جوزوا لأكابر علمائهم و عبادهم أن يغيروا دين الله فيأمروا بما شاءوا ، و ينهوا عما شاءوا كما يفعله النصارى .

و هم كذلك وسط في باب صفات الله تعالى : فإن اليهود وصفوا الله تعالى بصفات المخلوق الناقصة ، و النصارى وصفوا المخلوق بصفات الخالق المختصة به ، هذا في باب يطول حصره .

و أما أهل السنة و الجماعة في الفرق فهم وسط كذلك ، فهم في باب أسماء الله وصفاته وسط بين أهل التعطيل الذين يلحدون في أسماء الله و آياته و يعطلون حقائق ما نعت الله به نفسه ، حتى يشبهوه بالعدم و الموات ، و بين أهل ( التمثيل و التشبيه ) الذين يضربون له الأمثال و يشبهونه بالمخلوقات . و أما هم : فيؤمنون بما وصف الله به نفسه و ما وصفه به رسوله – r – من غير تحريف و لا تعطيل و لا تكييف و لا تمثيل .

و أما في باب الخلق و الأمر ، فهم وسط بين المكذبين بقدرة الله الذين لا يؤمنون بقدرته الكاملة و مشيئته الشاملة و خلقه لكل شيء ، و بين المفسدين لدين الله الذين لا يجعلون له مشيئة و لا قدرة و لا عملاً فيعطلون الأمر و النهي و الثواب و العقاب ، فيصيرون بمنزلة المشركين الذين قالوا : ] لَوْ شَآءَ اللَّهُ مَآ أَشْرَكْنَا وَلاَ آبَاؤُنَا وَلاَ حَرَّمْنَا مِن شَيْءٍ [ [ الأنعام / 148 ] .

و أما أهل السنة و الجماعة فوسطيتهم في إيمانهم بأن الله على كل شيء قدير ، فيقدر أن يهدي العباد ، و يقلب قلوبهم ، و أنه ما شاء الله كان و ما لم يشأ لم يكن ، فلا يكون في ملكه ما لا يريد و لا يعجز عن إنفاذ أمره و أنه خالق كل شيء من الأعيان و الصفات و الحركات ، كما يؤمنون في الوقت نفسه أن العبد له قدرة و مشيئة و عمل و أنه مختار ، و لا يسمونه مجبوراً ( أي فيما كلف به ) إذ إن المجبور من أكرة على خلاف اختياره ، و الله سبحانه و تعالى جعل العبد مختاراً لما يفعله فهو مختار مريد ، و الله خالقه و خالق اختياره .

و هم في باب الأسماء و الأحكام و الوعد و الوعيد وسط بين الوعيدية الذين يجعلون أهل الكبائر من المسلمين مخلدين في النار و يخرجونهم من الإيمان بالكلية ، و يكذبون بشفاعة النبي – r – و بين المرجئة الذين يقولون : إيمان الفساق مثل إيمان الأنبياء ، و الأعمال الصالحة ليست من الدين و الإيمان ، و يكذبون بالوعيد و العقاب بالكلية ، فيؤمن أهل السنة و الجماعة بأن فساق المسلمين معهم بعض الإيمان و أصله ، و ليس معهم جميع الإيمان الواجب الذي يستوجبون به الجنة ، و أنهم لا يخلدون في النار ، بل يخرج منها من كان في قلبه مثقال حبة من إيمان ، أو مثقال خردلة من إيمان .

و هم في أصحاب رسول الله – r – وسط بين الغالية الذين يغالون في علي – رضي الله عنه – و أهل البيت ، فيفضلون علياَّ على أبي بكر و عمر ، و يعتقدون أنه الإمام المعصوم دونهما ، و أن الصحابة ظلموا و فسقوا ، و كفروا الأمة بعدهم كذلك ، و ربما جعلوه نبياً و إلهاً ، و بين الجافية الذين يعتقدون كفره و كفر عثمان ، و يستحلون دماءهما و دماء من تولاهما ، و يستحبون سب علي و عثمان و نحوهما ، و يقدحون في خلافة علي – رضي الله عنه – و إمامته .

[ وهم وسط في تعاملهم مع الحاكم المسلم بين الغلاة والجفاة }، الغلاة الذين أطاعوا في المعصية وأقروا بالباطل ودعوا إليه ، وبين الجفاة الذين عصوا في المعروف فلم يقدروا المصالح والمفاسد ].

و وسطيتهم في سائر أبواب السنة راجع لتمسكهم بكتاب الله تعالى و سنة رسوله – r – و ما اتفق عليه السابقون الأولون من المهاجرين و الأنصار و الذين اتبعوهم بإحسان (15) .

الثاني من مقومات الأمة : الأرض التي يملكها الشعب ويدافع عنها .

إذا لم يكن هناك أرض يملكها الإنسان ، فيها متاعه وعليها استقراره وتكاثره ، بحيث تستوعب نشاطاته وطموحاته ، فليس ثمة أمة على الحقيقة ، وفي ذلك يقول الله تعالى : ( وَلَكُمْ فِي الأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ) (البقرة : 36 ) ، وقد حرص الإسلام كل الحرص على تحقق هذا المقوم حيث عرض النبي صلى الله عليه وسلم نفسه على القبائل ليوفر لأتباعه أرضاً تمكنهم من تكوين أمة فاعلة في الحياة ، وكان السبق والفضل للأنصار في المدينة النبوية مهاجره صلى الله عليه وسلم ، كما حكى الله تعالى : ( وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَالَّذِينَ آوَواْ وَّنَصَرُواْ أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقّاً لَّهُم مَّغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ ) (الأنفال : 74 ) وهكذا امتدت الأرض بامتداد الأمة الإسلامية التي رضيت به ديناً ، فكانت كلها أرض للجميع يملكها وينعم بها ويستميت في الدفاع عنها ، ومن نعم الله تعالى على هذه الأمة أنه أنزلها أحسن أرض وأوسطها ، وأكثرها مقدرات متنوعة ، بحيث تسهم بشدة في استقراره وحسن عيشه .

الثالث من مقومات الأمة : الإنسان الذي تتألف منه الأمة .

والإنسان محور أصل في الأمة إذ بمجموعه تكن الأمة ، وتكاثره وتناسله والحفاظ على وجوده صحيحاً سليماً يمكن من وجود أمة عزيزة منيعة ، وقد حرص النبي صلى الله عليه وسلم على توافره وتكاثره ، فعن معقل بن يسارـ رضي الله عنه ـ قال : جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال إني أصبت امرأة ذات حسب وجمال وإنها لا تلد أفأتزوجها ؟ قال : ( لا ) ، ثم أتاه الثانية فنهاه ، ثم أتاه الثالثة ، فقال : ( تزوجوا الودود الولود فإني مكاثر بكم الأمم ) . (16)

ومن نعم الله تعالى على هذه الأمة أنها وبرغم ما يراد لها من تقلص عددي إلا أنها أكثر الأمم قاطبة ، ومن أعاجيب الدنيا الآن أن يصبح تناسل الإنسان المسلم عند من لا بصيرة له كارثة يجب الحد منها خلافاً للأمم الأرض قاطبة التي تسعى بكل ما أوتيت أن تكون كتلة بشرية هائلة تكن مصدر وجود وقوة لها .

الرابع من مقومات الأمة : العزة والحمية الإيمانية القوية .

إن الأمة المنيعة من أطماع الآخرين وبطشهم ، هي الأمة التي حرمت على نفسها الاستخذاء والجبن والخور ، وامتلأت قلوب أفرادها بالعزة والشهامة والشجاعة والحمية الإيمانية ، المقرونة بأسباب القوة المادية والمعنوية ، والتي ترخص الحياة عند أهلها إذا تعرضت لهوان ، كما قال تعالى : ( يَقُولُونَ لَئِن رَّجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الأعَزُّ مِنْهَا الأَذَلَّ وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لا يَعْلَمُونَ ) (المنافقون : 8 ) ) وقد نهى الله تعالى عباده الخلص عن الوهن وبشرهم بالعلو و الرفعة إن هم صدقوا في إيمانهم ، فقال جل ذكره : ( وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنتُمُ الأَعْلَوْنَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ) (آل عمران : 139 ) وحذر الله تعالى من ابتغاء العزة من الكافرين فقال تعالى : ( الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاء مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِندَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ العِزَّةَ لِلّهِ جَمِيعاً) (النساء : 139 ) وقال تعالى : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاء تُلْقُونَ إِلَيْهِم بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءكُم مِّنَ الْحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَن تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ إِن كُنتُمْ خَرَجْتُمْ جِهَاداً فِي سَبِيلِي وَابْتِغَاء مَرْضَاتِي تُسِرُّونَ إِلَيْهِم بِالْمَوَدَّةِ وَأَنَا أَعْلَمُ بِمَا أَخْفَيْتُمْ وَمَا أَعْلَنتُمْ وَمَن يَفْعَلْهُ مِنكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاء السَّبِيلِ) (الممتحنة : 1 وأبان جل في علاه أن الإستقواء بغير المسلمين محرم على أهل الإيمان وأنه سمة أهل القلوب المريضة ، كما قال تعالى : ( فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَى أَن تُصِيبَنَا دَآئِرَةٌ فَعَسَى اللّهُ أَن يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِّنْ عِندِهِ فَيُصْبِحُواْ عَلَى مَا أَسَرُّواْ فِي أَنْفُسِهِمْ نَادِمِينَ) (المائدة : 52 ) وخروجاً من الضعة والاستعباد لغير الله تعالى أخذ الرسول صلى الله عليه وسلم بأسباب القوة حتى أقام أمة لم تزل مضرب المثل لكل منصف ، ففي حديث عقبة بن عامر ـ رضي الله عنه ـ يقول : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو على المنبر يقول : ( وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ألا أن القوة الرمي ألا أن القوة الرمي ألا أن القوة الرمي ) . (17) وكل من مكن لعقيدته ، وعظمت عنده حريته، واستغنى عن غيره ، و رد العدوان عن نفسه وعقيدته ومقدراته ، فهو العزيز القوي حقاً ، وهكذا يجب أن تكون أمة الإسلام اليوم كما كانت بالأمس عزيزة منيعة حرة ، ومن العجب العجاب أن بعض أبناء الأمة الإسلامية يشك في إمكانية عزة الأمة ووحدتها الآن ، وكأنه بمغيب عن تجارب الأمم المعاصرة مع فساد المعتقد وبعد الروابط إلا أنها تمكنت من بناء أمة كالصين والهند وغيرهما .

الخامس من المقومات : النظام السياسي الذي يمثل الأمة :

يختلف النظام السياسي في الإسلام عن غيره من النظم الأخرى جملة وتفصيلاً ، ونجمل ذلك الاختلاف في الآتي :

1 . أن النظام السياسي في الإسلام يجعل الأمر والحكم لله تعالى ، لأنه هو الذي خلق الخلق وهو أعلم بمصالحهم في العاجل والأجل ، كما قال تعالى : (إِنَّ رَبَّكُمُ اللّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثاً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلاَ لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ تَبَارَكَ اللّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ) (الأعراف : 54 ) ، ومن الأمر الحكم ، كما قال تعالى : (وَهُوَ اللَّهُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ لَهُ الْحَمْدُ فِي الأُولَى وَالآخِرَةِ وَلَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) (القصص : 70 ) .

2 . أن النظام السياسي في الإسلام يتخذ الكتاب العزيز والثابت من السنة النبوية مصدرا التشريع في النظام السياسي الإسلامي ، كما قال تعالى : (إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللّهُ وَلاَ تَكُن لِّلْخَآئِنِينَ خَصِيماً) (النساء : 105 ) ، وقال تعالى : (وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ) (المائدة : 44 )

3 . أن النظام السياسي في الإسلام يقيم العدل في الحكم ، كما قال تعالى : (إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّواْ الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُواْ بِالْعَدْلِ إِنَّ اللّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُم بِهِ إِنَّ اللّهَ كَانَ سَمِيعاً بَصِيراً) (النساء : 58 ) .

4 . أن النظام السياسي في الإسلام يرعى الدين والدنيا ، كما قال تعالى : (الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الأرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ) (الحج : 41 ) ، وقال تعالى : (تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوّاً فِي الأرْضِ وَلَا فَسَاداً وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ) (القصص : 83 ) .

5 . أن النظام السياسي في الإسلام يقوم على الشورى ، كما قال تعالى : (وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصّلاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ) (الشورى : 38 ) ، وقال تعالى : (فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ) (آل عمران : 159 ) . وعن عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ قال : ( من بايع رجلاً على غير مشورة من المسلمين ، فلا يتابع هو ولا الذي بايعه ) . (18)

6 . أن النظام السياسي في الإسلام يقوم على مبدأ الخلافة أو الإمامة لا الملك العضوض المتوارث ، وهي عقد طرفه بيد الأمة ، وطرف آخر بيد من توافرت فيه شروط الإمامة ، يكون كالوكيل عنها من غير أن يفتات على مشاورتها في ما تتطلبه الشورى ، كما قال تعالى : ( يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُم بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ ولا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ) (ص : 26 ) ، وقال تعالى : (وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ) (القصص : 5 ) وعن أبي مسعود قال أتى النبي صلى الله عليه وسلم رجل . فكلمه . فجعل ترعد فرائصه . فقال له: ( هون عليك . فإني لست بملك . إنما أنا ابن امرأة تأكل القديد ) . (19)

7 . أن النظام السياسي في الإسلام يوجب إقامة خليفة أو إمام للأمة الإسلامية ، وعلى هذا اتفقت جميع طوائف المسلمين من إقامة إمام عادل يقيم في الأمة أمر الله تعالى ، ويسوسها بأحكام الشريعة . (20)

8 . أن النظام السياسي في الإسلام اشترط شروطاً في الإمام العادل وأوجب توافرها ، وهي : الإسلام ، والذكورية ، والحرية ، والتكليف ، والعلم ، والعدل ، والكفاية ، والسلامة ، والقرشية إن أمكن . (21)

9 . أن النظام السياسي في الإسلام لا يعقد الإمامة لأحد ما لم تبايعه الأمة عن رضاً واختيار . وكان هذا واضحاً عند الصحابة رضي الله عنهم ، كما جاء عن

أبي بكر ـ رضي الله عنه ـ قال : ( أيها الناس هذا علي بن أبي طالب فلا بيعة لي في عنقه وهو بالخيار من أمره ألا وأنتم بالخيار جميعاً في بيعتكم إياي فإن رأيتم لها غيري فأنا أول من يبايعه فلما سمع ذلك علي من قوله تحلل عنه ما كان قد دخله فقال لا حل لا نرى لها غيرك فمد يده فبايعه هو والنفر الذين كانوا معه وقال جميع الناس مثل ذلك فردوا الأمر إلى أبي بكر ) . (22). وعن أبي السفر أن أبا بكر أشرف من كنيف أو رفيف وأسماء بنت عميس هي ممسكته وهي موشومة اليدين : ( أترضون بمن استخلف عليكم فوالله ما ألوت ولا تلوت ولا ألوت عن جهد رأي ولا وليت ذا قرابة استخلفت عليكم عمر بن الخطاب فاسمعوا له وأطيعوا قالوا سمعنا وأطعنا ) . (23) وفي قوله أترضون دلالة على أن البيعة لا تنعقد للإمام إلا برضا الناس واختيارهم ويؤكد ذلك فعل الصحابة رضي الله عنهم ، : ( فلما دفن عمر ـ رضي الله عنه ـ جمع المقداد أهل الشورى في بيت المسور بن مخرمة ، ويقال في بيت المال ، ويقال في حجرة عائشة بإذنها ، وهم خمسة معهم ابن عمر وطلحة غائب وأمروا أبا طلحة أن يحجبهم ، وجاء عمرو بن العاص والمغيرة بن شعبة ، فجلسا بالباب فحصبهما سعد واقامهما ، وقال تريدان أن تقولا حضرنا وكنا في أهل الشورى ، فتنافس القوم في الأمر وكثر بينهم الكلام ، فقال أبو طلحة أنا كنت لأن تدفعوها أخوف مني لأن تنافسوها ، لا والذي ذهب بنفس عمر لا أزيدكم على الأيام الثلاثة التي أمرتم ، ثم أجلس في بيتي فأنظر ما تصنعون ، فقال عبدالرحمن : أيكم يخرج منها نفسه ويتقلدها ، على أن يوليها أفضلكم ؟ فلم يجبه أحد ، فقال : فأنا أنخلع منها ، فقال عثمان : أنا أول من رضي ، فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول أمين في الأرض أمين في السماء ، فقال القوم : قد رضينا ، وعلي ساكت ، فقال : ما تقول يا أبا الحسن ؟ قال : أعطني موثقاً لتؤثرن الحق ولا تتبع الهوى ولا تخص ذا رحم ولا تألو الأمة ، فقال : أعطوني مواثيقكم على أن تكونوا معي على من بدل وغير وأن ترضوا من اخترت لكم علي ميثاق الله ألا أخص ذا رحم لرحمه ولا ألو المسلمين ، فأخذ منهم ميثاقاً وأعطاهم مثله ، فقال : لعلي إنك تقول إني أحق من حضر بالأمر لقرابتك وسابقتك وحسن أثرك في الدين ولم تبعد ؟ ولكن أرأيت لو صرف هذا الأمر عنك فلم تحضر من كنت ترى من هؤلاء الرهط أحق بالأمر؟ قال : عثمان ، وخلا بعثمان ، فقال : تقول شيخ من بني عبد مناف وصهر رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وابن عمه لي سابقة وفضل لم تبعد ، فلن يصرف هذا الأمر عني ؟ ولكن لو لم تحضر فأي هؤلاء الرهط تراه أحق به ؟ قال : علي ، ثم خلا بالزبير فكلمه بمثل ما كلم به علياً وعثمان ، فقال : عثمان ، ثم خلا بسعد ، فكلمه فقال : عثمان ، فلقي علي سعداً ، فقال : واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام إن الله كان عليكم رقيبا أسألك برحم ابني هذا من رسول الله صلى الله عليه وسلم وبرحم عمي حمزة منك ألا تكون مع عبدالرحمن لعثمان ظهيراً علي ، فإني أدلي بما لا يدلي به عثمان ، ودار عبدالرحمن لياليه يلقى أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ومن وافى المدينة من أمراء الأجناد ، وأشراف الناس يشاورهم ، ولا يخلو برجل إلا أمره بعثمان ، حتى إذا كانت الليلة التي يستكمل في صبيحتها الأجل أتى منزل المسور بن مخرمة بعد ابهيرار من الليل ، فأيقظه فقال : ألا أراك نائماً ولم أذق في هذه الليلة كثير غمض ، انطلق فادع الزبير وسعداً فدعاهما فبدأ بالزبير في مؤخر المسجد في الصفة التي تلي دار مروان ، فقال له : خل ابني عبد مناف وهذا الأمر، قال : نصيبي لعلي ، وقال لسعد أنا وأنت كلالة ، فاجعل نصيبك لي فأختار، قال : إن اخترت نفسك فنعم وإن اخترت عثمان فعلي أحب إلي أيها الرجل ، بايع لنفسك وأرحنا وارفع رؤوسنا قال : يا أبا إسحاق إني قد خلعت نفسي منها علي أن أختار، ولو لم أفعل وجعل الخيار إلي لم أردها، إني أريت كروضة خضراء كثيرة العشب فدخل فحل فلم أر فحلا قط أكرم منه ، فمر كأنه سهم لا يلتفت إلى شيء مما في الروضة حتى قطعها لم يعرج ، ودخل بعير يتلوه ، فاتبع أثره حتى خرج من الروضة ، ثم دخل فحل عبقري يجر خطامه يلتفت يميناً وشمالاَ ويمضي قصد الأولين حتى خرج ، ثم دخل بعير رابع فرتع في الروضة ، ولا والله لا أكون الرابع ، ولا يقوم مقام أبي بكر وعمر بعدهما أحد فيرضى الناس عنه ، قال سعد: فإني أخاف أن يكون الضعف قد أدركك ، فامض لرأيك فقد عرفت عهد عمر وانصرف الزبير وسعد ، وأرسل المسور بن مخرمة إلى علي ، فناجاه طويلاً وهو لا يشك أنه صاحب الأمر، ثم نهض وأرسل المسور إلى عثمان فكان في نجيهما حتى فرق بينهما أذان الصبح ، فقال عمرو بن ميمون قال لي عبدالله بن عمر: يا عمرو من أخبرك أنه يعلم ما كلم به عبدالرحمن بن عوف علياً وعثمان فقد قال بغير علم ، فوقع قضاء ربك على عثمان فلما صلوا الصبح جمع الرهط ، وبعث إلى من حضره من المهاجرين وأهل السابقة والفضل من الأنصار، وإلى أمراء الأجناد ، فاجتمعوا حتى التج المسجد بأهله ، فقال : أيها الناس إن الناس قد أحبوا أن يلحق أهل الأمصار بأمصارهم ، وقد علموا من أميرهم ، فقال سعيد بن زيد إنا نراك لها أهلاً ، فقال : أشيروا علي بغير هذا ، فقال عمار : إن أردت ألا يختلف المسلمون فبايع علياً ، فقال المقداد بن الأسود : صدق عمار إن بايعت علياً قلنا سمعنا وأطعنا ، قال ابن أبي سرح : إن أردت ألا تختلف قريش فبايع عثمان ، فقال عبدالله بن أبي ربيعة : صدق إن بايعت عثمان قلنا سمعنا وأطعنا ، فشتم عمار ابن أبي سرح ، وقال متى كنت تنصح المسلمين ، فتكلم بنو هاشم وبنو أمية ، فقال عمار أيها الناس إن الله عز وجل أكرمنا بنبيه وأعزنا بدينه فأنى تصرفون هذا الأمر عن أهل بيت منكم ، فقال رجل من بني مخزوم : لقد عدوت طورك يابن سمية ، وما أنت وتأمير قريش لأنفسها ، فقال سعد بن أبي وقاص : يا عبدالرحمن افرغ قبل أن يفتتن الناس ، فقال عبدالرحمن : إني قد نظرت وشاورت فلا تجعلن أيها الرهط على أنفسكم سبيلاً ، ودعا علياً ، فقال : عليك عهد الله وميثاقه لتعملن بكتاب الله وسنة رسوله وسيرة الخليفتين من بعده ؟ قال : أرجو أن أفعل وأعمل بمبلغ علمي وطاقتي، ودعا عثمان ، فقال له مثل ما قال لعلي ، قال نعم فبايعه ، فقال علي حبوته حبو دهر ، ليس هذا أول يوم تظاهرتم فيه علينا ، فصبر جميل والله المستعان على ما تصفون، والله ما وليت عثمان إلا ليرد الأمر إليك ، والله كل يوم هو في شأن ، فقال عبدالرحمن : يا علي لا تجعل على نفسك سبيلاً ، فإني قد نظرت وشاورت الناس فإذا هم لا يعدلون بعثمان ، فخرج علي وهو يقول سيبلغ الكتاب أجله ، فقال المقداد : يا عبدالرحمن أما والله لقد تركته من الذين يقضون بالحق وبه يعدلون ، فقال : يا مقداد والله لقد اجتهدت للمسلمين ، قال إن كنت أردت بذلك الله فأثابك الله ثواب المحسنين ، فقال المقداد : ما رأيت مثل ما أوتي إلى أهل هذا البيت بعد نبيهم ، إني لأعجب من قريش أنهم تركوا رجلاً ما أقول إن أحدا أعلم ولا اقضى منه بالعدل ، أما والله لو أجد عليه أعواناً ، فقال عبدالرحمن : يا مقداد اتق الله ، فإني خائف عليك الفتنة ، فقال رجل للمقداد : رحمك الله من أهل هذا البيت ، ومن هذا الرجل ؟ قال : أهل البيت بنو عبدالمطلب ، والرجل علي بن أبي طالب ، فقال علي : إن الناس ينظرون إلى قريش وقريش تنظر إلى بيتها ، فتقول إن ولي عليكم بنو هاشم

لم تخرج منهم أبداً ، وما كانت في غيرهم من قريش تداولتموها بينكم ، وقدم طلحة في اليوم الذي بويع فيه لعثمان ، فقيل له بايع عثمان ، فقال : أكل قريش راض به ، قال : نعم ، فأتى عثمان ، فقال له عثمان أنت على رأس أمرك إن أبيت رددتها ، قال أتردها ؟ قال : نعم ، قال : أكل الناس بايعوك ؟ قال : نعم ، قال : قد رضيت لا أغرب عما قد أجمعوا عليه وبايعه ) . (24) ولما قتل عثمان ـ رضي الله عنه ـ ذهب الصحابة ـ رضي الله عنهم إلى علي يعرضون عليه أن يبايعوه ، فقال : ( لا حاجة لي في أمركم ، فترددوا مراراً وصمموا على مبايعته ، فقال : إذن في المسجد ، فاجتمع الناس وبايعوه ) . (25)

10 . أن النظام السياسي في الإسلام لا يقر توريث الخلافة أو الإمامة ولا ولاية العهد لأحد بعد الإمام ، كما تفعل الملوك ، لأن ذلك مخالفة صريحة للشورى التي أمر الله بها المؤمنين في كل أمر ذي بال ، ولا شك أن أمر الإمامة والخلافة من أهم الأمور ، كما قال تعالى : (وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ) (الشورى : 38 ) ، وهكذا فهمت الأمة هذا الحق ، كما جاء ( أن مروان لما تكلم في البيعة ليزيد بن معاوية قال سنة أبي بكر وعمر فقال له عبد الرحمن بن أبي بكر بل سنة هرقل ) . (26) وكان خير مثال لرد الأمر إلى نصابه ما فعل عمر بن عبد العزيز ـ رحمه الله ـ لما استخلفه سليمان بن عبد الملك ، صعد المنبر وقال : ( إني والله ما استؤمرت في هذا الأمر وأنتم بالخيار ) وفي رواية ( أيها الناس إني قد

ابتليت بهذا الأمر من غير رأي كان مني فيه ولا طلبة له ولا مشورة من المسلمين ، وإني قد خلعت ما في أعناقكم من بيعتي فاختاروا لأنفسكم ) . (27)

11 . أن النظام السياسي في الإسلام يحدد حقوق الأمة و حقوق الإمام ، فحقوق الأمة على الإمام رعاية الدين ، وسياسة الدنيا به ، وحفظ الأمة وحمايتها ، ورعايتها وحماية مصالحها ، وحقوق الإمام على الأمة السمع والطاعة في العسر واليسر والمنشط والمكره ، في غير معصية الله تعالى .

المحور الرابع : سمات الأمة الإسلامية . وفيه :

أولاً : إفراد الله تعالى وحده دون سواه بالطاعة .

إن توحيد الله تعالى وإفراده بالعبادة والطاعة هو أعظم سمات الأمة الإسلامية ، وهو أول واجب على المكلف وآخر واجب عليه ، وهو تحقيق لمعنى لا إله إلا الله ، تلك الكلمة العظيمة التي حررت الإنسان من غير طاعة الله تعالى وعبادته ، كما قال تعالى ( قُلْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَالرَّسُولَ فإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبُّ الْكَافِرِينَ) (آل عمران : 32 ) ، وقال تعالى : ( طَاعَةٌ وَقَوْلٌ مَّعْرُوفٌ فَإِذَا

عَزَمَ الْأَمْرُ فَلَوْ صَدَقُوا اللَّهَ لَكَانَ خَيْراً لَّهُمْ) (محمد : 21 ) ، وللأسف الشديد فقد خرج عن مفهوم الطاعة لله تعالى من أطاع غيره في معصية الله تعالى وليس في قوله تعالى : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً ) (النساء : 59 ) حجة له لأن الطاعة في الآية لغير الله تعالى مقيدة بما عرف حسنه شرعاً ، دل على ذلك بوضوح حديث علي ـ رضي الله عنه ـ : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث جيشا وأمر عليهم رجلا فأوقد ناراً وقال ادخلوها فأراد الناس أن يدخلوها وقال الآخرون إنا قد فررنا منها فذكر ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال للذين أرادوا أن يدخلوها : ( لو دخلتموها لم تزالوا فيها إلى يوم القيامة ) وقال للآخرين قولا حسنا وقال ( لا طاعة في معصية الله إنما الطاعة في المعروف ) . (28) وقد أكد المحققون من العلماء أن طاعة غير الله تعالى فيما حرم الله تعالى شرك ، مستدلين على ذلك بحديث عن عدي بن حاتم قال : أتيت النبي صلى الله عليه وسلم و في عنقي صليب من ذهب فقال : ( يا عدي اطرح هذا الوثن من عنقك ) فطرحته فانتهيت إليه و هو يقرأ سورة براءة فقرأ هذه الآية (اتَّخَذُواْ أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِّن دُونِ اللّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُواْ إِلاَّ لِيَعْبُدُواْ إِلَهاً وَاحِداً لاَّ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ) (التوبة : 31 ) حتى فرغ منها فقلت : إنا لسنا نعبدهم فقال : ( أليس يحرمون ما أحل الله فتحرمونه و يحلون ما حرم الله فتستحلونه ؟ ) قلت بلى قال : ( فتلك عبادتهم ) . (29) ، ويستوي في ذلك طاعة العلماء والأمراء وغيرهم من أهل الأمر والنهي ، ومع بالغ الأسى فإن هذا النوع من التوحيد يكاد يكون غائباً الآن ، أو يراد له أن يغيب ، ولازم ذلك ما نال جموعاً من هذه الأمة من الخروج عن الطاعة الحق إلى الطاعة المحرمة ، مما جعلها تتنكب الصراط المستقيم ، وترتمي في رغبات وأهواء من لا يستطيع أن يبرها كبرالله تعالى بها ، ولا يرعى مصالحها ، كرعاية الله لها ، إن الطاعة المطلقة لغير الله تعالى في ما حرم الله تعالى ، هي تحكم في عباد الله تعالى ، وتعبيدهم لغيره جل وعز ، والله تعالى يأبى ذلك على المؤمنين مهما نالهم من ذلك ، إن مثل هذه الطاعة في واقعنا المعاصر أفسدت الدين والدنيا معاً ، فغدت أمة الإسلام شذر مذر كل قطر له من يأمره وينهاه ، فتفرقت الجموع وتنازعت الفئات ، ورضي كل فريق بما معهم من الطاعة فما رفعت بذلك رأساً ولا بنت به مكرمة .

ثانياً : إفراد القدوة في النبي محمد صلى الله وسلم دون سواه .

السمة الثانية من سمات الأمة الإسلامية : هي إفراد القدوة في النبي محمد صلى الله وسلم دون سواه ، لأنه النبي والرسول والأمام والقائد والمعلم الذي ارتضاه الله لها قدوة ، كما قال تعالى : (لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الأخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً) (الأحزاب : 21 ) ، فطاعته من طاعة الله تعالى ، كما قال تعالى : ( قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِن تَوَلَّوا فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُم مَّا حُمِّلْتُمْ وَإِن تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلا الْبَلاغُ الْمُبِينُ ) (النور : 54 ) ، وعن عرباض بن سارية قال : صلى لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم الفجر، ثم أقبل علينا فوعظنا موعظة بليغة ، ذرفت لها الأعين ووجلت منها القلوب ، قلنا أو قالوا: يا رسول الله كأن هذه موعظة مودع فأوصنا قال : ( ... عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين وعضوا عليها بالنواجذ وإياكم ومحدثات الأمور فان كل محدثة بدعة وان كل بدعة ضلالة ) (30) وهذه القدوة والأسوة يجب أن تكون في جميع مناشط الحياة من عبادة وسياسة واقتصاد واجتماع وغيرها ، وللأسف الشديد فقد انحسر مفهوم القدوة والطاعة النبوية في العبادة فقط دون السياسة والاقتصاد والاجتماع الآن في واقع الأمة الإسلامية ، مما جعلها متذبذبة في القدوة بين المذاهب العالمية ، حتى كاد يستقر بها الحال إلى اتباع الغرب في السياسة والاقتصاد والاجتماع ، وصدق عليها حديث أبي سعيد رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( لتتبعن سنن من قبلكم شبراً بشبر وذراعاً بذراع حتى لو سلكوا جحر ضب لسلكتموه ) ، قلنا يا رسول الله اليهود والنصارى ؟ قال ( فمن ) (31) ، وما دام الحال هكذا بعداً عن إفراد القدوة في الرسول صلى الله عليه وسلم فإن الأمة ستتفرق عن القدوة بالنبي صلى الله عليه وسلم ، وعندها لن تكون أمة أسلامية واحدة أبداً ، حتى تعود إلى إفراد القدوة في الرسول صلى الله عليه وسلم باطناً وظاهراً في العبادة والسياسة والاقتصاد والاجتماع وغيرها.

ثالثاً : القيام بالعدل والإحسان .

ومن سمات الأمة الإسلامية القيام بالعدل والإحسان ويتأتى العدل في كل مجال من عقائد و شرائع و سير مع الناس في الأمانات و ترك الظلم و الإنصاف و إعطاء الحق (32) .

كما قال الله تعالى : ] إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإحْسَانِ وَإِيتَآءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ [ [ النحل / 90 ] فهذه الآية عامة في كل ما يفتقر صلاحه إلى العدل ، لأن الألف و اللام فيه للعموم ، كما يشعر بذلك حذف المعمول (33) .

فشملت العدل بين العبد و بين ربه ، و ذلك بإيثار حقه تعالى على حظ نفسه ، و تقديم رضاه على هواه ، و الاجتناب للزواجر ، و الامتثال للأوامر ، و ذلك لمقتضى خلق الله تعالى له حيث جعل الغاية من خلقه عبادته تعالت ، كما قال سبحانه : ] وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ [ [ الذاريات / 56 ] والعدالة تقتضي القيام بعبادة الله على النحو الذي ذكر، و من لم يفعل كان مفرطاً ، و ذلك هو الظلم بعينه .

و شملت العدل بينه و بين نفسه ، و ذلك بمنعها عما فيه هلاكها كما قال الله تعالى : ] وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى [ [ النازعات / 40 ] و عزوب الأطماع عن الإتباع ، و لزوم القناعة في كل حال و معنى ، لأنه إذا لم يفعل ذلك جرته نفسه إلى إتباع الهوى، و ارتكاب حدود الله تعالى ، كما قال الله تعالى : ] إِنَّ النَّفْسَ لأَمَّارَةٌ بِالسُّو?ءِ إِلاَّ مَا رَحِمَ رَبِّي? [ [ يوسف / 53 ] ، و إذا فعل ما أمرته كان مجانباً

للعدل معها ، كما قال الله تعالى : ] وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ [ [ الطلاق/1 ] .

و شملت العدل بينه و بين الخلق ، و ذلك ببذل النصيحة لهم ، و ترك خيانتهم فيما قل أو كثر ، و الإنصاف من النفس لهم بكل وجه ، و لا يوصل إلى أحد مساءة بقول و لا يفعل ، لا في سر و لا علن ، و الصبر على ما يصيبه منهم من البلوى و إذا لم يفعل ذلك فلا أقل من الإنصاف من النفس و ترك الأذى (34) . و من الآيات العامة في العدل قوله تعالى : ] قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ [ [ الأعراف / 29 ] . و قوله تعالى : ] لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ [ [ الحديد / 25 ] .

ومن الواضح أن الإحسان درجة أعلى و دائرة أشمل من العدل ، لأن العدل يعني أن يأخذ الإنسان ماله و يعطي ما عليه ، و الإحسان يعني أن يأخذ الإنسان أقل مما له و أن يعطي أكثر مما عليه ، فالإحسان بذلك زائد على العدل ، و العدل يكون في الأحكام و الإحسان يكون في المكارم ، و إذا كان تحري العدل من الواجبات فإن تحري الإحسان ندب و تطوع ، و كلاهما مأمور به في قوله تعالى : ] إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإحْسَانِ [ [ النحل / 90 ] . و بالعدل و الإحسان يستحق العبد الخلافة في الأرض و عمارتها ، و غاية الإحسان أن يقع من الإنسان أفضل الإحسان من غير فكر و لا روية كأنه مطبوع عليه (35) .

شمول الإحسان :

من البين للباحث المدقق في النصوص الكريمة الواردة في الإحسان أنه مع العدل يشكل مضامين العلاقة مع الإنسان نفسه و الإنسان الآخر و أحكامها ، و أن دائرة هذا الإحسان تتسع لتشمل النفس و الأسرة و الأقارب ثم المجتمع و الإنسانية عامة ، و الحياة بأسرها .

فالدائرة الأولى : و هي دائرة الإحسان إلى النفس ، و تتضمن كمال الطاعة و إتقانها و إخلاصها لله تعالى على أكمل وجه و كأن الطائع يرى ربه تعالى ، كما تتضمن القيام على شؤون نفسه بما يصلحها في الظاهر و الباطن . قال الله تعالى : ] إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا [ [ الإسراء / 7 ] .

أما الدائرة الثانية : فتشمل الإحسان إلى القرابة الأدنين و هم الوالدان ، و الزوجة ، و الأولاد . قال الله تعالى : ] وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُو?اْ إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً [ [ الإسراء / 23 ] .

أما الدائرة الثالثة : فإنها تشمل الإحسان إلى القرابة الأبعد من الوالدين ، و الزوجة ، و الأولاد ، و هم الإخوان و الأخوات و الأعمام و العمات و الأخوال و الخالات و أبناؤهم و بقية الأنساب و الأصهار . قال الله تعالى : ] وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي? إِسْرَائِيلَ لاَ تَعْبُدُونَ إِلاَّ اللَّهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً وَذِي الْقُرْبَى [ [ البقرة / 83 ] .

أما الدائرة الرابعة : فهي أوسع من سابقتيها فإنها تضم الإحسان إلى المسلم و تشمل الجيران ، و الإخوان في الله و بقية أفراد المجتمع الذي يعيش فيه الإنسان و الإحسان هذا أكثر ما ينصب على الجانب الفقير في المجتمع ، كاليتامى و المساكين و ابن السبيل و المماليك . قال الله تعالى : ] وَاعْبُدُواْ اللَّهَ وَلاَ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئاً وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ مَن كَانَ مُخْتَالاً فَخُوراً [ [ النساء / 36 ] و في الآية أمر بالإحسان إلى من ذكر ، و نهى عن الترفع عنهم كبراً و اختيالاً .

أما الدائرة الخامسة : و هي الأوسع في العلاقات الإنسانية فتشمل الإحسان إلى المخالفين في العقيدة الذين لا يدينون بدين الإسلام غير المحاربين للمسلمين قال الله تعالى : ] لاَّ يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُو?اْ إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ * إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُواْ عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَن تَوَلَّوْهُمْ وَمَن يَتَوَلَّهُمْ فَأُوْلَائِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ [ (36) [ الممتحنة / 8 – 9 ] .

و أما الدائرة السادسة : و هي الإحسان مع غير الإنسان و تضم الإحسان إلى الملائكة الكرام – عليهم السلام – و النباتات و الحيوانان و الجمادات و غيرها

فلا نؤذي الملائكة بمنظر أو ريح كريه ، ولا النبات والحيوان والجماد بالإفساد .

رابعاً : الحرص الشديد على التعاون البر والتقوى .

ومن سمات الأمة الإسلامية ، الحرص الشديد على التعاون على جميع خصال الخير ، في الدنيا والآخرة ، وعمل كل ما من شأنه تحقيق تقوى الله تعالى بالتواصي بالحق والصبر عليه ، كما قال تعالى : ( وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُواْ اللّهَ إِنَّ اللّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ) (المائدة : 2 ) ، وقال تعالى : (وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللّهُ إِنَّ اللّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) (التوبة : 71 ) ، وقال تعالى : (إِلا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ) (العصر : 3 ) ، إن هذه السمة ضرورة لإقامة أمة أسلامية حقيقية ، لأن الإنسان لا يستطيع بمفرده الاستقلال بمصالحه الدينية والدنيوية ، فكان لا بد من تعاون وتكافل وتآزر يمكن من لم الشعث وتحقيق المصالح تعبداً لله تعالى ، وقياماً بواجب الأخوة الإيمانية ، بعيداً عن المتاجرة والمعاوضة ، يؤيد ذلك حديث أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ قال : قال رسول الله صلى الله عليهوسلمن : ( كل سلامى من الناس عليه صدقة ، كل يوم تطلع فيه الشمس قال : تعدل بين الاثنين صدقة ، وتعين الرجل في دابته فتحمله عليها أو ترفع له عليها متاعه صدقة ، قال : والكلمة الطيبة صدقة ، وكل خطوة تمشيها إلى الصلاة صدقة ، وتميط الأذى عن الطريق صدقة ) . (37) ، والسلامى : هي مفاصل العظام في الإنسان ، ونختم هذا المحور بالتأكيد الشديد أن توافر العقيدة التي تطمئن الشعوب إليها ، والأرض التي يملكها الشعب ويدافع عنها ، و الإنسان الذي تتألف منه الأمة ، والعزة والحمية الإيمانية القوية ، وإفراد الله تعالى وحده دون سواه بالطاعة ، وإفراد القدوة في النبي محمد صلى الله وسلم دون سواه ، والحرص على التعاون البر والتقوى ، هي أهم المقومات والسمات لقيام أمة إسلامية صحيحة الجسد فاعلة في الحياة نشطة ، تستحق خلافة من سبقها من القرون المفضلة في صدر الإسلام .

خامساً : عدم التشبه بالكافرين .

من السمات الفيصل بين أفراد الأمة الإسلامية وجماعتها وأنماط حياتها ، وبين أفراد الأمم الأخرى وجماعاتها وأنماط حياتها ، عدم التشبه بهم ، فيما اختصوا به من عبادة وسلوك و وطرائق حياة ، يؤيد ذلك حديث ابن عمر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( من تشبه بقوم فهو منهم ) . (38) ، إن الإسلام بهذا الهدي المتميز يلزم أتباعه نهج الصراط المستقيم لا غير ، كما قال تعالى : (اهدِنَا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ ، صِرَاطَ الَّذِينَ أَنعَمتَ عَلَيهِمْ غَيرِ المَغضُوبِ عَلَيهِمْ وَلاَ الضَّالِّينَ) (الفاتحة : 6 ـ 7 ) ، وهنا يقول شيخ الإسلام ـ رحمه الله ـ : ( إن الصراط المستقيم هو أمور باطنة في القلب من اعتقادات وإرادات وغير ذلك ، وأمور ظاهرة من أقوال وأفعال قد تكون عبادات ، وقد تكون أيضاً عادات في الطعام واللباس والنكاح والمسكن والاجتماع والافتراق والسفر والإقامة والركوب وغير ذلك ، وهذه الأمور الباطنة والظاهرة بينهما ولا بد ارتباط ومناسبة فإن ما يقوم بالقلب من الشعور والحال يوجب أموراً ظاهرة ، وما يقوم بالظاهر من سائر الأعمال يوجب للقلب شعوراً وأحوالاً ، وقد بعث الله عبده ورسوله محمدا صلى الله عليه وسلم بالحكمة التي هي سنته وهي الشرعة والمنهاج الذي شرعه له ، فكان من هذه الحكمة أن شرع له من الأعمال والأقوال ما يباين سبيل المغضوب عليهم والضالين وأمر بمخالفتهم في الهدى الظاهر وإن لم يظهر لكثير من الخلق في ذلك مفسدة لأمور منها :

1. أن المشاركة في الهدى الظاهر تورث تناسباً وتشاكلاً بين المتشابهين ، يقود إلى الموافقة في الأخلاق والأعمال ، وهذا أمر محسوس فإن اللآبس لثياب أهل العلم مثلاً يجد من نفسه نوع انضمام إليهم ، واللآبس لثياب الجند المقاتلة مثلاً يجد في نفسه نوع تخلق بأخلاقهم ويصير طبعه مقتضياً لذلك إلا أن يمنعه من ذلك مانع .

2. أن المخالفة في الهدى الظاهر ، توجب مباينة ومفارقة توجب الانقطاع عن موجبات الغضب وأسباب الضلال ، والانعطاف إلى أهل الهدى والرضوان ، وتحقق ما قطع الله من الموالاة بين جنده المفلحين وأعدائه الخاسرين ، وكلما كان القلب أتم حياة وأعرف بالإسلام ، الذي هو الإسلام لست أعني مجرد التوسم به ظاهراً أو باطناً بمجرد الاعتقادات التقليدية من حيث الجملة كان إحساسه بمفارقة اليهود والنصارى باطناً أو ظاهراً أتم وبعد عن أخلاقهم الموجودة في بعض المسلمين أشد .

3. أن مشاركتهم في الهدى الظاهر توجب الاختلاط الظاهر حتى يرتفع التمييز ظاهراً بين المهديين المرضيين وبين المغضوب عليهم والضالين إلى غير ذلك من الأسباب الحكمية .

هذا إذا لم يكن ذلك الهدى الظاهر إلا مباحاً محضاً لو تجرد عن مشابهتهم فأما إن كان من موجبات كفرهم فإنه يكون شعبة من شعب الكفر فموافقتهم فيه موافقة في نوع من أنواع ضلالهم ومعاصيهم .

وهنا نكتة وهي أن الأمر بموافقة قوم أو بمخالفتهم قد يكون لأن نفس قصد موافقتهم أو نفس موافقتهم مصلحة ، وكذلك نفس قصد مخالفتهم أو نفس مخالفتهم مصلحة بمعنى أن ذلك الفعل يتضمن مصلحة للعبد أو مفسدة وإن كان ذلك الفعل الذي حصلت به الموافقة أو المخالفة لو تجرد عن الموافقة والمخالفة لم يكن فيه تلك المصلحة أو المفسدة ولهذا نحن ننتفع بنفس متابعتنا لرسول الله صلى الله عليه وسلم والسابقين من المهاجرين والأنصار في أعمال لولا أنهم فعلوها لربما قد كان لا يكون لنا فيها مصلحة لما يورث ذلك من محبتهم وائتلاف قلوبنا بقلوبهم وإن كان ذلك يدعونا إلى موافقتهم في أمور أخرى إلى غير ذلك من الفوائد كذلك قد نتضرر بموافقتنا الكافرين في أعمال لولا أنهم يفعلونها لم نتضرر بفعلها ، وقد يكون الأمر بالموافقة والمخالفة لأن ذلك الفعل الذي يوافق العبد فيه أو يخالف متضمن للمصلحة والمفسدة ولو لم يفعلوه لكن عبر عنه بالموافقة والمخالفة على سبيل الدلالة والتعريف فتكون موافقتهم دليلا على المفسدة ومخالفتهم دليلا على المصلحة ، واعتبار الموافقة والمخالفة على هذا التقدير من باب قياس الدلالة وعلى الأول من باب قياس العلة وقد يجتمع الأمران أعني الحكمة الناشئة من نفس الفعل الذي وافقناهم أو خالفناهم فيه ومن نفس مشاركتهم فيه وهذا هو الغالب على الموافقة والمخالفة المأمور بهما والمنهي عنهما فلا بد من التفطن لهذا المعنى فان به يعرف معنى نهي الله لنا عن اتباعهم وموافقتهم مطلقا ومقيداً .

واعلم أن دلالة الكتاب على خصوص الأعمال وتفاصيلها إنما يقع بطريق الإجمال والعموم أو الاستلزام وإنما السنة هي التي تفسر الكتاب وتبينه وتدل عليه وتعبر عنه .

وبهذا يتبين لك كمال موقع الشريعة الحنيفية وبعض حكمة ما شرعه الله لرسوله من مباينة الكفار ومخالفتهم في عامة أمورهم لتكون المخالفة أحسم لمادة الشر وأبعد عن الوقوع فيما وقع فيه الناس ، ثم إن الله شرع على لسان خاتم النبيين من الأعمال ما فيه صلاح الخلق على أتم الوجوه وهو الكمال المذكور في قوله تعالى: (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِيناً فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِّإِثْمٍ فَإِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ) (المائدة : 3) . (39)

المحور الخامس : واجبنا تجاه الأمة الإسلامية . وفيه :

أولاً : الدفاع عن عقيدة الأمة الإسلامية .

الدفاع عن عقيدة الأمة الإسلامية يتخذ صوراً شتى منها :

الصورة الأولى : الدفاع عنها بالحجة والبيان والرد على الطاعنين فيها ، وهذا النوع من الدفاع هو أكبر الدفاع وأجله ، كما قال تعالى : (وَلَوْ شِئْنَا لَبَعَثْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ نَذِيراً ، فَلا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُم بِهِ جِهَاداً كَبِيراً) (الفرقان :51 ـ 52 ) ، قال ابن القيم ـ رحمه الله ـ قوام الدين بالعلم والجهاد ولهذا كان الجهاد نوعين :

الأول : جهاد باليد والسنان وهذا المشارك فيه كثير.

والثاني : الجهاد بالحجة والبيان .

وهذا جهاد الخاصة من اتباع الرسل وهو جهاد الأئمة وهو أفضل الجهادين لعظم منفعته وشدة مؤنته وكثرة أعدائه قال تعالى في سورة الفرقان وهي مكية (وَلَوْ شِئْنَا لَبَعَثْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ نَذِيراً ، فَلا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُم بِهِ جِهَاداً كَبِيراً) (الفرقان :51 ـ 52 ) فهذا جهاد لهم بالقرآن وهو أكبر الجهادين وهو جهاد المنافقين أيضاً فإن المنافقين لم يكونوا يقاتلون المسلمين بل كانوا معهم في الظاهر وربما كانوا يقاتلون عدوهم معهم ومع هذا فقد قال : (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ) (التوبة : 73 ) ، ومعلوم أن جهاد المنافقين بالحجة والقرآن والمقصود أن سبيل الله هي الجهاد وطلب العلم ودعوة الخلق به إلى الله ولهذا قرن سبحانه بين الكتاب المنزل والحديد الناصر كما قال تعالى ( لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ) (الحديد : 25 ) فذكر الكتاب والحديد إذ بهما قوام الدين كما قيل :

فما هو إلا الوحي أو حد مرهف ... تميل ظباه اخدعا كل ما يل

فهذا شفاء الداء من كل عاقل ... وهذا دواء الداء من كل جاهل . (40)

والجدير بالذكر هنا أنه يجب على المسلمين في جميع أدوار بقائهم أن يتفرغ منهم جماعة ، لتتبع الآراء السائدة في طوائف البشر والعلوم المنتشرة بينهم ، وفحص كل ما يمكن أن يأتي من قبله ضرر على المسلمين ،لا سيما في المعتقد الذي لا يزال ينبوع كل خير راسخاً رصيناً ويصير منشأ كل فساد إن استحال واهناً واهياً ، فيدرسون هذه الآراء ، والعلوم دراسة أصحابها أو فوق دراستهم ليجدوا فيها ما يدفعون به الشكوك التي يستثيرها أعداء الدين بوسائط عصرية ، حتى إذا صوب متقصد سهماً منها نحو التعاليم الإسلامية من معتقد وأحكام وأخلاق ، ردوها إلى نحره اعتماداً على حقائق تلك العلوم وتجاربها واستناداً على إبداء نظريات تقضي على نظريات المشككين ـ وجل الدين الإسلامي أن يصطدم مع حقائق العلوم ـ وأقاموا دون تسرب تلبيساتهم سوراً حصيناً واقياً ، وعبأوا الأمة على أنظمة يتطلبها الزمن في غير هوادة ولا توان ،ودونوا ما استخلصوه من تلك العلوم من طرائق الدفاع في كتب خاصة ، بأسلوب يعلق بالخاطر وتستسيغه العامة ، لتكون سداً محكماً مدى الدهر دون مفاجأة جوارف الشكوك ، وإن لم يفعلوا ذلك يسهل على الأعداء أن يجدوا سبيلاً إلى مواقع خصبة بين المسلمين ، تنبت فيها بذور تلبيساتهم ، بحيث يصعب اجتثاث عروقها الفوضوية ، بل تسري سموم الإلحاد في قلوب خالية تتمكن فيها فيهلك الحرث والنسل ، هذا ولقد غزت قلوب كثير من المسلمين عقائد وأفكار ونحل ومبادىء وأحكام وآراء ، واستولت على بعض تلك القلوب التي زين لها الشيطان أن لا تعارض بين تلك الآراء والعقائد ، وبين الإسلام ، وأن لا حرج على المسلم أن يكون مسلماً شيوعياً ، أو مسلماً علمانياً أو لبرالياً في آن واحد ، حتى خرج الإسلام من تلك القلوب وتمكن فيها الإلحاد والزندقة ،

فالواجب على كثير من المسلمين القادرين علماً وقلماً نصيباً من المؤاخذة ، على ما آل إليه قلوب كثير من المسلمين ، إن لم يقولوا ولم يدرسوا ولم يكتبوا وينشروا ، ومن الحق أن يقرأ علماؤنا خاصة ، ويقرئوا في دروسهم ويقولوا ذلك في خطبهم مما هو حق وصريح في رد الإلحاد وقمعه ) . (41)

الصورة الثانية : الدفاع بالقتال عن عقيدة الأمة الإسلامية :

إذا رأت الأمة الإسلامية أن القتال هو الحل الناجع للدفاع عن العقيدة الإسلامية فقد أذن الله بذلك ، كما قال تعالى : ( وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلّهِ فَإِنِ انتَهَواْ فَلاَ عُدْوَانَ إِلاَّ عَلَى الظَّالِمِينَ) (البقرة : 193 ) ، وانتفاء الفتنة يتحقق بأحد ثلاثة أمور :

الأول : بدخول المشركين في الإسلام فتزول فتنتهم فيه .

والثاني : بأن يقتلوا جميعاً فتزول الفتنة بفناء الفاتنين .

الثالث : انتفاء الفتنة بظهور المسلمين عليهم ومصير المشركين ضعفاء أمام قوة المسلمين ، بحيث يخشون بأسهم وهذا حل مؤقت في غير جزيرة العرب ، لأن الفتنة لما كانت ناشئة عن التصلب في دينهم وشركهم لم تكن بالتي تضمحل عند ضعفهم ، لأن الإقدام على إرضاء العقيدة يصدر حتى من الضعيف ، كما صدر من اليهود غير مرة في المدينة ، في مثل قصة الشاة المسمومة ، وقتلهم عبد الله بن سهل في خيبر ولذلك فليس المقصود هنا إلا أحد أمرين : إما دخولهم في الإسلام ، وإما إفناؤهم بالقتل وقد حصل كلا الأمرين في المشركين ففريق أسلموا وفريق قتلوا يوم بدر وغيره من الغزوات ومن ثم قال علماؤنا : لا تقبل من مشركي العرب الجزية ومن ثم فسر بعض المفسرين الفتنة هنا بالشرك تفسيراً باعتبار المقصود من المعنى لا باعتبار مدلول اللفظ ، وقوله ( ويكون الدين لله ) عطف على ( لا تكون فتنة ) فهو معمول لأن المضمرة بعد حتى أي وحتى يكون الدين لله . أي حتى لا يكون دين هنالك إلا لله أي وحده ،

فالتعريف في الدين تعريف الجنس لأن الدين من أسماء المواهي التي لا أفراد لها في الخارج ، فلا يحتمل تعريفه معنى الاستغراق ، واللام الداخلة على اسم الجلالة لام الاختصاص ، أي حتى يكون جنس الدين مختصاً بالله تعالى على نحو ما قرر في قوله : الحمد لله وذلك يؤول إلى معنى الاستغراق ، ولكنه ليس عينه إذ لا نظر في مثل هذا للأفراد والمعنى : ويكون دين الذين تقاتلونهم خالصاً لله لا حظ للإشراك فيه ، والمقصود من هذا تخليص بلاد العرب من دين الشرك على الأخص لاختصاص الإسلام بها ؛ لأن الله اختارها لأن تكون قلب الإسلام ومنبع معينه فلا يكون القلب صالحاً إذا كان مخلوط العناصر وتخليص بلاد المسلمين على وجه العموم . (42)

ومما يجب التنبيه عليه هنا أن فئة من الأمة الإسلامية انطلت عليها دعوات الحوار مع الآخر بزعمهم مع عدم توافر شروطه التي تحقق الغرض من الحوار ، أو أخوة الأديان كما قالوا ، ولعمر الله إنها لغش و لدس للسم في العسل حتى تكون الهلكة الماحقة ، وصدق الله تعالى حيث يقول : ( يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَن سَبِيلِ اللّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِندَ اللّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ وَلاَ يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّىَ يَرُدُّوكُمْ عَن دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُواْ وَمَن يَرْتَدِدْ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُوْلَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ) (البقرة : 217 ) .

ثانياً : الدفاع عن وجود الأمة الإسلامية .

إن وجود الأمة الإسلامية مرهون بوجود أفرادها ، وزوالها مرهون بزوال أفرادها ، وقد قررت الأدلة الشرعية المتظافرة أن حياة الفرد المسلم عزيزة عند الله تعالى جد عزيزة ، فكيف بحياة جماعات من المسلمين يشردون ويقتلون ، ويسبون ويؤسرون ويفتنون ، على سمع ونظر الأمة جميعاً ، جاء ذلك صريح في حديث عبد الله بن عمروـ رضي الله عنه ـ عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( لزوال الدنيا أهون عند الله من قتل رجل مسلم ) . (43) وإذا كان الحال كذلك فإن الدفاع عن وجود الأمة الإسلامية واجب شرعي لا مناص منه ، يؤكده الكتاب العزيز والسنة المطهرة ، ففي استفهام إنكاري يقول الله تعالى : ( وَمَا لَكُمْ لاَ تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاء وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَل لَّنَا مِن لَّدُنكَ وَلِيّاً وَاجْعَل لَّنَا مِن لَّدُنكَ نَصِيراً) (النساء : 75 ) وليس الأمر مقتصر على فئة دون فئة بل الواجب أن تكون الأمة الإسلامية كلها كالجسد الواحد يتداعى بعضه لنصرة بعض كما جاء عن النعمان بن بشير ـ رضي الله عنه ـ قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى ) (44) وعن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا تحاسدوا ولا تناجشوا ولا تباغضوا ولا تدابروا ولا يبع بعضكم على بيع بعض وكونوا عباد الله إخوانا المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يخذله ولا يحقره التقوى ههنا ويشير إلى صدره ثلاث مرات بحسب امرئ من الشر أن يحقر أخاه المسلم كل المسلم على المسلم حرام دمه وماله وعرضه ) . (45) وعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :( المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يسلمه ومن كان في حاجة أخيه كان الله في حاجته ) . (46)

، وعن أنس رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( انصر أخاك ظالما أو مظلوما ) . فقال رجل يا رسول الله أنصره إذا كان مظلوماً أفرأيت إذا كان ظالما كيف أنصره ؟ قال ( تحجزه أو تمنعه من الظلم فإن ذلك نصره ) (47) ووجه الدلالة هنا وجوب نصرة المسلم و تحريم خذلانه ، وإسلامه للعدو ، وما ينطبق على الفرد ينطبق على الجماعة ، والله تعالى تكفل بالنصر لمن نصر المسلمين ، فقال تعالى : (الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إلا أَن يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَولا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيراً وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ) (الحج : 40 وقد ضرب الرسول صلى الله عليه وسلم مثلاً رائعاً في الدفاع عن وجود الأمة الإسلامية حيث : صالح رسول الله صلى الله عليه وسلم قريشاً عام الحديبية على أن يضعوا الحرب عشر سنين يأمن فيها الناس ويكف بعضهم عن بعض فدخلت خزاعة في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ودخل بنو بكر في عهد قريش فعدت بنو بكر على خزاعة ونقضوا عهدهم وكان سبب ذلك دما كان لبني بكر عند خزاعة قبل الإسلام بمدة فلما كانت الهدنة المنعقدة يوم الحديبية أمن الناس بعضهم بعضا فاغتنم بنو الديل من بني بكر - وهم الذين كان الدم لهم - تلك الفرصة وغفلة خزاعة وأرادوا إدراك ثأر بني الأسود بن رزن الذين قتلهم خزاعة فخرج نوفل بن معاوية الديلي فيمن أطاعه من بني بكر بن عبد مناة حتى يبيتوا خزاعة واقتتلوا وأعانت قريش بني بكر بالسلاح وقوم من قريش أعانوهم بأنفسهم فانهزمت خزاعة إلى الحرم على ما هو مشهور مسطور فكان ذلك نقضاً للصلح الواقع يوم الحديبية فخرج عمرو بن سالم الخزاعي وبديل بن ورقاء الخزاعي وقوم من خزاعة فقدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم مستغيثين به فيما أصابهم به بنو بكر وقريش وأنشده عمرو بن سالم فقال :

( يا رب إني ناشد محمدا ... حلف أبينا وأبيه الأتلدا )

( كنت لنا أبا وكنت ولدا ... ثمت أسلمنا ولم ننزع يدا )

( فانصر هداك الله نصراً عتدا ... وادع عباد الله يأتوا مددا )

( فيهم رسول الله قد تجردا ... أبيض مثل الشمس ينمو صعدا )

( إن سيم خسفاً وجهه تربدا ... في فيلق كالبحر يجري مزبدا )

( إن قريشاً أخلفوك الموعدا ... ونقضوا ميثاقك المؤكدا )

( وزعموا أن لست تدعوا أحدا ... وهم أذل و أقل عددا )

( هم بيتونا بالوتير هجدا ... و قتلونا ركعاً و سجدا )

فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ) لا نصرت إن لم أنصر بني كعب ثم نظر إلى سحابة فقال إنها لتستهل لنصر بني كعب ( يعني خزاعة وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لبديل بن ورقاء ومن معه : ( إن أبا سفيان سيأتي ليشد العقد ويزيد في الصلح ، وسينصرف بغير حاجة ، فندمت قريش على ما فعلت ، فخرج أبو سفيان إلى المدينة ليستديم العقد ويزيد في الصلح ، فرجع بغير حاجة ، كما أخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم على ما هو معروف من خبره ، وتجهز رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى مكة ، ففتحها الله وذلك في سنة ثمان من الهجرة ) . (48)

ومما يحسن ذكره هنا أنه أذا كان من أحيا نفساً واحدة فأجره كمن أحيا الناس جميعاً فكيف بمن دافع عن وجود الأمة جميعاً ، لا شك أن أجره مضاعف بقدر ما أحيا من النفوس المسلمة ، يقول الله تعالى : (مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَن قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً وَلَقَدْ جَاءتْهُمْ رُسُلُنَا بِالبَيِّنَاتِ ثُمَّ إِنَّ كَثِيراً مِّنْهُم بَعْدَ ذَلِكَ فِي الأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ) (المائدة : 32 ) وهنا وقفة أتسأل فيها لمن بقي في قلبه ذرة من عزة وحمية إيمانية ، أين العلماء الربانيون الذين يربون الأمة على العزة والكرامة ؟ أين العلماء الربانيون الذين لا يشترون بآيات الله ثمناً قليلاً ،أين العلماء الربانيون الذين لا يحرفون الكلم عن مواضعه ؟ أين العلماء الربانيون الذين لا يبدلون الشريعة نزولاً عند رغبة أحد من الخلق ؟ أين الساسة الصادقون الذين يمثلون طموحات شعوبهم ، أين الساسة الصادقون الذين لا يستقوون بغير الله تعالى ؟ أين الساسة الصادقون الذين لا يعتزون بغير المؤمنين ؟ أين تجار الأمة وأرباب الأموال الذين يسدون جوعها ؟ أين تجار الأمة وأرباب الأموال الذين يجهزون الغزاة للدفاع عنها ؟ أين طلاب الحسنات والثواب المقاتلون الصابرون ، عن أنين المستضعفين والمستضعفات ؟ يقول الله تعالى : (أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ) (الحج : 39 ) عجباً لأمة ربطت مصيرها بيد غيرها أو بيد واحد منها ، وتخلت عن حقوقها , وأصبحت سوقاً لباعة الكلمة والمواقف على حساب عقيدتها ووجودها ، يقررون عدوها وصديقها ، وحربها وسلمها .

ثالثاً : الدفاع عن بلاد الأمة الإسلامية .

لم يختلف سلف هذه الأمة على أهمية الدفاع عن بلاد الأمة الإسلامية أبداً ، لذا قال الإمام أحمد ـ رحمه الله ـ : ( الفيء فيه حق لكل المسلمين وهو بين الغني والفقير ،ويبدأ بالأهم فالأهم من سد ثغر وكفاية أهله لأن أهم الأمور حفظ بلاد المسلمين وأمنهم من عدوهم ، وحاجة من يدفع عن المسلمين ) . (49)

وإذا دخل العدو بلاد الإسلام فلا ريب أنه يجب دفعه على الأقرب فالأقرب إذ بلاد الإسلام كلها بمنزلة البلدة الواحدة وأنه يجب النفير إليه بلا إذن والد ولا غريم ، و يجب على جميع أهل المكان النفير حتى تتحقق الكفاية ، أما إن كان العدو كثيراً لا طاقة للمسلمين به لكن يخاف إن انصرفوا عن عدوهم عطف العدو على من يخلفون من المسلمين ، فهنا يجب أن يبذلوا مهجهم ومهج من يخاف عليهم في الدفع حتى يسلموا ، ونظيرها أن يهجم العدو على بلاد المسلمين وتكون المقاتلة أقل من النصف فإن انصرفوا استولوا على الحريم ،

فهذا وأمثاله قتال دفع لا قتال طلب لا يجوز الانصراف فيه بحال ووقعة أحد من هذا الباب ، والواجب أن يعتبر في أمور الجهاد برأي أهل الدين الصحيح الذين لهم خبرة بما عليه أهل الدنيا دون الذين يغلب عليهم النظر في ظاهر الدين فلا يؤخذ برأيهم ولا برأي أهل الدين الذين لا خبرة لهم في الدنيا، والرباط أفضل من المقام بمكة إجماعاً . (50)

وليس القتال هنا من باب الندب بل من باب الوجوب ، كما قال تعالى : ( وَقَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُواْ إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبِّ الْمُعْتَدِينَ) (البقرة : 190 ) ، وكما قال تعالى : ( كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تُحِبُّواْ شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ وَاللّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ ) (البقرة : 216 ) وأكد الإيجاب وعظم أمر الجهاد في عامة السور المدنية وذم التاركين له ووصفهم بالنفاق ومرض القلوب فقال تعالى : ( قُلْ إِن كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَآؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُم مِّنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُواْ حَتَّى يَأْتِيَ اللّهُ بِأَمْرِهِ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ ) (التوبة :24 ) وقال تعالى : ( إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ ) ( الحجرات : 15) و قال تعالى : ( وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا لَوْلَا نُزِّلَتْ سُورَةٌ فَإِذَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ مُّحْكَمَةٌ وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتَالُ رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَأَوْلَى لَهُمْ ، طَاعَةٌ وَقَوْلٌ مَّعْرُوفٌ فَإِذَا عَزَمَ الْأَمْرُ فَلَوْ صَدَقُوا اللَّهَ لَكَانَ خَيْراً لَّهُمْ ) (محمد : 20 ـ 21 ) وهذا كثير في القرآن وكذلك تعظيمه وتعظيم أهله في سورة الصف التي يقول فيها ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنجِيكُم مِّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ ، تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ ، يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ، وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِّنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ ) (الصف 10 ـ 13 ) وكقوله تعالى : (أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللّهِ لاَ يَسْتَوُونَ عِندَ اللّهِ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ، الَّذِينَ آمَنُواْ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِندَ اللّهِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ ، يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُم بِرَحْمَةٍ مِّنْهُ وَرِضْوَانٍ وَجَنَّاتٍ لَّهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُّقِيمٌ ، خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً إِنَّ اللّهَ عِندَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ) (التوبة 18 ـ 22 )وقوله تعالى :( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَلاَ يَخَافُونَ لَوْمَةَ لآئِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاءُ وَاللّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ ) (المائدة : 54 ) وقال تعالى : (مَا كَانَ لأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُم مِّنَ الأَعْرَابِ أَن يَتَخَلَّفُواْ عَن رَّسُولِ اللّهِ وَلاَ يَرْغَبُواْ بِأَنفُسِهِمْ عَن نَّفْسِهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لاَ يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلاَ نَصَبٌ وَلاَ مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَلاَ يَطَؤُونَ مَوْطِئاً يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلاَ يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَّيْلاً إِلاَّ كُتِبَ لَهُم بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ إِنَّ اللّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ ، وَلاَ يُنفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً وَلاَ كَبِيرَةً وَلاَ يَقْطَعُونَ وَادِياً إِلاَّ كُتِبَ لَهُمْ لِيَجْزِيَهُمُ اللّهُ أَحْسَنَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ) (التوبة : 120 ـ 121 )

والأمر بالجهاد وذكر فضائله في الكتاب والسنة أكثر من أن يحصر ، ولهذا كان أفضل ما تطوع به الإنسان ، وكان باتفاق العلماء أفضل من الحج والعمرة ومن الصلاة التطوع والصوم التطوع ، كما دل عليه الكتاب والسنة عن معاذ بن جبل ـ رضي الله عنه ـ قال : قلت يا رسول الله : أخبرني بعمل يدخلني الجنة ؟ قال : بخ بخ ! لقد سألت عن عظيم ، و إنه ليسير على من يسره الله عليه ، صل الصلوات المكتوبة ، و أد الزكاة المفروضة ، أولا أخبرك برأس الأمر و عموده و ذروة سنامه ؟ أما رأس الأمر فالإسلام من أسلم سلم ، و عموده الصلاة ، و ذروة سنامه الجهاد في سبيل الله ) . (51)

وعن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( إن في الجنة مائة درجة أعدها الله للمجاهدين في سبيل الله ما بين الدرجتين كما بين السماء والأرض فإذا سألتم الله فاسألوه الفردوس فإنه أوسط الجنة وأعلى الجنة ، و فوقه عرش الرحمن ومنه تفجر أنهار الجنة ) (52)

وعن أبي عبس هو عبد الرحمن بن جبر ـ رضي الله عنه ـ : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( ما اغبرت قدما عبد في سبيل الله فتمسه النار ) . (53)

عن سلمان ـ رضي الله عنه ـ قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : ( رباط يوم وليلة خير من صيام شهر وقيامه وإن مات جرى عليه عمله الذي كان يعمله وأجري عليه رزقه وأمن الفتان ) . (54) عن أبي صالح مولى عثمان قال : سمعت عثمان ـ رضي الله عنه ـ قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : ( رباط يوم في سبيل الله خير من ألف يوم فيما سواه من المنازل ) . (55)

عن ابن عباس ـ رضي الله عنه ـ قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : (عينان لا تسمهما النار عين بكت من خشية الله ، وعين باتت تحرس في سبيل الله ) . (56)

وعن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ قال : جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال دلني على عمل يعدل الجهاد ؟ قال : ( لا أجده ) . قال: ( هل تستطيع إذا خرج المجاهد أن تدخل مسجدك فتقوم ولا تفتر وتصوم ولا تفطر ) . قال : ومن يستطيع ذلك ! قال أبو هريرة : إن فرس المجاهد ليستن في طوله فيكتب له حسنات ) . (57)

والجهاد في سبيل الله باب واسع و لم يرد في ثواب الأعمال وفضلها مثل ما ورد فيه فهو ظاهر عند الاعتبار فإن نفع الجهاد عام لفاعله ولغيره في الدين الدنيا ومشتمل على جميع أنواع العبادات الباطنة والظاهرة فإنه مشتمل من محبة الله تعالى والإخلاص له والتوكل عليه وتسليم النفس والمال له والصبر والزهد وذكر الله وسائر أنواع الأعمال على مالم يشتمل عليه عمل آخر والقائم به من الشخص والأمة بين إحدى الحسنيين دائماً إما النصر والظفر وإما الشهادة والجنة ، ثم إن الخلق لا بد لهم من محيا وممات ، ففيه استعمال محياهم ومماتهم في غاية سعادتهم في الدنيا والآخرة ، وفي تركه ذهاب السعادتين أو نقصهما فإن من الناس من يرغب في الأعمال الشديدة في الدين أو الدنيا مع قلة منفعتهما ، فالجهاد أنفع فيهما من كل عمل شديد وقد يرغب في توقية نفسه حتى يصادفه الموت فموت الشهيد أيسر من كل ميتة وهي أفضل الميتات . (58)

رابعاً : الدفاع عن ثروات و مقدرات الأمة الإسلامية .

إن الله تعالى بواسع منه وكرمه ، اختار للمسلمين أواسط الأرض التي استودع باطنها الكنوز العظيمة ، وظاهرها كل ما يضمن بقاء الحياة الكريمة ، مما يمكن المسلمين من القيام بواجب الرسالة الإسلامية في يسر وسهولة ، بعيداً عن الخضوع إلى أمة من الأمم ، ولما علم العدو هذه الخاصية للأمة الإسلامية التي لا تتم للمسلمين إلا بوحدتهم الإسلامية ، سعى جاهداً في تمزيق أوصال الأمة حتى يفتقر كل قطر إلى مقوم من مقومات الحياة فلا يجدها ، ثم بحيلة ما وحسب اتفاقيات يضطره إلى تحصيلها من عنده فقط ، وتفرد هو لنهب كنوز الأمة ومقدراتها المتنوعة ، بالسطو عليها عند احتلاله لبلاد المسلمين ، أو بشرائها بثمن بخس تحت قوة الهيمنة على القرار السياسي ، ناهيك عن إفساد التربة والبذور ، والحرب على مصادر المياه ، وقبر النفايات المضرة في بلاد المسلمين مما يفسد الحرث والنسل ، إن هذا الواقع الذي تعيشه الأمة الإسلامية الآن أضعف قدراتها ، وعرضها لمديونيات هائلة للغرب المادي الربوي ، إن هذا الواقع يستدعي الدفاع عن مقدرات الأمة الإسلامية التي لعب بها السفهاء والحمقى والمغفلون والعملاء الذين ساهموا في سرقة تلك المقدرات وأصبحت أرصدتهم في البنوك الغربية محركاً رئيساً لاقتصادها ، وسرعان ما يغضب الغرب على أحدهم لأمر ما فيجمد أرصدته ، فلا سعد بما سرق ، ولا سلم من أثمه ، هكذا أصبحت مقدرات الأمة الإسلامية نهباً لكل طامع ، وتسعة أعشار المسلمين يعيشون تحت خط الفقر بستين درجة ، ومع هذا الحال المشين قلما تسمع حراً يطالب بحق الأمة في التصرف في مقدراتها وترشيد استهلاكها ، ومن المسلم به أن لصاحب الحق مقال ، وأن المناضلة دون أموال الأمة مشروعة ، فالله تعالى حرم أكل الأموال بالباطل وما يقال في المال الخاص يقال في المال العام ، كما قال تعالى : (وَلاَ تَأْكُلُواْ أَمْوَالَكُم بَيْنَكُم بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُواْ بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُواْ فَرِيقاً مِّنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالإِثْمِ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ) (البقرة : 188 ) وفي حديث أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ قال : جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله أرأيت إن جاء رجل يريد أخذ مالي ؟ قال فلا تعطه مالك قال أرأيت إن قاتلني ؟

قال قاتله قال أرأيت إن قتلني ؟ قال فأنت شهيد قال أرأيت إن قتلته ؟ قال هو في النار) . (59)

خامساً: الدفاع عن وحدة الأمة الإسلامية .

حرص الإسلام كل الحرص على إقامة جماعة واحدة تكون هي النواة الأولى للأمة الإسلامية ، ولأجل ذلك رغب القرآن الكريم في الهجرة إلى المدينة النبوية أجمل ترغيب ، فقال تعالى : ( وَمَن يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللّهِ يَجِدْ فِي الأَرْضِ مُرَاغَماً كَثِيراً وَسَعَةً وَمَن يَخْرُجْ مِن بَيْتِهِ مُهَاجِراً إِلَى اللّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلى اللّهِ وَكَانَ اللّهُ غَفُوراً رَّحِيماً) (النساء : 100 ) ، وبهذه النواة الأولى قامت الأمة الإسلامية والدولة الأولى ، وتحددت ملامح الحكم والسياسة الإسلامية ، وفي هذا يقول الله تعالى : ( إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ ) (الأنبياء : 92 ) ، وقال تعالى : ( وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ ُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ ) (المؤمنون : 52 ) ، ويقول تعالى : (وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُواْ وَاذْكُرُواْ نِعْمَتَ اللّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاء فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً وَكُنتُمْ عَلَىَ شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النَّارِ فَأَنقَذَكُم مِّنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ) (آل عمران : 103 ) ، وقد امتن تعالى على المؤمنين بهذه الوحدة فقال تعالى : (وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً مَّا أَلَّفَتْ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) (الأنفال : 63 ) وبهذه النصوص وأمثالها تحددت الوحدة ، وبقوله تعالى : (وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِّلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمينَ مِن قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيداً عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ فَأَقِيمُوا الصّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ) (الحج : 78 ) ، تحددت التسمية ، فهي الأمة الإسلامية الواحدة ، وجاءت النصوص الأخرى لتبين التركيبة الجسدية والنفسية والروحية لهذه الأمة الفتية التي يتولى بعضها بعضاً بالمحبة والنصرة والتأييد والكون معها باطناً وظاهراً ، كما قال تعالى : (وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللّهُ إِنَّ اللّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) (التوبة : 71 ) ، وعن النعمان بن بشير ـ رضي الله عنه ـ قال : ( قال رسول الله صلى الله عليه وسلم مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى ) . (60) ، وعن أبي موسى ـ رضي الله عنه ـ قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضا ) . (61) ، ولم تكتف النصوص الشرعية بهدا القدر من الوشيجة بل جسدتها في مصطلح الأخوة الإيمانية السامي ، كما قال تعالى : (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ) (الحجرات : 10 ) وكان من لوازم هذه الأخوة الإيمانية النصح لها ، والقيام بحقوقها ، كما جاء عن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( لا تحاسدوا ولا تناجشوا ، ولا تباغضوا ولا تدابروا ، ولا يبع بعضكم على بيع بعض ، وكونوا عباد الله إخواناً ، المسلم أخو المسلم ، لا يظلمه ولا يخذله ولا يحقره ، التقوى ههنا ، ويشير إلى صدره ثلاث مرات ، بحسب امرئ من الشر أن يحقر أخاه المسلم ، كل المسلم على المسلم حرام : دمه وماله وعرضه ) . (62) ، وعن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( لا تدخلون الجنة حتى تؤمنوا ولا تؤمنوا حتى تحابوا أولا أدلكم على شيء إذا فعلتموه تحاببتم ؟ أفشوا السلام بينكم ) . (63) ، إن هذه الوحدة الإسلامية الرائعة الجميلة وإلى وقت قريب ، كانت من البدهيات والمسلمات عند المسلمين مما أغنى عن التأليف فيها أو الإطناب في الحديث عنها ، غير أن العدو المحتل مزق أوصالها ، وسدت هذه الحاجة بالقوميات والنعرات الجاهلية ، والتحزبات السياسية ، مثل الجامعة العربية ، وغيرها، فحلت القومية محل الأخوة الإيمانية ، والقطرية محل العالمية ، وملوك الطوائف محل الخلافة الإسلامية ، وفرح كل بما هو فيه ، وأغرقت الأمة في ملذات الحياة في ناحية ، وأشغلت بالسعي لسد رمق الحياة في ناحية أخرى ، وفتح باب التغريب على الجميع ، وروضت الأمة بالإعلام ، والمناهج الدراسية وغيرهما ، حتي ألفت هذا الواقع الممسوخ ، وتعاظم حكامها فكل يحكي التأريخ المجيد له ولآبائه ، وحتى لا نبخس الواقع صدقته فقد أسست رابطة العالم الإسلامي جسداً صغيراً هزيلاً بغير روح ، وزاد الأمر سوء أنها توظف لصالح جهة أو أخرى ، إن هذا الواقع المرير بحاجة ماسة إلى تغيير في الشكل والمضمون ، تغييراً مناسباً في الحال والمقال ، والزمان والمكان ، يحمل هذا التغيير الخلص من أبناء هذه الأمة يتعصبون له ويبشرون به ، ويصبرون على الأذى فيه ، مستصحبين فقه المقاربات ، لا يهدمون النافع من الواقع بل يصلحونه ويبنون عليه إن كان صالحاً ، وصدق الله تعالى حيث يقول : ( إِنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَإِذَا أَرَادَ اللّهُ بِقَوْمٍ سُوءاً فَلاَ مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُم مِّن دُونِهِ مِن وَالٍ ) (الرعد : 11 ) ، هذا ومن المناسب التأكيد بأن واقع الأمة الإسلامية الآن أقرب للوحدة الإسلامية أكثر من ذي قبل ، وذلك لما رأت من فشل الطروحات القومية ، والعلمانية ، والشيوعية ، والعشائرية ، والأسرية ، التي طمست معالم هويتها الدينية ، وأسلمتها للعدو وشاركت في دفن كرامتها ، وسرقت خيراتها ، وعرضتها للإحتلال من جديد ، فبالله تعالى لا بغيره يكون النصر والظفر، وبالهدى والبينات يزول الضلال والزغل ، وبأيدي العصبة المؤمنة تكون المدافعة والمغالبة ، والله تعالى يقول : ( وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ رُسُلاً إِلَى قَوْمِهِمْ فَجَاؤُوهُم بِالْبَيِّنَاتِ فَانتَقَمْنَا مِنَ الَّذِينَ أَجْرَمُوا وَكَانَ حَقّاً عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ) (الروم : 47 ) ، وقال تعالى : (إِن يَنصُرْكُمُ اللّهُ فَلاَ غَالِبَ لَكُمْ وَإِن يَخْذُلْكُمْ فَمَن ذَا الَّذِي يَنصُرُكُم مِّن بَعْدِهِ وَعَلَى اللّهِ فَلْيَتَوَكِّلِ الْمُؤْمِنُونَ) (آل عمران : 160 ) ، ولعل السؤال الذي يطرح نفسه كيف تكون الوحدة الإسلامية ، والمسلمون طوائف عدة ؟ والجواب أن أصول تلك الطوائف كانت في القرون المفضلة ، وقد كان هناك خطاباً شرعياً وسياسياً وقدرات مكنت من القدر الأساس وزيادة في تحقيق مفهوم الوحدة الإسلامية ، وبتحديد معالم ذلك الخطاب والقدرات يمكن أن نحقق القدر الأساس الذي يمكن من الوحدة الإسلامية ، وهذا لا يعني أن يذوب الحق في غيره بل الحق هو المثال الذي يؤمر به ويدعى إليه .

ومن المؤكد إن الوحدة الإسلامية عائدة حقيقة ، لأنها وعد الله تعالى الذي لا يخلف الميعاد بأن الاستخلاف والوراثة في الأرض للمؤمنين ، كما قال تعالى : ( وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنتُمُ الأَعْلَوْنَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ) (آل عمران : 139 ) ، وقال تعالى : (وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ) (النور : 55 ) ، إن هذا الوعد أنجزه الله تعالى للمؤمنين السابقين ، وهو منجز وعده الحق بالوراثة في الأرض للمؤمنين اللاحقين كما قال تعالى : (وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ) (القصص : 5 ) وبهذا الجزم صرحت السنة النبوية ، فعن معاوية ـ رضي الله عنه ـ قال : سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول : ( من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين ، وإنما أنا قاسم ، والله يعطي ، ولن تزال هذه الأمة قائمة على أمر الله لا يضرهم من خالفهم حتى يأتي أمر الله ) .(64)

إن هذا الوعد الحق أمل لاحت بيارقه ، وسطعت شمسه ، وتهللت أساريره ، وصدق الله تعالى حيث يقول : (وَاللّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ) (يوسف : 21 )

سادساً : الدفاع عن حق الأمة الإسلامية في اختيار من يحكمها وعزله .

إن للأمة الإسلامية الحق الشرعي في اختيار من يحكمها وعزله ، وهذا الحق تقرره النصوص الشرعية بوضوح تام ، كالآتي :

1 . أنه مقتضى الشورى التي أمر الله بها ، كما قال تعالى : (وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ) (الشورى : 38 ) .

2 . أنه مقتضى سنة الرسول صلى الله عليه وسلم وسنة الخلفاء الراشدين من بعده في الحكم والإمامة ، فعن العرباض بن سارية ـ رضي الله عنه ـ قال : ( صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم ثم أقبل علينا فوعظنا موعظة بليغة ذرفت منها العيون ووجلت منها القلوب فقال قائل يا رسول الله كأن هذه موعظة مودع فماذا تعهد إلينا ؟ فقال : أوصيكم بتقوى الله والسمع والطاعة وإن عبداً حبشياً فإنه من يعش منكم بعدي فسيرى اختلافاً كثيراً فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء المهديين الراشدين تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ وإياكم ومحدثات الأمور فإن كل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة ) . (65) وفي الحديث ثلاث مسائل مهمة :

الأولى : أن من الناس من فهم الحديث بوحوب الطاعة لمن تولى على المسلمين بالغلبة ، وإن لم تتوافر فيه الشروط وهذا مخالفة صريحة للنصوص

المحكمة التي تعارض ذلك ، ومن ذلك آخر الحديث الذي يفسر أوله بقوله : ( فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء المهديين الراشدين تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ وإياكم ومحدثات الأمور فإن كل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة ) ، فسنة الخلفاء الراشدين تقر ولاية من توافرت فيه شروط الإمامة وتنفي من لم تتوافر فيه ، مع رفضها الشديد لتوريث الإمامة .

الثانية : المبالغة و التأكيد الشديد على السمع والطاعة لمن توافرت فيه الشروط ، وبايعته الأمة عن رضاً واختيار ، لا إقرار إمامة العبد والمتغلب على الأمة ووجوب السمع والطاعة له ، وذلك نظير قوله تعالى : ( قُلْ إِن كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ) (الزخرف : 81 ) فهو من باب ضرب المستحيل ، لا إقراره ، والمعني على فرض جواز أن يكون لله ولد تعالى الله عن ذلك وتنزه وهذا مستحيل ، فأنا أول المؤمنين بعبودية الله تعالى ، وعليه فمعنى الحديث على فرض جواز إمامة العبد الآبق وهذا مستحيل ، فاسمعوا وأطيعوا لمن توافرت فيه الشروط .

الثالثة : أن الرسول صلى الله عليه وسلم لم ينص على وجه الإلزام بإمامة أبي بكر ـ رضي الله عنه ـ من بعده ، يدل على ذلك اختلاف الأنصار والمهاجرين في سقيفة بني ساعدة إذ كيف يختلفون على أمر الرسول صلى الله عليه وسلم لو كان هناك أمر فلما لم يكن ساغ الاختلاف حتى حصل الإتفاق على بيعة أبي بكر عن رضاً واختيار كما سبق بيانه . يؤيد ذلك مقالة عمر ين الخطاب رضي الله عنه كما في حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال :

قيل لعمر ألا تستخلف ؟ قال إن أستخلف فقد استخلف من هو خير مني أبو بكر وإن أترك فقد ترك من هو خير مني رسول الله صلى الله عليه وسلم . فأثنوا عليه فقال راغب وراهب وددت أني نجوت منها كفافاً لا لي ولا علي لا أتحملها حيا وميتا ) . (66) ولا يفهم من الحديث في الاستخلاف الإلزام بل هو الترشيح من عمر ـ رضي الله عنه ـ وهذا حق له يرشح من يراه مناسباً كما سبق بيانه في نظام الإسلام في الحكم ، ويكفي في تأييد ذلك قول عبدالرحمن ـ رضي الله عنه ـ : ( يا علي لا تجعل على نفسك سبيلاً فإني قد نظرت وشاورت الناس فإذا هم لا يعدلون بعثمان ) . (67)

وأما حق الأمة في جواز عزل الأمام أو عماله ، فمن أجاز لهم حق اختيار يجيز لهم حق العزل إذا كان هناك مصلحة من عزله فللوكيل أن يفسخ الوكالة عن موكله إذا لم يتحقق الغرض من الوكالة.

هذا وإذا انظم ما هنا من تقرير على ما سبق في نظام الإسلام في الإمامة تقرر بوضوح حق الأمة في اختيار من يحكمها ، وإن الدفاع عن هذا الحق مشروع لأنه هدي النبوة الراشدة ، وسنن الخلفاء الراشدين ، فعن حذيفة بن اليمان ـ رضي الله عنه ـ قال : ( إن الله تعالى بعث محمدا صلى الله عليه وسلم فدعا الناس من الضلالة إلى الهدى ومن الكفر إلى الإيمان فاستجاب له من استجاب فحيى بالحق من كان ميتا ومات بالباطل من كان حيا ثم ذهبت النبوة فكانت الخلافة على منهاج النبوة ثم يكون ملكاً عضوضاً فمن الناس من ينكر بقلبه ويده ولسانه والحق استكمل ومنهم من ينكر بقلبه ولسانه كافا يده وشعبة من الحق ترك ومنهم من ينكر بقلبه كافا يده ولسانه وشعبتين من الحق ترك ومنهم من لا ينكر بقلبه ولسانه فذلك ميت الأحياء ) . (68)

وفي الختام : فإن الدفاع عن الأمة الإسلامية مسئولية الجميع كل بحسب قدراته ، وعندما تتظافر الجهود ، وترسم الخطط ، وتحدد الأهداف والوسائل ، ويعطى المشروع حقه من الوقت الكافي لإعادة ما دمرته الدول والهيئات والأشخاص من وحدة الأمة ، كما قال تعالى : (فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الأَمْرُ مِن قَبْلُ وَمِن بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ) (الروم : 4 ) يفرح المؤمنون بالتمكين ، كما قال تعالى : ( وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ ) (القصص : 5 ) ، وفق الله الجميع لما يحبه ويرضاه .

وكتبها :

الدكتور/ أحمد بن سعد بن غرم الغامدي

فهرس الموضوعات

م الموضوع الصفحة

1 المقدمة 2

2 مدخل في التعريف بواقع الأمة الإسلامية 6

3 التعريف بالأمة الإسلامية 24

4 مقومات الأمة الإسلامية 27

5 العقيدة التي تطمئن الشعوب إلها 27

6 الأرض يملكها الشعب ويدافع عنها 31

7 الإنسان الذي تتألف منه الأمة 31

8 العزة والحمية الإيمانية القوية 32

9 النظام السياسي للأمة الإسلامية 33

10 سمات الأمة الإسلامية 40

11 إفراد الله تعالى وحده دون سواه بالطاعة 40

12 إفراد القدوة في النبي محمد صلى الله وسلم دون سواه 24

13 القيام بالعدل والإحسان 43

14 الحرص على التعاون البر والتقوى 45

15 عدم التشبه بالكافرين 47

15 واجبنا تجاه الأمة الإسلامية 50

16 الدفاع عن عقيدة الأمة الإسلامية 50

17 الدفاع عن وجود الأمة الإسلامية 53

18 الدفاع عن بلاد الأمة الإسلامية 56

19 الدفاع عن ثروات و مقدرات الأمة الإسلامية 61

20 الدفاع وحدة الأمة الإسلامية 62

21 الدفاع عن حق الأمة في اختيار من يحكمها 66

=============

#الدعوة إلى الله بالمجادلة

الدعـوة إلى الله بالمجـادلة

مفهومها ومشروعيتها وضوابطها

الدكتور/ إبراهيم بن صالح الحميدان

قسم الدعوة والاحتساب ـ كلية الدعوة والإعلام

جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية

مقدمة :

الحمد لله حمداً يليق بجلال ربنا وعظمته , والشكر له على ما أنعم به علينا من نعم لا تعد ولا تحصى ؛ والتي من أعظمها وأجلها نعمة الإسلام ؛ أخرجنا  به من الضلالة إلى الهدى , وفضلنا به على كثير ممن خلق تفضيلا .

والصلاة والسلام على خير خلقه ومبلغ وحي ربه نبينا محمد بن عبد الله , خير من وطئت قدمه الثرى , مع علو المقام والقدر فوق الثريا , صلاة ربي وسلامه الأتمان الأكملان عليه وعلى آله وأصحابه , الذين صبروا وجاهدوا في الله حق جهاده فمنهم المجاهد بسنانه ومنهم المجاهد بلسانه وبيانه ؛ فاستنارت بدعوتهم ظلمات الأرض , وانقشعت ظلمات البصائر , وثقفت بحججهم المبنية على ما في الكتاب والسنة موارد الأفكار ومقاطع الأفهام .

وما زال الدعاة المخلصون بهم يقتدون ويهتدون , وإلى ميراث النبوة يتسابقون تعظيماً والتزاماً ,  وإليه يدعون أمماً وأقواماً , فصدق فيهم ما جاء في قوله تعالى :             •  ( ).

أما بعد :

فإن من الظواهر الملحوظة والأمور المشاهدة المعروفة وجود الجدل في حياة الإنسان أينما وحيثما وجد وكان , ولقد قال العليم بخلقه الحكيم في أمره ونهيه :        ( ) ، فهو لا ينفك في الغالب يغالب كل جديد أو طارئ عليه , أو كل مختلف معه .

وإن من ملامح ربانية هذا الدين وكونه تنـزيلا من رب العالمين ؛ تعامله بواقعية مع طبيعة الإنسان وما جبل عليه من هذا الجدل الغالب في جنسه , فكان أن وجه ربنا تبارك وتعالى إلى الجدل وندب إليه ؛ لكن بقدر الحاجة  , وبشكل غير الذي اعتاده الناس وربما مارسوه وعرفوه من مطلق الجدل .

أما الحاجة إليه فهي في الدعوة إلى الدين الحق وإقامة الحجة على الخلق .

والـحاجة بشكل أخص مع أولئك الذين يحتاج إليه معهم وليس مع كل أحد ، إذ تسبقه وتتقدمه الحكمة والموعظة الحسنة .

والخالق سبحانه يعلم أن من الناس من يبقى متردداً , أو متشككاً في الحق الذي جاءت به النبوة الخاتمة , أو أنه يكون معانداً جاحداً له ؛ مع وضوح دلائله وصفاء موارده ومصادره , فهذا الذي يدعى بالجدل .

أما شكل هذا الجدل وصفته فهو ليس بالجدل الذي قعد له اليونان , أو مارسه وفق هواه وشهوته أي إنسان , وإنما هو شكل مختلف وإن تشابهت الأشكال , ووصف معين وإن تقاربت الأسماء , إنه باختصار , وكما عبر عنه كتاب ربنا جل شأنه بأوجز لفظ وأجزل عبارة ( بالتي هي أحسن ) , وذلك في قوله تعالى :               ( ) وفي قوله تعالى :           ( ) .

وهذا البحث المتواضع هو في هذا الموضوع  الدقيق , ويهدف الكاتب فيه إلى محاولة الإسهام في تجلية المفهوم , وبيان المشروعية , والإشارة إلى أبرز الضوابط , وذلك في ثلاثة فصول، شملت تسعة مباحث على النحو الآتي :

الفصل الأول : مفهوم الجدل وتاريخه :

المبحث الأول : الجدل في اللغة .

المبحث الثاني : الجدل في الاصطلاح .

المبحث الثالث : رؤية تحليلية لتاريخ الجدل .

الفصل الثاني : مشروعية المجادلة في مجال الدعوة وأهميتها :

المبحث الأول : مشروعية الجدل في القرآن الكريم .

المبحث الثاني : مشروعية الجدل في السنة النبوية .

المبحث الثالث : أهمية المجادلة في مجال الدعوة .

الفصل الثالث : ضوابط الدعوة بالمجادلة :

المبحث الأول : ضوابط قبل قيام المجادلة .

المبحث الثاني : ضوابط أثناء المجادلة  .

المبحث الثالث : ضوابط بعد حصول المجادلة .

أسأل الله الكريم بمنه وجوده وفضله أن يتقبله بقبول حسن , وأن يجعله خالصاً لوجهه , نافعاً لعباده , وأن يعفو عما فيه من الخطأ والزلل .

والحمد لله رب العالمين , وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين .

الفصل الأول : مفهوم الجدل وتاريخه :

المبحث الأول : الجدل في اللغة :

تعـود كلمة ( جدل ) إلى الأصل الثلاثي الصحيح ( الجيم والدال واللام )،

هذا الأصل " أصل واحد وهو من باب استحكام الشيء في استرسال يكون فيه , وامتداد الخصومة ومراجعة الكلام "( ) .

والجدل - بسكون الدال -  يعني شدة الفتل للحبل والشعر، فيقال جديل  وجديلة

كما يعني الصرع يقال : جدله أي صرعه , ورجل مجدل ومجدال أي يصرع غيره , والجدالة الأرض .

أما كلمة الجدل - بفتح الدال - فتعني شدة الخصومة ومراجعة الكلام  , ويقال لصيغة المفاعلة مجادلة , ولاسم الفعل جدل وجدال .

جاء في لسان العرب ( ) :

" الجدل - بسكون الدال -  شدة الفتل  , وجدلت الحبل أجدله جدلا إذا شددت فتله وفتلته فتلا محكماً , ومنه قيل لزمام الناقة الجديل ".

و" الجدل : الصرع . وجدله جدلا , وجدله فانجدل وتجدل : صرعه على الجدالة . وهو مجدول , وقد جدلته جدلا .

وأكثر ما يقال جدلته تجديلا ."

"و الجدل - بفتح الدال - اللدد في الخصومة والقدرة عليها , وقد جادله مجادلة وجدالا .

ورجل جدل و مجدل و مجدال : شديد الجدل .

ويقال : جادلت الرجل فجدلته جدلا أي غلبته.

ورجل جدل إذا كان أقوى في الخصام .

و جادله أي : خاصمه مجادلة وجدالا .

والاسم الجدل وهو شدة الخصومة ...  " .

وجاء في القاموس المحيط ( ) :

" وجدله فانجدل وتجدل  صرعه على الجدالة ...

والجدل  محركة :  اللدد في الخصومة  والقدرة عليها ".

وجاء في العين ( ) :

" ورجل جدل مجدال أي خصم مخصام.

والفعل جادل يجادل مجادلة .

وجدلته جدلا – مجزوم - فانجدل صريعا ".

المبحث الثاني : الجدل في الاصطلاح :

للجدل في الاصطلاح معنيان :

الأول : المعنى العام للجدل أو مطلق الجدل أو الجدل المحض .

الثاني : المعنى الخاص الذي جاء في النصوص الشرعية مندوباً إليه في مقام الدعوة  .

وغالب المراجع وبخاصة كتب التعريفات تشير إلى المعنى الأول .

فنجد مثلا أن الجرجاني يورد عدداً من المعاني الاصطلاحية للجدل فيقول :

" الجدال عبارة عن مراء يتعلق بإظهار المذاهب وتقريرها  "( ).

ويقول : " الجدل هو القياس المؤلف من المشهورات والمسلمات ,  والغرض منه إلزام الخصم , وإفحام من هو قاصر عن إدراك مقدمات البرهان "( ) .

ويقول : " دفع المرء خصمه عن إفساد قوله بحجة أو شبه .

أو يقصد به تصحيح كلامه وهو الخصومة في الحقيقة "( ).

كما تنحو بعض المراجع المتأخرة في تعريفه بما هو قريب من ذلك فنجد على سبيل التمثيل التعريفات الآتية :

" المنازعة لا لإظهار الصواب بل لإلزام الخصم "( ) .

" المفاوضة على سبيل المنازعة والمغالبة لإلزام الخصم "( ) .

وهذه التعريفات للجدل في أصله وعلى إطلاقه أو ما يمكن أن يسمى  بالجدل المحض , ويظهر فيه أمران رئيسان :

- شدة الخصومة واللدد فيها .

- وقصد الغلبة والإلزام والإفحام في الهدف .

وهذا ليس بالجدل الشرعي في دين الإسلام, الذي جاء في قوله تعالى:               ( ).

وفي قوله تعالى :           ( ).

قال الحافظ ابن كثير رحمه الله : "  وقوله â وجادلهم بالتي هي أحسن á أي من احتاج منهم إلى مناظرة وجدال فليكن بالوجه الحسن برفق ولين وحسن خطاب كقوله تعالى â ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن إلا الذين ظلموا منهم á الآية فأمره تعالى بلين الجانب كما أمر به موسى وهارون عليهما السلام حين بعثهما إلى فرعون  "( ) .

وقال العلامة ابن سعدي رحمه الله : " فإن كان المدعو يرى أن ما هو عليه حق أو كان داعيةً إلى الباطل فيجادل بالتي هي أحسن وهي الطرق التي تكون أدعى لاستجابته عقلا ونقلا , ومن ذلك الاحتجاج عليه بالأدلة التي كان يعتقدها فإنه أقرب إلى حصول المقصود وأن لا تؤدي المجادلة إلى خصام أو مشاتمة تذهب بمقصودها ولا تحصل الفائدة منها بل يكون القصد منها هداية الخلق إلى الحق لا المغالبة ونحوها "( ).

وقال رحمه الله : " ينهى تعالى عن مجادلة أهل الكتاب إذا كانت عن غير بصيرة من المجادل , أو بغير قاعدة مرضية , وأن لا يجادلوا إلا بالتي هي أحسن ؛ بحسن خلق ولطف ولين كلام , ودعوة إلى الحق وتحسينه , ورد الباطل وتهجينه بأقرب طريق موصل لذلك , وأن لا يكون القصد منها مجرد المجادلة والمغالبة وحب العلو بل يكون القصد بيان الحق وهداية الخلق "( ) .

فيتبين بذلك أن الجدل الشرعي هو غير مطلق الجدل أو الجدل المحض السائد في الحدود الاصطلاحية للجدل والتي أوردنا طرفاً منها آنفاً ,  قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه  الله : " ولهذا ذم السلف أهل الكلام , وكذلك الجدل إذا لم يكن الكلام بحجة صحيحة لم يك إلا جدلا محضاً "( ) .

والجدل الشرعي بمعنى المناظرة التي يقصد منها إظهار الصواب في كلام المختلفين .( )

وقد نص بعض العلماء على أن الجدل بالتي هي أحسن هو المناظرة. ( )

ولعل هذا يفسر استخدام البعض للفظة الجدل بأنها مرادفة للمناظرة أو أنها بمعنى المناظرة .( )

ومما تجدر الإشارة إليه أن الجدل هو أحد أشكال الحوار الذي يعني تردد الكلام ومراجعته بين طرفين أو أكثر دون أن يكون بالضرورة خلاف بينهما .

فإذا كان خلاف وقصد إظهار الحق بين الطرفين المختلفين فهي المناظرة  والجدل الشرعي .

وإذا كان خلاف وكان القصد المغالبة والإلزام والإفحام فهو الجدل المحض .

أما علم الجدل فهو : " علم باحث عن الطرق التي يقتدر بها على إبرام أي وضع أريد ونقض أي وضع كان .

وهو - كما يقول صديق حسن - فرع من فروع علم النظر ومبني لعلم الخلاف "( ) .

ويبدو أن هذا التعريف لعلم الجدل متصل بمعناه العام الذي هدفه الإلزام والغلبة

ولذا يمكن أن نقول إن علم الجدل الشرعي هو : علم باحث عن الطرق التي يقتدر بها على إظهار الحقائق والاستدلال عليها في مقام الاختلاف بغرض الدعوة إلى الله تعالى .

المبحث الثالث : نظرة في تاريخ الجدل في الحياة البشرية :

وجود الجدل في حياة الإنسان مسألة بدهية ؛ لا تحتاج إلى الاستدلال في إثباتها وتأكيدها , ولم  تخل أمة من الأمم قديمها وحديثها منه .

وقـد نبه عليها سبحانه وتعالى فقال :        ( ) .

قال الثعالبي : " وقوله تعالى : â ولقد صرفنا في هذا القرآن للناس من كل مثل وكان الإنسان أكثر شيء جدلا á الإنسان هنا يراد به الجنس وقد استعمل صلى الله عليه وسلم الآية على العموم في مروره بعلي ليلا وأمره له بالصلاة بالليل، فقال علي: إنما أنفسنا يا رسول الله بيد الله , أو كما قال، فخرج وهو يضرب فخذه بيده ويقول: وكان الإنسان أكثر شيء جدلا "( ) .

وقال الزجاج : " كل ما يعقل من الملائكة والجن يجادل , والإنسان أكثر هذه الأشياء جدلا "( ) .

وقال الألوسي : " ( وكان الإنسان )  بحسب جبلته ( أكثر شيء جدلا )  أي أكثر الأشياء التي يتأتى منها الجدل ... والمعنى أن جدل الإنسان أكثر من جدل كل مجادل "( ) .

ولذلك فلعل النظر هنا يكون إلى تحليل وتصنيف تاريخ الجدل بدلا من السرد التاريخي لشواهده , وذلك في الأطر الآتية  :

الأول : الجدل الإنساني بعامة ؛ أي ممارسة الجدل من الإنسان وفق طبيعة البشرية الغالبة , وهذا في تاريخ الإنسان أينما وحيثما وجد .

وهو أمر مشاهد ومحسوس وملاحظ , كما يمكن في ذلك التذكير بالآية السابقة â وكان الإنسان أكثر شيء جدلا á ويمكن اعتباره من بدء الخليقة إلى قيام الساعة , بل إلى أن يفصل بين العباد , فقد جاء ما يدل على أن كل نفس تجادل يوم القيامة عن نفسها قال تعالى :          ( ).

قال الإمام الطبري في تفسير الآية : " يوم تأتي كل نفس تخاصم عن نفسها وتحتج عنها بما أسلفت في الدنيا من خير أو شر أو إيمان أو كفر "( )  .

وقال الإمام القرطبي رحمه  الله : " قوله تعالى : â يوم تأتي كل نفس تجادل عن نفسها á أي : إن الله غفور رحيم في ذلك , أو ذكرهم يوم تأتي كل نفس تجادل عن نفسها أي : تخاصم وتحاج عن نفسها .

جاء في الخبر أن كل أحد يقول يوم القيامة  : نفسي نفسي من شدة هول يوم القيامة سوى محمد صلى الله عليه وسلم فإنه يسأل في أمته ، وفي حديث عمر أنه قال لكعب الأحبار: يا كعب خوفنا هيجنا حدثنا نبهنا، فقال له كعب:  يا أمير المؤمنين والذي نفسي بيده لو أنت وافيت يوم القيامة بمثل عمل سبعين نبياً لأتت عليك تارات لا يهمك إلا نفسك وإن لجهنم زفرة لا يبقى ملك مقرب ولا نبي منتخب إلا وقع جاثياً على ركبتيه، حتى إن إبراهيم الخليل ليدلي بالخلة فيقول: يا رب أنا خليلك إبراهيم لا أسألك اليوم إلا نفسي .قال : يا كعب أين تجد ذلك في كتاب الله ؟ قال : قوله تعالى: â  يوم تأتي كل نفس تجادل عن نفسها وتوفى كل نفس ما عملت وهم لا يظلمونá .

وقال ابن عباس في هذه الآية :" ما تزال الخصومة بالناس يوم القيامة حتى تخاصم الروح الجسد فتقول الروح : رب الروح منك أنت خلقته لم تكن لي يد أبطش بها ولا رجل أمشي بها ولا عين أبصر بها ولا أذن أسمع بها ولا عقل أعقل به حتى جئت فدخلت في هذا الجسد فضعف عليه أنواع العذاب ونجني، فيقول الجسد : رب أنت خلقتني بيدك فكنت كالخشبة ليس لي يد أبطش بها ولا قدم أسعى به ولا بصر أبصر به ولا سمع أسمع به فجاء هذا كشعاع النور فبه نطق لساني وبه أبصرت عيني وبه مشت رجلي وبه سمعت أذني فضعف عليه أنواع العذاب ونجني منه، قال: فيضرب الله لهما مثلا ؛ أعمى ومقعداً , دخلا بستانا فيه ثمار فالأعمى لا يبصر الثمرة والمقعد لا ينالها، فنادى المقعد الأعمى: ايتني فاحملني آكل وأطعمك، فدنا منه فحمله فأصابوا من الثمرة، فعلى من يكون العذاب ؟ قال:  عليكما جميعاً العذاب "( ) .

الثاني : الجدل في البيئة اليونانية , ونخصها بإطار مستقل في هذه النظرة التحليلية لتاريخ الجدل لأن وضع قواعد الجدل والمنطق كما تتناقله المراجع بدأ في هذه البيئة , ولا يعنى هذا عدم وجوده من قبل فهو جبلة غالبة في الإنسان كما أسلفنا , لكن الذي حدث في البيئة اليونانية هو أن الجدل صار علماً يدرس وفناً يكتسب بالصنعة حيث قام سوقه واشتد عوده لمواجهة الحركة السوفسطائية التي تلبس على الناس عقائدهم , بل وتشككهم في الحقائق والبدهيات مما دعا القوم إلى وضع قواعد في الجدل بقصد قطع أولئك السوفسطائيين وإفحامهم ومغالبتهم( )  , وهؤلاء عندهم حق وباطل ومن أبرع من غربل نتاجهم شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في عدد من مؤلفاته .( )

ولما ورثت الحضارة الإسلامية خلافة العالم في عصورها الذهبية نقلت كثيراً من العلوم والمعارف , ولم تكن الحضارة الإسلامية تقوم بدور الوسيط والناقل فقط بل غربلت في أحايين كثيرة علوم الأمم السابقة ومن ذلك علم الجدل الذي يقابله عند المسلمين علم المناظرة , أو علم البحث والمناظرة , سواء في المصنفات المستقلة أم في الكتابات المتفرقة .

ويميل بعض الباحثين إلى أن علم المناظرة صناعة إسلامية لم يسبقهم إليه أمة من الأمم قبل ذلك .( )

ومع هذا بقيت آثار من الفكر اليوناني لم يسلم بعض المسلمين منها حتى في فهم كلام الله عز وجل وتفسيره , ومنه فهم بعضهم لما في قوله تعالى:              ( ).

قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله  : " كلام الله لا يشتمل إلا على حق يقين لا يشتمل على ما تمتاز به الخطابة والجدل عن البرهان بكون المقدمة مشهورة أو مسلمة غير يقينية , بل إذا ضرب الله مثلا مشتملا على مقدمة مشهورة أو مسلمة فلا بد وأن تكون يقينية , فأما الاكتفاء بمجرد تسليم المنازع من غير أن تكون المقدمة صادقة أو بمجرد كونها مشهورة وان لم تكن صادقة فمثل هذه المقدمة لا يشتمل عليها كلام الله الذي كله حق وصدق وهو أصدق الكلام وأحسن الحديث .

فصاحب الحكمة يدعى بالمقدمات الصادقة سواء كانت مشهورة أو مسلمة أو لم تكن لما فيه من إدراك الدِّق واتباع الحق .

وصاحب الموعظة يدعى من المقدمات الصادقة بالمشهورة لأنه قد لا يفهم الخفية من الحق ولا ينازع في المشهورة .

وصاحب الجدل يدعى بما يسلمه من المقدمات الصادقة مشهورة كانت أو لم تكن إذ قد لا ينقاد إلى ما لا يسلمه  "( ).

وقال ابن القيم رحمه الله تعالى : " وأما ما ذكره بعض المتأخرين  أن هذا إشارة إلى أنواع القياسات، فالحكمة هي طريقة البرهان، والموعظة الحسنة هي طريقة الخطابة، والمجادلة بالتي هي أحسن طريقة الجدل، فالأول بذكر المقدمات البرهانية لمن لا يرضى إلا بالبرهان ولا ينقاد إلا له وهم خواص الناس، والثاني  بذكر المقدمات الخطابية التي تثير رغبة ورهبة لمن يقنع بالخطابة وهم الجمهور، والثالث بذكر المقدمات الجدلية للمعارض الذي يندفع بالجدل وهم المخالفون فتنزيل القرآن على قوانين أهـل المنطق اليوناني واصطـلاحهم وذلك باطل قطعاً "( ).

كما امتد تأثير الجدل اليوناني إلى تطبيقات بعض المسلمين وتسببت الترجمة لعلوم اليونان في نشوء الجدل الكلامي المخالف للجدل الشرعي وذلك بعقد مجالس للجدل بقصد المغالبة والإلزام ودفع الخصوم حتى قال بعضهم لبعض :   " لا تعلق تكثيراً مما تسمع مني في مجالس الجدل فإن الكلام يجري فيها على ختل الخصم ومغالطته ودفعه ومغالبته , فلسنا نتكلم لوجه الله خالصا ولو أردنا ذلك لكان خطونا إلى الصمت أسرع من تطاولنا إلى الكلام " .( )

إلا أن ذلك كله لا يعني عدم وجود المجادلات والمناظرات المنضبطة بالضوابط الإسلامية كما سيتبين في الإطار الآتي .

الثالث : الجدل في مقام الدعوة إلى ما جاءت به الرسالات السماوية باعتباره أسلوبا يحتاج إليه مع بعض المدعوين الذين يمكن أن يكون فيهم منكرون للنبوات وما جاءت به من العقائد والشرائع , أو مترددون لديهم نوع ممانعة تزول بالإقناع وإقامة الحجة الصحيحة لهم , وهؤلاء موجودون أينما وجدت رسالة والأمثلة على ذلك كثيرة جداً .

وقد ورد في كتاب الله الكريم عدد من تلك المواجهات بين الأنبياء  وأقوامهم .

وكان موقف الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين وكذا الداعون بدعوتهم مواجهتهم بالحق المؤيد من الله تعالى فيما أنزل عليهم من الهدى والنور والدلائل القطعية التي تفوق احتجاج البشر ومنطقهم .( )

وقد بين الله تعالى فضله على إبراهيم عليه الصلاة والسلام في قوة حجته وخصمه لقومه فقال:           •   •     ( ).

قال الإمام القرطبي رحمه الله تعالى : " تلك إشارة إلى جميع احتجاجاته حتى خاصمهم وغلبهم بالحجة "( ).

أما عن دعوة الرسول صلى الله عليه وسلم فقد كان فيها الكثير من ذلك ,  وسنتبين طرفا منها عند الحديث عن المشروعية بإذن الله , قال الشيخ حافظ الحكمي في معارج القبول : " ومناظرة الرسل لأعداء الله يطول ذكرها , ومقامات نبينا محمد صلى الله عليه وسلم مع هذه الأمة أشهر من أن تذكر , فمن شاءها فليقرأ المصحف من فاتحته إلى خاتمته "( ).

وقد أورد ابن كثير رحمه الله عدداً من مجادلات المشركين لرسول الله صلى الله عليه وسلم تحت باب سماه : " باب مجادلة المشركين رسول الله صلى الله عليه وسلم , وإقامة الحجة الدامغة عليهم واعترافهم في أنفسهم بالحق وإن أظهروا المخالفة عناداً وحسداً وبغياً وجحوداً "( ) .

وكان اليهود من أكثر الناس جدلا بالباطل مع رسول الله صلى الله عليه وسلم .

قال ابن إسحاق : " كانت أحبار يهود يسألون رسول الله صلى الله عليه وسلم ويتعنتونه ويأتون باللبس ليلبسوا الحق بالباطل فكان القرآن ينزل فيهم فيما يسألون عنه "( ) , وهذا ليس جديداً منهم فقد جادلوا موسى وعيسى عليهما وعلى نبينا أفضل الصلاة والسلام، وما قصة بقرة بني إسرائيل منا ببعيد.

وقد استمر الجدل بين الدعاة إلى الإسلام وغيرهم إلى يومنا هذا , وذلك لعالمية هذا الرسالة وشمولها للناس كافة , إذ تمثل الدعوة مسؤولية عامة وخاصة لا يكاد يعفى منها من رضي بالله رباً وبالإسلام ديناً وبمحمد صلى الله عليه وسلم نبياً , فهي سبيل محمد صلى الله عليه وسلم وسبيل أتباعه من بعده قال تعالى :             •         ( ).

وكلما احتاج الدعاة إلى ممارسة المناظرة والجدل مارسوه بالضوابط الشرعية التي جاءت بها البعثة النبوية , والتي أحدثت نقلة في الحياة البشرية لتعيدها إلى ما ينبغي أن تكون عليه وفق هدي خالقها وموجدها الأعلم بما يصلحها .

وهذه النقلة شملت مناحي الحياة المختلفة بدءاً بالعقائد ومناهج التفكير وانطلاقاً إلى المعاملات والأخلاق والآداب والقيم .

ومن ذلك ضبط سلوك الحوار والمناظرة والجدل عند المسلمين عن ما سواه من السلوك , والذي يمكن أن نذكر أبرز ملامحه في ما يلي  :

1- توجيه سلوك المسلمين في اختلافهم فيما بينهم ومع غيرهم ليكون بقصد الوصول إلى الحق وبأساليب تجمع ولا تفرق وتقرب ولا تبعد،  وعنـدما لا يكون الجدل نافعاً فيعرض عنه إلى غيره فهو وسيلة لا غاية .

2- الاعتراف بالاختلاف لكن مع النهي عن التنازع , ومن ذلك اختلافات الصحابة رضوان الله عليهم فيما بينهم بل ومراجعتهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم في بعض المواقف والمسائل والتي كانت على سبيل المشاورة والمناصحة ولم تكن على سبيل الجدل بمعناه المطلق الذي يعني المغالبة والمنازعة والإلزام .

3 - تخصيص معنى الجدل المقبول عن مطلق الجدل ليكون كما جاء في كتاب الله  ( بالتي هي أحسن ) وهو يقرب من معنى المناظرة التي يقصد فيها إظهار الصواب , وتعريف الجدل بالتي هي أحسن بأنه المناظرة مما قال به عدد من العلماء كما سبقت الإشارة إليه .

بل إن بعض العلماء ينزع إلى استخدام لفظة المناظرة لدلالتها المباشرة على الجدل المشروع وبخاصة عندما يشار إلى جدل الأنبياء عليهم الصلاة والسلام , ولهذا نجد الشيخ حافظ الحكمي رحمه الله يقول في عنونته لأحد مباحثه في كتابه القيم معارج القبول : " مناظرة الرسل لأعداء الله "( ) وذلك في وصف فعل الأنبياء , كما نجد ابن كثير رحمه الله يصف فعل المشركين بالجدل فيقول :     " ومجادلة المشركين لأنبيائهم "( ) .

ولقد غلب في الثقافة الإسلامية مصطلح المناظرة بدلا من الجدل .

4- التأثير في التطبيقات العملية للمجادلات والمناظرات من قبل الأطراف الإسلامية , ومن ذلك ما حمله لنا التراث الإسلامي من مناظرات فيما بين المسلمين أنفسهم كمناظرة ابن عباس للخوارج أو مع غيرهم من اليهود والنصارى والمشركين , بل حتى ما شهدناه في عصرنا هذا وبخاصة ممن يحمل علماً بالشريعة أكثر من غيره( ), كل ذلك ظهر فيه أثر الضبط الإسلامي للجدل وتوجيهه ليكون للوصول إلى الحقائق والدلالة عليها تحت إطـار التوجيه الرباني â بالتي هي أحسن á مما يجعلنا نصل إلى نتيجة هامة هي : أن نظرة تحليلية لتاريخ الجدل تدلنا أن الإنسان كلما كان أقرب إلى الوحي الإلهي الثابت في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وأعلم به فإنه أكثر انضباطاً وأحسن اختلافاً وأعدل مع غيره ممن لا يوافقونه في المعتقد أو الرأي , وأن البعد عن التوجيه الرباني في ذلك يجعل حظوظ النفس وأهواءها حاضرة ظاهرة في كثير من الحوارات والاختلافات , والله المستعان .

 

 

الفصل الثاني : مشروعية المجادلة في مجال الدعوة وأهميتها:

المبحث الأول : مشروعية الجدل في القرآن الكريم :

باستقراء النصوص الواردة في القرآن الكريم عن الجدل نجد أنه يمكن تصنيفها إلى ثلاثة أصناف  :

أ - النصوص التي وردت فيها لفظة الجدل .

ب-النصوص التي وردت فيها مجادلات ومناظرات الرسل وصـالحي البشر .

ج - النصوص التي تعلي من شأن الاحتجاج الصحيح والدعوة به وقيمته في نصرة الحق.

وسيكون تفصيل ذلك فيما يلي بعون الله وتوفيقه :

أ - النصوص التي وردت فيها لفظة الجدل :

جاءت لفظة الجدل وما تصرف منها في كتاب الله الكريم في 29 موضعاً , وباستقرائها بالنظر إلى المشروعية نجد أنه يمكن تصنيفها في ثلاثة أطر :

الإطار الأول : النصوص الواردة في المدح والندب لاستخدام الجدل :

وهذه النصوص محصورة فيما جاء في قوله تعالى :

              ( ).

وفي قوله تعالى:           ( ).

 

الإطار الثاني : النصوص التي ورد فيها ذم الجدل وهي كثيرة ويمكن إجمالها بما يلي :

1 - ما ورد في ذم الجدل بغير علم كقوله تعالى :

  ••            ( ).

2 - ما ورد في ذم المجادل في الحق بعدما تبين كقوله تعالى :

      •  ( ).

3 - ما ورد في ذم الجدل بالباطل لرد الحق كقوله تعالى :

     •  ( ).

4 - ما ورد في ذم الجدل في آيات الله – على وجه المخاصمة والاعتراض -  كقوله تعالى :           ( ).

وقوله تعالى :                   ( ).

وقوله تعالى :  •               •    ( ).

وقوله تعالى :            ( ).

وهذه النصوص - الواردة في الإطار الثاني - يلحظ فيها أن لفظة الجدل مطلقة غير مقيدة ولا مستثناة , كما أن سياقها يدل على ما هو شائع من معنى الجدل الذي هدفه المغالبة والمنازعة والاعتراض الذي يكون به دفع الحق ورده إذا لم يوافق هوى المجادل .

كما أن في هذه النصوص أيضاً معاني أخرى في الجدل المحض مثل أن يكون بلا علم أو الجدل في الحق بعدما تبين , مما يؤكد على أن الاستثناء والقيد بالتي هي أحسن الوارد في الإطار الأول يعني خلاف ذلك تماماً .

الإطار الثالث : نصوص قد لا يظهر فيها المدح أو الذم وربما حصل توهم في فهمها وجعلها في المدح وربما الاستدلال بها في المشروعية وهي ليست كذلك  .

وهذه النصوص هي :

قوله تعالى :              ( ).

وقوله تعالى :         ( ).

وقوله تعالى :                 ( ).

 

أما الآية الأولى فإن إبراهيم عليه الصلاة والسلام لم يقر على جداله ذلك ,  فقد قال تعالى بعد تلك الآية :       ( ) قال الإمام الطبري : " يقول تعالى ذكره مخبراً عن قول رسله لإبراهيم: يا إبراهيم أعرض عن هذا , وذلك قيلهم له حين جادلهم في قوم لوط فقالوا : دع عنك الجدال في أمرهم والخصومة فيه فإنه قد جاء أمر ربك بعذابهم وحق عليهم كلمة العذاب، ومضى فيهم بهلاكهم القضاء "( ).

وأما الآية الثانية فإن قوم نوح عليه الصلاة والسلام قصدوا ذمه فوصفوه بالجدل والإكثار منه , وليس هذا الوصف منه لنفسه وليس من الله عز وجل له،  بل إنه عليه الصلاة والسلام يصف فعله بالنصيحة , فيقول كما ذكر الله تعالى عنه :           ( ) وكما في قوله تعالى:        ( ).

أما الآية الثالثة الواردة في سورة المجادلة فلا تعدو أن تكون وصفاً دقيقاً لشدة مراجعة هذه المرأة وهي خولة بنت ثعلبة رضي الله عنها لرسول الله صلى الله عليه وسلم في مسألة ظهار زوجها لها , فلا تقتضي المدح ولا الذم .

ويدل على ذلك الحديث الذي روته أم المؤمنين عائشة رضي  الله عنها قالت : " تبارك الذي وسع سمعه كل شيء ؛ إني لأسمع كلام خولة بنت ثعلبة ويخفى علي بعضه ، وهي تشتكي لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهي تقول : يا رسول الله أكل شبابي ونثرت له بطني حتى إذا كبرت سني وانقطع له ولدي ظاهر مني , اللهم إني أشتكي إليك . قالت عائشة : فما برحت حتى نزل جبريل عليه السلام بهؤلاء الآيات â قد سمع الله قول التي تجادلك في زوجها á قال : وزوجها أوس بن الصامت " أخرجه الحاكم وقال : هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه , ووافقه الذهبي .( )

يقول الشوكاني رحمه الله : " والمجادلة هذه الكائنة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه كلما قال لها : حرمت عليه , قالت : والله ما ذكر طلاقاً , ثم تقول أشكو إلى الله فاقتي ووحدتي وأن لي صبية صغاراً إن ضممتهم إليه ضاعوا وإن ضممتهم إلي جاعوا , وجعلت ترفع رأسها إلى السماء وتقول : اللهم إني أشكو إليك "( ) .

كما أن ( تجادلك ) فيها قراءة أخرى وهي (  تحاورك)( ) .

وذكر ابن جرير الطبري فيها قراءة أخرى أيضاً وهي ( تحاولك )( )  .

ومعلوم أن المحاورة أو المحاولة لا يقتضي أن تكون جدلا .

لكن مع هذا فهذه الآية بالقراءة المشهورة ( تجادلك ) تدل على دقة الوصف القرآني لحال هذه المرأة وشدة مراجعتها لرسول الله صلى الله عليه وسلم , وذلك لا يقتضي الذم ولا المدح ولا تبنى عليه المشروعية وإنما هو الخبر والوصف الدقيق عن الحادثة والله أعلم .

ولو قلنا إن السياق الوارد فيه هذه اللفظة ( تجادلك ) يقتضي المدح لكان سائغاً مراجعة أحكام الله ورسوله والأمر خلاف ذلك تماما فإن الله تعالى يقول :                      ( ).

وبذلك يتبين أن مشروعية الجدل في القرآن الكريم بالنظر إلى الآيات الوارد فيها لفظة الجدل تنحصر في الآيتين التي ورد فيهما قيده بالتي هي أحسن دون ما عداهما .

ب- النصوص التي وردت فيها مناظرات الرسل لأقوامهم ومجادلة المشركين لأنبيائهم :

ومن ذلك ما ذكر في القرآن الكريم عن مناظرات أولي العزم من الرسل مثل مناظرات نوح عليه الصلاة والسلام لقومه , ومناظرات إبراهيم عليه الصلاة السلام للنمرود وعبدة الكواكب , ومناظرات موسى عليه الصلاة والسلام لفرعون وللسحرة ومناظرات عيسى عليه الصلاة والسلام لقومه ومناظرات محمد صلى الله عليه وسلم لمشركي العرب ولليهود والنصارى .

وغيرها من المناظرات لبقية الرسل وصالحي البشر الذين ورد ذكر محاوراتهم ومناظراتهم في القرآن الكريم .

وحيث إننا أمرنا باتخاذهم أسوة وقدوة كما قال تعالى :               ( ) فإن من التأسي بهم القيام بالمناظرة والمجادلة الشرعية عند الحاجة إليها في مقام الدعوة إلى دين الله عز وجل .

ج - النصوص التي تشير إلى فضل الاحتجاج الصحيح والدعوة به وقيمته في نصرة الحق , ومعلوم أن ذلك هو ما تقوم عليه المناظرات والمجادلات الشرعية . ومن ذلك :

قوله تعالى :      ( ).

وقوله تعالى :         ( ).

وقوله تعالى :            ( ).

وقوله تعالى :                 ( ).

وقوله تعالى :       ( ).

وغيرها من الآيات التي استدل بها عدد من العلماء في القديم والحديث في هذا السياق ( ).

المبحث الثاني : مشروعية الجدل في السنة النبوية :

يمكن النظر إلى مشروعية الجدل في السنة النبوية من خلال جوانب السنة الثلاثة : قوله وفعله وتقريره عليه الصلاة والسلام .

أما في قوله عليه الصلاة والسلام فلم أقف على أحاديث تأمر بالجدل ولكن هناك أحاديث عامة تأمر بمجاهدة المشركين والمبطلين بأنواع المجاهدة ومنها المجاهدة باللسان , ومعلوم أن الجدل الشرعي والمناظرة في مقام الدعوة ومع المبطلين خاصة من أظهر أنواع المجاهدة باللسان مع شمول ذلك لأنواع الكلام من النصيحة والتعليم والوعظ وغير ذلك .

ومن هذه الأحاديث :

حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :"ما من نبي بعثه الله في أمة قبلي إلا كان له حواريون وأصحاب يأخذون بسنته ويقتدون بأمره , ثم إنها تخلف من بعدهم خلوف يقولون ما لا يفعلون ويفعلون ما لا يؤمرون فمن جاهدهم بيده فهو مؤمن ومن جاهدهم بلسانه فهو مؤمن ومن جاهدهم بقلبه فهو مؤمن وليس وراء ذلك من الإيمان حبة     خردل "( ) .

ومنه حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " من رأى منكم منكرا فليغيره بيده فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع فبقلبه وليس وراء ذلك من الإيمان حبة خردل "( )

ومنه حديث أنس بن مالك رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قـال : " جاهدوا المشركين بأموالكم وأنفسكم وألسنتكم "( ).

أما فعله فقد ثبت أنه صلى الله عليه وسلم ناظر أصنافاً من الناس ؛ من المشركين من قريش والعرب وناظر اليهود في المدينة وناظر وفد نصارى نجران وغيرهم .

وقد أشرنا إلى شيء من ذلك آنفاً في المبحث الثالث من الفصل الأول .

قال ابن القيم رحمه الله تعالى في فقه قصة وفد نصارى نجران : " ومنها جواز مجادلة آهل الكتاب ومناظرتهم بل استحباب ذلك بل وجوبه إذا ظهرت مصلحته من إسلام من يرجى إسلامه منهم وإقامة الحجة عليهم ولا يهرب من مجادلتهم إلا عاجز عن إقامة الحجة فليول ذلك إلى أهله وليخل بين المطي وحاديها والقوس وباريها "( ) .

أما تقريره عليه الصلاة والسلام فقد ورد أنه أقر عمر رضي الله عنه في مناظرته لليهود وعندما رجع عمر ليخبر النبي صلى الله عليه وسلم وجد أن جبريل قد سبقه بالوحي " فدعاه النبي صلى الله عليه وسلم فقرأ عليه :        •                          ( ) , قال عمر: والذي بعثك بالحق لقد جئت وما أريد إلا أن أخبرك "( ).

قال ابن عبد البر رحمه الله تعليقاً على هذه الحادثة : " فهذا مما صدق الله فيه قول عمر واحتجاجه "( ) يقصد رد عمر رضي الله عنه على اليهود تركهم الإيمان بالرسول صلى الله عليه وسلم لكون صاحبه الذي يأتيه بالوحي جبريل وليس ميكائيل , وكلاهما مقرب من الله عز وجل , فمن كان عدواً لأحدهما فهو عدو للآخر ومن كان عدواً لهما فهو عدو لله .

وقد أكد أئمة الإسلام هذه المشروعية يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله : " من لم يناظر أهل الإلحاد والبدع مناظرة تقطع دابرهم لم يكن أعطى الإسلام حقه ولا وفى بموجب العلم والإيمان ولا حصل بكلامه شفاء الصدور وطمأنينة النفوس "( ) .

وهذا موجه إلى القادر عليها أما العاجز فقد قال الشيخ رحمه الله : " وقد ينهون - أي السلف – عن المجادلة والمناظرة إذا كان المناظر ضعيف العلم بالحجة وجواب الشبهة فيخاف أن يفسده ذلك المضل كما ينهى الضعيف في المقاتلة أن يقاتل علجاً قوياً من علوج الكفار فإن ذلك يضره ويضر المسلمين بلا منفعة "( ).

وقد اختلف الصحابة رضوان الله عليهم فيما بينهم وتناظروا وتجادلوا لكن كان على وجه المشاورة والمناصحة ( ) .

المبحث الثالث : أهمية المجادلة في مجال الدعوة :

لا شك أن أول ما ينظر إليه في أهمية المجادلة في مجال الدعوة هو كونها مشروعة بنصوص القرآن الكريم والسنة النبوية وفق ضوابطها التي تميزها عن مطلق الجدل .

وهناك جوانب أخرى تؤكد هذه الأهمية وتوضحها , وسنعرض لها في ثلاثة محاور :

الأول : الأهمية باعتبار الحاجة إليها مع بعض المدعوين.

الثاني : الأهمية باعتبار أثرها في إظهار الحق وقطع الباطل.

الثالث : الأهمية بالنظر إلى نتائج نماذج منها في تاريخ الدعوة .

أولا : الأهمية باعتبار الحاجة إليها مع بعض المدعوين :

خلق الله الخلق وفطرهم على الحنيفية  , كما أرسل سبحانه رسله وأنزل كتبه ليدلوا الخلق على مراد الله تعالى منهم , وعندما تكون الفطر سليمة فإنها أقرب ما تكون لقبول الحق الذي تدعى إليه , وعندما تكون قد تأثرت أو حصل لها نوع تشويش فإننا تتردد فيه , ولربما عاندته وردته , ولذلك فإن من ملامح صحة هذا الدين ودلائل ربانيته وكماله وصلاحه أن تعامل بواقعية مع هذه المسألة , بأن ندب إلى الجدل مع هؤلاء بضوابط وشروط معينة .

وقد تحدث العلماء عن موقف الناس من الحق بأنهم ثلاثة أصناف : قابل وغافل ومعاند وذلك في معرض تفسيرهم لقول الله تعالى :               ( ).

وأفضل من فصل في هذه المسألة - فيما اطلعت عليه - شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله , يقول في ذلك :

" الناس ثلاثة أقسام :

إما أن يعترف بالحق ويتبعه فهذا صاحب الحكمة.

وإما أن يعترف به لكن لا يعمل به فهذا يوعظ حتى يعمل .

وإما أن لا يعترف به فهذا يجادل بالتي هي أحسن لأن الجدال فيه مظنة الإغضاب , فإذا كان بالتي هي أحسن حصلت منفعته بغاية الإمكان كدفع الصائل "( ) .

ويقول رحمه الله :

" فالآيات لمن إذا عرف الحق عمل به فهذا تنفعه الحكمة .

و الإنذار لمن يعرف الحق، و له هوى يصده فينذر بالعذاب الذي يدعوه إلى مخالفة هواه وهو خوف العذاب و هذا هو الذي يحتاج إلى الموعظة الحسنة .

و آخر لا يقبل الحق فيحتاج إلى الجدل فيجادل بالتي هي أحسن "( ).

ويقول في موضع آخر :

" الإنسان له ثلاثة أحوال :

إما أن يعرف الحق ويعمل به .

وإما أن يعرفه ولا يعمل به .

وإما أن يجحده .

فأفضلها أن يعرف الحق ويعمل به .

والثاني أن يعرفه لكن نفسه تخالفه فلا توافقه على العمل به .

والثالث من لا يعرفه بل يعارضه .

فصاحب الحال الأول هو الذي يدعى بالحكمة فإن الحكمة هي العلم بالحق والعمل به ، فالنوع الأكمل من الناس من يعرف الحق ويعمل به فيدعون بالحكمة .

والثاني من يعرف الحق لكن تخالفه نفسه فهذا يوعظ الموعظة الحسنة .

فهاتان هما الطريقان الحكمة والموعظة وعامة الناس يحتاجون إلى هذا وهذا فإن النفس لها أهواء تدعوها إلى خلاف الحق وإن عرفته ,  فالناس يحتاجون إلى الموعظة الحسنة وإلى الحكمة فلا بد من الدعوة بهذا وهذا .

وأما الجدل فلا يدعى به بل هو من باب دفع الصائل فإذا عارض الحق معارض جودل بالتي هي أحسن ولهذا قال ( وجادلهم ) فجعله فعلا مأموراً به مع قوله ادعهم فأمره بالدعوة بالحكمة والموعظة الحسنة وأمره أن يجادل بالتي هي أحسن .

وقال في الجدال: ( بالتي هي أحسن ) ولم يقل: بالحسنة، كما قال في الموعظة،لأن الجدال فيه مدافعة ومغاضبة فيحتاج أن يكون بالتي هي أحسن حتى يصلح ما فيه من الممانعة والمدافعة , والموعظة لا تدافع كما يدافع المجادل .

فما دام الرجل قابلا للحكمة أو الموعظة الحسنة أو لهما جميعاً لم يحتج إلى مجادلة فإذا مانع جودل بالتي هي أحسن  "( ) .

وقال الإمام ابن القيم رحمه الله :

" قال تعالى :               ( ) فذكر سبحانه مراتب الدعوة وجعلها ثلاثة أقسام بحسب حال المدعو :

فإنه إما أن يكون طالباً للحق راغباً فيه محباً له مؤثراً له على غيره إذا عرفه فهذا يدعى بالحكمة ولا يحتاج إلى موعظة ولا جدال .

وإما أن يكون معرضاً مشتغلا بضد الحق ولكن لو عرفه عرفه وآثره واتبعه فهذا يحتاج مع الحكمة إلى الموعظة بالترغيب والترهيب .

وإما أن يكون معانداً معارضاً فهذا يجادل بالتي هي أحسن فإن رجع إلى الحق وإلا انتقل معه من الجدال إلى الجلاد إن أمكن "( ).

وكلامهما رحمهما الله متفق في أن المدعوين تتنوع أساليب دعوتهم , وكلها يحتاج إليها بحسب موقفهم من الحق الذي يدعون إليه .

ثانياً : الأهمية باعتبار أثرها في إظهار الحق وقطع الباطل :

لا شك أن الحق الذي جاء به محمد صلى الله عليه وسلم يحتاج إلى من يسنده ويظهره في مواجهة المبطلين والمخالفين , والقيام بذلك من لوازم الإيمان ومقتضياته .

وإذا تأملنا في بعض الأدلة التي سبق إيرادها في المشروعية يتبين ذلك بجلاء .

يقول الإمام ابن القيم رحمه الله :

" لمناظرة المبطل فائدتان : أحدهما أن يرد عن باطله ويرجع إلى الحق .

الثانية أن ينكف شره وعداوته ويتبين للناس أن الذي معه باطل .

وهذه الوجوه كلها لا يمكن أن تنال بأحسن من حجج القرآن ومناظرته للطوائف فإنه كفيل بذلك على أتم الوجوه لمن تأمله وتدبره ورزق فهما فيه .

وحججه مع أنها في أعلى مراتب الحجج , وهي طريقة أخرى غير طريقة المتكلمين وأرباب الجدل والمعقولات فهي أقرب شيء تناولا وأوضح دلالة وأقوى برهاناً وأبعد من كل شبهة وتشكيك  "( ) .

ثالثاً : الأهمية بالنظر إلى نتائج نماذج منها في تاريخ الدعوة :

تتأكد أهمية المناظرة والجدل في مجال الدعوة بنظرة تأمل لشيء من روائع المناظرات في تاريخ الدعوة .

ولا شك أن القدح المعلى والنصيب الأوفى في ذلك هو لصاحب الرسالة ونبي الله الخاتم محمد صلى الله عليه وآله وسلم  , فهو المؤيد بالوحي من ربه , قال تعالى :             ( ) , وقد ظهر باحتجاجه ومناظراته صلى الله عليه وسلم على المشركين واليهود والنصارى كما أسلفنا .

وهناك مناظرة ابن عباس رضي الله عنهما للخوارج إذ رد الله بها خلقاً كثيراً يقول شيخ الإسلام ابن تيمية : " وكذلك علي رضي الله عنه بعث  ابن  عباس إلى الخوارج  فناظرهم ثم رجع نصفهم ثم قاتل الباقين " ( ) .

وهناك مناظرات الإمام أحمد " في خلافة المعتصم بعد أن بقي في الحبس أكثر من سنتين وجمعوا له أهل الكلام من البصرة وغيرها من الجهمية والمعتزلة والنجارية مثل أبي عيسى محمد بن عيسى برغوث صاحب حسين النجار وناظرهم ثلاثة أيام وقطعهم في تلك المناظرات "( ).

ومناظرة عبد العزيز الكناني لبشر المريسي في خلق القرآن إذ كانت من أسباب ارتفاع محنة عظيمة كان قد ذهب بسببها خلق من المسلمين فأزهقت أنفس معصومة وانتهكت حرمات مصونة ( ).

ومن ذلك مناظرة جرت بين المسلمين والنصارى أمام أحد ملوك التتار وهو الملك بركة خان فكان من نتائجها أن أسلم  الملك ,  ويعد أول ملوكهم  إسلاماً .( )

وفي الهند إبان الاحتلال الإنجليزي لها نشطت حركة التنصير وبث الشبهات بين المسلمين وبسبب ذلك عقدت مناظرة كبرى بين الشيخ رحمت الله الهندي والقس فندر واتفقا على أن المهزوم يدخل في دين المنتصر ويترك دينه , وبدأت المناظرة وفاقت حجج الطرف الإسلامي حجج خصمه , وأثبت الشيخ رحمت الله في اللقاء الأول التحريف في كتاب النصارى في ثمانية مواضع , فلم يتابع النصراني هذه المناظرة وغادر مدينة أكبر أباد التي عقدت فيها المناظرة سراً في اليوم الثالث , فتشجع المسلمون وارتفعت معونياتهم في مواجهة المنصرين .( )

ولو ذهبنا نستقرئ المواقف التي رفعت فيها راية السنة مقابل البدعة وراية الإسلام مقابل الكفر في مثل هذه المناظرات والمجادلات الشرعية لطال بنا المقام،  ولكن حسبنا الإشارة فيما ذكر .

ومما يجدر التنبيه عليه هو أن الانتصار ليس هدفاً ولا غاية , وإنما الهدف ظهور الحق وإقامة الحجة             ( ).

===================

الفصل الثالث : ضوابط الدعوة بالمجادلة :

توطئة :

إن استقراء النصوص الشرعية وتطبيقات السلف رضوان الله عليهم تقودنا إلى أن الدعوة بالمجادلة لها ثلاثة جوانب :

ما قبل قيام الجدل، وأثناءه، وبعده .

وسنعرض لهذه المراتب الثلاث بشيء من التفصيل في هذه الفصل بإذن الله .

المبحث الأول : ضوابط قبل قيام المجادلة :

تبين مما سبق ما هو الجدل المشروع فهو أسلوب لإقامة الحجة وإظهار الحق بين الناس على من خالفه أو جهله , وبالتالي فليس استخدام هذا الأسلوب في التعامل مع المخالف أو في مقام الدعوة في كل حال .

بل لا بد من النظر في أمور عدة قبل قيام هذا الجدل .

ويمكن أن نجملها بالأمور الآتية:

أولا : تقديم أسلوبي الحكمة والموعظة الحسنة والبدء بهما , وهذا مأخوذ من قوله تعالى :               ( ).

يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله : " ما دام الرجل قابلا للحكمة والموعظة الحسنة أو لهما جميعاً لم يحتج إلى مجادلة , فإذا مانع جودل بالتي هي أحسن "( ) .

وبذلك يتبين أن الحكمة والموعظة الحسنة قد تكفي مع المدعو , وإن كان مجادلا جودل بضوابط الشريعة وليس بأعراف أهل الجدل .

وهذا مظهر من مظاهر عظمة هذا الدين وربانيته , ودليل على ما فيه من الواقعية بحيث لا يغفل أن فئات من الناس قد يحتاج معهم إلى الجدل ولذلك وجه إلى مجادلتهم .

ثانياً : ليس كل من دعا إلى الجدل أو المناظرة يجاب في كل حال فلا بد من النظر إلى المصلحة وظهورها أو رجحانها .

فقد يكون طالب الجدل أو المناظرة صاحب باطل ليس قصده طلب الحق , وإنما نشر باطله أو رغبة في شهرته ونحو ذلك . فهذا لا يجاب إليها فله أحكام أخرى تحكمه من الهجر أو التعزير بعقوبات أخرى .

قال شيخ الإسلام ابن تيمية  رحمه الله : " والكلام الذي ذموه – أي السلف - نوعان :

أحدهما أن يكون في نفسه باطلا وكذباً ؛ وكل ما خالف الكتاب والسنة فهو باطل وكذب , فإن أصدق الكلام كلام الله  .

والثاني أن يكون فيه مفسدة مثلما يوجد في كلام كثير منهم من النهي عن مجالسة أهل البدع ومناظرتهم ومخاطبتهم والأمر بهجرانهم , وهذا لأن ذلك قد يكون أنفع للمسلمين من مخاطبتهم , فإن الحق إذا كان ظاهراً قد عرفه المسلمون وأراد بعض المبتدعة أن يدعو إلى بدعته فإنه يجب منعه من ذلك , فإذا هجر وعزر كما فعل أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه بصبيغ بن عسل التميمي وكما كان المسلمون يفعلونه ؛ أو قتل كما قتل المسلمون الجعد ابن درهم وغيلان القدري وغيرهما ؛ كان ذلك هو المصلحة ، بخلاف ما إذا ترك داعياً وهو لا يقبل الحق إما لهواه , وإما لفساد إدراكه فإنه ليس في مخاطبته إلا مفسدة وضرر عليه وعلى المسلمين "( ).

أما الإعراض عن المبتدع والمبطل ففيه قول الله تعالى :                • •          ( ).

قال الإمام القرطبي رحمه الله : " في هذه الآية رد من كتاب الله عز وجل على من زعم أن الأئمة الذين هم حجج وأتباعهم لهم أن يخالطوا الفاسقين ويصوبوا آراءهم تقية، وذكر الطبري عن أبي جعفر محمد بن علي رضي الله عنه أنه قال: لا تجالسوا أهل الخصومات فإنهم الذين يخوضون في آيات الله .

قال ابن العربي: وهذا دليل على أن مجالسة أهل الكبائر لا تحل، قال ابن خويز منداد: من خاض في آيات الله تركت مجالسته وهجر مؤمناً كان أو كافراً، قال: وكذلك منع أصحابنا الدخول إلى أرض العدو ودخول كنائسهم والبيع ومجالس الكفار وأهل البدع وألا تعتقد مودتهم ولا يسمع كلامهم ولا مناظرتهم، وقد قال بعض أهل البدع لأبي عمران النخعي: اسمع مني كلمة فأعرض عنه، وقال: ولا نصف كلمة ومثله عن أيوب السختياني، وقال الفضيل بن عياض: من أحب صاحب بدعة أحبط الله عمله وأخرج نور الإسلام من قلبه ومن زوج كريمته من مبتدع فقد قطع رحمها ومن جلس مع صاحب بدعة لم يعط الحكمة وإذا علم الله عز وجل من رجل أنه مبغض لصـاحب بدعة رجوت أن يغفر الله له"( ).

وفي النهي عن مجادلة المبتدعة ومناظرتهم إذا علم أنها تتسبب في ظهور دعوتهم يقول الإمام اللالكائي رحمه الله : " فما جنى على المسلمين جناية أعظم من مناظرة المبتدعة , ولم يكن لهم قهر ولا ذل أعظم مما تركهم السلف على تلك الجملة يموتون من الغيظ كمداً ودرداً , ولا يجدون إلى إظهار بدعتهم سبيلا , حتى جاء المغرورون ففتحوا لهم إليها طريقاً , وصاروا إلى هلاك الإسلام دليلا , حتى كثرت بينهم المشاجرة وظهرت دعوتهم بالمناظرة وطرقت أسماع من لم يكن عرفها من الخاصة والعامة "( ).

ويقول رحمه الله في مكان آخر: " أخبرنا أحمد بن عبيد قال أخبرنا محمد بن الحسن قال حدثنا أحمد بن زهير قال حدثنا أحمد بن عبد الله بن يونس قال حدثنا زايدة بن قدامة عن هشام قال كان الحسن يقول : لا  تجالسوا أهل  الأهواء ولا تجادلوهم ولا تسمعوا منهم  "( ) .

وكان الإمام أبو الحسن الأشعري رحمه الله يرى أن مناظرة المعتزلة بدعة     " لأن السلف كانوا يرون مكالمة أهل البدع ومناظرتهم خطأً وسفهاً ... فلما ظهرت فيما بعد أقوال أهل البدع واشتهرت وعظمت البلوى بفتنتهم على أهل السنة وانتشرت انتدب للرد عليهم ومناظرتهم أئمة أهل السنة لما خافوا على العوام من الابتداع والفتنة "( ).

المبحث الثاني : ضوابط أثناء المجادلة :

إذا ترجحت مصلحة قيام المجادلة في مقام الدعوة إلى دين الله تعالى  فإن هناك عدداً من الأمور التي يجب أن تصحب ذلك , ويمكن أن نجملها في الأمور الآتية :

أولاً : أن يحرص المسلم أن يكون جدله شرعياً وقد بينا أن الجدل الشرعي غير مطلق الجدل وأنه هو الوارد مقيداً في كتاب الله تعالى بأن يكون بالتي هي أحسن وهو في معنى المناظرة التي يقصد فيها إظهار الصواب وليس الغلبة والإفحام .

ثانياً : أن يكون الطرف الإسلامي قادراً على المناظرة .

فإذا ترجحت مصلحة قيام المناظرة فلا بد من تحقق شروط القدرة في من سيتولى المناظرة أمام صاحب الباطل والبدعة .

فليس كل من عرف الحق قدر على تعريف غيره به , قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه  الله :  "  ليس كل من عرف الحق إما بضرورة أو بنظر أمكنه أن يحتج على من ينازعه بحجة تهديه أو تقطعه , فإن ما به يعرف الإنسان الحق نوع  وما به يعرفه به غيره نوع , وليس كل ما عرفه الإنسان أمكنه تعريف غيره به ؛ فلهذا كان النظر أوسع من المناظرة ، فكل ما يمكن المناظرة به يمكن النظر فيه وليس كل ما يمكن النظر فيه يمكن مناظرة كل أحد به "( )

ويقول رحمه الله : " وقد ينهون – أي السلف - عن المجادلة والمناظرة إذا كان المناظر ضعيف العلم بالحجة وجواب الشبهة فيخاف عليه أن يفسده ذلك المضل كما ينهى الضعيف في المقاتلة أن يقاتل علجاً قوياً من علوج الكفار فإن ذلك يضره ويضر المسلمين بلا منفعة "( ) .

وهذه القدرة أظهر ما تكون في ثلاثة جوانب  :

*القدرة العلمية في الموضوع المتناظر فيه .

*القدرة الذهنية والفطنة في سرعة استحضار الأدلة والردود المناسبة .

*القدرة التعبيرية التي تحقق جزالة العرض والاستدلال وبلاغته ووجازته .

يقول ابن عبد البر رحمه الله : " قال بعض  العلماء : كل مجادل عالم وليس كل عالم مجادلا , يعني أنه ليس كل عالم يتأتى له الحجة ويحضره الجواب ويسرع إليه الفهم بمقطع الحجة , ومن كانت هذه خصاله فهو أرفع العلماء وأنفعهم مجالسة ومذاكرة , والله يؤتي فضله من يشاء والله ذو الفضل      العظيم "( ) .

ثالثاً : إخلاص النية لله تعالى في المجادلة , والحذر من أن يدخل فيها شيء مخالف أو مضاد أو مفسد للإخلاص , فمقام الجدل والمناظرة مظنة للزلل وغلبة الهوى وطلب الشهرة وغير ذلك من الأخلاق الذميمة في دخائل النفوس .

يقول الإمام الغزالي ناصحاً تلميذه بأمور منها : " أن لا تناظر أحداً في مسألة ما استطعت ؛ لأن فيها آفات كثيرة ، فإثمها أكبر من نفعها إذ هي منبع كل خلق ذميم كالرياء والحسد والكبر والحقد والعداوة والمباهاة وغيرها " ثم يعقب بحل هذه المعضلة بجواب في غاية الدقة بأنك إذا كنت لا بد فاعلا فلتتبين صدقك في إرادة الحق من خلال علامتين :

" إحداهما : أن لا تفرق بين أن ينكشف الحق على لسانك أو على لسان غيرك .

والثانية : أن يكون البحث في الخلاء أحب إليك من أن يكون في الملأ "( ).

رابعاً : العدل مع الخصم في المجلس والهيئة والوقت وإعطاء الفرصة في عرض الأدلة وقبول الحق منه والعودة عن الخطأ , بل والتأسيس على فرضية أن الحق أو الخطأ يمكن أن يكون في كلام أي من الطرفين كما قال تعالى :            ( )  وذلك على وجه الإنصاف في المجادلة , وليس من باب الشك فيها , قال الإمام البغوي :

" ليس هذا على طريق الشك ولكن على جهة الإنصاف في الحجاج كما يقول القائل للآخر، أحدنا كاذب، وهو يعلم أنه صادق وصاحبه كاذب , والمعنى ما نحن وأنتم على أمر واحد بل أحد الفريقين مهتد والآخر ضال "( ) لا سيما إذا تبعه المطالبة بالدليل على الدعوى وهو من الإنصاف والعدل أيضاً كما قال  تعالى :         ( ) .

خامساً : رد التنازع والاختلاف إلى حكم الله ورسوله قال تعالى :           ( ) , وهذا يعني أن المعول عليه أولا وأخيراً في الأمر المتنازع عليه أو المختلف فيه هو حكم الله تعالى الوارد في كتابه أو في سنة رسوله صلى الله عليه وسلم , وليس أعراف الناس أو مذاهبهم أو آراءهم أو عدد أصواتهم ونحو ذلك  , وهذا فيما بين المسلمين واضح , وهو كذلك فيما يقبله المسلم ويوافق عليه مع غير المسلم إذ يكون مرجعه في التصويب والتخطئة والقبول والرد ما يوافق مراد الله تعالى في كتابه وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم .

سادساً : اصطحاب الآداب الرفيعة والأخلاق الحسنة , وذلك أمر يسنده الشرع ويزكيه , كما يرتضيه العقلاء ويقدرونه( ) , وهذه الآداب متضمنة في نصوص شرعية كثيرة منها قوله تعالى:       ( ). وقوله تعالى :       ( ) وقوله تعالى :   ••   ( ) وقوله تعالى :         ( ).

قال ابن كثير رحمه الله : "  وقوله â وجادلهم بالتي هي أحسن á أي من احتاج منهم إلى مناظرة وجدال فليكن بالوجه الحسن برفق ولين وحسن خطاب كقوله تعالى â ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن إلا الذين ظلموا منهم á الآية فأمره تعالى بلين الجانب , كما أمر به موسى وهارون عليهما السلام حين بعثهما إلى فرعون  "( ) .

وقال العلامة ابن سعدي رحمه الله : " فإن كان المدعو يرى أن ما هو عليه حق أو كان داعيه إلى الباطل فيجادل بالتي هي أحسن وهي الطرق التي تكون أدعى لاستجابته عقلا ونقلا من ذلك الاحتجاج عليه بالأدلة التي كان يعتقدها فإنه أقرب إلى حصول المقصود وأن لا تؤدي المجادلة إلى خصام أو مشاتمة تذهب بمقصودها ولا تحصل الفائدة منها بل يكون القصد منها هداية الخلق إلى الحق لا المغالبة ونحوها "( ).

ويقول رحمه الله : " ينهى تعالى عن مجادلة أهل الكتاب إذا كانت عن غير بصيرة من المجادل , أو بغير قاعدة مرضية , وأن لا يجادلوا إلا بالتي هي أحسن ؛ بحسن خلق ولطف ولين كلام , ودعوة إلى الحق وتحسينه , ورد الباطل وتهجينه بأقرب طريق موصل لذلك , وأن لا يكون القصد منها مجرد المجادلة والمغالبة وحب العلو بل يكون القصد بيان الحق وهداية الخلق "( ) .

وهذه الأخلاق والآداب ظاهرة في سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم مع المخالفين , فمثلا في مناظرته مع عتبة بن ربيعة , كان عليه الصلاة والسلام ينصت باهتمام لما يقوله عتبة , بل إنه يتأكد من انتهائه في عرض ما لديه , ويقدره بمناداته بكنيته : " أقد فرغت يا أبا الوليد "( ) .

ولا شك أن اصطحابها في مقام المجادلة والاختلاف سبب بإذن الله في فتح قلب الخصم لقبول الحق ومعين على الرجوع عن الخطأ , فإذا ظلم الآخر ساغ مقابلة ظلمه بغير التي هي أحسن , كما قال تعالى :               ( ) وذلك بالإخشان والمغالظة أو الانتقال معه من الجدال إلى الجلاد , كما سنبينه في المبحث الثالث بإذن الله .

المبحث الثالث : ضوابط بعد حصول المجادلة :

كثيراً ما ترد على الأذهان مسألة تتصل بنهاية الجدل والمناظرة , وفي هذا المبحث يمكن التفصيل من جهتين :

الأولى : النهاية الطبيعية للجدل والمناظرة باعتبارها حدثا ينتهي وقته المحدد، أو ينتهي التناظر فيه لانتهاء المتناظرين وتسليم أحدهما للآخر .

فإذا كان التسليم هو نهاية المناظرة فإن المتوقع ظهور الحق وتسليم المخالف له، وهو الغالب بفضل الله لأن الحق يعلو ولا يعلى عليه , لا سيما مع توافر الأسباب التي أشير إلى شيء منها في المبحثين السابقين , وهذه الظهور للحق من أعلى درجات إقامة الحجة على المخالف , وغاية عمل الداعية ومسؤوليته , ولا يستلزم ذلك بالتأكيد التزام المخالف للحق الذي سلم به , إلا في حالات يكون فيها هذا الالتزام شرطاً مسبقاً بين الطرفين بعضهما أو أمام طرف ثالث راع لمناظرتهما .

وإذا كان التسليم لا يعني بالضرورة الالتزام بنتيجة المناظرة والجدل ؛ فإن أقل ما فيه ظهور الحق للخلق وإقامة الحجة بأجلى صورها , وقد حدث ذلك في قصة وفد نصارى نجران مع رسول الله صلى الله عليه وسلم .

قال ابن حجر في فتح الباري : " وفي قصة أهل نجران من الفوائد أن إقرار الكافر بالنبوة لا يدخله في الإسلام حتى يلتزم أحكام الإسلام "( ).

الثانية : الإنهاء المقصود للمجادلة والمناظرة أو تغييرها إلى أسلوب مواجهة آخر , وهذا أيضاً مظهر آخر من مظاهر واقعية هذا الدين وتشريعاته العظيمة , فليست المناظرات والمجادلات هدفاً لذاتهاً أو ترفاً وعبثاً لا قيمة له بل هي أسلوب يقصد منها إقامة الحجة على الخلق وإظهار الحق والدلالة عليه لمن كان متردداً أو شاكاً فيه .

وهنا لا نعني بإنهاء المجادلة والمناظرة الترك والانسحاب المفاجئ الذي يكون سببه العجز عن المواجهة ، فالعاجز عن المواجهة لا يجوز له التقدم في هذا المقام ابتداء .

وإنما المقصود أن الداعية بذل وسعه وجادل بالتي أحسن وأبان حجته بما لا يدع شبهة لمشتبه , فظهر الحق لكل عاقل ومنصف ، ولكن الخصم ظهر منه أحد هذه الأمور :

أولاً : استمراره - الخصم - في المجادلة بعد قيام الحجة وظهور الحق وجلائه , أو المعاندة والجحود للحق الذي ظهر , فتترك مجادلته أو يدعى إلى المباهلة .

ثانياً : وقوع الظلم من المجادل فينتقل معه من الجدل بالتي هي أحسن إلى غيره .

ثالثاً : بان من المجادل قصد آخر وهو نشر بدعته وباطله وليس طلب الحق فلا يمكن من ذلك بل يواجه بالعقوبات الشرعية الأخرى من الهجر والتعزير , وبخاصة بعد إقامة الحجة عليه بالمجادلة والمناظرة .

وسنعرض إلى هذه المسائل بالتفصيل :

أولاً : استمرار الخصم في المجادلة بعد قيام الحجة وظهور الحق وجلائه , أو المعاندة والجحود للحق الذي ظهر , فتترك مجادلته أو يدعى إلى المباهلة .

يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في النهي عن الاستمرار في المناظرة إذا كان الآخر معانداً مع ظهور الحق له :

" وقد ينهى عنها إذا كان المناظر معانداً يظهر له الحق فلا يقبله وهو السوفسطائي فإن الأمم كلهم متفقون على أن المناظرة إذا انتهت إلى مقدمات معروفة بينة بنفسها ضرورية وجحدها الخصم كان سوفسطائياً ولم يؤمر بمناظرته بعد ذلك بل إن كان فاسد العقل داووه وإن كان عاجزا عن معرفة الحق ولا مضرة فيه تركوه وإن كان مستحقاً للعقاب عاقبوه مع القدرة إما بالتعزير وإما بالقتل وغالب الخلق لا ينقادون للحق إلا بالقهر "( ) .

وقال ابن القيم رحمه الله : " وقد تكون الحجة بمعنى المخاصمة ومنه قوله تعالى :                                       ( ) أي قد وضح الحق واستبان وظهر ؛ فلا خصومة بيننا بعد ظهوره , ولا مجادلة فإن الجدال شريعة موضوعة للتعاون على إظهار الحق فإذا ظهر الحق ولم يبق به خفاء فلا فائدة في الخصومة , والجدال على بصيرة مخاصمة المنكر , ومجادلته عناء لا غنى فيه , هذا معنى هذه الآية "( ).

وقال البيضاوي في التفسير:  " ( لا حجة بيننا وبينكم ) لا حجاج بمعنى لا خصومة إذ الحق قد ظهر ولم يبق للمحاجة مـجال ولا للخلاف مبدأ سوى العناد "( ) .

وقال الثعالبي : " وقوله ( لا حجة بيننا وبينكم ) أي لا جدال ولا مناظرة قد وضح الحق وأنتم تعاندون وفي قوله ( الله يجمع بيننا ) وعيد بين  "( ).

وقال أبو السعود: " (  لا حجة بيننا وبينكم ) لا محاجة ولا خصومة لأن الحق قد ظهر ولم يبق للمحاجة حاجة ولا للمخالفة محل سوى المكابرة  " ( ).

كما يمكن أن ينهى التنازع بالمباهلة وذلك لقطع الاحتجاج فيما لو استمر الخصم بالمجادلة مع ظهور الحق وجلائه .

والمباهلة : " الدعاء على الظالم من الفريقين "( ) وفيها قول الله تعالى :                                 ( ) ، وهي شريعة قائمة .

قال الحافظ ابن حجر رحمه الله في قصة أهل نجران  :" وفيها مشروعية مباهلة المخالف إذا أصر بعد ظهور الحجة وقد دعا ابن عباس إلى ذلك ثم الأوزاعي ووقع ذلك لجماعة من العلماء ومما عرف بالتجربة أن من باهل وكان مبطلا لا تمضي عليه سنة من يوم المباهلة , ووقع لي ذلك مع شخص كان يتعصب لبعض الملاحدة فلم يقم بعدها غير شهرين "( ).

وقال ابن القيم رحمه الله في زاد المعاد في فقه قصة وفد نصارى نجران :      "  ومنها أن السنة في مجادلة أهل الباطل إذا قامت عليهم حجة الله ولم يرجعوا بل أصروا على العناد أن يدعوهم إلى المباهلة , وقد أمر الله سبحانه بذلك رسوله ولم يقل إن ذلك ليس لأمتك من بعدك , ودعا إليه ابن عمه عبد الله بن عباس لمن أنكر عليه بعض مسائل الفروع ولم ينكر عليه الصحابة , ودعا إليه الأوزاعي سفيان الثوري في مسألة رفع اليدين ولم ينكر عليه ذلك وهذا من تمام الحجة "( ) .

ثانياً : وقوع الظلم من المجادل , فينتقل معه من الجدل بالتي هي أحسن إلى غيره .

ودليله ما جاء في قوله تعالى :               ( ) .

وقد أورد الإمام القرطبي قول مجاهد واستحسنه فقال: " قال مجاهد هي محكمة – يعني هذه الآية وأنها غير منسوخة -  فيجوز مجادلة أهل الكتاب بالتي هي أحسن على معنى الدعاء لهم إلى الله عز وجل والتنبيه على حججه وآياته رجاء إجابتهم إلى الإيمان لا على طريق الإغلاظ والمخاشنة وقوله على هذا     â  إلا الذين ظلموا منهم á معناه ظلموكم وإلا فكلهم ظلمة على الإطلاق ... وقوله إلا الذين ظلموا منهم معناه إلا الذين نصبوا للمؤمنين الحرب فجدالهم بالسيف حتى يؤمنوا أو يعطوا الجزية  "( ) .

وقال الجصاص في أحكام القرآن : " وقوله تعالى ( إلا الذين ظلموا منهم ) يعني - والله أعلم - إلا الذين ظلموكم في جدالهم أو غيره مما يقتضي الإغلاظ لهم وهو نحو قوله:               ( ) وقال مجاهد ( إلا الذين ظلموا منهم ) بمنع الجزية وقيل ( إلا الذين ظلموا منهم ) بالإقـامة على كفـرهم بعـد قيام الحجة عليهم "( ) .

إذا فالأصل في الجدال أن يكون بالتي هي أحسن كما قال تعالى أيضاً في سورة النحل : â ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن á وعندما يحصل الظلم ينتقل إلى غير التي هي أحسن .

قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في قوله تعالى : â ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن á "  فأمره تعالى أن يجادل أهل دعوته مطلقاً من المشركين وأهل الكتاب بالتي هي أحسن , وقد قال تعالى â ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن إلا الذين ظلموا منهم á فإن الظالم باغ مستحق للعقوبة فيجوز أن يقابل بما يستحقه من العقوبة لا يجب الاقتصار معه على التي هي أحسن بخلاف من لم يظلم فإنه لا يجادل إلا بالتي هي أحسن "( ) .

ثالثاً : بان من المجادل قصد آخر وهو نشر بدعته وباطله وليس طلب الحق فلا يمكن من ذلك بل يواجه بالعقوبات الشرعية الأخرى من الهجر والتعزير , وخاصة بعد إقامة الحجة عليه بالمجادلة والمناظرة .

قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله : "  والمسلمون أقاموا الحجة على غيلان ونحوه وناظروه وبينوا له الحق كما فعل عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه واستتابه ثم نكث التوبة بعد ذلك فقتلوه ، وكذلك علي رضي الله عنه بعث ابن عباس إلى الخوارج فناظرهم ثم رجع نصفهم ثم قاتل الباقين .

والمقصود أن الحق إذا ظهر وعرف ؛ وكان مقصود الداعي إلى البدعة إضرار الناس ؛ قوبل بالعقوبة , قال الله تعالى :                     ( ) " ( ).

وقال رحمه الله : " فالعقوبة قبل الحجة ليست مشروعة قال تعالى :   •      ( ) ولهذا قال الفقهاء في البغاة إن الإمام يراسلهم فإن ذكروا شبهة بينها وإن ذكروا مظلمة أزالها كما أرسل علي ابن عباس إلى الخوارج فناظرهم حتى رجع منهم أربعة آلاف وكما طلب عمر بن عبد العزيز دعاة القدرية والخوارج فناظرهم حتى ظهر لهم الحق وأقروا به ثم بعد موته نقض غيلان القدري التوبة فصلب "( ).

ومعلوم أن العقوبات التي يواجه بها صاحب البدعة على أنواع ؛ فمنها ما هو ممكن لكل أحد مثل : الهجر والمقاطعة والاجتناب والإعراض ونحو ذلك .

ومنها ما هو ممكن لولي الأمر وصاحب السلطة وذلك في مثل العقوبات التعزيرية البدنية , والله المستعان .

خلاصة البحث وأهم النتائج والتوصيات:

اشتمل هذا البحث الذي عنوانه ( الدعوة إلى الله بالمجادلة: مفهومها ومشروعيتها وضوابطها ) على ثلاثة فصول :

الفصل الأول وفيه بيان لمفهوم الجدل في اللغة والاصطلاح بلفظه المطلق وبقيده الوارد في نصوص القرآن الكريم , تلا ذلك تحليل لتاريخ الجدل في ثلاثة أطر : الإطار الإنساني , وإطار البيئة اليونانية وما دار فلكها , والإطار الإسلامي بالمعنى العام والخاص للإسلام .

وفي الفصل الثاني جرى تناول المشروعية من خلال ما ورد في الكتاب والسنة , وتبع ذلك إيضـاح لأهمية المجادلة في مجال الدعوة إلى دين الله عز وجل .

أما الفصل الثالث وهو الأخير فقد حوى الضوابط للدعوة بالمجادلة وجاء تناول ذلك بالحديث عن الضوابط قبل حصول الجدل وأثناءه وبعده

ويمكن أن نشير إلى أهم النتائج في النقاط الآتية :

الجدل المشروع غير مطلق الجدل فهو أقرب إلى المناظرة التي تهدف إلى إظهار الصواب وليس الغلبة والإفحام , وهو شكل من أشكال الحوار , وهو - أي الجدل - غالب في جنس الإنسان بدلالة النقل والعقل .

للمسلمين عناية خاصة بالجدل استفادوها من توجيهات الكتاب والسنة سواء في المفهوم أو المشروعية أو الضوابط .

الدعوة بالمجادلة لها أهمية تتمثل في أن بعض المدعوين يحتاج إليها معه لإقناعه بالحق وإزالة شبهته بها وإقامة الحجة , ومن جهة أخرى لها أهمية لأثرها في إظهار الحق وقطع الباطل بعامة , كما أن أهميتها تظهر بالنظر إلى نتائجها فعلا في تاريخ الدعوة عند المسلمين ومجادلاتهم ومناظراتهم مع المخالفين في الدائرة الإسلامية أو   خارجها .

للدعوة بالمجادلة ضوابط تسبق إقامتها فقد يستغنى عنها بالحكمة والموعظة الحسنة إذا كان المدعو قابلا , أو قد يعدل عنها ويعرض عن إقامتها ابتداء حتى لو طلبها المخالف إذا كانت المصلحة تقتضي ذلك .

للدعوة بالمجادلة ضوابط تصاحب قيامها يكون التزامها سبباً بإذن الله في نجاحها .

للدعوة بالمجادلة ضوابط تتبع قيام الدعوة بالمجادلة إذ هي أسلوب لإظهار الحق ودعوة الخلق , ومتى تحقق البيان , أو ظهر من المخالف ظلم أو مقصد سيئ في نشر البدعة وطلب الشهرة ؛ كان من المصلحة قطع الاحتجاج بالمباهلة أو إيقاع العقوبة أو الانتقال من الجدال إلى الجلاد .

أبرز التوصيات :

لا شك أن طبيعة هذه البحوث الاختصار والاقتصار على المهمات , وإلا فالموضوع جدير بالتوسع والتناول من زوايا ومداخل شتى , ومن أبرز ما يراه الباحث جديراً بالتوسع عدة أمور أهمها  :

إجراء استقراء لتاريخ الدعوة بالمجادلة والمناظرة في تاريخ الدعوة إلى الإسلام .

القيام بدراسات متعمقة وتحليل دقيق للمناظرات في مجال الدعوة بأطر ومداخل متعددة منها : الموضوع , ومنها العصر ومنها طبيعة المخالف أو دينه أو مذهبه أو غير ذلك .

توظيف قواعد الشريعة وضوابطها في مسائل الحوار المستجدة في هذا العصر من حوار الأديان وحوار الحضارات وغيرها , سواء من حيث الأسلوب أم المضامين .

وهذه الأمور في غاية المنفعة للدعوة والدعاة ؛ مؤسسات وأفراداً في هذا العصر , ومن المصالح الظاهرة فيه اختصار فهم القضايا وأدلتها واستيعاب محل الخلاف مع الغير , وأبرز العوامل المؤثرة في النجاح والفشل في مجال الجدل والمناظرة بخاصة والحوار بعامة  , لا سيما مع تقارب الناس بوسائل الاتصال المختلفة وشيوع ثقافة الحوار والمطالبة به من أمم وطوائف شتى في هذا العصر .

والحمد لله أولا وآخراً وظاهراً وباطناً وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين

قائمة المصادر والمراجع :

القرآن الكريم .

أبجد العلوم , صديق حسن القنوجي , تحقيق د. عبد الجبار زكار , دار الكتب العلمية , بيروت , 1978 م .

أدب الحوار والمناظرة , د. علي جريشة , دار الوفاء , المنصورة , ط1, 1410 هـ .

أحكام القرآن , أحمد بن علي الرازي الجصاص , تحقيق محمد الصادق قمحاوي , دار إحياء التراث العربي , بيروت , 1405 هـ .

إرشاد العقل السليم إلى مزايا القرآن الكريم , محمد بن محمد العمادي أبو السعود , دار إحياء التراث العربي , بيروت .

الاستشراق بين الموضوعية والافتعالية , د. قاسم السامرائي , دار الرفاعي , الرياض , ط1 , 1403 هـ .

أسلوب المناظرة في دعوة النصارى إلى الإسلام , دراسة تحليلية تقويمية للمناظرات التي جرت في أمريكا الشمالية في المدة من 1400 – 1410 هـ , إبراهيم بن صالح الحميدان , رسالة دكتوراه غير منشورة , قسم الدعوة والاحتساب , كلية الدعوة الإعلام , جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية بالرياض 1416 هـ .

أنوار التنزيل وأسرار التأويل ( تفسير البيضاوي )، تحقيق عبد القادر عرفات العشا حسونة , دار الفكر , بيروت , 1416 هـ.

أيها الولد , أبو حامد الغزالي , تحقيق علي محيي الدين علي القره داغي , دار الاعتصام , القاهرة , ط2 , 1405 هـ .

البداية والنهاية , إسماعيل بن عمر بن كثير , مكتبة المعارف , بيروت .

تبيين كذب المفتري فيما نسب إلى الإمام أبي الحسن الأشعري , علي بن الحسن بن هبة الله بن عساكر الدمشقي , دار الكتاب العربي , بيروت , ط3  1404 هـ .

التعريفات , علي بن محمد بن علي الجرجاني , تحقيق إبراهيم الأبياري , دار الكتاب العربي , بيروت , ط1 , 1405 هـ.

تفسير القرآن العظيم , إسماعيل بن عمر بن كثير , دار الفكر , بيروت , 1401 هـ.

تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان , عبد الرحمن بن ناصر السعدي , تحقيق عبد الرحمن بن معلا بن لويحق , مؤسسة الرسالة , بيروت , ط1 , 1423 هـ .

التقريب لحد المنطق , علي بن أحمد بن سعيد بن حزم , تحقيق د. إحسان عباس , دار مكتبة الحياة , بيروت .

التوقيف على مهمات التعاريف , محمد بن عبد الرؤوف المناوي , تحقيق د. محمد رضوان الداية ,دار الفكر المعاصر, دار الفكر, بيروت,دمشق , ط1, 1410 هـ.

جامع بيان العلم وفضله , يوسف بن عبد البر النمري القرطبي ,دار الكتب العلمية,بيروت .

جامع البيان , محمد بن جرير بن يزيد الطبري , دار الفكر , بيروت , 1405 هـ .

الجامع لأحكام القرآن , محمد بن أحمد بن أبي بكر بن فرح القرطبي , تحقيق أحمد عبد العليم البردوني , دار الشعب , القاهرة , ط2 .

الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح , أحمد بن عبد الحليم بن تيمية تحقيق د. علي حسن ناصر وزملائه , دار العاصمة , الرياض , ط1 , 1414 هـ .

الجواهر الحسان في تفسير القرآن , عبد الرحمن بن محمد بن مخلوف الثعالبي  مؤسسة الأعلمي للمطبوعات , بيروت .

الحدود الأنيقة , زكريا بن محمد بن زكريا الأنصاري , تحقيق د. مازن مبارك  دار الفكر المعاصر , بيروت , ط1 , 1411 هـ

الحوار الإسلامي المسيحي – رسالة ماجستير - بسام داود عجك , دار قتيبة , ط1 , 1418 هـ .

الحيدة , عبد العزيز بن يحيى الكناني , رئاسة إدارات البحوث العلمية والإفتاء  الرياض .

الدعوة إلى الإسلام , توماس أرنولد , ترجمة إبراهيم حسن وزملائه , مكتبة النهضة العصرية , القاهرة , ط3 , 1970 م .

درء تعارض العقل والنقل , أحمد بن عبد الحليم بن تيمية , تحقيق د. محمد رشاد سالم , دار الكنوز الأدبية , الرياض , 1391 هـ .

الرد على المنطقيين , أحمد بن عبد الحليم بن تيمية , دار المعرفة , بيروت .

رسالة الآداب في علم آداب البحث والمناظرة , محمد محيي الدين عبد الحميد  المكتبة التجارية الكبرى , القاهرة , ط7 , 1387 هـ .

الرسالة الرشيدية , عبد الرشيد الجونغوري الهندي , تحقيق علي مصطفى الغرابي , مكتبة ومطبعة محمد علي صبيح وأولاده , القاهرة ,  1369 هـ .

روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني , محمود الألوسي , دار إحياء التراث  العربي , بيروت .

رياض الصالحين , يحيى بن شرف النووي ,دار الكتاب العربي, بيروت, ط1 1993 م .

زاد المسير في علم التفسير, عبد الرحمن بن علي بن محمد الجوزي , المكتب الإسلامي , بيروت , ط3 , 1404 هـ .

زاد المعـاد في هدي خير العباد ، محمد بن أبي بكر الزرعي ( ابن قيم الجوزية ) تحقيق شعيب وعبد القادر الأرناؤوط , مؤسسة الرسالة , مكتبة المنار الإسلامية , بيروت , الكويت , ط 14 , 1407 هـ .

سنن أبي داود , دار الحديث , حمص , ط1 , 1391 هـ .

السيرة النبوية , عبد الملك بن هشام, دار الريان للتراث, القاهرة , ط1, 1408 هـ .

شرح اعتقاد أهل السنة والجماعة , هبة الله بن الحسن بن منصور اللالكائي تحقيق أحمد سعد حمدان , دار طيبة , الرياض , 1402 هـ .

شرح الكوكب المنير , محمد بن عبد العزيز بن علي بن إبراهيم الفتوحي , تحقيق محمد حامد الفقي , مطبعة السنة المحمدية , القاهرة , ط 1 ,     1372 هـ .

الشريعة , أبو بكر محمد بن الحسن الآجري , تحقيق محمد حامد الفقي , مطبعة السنة المحمدية , القاهرة .

صحيح البخاري , محمد بن إسماعيل البخاري , تحقيق د. مصطفى ديب البغا  دار ابن كثير , بيروت , ط3 , 1407هـ .

صحيح مسلم , مسلم بن الحجاج القشيري النيسابوري , رئاسة إدارات البحوث العلمية والإفتاء , الرياض , 1400 هـ .

الصواعق المرسلة على الجهمية والمعطلة , ابن قيم الجوزية , تحقيق د. علي ابن محمد الدخيل الله , دار العاصمة , الرياض , ط 3 , 1418 هـ .

ضوابط المعرفة وأصول الاستدلال والمناظرة , عبد الرحمن الميداني , دار القلم  بيروت , ط2 , 1401 هـ .

العين , أبو عبد الرحمن الخليل بن أحمد الفراهيدي , تحقيق د. مهدي المخزومي ود. إبراهيم السامرائي , دار ومكتبة الهلال .

فتح الباري شرح صحيح البخاري , أحمد بن علي بن حجرالعسقلاني , تحقيق محمد فؤاد عبد الباقي ومحب الدين الخطيب , دار المعرفة , بيروت , 1379 هـ .

فتح القدير , محمد بن علي بن محمد الشوكاني , دار الفكر , بيروت .

القاموس المحيط , محمد بن يعقوب الفيروزبادي .

الكافية في الجدل , إمام الحرمين أبو المعالي الجويني , تحقيق د. فوزية حسين محمود , مطبعة مصطفى البابي الحلبي , 1399 هـ .

لسان العرب , محمد بن مكرم بن منظور الأفريقي المصري , دار صادر , بيروت , ط1

مدارج السالكين بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين , ابن قيم الجوزية , تحقيق محمد حامد الفقي , دار الكتاب العربي , بيروت, ط2 , 1393 هـ .

المستدرك على الصحيحين , محمد بن عبد الله أبو عبد الله الحاكم النيسابوري , تحقيق مصطفى عبد  القادر عطا , دار الكتب العلمية , بيروت  ط1 , 1411 هـ .

معارج القبول  , حافظ الحكمي , الرئاسة العامة لإدارات البحوث العلمية والإفتاء , الرياض .

معالم التنزيل , الحسين بن مسعود الفراء البغوي , تحقيق خالد العك ومرون سوار , دار المعرفة , بيروت , ط2 , 1407 هـ .

معالم في منهج الدعوة , د. صالح بن عبد الله بن حميد , دار الأندلس الخضراء  ط1 , 1420 هـ .

معجم مقاييس اللغة , أبو الحسين أحمد بن فارس بن زكريا , تحقيق محمد عبد السلام هارون , دار الكتب العلمية , قم .

المعونة في الجدل , أبو إسحاق إبراهيم بن علي بن يوسف الشيرازي , تحقيق د. علي بن عبد العزيز العميريني , جمعية إحياء التراث الإسلامي , الكويت , ط 1,  1407هـ  .

مفتاح دار السعادة , ابن قيم الجوزية , دار الكتب العلمية , بيروت .

الملل والنحل , محمد بن عبد الكريم بن أبي بكرأحمد الشهرستاني , مصطفى البابي الحلبي , القاهرة .

مناهج الجدل  في القرآن الكريم , د. زاهر بن عواض الألمعي , ط3 , 1404 هـ .

منهاج السنة النبوية , أحمد بن عبد  الحليم بن تيمية , تحقيق د. محمد رشاد سالم , مؤسسة قرطبة , ط1 , 1406 هـ .

الوجيز في تفسير الكتاب العزيز ,علي بن أحمد الواحدي ,تحقيق صفوان عدنان داوودي , دار القلم والدار الدمشقية , دمشق وبيروت , ط1 , 1415 هـ

==============

#أطفالنا وحب الإسلام

د . أماني زكريا الرمادي

تمهيد

الحمد لله رب العالمين حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه،حمداً يوازي نعمته علينا بالإسلام... إذ أنزل إلينا خير كتبه،وأرسل إلينا أفضل رسله وشرَع لنا أفضل شرائع دينه ،وجعلنا من خير أمة أخرجت للناس...والصلاة والسلام على خير البرية ،وآله وأصحابه، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين ، وبعد.

فإن طفلك هو هبة الله تعالى لك،هو بضعة منك،وهو ثمرة فؤادك،وفلذة كبدك،ومعقد آمالك،وحلمك الذي لم تحققه بعد...لذا فمن الطبيعي أن تحلم له بكل خير...بالتفوق في الدراسة،والنشاط الذي يمارسه، ثم الوظيفة المرموقة،ثم الزواج السعيد، والرفاء، والبنين...إلخ

ومن أجل ذلك فأنت تبذل كل غال وثمين لتساعده على تحقيق كل هذه الأحلام ،أو بعضها،أو حتى أحدها!

ولكن؛ هل فكرت يوماً في أن إمكانات طفلك قد لا تتناسب مع تحقيق هذه الأحلام؟

ولو فرضنا-جدلاً- أن تلك الأحلام قد تحققت جميعاً ،فماذا لو أصبح المجتمع يكتظ بذوي الوظائف المرموقة؟!

هل تستقيم الحياة بدون المُزارع، والصانع، والخبَّاز ،والنجار، والحداد، وعامل النظافة... وغيرهم من ذوي المهن التي لا تتمناها لطفلك؟!

فما هو الحل في رأيك؟؟؟

إن الله تعالى كما قسَّم الأرزاق،" فقد قسم المواهب وجعلها مختلفة لكي يتكامل الناس، ويتعاونون ،ويحتاج بعضهم إلى بعض حتى يعمروا الكون"(1)،لذلك فإن بداية الحل هي أن تحلم لطفلك أحلاماً لا تتعارض مع مواهبه ،وفي نفس الوقت لا تحتاج لتحقيقها إلى أن تدفعه دفعاً يحطم نفسيته ،ويطمس مواهبه الطبيعية المعبِّرة عن ذاته،ويضعف شخصيته؛فإذا أردت له السعادة ،فدعه يكون نفسه!!! وليس أنت أو أي أحد آخر ممن تُعجب بهم.

وبقية الحل هي أن تهتم بمستقبله في الآخرة ،كما تهتم بمستقبله الدنيوي،بل أكثر!

فكما تخشى عليه من هبَّات النسائم الرقاق في الدنيا ، كذلك يجب أن تخشى عليه من عذاب الله في الآخرة.

مرة أخرى ، كيف؟؟؟

ذلك بأن تحلم له بإيمان قوي، وعقيدة راسخة ، وهمة عالية...فإن ساعدته على تحقيق ذلك أصبح طفلك متفوقاً في كل نواحي حياته ،عزيز النفس ،عالي الهمة،مرموقاً في أي وظيفة يقدرها الله سبحانه له، يعرف كيف يسعد نفسه ويسعد غيره ؛ فيكون لك قرة عين؛ ومن ثم يكون مسلماً حقاً....فهل يراودك هذا الحلم؟

إذا كانت إجابتك هي "نعم" فتعال معي عبر السطور القادمة لترى محاولة لتحقيق هذا الحلم،عسى الله الكريم أن ينفع بها ...فله الحمد ومنه وحده التوفيق، والمنة ،والفضل .

د.أماني زكريا الرمادي

1- ما هو الإسلام؟

هو أجل وأعظم وأشرف نعم الله على الإنسان.

وهو الاستسلام الكامل لأوامر الله سبحانه ،والانتهاء عن نواهيه؛استسلام الواثق بحكمته ،المعتمد على قدرته؛ الطامع في رحمته .

2- ما هو حب الإسلام؟

هو أن تكره أن تخرج عنه؛ فتعود إلى الكفر، كما تَكره أن تُقذف في النار.

3- لماذا نحب الإسلام وننتمي إليه ؟

أ- لأنه الدين الخاتم الذي قال عنه سبحانه تعالى في قرآنه المعجز في كل مكان وزمان:" إنَّ الدينَ عندَ اللهِ الإسلام"وقال عمن يتبعون غيره: " ومَن يبتَغِ غيرَ الإسلامِ ديناً فلن يُقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين"

ب- لأنه الدين القيِّم ،كما قال عنه جل وعلا في قرآنه -الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه- في كثير من المواضع ؛ أي الدين الثابت الذي لا عوَج فيه، ولا زيغ ،ولا ضلال.

ج- لأنه دين الحرية الذي حرر الإنسان من العبودية لغير الله ، ومن الخوف إلا مِنْه، ومن الحاجة إلا إليه ومن الذل إلا له،ومن التوكل إلا عليه،فإذا كان مَن نعبده ونخشاه،ونذل له،ونتوكل عليه هو أرحم الراحمين،وأكرم الأكرمين،ومالك الملك،والقادر المقتدر، والعزيز الجبار،وذو الجلال والإكرام،و الحي القيوم،والحفيظ المقيت،فهنيئاً لنا بهذا الدين.

ب- لأنه دين الاعتدال الذي رفع الإصر والأغلال عمن اتبعوه ،بعكس الأمم التي كانت من قبلهم،( يقول العلامة سليمان الندوي: «ما من دين خلا من العبادة لله، لكن الأديان القديمة حسب أتباعها أن الدين يطالبهم بإيذاء أجسامهم وتعذيبها وأن الغرض من العبادة إدخال الألم على الجوارح وأن الجسم إذا زادت آلامه كان في ذلك طهارة للروح ونزاهة للنفس! وقد جاءت الشريعة الإسلامية برفع هذه الآصار فقد روي عن ابن عباس رضي الله عنه: «إياكم والغلو فإنما اهلك من كان قبلكم الغلو» وهو الغلو الذي نعاه القرآن على أهل الكتاب ونهاهم عنه: «قل يا أهل الكتاب لا تغْلُوا في دينكُم غيرَ الحق ولا تتَّبعوا أهواءَ قومٍ قد ضلوا من قبل وأضَلوا كثيراً وضلُّوا عن سواءِ السبيل».

وقد عُرف الرسول صلى الله عليه وسلم في كتب الأولين بالأوصاف المميزة التالية: «يأمُرُهم بالمعروف وينهاهُم عن المُنكر ويحِلُّ لهمُ الطيباتِ ويحرِّم عليهم الخبائثَ ويضع عنهم إصرَهم والأغلالَ التي كانت عليهم"؛ وقد امتن الله برسوله على الناس فقال: «لقد جاءكم رسولٌ من أنفسكم عزيزٌ عليه ما عنِتُّم حريصٌ عليكم بالمؤمنين رؤوفٌ رحيم»، وقد قال صلوات الله وسلامه عليه: «بُعثت بالحنيفية السمحة"، فهي حنيفية العقيدة، سمحة في التكاليف والأحكام وإنما خصها الله بالسماحة والسهولة واليسر لأنه أرادها رسالة الناس كافة والأقطار جميعا، والأزمان قاطبة... ورسالة هذا شأنها من العموم والخلود لابد أن يجعل الله الحكيم في ثناياها من التيسير والتخفيف والرحمة ما يلائم اختلاف الأجيال وحاجات العصور وشتى البقاع... وهذا واضح في شريعة الإسلام عامة وفي العبادات خاصة ؛يقول الله تعالى في بيان رسالة المسلم في الحياة: «يا أيها الذين آمنوا اركعوا واسجدوا واعبدوا ربَّكم وافعلوا الخيرَ لعلكم تُفلحون، وجاهِدوا في اللهِ حقَّّ جهاده هو اجتَباكم وما جعل عليكم في الدين من حرج»؛ويقول في أعقاب ما ذكره من المحرمات في النكاح وإباحة ما وراء ذلك بشرطه «يريد الله أن يخفف عنكم وخُلق الانسانُ ضعيفا»)(2)

د- لأنه دين التيسير الذي يتناسب مع الفطرة البشرية، فلا يكلف النفس إلا وسعها ،ولا يحمِّلها إلا ما تطيق،بل وينهى عن المغالاة والتنطع والتشدد،خاصة في أمور الدين،يقول المولى جل وعلا:"لا يكلِّف اللهُ نفساً إلا وُسعها"،كما يقول:" يريدُ اللهُ بكم اليسرَ ولا يريد بكم العُسر»؛ ويقول الرسول الكريم:" إن هذا الدين شديدٌ فأوغل فيه برفق"،ويقول:"روِّحوا القلوب فإن القلوب إذا تعبت كلَّت وإذا كَلَّت مَلَّت " ومن أقواله صلى الله عليه وسلم: «ان الدين يسر ولن يشادد الدين أحد إلا غلبه ،فسدِّدوا وقاربوا وأبشروا» ونراه صلى الله عليه وسلم حين بعث معاذاً وأبا موسى الأشعري أميرين الى اليمن كان من وصيته لهما: «يَسِّرا ولا تُعسِّرا، وبشِّرا ولا تُنفِّرا ،وتطاوعا ولا تختلفا». ومن أوصافه عليه الصلاة والسلام أنه ما خُيِّر بين أمرين قط إلا اختار أيسرهما ما لم يكن إثماً .

وإذا كانت وجهة الإسلام هي التيسير فكل مسلم يبغي التشديد والتعنت إنما يعاند روح الإسلام ولهذا وقف الرسول الكريم في وجه المتعنتين والمتشددين وأخبر بهلكتهم ووبالهم فقال:" ألا هلك المتنطعون ،ألا هلك المتنطعون، ألا هلك المتنطعون» ولم يكن يكرر الكلمة ثلاثاً إلا لعظم خطر مضمونها.

ج- لأنه دين العطاء الذي يعطي الأجر الوفير على مساعدة الغير والتخفيف عنهم وإدخال السرور على قلوبهم،وإطعامهم ،وعيادة مريضهم وإعانة ضعيفهم،وكفالة يتيمهم ،وإغاثة ملهوفهم،وتعليم جاهلهم،وتوقير كبيرهم ،والعطف على صغيرهم ،والعفو عن مسيئهم.

د- لأنه دين النظافة، والطهارة الظاهرة والباطنة، والخُلُق الكريم،والرقي والسمو والحضارة بنوعيها : المادية والروحية. فعن عائشة رضي الله عنها قالت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "عشر من الفطرة: قص الشارب، وإعفاء اللحية، والسواك، واستنشاق الماء، وقص الأظفار، وغسل البراجم، ونتف الإبط، وحلق العانة، وانتقاص الماء ؛قال مصعب: ونسيت العاشرة إلا أن تكون المضمضة"،و قال وكيع: انتقاص الماء يعني الاستنجاء، رواه مسلم.ويقول الله تعالى:" إن الله يحب التَّوَّابين ويحب المتطهرين "

أما الطهارة الباطنة فهي" تطهير النفس من آثار الذنب والمعصية ، وذلك بالتوبة الصادقة من كل الذنوب والمعاصي ، وتطهير القلب من أقذار الشرك والشك والحسد والحقد والغل والغش والكبر ، والعُجب والرياء والسمعة ، وذلك بالإخلاص واليقين وحب الخير والحلم والصدق والتواضع ، وإرادة وجه الله تعالى بكل النيات والأعمال الصالحة .

وقد قال الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم عن أهمية طهارة القلب :"تُعرض الأعمال في كل اثنين وخميس فيغفر الله عز وجل في ذلك اليوم لكل امرئ لا يشرك بالله شيئا إلا امرأ كانت بينه وبين أخيه شحناء فيقول اتركوا هذين حتى يصطلحا" رواه مسلم. وقد كان المصطفى عليه الصلاة والسلام ينهى أن يبلغه عن أصحابه ما يسوؤه ،فيقول لهم:"لا يبلِّغني أحد منكم عن أصحابي شيئا فإني أحب أن أخرج إليكم وأنا سليم الصدر"رواه أبو داود

هـ- لأنه الدين الوحيد الذي عرف للمرأة قدرها وأعطى لها من الكرامة، والحقوق مالم نر مثله لدى أي دين أو ملة أو عقيدة أخرى(للاستزادة في هذا الموضوع إستمع لدرس مكانة المرأة في الإسلام للأستاذ عمرو خالد)(3)

و-لأنه الدين الوحيد الذي اهتم بأتباع الأديان الأخرى ،وكفل لهم حرية العقيدة،(فقد قال تعالى " لا ينهاكُم الله عن الذين لم يقاتِلوكم في الدين ولم يُخرجوكم من دياركم أن تبَرُّوهم وتُقسطوا إليهم إن اللهَ يحب المقسطين " 8- الممتحنة ،والآية الكريمة ترخص للمؤمنين في البر والصلة قولا وفعلا للذين لم يقاتلوهم لأجل الدين ولم يلحقوا بهم الأذى ولم يُخرجوهم من ديارهم ،وترخص لهم ببرهم والإحسان لمن أحسن منهم والعدل في معاملاتهم وهذا خالد بن الوليد يعاهد أهل الحيرة في زمن أبو بكر رضي الله عنه على ألا يهدم لهم بيعة أو كنيسة وعلى ألا يُمنعوا من نواقيسهم أو إخراج صلبانهم وأن يُعال العاجز هو وأولاده من بيت مال المسلمين ما أقام بدار الإسلام)(4)

كما يسوي الإسلام في الحقوق( بين المسلمين وأتباع الأديان الأخرى؛ فنجد الرسول صلى الله عليه وسلم يقول:" من ظلم معاهدا أو أنقصه حقه أو كلَّفه فوق طاقته أو أخذ منه شيئا بغير طيب نفس فانا خصمه يوم القيامة " لذا نرى عمر بن الخطاب رضي الله عنه يوصى عمرو بن العاص وهو وال على مصر، يقول له " أن معك أهل الذمة والعهد فاحذر يا عمرو أن يكون الرسول الله صلى الله عليه وسلم خصمك " ونراه حين فتح بيت المقدس يعقد معاهدة مع أسقفها جاء فيها: " هذا ما أعطى عمر أهل إيلياء ( بيت المقدس ) من الأمان: أعطاهم أماناً لأنفسهم وأموالهم ولكنائسهم وصلبانهم ولا يُكرهون على دينهم ولا يُضار أحد منهم ...فكان لغير المسلمين في بلاد الإسلام ما للمسلمين من حقوق عامة وعليهم ما على المسلمين كذلك)(5)

ز- لأنه دين الرحمة الذي أوصى بالضعفاء كالأطفال، واليتامى والنساء، وكبار السن، والمساكين ، والخدم ؛ فنرى الرسول صلى الله عليه وسلم يوصي بهم قائلاً:

" ليس منا من لم يرحم صغيرنا ويوقِّر كبيرنا"

"أنا وكافل اليتيم كهاتين في الجنة" مشيراً بإصبعيه السبابة والوسطى .

"خير البيوت بيت فيه يتيم مُكرم"

" من أضحك أنثى كان كمن بكى من خشية الله"

" استوصوا بالنساء خيرا"

" من كان له ثلاث بنات فصبر على لأوائهن، وضرائهن،وسرائهن دخل الجنة" فقال رجل :"وثنتان يارسول الله؟" قال:" وثنتان"،فقال آخر:" وواحدة؟" قال: "وواحدة"

وعن الخدم يقول:" إنهم إخوانكم جعلهم الله تحت أيديكم،فأطعموهم مما تطعمون ،واكسوهم مما تلبسون"...ولك أن تتأمل عظمة الإسلام في كلمة إخوانكم؛ فهو يحترم آدمية وكرامة الخادم لأنه-في النهاية- إنسان له مشاعر وأحاسيس.

كما يعتبر الإسلام أن من زار مريضاً كان كمن زار الله تعالى ، ومن امتنع عن زيارته عاتبه الله! و نراه-صلى الله عليه وسلم- يوصي بحُسن اختيار الزوج والزوجة كأحد حقوق الطفل،ثم بحسن اختيار أسمائهم،وحسن تأديبهم،والتصابي لهم،وإكرامهم والعطف عليهم ؛ثم يجعل من إجلال الله تعالى إكرام ذي الشيبة المسلم!!!! كما نرى الله تعالى يوصي المؤمنين قائلاً:" واعبدوا الله َ و لاتُشركوا به شيئا وبالوالدين إحساناً وذي القربى واليتامى والمساكين"،ونراه صلى الله عليه وسلم يحب المساكين ويحسن إليهم ويدعو ربه أن يحشره في زمرتهم ! فأي دين هذا؟؟!!

ح- لأنه دين المعاملة الحسنة الذي يجعل من الكلمة الطيبة صدقة،و التبسم في وجه الغير صدقة، ومن إماطة الأذى عن الطريق صدقة ويعطي أعظم الأجر على إفشاء السلام، بل ويجعل مما يحط الخطايا عن المسلم : مصافحةأخيه المسلم،والمسح على رأس اليتيم،وإطعام الرجل زوجته في فمها،وتزينه لها كما تتزين له،والحرص على عدم إيذاء الآخرين بالقول أو الإشارة أو الصوت المرتفع،فيقول المولى عز وجل:" وقولوا للناس حُسنا"،ويقول رسوله الكريم صلى الله عليه وسلم:" المسلم من سلِم المسلمون من لسانه ويده"،بل ويجعل المعاملة الحسنة من أساسيات الدين ،إذ يقول صلى الله عليه وسلم:" الدين المعاملة"!

ط- لأنه الدين الوحيد الذي يعطي أعظم الأجر على أفعال يسيرة يقوم بها المسلم؛منها على سبيل المثال لا الحصر:

• التصدق من المال الحلال،فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (من تصدق بعدل تمرة من كسب طيب - ولا يقبل الله إلا الطيب - فإن الله يقبلها بيمينه، ثم يربيها لصاحبها، كما يربى أحدكم فلوه - أي مهره - حتى تكون مثل الجبل) متفق عليه.

وعن أبي مسعود الأنصاري رضي الله عنه قال: جاء رجل بناقة مخطومة فقال: هذه في سبيل الله ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم (لك بها يوم القيامة سبعمائة ناقة كلها مخطومة)

• قول "لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير" فقد روى البخاري و مسلم في صحيحيهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:" من قالها مائة مرة في يوم كانت له عدل عشر رقاب وكتب له مائة حسنة ومحيت عنه مائة سيئة وكانت حرزاً له من الشيطان يومه ذلك حتى يمسي ،ولم يأت أحد بأفضل مما جاء به إلا أحد عمل أكثر من ذلك"

• صوم الأيام الست من شوال، فقد قال صلى الله عليه وسلم أن" من صامها كان كمن صام الدهر"

• من قرأ سورة الإخلاص ثلاثاً كان كمن قرأ القرآن كله.

ي- لأنه دين الوفاء الذي يعطي للمريض، والمضطر،والمسافر، وأمثالهم من الأجر مثل ما كان يعطي كلاً منهم وهو سليم ،معافي،ومقيم.

ك- لأنه دين الحلم الذي لا يحاسب الإنسان الذي غاب عنه عقله أو وعيه، حتى يفيق أو يعي؛ يقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: " رُفع القلم عن ثلاث: عن الصغير حتى يكبر، وعن النائم حتى يستيقظ، وعن المجنون حتى يفيق " (رواه أحمد وأبو داود والنسائي وابن ماجة والحاكم عن عائشة بإسناد صحيح) ومعنى رفع القلم: امتناع التكليف ؛ أي ليسوا مكلفين.

ل-لأنه دين العلم الذي تميز بمعجزة القرآن، وكان أول ما نزل منه هو كلمة "إقرأ"،كما نرى الرسول صلى الله عليه وسلم يقول في شأن العلم الكثير من الأحاديث منها:

" طلب العلم فريضة على كل مسلم ومسلمة"

" مداد العلماء أفضل عند الله من دماء الشهداء" !!!

" من سلك طريقا يلتمس فيه علما كان في سبيل الله حتى يرجع"

"إن الله وملائكته والكائنات،حتى الحوت في بطن الماء لتصلي على معلم الناس الخير"

وقد التزم المسلمون الأوائل بهذه التعاليم حتى سادوا العالم بعلمهم و تتلمذ على أيديهم الطلاب الذين كانوا يأتونهم من شتى بقاع الأرض...ولكنهم لما ابتعدوا عن دينهم بتتابع الأجيال بدأت حضارتهم في التدهور،بينما بدأ الغرب في بناء صرح حضارتهم العلميه على أنقاض الحضارة الإسلامية المنصرمة .

م- لأنه دين المودة والترابط الأسري،والاجتماعي الذي يجعل عقوق الوالدين من الكبائر ،ويوصي بهما بعد عبادته تعالى،قائلاً: " واعبدوا اللهَ ولا تُشركوا به شيئا وبالوالدين إحساناً" ،ويحرم الجنة على قاطع الرحم،كما قال صلى الله عليه وسلم:" لا يدخل الجنة قاطع رحم"،ويوصي بالجار؛ قائلاً: "مازال جبريل يوصيني بالجار حتى ظننت أن سيورِّثه"،كما يوصي بالصديق،فيقول صلى الله عليه وسلم:" خير الصاحبَين عند الله تعالى خيرهم لصاحبه"،بل ويوصي سبحانه بالصاحب في السفر ، قائلاً:" والصاحب بالجنب"،كما نراه صلى الله عليه وسلم يحض على الجماعة فيقول:" يد الله مع الجماعة"،ويقول:"إنما يأكل الذئب من الغنم القاصية" ،بل ويعطي ثواباً على صلاة الجماعة أكثرمن صلاة الفرد،ويشرع لهم صلاة الجمعة وصلاة العيدين، والحج لكي يلتقون ببعضهم البعض ويتعارفون،فيتعاونون...ويصدق ذلك قوله تعالى :

" وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارَفوا"

م- لأنه دين الرفق بكل الكائنات حتى أنه يُدخل بغياً الجنة لأنها سقت هرة ،بينما يُدخل امرأة أخرى النار لأنها حبست هرة دون أن تطعمها أو تطلق سراحها؛ويُدخل رجلاً الجنة لأنه آثر على نفسه كلبا عطشاناً،فاجتهد ليسقيه قبل أن يشرب ؛(بل أن المسلمين في عهد الدولة الأموية كانوا يخصصون –في دمشق بسوريا- مكاناً لرعاية الحيوانات المسنة حتى تموت)(6)

ويصدق ذلك قول الرسول صلى الله عليه وسلم:" إن الرفق ما كان في شيء إلا زانه وما خلا منه شيء إلا شانه"وقد تجسد هذا الرفق في سلوكه صلى الله عليه وسلم مع الجمل لذي شكا له من صاحبه الذي يجيعه ويجهده ،فقال لصاحبه:" ألا تتقي الله في هذه البهيمة التي أملكك الله إياها؟!"

3- لماذا نحبب الإسلام إلى أطفالنا ؟

أ- لأنهم لن يصبحوا مسلمين حقاً إلا إذا أحبوا الإسلام وعاشوا به، وله.

ب- لأن الأبناء( رعية استرعاهم الله آباءَهم ، ومربيهم وأسرهم ، ومجتمعهم ، وهؤلاء جميعاً ، مسئولون عن هذه الرعية ، ومحاسَبون على التفريط فيها ، كما أنهم مأجورون إن هم أحسنوا إليهم واتقو الله فيهم ) (7)

ج- لأن مرحلةُ الطفولة( مرحلة صفاء وخلو فكر ، فتوجيه الطفل للناحية الدينية يجد فراغاً في قلبه ، ومكانا في فكره ، وقبولاً من عقله .

د- لأن مرحلة الطفولة مرحلة تتوقد فيها ملكات الحفظ والذكاء ، ولعل ذلك بسبب قلة الهموم ، والأشغال التي تشغل القلب في المراحل الأخرى ، فوجب استغلال هذه الملكات وتوجيهها الوجهة الصحيحة

هـ- لأن مرحلة الطفولة مرحلةُ طهر وبراءة ، لم يتلبس الطفل فيها بأفكار هدامة ، ولم تلوث عقلَه الميولُ الفكرية الفاسدة ، التي تصده عن الاهتمام بالناحية الدينية ، بخلاف لو بدأ التوجيه في مراحل متأخرة قليلا ، حين تكون قد تشكلت لديه أفكار تحول دون تقبله لما تمليه الثقافة الدينية الإسلامية ؛ يقول الشاعر:

وينفع الأدب الأحداث في صغر ***وليس ينفع عند الشيبة الأدب

إن الغصون إذا قوَّمتها اعتدلت *** ولن تلين إذا قومتها الخشب

و - لأن العالَم أصبح في ظل العولمة الحديثة ، كالقرية الصغيرة ، والفردُ المسلم تتناوشه الأفكار المتضادة والمختلفة من كل ناحية ، والتي قد تصده عن دينية ، أو تشوش عليه عقيدته ، فوجب تسليح المسلمين بالثقافة الدينية ، ليكونوا على بصيرة من أمرهم ، ويواجهوا هذه الأفكار بعقول واعية... لذا فإن غرس الثقافة الدينية في مرحلة الطفولة يؤثر تأثيرا بالغا في تقويم سلوك الطفل وحسن استقامته في المستقبل ، فينشأ نشأة سليمة ، باراً بوالديه ، وعضواً فعالا في المجتمع ) (8)

4- كيف نحبب الإسلام لأطفالنا ؟

بأن نحب الإسلام أولاً - لأن الطفل يرى بعيون والديه أو مربيه- ثم نراعي ظروف الطفل ،ومشاعره، واحتياجاته، وإمكاناته في كل مرحلة عمرية ؛حتى يصبح –بعون الله -مسلماً سوياً نافعاً لنفسه وأهله ومجتمعه ودينه ، ولنتذكر جيداً أن (التربية النفسية للطفل تعتمد على أنه :

عندما يعيش في ظل النقد المستمر فإنه يتعلم أن يُدين الآخرين

وعندما يعيش في ظل الأمن فإنه يتعلم أن يجد الثقة في نفسه

وعندما يعيش في ظل العداوة فإنه يتعلم الهجوم

وعندما يعيش في ظل من يتقبلونه،فإنه يتعلم الحب

وعندما يعيش في ظل الخوف فإنه يتعلم ترقب الشر

وعندما يعيش في ظل الاعتراف به فإنه يتعلم أن يكون له هدف

وعندما يعيش في ظل الشفقة الزائدة عليه فإنه يتعلم أن يتحسر على نفسه

وعندما يعيش في ظل التأييد له فإنه يتعلم أن يحب نفسه

وعندما يعيش في ظل الغيرة الزائدة،فإنه يتعلم الشعور بالإثم

وعندما يعيش في ظل الصداقة فإنه يتعلم أن العالم مكان جميل)(9)

وفيما يلي نرى مراحل تعليمه حب الإسلام:

مرحلة ما قبل الزواج :

إن أبسط حقوق طفلك عليك أيها الرجل هي أن تختار له أم طائعة لله ،(وأن تختاري له أيتها المرأة أب يعينك على طاعة الله- لكي يسهل عليك طاعته كزوج، فتضمني الجنة بإذن الله-)(1)واستمعا إلى قول الرسول صلى الله عليه وسلم لكَ :" ...فاظفَر بذاتِ الدين ترِبَت يداك"؛ويقول لكِ ولأولي أمرك:" إذا جاءكم مَن ترضون دينه وخُلُقه فزوجوه"

وإنه لمن الحكمة ألا يغامر المرء بسعادته- في حياة تملؤها طاعة الله - أو بمستقبل أولاده ؛على أمل أن يهتدي الزوج أو الزوجة بعد الزواج ،فهي مخاطرة غير مأمونة العواقب لأن الله تعالى يقول:" "إنك لا تهدي مَن أحببت ولكن الله يهدي مَن يشاء"!

وللمقبلين على الزواج تهدي كاتبة هذه السطور كتاب "بيتٌ أُسس على التقوى" لفضيلة الشيخ"عائض القرني" ،عسى أن ينفعهم الله تعالى به.

مرحلة الأجنة:

إن الطفل ليستشعر حب الإسلام وهو لا يزال في رحم أمه ،وذلك من خلال حبها وإخلاصها لدينها، وممارستها لهذا الدين كما أمر الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم؛ودوام استماعها للقرآن الكريم بقلبها قبل أذنيها؛فإن مشاعرها تنتقل إليه –بقدرة الله- لا محالة .

مرحلة ما بعد الولادة وحتى السنة الثانية :

ينبغي أن يكون أول ما يطرق سمع المولود هو الأذان في أذنه اليمنى، والإقامة في اليسرى؛ تطبيقاً لسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ،وحماية له من الشيطان.

وفي هذه المرحلة يستطيع الطفل أن يحب دينه من خلال ما يراه في عيون وتصرفات من حوله-خاصة الوالدين- واتجاهاتهم الذهنية نحو الإسلام، فلن يشب مسلماً حقاً إلا إذا كانوا هم هكذا،يقول صلى الله عليه وسلم:" كل مولود يُولد على الفطرة،فأبواه يهوِّدانه وينصِّرانه ويمجِّسانه"…فإذا كان الطفل يسمع دائماً أمثال العبارات التالية:

• " الحمد لله على نعمة الإسلام"

• "رضيتُ بالله رباً، وبالإسلام ديناً وبمحمد صلى الله عليه وسلم نبياً ورسولا ً"

• " اللهم يا مقلِّب القلوب ثبت قلوبنا على دينك"

• "ربنا لا تُزِغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهب لنا من لدُنك رحمة إنك أنت الوهاب"

• " اللهم أدِم علينا نعمة الإيمان بك وشرف الإسلام لك،واجعلنا مِمَّن عبدك حتى يأتيه اليقين"

وإذا كان يرى والديه يصليان بحب وخشوع؛ وينتشيان بسماع القرآن الكريم؛ويبتهجان بذكر الرسول صلى الله عليه وسلم،ويشتاقان لزيارته وزيارة الكعبة؛ويسعدان بالتصدق على المحتاجين ،ولسان حالهما يقول:" مرحباً بمن جاء يحمل زادَنا إلى الآخرة بدون أجر "(كما كان يقول الحسن البصري رضي الله عنه)؛ويتمنيان لو كانت السنة كلها رمضان؛ويقتصدان من قوتهما لتوفير المال اللازم لأداء فريضة الحج،ويرددان دائماً:" الحمد لله على كل حال"، و"قدََّر الله وما شاء فعل"... فإن هذا الطفل سينشأ إن شاء الله على حب دينه،بل وسيضيف إلى أفعال والديه أو مربيه -بما وهبه الله من إمكانات ومواهب- ما يزيده طاعةً لله وخدمة ً لدينه.

مرحلة الثالثة،وحتى السادسة:

في هذه المرحلة يمكن أن نردد أمامه مثل الأناشيد التالية حتى يحفظها:

"أنا يا قومي مسلم ٌ أنا يا قومي مسلمٌ

إن سألتم عن إلهي فهو رحمن رحيم

أو سألتم عن نبيي فهو ذو خُلقٍُ عظيم

أو سألتم عن كتابي فهو قرآنٌ كريم

أو سألتم عن عدوِّي فهو شيطانٌ رجيم"

*********

"الكتكوت يقوم الصُبح يقوم يسبّح

والعصفور يشوف النور يطير ويفرح

والصلاة يا حلوين هيّ عماد الدين

يا لا بينا نقوم نصلي عشان نفلح

والصوم في رمضان صحة للإنسان

يا لاّ نصوم وندعي ربي علينا يفتح

واللي ماله كتير يعطف عالفقير

ربنا يبارك له رزقه وماله يربح

والحج المبرور ده ذنبه مغفور

يرجع زي يوم ولادته طفل يمرح"(10)

*****

" اللهُ ربي ، محمدٌ نبيي ، وهو أيضاً قدوتي، والإسلامُ ديني ، والكعبةُ قبلتي ، والقرآن كتابي ، والصيام حصني ، والصَدَقة شفائي ، والوضوء طَهوري ، والصلاة قرة عيني ، والإخلاص نِيَّتي ، والصِدق خُلُقي ، والجَنَّةُ أملي ، ورضا الله غايتي "

كما ينبغي أن نوضح لأطفالنا أن( الإنسان دائماً ما يكون بحاجة إلى من يعتمد عليه ويتوكل عليه ،وبحاجة إلى قوة عظمى عادلة تكفل له العيش الكريم، والأمن والاطمئنان ..قوة تعطيه ما يسأل، وتمنع عنه ما يخاف ،وتفصل بينه وبين غيره بالحق،قوة تحقق له أمانيه، وتحفظ روحه وجسده من الهلاك،هذه القوة العظمى هي الله سبحانه وتعالى... ثم نشرح له ببساطة قوله تعالى:" إن ربَّكم اللهُ الذي خلق السماواتِ والأرضَ في ستةِ أيامٍ ثم استوى على العرش يُغشي الليلَ النهارَ يطلبه حثيثا والشمسَ والقمرَ والنجومَ مسخراتٍ بأمره ألا له الخلقُ والأمر،تبارك اللهُ رب العالمين"

كما نخبره أن الإيمان بالله تعالى هو الركن الأول من أركان الإسلام الخمسة أي الأعمدة التي يقوم عليها الإسلام، وقد أمرنا الله تعالى أن نتفكر في مخلوقاته التي تدل على عظمته وقدرته سبحانه وتعالى،فهذه السماء وما فيها من كواكب ونجوم وأفلاك ومجرات وهذه الأرض وما عليها من كائنات ونباتات وما فيها من كنوز ،وهذه البحار وما فيها من عجائب وغرائب كلها من آيات الله المبهرة.وقد سُئل أعرابي عن الدليل على وجود الله تعالى فقال:

" الماء يدل على الغدير وأثر الأقدام يدل على المسير،فسماء ذات أبراج(نجوم وكواكب)،وأرض ذات فِجاج(طرق واسعة)وبحار ذات أمواج...أما تدل على الصانع العليم الحكيم القدير؟)(11)

من الممكن أن نحكي لهم أمثال القصص التالية التي تترك أعظم الأثر في نفوسهم الصغيرة:

ربي موجود

(في يوم من الأيام حضر رجل لا يؤمن بوجود الله تعالى إلى أحد الخلفاء وقال له في ثقة:

" إنني لا أجد أحداً يقنعني بوجود إله وأتحدى أكبر عالم عندكم وإني واثق من النصر عليه،فسكت الخليفة قليلاً،وقال في نفسه:" إن أمرتُ بقتله فسوف يقول الناس أنني لم أستطع مواجهته بالدليل،ثم نادى وزيره ليستدعي له الإمام أبو حنيفة النعمان،فلما جاءهم طلب منه الخليفة إقناع هذا الرجل بوجود الله تعالى.

قال له الإمام أبو حنيفة :" سوف أثبت له ذلك ولكني أستأذنك لكي أنهي أمراً ضرورياً في القرية المجاورة، ثم أعود سريعاً، فأذن له الخليفة، ولكنه تأخر كثيراً، فأحس الرجل بالغرور والكبر و قال للخليفة : "إئذن لي بالانصراف ، فقد هرب أبو حنيفة لأنه عاجز عن إقناعي"، ولكن أبو حنيفة ما لبث أن عاد،واعتذر عن التأخير،ثم أخبرهم أنه وجد في طريقه نهراً ،ولم يجد قارباً، فجلس ينتظر حضور قارب ،وطال انتظاره ،ثم فجأة رأى أبو حنيفة أمراً عجيباً..رأى أخشاباً تتجمع ومسامير تقف فوق الخشب وظهرت مطرقة وأخذت تدق على المسامير،حتى رأى أمامه قارباً متقن الصنع ، فركبه وحضر.

فأخذ الرجل يضحك وقال :" إن هذا الكلام لا يقوله إلا مجنون، ولا يصدقه أحد، فكيف تطير المسامير والألواح في الهواء ،وتتجمع على الماء ويتكون منها قارب دون أن يصنعه أحد؟!"

وهنا تبسم أبو حنيفة وقال:" إذا كان وجود قارب صغير بدون صانع لا يصدقه عقل، فهل يصدق العقل أن هذا الكون بكل ما فيه من أرض وسماء وشمس وقمر قد وُجد بنفسه دون أن يخلقه خالق؟!!!"

فبهت الرجل ثم قال:" صدقت، فلابد أن يكون لهذا الكون من خالق هو الذي خلقه ونظمه،هو الله) (11)

*****

(كان بعض الزملاء يجلسون معا ً في فصلهم بالمدرسة فدخل عليهم أحد الزملاء ممن لا يؤمنون بوجود الله تعالى ، وقال لهم :" هل تروني؟ قالوا نعم،قال إذن أنا موجود ثم قال : "هل ترون اللوح؟" قالوا: "نعم" قال:" إذن اللوح موجود"،ثم قال :" أترون الكراسي؟" قالوا:" نعم"،قال:" إذن الكراسي موجودة"،ثم قال لهم في مكر:" أترون الله؟" قالوا :"لا "قال:" فأين الله إن لم نكن نراه؟!"

فقام احد التلاميذ الأذكياء وقال لزملائه:" هل ترون عقل زميلنا ؟ فقالوا:"لا"،قال: "إذن فعقله غير موجود!! )(11 "بتصرف" )

ربي رحيم

(كان يعيش في قديم الزمان رجل كثير الذنوب يداوم على معصية الله تعالى واستمر على ذلك حتى حضرته الوفاة، فقال لأبناءه إذا مِتُّ فاحرقوا جثتي ثم اسحقوها حتى تكون رماداً،ثم انفخوا هذا الرماد في الجو في أماكن كثيرة من البحر حتى يذوب رمادي في ماءه وتتناقله الأمواج فلا يكون لي أثر،ثم قال لهم:" فو الله لئن قدر عليَّ ربي ليعذبني عذاباً ما عذبه أحداً"

فلما مات فعلوا ما أمرهم أبوهم ؛فقال الله تعالى للأرض أدِّي ما أخذتِ فتجمعت ذرات الرماد وقام الرجل ماثلاً أمام الله سبحانه فسأله عن السبب الذي من أجله أوصى أولاده بذلك –وهو سبحانه اعلم- فقال الرجل:" خشيتك يارب"؛فغفر الله تعالى له بسبب خشيته له!!! ) (11)

****

(كان تاجر يعيش في زمن بعيد ،فكان يبيع للآخرين ويشتري مهم،وذات يوم تُوفي هذا التاجر ،فاستقبلت الملائكة روحه،وقالوا له:"هل فعلت من الخير شيئا"؟

فقال لهم :" كنت أرسل فتياني إلى مَن لي عليه دين ليجمعوا لي هذه الديون ولكني كنت أوصيهم بأنهم إذا وجدوا أحدا ً مُعسراً (أي لا يستطيع دفع دينه) أن يتجاوزوا عنه ولا يأخذوا منه شيئا وكنت أقول لهم: تجاوزوا عنه لعل الله يتجاوز عنا"فغفر الله تعالى له وتجاوز عنه بسبب تجاوزه عن المعسرين)(11)

ربي قادر

في يوم من الأيام دخل الغني مع صديقه الفقير حديقة الغني الواسعة وقد امتلأت بأشجار العنب والنخيل وفجر الله تعالى في وسطها نهراً، فاغتر الغني باتساع الحديقة وكثرة ثمارها ،فقال لصاحبه:" ما أظن أن تنتهي ثمار هذه الحديقة ،وزاد غروره فادعى أنه لو مات فلن يحرم من خيراتها بعد مماته،فنصحه صديقه الفقير بألا يكفر بالله،وألا يتكبر بنعمه ،وقال له:"أنظر إلي أنا أقل منك في المال والولد،ولكن عسى ربي أن يعطيني خيراً مما أعطاك،فلماذا لا تقول" ما شاء الله ،لاقوة إلا بالله"؟(أي أن كل هذا من فضل الله ولا يستطيع الحفاظ عليه غير الله)لكن الغني لم يستمع لنصيحته وفي الصباح دخل الغني حديقته ليتمتع بما فيه من خيرات وجمال،فوجد مفاجأة قاسية في انتظاره ،فقد وجد حديقته بلا ثمار ولا أوراق ،فقد فسدت ثمارها وتساقطت أوراق أشجارها،فأخذ يضرب كفا بكف من هول المفاجأة وندم على ما قاله لصديقه وقال:" يا ليتني لم أشرك بربي أحدا،وهكذا تكون كل من اغتر بنعمة الله ولم يشكره على نعمه ،ولم يعتمد على ربه ليحفظها له)(11)

ومثل هذه القصة أيضاً قصة "أصحاب الجنة" التي وردت في سورة القلم.

مرحلة السابعة حتى العاشرة

في هذه المرحلة ينبغي أن نحبب إليهم الإسلام من جانبين:

أولاً: كدين له أركان:

1- شهادة التوحيد:

( فإذا عرفوا الله تعالى في وقت مبكر تنامت هذه المعرفة ، وتراكم هذا العلم ، وتعمقت تلك التجربة ، وكلما ازدادوا يوماً في عمرهم ، ازدادوا قرباً من الله عز وجل ، فالذي يشب على طاعة الله شيء ، والذي يتعرف إلى الله في وقت متأخر شيء آخر ، وكُلاًَّ وعد الله الحسنى )(12)

فالله ربنا واحد لا شريك له ولا نظير ولا وزير،فلا يصح أن يكون هناك أكثر من قائد للمجموعة الواحدة و إلا اختلفا وفسد أمر هذه المجموعة ،كما أننا لا نراه بأعيننا لأننا لن نحتمل ذلك،لأن نوره أقوى من أن تتحمله أعيننا،ويمكن أن نحكي لهم قصة موسى عليه السلام والجبل.

ولكننا نستطيع أن نراه سبحانه في الجنة فقط؛ فهذه هي أعظم نعمة يمن بها الله تعالى على عباده المتقين في الجنة.

أما في الدنيا فهو-سبحانه- يرانا ويسمعنا أينما كنا ،ونحن نشعر به ونراه في كل شيء جميل من مخلوقاته، وقد كان الرسول صلى الله عليه وسلم حين يرى الهلال أول كل شهر ينظر إليه قائلاً:"ربي وربك الله"!!

2- الصلاة: إن الصلاة عماد الدين،بها يقام ،وبدونها يهدم- والعياذ بالله-لذا فإن تعليمهم إياها وترغيبهم فيها من أهم واجبات الوالدين التربوية،وفي تفصيلات هذا الموضوع يتحدث مقال بعنوان "كيف نحبب الصلاة لأبناءنا؟"-وهومنشور على موقع طريق الإسلام www.islamway.com -تحسبه كاتبة هذه السطور نافعاً.

3- الزكاة : في هذه المرحلة يتم تدريب الطفل على الزكاة من خلال تدريبه على الصدقة،فنتصدق أمامه بما تيسر،ونخبره أن الصدقة تطفيء غضب الرب وأن المؤمن في ظل صدقته يوم القيامة، فقد قال الرسول صلى الله عليه وسلم عن فضلها :

"كل امرئ في ظل صدقته حتى يُفصل بين الناس"

"تصدقوا ولو بتمرة؛ فإنها تسد من الجائع، وتطفئ الخطيئة كما يطفئ الماء النار"

"داووا مرضاكم بالصدقة" .

فالمال الذي نملكه هو مال الله عز وجل استودعه لدينا ليختبرنا به،ويرى ماذا سنصنع ؟كما ينبغي أن نشرح له الآية القرآنية:" مَثَلُ الذين يُنفقون أموالَهم في سبيل اللهِ كَمَثَل حبةٍ أنبَتَت سبعَ سنابلَ في كل سنبلةٍ مائةُ حبة ،واللهُ يُضاعفُ لمن يشاء"

و أن نعطيه الصدقة ليعطيها بنفسه للفقير والمحتاج ،ليشاركنا الأجر،ويشعر بحلاوة ذلك ويعتاده.

ونعلِّمه أن التصدق لا يكون بالمال فقط،وإنما بالملابس، والأحذية والكتب ،والحلوى،والآنية، والأدوات المدرسية...وما إلى ذلك من الأغراض التي تزيد عن حاجتنا ،و يمكن أن يحتاجها الفقراء.

وجدير بالذكر أن الطفل في نهاية هذه المرحلة يكون أكثر حرصاً على ممتلكاته،وأشد اهتماماً بأناقته وحسن مظهره من ذي قبل،فإذا رفض التصدق من ملابسه وأحذيته مثلاً،تركناه كما يشاء ،و اقترحنا عليه أن يتصدق من لعبه أو كتبه،أو غير ذلك مما يختاره هو، ولا ينبغي أبداً أن نُكرهه على الصدقة،أو غيرها،ولنتذكر قول الله تعالى : " لا إكراهَ في الدين"

ويمكن أن نخصص في البيت صندوقاً للصدقات يضع فيه الوالدان والأولاد ما هم في غنى عنه أو ما يستطيعون التصدق به،وكلما امتلأ قاموا بترتيب هذه الأغراض وأعطوها لمن يستحقها.

وينبغي أن نخبره بأن الصدقة (تحفظ المال من الآفات والمُهلكات والمفاسد، وتحل فيه البركة، وتكون سبباً في إخلاف الله على صاحبها بما هو أنفع له وأكثر وأطيب ،وقد دلت على ذلك النصوص الثابتة والتجربة المحسوسة؛ فمن النصوص الدالة على أن الصدقة جالبة للرزق قول من لا تنفد خزائنه:" وما أنفقتُم من شيء فهو يُخلفُه وهو خير ُالرازقين" {سبأ: 39)

كما نخبره بأن الأمر لا يقتصر على المجازاة على الصدقة بمثلها؛ بل يتجاوز ذلك إلى حال المتصدق عليه؛ إذ بمقدار إدخالها للسرور عليه، وإزالتها لشدائده، وتفريجها لمضايقه، وإصلاحها لحاله، ومعونتها له وسترها عليه؛ ينال المتصدق أجره من الله من جنس ذلك، يدل على ذلك قوله صلى الله عليه وسلم : "من نفَّس عن مؤمن كُربة من كُرب الدنيا نفَّس الله عنه كُربة من كُرب يوم القيامة، ومن يَسَّر على مُعسر يسَّر الله عليه في الدنيا والآخرة، ومن ستر مسلماً ستره الله في الدنيا والآخرة، والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه" ، وقوله صلى الله عليه وسلم : "من يلقَ أخاه المسلم بما يحب لِيَسُرَّه بذلك، سرَّه الله يوم القيامة"

وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم بوقوع ذلك فقال صلى الله عليه وسلم : "كان تاجر يداين الناس، فإذا رأى معسراً قال لفتيانه: تجاوزوا عنه، لعل الله أن يتجاوز عنا، فتجاوز الله عنه" )(13)

وينبغي أن نحكي لهم أمثال القصص التالية:

( قوله صلى الله عليه وسلم : " بينا رجل بفلاة من الأرض فسمع صوتاً في سحابة يقول:"إسقِ حديقة فلان، فتنحى ذلك السحاب فأفرغ ماءه في حرة( أرض ذات حجارة سوداء)؛ فإذا شرجة( ساقية ) قد استوعبت ذلك الماء كله، فتتبع الماء فإذا رجل قائم في حديقته يحول الماء بمسحاته، فقال له: يا عبد الله! ما اسمك؟ قال: فلان ـ للاسم الذي سمع في السحابة ـ، فقال له:" يا عبد الله لِمَ تسألني عن اسمي؟" فقال: "إني سمعت صوتاً في السحاب الذي هذا ماؤه يقول: اسق حديقة فلان ـ لاسمك ـ فماذا تصنع فيها؟" قال: "أما إذ قلتَ هذا؛ فإني أنظر إلى ما يخرج منها فأتصدق بثلثه، وآكل أنا وعيالي ثلثه، وأرد فيها ثلثه" وفي رواية: "وأجعل ثلثه في المساكين والسائلين )(13)

***

وقصة الرجل الذي اشترى حُلة،فتصدق بحُلتة القديمة،ثم جاءه مسكين،وفي يده رغيفاً ،فأعطاه كسرة منه، ثم رأى أعمى قد ضل الطريق ، فمشى معه وأرشده حتى وصل إلى غايته؛ فلما لقي ربه ورأى ثواب أعماله تلك؛ قال متحسراً:"يا ليتها كانت الجديدة(أي الحُلة)،يا ليته كان كله(أي رغيف الخبز)، يا ليته كان بعيداً(أي المشوار)

***

وقصة الأبرص ،والأقرع ،والأعمى الذين عافاهم الله تعالى ورزقهم ؛ثم نسوا فضل الله عليهم ولم ينفقوا مما رزقهم،إلا الأعمى فرضي الله عنه وسخط على صاحبيه.

فإذا استقر حب الصدقة في قلب الطفل ونفسه ورأيناه بدأ يتصدق من مصروفه أعلمناه أن الله تعالى فرض على المسلم أن يعطي المحتاجين نسبة قليلة ينبغي حسابها بدقة ،هذه النسبة تعد أقل بكثير من الصدقات التي ننفقها،هذه الفريضة هي الزكاة،ونحن لسنا مُخيَّرين في أن ننفقها وإنما نحن مخيرون في الصدقة فقط !

كما ينبغي أن يعلم الطفل أن زكاة القوة أن نعين الضعفاء،وزكاة العلم أن نعلِّم الجاهلين،وزكاة الصحة أن نعود المرضى ونقضي حوائجهم... وهكذا ؛ فعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: ((أن رجلا جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال:" يا رسول الله أي الناس أحب إلى الله؟ وأي الأعمال أحب إلى الله؟ فقال صلىالله عليه وسلم:" أحب الناس إلى الله تعالى أنفعهم للناس، وأحب الأعمال إلى الله عز وجل سرور تدخله على مسلم، أو تكشف عنه كُربة، أو تقضي عنه دينا،أو تطرد عنه جوعا ولأن أمشي مع أخي في حاجة أحب إلي من أناعتكف في هذا المسجد (يعني المسجد النبوي) شهرا، ومن كفَّ غضبه ستر الله عورته، ومن كظم غيظه ولو شاء أن يمضيه أمضاه ملأ الله قلبه رجاء يوم القيامة، ومن مشى مع أخيه في حاجة حتى يثبتها له أثبت الله قدمه يومتزول الأقدام، وإن سوء الخلق يفسد العمل، كما يفسد الخل العسل" صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم.

4- الصوم:

لقد فرض الإسلام تعليم الصبي الصلاة منذ السابعة من العمر حتى العاشرة، أما الصيام فهو أشق على النفس من الصلاة...ولكنه أحياناً يكون لدى بعض الأطفال الكسالى - الذين يُعرضون عن الطعام بطبيعتهم- أيسر من الصلاة!!! بينما نجده مشكلة لدى الطفل الأكول،لذا فإنه من واجبنا أن نعلِّمهم حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم:" نحن قومٌ لا نأكل حتى نجوع وإذا أكلنا لا نشبع" ونعينهم على تنفيذه اتباعاً للسنة،وتمهيداً لتيسير الصيام عليهم بالتدريج، ثم صيانةً لهم من الأمراض في المستقبل.

وبشكل عام ، فإن تدريبهم على الصيام ينبغي أن يتم تدريجياً،ووفق الظروف الصحية للطفل ؛ففي شهر رمضان من كل عام، يرى الطفل والديه، و الكبار من الأقارب والجيران والمدرسين يصومون فيشعر بالغيرة والرغبة في تقليدهم،لذا يجب أن نعينه على ذلك وننتهز هذه الفرصة بأن نشجعه و نتركه يصوم لمدة ساعتين مثلاً،ثم نزيد عدد الساعات حسب قدرة الطفل، وإذا رغب في الطعام تركناه حتى يشعر أن هذا أمر يخصه وأنه شيء بينه وبين ربه،ولا ينبغي أبداً أن نخاف عليه من الضعف أو الهزال؛ فشهر رمضان كالعطر يتبخر سريعاً، كما أن الطفل إذا اشتد به الجوع، فسيكون أمامه أحد أمرين:

إما أن يأكل لأنه لم يعد يتحمل الجوع،وبذلك نطمئن عليه.

وإما أن يحاول أن يتحمل الجوع ويجاهد نفسه ،وبذلك يتعود مجاهدة النفس والصبر على طاعة الله ،فنطمئن عليه أكثر!!!

ولا ينبغي أن ننسى مكافأته على اجتيازه فترة الصوم المحددة بنجاح ،ويكون ذلك بزيادة مصروفه مثلاً،أو أن تقول له الأم مثلاً:"أنا فخورة بك،فقد أصبحت الآن مثل الكبار تستطيع مجاهدة نفسك ومقاومة الشعور بالجوع والعطش"

وإذا جاء شهر رمضان في أيام الدراسة فللطفل الذي لا يزال في مرحلة التدريب أن يختار أن يصوم في فترة وجوده بالمدرسة ،ثم الإفطار بقية اليوم ؛أو العكس...حتى يستطيع أن يتم اليوم،خاصة وأن بعض المدارس تقلل ساعتين من فترة الدوام في رمضان بينما تتوقف الدراسة في هذا الشهر في البعض الآخر .

ولنتذكر أن مستقبل الطفل الحقيقي هو الآخرة،لذا ينبغي أن نعده لها خير إعداد وأن نخاف عليه من مخالفة أوامر الله أكثر مما نخاف عليه من الضعف أو التقصير في الدراسة.

5-الحج

مما يساعد على تهيئة نفس الطفل لحب فريضة الحج والشوق إليها أن نصحبه معنا لأداء العمرة بعد أن نتحدث معه عن مشاعر المسلم هناك و مدى كرم الله تعالى لضيوفه وترحيبه بوفده ،والرحمات التي تحيط بالكعبة ومواطن إجابة الدعاء حولها ، وفضل وحلاوة زيارة قبر الرسول صلى الله عليه وسلم، والبقاء في الروضة الشريفة...والأهم من ذلك أن يرى الوالدين مشتاقين إلى هذه الرحلة ويسمعهما يتحدثان عنها ،ويعدان لها بفرحة .

وبعد ذلك يمكننا أن نخبره بأن الحج -وهو صورة مكبرة من العمرة- فرض على كل مسلم ومسلمة في العمر مرة وأنه واجب على كل مستطيع بالغ عاقل،والاستطاعة تكون بالمال، والصحة، وتوفُّر الأمن حول طريق الحج.

وأن "الحج والعمرة ينفيان الفقر والذنوب"كما قال صلى الله عليه وسلم.

ولفضيلة الشيخ الشعراوي –رحمة الله تعالى عليه- قول في هذا ،وهو أن" المسلم لا ينبغي أن يعيش مرفهاً مترفاً ثم يقول:" أنا لست مستطيعاً من الناحية المادية إذن ليس لي حج" ولهؤلاء أقول أن الاستطاعة المادية تعني أنك لديك ما يفيض عن سد حاجاتك الأساسية ،فإذا كان لديك جهاز تبريد (ثلاجة ) مثلاً،فعليك ببيعها وادخار ثمنها للحج"!!إنتهى حديث فضيلة الشيخ.

ولمثل هؤلاء تقول أيضاً كاتبة هذه السطور: "أن من نوى طاعة ربه أعانه تعالى بقدرته على ذلك،ومن تكاسل وماطل وكَّله الله إلى نفسه"

وقد ثبت بالتجربة أن من يدَّخر من قوته ولو بمقدار جنيه مصري كل يوم بنية تأدية فريضة الحج أو حتى الذهاب للعمرة ؛فإن الله تعالى يبارك له في هذا المال، ويزيده له بما يكفيه لذلك، و بشكل يتناسب مع قدرته تعالى...وصدق الله العظيم القائل:"و من يتَّقِ اللهَ يجعل له مخرجا،ويرزقه من حيث لا يحتسب"

ومثل هذه الأفكار يجب أن يسمعنا أطفالنا ونحن نقولها ونحكيها لغيرنا حتى تترسب في عقولهم الباطنة ويشبَّوا عليها، فيصبحون مسلمين حقاً.

ثانياً: الإسلام كمنهج وسلوكيات:

من الممكن أن نعرِّفهم بآداب وسلوكيات الإسلام في هذه المرحلة عن طريق بعض أشرطة الفيديو من أمثلة:" سلام وفرسان الخير"، وسلسلة "الإبن البار"،ومجلات الأطفال الهادفة مثل "ماجد" ،و"سعد"اللتان تصدران في الإمارات العربية،و"العربي الصغير" الكويتية ،و سلسلة كتب "أخلاقيات من حكايات"التي تنشرها "المصرية للنشر والتوزيع"(* - )- وهي سلسلة مفيدة يشرف عليها المركز الفني للطفولة وتحكي قصصاً تغرس القيم ا لدينية في قلوب الأطفال بلطف ،وسلسلة "أخلاق من حكايات"،وسلسلة "من أخلاق النبي صلى الله عليه وسلم للأطفال" التي تصدر عن "دار الإيمان للنشر والتوزيع" (**) ،وسلسلة كتب سفير،وغير ذلك مما يتيسر.

كما ينبغي أن نبدأ تعليمه ذكر الله تعالى بأن يقول حين يصبح:" أصبحنا وأصبح المُلك لله، والحمد لله"؛وحين يمسي:" أمسينا وأمسى الملك لله، والحمد لله"، و" أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق" كما نعلمه أن يبدأ كل عمل له ببسم الله ،وأن يختمه بالحمد لله،كما نعلِّمه ما يقول حين يدخل الخلاء وحين يخرج منه،وأن يتلو آية الكرسي قبل أن ينام لقوله صلى الله عليه وسلم:" من قرأ آية الكرسي ليلاً لم يزل عليه من الله حافظاً حتى يصبح"

وكما نشجعه على طاعة الله ، فينبغي أن نشجعه أيضاً على اللعب وممارسة الرياضة،ونخبره أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يسابق السيدة عائشة ،وهي صغيرة السن،وكان يأمر صغار الصحابة قائلا:

" إرموا فإن أباكم كان راميا"،و يعقد بينهم السباقات والمبارزات المختلفة،وأن عمر بن الخطاب-أميرالمؤمنين- قال :"علِّموا أولادكم السباحة ،والرماية، وركوب الخيل" .

ومما يعين الوالدين على تحمل الجهد والمشقة من أجل لعب الأولاد وممارستهم الرياضة أن تكون نيتهم من ذلك هي تربية جيل مسلم صحيح النفس والجسد ؛وإدخال السرور على قلوب أبنائهم ،فيهون التعب،وينالا الأجر والثواب على ذلك إن شاء الله.

مرحلة الحادية عشر ة حتى الرابعة عشرة

في هذه المرحلة يكون النصح والإرشاد عقيمين إن لم نتعامل معه كأصدقاء، وإن لم يأخذ الحديث شكل الحوار الهادىء الهادف، بدلاً من إصدار الأوامر والتعليمات ، مع الاستفادة من الجلسات الجماعية التي تضمه مع أصدقاءه أو المقربين إليه… ومن خلال ذلك ينبغي أن نقوم بشرح معاني الأركان الخمسة للإسلام كما يلي:

1- شهادة التوحيد: (فشهادة التوحيد هي بداية الطريق،والاستجابة لله هي معالم هذا الطريق)(14) فينبغي أن نتحدث إليه عن الإيمان بالله الواحد الذي لا شريك له،فهو وحده كل شيء وما عداه لا شيء،(فالإنسان به موجود، وبدونه لا وجود له... أو بعبارة أخرى هو صفر لايساوي شيئاً،والناس كلهم أصفارٌ،مهما كثر عددهم،ولا يكون لهم مدلول إلا إذا وُضعوا عن يمين الواحد القهار!!! فعندئذٍ فقط يصيرون بعونه –تعالى- ذوي قيمة )(15)

كما ينبغي أن يعرف الطفل أن المسلم يؤمن بوجود الملائكة التي هي جند الله ينفذون أوامره ولا يعصونه،يسبحونه ليل نهار ولا يفترون؛

كما يؤمن بالكتب السماوية التي أنزلها على رسله لتمهد لنزول القرآن الكريم ؛الكتاب المعجز الجامع المانع،وأن الرسل كلهم عباد الله إخواناً،أرسلهم الله تعالى ليخرجوا الناس من الظلمات إلى النور.

وأن المسلم لابد أن يرضى بقضاء الله مهما بدا له أنه شر،فعسى أن يكره الإنسان شيئاً وهو خير له،ونضرب له الأمثال على ذلك من حياتنا اليومية؛مع التوضيح بأن الله تعالى يحب الصابرين ويكون معهم ؛وأن هؤلاء الصابرين ينالون أجرهم يوم القيامة بغير حساب!!!

2-الصلاة:

ينبغي أن يعي الطفل أن الصلاة ليست إسباغ الماء على مواضع الوضوء،ثم الإتيان بحركات متكررة وتلاوة بعض الآيات المتكرر بعضها أيضا،لأنهم لو صلوا بهذه الطريقة فسرعان ما يصيبهم الملل؛ فيسأموها والعياذ بالله... بل ينبغي أن يعرفوا أنها لقاء مع رب الأرباب ،مع مالك الملك، مع الغفور الودود ،ذو العرش المجيد، الفعال لما يريد!!!

ومن ثم ينبغي أن يعرفوا مراتب الناس في الصلاة التي صنَّفها الداعية الإسلامي الأستاذ "عمرو خالد" في كتابه"عبادات المؤمن" (16)، ليختاروا المرتبة التي يحبونها لأنفسهم...

وهذه المراتب هي:

1- الذي لا يحافظ على الصلاة، ولا على وقتها، ولا وضوءها ،ولا أركانها الظاهرة من القيام والركوع والسجود والخشوع ...فهذا معاقَب بإجماع العلماء.

2- الذي يحافظ على الوضوء ووقت الصلاة والأركان الظاهرة بلا خشوع ...وهذا محاسَب على صلاته حساباً شديدا.

3- الذي يحافظ على الوقت والوضوء والأركان الظاهرة ،ثم يجاهد شيطانه،فيخشع لبعض الوقت،ويسهو لبعض الوقت؛ فالشيطان يختلس من صلاته ويسرق منها ...فهذا في صلاة وجهاد، فله أجران!!!

4- الذي يحافظ على الوقت ،والوضوء،والأركان الظاهرة والخشوع...فأجره عظيم؛وهو نوع نادر.

5- الذي يحافظ على الوقت والوضوء والأركان الظاهرة ،ولكنه قد خلع قلبه وأسلمه لله عز وجل ...فهذا أعلاهم مرتبة!

الصلاة في المسجد:

من الواجب أن نشرح له معاني الآية الكريمة:: " في بيوتٍ أذِن اللهُ أن تُرفع و يُذكَر فيها اسمُه " سورة النور؛ وأن نوضح له أن من صلى في المسجد فقد زار الله تعالى في بيته ، وحق على المَزور أن يكرم زائره،فإذا كان المَزور هو الكريم، الجواد، خير الرازقين...فما أجملها من زيارة ؛ وما أعظمه من أجر!!!

كما نرغِّبه فيها من خلال أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم عن هذه الصلاة ؛ مثل:" من غدا إلى المسجد أو راح،أعد الله له نُزُلاً في الجنة كلما غدا أو راح"،و" من تطهر في بيته ثم غدا بيتا من بيوت الله ليقضى فريضة من فرائض الله ، كانت خطواته إحداها تحط خطيئة و الأخرى ترفع درجة. "

3- الصوم : في هذه المرحلة يكون الطفل قادراً على إتمام اليوم من حيث تحمل الجوع والعطش، ولذلك يجب أن يتقدم عن المرحلة السابقة بمعرفة روح الصوم وأنه لم يُفرض لتعذيب المسلمين، وأن أحد أهداف الصوم هو الشعور بجوع الفقراء،وترويض النفس على الصبر وتحمل الشدائد،وتغذية الروح بطاعة ربها مع الإقلال من تغذية الجسد، والوصول بالمسلم إلى تقوى الله في السر،والعلن ، كما ينبغي أن يعرف أن الصوم يعني كف أذى اللسان والجوارح عن الغير،وغض البصر عن محارم الله تعالى ،و أن ثواب الصائمين لا حدود له وأن الله سبحانه هو وحده الذي يقرر مقداره لأن الصوم عبادة إخلاص لله عز وجل ولا يعرف مدى صدقها والإخلاص فيها إلا هو.

4- الزكاة:

في هذه المرحلة ينبغي أن نتلو عليه آية مصارف الزكاة :" إنما الصدقات للفقراء والمساكين والعاملين عليها والمؤلفة قلوبهم ،وفي الرقاب والغارمين، وفي سبيل الله، وابن السبيل "(التوبة-60) ونكررها معه حتى يحفظها،مع شرح معانيها .

وينبغي أن نعرِّفه أن الإنفاق على ذوي الأرحام والجيران أفضل وأعظم أجراً من الإنفاق على غيرهم، فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (الصدقة على المسكين صدقة، وعلى ذي الرحم اثنتان: صدقة وصلة)

كما ينبغي أن نوضح له معنى الآية الكريمة:" ولا تيمَّمُوا الخبيثَ منه تنفقون،ولستُم بآخذيهِ إلا أن تُغمضوا فيه" فالصدقة تقع في يد الرحمن قبل يد الفقير، لذا فقد كانت السيدة عائشة رضي الله عنها تعطِّر الدراهم قبل أن تتصدق بها!!!

5- الحج:

في هذه المرحلة يستطيع الطفل أن يفهم الحكمة من الحج،فهو المؤتمر الإسلامي الأكبر الذي يجمع المسلمين من شتى بقاع الأرض ،ومن كل فج عميق ؛على اختلاف ألوانهم وأجناسهم ولغاتهم ،ولا يتبقى لهم لغة إلا لغة التوحيد والإخلاص لله تعالى والتجرد له وحده، دون الأهل والولد والمال ،وغيرهم؛ "ليشهدوا منافع لهم ويذكروا اسم الله على ما رزقهم من بهيمة الأنعام" فيختلطون ويتعارفون ويؤْثرون بعضهم بعضا ويتعاونون، ويعلمون أنهم جميعا في دين الله إخوانا.

(وأنه رحلة الاتجاه إلى الله وحده بالنفس والقلب والحواس،وهي بداية عهد وميثاق جديد مع مالك الملك الغني عن العالمين،وهي رحلة إعلان الرفض للشيطان ،ومناهجه وخطواته،وهي تعبير عملي وإعلان عن بدء حياة جديدة في طريق الحق،وعن الخضوع المطلق لله ...فهي شرف لا يطاوله شرف آخر، فتلبية دعوة الله شرف وتكريم من الله تعالى للحاج،فمن قصد البيت شهد الجدران وكسوة الأركان،ومن قدِم على رب البيت شهد من جلاله ما هو أهل له) (14)

وأن (الحج هو جهاد النساء،فقد سألت عائشة رضي الله عنها قالت:

" يارسول الله ،هل على النساء من جهاد؟"

قال:"عليهن جهاد لا قتال فيه ..الحج والعمرة "

ويقول صلى الله عليه وسلم:" الحُجاج والعُمَّار وفد الله ،إن دعوه أجابهم وإن سألوه أعطاهم،وإن استغفروه غفر لهم"

وفي هذه المرحلة يمكن أن نفهمهم المزيد عن آداب وأخلاقيات الإسلام ،ومنها ما حواه هذا الحديث الشريف من منهاج جامع للمسلم :" إتق الله حيثما كنت وأتبع السيئة الحسنة تمحها،وخالق الناس بخُلقٍ حسن"(فهو يحدد علاقة الإنسان مع ربه أولاً،فيقول له: إجعل بينك وبين عذاب الله تعالى وقاية من خلال خشيته في السر والعلن،فإن كان الخلق لا يرونك في موضع،فالله يراك في كل المواضع؛ثم علاقته مع نفسه قائلاً له : لا تقسُ كثيراً على نفسك إذا وقعت في معصية وإن كبُرَت، فأنت بشر، وكل ابن آدم خطَّاء وخير الخطَّائين التوابون، فإياك أن تتصور أن ذنبك أكبر من عفوه تعالى،إذا عصيته فلا تيأس وإنما سارع بالتوبة والأعمال الصالحة قبل أن يتلقاك الشيطان وأعوانه فيصدوك عن سبيل الله ؛وفي النهاية تعامل مع الناس -كل الناس- باخلاق نبيك الكريم،الذي كان أعداءه يحبونه ويشهدون بحسن خلقه قبل أصدقاءه،ولنا فيه الأسوة الحسنة)(17)

ومن المفيد أن نهدي إليه كتيب يحوي الأدعية الخاصة بالنوم والاستيقاظ وتناول الطعام والدخول للخلاء والخروج منه ودخول البيت والمسجد...إلخ ؛أو نلصق ملصقات بها هذه الأدعية في أماكنها المختلفة بالبيت،حتى يحفظها.

مرحلة الخامسة عشرة حتى الثامنة عشرة

في هذه المرحلة يجب أن نوجه أبناءنا-بالحُسنى- إلى أن:

• شهادة التوحيد يجب أن تكون بالقلب واللسان، فالمسلم قد ينطق بالشهادة بلسانه،ولكنه يشرك مع الله تعالى ماله أو وولده،أو زوجته ،أو أهواءه، أو عمله،أو الموضة، أو الناس...إلخ ،وذلك بأن يحب أحد هؤلاء أكثر مما يحب الله عز وجل،أو يفضل ما يمليه عليه هؤلاء على مراد الله وأوامره ونواهيه.فينبغي أن يدرب نفسه –بمساعدة الوالدين أو المربين-على الإخلاص لله في القول والفعل؛و أن يعلم أن مادون الله باطل ،وأنه ينبغي أن يؤْثِر الله الباقي على كل ما هو دونه مما هو فانٍ.

ويمكن أن نناقش معه بعض معاني آية الكرسي-التي جمعت أصول التوحيد كلها على أتم وجه وأبلغ أسلوب في جمل موصولة من غير فاصل بينها بحرف من حروف العطف،فهي موصولة المبنى والمعنى،ويفسر بعضها بعضاً-كما ذكرها الدكتور "محمد بكر إسماعيل" : ( فالله هو المعبود بحق،ولا معبود سواه وهو الحي الباقي بقاءً سرمدياً ،حياة لا يشاركه فيها أحد،وهو مدبر الأمر الذي يسوس المُلك بعلمه المحيط وإرادته التامة،وقدرته المهيمنة،فمن شأن المعبود بحق أن يقوم على حاجات عباده وتصريف شؤونهم!!

ومن المنطقي أن المعبود بحق الذي يدبر الأمر لا تقهره غفلة ولا نوم عن تدبير ملكه،وهذا توكيد على قيامه سبحانه على كل شيء وقيام كل شيء به.

وهو الذي له الملك كله إيجاداً وخلقاً وتقديراً وتدبيراً فهي ملكية لا ينازعه فيها أحد،و من ثم فإن كل ما في ملكه – ولا ملك إلا ملكه- فهو عبد له،ناصيته بيده ماض فيه حكمه،عدل فيه قضاؤه.

وهو المتفرد بأمر العباد ،فلا يشفع أحد لأحد في شيء إلا بإذنه،فالعبيد جميعا يقفون في الحضرة الإلهية موقف العبودية ،وهو موقف الخضوع والخشوع والاعتراف المطلق له بالهيمنة على خلقه...وما يتفاضلون بينهم إلا بالتقوى ؛وفق ميزان الله الدقيق.

وهو العليم الذي لا تَخفى عليه خافية من مكنونات الصدور و مطويات الضمير،بل أنه يعلم من أنفسهم ما لا يعلمون منها...هذا العليم لا يدرك أحد –بعقله القاصر-من علمه تبارك وتعالى إلا بمشيئته وحده وبالوسيلة التي يختارها لهم،فلا يدعي مُكابر أنه قادر على تحصيل شيء من العلم بملكاته الذاتية،أو يُفتتن بما أذن الله له فيه من علمه،سواء كان هذا الذي أذن له فيه علم شيء من نواميس الكون،أو رؤية شيء من غيبه في لحظة عابرة إلى حد معين.

أما كرسيه تعالى فهو من الأخبار التي يحملها السلف الصالح على ظاهرها من غير تأويل فيقولون:" لله كرسي دون العرش ، لا يعلم حقيقته إلا هو جل شأنه"

وهذا الملِك القائم على شؤون خلقه الذي دبر ملكه تدبيرا محكما يخلو من التفاوت والخلل ،لا يُعجزه حفظ السماوات والأرض وما فيهما،فكل ما في ملكه في حيز قدرته التامة.

و بناءً على ما سبق ؛فهو المتفرد بالعلو والعظمة لا ينازعه فيهما أحد، فالكبرياء رداؤه والعظمة إزاره من نازعه أحدهما أصابه الهوان وداسته الأقدام)(15)

كما ينبغي أن نوضح أن الله تعالى يبسط على عباده من رزقه وفضله ورحماته ، في أحيان ،ثم يقبضها عنه في أحيان أخرى...وهكذا يقلبه بين حال وحال،كي لا يغتر بنفسه أو يطيب له البسط فيبتعد عن ربه ويطمئن إلى الدنيا،وفي نفس الوقت كي لا يضيق بحياته إن استمر به القبض طويلاً...فينبغي على المسلم أن يظل عابداً للقابض الباسط وليس للأحوال، وأن يرضى بما قسمه الله له...يقول الإمام الغزالي رحمه الله:" ليس في الإمكان أبدع مما كان ، ولو كُشف الغطاء لاخترتم الواقع،ولو أن كل إنسان انزعج من شيء ساقه الله إليه،ثم كشف الله تعالى له علم الغيب لما تمنى إلا أن يكون كما هو!!!)(18)

كما بمكن إهداؤه كتاب "فاعلم أنه لا إله إلا الله" للشيخ عائض القرني، الذي يشرح بعض جوانب العقيدة من كتاب "التوحيد" للشيخ محمد بن عبد الوهاب.

• وأن الصلاة في المسجد سنة مؤكدة للرجال إلا بعذر، أما النساء فعليهن بالصلاة بالمسجد ما استطعن،و إلا فعليهن بالصلاة في أول الوقت(أي لا تؤخرها أكثر من ثلث ساعة بعد الأذان)(19) وأن الزكاة فرض على المسلم-أي أنه لا اختيار له في هذا الأمر-وينبغي أن يحسبها بدقة ، وألا يخلطها بأموال الصدقة،وأن ينفقها في مصارفها التي حددها الله في القرآن.

و أن الزكاة تطهر النفس من البخل ،كما تطهر المال مما قد يختلط به من المال المشبوه ،و تزكِّي المؤمن فتزيد من حالته الإيمانية،وترفع درجاته عند ربه تبارك وتعالى.

كما ينبغي أن يعرف أنواع الزكاة ؛ وأن لكل نوع طريقة في الحساب.

• وأن الصوم ليس إمساك عن الشراب والطعام والشهوة فقط،وإنما هو التزام يؤدي على التقوى،وهو عطية غالية من الجواد الكريم، فلا ينبغي أن نضيعها.

ويمكن أن نستمع معه إلى درس يتحدث في ذلك بشمولية وإيجاز وهو درس "كيف تستقبل رمضان" (20)

وأن من يترك أداء فريضة الحج وهو مستطيع فإنما يأتي عملاً من أعمال الكفر ،والدليل قوله تعالى:" وللهِ على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا،ومن كفر فإن الله غنيٌ عن العالمين"(آل عمران-97)(فمناسبة مجيء الكفر بعد ذكر الحج هو أن المسلم الرافض لأداء فريضة الحج يدخل في دائرة خطيرة)(16)؛ فهو يهدم ركناً قوياً من أركان دينه،وعموداً أساسياً من أعمدة إ يمانه.

(يقول عمر بن الخطاب رضي الله عنه في تاركي الحج :"والله لقد هممت أن أكتب في الأمصار أن من كان غنيا ويجب عليه الحج فافرضوا عليه الجِزية!!"،ويقول سعيد بن جبير –وهو عالم وفقيه من أئمة السلف- لو علمت أن في البلدة التي أعيش فيها غني من الأغنياء كان يستطيع الحج ولم يحج ومات على ذلك ما صليت عليه الجنازة!!

وفي حديث الرسول صلى الله عليه وسلم أن امرأة جاءت له صلى الله عليه وسلم فرفعت صبياً-ما يدل على أنه صغير السن خفيف الوزن-وقالت:" يا رسول الله ألهذا حج؟ قال :" نعم ،ولك الأجر")(16)

(وفي الحج استشعار حقيقي لمشاهد من يوم القيامة حيث الزحام الشديد،والملابس التي تشبه الأكفان،والأذان بالحج يشبه النفخ في الصور،والكل في خشية ووجل من الله تعالى طمعاً في المغفرة والثواب؛وكيف لا ،والله تعالى يقول في مطلع سورة الحج:" ياأيها الناسُ اتقوا ربَّكُم إنَّ زلزلةَ الساعةِ شيءٌ عظيم" ؛ فالحج صورة مصغرة من يوم الزلزلة.

كما أن الحج يدرب المؤمن على الجهاد والمثابرة ابتغاء مرضاة الله، حين يجرده من كل الرفاهية التي يعيشها في بيته وبلده.

وفيه تقوية لأواصر الوحدة بين المسلمين بشتى جنسياتهم واختلاف ألوانهم، وفيه إشارة لوجوب استمرار هذه الوحدة بعد الحج

كما أن الحج تربية أخلاقية عظيمة ،فالحاج لا يرفُث ولا يفسُق ولا يجادل ولا يصخب ولا ينتصر لنفسه،ولا يكذب...إلى آخر الأخلاق الإسلامية الحميدة)(16)

وفي هذه المرحلة ينبغي للطفل أن يعلم فضل أذكار الصباح والمساء المأخوذة عن السنة النبوية الشريفة ،وأنها حصنه من الشيطان والنار،فنهديه كتيب مثل "حصن المسلم من أذكار الكتاب والسنة" لسعيد بن علي بن وهف القحطاني" ونشجعه على أن يهديه لأصحابه ومعارفه لنيل الأجر والثواب.

وبالإضافة إلى تعليم أولادنا أركان الإسلام وتحبيبهم فيها ينبغي أن نعلمهم ما يدعم هذه الأركان ،ومن ذلك ما يلي:

حب الله ورسوله:

(يقول الإمام بن تيمية:" مساكين أهل الدنيا ،خرجوا منها ولم يذوقوا أحلى ما فيها،قيل وما أحلى ما فيها؟ قال:" حب الله عز وجل")(16)

"ومن أمثلة المحبين لله تعالى حقاً وصدقاً ابن القيم –رحمه الله- الذي يقول:" في القلب شعث(تمزق) لا يلُمُّه إلا الإقبال على الله، وفي القلب وحشة لا يزيلها إلا الأُنس بالله وفي القلب خوف وقلق لا يُذهبه إلا الفرار إلى الله ") (16)

ولزرع حب الله تعالى في قلوبهم الصغيرة طرق كثيرة وفي ذلك يمكن قراءة مقالة تتحدث عن "أطفالنا وحب الله عز وجل" على موقع طريق الإسلام.

بر الوالدين

ينبغي أن يعرف الطفل فضل والديه والمراحل التي لم يرها من عمره وهو جنين، ثم وليد، ثم رضيع،من خلال القصص المشوقة،ومن خلال من يراهم ممن حوله من أبناء الأقارب والجيران وغيرهم.

كما ينبغي علينا أن نعينه على برنا كوالدين من خلال برنا به وإعطاءه حقوقه عندنا من الحب ،والاحترام، والتقدير، والعطف،والشعور بالأمان...وغير ذلك؛كما قال صلى الله عليه وسلم:" لاعبه سبعاً ، وأدِّبه سبعاً ،وصاحبه سبعاً".

هذا بالإضافة إلى أن نكون لهم قدوة،فنبر نحن آباءنا ليبرنا أبناءنا!

كما ينبغي أن نعلمهم الدعاء للوالدين في حياتهم وبعد مماتهم.وأن نعلمهم أن رضاهما من رضا الله سبحانه،وأن الإحسان إليهما مقترن بطاعة الله تعالى ،لقوله سبحانه:" واعبدوا اللهَ ولا تُشركوا به شيئاً، وبالوالدين إحسانا"

ويساعد على ذلك أن نحكي لهم من القصص الواقعية التي تبين فضل برهم،ومنه قصة أصحاب الغار الذين حُبسوا فيه بصخرة،ثم ظل كل منهم يدعو الله تعالى أن يخلصهم بفضل عمل صالح قام به ،فكان أولهم يطعم والديه ويسقيهم قبل أولاده وزوجته ،فلما عاد ليلة ووجدهما نائمين كره أن يوقظهما وفي نفس الوقت لم يرد أن يؤثر أولاده عليهما فترك أولاده يصطرخون من الجوع وهو جالس إلى جوارهما يحمل إناء اللبن حتى استيقظا؛فسقاهما ثم سقى أولاده؛فدعا الله قائلاً: اللهم إن كنت قد فعلت ذلك ابتغاء مرضاتك ففرج عنا ما نحن فيه؛ فانفرجت الصخرة قليلاً عن الغار بفضل صنيعه هذا.

ذكر الله

والذكر في هذه المرحلة لا يكون فقط باللسان وإنما بالقلب، والله تعالى يقول:"إذكروني أذكركم"،فهنيئاً لذاكر الله تعالى بالخير والرحمة والبركة والمغفرة،فإن من نسيه الله صار مغموراً ضائعاً لا ذكر له في الأرض ولا في الملأ الأعلى) (14)

ويمكن أن نقول لأولادنا:(لك أن تتخيل أنه إذا ذكرك بالخير مدير المدرسة مثلا أو مدير النادي،أو محافظ البلدة التي نسكن بها، أو رئيس الجمهورية،فماذا يكون شعورك؟ أما إذا ذكرك ملِك الملوك جل شأنه فماذا أيضاً يكون شعورك؟!!!)(21)

مراقبة الله في السر والعلن

وهو أدب يتعلمه الطفل من خلال الصيام، ثم نقوِّيه لديه من خلال رواية بعض القصص الواقعية التي حدثت معنا وآثرنا فيها رضى الله حتى ولو لم يكن أحد يرانا غيره،ومثل قصة بائعة اللبن التي كانت أمها تريدها أن تغش اللبن بالماء،فلما رفضت وقالت لها الأم:" لماذا؟ إن عمر لا يرانا،فردت الإبنة :" إذا كان عمر لا يرانا فإن الله يرانا"،فأُعجب عمر بن الخطاب -الذي سمعهما حين كان يتفقد أحوال الرعية - بقوة إيمانها وحرص على أن يخطبها لابنه ،فكانت ثمرة الزواج هو خامس الخلفاء الراشدين الأمير "عمر بن عبد العزيز"!!!

إخلاص النية في العمل لله:

من المفيد أن يعلم الطفل أنه إذا نوى بكل ما يفعله مرضاة الله تعالى؛ فإنه سينال عظيم الأجر على كل ما يمارسه من أمور حياته:( فيروِّح عن نفسه لكي يقوى على الطاعة؛ ويمارس الألعاب الرياضية ليكون مسلماً قوياً؛ ويأكل باعتدال ليكون مسلما صحيحاً معافى في نفسه وبدنه،ويذهب إلى الأماكن الخلوية والمتنزهات ليتفكر في خلق الله ويَذْكره بين أناس غافلين؛ويتعلم العلم الدنيوي والشرعي ليفيد المسلمين وغيرهم بعلمه ؛ولا يضر نفسه وغيره بجهله،ولأن العلم في الإسلام فريضة على كل مسلم ومسلمة؛ويتعلم اللغات ليأمن مكر أعداءه وليدافع عن دينه،ويدعو إليه،ويستمع إلى الأخبار المحلية والعالمية ليهتم بشؤون غيره من المسلمين ؛ويحاول مساعدتهم ولو بالدعاء، وينوي بالزواج أن يكوِّن أسرة مسلمة تعبد الله وتذكره...وهكذا)(22)

التوكل على الله

كان الرسول صلى الله عليه وسلم يحرص على تعليم الغلمان من أولاد الصحابة كيف يتوكلون على الله حق التوكل،فقد كان يركب وراءه ذات مرة ابن عباس،فقال له:"يا غلام إحفظ الله يحفظك،إحفظ الله تجده تجاهك،واعلم أن الأمة لو اجتمعت لينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك،وأن الأمة لو اجتمعت ليضروك بشيء فلن يضرونك إلا بشيء قد كتبه الله عليك،رُفعت الأقلام وجفت الصحف"...فما أعظمه من حديث ،لذا ينبغي أن يعلق في إطار على الحائط ليراه أهل البيت ويبث فيهم روح اليقين في الله، والرضا بقضاءه،والشجاعة والإقدام وحسن التوكل عليه تعالى،مع أهمية أن نشرح له أن التوكل يعني الأخذ بالأسباب بالجوارح مع التوكل على الله بالقلب،أي التيقن من أن تحقيق الغاية لن يتم إلا بأمر الله؛فإذا لم يكن هناك أسباب يمكن اتخاذها فالأمر لله، وهنا ينبغي التضرع والدعاء له تعالى لتحقيق تلك الغاية، مع الثقة في حكمته وأن كل ما يأتي به الله خير.

ومما يعينه على ذلك أن نحكي له من مثل القصص الواقعية التالية:

لما فتح القائد "عمرو بن العاص" مصر منع عادة عروس النيل التي تقضي بإلقاء فتاة شابة مزينة بالحلي في النيل ليفيض عليهم ،فتوقف النيل عن الجريان لمدة ثلاثة شهور،فأرسل عمرو بن العاص إلى عمر ليستشيره،فأرسل يقول له: حسناً فعلت وأرجو أن تلقي في النيل رسالتي التالية:" هذه رسالة من عمر بن الخطاب إلى نيل مصر أما بعد،فإن كنت تجري من لدن الله فنسأل الله أن يجريك... وإن كنت تجري من لدنك،فلا تجري فلا حاجة لنا فيك"،فجرى النيل وفاض!

ويقول الداعية الإسلامي الأستاذ "عمرو خالد":

كان لي صديق يعمل في إحدى الفنادق الكبيرة بالقاهرة،وكان من ضمن مهام مهنته أن يعد لحفلات يرتكب فيها محرمات،وبينما هو يعد قائمة بالمطلوب لإحدى هذه الحفلات،نظر أمامه فإذا بالشيخ محمد متولي الشعراوي -رحمه الله- يتناول الطعام أمامه في المطعم، فتيقظ ضميره وشعر أنه يأتي مُحرَّماً ،فما كان منه إلا أن ترك ما بيده وذهب إليه يسأله،هل ما أفعله بوظيفتي حلال أم حرام؟ فقال له:" إنه حرام"،فقال له "فماذا أفعل ؟" فقال له:" إتركها"،فرد الشاب "إن لي زوجة وأولاد،فمن أين سنجد قوتنا؟"،فرد عليه الشيخ الجليل:" يابني إنه (من يتق الله يجعل له مخرجاً ويرزقه من حيث لا يحتسب)"،فقال له:" إذن أظل بوظيفتي حتى أجد غيرها ثم أتركها"،فرد الشيخ الشعراوي بحزم:" يا بني إنه يقو ل:من يتق الله (أولاً) يجعل له مخرجاً (بعد ذلك)...فكيف تريده أن يجعل لك مخرجاً وأنت لم تتقه؟"

فظل الشاب يفكر حتى هداه الله تعالى إلى كتابة الاستقالة والتوكل عليه سبحانه،ولكنه قبل أن يتم كتابتها إذا بمدير سلسلة الفنادق التي ينتمي إليها هذا الفندق يتصل به ويقول:"أريد أن أخبرك بشيء،فرد الشاب وأنا أيضاً أريد أن أخبرك بشيء-يعني الاستقالة- ولكن المدير قال له: "سأقول لك أنا أولاً: لدينا وظيفة شاغرة لمدير فرعنا بالمدينة المنورة وقد اخترتك لها،فما رأيك؟!!!"(23)

وهذه قصة واقعية أخرى لمسلم توكل على الله وافتخر بانتماءه للإسلام واعتز بتفضيل مراد الله على مراده:

يقول الدكتور "عبد الله الخاطر" الذي كان يعيش في انجلترا لدراسة الدكتوراه:"إلتقيت بشاب إنجليزي يعيش في جنوب لندن،وقد أسلم حديثاً،وبعد إسلامه بثلاثة أسابيع عثر على وظيفة ، فحاول غيره من الشباب المسلمين أن يحذروه من أن يقول أنه قد أسلم حين يذهب للمقابلة الشخصية،حتى لايكون ذلك سبباً في عدم قبوله،فيتأثر نفسياً فيرتد عن دينه،إلا أن هذا الشاب توكل على ربه ولم يخشهم،فذكر لأصحاب العمل أنه قد أسلم وكان اسمه"رود"، فاصبح "عمر"،وقال لهم أيضاً بفخر:"لقد غيرت ديني واسمي وأريد وظيفة تتيح لي وقتاً للصلاة، فما كان منهم إلا أن قبلوه في تلك الوظيفة!!! وكان الأمر أعجب عندما قالوا له:" إننا نريد في هذه الوظيفة رجلاً عنده القدرة على اتخاذ القرارات وأنت عندك قدرة عظيمة جداً في اتخاذها،فقد غيرت اسمك ودينك وهذا إنجاز كبير!!! (24)

كما يمكن أن نسمع معهم قصصاً أخرى بنفس المعنى في درسي "التوكل" و"اليقين"(ضمن سلسلتي: إصلاح القلوب،ودروس أخرى على موقعه www.forislam.com)

وينبغي أن نحكي لهم عن نماذج مشرفة عرفت الله حق معرفته فارتاحت وقنعت وسارت على الدرب الصحيح من أمثال "حاتم الأصم" الذي تتلمذ على يد "شفيق البلخي" ،(وسأله معلمه يوما:" كم صحبتني؟" فقال له:"منذ ثلاث وثلاثين سنة"،فقال له:" وما تعلمتَ مِنِّي ؟" قال: "ثمان مسائل"،قال شفيق :" إنَّا لله وإنا إليه راجعون ، ذهب عمري معك ولم تتعلم مني إلا ثمان مسائل؟! قال:" يا أستاذ لم أتعلم غيرها و إني لا أحب أن أكذب"،فقال له:" هات ماهي حتى أسمعها"،قال حاتم:

• نظرت إلى هذا الخلق فرأيت كل واحد يحب محبوباً فهو مع محبوبه إلى القبر،فإذا وصل إلى القبر فارقه،فجعلت الحسنات محبوبي فإذا دخلت القبر دخل محبوبي معي.

فقال أحسنت يا حاتم فما الثانية؟ قال:

• نظرت في قول الله تعالى:" وأما من خاف مقامَ ربه ونَهى النفس عن الهوى،فإن الجنةَ هي المأوى"فعلمت أن قوله تعالى هو الحق،فأجهدت نفسي في دفع الهوى حتى استقرت في طاعة الله تعالى.

• الثالثة أني نظرت إلى هذا الخلق فرأيت كل من معه شيء له قيمة ومقدار رفعه وحفظه ثم نظرت إلى قول الله تعالى :" ما عندكم ينفَد وما عند اللهِ باق"فكلما وقع معي شيء له قيمة ومقدار وجهته إلى الله ليبقى عنده محفوظاً.

• الرابعة أني نظرت إلى هذا الخلق فرأيت كل واحد منهم يرجع إلى المال والشرف والنسب،فنظرت فيها فإذا هي لا شيء ثم نظرت إلى قوله تعالى :" إن أكرمكم عند الله أتقاكم" فعملت في التقوى حتى أكون عند الله كريما.

• الخامسة أني نظرت إلى هذا الخلق وهم يطعن بعضهم في بعض،ويلعن بعضهم بعضاً،وأصلُ هذا كله الحسد ثم نظرت إلى قوله تعالى:" نحن قسمنا بينهم معيشتهم في الحياة الدنيا"فتركت الحسد واجتنبت الخلق وعلمت أن القسمة عند الله فتركت عداوة الخلق عني.

• السادسة: نظرت إلى هذا الخلق يظلم بعضهم بعضا فرجعت إلى قوله تعالى:" إن الشيطان لكم عدوٌ فاتَّخِذوهُ عدواً"فعاديته وحده واجتهدت في أخذ حذري منه لأن الله تعالى شهد عليه أنه عدوٌ لي فتركت عداوة الخلق غيره.

• السابعة نظرت إلى هذا الخلق فرأيت الواحد منهم يطلب كسرة الخبز فيذل بها نفسه ويدخل فيما لا يحل له ثم نظرت إلى قوله تعالى:"وما من دابَّةٍ في الأرض إلا على اللهِ رزقُها " فعلمت أني واحد من هذه الدواب التي على الله رزقها فاشتغلت بما لله تعالى علي وتركت ما لي عنده.

• الثامنة : نظرت إلى هذا الخلق فرأيت منهم متوكلين،على مخلوق،هذا على عقاره وهذا على تجارته،وهذا على صناعته،وهذا على صحة بدنه،فرجعت على قوله تعالى:" ومن يتوكل على اللهِ فهو حسبُه" فتوكلت على الله فهو حسبي.

قال شقيق:" يا حاتم وفقك الله تعالى فإني نظرت في علوم التوراة والإنجيل والزبور،والفرقان العظيم فوجدت جميع أنواع الخير والديانة تدورعلى هذه الثمانية،فمن استعملها فقد استعمل الكتب الأربعة") (25)

مجاهدة النفس

يعد جهاد النفس أقوى واشد من مجاهدة العدو ،ومما يعين عليه أن يحدد الإنسان هدفه،فهل يريد الدنيا الفانية التي لا تساوي عند الله جناح بعوضة؟أم رضا الله والجنة؟ وإذا كان يريد الجنة فعليه أن يعلم أنها سلعة الله الغاليه، ومن أجلها يجب أن يقدم الغالي والنفيس من الأوقات والأموال والجهد؛ ويتنازل عن الهوى والشهوات،ويستعين بالله على نفسه الأمارة بالسوء، ليطوِّعها ويجعل منها نفساً لوامة،وذلك بتربية الضمير لديه ومساعدته على الصبر على الحق والترفع عن الدنايا منذ نعومة أظفاره،كما ينبغي أن نحبب إليه الجميل من الأفعال ونبغِّض إليه القبيح منها.

فإذا عرف هدفه- وهو الفوز برضا الله –وأحبه؛ عاش له وبه ،وأراح والديه وأسرته ومجتمعه واستراح.

دوام الاستغفار:

يجب أن نعلمه أن للاستغفار فوائد أخرى غير ستر الذنوب والخطايا ومحوها،وهي التي جاءت في الآيات( 10-12 )من سورة نوح:" فقلتُ استغفروا ربَّكم إنَّهُ كان غفَّارا ،يرسل السماءَ عليكم مدرارا ،ويمددكم بأموال وبنين ويجعل لكم جنات ويجعل لكم أنهارا" .

تجديد التوبة:

يجب أن يذكِّر الوالدين أبناءهم على الدوام بأن اليأس من رحمة الله وعفوه ذنب في حد ذاته لأنه يعطل أسماء كثيرة من أسماء الله الحسنى مثل: العفو، والغفور، والغفار، والغافر، والتواب. كما يذكِّرونهم بأن اليأس مدخل شيطاني يدخل به إبليس على قلب المؤمن ليعود به إلى المعصية ،ثم الكفر – والعياذ بالله-رويداً رويدا،وينبغي أن يقولوا لهم دائما:" لا تيأسوا أبداً من رحمة الله ،إن "الله يغفر الذنوب جميعا إنه هو الغفور الرحيم"، فالحذر من ارتكاب المعاصي واجب ولكن إن غلبت على الإنسان نفسه فعليه بالمسارعة بالتوبة،ولا ييأس من كثرة ذنوبه،فباب التوبة مفتوح للإنسان مادام لم يغرغر(أي يدخل في مراحل الموت)وأن يلزم باب الكريم ولا يبتعد عنه فينفرد به الشيطان وأعوانه؛كما يجب أن يسمع الأولاد من والديهم قول "ابن القيم":

(لا تسأم من الوقوف على بابه ولو طُردت

ولا تقطع الاعتذار ولو رُددت

فإذا فُتح الباب للمقبولين فادخل دخول المتطفلين

وقل يارب مسكين فتصدق علي فإنما الصدقات للفقراء والمساكين!!!) (16)

كما ينبغي أن يسمعهما يتضرعان إلى الله بمثل هذه الأدعية:

" اللهم إن عظُمت ذنوبي فأنت أعظم وإن كبر تفريطي فأنت أكبر وإن دام بُخلي فأنت أجود"

" اللهم إن مغفرتك أوسع من ذنوبي ورحمتك أرجَى عندي من عملي"

عبادة الدعاء

وهي التوجه لله سبحانه- دون غيره -بطلب ما يحتاجه المؤمن ،وهي الاعتراف العملي بالافتقار إلى الواحد القهار...فهل هناك أحد يعيش بدون مشاكل تؤرقه؟

وهل هناك أحد ليس لديه آمال يحلم بتحقيقها؟

وهل هناك أحد يستطيع أن يستغنى عن ربه؟

أم هل هناك أحد لم يرتكب ذنباً ويخشى أن يؤاخذه لله عليه؟)(16) وإذا علمنا أن الجنة لن يدخلها أحد-حتى رسول الله صلى الله عليه وسلم – بعمله، إلا أن تتداركه رحمة ربه ؛(فهل هناك أحد يستطيع أن يستغنى عن رحمة ربه ؟!!! )(16)

هل هناك أعز من الذل بين يديه والتمسح بأعتابه حتى يرضى؟

وهل هناك أذل ممن يرجون عباد الله فإن شاءوا أعطوهم وإن شاءوا منعوهم؟وإن أعطوهم منُّوا عليهم،وإن أعطوهم مرة أو اثنان فهل يعطونهم الثالثة؟

(فهل يتعلق الغريق بغريق آخر؟وهل يرجو الفقير فقير مثله؟،وهل يلوذ ضعيف بضعيف مثله؟) (16)

وينبغي أن نعلِّمهم حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: " من لم يسأل الله يغضب عليه"،و قول الشاعر الحكيم :

"لا تسألنَّ بُنيَّ آدم حاجة *** وسَل الذي أبوابه لا تُحجب

فالله يغضب إن تركتَ سؤله *** وبُنيَّ آدم حين يُسأل يغضب!!

كما ينبغي أن نعلمهم آداب الدعاء، ومنها اليقين في الإجابة،وألا يستعجل الإجابة وأن يعلموا أن الدعاء منه ما يجاب ومنه ما يُدفع به البلاء،ومنه ما يُدَّخر ليوضع في ميزان الحسنات يوم القيامة... والمؤمن حيت يرى دعاءه يوضع في ميزان حسناته يوم القيامة يتمنى لو لم تُجب له دعوة في الدنيا!!!

كما ينبغي أن يعرفوا أن الدعاء خيرٌ كله،كما جاء في حديث النبي صلى الله عليه وسلم:" إن الله تعالى حيِيٌ كريم ،يستحي أن يرفع العبد يديه ،ثم يردهما صُفراً خائبتين"

فنذكرهم دائماً بفضيلة الدعاء قائلين:"إن الله الواجد جل شأنه قريب مجيب رحيم ودود ،فادعوه مخلصين له الدين ،وأنتم موقنون بالإجابة ؛فإن من سأله أعطاه ومن توكل عليه كفاه،ومن اعتصم به هداه إلى صراط مستقيم،فهو الواجد الذي لا تنفد خزائنه ،ولا تنتهي نعمه ولا تضيق رحمته بالعالمين"(15)

وما أحلى الدعاء القائل:" اللهم إنا قد جئنا جوارك

وأنخنا مطايانا ببابك

نرجو رحمتك ونخشى عذابك

فلا تبعدنا اللهم عن جنابك

وافتح لرجاءنا رحابك،

ولدعاءنا أبواب السماء

ودعاءه صلى الله عليه وسلم:" اللهم إني أسألك الهُدى والتُّقى والعفاف والغِنى"

من تجارب الأمهات:

فيما يلي قصصا واقعية ترويها الأمهات عن خبرتهن في تحبيب أبنائهن في الإسلام.

في حب الإسلام:

فوجئت الأم بطفلها البالغ من العمر إحدى عشر عاماً يسألها قائلاً:"أنا مسلم ،نعم، ولكن لماذا يوجد أناس آخرين غير مسلمين؟ ولماذا لا أكون أنا أيضا غير مسلم؟" فرأت أن الإجابة المباشرة لن يكون أثرها عميقا كما تريد،فاقترحت عليه أن يحاول البحث بنفسه عن إجابة،وأن يقوموا بعقد مسابقة بينه وبين أقرانه من الأقارب والجيران والأصدقاء للإجابة على سؤال محدد :" ماذا لو لم أكن مسلماً؟" ،ونصحتهم بالاستعانة بمكتبة البيت أو النادي أو المدرسة،وتم تحديد يوم ليعرض كل منهم إجابته،فوجدت الأم إجابات مقنعة ، منها ما قاله الأولاد:

لو لم أكن مسلماً لما وجدت مكاناً محدداً أفزع إليه حين تصيبني مشاكل ، ولما وجدت قوة تحميني حين أواجه مصاعب ..فمن سأنادي إن لم يكن معي أبي أو أمي أو مثلهم من البشر؟

و لسماني أبي أسما قبيحا، ولفرق أبي وأمي بيني وبين إخوتي في الحب والعطاء ،ولاحتقرني الناس وهجروني بسبب شكلي أو لوني أوديني أو فقري أو جهلي ،ولما وجدت من يرحمني حين أكون صغيراً،أوضعيفاً أو مريضاً،ولما احترمني غير ي حين أكون كبير السن ، ولظللنا نعيش بدون أمان يُغير بعضنا على بعض دون ضوابط ،ولظللنا نبيت يقتلنا الهم والقلق على رزقنا و حياتنا ومستقبلنا،ولأكلنا الحيوانات الميتة،ولظل الفقير فقيراً يحقد على الغني،ولظل الغني غنياً يحتقر الفقير ويخاف من حسده وحقده ،ولظللت أعيش بلا هوية أو هدف،أعطل عقلي ولا أحترمه، وأتبع أهوائي ولو كان على حساب غيري.

وقالت البنات: لولا الإسلام لوأَدني أبي فور ولادتي ،ولامتُهنت كرامتي، واستُبيحت حرمتي ،ولظللت جاهلة بلا قيمة،ضعيفة بلا حول ولا قوة ،ولتزوجني أخي وعمي وابني، ولفقدت اسمي بعد زواجي،ولما عرف أبنائي قيمتي وحقي عليهم، ولطلقني زوجي دون سبب وفي أي وقت، ولتزوج علي أي عدد من النساء في أي وقت شاء،ولظللت محرومة من حقي في الميراث،ولنسيني أبنائي بعد موتي.

فنظرت الأم في النهاية إلى ابنها فرأت في عينيه أن إجابة سؤاله قد وصلت إلى قلبه قبل عقله،فحمدت الله الهادي.

طفولة العظماء:

رأت الأم أبناءها منبهرين بشخصيات الرسوم المتحركة والمجلات والأفلام الغربية من الأبطال،فعز عليها ذلك وقالت لهم:" إن هؤلاء أبطال غير حقيقيين،فهل أحدثكم عن أبطال حقيقيين؟" فكانت إجابتهم بالفعل هي الإيجاب،فظلت تحكي لهم كل يوم قصة قبل النوم من قصص أبطال المسلمين من الأطفال أمثال:

"علي بن أبي طالب" الذي نام في فراش النبي صلى الله عليه وسلم ليلة الهجرة وهو ابن عشر سنين.

و "الحسن" و"الحسين" الذين رأيا شيخا يتوضأ –وكانا غلامين- فلم يريدا جرح مشاعره بأن يقولا له أنه لا يحسن الوضوء ،فقالا له: يا عماه لقد اختلفت وأخي فيمن يحسن الوضوء منا فهلا حكمت بيننا؟ وأرياه كيف الوضوء الصحيح .

و"عبد الله بن الزبير" الذي عُرف عنه منذ صغره قوة في الحق وصراحة في الكلمة يعترف إذا أخطأ ويتحمل الجزاء إذا دعا الأمر،وقد كان يوما يلعب مع الصبية-وهو لا يزال صبي- وإذا بأمير المؤمنين عمر بن الخطاب يمر بهم،ففروا من أمامه-لأنه كان يسألهم عن صلاتهم فإذا كانوا قد أدوها تركهم وإذا لم يؤدوها أمرهم بأدائها- أما "عبد الله" فوقف مكانه ،فلما سأله "عمر" عن عدم فراره معهم قال:" لَم أرتكب ذنباً فأخافك،وليست الطريق ضيقة فأوسعها لك"، فسأله:" هل أديت فرضك؟" قال " نعم يا أمير المؤمنين،وتلاوة ما عليَّ من قرآن وحديث وأنا الآن أروِّح عن نفسي،فقال له:" جزاك الله خيرا يا ولدي".

و"أسامة بن زيد" الذي علم أن رسول الله صلى الله عليه سلم يتجهز للغزو فأصر – وهو بعد لم يتجاوز العاشرة من عمره- على أن يكون له دور،فذهب يعرض نفسه على النبي صلى الله عليه وسلم،إلا أن الرسول الكريم أجابه بأنه ما يزال صغيرا لم يُفرض عليه القتال ،فعاد باكياً،ولكنه عاود الكرة مرة ثانية وثالثة ،وفي الثالثة طلب منه أن يطيِّب الجرحى من المقاتلين،ففرح فرحاًً شديداً،ولما كبر أوصى النبي صلى الله عليه وسلم أن يتولى أسامة قيادة أحد جيوش المسلمين ،فتم ذلك في عهد أبي بكر رضي الله عنه.

و"معاذ" و"معوِّذ" الغلامان الذين نالا شرف قتل "أبي جهل" رأس الكفر الذي طالما آذى الرسول صلى الله عليه وسلم والمسلمين ثم انصرفا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبراه،فقال لهما :"أيكما قتله؟"،فقال كل منهما :" أنا قتلته" فقال لهما:" هل مسحتما سيفيكما؟" قالا :"لا" فنظر صلى الله عليه وسلم في السيفين وقال:" كِلاكما قتله"!!!

و"أسماء بنت أبي بكر" التي تشرفت -دون الخلق- بحمل الطعام والشراب لرسول الله صلى الله عليه وسلم وأبيها في مخبأهما أثناء الهجرة،والدفاع عنهما بشجاعة وصلابة أمام أبي جهل الذي لطمها على خدها لطمة أطاحت قرطها.

وأروى بنت الحارث التي قادت كتيبة من النساء وقد عقدت لواءً من خمارها كخدعة حربية،ففعلت من معها من النساء مثلها واندفعت بالكتيبة إلى حيث كان المسلمون يواجهون عدوهم في "ميسان"،فلما رأى الأعداء الرايات مقبلات عن بعد ظنوا أن مدداً للمسلمين في الطريق إلى أرض المعركة ،ففروا مولين الأدبار،وتبعهم المسلمون يطاردونهم حتى قتلوا منهم أعدادا ًكبيرة.( ( -

في التعرف على الدين: لما اقترب أولادي من سن المراهقة إستأذنتهم في أن أضع بعضاً من كتبي في مكتبتهم الخاصة بغرفتهم لأن مكتبتي مكتظة،فلم يعترضوا.فاخترت مجموعة من الكتب مثل :( رأيت الله للدكتور مصطفى محمود، ورياض الصالحين للإمام النووي ،وحياة الصحابة للكاندهلوي ،وفقه السيرة ،والمهذَّب من إحياء علوم الدين للإمام محمد الغزالي، ومنهاج المسلم للشيخ أبو بكر الجزائري، وتفسير القرآن للشيخ الشعراوي رحمه الله ، والحلال والحرام في الإسلام ،والإيمان والحياة للدكتور يوسف القرضاوي،،ولا تحزن لعائض القرني،وعلو الهمة لمحمد أحمد المقدم، وبدائع القصص النبوي الصحيح لمحمد بن جميل زينو)

ولم أتحدث معهم عنها على الإطلاق،بل كنت أراقب الموقف من بعيد ...وما هي إلا أسابيع حتى امتدت أيديهم الغضة إلى تلك الكتب واحداً تلو الآخر وأصبحوا-بحمد الله تعالى - يستفسرون عن بعض ما يقرءونه ويناقشونني فيه.

في الترغيب في الزكاة من خلال الصدقة :

قامت الأم بتخصيص صندوق كبير يضع فيه أفراد الأسرة ما زاد عن حاجتهم ،أوما يريدون التصدق به،ويتركونه حتى يمتلىء فيقومون بترتيب الأغراض ووضعها بشكل لائق،ثم ترسلها الأم مع طفليها إلى المسجد القريب من المنزل الذي ينفقها على مستحقيها؛ وكانت توضح دائماً أن الله يعطي كل منفق خلفا، وأنه يعطيه أفضل مما تصدق به في الدنيا والآخرة...وذات يوم وضع طفلها حذاءه الرياضي القديم في صندوق الصدقة دون أن يخبر أمه،ولما عاد أبوه وجدته الأم يقول لها وهو يكاد يطير فرحا:" أنظري يا أمي لقد رزقني الله بحذاء رياضي جديد أفضل من الذي تصدقت به،حتى قبل أن يصل إلى المسجد؛ أرسله لي صديق أبي الذي عاد من السفر!!!"

في الترغيب في الحج من خلال العمرة:

لم يتيسر الذهاب للمصيف قبل العمرة،وكان الأولاد يتوقون إليه،ولكنهم لما عادوا من العمرة لم يطلبوا الذهاب للمصيف واكتفوا بمزاولة رياضة كل منهم المفضلة، حتى انتهت العطلة الصيفية!!!ثم صاروا يسألون في العطلة التالية عن موعد الذهاب العمرة ويقولون :"نفضلها على المصيف"!!

والعجيب أن الأم فوجئت بأصغر أولادها(سبع سنوات) تسأل عن الحج قائلة: لقد جربنا العمرة وأريد أن أجرب الحج ،متى نحج يا أمي؟!!!

***

وختاماً ، فإن الحديث في هذا الموضوع لا يكتمل إلا بحديث الرسول صلى الله عليه وسلم مع حارثة رضي الله عنه -وكان لا يتجاوز السادسة عشرة من عمره-، يروي حارثة أنه صلى الله عليه وسلم قال له يوماً: (( يا حارثة ، كيف أصبحت؟ قال: أصبحت مؤمنا حقا، فقال له المصطفى: "وما حقيقة إيمانك؟" قال:" أصبحت أرى عرش ربي بارزا، وأصبحت أرى أهل الجنة وهم يتزاورون، وأهل النار وهم يتعاوون(يصطرخون) فقال له : عرفتَ فالزم!!))

***

"سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم" ،

وآخر دعوانا" أن الحمد لله رب العالمين"

======

الهوامش :

(*) بالقاهرة(ت5720027 ) www.dar_aleman@hotmail.com 17 شارع خليل الخياط بالإسكندرية

(**) يمكن أن نجد هذه القصص وغيرها في الصفحات 109-122 ، و140-148من كتاب فن تربية الأولاد في الإسلام-الجزء الثاني لمحمد سعيد مرسي. القاهرة،دار النشر والتوزيع الإسلامية،ص ب 1636، ت:3911961

======

المصادر

1- فضيلة الشخ محمد متولي الشعراوي رحمه الله في تفسيره للقرآن.

2- اليسر ورفع الحرج .مقالة منشورة على موقع:

www.albayan.com.ae/albayan/2001/126/mnw/8.htm

3- ضمن سلسلة "دروس أخرى" على موقعهwww.forislam.com

4- من كنوز الإسلام : الإسلام دين السماحة مع أهل الأديان الأخرى مقال على موقع

www.gn4me.com/fatawa

5- من كنوز الإسلام: الإسلام دين يسوي في الحقوق بين المسلمين وغير المسلمين،مقال على الموقع www.gn4me.com/fatawa

6- الداعية الإسلامي الأستاذ عمرو خالد .من روائع الحضارة الإسلامية:درس ألقاه ضمن حلقات "يوميات حاج"،وهو متاح ضمن دروسه على موقع www.islamway.com

7- محمد بن سعيد المسقري.تنمية الثقافة الدينية للطفل:مقالة منشورة على موقع

www.islamway.com/bindex/section=articles @artic_id=175

8- المصدر السابق

9- محمد سعيد مرسي. فن تربية الأطفال في الإسلام: الجزء الثاني .القهرة:ار التوزيع والنشر الإسلامي،2001.

10- أغنية أركان الإسلام ،وهي منشورة على موقع www.islamweb.net/family/sons/sons15.ht m

11- حسن سعودي. ربي ، القاهرة،أطفالنا،1999.

12- فضيلة الشيخ محمد راتب النابلسي .جعفر بن أبي طالب :الدرس رقم 16/50 من دروس السيرة على موقعه www.nabulsi.com/download/sirah/sahabi/sahabi16.doc

13- فيصل بن على البعداني. سنابل الخير: مقالة من جزئين منشورة على الموقع: http://www.saaid.net/Minute/mm30.htm )

14- فضيلة الشيخ محمد عبد الله الخطيب- الحج معسكر رباني-القاهرة-دار المنار،1993 .

15- فضيلة الشيخ محمد بكر إسماعيل. أسماء الله الحسنى :آثارها وأسرارها.- القاهرة: دار المنار،2000م .

16- الداعية الإسلامي الأستاذ عمرو خالد .عبادات المؤمن،بيروت،دار المعرفة،2002

17- الداعية الإسلامي الأستاذ عمرو خالد . خواطر إيمانية- ج1، على قناة الفردوس www.ferdaws.com)

18- فضيلة الشيخ راتب النابلسي.درس التربية الإسلامية: شرح الحكم العطائية: الجزء الأول؛ مقالة متاحة على موقعهwww.nabulsi .com)

19- الداعية الإسلامي الأستاذ عمرو خالد درس صلاة الجماعة-سلسلة العبادات على موقعه www.forislam.com)

20- الداعية الإسلامي الأستاذ عمرو خالد .كيف نستقبل رمضان ،ضمن دروس رمضان 1422 هـ على موقعه www.forislam.com

21- فضيلة الشيخ "صفوت حجازي" في محاضرة له عن حب الله .

22- الداعية الإسلامي الأستاذ عمرو خالد.درس الإخلاص من سلسلة إصلاح القلوب،على موقعه www.forislam.ccom

23- الداعية الإسلامي الأستاذ عمرو خالد.التوكل درس من سلسلة إصلاح القلوب على موقعه www.forislam.com

24- الدكتور عبد الله الخاطر.الهزيمة النفسية عند المسلمين،تأليفه ومراجعة وتقديم د.عبد الرازق محمود ياسين الحمد-استشاري الطب النفسي بكلية الطب-جامعة الملك سعود بالرياض ص 20-21،صدر عن المنتدى الإسلامي

25- كفاية الأتقياء ومنهاج الأصفياء شرح السيد بكري المسكي ابن السيد محمد شطا الدمياطي على منظومة هداية الأذكياء إلى طريق الأولياء للشيخ زين الدين بن علي المعبري

===============

#دراسة لسقوط ثلاثين دولة إسلامية

د. عبد الحليم عويس

إهداء

لا أزال أؤمن بأن ثمة دورا كبيرا ينتظر الأمة المسلمة ، ولا أزال أؤمن بأن حركة التاريخ التي هي من سنن الله سوف توقف هذه الأمة أمام قدرها المحتوم . . لتؤدي واجبها نحو البشرية التائهة . .

فإلى الذين يساعدون التاريخ ، كي تقف هذه الأمة في مكانها الصحيح . . وكي تؤدي دورها الصحيح . . .

إليهم . . وحدهم . . أهدي هذا الكتاب

بين يدي هذه الصفحات

المكتبة الإسلامية والتاريخية حافلة بالدراسات والقصص حول الصفحات الوضيئة من تاريخنا . ولكم كتب الكاتبون حول صناع الحضارة الإسلامية ، ولكم أطنبوا في الحديث عن أبطالنا ، وعن فضلنا على أوربا . . وغير أوربا .

ولقد ظهر تاريخنا من خلال التركيز ، وكأنه تاريخ أسطوري ، وكأن الذين عاشوه وأسهموا في صنعه ملائكة ليسوا بشرا . . ! !

ولقد كان هذا المنهج في التناول خطيرا من عدة وجوه :

أولا : لأنه ترك مهمة التحليل العلمي لتاريخنا كتاريخ بشر لهم مزايا وغرائز - لأعداء هذا التاريخ ، فراحوا يركزون على الجوانب السلبية في هذا التاريخ ، وصادف هذا هوى من بعض العقليات التي كانت تسأم التركيز على الماضي بهذه الصورة غير الموضوعية ، وبالتالي . . انساقت هذه العقليات وراء جماعة المستشرقين الذين يدرسون تاريخنا . . . من نقطة الانطلاق المحددة ، وهي تشويه هذا التاريخ وأصحاب هذا التاريخ ! !

ثانيا : وفي غمرة الانبهار العقلي بالمناهج الاستشراقية . . ضاعت بحكم رد الفعل حقائق موضوعية تتصل بهذا التاريخ ، وانقسم الناس حول هذا التاريخ قسمين : قسم يرفضه بالجملة ، ويراه عقبة في طريق التقدم والمستقبل ، وقسم آخر يراه كل شيء ، ويراه من جانبه العالمي الإيجابي هو النموذج الحرفي الذي يجب إعادته وتكرار نمطه .

وبين طرفي النقيض . . يمكن أن توجد الحقيقة ، ويمكن أيضا أن تسقط الحقيقة . ! !

ثالثا : لقد صرفنا منهج التركيز على المدح عن الاستفادة الحقيقية من تاريخنا ، ولعل بعض الناس قد وقر في أذهانهم بفعل هذا التركيز ، أن ما نعانيه في هذا القرن من مشكلات حضارية ، ومن تحديات مصيرية ، هو نموذج لم يتكرر في تاريخنا . . وهم يشعرون - لذلك - بيأس شديد ، ولعلهم يحسون ، وإن كانوا لا يفصحون بأننا لن نعود إلى استئناف مسيرتنا - نحن المسلمين - وبأننا لم يعد لدينا ما يمكن أن نعطيه للحياة في عصر القوة النووية والمركبات الفضائية ، نحن الذين نستورد الساعات والسيارات والآلات البسيطة ! ! .

إن هذا الكتاب . . يتناول " أوراقا ذابلة من حضارتنا " من خلال تركيزه على سقوط دول إسلامية بعضها كان درسا أبديا حين كانت الأمراض خبيثة وفتاكة ، وحينما ذهبنا نطلب الدواء من عدونا . . فكانت فرصته لإعطائنا السموم القاتلة . . ولعل هذا الدرس لم يتضح بجلاء إلا في الأندلس وجزر البحر الأبيض المتوسط كصقلية . .

ولعل من الملاحظات التاريخية أن القرن الذي شاهد سقوط غرناطة - آخر مصارعنا في الأندلس ( 1492م ) كان نفسه الذي شاهد سنة 1453م - الفتح الإسلامي الخالد للقسطنطينية ، ذلك الفتح الذي كان من آثاره عند الإنصاف التاريخي حماية المسلمين لفترة تزيد على خمسة قرون . .

لقد سقطت الأندلس . . كعضو اجتمعت فيه كل عناصر السقوط ، وكان لا بد من بتره . . فحقت عليه كلمة الله ! !

ولقد ظهرت قوة أخرى فتية زاحفة من أواسط آسيا كي تبني للإسلام تاريخا جديدا . . ولقد أرعبت هذه القوةُ الأحقادَ الأوربية الصليبية ثلاثة قرون على الأقل .

إن درس الأندلس لا يجوز أن يغيب عن بالنا ، ولقد كانت عناصر السقوط فيه تتشكل من عدة نقاط بارزة :

أولا : الصراع العنصري الجنسي

ثانيا : ارتفاع رايات متعددة بعيدة عن راية الإسلام الواحدة المتصلة بالنفوس والعقول .

ثالثا : استعانة مسلمي الأندلس بالأعداء ضد بعضهم البعض . . .

وكل العوامل الأخرى . . تدور حول هذه النقاط بطريقة أو بأخرى ! ! ولقد دفع مسلمو الأندلس جميعا ثمن أخطائهم : دفع الحكام الثمن حين أذلهم الله وسلبهم ممالكهم ، وهل ننسى أشعار ابن عباد البائسة ، حين أذله الله على يد المرابطين في " أغمات " بالمغرب الأقصى ؟ ؟ وهل ننسى قولة ابن صمادح حاكم " ألمرية " وهو يموت : " نغص علينا كل شيء حتى الموت " ؟ وهل ننسى دموع . . أبي عبد الله - آخر ملوك غرناطة . . حين رحلت به سفينة العار مودعة آخر وجود إسلامي في أوربا . . رحلت به على أنغام الأمواج الهائجة . . وكلمات أمه المسكينة تدوي في سمعه : " ابك مثل النساء ملكا لم تحفظه حفظ الرجال " ! !

ولقد دفع الشعب الإسلامي الثمن حين استسلم لأمثال هؤلاء الملوك . ولم يأخذ على أيديهم ، فأحرقت دوره ، وسلبت أمواله ، وأرغم على تبديل دينه ، بل وتغيير اسمه ، وحرمته الصليبية الآثمة أبسط حقوق الإنسان ! !

على أن " الأوراق الذابلة من حضارتنا " كانت مجرد تغيير في هيئة الحكم بحثا عن طموح شخصي ، أو انطلاقا من دعوى عنصرية ، أو دفاعا عن نعرة مذهبية، أو فشلا من دولة كبيرة جامعة كالعباسيين والأمويين في السيطرة على كل ما تحت يدها . . مما يمنح الفرصة للمطامع أن تظهر ، وللنعرات أن تحكم .

ونحن لا نستطيع القول : بأن هذه الأوراق كانت كلها خيرا أو شرا ، ولعل بعضها كان لفتة قوية للدول الكبرى كي تسير في الطريق الإسلامي الصحيح . . كما أننا كذلك لا نميل إلى القول : بأن هذه الصفحات التي أدت إلى تغيير دولة بدولة أو حكم بحكم كانت تسير بالأمة في طريق الهاوية . . فلا شك أن ثمة مزايا أخرى يمكن أن تكون قد تناثرت على الطريق .

إنني لا أميل إلى ما يعتقده البعض من أن التاريخ يسير في طريق عمودي . . سواء إلى أعلى أو على أسفل . . عن تجربة تاريخنا الإسلامي تكشف لنا أن حركة التاريخ في دائرة الحضارات الكبرى الجامعة - كالحضارة الإسلامية - حركة لولبية - إن صح هذا التعبير - فثمة انحناءة إلى أسفل في جانب تقابلها انحناءات إلى أعلى في جوانب أخرى ، فهي حركة دورية تنتظمها مراحل الهبوط والصعود . . الهبوط بفعل التناحر والفساد الداخليين ، والصعود بفعل الاستجابة لتحديات خارجية قوية . ومن اللافت للنظر أن مراحل الهبوط - في التجربة التاريخية لهذه الأمة - قد ارتبطت بأوضاع داخلية ، فهذه الأمة لم تضرب من خارجها بقدر ما ضربت من داخلها ، بل إن الأعداء الخارجين لم ينفذوا إليها إلا من خلال السوس الذي ينخر فيها من الداخل . . ولقد أفادنا الأعداء بتدخلهم كثيرا ، وغالبا ما كان لتدخلهم فضل إيقاظ الضمير الإسلامي ، أو إعلان الجهاد العام ، أو إظهار " صلاح دين " أو " سيف دين " مما من شأنه أن يجمع المسلمين تحت راية واحدة .

لقد كانت الأمة المسلمة قادرة بما فيها من عناصر القوة الكامنة على الاستجابة للتحديات الخارجية ، كأروع ما تكون الاستجابة للتحديات ، ولو لم ترهق هذه الأمة - في أغلب مراحل تاريخها - بحكام يشلون حركتها ، ويخنعون أمام أعدائها ، ويبددون من طاقتها حفاظا على أنفسهم . . لو لم تكن هذه الظاهرة مستشرية على هذا النحو ، ولو أن هذه الأمة قد تركت لفطرتها وتراثها وقيمها وحضارتها التي غرسها ورعاها الإسلام . . لو تم هذا لكان في الإمكان أن تحدث منعطفات كثيرة في تاريخ هذه الأمة . هي لصالحها . . ولحساب رقيها وازدهارها .

لقد حاولت من خلال هذه الأوراق الذابلة أن أمد الطرف - في تاريخنا الإسلامي - إلى آفاق ثلاثة : الأندلس ( أوروبا ) ، والمشرق العربي بخلافتيه الكبيرتين ( العباسية والفاطمية ) والدول التي تبعتهما ، ثم المغرب العربي . . وهي الأجنحة الثلاثة الشهيرة التي تزعمت العالم الإسلامي ، ومثلث القيادة الفكرية والسياسية بالنسبة لمسلمي العالم .

ولم تكن الأوراق التي اخترتها إلا مجرد نماذج من هذه الأجنحة . ولربما كانت هناك دول أخرى كفيلة بمدنا بشارات من شارات طريق السقوط . . لكن الاستقصاء ، فضلا عن صعوبته ، لم يكن من أهداف هذه الصفحات .

إن هذا البحث . . وجبة خفيفة من وجبات تاريخنا . لكنها وجبة من نوع خاص . . ليست زاخرة بأنواع الدسم والمشهيات ، فإن جسم الحضارة كأجسام الأفراد - لا يستقيم بالدسم الدائم ! !

وهذا البحث دعوة لتشريح تاريخنا من جديد . . وبجرأة ، فلأن نشرحه نحن - بإنصاف - أولى من أن نتركه لأدعياء المنهج العلمي يشرحونه - بحقد وعنف وإجحاف . . ! !

وهو كذلك بحث للذين يقرءون تاريخنا . . ليتعلموا ، أو ليناقشوا ، أو ليعرفوا معالم المستقبل .

وتبقى في النهاية كلمة :

لسوف تبقى هذه الأمة ، ولسوف تؤدي دورها ، لسوف تقوم من عثرتها . . هكذا يقول لنا معلمنا العظيم . . " تاريخنا " ذو الأربعمائة وألف سنة - أطال الله عمره ! !

ولقد كبونا كثيرا . . ثم قمنا

ولقد حاربنا العالم كله ذات يوم . . ونجونا . . وانتصرنا . . فقط ثمة شرط واحد : أن نعرف من أين نبدأ ، وإلى أية غاية نريد ! ! ودائما يعلمنا تاريخنا أن آخر أمتنا لن يصلح إلا بما صلح به أولها .

القسم الأول : من قصص سقوطنا في أوروبا

* آخر خطواتنا في أوروبا

* أحفاد صقر قريش يسقطون

* وسقط ملوك الطوائف

* قصة الفردوس المفقود

* وقصة أخرى من الأندلس

* ركن من الفردوس يسقط

* سقوط غرناطة " آخر مصارعنا في الأندلس "

آخر خطواتنا في أوربا

قصة " الغنيمة " في تاريخنا غريبة ، والدرس الذي تلقيه علينا - كذلك - أغرب ! !

لقد بدأت أولى هزائمنا بسبب الغنيمة ، ولقد وقفنا مرغمين - عند آخر مدى وصلت إليه فتوحاتنا ، بسبب الغنيمة - كذلك ! !

فقصة الغنيمة . . هي قصة الهزيمة في تاريخنا .

كان قائد المعركة الأولى هو الرسول عليه الصلاة والسلام . . وخالف الرماة أمره، وخافوا من أن تضيع فرصتهم في الغنيمة . . فكانت " أحد " وشهد الجبل العظيم استشهاد سبعين رجلا من خيرة المسلمين . . بسبب الغنيمة . . نعم بسبب الغنيمة ! !

وكان قائد المعركة الأخيرة " عبدالرحمن الغافقي " آخر مسلم قاد جيشا إسلاميا منظما لاجتياز جبال البرانس ، ولفتح فرنسا ، وللتوغل - بعد ذلك - في قلب أوروبا .

وهزم الغافقي . . سقط شهيدا في ساحة " بلاط الشهداء " إحدى معارك التاريخ الخالدة الفاصلة . . وتداعت أحلام المسلمين في فتح أوربا ، وطووا صفحتهم في هذا الطريق . . وكان ذلك لنفس السبب الذي استفتحنا به دروس الهزيمة . . أعني بسبب الغنيمة .

ومنذ تم الاستقرار في المغرب العربي، وإسبانيا الإسلامية ، وهم يطمحون إلى اجتياز جبال البرانس وفتح ما وراءها ، هكذا أراد " موسى بن نصير " لكن الخليفة الوليد بن عبد الملك " خشي أن يغامر بالمسلمين في طريق مجهولة ثم فكر على نحو جدي " السمح بن مالك الخولاني " والي الأندلس ما بين عامي ( 100 - 102 هجرية ) ، وتقدم فاستولى على ولاية ( سبتماية ) إحدى المناطق الساحلية المطلة على البحر الأبيض المتوسط جنوب فرنسا ، وعبر - بذلك - " السمح " جبال البرانس ، وتقدم فنزل في أرض فرنسا منعطفا نحو الغرب حيث مجرى نهر الجارون ، مستوليا في طريقه على ما يقابله من البلدان ، حتى وصل إلى - تولوز - في جنوب فرنسا - لكن لم يستطع أن يستقر فيها ، وقتل السمح ، وتراجعت فلول جيشه تحت قيادة أحد قواده ( عبد الرحمن الغافقي ) فكأن السمح لم ينجح إلا في الاستيلاء على سبتماية .

ثم واصل الوالي الجديد بعد ( عنبسة بن سحيم الكلبي ) التقدم نحو أوربا ، وإن كان قد غير طريق السير ، وتمكن من الوصول إلى " أوتان " في أعالي نهر الرون ، لكنه لم يكن حذرا فلم يؤمِّن طريق عودته فانتهى الأمر بقتله وعاد جيشه إلى أربونة في سبتماوية .

لكن عبد الرحمن الغافقي ، كان الشخصية الحاسمة التي أرادت التقدم نحو أوربا وحرصت عليه ، وكان عبد الرحمن مشبعا بروح الإيمان والرغبة في الثأر لما أصاب المسلمين من قبل حين قتل " السمح " وحين رجع هو بالجيوش الإسلامية إلى سبتماوية ( وقد أعلن الغافقي الدعوة للجهاد في الأندلس كلها وفي أفريقية ، وقد جاءته وفود المتطوعين من كل مكان ، كما أنه من جانبه استعد استعدادا كبيرا لهذا الغزو ) .

ولقد التقى المسلمون ( عربا وبرابرة ) بالمسيحيين بين بلدتي " تورو " و " بواتيه " على مقربة من باريس ، وكان قائد النصارى ( شارل مارتل ) وزير دولة الفرنجة وأمين القصر ، بينما كان ( عبد الرحمن الغافقي ) - يقود جيوش المسلمين . وكانت المعركة شديدة قاسية استمرت قريبا من سبعة أيام ، وكان الجيش الفرنجي وحلفاؤه أكثر من جيش العرب ، ولكن المسلمين أحسنوا البلاء في القتال ، وكاد النصر يتم لهم . . لولا أن ظهرت قضية " الغنائم " ! !

لقد عرف المسيحيون أن لدى الجيش الإسلامي غنائم كثيرة حصل عليها من معاركه أثناء تقدمه من قرطبة حتى " بواتيه " . .

وقد أثقلت هذه الغنائم ظهور المسلمين ، وكان من عادة العرب أن يحملوا غنائمهم معهم ، فيضعوها وراء جيشهم مع حامية تحميها .

وقد فهم النصارى هذا ، ونجحوا في ضرب المسلمين عن طريق التركيز على هذا الجانب ، لقد شغلوهم من الخلف . من جانب الحامية المكلفة بحراسة الغنائم . . ولم يفطن المسلمون للتخطيط النصراني ، فاستدارت بعض فرقهم لحماية الغنائم . . وبالتالي اختل نظام الجيش الإسلامي . . ففرقة تستدير لحماية الغنائم ، وأخرى تقاتل النصارى من الأمام . .

وعبثا حاول عبدالرحمن الغافقي إنقاذ نظام الجيش الإسلامي ، إلا أن سهما أصابه وهو يبذل محاولاته المستميتة . . فوضع حدا لمحاولات الإنقاذ ، وأصبح جيش المسلمين دون قيادة . . وتقدم النصارى فأخذوا بخناق المسلمين من كل جانب وقتلوا من جيشهم الكثير ! !

لقد كانت " بلاط الشهداء " سنة 114 هجرية آخر خطوات المد الإسلامي في اتجاه أوربا ، أو على الأقل آخر خطواته المشهورة .

ثم توقف المد . . لأن بريق المادة غلب على إشعاعات الإيمان ! !

والذين يسقطون في هاوية البحث عن الغنائم لا يمكن أن ينجحوا في رفع راية عقيدة أو حضارة .

أحفاد " صقر قريش " يسقطون

خلافة ولدت من خلافة . . ولئن كان أبو مسلم الخراساني ، وأبو عبيد الله السفاح قد استطاعا أن يقضيا على دولة الخلافة الأموية بدمشق سنة 132 هـ ، وأن يقتلا مروان بن محمد بحلوان مصر ، فيقتلا بقتله آخر خليفة أموي في المشرق العربي، فإن هذه الخلافة المنهارة ، قد نبتت لها بذرة غريبة الشكل والتكوين في أرض تفصلها عنها بحار ، وآلاف الأميال .

وقد استطاع عبد الرحمن بن معاوية بن هشام بن عبد الملك بن مروان ، أن يكون هو الفارس لهذه النبتة في الأندلس ، بعد مطاردة عنيفة تصلح أن تكون عملا روائيا عظيما . .

ونجح " صقر قريش " العجيب في أن يهرب أمام الجنود العباسيين حتى وصل إلى فلسطين ، ومنها إلى مصر ، ثم إلى المغرب بعد خمس سنوات من التجول والتخفي عن عيون العباسيين . . .

لقد كان يحكم الأندلس آنذاك يوسف بن عبد الرحمن الفهري نيابة عن العباسيين ، وقد حاول الفهري مقاومة تسلل وتجمعات عبدالرحمن الداخل ، لكنه هزم أمامه عندما التقيا سنة 139 هـ ، ودخل عبد الرحمن قرطبة ، فتأسس بذلك للأمويين الذين سقطوا في دمشق على يد العباسيين ، ملك جديد في الأندلس الإسلامية . لم تنجح كل محاولات العباسيين على عهد جعفر المنصور في استرداد الأندلس ، كما لم تنجح محاولات ملك الصليبيين ( شارلمان ) في استغلال الظروف والقضاء على صقر قريش ، واستتب بذلك الأمر للفرع الأموي الذي تكون في الأندلس .

لقد عاش عبد الرحمن الداخل يبني ويقوي من دعائم دولته أكثر من ثلاثين سنة بعد ذلك .

فلما مات سنة 172 هـ كان قد ترك وراءه دولة قوية البنيان توارثها أبناؤه من بعده . . تولاها هشام ابنه ، ثم عبد الرحمن الثاني ، إلى أن وصل الأمر إلى عبد الرحمن الثالث الملقب بالناصر ، الذي اعتبر عهده قمة ما وصلت إليه الأندلس الأموية من ازدهار وتقدم .

وقد دام حكم الناصر هذا نصف قرن من الزمان . نعمت الأندلس فيه بخير فترات حياتها في ظلال الإسلام ، وطلبت ود الدولة المماليك النصرانية المحيطة بها ، وأصبحت قرطبة ، والمدن الأندلسية الأخرى ، كعبة العلوم ، ومقصد طلاب العلم، وعواصم الثقافة العالمية الراقية . .

وفي سنة 350 هـ مات عبد الرحمن الناصر هذا ، فتربع على عرش الأندلس من بعده ولده الحكم بن عبد الرحمن الناصر ، ثم حفيده هشام الضعيف الذي تسلط عليه الحجاب وأبرز هؤلاء الحجاب المنصور محمد بن عبد الله بن أبي عامر ، الذي حكم باسم الأمويين بمعونة أم الخليفة " صبح " وتمكن من تحويل الخلافة لنفسه ولأبنائه مدة قصيرة ، مكونا خلالها الدولة المنسوبة إليه ، والمسماة بالدولة العامرية .

ثم عادت أمور الأمويين إليهم فترات قصيرة قلقة ، إلى أن قضي عليهم قضاء أخيرا في الأندلس سنة 422 هـ ، وعلى أنقاضهم قامت مجموعة دويلات هزيلة في الأندلس عرف عهدها بعهد ملوك الطوائف ، الذي كان من أكثر عهود المسلمين في الأندلس تفككا وضعفا وانحدارا نحو هاوية السقوط .

لقد قضى على الأمويين في الأندلس عاملان بارزان - أولهما : أن هؤلاء الأمويين لم يفهموا طبيعة التكوين الأندلسي ، أو فهموه ولم يقوموا بما تتطلبه طبيعته ، وأبرز سمات هذا التكوين ، وجود النصارى في ترقب دائم لأية ثغرة ينفذون منها ، وتباين الأجناس التي تعيش على أرضهم وتستظل برايتهم ، لا يجمعها إلا أقوى وشيجة في التاريخ وهي الإسلام . ولم يكن هناك من حل حضاري لمواجهة طبيعة هذا التكوين إلا تعميق " الإسلامية " وتجديدها بين الحين والحين ، بحركات جهاد مستمرة ضد المماليك النصرانية المتحفزة . . وحركات جهاد تمتص المشاكل الجنسية الداخلية ، وفي الوقت نفسه توقف النصارى عند حدودهم وتجعلهم في موقف الدفاع لا الهجوم .

والعامل الثاني البارز كذلك ، هو ترك بعض هؤلاء الخلفاء الأمور لحُجَّابهم أو نسائهم ، مما مكن لرجل كالمنصور بن أبي عامر سرقة الخلافة دون جهد .

ومن حقائق التاريخ التي نستفيدها من الوعي به وبقوانينه ، أن الدولة التي لا تفهم طبيعة تكوينها ، وتعمل على إيجاد حل دائم ملائم لهذه الوضعية ، تكون معرضة للزوال . . وهذا هو الأمر الذي آلت إليه أمور بني أمية في الأندلس بعد حياة دامت قريبا من ثلاثة قرون . .

وسقط ملوك الطوائف

عندما أوشكت الخلافة الأموية في الأندلس على السقوط ، لم تسقط دفعة واحدة .

لقد جرى عليها ما جرى على الفاطميين بعد ذلك في مصر ، وما جرى على المماليك أيضا . . لقد ضاعت الزعامة منهم عبر انقلاب سلمي لم ترق فيه قطرة دم - بالمعنى المباشر للانقلابات الدموية - ! !

لقد ولي أمر الخلافة طفل في السابعة من عمره يدعى " هشاما " ولما لم يكن بإمكانه حكم البلاد ، فقد كانت أمه " صبح " وصية عليه ، ولم تستطع صبح هذه أن تنفرد بالسلطة ، فقد أشركت معها في الأمر رجلا من أغرب الرجال وأقدرهم يدعى " المنصور بن أبى عامر " . .

وقد نجح هذا المنصور في أن يعبر الانقلاب السلمي بنجاح ، ويحول الخلافة الأموية في الأندلس إلى ملك ينتسب إليه ، ويرثه أبناؤه من بعده ! ! وإن كان لبني أمية الاسم الرمزي والخلافة الصورية .

ولم يمض أكثر من أربعين سنة حتى كانت دولة العامريين قد أصبحت آخر ومضة تمثلت فيها دولة الخلافة الأموية في الأندلس ، وبسقوط دولة العامريين التي قامت على غير أساس ، انفرط عقد الأندلس ، وظهر بهذه الأرض الطيبة عصر من أضعف وأردأ ما عرف المسلمون من عصور الضعف والتفكك والضياع .

لقد ورث خلافة الأمويين أكثر من عشرين حاكما في أكثر من عشرين مقاطعة أو مدينة ، وقد انقسم هؤلاء الحكام إلى بربر وصقالبة وعرب ، وكانت بينهم حروب قومية لم يخمد أوارها طيلة السنوات التي حكموا فيها ، ولقد ترك هؤلاء الملوك المستذلون الضعاف الملوك النصارى يعيشون بهم ويتقدمون في بلادهم ، وانشغلوا هم بحروبهم الداخلية ، وباستعداء النصارى ضد بعضهم البعض ، وتسابقوا على كسب النصارى ، وامتهنوا في ذلك كرامتهم وكرامة الإسلام ، فدفعوا الجزية وتنازلوا طوعا عن بعض مدنهم للنصارى ، وحاربوا في جيوش النصارى ضد المسلمين من إخوانهم في المدن الأخرى من أرض الأندلس الإسلامية .

ولا يستطيع المرء أن يزعم أن باستطاعته أن يحصي كل مساوئ الفترة المسماة بفترة ملوك الطوائف .

ولقد أدى التنافس بين هؤلاء الملوك إلى رفعة منزلة الشعراء والأدباء والمطربين ، ولم يكن ذلك حبا في الأدب ، ولا إعجابا بفن الطرب ، وإنما كان ذلك من جملة أساليبهم في حرب بعضهم البعض ، وفي محاولة تحصيل المجد والشهرة المزيفين .

وقد اشتهر من بين هؤلاء الملوك المتنافسين أسرة بني عباد ، التي نبغ فيها المعتمد بن عباد كأمير مشهور عاطفي ، وكشاعر كبير ذي قلم سيال ! !

ولقد استفحل الخلاف والتنافس بين هؤلاء الملوك ، كما استفحل كذلك ضعف كل منهم ، وكان من نتائج ذلك طمع النصارى في إشبيلية وفي المدن الأندلسية الأخرى .

ولئن كان للمعتمد بن عباد من فضل ، فإن ذلك الفضل لن يكون إلا في محاولته مقاومة هذا الخطر حين رأى دنوه من أبواب المسلمين .

ولم يكن أمامه من مخرج غير الاستعانة بقوة المغرب العربي . . فاستعان بالمرابطين في المغرب الأقصى ، وعندما كان بقية ملوك الطوائف يبدون خشيتهم من المعتمد ، قال لهم كلمته المشهورة : " لأن أرعى الجمال في صحراء العرب خير من أرعى الخنازير في أرض الصليبيين " .

ولقد تقدم زعيم المرابطين يوسف بن تاشفين فعبر البحر و ( جبل طارق ) لنجدة المسلمين في الأندلس وحقق في ( معركة الزلاقة ) سنة 479 هـ ( 1086 م ) انتصارا كبيرا ساحقا على النصارى كان من أثره مد عمر الإسلام في الأندلس فترة أخرى من الزمن .

ولقد تبين ليوسف بن تاشفين بعد ذلك أن ملوك الطوائف هؤلاء ليسوا أهلا للبقاء في مراكز السلطة في الأندلس ، وجاءته النداءات والفتاوى من العلماء كالغزالي بوجوب الاستيلاء على الأندلس فاستولى على الأندلس وأعاد إليها وحدتها ، وطرد هؤلاء الطائفيين الذين كانوا يخشون قدومه ، ويفضل بعضهم النصارى عليه .

وفي مدينة ( أغمات ) بالمغرب الأقصى عاش ( ابن عباد ) أشهر ملوك الطوائف بقية أيامه فقيرا ذليلا لا يجد ما يكفيه ! !

إن هذه هي النتيجة الطبيعية لكل ملوك طوائف في كل عصر ، فالذين يخشون الموت سيموتون قبل غيرهم ، والذين يحسبون للفقر حسابه مضحين بكرامة دينهم ووجود أمتهم . . سوف يصيبهم الفقر من حيث لا يشعرون .

ولقد نسي ملوك الطوائف هذه الحقائق . . فنغص الله كل شيء عليهم حتى الموت ، كما قال ابن صمادح الطائفي حاكم ( ألمرية ) وهو يحتضر ويسمع أصداء الهجوم على قصره ، فليبحث ملوك الطوائف في كل عصر عن الحياة ، حتى لا يبحثوا ذات يوم عن الموت فلا يجدوه ، وحتى لينغص الله عليهم كل شيء حتى الموت . . فتلك سنة الله .

ولن تجد لسنة الله تبديلا . . .

قصة الفردوس المفقود

كانت السنوات الأولى من القرن الخامس الهجري " الحادي عشر الميلادي " تحمل في أحشائها وباء خطيرا على الأندلس الإسلامية .

لقد سقطت الدولة العامرية ، آخر حامية للدولة الأموية في الأندلس ، ولقد ظهر أن أحفاد عبد الرحمن الداخل الأمويين أقل من أن يقوموا بعبء حماية الإسلام الأندلسي .

وكان البربر قد هاجر كثير منهم إلى الأندلس بحثا عن سلطة أو زعامة ، وكان الصقالبة وهم مجموعة من النازحين إلى الأندلس من طوائف مسيحية مختلفة ، كان هؤلاء الصقالبة يشكلون بدورهم عنصرا من عناصر الوجود في الحياة الإسبانية الإسلامية .

ومن هذه القوميات المتناطحة تشكل الوجود الأندلسي غرة القرن الخامس الهجري . . فلما سقطت خلافة الأمويين الإسلامية في الأندلس ، نتيجة امتصاص طاقتها في مشاحنات داخلية . . تحركت كل هذه الطوائف المقيمة فوق أرض الأندلس الإسلامية تبحث عن السلطة والامتلاك .

وبدلا من أن تتحد قواهم في وجه المسيحيين المجاورين لهم وبدلا من أن يرفعوا راية الإسلام والجهاد . . كأمل ينقذ أندلسهم من التحدي الصليبي المتربص بهم . . بدلا من هذا . . أعلنوا أحقاد القومية الطائفية والنعرات الجنسية ! !

وظهر في الأندلس أكثر من عشرين دولة يتقاسمها الأندلسيون والبربر والعرب والصقالبة . . ففي كل مدينة دولة ، بل ربما اقتسم المدينة أكثر من طامع ومنافس .

واستمر أمر هذه الدول أو هذه المدن المتنافسة التي عرف حكامها بملوك الطوائف . . استمر أمرها أكثر من خمسين سنة . . امتهن فيها الإسلام والمسلمون ، وتوسل كل ملك منهم بالنصارى ضد إخوانه المسلمين ، ووقف ابن حيان " - مؤرخ الأندلس - يستشف ما وراء الحجب ويقول لأبناء جنسه :

يا أهل أندلس شدوا رواحلكم ** فما المقام بها إلا من الغلط

الثوب ينسل من أطرافه وأرى ** ثوب الجزيرة منسولا من الوسط

من جاور الشر لا يأمن بوائقه ** كيف الحياة مع الحيات في سفط

لقد فشل ملوك الطوائف في أن يلموا شعثهم ، وأن يتكتلوا ضد النصارى . . ومن عجيب المقادير أن " ألفونسو السادس " ملك قشتالة وليون واستوريا ، كان يتظاهر بحماية هؤلاء الملوك المسلمين ، ويأخذ منهم الجزية والإتاوات التي يرفع من قيمتها سنة بعد أخرى ، واستطاع أن يعد عدته من الإتاوات التي يفرضها عليهم ليلتهمهم بها كلهم . . وكان آخر ما التهمه ألفونسو من أرض المسلمين تحت سمع وبصر هؤلاء الإسلاميين بل وبمساعدة بعضهم . . مدينة طليطلة سنة 478 هـ 1085م .

وعند هذه الموقعة تأكد لدى أكبر ملك من ملوك الطوائف " المعتمد بن عباد " أن ألفونسو يريد الالتهام . . ولا أقل من الالتهام الكامل . . وفكر المعتمد في وسيلة الإنقاذ . . وضعته الأقدار أمام حل واحد لم يكن له خيار فيه .

لقد قرر أن يستنجد بالمرابطين المسلمين الموجودين في المغرب الأقصى كقوة إسلامية ناشئة . .

وقد نجح المرابطون في إيقاف الزحف النصراني ، وأذلوا كبرياء ألفونسو ، واستردوا كثيرا من مدن الإسلام ، ولم يحاول الأندلسيون بناء أنفسهم . . لم يحاولوا صنع التقدم من خلال الذات . . لقد اعتادوا تسول النصر واستيراد البقاء من إخوانهم المغاربة المسلمين .

وحقيقة . . نعم حقيقة . . بقيت الأندلس إسلامية باستيرادها النصر أيام المرابطين ثم أيام الموحدين ثم أيام بني مرين . . وبقيت مملكة غرناطة الإسلامية وحدها أكثر من مائتي سنة تصارع الموت - كوهجة الشمس قبل الغروب .

ولكن قانون الحضارة كان قد قال كلمته . . فإن الذين فشلوا في أن يخلقوا من أنفسهم قوة قادرة على الحياة ما كان ينفعهم أن يشتروا النصر أو يستوردوه .

وفي سنة ( 897هـ ) 1542م سقطت غرناطة آخر ممالك الإسلام في الأندلس ، وطرد المسلمون شر طردة . وكانت هذه هي النهاية التي تنبأ بها الشاعر ابن حيان وغيره من هؤلاء الذين أدركوا قانون البقاء الذي هو من سنة الله .

نعم : أدركوا أن التاريخ لا يقوم بالاستيراد ، ولا تنتصر حركة تقدمه بالمتسولين !

وقصة أخرى من الأندلس

كانت الحالة سيئة للغاية . . وعندما تصل حركة التاريخ إلى طريق مسدود بعد أن يفسق أهل القرى ويخلعوا طاعة الله . . في هذه الحال يكون لا أمل إلا في شيء واحد . . هو الزوال . . وهذه هي المعادلة الوحيدة الصحيحة في تفسير التاريخ : خروج على قوانين الله . . إمهال نسبي من الله قد يغري الخارجين على القانون بالتمادي . . تجمع لعوامل الفناء . إغلاق لباب العودة . إبادة وموت في شكل مجموعة من الكوارث ! !

وإلى الحالتين الأخيرة وما قبلها . . وصلت حال الأندلس في القرن السابع الهجري . . ذلك القرن الذي شهد سقوط معظم القلاع والمدن الإسلامية الأندلسية ، ولم تفلت منه - إلى حين - سوى مملكة غرناطة ، التي لم تلبث بعد قرنين - أن لقيت حتفها .

وعلى امتداد الأندلس - شرقيه وغربيه - بدأت حركة ما يسمى بالاستيراد الصليبي تسوق المسلمين المفككين ، المتناطحين بالألفاظ ، المقسمين في ولائهم بين ملوك النصارى . . تسوقهم إلى حتفهم الأخير .

وبعد سقوط الموحدين في الأندلس ، انفرط عقد هؤلاء ، فلم يعد يجمعهم جامع من خلافة إسلامية جامعة ، أو من استجابة لتحد خارجي ، أو من عقيدة متفوقة تشتعل أعماقهم بها ، ويبحثون عن رفعها أكثر مما يبحثون عن رفعة أنفسهم . . ولذا ؛ فقد تبع سقوط الموحدين التمهيد لسقوط كثير من مدن الأندلس كمرسية وبلنسية وقرطبة والشرق الأندلسي . . ثم الغرب الأندلسي الذي كانت عاصمته إشبيلية ! !

لقد عرف أهل إشبيلية بعد سقوط الموحدين ، أنهم لا بد لهم من حماية خارجية بعد أن فشلوا في الاعتماد على الذات . . وقد أرسلوا بيعتهم إلى الأمير أبي زكريا الحفصي أمير الحفصيين في تونس هؤلاء الذين لمعوا بعد سقوط الموحدين ، لكن الرجال الذين أرسلهم الأمير الحفصي إلى إشبيلية أساءوا معاملة الناس وأظهروا الفساد . . فاضطر أهل إشبيلية لإخراجهم ، وبدءوا في الاعتماد على أنفسهم ، وألغوا معاهدة ذليلة كانت قد عقدت بينهم وبين ملك قشتالة النصراني فرناندو الثالث ، وقتلوا " ابن الجد " صاحب مشروع المعاهدة المذكورة ونصير السياسة المستذلة للنصارى .

وكان هذا نذيرا ببداية النهاية لإشبيلية ، إلا أنهم قد فقدوا العون الإسلامي الخارجي . . وأعلنوا - بقطعهم المعاهدة - حربا على قشتالة ، لم تكن ظروفهم مهيأة لدخولها .

وقد شهدت سنة 644هـ بداية التحرك النصراني ضد إشبيلية ، واستولى الصليبيون على حامية إشبيلية في هذا العام . . وكان ذلك بمساعدة ابن الأحمر ملك غرناطة وفقا لمعاهدته مع فرناندو . . !

وفي العام التالي تقدمت الجيوش النصرانية مرة أخرى على إشبيلية ، وقد نجحت في الاستيلاء على عشرات من المدن الإسلامية بفضل تدخل ابن الأحمر ، ومنعه هذه المدن من القتال بحجة أن القتال عبث . . . ! ! !

وتم حصار إشبيلية وتطويقها من جميع الجهات بالكتائب النصرانية . وبالكتيبة التي يقودها ابن الأحمر المسلم ، مشتركين جميعا - باسم وحدة الطبقة العاملة فيما نظن ! ! - في تشريد أهلها وسحق دعوة الإسلام بها . . ولعل وجود راية محاربة إسلامية يلمحها المسلمون المحاصرون . . كان أشد ضربة تلقاها بعيون وقلوب باكية أهل إشبيلية المستبسلون ! !

لقد وقف أهل إشبيلية الشرفاء نحوا من سنة يدافعون الحصار النصراني المدعوم من ابن الأحمر . . وقد نجحوا في إيقاع النصارى في أكثر من كمين وأصابوهم بالهزيمة غير مرة .

وقد حاولوا - وهم في حصارهم ، الاستنجاد بالمغرب دون جدوى . . بينما توالت النجدات على النصارى ، حتى نجحوا بسببها في منع المؤن عن المسلمين المحاصرين في إشبيلية . . فنفدت الأقوات وبدأ شبح الجوع يدب في أوصال المدينة المجهدة . . . ! !

وكان قضاء الله . . وخرج المسلمون الإشبيليون من مدينتهم وفق شروط المعاهدة . . خرجوا نازحين إلى مدن إسلامية أسبانية أخرى لم تلبث أن أسقطت ! !

لو كان هؤلاء المسلمون في مئات المدن التي استسلمت دون قتال بواسطة ابن الأحمر أو خوفا من الموت . . لو كان قد اتحدوا وقاتلوا . . أو لو أنهم قاتلوا تحت أي ظرف . . أكانت النتيجة ستصبح شرا من هذا الحال الذي لقيه المسلمون في الأندلس ؟

لكنها سنة الله في حركة التاريخ . . فعندما يتم الخروج على قوانين الله تتجمع عوامل الفناء فيغلق باب العودة . . فتتحقق الإبادة . . ويتحقق الموت في شكل مجموعة من الكوارث . . سنة الله ولن تجد لسنة الله تبديلا ! !

ركن الفردوس يسقط

حين تذهب إلى التاريخ تتلقى منه تلقي التلميذ المتعلم ، وليس تلقي التلميذ المتحجر المكابر ، يروعك أنك تقرأ نفسك ومجتمعك وأحداث عصرك في بعض صفحاته ، وتكاد تحس بأن ما يدور حولك ليس إلا آخر طبعة من كتاب التاريخ ، وأن الذين يظنون أنفسهم آخر حلقات التاريخ - أي أفضلها - أو يظنون أنفسهم خارج دائرة التاريخ . . هؤلاء وأولئك قوم مخدوعون ، يمتازون بالغباء الشديد والسذاجة المفرطة .

إن قصة خروجنا من الأندلس لم تكن قصة عدو قوي انتصر علينا بقدر ما كانت قصة هزيمتنا أمام أنفسنا . . قصة ضياعنا وأكلنا بعضنا بعضا كما تأكل الحيوانات المنقرضة بعضها بعضا .

وكان سقوط ( قرطبة ) أكبر معاقل الإسلام في الأندلس سنة 633هـ النهاية لسقوطنا التام في الأندلس .

وقد اضطر ابن الأحمر مؤسس مملكة غرناطة إلى أن يهادن ملك قشتالة الصليبي، وأن يعقد معه صلحا لمدة عشرين سنة ، وأن يسلم له - بناء على شروط الصلح - مدينة جيان وما يلحق بها من الحصون والمعاقل ، وأن ينزل عن أرجونة وبيع الحجار وقلعة جابر وأرض الفرنتيرة . . واعترف بالطاعة لملك قشتالة وتعهد بأن يؤدي إليه جزية سنوية قدرها مائة وخمسون ألف مرافيدي ( العملة الإسبانية ) وأن يعاونه في حروبه ضد أعدائه ( المسلمين ) ! وعندها استغل ملك قشتالة هذا الصلح ليتفرغ لضرب المسلمين الآخرين ، هاجم مدينة إشبيلية قاعدة غربي الأندلس كله . . وكانت هناك كتيبة إسلامية أرسلها ابن الأحمر تهاجمها معه ( باسم التقدمية ! ! ) فسرعان ما سقطت إشبيلية الإسلامية حاضرة الثقافة الإسلامية الرفيعة - بيد فرناندو الثالث ملك قشتالة سنة 646هـ وبمعونة ابن الأحمر 0- مؤسس مملكة غرناطة العظيم ، . . ولم تعد إشبيلية إلى الإسلام منذ ذلك اليوم ! !

وعندما كاد أمد الصلح بين ابن الأحمر وبين ملوك قشتالة ينتهي بعد ( العشرين سنة ) سعى ابن الأحمر لتجديد الصلح . . وفي سبيل ذلك تنازل لقشتالة عن عدد كبير من بلاد الإسلام قيل إنها بلغت أكثر من مائة بلد وحصن !

وأنا لا ألوم ابن الأحمر وحده . . إنما ألوم ملوك الطوائف جميعا . . لقد كان كل شيء ممكنا بالنسبة لهم - وفي عرفهم - عدا شيئا واحدا . .

كان الترامي في أحضان العدو ممكنا . . وكان التنازل له عن الأرض ممكنا . . وكان الخلاف بين بعضهم وبعض لدرجة الاستنجاد بالعدو ممكنا . . أجل . . كان كل هذا ممكنا إلا شيئا واحدا . . إلا العودة إلى الإسلام الصحيح الخالي من حب السلطة واستعباد الدنيا . . . والأمر بالاعتصام بحبل الله وحده وعدم التفرقة . . كل شيء كان ممكنا - في عرفهم - إلا هذا .

وبالطبع . . فإن لنا أن نتوقع ظهور كثير من الحركات التقدمية والقومية والجدلية في مثل هذا المناخ الفاسد . . وبالتأكيد . لولا بروز مثل هذه النزعات التي لا شك في أن النصارى قد ساعدوا على ترويجها ، لولا هذا لأصبح المكان خاليا وملائما لبروز الحل الوحيد الصحيح . . الحل الإسلامي .

وفي الشرق الأندلسي كان شيء من هذا يحدث على نحو أعتى وأقسى ، ففي " بلنسية " . . كان آخر أمراء الموحدين هناك " أبو زيد بن أبي عبد الله " يلجأ بعد انهيار ملكه في بلنسية تحت ضربات منافسه " أبي جميل زيان " . . وكان هذا الموحدي العاق الجاحد يشهد مع ملك أرجوان كل غزواته ضد المسلمين . . ولم يكتف بهذا المصير التعس . . فاتخذ قراره الثوري الحاسم " باعتناق النصرانية " . . . ! !

وبينما كانت مدن بلنسية الكبرى وقراها وحصونها تتداعى ما بين سنوات ( 63-636هـ ) كان ( أبو زيد ) يبذل جهوده مع النصارى في حروبهم ضد الإسلام . . ويعاونهم في التعرف على نقاط الضعف لدى أبناء دينه السابق . وفي الوقت نفسه كان ابن الأحمر يساعد ملك قشتالة بكتائبه ضد إخوانه المسلمين .

وتسألني لماذا طردنا من الأندلس ؟ فأقول لك : لأن الله لا يظلم الناس شيئا ولكن الناس أنفسهم يظلمون . . ثم أقول لك عبرة التاريخ . . قانون سقوطنا : " حين يبحث كل عضو منا عن نفسه تسقط سائر الأعضاء " .

سقوط غرناطة

كان بقاء مملكة غرناطة الإسلامية في الأندلس قرنين من الزمان معجزة من معجزات الإسلام .

فهذه الجزيرة الإسلامية العائمة فوق بحر الصليبية المتلاطم الأمواج والطافح بالحقد والمكر التاريخيين . . هذه الجزيرة ما كان لها أن تصمد صمودها المشهور إلا لأن طبيعة الصمود كامنة في العقيدة والمبادئ الإسلامية . وبدون العقيدة الإسلامية . . ما كان لهذه الجزيرة أن تصمد وحدها في الأندلس بعد أن سقطت كل المدن والقلاع الإسلامية منذ قرنين من الزمان .

كان قانون " الاستجابة للتحدي " هو الذي أبقى غرناطة حية زاخرة بالفكر الإسلامي والرقي الحضاري هذين القرنين . . وكان شعور الغرناطيين بأنهم أمام عدو محيط بهم من كل جانب ، ينتظر الفرصة لالتهامهم ، وبأنه لا أمل لهم في استيراد النصر من العالم الإسلامي ، وبأنه لا بد لهم من الاعتماد على أنفسهم . . كان هذا الشعور باعثهم الأكبر على الاستعداد الدائم . ؟ ورفع راية الجهاد والتمسك بإسلامهم .

وبهذا نجحت غرناطة في أن تظل إلى سنة 1492م ( 897 هـ ) سيدة الأندلس الإسلامي ومنارة العلوم وشعلة الحضارة الإسلامية الباقية في أوربا .

لكن الأعوام القريبة من عام السقوط شهدت تطورا في الحياة الأندلسية . . فعلى المستوى النصراني بدأ " اتحاد " كبير يضم أكبر مملكتين مسيحيتين مناوئتين للإسلام . . وهما مملكتا أرجوان وقشتالة ، وقد اندمج الاثنان في اتحاد توجاه بزواج " إيزابيلا " ملكة قشتالة من " فرناند " ملك أرجوان . . وكان الحلم الذي يراود الزوجين الملكين الكاثوليكيين ليلة زفافهما هو دخول غرناطة . . وقضاء شهر عسلهما في الحمراء ، ورفع الصليب فوق برج الحراسة في غرناطة - أكبر أبراجها - وعلى المستوى الإسلامي . . كان " خلاف " كبير قد دب داخل مملكة غرناطة ولا سيما بين أبناء الأسرة الحاكمة ، وتم تقسيم مملكة غرناطة المحدودة قسمين ، يهدد كل قسم منهما الآخر ويقف له بالمرصاد . . قسم في العاصمة الكبيرة ( غرناطة ) يحكمه أبو عبد الله محمد علي أبو الحسن النصري ( آخر ملوك غرناطة ) وقسم في ( وادي آش ) وأعمالها يحكمه عمه أبو عبد الله محمد المعروف بالزغل .

وقد بدأ الملكان الكوثوليكيان هجومهما على ( وادي آش ) سنة 894 هـ ، ونجحا في الاستيلاء على وادي آش وألمرية وبسطة . . وغيرها ، بحيث أصبحا على مشارف مدينة غرناطة .

وقد أرسلا إلى السلطان أبي عبد الله النصري يطلبان منه تسليم مدينة الحمراء الزاهرة ، وأن يبقى هو حيا في غرناطة تحت حمايتها . . وكما هي العادة في الملوك الذين يركبهم التاريخ وهو يدور إحدى دوراته ، كان هذا الملك ضعيفا . . لم يحسب حسابا لذلك اليوم . . ولقد عرف أن هذا الطلب إنما يعني الاستسلام بالنسبة لآخر ممالك الإسلام في الأندلس فرفض الطلب ودارت الحرب بين المسلمين والنصارى واستمرت عامين . . يقودها ويشعل الحمية في نفوس المقاتلين فيها فارس إسلامي من هؤلاء الذين يظهرون كلمعة الشمس قبل الغروب " موسى بن أبي الغسان " .

وبفضل هذا الفارس وأمثاله وقفت غرناطة في وجه الملكين الكاثوليكيين عامين وتحملت حصارهما سبعة أشهر . .

لكن مع ذلك . . لم يكن ثمة شك في نهاية الصراع . . فأبو عبد الله الذي لم يحفظ ملكه حفظ الرجال . والانقسام العائلي والخلاف الداخلي في المملكة في مقابل اتحاد تام في الجبهة المسيحية . . مضافا إلى ذلك حصاد تاريخ طويل من الضياع والقومية الجاهلية والصراع بعيدا عن الإسلام . . عاشته غرناطة وورثته مما ورثته عن الممالك الإسلامية الإسبانية الساقطة .

كل هذه العوامل قد عملت على إطفاء آخر شمعة إسلامية في الأندلس .

وعندما كان أبو عبد الله ( آخر ملوك غرناطة هذا ) يركب سفينته مقلعا عن غرناطة الإسلامية ، مودعا آخر أرض تنفست في مناخ إسلامي في أوروبا بعد ثمانية قرون عاشتها في ظلال الإسلام . . .

في هذا الموقف الدرامي العنيف . . بكى أبو عبد الله ملكه " وملك الإسلام المضاع، وتلقى من أمه الكلمات التي حفظها التاريخ ( ابك مثل النساء ملكا لم تحفظه حفظ الرجال ) .

والحق أن أمه بكلمتها تلك ، إنما كانت تلطمه وتلطم حكاما في الإسلام كثيرين . . بكوا مثل النساء ملكا لم يحفظوه حفظ الرجال ! ! ! .

القسم الثاني : سقوط خلافات ودول شرقية

* الأمويون - أصحاب دولة الفتوحات - يسقطون

* سقوط الدولة الطولونية في مصر

* الصفاريون ، وقصة سقوطهم

* الإخشيديون على خطى الطولونيين

* سقوط السامانيين في فارس

* البويهيون الذين سطوا على الخلافة . . يسقطون

* سقوط الانفصاليين في طبرستان

* وقصة سقوط الحمدانيين

* السلاجقة . منقذو الخلافة . يسقطون

* سقوط دولة الفاطميين

* سقوط دولة صلاح الدين

* من عوامل سقوط العباسيين

* المماليك . . أبطال عين جالوت يسقطون

الدولة الأموية - دولة الفتوحات - . . تسقط ! !

في عام ( 41 هـ - 661م ) ويسمى عام الجماعة - تنازل الحسن بن علي بن أبي طالب رضي الله عنه ، عن حرب معاوية بن أبي سفيان ، الذي كان واليا على الشام منذ عهد عمر بن الخطاب ، والذي رفض مبايعة علي بن أبي طالب - رابع الخلفاء الراشدين - متذرعا بأن عليا قد فرط في الثأر من قتلة عثمان بن عفان ثالث الخلفاء الراشدين . . . رضي الله عنهم جميعا .

وبتنازل الحسن استقر الأمر لمعاوية فأصبح خليفة المسلمين ، وقامت دولة بني أمية التي تنتسب إلى أمية بن عبد شمس بن عبد مناف ، فحكمت نحو تسعين عاما ( 41 - 132هـ ) ( 661 - 750م ) ونقلت عاصمة الحكم من مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحجاز إلى دمشق بالشام .

كان نظام الحكم في عهد بني أمية عائليا ، وقد تداول الحكم أربع عشرة خليفة أولهم معاوية وآخرهم مروان بن محمد الذي قتله العباسيون في " أبو صير " من حلوان مصر . .

الخلفاء الأمويون :

1 - كان معاوية أول الخلفاء الأمويين ومؤسس دولتهم ، وكان مولده بالخيف من منى قبل الهجرة بخمس عشرة سنة وأمه هند بنت عتبة، وأبوه أبو سفيان ، وقد أسلموا جميعا في فتح مكة .

وأصبح معاوية من كتاب الوحي لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، واشترك في حروب الردة مع أخيه وأبيه ، ثم ولاه عمر جزءا من بلاد الشام ، فلما جاء عثمان رضي الله عنه جمع الشام كلها تحت حكمه .

2 - وبموت معاوية سنة 60هـ بايع المسلمون ابنه يزيد ، ما عدا الحسين بن علي وعبد الله بن الزبير وعبد الله بن عمر ، وقد وقف الأولان منه موقف العداء ، وقتل في عهده الحسين ، في كربلاء ، وحكم ثلاث سنوات ثم مات سنة 64هـ ، وعمره ثمانية وثلاثون عاما .

3 - ثم تولى معاوية بن يزيد ، بوصاية أبيه ، لكنه كان ورعا زاهدا فتنازل عن الخلافة بعد ثلاثة أشهر .

4 - وقد وقعت حروب انتهت في ( مرج راهط ) بين الأمويين وعبد الله بن الزبير ، وأصبح مروان بن الحكم خليفة على الشام وحدها ، وبقي ابن الزبير خليفة على سائر الأمصار ، حتى ظهر عبد الملك بن مروان ، فتمكن من توحيد العالم الإسلامي الشرقي تحت إمرته ، ولذا اعتبر المؤسس الثاني للدولة الأموية .

5 - وكانت لعبد الملك أياد عظيمة ، فقد عرب الدواوين وضرب العملة ، وبقي في الحكم اثنين وعشرين عاما ، وتوفي سنة 86هـ ، فتولى بعده ابنه الوليد بن عبد الملك ، الذي حكم عشرة أعوام ، وتمت في عهده إصلاحات داخلية عظيمة وفتوحات إسلامية كبرى على يد قادة عظام مثل محمد بن القاسم الثقفي فاتح السند، وموسى بن نصير فاتح الأندلس .

6 - ثم جاء بعده أخوه سليمان بن عبد الملك فحكم ثلاثة أعوام لم تتقدم فيها الدولة شيئا ، لا من الداخل ولا من الخارج ، ومات سنة 99هـ ، فوسد الأمر لأعظم شخصية في تاريخ بني أمية ، على الرغم من أنه لم يحكم إلا عامين ، وهو عمر بن عبد العزيز ، الذي اعتبره البعض ( خامس الخلفاء الراشدين ) لكثرة ما عمل من إصلاحات خلال الفترة الوجيزة التي حكم فيها .

لقد راقب عمر الولاة بحذر ، وأخذ على أيديهم وطرد القساة منهم ، وانتشر الإسلام في عهده انتشارا كبيرا لأنه وضع الجزية عمن يعتنق الإسلام ، وكان ولاة السوء لا يفعلون ذلك ، ويروي ابن عبد الحكم ، ملخصا عهد عمر بن عبد العزيز ، في قوله الوجيز " إنما ولي عمر بن عبد العزيز سنتين ونصفا فذلك ثلاثون شهرا ، فما مات حتى جعل الرجل يأتينا بالمال العظيم فيقول : اجعلوا هذا حيث ترون في الفقراء ، فما يبرح حتى يرجع بماله يتذكر من يضعه فيهم فلا يجده ، فقد أغنى عمر بن عبد العزيز الناس " .

7 - ثم ولي الأمر بعده يزيد بن عبد الملك ، بعهد من أخيه سليمان بعد ابن عمه عمر بن عبد العزيز ، وهو ابن تسع وعشرين سنة . فدامت خلافته أربع سنوات وشهرا ، ثم مات بعدها دون أن يترك أثرا ذا بال اللهم إلا إخماده لفتنة يزيد بن المهلب .

8 - وولي بعده هشام بن عبد الملك ، فمكث في الخلافة عشرين عاما حاول فيها تقليد عمر بن عبد العزيز ، ولم ينجح في ذلك نجاحا كبيرا ، وإن كانت الدولة قد اتسعت في عهده ، ففتحت قيسارية وبلاد الخزر ، وأرمينية ، وشمال آسيا الصغرى ، وجزءا كبيرا من بلاد الروم .

لكن الأحوال الداخلية لم تكن مستقرة على عهده وتوفي في عام 125هـ ، وترك الحكم للوليد بن يزيد بن عبد الملك الذي يعتبر عهده - الذي لم يدم أكثر من عام إلا قليلا - من أسوأ عهود الدولة الأموية ، ظلما وانتقاما من أبناء سلفه هشام فضلا عن عنصريته وخلاعته .

9 - ولم يكن للخليفتين اللذين وليا بعده يزيد بن الوليد بن عبد الملك ، وإبراهيم ابن الوليد أثر يذكر ، ولم يدم حكم كل منهما إلا ثلاثة أشهر ، ولم تستقم لهما الأمور ، وكانت أيامهما ، وأيام سابقهما الوليد بن يزيد ، فرصة ذهبية نجح فيها العباسيون في تعبئة النفوس وتنظيم الصفوف ، للانقضاض على الدولة .

10 - فلما آلت الخلافة لمروان بن محمد - آخر خلفاء بني أمية في المشرق لم يستطع أن يقر قواعد الدولة ، على الرغم من أنه " كان أشجع بني أمية وأقدرهم على تحمل الأخطار " . . فسقطت الدولة في عهده ، بعد فتنة واضطرابات دامت خمس سنوات ، وكان سقوطها في سنة 132هـ .

وكانت دولة بني أمية دولة عربية تتعصب للعرب وللتقاليد العربية ، وللغة العربية ، ولم يستطع معظم خلفائها أن يرتفعوا على مستوى المساواة والعدل في الإسلام .

لكن مع ذلك كان لهذه الدولة أياد طولى على المسلمين لعل من أهمها جهودها العظيمة في مجال الفتوحات الإسلامية .

فتوحات الدولة الأموية :

اتسعت فتوحات الدولة الأموية اتساعا عظيما ، منذ عهد معاوية الذي لم تكد تستقر له الأوضاع حتى جهز الجيوش وأنشأ الأساطيل ، وأرسل قواده إلى أطراف الدولة لتثبيت دعائمها ، بعد أن حاول الفرس والروم استغلال فترة الفتنة بين علي ومعاوية رضي الله عنهما .

*وقد أخضعت هذه الجيوش ثورة فارسية هدفت إلى الامتناع عن دفع الجزية . ثم توغلت جيوشه شرقا ، فعبرت نهر جيحون ، وفتحت بخارى وسمرقند وترمذ .

*ومن الجهة الرومانية ، كان الرومان قد أكثروا من الغارات على حدود الدولة الإسلامية في الناحية الشمالية الغربية ، فأعد معاوية لهم الجيوش ، وانتصر عليهم في مواقع كثيرة .

وبأسطوله الذي بلغت عدته ( 1700 ) سفينة ، استولى على قبرص ورودس وغيرهما من جزر الروم - كما قام بالمحاولة الأولى لفتح القسطنطينية عاصمة الدولة الرومانية الشرقية سنة 48هـ ، فأرسل جيشا بإمرة ابنه يزيد ، وجعل تحت إمرته عددا من خيرة الصحابة كعبد الله بن عباس وعبد الله بن الزبير وعبد الله بن عمر وأبي أيوب الأنصاري ، لكن المحاولة لم تنجح ! !

ومن الشمال الإفريقي ( تونس والجزائر والمغرب الأقصى ) امتد الفتح الإسلامي، فأرسل ( معاوية ) عقبة بن ابن نافع سنة ( 50هـ ) في عشرة آلاف مقاتل ، لتثبيت فتحها، وقد عمل عقبة على نشر الإسلام بين البربر ثم بنى مدينة القيروان ، وفي عهد ابنه الخليفة ( يزيد ) وصل عقبة في اكتساحه للشمال الإفريقي حتى المحيط الأطلسي غربا ، وقال هناك كلمته المأثورة " والله لولا هذا البحر لمضيت في سبيل الله مجاهدا " .

وفي الشرق اتجهت جيوش عبد الملك بن مروان - الخليفة الأموي الخامس - إلى التوسع في بلاد ما وراء النهر ، وكانت القيادة في هذا الركن للمهلب بن أبي صفرة وليزيد بن عبد الملك . وكان من أبرز الفتوحات في عهد الوليد بن عبد الملك فتح بلخ ، والصفد ، ومرو ، وبخارى ، وسمرقند ، وذلك كله على يدي قتيبة بن مسلم .

أما محمد بن القاسم الثقفي فقد فتح السند ( باكستان ) . وفتح مسلمة بن عبد الملك فتوحات كثيرة في آسيا الصغرى ، منها فتحه لحصن طوالة وحصن عمورية ، وهرقلة ، وسبيطة ، وقمونية ، وطرسوس . . كما حاصر القسطنطينية أيام سليمان بن عبد الملك .

وفي أوربا فتح موسى بن نصير الأندلس ، وبقيت في حوزة المسلمين ثمانية قرون ( 92-898 . . هـ ) وكان جزاؤه من بني أمية جزاء سنمار ! !

وقد حاول عنبسة بن سحيم الكلبي غزو جنوب فرنسا وفتح سبتماية ، وبرغونية ، وليون - ونجح المسلمون في ذلك نجاحا مؤقتا ، حتى انتهت هذه المحاولات بعيد موقعة بلاط الشهداء التي قادها عبد الرحمن الغافقي - بقليل . ولم يكن لهذه الفتوحات صدى حقيقي ، لأنها كانت أشبه بحملات جهادية فردية .

ولماذا سقط هؤلاء العظماء ؟

كان معاوية رضي الله عنه - بلا ريب - أحد دهاة العرب القلائل ، وكان رجل دولة وخبير سياسة بمعنى الكلمة . . بيد أنه كانت هناك حقيقة حضارية ينبغي عليه إدراكها وهي : أن الحضارة حين ينفصل جسدها عن دماغها لا يمكن أن تكون قابلة للبقاء . . حين يحدث انشقاق بين روح الأمة وجهاز عملها المادي تحدث الآلية القاتلة وتسير القافلة بلا روح . . تماما كما يسير الذي قطع رأسه من جسده . . إنه لا بد من أن يسقط بعد خطوات ! !

ومنذ قامت الدولة الأموية ، واعتمد فيها نظام وراثة الخلافة كرها عن الأمة . .

منذ هذا الحدث وثمة انفصال بين جسد الأمة وروحها ذاقت منه الأمة الإسلامية مر الأهوال . . وكان أحد الأسباب ، بل أهم الأسباب في سقوط الدولة الأموية .

لقد تشكلت طبقة تعطي نفسها امتيازا جنسيا غريب الشكل . . فهي لمجرد أنها من البيت الأموي ، حتى ولو افتقدت كل صلاحيات الوجود والحكم بعد ذلك ، لا بد أن تقف في الصف الأول . . وأن تقود وتحكم . . ! ! والأدهى من ذلك أن هذه الدولة اعتمدت العنصرية العربية المستعلية حقا تتكئ عليه في سيادتها . . وظلمها ! !

وهذه الظاهرة . . تلد أمراضا حضارية خبيثة كلها شؤم وبلاء . . فإن هذه الطبقة سرعان ما يحاول كل واحد منها الحصول على حق . . أكثر شرعية جنسية . . لكي يصل إلى الحكم ، وبالتالي يلجأ إلى الدس والخديعة والقتل والاغتيال ويسود الطبقة الحاكمة جو من الصراع الداخلي يمنعها عن أن تؤدي للأمة أي شيء ، ويكون كل هم الحاكمين أن يحافظوا على الموقع الذي يقفون فيه . . هكذا كان الأمر بين الأمويين ولا سيما في الأيام الأخيرة من عمرهم . . أيام الوليد بن يزيد، ومروان بن محمد .

ومن الأمراض الخطيرة التي تلدها ظاهرة الانفصام المشئومة استعانة هؤلاء الحاكمين بطبقة تتولى هي في الحقيقة الأمر ، وتستبد بالأمة ، وحين تستغيث الأمة لا تجد من يغيثها ، إذ يكون الحكام في واد آخر بعيد عنها ، بل إن هؤلاء الحكام يعتقدون أنهم بوجودهم في مراكز السلطة مدينون لهؤلاء العمال أو الولاة الغاشمين الظالمين .

وقد زخرت صفحات التاريخ بعديد من هؤلاء الجبابرة الذين أساءوا إلى المسلمين والإسلام إساءات بالغة كالحجاج بن يوسف الثقفي في المشرق ، والوالي عبد الله ابن الحبحاب في المغرب .

ولقد أساءت هذه الطبقة المصطنعة العازلة إلى تاريخ الأمويين نفسه أيما إساءة ، وزينت للخلفاء الأمويين كل جور ، وعملت في المسلمين عمل كسرى وقيصر في شعبيهما . . وكانت - يعلم الله - بلاء على المسلمين أي بلاء ! ! وقد كانت سببا في نجاح الخوارج ، وفي إشعال ثورات بربرية ، في ساحة الأندلس والمغرب .

وبتأثير الطغيان الذي ساس به الولاة جماهير المسلمين ، انصرف الناس إلى أمورهم ، تاركين أمور الدولة في يد الفئة الحاكمة بل انصرفوا إلى الاندماج في كل حركات الخروج على الدولة . . وقد تمخض كل ذلك عن ميلاد تنظيم من أدق التنظيمات في تاريخ الانقلابات السياسية ، وهو التنظيم العباسي الذي رفع الراية العلوية ( الرضا من آل البيت ) أيام سريته . . إلى أن وصل إلى الحكم .

ولم يك هذا التنظيم لينجح ويجد المناخ والعناصر الصالحة إلا نتيجة سياسة الولاة الغريبة عن روح الإسلام .

وقد اختلف المؤرخون في سقوط هذه الدولة العظيمة . . دولة الفتوحات . . وقد رأى بعضهم ، وهم محقون ، أنه النزاع بين المضرية واليمانية ، الذي ابتدأ منذ أيام مؤسس الدولة الأموية معاوية ، قد أدى إلى ضياع بني أمية .

ويرى بعضهم أن مصرع الحسين بن علي في كربلاء كان الداء القاتل الذي تفاقم حتى قضى عليها .

ورأى آخرون أن العامل الهام الذي أدى إلى سقوط بني أمية هو تعصب الأمويين للعرب، مما أدى إلى خروج الموالي على الدولة الأموية وهم غير العرب الذين دخلوا في الإسلام عقب الفتح العربي في فارس ومصر والمغرب .

وما لبث هؤلاء أن أصبحوا أعداء للعرب من بني أمية ولا شك أن سلوك الوليد ابن يزيد الذي أدى إلى مصرعه كان من أبرز الأسباب المباشرة في فساد الأحوال .

كما أن الاستبداد الفردي عامل من عوامل سقوط الدولة قال به كثيرون .

وقد تكون كل هذه الأسباب صحيحة ، بل قد تكون متداخلة ، لكننا نميل إلى سبب جوهري نراه أكبر الأسباب وأبرزها ، وهو العنصرية الأموية التي جعلتهم يرفعون العرب على حساب غيرهم، ويثيرون الأحقاد في بقية الطوائف المسلمة ! !

وتبقى عبرة التاريخ الأخيرة في سقوط الدولة الأموية . فإن نصر بن سيار ( والي خراسان ) كان على عهد مروان بن محمد آخر خلفاء الأمويين . . وكان نصر هذا . . كما كان مروان . . كان كلاهما من خيرة من أنجبت الدولة الأموية . . هذا في الولاة ، وذلك في الخلفاء .

لكنهما ظهرا بعد أن اتسعت خروق الدولة على أي راقع ، وكان رصيد الدولة من الفساد والتحلل والظلم والضعف ، قد أصبح أكبر وأضخم من طاقة أي إنسان .

لقد كانت حركة التاريخ التي هي من سنة الله قد قالت في الدولة الأموية كلمتها . . وقد حاول " نصر " أن يستعمل ذكاءه في إنقاذ الدولة ، إذ كان يستشف ببصيرته الوقادة أن ثمة أمورا تبينت للدولة ، وأن دولة الأمويين على وشك الرحيل ، وكم كاتب الخليفة الأموي الأخير " مروان " في ذلك . . ولكن دون جدوى . . لقد اتسع الخرق ووجب أن ينهار البناء ! !

وكان مروان . . مشغولا بسداد " شيكات " سابقيه من الديون . . في بنك الضياع . . فلم يمكنه أن يستجيب لا " لنصر " ولا لضميره الذي كان يحس بقرب الكارثة . . هكذا تفعل الدول بنفسها . . نتيجة ظلمها . وتراكم هذا الظلم .

وعندما سقطت الدولة الأموية سنة 132هـ ، ولقي مروان المسكين مصرعه في حلوان بمصر . . كان كتاب التاريخ يطوي إحدى صفحاته . . يطويها بعنف لأن أبطالها أرادوا لأنفسهم هذا . . . حين راحوا ينفصلون عن ضمير الأمة ووجدانها ، ويعزلون أنفسهم عن شعوبهم - بطبقة من العمال الظالمين الغاشمين وبعنصرية عربية قومية ظالمة . . لقد فتحوا كثيرا من الأراضي ، لكنهم فشلوا في أن يفتحوا القلوب . . . والعقول ! !

سقوط الدولة الطولونية في مصر

الانتصار في معركة . . والحصول على مكسب وقتي . . . والوصول إلى السلطة . . هذه كلها ليست هي قضية التاريخ . . ولا معركة التقدم البشري . . بل هي عموما ليست من عوامل تحريك التاريخ إلى الأمام أو الخلف على نحو واضح وضخم . . إن الانتصار في معركة . . قد لا يعني الهزيمة الحقيقية للأعداء ، فحين لا تتوافر العوامل الحقيقية للنصر . . يصبح أي نصر مرحلي عملية تضليل ، واستمرارا للسير الخطأ ، وتماديا في طريق الوصول إلى الهزيمة الحقيقية . . هكذا سار التاريخ في مراحل كثيرة من تطوراته . . كان النصر بداية الهزيمة ، وكانت الهزيمة بداية للنصر !

وحين يصل إنسان ما إلى الحكم . . دون أن يكون معدا إعدادا حقيقيا للقيادة ، ودون أن يكون في مستوى أمته . . يكون وصوله على هذا النحو هو المسمار الأخير الذي يدق في نعش حياته وحياة الممثل لهم . . !

والتاريخ في دوراته غريب وهو يعلمنا أنه لا توجد قاعدة ثابتة للتحول ترتكز على أسس متينة ، اللهم إلا قاعدة التغيير من الداخل المرتكزة على عقيدة لها جذورها في أعماق النفس ، ولها انسجامها مع حركة الكون ولها صلاحياتها في البقاء والانتشار والخلود !

وعندما أعلن " أحمد بن طولون " مؤسس الدولة الطولونية في مصر انفصاله عن الدولة العباسية بعد سنة 254هـ ، كان ينقصه الوعي بحركة التاريخ والشروط الضرورية للتغيير ، وكان بإنشائه هذه الدولة ليس أكثر من " انقلابي " سيطر على الحكم في ظل أوضاع معينة مرت بها الدولة العباسية ، سمحت له ولأمثاله بإظهار مطامحهم في مزيد من السلطة والشهرة والرغبة الجامحة في السيطرة . لم يحاول هذا الرجل - ما دام قد وصل إلى مستوى الثقة لدى الجهاز العباسي الحاكم - أن يتقدم بإصلاحاته ، وأن يبحث عن السبل المؤدية لحماية الدولة الإسلامية الجامعة ، وإنما راح في إغراق في عبودية الذات يبحث عن استغلال الظروف لصالحه .

ومنذ استقر في مصر سنة 254هـ وهو يحاول جمع كل مقاليد السلطة في يده ، فيتخذ من الإجراءات ما يجعله الرجل الوحيد في مصر ، وليس الرجل التابع لدولة إسلامية كبرى تستطيع عزله وتولية غيره . وقد عزل - في سبيل ذلك - عامل الخراج الذي عينه العباسيون على مصر - وتمكن من التحكم في الشئون المالية إلى جانب الشئون الإدارية والعسكرية .

ودخل أحمد بن طولون في صراع مع الدولة العباسية الجامعة وانتصر على أخي الخليفة أبي أحمد " الموفق " واتخذ من الإجراءات الثورية ما يكفل له الوقوف على قدميه لصد أي هجوم عباسي .

لكنه في الحقيقة لم يكن في حاجة إلى هجوم . . فنشأته على النحو السابق تحمل في أحشائها النهاية الطبيعية العاجلة . ورأت الخلافة من الحكمة أن تستغله . بدل أن تدخل معه في صراع ، وكلفته بمهام جديدة ، منها حماية الثغور الشامية . . ومات أحمد بن طولون تاركا دولة تقف كلها على أقدامه وحده وليست لها أقدام أخرى . . من عناصر الحياة التاريخية والحضارية ولذا فإنها بموته وقعت على الأرض . . وعلى الرغم من كل ما أبداه " خمارويه " ابنه من اتباع لسياسة أبيه ، ومن تمسك بمعالم استقلال وقوة دولته المستقلة . . إلا أنه لم يعد أن يكون مرحلة عبرها التاريخ ليدخل بالدولة - فورا - في مرحلة الأفول والفناء .

فبعد خمارويه انغمس الأمراء الطولونيون في لهوهم ، وتفشت ظاهرة حب السلطة والاستقلال لدى عمالهم في الأقاليم . وانقلب الثوريون على أنفسهم ، أو بالتعبير الدارج . . بدأت طلائع الثورة يأكل بعضها البعض . وقد ولي الأمر بعد خمارويه ثلاثة من آل طولون لم يزد حكمهم على عشر سنوات ، ولم تستفد البلاد المصرية أو الشامية منهم شيئا غير الفوضى والتنافس بين الطامعين في السلطة أو الفساد الذي نجم عن الترف ، وعن الاستبداد وغيبة الأمة عن الرقابة أو الحكم . . وفي هذه الحال . . لم يكن الأمر متعبا بالنسبة للدولة العباسية . . فتقدمت جيوشها لاسترداد مصر من خامس الولاة الطولونيين وهو " شيبان " الذي كانت الفوضى قد وصلت في عهده قمتها وأعلى معدلات خطورتها ، وشهدت سنة 292 هـ دخول هذه الجيوش إلى القطائع في القاهرة . . ومن فوق المنبر أعلن إزالة الدولة الطولونية التي لم تستطع أن تحكم أكثر من أربعين سنة عاشتها في صراع خارجي وعاشت معظمها في صراع داخلي ، مع شعب لم يهضم حركتها التي لم يكن لها المبرر الحضاري الهام لإحداث التغيير .

وعادت مصر إلى حظيرة الدولة العباسية . . وعلى امتداد تاريخنا سجلت صفحاته عشرات من الانقلابات وسجلت أسماء مئات الانقلابيين . . ولكنهم - جميعا وبلا استثناء - لم يقدموا ما يتوازى مع أحجام الخسائر التي كبدوها لأمتهم . . لأن الانقلاب ليس الوسيلة التاريخية المهيئة للتغيير ، إذ هو موجة انفعالية سرعان ما تنحسر محدثة رد فعل انحساري عنيف . . ودائما . . . دائما أثبتت كل تقلبات تاريخنا كما أثبتت كل تطورات الحضارة " أن الانقلاب يدفع إلى انقلاب . . وأن حركة التاريخ لا تندفع بالعنف والانفعال " ! !

الصفاريون وقصة سقوطهم

تاريخنا الإسلامي العظيم كتاب كامل من التكاملية التاريخية ، يضم بين صفحاته كل صور التقدم والتأخر .

وهو معلم عظيم . . اشتملت تجاربه على نوعيات من كل تجارب التاريخ البشري، وليس ذلك لأن القرآن العظيم قد حكى على نحو تركيبي كل صور التقلب والحركة والهبوط والارتقاء التي مر بها الموكب البشري ، والتي تغني التطور التاريخي الإسلامي وتكفل له الاندفاعة العاقلة . . ليس مرد الأمر إلى ذلك وحسب . . بل لأن كتاب التاريخ الإسلامي نفسه قد شاء الله له أن يكون من التكاملية والحبكة والتنوع بحيث يصلح كمرجع تال للقرآن والسنة يرجع المسلمون إليه ويتعلمون منه ، ويتلقون تلقي التلميذ من الأستاذ . .

إننا لا ندعو إلى رفض تأمل الموكب البشري المتحرك الذي يتحرك إلى جانبنا ومن حولنا . . أبدا . . فكل ما هنالك أننا لا بد أن ندرس أنفسنا قبل أن ندرس الآخرين .

والعجيب في أمر الدولة العباسية التي عاشت أكثر من خمسة قرون . . أستاذا وقائدا زمنيا وروحيا - مع اختلاف في الدرجة - العجيب أن هذه الدولة قد اشتملت على باب كامل من أبواب تاريخنا تكاملت له البداية . . والعقدة . . والنهاية .

وكما تعرضت هذه الدولة لعلل الانفصال عنها بوضوح منذ منتصف القرن الثالث الهجري ببروز الدولة الطولونية في مصر ، فإنها كانت تتعرض على امتداد النصف الثاني من القرن الثالث المذكور لهذه العلل على امتداد أرضها كلها . . كانت حركات الانفصال التي كانت لا تزال تخطب في المغرب باسم الخليفة العباسي " حركات الأغالبة والرساميين والأدارسة " بدلا من هذا أصبح الفاطميون حركة عصيان وتمرد علني . . بل وخروج على الأيديولوجية العباسية .

ومن الغريب أن حركة خروج أخرى تحمل نفس العداء السياسي والعسكري للخليفة العباسي ، وإن كانت لم تخرج أيديولوجيا ، كانت قد برزت في خراسان وتمخضت عن صراع عسكري اتبعه انفصال عن الدولة في سنة 254هـ وهي السنة نفسها التي برزت فيها الدولة الطولونية وسميت حركة الانفصال في خراسان هذه باسم " الدولة الصفارية " ! !

وكان لخراسان - كما هو معروف - وضع خاص في الدولة إذ كان هؤلاء الخراسانيون يشعرون بأنهم أصحاب فضل على الدولة العباسية ، وبأن سيدهم " أبا مسلم الخراساني " هو المؤسس الأكبر في رأيهم للدولة العباسية ، لكنهم - وهذا رأيهم كذلك - جوزوا جزاء " سنمار " حين قتل أبو جعفر المنصور الثاني ثاني الخلفاء العباسيين أبا مسلم هذا .

وقد تجاوزت الخلافة العباسية عن خراسان بعض الشيء بدافع من الوفاء والمجاملة ، وتركت " لطاهر بن الحسين " الذي قدم للدولة خدمات جليلة فرصة التحكم في خرسان . . له ولأبنائه من بعده في إطار الخلافة الجامعة والسمع والطاعة لدولة الخلافة عاصمة وخليفة . . حربا وسلما .

لكن منتصف القرن الثالث شهد بروز جماعة من المجاهدين الحريصين على بقاء هيبة الخلافة . تمكن " يعقوب بن الليث الصفري " من الاتصال بها . . والسيطرة عليها . . وتحويلها إلى جماعة خادمة له . . نجح بها في تأسيس " الدولة الصفارية " .

وقد استطاع يعقوب أن يجتذب إلى تأييده عددا من المتطوعين الجدد ، فعظم جيشه، واستطاع أن يحدث القلق لدى دولة الخلافة ، وبالقلق وإظهار تعاونه مع الدولة ، وحروبه تظاهرا لمصلحتها ، ثم باصطدامه بها . . اصطداما فاشلا كاد

يلقى حتفه فيه . . بكل هذا سكتت الخلافة عن هذه الحركات التي ولدت لتموت ، ولم يلبث يعقوب أن مات متأثرا بجراحه سنة 256هـ في سابور .

وخلفه أخوه عمرو بن الليث . . وأقرت الخلافة ولايته على خراسان ولواحقها كالسند وسجستان وكرمان وفارس وأصبهان . . فأظهر عمرو الطاعة الكاملة للخلافة ، لكنه - أمام كرم الخلافة - قد زاد في أطماعه ، ودخل في معارك مع السامانيين في بلاد ما وراء النهر ، واستطاع السامانيون بقيادة إسماعيل بن نصر الساماني أسره في إحدى المعارك ، وسيروه مكبلا إلى الخليفة العباسي المعتضد . . وأحضر إلى مجلس الخليفة المعتضد محمولا على جمل ذي سنامين ، وسجن حتى مات في سجنه سنة 287هـ .

واضطرب أمر الصفاريين لمدة ثلاثة أعوام بعد ذلك ، وسقطوا كما تسقط كل حركة انفعالية ترتكز على طموح شخصي ، وتفتقد الوعي بحركة التاريخ وبأيديولوجية قتالية واضحة تستأهل الموت في سبيلها .

ودائما يعلمنا التاريخ الإسلامي العظيم من تجربة الانقلاب ، الذي سماه المؤرخون غير المحددين بعمق لرصيد المصطلحات " الدولة الصفارية " ؛ يعلمنا التاريخ الإسلامي العظيم أن " الاندفاع غير الموضوعي وغير المتناسق مع روح التطور لا مصير له إلا الموت السريع " ! !

الإخشيديون على خطى الطولونيين يسقطون ! !

في قوانين الحضارة : أن المادة والروح لا تفنيان فناء مطلقا . . وأن بذور الخير والشر لا يمكن أن تموت موتا أبديا . . وأن الخير أو الشر يتحولان إلى مادة خام . . . لميلاد جديد سواء كان هذا الميلاد انبعاثة خير أو انبثاقة شر .

وبوسع علماء الحضارة أن يقدموا نماذج عديدة تبين بوضوح أن " الخمر العتيقة " لا يمكن أن تذوب دون أن تدخل في صنع مآدب حضارية جديدة . . تماما كالجسم الميت الذي يدخل في أجسام أخرى حية يمنحها من طاقته الذاهبة طاقات جديدة مندفعة للحياة والإبداع ، وكما يأكل الإنسان لحوم الدواجن والحيوانات الأخرى الحلال والأسماك . . ثم يتحول هو يوما إلى طعام يسهم في إحياء حيوانات أخرى . . أو في منح الأرض بعض المواد الكيماوية والحضارات تمر بنفس الطريق الدائري الخالد . . فأثينا برقيها الفلسفي والأدبي . . تتحول إلى خميرة حضارة لروما . والحضارة الأوربية تقوم على خميرة الحضارة الإسلامية وبقايا الحضارات الرومانية .

وعندما زرع أحمد بن طولون منشئ الدولة الطولونية أولى بذور الحركات الانفصالية في مصر عن الخلافة العباسية الجامعة والأم ، بدأت بزرعه لهذه البذرة الخبيثة بذور الانفصام تدب في نفوس قوى كثيرة جياشة بالفوضى . زاخرة بالطموح الشخصي، ناقمة على قيادة العباسيين . . الجامعة . متأثرة بعوامل قومية من تلك العوامل التي تدمر روح الحضارة وتبشر بمستقبل ضائع ميت . . لقد كانت دولة ابن طولون مثالا لكثير من الدويلات التي شذت على الخلافة ، وشيدت أبنيتها المتداعية على أنقاض الخلافة ، ولم يعد لكثير منها علاقة بالخلافة أكثر من الاعتراف بسلطة الخليفة الاسمية .

وبعد السقوط المتوقع لهذه الدولة عادت مصر وسورية إلى حكم العباسيين ، بيد أن بذرة الانفصال - كما ذكرنا - كانت قد زرعت في نفوس قوى كثيرة ، جائشة بالفوضى فوارة بالنوازع القومية الوثنية . . فما كادت دولة ابن طولون تموت حتى حلت محلها بعد برهة زمنية قصيرة - في مصر - دولة الإخشيديين التي أسسها " محمد بن طغج " والتي عاشت آيلة للسقوط بين سنوات ( 323 - 358هـ ) ( 935 - 969م ) .

وكانت بداية الدولة نظيرة لنفس البداية التي انطلقت منها الدولة الطولونية ، فمحمد ابن طغج وكل إليه من قبل الخلافة العباسية أمر مصر لتنظيم أحوالها . . فنظم أحوالها لنفسه واستقل بالأمر ، واستولى على سورية وفلسطين وضم مكة والمدينة إلى دولته .

وبموت ابن طغج حكم بعده ابنان له صغيران لم يكن لهما من الحكم إلا اسمه . . وكانت مقاليد الأمور في الحقيقة منوطة بيد عبد خصي حبشي يدعى " كافور " " أبا المسك " - كان ابن طغج الذي لقب بالإخشيد - قد اشتراه من تاجر زيت بثمانية دنانير .

وقد استقل هذا العبد الحبشي بإدارة مصر . . ( وكانت له مع شاعر العصر أبي الطيب المتنبي قصص مشهورة ) كما أن هذا العبد الخصي نافس دولة الحمدانيين التي ظهرت في شمال سورية .

وعبر خمسة حكام ضعاف باستثناء أولهم محمد بن طغج - مشت الدولة مسرعة في طريقها إلى الموت المحقق . . فلم يكن الحاكمان التاليان لمؤسسي الدولة إلا تابعين لكافور - كما ذكرنا - وبموت كافور وتولي ( أبي الفوارس أحمد ) سقطت الدولة سقوطا مروعا على يد جوهر الصقلي قائد المعز لدين الله الفاطمي سنة 358هـ .

ولم يقدر لهذه الدولة أن تخلف شيئا يذكر من المآثر العامة ، كما أن الحياة الأدبية والفنية لم تكن ذات بال فيها ، ولم يظهر كلمعة الشمس المتوهجة إلا ذلك الضيف الباحث عن فضلة من كأس الحكم . . يدعم بها غروره الشعري وتفوقه الجدير بالتقدير في ميدان الكلمة المسيطرة الآمرة ! ! وعندما ضن عليه كافور بفضلة الكأس هرب من مصر دون " تأشيرة خروج " ولقي حتفه جزاء له . . بعد أن ترك حقده على السلطة ممثلا في أشهر أبياته :

لا تشتر العبد إلا والعصا معه ** إن العبيد لأنجاس مناكيد

مريدا بذلك أشهر حكام الدولة الإخشيدية " كافور " .

ولو لم يصل جوهر إلى حدود مصر لسقطت الدولة الإخشيدية بفعل عامل آخر ، فعندما لا يكون هناك مبرر للوجود . . لا يكون ثمة مبرر للبقاء . . ولا تفعل القوى الخارجية التي تسيطر على الأمم والشعوب سوى أن تتقدم في فراغ دون أن تصطدم بجدران حضارية أو صخور قوية راسخة بالعقيدة " بمبرر الوجود . . . ومؤهل البقاء " !

سقوط السامانيين في فارس

كما لا تلد الطفرات غير الطبيعية إلا طفرات مضادة اندفاعية - هكذا تحولت أرض خراسان - منذ أن ابتدع فيها سنة الانفصال عن العباسيين بنو طاهر ، ولئن كان بنو طاهر قد أفلتوا من العقاب المضاد ، لأنهم لم يكونوا حركة ثورية عنيفة ، وإنما كانت انفصالا هادئا في حدود السلطة الرسمية المشروعة ، سلطة الخلافة العباسية الأم . . لئن كان هذا قد تم لهم . . فإن الأمور قد استفحلت من بعدهم . . وأصبح الشذوذ هو القاعدة . . وانقلبت الأرض الخراسانية إلى أرض للثورات المذهبية والجنسية . . ولعل هذا كان من أكبر عوامل القضاء على الدور التاريخي الذي كان يمكن أن يلعبه الخراساني في صنع الحضارة الإسلامية الإنسانية .

فحيثما حل العنف واللامشروعية . . وانساقت الجماهير دون تعقل خلف رايات متعددة ، وخلف كلمات مبهمة . . فقدت بالتالي قدرتها على الرؤية . . وقدرتها على العطاء الحضاري . أصبحت لعبة في يد كل ناعق سواء كان ذا صوت طبيعي أو مصطنع .

وهكذا شرب الطاهريون الانفصاليون من نفس الكأس التي أذاقوها للعباسيين،فقام الصفاريون عليهم . واستولوا على حكم خراسان سنة 261هـ بقيادة يعقوب ابن الليث الصفاري .

وكان بنو سامان الذين يرجع نسبهم إلى سامان أحد نبلاء " بلخ " قد نشأوا عمالا مسلمين لبني طاهر . ثم لم يلبثوا أن استأثروا بفارس وما وراء النهر من 874 هـ إلى سنة 999م وكان ذلك على أشلاء الانقلابيين الانفصاليين : الطاهريين والصفاريين . . وكان مؤسس دولتهم الأول هو نصر بن أحمد ، إلا أن موطد الدولة هو إسماعيل الذي قدر له أن يهزم يعقوب بن الليث الزعيم الصفاري وأن يصيبه بجروح قاتلة .

وفي عهد ملكهم نصر الثاني بن أحمد ( 913 - 943 ) وهو الرابع من ملوكهم ، وسعوا ملكهم إلى أعظم حدود وصلوا إليها ، فاستولوا على سجستان وكرمان وجرجان وما وراء النهر وخراسان وتمتعوا بسلطة مستقلة ، وإن كانوا لم يقطعوا الصلة الرسمية الإسلامية بالخليفة العباسي في بغداد .

وقد قدمت هذه الدولة بعض مظاهر التقدم العلمي والأدبي سواء من ناحية اللغة أو الأدب شعرا ونثرا . . وكانت النهضة الفارسية فيها أبرز من النهضة العربية من ناحية فكرها وطابعها العام باعتبارها دولة فارسية ، ففيها ظهر الرازي الشهير ، وقدم كتابه المنصوري في الطب إلى أحد ملوكها . . وكان ابن سينا أحد المترددين على مكتبات بخارى عامة الدولة . . . ووضع الفردوسي أشعاره بالفارسية لأمرائها .

على أن أسلوب الطفرات غير الطبيعية التي لا بد لها أن تلد طفرات مضادة انفعالية ، لم يلبث أن ظهر كقانون حضاري لا بد له من أن يؤدي دوره مع الدولة السامانية ، كما أداه مع الطاهريين ومع الصفاريين ، ومع الطولونيين والإخشيد ، فلم تنج الدولة بالتالي من عناصر التهديم والفوضى التي قضت على ما سواها من الحركات الانقلابية في ذلك العصر .

وبالإضافة إلى المشاكل الخارجية التي كانت تسببها الخلافة للدولة كلما أتيح لها ذلك ، وفضلا عن سرعة توالي الأمراء على الحكم بتأثير الصراع الداخلي بين الأسرة الحاكمة ، وبتأثير مطامع الكبراء العسكريين الذي يظنون أنفسهم أولى بالحكم لأنه لا يوجد من يفوقهم في حكم البلاد ، فكلهم أصحاب حق في مغانم الانقلاب الانفصالي .

بالإضافة إلى هذا وذاك . . ظهر خطر جديد يهدد كيان السامانيين ويؤذن بأفول شمسهم . . ولقد بدا أنهم يكادون يشربون من نفس ما أذاقوه للخلافة . . تماما كما شرب غيرهم من الانفصاليين .

وقد ظهرت القبائل التركية البدوية . . وارتفع نجمها في الدولة ، وسيطرت على الشئون الداخلية للدولة ، وتحولت القوة تدريجيا من أيدي السامانيين إلى أيدي الأتراك الموالي . . وحتى قصورهم كان الأتراك يتمتعون بنفوذ كبير فيها .

وقد نجح الغزنويون الذين كانوا من الموالي الأتراك في انتزاع الجنوب ، كما وقعت المنطقة الشمالية من نهر جيحون في أيدي خانات تركستان " الايلاق " الذي قدر لهم أن يستولوا على عاصمة السامانيين " بخارى " ثم لم يلبثوا - بعد تسع سنوات - أن التهموا الدولة السامانية ! ! .

ولم تكن الدولة السامانية أكثر من حركة قومية غرقت في إحياء تراثها الخاص ، كما أنها لم تكن أكثر من حركة انقلابية قامت بأسلوب الطفرة غير الطبيعية وانتهت كذلك بأسلوب الطفرة غير الطبيعية سنة 308هـ بعد أن عاشت في ظل حماية ( ضعف الخلافة ) قرنا من الزمان ! !

البويهيون الذين سطوا على الخلافة يسقطون ! !

بينما كانت الدولة العباسية تستجمع قواها وتلتقط أنفاسها بعد تخلصها من حركات الانشقاق في خراسان ومصر أخريات القرن الثالث للهجرة ، بينما هذا . . كانت الدولة تنتقل بسرعة لتدخل في طور جديد ذي معالم جديدة لم تشهدها من قبل . . وبدخولها هذا الطور شهدت انفصالا ضخما بين رأسها وجسدها ظل هو السمة العامة المسيطرة عليها لحين زوالها رسميا من محاضر التاريخ سنة 656هـ .

إن الأمر لم يكن مجرد حركة انشقاق هذه المرة ، كما أنه لم يكن مجرد الاستئثار بحكم جزء من الدولة ، مع رفع راية الدولة ، كما أنه لم يكن ثورة انفعالية مذهبية أو سياسية . . لقد كان الأمر أعمق من ذلك بكثير . . . لقد كان أسلوبا جديدا في التعامل مع الدولة العباسية الجامعة . . لقد كان احتواء لها أو بتعبير آخر سيطرة عليها وفرض نوع من الوصاية على خليفتها . . ولأول مرة في تاريخ الدولة الإسلامية نرى بعض الخلفاء - على نحو واضح وعنيف - لعبة في يد بعض المغامرين ، ونرى بعض الخلفاء يعزلون ويولون دون أن يكون لهم من الأمر شيء . . يفعل باسمهم كل شيء ويخطب لهم على كل منبر وتعلن باسمهم الحروب التي لا ناقة لهم فيها ولا جمل . . وليس هذا وحسب . . بل لأول مرة تصبح الخلافة عبثا يهرب منه الخلفاء . . وينأى عنه المحترمون لأنفسهم لأن مصير الخليفة غالبا الجر من قدميه أو الجوع الشديد . .

وبدأ العالم الإسلامي يترنح منذ هذا الحدث الضخم الذي انفصل فيه رأس الأمة عن جسدها .

وقد حمل كبر هذا الأمر الخطير ، الأتراك من الجند الذين كانوا يمرون آخر القرن الثالث فترة تمزق داخلي ، وانقلاب ضد الخلفاء الذين أتوا بهم ، بادئ الأمر لحمايتهم منذ أن انتشرت هذه السنة السيئة .

فلما وصل ( أحمد بن بويه ) المؤسس الحقيقي للدولة البويهية ( 334 - 447 ) إلى بغداد، بعد أن كاتب الخليفة المستكفي ، ووافق الأخير على دخوله بغداد فدخلها في يسر ودون مشقة وفتحت له أبواب بغداد ، واستقبله الخليفة ( المستكفي ) ولقبه معز الدولة . . وفرح الناس به لينقذهم من الفوضى التي أحدثها الجند الأتراك في جهاز الدولة وبين الشعب .

لما تم هذا الدخول وتحولت به الدولة إلى حماية البويهيين الرسمية ، بعد أن كان خضوعها للأتراك مجرد نشاز أو انقلاب في داخل السلطة يعتقد الناس أنه طارئ لا بد أن يزول .

لما تم هذا كانت الخلفية التاريخية في ذهن البويهيين واضحة، وكان دخولهم بغداد بمثابة تقلد صريح لقيادة الخلافة . . وقيادة المسلمين . . وقد فهم الخلفاء أنفسهم هذا . . . فلم يحاولوا منافسة البويهيين في السلطة التنفيذية أو السياسية .

بيد أن الأمر لم يقف عند هذه الحدود بالنسبة للبويهيين ، فلقد تمادوا في الأمر، وقد زعموا لأنفسهم نسبا ساسانيا فارسيا، وبما أنهم كانوا يعتنقون المذهب الشيعي الزيدي . . فقد حاولوا فرض المناخ الشيعي على الناس ، بل إن أحمد بن بويه المذكور حاول تغيير الخلافة العباسية إلى خلافة شيعية لولا نصيحة أصحابه له بأن يتجنب ذلك خشية العواقب .

ولم يعد للخليفة في ظلهم حتى حق تعيين كتابه ووزرائه ، وقد منع وارد الخليفة عنه ، ولم يعد يصله إلا مرتب شهري استبدل به مرتب سنوي . . ثم اقتطع منه بعد ذلك بحجج واهية ، وقد بلغ إذلال بعض الخلفاء مبلغه ==المستكفي عن الخلافة وعزل الخليفة الطائع وعزل غيرهما ، وقد عزل المطيع لله نفسه بعد أن رأى أنه لا قيمة له ! !

وقد وقع البويهيون فيما وقع فيه الأتراك ، فقد أحدثوا الفوضى في البلاد وصادروا الأموال ، ودخلوا مع الناس في صراع عنيف من أجل الحصول على الأموال .

وخلال أكثر من قرن ظل البويهيون يسيطرون على خلافة العباسيين ، ولم يفعلوا فيها شيئا ذا بال سوى أن يضيفوا إلى صورة الجند الأتراك مزيدا من ملامح الطيش والرعونة .

وكما هي العادة في أمثال هذه الأسر المتسلطة . . أنها سريعة الانقسام على نفسها شديدة التنافس فيما بينها، وهكذا سقطت الأسرة البويهية إلى حضيض الانقسام والتناطح الداخلي . . وعانى المسلمون من وراء تناطحهم وتسلطهم الشيء الكثير .

إن سيطرة عنصر من العناصر المتعصبة قوميا أو المتأثرة بخلفية تاريخية لم تتخلص من شوائبها . . . هو أبرز ما واجه ركب مسيرتنا الحضارية والتاريخية .

وبالقومية المتعصبة وبأصحاب النزعات المشبوهة وذوي الولاء لحضارات معاكسة لنا ولخطنا الحضاري ، بهؤلاء تمت عملية سقوطنا المتكرر في مراحل تاريخنا .

لكن تاريخنا . . الذي تتدخل فيه إرادة الله بحفظ هذا الدين كي يظل المعلم الثابت المضيء في ليل البشرية الطويل المظلم . . .

هذا التاريخ يجد مع كل نكبة تاريخية ، أو فترة من فترات التداعي والهبوط ، من يعيد إلى الجسم حيويته ويمنع عنه السقوط القاتل . . وهكذا انبعث - من جديد - من بين الأتراك أنفسهم عنصر إسلامي مجاهد . . أعاد للخلافة شبابها ، ونجح قائد الأتراك السلاجقة " طغرلبك " سنة 447 هـ في أن يقضي على دولة البويهيين .

وبين عشية وضحاها سقط البويهيون الذين أثبت تاريخهم أنهم غير أهل لتحمل أمانات التاريخ . . وقد تعبت الأمة من جراء سياستهم أشد التعب . . لأن التاريخ يعلمنا دائما أنه " بانفصال رأس الأمة عن جسدها . . تتعطل طاقات الحياة فيها " .

سقوط الانفصاليين في طبرستان

في كل دولة جامعة كالدولة العباسية ، يمكن لأي راغب في السلطة أن يجد مندوحة للقيام بثورة ولرفع راية الانفصال ، وإقامة حكم ذاتي له ولأبنائه .

فثمة قوميات مختلفة . . من السهل استجاشة عواطف كل منها القومية . . .

وثمة أوطان مختلفة . . من السهل الضرب على وتر الاستقلال ودعوى الحرية الذاتية فيها .

وثمة عقائد مختلفة . سواء عقائد مخالفة تماما ، أو عقائد منشقة على العقيدة الأصل ، وبالتالي يمكن الضرب على وتر من ينضمون إلى هذه العقيدة المضادة أو المنشقة ، من أجل سيطرة العقيدة المضادة على العقيدة الأصل .

وثمة لافتات أخرى كثيرة يمكن أن يجد فيها كل راغب في التمرد - التبرير الذي يسهل له أمام الجماهير - لاسيما الغوغاء الذين يجرون وراء كل ناعق بدون وعي - عملية الثورة والانفصال . . وكانت هذه أكبر التحديات التي واجهت الدولة العباسية الجامعة .

وكان طابع الانفصال في طبرستان وبلاد اليمن مختلفا عن محاولات الاستقلال بالسلطة فقط ، كان يحمل بذرة الانشقاق الروحي عن الخلافة العباسية . . كان يحمل بين يديه دعوى آل البيت والترويج لأحقيتهم في الخلافة .

وفي طبرستان في النصف الأول من القرن الثالث للهجرة ضغط على الفلاحين الإقطاع المتزايد ، وقد أقطع الخليفة العباسي محمد بن عبد الله بن طاهر - حاكم بغداد - أراضي في طبرستان لم تكفه ، فقام بوضع يده على الأراضي المجاورة له، مما جعل الفلاحين يضجون من ذلك .

وقد استغل بعضهم هذه الفرصة ، فقاموا بإعلان الثورة على الإقطاع ووعدوا السكان برفع الإجحاف والظلم وفي سنة 250هـ وبالتحديد - قام الحسن بن زيد بإعلان ثورته وجمع حوله عددا كبيرا من الفلاحين ، واستولى على طبرستان وجرجان ، ونجح في إقامة إمارة مستقلة باسمه - وظلت دولته قائمة حتى سنة 287هـ حين ظهر السامانيون فأزاحوها - بسهولة - عن المنطقة كلها .

ومع ذلك ظلت هذه الدعوة الشعار المسكين أو قميص عثمان الذي يتمسح فيه الراغبون في السلطة . . وهم يصلون إلى أغراضهم عن طريق رفع رايات مختلفة بحسب الظروف . . ليكن الشعار القضاء على الاستغلال ، أو محاربة الإقطاع المهم الوصول إلى الغاية .

ولم يمض إلا قليل . . أربعة عشر عاما فقط . . حتى ظهر متمسح جديد في آل البيت ! ! ومن الغريب أن هذا الثائر الجديد " حسن بن علي الأطروش " الذي لقب نفسه " بناصر الحق " سار على نفس الطريق الذي سارت فيه الحركة السابقة التي تزعمها الحسن بن زيد . . فقد قام في طبرستان . . وقد رفع شعار " القضاء على الإقطاع " وأبرز سلاح آل البيت ، وكما هو المرتقب ، التف حوله الفلاحون . . . ونجح في الوصول إلى السلطة .

وكما هو المنتظر كذلك ، لم تلبث هذه الحركة على مسرح السلطة في طبرستان أكثر من ثلاثة عشر عاما ( 301 - 314هـ ) وانكشفت حقيقتها . . ولقيت حتفها بفعل عاصفة " الزياريين " الذين أطاحوا بحكم الأطروش ، وحكموا جرجان وطبرستان بين أعوام ( 315 - 417هـ ) ثم زالوا كما زال غيرهم .

وفي جنوبي الجزيرة العربية ظهرت دعوة الزيديين رافعة راية آل البيت ، متمسحة في شعار القضاء على الإقطاع . . وقد نجح يحيى بن الحسين من أحفاد القاسم الرسي أحد كبار علماء المذهب الزيدي في إقامة حكم لنفسه متخذا من ( صعدة ) عاصمة له . وقد حكمت الدولة الزيدية مدة طويلة بلغت قريبا من أربعة قرون ونصف . واعتمدت هذه الدولة في تكوينها على أسس أكثر أصالة من مجرد " القضاء على الإقطاع " . . وبذا حققت لنفسها انتصارا وشهرة كبيرة على امتداد العالم الإسلامي . . وكانت في الحق من الحركات الممتازة في التاريخ الإسلامي .

وأيا كان الأمر ، فقد كان شعار " القضاء على الإقطاع " قميص عثمان الذي تمسحت فيه دول كثيرة وحركات أكثر . . ولم تتضح الرؤية عند هذه الحركات أو تلك الدول إلا أن تحقيق علاج اقتصادي مؤقت لا يكفي لإقامة دولة ، فضلا عن أن ينشئ حضارة لا تضيف جديدا لموكب البشرية .

إن حجم العلاج لا بد أن يكون مساويا لحجم المرض . كما أن من الضروري أن تكون نوعية الدواء مناسبة لنوعية المرض . . . أما علاج ظاهرة اقتصادية بالوصول على قمة السلطة السياسية . . فهو جرعة كبيرة من العلاج قد تكفي للقتل والموت .

ومن هنا أخفقت كل الحركات الزاعمة القضاء على الإقطاع ، لأنها بعد أن نجحت، أو أصدرت قرارها بإصلاح الوضع الاقتصادي - إذا حدث - تجد نفسها في فراغ ، وتجد أن مبرر وجودها قد انتهى ولم يعد ثمة ما وجب الاستمرار والبقاء

قصة سقوط الحمدانيين

من " تغلب " - إحدى قبائل العرب الكبرى - انبثقت دولة بني حمدان ، جاعلة من الموصل - أول الأمر - عاصمة لها . . وكان ذلك سنة 317هـ ( 929م ) على يد زعيم الدولة حمدان بن حمدون .

كان على هذه الدولة الناشئة أن تلعب دورا مصيريا في عدة جبهات :

في محاولة تضميد جروح الدولة العباسية من الطعنات المتتالية من الأتراك الذين استبدوا بها، وحولوا خلفاءها إلى دمى للتسلية واللهو . . وأيضا من الطعنات الانفصالية التي تصيب الدولة من كل صوب .

في مقاومة الغارات البيزنطية التي يقودها الإمبراطور الروماني ( شميشق ) رغبة في الاستيلاء على بيت المقدس، وفي مقاومة الإمبراطور البيزنطي " نقفور فوقاس " الذي حاول بكل قوته السيطرة على حلب والثغور المتاخمة لحدود الدولة الرومانية .

في مقاومة الحركة الانفصالية التي تحكم مصر الإخشيدية ، وتريد فرض سيطرة كاملة على مصر وبلاد الشام والحجاز ، وتناوئ بالتالي أية حركة انفصالية أخرى تحاول بناء نفسها على حسابها .

لقد نجح الحسن بن عبد الله الحمداني في أن يشل نفوذ الترك . وأن ينقذ الخليفة العباسي المتقي بالله من استبداد الأتراك به ، وقد رضي الخليفة العباسي عن صنيعه ومنحه لقب أمير الأمراء ومنح أخاه المرافق له لقب " سيف الدولة " لكنهما سرعان ما هزما أمام الأتراك وخرجا من بغداد عائدين إلى عاصمتهما الموصل . . سنة 331هـ " 942م " . ولما تولى سيف الدولة - وكان شجاعا كريما - قام بعدة غارات لصد البيزنطيين ، ونجح في أن يطردهم من المناطق التي تسللوا إليها ، وواصل زحفه حتى دخل بلادهم واستولى على بعض حصونهم . . والمهم، زرع هيبته في نفوسهم . . وجدد شباب الإرادة القتالية ، ولم تستطع بيزنطة أن تمد نفوذها إلى بلاد الشام وفلسطين .

وفي الجانب الإخشيدي استمر الحمدانيون في مقاتلتهم تتبع نفوذهم ، لكنهم أيام سيف الدولة خسروا أمامهم معركة في قنسرين . . وانتهى الأمر بصلح وضع حدود الصراع المستمر بين جبهتيهما .

كانت هذه هي التحديات التي واجهتها دولة الحمدانيين . . وقد نجحت الدولة في بعضها وأخفقت في أكثرها ، ولقد بدا سيف الدولة الحمداني . . وكأنه الرجل الوحيد الممثل لهذه الدولة .

كان سيف الدولة بحق يملك أكبر رصيد من أمجاد الدولة . . ولم يرفعه في سجل التاريخ ما قام به من حروب خارجية وحسب ، بل كانت له في مجال الحضارة والعمران الداخلي مجالات برز فيها أكثر من بروزه في المجالات الخارجية .

ولقد يبدو سيف الدولة في أعين كثير من المؤرخين وكأنه هارون الرشيد أو المأمون ، وإنه ليعيد إلى الأذهان ذكرى تلك الساحة العلمية الفكرية التي مثلتها بغداد . . في عصرها الذهبي . . لكن الساحة كانت على عهده . . حلب الشهباء ! !

كان سيف الدولة - الذي احتضن المتنبي وأبا الفرج الأصفهاني والفارابي وابن نباتة فضلا عن أبي فراس الحمداني " شاعر الدولة " - كان هذا الرجل يمثل قوة الدولة وقمة ما وصلت إليه من رفعة .

وظهرت الدولة بعده وكأنها بناء مائل للسقوط .

وقد تولى الحكم بعد وفاة سيف الدولة ثلاثة خلفاء ضعاف حتى زالت في عهد أبي المعالي شريف سنة 394هـ . . أي أنها لم تعش بعد سيف الدولة الذي مات سنة 356هـ أكثر من أربعين سنة ! ! .

لقد تمثلت قوة الدولة الحمدانية في شخص ، وكعادة الدول التي ترتبط بأشخاص تسقط بسقوطهم . . وكان أكبر عامل حضاري زحزح الدولة الحمدانية عن مكانتها في التاريخ أنها فشلت في الاستجابة للتحدي الذي كان أقوى منها ، ولم تنهج النهج السليم في مقاومته . . عن طريق إيجاد وحدة إسلامية تتجاوز الصراعات الجزئية لتواجه الخطر الحضاري الكبير . . وعندما تفشل دولة في الاستجابة للتحدي الذي يفرضه القدر عليها . . فإنها ، وإن قاومت قليلا ، فإنها لا بد أن تسقط من قطار التاريخ .

السلاجقة . . الذين أنقذوا الخلافة يسقطون

في تركستان - بدولة الاستعمار السوفيتي - نشأت هذه الأسرة . . ولظروف ما هاجرت هذه الأسرة بقيادة كبيرها " سلجوق " الذي تنسب الأسرة إليه . . وبين خراسان ، وبخارى ، وأصبهان ، تراوحت إقامتها حتى استقرت بمرو حيث هاجمها السلطان الغزنوي مسعود ولكنه هزم أمامها . . وأصبحت الخطبة تلقى بمرو باسم داود السلجوقي . . نجل سلجوق الكبير ، وكان هذا في سنة 433هـ .

ومن مرو انتشر سلطان السلاجقة إلى الري وإلى خوارزم ، وبدأ تاريخهم يظهر كقوة لها كيانها المستقل في العالم الإسلامي خلال القرن الخامس للهجرة .

وقد نجحوا في السيطرة على بلاد كثيرة . . كخراسان وأصبهان وهمذان وبخارى ، وامتد نفوذهم حتى العراق . والتحموا بالدولة العباسية ، ثم أتيحت لهم فرصة ذهبية . إذ استنصر بهم الخليفة العباسي " القائم " ضد ثائر شيعي يدعى " البساسيري " عجزت الخلافة العباسية عن مقاومته ، فأسرعوا إلى انتهاز الفرصة التاريخية ودخل زعيمهم طغرل بك بغداد منتصرا على البساسيري سنة 447هـ وكان هذا العام حدا فاصلا في تاريخ السلاجقة إذ اعتبر بداية عصر نفوذ السلاجقة وسيطرتهم على مصير الخلافة العباسية الكبرى .

امتاز السلاجقة الأتراك في معاملاتهم بالتدين ، وكانوا مظهرا للإنسان الفطري الذي هذبه الإسلام ، وإذا ما استثنينا صورا قليلة تحتمها الطبيعة البشرية التي لا تخلو من بعض القصور ، فإن هؤلاء السادة كانوا نموذجا طيبا حتى في معاملتهم للخليفة العباسي الذي حفظوا له عرشه . . إنهم لم يكونوا كالذين انتصر بهم المعتصم ، ولم يكونوا كالبويهيين حينما سيطروا على الخلافة وأذلوا كبرياء الخلفاء . . أبدا لقد احترموا الخلفاء وأجلوهم ، وكان لهم - كذلك - فضل كبير في رفع راية الإسلام ، وفي مد عمر الخلافة العباسية أكثر من قرنين من الزمان ، كما أنهم بدأوا مرحلة جديدة من التوسع الإسلامي في اتجاه آسيا الصغرى ، ويقال إن هذا التوسع كان أحد أسباب قيام الحروب الصليبية .

ومن الظواهر المتعلقة بسياسة هؤلاء القوم الاجتماعية والفكرية . . إلغاء أشهر ملوكهم " ألب أرسلان " لنظام المخابرات ولجوء أحد ملوكهم " نظام الملك " إلى نظام الإقطاع . . بإعطاء الشخصيات السلجوقية والشخصيات الأخرى الكبرى إقطاعات أو " أتابكيات " لحسابها الخاص . ومن الظواهر كذلك الحملات الجهادية شبه المنتظمة التي كانت خير علاج للفوضى الداخلية . . كذلك من الظواهر صراع السلاجقة المستمر ضد حركات الإسماعيلية ، ونجاحهم في تقليم أظفارهم .

وبعد صفحة تاريخية رائعة من صفحات الحضارة الإسلامية امتدت بين سنوات _ 433 - 619 ) قدر للسلاجقة أن يأفل نجمهم وأن تغرب شمسهم بعد أن حكم منهم واحد وثلاثون زعيما سلجوقيا ، وبعد أن قدموا للخلافة الإسلامية الكبرى أجل الخدمات وحموها من كثير من عثرات السقوط ، وقدموا للحضارة الإسلامية يدا من أروع ما قدمت الدول الإسلامية من أياد .

بيد أن السلاجقة ، وقعوا ، وهم يسيرون في الطريق ، في أخطاء ظنوها خيرا . . فانقلبت على دولتهم شرا .

لقد لجأ السلاجقة - كما ذكرنا - إلى نظام الإقطاعات وأسندوا معظمها إلى شخصيات سلجوقية ، وقد حسبوا أن هذا من شأنه أن يشغل السلاجقة عن التفكير في الحكم ، وأن يرضيهم بالبعد عن السلطة ، لكن الإقطاعيين السلاجقة سرعان ما حاول كل منهم أن يكون لنفسه من إقطاعاته إمارة صغيرة حاولت كل منها الانفصال عن السلطة وهو عكس ما كان يهدف إليه السلاجقة الحكام ، وقد أدى هذا إلى تفكك وحدة السلاجقة وإلى إجهاد السلطة السياسية الحاكمة ، وإلى توزع الدول بين عديد من الأمراء .

كما أن هذا الخطأ أدى إلى عدول السلاجقة عن طريقة اختيار زعمائهم القديمة التي كانت تعتمد على الكفاءة . . إلى طريقة جعل الزعامة ووراثية . نظرا لكثرة تنازع أمراء الإقطاعات عليها .

ومن المضاعفات كذلك تهاون السلاجقة - في ظل تفككهم - أمام حركات التمرد الباطنية لا سيما الحركة الإسماعيلية بزعامة قائدها الحسن الصباح . . وقد قدر لهذه الحركة أن تستنفذ طاقة كبرى من طاقات السلاجقة التي كان في الإمكان استخدامها في القضاء على حركات التفكك التي أصيبت بها الدولة أو الزعامة السلجوقية للخلافة العباسية .

وتبقى كلمة التاريخ الموحية : فإن السلطة غير الحازمة ، والتي تقبل التهاون في وحدة الدول إرضاء لبعض العناصر أو الشخصيات . . هذه السلطة ستدفع ثمن تهاونها يوما .

إن عقال بعير يمنع من الحاكم - بغير حق - هو انتقاص لسيادة الدولة . . هكذا فهم أبو بكر رضي الله عنه الأمور . . وبهذا نجح في القضاء على المتمردين .

وهكذا كان يجب أن يفهم السلاجقة وغيرهم من زعماء الدول . . الذين يقبلون نصف الحكم . . أو شيئا من الحكم دون وعي منهم بأن سيادة الدولة لا تتجزأ ، وبأن أنصاف الحلول أو أرباعها . . مقدمة طبيعية لزوال الحكم كله .

هكذا علمنا تاريخنا الإسلامي العظيم .

سقوط دولة الفاطميين

حين تستعين بعدوك التاريخي وتفقد القدرة على الرؤية الصحيحة . . فلا ضير في أن تموت . . فأنت ـ في البدء ـ إنسان منتحر . . ! !

والتسامح قضية كبرى من قضايا حضارتنا ، ومبدأ عظيم من مبادئ إسلامنا ، لكن هذا التسامح ـ بترك الناس يحيون وفق معتقداتهم ـ شيء ، وتسليمك مقاليد الأمور لهذا الذي ينتمي روحيا إلى أعدائك ، ويشعر بتعاطف نحو من تحارب ، وتقل حضانته ـ مهما يكن ـ عن أخيك المسلم . . تسليمك هذا شيء آخر بعيد عن التسامح . . إنه نوع من الغفلة والحماقة . . أو بتعبير آخر نوع من الانتحار ! !

وفي الدولة الفاطمية التي قامت في المغرب العربي سنة 298هـ وانتقلت قيادتها إلى مصر سنة 362هـ . . كانت ظاهرة الاعتماد على اليهود والنصارى سمة من سمات الحكم في الدولة ، فمن هؤلاء كان كثير من الوزراء وجباة الضرائب والزكاة، والمستشارين في شؤون السياسة والاقتصاد والعلم ، ومنهم الأطباء والثقات لدى الحكام، وإليهم تحال معظم الأعمال الجسام .

ولقد أحدثت هذه الظروف انفصاما بين الفاطميين والشعب ـ إلى جانب عوامل أخرى هامة ـ حتى لقد كان الناس يستجيرون من تسلط اليهود في البلاد فلا يجارون ، وقد ظهرت في ذلك أشعار كثيرة معروفة ، بل إن الناس قد اضطروا إلى أن يلفتوا نظر العزيز ( الحاكم الثاني في مصر ) إلى هذه الظاهرة التي كان يبدي تغافلا عنها ، وقد وضعوا له صورة من الورق لرجل يطلب حاجة أثناء مرور موكبه . . وقد مد الرجل يدا بورقة مكتوب فيها : " بالذي أعز اليهود بمنشا، وأعز النصارى بعيسى ، وأذل المسلمين بك إلا ما قضيت ظلامتي " وقد لمعت في سماء الدولة الفاطمية أسماء كثيرة من هؤلاء ، فقد لمع يعقوب بن كلس ( وسنورد تفصيلا عنه بعد ) ، ومنصور بن مقشر النصراني الطبيب صاحب الكلمة السامية في قصر العزيز ، وعيسى بن نسطورس الكاتب ، والمنجم ابن علي عيسى ، ويجين بن وشم الكواهي ، ومنشا اليهودي الذي كان نائب العزيز في الشام . . وغيرهم كثير . وعندما وصل الحاكم بأمر الله إلى الحكم . . وهو رجل أجمع المؤرخون على اضطراب عقله حتى أنه كان يأمر بالشيء وينهى عنه ـ أمر بهدم الكنائس التي بمصر ، لكنه سرعان ما عاد فأمر ببنائها ، وأطلق من جديد يد اليهود في البلاد ، واستمر أمر اليهود والنصارى في عهد الظاهر ، وعندما قدر للحاكم الفاطمي السادس في مصر " المستنصر بن علي الظاهر " أن يصل إلى الحكم سنة 427هـ كانت الحالة قد بلغت قمتها من التدهور . وفي ظل سياسة اليهود وتحكمهم في مرافق البلاد أصبح قصر هذا الحاكم زاخرا بالدسائس التي يحيكها القواد ورجال البلاط والخصيان والنساء ، ويقف وراء كل هؤلاء هذه الطوائف يديرون المعارك لصالحهم، ويرقبون الفائز، ويفسحون في شقة الخلاف .

وقد ذاقت البلاد من الجوع والبؤس والنزاع على السلطة ما أحالها إلى فوضى لم يشهد تاريخ مصر مثلها . وقد صور المقريزي هذه الحالة في قوله : " لم تجد البلاد صلاحا ولا استقام لها أمر ، وتناقضت عليها أمورها ، ولم يستقر عليها وزير تحمد طريقته . . " على آخر كلامه الطويل الذي قال في آخره بأنه : " تلاشت الأمور واضمحل الملك " وقد فكر ابن حمدان زعيم الأتراك في مصر في تغيير الخلافة الفاطمية إلى العباسية ، وكانت حال البلاد والفاطميين تسمح بتحقيق كل ذلك . . لولا سوء سياسة ابن حمدان لأتباعه وانقلابهم عليه . . وفي هذه السنوات أكل الناس بعضهم بعضا ، وبيع الرغيف بمائة دينار ، وأكل الناس لحوم الكلاب والحمير ، ولم ينته الأمر إلا بسقوط الدولة الفاطمية السقوط الحقيقي حين ترك حكامها السلطة تماما وقبعوا في قصورهم ، وحمل أمانة الحكم الوزراء العظام الذين كان أولهم وأعظمهم " بدر الجمالي " .

وقد أصبح بيد هؤلاء الوزراء كل مقاليد الأمور حتى أنهم لم يدعوا للخلافة ولا للخليفة في أغلب الأوقات إلا بالاسم ، وكانوا يتحكمون في اختيار الخلفاء وفي عزلهم ، والمؤرخون المنصفون يعتبرون سقوط الدولة هو تاريخ تولية بدر الجمالي أمور مصر سنة 464هـ . . ولم يفعل صلاح الدين الأيوبي حين أسقط الخطبة للفاطميين دون أية معارضة أو مقاومة حقيقية سنة 567هـ ـ إلا إسقاط عهد الوزراء العظام الذين كان آخرهم شاور . . أما الفاطميون فقد سقطوا منذ مدة طويلة أي قبل ذلك بقرن .

ومن الغريب أن العزيز الفاطمي . . بلغ من حبه لوزيره يعقوب بن كلس اليهودي أن ترك له أمر الدعوة إلى المذهب الفاطمي ، وكان هذا الأخير يجلس بنفسه يعلم الناس فقه الطائفة الإسماعيلية ، وقد ألف نفسه كتابا يتضمن الفقه على ما سمعه من المعز والعزيز الذي قال له : " وددت لو أنك تباع فأبتاعك بملكي " ولم يدرك العزيز أن ملكه كان قد بيع فعلا بهذه السياسة التي جعلت عهد الفاطميين في مصر عهد شدة وتناطح وبؤس . ووقف هؤلاء يستثمرون كل هذا ويتملقون الغرائز . . وبقيت عبرة التاريخ عبرة للذين يطلبون النصر من الأعداء ، والذين يطلبون الحياة من السم ، والذين ينسون " الاستراتيجية الإسلامية العالية " : " ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى حتى تتبع ملتهم " ! ! .

سقوط دولة صلاح الدين

من أسرة كردية من أذربيجان هاجرت إلى العراق ، انبثق فجر قائد هذه الدولة ـ التي لعبت بقيادته ـ دورا من أروع أدوار تاريخنا .

ولعل " صلاح الدين الأيوبي " أروع بطل قدمته الحضارة الإسلامية على امتداد القرنين السادس والسابع للهجرة ، وبه أفلت المسلمون وأفلتت الحضارة الإسلامية من غزو عالمي صليبي كاسح كان يقوده أخبث صليبي عرفته أوروبا الهمجية في عصورها المظلمة " بطرس الناسك " .

وقد كان لاشتراك صلاح الدين مع عمه أسد الدين شيركوه في الحملات العسكرية التي كان يرسلها نور الدين إلى مصر ، أثر كبير في تعميق خبرته وإبراز مواهبه ، وما إن مات عمه أسد الدين سنة 564 هـ حتى أسند إليه الخليفة الفاطمي في مصر " العاضد " الوزارة ، ولقبه بالملك الناصر ، فظفر صلاح الدين بحب الشعب واحترامه نظرا لحزمه وعدالته .

ولم تأت سنة 567هـ أي بعد توليته الوزارة بثلاث سنوات ـ حتى مات الخليفة العاضد " فطويت صفحة الخلافة الفاطمية في مصر وغيرها ، وعادت مصر ـ العاصمة الفاطمية الأولى ـ عاصمة كبرى للعباسيين تحت قيادة الدولة الأيوبية وقائدها صلاح الدين الأيوبي .

كان أمام صلاح الدين تحديات داخلية في مصر ، فإن الآثار الفكرية التي خلفتها الدولة الفاطمية كانت تحتاج إلى إعلان ثورة فكرية .

وكان أمام صلاح الدين خلل اقتصادي منذ أيام المجاعة العظمى . . أيام " المستنصر " وما جر على مصر والعالم الإسلامي الحكم الفاطمي من ويلات تسلط الوزراء العظام منذ " بدر الجمالي " ( 464 هـ ) إلى شاور وضرغام .

وكان بإمكان صلاح الدين ، لو أنه قائد مخادع ، أن يعلن ثورة اقتصادية واجتماعية ، ويلهي الناس عن حقيقة الخطر الصليبي الذي يواجهونه ! !

لكن صلاح الدين لم يكن هذا القائد المخادع ، بحيث يشغل الناس لحساب الأعداء عن معركتهم الحقيقية بمعارك جانبية .

وكان بإمكان صلاح الدين أن يبحث عن " اتفاقية جلاء " مع الصليبين أو عن " حل سلمي استسلامي " حتى تنتهي فترة تثبيته في الحكم ، ثم يعلن للناس أن الحكام السابقين يتحملون المسؤولية ، وأنه جاء إلى الحكم بعد فوات الأوان ، وبالتالي يخضع العالم الإسلامي لهذا الغزو الخبيث ! !

لكن صلاح الدين لم يكن هذا القائد المخادع .

وفي مواجهة غزو صليبي عالمي أعلن صلاح الدين ثورة إسلامية عالمية ، وأصبح هو رمزها ومحورها ، وكان هذا هو الطريق الوحيد ولا يزال هو الطريق .

لقد جاء توحيد العالم الإسلامي جنبا إلى جنب مع الجهاد المستمر ضد الصليبية العالمية الحاقدة ، ولم يكن صلاح الدين بالأبله الذي يبحث عن أي حل بديل للجهاد، فوسط الحروب التي تهز الكيان المادي والمعنوي والفكري للأمة لا يمكن إنجاح أي هدف بعيد عن الهدف الأول ، وكل الأهداف تأتي من خلال هذا الهدف، لأن الجماهير تعتقد أنها عملية تلهية وخداع . . وقد دخل صلاح الدين عديدا من المعارك قبل حطين الشهيرة . . كموقعة " مرج عيون " جنوب لبنان سنة 575 هـ وموقعة " مدينة صفد " في السنة نفسها .

وعلى امتداد كل السنوات كانت هناك معارك لا تحصى بين صلاح الدين والصليبين .

وقد شن صلاح الدين على الصليبيين حروبا واسعة من أجل استخلاص إمارات إسلامية استولى عليها الصليبيون وأسسوا فيها إمارات صليبية مضى على استيلائهم عليها قريبا من تسعين سنة كأنطاكية وطرسوس والرها وبيت المقدس وطرابلس . . لم يكن صلاح الدين ساذجا ضعيفا متهاونا فيدعو إلى حدود ما قبل " معركة " ما ، أو . . " اتفاقية " ما . . ! !

لقد كان الحق الإسلامي في عقيدته مقدسا لا يقبل التفريط والمساومة ! !

هكذا كان هذا الرجل العظيم . صلاح الدين الذي انتصر في حطين واسترد بيت المقدس ! !

وبوفاة صلاح الدين بقيت الدولة الأيوبية التي تنسب إليه تؤدي دورها قريبا من ستين سنة .

لكن هؤلاء الحكام كانوا أقل من صلاح الدين ، فلم يستطيعوا لعب الدور الذي لعبه . . وكان بعضهم متخاذلا يؤمن بإمكانية المفاوضات مع العدو الصليبي التاريخي ، كالملك الكامل الذي استجلب سخط العالم الإسلامي كله ، حين قام بتسليم القدس للصليبيين ، وقد تمكن الصالح أيوب الذي جاء بعده من استردادها .

ومن الغريب أن هذه الدولة التي بدأت بعظيم من أعظم الرجال هو صلاح الدين . . وانتهت بملك عظيم كذلك هو الملك الصالح ، كانت نهايتها على يد امرأة مملوكة من هؤلاء اللائى يظهرن في عصور الضعف ، ويساعدن على سقوط الدول .

إنها واحدة من هؤلاء النسوة القويات اللائى يجدن اللعب في خفاء القصور ودستورها ، متجردات من كل خصائص الأنوثة الحقيقية ، مستغلات مظاهر هذه الأنوثة في القتل والتدمير . . إنها شجرة الدر . . التي قتلت ابن زوجها " توران شاه " لكي تنفرد بالحكم ، ثم شربت من نفس الكأس حين قتلها المماليك أخذا بثأر زوجها منها .

وعجبا . . لقد قضي على الدولة التي قامت على أكتافها واحد من أعظم الرجال على يد مملوكة ـ مهما اختلفنا حولها ـ فإنها كذلك من أبرز نساء العالم .

من عوامل سقوط العباسيين

من أعرق الصفحات التي قدمناها للحضارة الإنسانية ، وللتاريخ البشري صفحة الدولة العباسية .

خمسة قرون وأكثر ( 132 هـ ـ 656 هـ ) مرت على التاريخ البشري ، وهو يحني جبهته لهذه الدولة .

وبالطبع . . فليس من خصائص المسيرة البشرية أن تظل على وتيرة واحدة ، وهكذا كان شأن الدولة العباسية في مسيرتها ، يتعاورها المد والجزر ، واختلف عليها الحماة بين أتراك وبويهيين وأتراك سلاجقة ، لكنها بقيت مع ذلك رمز الهيبة التاريخية التي تفرض نفسها على كل القوى ، مستمدة هذه الهيبة من رصيد الخلافة الإسلامية التي مثلت وحدة الوجود الإسلامي إلى فترة قريبة من عمر التاريخ .

كان قيام هذه الدولة حركة سياسية قامت على تخطيط ، لعله لم يتوفر للمسلمين في كل تاريخهم . . دقة وعمقا . . وصبرا على النتائج ، واستغلالا لكل القوى وسرية ، وتوافر لكل مقومات النجاح .

ثم كان السير التاريخي لهذه الدولة معجزة عجيبة ، فوسط بحار متلاطمة الأمواج، وعالم إسلامي فسيح لا يمكن ، بل يتعذر استمرار تماسكه . . وأعداء خارجيين من عناصر متباينة المذاهب والجنس والميول .

وسط هذا كله شقت الدولة طريقها . . ولا شك في أنها كانت بين الحين والحين تتعرض لحركة تفكك من هنا، وحركة تمرد من هناك ، وبروز لحركة خروج في ناحية ثالثة . . وغلبة عنصر من العناصر في مكان رابع .

ولكن مهما يكن . . فهذه هي طبيعة المسيرة البشرية ، ولم يقدم لنا التاريخ على كثرة ما قدم مدينة فاضلة خلت من كل النوازع البشرية وخلت من الصراع . . والمد والجزر ! !

وعبر القرون الخمسة تقلب في الحكم عشرات من الحكام . . بلغوا سبعة وثلاثين خليفة، أولهم أبو العباس السفاح ثم أبو جعفر المنصور . . وقد برز منهم كثيرون كالمأمون والرشيد والمعتصم والواثق والمتوكل والمهدي .

وكان آخرهم ـ ومن أشأمهم ـ أبو أحمد المستعصم الذي استسلم للتتار .

وظهرت أسر قوية وعناصر كبيرة سيطرت على الدولة أحيانا كالبرامكة وبني بويه والسلاجقة .

وتمتعت دول كثيرة بالاستقلال الفعلي عن الدولة كالطولونيين والإخشيديين في مصر ، وبني طاهر في خراسان ، وبني سامان في فارس وما وراء النهر ، والغزنويين في أفغانستان والبنجاب والهند ، وبني بويه ـ الذين لم يستقلوا وحسب ـ بل تحكموا في الخلفاء أنفسهم في شيراز في فارس . . ثم السلاجقة .

وهكذا ـ كما ذكرنا ـ تعاورت كل ظروف المسيرة التاريخية هذه الدولة ذات القرون الخمسة ! .

وخلال رحلة الدولة العباسية الطويلة في التاريخ ، لم يجد المؤرخون بدا من تقسيم هذه الدولة إلى عصور ثلاثة : العصر الأول ( 132هـ ـ 232 هـ ) وفيه كانت السلطة للخلفاء ما عدا المغرب والأندلس . والعصر الثاني ( 232 ـ 590 هـ ) وفيه ضاعت السلطة من الخلفاء لتكون في يد الأتراك والبويهيين والعصر الثالث ( 590 ـ 656 هـ ) وفيه عادت السلطة إلى أيدي الخلفاء في حدود بغداد وما حولها، دون بقية أملاك الخلافة التي سطا عليها الطامعون .

وفي مثل دولة جامعة كبيرة ذات حياة حافلة كالدولة العباسية يصعب الوصول إلى رأي أخير في أسباب انحلالها . . .

ـ أكانت حركات الانشقاق عن الدولة سبب هذا الانحلال ؟

لا : إن حركات الانشقاق هذه ظاهرة أو نتيجة من نتائج بروز عوامل الانحلال .

أكان ظهور أو تحكم عناصر غير عربية في الحكم من أسباب هذا الانحلال ـ لا ، فهذه العناصر قد وجدت في حضارات كثيرة وأين هي الدولة التي تخلو من خدمات عناصر ليست منها ؟ . . ثم إن هؤلاء لم يصلوا إلى ما وصلوا إليه إلا في ظل مظاهر الانحلال الحقيقية ، وأدى معظمهم خدمات للدولة كانت سببا من أسباب بقائها وصمودها .

أكان ظهور حركات التمرد الديني كالقرامطة والحشاشين وغيرهم هو السبب الأقوى في تحلل الدولة ؟

ومما لا شك فيه أن لهذه الحركات أثرها الكبير في ضياع " الوحدة العقائدية " وفي ضياع كثير من مثل الإسلام الصافية خلال هذه العصور . . وفي خلق جو من الفوضى الفكرية والاجتماعية والاقتصادية ، لكن مع ذلك ، وإن كان هذا سبب قويا ، فليس هو السبب الأقوى في سقوط الدولة العباسية . فما هي إذن ـ عوامل تحلل الدولة العباسية ودخولها في طور الاضمحلال ؟

لا شك في أن العوامل السابقة وغيرها ، كان لها تأثيرها الكبير في اضمحلال الدولة العباسية وفي دخولها مرحلة الأفول .

بيد أن أخطر العوامل التي أسقطت خلافة العباسيين ، إهمالهم لركن هام من أركان الإسلام . . وهو ( الجهاد ) ، فبعد المعتصم المتولي أمور الدولة سنة ( 833م ) لم نسمع عن معارك ذات شأن قامت بها الدولة ، ولم يكن مبدأ " الجهاد الدائم " حماية لهذه الدولة المترامية الأطراف أحد أركان السياسة العباسية .

لقد تقوقعوا في مشاكل الدولة الداخلية . . فحصرتهم مشاكلها . . وماتوا ببطء ، ولو أنهم وجهوا طاقة الأمة نحو " الجهاد " ضد الصليبيين ، لتغير أمر الحركات الهدامة التي قدر لها أن تظهر وتنتشر ، وذلك أن هذه الحركات لا تنتشر إلا في جو مليء بالركود والفساد ، والمناخ الوحيد الصالح للقضاء عليها هو المناخ القتالي الذي يكشف المعادن النقية ويذيب المعدن الرخيص .

لقد كانت الحاجة الإسلامية ملحة في ضرورة رفع راية الجهاد ، وكانت الدولة الإسلامية التي تعرضت للانشقاق والتمزق تحتاج إلى هذا الصمام ليحميها من جو السكون والاستسلام .

لكن العباسيين غزوا في عقر دارهم . . فذلوا ، ولم يرفعوا راية الجهاد ضد العدو الخارجي . . فارتفعت رايات العصيان الداخلي .

وكان بإمكانهم أن يشغلوا الأجناس المختلفة التي ضمتها الدولة في هذه الحروب الجهادية المستمرة ضد الغزاة والوثنيات المختلفة . . لكنهم لم يفعلوا ، فتحركت النعرات القومية الجاهلية لتفتت الدولة، وتقسم جسمها تحت رايات مختلفة ليست لها بالإسلام أو الجهاد صلة .

وفي سنة 656هـ ( 1258م ) كان هولاكو ـ حفيد جنكيز خان ـ يؤدب الذين اتجهوا إلى كل الطرق إلا طريق الجهاد . . وحاولوا العلاج بكل الوسائل إلا الوسيلة الإسلامية القوية الخالدة .

وقد هاجم هولاكو بغداد وهدم أسوارها ، وأعمل المنجنيق فيها ، وحصد بغداد ، حتى لم يعد ممكنا الإقامة فيها لشدة روائحها المنفرة ، وعندما خرج الخليفة المستعصم إليه مستسلما بصحبة ثلاثمائة من أصحابه وقضاته دون شرط ، أمر هولاكو بقتلهم جميعا ، وطويت صفحة الخلافة العباسية .

ذلك أن أسلوب الأحلام الرومانتيكية الساذجة ليس وسيلة البقاء أو تشييد الحضارات . . فالذين لا يملكون إرادة الهجوم . . يفقدون القدرة على الدفاع ! !

المماليك أبطال عين جالوت يسقطون

كانوا دائما أهل طعان ونزال . . كانوا أشقاء للسيف والرمح ، هو هويتهم وهو مؤهلهم للحياة والبقاء . . وعلى امتداد تاريخهم كان السيف مقرونا بهم . وكانوا عضد الدولة الإسلامية في كثير من المواقف ، وكانوا حماتها من أعدائها .

وفي مقابل ذلك عاشوا . . وتحملتهم شعوب مصر والشام ، وسمحت لهم بالسيطرة عليها . . وهم بدورهم كانوا جيشها وأسطولها وحماتها أمام كل غزو خارجي ، وكانوا يخضعون لتقاليد البلاد ولا يعرفون لهم ولاء إلا للدين الذي عاشوا به وربوا على تعاليمه ، وإلا للسلطان الذي يحكم . . .

ثم مع تطورهم الداخلي أصبح ولاؤهم للسلطان الذي يحكمهم منهم . .

ولقد شكلوا مجتمعا ذا هوية خاصة ، له أسلوبه الخاص في الحياة ، وله تربيته الخاصة وله فكره الخاص . . لقد كان مجتمعهم أشبه ما يكون بالمجتمع العسكري أو المجتمع البحري الذي يعيش للبحر أو الجندية ، فالجندية عقله وهي عاطفته . . ولا ولاء عنده لسواها .

وعندما مات فجأة آخر سلاطين الأيوبيين الملك الصالح أيوب . . تكتمت زوجه شجرة الدر الخبر لأن بلاد مصر كانت في حرب مع لويس التاسع الذي هزم وأبيد جيشه في دمياط والمنصورة ، ثم استدعت الزوجة الملكة ابن زوجها " توران شاه " لينقذ البلاد ، فلما جاء توران وأنقذ البلاد من الصليبيين ، وحاول أن يستأثر بالسلطة دبرت المرأة قتله . . ثم أقامت نفسها بمساعدة المماليك ملكة على مصر ، وقد اختار المماليك كبيرهم عز الدين أيبك ليقوم بمساعدة " المملوكة " التي صارت " ملكة " ( شجرة الدر ) في إدارة شؤون مصر ، وتطور الأمر فتزوجت شجرة الدر من مساعدها عز الدين ، وتنازلت له عن السلطة .

وهكذا تم تنازل آخر من ينتسبون إلى دولة الأيوبيين بنسب إلى كبير المماليك ، ومع أن شجرة الدر تعتبر البداية التاريخية لدولة المماليك ، لكن البداية الأكثر عمقا وأحقية هي التي مثلها هذا التنازل ، ثم استأثر عز الدين أيبك بالسلطة سبع سنوات أحست فيها المملوكة القاتلة بأنها سلبت كل سلطة ، فقامت بقتل زوجها الجديد مثلما قتل من قبل ابن زوجها القديم .

لكن المماليك سرعان ما قتلوها ثأرا وانتقاما . . واستقر الأمر لدولة المماليك في مصر والشام .

والمماليك قسمان : برجية نسبة إلى أبراج القلعة التي كانوا يسكنون فيها بالقاهرة . . وبحرية نسبة إلى جزيرة الروضة المطلة على النيل التي كانوا يسكنون فيها كذلك ، ومن أشهر المماليك الأول برقوق . . وآخرهم قانصوه الغوري الذي سقط تحت سنابك خيل السلطان سليم سنة 1527م . .

ومن أشهر المماليك البحرية عز الدين أيبك وبيبرس والمنصور قلاوون . . وقد انتهى هؤلاء من قبل المماليك البرجية بحوالي قرنين وكان المماليك البرجية ـ أبطال عين جالوت ـ يمثلون امتدادهم التاريخي .

لقد لعب المماليك البرجية بخاصة في تاريخنا دورا لم تقم به إلا دول قليلة في التاريخ . . لقد صدوا غارتين حضارتين من أكبر وأشهر الغارات التي عرفها تاريخنا وتاريخ الإنسانية .

كانت الأولى يمثلها زحف هولاكو الذي ينتمون إليه جنسيا ، لقد صدوه بعقيدتهم الإسلامية التي لم يعد لهم ولاء إلا لها ( الحمد لله أن نظرية القومية العنصرية لم تكن ظهرت بعد ) وقد وقفوا أروع وقفاتهم في صده في عين جالوت الشهيرة رافعين راية واإسلاماه ! !

ثم كانت الثانية في معاركهم الدائمة ضد الصليبيين الذين كانت لهم بقايا بعد صلاح الدين ، فعلى يد السلطانين المنصور قلاوون الذين تسلم الحكم سنة 678 هـ والسلطان الأشرف خليل ـ الذي تولى الحكم سنة 689 هـ . . على يد هذين السلطانين ـ فضلا عن جهود بيبرس ـ تهاوت قلاع الصليبيين الباقية والتي كانوا قد تقدموا في بعضها بعد صلاح الدين كحصن المرقب وعكا وغيرهما ، وطويت على يد المماليك آخر صفحات الغزو الصليبي الذي استمر قرنين من الزمان وكان ذلك سنة 960 هـ .

وقد تضافرت ظروف عالمية ، كاكتشاف رأس الرجاء الصالح ـ وظروف إسلامية كبروز الأتراك ـ ثم محمد علي ، وظروف داخلية كانقسام الأتراك على أنفسهم .

تضافرت كل هذه الظروف على إنهاء الدور الذي قام به المماليك ، لكن كان أكبر سبب هوى بالمماليك وزحزحهم من مكانهم في التاريخ ، هو أنهم نسوا الرسالة التي عاشوا من أجلها وتعاقدوا مع الشعوب التي حكموها بشأنها .

نسو رسالتهم في الدفاع الخارجي . . نسوا السيف ، وتبلدوا عند أسلوب معين ، ولم يطوروا أنفسهم ، ثم تطوروا فانقلبوا من حماية خارجية للأمة إلى متسلطين داخليين عليها يمنعون حركتها وتطورها .

وبذا فقدوا دورهم في التاريخ . . وسقطوا بعد أن أدوا للحضارة الإسلامية الكثير . . وأنقذوها من أكبر خطرين عالميين وهما التتار والصليبيون . .

القسم الثالث : دول مغربية تسقط

*سقوط الأغالبة في تونس

* سقوط دولة الخوارج في الجزائر

* غروب الأدارسة في المغرب الأقصى

* سقوط صقلية الإسلامية

* سقوط المرابطين بالمغرب

* سقوط دولة صنهاجة في تونس

* سقوط بني حماد في الجزائر

* والموحدون . . يسقطون

سقوط الأغالبة في تونس

الحركات الانفصالية في العالم الإسلامي ارتكزت على عديد من الأسس المتباينة ، وجنحت كل منها إلى حجة تعطيها مشروعية الوجود والبقاء ، فبعضها قد التمس السبب في الانفصال من نزعة سياسية ، وبعضها قد التمسه من نزعة مذهبية ، وبعضها قد التمسه من نزعة قومية ، وبعضها قد التمسه من ( ضعف الخلافة ) .

ولم نجد في تاريخ هذه الحركات ذلك الشجاع الصريح الذي يعلن أن رغبته في الانفصال ترجع إلى سبب حقيقي واحد هو الرغبة في الوصول إلى السلطة . . وتملك الحكم . . والمجد الأدبي والمالي .

وفي فترة متقاربة بدأت الحركات الانفصالية تظهر في العالم الإسلامي ، وكأنها خصيصة جديدة من خصائص التطور التاريخي لهذه الفترة ، فالأندلس انقسمت عن الخلافة العباسية بقيادة عبد الرحمن الداخل ( صقر قريش ) ومثلت بوجودها آخر ومضة من ومضات وجود بني أمية ، وظلت باقية ثلاثة قرون تمثل هذه الومضة ، وانقسم بنو طاهر في خراسان انقساما تبعوا فيه دولة الخلافة العباسية عكس بني أمية في الأندلس ، وانقسم في مصر ابن طولون في تاريخ قريب من هذا .

وكان لا بد للمغرب العربي ، وهو الأرض الواقعة كجسر تاريخي بين الامتداد العقائدي الذي وصل إلى مشارف باريس وبدأ ينحسر بعد موقعة بلاط الشهداء و استشهاد عبد الرحمن الغافقي . . بينه وبين مركز الإسلام الأصيل ومهبط الوحي وأرض العرب أن تظهر فيه هذه الظاهرة .

والحق أن الحركات الانفصالية في المغرب العربي كانت تملك المبرر في الانفصال ، فإن عمال بني أمية كانوا قد أساءوا السيرة فيهم وعاملوهم " كبربر " أي كمواطنين من الدرجة الثانية ، كما أن أهل العراق بكل ما أثير بينهم من جدل كلامي وفتن عقائدية . . قد حملوا هذا الجدل وهذه الفتنة إليهم وحرضوهم على خلفاء بني أمية ، وولدوا فيهم الرغبة في الانفصال . وعلى مشارف القرن الثالث الهجري كانت هناك دول ثلاث منفصلة تحكم المغرب العربي ولا تخضع للخلافة العباسية إلا اسما . . وهي : الأدارسة والأغالبة والرستميون . . وكانت هذه الدول بوضعها ذاك تمثل الأرض القابلة لأي امتداد طموحي . . ووجد فيها الفاطميون فيما بعد الأرض الصالحة لغرس بذورهم .

وكانت دولة الأغالبة التي قامت في تونس سنة 184 هـ أبرز الدول الانفصالية في المغرب العربي .

وكان مؤسسها إبراهيم بن الأغلب الذي أرسله الخليفة العباسي هارون الرشيد لخلق الاستقرار في المغرب العربي في ظل حماية العباسيين ، يتمتع بقدر كبير من الشجاعة والذكاء ، وقد اتخذ إبراهيم مدينة القيروان عاصمة له ، وبعد وفاته سار بنو الأغلب على منواله في توطيد أمن المغرب وتقوية أسطوله وجيشه وتنمية موارده .

وكان أبرز ما قدمه الأغالبة للإسلام هو فتحهم لصقلية وضمها إلى أرض الإسلام ، بقيادة قائدهم أسد بن الفرات في عهد أميرهم زيادة الله بن إبراهيم الأغلب ، الذي تولى الحكم سنة 201 هـ ، كما أنهم تقدموا فاستولوا على جنوب إيطاليا ، ويقال : إنهم واصلوا زحفهم حتى دقوا أبواب روما .

وقد ازدهرت الحركة الاقتصادية والعمرانية في أفريقيا التونسية على عهدهم ، كما أن الأمن قد ساد البلاد وأصبحت تونس ـ على الجملة ـ عامرة مزدهرة ازدهارا عظيما . . وقد أسسوا بالقيروان عدة مساجد لعبت دورا كبيرا في تدعيم الحضارة الإسلامية ، ومن أبرزها جامع الزيتونة الذي أصبح في المغرب كالأزهر في الشرق ولعب دورا مهما في الحياة العلمية الإسلامية .

وقد اشتهر بعض ملوك الأغالبة بالقسوة الشديدة ، وكان سفك الدماء عندهم أسهل من شرب الماء ، ولعل هذا من أبرز ما أخذ عليهم ، وقد مد من عمرهم في المغرب انصراف الخلافة العباسية إلى مشكلاتها المشرقية . . وعدم قطعهم لكل أواصر المودة مع الخلافة العباسية ، وبالتالي رضيت الخلافة في ظل ظروفها بالقدر الذي يدينون به بالطاعة لها . كما أسكتها انتصارات الأغالبة في معارك الجهاد ضد الصليبيين في أوروبا والساحل الجنوبي الأوروبي وجزر البحر الأبيض المتوسط .

هذا كله قد غفر لهم بعض أخطائهم وجعلهم يعيشون أكثر من قرن من الزمان يحكمون تونس وملحقاتها ، ويحكمون صقلية ويفرضون هيبتهم على الدول الأوروبية .

لكن الدول الانفصالية لا يمكن أن تقف أمام الحضارات الجامعة التي تمثل كيانا وجوديا له أبعاده الحضارية المتكاملة .

ومن هنا فلم يستطع الأغالبة الصمود أمام الفاطميين الذين برزوا في المغرب بقيادة داعيتهم أبي عبيد الله المهدي . . فسقطوا على يد الفاطميين هؤلاء سنة 296 هـ .

لقد سقطوا ـ أولا وقبل كل شيء ـ باعتبارهم حركة انفصالية لا تستطيع أن تصمد أمام كيان حضاري زاحف له راية الأيديلوجية يقف تحتها ، مهما اختلفنا في أبعاد هذه الراية . . أو هذه الأيديلوجية .

سقوط دولة الخوارج في الجزائر

منذ خرج " الخوارج " عن طوع علي بن أبي طالب رضي الله عنه ، وتسببوا في قتله على يد عبد الرحمن بن ملجم ، وهم يشكلون على امتداد التاريخ الإسلامي المادة الخام لكثير من الحركات الثورية . لقد انتشر الخوارج على امتداد الأرض الإسلامية ولقد دخلوا في عديد من المعارك واجهوا في بعضها تصفية جسدية هائلة . . لكنهم مع كل ذلك ـ ظلوا شعلة ثورة في الأرض الإسلامية ، وشعارهم قول أحد روادهم " قطري بن الفجاءة " :

فصبرا في مجال الموت صبرا ** فما نيل الخلود بمستطاع

سبيل الموت غاية كل حي ** فداعيه لأهل الأرض داع

وبالطبع لم يكن المغرب الإسلامي ، وهو تلك الأرض الإسلامية العذارء ليفلت من أيدي الخوارج .

لقد حاولوا بكل الطرق أن يشكلوا على أرضه قوة إسلامية خارجية ينشرون من خلالها مبادئهم الخارجية .

وقد كان أهم بروز لهم سنة 122 هـ في طنج برئاسة " ميسرة المطغري " ، وقد عرف المغرب من مذاهب الخوارج : الصفرية والإباضية ، وقد انتشرت الصفرية في الجهات الغربية ، بينما انتشرت الثانية في النواحي الشرقية ، وكانت أكثر القبائل البربرية ( المغربية ) الموالية للخوارج زناتة وهوارة .

بيد أن حركاتهم ظلت حركات ثورية فوضوية ، لم يقدر لها إلى منتصف القرن الثاني الهجري أن تنتظم في دولة . . ولذا فمعظم حركاتهم ماتت وكانت تذوب في بوتقة المجتمعات المنظمة ، لا سيما وقد أصيبت كثير من حركاتهم بما أصيبت به الحركات التي تقف على الطرف الآخر منهم . . أي أنهم أصيبوا بكثير من المغالاة والتطرف ، والميل إلى نزعة التكفير وإراقة الدماء والقتل لأوهى الأسباب .

لكن مع بروز سنة 144 هجرية بدا وكأن الخوارج يستمتعون بإقامة دولة مستقرة لهم بالمغرب .

وقد نجح عبد الرحمن بن رستم الإباضي عبر سلسلة من المغامرات والتعرض للموت غير مرة ، والتحايل على جذب القبائل البربرية . نجح في إقامة دولة خارجية تعتمد على البربر وعلى العرب والعجم وتتمركز في مدينة جزائرية يفصلها عن الصحراء الجزائرية أكثر من مائتي كيلو متر ، وتقع في منطقة النجود ، وتتبوأ مكانا جيدا يحميها من الإغارات ، ويحميها كذلك من الشمس التي لا تكاد تظهر في سمائها ( ! ! ) وهي مدينة " تاهرت " .

وقد نجح عبد الرحمن بن رستم هذا في توطيد دعائم دولته خلال الفترة التي قدر له أن يحكمها ( 144 ـ 168 هـ ) وقد خلفه من بعده ابنه عبد الوهاب الذي بقي في حكم الدولة التي تنسب إلى أبيه " الدولة الرستمية " عشرين سنة . . ثم " أفلح ابن عبد الوهاب " الذي عمر أطول مدة عمرها حاكم رستمي ، فقد بقي في الحكم أكثر من خمسين سنة ( 188 ـ 238 هـ ) ، ثم تتابع في حكم الدولة الرستمية خمسة من الأمراء ( أبو بكر بن أفلح . . فأبو اليقظان ، فأبو حاتم ، فيعقوب بن أفلح ، فاليقظان ابن أبي اليقظان آخر أمرائهم ) والذي لم يتمتع بالحكم أكثر من عامين عاشهما في اضطراب ، ثم غلبه على أمره الشيعة الروافض وقتلوه في شوال سنة 296 للهجرة ، وانتهت به الدولة الرستمية التي حكمت جزءا كبيرا من أرض الجزائر " تيهارت وما حولها " قرنا ونصف قرن من الزمان ( 144 ـ 296 هـ ) ( وكان ظهورها الذي دعمه الرخاء الاقتصادي والاجتماعي أبرز مثل لبروز دولة خارجية ) .

إن الخوارج الذين اشتهروا بالحمية والتفاني في سبيل المبدأ ، قد تحولوا في ظل دولتهم الرستمية إلى رجال حكم ودولة أكثر منهم رجال عقيدة ودعوة .

وقد عاشت طوائف كثيرة مختلفة النزعة في ظل دولتهم الرستمية حياة رغدة طيبة سهلة . . وبعد أن كان الخوارج أرباب سيف سقط السيف من يدهم منذ أبو بكر بن أفلح ، وقد رضوا بسلم يمكن لهم البقاء في حدود ما حول تاهرت ، عقدوه مع جيرانهم الأغالبة والأدارسة .

وجلي أن الذي لا يتقدم يكون عرضة للتأخر . . وهكذا تأخر الرستميون بعد أن فقدوا روحهم النضالية . . ودعنا من انحرافات كثيرة منهم لدرجة المغالاة والتطرف . . ودعنا كذلك من سذاجة آخر ملوكهم " اليقظان " واضطراب الملك في يديه .

لقد عمل ذلك عمله في سقوط الدولة الرستمية . . كما عمل في سقوطها كذلك أخطر قانون من قوانين الحضارة . . وهو أن الدولة التي تفتقد راية حضارية جديرة بالانتشار والبقاء . . دولة جديرة بالانحسار والفناء

غروب الأدارسة في المغرب الأقصى

في تخوم السنوات التي تصل شطري القرن الثاني الهجري تفككت وحدة المغرب العربي ( تونس ـ الجزائر ـ مراكش ) وبدلا من خضوعه للدول الإسلامية الجامعة سواء دولة الأمويين أو دولة العباسية . . بدلا من هذا انقسم المغرب الإسلامي على نفسه إلى قوى ثلاث تحكمها زعامات ثلاث . . الرستميون في تيهارت ( الجزائر ) والأغالبة في تونس ، والأدارسة في المغرب الأقصى .

وليس من السهل تلمس الأسباب الحقيقية لهذا الانفصال سوى أنه مطية لتحقيق أغراض شخصية ومذهبية .

بيد أن كثيرا من المؤرخين لا يفوتهم البحث عن أسباب لكل الظواهر ، حتى ولو كانت الظاهرة مجردة حادث مفتعل يخلف نتائج مضادة ويكون حصاده وبالا على الأمة التي خضعت له.

وليس من شك في أن الحياة ليست سلبا كلها . . وبالتالي ليست إيجابا كلها . . فنحن لن نعدم أن نجد في الدولة الحضارية الجماعية سلبيات . . كذلك لن نعدم أن نجد في كل الحركات الانفصالية التي تمثل ـ في رأينا ـ بوادر غروب للحضارة الجامعة . . لن نعدم أن نجد فيها إيجابيات ، بيد أنه لا السلبيات تصلح للحكم على الدولة الجامعة بالموت وبالانقضاض عليها من داخلها ، ولا الإيجابيات تصلح كمبرر للوجود . . إذا قيست هذه الإيجابيات الجزئية بما تخلفه حركات الانشقاق من هدم في روح الحضارة . . ومن صراع يجهد الدولة الجامعة والبلد المنفصل معا .

وكان إدريس بن عبد الله بن الحسين هو ( قائد حركة الانفصال عن دولة العباسيين في المغرب الأقصى )

وكان إدريس هذا قد ساهم مع إخوته ومع العلويين في إشعال ثورة الحجاز ضد العباسيين ، لكن الثورة فشلت ، وأخمدت فهرب إدريس إلى بلاد المغرب ، وهناك استطاع أن يجمع حوله بعض قبائل البربر ، وأن يكون له إمارة مستقلة دامت حوالي قرنين من الزمان . . وكان ذلك في مطلع القرن الثالث الهجري . . أي أن حركة إدريس كانت متأخرة عن حركتي الرستميين في الجزائر والأغالبة في تونس .

وقد نجح الخليفة العباسي هارون الرشيد في أن يدس على إدريس من يدس له السم في العسل ، وكان الرشيد يضحك ويتندر بقوله " إن لله جنودا من عسل " لأنه سمه بواسطة العسل .

وقد ترك إدريس زوجته حاملا فولدت بعد موته ذكرا التف البربر حوله وبايعوه باسم إدريس الثاني . وفي عهد إدريس الثاني هذا حاول العباسيون بواسطة ولاء الأغالبة الموجودين في تونس لهم ، حاولوا القضاء على الأدارسة . . لكنهم فشلوا . . وركن العباسيون إلى السكوت . . واستمرت الدولة الإدريسية ـ كما ذكرنا ـ قرنين من الزمان .

وكان من أعظم حكام الأدارسة يحيى الرابع بن إدريس الذي حكم ثماني عشرة سنة ( 292 ـ 310 هـ ) وازدهر المغرب الأقصى في حكمه أيما ازدهار .

كما بلغت مدينة فاس عاصمة الأدارسة ذروة مجدها ، وأصبحت مركزا هاما من مراكز الحضارة الإسلامية في أنحاء المغرب العربي . وأيضا قد ساعد الأدارسة على رسوخ قدم الإسلام في بلد المغرب بين البربر ، وانتشر الإسلام بواسطة البربر في أفريقيا الغربية .

وكانت جامعة القرويين التي قامت بدور بارز في نشر وإنماء الثقافة الإسلامية من أهم آثار الأدارسة في المغرب الإسلامي ، وقد قامت في المغرب بما قام به الأزهر ـ أو على نحو قريب منه ـ في المشرق العربي .

لقد كان الأدارسة أول دولة لها هذا الطابع في التاريخ وفيما نعتقد لم تكن دولتهم شيعية إلا بمقدار حب آل البيت والولاء لهم . . وهي صفة يشترك فيها السنة والشيعة معا . . فحب آل البيت من حب الرسول عليه الصلاة والسلام ما كانوا قائمين على كتاب الله وسنة رسوله . . أما إذا خالف أحدهم كتاب الله وسنة رسوله . . . فإنه يقف من الله موقف أي إنسان " يا فاطمة بنت محمد اعملي فإني لا أغني عنك من الله شيئا " هكذا قال الرسول عليه الصلاة والسلام ! ! .

ولهذا الوضوح في دولة الأدارسة أحبها أهل السنة وانتصرت بهم ، وكانت القبائل البربرية السنية في المغرب حاميتهم وعماد دولتهم .

ولهذا السبب عاشت دولة الأدارسة نحوا من قرنين من الزمان وأدت دورا حضاريا لا بأس به في المغرب الإسلامي .

بيد أنها كأية حركة انفصالية كانت تفتقد مبرر الوجود والبقاء . . فظلت على الرغم من " قرنيها " مجرد حركة انفصالية . ولم تستطع ـ لا جغرافيا ولا فكريا ـ أن تزيد على حدودها التي ضمها إدريس الأول شيئا ذا بال .

وقد وقعت كذلك بين عديد من القوى الراغبة في الابتلاع . . وقعت بين الأمويين في الأندلس ، الذين كثيرا ما سددوا إليها الطعنات . . وبين مصر التي انتقلت إلى الفاطميين منذ سنة 359 هـ . . فوجهوا إلى الأدارسة طعنات كذلك على الرغم من القرابة المذهبية . .

ولا يمكن إغفال ضربات القبائل البربرية الراغبة في حكم نفسها، لا سيما قبائل زناتة وهوارة .

وقد أدى ذلك كله على غروب شمس الأدارسة عام 375 هـ .

فانتهت إحدى الحركات الانفصالية في تاريخنا الإسلامي . . لأن السقوط ـ وإن كثرت المقويات والمساعدات ـ هو مصير كل الحركات الانفصالية .

سقوط صقلية الإسلامية

بعد قرنين من فتح المسلمين لصقلية على يد الفقيه أسد بن الفرات سنة 212 هـ كان كل شيء يؤذن بالأفول . . كانت الأندلس تعيش حالة ملوك الطوائف الذين تداعوا تداعي البيت المفكك أمام زحف المرابطين بقيادة رجلهم المؤمن رجل العقيدة والدولة يوسف بن تاشفين .

وكانت الجزائر وتونس تعانيان من هجمة القبائل العربية الهمجية الزاحفة تدمر كل شيء دون تعقل .

وكانت مصر قد ذهبت نضارتها على يد الفاطميين الذين كانوا قد فقدوا نضارتهم كذلك ، بل كانت مصر التي يحكمها الخليفة المستنصر تعاني من مجاعات غريبة لعلها لم تحدث في تاريخها بالمرة لدرجة أن الناس أكلوا بعضهم بعضا وبيعت لحوم الكلاب في الأسواق .

كان هذا هو الجو المحيط بصقلية الأغلبية الإسلامية . . الجو الذي يطلق عليه مؤرخونا عبارة " الحالة الإسلامية في النصف الثاني من القرن الخامس الهجري " ! ! !

لكن كل هذا كان أقل من أن يقتطع غصن صقلية من شجرة الإسلام إلى اليوم . . لقد كان ثمة سبب آخر أشد وأقوى .

كان هناك الهزيمة الداخلية التي هي الباب الوحيد التي تدلف منه كل الهزائم الواردة . . كان هناك لصوص المناصب وهواة الزعامات والمتمسحون في أمجادهم العائلية .

كانت صقلية قد فقدت أمثال فاتحها العظيم أسد بن الفرات القاضي والفقيه والقائد والشهيد الذي استحق عن جدارة بطولة فتح صقلية .

وحل جيل جديد تتنازعه التقاليد الوثنية النورمانية وينظر بإعجاب إلى الجنوب الأوروبي ، وإلى تقاليد العدو الواقف بالباب . . وعندما حلت الهزيمة الداخلية على هذا النحو . . كان من السهل أن يدخل روجار بجيوشه ، وأن تتحول صقلية إلى اليوم قلعة صليبية تكيد للإسلام .

كان روجار قائد النورمان المستوطنين بالغرب الفرنسي والإيطالي يترقب فرصة الوثوب على الجزائر وتونس . . فضلا عن صقلية ، وكما هي العادة في تاريخنا لم يستطع روجار أن يدخل إلى صقلية إلا من خلال أهلها ، من خلال الهزيمة الداخلية . . فمبدأ الجهاد قد وقانا شر الأعداء الخارجيين ، أما حين تتفتت العقيدة وتنحل إرادة القتال يبدأ العدو في الولوج ممتطيا أحد الأصنام الباحثين عن الملك تحت أي شعار .

وفي معركة من المعارك الداخلية بين لصوص الحكم هزم أحدهم . . ويسمى ابن الثمنة . . ولم يجد هذا الرجل غضاضة في أن يطلب الوصول إلى الحكم عن طريق الاستعانة بالنورمان المتحينين للفرصة فذهب إليهم يستعين بهم ويطلعهم على خفايا الجزيرة ، ويمدهم بالعون إذا هم حاولوا الاستيلاء عليها .

وبدأ من يومها الغزو النورماني لصقلية . . ولم تكن القوى الإسلامية المفككة المحيطة بصقلية بقادرة قدرة حقيقية على عمل شيء . . بالرغم من أن تونس قد حاولت تقديم المساعدة .

وتساقطت كأوراق الشجر في الخريف مدن الإسلام الزاهرة في هذه الجزيرة التي قدمت للإسلام والحضارة الإسلامية عديدا من الأبطال في كل المجالات .

سقطت " مسنة " . . وسقطت " بلرم " العاصمة . " وماذر " .

وبعد جهاد طويل من أحد شباب الإسلام الذين يظهرون كوهجة الشمس قبل المغيب " ابن عباد " سقطت سرقوسة ، ثم خرجت ولحقت بها ضريانة فنوطس ، وسجلت سنة 484 هـ 1091 م السقوط الكبير لصقلية في يد عصابات النورمان . .

وكما تمثلت الهزيمة الأولى ـ في بداية الهزيمة ـ . . كما قدمتها ـ في شخص ابن الثمنة ـ كذلك تمثلت الهزيمة هنا في صورتين :

في صورة ابن حمود حاكم قصريانة إحدى المدن الصقلية التي سقطت وكان هذا الرجل يزعم النسب إلى العلويين . . لدرجة جعلت أحد المؤرخين الأوروبيين يصفه ( بالعلوي الدنيء الرخيص ) مسلما بقضية علويته ، ولربما كانت صحيحة ، فكثير من دعاة العلوية كانوا خونة ! !

وقد تواطأ الرجل مع روجار لدرجة جلبت عليه سخط المسلمين في الجزيرة كلها .

ولم ينته أمر هذا الخائن لأمته إلا بالنهاية الطبيعية ، إلا أنه حرصا على مزيد من الجاه لدى روجار أعلن نصرانيته وطلب من روجار أن ينقله إلى إيطاليا ليقضي بقية حياته هادئا آمنا ، وذهب الخائن ، ومع ذهاب الإسلام من أعماقه وأعماق أمثاله من المنهارين ذهبت صقلية . . والصورة الثانية . . تقدمها لنا صفحات التاريخ في شكل رسالة بعث بها المسمى الخليفة الفاطمي في مصر إلى روجار تحمل تشفيا وتهنئة بالنصر المسيحي ، وبعد أن يوافق خليفة المسلمين العظيم روجار على كل أوصافه للزعماء المسلمين في الجزيرة ، تلك التي وردت في رسالته وكيف أنهم جانبوا طريق الخبرات واجترءوا في الطغيان ، واستعملوا الظلم، وتمادوا في الغي .

بعد ذلك ينهي رسالته بأن من كانت هذه حاله حقيق بأن تكون الرحمة نائية عنه ، خليق بأن يأخذه الله من مأمنه أخذة رابية .

وهذا الكلام . . صحيح . بيد أنه لن يغفر للخليفة المنهار في مصر المتمسح ـ كذبا ـ في شرف النبوة أن يسقط ركن من أركان دولة الإسلام ـ تابعا لحكمه ـ دون أن يحرك ساكنا . . ثم يخرج علينا بشعارات منمقة لا قيمة لها .

ولن يغفر له التاريخ كذلك أنه نفسه كان لعبة هزيلة في قصره بيد الوزراء العظام، وفي ظل أحط مجاعات عرفتها مصر الإسلامية ، وإنه بدوره كان حلقة في سلسلة مصائبنا الكثيرة .

وقد زار ابن جبير الرحالة المسلم ـ صقلية ـ بعد سقوطها ـ فوصف أحوال أهلها تحت الحكم النصراني ، بما يجعلها قريبة من أحوال أهل الأندلس ، فقد ضربوا عليهم إتاوة يؤدونها في فصلين من العام ، وحالوا بينهم وبين سعة الأرض ، ولا جمعة لهم يؤدونها بسبب الخطبة المحظورة عليهم ، ويصلون الأعياد بخطبة يدعون فيها للعباس ، ولهم بها قاض وجامع . .

ثم يختم ابن جبير حديثه عن أحوال المسلمين في صقلية بقوله :

" وبالجملة فهم غرباء عن إخوانهم المسلمين تحت ذمة الكفار ، ولا أمن لهم في أموالهم ولا في حريمهم ولا في أبنائهم . . " .

وكان هذا جزاء ما قدم زعماؤهم الخونة ، وسادتهم الفاطميون المارقون . .

والمهم :

سقطت صقلية الإسلامية ! !

سقوط المرابطين بالمغرب

بدأت دولة المرابطين بالمغرب العربية بداية طيبة قوية . . كانت هذه الدولة بحق انبثاقة فكرة إسلامية عظيمة الأثر في حياة الدعوة الإسلامية . . هذه الفكرة تقوم على إبراز دور محدد قيادي للمسجد الإسلامي ، فالمسجد ليس مجرد دار لأداء صلوات خمس مبتوتة الصلة بالحياة ، وإنما المسجد الإسلامي دار تنطلق منها قيادة البشرية وتربيتها في كل مرافق الحياة . . فهو إلى جانب كونه دار عبادة هو كذلك دار علم ، وهو دار قضاء وهو مكتبة ، وهو مجلس شورى . . أي أن المسجد في الحقيقة نموذج لكل الوزارات والدواوين التي تقود شؤون الناس وتوجه مصالحهم ، وعلى هذا الأساس قامت فكرة الأربطة التي أنشأها المرابطون والتي من خلالها تكونت طليعة إسلامية استطاعت أن تنشئ دولة المرابطين التي حمت المغرب الإسلامي والأندلس قرابة قرن من الزمان .

ومضت فترة القوة في هذه الدولة عندما مات أكبر شخصية مرابطة هي شخصية يوسف بن تاشفين على رأس المائة الخامسة ، وبالتحديد سنة 500 من الهجرة .

وبعد يوسف ، ومع الجهود الضخمة التي بذلها خليفته وابنه علي بن يوسف بدأت دولة المرابطين تدخل طور الأفول .

وكان ذلك بتأثير سبب قوي غريب . . كان ذلك لأن علي بن يوسف هذا قد انصرف عن شؤون الحكم إلى حد كبير ، ولم يتحرك إلا في مرات قليلة لم تكن كافية لسد الثغرات التي فتحت على الدولة في المغرب والأندلس ، وراح هذا الأمير المرابطي يصوم النهار ويقوم الليل ويعكس بزهده وإهماله لشؤون دولته فهما مغلوطا للإسلام بل إنه وقع في خطأ كبير . . حين وقع تحت تأثير مجموعة كبار الفقهاء البارزين في دولته ، وكان لا يزيد عن كونه لعبة صغيرة في أيديهم .

ونتيجة غفلة علي بن يوسف هذا ، وانصراف الفقهاء إلى تكفير الناس وجمع الثروات ، بدأت مظاهر التحلل تسود قطاعات كبيرة من الدولة .

كانت الخمر تباع علنا في الأسواق ، وكان النبيذ يشرب دون حرج ، وكانت الخنازير تمرح في الأسواق كالأغنام ، واستولى أكابر المرابطين على إقطاعات كبيرة وذهبوا إلى الاستبداد فيها ، واستولى النساء على الأحوال " وصارت كل امرأة تشتمل على كل مفسد وشرير وقاطع سبيل وصاحب خمر وماخور " .

وكان ثمة مظهر آخر من مظاهر الفساد انتشر على عهد الخلفاء الضعاف المرابطين . . هذا المظهر هو تحجب الرجال ، حتى إن الرجل لا تبدو منه إلا عينه ، وبروز النساء وظهورهن في الأسواق العامة سافرات ، واختلاطهن بالرجال . لكن مفتاح المصائب الكبرى على المرابطين كانوا هم الفقهاء

لقد ذهبوا إلى تكفير كل من يحاول تأييد القواعد والأصول الشرعية ، لا سيما العقائد بأدلة عقلية . وقد يكونون على خطأ أو على صواب ، فلسنا نعرض لآرائهم أو لآراء غيرهم ، وإنما الذي نقصده أن نظرية التكفير هي دلالة إفلاس وتحجر ، وليس من حق أحد أن يتعجل فيرمي الناس بالكفر . . إذ ليس من حق أحد أن يتعجل فيرمي الناس بالكفر . . إذ ليس الكفر مفتاحا يملكه الناس ما لم تظهر أدلته المادية التي لا تقبل الشك . . أما الخلاف على رأي فليس مجال تكفير .

وقد ذهب هؤلاء الفقهاء في استرسالهم التكفيري هذا إلى تكفير أعظم شخصية إسلامية أنجبها القرن الخامس والسادس الهجري . . وهي شخصية الإمام " أبي حامد الغزالي " المعروف بحجة الإسلام بل إنهم ذهبوا في غلوائهم أبعد مذهب ، فحرصا على امتيازاتهم التي يكتسبونها من جدلياتهم في علوم الفقه التي تمثل الفروع . . أفتوا بإحراق كتب الإمام الغزالي لا سيما كتابه الشهير " إحياء علوم الدين " وكانت حجتهم في ذلك اشتمال الكتاب على بعض المسائل الفلسفية الكلامية . . مما اضطر السلطان علي بن يوسف الخاضع لتأثيرهم إلى إصدار أمره بوجوب إحراق الكتاب " إحياء علوم الدين " في جميع أنحاء مملكته تنفيذا لفتوى الفقهاء ، ثم أنذر بالوعيد الشديد . . . بل بالقتل واستلاب مال كل من يوجد عنده الكتاب ! ! .

وكان هذا الحادث أبرز ألوان الجمود والتحجر والخوف على الامتيازات الشخصية التي أظهرها الفقهاء .

وقد بلغ الحنق بالإمام الغزالي مبلغه ، فدعا على علي بن يوسف بن تاشفين المرابطي أن يمزق الله ملكه . . حين علم بالأمر ! .

لقد كان منهج الفقه الذين تصدروا شؤون الدولة المرابطية يقوم على الابتعاد عن المصدرين الرئيسيين للتشريع وهما القرآن والسنة ، والتمسك الشديد بآراء الفقهاء . . حتى ولو لم يعرفوا لها سندا من الكتاب والسنة . . وقد بلغ الأمر بهم في هذا الأمر مبلغه ، حتى أن أحد الناس قال لرجل وهما في الطريق : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول كذا . . فرد عليه الآخر . . لكني أعتقد أن الإمام مالكا يقول كذا ( ! ! ) وهكذا ذهبت آراء الفقهاء في نظرهم مذهب التقديس والغلو المبالغ فيه .

وقد أمات الفقهاء واجب " الحسبة " . . وهي الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، فلم يقوموا بتغيير نواحي التحلل التي ظهرت في الدولة ، وكان بإمكانهم لتمكنهم من الحكم أن يقوموا على تغييرها . . لكنهم جاروا العامة في غرائزها وبحثوا عن أنفسهم ، بل قاوموا المخلصين الذين حاولوا التغيير ورموهم بالتكفير والمروق .

بقي أن نقول : إن الفقيه أبا القاسم بن حمدين زعيم الفقهاء في هذه الفوضى . . وأكبر المكفرين للإمام الغزالي ، بل المكفر لكل من قرأ كتاب الإحياء كان يمثل نموذجا لكثير من الدجالين المتاجرين بالإسلام ، والإسلام منهم براء .

ومع ألسنة النار المندلعة من نسخ كتاب الإحياء التي أحرقت في مشهد علي بجامع قرطبة ، كانت ألسنة نيران حركة التاريخ التي تقودها سنة الله التي لا تتخلف ، تأكل دولة المرابطين التي تركت أمرها لمجموعة من ضيقي الأفق ومرتزقة الكلمة ، هؤلاء الذين لا يفهمون أصول الإسلام ولا روح الإسلام . . ولا أصول الحكم في الإسلام . . ولا روح الحكومة الإسلامية الحقيقية . . .

سقوط دولة صنهاجة في تونس

عندما رحل الفاطميون إلى مصر سنة 360 هـ ، بعد أن أسسوا دولتهم بالمغرب العربي وعاشوا فيها أكثر من نصف قرن ، خلفوا وراءهم قبيلة بربرية كبرى تدعى صنهاجة كي تحكم المغرب العربي ( تونس والجزائر ) نيابة عنهم وباسمهم .

لقد كان انتقال الفاطميين إلى مصر وتسليمهم الأمور لهذه القبيلة البربرية الكبرى حدا فاصلا في أحداث المغرب العربي ، إذ كان إعلانا ببداية عهد يحكم فيه البربر أنفسهم ويستقلون بحكم بلادهم ، في ظل اعتراف بسلطة الدولة الفاطمية وهو اعتراف من النوع الذي يمكن نقضه ، لأنه لا تساعده قوى متمركزة عسكرية، ولا ولاء جماهيري عقائدي ، وبالتالي فقد اعتبر هذا الحدث بداية عهد " حكم البربر للبربر " ! ! .

وقد نشأت بعد رحيل الفاطميين أول دولة بربرية كبرى في الجزائر وتونس هي " دولة الصنهاجيين " التي عرفت باسم " دولة بني زيري " نسبة إلى أول حكامها " بلكين بن زيري الصنهاجي " ، وقد نجح بلكين هذا في أن يقضي على الفتن الداخلية وعلى الثورات القبائلية المجاورة على حدود البلاد ، وحقق استقرارا كبيرا بالبلاد إلى أن مات سنة 373 هـ ( 984م ) فخلفه ابنه المنصور بن بلكين ، وكان من أعدل بني زيري ، فاستعمل السياسة والعنف معا ، ونجح في تصفية خصومه باللين والحكمة والترهيب كذلك .

وقد لمس الفاطميون النية لدى حكام بني زيري في الاستقلال ، فحاولوا وضع العراقيل في وجه المنصور ، إلا أن سياسته قد امتصت محاولاتهم .

وعندما مات سنة 387 هـ خلفه ابنه باديس بن المنصور فسار على سياسة أبيه ، ونجح في تحقيق الاستقرار للدولة . حتى مات سنة 406 هجرية ( 1015م ) .

لقد تولى الأمر بعد باديس أعظم ملوك بني زيري على الإطلاق " المعز بن باديس " ولقد واجه المعز بن باديس وضعين جديدين كان لهما تأثير كبير في مستقبل الدولة : أما الوضع الأول . . . فهو قيام حركة انشقاق في الدولة قادها أحد أعمام أبيه ويدعى " حمادا " وكانت قد بدأت منذ عهد أبيه واستنفذت من طاقة أبيه الكثير ! ! وأما الوضع الثاني فهو ميول المعز نفسه ، إذا كان المعز قد تربى على يد رجال من رجالات السنة المالكية ، ونشأ محبا للمالكية والسنة . وقد حاول منذ ولي تغيير مذهب الدولة ، ففي سنة 407 تغاضي ، بل أوعز بطريقة غير مباشرة، بقتل عدد كبير من مخالفي السنة والجماعة في مذبحة كبيرة .

لقد كان ابن باديس واقعيا مع ظروفه وظروف دولته ، وبالتالي فقد قبل انشقاق جزء من دولته في ظل سيادته ، هذا في الجانب الأول .

وفي الجانب الثاني كان واقعيا مع ظروفه كذلك ، فتمهل في الأمور ، ولم يقم بتغيير المذهب الشيعي ، حيث كانت دولة الفاطميين في القاهرة قوية تستطيع تأليب القوى عليه من داخل بلاده وخارجها .

ولقد عاش المعز يحكم دولته في هدوء ، قريبا من خمس وثلاثين سنة ، أي إلى سنة 441 هـ . . وفي السنة الأخيرة التي كان حاكم الدولة الفاطمية فيها هو المستنصر ، أعلن انفصاله عن دولة الفاطميين ، إذ كان المستنصر يعاني من تدهور كبير في الأوضاع ، وكان المعز يعيش فترة تألق شديد .

لكن الفاطميين في مصر لم يستسلموا للضربة التي سددها إليهم المعز ، وهم في الوقت نفسه ، كانوا عاجزين عن توجيه ضربة مقابلة له ، خضوعا لظروفهم التي كانت تجنح إلى التدني والسقوط والأزمات الاقتصادية الشديدة .

ولم يعدم المستنصر الفاطمي ـ أطول خلفاء الإسلام بقاء في الحكم وسيلة يضرب بها المعز .

وكانت الوسيلة التي رآها هي إطلاق القبائل العربية " الهلالية " كي تزحف على المغرب العربي ، وقد استدعى رؤساءهم وأقنعهم بمحاولة امتلاك المغرب وأرسل إلى المعز خطابا بذلك .

وكانت هذه القبائل حجازية استوطنت مصر ، وتعيش بطريقة شبه فوضوية ، وقد تقدمت نحو المغرب في أعداد كبيرة يبالغ بعض المؤرخين فيزعمون أنها تتجاوز المليون .

لقد أتيح للمعز بن باديس فرصة ترويض هذه القبائل ولكنه لم يوفق إلى هذا النهج وكانت هذه أكبر أخطائه . وبالتالي فقد تقدمت هذه القبائل تهلك الحرث والنسل وتخرب المدن والقرى ، حتى قضت على حضارة القيروان العظيمة .

كما أن المعز لم يوفق في إعلان مواجهة حضارية في مقابل غزوة حضارية ولقد كانت وشيجة الإسلام كفيلة بترويض هذه القبائل وباستغلالها ، وبالتالي بإحباط الهدف الذي سعى إليه المستنصر ، في إيثار الجماعة والسنة .

وعندما يفشل المغزوون حضاريا في إحداث غزو حضاري مضاد ـ لا سيما وأن هذه القبائل كانت تجنح إلى ما جنح إليه المغرب العربي ـ يفقدون عنصر القدرة على البقاء .

إن الغزو الحضاري لا يقاوم بمجرد المقاومة ، بل لا بد من امتصاصه بغزو حضاري مضاد .

وهذه القاعدة قد غابت عن ذهن بني زيري في تونس ، فتهاووا وتهاوت حضارتهم، وللأسف الشديد فإن هذه القاعدة لا تزال غائبة عن ذهن كثير من المخدوعين والمهزومين .

وسقوط بني حماد في الجزائر

لا يلد الانفصال إلا انفصالا ، والسير ضد سنة الله محاولة انتحارية ومن سمات حركة التطور البشري أن الروح العامة تؤدي دورا مهما في عملية السير التاريخي .

فإذا كانت الروح العامة متجهة إلى الخير تسابق الناس إلى الخير ، وهكذا تقدمت حركات الإصلاح ، وهكذا استقطبت أجيالا في أيامها ، والأمر نفسه ينطبق على الشر ، ولم تمت الأمم إلا بالروح الشريرة العامة التي جعلت التحلل " مودة " والتفسخ الخلقي " فضيلة " ، والسقوط تقدمية . . وهكذا تحللت الأمة الإسلامية في فترات تداعيها . . فمن انفصال إلى خلافات كبرى ثلاث ( عباسية ببغداد ، أموية بالأندلس ، فاطمية في مصر ) وإلى انفصال آخر في الأندلس بين ملوك الطوائف، وفي المشرق بين الشام ومصر واليمن ، وهكذا ، وفي المغرب العربي بين بني زيري في تونس وزناتة ثم المرابطين في المغرب الأقصى ، وبني حماد في الجزائر .

ولقد كانت السنوات الأولى من القرن الخامس الهجري " الحادي عشر الميلادي " مسرحا لمعارك طويلة دارت بين بني زيري الذين يحكمون تونس ، وبني حماد الذين أحبوا تكوين إمارة مستقلة بهم في الجزائر ، بعد أن كان بنو زيري يحكمون تونس والجزائر معا .

وعبر حروب طويلة خاضها حماد مؤسس الدولة مع بني زيري في ناحية . . ومع زناتة في المغرب الأقصى من ناحية أخرى ، عبر هذه الحروب استطاع حماد بمساعدة ظروف كثيرة منها عنصر المصادفة . . . أن يستقل بجزء كبير من أرض الجزائر الإسلامية وكان ذلك سنة 408 هـ ( 1016م ) حين نجح في عقد صلح مع المعز بن باديس حاكم تونس - ( 405 ـ 454م ) وأصبح الرجل الأول في الجزائر .

ولقد عاشت هذه الدولة قريبا من مائة وأربعين سنة وتعاور الحكم فيها تسعة من الملوك كان من أشهرهم حماد نفسه ( 408 ـ 419 هـ ) والقائد بن حماد ( 408ـ 466 هـ ) والناصر بن علناس ( 454 ـ 481 هـ ) والمنصور بن الناصر ( 481 ـ 498 هـ ) .

إلى أن وصل الحكم ليحيى بن العزيز الذي حكم ما بين ( 515 ـ 547 هـ ) فكان سلوكه ومجموعة ظروف أخرى من أسباب سقوط الدولة على يد الموحدين سنة 547 هـ 1152م .

لقد كانت دولة بني حماد انفصالا من انفصال . . وسارت في طريقها فكان طريقها على امتداده زاخرا بالمشاكل ، وعلى امتداد هذا التاريخ كانت الحروب شبه دائمة بين الحماديين وقبيلة زناتة وبني زيري .

مضافا إلى ذلك أن هذه الدولة لم تكن لها أهداف محددة ، اللهم إلا هدف البقاء والسيطرة .

وكان كثير من ملوكها يمتازون بالقسوة الشديدة ، بل إن مؤسسها حمادا نفسه استعمل أسلوب الدم كي يبني دعائم دولته .

ولقد دمر مدنا وقرى أمنت لعهده ووثقت في كلماته ، وكان مكروها من جنوده ، وقد تتابع هذا النهج في كثير من أحفاده كبلقين بن محمد ، وباديس ، وبعض أيام يحيى آخر الأمراء .

لقد كان يحيى بن عبد العزيز ( آخر الأمراء الحماديين ) عابثا لاهيا ، وربما كان لهوه ومجونه هذا هو السبب المباشر لسقوط الدولة .

وأيضا من المحتمل أن بروز قوة كبرى في المغرب وهي قوة دولة الموحدين بقيادة محمد بن تومرت ثم خليفته " عبد المؤمن بن علي " يحتمل أن يكون هذا كذلك هو السبب المباشر في السقوط . . لكن مع ذلك يبقى أن كل هذا لم يكن إلا المرحلة الأخيرة في السقوط وهي تلك المرحلة التي تركبها عجلات التاريخ لتقفز بها قفزتها الأخيرة . . أما الأسباب الحقيقية لسقوط الدولة فتتلخص في سياسة الدولة الخارجية التي كانت أكبر عار في تاريخها وأكبر لطمة في وجهتها إلى نفسها .

فلقد انتهجت هذه الدولة نهجا سياسيا ذاتيا يعتمد على البحث عن النفس حتى ولو سقط العالم الإسلامي كله .

وسقطت تكريت ، وسقطت رودس ، وسقطت صقلية وعاصمتها العظيمة " بلرم " ، وسقطت المهدية عاصمة أبناء عمومتهم في تونس .

سقط كل هذا فلم تتحرك عواطف زعماء هذه الدولة ، بل إنهم كانوا يعقدون معاهدات صداقة مع المسيحيين . ظنا منهم أن للصليبيين عهدا أو شرفا أو أمانة ، وناسين قوله تعالى " ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى حتى تتبع ملتهم " .

ولقد أثبت لهم الصليبيون صدق منطق القرآن فهاجموهم بالرغم من معاهداتهم معهم سنة 524 هـ وهاجموهم في المهدية سنة 529 هـ .

وسقطت دولة الحماديين ، لأن كلمة التاريخ التي هي جزء من سنة الله تقول :

إن الدول كالأفراد ، تتآكل بالتدريج ما لم تبحث عن شملها المبعثر ، أو كما يقول المثل العربي الصادق : " إنما أكلت يوم أكل الثور الأبيض " .

وسقطت دولة الحماديين سنة 547 هـ على يد قوة إسلامية جديدة .

والموحدون . . . . . . . . يسقطون

إنك تستطيع أن تنتصر في معركة ، وأن تقهر عدوك وأن تحكم بالموت على مدينة بريئة ، وقد يكون ذلك انتصارا لك ويمد التاريخ في عمرك عدة سنوات ! ! .

لكن . . أن تصنع حضارة وأن تبني دولة تبقى . . أن تمد التاريخ بصناع مبدعين . . أن تفعل ذلك وأكثر منه ، فهناك طريق آخر . . طريق ليس " الدم " من معالمه، بل هو أبرز صخوره وعوائقه .

هذه حقيقة من حقائق الحضارة أكثر منها حقيقة من حقائق التاريخ ! ! .

لكن هذه الحقيقة غابت عن بناة دولة الموحدين التي قامت في المغرب والأندلس قرابة قرن ونصف القرن ( 524 ـ 668 هـ ) .

ومنذ تأسيس هذه الدولة سواء فكريا " أيديلوجيا " على يد زعيمها الروحي " محمد بن تومرت " أو زعيمها السياسي والعسكري " عبد المؤمن بن علي " وأسلوب الدم هو أبرز الأساليب التي اعتمدت عليها هذه الدولة في إرساء دعائمها .

لقد كانت دولة المرابطين هي أبرز الدول التي قامت على أنقاضها هذه الدولة الموحدية . وقد استعمل الموحدون أقسى الوسائل الدموية في تصفية دولة المرابطين التي لم تكن أكثر من دولة مسلمة ، مهما قيل عن حكامها الأخيرين ، وقد أخذوا الناس بجرائر الحكام وقتلوا مع المحاربين والنساء والشيوخ ، وحكموا على مدن بأكملها بالموت . . هكذا فعلوا في " وهران " فقد قتل الموحدون فيها كل من وجدوهم مع المرابطين ، وعندما التجأت جماعات مرابطية على حصن من الحصون قطع الموحدون عنهم الماء فلجأ المرابطون إلى التسليم بعد ثلاثة أيام ، ومع أنهم استسلموا فقد قتلهم الموحدون كبارا وصغارا ، وكان ذلك يوم عيد الفطر من سنة 539 هـ ! ! .

والشيء نفسه أو قريب منه قام به الموحدون عند استيلائهم على مدينة " مراكش " ، فعندما سقطت المدينة بعد مقاومة رائعة ودفاع مستميت قتل الموحدون من أبناء المدينة من الجنود والمدنيين على حد سواء نيفا وسبعين ألف رجل ، ولم يكتفوا بهذا العدد من الرجال ، بل إنهم استباحوا المدينة ثلاثة أيام فاستحر برجالها القتل الذريع هذه الأيام الثلاثة الكئيبة ، لم ينج من أهلها إلا من استطاع الاختفاء في سرب أو غيره ، وقد قيل إنه عند الانتهاء الأيام الثلاثة وإعلان العفو عن الباقين من الأحياء من أهلها لم يظهر حيا إلا سبعون رجلا ! ! وباعهم الموحدون بين أسارى المشركين .

وهكذا كانت البداية الثورية العنيفة الخاطئة لدولة الموحدين التي نجحت في إنقاذ الأندلس في موقعة " الأرك " سنة 591 هجرية من التداعي وقامت على نحو ناجح بتوحيد المغرب العربي والأندلس . . ومع ذلك بقيت لعنة " الدم " وراءها لقد بقي قانون الله يطالب بالقصاص العادل ، قوانين الله أكبر من أن يحيط بها هذا الإنسان المحدود التصور والرؤية ، لقد قضى الله بعقوبة هذه الدولة من داخلها ، لقد تحول أسلوب " الدم " إلى وسيلة داخلية قتل بها الموحدون بعضهم بعضا . . وخضعوا ـ بذلك ـ لقانون الله الذي لا يتخلف .

ولم يمر على انتصار الموحدين الخالد في موقعة الأرك أكثر من ثمانية عشر عاما حتى انتكس الموحدون نكستهم التي كانت من أسباب تحطيم الوجود الإسلامي في الأندلس كلها ، وكان ذلك سنة 609 هجرية حين هزموا شر هزيمة في " العقاب " التي أبيدت فيها جيوش الموحدين، وسحق نفوذهم في الأندلس من جرائها ، ومنذ هذا الوقت وصرح الموحدين يتداعى تحت ضربات " الدم " وعلى امتداد خمسين سنة ( 609 ـ 668 هـ ) والموحدون يقضون على أنفسهم بأيديهم في معارك أهلية داخلية . . فالمأمون " الخليفة " الموحدي العاشر ـ والرشيد " الحادي عشر " ويحيى المعتصم " التاسع " ويوسف المنتصر " الخامس " وغيرهم قد استنفدت قواهم في قتال داخلي أباد كثيرا من عناصر الموحدين بل إن جهاز الدولة ، والعناصر الثائرة فيها قد تولت هي قتل الخلفاء في الآونة الأخيرة . . فتم قتل الخليفة الموحدي " أبي محمد ، عبد الواحد الرشيد " والخليفة العادل " ، بل إن الخليفة المأمون قتل أشياخ الموحدين الذين خالفوه ، وكانوا أكثر من مائة ، فقضى بهذا الأسلوب الدموي على خلاصة الزعامة الموحدية .

ومن خلف مسيرة الدم والعنف بقي قانون الله في القصاص عبرة للذين يعتبرون ، فالدم هو طريق الدم . . أما الذين يحاولون صنع الإنسان أو صنع حضارة فلهم طريق آخر . . طريق آخر كريم ونظيف .

القسم الرابع : سقوطنا في العصر الحديث

* سقوط آخر خلافة إسلامية

* سقوط القومية العربية ( المعادية للإسلام )

سقوط آخر خلافة إسلامية

عندما تتشقق الحضارة تتحول إلى ذرات متناثرة متنافرة ، شأنها شأن الجدار المتداعي الذي أصابه التآكل فتحولت لبناته إلى لبنات منفصلة تسقط عقب بعضها لبنة لبنة .

ويأخذ الانهيار في العملية الحضارية شكلا غريبا . وبدلا من الانسجام الذي كان سمة الحضارة الناهضة تتنافر أجزاء الحضارة الساقطة أو السائرة في طريق السقوط ، ويكاد ينطبق على عملية السقوط التاريخي قول الله ( كلما دخلت أمة لعنت أختها حتى إذا اداركوا فيها جميعا قالت أخراهم لأولاهم ربنا هؤلاء أضلونا فآتهم عذابا ضعفا من النار ) .

وعجيب كل العجب أمر هذا العصر، وليس العجب في هذا العصر كثرة ما بليت به الأمة الإسلامية من هزائم أو انتكاسات . وليس العجب كذلك أن الأمة أصبحت تطلب دواءها من عدوها ، وترفض " الصيدلية والطبيب " الحقيقيين ، كذلك ليس العجب في إصرار عناصر من هذه الأمة ـ بيدهم الأمر ـ على أن يتجنبوا الصواب ـ ويلهثوا وراء طريق الفناء والدمار .

نعم : ليس أمر كل هذا بعجيب . . فعملية السقوط التاريخي تشهد مثل هذه الانقلابات في المعايير .

تشهد انقلاب الحق ـ في العقول ـ إلى باطل ، وانقلاب المعروف ـ في السلوك ـ إلى منكر ، وانقلاب السفلة إلى قادة ، وارتفاع السخافة وانخفاض العلم والنور . . نعم : ليس كل هذا بعجيب في العملية التاريخية .

وإنما العجيب أن تتنكر أمة لليد الكريمة التي أنقذتها ، وأن تبحث جادة عن نفسها، عن طريق لعن الذين أنقذوها لمدة خمس قرون ، كأنها كانت تريد الغرق من قديم . . وبدلا من البحث عن حلول عملية ، وشكر الذين وقفوا معها في دورانها التاريخي والذين تربطهم بها صلات عقيدة وتاريخ وحضارة .

بدلا من هذا تحرف تاريخا لتلعنهم ، وتزيف الحقائق لتحيل إليهم وحدهم أسباب تخلفها . . مع أنها لم تستطع بعدهم أن تتقدم شيئا . بل وقعت في أحابيل أشرار البشر .

كان هذا بالتحديد هو موقف بعض العرب من الدولة العثمانية ، التي حمت الحضارة الإسلامية والعرب خمسة قرون من الزمان ! !

يرجع نسب الأتراك العثمانيين إلى قبائل الغزو التركية في بلاد تركستان ، وعندما اجتاح المغول تركستان لجأت هذه القبيلة التركية إلى جنوب القوقاز حيث توفي زعيمها " سليمان " وتسلم القيادة بعده ابنه ( أرطغول ) الذي أنجب عثمان بن ( أرطغول ) الذي تنتسب الدولة إليه .

وعلى يد عثمان هذا تحولت الجماعات العثمانية من أسلوبها القبلي إلى أسلوب " الدولة " على حساب أملاك الدولة البيزنطية ، وخلف عثمان ابنه " أورخان " سنة 726 هـ واستمر ملوكها يتتابعون " مراد الأول " بايزيد ابنه ، محمد بن بايزيد ، مراد الثاني بن بايزيد ، محمد الثاني " ( ومحمد الثاني هذا هو المعروف في التاريخ بمحمد الفاتح الذي ولي الأمور سنة 854 هـ ( 1451م ) والذي نجح في الاستيلاء على القسطنطينية وقتل الإمبراطور البيزنطي " قسطنطين الحادي عشر " سنة 1453 م فقضى بذلك على الإمبراطورية البيزنطية ) .

في ذلك الوقت كان المماليك في البلاد العربية في حالة اجترار ماضيهم ولم يعد لديهم ما يمكن أن يعطوه للوجود الإسلامي ، وكان رأس الرجاء الصالح قد اكتشف ، وبدأت مصر تفقد جزءا كبيرا من أهميتها ، كما أن قانصوه الغوري لم يستطع إيقاف البرتغاليين الذين بدأوا يسيطرون على البحر الأبيض المتوسط عند حدود احترام الأمة الإسلامية .

وفي عهد سليم الأول سنة 1516م ـ 922 هـ " وزحف على مصر وقتل قانصوه الغوري ( تحت سنابك الخيول ) وشنق طومان باي ـ على باب زويلة ـ بعد أن هزمه سليم في موقعة الريدانية . . واستولى على مصر والشام .

ولم يتوان سلطان الحجاز ، فأرسل مفاتيح الكعبة للسلطان سليم ، وحكم الحجاز باسم العثمانيين . . وفي عهد خليفة سليم الأول ( سليمان القانوني ) دخلت معظم البلاد العربية ( اليمن ـ الجزائر ـ تونس ، مراكش ـ العراق ـ ليبيا ) في حوزة العثمانيين .

ولم تمض أكثر من عشرين سنة على اتجاه العثمانيين نحو البلاد العربية حتى كان المشرق العربي كله خاضعا لهم ، نعم : المشرق العربي الذي كان آيلا للسقوط ومفكك الوصال في مطلع العصر الحديث وبداية النهضة الأوروبية ، والذي لولا ظهور العثمانيين الذين كانوا يخيفون أوروبا ويتقدمون في أراضيها ، لولا ظهورهم هذا لتحول المشرق العربي إلى أرض بكر لمغامرات الغرب الأوروبي الخارج من أوحال العصور الوسطى كما فعل بعد ذلك بأربعة قرون بعد أن أسقط الخلافة العثمانية . . أو بعد أن انتهى مما كان يسميه تهويلا لأمره وخوفا منه : " المسألة الشرقية " .

خمسة قرون في حماية المسلمين :

لمدة خمسة قرون ظلت الخلافة العثماني تؤدي الدور الأول والوحيد في حماية المسلمين والعرب .

والغريب أن هذه القرون الممتدة من القرن الخامس عشر حتى مشارف القرن العشرين لم تحظ من المؤرخين باهتمام كاف ، بل إنها ووجهت بتفسيرات غريبة عنصرية أو جدلية مادية أو شعوبية متطرفة . ولم يحدثنا هؤلاء المتطرفون عن حالة العرب مثلا لو لم تكن هناك دولة عثمانية . أو لم يكن من المحتم أن تقع الدولة الإسلامية ـ والعربية ـ تحت براثن الغزو الصليبي قبل وقوعها المعروف بهذه القرون ؟ ! !

لقد كان الأوروبيون قد سيطروا على البحر الأبيض المتوسط ، وقد نجحوا في إخفاء صوت الشرق ، وبدأ النهضة تنطلق من أوروبا . . من مصانعها ، ومن تطور وسائل التقنية بها ، وتقدم الفكر الاجتماعي والسياسي .

ولم يكن بقدرة العروبة النائمة، والتي لم تستطع إلى الآن أن تستيقظ اليقظة المرجوة ـ أن تقف في وجه هذا الزحف . وعلى الرغم من تخلف العثمانيين في بعض النواحي ـ كما هو معلوم ـ فقد كانت قوتهم العسكرية تدوي في أوروبا ، وكانت هذه القوة بالنسبة للأوربيين هي القوة التي لا تغلب ولا تهزم ، حتى إن أوروبا لم تجتمع على مسألة إلا على اجتماعها على المسألة الشرقية أو مسألة التهام الرجل المريض ( الخلافة العثمانية ) . وبالطبع فإن العثمانيين لم يستطيعوا ـ شأنهم شأن العالم الذي كان قد بدأ يدخل في طور عملية انقلاب داخلية جديدة ـ تمهيدا لميلاد جديد ـ لم يستطع العثمانيون ـ بدورهم ـ أن يواجهوا هذه الثورة العلمية الزاحفة .

وكما هي عادة المتخلف حضاريا ، والمتقدم عنصريا وعشائريا . . ذهب العرب . . وذهب غيرهم . إلى رمي الخلافة العثمانية ـ حاميتهم ـ بأنها المسئولة عن تخلفهم الذريع . وعندما ماتت هذه الخلافة موتها الحضاري قبل موتها التاريخي سرعان ما سقط هؤلاء في وهدة الغزو الصليبي ولم تنفعهم عنصريتهم القومية ، ومع ذلك لا يزالون يكيلون للخلافة العثمانية الطعنات .

لقد كانت الدولة العثمانية قوية بلا شك طيلة القرون التي حكمت فيها وإلي بداية اضمحلالها ، فلما بدأت سنوات الاضمحلال تحولت أسباب قوتها إلى أسباب ضعف . وهذا هو الشأن في قوانين الحضارة . . إن عوامل القوة تتحول برتابتها وعدم تجديدها لنفسها إلى عالة على حركة التطور ، ولقد أصبحت الإنكشارية ، وأصبحت وسائل الحرب التقليدية عالة على حركة التقدم العثماني ، وانقلبت العسكرية العثمانية التي قدمت ما قدمت للحضارة الإسلامية إلى عبء تنوء به الدولة . وفي ظل قرون القوة التي عاشتها الدولة تمتعت بأنظمة ممتازة من حكومة مركزية ، إلى مجلس وزراء يرأسه الصدر الأعظم، إلى ديوان سلطاني مكون من الوزراء وكبار الموظفين ، على القضاء الذي يرأسه شيخ الإسلام ، على نواب عن الجيش . أما في الولايات فكان يتولى أمر كل ولاية والي ( الباشا ) الذي يعين من قبل الخليفة ، ويعاونه في أعمال إدارة الولاية ( الديوان ) . أما القضاء فكان يتولاه قاضي القضاة ( قاضي العسكري ) . وقد قسمت الولايات إداريا إلى سناجق ، عين على كل منها حاكم سمي بالسنجق، مهمته الإشراف على شئون الأقاليم والحفاظ على الأمن ، وجمع الضرائب ، وفي كل ولاية كان يوجد حاكم عسكري وحامية عسكرية تساعد الباشا على حفظ النظام والأمن . . .

كانت هذه هي خلاصة تنظيمات الدولة ، وكانت هذه التنظيمات وسائل قوة ، فلما انقلبت دفة الحضارة ، وظهر أن حركة التاريخ لم تكن في صف الدولة العثمانية تحولت هذه التنظيمات من أدوات قوة إلى أدوات ضعف . . وقد ساعد هذا الضعف على تحقيق أغراضه في تعجيز الدولة عن حماية الأراضي الخاضعة لها عدة عوامل :

أولا : ضعف بعض السلاطين وانغماسهم في الترف .

ثانيا : فساد أجهزة الدولة وانتشار الرشوة .

ثالثا : تدخل رجال الحاشية في شئون الحكم .

رابعا : وثمة عوامل أخرى كثيرة عملت عملها في إفساد الحياة السياسية والعقائدية والفكرية . . وجرت على الخلافة الويلات .

خامسا : ومما لا شك فيه أن " الأعداء " الصليبين ، والأعداء اليهود ـ كجماعات الدونما والماسونية ـ لا شك أن هؤلاء جميعا كانوا عوامل إضعاف للخلافة العثمانية .

وكان أكبر عوامل نجاح اليهود والصليبيين في ضرب الخلافة العثمانية الإسلامية . . هو بعثهم لما يسمى بالنزعات العنصرية . القومية ، الطورانية للترك ، والقومية الكردية ، والبربرية وعشرات القوميات المعروفة الأخرى .

وجروا هؤلاء جميعا إلى ترك الخلافة العثمانية في محنتها ، بل جروا إلى ضرب الخلافة والتجمع ضدها تحت قيادات قومية عميلة للجمعيات اليهودية ، وقد نجح بعض أفراد هذه القيادات نجاحا كبيرا في تبوؤ مناصب كبرى ، وبالتالي في ضرب العثمانيين والإسلام في الصميم .

الصراع العنصري كان سببا في انهيار آخر خلافة إسلامية :

تعتبر قصة سقوط الدولة العثمانية من القصص الغامضة التي لا زالت تحتاج إلى الدرس العميق والتمحيص الموضوعي . . ونحاول إجمال أبرز عناصر هذه القصة في هذه السطور . . . . . في خلال القرن الثامن عشر كانت أوروبا تكتل أحقادها للانقضاض على الخلافة العثمانية واقتسام أملاك " الرجل المريض " تركيا ـ وأطلقت على هذه النزعة اسم " المسألة الشرقية " باعتبار تركيا العقبة " الشرقية " الوحيدة التي تشكل خطرا على الصليبية الدولية . وحماية حقيقية لبلاد الإسلام المتناثرة .

ولم يكد ينتهي هذا القرن حتى كانت القوى الصليبية الكبرى في ذلك الوقت " بريطانيا وفرنسا والروسيا " تحاول الوصول إلى صيغة ملائمة للانقضاض واقتسام الغنائم . لا سيما وقد اكتشفوا ضعف الجانب التركي في معركة " سان جوتار " وعلى أبواب " فيينا " عموما . . عندما ظهر تخلف العسكرية العثمانية .

وفي سنة 1798 م كان صبي الثورة الفرنسية التي وقف اليهود وراء مبادئها " نابليون بونابرت " يزحف على مصر ليلقنها بمدافعه وخيوله وتحويله الأزهر الشريف إلى إسطبل لخيوله ، وتدميره القرى والمدن على امتداد الطريق بين القاهرة والإسكندرية . . يلقنها بهذه الوسائل وبغيرها من الوسائل الهمجية الأوروبية كالخمور والتحلل الخلقي وإغراء الخادمات المصريات . . يلقن مصر والعالم الإسلامي أو دروس القومية ، والمدنية والمبادئ الثلاثة الماسونية المزيفة التي رفعتها الثورة الفرنسية ! !

ولم يكد يمضي على ذلك الحادث أكثر من ست سنوات حتى كانت بريطانيا تحاول غزو العالم العربي مستهلة وجودها فيه بغزو مصر سنة 1807 فيما يسمى بحملة فريزر " . . وبين هذه السنوات ، وبالتحديد في سنة 1803 نجح عميل فرنسي في أن يصل إلى الحكم ، ويعلن أكبر محاولة للانفصال عن الدولة العثمانية . . وكان هذا العميل الفرنسي " محمد علي باشا " صدى باهتا رديئا للغزو النابليوني لمصر . . وكما أهان نابليون بونابرت الأزهر ـ بدل إيقاظه لو كان قائد ثورة ، كذلك أهان محمد علي ـ الأزهر وعلماءه ـ وعلى الرغم من أن محمد علي كان مجرد " عبد " مملوك لا ينتمي إلى الدم العربي ، إلا أنه رفع راية القومية باعتبارها السلاح البراق الذي يمكن به ضرب الوحدة الإسلامية والشعور بالمصير الإسلامي الواحد . . ثم يتبع ذلك وضع العرب على انفراد ـ كما حدث فعلا ـ ، ولعل بعث " محمد علي " غير العربي للفتنة القومية لضرب الخلافة العثمانية ـ لمصلحة فرنسا ـ أكبر دليل على حقيقة جذور هذه اللعبة التي اخترعها تطور الفكر الأوروبي في عصر النهضة ، لكي يقضي على الشعوب ذات الوحدة الأيديولوجية كي تنفرد أوروبا بالتقدم وحدها ، بينما تضيع الدول والأيديولوجيات الأخرى في زحمة الانشقاقات القومية والجنسية ، وهذا ما حدث ! !

وبعد أن كانت دولة الخلافة المسكينة تقف على تخوم القرن التاسع عشر تحاول أن تفيق من سكرة لقائها المفاجئ لمنتجات الحضارة الصناعية ، وتحاول أن تبحث عن حل حضاري مضاد . . وجدت دولة الخلافة نفسها متخمة بالمشاكل العنصرية التي أثارها عملاء الغرب . . هؤلاء العملاء الذين أنهكوا قواها ، وحاولوا أن يفرضوا عليها الدواء الأوروبي لعلاج أمراضها دون تبصر بحقيقة أمراضها . وبحقيقة اختلاف بنائها المادي والمعنوي ، ودون وعي بالعلاج الحضاري الناجع !

وامتدادا للخروج الشاذ الذي أعلنه المملوك الآبق " محمد علي " ظهرت محاولات أخرى للخروج وقام بها " بشير الشهابي " في لبنان ، وحركات في المغرب العربي ، بل وحركات داخل تركيا نفسها ترفع القومية الطورانية .

هذا فضلا عن حركات الخروج التي سبقت حركة " محمد علي " تحت تأثير دوافع انفصالية مختلفة ، كحركة علي بك الكبير سنة 1773م في مصر ، وحركة الشيخ ضاهر العمر سنة 1775م في فلسطين ، وفخر الدين المعنى في لبنان قبل سنة 1635م . . . . وهكذا . . كانت الدولة العثمانية تعاني من الداخل أشد المعاناة ، وتواجه من الخارج بتحديات صليبية غربية . . ففقدت على الطريق ـ بالتالي ـ أملاكها في أوروبا " هنغاريا ، وبلغراد ، وألبانيا ، واليونان ، ورومانيا وصربية ، وبلغاريا " .

وأكبر الظن أن بعض أتباع " لورانس " في ذلك الوقت قد فرحوا لسقوط هذه البلاد من يد الإمبراطورية الإسلامية الكبرى .

فهذا هو الهدف الحقيقي الذي ساقهم إليه أسيادهم من الصليبيين والماسون ! . .

سقطوا حين ساعدوا على سقوطها :

يدرج بعض الكتاب في العالم العربي على وصف الحركات المناهضة للدولة العثمانية ( بالحركات الاستقلالية ) . . ! !

وهذا التعبير يوازي بين حركات الاستقلال عن الاستعمار الإنجليزي والفرنسي مثلا وبين حركات التمرد على الخلافة العثمانية . وفي تصور أصحاب هذا التعبير أن الدولة العثمانية لا تعدو أن تكون استعمارا . تماما كالاستعمار الإنجليزي ، وبالتالي يعتبر الانفصال عنها استقلالا ، والانشقاق عنها تحررا دون أية تفرقة بينها وبين الاستعمار الأوروبي .

وهؤلاء الكتاب الذي يفرضون هذه الروح على دراسة ( الخلافة الإسلامية العثمانية ) يتعمدون الوقوع في عدة أخطاء !

أولها : التجاهل التام لوشيجة ( الإسلام ) التي تربط العثمانيين بالعرب ، وهي وشيجة غير متوفرة في الاستعمار الأوربي .

ثانيها : ويتجاهل هؤلاء كذلك أربعة قرون ( أربعة أخماس ) ويذكرون قرنا واحدا هو فترة وقوف الدولة العثمانية في موقف الدفاع عن حياتها ، وتعلقها في سبيل ذلك بأي خيط ، وتخبطها تخبط المشرف على الغرق ! !

ثالثها : وهؤلاء يتجاهلون كذلك أن الانفصال عن العثمانيين كان لحساب الاستعمار الأوروبي ، وأنه هو الذي كان يقوده مغذيا في العرب روح الانفصال لمصلحته ! ! وأن الوعي الديني والقومي الصحيح لو كان موجودا لأوجب التمسك بالخلافة وقيادتها في هذه المرحلة على الأقل كضربة للاستعمار الأوربي ! !

لقد قدمت حركات الانفصال هذه أكبر خدمة للاستعمار الأوربي ، وفي الوقت نفسه جرت على الأمة العربية أكبر الويلات . وكان أكبر ويلاتها مأساة فلسطين ثم ما تبعها من هزيمة سنة 1967م .

ولم يقف أمر خطأ هذه الحركات عند هذا الحد ، بل إنها وقعت في خطأ ( أيديولوجي ) آخر ، فتركيا الإسلامية لم تكن أبدا حين بدءوا ينشقون عنها في مرحلة ( استعمار ) فالاستعمار مرحلة تاريخية معينة بحسب تعريفهم له ، تقف في قمة الهرم الرأسمالي أي أنها مرحلة اقتصادية تعني توفر رءوس الأموال لدرجة تتطلب فتح أسواق جديدة وتوفير أيد عاملة ومواد خام ، فهل كان العثمانيون يعيشون ( مرحلة الاستعمار ) هذه ؟ أم أنهم كانوا بحاجة إلى مجرد إصلاح اقتصادي بداخل تركيا نفسها ؟

إن كثيرا من المصلحين لم تفتهم هذه الحقيقة وعلى رأسهم : " الزعيم مصطفى كامل ـ في مصر ، وعبد العزيز جاويش ، ومحمد فريد ، وغيرهم ، بل إنني أشك كثيرا في أن أكثر الزعماء الإسلاميين الإصلاحيين كجمال الدين الأفغاني والشيخ محمد عبده . . أشك في أن هذه الحقيقة فاتتهم . وما كانت دعوة هؤلاء دعوة انفصالية عن الخلافة ، وإنما كانت دعوة إلى إصلاح أمر الخلافة الذي كان يميل إلى التداعي بفعل مؤثرات خارجية كثيرة ، ومؤثرات أخرى داخلية .

وقد وقعت هذه الحركات في خطأ آخر كبير .

فمنذ أواخر القرن التاسع عشر أخذت الحركة الصهيونية التي بدأت تأخذ شكلا تنظيميا واضحا مرتكزا على الأيديلوجية " الصهيونية " محاولة الوصول إلى أهدافها في إقامة دولة يهودية .

وفي سنة 1897م ( والسلطان عبد الحميد رحمه الله ـ هو الحاكم ) عقد المؤتمر الصهيوني بزعامة هرتزل في مدينة " بال " بسويسرا وهو المؤتمر المعروف باسم " مؤتمر بال " ووضعت خطة إنشاء وطن قومي يهودي في فلسطين .

وقد حاول الصهاينة بقيادة هرتزل إقناع ( السلطان عبد الحميد ) العثماني عدو القوميين العرب ـ بالسماح لهم بالهجرة إلى فلسطين . . فرفض السلطان رفضا قاطعا ولم يكتف بهذا ، بل وأصدر قانونا بمنع الهجرة اليهودية وبمنع إقامة مستعمرات لليهود في فلسطين .

وكان هذا هو ( قشة البعير ) كما يقولون التي قصمت ظهر الرجل المظلوم ، فقد حرك الصهاينة . . حركات التحرر والحركات القومية ، والاستعمار الإنجليزي ، ووجدت الإمبراطورية العثمانية نفسها أمام طوفان من المشاكل لا ينتهي ، كان أشدها وأبعدها أثرا حركات التمرد الداخلي ، ومن الغريب جدا أن يكون مشعلو الثورات ضد الخلافة الإسلامية في داخل البلدان العربية من الطوائف الإسلامية أو الإسلامية المتطرفة التي تحركها أيديولوجيا وحركيا ـ أيد أجنبية ، لكن مع ذلك ، وبتأثير شعارات براقة صنعها اليهود ، بتأثير هذا وغيره من الوسائل اندمج في هذه التجمعات المضادة للخلافة بعض العناصر الإسلامية .

ولم تأت سنة 1918م إلا وكان السلطان عبد الحميد المظلوم قد سقط ، ووقعت جميع الأٌقطار العربية كمناطق نفوذ لبريطانيا وفرنسا . . وأيضا صدر ( وعد بلفور ) المشئوم في 2 نوفمبر 1917م ، وبدأت فلسطين تقع تحت الظروف الممهدة للزوال ، وكانت أولى الخطوات في ذلك وقوعها تحت الانتداب البريطاني في عام 1920م .

وبين الحربين العالميتين " 1918م ـ 1939م " كان التطبيق العملي للمؤامرة العالمية ، وأيضا في الجانب الآخر الحركات الداخلية الممتصة للطاقة والمبددة لها والصارفة عن الخط الحقيقي لاستهلاكها . . كان ذلك كله يعمل على سقوط الخلافة

العثمانية ، وسقوط العرب بدءا من فلسطين ! !

وطوى اليهود . . آخر صفحاتنا المشرقة !

كان رفض السلطان العظيم " عبد الحميد " تهويد فلسطين لطمة لم ينس اليهود أن يردوها للخلافة ردا سخيا لم يكن بوسع السلطان عبدالحميد أن يتخيله ! 1

فإلى جانب ما ذكرناه من تحريك للقوى المناوئة للدولة ، ومن غرس لبذور الفكرة العنصرية المحاربة للراية الإسلامية الموحدة لربع البشر ! !

إلى جانب هذا . . هجم اليهود من الداخل على الدولة العثمانية بواسطة الأسلحة نفسها التي استعملوها في كل بلدان العالم الإسلامي، وهي أسلحة العنصرية والتحضرية، والحرية ، والإخاء ، والمساواة . . وهلم جرا من الشعارات التي اصطنعها الماسون ، وروجوا لها ، واستعملوا بعض المخدوعين لإذاعتها وتفتيت راية الأمة وقبلتها وأهدافها ! !

وكانت جماعة تركيا الفتاة ثم الاتحاد والترقي هما الأداتين اللتين سخرهما اليهود وطوعوهما لهذا الغرض . وكانت الكاتبة " خالدة أديب " إحدى المروجات على المستوى الأدبي والفكري لفكرة القومية الطورانية ، بينما كان زعماء تركيا الفتاة هم المنفذون على المستويات الأخرى لعملية إحداث الانقلاب نحو تخلي تركيا عن هويتها ورسالتها الإسلامية . .

وقد أقحم هؤلاء تركيا في الحرب العالمية الأولى دون مبرر معقول أو سبب يتعلق بها . فلما هزم الألمان ، أذعنت تركيا للهزيمة بنفسها ، وسجل رسميا سقوط الكرامة العثمانية الإسلامية بهدنة رودس في 1918م .

وقد غادر زعماء تركيا الفتاة البلاد ، فقصد أحدهم " أنور باشا " روسيا ، وقصد " طلعت باشا " ألمانيا ، ولقد شاء الله أن يقتص منهم قصاصا دنيويا عاجلا ، فلم يلبث " أنور باشا " أن قتل اغتيالا في تركستان ، وأن يصرع طلعت في برلين ، ويغتال جمال في تفليس " أما الكاتبة خالدة أديب . . التي طال بها العمر فترة . . فلم تلبث أن طردت شر طردة ، من تركيا بعد خلاف حاد بينها وبين الزعيم اليهودي الكبير مصطفى كمال أتاتورك ! !

ولم تكد الحرب العالمية الأولى توشك على الانتهاء حتى كانت الدول الأوروبية قد أتمت المسرحية الهزلية . . لاقتسام أملاك الخلافة الإسلامية الأخيرة ، ولإبراز رجل ينفذ مخططاتهم وأطماعهم بحذافيرها . . وعلى الرغم من أن الكتابات الاستشراقية والكتابات الصليبية واليهودية والشيوعية تجمع على إخفاء هذه الحقيقة ، فإن الأحداث بطبيعة تطورها تثبت هذه الحقيقة ، ويكاد يصرح بهذه الحقيقة المستشرق " كارل بروكلمان " على الرغم من ذكائه الحاد في تطويع الحقائق ، وبترها وإضفاء جو إنشائي حماسي عليها ، نعم ، يكاد يصرح بهذا في كتابه الشهير " تاريخ الشعوب الإسلامية ـ الدولة الإسلامية بعد الحرب العالمية الأولى " وهو يقول : " عند ذلك . . هيأت الدول الحليفة لتركيا ـ لاحظ الحليفة ـ الفرصة السانحة للرجل الذي قدر له أن ينشئ تركية الحديثة ـ يقصد اليهودي الدونمي أتاتورك ـ " ولنا أن نتساءل : أي دول حليفة لتركيا تلك التي حولتها من زعيمة روحية ـ على الأقل ـ لربع البشرية إلى دولة هزيلة تعيش بلا ماض وبلا حاضر وبلا مستقبل ؟ وأي دول هذه التي ساعدت هذا اليهودي على إلغاء الحروف العربية ، وإزالة الأوقاف ، وإغلاق المساجد ، وقصر علماء الدين على ثلاثمائة واعظ في طول البلاد وعرضها ، وتحويل مسجد " أياصوفيا " الشهير إلى متحف ، ومسجد محمد الفاتح إلى مستودع ، وإلغاء الشريعة الإسلامية ، واستبدال القبعة بلباس الرأس الوطني السابق " الطربوش " وفرض اللباس الأوربي بالقوة ،وحذف اللغة العربية واللغة الفارسية من مناهج التعليم بالمرة ، وبيع الكتب والمخطوطات العربية بأبخس الأثمان ، فضلا عن التعليم العلماني الأوروبي ، ليس في المجال التقني كما يجب أن يكون ، بل ـ فقط ـ في المجال الإنساني والأدبي والديني ! .

إن إلغاء الخلافة الإسلامية وإعلان الجمهورية التركية في 29 أكتوبر سنة 1923م ، وانتخاب مصطفى كمال أتاتورك من قبل جمعية لقبت نفسها " بالجمعية الوطنية " ، إن هذا كله لم يكن يعني سقوط تركيا الإسلامية في الحقيقة ، فكم من شعارات براقة زائفة ترفع ثم لا تلبث أن تزول . لكن تمكن الأتاتوركي " الغازي " من السيطرة على البلاد ، بمساعد ( الدول الحليفة لتركيا ) كما يقول بروكلمان وأمثاله ، ثم الاجراءات الخطيرة التي ذكرناها والتي اتخذها أتاتورك بعد ذلك .

هذه في الحقيقة كانت الإلغاء الحقيقي لتركيا الإسلامية وللخلافة العثمانية .

ولم يكن الخليفة العثماني محمد السادس الذي عاصر هذا الانقلاب ، كما لم يكن الخليفة الذي وضعه الانقلابيون مكانه عبد المجيد بن عبد العزيز " لم يكن هذا وذاك أكثر من تحفتين تاريخيتين . . تحملان معالم صورة هزيلة مهتزة ، لحقيقة كانت ـ يوما ما ـ عظيمة قوية ترعب أوربا كلها .

ومع ذلك فلقد أدرك مصطفى كمال الدونمي اليهودي أن البقاء الرمزي الصوري لهذه الحقيقة القوية العظيمة يشكل في حد ذاته خطرا على مخططاته الصهيونية . . ولذا فلم يكد يملك السلطة في يده ويتربع بتؤدة على عرش السيطرة لمدة خمسة أشهر ، حتى أعلن إلغاء الخلافة الإسلامية ، ثم طرد آخر خليفة للمسلمين من البلاد في اليوم الثالث من مارس سنة 1924م .

ولعل العقلاء وحدهم هم الذين يسألون : ماذا استفادت تركيا من هذه الخطوة ؟ وماذا كان يمكن أن تكسب لو أنها مضت في طريق الإصلاح مبقية على مركزها كزعيمة روحية إذا كانت هناك نية إصلاح حقيقية ؟ .

ولعل هذا وذاك يفسران للعقلاء وحدهم أن هناك أمرا كان مبيتا ، وأن العالم الإسلامي والعالم العربي كانا من الأهداف الرئيسية لضرب الخلافة الإسلامية ، ولم تكن أبدا تركيا هي المقصودة وحدها .

وفعلا تداعت تركيا وسقطت ، فلم تقم لها قائمة حتى اليوم وتداعى بعدها ومعها العالم الإسلامي بلدا بلدا ، وفكت أواصر الحب والوحدة . . ونال العرب حظهم من كل ما أصاب العالم الإسلامي . . ولعل الأقدار قد لقنتهم أقسى الدروس ، حين زرعت في قلبهم شوكة الصهيونية .

تؤرق مضجعهم ، وتنتقم للخلافة الإسلامية وتطلعهم بجلاء على حقيقة كمال أتاتورك ، وحقيقة مخططاته . . وأيضا على حقيقة الذين ساروا على هدى أتاتورك في فلسطين العربية وفق انقلابات يقف وراءها اليهود مستترين في كلمات الشيوعية أو الحرية أو " القومية " . . ليزرعوا في القلب العربي أشواكا أخرى ! ! .

سقوط القومية العربية

بعد سقوط آل عثمان على يد جمعية الاتحاد والترقي وسادتها اليهود ـ يهود الدونما ـ تفككت أوصال العالم الإسلامي . . ونجح ساطع الحصري ـ وهو رجل أعجمي لا يستطيع الكلام بالفصحى ويضمر عداء شديد للإسلام بتأثير تربيته الصهيونية ـ نجح هذا الرجل في نشر فكرة القومية بمفهومها العلماني الإلحادي المعادي للإسلام بين العرب .

وكانت إنجلترا ـ سيدة العالم آنذاك ـ قد ساعدت على إنشاء ما يسمى بجامعة الدول العربية ، وهي مؤسسة لم ير منها العرب خيرا ، ولم تسهم في حل أية مشكلة ، أو في تحقيق أي تقدم للعرب في حاضرهم الأسيف ، وحسبها أنها فصلت العرب ـ رسميا ـ عن العالم الإسلامي وأشعرتهم بكيان مستقل وهمي .

وفي ظلال المد العربي ـ على يد حفنة من الثوريين والمقامرين الشبان ـ خسر العرب جزءا كبيرا من أرضهم ، وساحت في بلادهم دويلة يهودية ، ودرعها الغرب بأحدث الأسلحة . . والمعارف . . والخبائث الأخلاقية .

وأما هذه الدويلة الهزيلة التي لا يزيد سكانها عن 1 / 35 من سكان العرب ـ سقط القوميون العرب أبشع سقوط . .

وكان المقدمة الطبيعية لنجاح هذه الدويلة أنها ساعدت هؤلاء القوميين الثوريين وحدهم على الصعود إلى الحكم ، لأن وجودهم هو وحده الكفيل بتحقيق ما تريد إسرائيل من ضمانات بقائها التي أهمها :

1 - إبعاد العرب عن عقيدة جامعة روحية تقاوم اليهودية التي يتسلحون بها .

2 - ضمان إبقاء الأمة العربية في حالة استيراد دائم ، لأن الذين لا عقيدة لهم لا يستطيعون إبداع شيء ذاتي .

3 - ضمان تفكك العرب ، تفككا دائما ، لأن هؤلاء القوميين والثوريين مجرد شبان مغامرين ، لا رصيد لهم من عقيدة أو أصلة أو وعي تاريخي، ومن السهل تلقينهم بعض شعارات . . أو ( شعارات مضادة ) يصرخون بها ، وتضيع معها عقولهم وعقول الجماهير التي يقودونها .

وقد قامت هذه القوى الحاكمة الثورية بالواجب نحو العرب وإسرائيل على النحو المرسوم لها :

1 - فصادرت حريات المواطنين وإرادتهم ، بحيث لم يعد للشعوب العربية من الأمر شيء وأصبحت هذه الشعوب نسبة عددية مهيأة تقوم بالموافقة للحكام على كل شيء بنسبة ( 99 . 999% ) وهي تقوم بالتصفيق الحاد لكل خطيب ، وتؤيد كل القرارات .

2 - أعلنت هذه الحكومات الحرب على الإسلام وقد نجحت هذه القوى في إبعاد الإسلام عن مجال التأثير تماما . . على الأقل في مستوى توجيه الأمور وقيادتها .

ففي عصر الطاغية جمال عبد الناصر ، أمكن من جعل الصلاة شبهة ، وقراءة القرآن من طالب جامعي أمرا يضعه في القائمة السوداء ، وأمكن نشر الرعب ، وفرض الشيوعية ، حتى قضى الله عليه ، وخلص البلاد من شروره ، بعد أن خلف تركة أخلاقية ومادية وهزائم تحتاج لأجيال طويلة كي تزال آثارها . . وهيهات ! !

ولما جاء خلفه أمكن تحوير الأسلوب بعض الشيء ، ووضع على رأس العمل الإسلامي المتصوفة والدجالين وحدهم ، كما ظل الخط الراعي للتحلل الأخلاقي في طريقه ، وعومل الإسلاميون وحدهم بقوانين استثنائية وعسكرية .

ـ أما حزب البعث بجناحيه السوري والعراقي فعداؤه للإسلام وتنكيله بأهله وفقا لتوجيهات الصليبي الحاقد ميشيل عفلق ـ أمر مقرر كجزء من سياسة الحزب وأساسياته الفكرية والحركية .

3 - نجحت أساليب هذه النظم في الوصول إلى النتيجة الطبيعية ، وفي إقرار قواعد إسرائيل عسكريا وسياسيا ، كدولة ذات سيادة تفصل العالم العربي عن بعضه البعض ، وتقف بالمرصاد لأية بادرة نهضة حقيقية سواء في مجال البعث الإسلامي والوحدة العربية الإسلامية .

وأصبحت إسرائيل بفضل هذه النظم ، التي قتلت شعوبها وشلت قواها ـ كابوسا ثقيلا يؤمن أكثر أبناء هذا الجيل ـ باستثناء المؤمنين منهم ـ بأن زواله أمر شبه مستحيل .

وكان هذا هو حصاد التخطيط العالمي الصليبي الصهيوني الشيوعي الثوري . . القومي المشترك ! !

ولأنهم بلا عقيدة . .

ولأن القومية شعار لا يصلح لصناعة حضارة ولا لإيجاد وحدة جامعة شاملة .

ولأن التبعية الفكرية أوسع أبواب التبعية العامة التي تفرض الهزيمة والذل .

لهذا ولغيره أصبح العرب أشبه بدول عظمى ، الوحدة بين الدول العربية والأخرى أصعب من الوحدة بين الدولة العربية وإسرائيل ، أو الوحدة بين بعضها وأمريكا . . أو روسيا . . كما هو قائم فعلا .

لقد أصبح معظم العالم العربي دولا متقطعة الأوصال ، أسيرة نظم يمينية وأخرى يسارية وليس للإسلام نصيب فيها سياسيا أو إداريا . وقد تمزقت وسائل التوحيد كلها ، فلا تكامل اقتصادي ، ولا تكامل اجتماعي ، ولا تنسيق سياسي ، أو إعلامي ، وهلم جرا .

وهم كأسلافهم سلالة " أبي جهل " يتقاتلون لأتفه الأسباب ، ويقطعون العلاقات بلا مبرر كاف ، ويسيرون في طريقهم دون مشورة وتكامل ، بل كل حسب مصالحه وتوجيهات سادته . . وقد أصبح العربي لا يأمن على نفسه في أي بلد عربي آخر ، بل أصبحت بلاد الغرب هي المثوبة والأمن ، كما أن الملجأ والأمن لأموالهم هي بنوك اليهود في أمريكا وأوروبا ، والمنتجع لتعليم أبنائهم ولاستراحاتهم وجولاتهم هي مرفأ الأمن والحرية . . أوربا العظيمة . . وتقوم بينهم الحواجز الجمركية وإجراءات الزيارة والإقامة بدرجة تجعل زيارة الدول الأوربية أسهل من زيارة عربي دولة عربية أخرى .

وقد بلغ الانحطاط بالعرب إلى أن صنفوا أنفسهم طبقيا على جنسيات مختلفة تفصل بعضها بعضا ، فبعض دول الخليج تصنف الشعوب العربية على هذا النحو :

1 - خليجي درجة أولى ( وله سائر الحقوق السياسية والمادية ) .

2 - خليجي درجة ثانية ( وله الحقوق المادية فقط )

3 - إيراني ( وله حق الحصول على الجنسية بعد فترة وجيزة ) .

4 - عراقي

5 - سوري

6 - فلسطيني وأردني

7 - مصري . . وهكذا ! !

. . وهكذا . . تتوالى التصنيفات التي تتبعها حقوق مادية غير متكافئة ، بالرغم من تساوي المؤهل والخبرة ، كما يتبعها احترام بقدر الدرجة الطبقية المحددة .

لقد انحطت القومية العربية بالعرب إلى أسفل سافلين ، ومن الغريب أنهم على الرغم من درس لبنان ، ومن درس فلسطين ، ومن الدروس المتكررة التي يلقنها لهم الاستعمار ولا يتعلمون ، فإنهم إذا تخاصموا لا يلجئون إلى العلاج إلا بإثارة النعرة الإقليمية الوطنية الضيقة . . ( مصر للمصريين ـ الهلال الخصيب ـ وحدة المغرب العربي ) . . فبدلا من أن يبحثوا عن دين يغير نفوسهم وأخلاقهم ، وبدلا من البحث عن مركز آخر للوحدة في عصر " الوحدات الكبرى " ـ ( الأمريكتان ـ السوق الأوربية المشتركة ـ دول حلف وارسو ـ الكتلة الشرقية ـ الكتلة الغربية ) . . بدلا من هذا ينزوي كل منهم كأطفال ، مكتفيا بلعبة الوطنية . . ممزقا شمل العرب تمزيقا جديدا .

وعلى أية حال . . فكما سقطت النزعة الوطنية ، وأقام الاستعمار النزعة القومية بديلا للوحدة الإسلامية التي دعا إليها السلطان عبدالحميد . وكاد يقضي بها على مخططات الاستعمار وينقذ العالم الإسلامي كله ، حتى جاء " جماعة الاتحاد والترقي " وأعوانهم من الماسون في العالم العربي . . فقضوا على الخليفة المجاهد العظيم .

أجل . . كما سقطت النزعة الوطنية بعد فترة تاريخية حالكة ـ نسجل هنا . سقوط القومية العربية ) بعد فترة تاريخية ثورية لا تقل حلكة وظلاما عن الفترة الاستعمارية ! !

ولم يبق إلا الحل الحضاري الشامل . . الإسلام ! !

===============

#تعَرَّف على الإسلام

د. منقذ بن محمود السقار

مقدمة

الحمد لله والصلاة والسلام على رسل الله، وبعد

فإن دين الأنبياء جميعاً واحد، حيث أرسل الله رسله وأنزل كتبه بدعوة جوهرها واحد، وهي الدعوة إلى توحيده وعبادته والتمسك بطيب الاخلاق وحسن السلوك.

ولما بعث الله محمداً r أمره بما أمر به إخوانه من الانبياء، وأرسله إلى الناس أجمعين، وارتضى دينه للعالمين ديناً، فكمل به الدين، وتم ببعثته الفضل العميم.

ولأن الإسلام دين الله الخاتم، فقد امتاز بخصائص ذاتية جعلته في الماضي وتجعله اليوم أسرع الأديان انتشاراً على وجه الأرض، فقد غطى الإسلام نصف الأرض بحضارته، وتسابقت الأمم إلى الدخول فيه لما قرأت فيه من توافق مع الفطرة ومواءمة مع العقول، وسماحة في المعاملة، ويسر في المعتقد.

لكن هذا النجاح الذي حققه المسلمون بإسلامهم دفع البعض للإساءة إلى الإسلام ، فما من دين ولا نحلة أصيب بما تعرض له الإسلام العظيم من تشويه أسهمت به جيوش من المفكرين الذين تعمدوا أحياناً الإساءة إليه بطمس حقائقه وإلصاق النقائص به زوراً وبهتاناً، بينما أخطأوا في أحيان أخر في فهمه، فانحرفوا بعيداً عن حقائقه وأصوله.

ولسنا نبرئ أنفسنا نحن المسلمين من الإساءة إلى ديننا بتصرفات بعضنا التي يبرأ منها الإسلام الذي أضحى أسيراً بين مطرقة أعدائه وسندان جهل محيط ببعض أبنائه.

والواجب على العاقل الحصيف إذا ما أراد التعرف على دين ما؛ النظر في أصوله بعيداً عن تصرفات أبنائه واتهامات أعدائه، فما من دين ولا فكر إلا ويوجد خطأ وجنوح في بعض المنتسبين إليه، من غير أن يجنح أحد إلى تعميم الأحكام، فالحكم على الهيئات فضلاً عن الأديان إنما يرجع فيه إلى الأصول، لا إلى السلوك الأرعن أو الخاطئ من بعض الأتباع، لذا كان من الواجب أن نفهم الإسلام كما هو، كما أنزله الله بعيداً عن الأحكام المسبقة المثقلة بأوهام الاستشراق وإفكه.

وإذا أردنا التعرف على الإسلام عن طريق أصوله؛ فإنا لن نجد مدخلاً أفضل من تدبر الحوار الذي جرى بين جبريل عليه السلام أمين الوحي من أهل السماء، والنبي محمد r أمين الوحي من أهل الأرض، حيث أتى جبريل النبي r فسأله عن مراتب الدين، ليُسمع الصحابة إجابته، فيفقهوا دينهم، قال جبريل: يا محمد أخبرني عن الإسلام؟ فقال رسول الله r: ((الإسلام: أن تشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله r، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان، وتحج البيت إن استطعت إليه سبيلاً)). قال: صدقت. قال عمر: فعجبنا له يسأله ويصدقه!.

قال جبريل: فأخبرني عن الإيمان؟ فأجابه r : ((أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وتؤمن بالقدر خيره وشره)) قال: صدقت.

قال جبريل: فأخبرني عن الإحسان؟ فقال r: أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك)).(1)

فهذه أصول الإسلام بإجمال، فأي شيء يعاب منها؟

ولسوف نشرع في التعريف والتفصيل في شرح هذه الأصول ، لنقف على الأبعاد الأخلاقية والحكم الإلهية في تأسيس الإسلام والإيمان على هذه القواعد.

كما سنعرض بالشرح والبيان لكشف حقيقة ما يردده البعض عن اتهام الإسلام بالإرهاب والحض على الكراهية، وبأنه ظلم المرأة وعطل طاقتها، فنجيب في هذا الصدد عن بعض ما يثار عن الإسلام، ونهديه لمن أراد التعرف على الإسلام عن طريق أصوله ومبادئه.

ونتقدم بهذه الرسالة التي تبتغي منها التعريف بالحق الذي انشرحت به صدورنا، وارتضته عقولنا، فهي دعوة للتامل في تعاليم الإسلام ثم اللحاق برهط المؤمنين الفائزين عند الله ?إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات أولئك هم خير البرية ^ جزاؤهم عند ربهم جنات عدنٍ تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها أبداً رضي الله عنهم ورضوا عنه ذلك لمن خشي ربه ? (البينة: 7-8).

والله نسأل أن يجعل هذا العمل خالصاً لوجهه الكريم، إنه ولي ذلك والقادر عليه.

الإسلام وأركانه

وقبل الشروع في تبيان حقائق الإسلام وأركانه؛ فإن من الواجب أن نتحدث عن اسم (الإسلام).

لفظة الإسلام في اللغة مصدره أسلم يسلم، ومنه السلامة والسلام.

وحين نتحدث في هذه الدراسة عن الإسلام، فإنا نعني الدين الذي أنزله على نبيه محمد r، وسماه بذلك لما تضمنه من الدعوة إلى الاستسلام لله وحده والانقياد والخضوع بالطاعة .

وهذا الاسم لا يستمد اسمه من اسم نبي أو وطن، بل مشتق من خصيصته الأساس التي لم تفارقه في طور من أطواره طوال تاريخ الإنسانية، فهو الاستسلام لله تبارك وتعالى وحده دون سواه.

والإسلام هو دين الله الذي أنزله على جميع الأنبياء، فقد دعوا جميعاً إلى أصول واحدة، تقوم على توحيد الله وتعظيمه وعبادته والاستسلام لأوامره والخضوع لأحكامه والدعوة إلى حراسة فضائل الأخلاق والارتقاء بالسلوك الإنساني.

وأما ما نجده اليوم من تباعد واختلاف بين أتباع الأديان؛ فسببه اندراس الحق وما مرج في رسالات الله السابقة من الباطل.

وقد أطلق الله هذا الاسم الشريف (الإسلام) على المؤمنين في كل حين، كما قال تعالى: ?هو سماكم المسلمين من قبل? (الحج: 78)، لأن المسلم - المؤمن بأي نبي من أنبياء الله - يمتثل حقيقة الإسلام، فيستسلم لله، وينقاد له بالطاعة، ويقف عند حدوده وشرائعه.

فأبو الأنبياء نوح عليه السلام يقول لقومه: ?وأمرت أن أكون من المسلمين? (يونس: 72).

وما فتئ إبراهيم وابنه إسماعيل عليهما السلام يدعوان الله أن يجعلهما من المسلمين: ?ربنا واجعلنا مسلمين لك ومن ذريتنا أمةً مسلمةً لك? (البقرة: 128).

وقبيل وفاة يعقوب عليه السلام جمع أبناءه، وأوصاهم بالاستمساك بملة إبراهيم الحنيف المسلم ?إذ قال له ربه أسلم قال أسلمت لرب العالمين ^ ووصى بها إبراهيم بنيه ويعقوب يا بني إن الله اصطفى لكم الدين فلا تموتن إلا وأنتم مسلمون ^ أم كنتم شهداء إذ حضر يعقوب الموت إذ قال لبنيه ما تعبدون من بعدي قالوا نعبد إلهك وإله آبائك إبراهيم وإسماعيل وإسحق إلهاً واحداً ونحن له مسلمون? (البقرة:131- 133).

كما طلب موسى عليه السلام من قومه الإذعان لمقتضيات الإسلام الذي دخلوا فيه، فقال: ? يا قوم إن كنتم آمنتم بالله فعليه توكلوا إن كنتم مسلمين? (يونس : 84)، فاستجاب لندائه سحرة فرعون وقالوا: ?ربنا أفرغ علينا صبراً وتوفنا مسلمين? (الأعراف: 126).

وبمثل هذا دعا يوسف عليه السلام ربه حين طلب من الله أن يميته ويحشره مع المسلمين الصالحين: ?توفني مسلماً وألحقني بالصالحين? (يوسف: 101).

ولما دخلت ملكة سبأ بلاط سليمان، ورأت علامات نبوته؛ نادت بنداء الإيمان فقالت: ?رب إني ظلمت نفسي وأسلمت مع سليمان لله رب العالمين? (النمل: 44).

وقد أوضح خاتم النبيين محمد r وحدة دين الأنبياء فقال: ((أنا أولى الناس بعيسى ابن مريم في الدنيا والآخرة، والأنبياء إخوة لعَلات، أمهاتهم شتى، ودينهم واحد)).(2)

وهكذا فإن دين الأنبياء جميعاً واحد، بني على أساس واحد يدعو إلى توحيد الله وإفراده وحده بالعبادة، والاستسلام لأوامره، فهو الإسلام دين الله تعالى: ? إن الدين عند الله الإسلام ? (آل عمران: 19)، وهو الدين الذي لا يقبل الله من الناس ديناً سواه ? ومن يبتغ غير الإسلام ديناً فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين? (آل عمران: 85).

وقد صدق الله إذ قال لنبيه r ?قل ما كنت بدعاً من الرسل? (الأحقاف: 9) فأصول جميع ما أتى به النبي r قد سبقه إلى الإتيان بها إخوانه من الأنبياء ?إنا أوحينا إليك كما أوحينا إلى نوحٍ والنبيين من بعده وأوحينا إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحق ويعقوب والأسباط وعيسى وأيوب ويونس وهارون وسليمان وآتينا داوود زبوراً? (النساء: 163).

أركان الإسلام

إن الإسلام بنيان كبير يشمل الحياة الإنسانية برُمتِّها، وهو يقوم على أركان خمسة، ويوضحها النبي r بقوله: ((بني الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمداً عبده ورسوله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وحج البيت، وصوم رمضان)).(3)

وسوف نمضي سراعاً مع هذه الأركان ومقاصدها، ونتجاوز تفصيلاتها وأحكامها التي يمكن للقارئ أن يطلع عليها في مظانها من كتب التوحيد والفقه.

الركن الأول: الشهادة لله بالتوحيد، ولرسوله محمد r بالرسالة

أولاً : الشهادة لله بالتوحيد

إن أهم مسألة توافق الأنبياء على الدعوة إليها وتعريف الناس بها؛ هي الشهادة لله رب العالمين بالوحدانية، والتعريف بصفات الإله العظيم الذي أبدع الكون وخلقه على هذا النسق المذهل العجيب، ومن ثم التأكيد على استحقاقه وحده للعبادة دون سواه.

وبداية؛ فإن مسألة إثبات وجود الله لم تشغل حيزاً كبيراً في القرآن الكريم، ذلك أنها قضية بدهية وحقيقة يجدها المسلم وغيره في أعماق كيانه، فكل شيء في هذا الكون المحيط بنا يدعونا – ضرورة - للاعتقاد الجازم بوجود خالق حكيم مدبر متصف بصفات الكمال، فكل مخلوق حولنا هو في حقيقته شهادة لله على وجوده، بل على عظمته وكماله.

إن البشرية لم تنكر يوماً وجود هذا الإله -وإن اختلفت في تسميته ووصفه - ، فقد اتفقت معتقداتها على وجود خالق مبدع للكون، سماه البعض بواجب الوجود الذي أوجد هذه الممكنات جميعاً.

وحتى ما يسمى بالمذاهب المادية الإلحادية هي في حقيقتها لا تنكر وجود هذه القوة الإلهية التي نسجت الكون وفق قوانين محكمة، بيد أنها هربت من الاسم الذي تدعيه الكنيسة لهذه القوة العظيمة (الله)، ونسبتها إلى تسمية مبتدعة تفتقر إلى الوضوح (الطبيعة وقوانينها)، فاسم الطبيعة لا يدل على شيء محدد، إذ لا يمكن أن يفهم منه أن الإنسان الأول خلق نفسه وهو أحد مكونات الطبيعة، ولا أن ما نراه من بحار زاخرة قد أبدعت نفسها في زمن ما، بينما عمدت الطيور والحيوانات إلى إنتاج الأجناس الحيوانية الأولى، بل وحتى المخلوقات الأبسط كالبكتيريا لا تستطيع أن تهب نفسها وقود الحياة الذي يدبُّ فيها.

إن أحداً لا يخالف في أن هذا الكون من خلق وإبداع خالق عظيم حكيم، هو ربنا ?الأعلى ^ الذي خلق فسوى ^ والذي قدر فهدى? (الأعلى: 1-3)، ولو صدقوا في تسميته لأسموه خالق الطبيعة ومدبر شؤونها ?أم خلقوا من غير شيءٍ أم هم الخالقون ^ أم خلقوا السموات والأرض بل لا يوقنون ^ أم عندهم خزائن ربك أم هم المسيطرون? (الطور: 35-37).

ولما سمع الصحابي جبير بن مطعم هذه الآية قال: (كاد قلبي أن يطير).(4)

إن الإلحاد المتمثل في إنكار الخالق شذوذ يستبشعه العقل البشري وتأباه الفطرة السوية، فما الإنسان بخالق نفسه، وإذا كان الإنسان الذي يتميز عن كل الموجودات بما يمتاز به من العقل والإرادة والتسخير عاجزاً عن خلق نفسه؛ فغيره من المخلوقات أعجز، لذا فلا مناص من التسليم بوجود الإله العظيم ، ففي كل زاوية من زوايا الكون آية تدل على وجوده، لا بل تشهد له بالكمال والجلال والعظمة.

وأهم ما توافق الأنبياء على الدعوة إليه؛ وحدانية الله وإفراده بالعباده دون سواه، فهو جوهر رسالاتهم جميعاً ?وما أرسلنا من قبلك من رسولٍ إلا نوحي إليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون? (الأنبياء: 25).

وسجل القرآن الكريم مضمون هذه الدعوة على لسان عدد من الأنبياء، فهاهم رسل الله - نوح وهود وصالح وشعيب وغيرهم - يقولون بلسان واحد: ?يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إلهٍ غيره? (المؤمنون: 23)، (هود: 50، 60)، (الأعراف: 85).

وكما دعا الأنبياء إلى توحيد الله الواحد؛ فإنهم حذروا أقوامهم من الشرك - سواء أكان المعبود مع الله بشراً أم حجراً أم حيواناً أم ملاكاً - لأن الله أوحى إليهم جميعاً بذلك ?ولقد أوحي إليك وإلى الذين من قبلك لئن أشركت ليحبطن عملك ولتكونن من الخاسرين ^ بل الله فاعبد وكن من الشاكرين? (الزمر: 65-66).

وكان المسيح عليه السلام من هؤلاء الأنبياء الذين حذروا أقوامهم من الشرك: ?وقال المسيح يا بني إسرائيل اعبدوا الله ربي وربكم إنه من يشرك بالله فقد حرم الله عليه الجنة ومأواه النار وما للظالمين من أنصار? (المائدة: 72).

ولما كانت معرفة أسماء الله وصفاته تعجز عن التنبؤ بها العقول وتحار في إدراكها الأفهام وتختلف؛ فإن الله تبارك وتعالى - بمنِّه وفضله - خلّص البشرية من حيرتها، فعرّفها بأسمائه وصفاته حين بعث بوحيه أنبياءه وأنزل على العالمين كتبه، فكان أهم ما حملته النبوات إلى الإنسانية تعريفها بخالقها.

وقد ذكر الله في كتابه الأخير، القرآن الكريم، أن له تبارك وتعالى أسماء حسنى، غاية في الحسن والجلال والكمال ?الله لا إله إلا هو له الأسماء الحسنى? (طه: 8)، وهي تدل جميعها على ذات واحدة يدعوها المسلم في صلاته ودعائه ?ولله الأسماء الحسنى فادعوه بها? (الأعراف: 180).

ومن أسماء الله الحسنى ما جاء في قوله تعالى: ?هو الله الذي لا إله إلا هو عالم الغيب والشهادة هو الرحمن الرحيم ^ هو الله الذي لا إله إلا هو الملك القدوس السلام المؤمن المهيمن العزيز الجبار المتكبر سبحان الله عما يشركون ^ هو الله الخالق البارئ المصور له الأسماء الحسنى يسبح له ما في السموات والأرض وهو العزيز الحكيم? (الحشر: 22-24).

وهذه الأسماء الإلهية مع دلالتها على الذات الإلهية فإنها تثبت لله تبارك وتعالى غاية ما تدل عليه من أوصاف الكمال والتنزيه ، فهو الملِك الذي لا نِدَّ له في ملكه، وهو الحكيم الذي لا يُدانى في حكمته، إنه الله العظيم الذي جلَّ عن النظير والمثيل والشبيه ?ليس كمثله شيء وهو السميع البصير? (الشورى: 11)، وهو الله الواحد الأحد ? قل هو الله أحدٌ ^ الله الصمد ^ لم يلد ولم يولد ^ ولم يكن له كفواً أحدٌ ? (سورة الإخلاص)، ?فلا تضربوا لله الأمثال إن الله يعلم وأنتم لا تعلمون? (النحل: 74).

إن الإيمان بالله الموصوف بصفات العظمة والكمال يهذب السلوك الإنساني، حين يستحضر معية الرب له، فيعلم باطلاع الرب عليه، وهو العليم المحيط القادر على كل شيء، فيستحي المؤمن به أن يراه ربه ومولاه على حال المعصية؛ وهو القوي ذو البأس والبطش الشديد، وأولى منه أن نعبده ونسعى في مراضيه، لنفوز بجنته وعظيم جزاء الرب العفو الغفور الكريم الودود.

وهكذا فالمؤمن يستقيم سلوكه خوفاً من الله وعقابه، وطمعاً في ثوابه وجزائه، وهذا هو حال المؤمنين الذين امتدحهم ربهم ?إنهم كانوا يسارعون في الخيرات ويدعوننا رغباً ورهباً وكانوا لنا خاشعين? (الأنبياء: 90).

إن المسلم حين يؤمن بالله الواحد الخالق الرازق الذي بيده مقادير الأمور؛ فإنه يلجأ إليه وحده في السراء والضراء، في الصغير من أموره والكبير، ليقينه بمعية الله تعالى للمؤمنين وقربه منهم وإطلاعه على سرائرهم وأعمالهم، وأنه تعالى وحده القدير الذي بيده مقاليد الأمور ? إنما أمره إذا أراد شيئاً أن يقول له كن فيكون ^ فسبحان الذي بيده ملكوت كل شيءٍ وإليه ترجعون? (يس: 82-83)، وهو تبارك وتعالى الذي ? له مقاليد السموات والأرض يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر إنه بكل شيءٍ عليمٌ? (الشورى: 12).

فإذا نظر المرء إلى ما أولاه الله من نعمه وآلائه التي لا تحصى؛ فإنه يفيض قلبه بمحبته ? والذين آمنوا أشد حباً لله ? (البقرة: 165)، وكيف لا يحبه، والله العظيم قد سبق فأحب عباده المؤمنين الطائعين ? إن الله يحب المحسنين ? (البقرة: 195)، ?إن الله يحب التوابين ويحب المتطهرين? (البقرة: 222) ? والله يحب الصابرين? (آل عمران: 146) ? إنه هو يبدئ ويعيد ^ وهو الغفور الودود? (البروج: 13-14).

وهذه المحبة لله تجعل المسلم معلق القلب بالله، يرجو رضاه، ومن أعظم ما يتطلع إليه المؤمن نوال الجنة دار الخلود التي أعدها الله لمن أحبه من عباده ?فلا تعلم نفسٌ ما أخفي لهم من قرة أعينٍ جزاءً بما كانوا يعملون? (السجدة: 17).

ومحبة المسلم لربه تجعله يمتنع عن كل يغضب الرب الذي يحبه ، فيكره ما كرهه محبوبه، والله لا يكره ولا يمقت إلا السيء من القول والعمل والخلق ?إن الله لا يحب من كان خواناً أثيماً? (النساء: 107) ?والله لا يحب المفسدين? (المائدة: 64) ?ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين? (المائدة: 87).

ثانياً: الشهادة بأن محمداً رسول الله

وحتى تقوم حجة الله على خلقه أرسل الله الرسل، وختمهم بمحمد r، وجعله رسوله إلى العالمين ? وما أرسلناك إلا كافةً للناس بشيراً ونذيراً ? (سبأ: 28)، فهي مزيته r على سائر إخوانه من الأنبياء ((كان النبي يبعث إلى قومه خاصة، وبعثت إلى الناس كافة)).(5)

والنبي r هو محمد بن عبد الله بن عبد المطلب القرشي، ولد يتيماً بمكة المكرمة عام 571م، ونشأ فيها، وحين بلغ الأربعين من العمر آتاه الله النبوة، حين نزل عليه الملاك جبريل بالوحي وهو في غار حراء شرق مكة المكرمة، فدعا قومه إلى الإسلام، فآمن به رهط قليل، وامتنع عن الإيمان به سادة قبيلته (قريش) الذين خافوا من ذهاب زعامتهم وزوال امتيازاتهم، فكذبوه وآذوه، وقتلوا بعضاً من أصحابه وعذبوهم بأشد أنواع النكال والعذاب.

فهاجر النبي r والمؤمنون معه إلى يثرب (المدينة المنورة)، وأقام فيها المجتمع الإسلامي الممتثل بهدي الله، وكان أول ما صنعه النبي r فيها أن بنى مسجده فيها وآخى بين المسلمين بآصرة العقيدة على اختلاف أجناسهم وأوطانهم، ثم عقد مع يهود المدينة معاهدة للتعايش المشترك الآمن فيها والتعاضد على حماية المدينة.

وفي المدينة المنورة دعا النبي r العرب والعجم إلى الإيمان به، فأرسل الرسل إلى ملوك الأرض وحكامها يشرح لهم مبادئ دينهم، فآمن به بعضهم، وناوأه غيرهم، وأرسلوا إليه الجيوش، فقاتل r من عاداه وأعاق دعوته، حتى نصره الله بنصره، ولم يغادر النبي r الدنيا عام 633م حتى أقر الله عينيه بانتشار الإسلام في سائر الجزيرة العربية.

وقد أيد الله النبيَّ r بما يشهد على نبوته من دلائل وبراهين، كما أُيد بذلك من سبقه من إخوانه من الأنبياء والمرسلين، وخصه الله عنهم بدليل ساطع يدوم بدوام رسالته r، فلا تنقضي دلالته بتقادم الأزمان، ولا تبلى بتصرم الأيام، وهو القرآن العظيم، الكتاب المعجِز الذي بهر العالمين، وعجز عن الإتيان بمثله الأولون، ولن يأتي بسورة من مثله الآخرون ? قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعضٍ ظهيراً? (الإسراء: 88) ، يقول r: ((ما من الأنبياء من نبي، إلا قد أُعطي من الآيات، ما مثلٌه آمن عليه البشر، وإنما كان الذي أُوتيتُ وحياً أَوحى اللهُ إليّ، فأرجو أن أكون أكثرَهم تابعاً يوم القيامة)).(6)

فقد حوى القرآن من العلوم ما حير بأسبقيته وعمقه العلماء، كيف لا وقد أنزله الله العليم بكل شيء ? لكن الله يشهد بما أنزل إليك أنزله بعلمه والملائكة يشهدون وكفى بالله شهيداً? (النساء: 166).

فقد سبق القرآن العلم الحديث إلى وصف نشأة الخلق في الماضي السحيق، حين أشار إلى ما يسميه العلماء اليوم بنظرية الانفجار الكبير (bang Big)، فقال تعالى: ?ثم استوى إلى السماء وهي دخانٌ فقال لها وللأرض ائتيا طوعاً أو كرهاً قالتا أتينا طائعين ? (فصلت: 11)، وقال تعالى: ?أولم يرَ الذين كفروا أن السموات والأرض كانتا رتقاً ففتقناهما وجعلنا من الماء كل شيءٍ حي أفلا يؤمنون? (الأنبياء: 30).

كما تحدث القرآن عن اتساع الكون وتمدده في قوله تعالى: ?والسماء بنيناها بأييدٍ وإنا لموسعون? (الذاريات: 47)، وذكر دوران الشمس والقمر والأرض في أفلاك مستديرة ?والشمس تجري لمستقر لها ذلك تقدير العزيز العليم ^ والقمر قدرناه منازل حتى عاد كالعرجون القديم ^ لا الشمس ينبغي لها أن تدرك القمر ولا الليل سابق النهار وكل في فلكٍ يسبحون? (سورة يس: 38-40)، فهذه الأخبار وغيرها علوم دقيقة لم تعرفها البشرية قبل ولا بعد إلا في أواسط القرن المنصرم.

ومما يبهر العقول من أخبار القرآن التي سبق فيها العلم الحديث؛ إخباره بمراحل تطور الجنين في بطن أمه وصور تخلقه: ?يا أيها الناس إن كنتم في ريب من البعث فإنا خلقناكم من ترابٍ ثم من نطفةٍ ثم من علقةٍ ثم من مضغة مخلقةٍ وغير مخلقة لنبين لكم ونقر في الأرحام ما نشاء إلى أجلٍ مسمى ثم نخرجكم طفلاً ثم لتبلغوا أشدكم ومنكم من يتوفى ومنكم من يرد إلى أرذل العمر لكيلا يعلم من بعد علم شيئاً وترى الأرض هامدةً فإذا أنزلنا عليها الماء اهتزت وربت وأنبتت من كل زوجٍ بهيج ? (الحج: 5).

إن هذا الوصف الدقيق لمراحل الجنين أذهل البرفسور مارشال جونسون رئيس قسم التشريح ومدير معهد دانيال بجامعة توماس جيفرسون بفلادلفيا بالولايات المتحدة الأمريكية، فقال: "إنني كعالم أستطيع فقط أن أتعامل مع أشياء أستطيع أن أراها بالتحديد، أستطيع أن أفهم علم الأجنة وتطور علم الأحياء، أستطيع أن أفهم الكلمات التي تترجم لي من القرآن .. إنني لا أرى شيئاً، لا أرى سبباً، لا أرى دليلاً على حقيقة تفند مفهوم هذا الفرد محمد [r] الذي لابُد وأنه يتلقى هذه المعلومات من مكان ما، ولذلك إنني لا أرى شيئاً يتضارب مع مفهوم: أن التدخل الإلهي كان مشمولاً فيما كان باستطاعته أن يبلغه".

ويضيف البرفسور كيث ل مور مؤلف الكتاب الشهير "أطوار خلق الإنسان" (The Developing Human) الذي يعتبر مرجعاً معتمداً في كليات الطب العالمية: "يتضح لي أن هذه الأدلة حتماً جاءت لمحمد من عند الله، لأن كل هذه المعلومات لم تكشف إلا حديثاً وبعد قرون عدة، وهذا يثبت لي أن محمداً رسول الله".(7)

?قل أنزله الذي يعلم السر في السموات والأرض إنه كان غفوراً رحيماً? (الفرقان: 6).

وهكذا فإن هذه الأخبار الغيبية العلمية - وغيرها مما يطول الحديث بذكره - دليل الله الساطع على نبوة النبي r ، فمثل هذه العلوم يستحيل تحصيلها في تلك الأزمنة ، وخاصة من رجل أميّ نشأ في بيئة جاهلة ?ويرى الذين أوتوا العلم الذي أنزل إليك من ربك هو الحق ويهدي إلى صراط العزيز الحميد? (سبأ: 6).

ومما يشهد له بالنبوة r ما أوتيه من حسن سيرة وخلق عظيم ، فقد وصفه ربه تبارك وتعالى: ?وإنك لعلى خلقٍ عظيمٍ? (القلم: 4)، وقد غلب لقبه (الصادق الأمين) على اسمه، فصار علماً عليه بين أهل مكة، لذا قال ملكُ الروم هرقل لأبي سفيان عدو النبي r حينذاك: "أعرف أنه لم يكن ليذر الكذب على الناس ويكذب على الله .. يأمركم أن تعبدوا الله ولا تشركوا به شيئاً، وينهاكم عن عبادة الأوثان، ويأمركم بالصلاة والصدق والعفاف .. فإن كان ما تقول حقاً فسيملك موضع قدميَّ هاتين، وقد كنت أعلم أنه خارج، لم أكن أظن أنه منكم، فلو أني أعلم أني أخلُص إليه لتجشمتُ لقاءه، ولو كنتُ عنده لغسلتُ عن قدمه".(8)

إن مدعيي النبوة إنما ينتحلونها سعياً وراء الكسب الدنيوي الرخيص، سواء أكان هذا الكسب مالاً يسابقون إلى جمعه ليستمتعوا به أو ليورثوه إلى أهليهم من بعدهم، أم كان جاهاً بين الناس يرفع من قدرهم، فيشار لهم بالبنان، ويوسع لهم في المجالس....

فهل كان النبي r من هذا الصنف أو ذاك؟

إن نظرة سريعة على سمته r تكشف لنا ما كان عليه النبي محمد r من تواضع وزهد في الدنيا جمعهما النبي r ، فأوضح خلالهما نبل أخلاقه وطهر سلوكه، بل ودلل على نبوته ورسالته.

ومن زهده r أنه: (ما ترك عند موته درهماً ولا ديناراً ولا عبداً ولا أمَة ولا شيئاً؛ إلا بغلتَه البيضاء وسلاحَه، وأرضاً جعلها صدقة).(9)

وهذه الأرض هي أرض فدك التي منعها خليفة النبي r أبو بكر الصديق من ورثته، وقال لهم: إن رسول الله r قال: ((لا نورث، ما تركنا صدقة))، وأضاف الصديق: "لست تاركاً شيئاً كان رسول الله r يعمل به إلا عملت به، فإني أخشى إن تركت شيئاً من أمره أن أزيغ".(10)

إن الذي تركه النبي r ليس ميراثاً يغتنون به من بعده، بل دَيْناً يؤدونه من بعده، فقد مات r ، ودرعه مرهونة عند يهودي على ثلاثين صاعاً من شعير.(11)

لقد كان r يحذر أن يغادر الدنيا وقد أخذ منها مغنماً ، إذ تذكر زوجته عائشة رضي الله عنها أنه كان في بيتها بعضُ قطعٍ من ذهب، فقال لها رسول الله r: ((ما فعلتْ الذهبُ .. ما ظن محمد بالله لو لقي الله عز وجل وهذه عنده؟ أنفقيها)).(12)

وليس تعففه r عن شهوة الجاه بأقل من تعففه عن شهوة المال، فقد قال له رجل: يا سيدَنا وابنَ سيدِنا، ويا خيرَنا وابنَ خيرِنا. فقال عليه الصلاة والسلام: ((يا أيها الناس عليكم بتقواكم، ولا يستهوينكم الشيطان، أنا محمد بنُ عبدِ الله، عبدُ الله ورسولُه، والله ما أحب أن ترفعوني فوق منزلتي التي أنزلني الله عز وجل)).(13)

وكان r يمقت كل مظاهر الكِبْر والترفع على الناس، ومنه كراهيته أن يقوم له أصحابُه إذا دخل المجلس، يقول صاحبه أنس بن مالك: (ما كان شخصٌ أحبَّ إليهم من رسول الله r ، وكانوا إذا رأوه لم يقوموا؛ لِما يعلمون من كراهيته لذلك).(14)

إنه رسول تتلألأ عليه صفات الكمال الإنساني، أتاه رجل فجعلت فرائصُه ترْعَد، فقال له r: ((هون عليك، فإني لست بملِكٍ، إنما أنا ابن امرأةٍ تأكل القديد)). (15)

وتحكي زوجه عائشة رضي الله عنها عن حاله داخل بيته، فتكشف لنا أن تواضعه r ليس خلقاً يتزين به أمام الناس، بل خَلَّة شريفة لم تفارقه، فقد سُئلت : ما كان r يصنع في بيته؟ فقالت: (كان يكون في مهنة أهله - تعني: خدمة أهله - فإذا حضرت الصلاة خرج إلى الصلاة)، وفي رواية: (كان بشراً من البشر، يَفْلي ثوبه، ويحلِب شاته، ويخدِمُ نفسَه).(16)

وأما صاحبه ابن مسعود، فيحكي عن تناوب النبي r على الراحلة - وهو منطلق إلى بدر – مع اثنين من أصحابه، وكانا يودان لو بقي النبي على الراحلة، وأنهما يمشيان عنه، لكنه r كان يقول لهما: ((ما أنتما بأقوى مني، وما أنا بأغنى عن الأجر منكُما)). (17)

وهنا نسأل: ماذا أفاده دعواه النبوة من متاع الدنيا؟ أفهكذا يصنع الأدعياء؟!

وإن من دلائل نبوته r ما آتاه الله من المعجزات الحسية التي خرق الله فيها لنبيه نواميس الكون إظهاراً لنبوته، وقد فاقت هذه المعجزات في عددها الألف، منها أن الله أطعم ببركته يوم الخندق زهاء ألف رجل من بهيمة واحدة وجِراب فيه صاعٌ من شعير لا يربو وزنه على ثلاث كيلوات.(18)

كما تفجر الماء من بين أصابعه، حتى سقى الله من يديه الجموع الكثيرة من أصحابه.(19)

وشفى الله على يديه المرضى، ومنهم محمد بن حاطب، فقد انكفأ على ذراعه قدر ماء يغلي، فتفل النبي r في فيه، ومسح على رأسه، ودعا له، فقام صحيحاً ما به بأس ولا علة(20) ، وكذلك مسح على رجل عبد الله بن عتيك الأنصاري لما كُسرت، فقام من بين يديه وقد شفيت.(21)

ومما يشهد بالنبوة لمحمد r بشارة الكتب السابقة به، فهذه الكتب رغم ما تعرضت له من تغيير وتبديل؛ فإنها ما تزال تحمل شهادات صادقة تدل على نبوة النبي محمد r، ومن ذلك بشارة النبيين موسى وحبقوق به r، حين بشرا بنبي قدوس طاهر يخرج من بلاد فاران، ففي سفر التثنية المنسوب إلى موسى عليه السلام أنه قال لبني إسرائيل قبيل وفاته: "جاء الرب من سيناء، وأشرق لهم من سعير، وتلألأ من جبل فاران" (التثنية 33/2)، فقد أخبرهم عليه السلام بأنه كما جاءت رسالة الله إليه على جبل الطور في سيناء، فإن النبوة ستشرق من جبل سعير في وسط فلسطين، وذلك بنبوة عيسى عليه السلام، ثم ستتلألأ النبوة من فوق جبل فاران بنبي عظيم يخرج فيها.

وأكد سفر النبي حبقوق البشارةَ بالنبي المبعوث في فاران، فقال: "والقدوس من جبل فاران، جلاله غطى السماوات، والأرض امتلأت من تسبيحه" (حبقوق 3/3)، فمن هو هذا العبد الطاهر ذو الهيبة الذي يخرج من فاران، وتمتلئ الأرض من تسبيحه وتسبيح أتباعه؟ وأين هي فاران التي تلألأت النبوة على جبلها؟

وحتى لا نتيه بعيداً نذكر أن اسم فاران تستخدمه التوراة في حديثها عن مكة المكرمة، فقد جاء في سفر التكوين أن إسماعيل عليه السلام نشأ وتربى في برية فاران، يقول السِّفر عن إسماعيل: " كان الله مع الغلام فكبر .. وسكن في برية فاران " (التكوين 21/21)، ففاران هي الحجاز التي لا تختلف المصادر التاريخية على نشأة إسماعيل في ربوعها.

وبهذا وأمثاله قامت حجة الله على خلقه في نبوة محمد r.

والإقرار بنبوته r يستلزم من المسلم الاعتراف باطناً وظاهراً أنه عبد الله ورسوله إلى الناس كافة، والعمل بمقتضى ذلك، بطاعته فيما أمر، وتصديقه فيما أخبر، واجتناب ما نهى عنه وزجر، وألا يُعبد الله إلا بما شرع، ?وأرسلناك للناس رسولاً وكفى بالله شهيداً ^ من يطع الرسول فقد أطاع الله ومن تولى فما أرسلناك عليهم حفيظاً? (النساء: 79-80)، وقال تعالى: ?يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم فإن تنازعتم في شيءٍ فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ذلك خيرٌ وأحسن تأويلاً? (النساء: 59).

ومن مقتضيات الإيمان به r التأسي بهديه وسلوكه وأخلاقه r ?لقد كان لكم في رسول الله أسوةٌ حسنةٌ لمن كان يرجو الله واليوم الآخر وذكر الله كثيراً? (الأحزاب: 21).

الركن الثاني: إقام الصلاة

الصلاة هي الركن الثاني من أركان الإسلام، وهي عمود الدين وركنه الركين.

وقد فرضها الله عز وجل على المسلمين، ومنها ما شرع وجوباً، وهو الصلوات الخمس، فهي أول حق الله على عباده، ومنها ما يؤديه المسلم تطوعاً وتحبباً إلى الله الذي خلقه وأنعم عليه بآلائه التي لا تحصى.

والصلاة لما لها من الأثر العظيم البالغ في تهذيب النفوس وتقويم السلوك وفي تقوية الإيمان؛ فرضها الله على الأنبياء والأمم السابقة، فلم تخل منها شريعة من الشرائع، وقد حكى القرآن وصاة الله بها لأنبيائه وأقوامهم، فقد دعا إبراهيم أبو الأنبياء ربه فقال: ?ربّ اجعلني مقيم الصّلاة ومن ذرّيتي? (إبراهيم:40)، فاستجاب الله دعاءه فكان ابنه إسماعيل من المصلين ?وكان يأمر أهله بالصّلاة والزّكاة وكان عند ربّه مرضيّاً? (مريم: 55).

ومن بعدهما خاطب الله نبيه موسى عليه السلام فقال: ?إنّني أنا اللّه لا إله إلا أنا فاعبدني وأقم الصّلاة لذكري? (طه: 14)، وأوصى العذراء البتول بالصلاة فقال: ?يا مريم اقنتي لربّك واسجدي واركعي مع الركعين? (آل عمران: 42)، وبيَّن المسيح عليه السلام أمر الله تعالى له بالصلاة، فقال وهو في المهد: ?إني عبد الله آتاني الكتاب وجعلني نبياً ^ وجعلني مباركاً أين ما كنت وأوصاني بالصّلاة والزّكاة ما دمت حيّاً? (مريم: 30-31).

وأخذ الله الميثاق على بني إسرائيل أن يحافظوا على الصلاة ?وإذ أخذنا ميثاق بني إسرائيل لا تعبدون إلاّ اللّه وبالوالدين إحساناً وذي القربى واليتامى والمساكين وقولوا للنّاس حسناً وأقيموا الصّلاة وآتوا الزّكاة? (البقرة: 83).

ومن بعدهم جاء نبينا r يدعو إلى ما دعا إليه إخوانه الأنبياء من تعظيم الله وعبادته والصلاة له، وقد أمره الله بها، فقال: ?وأمُر أهلك بالصّلاة واصطبر عليها? (طه: 132)، وامتدح الله في وحيه إليه عباده المصلين فقال: ?الّذين يقيمون الصّلاة ويؤتون الزّكاة وهم بالآخرة هم يوقنون ^ أولئك على هدًى من ربهم وأولئك هم المفلحون? (لقمان: 4-5)، ووعدهم بالجنة جزاء عليها: ?والذين هم على صلواتهم يحافظون ^ أولئك هم الوارثون ^ الّذين يرثون الفردوس هم فيها خالدون? (المؤمنون: 9-11).

وما زال النبي r يوصي بالصلاة لله وعبادته حتى فاضت روحه إلى باريها، يقول خادمه وصاحبه أنس: كان آخر وصية رسول الله r وهو يُغرغر بها في صدره، وما كان يفيض بها لسانه: ((الصلاة الصلاة، اتقوا الله فيما ملكت أيمانكم)). (22)

وحين شرع الله الصلاة وغيرها من العبادات؛ فإنه تبارك وتعالى لم يكن يستكثر بها من قلة، ولا يستقوِ بها من ضعف، فهو عز وجلّ لا تزيده طاعة الطائعين، ولا تنقصه معصية العاصين، وإنما شرعها لمنفعة العباد وتزكية أنفسهم وتهذيب ضمائرهم وتقويم سلوكهم وصلاح دنياهم وأخراهم.

وأول ما تحققه الصلاة في المؤمن أنها تنير حياته وتؤنسها بذكر الله، فقد وصفها النبي r بأنها نور، فقال: ((من حافظ عليها كانت له نوراً وبرهاناً ونجاةً يوم القيامة)). (23)

وقال: ((والصلاة نور، والصدقة برهان، والصبر ضياء)). (24)

وقوله r: ((والصلاة نور)) معناه: أنها تمنع المصلي من المعاصي، وتنهاه عن الفحشاء والمنكر، وتهديه إلى الصواب كما النور الذي يستضاء به.

فأما اجتناب المسلم للكبائر من الذنوب والفواحش، فسببه أن الصلاة تذكره - فينة بعد فينة -بحق الله عليه وبمراقبته له، فيرعوي وينزجر عن محارمه، قال تعالى: ?اتل ما أوحي إليك من الكتاب وأقم الصلاة إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر ولذكر الله أكبر والله يعلم ما تصنعون? (العنكبوت: 45).

ولما أُخبر النبي r عن رجل يصلي بالليل، فإذا أصبح سرق؛ قال عليه الصلاة والسلام: ((إنه سينهاه ما يقول)). (25) أي في صلاته ما سيزجره ويقوِّم سلوكه.

وكما تبعد الصلاة المؤمن عن الكبائر والفواحش؛ فإنها سبب في مغفرة الله للصغائر من الذنوب التي يلم بها المرء عامداً أو جاهلاً، فيعود بصلاته قريباً من الله العفو الكريم، لأن الصلاة صلة بين العبد وربه، فقد كان r يقول: ((الصلوات الخمس، والجمعة إلى الجمعة، ورمضان إلى رمضان مكفراتٌ ما بينهنَّ؛ إذا اجتنب الكبائر)). (26)

وفي حديث آخر سأل النبي r أصحابه: ((أرأيتم لو أن نهراً بباب أحدكم يغتسل منه كل يومٍ خمس مرات هل يبقى من درنه شيء؟)) فقالوا: لا يبقى من درنه شيء، فقال r: ((فذلك مثلُ الصلوات الخمس يمحو الله بهن الخطايا)). (27)

والصلاة فرصة للمسلم للاستجمام من أتعاب الدنيا، فالمسلم حين يقوم للصلاة يناجي ربه ومولاه؛ يطمئن قلبه بهذه الصلة مع ربه ?الذين آمنوا وتطمئن قلوبهم بذكر الله ألا بذكر الله تطمئن القلوب? (الرعد: 28)، لذلك كان r يقول لمؤذنه بلال: ((يا بلال أرحنا بالصلاة)). (28) وكان يفزع إليها كلما حزبه أمر، ويقول: ((جعلت قرة عيني في الصلاة)). (29)

وأخيراً؛ فلأهمية هذه العبادة سماها النبي r عمود الدين، وأخبر أنها أول ما يحاسب الله الناس عليه يوم القيامة، فقال: ((إنّ أول ما يُحاسبُ به العبدُ يوم القيامة من عمله صلاته، فإن صلحت فقد أفلح وأنجح، وإن فسدت فقد خاب وخسر)). (30)

الركن الثالث : إيتاء الزكاة

يتقلب الناس في هذه الدنيا في نعم الله التي آتاهم، ويستمتعون فيها بما منحهم الله من المال والسعة واليسار الذي به تزدان الحياة وتزهو.

وحتى يسعد الجميع في أرض الله؛ فإن الله جعل النصيب الأوفر من رزقه لبعض الناس ابتلاء واختباراً، وأوجب لإخوانهم من الفقراء والمساكين وغيرهم حقاً معلوماً في أموال الأغنياء التي آتاهم الله إياها ?وآتوهم من مال الله الذي آتاكم? (النور: 33)، وهذا الحق المعلوم هو الزكاة، وهي الركن الثالث من أركان الإسلام.

وما يدفعه المسلم من ماله فإنما هو طهرة له من ذنوبه وآثامه، وهو سبب في تزكية نفسه وسموها في معارج الطاعة ?خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها? (التوبة: 103).

وأما الامتناع عن أداء الزكاة فهو خيانة لحق الفقير، يتوعد الله فاعله بأليم العذاب: ?والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله فبشرهم بعذابٍ أليمٍ ^ يوم يحمى عليها في نار جهنم فتكوى بها جباههم وجنوبهم وظهورهم هذا ما كنزتم لأنفسكم فذوقوا ما كنتم تكنزون? (التوبة: 34-35).

وفي الحديث أن النبي r قال: ((ما من صاحب كنز لا يؤدي زكاته إلا أحمي عليه في نار جهنم، فيجعل صفائح، فيكوى بها جنباه وجبينه حتى يحكم الله بين عباده في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة، ثم يرى سبيله، إما إلى الجنة، وإما إلى النار)). (31)

وكما أوجب الله هذا الحق؛ فإنه بيَّن أنصبته ومقاديره والأموال التي يجب فيها، ولم يترك الأمر إلى أذواق الأغنياء وسعة إحسانهم ?والذين في أموالهم حق معلوم ^ للسائل والمحروم? (المعارج: 24-25).

وقد راعى الإسلام في مقدار الزكاة مصلحة الغني والفقير، فالغني إنما يدفع 2.5% فقط من أمواله النقدية وتجاراته التي مر عليها عام وهي في حوزه، أي هي مما زاد عن حاجاته ومصروفاته، فهذا هو الحق المعلوم، وأما ما عداه فهو الصدقات غير الواجبة التي يستبق بها المسلمون إلى محبة الله وعظيم رضوانه.

وأما الأموال التي أوجب الله فيها الزكاة فهي الذهب والفضة وما يقابلهما من النقود والأسهم والتجارات، وكذلك ما يعطيه الله للمسلم من زروع وثمار وأنعام ?يا أيها الذين آمنوا أنفقوا من طيبات ما كسبتم ومما أخرجنا لكم من الأرض? (البقرة: 267).

وأما المستحقون لأخذ الزكاة فهم أصناف ثمانية، جمعتهم الآية القرآنية: ?إنما الصدقات للفقراء والمساكين والعاملين عليها والمؤلفة قلوبهم وفي الرقاب والغارمين وفي سبيل الله وابن السبيل فريضةً من الله والله عليمٌ حكيمٌ? (التوبة: 60).

وأداء الزكاة ينبغي أن يصان بضوابط أخلاقية عالية تجعل من هذا الإنفاق عبادة سامية لله لا يخالطها كِبر ولا استعلاء ولا مِنَّة على الفقير، فقد وصف الله المؤمنين بقوله: ?الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله ثم لا يتبعون ما أنفقوا مناً ولا أذًى لهم أجرهم عند ربهم ولا خوفٌ عليهم ولا هم يحزنون ^ قولٌ معروفٌ ومغفرةٌ خيرٌ من صدقةٍ يتبعها أذًى والله غني حليمٌ ? (البقرة: 262-263).

والمسلم يقصد بصدقاته وزكاته مرضات الله وجميل ثوابه، وأما المنفق للسمعة والمفاخرة فإن نفقته مردودة عليه ، لا بل هو متوعد بالعذاب في الآخرة، ففي الحديث عن النبي r أن أول من تسعر بهم النار يوم القيامة ثلاثة، فذكر منهم رجل تصدق لا ليرضى عنه الله، بل ليقال عنه جواد (32)، وهو ما يحبط هذه العبادة، ويوجب العقوبة عليها بدلاً من المثوبة ?من كان يريد الحياة الدنيا وزينتها نوف إليهم أعمالهم فيها وهم فيها لا يبخسون ^ أولئك الذين ليس لهم في الآخرة إلا النار وحبط ما صنعوا فيها وباطلٌ ما كانوا يعملون? (هود: 15-16).

إن هذه الشرعة الربانية صورة من صور التراحم والتلاحم، تحفظ للمجتمع وحدته وتحقق تماسكه، حتى يكون الجميع فيه كالجسد الواحد، قال r: ((مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد الواحد؛ إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى)). (33)

الركن الرابع : صوم رمضان

الصيام هو رابع أركان الإسلام، وهو عبادة فرضها الله في شهر رمضان(34)، وفيه يمتنع المسلم عن الطعام والشراب والجماع ومقدماته من طلوع الفجر إلى غروب الشمس.

والصيام فرضه الله على المسلمين وعلى الأمم قبلهم لغاية عظيمة، يجليها قول الله تعالى: ?يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون? (البقرة: 183)، فغاية هذه العبادة تدريب المؤمن على حياة التقوى واجتناب المناهي، وتربيته على السيطرة على إرادته وضبطها، وعدم الانسياق وراء الرغبات الجسدية، وتحريره من أسر الشهوات والعبودية للملذات، فالمسلم الذي يترك في نهار رمضان الحلال من الطعام والشراب والمتع؛ فإنه من باب أولى يمتنع عن الحرام منها في ليل رمضان وفي سائر الأيام والليالي.

وقد أخبر النبي r بأثر الصيام في ضبط الغرائز بقوله: ((من كان منكم ذا طول فليتزوج؛ فإنه أغض للبصر وأحصن للفرج، ومن لا فالصوم له وجاء)).(35)

ويصف النبي r الصيام بأنه وقاية للمسلم، بما يحتمه عليه من معاني فاضلة وأخلاق سامية: ((والصيام جُنة، وإذا كان يوم صوم أحدكم فلا يرفث ولا يصخب، فإن سابه أحد أو قاتله فليقل: إني امرؤ صائم)).(36)وفي حديث آخر: ((الصوم جُنة ما لم يخرقها)). (37)

وقد فقه الصحابي جابر بن عبد الله قول النبي r فقال: (إذا صُمتَ؛ فليصم سمعك وبصرك، ولسانك عن الكذب والمآثم، ودع أذى الخادم، وليكن عليك وقار وسكينة يوم صيامك، ولا تجعل يوم فطرك ويوم صيامك سواء). (38)

وأما إذا لم يعطِ الصيام ثمرته السلوكية فقد أضحى عملاً ميتاً لا روح فيه، وقد قال رسول الله r: ((من لم يدع قول الزور والعمل به فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه)). (39)

وهذا العمل الذي لا روح فيه لا يؤجر المسلم عليه ((رُبَّ صائم حظه من صيامه الجوع والعطش، ورُبَّ قائم حظه من قيامه السهر)). (40)

ومما يتعلمه المسلم في مدرسة رمضان تحسس مشاعر الفقراء والإحساس بمعاناتهم، وما يستجيشه ذلك من بذل وكرم وإنفاق في سبيل الله، فقد حكى ابن عباس ابن عم النبي r عنه، فقال: (كان رسول الله r أجود الناس، وكان أجود ما يكون في رمضان .. فلَرسول الله r أجود بالخير من الريح المرسلة). (41)

وقد شرع الإسلام لأولئك الذين لا يقدرون على مشاركة المسلمين صيامهم لمرض ونحوه، شرع لهم إطعام المساكين فدية للصيام الذي عجزوا عنه، فلئن فاتهم مشاركة الفقراء والمحرومين في ألم الجوع، فلن يفوتهم المساهمة في إطعامهم ورفع جوعهم ?وعلى الذين يطيقونه فديةٌ طعام مسكين فمن تطوع خيراً فهو خير له وأن تصوموا خيرٌ لكم إن كنتم تعلمون? (البقرة: 184).

ولتعدد حكم هذه العبادة فإن النبي r ما فتئ يوصي بها أصحابه، فقد قال له أبو أمامة: مُرني بأمر آخذه عنك؟ فقال r: ((عليك بالصيام؛ فإنه لا مِثل له)). (42)

الركن الخامس : حج بيت الله الحرام

الحج عبادة بدنية فرضها الله على المسلم في العمر مرة واحدة، حيث يفد المسلمون من أصقاع الأرض إلى قبلتهم في مكة المكرمة، ليؤدوا مناسك حجهم في أيام معلومات، يحققون فيها المقاصد التي أرادها الله من تشريع هذه العبادة التي أمر بها أبا الأنبياء إبراهيم عليه السلام حين قال له: ?وأذن في الناس بالحج يأتوك رجالاً وعلى كل ضامرٍ يأتين من كل فج عميقٍ ^ ليشهدوا منافع لهم ويذكروا اسم الله في أيامٍ معلوماتٍ على ما رزقهم من بهيمة الأنعام فكلوا منها وأطعموا البائس الفقير? (الحج: 27-28).

فنادى إبراهيم، ولبى المؤمنون من كل حدب وصوب، وأدوا المناسك كما أداها إبراهيم عليه السلام، وحافظوا على سنة الخليل إبراهيم عليه السلام، كما قال r للمسلمين في مناسك الحج: ((كونوا على مشاعركم؛ فإنكم اليوم على إرث من إرث إبراهيم)).(43)

والحج دورة تدريبية للمسلم على ممارسة السلام، فمناسكه تؤدى في البلد الحرام الذي يأمن فيه الطير والشجر والإنسان، قال r: ((إن هذا البلد حرمه الله، لا يعضد شوكه، ولا ينفر صيده، ولا يلتقط لقطته إلا من عرفها)).(44)

والحج أيضاً مظهر من مظاهر المساواة والوحدة بين المسلمين ، حيث يجتمع فيه المسلمون من كل حدب وصوب، في لباس واحد، على صعيد واحد، لا يتقدم فيهم غني على فقير، ولا أبيض على أسود، وقد خطب النبي r أصحابه في أيام الحج ، فقال: ((يا أيها الناس ألا إن ربكم واحد، وإن أباكم واحد، ألا لا فضل لعربي على أعجمي، ولا لعجمي على عربي، ولا لأحمر على أسود، ولا أسود على أحمر إلا بالتقوى)). (45)

ومن مقاصد الحج ذكر الله تعالى وتعظيمه واستغفاره مما سلف من الذنوب والعصيان ?فاذكروا الله عند المشعر الحرام واذكروه كما هداكم وإن كنتم من قبله لمن الضالين ^ ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس واستغفروا الله إن الله غفور رحيم? (البقرة: 198-199).

وكما كان المشعر الحرام لذكر الله، فإن أيام مِنى هي أيضاً كذلك ?واذكروا الله في أيام معدودات فمن تعجل في يومين فلا إثم عليه ومن تأخر فلا إثم عليه لمن اتقى? (البقرة: 203).

فإذا انتهت مناسك الحج؛ فإن المسلم مطالب بلزوم ذكر الله في سائر أيامه ?فإذا قضيتم مناسككم فاذكروا الله كذكركم آباءكم أو أشد ذكراً? (البقرة: 200).

ومن مناسك الحج وشعائره ذبح الهدي قرباناً لله عز وجل، قال تعالى: ?والبُدْن جعلناها لكم من شعائر الله لكم فيها خير? (الحج: 36)، وفي مقدمة هذا الخير تحقيق تقوى الله وتمثلها في حياتنا السلوكية ?لن ينال اللهَ لحومُها ولا دماؤها ولكن يناله التقوى منكم? (الحج: 37).

ومن أعظم مقاصد الحج تهذيب سلوك المسلم الحاج، قال تعالى: ?الحج أشهرٌ معلوماتٌ فمن فرض فيهن الحج فلا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج وما تفعلوا من خيرٍ يعلمه الله وتزودوا فإن خير الزاد التقوى واتقون يا أولي الألباب? (البقرة: 197)، فالحاج ينبغي عليه اجتناب المعاصي ليتحقق له الغفران والخلوص من الذنوب والمعاصي، قال r: ((من حج فلم يرفث ولم يفسق؛ رجع كيوم ولدته أمه)). (46)

والحج الذي تتوافر فيه هذه الشروط ويحقق تلك المعاني يسميه الرسول r بالحج المبرور، فيقول: ((الحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة)). قيل: وما بره؟ قال: ((إطعام الطعام وطيب الكلام)).(47)

وهكذا فإن أركان الإسلام تهدف جميعاً إلى تزكية المسلم وتهذيب سلوكه وربط قلبه بربه تبارك وتعالى.

لكن الإسلام ليس هذه الأركان فحسب، إنه هبة الله للبشرية ، إنه الدين الذي يعالج مشكلات الإنسانية على اختلافها، فينظم علاقة الإنسان بربه، ثم بأخيه الإنسان، ثم بالكون من حوله، وهو الدين الذي يقوم على تحقيق التوازن بين مطالب الجسد ومطالب الروح، ويشبع العقل ويروي العاطفة.

ولسوف يتجلى لنا بهاء هذه الحقيقة ونحن نتحدث عن مفهوم العبودية في الإسلام.

مفهوم العبادة في الإسلام

خلق الله الإنسان على هذه الأرض لغاية شريفة، تسمو بوجوده عن سائر المخلوقات التي تعيش على الأرض للأكل والشرب والجنس، هذه الغاية هي عبادة الله تبارك وتعالى ?وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون ^ ما أريد منهم من رزقٍ وما أريد أن يطعمون ^ إن الله هو الرزاق ذو القوة المتين? (الذاريات: 56-58).

لكن مفهوم العبادة في الإسلام ليس محصوراً في صلوات وتمتمات وطقوس تمارس في أوقات محددة، بل هو أوسع من ذلك بكثير، إنه منهج للحياة الإنسانية برُمَّتها ? قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين ^ لا شريك له وبذلك أمرت وأنا أول المسلمين? (الأنعام: 162-163)، فلا يعرف المسلم لحظة يقضيها بعيداً عن عبادة مولاه.

ويرفض مفهوم الإسلام للعبادة وجود وسطاء بين الله وعباده، فليس في الإسلام كهنوت أو رجال دين، فالمسلم يصلي وحده وفي جماعة المسلمين، في المسجد أو في البيت أو في أي مكان طاهر تدركه فيه صلاة؛ من غير حاجة إلى وسيط أو بناء محدد، قال r: ((وجعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً، فأيما رجل من أمتي أدركته الصلاة؛ فليصل)). (48)

وإذا ما قصر المسلم في حق الله أو طمع في خير عنده؛ فإنه يطلب من الله بُغيته من غير وسيط يعترف له، ولا شفيع يرجو شفاعته ?والذين إذا فعلوا فاحشةً أو ظلموا أنفسهم ذكروا الله فاستغفروا لذنوبهم ومن يغفر الذنوب إلا الله ولم يصروا على ما فعلوا وهم يعلمون ^ أولئك جزاؤهم مغفرةٌ من ربهم وجناتٌ تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها ونعم أجر العاملين? (آل عمران: 135-136).

وأيضاً يرفض الإسلام قصر الدين على العلاقة بين العبد وربه فحسب، ويعتبر هذا قصوراً يقعد بالدين عن الغاية التي أنزل الله لأجلها الكتب وبعث لتحقيقها الأنبياء، وهي إصلاح الحياة الإنسانية، والقيام بواجب الاستخلاف في أرض الله وفق منهجه وشرائعه ، فلأجل هذا خلق الله أبانا آدم ? وإذ قال ربك للملائكة إني جاعلٌ في الأرض خليفةً ? (البقرة: 30)، وهذا الاستخلاف لآدم يمتد ليشمل ذريته من بعده ? هو الذي جعلكم خلائف في الأرض ? (فاطر: 39)، ويسميه الله في آية أخرى بعمارة الأرض ? هو أنشأكم من الأرض واستعمركم فيها ? (هود: 61).

وهكذا، فإن الواجب المطلوب من الإنسان هو عمارة الأرض، وهذا المطلب الكبير لن تحققه أديان لا تتناول في نظرتها وتشريعاتها الحياة الإنسانية بمناشطها المختلفة.

ومن هنا كان مفهوم الإسلام للعبادة شمولياً، فالعبادة في الإسلام هي فعل كل ما يحبه الله ويرضاه من الأفعال والأقوال الظاهرة والباطنة، فهي لا تتوقف عند مظاهر الشعائر الظاهرة، بل تتناول أفعال القلب واللسان والجوارح.

تغطي هذه العبادة دوائر عدة في حياة المسلم، أولها: علاقته مع الله خالقه، وثانيها: ما يتعلق بالإنسان من آداب خاصة كالنظافة الشخصية وآداب الممارسات الحياتية، كالطعام والشراب والنوم والجنس وقضاء الحاجة واللباس، وثالثها: علاقته مع أسرته ومجتمعه، ورابعها: علاقته مع الأسرة الإنسانية، وأخيراً: علاقته مع بيئته والكون من حوله.

وبموجب المنهج الرباني للعبادة في الإسلام يترابط بنيان الإيمان ليشمل الأصول ويمتد إلى الفروع والآداب، كما قال r: ((الإيمان بضع وسبعون شعبة، فأفضلها: قول: لا إله إلا الله، وأدناها: إماطة الأذى عن الطريق، والحياء شعبة من الإيمان)).(49)

وكل ذلك في ترابط فريد، وتمازج متناغم لا يقبل الفصام النكد الذي يعزل الدين عن مناحي الحياة الإنسانية، ويحبسه داخل المعبد، فقد قال الله مبكتاً صنيع السابقين: ?أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعضٍ فما جزاء من يفعل ذلك منكم إلا خزيٌ في الحياة الدنيا ويوم القيامة يردون إلى أشد العذاب وما الله بغافلٍ عما تعملون ^ أولئك الذين اشتروا الحياة الدنيا بالآخرة فلا يخفف عنهم العذاب ولا هم ينصرون? (البقرة: 85-86).

وفي مقابله أمر الله المسلمين بأخذ الدين بكل شرائعه وتفصيلاته، وحذرهم من تجزئته والإدبار عن شيء منه؛ لأنه فعل ذميم يقوم على منازعة الله حقه في الهيمنة على كافة شؤون حياتنا الإنسانية، وهو في حقيقته اتباع للشيطان واستجابة لطريقته في الإضلال ، حيث يتدرج بالمرء، فيغريه بترك البعض، وما يزال به حتى يترك الكل، قال تعالى: ? يا أيها الذين آمنوا ادخلوا في السلم كافةً ولا تتبعوا خطوات الشيطان إنه لكم عدو مبينٌ? (البقرة: 208).

إن التمازج في الإسلام بين الدين والدنيا، والروح والجسد، والدنيا والآخرة، والفرد والمجتمع؛ حقيقة ساطعة عبرت عنها آيات عديدة في القرآن ، فعلى سبيل المثال تجمع الآيات القرآنية العلاقة مع الله جنباً إلى جنب مع الأخلاق والمعاملة مع الناس من غير تفريق، كما في قوله تعالى: ?ليس البر أن تولوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب ولكن البر من آمن بالله واليوم الآخر والملائكة والكتاب والنبيين وآتى المال على حبه ذوي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل والسائلين وفي الرقاب وأقام الصلاة وآتى الزكاة والموفون بعهدهم إذا عاهدوا والصابرين في البأساء والضراء وحين البأس أولئك الذين صدقوا وأولئك هم المتقون? (البقرة: 177).

ومثله في قوله تعالى: ?واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئاً وبالوالدين إحساناً وبذي القربى واليتامى والمساكين والمساكين والجار ذي القربى والجار الجنب والصاحب بالجنب وابن السبيل وما ملكت أيمانكم إن الله لا يحب من كان مختالاً فخوراً ^ الذين يبخلون ويأمرون الناس بالبخل ويكتمون ما آتاهم الله من فضله وأعتدنا للكافرين عذاباً مهيناً ^ والذين ينفقون أموالهم رئاء الناس ولا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ومن يكن الشيطان له قريناً فساء قريناً ? (النساء: 36-38).

ويؤكد الإسلام على شموليته بالتنبيه على بعض العبادات المتعلقة بحقوق العباد، فيقول r: ((تبسمك في وجه أخيك لك صدقة، وأمرك بالمعروف ونهيك عن المنكر صدقة، وإرشادك الرجل في أرض الضلال لك صدقة، وبصرك للرجل الرديء البصر لك صدقة، وإماطتك الحجر والشوكة والعظم عن الطريق لك صدقة، وإفراغك من دلوك في دلو أخيك لك صدقة)).(50)

ويضع النبي r ميزاناً للخيرية، يقدم العبادة بمفهومها الشمولي، حين يجعل بعض صورها المختصة بالعباد مقدمة على أخرى مما يتعلق برب العباد، وتجعل صاحبها محبوباً عند الله: ((أحب الناس إلى الله عز وجل أنفعهم للناس، وأحب الأعمال إلى الله سرور تدخله على مسلم، أو تكشف عنه كربة، أو تقضي عنه ديناً، أو تطرد عنه جوعاً، ولأن أمشي مع أخ لي في حاجة أحب إلي من أن أعتكف في هذا المسجد شهراً)).(51)

إن حرص المسلم على هذه المحبة الإلهية يدفعه لبذل الخير والمسابقة فيه حتى للحيوان الأعجم، فقد قال r: ((ما من مسلم يغرِس غرساً إلا كان ما أُكِل منه له صدقة، وما سُرق منه له صدقة، وما أَكل السبُع منه فهو له صدقة، وما أكلتْ الطيرُ فهو له صدقة، ولا يرزؤه أحدٌ [أي يسأله] إلا كان له صدقة)).(52)

ولكي يعمق النبي شعور المسلم بأهمية جميعوحدة أنواع العبادة – حتى وإن كانت مرتبطة بحق الحيوان – فإنه أخبر أصحابه والمسلمين من بعدهم عن قصة رجل من السابقين رأى كلباً يأكل الثرى من العطش، ((فأخذ الرجل خُفَّه، فجعل يغرف له به، حتى أرواه، فشكر الله له فأدخله الجنة))، فسأله الصحابة فقالوا: يا رسول الله، وإن لنا في البهائم لأجراً؟ فقال عليه الصلاة والسلام: ((في كل ذي كبد رطبة أجر)).(53)

وأما ثمرات العبادة التي يؤديها المسلم لربه، فهي كثيرة، منها اطمئنان قلبه واستقامة جوارحه، وهو ما يُكسب المرء سعادة الدنيا، وهي عاجل نصيبه من الخير ، الذي ليس آخره ما نشهده من استقرار نفسي واجتماعي في حياة المسلمين الملتزمين بهدي الإسلام، فهو ثمرة من ثمرات الطاعة والإيمان ?من عمل صالحاً من ذكرٍ أو أنثى وهو مؤمنٌ فلنحيينه حياةً طيبةً ولنجزينهم أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون? (النحل: 97).

وفي المقابل فإن ما تشهده بعض المجتمعات من جرائم اجتماعية وأمراض نفسية وحالات اكتئاب أدت إلى نسب مرتفعة ومقلقة في الانتحار(54)، إنما هو ثمن عادل تدفعه البشرية جزاءً وفاقاً لتنكبها هدي الله وإعراضها عنه ?فمن اتبع هداي فلا يضل ولا يشقى ^ ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشةً ضنكاً ونحشره يوم القيامة أعمى? (طه: 123-124).

لكن الجزاء الأكبر الذي يحوزه المؤمن - بعبادته لربه - هو جنة الله ورضوانه ? يا قوم إنما هذه الحياة الدنيا متاعٌ وإن الآخرة هي دار القرار ^ من عمل سيئةً فلا يجزى إلا مثلها ومن عمل صالحاً من ذكرٍ أو أنثى وهو مؤمنٌ فأولئك يدخلون الجنة يرزقون فيها بغير حسابٍ? (غافر: 39-40).

العبادة والأخلاق

ومن أهم ما بعث الله الأنبياء من أجله؛ تزكية عباده وتحليتهم بالخُلق الحسن والسلوك الأقوم، وقد امتن الله على البشرية بمحمد r الذي دعا إلى تزكية نفوسهم وخلوصها من عيوبها وآفاتها ?لقد من الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولاً من أنفسهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين? (آل عمران: 164).

فتزكية النفوس بالأخلاق الفاضلة هدف رئيس في بعثة الأنبياء ، ومنهم محمد r القائل: ((إنما بعثت لأتمم صالح الأخلاق)). (55)

وقد قدم r القدوة الحسنة لأصحابه حين تمثل جميل الأخلاق وصفات الكمال، ممتثلاً ما يوحي الله إليه في القرآن ، فكان في خُلقه كما وصفه ربه ?وإنك لعلى خلق عظيم? (القلم: 4)، وصادقت على هذا الوصف زوجه عائشة فقالت: (كان خلقه القرآن)(56) ، وأكده صاحبه عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما بقوله: لم يكن النبي r فاحشاً ولا متفحشاً، وكان يقول: ((إن من خياركم أحسنكم أخلاقاً)).(57)

إن الأهمية البالغة للأخلاق جعلت النبي r يربط خيرية المسلم عند الله بحسن الخلق الذي يثقل في الميزان حسنات المؤمن ويحببه إلى الله، فقد قال r: ((ما شيءٌ أثقل في ميزان المؤمن يوم القيامة من خلق حسن، وإن الله ليبغض الفاحش البذيء))(58)، فحسن الخلق يحسب للعبد في ميزانه بمثابة عبادتي الصوم والقيام لله في الليل، وهما من أفضل العبادات وأرفعها في ميزان المسلم، يقول r: ((إن المؤمن ليدرك بحسن خلقه درجة الصائم القائم)).(59)

ووفق هذه الحيثية فإن حسن الخلق أوسع باب يوصل إلى الجنة، ولما سئل رسول الله r عن أكثر ما يدخل الناس الجنة؟ قال: ((تقوى الله وحسن الخلق)).(60)

إن صاحب الخلق الحسن ليس في الجنة فحسب، بل هو في أعلاها، ففي الحديث عن رسول الله r أنه قال: ((أنا زعيمٌ ببيت في ربض الجنة لمن ترك المراء وإن كان محقاً، وببيت في وسط الجنة لمن ترك الكذب وإن كان مازحاً، وببيت في أعلى الجنة لمن حسن خلقه)).(61)

وأعلى الجنة هو جزاء الله للأنبياء، فينعم صاحب الخلق الحسن برفقتهم كما قال r: ((إن أحبكم إليَّ وأقربكم مني في الآخرة محاسنكم أخلاقاً، وإن أبغضكم إلي وأبعدكم مني في الآخرة مساويكم أخلاقاً، الثرثارون المتفيهقون المتشدقون).(62)

وهذه الأهمية للأخلاق تنبع من كونها جزءاً من الإيمان، فلا يكمل إيمان المسلم إلا بالتزامه بها، ولا يزهر إيمانه إلا بمقدار ما يتحقق فيه منها، فإذا نقصت أخلاق المرء نقص إيمانه، وإن زادت زاد، يقول أنس بن مالك: ما خطبنا نبي الله r إلا قال: ((لا إيمان لمن لا أمانة له، ولا دين لمن لا عهد له)) (63)، وكان r يقول: ((لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه)). (64)

وكان r يقول: ((خصلتان لا يجتمعان في مؤمن: البخل وسوء الخلق)).(65)

والأخلاق الفاضلة التي صانها الإسلام وتعبَّد المسلمين بتمثُلِها كثيرة، وليس بأقل منها ما حذر منه من أخلاق مستقبحة مستبشعة، ونكتفي بإيراد بعض النصوص المتحدثة عن الأخلاق، فلعله يغني عن الكثير من الشرح والتطويل:

قال تعالى: ?إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكم تذكرون? (النحل: 90).

وقال: ?يا أيها الذين آمنوا لا تخونوا الله والرسول وتخونوا أماناتكم وأنتم تعلمون? (الأنفال: 27).

وقال: ?إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل إن الله نعِمَّا يعظكم به إن الله كان سميعاً بصيراً? (النساء: 58).

وقال: ?يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وكونوا مع الصادقين? (التوبة: 119).

وقال: ?الصابرين والصادقين والقانتين والمنفقين والمستغفرين بالأسحار? (آل عمران: 17).

مراتب الأحكام التكليفية

وتدور تشريعات الإسلام بمناحيها المختلفة في خمس مراتب من جهة إلزاميتها:

أولاها الفروض والواجبات، وهي ما طلبه الله ورسوله من الطاعات على جهة الإلزام، فالمطيع فيها مثاب مأجور، والعاصي مأزور، ومن ذلك الصلوات الخمس والزكاة وصوم رمضان والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وحسن الخلق والتوبة من الذنوب وكسب المال من الحلال والإنفاق على الزوجة والأولاد وبر الوالدين وصلة الرحم والتعاون مع الآخرين على أعمال البر والتقوى، وكذلك حجاب المرأة من الرجال الأجانب عنها.

والثانية هي السنن المستحبة، وهي ما طلبه الله ورسوله على جهة الندب والاختيار، لا الأمر والإلزام، فيأجر الله المطيع فيها، ولا يؤاخذ المقصر، لكن الإتيان بالمستحبات برهان على محبة العبد لربه وتشوقه إلى طاعته ومرضاته، فيقابل الله صنيعه بمحبة العبد وتوفيقه، فقد روى النبي r عن ربه تبارك وتعالى أنه قال: ((وما تقرب إلي عبدي بشيء أحب إلي مما افترضت عليه، وما يزال عبدي يتقرب إليَّ بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، وإن سألني لأعطينه، ولئن استعاذني لأعيذنه)).(66)

والسنن المندوب إليها باب واسع من أبواب الخير، ومنه التنفل في العبادات بالصوم في غير رمضان، والصلوات - غير الصلوات الخمس - والإحسان إلى الفقراء والأيتام والمحتاجين في غير الزكاة الواجبة، وزيارة المريض، وكثرة الاستغفار، وذكر الله، والتطوع في المشاركة في الخدمات العامة.

والثالثة هي المباحات التي لا يترتب عليها جزاء أخروي بالثواب أو العقاب، كالطعام والشراب والنوم والبيع والشراء والزواج، ولكن هذه وأمثالها من السلوكيات اليومية تصبح عبادة مأجورة إذا اقترنت بنية صالحة واستحضار قلبي مشروع ، فترتفع العادات إلى منزلة العبادات، ويوضح ذلك قول النبي r عن إتيان الرجل أهله بنية الاستعفاف عن الحرام: ((وفي بضع أحدكم صدقة)) قالوا: يا رسول الله أيأتي أحدنا شهوته ويكون له فيها أجر؟ قال: أرأيتم لو وضعها في حرام أكان عليه فيها وزر، فكذلك إذا وضعها في الحلال كان له أجراً)).(67)

والرابعة هي المكروهات التي لا يليق بالمسلم التلبس فيها، لكنها مما يعفو الله عنه ولا يحاسب عليه، ومن ذلك التشاغل عن ذكر الله بالإغراق في الدنيا، والإكثار من المباحات، والتهاون في الآداب الإسلامية للطعام والشراب والحديث والزيارة.

والخامسة هي المحرمات التي يثيب الله على تركها ويعاقب على فعلها، كالشرك والفواحش والمعاملات القائمة على الربا والغش والاحتيال والاستغلال ?قل إنما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن والإثم والبغي بغير الحق وأن تشركوا بالله ما لم ينزل به سلطاناً وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون ? (الأعراف: 33).

? قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم ألا تشركوا به شيئاً وبالوالدين إحساناً ولا تقتلوا أولادكم من إملاقٍ نحن نرزقكم وإياهم ولا تقربوا الفواحش ما ظهر منها وما بطن ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق ذلكم وصاكم به لعلكم تعقلون ^ ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن حتى يبلغ أشده وأوفوا الكيل والميزان بالقسط لا نكلف نفساً إلا وسعها وإذا قلتم فاعدلوا ولو كان ذا قربى وبعهد الله أوفوا ذلكم وصاكم به لعلكم تذكرون ? (الأنعام: 151-152).

خصائص الشريعة الإسلامية ومقاصدها

إن المفهوم الإسلامي للعبادة قد تجسد في الشريعة الإسلامية العظيمة، التي أمر الله المؤمنين بتحقيقها في الأرض وجعلها دستوراً لحياتهم الاجتماعية والأخلاقية والاقتصادية والسياسية ?ثم جعلناك على شريعةٍ من الأمر فاتبعها ولا تتبع أهواء الذين لا يعلمون? (الجاثية: 18)، فالشريعة هي ما شرعه الله لعباده من الدين وأحكامه المختلفة التي شرعها لمنفعة المؤمنين جميعاً إلى قيام الساعة.

أولاً: خصائص الشريعة الإسلامية

وتمتاز الشريعة الإسلامية عن غيرها من الشرائع التي قامت وتقوم إلى قيام الساعة بخصائص، أهمها:

أ. ربانية المصدر والغاية

أول خصيصة للشريعة الإسلامية أنها ربانية المصدر والغاية، فهي من الله ، وتهدف إلى بلوغ رضاه، فالمسلم يستمد شرائعه المختلفة من مصدرين أصيلين، هما القرآن الكريم الذي أوحاه الله بحروفه، ثم السنة النبوية، وهي أقوال النبي r وأفعاله وتقريراته التي أمر الله بالتأسي بها بقوله تعالى: ? وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا ? (الحشر: 7)، فالنبي يحمل رسالة الله إلى الناس، وما يقرره بقوله وفعله إنما هو بوحي الله وأمره ? وما ينطق عن الهوى ^ إن هو إلا وحي يوحى ? (النجم: 3-4).

ومن هذين المصدرين وتأسيساً على قواعدهما اشتق العلماء عدداً من المصادر الفرعية للشريعة كالإجماع والقياس والاستصحاب والاستحسان والعرف وغيرها.

والخروج عن هذه المصادر إلى أحكام البشر إنما هو تحاكم إلى الهوى ومشاركة لغير الله في إحدى خصائصه تبارك وتعالى ? ألا له الخلق والأمر تبارك الله رب العالمين? (الأعراف: 54)، فكما خلق وحده فإنه يشرع وحده.

ومشاركة غيره له في التشريع اعتداء على حق الله بالتشريع، وهو استعباد لخلق الله، لذلك لما دخل عدي بن حاتم على النبي r سمعه يقرأ قوله تعالى: ?اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله? (التوبة: 31)، فاستغرب عدي ، حتى فسَّره النبي بقوله: ((أما إنهم لم يكونوا يعبدونهم، ولكنهم كانوا إذا أحلوا لهم شيئاً استحلوه، وإذا حرموا عليهم شيئاً حرموه)) (68)، فعبادتهم لأحبارهم، ليس سجودهم وركوعهم لهم، بل الإذعان لما أحدثوه في الدين في مجامعهم التي جعلت من رجال الدين مشرعين مع الله.

وتهدف الشريعة إلى تحقيق رضا الله الذي شرَّع بحكمته البالغة للإنسانية ما يسعدها في دنياها وأخراها ?كتابٌ أنزلناه إليك لتخرج الناس من الظلمات إلى النور بإذن ربهم إلى صراط العزيز الحميد? (إبراهيم: 1)، وشريعته خير كلها، لأنها صدرت عن الله العليم بما يصلح أحوالنا وبما يناسب فطرنا وتكويننا ? ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير? (الملك: 14)، وهي بهذه المثابة تسمو على غيرها من الشرائع البشرية التي يتلبسها قصور الإنسان وجهله وما يكتنف تشريعه من الهوى الذي يجعل المشرِّع البشري يميل بتشريعاته إلى حراسة مصالحه الشخصية والفئوية، كما هو الحال في تشريعات النظم العلمانية.

أما حين تكون الشريعة إلهية؛ فإنها لا تحابي في أحكامها جنساً أو عرقاً أو لوناً، فالجميع عبيد لله متساوون أمام أحكامه ? وأنزلنا إليك الكتاب بالحق مصدقاً لما بين يديه من الكتاب ومهيمناً عليه فاحكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم عما جاءك من الحق لكل جعلنا منكم شرعةً ومنهاجاً ولو شاء الله لجعلكم أمةً واحدةً ولكن ليبلوكم في ما آتاكم فاستبقوا الخيرات إلى الله مرجعكم جميعاً فينبئكم بما كنتم فيه تختلفون ^ وأن احكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم واحذرهم أن يفتنوك عن بعض ما أنزل الله إليك فإن تولوا فاعلم أنما يريد الله أن يصيبهم ببعض ذنوبهم وإن كثيراً من الناس لفاسقون ^ أفحكم الجاهلية يبغون ومن أحسن من الله حكماً لقومٍ يوقنون? (المائدة: 48-50).

إن كون هذه الشريعة من الله يعطيها هيبة وسلطاناً في النفوس والضمائر لا تجده في قانون ما، فالناس منقادون إليها بسلطة الإيمان الذي يملأ قلوبهم، منقادون إليها ظاهراً وباطناً، سراً وعلانية، يرقبون في ذلك كله جزاء الله الذي لا يعزب عنه شيء في الأرض ولا في السماء.

وتتميز الشريعة في مسألة الجزاء عن غيرها من القوانين في أنها القانون الوحيد الذي يجازي في الدنيا والآخرة، فالمؤمن يلتزم حدودها، طمعاً في سعادة الدنيا التي يعيشها في جنبات الطاعة والفضيلة، ثم هو موعود بحسن الجزاء في الآخرة، بالجنة التي أعدها الله للأتقياء من عباده، فلأجلهما معاً يمتثل المؤمن قانون الشريعة ويلتزم به.

وللتعرف على أهمية هذه الخصيصة نذكر أن أمريكا أدركت مضار الخمر الصحية والاجتماعية والاقتصادية، وعزمت على تحريمه، وأصدرت تشريعاً بذلك، ثم بذلت الملايين لتنفيذ هذا القانون، وبعد سنوات من النفير في الأمن والمحاكم ، وبعد سجن الألوف من المدمنين عادت أمريكا إلى إباحة الخمر، مع يقينها بما فيه من الفساد، لكنها عجزت وعجز قانونها البشري أن يجد له بين الناس قبولاً.

وفي مقابله فإن الإسلام حين حرم الخمر، لم يستعن بشرطة أو جنود أو محاكم، ولم يجد عنتاً ولا مشقة في جعل المجتمع المسلم أطهر المجتمعات الإنسانية، بابتعاده عن المسكرات بأنواعها، إن طهارة المجتمع من هذه الآفة لم يتطلب سوى آية أنزلها الله في تحريمه، وهي قوله: ?يا أيها الذين آمنوا إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجسٌ من عمل الشيطان فاجتنبوه لعلكم تفلحون? (المائدة: 90).

فالتزم أصحاب النبي r بذلك، بل وتساءلوا عن مصير إخوانهم ممن شرب الخمر ومات قبل تحريمها، يقول أنس بن مالك: كنتُ ساقي القوم في منزل أبي طلحة، فنزل تحريم الخمر، فأمر منادياً فنادى، فقال أبو طلحة لأنس: اخرج فانظر ما هذا الصوت؟ قال أنس: فخرجتُ، فقلت: هذا مناد ينادي: ألا إن الخمر قد حرمت. فقال لي: اذهب فأهرقها.

قال أنس: فجرتْ في سِكك المدينة.

فقال بعض القوم: قُتِل قوم وهي في بطونهم؟ فأنزل الله: ? ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح فيما طعموا إذا ما اتقوا وآمنوا وعملوا الصالحات ثم اتقوا وآمنوا ثم اتقوا وأحسنوا والله يحب المحسنين ? (المائدة: 93)(69)، أي لن يحاسبوا عن شربها قبل التحريم لأنه لا عقوبة إلا بتشريع.

ب. العدل والمساواة

العدل اسم من أسماء الله تعالى، وهو صفة لازمة للرب في أوامره وتشريعاته وجزائه، ومظاهر عدل الله في شرائعه كثيرة، من أولها أنه تعالى لا يحاسب الإنسان على ما لا يقدر عليه، بل لم يكلفه أصلاً بما يعجزه ? لا يكلف الله نفساً إلا وسعها لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا ربنا ولا تحمل علينا إصراً كما حملته على الذين من قبلنا ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به ? (البقرة: 286)، فشرائع الله مبناها على اليسر والسهولة ? يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر ? (البقرة: 185) ?ما يريد الله ليجعل عليكم من حرجٍ ولكن يريد ليطهركم وليتم نعمته عليكم لعلكم تشكرون? (المائدة: 6)، والنبي r يقول: ((أحب الدين إلى الله الحنيفيةُ السمحةُ)).(70)

ومن عدله تبارك وتعالى أنه رفع التكليف بأحكام الشريعة عن الأطفال الذين لم يحوزوا كمال العقل الذي يجيز محاسبتهم، كما أسقطه عمن حُرِم نعمة العقل ابتداءً ، يقول r: ((رفع القلم عن ثلاثة: عن النائم حتى يستيقظ، وعن الصبي حتى يشبَّ، وعن المعتوه حتى يعقل))(71)، كما يعفو الله عمن وقع في الخطأ من غير إرادته لذلك أو من وقع فيه مكرهاً أو ناسياً تحريمه، فقد قال r: ((إن الله تجاوز عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه)).(72)

وإذا كانت الشريعة لا تحاسب من هو دون التكليف على خطئه؛ فإنه يعلم أنها - من باب أولى - لا تحاسبه على ذنب غيره، فالمرء مسؤول عن عمله الشخصي ? قل أغير الله أبغي رباً وهو رب كل شيءٍ ولا تكسب كل نفسٍ إلا عليها ولا تزر وازرةٌ وزر أخرى ثم إلى ربكم مرجعكم فينبئكم بما كنتم فيه تختلفون? (الأنعام: 164).

وعليه فالإسلام لا يقر بالذنب الأصلي المتوارث عن الأبوين [آدم وحواء]، فالأبوان تحملا وزريهما بنفسيهما، واستغفرا الله منه، فتاب عليهما، ولا علاقة لذريتهما بذنبهما من قريب أو بعيد، بل كلٌ مسؤول عن عمله ?فتلقى آدم من ربه كلماتٍ فتاب عليه إنه هو التواب الرحيم ^ قلنا اهبطوا منها جميعاً فإما يأتينكم مني هدًى فمن تبع هداي فلا خوفٌ عليهم ولا هم يحزنون ^ والذين كفروا وكذبوا بآياتنا أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون? (البقرة: 37-39).

وأيضاً فإن شرائع الله تبارك وتعالى راعت - لعدالتها - الفروق بين الذكر والأنثى، فلم تكلف المرأة بما لا يلائم طبيعتها كالجهاد والخروج من المنزل للتكسب والإنفاق، وغيرهما مما لا يتناسب وأنوثتها أو يخالف رونق حياتها وصفاء أحاسيسها.

ولم تميز الشريعة العادلة في أحكامها العامة بين ملك وسوقة، ولا بين أبيض وأسود، ولا بين غني وفقير، فالجميع متساوون أمام شرائع الله، فقد خطب النبي r في ما يربو على مائة ألف من أصحابه، فقال: ((يا أيها الناس، ألا إن ربكم واحد، وإن أباكم واحد، ألا لا فضل لعربي على أعجمي، ولا لعجمي على عربي، ولا لأحمر على أسود، ولا أسود على أحمر؛ إلا بالتقوى))(73)، فالخيرية مبناها على العبادة والاستقامة، لا الحسب والجاه، ?يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكرٍ وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم إن الله عليمٌ خبيرٌ? (الحجرات: 13).

وقد طبَّق النبي r بنفسه عدل الإسلام وقِيَمه حين رفض التمييز في إقامة الشرائع بين شريف ووضيع، فقد حكم r على سارقة من أشراف قريش بقطع يدها الخؤون، فاستشفع الناس لها، طلبوا من أسامة بن زيد - بما له من مكانة عند النبي r - أن يشفع لها عنده، فقال له r: ((أتشفع في حد من حدود الله)).

ثم قام فخطب الناس، فقال: ((إنما أهلك الذين قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه، وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد، وايْمُ الله لو أن فاطمة بنت محمد سرقتْ [أي ابنته r]؛ لقطعتُ يدها)).(74)

وهكذا فالعدل سمة شريعة الله الذي أمر به وشرعه بين خلقه ?إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكم تذكرون? (النحل: 90).

ج. الشمول والتوازن

لما كان الإسلام رسالة الله الخاتمة وكلمته الباقية إلى قيام الساعة، فإن الله تلطف فيه على الإنسانية بكل ما يصلح شؤونها في دار معاشها ثم في دار جزائها، فكملت أنعم الله بكمال تشريعاته ?اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام ديناً? (المائدة: 3).

والإسلام بنيان شمولي يغطي مناحي الحياة المختلفة، فهو دين عبادة، وهو أيضاً منظومة من الشرائع الأخلاقية والاجتماعية، والاقتصادية والسياسية التي تحقق سعادة الفرد والمجتمع في الدنيا ثم الآخرة.

إن الإسلام ينظم علاقات الإنسان المختلفة من لدن ميلاده إلى وفاته، وهو يحرس حقوقه حتى فيما قبل الميلاد وما بعد الوفاة، وأما ما بينهما فإنه يتناول بأحكامه تفاصيل سلوكه الشخصي بما يتضمنه من عادات وآداب، وهو يرشِّد أيضاً علاقة الإنسان مع أسرته ومجتمعه، لا بل يتناول حاله مع الكون كله بما فيه من حيوان وجماد ?وما من دابةٍ في الأرض ولا طائرٍ يطير بجناحيه إلا أممٌ أمثالكم ما فرطنا في الكتاب من شيءٍ? (الأنعام: 38).

أما على الصعيد الجماعي فإن شرائع الإسلام تنظم المجتمع وتضبط حقوق من فيه وواجباتهم، وتنظم علاقة الدولة والأمة المسلمة مع القريب من الناس والبعيد ?ونزلنا عليك الكتاب تبياناً لكل شيءٍ وهدًى ورحمةً وبشرى للمسلمين? (النحل: 89).

وتلبي هذه الشرائع حاجات الإنسان المختلفة، فهي تعنى بجسده، ولا تهمل روحه، تبتغي الآخرة، ولا تفرط في الدنيا، تربط المجتمع ولا تغفل مصالحه، وهي في نفس الوقت تحقق ذاتية الفرد وتحرس مصالحه وحقوقه، توازن عجيب، لا إفراط فيه ولا تفريط، وأي عجب ، فذلك تقدير اللطيف الخبير.

إن هذه الثنائيات عبرت عنها نصوص عدة في القرآن والسنة، منها قوله تعالى: ?وابتغ فيما آتاك الله الدار الآخرة ولا تنس نصيبك من الدنيا وأحسن كما أحسن الله إليك ولا تبغ الفساد في الأرض إن الله لا يحب المفسدين? (القصص: 77) فلئن كانت الآخرة هي الغاية والمرتجى؛ فإن الدنيا هي الوسيلة والمعاش، ومثله قوله تعالى في وصف المؤمنين فهم ينفقون أموالهم من غير إسراف يبدد المال ولا تقتير يمنع النفع: ?والذين إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا وكان بين ذلك قواماً? (الفرقان: 67)، وقال الله لنبيه r: ?ولا تجعل يدك مغلولةً إلى عنقك ولا تبسطها كل البسط فتقعد ملوماً محسوراً? (الإسراء: 29).

وقال r موجهاً عثمان بن مظعون لما رغِب في ابتغاء سمو الروح بتعذيب الجسد، فأراد هجر النوم والنساء والدوام على الصيام: ((يا عثمان أرغبتَ عن سنتي؟.. فإني أنام وأصلي، وأصوم وأفطر، وأنكح النساء، فاتق الله يا عثمان، فإن لأهلك عليك حقاً، وإن لضيفك عليك حقاً، وإن لنفسك عليك حقاً، فصم وأفطر، وصل ونم)).(75)

وفي الجمع بين الدنيا والآخرة يقول الله تعالى: ?يا أيها الذين آمنوا إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة فاسعوا إلى ذكر الله وذروا البيع ذلكم خيرٌ لكم إن كنتم تعلمون ^ فإذا قضيت الصلاة فانتشروا في الأرض وابتغوا من فضل الله واذكروا الله كثيراً لعلكم تفلحون? (الجمعة: 9-10).

ولما أراد أناس من أصحابه الإعراض عن الدنيا وملذاتها وهجر النساء والترهب، قال r: ((إنما هلك من كان قبلكم بالتشديد، شددوا على أنفسهم، فشدد الله عليهم، فأولئك في الديارات والصوامع، فاعبدوا الله ولا تشركوا به، وحجوا واعتمروا، واستقيموا يستقم بكم))، ونزلت فيهم الآية: ?يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين? (المائدة: 87).(76)

د. المثالية الواقعية

كثيراً ما تجنح الشرائع التي يشرعها الإنسان نحو المثالية التي لا تتحقق، فجمهورية أفلاطون الفاضلة لم تجاوز عقله وقلمه، وفي مقابله قد يخضع البعض للواقع الجاثم على المجتمع ، فيعمد إلى تكييف نفسه ومبادئه مع الحالة الراهنة اعترافاً بوطأة هذا الواقع وإذعاناً له، فحين عجزت مجتمعات الغرب عن منع الخمر أو الزنا أو الفواحش لم تجد ما يمنعها من الاعتراف بهذا الواقع وتقنينه، ليصبح شرعة مباحة عند الناس؛ تفني الجنس البشري وتهدد وجوده بما تحمله تلك الآثام من أمراض وبلايا اجتماعية، ليتحقق ما أخبر به r بقوله: ((لم تظهر الفاحشة في قوم قط حتى يعلنوا بها إلا فشا فيهم الطاعون والأوجاع التي لم تكن مضت في أسلافهم الذين مضوا)).(77)

وأما الإسلام فإنه دين واقعي مثالي، فواقعيته مبنية على أنه سلوك إنساني يعيشه الناس يومياً، وأما مثاليته فيحققها أنه يهدف إلى إصلاح المجتمع، ولا يرضى بالتعايش والمهادنة مع الخطأ والرذيلة.

واقعيته يوضحها تلاؤم تشريعاته مع فطرة الإنسان وتحقيقها لحاجاته ورغباته التي علمها الله فشرع ما يناسبها ? ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير? (الملك: 14)، فلم يأمر الإسلام بالتعفف عن النكاح، ولا منع من استحالت عليهم الحياة الزوجية من الافتراق بالطلاق ?وإن يتفرقا يغن الله كلا من سعته وكان الله واسعاً حكيماً? (النساء: 130).

ولم يأمر الإسلام بإعطاء الخد الأيسر لمن ضرب الخد الأيمن، بل شرع ما يرد الإساءة ويردع الجاني ويمنعه من التمادي، ولكنه رغب أيضاً في العفو والمسامحة والصفح، قال تعالى: ? وجزاء سيئةٍ سيئةٌ مثلها فمن عفا وأصلح فأجره على الله إنه لا يحب الظالمين ^ ولمن انتصر بعد ظلمه فأولئك ما عليهم من سبيلٍ? (الشورى: 40-41).

وتسطع هذه المزاوجة بين الواقع والمثال في تدرج الإسلام في معالجة الأمراض والآثام المستفحلة في المجتمع، فعندما بُعث النبي r في أمة تشرب الخمر شُربَها للماء؛ تدرج في تحريم الخمر، فأشار أولاً إلى ما فيها من السوء، ليهجرها أصحاب العزائم والأحلام: ?يسألونك عن الخمر والميسر قل فيهما إثمٌ كبيرٌ ومنافع للناس وإثمهما أكبر من نفعهما ويسألونك ماذا ينفقون قل العفو كذلك يبين الله لكم الآيات لعلكم تتفكرون? (البقرة: 219)، فالخمر فيها منافع محدودة (كالتجارة) لكن ما فيها من الإثم والضرر أعظم.

ثم في مرحلة أخرى منع المسلمين من تناولها سائر النهار، لأنها تشغل عن الصلاة وتفسدها، فتضايق عليهم وقت شربها ? يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون? (النساء: 43).

لما نزلت هذه الآية أحس الصحابة أن الله يشدد عليهم في الخمر، فدعا عمر t الله فقال: اللهم بيِّن لنا في الخمر بيان شفاء، فنزل قوله تعالى: ?يا أيها الذين آمنوا إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجسٌ من عمل الشيطان فاجتنبوه لعلكم تفلحون ^ إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء في الخمر والميسر ويصدكم عن ذكر الله وعن الصلاة فهل أنتم منتهون? (المائدة: 90-91)، فدُعي عمر، فقُرئت عليه، فقال: (انتهينا انتهينا). (78)

تقول أم المؤمنين عائشة: (إنما نزل أول ما نزل منه [أي من القرآن] سورة من المفصل فيها ذكر الجنة والنار، حتى إذا ثاب الناس إلى الإسلام؛ نزل الحلال والحرام، ولو نزل أول شيء: لا تشربوا الخمر. لقالوا: لا ندع الخمر أبداً، ولو نزل: لا تزنوا. لقالوا: لا ندع الزنا أبداً).(79)

لهذا ولغيره يدعو المستشرق الشهير جوزيف شاخت المحاضر في الدراسات الإسلامية في جامعتي أكسفورد وليدن في كتابه "تراث الإسلام" إلى دراسة الشريعة الإسلامية، فيقول: "من أهم ما أورثه الإسلام للعالم المتحضّر قانونه الديني الذي يسمى (بالشريعة)، والشريعة الإسلامية تختلف اختلافاً واضحاً عن جميع أشكال القانون إلى حدّ أن دراستها أمر لا غنى عنه؛ لكي نقدر المدى الكامل للأمور القانونية تقديراً كافياً .. إن الشريعة الإسلامية شيء فريد في بابه، وهي جملة الأوامر الإلهية التي تنظم حياة كل مسلم من جميع وجوهها، وهي تشتمل على أحكام خاصة بالعبادات والشعائر الدينية كما تشتمل على قواعد سياسية وقانونية.."(80)

ثانياً : مقاصد الشريعة الإسلامية

وتهدف الشرائع الإسلامية في جملتها إلى تحقيق ما يصلح أحوال الإنسان في الدنيا ويسعده في الآخرة، وفق قاعدة درء المفاسد عنه وجلب المصالح له، فما تأمر الشريعة بأمر إلا وفيه خير للإنسان، وما حرم فيها من شيء إلا وفيه ضرر عليه ?ويسألونك عن المحيض قل هو أذى فاعتزلوا النساء في المحيض ولا تقربوهن حتى يطهرن فإذا تطهرن فأتوهن من حيث أمركم الله إن الله يحب التوابين ويحب المتطهرين? (البقرة: 222).

والشريعة جاءت تفصيلاتها لحفظ مقاصد خمسة (الدين والنفس والعقل والنسل والمال)، وهي في حقيقتها أهم حقوق الإنسان ومصالحه في هذه الحياة:

أ. حفظ الدين

لما كان الدين المقوِّم الأعظم الذي يهيمن على مجالات الحياة الإنسانية كان من الطبيعي أن تسعى شرائع الإسلام إلى حفظه ، باعتباره حقاً للإنسان، بل هو أغلى الحقوق وأهمها، وذلك بتشريع كل ما يساعد على حفظه والنهي عن كل ما يضر به ويضعفه أو يقضي عليه.

فقد حث القرآن على عبادات كثيرة تثبت الإيمان وتحرسه في صدور المؤمنين، بعضها ذهني فكري كالتفكر والتدبر في خلق الله للاستدلال على عظمة الخالق، وبعضها ذهني بدني كالصلاة، أو بدني الصيام، أو مالي كالزكاة والصدقة، أو ذهني مالي بدني كالحج.

ولحراسة الإيمان والدين حرَّم الله الشرك اعتقاداً وعملاً ، كما حرَّم ما يفضي إليه كالغلو بالأنبياء والصالحين، واعتقاد وجود وسطاء بين الله وعبيده، واعتقاد النفع والضر لغير الله.

كما أوجب الله على المجتمع والدولة حماية الدين وتسهيل سبل التدين والتشجيع عليه، وكذلك فإن من الواجب عليها الذود عنه ومنع سبل الغواية والإغراء بالفسق والعصيان والكفر، بالأخذ على يد المضلين المفسدين، وتطبيق العقوبات الشرعية على المرتدين.

ب. حفظ النفس الإنسانية

الحياة الإنسانية هبة الله للإنسان، وليس لأحد أن يعتدي على هذا الحق، ولا الإنسان نفسُه، فالله خلق الإنسان وكرمه، ليحقق واجب الاستخلاف في الأرض وعمارتها، وليبتليه ويظهر مدى تحقيقه العبودية لله رب العالمين.

ولأجل ذلك صان الإسلام الوجود الإنساني بما شرعه من شرائع تكفله وتحفظه، فأوجب على المجتمع رعاية الضعيف وتأمين ضرورياته من سكن وطعام وشراب ولباس، وغيرها من ضروريات الحياة، وشرع في تأمين ذلك الزكوات الواجبة والصدقات المندوبة التي تندرج ضمن منظومة واسعة من شرائع التعاون على البر والتقوى بين أفراد المجتمع ومؤسساته، بغية تحقيق التكافل الاجتماعي داخل المجتمع.

وكفل الإسلام الحياة الكريمة للإنسان، فحرم إهانته وإيذاءه ?والذين يؤذون المؤمنين والمؤمنات بغير ما اكتسبوا فقد احتملوا بهتاناً وإثماً مبيناً? (الأحزاب: 58).

واعتبر الإسلام الاعتداء على النفس الإنسانية من أقبح الجرائم، وعدَّه من الموبقات السبع التي تفسد الدين والدنيا، فقد قال r محذراً منها: ((اجتنبوا السبع الموبقات)) قالوا: يا رسول الله وما هن؟ قال: ((الشرك بالله، والسحر، وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق، وأكل الربا، وأكل مال اليتيم، والتولي يوم الزحف، وقذف المحصنات المؤمنات الغافلات)).(81)

ولعظم الاعتداء على النفس الإنسانية جعل الله الاعتداء على نفس واحدة بمثابة الاعتداء على الجنس البشري برمَّته ?من أجل ذلك كتبنا على بني إسرائيل أنه من قتل نفساً بغير نفسٍ أو فسادٍ في الأرض فكأنما قتل الناس جميعاً ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعاً ولقد جاءتهم رسلنا بالبينات ثم إن كثيراً منهم بعد ذلك في الأرض لمسرفون? (المائدة: 32).

وتوالت الآيات تصف المؤمنين بأنهم يجتنبون قتل الأبرياء الذين يسميهم القرآن بـ (النفس التي حرم الله): ?والذين لا يدعون مع الله إلهاً آخر ولا يقتلون النفس التي حرم الله إلا بالحق ولا يزنون ومن يفعل ذلك يلق أثاماً? (الفرقان: 68).

تتهدد الآيات من يعتدي على الأبرياء، وتعطي لولي المظلوم حق المطالبة بالقصاص العادل من خصمه ?ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق ومن قتل مظلوماً فقد جعلنا لوليه سلطاناً فلا يسرف في القتل إنه كان منصوراً? (الإسراء: 33).

وسلطان القصاص العادل هو أحد أهم الضمانات التي تمنع تفشي الجريمة، فيرعوي المجرم عن عتوه؛ ليقينه بأن اعتداءه بالقتل على الآخرين مستوجب إزهاق نفسه، فيأمن الجميع ويستمتع الجميع بحقهم في الحياة ? ولكم في القصاص حياةٌ يا أولي الألباب لعلكم تتقون ? (البقرة: 179).

وصوناً لهذا المبدأ العظيم (حفظ النفس) شرع القرآن الجهاد في سبيل حماية المستضعفين من الاضطهاد والقتل، فقال تعالى: ?وما لكم لا تقاتلون في سبيل الله والمستضعفين من الرجال والنساء والولدان الذين يقولون ربنا أخرجنا من هذه القرية الظالم أهلها واجعل لنا من لدنك ولياً واجعل لنا من لدنك نصيراً ^ الذين آمنوا يقاتلون في سبيل الله والذين كفروا يقاتلون في سبيل الطاغوت فقاتلوا أولياء الشيطان إن كيد الشيطان كان ضعيفاً? (النساء: 75-76).

ولن يفوتنا -أن نذكر هنا -أن أول نفس حرم الله الاعتداء عليها نفس الإنسان التي هي وديعة عنده، وتفريطه فيها بالانتحار أو التساهل في صونها يعرضه لأليم العذاب في الآخرة، فقد قال r: ((من تردى من جبل فقتل نفسه فهو في نار جهنم يتردى فيه خالداً مخلداً فيها أبداً، ومن تحسَّى سُمَّاً فقَتل نفسه؛ فسُمُّه في يده يتحساه في نار جهنم خالداً مخلداً فيها أبداً، ومن قتل نفسه بحديدة فحديدته في يديه يجأ بها في بطنه في نار جهنم خالداً مخلداً فيها أبداً)).(82)

ج. حفظ العقل

العقل أهم خصائص الإنسان التي بموجبها فضّل الله الجنس الإنساني على سائر المخلوقات ?ولقد كرمنا بني آدم وحملناهم في البر والبحر ورزقناهم من الطيبات وفضلناهم على كثيرٍ ممن خلقنا تفضيلاً? (الإسراء: 70).

ويعتبر الإسلام العقل مناط التكليف في سائر المسؤوليات الدينية والدنيوية، إذ به يهتدي الإنسان إلى الحقائق الكبرى التي دعا الله إلى الوصول إليها بالبراهين العقلية، لا بمجرد الإيمان الأعمى : ?أم اتخذوا من دونه آلهة قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين? (الأنبياء: 24)، فالعقل يرشد كل من تدبر في الكون المنظور إلى وجود الله وصفاته ?إن في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات لأولي الألباب? (آل عمران: 190).

ولا يجوز للمرء تغييب العقل عن أداء واجبه في الدلالة على الحق والخير وتبصير الإنسان فيما يصلح له دنياه وأخراه، ولأجل ذلك حرم الله السحر والشعوذة والكهانة وغيرها مما يتلاعب بالعقل ويزدريه ويعطل طاقاته، ولأجل ذلك أيضاً حرم الإسلام الخمر، واعتبرها دنساً شيطانياً وكيداً منه للإنسان، يريد به إفساد علاقة الإنسان بربه بشغله بالخمر عن الصلاة والعبادة، كما يصبو بواسطتها إلى تدمير العلاقات الاجتماعية ?يا أيها الذين آمنوا إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجسٌ من عمل الشيطان فاجتنبوه لعلكم تفلحون ^ إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء في الخمر والميسر ويصدكم عن ذكر الله وعن الصلاة فهل أنتم منتهون? (المائدة: 90-91).

د. حفظ النسل

التناسل وسيلة بقاء النوع الإنساني ، ولأجله ركَّب الله الغريزة في الجنسين، ودعاهما إلى إقامة الأسرة عن طريق الزواج الذي يعتبره الإسلام المحضن الذي يحقق حفظ النسل، ويديم المسيرة الإنسانية السوية.

وقد رغَّب الإسلام في النكاح، ووضع ضوابطه ومتطلباته عبر نظام اجتماعي محكم ينظم العلاقة بين الزوجين خصوصاً، وأبناء الأسرة عموماً.

ويُلزم الإسلام الأبوين بجملة من الواجبات تجاه أبنائهما، منها حسن تربيتهم وتعهدهم بالحنو والرعاية والإنفاق وغيرها من مقتضيات الأبوة والأمومة السليمة.

وحرم الإسلام أشد التحريم الاعتداء على الطفل بوأده أو إجهاضه ?ولا تقتلوا أولادكم خشية إملاقٍ نحن نرزقهم وإياكم إن قتلهم كان خِطئاً كبيراً? (الإسراء: 31).

وصوناً للأسرة ورعاية لأفرادها حرَّم الله الزنا والفواحش عموماً ?ولا تقربوا الزنى إنه كان فاحشةً وساء سبيلاً? (الإسراء: 32)، وحرم أيضاً ما يؤدي إلى هذه الفواحش من اختلاط الرجال بالنساء، كما ألزم المرأة بالحجاب حال بروزها أمام الأجانب درءاً للفتنة، فالمرأة في الإسلام جوهرة مصونة عن العبث والابتذال ?يا أيها النبي قل لأزواجك وبناتك ونساء المؤمنين يدنين عليهن من جلابيبهن ذلك أدنى أن يعرفن فلا يؤذين وكان الله غفوراً رحيماً? (الأحزاب: 59).

هـ. حفظ المال

المال قوام الحياة، والإسلام يعتبر ما يتداوله الناس مالَ الله الذي استخلف عليه الإنسان، وشرع له تكسبه وحيازته من الطرق المشروعة ، كما أمره أن ينفقه ضمن حاجاته وحاجات مجتمعه من غير إسراف ولا تقتير.

وقد حث الإسلام على العمل والإنتاج واكتساب المال بالطرق المشروعة ?هو الذي جعل لكم الأرض ذلولاً فامشوا في مناكبها وكلوا من رزقه وإليه النشور? (الملك: 15)، ورغب r بالعمل واعتبره من القربات إلى الله، فقال: ((ما كسب الرجل كسباً أطيب من عمل يده، وما أنفق الرجل على نفسه وأهله وولده وخادمه فهو صدقة)).(83)

ولما مر رجل على النبي r ؛ رأى أصحاب رسول الله r من جَلَده ونشاطه، فقالوا: يا رسول الله: لو كان هذا في سبيل الله؟، فقال رسول الله r: ((إن كان خرج يسعى على ولده صغاراً فهو في سبيل الله، وإن كان خرج يسعى على أبوين شيخين كبيرين فهو في سبيل الله، وإن كان يسعى على نفسه يعفُّها فهو في سبيل الله، وإن كان خرج رياء ومفاخرة فهو في سبيل الشيطان)).(84)

لكن الكسب نوعان: طيب وخبيث، فالطيب هو الرزق الذي يكتسبه المرء بوسائل الكسب المشروعة كالتجارة والصناعة والزراعة والوظائف العامة والخاصة ?يا أيها الذين آمنوا كلوا من طيبات ما رزقناكم واشكروا لله إن كنتم إياه تعبدون? (البقرة: 172).

وأما الخبيث من الكسب فهو حيازة المال بالطرائق الملتوية كالربا والرشوة والغش والغبن والحيلة أو المتاجرة بالسلع الضارة للإنسانية ?ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل وتدلوا بها إلى الحكام لتأكلوا فريقاً من أموال الناس بالإثم وأنتم تعلمون? (البقرة: 188).

وللإسلام قاعدة جامعة في هذا الشأن ?ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث? (الأعراف: 157)، فكل كسب للمال لا يؤذي صاحبه ولا الآخرين فهو حلال طيب، وكل ما عداه حرام خبيث.

وكذا يوجه الإسلام إلى المصارف الصحيحة للمال، فامتلاك الإنسان للمال لا يسوغ له إنفاقه كيفما اتفق، فالإسراف والتبذير في إنفاق المال، والتقصير في إخراج حقوق الفقراء عمل شيطاني بغيض ?وآت ذا القربى حقه والمسكين وابن السبيل ولا تبذر تبذيراً ^ إن المبذرين كانوا إخوان الشياطين وكان الشيطان لربه كفوراً? (الإسراء: 26-27)، وقال r: ((إن الله حرم عليكم عقوق الأمهات، ووأد البنات، ومنع وهات، وكره لكم: قيل وقال، وكثرة السؤال وإضاعة المال))(85)، فهذا المال عطية الله، وقد استخلفنا عليه لننفقه في الأوجه المشروعة، وأعظمها الصدقة على الفقراء والمساكين ?وآتوهم من مال الله الذي آتاكم? (النور: 33)، ?وأنفقوا مما جعلكم مستخلفين فيه فالذين آمنوا منكم وأنفقوا لهم أجرٌ كبيرٌ[ (الحديد: 7).

وهكذا فهذه الضرورات الخمس التي تمثل أهم حقوق الإنسان في الحياة تدور على حفظها سائر تشريعات الإسلام، فمن التزمها أكرمه الله بالسعادة في الدنيا والنجاة في الآخرة، ومن تنكبها شقي في الدنيا بمقدار ما أعرض عن هدي الله وناموسه العادل والكامل ?فمن اتبع هداي فلا يضل ولا يشقى ^ ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشةً ضنكاً ونحشره يوم القيامة أعمى ^ قال رب لم حشرتني أعمى وقد كنت بصيراً ^ قال كذلك أتتك آياتنا فنسيتها وكذلك اليوم تنسى? (طه: 123-126).

أركان الإيمان

الإيمان هو المرتبة التي يسمو إليها المسلم بعد إسلامه، فيرنو إلى الارتقاء بإسلامه إلى مرتبة الإيمان، فلا يقف في دينه عند عتبة العبادات الظاهرة، بل يترقى في كمالات الإيمان بمقدار ما يتمثل في سلوكه من شُعَبِه التي تشمل الاعتقاد والعبادة والأخلاق، قال r: ((الإيمان بضع وسبعون أو بضع وستون شعبة، فأفضلها قول: لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق، والحياء شعبة من الإيمان)). (86)

وأما أركان الإيمان فهي ستة يوضحها حديث جبريل حين سأل النبي r عن الإيمان فأجاب النبي r: ((أن تؤمن بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، وتؤمن بالقدر خيره وشره)).(87)

وهكذا فأول الإيمان أن ينعقد قلب المسلم على التصديق بهذه المسائل الست، ثم يبرهن بعمله على صحة إيمانه بها، فالإيمان اعتقاد وقول وعمل، ويزيد بالطاعة، وينقص بالمعصية.

ولما كنا قد تحدثنا عن الأولى منها، وهي الإيمان بالله، نشرع بذكر بقية الأركان.

الإيمان بالملائكة

الملائكة مخلوقات نورانية فريدة، خلقها الله من نور، فقد قال r: ((خلقت الملائكة من نور))(88)، وهم جند الله الذين لا يعرف عددهم إلا هو ?وما يعلم جنود ربك إلا هو وما هي إلا ذكرى للبشر? (المدثر: 31).

وبسبب طبيعتهم النورانية اللطيفة فإن الملائكة يقدرون على التشكل في هيئة أجسام كثيفة، كصورة البشر، فقد ظهرت الملائكة بصورة بشرية لإبراهيم ثم لوط ، وكذا ظهر الملاك جبريل لمريم عليها السلام على صورة رجل: ? فأرسلنا إليها روحنا فتمثل لها بشراً سوياً ^ قالت إني أعوذ بالرحمن منك إن كنت تقياً ^ قال إنما أنا رسول ربك لأهب لك غلاماً زكياً? (مريم: 17-19).

وهذه الصورة البشرية في الظهور الملائكي يأنس لها قلب الإنسان، لذا كثيراً ما نزل بها جبريل على النبي r ، فقد سأل الحارث بن هشام رسول الله r: كيف يأتيك الوحي؟ فقال رسول الله r: ((أحياناً يأتيني مثل صلصلة الجرس، وهو أشده علي، فيفصم عني وقد وعيت عنه ما قال، وأحياناً يتمثل لي الملَك رجلاً، فيكلمني فأعي ما يقول)).(89)

والملائكة عباد لله مكرمون مفطورون على عبادة الله بلا كلل ولا فتور، فهم ?يسبحون الليل والنهار لا يفترون? (الأنبياء: 20)، وكذلك فإنهم لا يسأمون من عبادة الله ?يسبحون له بالليل والنهار وهم لا يسئمون? (فصلت: 38).

لقد استحقوا وصف الله لهم بالكرام البررة (عبس: 16)، فهم ?لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون ? (التحريم: 6).

وللملائكة أفعال تختص بالإنسان، منها مرافقة الإنسان في حياته وتسجيل أعماله، والشهادة عليه بما صنعه يوم القيامة ?وإن عليكم لحافظين ^ كراماً كاتبين ^ يعلمون ما تفعلون? (الانفطار: 10-12)، فالملائكة تسجل عليه سائر أقواله وأفعاله: ?إذ يتلقى المتلقيان عن اليمين وعن الشمال قعيد ^ ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد? (سورة ق: 17-18)، ومعرفة المؤمن بمعية الملائكة له أدعى في الحياء منهم أن يسجلوا عليه سيئة وهم الأبرار الذين لا يفترون من عبادة الله.

والملائكة جند الله المنفذون لأوامره وحكمه في أعدائه، فينزلون العقوبة بالمجرمين المستحقين لعذاب الله، كما أرسلهم الله لعذاب قوم هود وقوم صالح وقوم لوط.

ومن وظائف الملائكة قبض الأرواح التي ختم الله آجالها ?وهو القاهر فوق عباده ويرسل عليكم حفظةً حتى إذا جاء أحدكم الموت توفته رسلنا وهم لا يفرطون? (الأنعام: 61)، ?قل يتوفاكم ملك الموت الذي وُكِّل بكم ثم إلى ربكم ترجعون? (السجدة: 11).

والملائكة يحبون ما أحبه الله، فيحبون المؤمنين والاتقياء من عباد الله، ويستغفرون لهم، قال الله تعالى: ?الذين يحملون العرش ومن حوله يسبحون بحمد ربهم ويؤمنون به ويستغفرون للذين آمنوا ربنا وسعت كل شيء رحمةً وعلماً فاغفر للذين تابوا واتبعوا سبيلك وقهم عذاب الجحيم? (غافر: 7).

وقال r: ((فإذا صلى [أي المؤمن] لم تزل الملائكة تصلي عليه ما دام في مصلاه: اللهم صل عليه، اللهم ارحمه)).(90)

ويتواصل استغفار الملائكة ليشمل جميع المؤمنين كما قال الله: ? والملائكة يسبحون بحمد ربهم ويستغفرون لمن في الأرض ألا إن الله هو الغفور الرحيم? (الشورى: 5).

وأما من كفر وعصى فالملائكة تدعو عليه باللعنة ?إن الذين كفروا وماتوا وهم كفارٌ أولئك عليهم لعنة الله والملائكة والناس أجمعين? (البقرة: 161).

فإذا قامت القيامة استقبلت الملائكة المؤمنين في الجنات، وساقت المجرمين والكافرين إلى الدركات، فعن استقبالهم للمؤمنين وتهنئتهم إياهم يقول الله تعالى: ?والملائكة يدخلون عليهم من كل بابٍ ^ سلامٌ عليكم بما صبرتم فنعم عقبى الدار? (الرعد: 23-24)، وأما الكافرون فتعذبهم الملائكة في نار ?وقودها الناس والحجارة عليها ملائكةٌ غلاظٌ شدادٌ لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون? (التحريم:6).

الإيمان بالكتب

ولما كانت وظيفة الرسل حمل الهداية الإلهية إلى البشرية فقد أنزل الله عليهم هديه ووحيه، ليستنقذ به البشرية من ضلالها وتيهها ?كان الناس أمةً واحدةً فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين وأنزل معهم الكتاب بالحق ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه? (البقرة: 213).

وهذه الكتب الإلهية تحمل رسالة الله إلى الإنسان، وتبعاً لذلك فهي تتصف بصفات منزلها، فهي الهدى والنور، وقد وصف الله توراته التي أنزلها على موسى بقوله: ?إنا أنزلنا التوراة فيها هدى ونور? (المائدة: 44)، ومثله قال في وصف الإنجيل الذي أنزله على عيسى عليه السلام: ?وآتيناه الإنجيل فيه هدى ونور ومصدقاً لما بين يديه من التوراة وهدى وموعظةً للمتقين? (المائدة: 46)، وهكذا فالهدى والنور صفة لازمة لكل وحي يوحيه الله إلى نبي من أنبيائه.

والمسلم يؤمن بكل وحي لله امتثالاً لأمر الله وتصديقاً لكلامه: ?يا أيها الذين آمَنوا آمِنوا بالله ورسوله والكتاب الذي نزل على رسوله والكتاب الذي أنزل من قبل ومن يكفر بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر فقد ضل ضلالاً بعيداً? (النساء: 136)، فالكفر بأحد كتب الله هو كفر بها جميعاً.

ويأمر الله نبيه r والمؤمنين به، فيقول: ?قولوا آمنا بالله وما أنزل إلينا وما أنزل إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط وما أوتي موسى وعيسى وما أوتي النبيون من ربهم لا نفرق بين أحد منهم ونحن له مسلمون? (البقرة: 136). (وانظر آل عمران: 84).

وقد أمر الله جل وعلا الأمم السابقة بحفظ ما أنزل الله إليهم من كتاب، كما قال سبحانه: ? إنا أنزلنا التوراة فيها هدى ونورٌ يحكم بها النبيون الذين أسلموا للذين هادوا والربانيون والأحبار بما استحفظوا من كتاب الله وكانوا عليه شهداء? (المائدة: 44)، فأضاعها الأولون، ولم يكونوا أمناء عليها، فصارت نهبة للتحريف والتبديل ، فتعرضت للزيادة، حين أضيف إليها ما لم ينزله الله ?وإن منهم لفريقاً يلوون ألسنتهم بالكتاب لتحسبوه من الكتاب وما هو من الكتاب ويقولون هو من عند الله وما هو من عند الله ويقولون على الله الكذب وهم يعلمون? (آل عمران: 78).

وقد توعد الله بعذابه الذين فعلوا ذلك: ?فويل للذين يكتبون الكتاب بأيديهم ثم يقولون هذا من عند الله ليشتروا به ثمناً قليلاً فويل لهم مما كتبت أيديهم وويل لهم مما يكسبون? (البقرة: 79).

كما تعرضت هذه الكتب للنقصان والضياع المتعمد الذي توعد الله أيضاً فاعله بأليم العذاب فقال: ?إن الذين يكتمون ما أنزل الله من الكتاب ويشترون به ثمناَ قليلاً أولئك ما يأكلون في بطونهم إلا النار ولا يكلمهم الله يوم القيامة ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم? (البقرة: 174).

ومما ضاع من الكتب السابقة؛ الإنجيل(91) الذي أنزله الله على المسيح عيسى ابن مريم عليه السلام ?ومن الذين قالوا إنا نصارى أخذنا ميثاقهم فنسوا حظاً مما ذكروا به? (المائدة: 14).

ولتبيان الحقيقة الضائعة من الكتب السابقة أو المطموسة بالتحريف والتبديل فيها؛ أرسل الله محمداً برسالته الخاتمة، وأعطاه القرآن الذي جعله أيضاً نوراً وهدى ورحمة للناس جميعاً، فدعاهم الله إلى الإيمان به ?يا أهل الكتاب قد جاءكم رسولنا يبين لكم كثيراً مما كنتم تخفون من الكتاب ويعفو عن كثير قد جاءكم من الله نور وكتاب مبين? (المائدة: 15).

وبهذا أصبح القرآن خاتمة وحي الله المصدق لما سبقه والمهيمن عليه بما خصه الله من الحفظ والبيان قال تعالى: ?وأنزلنا إليك الكتاب بالحق مصدقاً لما بين يديه من الكتاب ومهيمناً عليه فاحكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم عما جاءك من الحق لكل جعلنا منكم شرعةً ومنهاجاً? (المائدة: 48).

وتكاملت نعمة الله على عباده بهذا الكتاب الذي سماه الله القرآن العظيم، وبالرسول الذي يبلغ إلى العالمين، فلله في ذلك المِنَّة البالغة ?لقد منَّ الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولاً من أنفسهم يتلوا عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين? (آل عمران: 164).

وحتى تبقى كلمة الله شاهدة على خلقه جيلاً فجيل؛ تكفل الله جل وعلا بحفظ كتابه الأخير ?إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون? (الحجر: 9)، وقال لنبيه r: ?إن علينا جمعه وقرآنه ^ فإذا قرأناه فاتبع قرآنه ^ ثم إن علينا بيانه? (القيامة: 17-19)، وهكذا أضحى القرآنُ الكتابَ الإلهي الوحيد المحفوظ بحفظ الله له ?وإنه لكتابٌ عزيزٌ ^ لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيلٌ من حكيمٍ حميدٍ? (فصلت: 41-42).

وحتى يحفظ الله كتابه يسَّره للحفظ، وأنزله في أمة أمية لا تقرأ ولا تكتب، وإنما تعتمد الحفظ وسيلة للمحافظة على تراثها وتاريخها وأشعارها وأنسابها ?ولقد يسرنا القرآن للذكر فهل من مدكر? (القمر: 17)، وأنزله منجماً مفرقاً على مدى ثلاث وعشرين سنة، ليسهل حفظه ومدارسته على النبي r وأصحابه.

وقد حفظ النبي r القرآن، وتعهده الله بمدارسته مع جبريل عليه السلام من كل عام في شهر رمضان، يقول ابن عباس: (كان رسول الله r أجود الناس، وكان أجود ما يكون في رمضان حين يلقاه جبريل، وكان يلقاه في كل ليلة من رمضان، فيدارسه القرآن فلرسول الله أجود بالخير من الريح المرسلة). (92)

ويخبرنا القرآن عن حرص النبي r على حفظ النص القرآني، فقد كان يردده حال سماعه له من جبريل عليه السلام، خشية أن ينسى بعضاً منه ، فطمأن الله روعه، وأعلمه أن القرآن محفوظ بحفظ الله: ?ولا تعجل بالقرآن من قبل أن يقضى إليك وحيه وقل رب زدني علماً? (طه: 114)، وقال له: ?لا تحرك به لسانك لتعجل به ^ إن علينا جمعه وقرآنه? (القيامة: 16-17).

وقد حرص النبي r على تعليم أصحابه القرآن، وكانوا يتعاهدون به من أسلم حديثاً، فيبادرون إلى تعليمه ما نزل من القرآن، يقول عبادة بن الصامت: (كان رسول الله يُشغَل، فإذا قدم رجل مهاجر على رسول الله r دفعه إلى رجل منا يعلمه القرآن).(93)

وكان الصحابة يتابعون باهتمام بالغ يومياً ما ينزل من القرآن، يقول عمر بن الخطاب t : كنت أنا وجارٌ لي من الأنصار في بني أمية بن زيد -وهي من عوالي المدينة -وكنا نتناوبُ النزولَ على رسول الله r ينزل يوماً، وأنزل يوماً ، فإذا نزلتُ جئتهُ بخبر ذلك اليوم من الوحي وغيره، وإذا نزل فعلَ مثل ذلك.(94)

وحث النبي r أصحابه على تعلم القرآن، فقال مستحثاً لهممهم: ((خيركم من تعلم القرآن وعلمه))(95)، وأخبرهم أنه ((يقال لصاحب القرآن إذا دخل الجنة: اقرأ واصعد، فيقرأ، ويصعد بكل آية درجة، حتى يقرأ آخر شيء معه)) (96)، فقراءة القرآن وحفظه من أفضل العبادات، و((الماهر بالقرآن مع السفرة الكرام البررة، والذي يقرأ القرآن ويتتعتع فيه ، وهو عليه شاق؛ له أجران)).(97)

وقد سارع الصحابة إلى حفظ سور القرآن ومدارستها وتعلم ما فيها من معان وأحكام، فكان منهم مئات القراء، وقد أتم بعضهم حفظ كامل القرآن في عهد النبي r، فقد سأل قتادة خادمَ النبي r أنس بن مالك: من جمع القرآن على عهد النبي r؟ فقال أنس: (أربعة، كلهم من الأنصار: أبي بن كعب، ومعاذ بن جبل، وزيد بن ثابت، وأبو زيد). (98)

وممن حفظه من نساء الصحابة أم ورقة بنت عبد الله بن الحارث الأنصاري، فأمرها النبي r أن تؤم أهل دارها، وكان لها مؤذن، فكانت تؤم أهل دارها. (99)

وقد نقل القرآن الكريم بحفظ الجموع عن الجموع في كل عصر، وكان القرآن كما وصفه الله لرسوله، حين قال له في الحديث القدسي الذي يرويه النبي عن ربه تبارك وتعالى: ((ومنزل عليك كتاباً لا يغسله الماء، تقرؤه نائماً ويقظان)).(100)

يقول ابن الجزري: "الاعتماد في نقل القرآن على حفظ القلوب والصدور، لا على حفظ المصاحف والكتب، وهذه أشرف خصيصة من الله تعالى لهذه الأمة .. فأخبر تعالى أن القرآن لا يحتاج في حفظه إلى صحيفة تغسل بالماء، بل يقرؤه في كل حال، كما جاء في صفة أمته: ((أناجيلهم في صدورهم))".(101)

وحتى نقف على كثرة هؤلاء القراء من الصحابة يكفينا أن نذكر أنه قد قتل منهم في يوم بئر معونة سبعون، يقول أنس: (جاء ناس إلى النبي r فقالوا: ابعث معنا رجالاً يعلمونا القرآن والسنة. فبعث إليهم سبعين رجلاً من الأنصار يقال لهم القراء، يقرؤون القرآن، ويتدارسون بالليل يتعلمون .. فبعثهم النبي إليهم، فعرضوا لهم، فقتلوهم).(102)

وبعد وفاة النبي r قتل في وقعة اليمامة الكثير من القراء، حتى خشي عمر من ضياع شيء من القرآن، فقال لخليفة المسلمين أبي بكر: (إن القتل قد استحر [أي كثُر] يوم اليمامة بقراء القرآن، وإني أخشى أن يستحر القتل بالقراء بالمواطن).(103) فكان هذا سبباً في مبادرة الصحابة إلى جمع القرآن في مصحف واحد مكتوب في عهد الخليفة أبي بكر الصديق.

وجمع القرآن في عهد الصديق إنما كان جمعاً للمكتوب بين يدي النبي r الذي حرص على جمع القرآن في عهده ليتكامل حفظ السطور إلى حفظ الصدور.

يقول عثمان بن عفان: إن النبي r كان إذا نزلت عليه الآيات يدعو بعض من كان يكتب له، ويقول له: ((ضع هذه الآية في السورة التي يذكر فيها كذا وكذا)).(104)

وكان الصحابة يكتبون كل ما نزل، بل ويسارعون إليه مهما كثر، ومثاله مسارعتهم إلى كتابة سورة الأنعام، وهي من أطول سور القرآن، نزلت دفعة واحدة في مكة زمن الاضطهاد، يقول ابن عباس t: ((نزلت جملة واحدة، نزلت ليلاً، وكتبوها من ليلتهم غير ست آيات؛ فإنها نزلت في المدينة)).(105)

وقد أولى النبي r المكتوب بين يديه اهتماماً بالغاً، إذ كان يستوثق من دقة المكتوب بين يديه، يقول زيد بن ثابت كاتب الوحي: كنتُ أكتب الوحي عند رسول الله r وهو يملي عليَّ، فإذا فرغت، قال: ((اقرأه))، فأقرأُه، فإن كان فيه سقط أقامه. (106)

وخوفاً من تداخل المكتوب من القرآن مع غيره من كلام النبي r أمر أصحابه، فقال: ((لا تكتبوا عني شيئاً إلا القرآن، فمن كتب عني شيئاً غير القرآن فليمحه)).(107)

ثم لحق النبي r بالرفيق الأعلى قبل أن يجمع هذا المكتوب بين يديه في مصحف واحد، يقول كاتب الوحي زيد بن ثابت: (قبض النبي r، ولم يكن القرآن جمع في شيء). (108)

قال الخطابي: "إنما لم يجمع r القرآن في المصحف لما كان يترقبه من ورود ناسخ لبعض أحكامه أو تلاوته، فلما انقضى نزوله بوفاته؛ ألهمَ الله الخلفاء الراشدين ذلك وفاء بوعده الصادق بضمان حفظه على هذه الأمة، فكان ابتداء ذلك على يد الصديق بمشورة عمر". (109)

وبعد وفاة النبي r بدأت حروب المرتدين، وكان أشدها معركة اليمامة التي قتل فيها قرابة الألف من أصحاب النبي r، وبينهم كثير من القراء.

فجاء عمر بن الخطاب إلى الخليفة أبي بكر الصديق، يقترح جمع القرآن في مصحف واحد، خشية ضياعه بوفاة المزيد من القراء، ووافق الخليفة على المقترح ، وانتدب لجنة لذلك العمل العظيم برئاسة كاتب الوحي وحافظه الشاب زيد بن ثابت، الذي يروي لنا الخبر بتمامه فيقول: (أرسل إلي أبو بكر مقتلَ أهل اليمامة وعنده عمر، فقال: أبو بكر إن عمر أتاني فقال: إن القتل قد استحر يوم اليمامة بالناس، وإني أخشى أن يستحر القتل بالقراء في المواطن فيذهب كثير من القرآن، إلا أن تجمعوه، وإني لأرى أن تجمع القرآن. قال أبو بكر: قلت لعمر كيف أفعل شيئا لم يفعله رسول الله؟ فقال عمر: هو والله خير. فلم يزل عمر يراجعني فيه حتى شرح الله لذلك صدري، ورأيت الذي رأى عمر.

فقال أبو بكر: إنك رجل شاب عاقل ولا نتهمك، كنت تكتب الوحي لرسول الله ، فتتبع القرآن فاجمعه.

قال زيد: فوالله لو كلفني نقل جبل من الجبال ما كان أثقل عليّ مما أمرني به من جمع القرآن. قلت: كيف تفعلان شيئا لم يفعله النبي؟ فقال أبو بكر: هو والله خير. فلم أزل أراجعه حتى شرح الله صدري للذي شرح الله له صدر أبي بكر وعمر.

فقمت فتتبعت القرآن أجمعه من الرقاع والأكتاف والعسب وصدور الرجال، حتى وجدت من سورة التوبة آيتين مع خزيمة الأنصاري لم أجدهما مع أحد غيره: ?لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم? (التوبة: 128) إلى آخرهما.

وكانت الصحف التي جمع فيها القرآن عند أبي بكر حتى توفاه الله، ثم عند عمر حتى توفاه الله، ثم عند حفصة بنت عمر).(110)

وتبين لنا رواية أخرى المنهج الذي اتبعه زيد في جمعه، إذ لم يعتمد على محفوظاته ومحفوظات الصحابة، بل بحث عن المكتوب بين يدي النبي r ، والموثق بشهادة شاهدين يشهدان بكتابته بين يدي النبي r، يقول يحيى بن عبد الرحمن بن حاطب: (قام عمر بن الخطاب في الناس فقال: من كان تلقى من رسول الله شيئاً من القرآن فليأتنا به، وكانوا كتبوا ذلك في الصحف والألواح والعسب، وكان لا يقبل من أحد شيئاً حتى يشهد شهيدان).(111)

قال أبو شامة المقدسي: (وكان غرضهم ألا يكتب إلا من عين ما كُتب بين يدي النبي، لا من مجرد الحفظ، ولذلك قال في آخر سورة التوبة: (لم أجدها مع غيره) أي لم أجدها مكتوبة مع غيره، لأنه كان لا يكتفي بالحفظ دون الكتابة).(112)

وهكذا أكملت اللجنة عملها بجمع ما كتب بين يدي النبي r موثقاً بشهادة شاهدين على الأقل، يشهدان أنه كتب بين يدي النبي r.

وفي عهد عثمان t أمر الخليفة بتكوين لجنة تعيد نسخ المجموع في عهد أبي بكر، كان عمادها أربعة من حفاظ القرآن (113)، وبدأت اللجنة بنسخ مصحف أبي بكر وكتابته وفق لسان قريش، يقول حذيفة: (فأرسل عثمان إلى حفصة: أن أرسلي إلينا بالصحف؛ ننسخها في المصاحف، ثم نردها إليك، فأرسلت بها حفصة إلى عثمان.

فأمر زيد بن ثابت وعبد الله بن الزبير وسعيد بن العاص وعبد الرحمن بن الحارث بن هشام، فنسخوها في المصاحف، وقال عثمان للرهط القرشيين الثلاثة: إذا اختلفتم أنتم وزيد بن ثابت في شيء من القرآن فاكتبوه بلسان قريش؛ فإنما نزل بلسانهم).(114)

وفي رواية الترمذي أن الكتبة اختلفوا في كيفية كتابة كلمة واحدة، يقول حذيفة: (فاختلفوا في "التابوت" و" التابوة " ، فقال القرشيون بالأول، وقال زيد بالثاني ، فرفعوا اختلافهم إلى عثمان، فقال: اكتبوه بالتابوت، فإنه نزل بلسان قريش). (115)

وتكامل الجمع العثماني بكتابة سبع نسخ من المصحف، أرسل كل واحد منها إلى قطر من أقطار المسلمين، ليكون إماماً للناس، يضبطون وفقه مصاحفهم، وأمر عثمان من كان عنده شيء من صحف القرآن أن يحرقها، يقول حذيفة: (حتى إذا نسخوا الصحف في المصاحف رد عثمان الصحف إلى حفصة، وأرسل إلى كل أفق بمصحف مما نسخوا، وأمر بما سواه من القرآن في كل صحيفة أو مصحف أن يُحرق).(116)

والسبب الذي دعا الخليفة إلى طلب إحراق الناس لما بين أيديهم من الصحف والمصاحف أن بعضها قد كتب قبل العرضة الأخيرة للوحي في السنة الأخيرة من حياة النبي r، ففيها ما نسخت تلاوته، كما يمكن أن يقع في مصاحف الصحابة الخاصة نقص آية أو كلمة أو زيادة ناسخ لشرح كلمة وسواها، فيخشى أن يظن من يأتي بعد ناسخها أنه من القرآن، كما كانت مصاحف الصحابة مختلفة في ترتيب سورها، فمصحف علي t مثلاً كان ترتيبه بحسب النزول، فلهذه الأسباب أمر عثمان بإحراق المصاحف.

وقد فعل الصحابة ذلك وامتثلوا أمر الخليفة ، واتفقوا على صحة صنيعه، يقول علي t: (يا أيها الناس، لا تغلوا في عثمان، ولا تقولوا له إلا خيراً في المصاحف وإحراق المصاحف، فوالله ما فعل الذي فعل في المصاحف إلا عن ملأ منا جميعاً .. والله لو وليت لفعلت مثل الذي فعل). (117)

ويقول مصعب بن سعد t: (أدركت الناس حين شقق عثمان المصاحف، فأعجبهم ذلك، أو قال: لم يعب ذلك أحد).(118)

وامتثال الصحابة وفعلهم؛ إقرار لعثمان على صحة ما فعله، لأن ما فعله عثمان هو إعادة نسخ مصحف أبي بكر وفق حرف قريش ولسانهم، ولو كان في فعله شائبة لثاروا عليه، كما ثار عليه من ثار لأمور أقل منها كتوليته بعض أقاربه على بعض مدائن المسلمين.

ومن المعلوم أن عثمان لم يأمر عماله بمتابعة الناس في بيوتهم ومعرفة من أحرق من المسلمين مصحفه ومن لم يحرق، فقد فعل المسلمون ذلك بمحض إرادتهم واختيارهم.

وهكذا وُثِق النص القرآني كتابة، فاجتمع إلى توثيقه بحفظ الحفاظ من أصحاب النبي r ، وتناقلت الأمة في أجيالها نص القرآن الكريم، يحفظه في كل عصر الألوف المؤلفة منهم، فوصل إلينا القرآن الكريم محفوظاً من أي تغيير أو تبديل أو زيادة أو نقصان.

الإيمان بالأنبياء

ولكي تبلغ رسالة الله إلى العالمين اصطفى الله خيرة من خلقه، فجعلهم رسلاً له، أولاهم تعريف الناس بدينهم وإبلاغهم ما يريد ربهم منهم، فمن أطاعهم وآمن بهم بشروه بالسعادة والرضوان، ومن عصاهم أنذروه غضب الملك الديان ?رسلاً مبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس على الله حجةٌ بعد الرسل وكان الله عزيزاً حكيماً? (النساء: 165).

فبهؤلاء الرسل قامت حجته تبارك وتعالى على خلقه: ((وليس أحد أحب إليه العذر من الله، من أجل ذلك أنزل الكتاب، وأرسل الرسل)).(119)

والرسل والأنبياء الذين أرسلهم الله كُثُر، فما من أمة إلا وأرسل الله فيها رسولاً يقيم حجته عليها ?وإن من أمةٍ إلا خلا فيها نذيرٌ? (فاطر: 24).

وقد ذكر القرآن والسنة أسماء بعضهم ، وهم : آدم ونوح وهود وصالح وشعيب وإبراهيم ولوط وإسماعيل وإسحاق ويعقوب وإدريس وذو الكفل وداود وسليمان وأيوب ويوسف ويونس وموسى وهارون ويوشع وإلياس واليسع وزكريا ويحيى وعيسى ومحمد صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين.

لكن ثمة كثيرين غيرهم لم يذكرهم القرآن، كما قال تعالى: ?ورسلاً قد قصصناهم عليك من قبل ورسلاً لم نقصصهم عليك? (النساء: 164).

وجميع الأنبياء من البشر، وهم لا يتميزون عن غيرهم إلا بما خصهم الله من النبوة وأنوارها وعبقها ?وما أرسلنا قبلك إلا رجالاً نوحي إليهم فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون ^ وما جعلناهم جسداً لا يأكلون الطعام وما كانوا خالدين? (الأنبياء: 7-8)، فكلهم يجري عليه ما يجري على البشر من عوارض جسدية كالطعام والشراب والمرض، ومن أقدار علوية كالبلاء والموت.

وهم لا يملكون من القدرة أكثر مما أمكنهم الله منه ?قالت لهم رسلهم إن نحن إلا بشرٌ مثلكم ولكن الله يمن على من يشاء من عباده وما كان لنا أن نأتيكم بسلطانٍ إلا بإذن الله وعلى الله فليتوكل المؤمنون? (إبراهيم: 11).

وقد أيد الله هؤلاء الأنبياء بالدلائل التي برهنت لأقوامهم على صدقهم في دعوى النبوة والرسالة، قال r: ((ما من الأنبياء من نبي، إلا قد أُعطي من الآيات، ما مثلٌه آمن عليه البشر، وإنما كان الذي أُوتيتُ وحياً أَوحى اللهُ إليّ، فأرجو أن أكون أكثرَهم تابعاً يوم القيامة)). (120)

ولما كان الرسول على قدر مرسِله؛ فإن الله اصطفى هؤلاء الأنبياء من بين سائر خلقه، يكونوا رسله وسفراءه إلى خلقه، فهم خيرتهم خُلقاً، بل وخَلقاً.

ومن صفاتهم عليهم السلام تحملهم المشاق والبلاء في سبيل إقامة دينه ?الذين يبلغون رسالات الله ويخشونه ولا يخشون أحداً إلا الله وكفى بالله حسيباً? (الأحزاب: 39)، وهم في بلاغهم لرسالة الله لا يطلبون الأجر من الناس، فقد قال نوح عليه السلام: ?ويا قوم لا أسألكم عليه مالاً إن أجري إلا على الله? (هود: 29)، وقد أمر الله نبيه r أن يقول للناس ما قاله إخوانه الأنبياء: ?قل ما أسألكم عليه من أجر إلا من شاء أن يتخذ إلى ربه سبيلاً? (الفرقان: 57).

ولما تمثل بهؤلاء الأنبياء من الكمالات؛ فإن الله أمر نبيه محمداً والمؤمنين من بعده بالتأسي بهم، فقال بعد أن عدَّد أسماء ثمانية عشر رسولاً: ?أولئك الذين آتيناهم الكتاب والحكم والنبوة فإن يكفر بها هؤلاء فقد وكلنا بها قوماً ليسوا بها بكافرين ^ أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده ? (الأنعام: 88-89)، فتمثل النبي r هديهم، ومشى على غرزهم، فرفع الله قدره، وأعلى ذكره، وجعله أسوة حسنة للعالمين ?لقد كان لكم في رسول الله أسوةٌ حسنةٌ لمن كان يرجو الله واليوم الآخر وذكر الله كثيراً? (الأحزاب: 21).

وقد كانت دعوة هؤلاء جميعاً واحدة في أصولها، وهي الدعوة إلى عبادة الله الواحد دون سواه ?وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحي إليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون? (الأنبياء: 25)، كما أن أصول شرائعهم وجوهرها واحد ?شرع لكم من الدين ما وصى به نوحاً والذي أوحينا إليك وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه? (الشورى: 13).

وعليه فالمسلم يؤمن بجميع الأنبياء بلا تفريق بينهم ?آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه والمؤمنون كل آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله لا نفرق بين أحدٍ من رسله وقالوا سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير? (البقرة: 285).

والكفر برسول واحد كفر بجميع الرسل وبمن أرسلهم وبالرسالة الواحدة التي يحملونها ?إن الذين يكفرون بالله ورسله ويريدون أن يفرقوا بين الله ورسله ويقولون نؤمن ببعض ونكفر ببعض ويريدون أن يتخذوا بين ذلك سبيلاً ^ أولئك هم الكافرون حقاً? (النساء: 150- 151).

أما طرائق الوحي التي يوحي الله بها إلى هؤلاء الأنبياء، فتتلخص في ثلاثة طرق: الأول: خطاب الله المباشر، كما كلم الله موسى في الوادي المقدس، والثاني: الوحي الذي يقذفه الله في قلب النبي، والثالث: ما يحمله ملاك الله إلى النبي من وحي الله، سواء ظهر له على شكل بشري إيناساً له أو على صورته الحقيقية، قال تعالى: ?وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحياً أو من وراء حجاب أو يرسل رسولاً فيوحي بإذنه ما يشاء? (الشورى: 51).

وجميع هؤلاء الرسل من أهل الفضل والكمال، لكنهم متفاوتون في أقدارهم عند الله ?تلك الرسل فضلنا بعضهم على بعض منهم من كلم الله ورفع بعضهم درجات وآتينا عيسى ابن مريم البينات وأيدناه بروح القدس? (البقرة: 253).

وأفضلهم أولو العزم، وهم خمسة ذكرهم الله بقوله: ?وإذ أخذنا من النبيين ميثاقهم ومنك ومن نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ابن مريم? (الأحزاب: 7)، وقد أمر الله نبيه بالصبر على الدعوة ومشاقها اقتداء بمن سبقه من أولي العزم من الرسل ?فاصبر كما صبر أولوا العزم من الرسل? (الأحقاف: 35).

وأفضل هؤلاء الأنبياء عند الله خاتمهم الذي ارتضاه الله للبشرية كلها نبياً ورسولاً، محمد بن عبد الله الذي قال مخبراً عن منزلته عند ربه: ((أنا سيد ولد آدم يوم القيامة))، وفي رواية: ((أنا سيد ولد آدم يوم القيامة، ولا فخر)). (121) أي لا أفخر على أحد بذلك، إنما أبلغ بما خصني الله من الشرف والمنزلة.

ولكي لا توهم المفاضلة بين الأنبياء نقصاً في المفضول؛ فإن النبي r نهى عنها، فقال لمن قال بأنه خير من موسى: ((لا تخيروني على موسى، فإن الناس يصعقون يوم القيامة، فأصعق معهم، فأكون أول من يفيق، فإذا موسى باطش جانب العرش، فلا أدري أكان فيمن صعق فأفاق قبلي، أو كان ممن استثنى الله)).(122)

الإيمان بالقضاء والقدر

وسادس أركان الإيمان هو الإيمان بقضاء الله وقدره، وأن كل ما يجري في هذه الدنيا من خير أو شر إنما يجري بقضاء الله الذي لا راد له ولا مانع منه، فقد كتبه الله قبل أن يخلق الخلق بدهر طويل.

وتتضمن عقيدة المسلم في القضاء والقدر ثلاث مسائل:

الأولى: أن الله عز وجل عليم بكل شيء، وأن كل ما يحصل منا من خير أو شر قد علمه الله أزلاً، وهو مصداق قوله تعالى: ?الله الذي خلق سبع سماوات ومن الأرض مثلهن يتنزل الأمر بينهن لتعلموا أن الله على كل شيء قدير وأن الله قد أحاط بكل شيء علماً? (الطلاق: 12).

الثانية: أن الله كتب ما علمه، قال الله تعالى: ?ألم تعلم أن لله يعلم ما في السماء والأرض إن ذلك في كتاب إن ذلك على الله يسير? (الحج: 70)، وقال: ?وكل شيء أحصيناه في إمام مبين? (يس : 12)، وما كتبه الله إنما كتبه قبل أن يخلق الخلق بخمسين ألف سنة، قال r : ((كتب الله مقادير الخلائق قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة)).(123)وقال أيضاً : ((وكتب في الذكر كل شيء، وخلق السماوات والأرض)).(124)

الثالثة: أن ما كتبه الله في كتابه كائن لا محالة، ولا يمكن لأحد أن يغيره ?وكان أمر الله قدراً مقدوراً? (الأحزاب : 38)، وما يقع من الناس من شر وخير إنما يجري بعلم الله ومشيئته الأزلية ?وما تشاؤون إلا أن يشاء الله رب العالمين? (التكوير: 29).

لكن الفعل الإنساني لا يصدر من الإنسان جبراً وقهراً، فالإنسان أكرم مخلوقات الله، كرّمه الله ، فمنحه القدرة على التمييز ? ألم نجعل له عينين ^ ولساناً وشفتين ^ وهديناه النجدين ? (البلد: 8-10)، ثم دعاه تبارك وتعالى لاختيار الحق وهجر الباطل، من غير إكراه منه على ذلك.

فإذا ما اختار الإنسان خير النجدين، فسلك سبيل الهداية؛ زاده الله من أنوار الهدى ?والذين اهتدوا زادهم هدًى وآتاهم تقواهم ? (محمد: 17)، وإن تنكبها واختار الضلالة والعماية زاده الله ضلالاً، كما وصف الله تعالى المنافقين : ? في قلوبهم مرضٌ فزادهم الله مرضاً ولهم عذابٌ أليمٌ بما كانوا يكذبون ? (البقرة: 10).

وهكذا فالإنسان يختار فعله وفق اختياره وإرادته، لذلك نسب الله فعله إليه بقوله: ?وما تفعلوا من خيرٍ فإن الله به عليمٌ ? (البقرة: 215)، لكن اختياره وفعله ليس جبراً لله أو قهراً، بل هو بقدرة الله الخالق الذي أقدره على ذلك ? والله خلقكم وما تعملون? (الصافات: 96).

ويشمل الإيمان بالقضاء والقدر، التصديق بجملة من القضايا التي قدرها الله بسابق علمه.

أولها: ما يصيب الإنسان من خير وشر، يقول النبي r: ((لا يؤمن عبد حتى يؤمن بالقدر خيره وشره من الله، وحتى يعلم أن ما أصابه لم يكن ليخطئه، وأن ما أخطأه لم يكن ليصيبه))(125)، وبذلك يتعلق قلب العبد بربه مسبب الأسباب، لا بالأسباب المنظورة التي جعلها الله طريقاً لتحقيق قدره المكتوب، وهذا يُحل بالمؤمن راحة النفس وطمأنينة القلب عند نزول البلاء، ومحبة المنعم ورجاء المزيد من نواله عند الرخاء ?ما أصاب من مصيبةٍ في الأرض ولا في أنفسكم إلا في كتابٍ من قبل أن نبرأها إن ذلك على الله يسيرٌ ^ لكيلا تأسوا على ما فاتكم ولا تفرحوا بما آتاكم والله لا يحب كل مختالٍ فخورٍ? (الحديد: 22-23).

ومنها أيضاً: تقدير أرزاق الخلق ، فكل ذلك مسطور في علم الله أزلاً، يقول الله تعالى عما يقدره من أرزاق للناس: ?وإن من شيء إلا عندنا خزائنه وما ننزله إلا بقدر معلوم? (الحجر: 21).

وبسبب هذا الإيمان فإن المؤمن أشجع الناس بما أوتي من يقين بالله الذي هو وحده يملك أرزاق الناس وآجالهم، ?قل لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا هو مولانا وعلى الله فليتوكل المؤمنون? (التوبة: 51)، وهو يعلم أيضاً ((أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، ولو اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك، رُفعتِ الأقلام وجفَّت الصحف)).(126)

وبسبب إيمان المسلم بأن الرزق مقسوم من الله بسابق قضائه، فإنه لا يطلب الدنيا بنَهَم عُبَّاد المال الذين لا يعرفون في الكسب حلالاً ولا حراماً، إنما يطلبه بوجوهه المشروعة، يقول r: ((لا تستبطئوا الرزق ، فإنه لن يموت العبد حتى يبلغه آخر رزق هو له ، فأجملوا في الطلب: أخذ الحلال ، وترك الحرام))(127)، وفي حديث آخر يقول r: ((وإن الروح الأمين قد نفث في روعي: أنه لن تموت نفس حتى تستوفي رزقها، فاتقوا الله وأجملوا في الطلب)). (128)

وكذلك فإن الله قدر آجال الناس وأعمارهم في سابق علمه ?الله يتوفى الأنفس حين موتها والتي لم تمت في منامها فيمسك التي قضى عليها الموت ويرسل الأخرى إلى أجلٍ مسمى? (الزمر: 42).

وإيمان المسلم بذلك يعرف الإنسان بقْدره الضعيف، وينبؤه عن ضعفه الكبير، وعن عظيم حاجته إلى ربه، قال r: ((لو أن الله سبحانه عذب أهل سماواته وأهل أرضه لعذبهم غير ظالم لهم، ولو رحمهم كانت رحمته لهم خيراً من أعمالهم، ولو كان لك مثل جبل أحد ذهباً أنفقته في سبيل الله تعالى ما قبله منك؛ حتى تؤمن بالقدر وتعلم أن ما أصابك لم يكن ليخطئك؛ وأن ما أخطأك لم يكن ليصيبك؛ وأنك إن مت على غير هذا دخلت النار)).(129) فيستقبل المؤمن بالقضاء والقدر مصائب الدنيا بالبشر، ويراها منحة حملتها إليه محنة ((عجباً لأمر المؤمن إن أمره كله له خير، وليس ذلك إلا للمؤمن ، إن أصابته سراء شكر فكان خيراً له، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيراً له)).(130)

الإيمان باليوم الآخر

خلق الله الإنسان في هذه الدنيا ليعمرها وفق منهج الله ، فإذا ولَّت وانقضت؛ جمع الله الأولين والآخرين في يوم جديد، هو يوم الحساب والجزاء، حيث يجازى كل إنسان على عمله، وهذا هو ما تقتضيه حكمة الله وعدله، وإلا لاستوى الطائع والعاصي، والمؤمن والكافر، وهذا من العبث الذي يتنزه عنه الله الحكيم ?أفحسبتم أنما خلقناكم عبثاً وأنكم إلينا لا ترجعون ^ فتعالى الله الملك الحق لا إله إلا هو رب العرش الكريم ? (المؤمنون: 115-116).

وقد تولى القرآن إثبات معقولية البعث والنشور، وردَّ بالبرهان على مكذبي البعث الذين ضعف تصورهم لقدرة الله العظيمة، فتساءلوا مستنكرين: ?وقالوا أئذا كنا عظاماً ورفاتاً أئنا لمبعوثون خلقاً جديداً ^ قل كونوا حجارةً أو حديداً ^ أو خلقاً مما يكبر في صدوركم فسيقولون من يعيدنا قل الذي فطركم أول مرة? (الإسراء: 49-51).

وضرب الله لهؤلاء المنكرين الأمثالَ العقلية التي تقرِّب فكرة البعث إلى أذهانهم، فقال جل ذكره: ?وضرب لنا مثلاً ونسي خلقه قال من يحيي العظام وهي رميم ^ قل يحييها الذي أنشأها أول مرة وهو بكل خلق عليم ^ الذي جعل لكم من الشجر الأخضر ناراً فإذا أنتم منه توقدون ^ أوليس الذي خلق السماوات والأرض بقادر على أن يخلق مثلهم بلى وهو الخلاق العليم ^ إنما أمره إذا أراد شيئاً أن يقول له كن فيكون ^ فسبحان الذي بيده ملكوت كل شيء وإليه ترجعون? (يس: 78-83).

والقيامة تشمل جميع البشر، مؤمنهم وكافرهم ?وحشرناهم فلم نغادر منهم أحداً? (الكهف: 47)، فلا مناص من ذلك اليوم ولا مهرب كما قال تعالى: ?أين ما تكونوا يأت بكم الله جميعاً? (البقرة: 148).

والقيامة تقوم في زمن لا يعلم موعده إلا الله ، قال تعالى: ?إن الله عنده علم الساعة وينزل الغيث ويعلم ما في الأرحام وما تدري نفس ماذا تكسب غداً وما تدري نفس بأي أرض تموت إن الله عليم خبير? (لقمان: 34).

فإذا أذن الله بانتهاء الدنيا وانصرامها، تنحلُّ – بأمر الله - سنن الكون ويختل نظامه وترابطه وتقوم الساعة ?يوم تبدل الأرض غير الأرض والسماوات وبرزوا لله الواحد القهار? (إبراهيم: 48).

ويرافق قيام الساعة أهوال شديدة، منها ما ذكره الله بقوله: ?إذا الشمس كورت ^ وإذا النجوم انكدرت ^ وإذا الجبال سيرت ^ وإذا العشار عطلت ^ وإذا الوحوش حشرت ^ وإذا البحار سجرت ^ وإذا النفوس زوجت ^ وإذا الموءودة سئلت ^ بأي ذنبٍ قتلت ^ وإذا الصحف نشرت ^ وإذا السماء كشطت? (التكوير: 1-11).

وأول ما يكون من أحداث القيامة نفختا الصور، حيث تصعق الخلائق في الأولى منهما، وتقوم إلى ربها بعد النفخة الثانية ?ونفخ في الصور فصعق من في السماوات ومن في الأرض إلا من شاء الله ثم نفخ فيه أخرى فإذا هم قيام ينظرون? (الزمر: 68).

وقال تعالى: ?ونفخ في الصور فإذا هم من الأجداث إلى ربهم ينسلون ^ قالوا يا ويلنا من بعثنا من مرقدنا هذا ما وعد الرحمن وصدق المرسلون ^ إن كانت إلا صيحةً واحدةً فإذا هم جميعٌ لدينا محضرون ^ فاليوم لا تظلم نفسٌ شيئاً ولا تجزون إلا ما كنتم تعملون? (يس: 51-54).

فإذا ما جمع الله الأولين والآخرين، وآذن ببدء الحساب؛ أمر بإعطاء البشر صحفهم فرأوا فيها أعمالهم، الصالح منها والطالح، فيوم القيامة يوم عدل الله ودينونته.

ويصف القرآن مشهد تطاير الصحف ووقوعها في أيدي أصحابها، فأما المؤمنون منهم فيأخذون صحفهم بأيمانهم، ويهتفون بالبشرى والفرح لما وجدوه فيها من صالح العمل ?فأما من أوتي كتابه بيمينه فيقول هاؤم اقرؤوا كتابيه ^ إني ظننت أني ملاقٍ حسابيه ^ فهو في عيشةٍ راضيةٍ ^ في جنةٍ عاليةٍ ^ قطوفها دانيةٌ ^ كلوا واشربوا هنيئاً بما أسلفتم في الأيام الخالية? (الحاقة: 19-24).

وأما الذين كفروا بالله واليوم الآخر فيأخذون كتبهم بشمائلهم، ويتنادون بالحسرات على المسطور فيها من سيء القول والعمل ?وأما من أوتي كتابه بشماله فيقول يا ليتني لم أوت كتابيه ^ ولم أدر ما حسابيه ^ يا ليتها كانت القاضية ^ ما أغنى عني ماليه ^ هلك عني سلطانيه? (الحاقة: 25-29).

وهذه الصحف يجد فيها المرء كل ما عمله من عمل ?يومئذٍ يصدر الناس أشتاتاً ليروا أعمالهم ^ فمن يعمل مثقال ذرةٍ خيراً يره ^ ومن يعمل مثقال ذرةٍ شراً يره? (الزلزلة: 6-8)، ?ووضع الكتاب فترى المجرمين مشفقين مما فيه ويقولون ياويلتنا ما لهذا الكتاب لا يغادر صغيرةً ولا كبيرةً إلا أحصاها ووجدوا ما عملوا حاضراً ولا يظلم ربك أحداً? (الكهف: 48).

ويحاسب الله الخلائق على أعمالهم ?والله سريع الحساب? (البقرة: 102)، وينصِب لهم في المحشر ميزاناً، لا يزن الناس بأطوالهم ولا أثقالهم، بل ميزان عدل وحق ، يزن العبد بمقدار عمله ((إنه ليأتي الرجل العظيم السمين يوم القيامة لا يزن عند الله جناح بعوضة، واقرؤوا: ?فلا نقيم لهم يوم القيامة وزناً?))(131) (الكهف: 105).

وهذا الميزان الأخروي مظهر من مظاهر عدل الله وعلمه المحيط ، فهو يزن الصغير من العمل كما يزن الكبير ?ونضع الموازين القسط ليوم القيامة فلا تظلم نفس شيئاً وإن كان مثقال حبة من خردل أتينا بها وكفى بنا حاسبين? (الأنبياء: 47).

ثم تكون النتيجة: ?فأما من ثقلت موازينه ^ فهو في عيشة راضية ^ وأما من خفت موازينه ^ فأمه هاوية? (القارعة: 6-9).

ومما يثقل ميزان العبد يوم القيامة ما يأتي به من الحسنات والأعمال الصالحة، ومنها ذكر الله عز وجل ((كلمتان خفيفتان على اللسان، ثقيلتان في الميزان، حبيبتان إلى الرحمن: سبحان الله العظيم، سبحان الله وبحمده ))(132)، ومثلها الصبر والتسبيح والتهليل والتحميد والتكبير، لقوله r: ((ما أثقلهن في الميزان: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، والولد الصالح يتوفى للمرء المسلم؛ فيحتسبه))(133)، وأما حسن الخلق فالبشرى لصاحبه، فإنه ((ما من شيء أثقل في الميزان من حسن الخلق)).(134)

وينصب الصراط على جهنم ، وهو جسر يرِد عليه الجميع ، فيمرون عليه على قدر أعمالهم، فسعيد ناج إلى الجنة، أو مخدوش، أو شقي مكردس في النار، قال r: ((ويضرب الصراط بين ظهري جهنم .. وفي جهنم كلاليب مثل شوك السعدان .. غير أنه لا يعلم ما قدر عظمها إلا الله؛ تخطف الناس بأعمالهم، فمنهم الموبق بعمله، أو الموثق بعمله، ومنهم المخردل أو المجازى)).(135)

والمكردسون في النار هم الكافرون، ومن غلبت عليه سيئاته من عصاة المسلمين، فأما الكافرون فيخلدون فيها ولا يخرجون، وأما غيرهم من المسلمين، فيخرجون منها إذا طهرتهم النار من سالف أفعالهم ?والذين كفروا وكذبوا بآياتنا أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون? (البقرة: 39).

ويصف الله بعض حسرات أهل النار وعذابهم فيها: ?والذين كفروا لهم نار جهنم لا يقضى عليهم فيموتوا ولا يخفف عنهم من عذابها كذلك نجزي كل كفور ^ وهم يصطرخون فيها ربنا أخرجنا نعمل صالحاً غير الذي كنا نعمل أولم نعمركم ما يتذكر فيه من تذكر وجاءكم النذير فذوقوا فما للظالمين من نصير? (فاطر: 36-37).

وحتى لا يتوقف العذاب عن أهل النار فإن الله يهيئ من الأسباب ما يجعله مستمراً ?إن الذين كفروا بآياتنا سوف نصليهم ناراً كلما نضجت جلودهم بدلناهم جلوداً غيرها ليذوقوا العذاب إن الله كان عزيزاً حكيماً? (النساء: 56).

وتصور آيات القرآن مشاهد من عذاب أهل النار ليهلك من هلك عن بينة: ?فالذين كفروا قطعت لهم ثياب من نار يصب من فوق رءوسهم الحميم ^ يصهر به ما في بطونهم والجلود ^ ولهم مقامع من حديد ^ كلما أرادوا أن يخرجوا منها من غم أعيدوا فيها? (الحج: 19-22).

ويخبرنا النبي r بأهون أهل النار عذاباً ، ففيه غنية ومزدجر لكل من ألقى السمع وهو شهيد، يقول r: ((إن أهون أهل النار عذاباً من له نعلان وشراكان من نار, يغلي منهما دماغه كما يغلي المرجل، ما يرى أن أحداً أشد منه عذاباً، وإنه لأهونهم عذاباً)).(136)

وأما أهل السعادة من أهل الإيمان فهم في الروح والريحان، ?وبشر الذين آمنوا وعملوا الصالحات أن لهم جنات تجري من تحتها الأنهار كلما رزقوا منها من ثمرة رزقاً قالوا هذا الذي رزقنا من قبل وأتوا به متشابهاً ولهم فيها أزواج مطهرة وهم فيها خالدون? (البقرة: 25).

إن نعيم الجنة فاق كل وصف، وتعالى عن كل شبه ، فليس له في الدنيا مثيل ولا نظير، ولا يشتبه شيء مما في الجنة مع شيء مما في دنيانا إلا في الأسماء، وأما الحقائق فتتباين ، فالجنة لا يشبهها شيئاً من الموصوفات والمدركات، وهي كما وصفها الله في الحديث القدسي الذي يرويه النبي r عن ربه: ((أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، فاقرؤوا إن شئتم: ? فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين جزاء بما كانوا يعملون?)) (السجدة: 17).(137)

ومن نعيم الجنة ما جعله الله فيها من أنهار طيبة الشراب عذبة المذاق ?مثل الجنة التي وعد المتقون فيها أنهار من ماء غير آسن وأنهار من لبن لم يتغير طعمه وأنهار من خمر لذة للشاربين وأنهار من عسل مصفى ولهم فيها من كل الثمرات ومغفرة من ربهم? (محمد: 15).

ومن نعيمها ما بشَّر الله به أهل طاعته بقوله: ?وأصحاب اليمين ما أصحاب اليمين ^ في سدر مخضود ^ وطلح منضود ^ وظل ممدود ^ وماء مسكوب ^ وفاكهة كثيرة ^ لا مقطوعة ولا ممنوعة^ وفرش مرفوعة? (الواقعة: 27-34).

ويبشر النبي r أهل الجنة بمزيد فضل الله لهم، فإن داخلها ((ينعم ولا يبأس، ولا تبلى ثيابه, ولا يفنى شبابه))(138)، بل يصرف الله عنه كل سوء مما كان يصيبه في الدنيا، فقد قال r: ((لا يبصقون فيها، ولا يمتخطون، ولا يتغوطون، آنيتهم فيها الذهب، أمشاطهم من الذهب والفضة، ومجامرهم الألوة، ورشحهم المسك، ولكل واحد منهم زوجتان؛ يرى مخ سوقهما من وراء اللحم من الحُسن، لا اختلاف بينهم ولا تباغض، قلوبهم قلب واحد، يسبحون الله بكرة وعشياً)).(139)

ومن أعظم ما ينعم به أهل الجنة دوامه وأبديته، فالجنة دار نعيم لا ينفد ولا ينقطع: ? إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات أولئك هم خير البرية ^ جزاؤهم عند ربهم جنات عدنٍ تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها أبداً رضي الله عنهم ورضوا عنه ذلك لمن خشي ربه ? (البينة: 7-8).

وينقل النبي r البشارة لأهل الجنة بالخلود فيها حين: ((ينادي مناد: إن لكم أن تصحُّوا فلا تسقموا أبداً، وإن لكم أن تحيوا فلا تموتوا أبداً، وإن لكم أن تشبوا فلا تهرموا أبداً، وإن لكم أن تنعموا فلا تبأسوا أبداً، فذلك قوله عز وجل: ?ونودوا أن تلكم الجنة أورثتموها بما كنتم تعملون? (الأعراف: 43)).(140)

وأما النعيم الأعظم الذي لا يدانى والشرف الذي لا يبارى فهو رؤية المؤمنين ربهم تبارك وتعالى، فلطالما عبدوه في الدنيا ولم يروه، فيتجلى لهم الله يوم القيامة منّة وتفضلاً وإحساناً ?وجوه يومئذ ناضرة ^ إلى ربها ناظرة? (القيامة: 22-23).

والإيمان باليوم الآخر له أكبر الأثر في تهذيب وتقويم سلوك المسلم، الذي يطمع برضوان الله ويخشى عقوبته، فيمتثل أوامر الله ويستكين لها، وهو موقن بأن ما يصنعه اليوم يلاقيه غداً، وأن امتثاله لأمر ربه في دنياه سبب في عاجل سعادته، ويعقبه الفرح والثواب في أخراه ? يومئذٍ يصدر الناس أشتاتاً ليروا أعمالهم ^ فمن يعمل مثقال ذرةٍ خيراً يره ^ ومن يعمل مثقال ذرةٍ شراً يره? (الزلزلة: 6-8).

وهكذا فإن أركان الإيمان هي صمام أمان للمجتمع الإنساني بما تغرسه في صدور المؤمنين من موجبات الرحمة والسكينة والإخبات، وما تثمره في دنيا المؤمنين من بذل وإحسان وتراحم، تسعد به البشرية في دنياها، وترضي به ربها ومولاها.

ردود على أباطيل

لقد بُلي المسلمون اليوم بتحديات كبيرة، لعل أهمها تلك الهجمة التي تتنادى إليها دوائر دينية وصحفية وسياسية، وكلها تنصب في باب الافتراء على الإسلام؛ بغرض إقامة السدود التي تحول دون تعرف العالم على حقيقة الإسلام الذي تصوره هذه الدوائر على أنه دين يجمع بين الهمجية والوثنية ، يظلم المرأة، ويقتل الأبرياء، ويعادي الحضارة، ويبث الكراهية، إلى غيره من الافتراءات التي تفتقد أدنى معايير الموضوعية العلمية والإنصاف.

وهذه الرسالة في أصلها للتعريف بالإسلام، وليست للرد على ادعاءات الآخرين عليه، لكن قد يكون من المناسب أن نعرج فيها سريعاً على بعض ما قيل، ليكون أنموذجاً يقيس فيه القارئ الغائب على الشاهد، فتستبين بعض أطراف الحقيقة التي يرنو إليها كل عاقل وحصيف.

أولاً : الإسلام والمرأة

مما يروجه البعض زوراً عن الإسلام أنه امتهن المرأة وحط من منزلتها، وتنقصها وهضم حقوقها لصالح الرجل ...

إن هذا الزعم ليس من الحقيقة في شيء ، فما عرف العرب ولا غيرهم تكريماً للمرأة يماثل تكريم الإسلام لها، يقول الخليفة الراشد عمر بن الخطاب: (والله إن كنا في الجاهلية ما نعد للنساء أمراً؛ حتى أنزل الله فيهن ما أنزل، وقسم لهن ما قسم).(141)

وقبل زمن مديد من اعتراف بعض الأمم بإنسانية المرأة ؛ قرر الإسلام تساوي الذكر بالأنثى في إنسانيتهما وكافة الأمور العبادية، ولم يميز بينهما في شيء إلا حال التعارض مع الطبيعة التكوينية والنفسية والوظيفية للذكر أو للأنثى.

فأما تساويهما في الإنسانية، فقد قرره النبي بقوله: ((إنما النساء شقائق الرجال)).(142) كيف لا وهما معاً أصل الجنس البشري ?يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى? (الحجرات: 13)، ويشملهما جميعاً تكريم الله للجنس البشري ?ولقد كرمنا بني آدم وحملناهم في البر والبحر ورزقناهم من الطيبات وفضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلاً? (الإسراء: 70).

ويقرر القرآن الكريم أهلية المرأة للإيمان والتكليف والعبادة، ومن ثم المحاسبة والجزاء، وهي في كل ذلك مثل الرجل سواء بسواء ?من عمل صالحاً من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينه حياة طيبة ولنجزينهم أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون? (النحل: 97) ويقول تعالى: ?فاستجاب لهم ربهم أني لا أضيع عمل عامل منكم من ذكر أو أنثى بعضكم من بعض ? (آل عمران: 195).

ولم يعتبر الإسلام المرأة مصدر الشرور، ولم يوافق على اعتبارها سبباً في وقوع آدم في غواية الشيطان ، فالقرآن الكريم يجعل آدم وزوجته شريكين في اقتراف الخطيئة الأولى ، شريكين في جزائها ?فأزلهما الشيطان عنها فأخرجهما مما كانا فيه? (البقرة: 36)، وكما اشتركا في الخطيئة فقد اشتركا في التوبة منها ?قالا ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكون من الخاسرين? (الأعراف: 23).

وهذا التساوي بين الوالدين يسري في المسؤولية الشرعية لذريتهما، حيث إن الله يساوي بين الرجال والنساء في ثواب وعقاب أفعال الإنسان، بلا تمييز لجنس على جنس ?إن المسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات والقانتين والقانتات والصادقين والصادقات والصابرين والصابرات والخاشعين والخاشعات والمتصدقين والمتصدقات والصائمين والصائمات والحافظين فروجهم والحافظات والذاكرين الله كثيراً والذاكرات أعد الله لهم مغفرةً وأجراً عظيماً? (الأحزاب: 35).

وقد حذر القرآن من صنيع الجاهلية التي كانت تنتقص المرأة وتعتبرها عاراً تتخلص منه بوأدها حال الطفولة ?وإذا بشر أحدهم بالأنثى ظل وجهه مسوداً وهو كظيم ^ يتوارى من القوم من سوء ما بشر به أيمسكه على هون أم يدسه في التراب ألا ساء ما يحكمون? (النحل: 58-59).

وفي إزاء هذا الواقع الجاهلي الظالم خص النبي r البنات والأخوات بالمزيد من وصاته فقال: ((من يلي من هذه البنات شيئاً، فأحسن إليهن؛ كُنَّ له ستراً من النار)).(143)

وبشّر بالجنة من أحسن رعاية الإناث من أخوات وبنات، فقال: ((من كان له ثلاث بنات أو ثلاث أخوات، أو ابنتان أو أختان؛ فأحسن صحبتهن واتقى الله فيهن؛ فله الجنة)).(144)

ويرتفع الجزاء في حديث آخر ليبلغ بالمحسن إليهن إلى أعلى الجنة، حيث أنبياء الله والصالحون من عباده، يقول r: ((من عال جاريتين حتى تبلغا؛ جاء يوم القيامة أنا وهو)) وضم أصابعه.(145) أي أنه يجاور النبي r في الجنة كما تتجاور الأصبعان في يد الواحد فينا.

كل هذا الترغيب والحث من الإسلام ليبطل شرعة الجاهلية في انتقاص المؤنسات الغاليات اللاتي يرغِّب النبي r بمحبتهن فيقول: ((لا تكرهوا البنات، فإنهن المؤنسات الغاليات)).(146)

ويبرأ الإسلام من تفضيل الذكر على الأنثى، ويعد بالجنة من أكرم الأنثى وأنصفها، قال رسول الله r: ((من كانت له أنثى فلم يئدها ولم يهنها ولم يؤثر ولده عليها؛ أدخله الله الجنة)).(147)

وكما أوصى الإسلام برعاية الابنة؛ فإنه أمر بذلك لكل أنثى، سواء كانت زوجة أم أمّاً؛ بل وأكد على رعاية حقوقها حتى في حال العبودية، ففي حديث الثلاثة الذين يؤتيهم الله أجرهم مرتين ذكر r ((الرجل تكون له الأمة، فيعلمها فيحسن تعليمها، ويؤدبها فيحسن أدبها، ثم يعتقها فيتزوجها، فله أجران)).(148)

وأما المرأة حين تكون أمّاً فللإسلام معها شأن آخر، فلئن كانت النصوص التي تأمر ببر الوالدين والإحسان إليهما كثيرة في القرآن والسنة؛ فإن النبي r قدَّم حق الأم على حق الأب، فاعتبرها أحق العالمين بحسن صحبة الابن وأولى الناس ببره وإحسانه، فقد جاء رجل إلى رسول الله r فقال: من أحق الناس بحسن صحابتي؟ قال: ((أمك))، قال: ثم من؟ قال: ((ثم أمك))، قال: ثم من؟ قال: ((ثم أمك))، قال: ثم من؟ قال: ((ثم أبوك)).(149)

وأما الزوجة فهي شريكة الرجل في بيته، تشاركه السراء والضراء، وما فتئ النبي يوصي بها مرة بعد مرة، حتى إذا اجتمع أمامه مائة ألف من أصحابه في حجة الوداع قام فخطبهم، فحمد الله وأثنى عليه وقال: ((ألا واستوصوا بالنساء خيراً، فإنما هن عوان عندكم [أي مثل الأسيرات عندكم] .. ألا إن لكم على نسائكم حقاً، ولنسائكم عليكم حقاً)).(150)

وما زال r يوصي بحق المرأة، ويحذر الرجل من الاغترار بقوته وظلمها والإضرار بها، فيشهد الله على تأكيده على حقها وبراءته ممن آذاها: ((اللهم إني أحرج حق الضعيفين: اليتيم والمرأة)).(151)

والزوجة درة مصانة، لا يلزمها أن تكدح وتشقى بالعمل لتضمن مكاناً لها في بيت الزوجية، فهذا ليس من واجباتها ولا هو متناسب مع أنوثتها وطبيعة مهمتها السامية في إدارة بيتها وتربية أبنائها وإعطائهم حقهم من الحنو والرعاية ((كلكم راعٍ، وكلكم مسؤول عن رعيته. .. والرجل راعٍ في أهله، وهو مسؤول عن رعيته، والمرأة راعية في بيت زوجها وهي مسؤولة عن رعيتها)).(152)

والأنثى - في الإسلام - مكفولة النفقة، أمّاً كانت أو زوجة، أختاً كانت أو ابنة، فمن واجب الرجل الإنفاق على الأسرة عموماً وعلى الزوجة خصوصاً، ولو كانت ذات مال ووظيفة، فقد أمر النبي r بذلك في خطبة يوم عرفة العظيم وفي أكبر اجتماع لأصحاب النبي r، فقال: ((ولهن عليكم رزقهن وكسوتهن بالمعروف)).(153)

وأوجب الله تعالى للزوجة السكن الكريم المتناسب مع قدرة الزوج المالية: ?أسكنوهن من حيث سكنتم من وجدكم? (الطلاق: 6)، وكذا أوجب لها العشرة بالمعروف حال الحب وفي حال الكراهية ?وعاشروهن بالمعروف فإن كرهتموهن فعسى أن تكرهوا شيئاً ويجعل الله فيه خيراً كثيراً ? (النساء: 19).

وهذه العشرة للزوجة بالمعروف تصبح ميزاناً للخيرية عند الله يستبق فيه المسلمون إلى محبة الله ورضاه، فقد قال r: ((خيركم خيركم لأهله، وأنا خيركم لأهلي))(154)، وفي رواية: ((إن من أكمل المؤمنين إيماناً أحسنهم خلقاً وألطفهم بأهله)).(155)

وهكذا فالعلاقة الزوجية سلسلة متبادلة من الحقوق والواجبات، وهي قائمة على مبدأ الأخذ والعطاء ?ولهن مثل الذي عليهن بالمعروف وللرجال عليهن درجة ? (البقرة: 288)، وهذه الدرجة هي القوامة.

وليس هذا التفضيل بسبب قعود جنس النساء عن جنس الرجال ، بل تفضيل متناسب مع ما أودعه الله في الرجل من استعدادات فطرية تلائم مهمته وتتناسب أيضاً مع دوره في إدارة الأسرة والإنفاق عليها، كما قال تعالى: ?الرجال قوامون على النساء بما فضل الله به بعضهم على بعض وبما أنفقوا من أموالهم? (النساء: 34).

تقول الصحفية الإنجليزية روز ماري هاو: "إن الإسلام قد كرم المرأة وأعطاها حقوقها كإنسانة، وكامرأة، وعلى عكس ما يظن الناس من أن المرأة الغربية حصلت على حقوقها.. فالمرأة الغربية لا تستطيع مثلاً أن تمارس إنسانيتها الكاملة وحقوقها مثل المرأة المسلمة. فقد أصبح واجباً على المرأة في الغرب أن تعمل خارج بيتها لكسب العيش. أما المرأة المسلمة فلها حق الاختيار، ومن حقها أن يقوم الرجل بكسب القوت لها ولبقية أفراد الأسرة. فحين جعل الله للرجال القوامة على النساء كان المقصود هنا أن على الرجل أن يعمل ليكسب قوته وقوت عائلته. فالمرأة في الإسلام لها دور أهم وأكبر مجرد الوظيفة، وهو الإنجاب وتربية الأبناء، ومع ذلك فقد أعطى الإسلام للمرأة الحق في العمل إذا رغبت هي في ذلك، وإذا اقتضت ظروفها ذلك".(156)

ويصر البعض على أن الإسلام ظلم المرأة حين أباح للرجل أن يتزوج عليها، وفي هذا إضرار بمصلحتها.

وقبل التعرف على حكم الإسلام في تعدد الزوجات نجد أن من الواجب التذكير بأن الإسلام لم يكن أول من شرع هذه الشرعة التي عرفتها ومارستها الأمم والملل قبل الإسلام، ويكفي في ذلك أن نذكر بأن العهد القديم - الذي يؤمن به اليهود والنصارى - يذكر بأن سليمان النبي كان له ألف زوجة (انظر الملوك (1) 11/4)، فالتعدد وفق العهد القديم أمر مشروع، وهو واقع عاشه الأنبياء وأممهم قبل الإسلام.

والإسلام حين يبيح للرجل التعدد؛ فإنما يسيجه بجملة من الضوابط، وهو يشرعه لأمر واقعي ملموس، وهو حاجة بعض الأزواج إلى الزواج بغير زوجته لمرضها أو لعدم قدرتها على الإنجاب، أو لغير ذلك من الأسباب، فتزوج الزوج بأخرى أولى من طلاق الأولى ليتزوج بغيرها، وأولى أيضاً من العلاقة المحرمة خارج نطاق الزوجية، فالتعدد المشروع يغلق الباب أمام تعدد العشيقات غير المشروع الذي يجتاح المجتمعات الإنسانية التي تمنع تعدد الزوجات، واستبدلته بتعدد العشيقات.

إن البشرية لا غناء لها عن تعدد الزوجات إذا شاءت أن تحيى حياة العفة والطهر، وهذا ما ستقودنا إليه نظرة عابرة إلى الإحصاءات العالمية التي تشير إلى زيادة مطردة في نسبة النساء، فإذا كان عدد الإناث في الولايات المتحدة الأمريكية يزيد على عدد الذكور بأربعة ملايين امرأة، فإن المجتمع مخير بين القبول بأربعة ملايين بغي أو الرضا بأربعة ملايين أسرة شرعية تتعدد فيها الزوجات.

يقول المؤرخ غوستاف لوبون في كتابه "حضارة العرب": "إن مبدأ تعدد الزوجات الشرقي نظام طيب يرفع المستوى الأخلاقي في الأمم التي تقوم به ويزيد الأسرة ارتباطاً، ويمنح المرأة احتراماً وسعادة لا تراها في أوروبا، ولا أرى سبباً لجعل مبدأ تعدد الزوجات الشرعي عند الشرقيين أدنى مرتبة من مبدأ تعدد الزوجات السري عند الأوروبيين، بل إنني أبصر بالعكس ما يجعله أسنى منه".

ويقول: "إن تعدد الزوجات المشروع عند الشرقيين أحسن من تعدد الزوجات الريائي عند الأوروبيين، وما يتبعه من مواكب أولاد غير شرعيين".(157)

أما حين نسمح بتعدد الزوجات فالأمر مختلف، فالكل يعيش ضمن إطار الأسرة الشرعية الطبيعية، لذا يقول مونتكومري وات في كتابه "محمد في المدينة": "إن الفكرة الرائدة في القرآن، هي أنه إذا تبنى المسلمون تعدد الزوجات، فإن جميع الفتيات اللواتي هن في سن الزواج يمكنهن الزواج بصورة حسنة". (158)

وواقعية الإسلام في تشريعه للتعدد؛ لم تخل بمثاليته في التشريع، فقد حدده بأربع زوجات، وفرض على الزوج العدل بينهن: ?فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع فإن خفتم ألا تعدلوا فواحدةً أو ما ملكت أيمانكم? (النساء : 3)، وتوعد النبي r من ظلم إحدى زوجتيه بعقوبة خاصة يوم القيامة تتناسب وميله إلى واحدة منهن: ((من كان له امرأتان يميل مع إحداهما على الأخرى جاء يوم القيامة وأحد شقيه ساقط)).(159)

إن تعدد الزوجات الذي يبيحه الإسلام ليس شهوة عابرة، ولا نوعاً من التمييز والتفضيل، بل هو تهذيب لواقع، يقنن لمسألة اجتماعية، يضفي فيها الرجل المزيد من المسئوليات التي يلزمه القيام بها والوفاء بمتطلباتها المالية والاجتماعية والإنسانية.

ونتساءل في خاتمة هذا المبحث: ألا يكفي إزاء المزاعم الكذوبة عن وضع المرأة في الإسلام أن نتامل الشهادة المنصفة للمفكر الفرنسي مارسيل بوازار في كتابه "إنسانية الإسلام": "أثبتت التعاليم القرآنية وتعاليم محمد أنها حامية حمى حقوق المرأة".(160)

ثانياً: الإسلام والإرهاب

أرسل الله نبيه r إلى العالمين بشيراً ونذيراً، ووصفه بقوله: ?وما أرسلناك إلا رحمةً للعالمين? (الأنبياء: 107)، كما وصفه الله تعالى بالرأفة والرحمة في قوله: ?لقد جاءكم رسولٌ من أنفسكم عزيزٌ عليه ما عنتم حريصٌ عليكم بالمؤمنين رؤوفٌ رحيمٌ? (التوبة: 128)، فمحمد r هو رحمة الله المسداة إلى خلقه.

وقد امتن الله على البشرية ببعثته r لما طواه من الأحقاد المريرة؛ التي أنّت المجتمعات الإنسانية منها طويلاً: ?واذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم أعداءً فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخواناً وكنتم على شفا حفرةٍ من النار فأنقذكم منها كذلك يبين الله لكم آياته لعلكم تهتدون? (آل عمران: 103).

كما وصف الله كتابه الأخير - القرآن العظيم - بالرحمة والشفاء بقوله: ?يا أيها الناس قد جاءتكم موعظةٌ من ربكم وشفاءٌ لما في الصدور وهدىً ورحمةٌ للمؤمنين? (يونس: 57)، وأكد عليه بقوله: ?هذا بصائر للناس وهدىً ورحمةٌ لقومٍ يوقنون? (الجاثية:20).

والرحمة كما هي صفة الله ونبيه وكتابه؛ فإنها صفة لازمة للمؤمنين أيضاً ، فالله الرحيم يرحم الرحماء من عباده، و ((من لا يرحم الناس لا يرحمه الله))(161)، والمتواصون بهذا الخلق العظيم هم أهل السعادة يوم القيامة ?ثم كان من الذين آمنوا وتواصوا بالصبر وتواصوا بالمرحمة ^ أولئك أصحاب الميمنة? (البلد: 17-18).

وقد أمر r المسلمين أن يتصفوا بصفة الرحمة، في تعاملهم فيما بينهم ومع غيرهم، بل وحتى مع الحيوان ، فقوله r : ((من لا يرحم الناس))(162)، لفظ عام يشمل كل أحد ، دون تمييز لجنس أو لون أو دين .

ومن صور الرحمة لغير المسلمين التصدق على مسكينهم ، فقد روى أبو عبيد أن بعض المسلمين كان لهم أنسباء وقرابة من قريظة والنضير، وكانوا يتقون أن يتصدقوا عليهم، يريدوهم أن يسلموا ، فنزلت : ? ليس عليك هداهم ولكن الله يهدي من يشاء وما تنفقوا من خير فلأنفسكم? (البقرة: 272). (163)

وتمتد الرحمة لتشمل المحاربين الذين وقعوا في أسار المسلمين، يقول أبو رزين: كنت مع سفيان بن سلمة، فمر عليه أسارى من المشركين، فأمرني أن أتصدق عليهم، ثم تلا هذه الآية: ?ويطعمون الطعام على حبه مسكيناً ويتيماً وأسيراً? (الإنسان: 8).

يقول أبو عزيز بن عمير: كنت في الأسارى يوم بدر، فقال رسول الله r : ((استوصوا بالأسارى خيراً))، وكنت في نفر من الأنصار، وكانوا إذا قدموا غداءهم وعشاءهم أكلوا التمر وأطعموني الخبز، بوصية رسول الله r إياهم. (164)

وإذا كان الإسلام دين رحمة، فمن أين أتى القول الذي تروج له بعض الدوائر التي دأبت على وصف الإسلام بالإرهاب والقسوة؛ متذرعة بما جاء في القرآن العظيم من نصوص تأمر المسلمين بإعداد العدة والتأهب لصد العدوان، بل والقتال والتضحية بالنفس ذوداً عن الدين والوطن والنفس والإنسان.

إن رحمة الإسلام ليست استكانة ولا خنوعاً للباطل على الضيم، ليست استخذاء أو مهانة، بل هي رحمة القوي القادر على حماية حقه من العدوان.

حقاً لقد أمر القرآن بالقتال، لكن شتان بين القتل والقتال، بين الإرهاب والجهاد، فالإرهاب هو استهداف الضعيف العاجز أو البريء الذي لا حول له ولا طول بالقتل والترويع، فقتل الأبرياء إرهاب دنيء وإفساد في الارض، وهو - في الإسلام - من أعظم الجرائم وأنكرِها.

لقد استبشع القرآن إرهاب فرعون واعتداءه على الأطفال والمستضعفين من اليهود، واعتبره من المفسدين في الأرض العاتين فيها: ?إن فرعون علا في الأرض وجعل أهلها شيعاً يستضعف طائفةً منهم يذبح أبناءهم ويستحيي نساءهم إنه كان من المفسدين? (القصص: 4).

ونقل القرآن أيضاً بغض الله للمفسدين: ?ولا تبغ الفساد في الأرض إن الله لا يحب المفسدين? (القصص: 77)، وحكى عن حال أهل البغي والفساد محذراً من صنيعهم مستنكراً فعالهم: ?وإذا تولى سعى في الأرض ليفسد فيها ويهلك الحرث والنسل والله لا يحب الفساد? (البقرة: 205).

إن قتل نفس بريئة واحدة إفساد في الأرض، وهو أمر جلل مستبشع، كيف لا وهو مشبه بالاعتداء على جميع الجنس البشري ?من قتل نفساً بغير نفسٍ أو فسادٍ في الأرض فكأنما قتل الناس جميعاً ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعاً? (المائدة: 32).

وقد حرم الله قتل النفس إلا بحق - كقصاص ونحوه - في آيات كثيرة من القرآن ، منها قوله تعالى: ?ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق? (الأنعام: 151، الإسراء: 33)، ووصف عباده المؤمنين بأنهم : ? لا يدعون مع الله إلهاً آخر ولا يقتلون النفس التي حرم الله إلا بالحق? (الفرقان: 68).

ومن وقع في قتل نفس بلا حق؛ فقد أدخل الخلل على دينه ، قال r: ((لا يزال المؤمن في فسحة من دينه، ما لم يصب دماً حراماً))(165)؛ وكما يقول الصحابي عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: (إن من ورطات الأمور التي لا مخرج لمن أوقع نفسه فيها، سفك الدم الحرام بغير حله).(166)

وحرمة النفس لا تختص بالمسلم دون غيره، بل تشمل كل نفس من غير أهل الحرب والعدوان، وهذا بيّن لمن تأمل وعيد النبي r لمن اجترأ على دم محرم من غير المسلمين؛ فقد قال r متوعداً من يفعل ذلك من المسلمين: (( من قتل معاهداً لم يرح رائحة الجنة، وإن ريحها لتوجد من مسيرة أربعين عاماً)).(167) فهؤلاء المسالمون من غير المسلمين لهم عهد وذمة الله ورسوله، والوعيد النبوي شديد لمن أخفر هذه الذمة ((ألا من قتل نفساً معاهدة لها ذمة الله وذمة رسوله، فقد أخفر ذمة الله، فلا يرح رائحة الجنة، وإن ريحها ليوجد من مسيرة سبعين خريفاً)).(168)

إن الإسلام لم يحرم قتل أمثال هؤلاء فحسب، بل حرم ظلمهم وانتقاص حقوقهم والإضرار بمصالحهم، والنبي r - وهو الرحمة المسداة - يحاج يوم القيامة المسلمين الذين يظلمون هؤلاء، ويجعل نفسه الشريفة خصماً للمعتدي عليهم، فيقول: ((من ظلم معاهداً أو انتقصه حقه أو كلفه فوق طاقته أو أخذ منه شيئاً بغير طيب نفس؛ فأنا حجيجه يوم القيامة)).(169) فالظلم -لأي أحد -يغضب الله الذي يقبل شكاة المظلوم على ظالمه -ولو كان المظلوم غير مسلم ، فالله يجيب دعوته على ظالمه المسلم، يقول r: ((اتقوا دعوة المظلوم -وإن كان كافراً -فإنه ليس دونها حجاب)) (170)، فالله حرم الظلم على ذاته العلية، وكذلك حرمه كذلك على سائر خلقه، ففي الحديث القدسي أن الله تعالى يقول مخاطباً البشر جميعاً: ((يا عبادي، إني حرمت الظلم على نفسي، وجعلته بينكم محرماً؛ فلا تظالموا)).(171)

إن ظلم الحيوان يستوجب لصاحبه النار، فما بالنا بظلم الإنسان لأخيه الإنسان، قال r : ((دخلت امرأة النار في هرة ربطتها، فلم تطعمها، ولم تدعها تأكل من خشاش الأرض)).(172)

وهكذا فالإسلام أبعد الأديان عن الظلم وأكثرها تنديداً به وامتناعاً عنه، لكن ذلك لا علاقة له من قريب أو بعيد بشرعة الجهاد التي يقررها الإسلام، ردعاً للظالم وزجراً للباغي وصوناً للإيمان وحرية العباد في عبادة الله.

إذا أردنا الحديث عن الجهاد فإنه يحسن بنا أن نقرأ – ولو سريعاً – بعض الأحداث في فجر الإسلام، حين بعث الله محمداً r رسولاً للعالمين، فتصدت له قريش، وآزرتها قبائل العرب، فأوقعوا النكال والتعذيب والقتل بالمؤمنين، والمؤمنون صابرون محتسبون ملتزمون بنهي الله لهم عن القتال، لقد أمرهم الله بالصبر: ?ألم تر إلى الذين قيل لهم كفوا أيديكم وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة? (النساء: 77).

لكن الباطل أزبد وأصر على البغي، فأذن الله للمؤمنين المضطهدين بالقتال والذب عن أنفسهم ?أُذِن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا وإن الله على نصرهم لقديرٌ ^ الذين أخرجوا من ديارهم بغير حق إلا أن يقولوا ربنا الله? (الحج: 39-40).

وبينت الآية نفسها مبلغ الفساد الذي يلحق البشرية على اختلاف أديانها إذا قصرت في رد المعتدي وزجره بالقوة التي يندفع بها عدوانه وتأمن بها المجتمعات ?ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعضٍ لهدمت صوامع وبيعٌ وصلواتٌ ومساجد يذكر فيها اسم الله كثيراً ولينصرن الله من ينصره إن الله لقوي عزيزٌ ? (الحج: 40).

وبينت الآية التي تلتها الصفات التي ينبغي أن يكون عليها أهل الإيمان الذين ينصرهم الله، فهم ?الذين إن مكناهم في الأرض أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر ولله عاقبة الأمور? (الحج: 41).

ونهى الله نبيه والصحابة عن الاعتداء والبدء بالقتال ?وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين ^ واقتلوهم حيث ثقفتموهم وأخرجوهم من حيث أخرجوكم والفتنة أشد من القتل ولا تقاتلوهم عند المسجد الحرام حتى يقاتلوكم فيه فإن قاتلوكم فاقتلوهم كذلك جزاء الكافرين ^ فإن انتهوا فإن الله غفورٌ رحيمٌ ^ وقاتلوهم حتى لا تكون فتنةٌ ويكون الدين لله فإن انتهوا فلا عدوان إلا على الظالمين ^ الشهر الحرام بالشهر الحرام والحرمات قصاصٌ فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم واتقوا الله واعلموا أن الله مع المتقين? (البقرة: 190-194).

ولو انزجر هؤلاء المعتدون بغير القتال لأراحوا الأرض من عناء الحروب وويلاتها ?فإن اعتزلوكم فلم يقاتلوكم وألقوا إليكم السلم فما جعل الله لكم عليهم سبيلاً? (النساء:90).

وحين أعلن المشركون الحرب الشاملة على المسلمين؛ قابلهم الإسلام بمثلها، فأمر الله في القرآن بالتوحد لقتالهم: ?وقاتلوا المشركين كافةً كما يقاتلونكم كافةً واعلموا أن الله مع المتقين? (التوبة: 36).

وهكذا فإن القتال في الإسلام فرض وفق أسباب شرعية ومبررات واقعية.

إن الحرب ليست أمراً محبباً إلى النفوس، لكنها - على كل حال - مبضع الجراح الذي لا غناء عنه إذا أردنا صحة الجسم العليل ?كتب عليكم القتال وهو كرهٌ لكم وعسى أن تكرهوا شيئاً وهو خيرٌ لكم وعسى أن تحبوا شيئاً وهو شر لكم والله يعلم وأنتم لا تعلمون ? (البقرة: 216).

والنبي r يوجه أصحابه إلى دعاء الله والالتجاء إليه لصرف العدو وقطع شره من غير قتال: ((يا أيها الناس، لا تتمنوا لقاء العدو، وسلوا الله العافية، فإذا لقيتموهم فاصبروا)).(173) وقد امتن الله تعالى على نبيه r حين صرف عن المدينة الأحزاب من غير أن يقع بينهم قتل وقتال ?ورد الله الذين كفروا بغيظهم لم ينالوا خيراً وكفى الله المؤمنين القتال وكان الله قوياً عزيزاً? (الأحزاب: 25).

إن غاية الحرب في الإسلام ليست الاستعلاء في الدنيا والتسلط على الآخرين، فمن كان همه الدنيا وزخارفها خسر الآخرة وكرامتها ?تلك الدار الآخرة نجعلها للذين لا يريدون علواً في الأرض ولا فساداً والعاقبة للمتقين? (القصص: 83).

ولما جاء أعرابي إلى النبي r يسأله عن غايات الجهاد المشروع الذي شرعه الله، ويقول: الرجل يقاتل للمغنم، والرجل يقاتل ليُذكر، ويقاتل ليُرى مكانه، من في سبيل الله؟ فقال r مبيناً فساد القتال إذا كان للدنيا ومتاعها وغاياتها الخسيسة: ((من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله)).(174)

إن المتدبر لما ورد في القرآن والسنة وتاريخ المسلمين لن تخطئ عينه رؤية مقصدين نبيلين شرع الله الجهاد لحفظهما:

أولهما: دفع العدوان الواقع على الدين، ذلك العدوان الذي يحول بين الناس ودعوة الحق سماعاً لها أو إيماناً بها، كما قال تعالى : ?وقاتلوهم حتى لا تكون فتنةٌ ويكون الدين لله فإن انتهوا فلا عدوان إلا على الظالمين? (البقرة: 193)، يقول ابن عمر t : (قد فعلنا على عهد رسول الله r إذ كان الإسلام قليلاً، فكان الرجل يفتن في دينه: إما يقتلونه وإما يوثقونه حتى كثر الإسلام).(175)

إن المسلم يمضي قُدُماً بجهاده ليحرر الإنسان ، ويضمن له حرية القرار والاختيار، ويدفع بذلك من يحول بين الناس واختيارهم، يدفع شر أولئك الذين يبغون الفتنة والبوار، فقتال هؤلاء مشروع مبرور ?والفتنة أكبر من القتل ولا يزالون يقاتلونكم حتى يردوكم عن دينكم إن استطاعوا ومن يرتدد منكم عن دينه فيمت وهو كافرٌ فأولئك حبطت أعمالهم في الدنيا والآخرة وأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون? (البقرة: 217).

وقد جلّى ربعي بن عامرٍ يوم القادسية هذا الهدف النبيل حين قال لرستم قائد جيش الفرس في القادسية، وقد سأله: ما جاء بكم؟ فأجاب ربعي: "الله ابتعثنا لنخرج من شاء من عبادة العباد إلى عبادة الله، ومن ضيق الدنيا إلى سعتها، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام، فأرسلنا بدينه إلى خلقه لندعوهم إليه".(176)

إن الإيمان أغلى ما يملكه المسلم، وهو أحق ما بذل له وضحّى من أجله، وقد أنصف الكاتب بيجي رودريك ولم يجاوز الحقيقة حين قال: " الإسلام أذن لرسوله بالجهاد لرفع الظلم والاضطهاد .. ولإزالة العقبات التي تقف في وجه الدعوة للإسلام، تلك الدعوة التي لا تكره أحداً على الدخول في هذا الدين، وإنما تدعو الناس إليه وتترك لهم الحرية الكاملة للاختيار .. إن الإسلام هو دين السلام ، السلام مع الله والسلام مع الناس جميعاً".(177)

الثاني: رد العدوان الذي يستهدف أوطان المسلمين وينتهك حرماتهم، وتحرير الإنسان من الظلم والاضطهاد، فالظلم يمقته الله، والبغي تستنكفه الضمائر، ولا ترى بُداً من نصرة المظلوم وإحقاق الحق وإقامة العدل الذي قامت عليه السماوات والأرض، قال الله تعالى: ?وما لكم لا تقاتلون في سبيل الله والمستضعفين من الرجال والنساء والولدان الذين يقولون ربنا أخرجنا من هذه القرية الظالم أهلها واجعل لنا من لدنك ولياً واجعل لنا من لدنك نصيراً? (النساء: 75).

ويقول r مبشراً ومثبتاً من قُتِل وهو يدفع عن ماله وأهله ودينه: ((من قُتِل دون ماله فهو شهيد، ومن قُتِل دون أهله أو دون دمه أو دون دينه فهو شهيد)).(178)

وحين يجاهد المسلم فإنه يلتزم في جهاده جملة من الضوابط التي يتميز بها عن الإرهاب، منها:

- القبول بالسلم والهدنة إن طلبها العدو المقاتل، قال تعالى : ?وإن جنحوا للسلم فاجنح لها وتوكل على الله إنه هو السميع العليم ^ وإن يريدوا أن يخدعوك فإن حسبك الله ? (الأنفال: 61-62).

- الامتناع عن قتل المدنيين من النساء والشيوخ والأطفال ومن في حكمهم من المدنيين المعصومين كالخدم والأُجراء ورجال الدين وغيرهم ممن لا يشارك في القتال، فقد ورد النهي عن قتل النساء والشيوخ والصبيان في حديث النبي r، يقول ابن عمر رضي الله عنهما: (وجدت امرأة مقتولة في بعض مغازي رسول الله r، فنهى رسول الله r عن قتل النساء والصبيان).(179)

وكان رسول الله r إذا بعث جيشاً يقول : ((انطلقوا باسم الله، وعلى ملة رسول الله، لا تقتلوا شيخاً فانياً، ولا طفلاً، ولا صغيراً، ولا امرأة، ولا تغلوا، وضموا غنائمكم، وأصلحوا وأحسنوا، إن الله يحب المحسنين)).(180)

ومما جاء في النهي عن قتل النساء والأجراء والعمال الذين لا يحاربون، حديث الصحابي رباح بن الربيع قال : كنا مع رسول الله r في غزوة، فرأى الناس مجتمعين على شيء، فبعث رجلاً فقال: ((انظر علام اجتمع هؤلاء؟)) فجاء فقال: على امرأة قتيل. فقال r: ((ما كانت هذه لتقاتل))، وكان على المقدمة خالد بن الوليد، قال: فبعث رسول الله r رجلاً، فقال: ((قل لخالد: لا تقتلن امرأة ولا عسيفاً)). (181)

وفي رواية، فقل: إن رسول الله r يأمرك فيقول: ((لا تقتلن ذرية ولا عسيفاً)).(182)

ولما بعث رسول الله r سرية يوم حنين قاتلوا المشركين، فأفضى بهم القتل إلى الذرية، فلما جاءوا قال رسول الله r مستنكراً: ((ما حملكم على قتل الذرية؟)) فقالوا: يا رسول الله، إنما كانوا أولاد المشركين. فقال r معلماً ومصححاً مفهومهم الخاطئ: ((أوهل خياركم إلا أولاد المشركين؟ والذي نفس محمد بيده ما من نسمة تولد إلا على الفطرة حتى يعرب عنها لسانها)).(183)

وهكذا نهى النبي r عن قتل أبناء المشركين، لا بل أخبر أنهم مولودون على الفطرة المؤمنة، وحكمهم كذلك إلى أن يكبروا، فيختاروا الكفر الذي عليه آباؤهم.

وممن يمنع قتله؛ الرهبان لأنهم لا يشتركون في القتال، وقد أوصى الخليفة أبو بكر قائد جيش المسلمين إلى بلاد الشام بقوله: (إنك ستجد قوماً زعموا أنهم حبسوا أنفسهم لله، فذرهم وما زعموا أنهم حبسوا أنفسهم له ).(184)

وهكذا فالإسلام بريء من الإرهاب، وكذلك المسلمون الذين التزموا خلال تاريخهم الجهادي بضوابط الإسلام، ولم يكونوا كغيرهم من المحاربين المفسدين في الأرض، وبين أيدينا شهادات عديدة منصفة تؤكد هذا وتجليه:

يقول المؤرخ الشهير ول ديورانت: "إن المسلمين – كما يلوح – كانوا رجالاً أكمل من المسيحيين، فقد كانوا أحفظ منهم للعهد، وأكثر منهم رحمة بالمغلوبين، وقلّما ارتكبوا في تاريخهم من الوحشية ما ارتكبه المسيحيون عندما استولوا على بيت المقدس في عام 1099م". (185)

وأما غوستاف لوبون فيقول : "فالحق أن الأمم لم تعرف فاتحين راحمين متسامحين مثل العرب ولا ديناً سمحاً مثل دينهم ".(186)

ويتحدث عن صور من معاملة المسلمين لغير المسلمين فيقول : "وكان عرب أسبانيا -خلا تسامحهم العظيم -يتصفون بالفروسية المثالية، فيرحمون الضعفاء ويرفقون بالمغلوبين، ويقفون عند شروطهم وما إلى ذلك من الخلال التي اقتبستها الأمم النصرانية بأوربا منهم مؤخراً". (187)

وهكذا تبين لنا عظيم الفرق بين الجهاد المشروع في الإسلام والأساليب الإرهابية التي تمارس من بعض المسلمين وغيرهم اليوم، والتي يعتبرها الإسلام إفساداً في الأرض، وتنسب إلى الإسلام جوراً وظلماً!

إن اتهام الإسلام بالإرهاب زور وظلم يفتقد الموضوعية ويجافي الحقيقة، والزاعمون له أدعياء تجردوا عن المصداقية والصدق حين كلّت أقلامهم وبحّت حناجرهم من لمز الإسلام بالإرهاب، ولم ينطقوا ببنت شفة عن أديان أخرى ، تسوغ كتبها قتل النساء والأطفال والرضع وغيرهم ممن لا علاقة له بالقتال " هكذا يقول رب الجنود: ... فالآن اذهب، واضرب عماليق، وحرموا كل ما له، ولا تعف عنهم، بل اقتل رجلاً وامرأة، طفلاً ورضيعاً، بقراً وغنماً، جملاً وحماراً " (صموئيل (1) 15/2-3).

إنا لا نطالب هؤلاء باتهام الآخرين، إنما الذي نطالبهم به أن يفهموا نصوصنا المقدسة بفهمنا لها، لا بخلطهم وجهلهم، وأن يشيحوا بأقلامهم عنا حين تغيب عنهم الفهوم الصحيحة، وإلا فالأحرى أن يلتمسوا لنا من الأعذار ما التمسوه للآخرين وكتبهم.

ونختم بشهادة للكاتب الأمريكي آندرو باترسون حيث يقول: " إن العنف باسم الإسلام ليس من الإسلام في شيء، بل إنه نقيض لهذا الدين الذي يعني السلام لا العنف".(188)

ثالثاً : الإسلام والتعامل مع الآخر

ما فتئت بعض الدوائر الإعلامية تتعرض للإسلام وتتهمه بالعنصرية في تعامله مع غير المسلمين، وتزعم أن الإسلام أرغم الكثيرين على اعتناقه، وأنه يحث على كراهية الآخرين ويشجع على ظلمهم.

وهذه الدوائر جهلت الإسلام وأحكامه أو أنها تعمدت تشويه حقائقه وتشريعاته، وأياً كان؛ فإن الإسلام بريء من هذه الفرية، فالتاريخ يشهد أن المسلمين طوال عطائهم الحضاري العظيم لم يعمدوا إلى إجبار الشعوب أو الأفراد على اعتناق دينهم ، فقد أيقنوا أن اختلاف البشر في شرائعهم واقع بمشيئة الله تعالى ومرتبط بحكمته، يقول الله: ?لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجاً ولو شاء الله لجعلكم أمة واحدة ولكن ليبلوكم فيما آتاكم فاستبقوا الخيرات إلى الله مرجعكم جميعاً? (المائدة: 48)، ولو شاء الله لخلق الناس أو جعلهم مسلمين فطرة، من غير اختيار منهم ولا اقتدار ?ولو شاء ربك لجعل الناس أمةً واحدةً ولا يزالون مختلفين ^ إلا من رحم ربك ولذلك خلقهم ? ( هود : 118– 119).

ولذلك أدرك المسلمون أن هداية الجميع من المحال، وأن أكثر الناس لا يؤمنون، وأن واجبهم الدأب في دعوة واستمالة الناس إلى الحق وطلب أسباب هدايتهم، فقد أخبرهم الله بأن مهمتهم هي البلاغ فحسب، وأنه تعالى هو من يتولى حساب المعرضين في الآخرة، قال الله مخاطباً نبيه r: ? فإن تولوا فإنما عليك البلاغ? (النحل: 82). وقال: ?فإن أسلموا فقد اهتدوا وإن تولوا فإنما عليك البلاغ والله بصيرٌ بالعباد? (آل عمران: 20)، ?ولو شاء ربك لآمن من في الأرض كلهم جميعاً أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين? (يونس: 99).

وقد رفض الإسلام ابتداء فكرة إلغاء الآخر، وأعلنها صريحة: ? لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي? (البقرة: 256) ، ? وقل الحق من ربكم فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر إنا أعتدنا للظالمين ناراً أحاط بهم سرادقها? (الكهف: 29).

إن الإسلام يرفض إسلام المكره لأسباب بسيطة واضحة، منها أن المكره ليس بمؤمن حقيقة، ولا تلزمه تشريعاته في أحكام الدنيا، ولا ينفعه ذلك في الآخرة، ومنها أن ذلك ليس مقتضى الحكمة والمشيئة الإلهية.

وقد شهد المؤرخون بالتزام المسلمين بتعاليم دينهم في هذا الصدد، فيقول المفكر الأسباني بلاسكوا أبانيز في كتابه "ظلال الكنيسة" متحدثاً عن الفتح الإسلامي للأندلس: "لقد أحسنت أسبانيا استقبال أولئك الرجال الذين قدموا إليها من القارة الإفريقية، وأسلمتهم القرى أزمتها بغير مقاومة ولا عداء، فما هو إلا أن تقترب كوكبة من فرسان العرب من إحدى القرى؛ حتى تفتح لها الأبواب وتتلقاها بالترحاب .. كانت غزوة تمدين، ولم تكن غزوة فتح وقهر .. ولم يتخل أبناء تلك الحضارة زمناً عن فضيلة حرية الضمير، وهي الدعامة التي تقوم عليها كل عظمة حقة للشعوب، فقبلوا في المدن التي ملكوها كنائس النصارى وبِيَع اليهود، ولم يخشَ المسجد معابد الأديان التي سبقته، فعرف لها حقها، واستقر إلى جانبها، غير حاسد لها، ولا راغب في السيادة عليها".(189)

ويقول المؤرخ الإنجليزي السير توماس أرنولد في كتابه "الدعوة إلى الإسلام": "لقد عامل المسلمون الظافرون العرب المسيحيين بتسامح عظيم منذ القرن الأول للهجرة ، واستمر هذا التسامح في القرون المتعاقبة، ونستطيع أن نحكم بحق أن القبائل المسيحية التي اعتنقت الإسلام قد اعتنقته عن اختيار وإرادة حرة ، وإن العرب المسيحيين الذين يعيشون في وقتنا هذا بين جماعات المسلمين لشاهد على هذا التسامح ".(190)

وتقول المستشرقة الألمانية زيغريد هونكه: "العرب لم يفرضوا على الشعوب المغلوبة الدخول في الإسلام، فالمسيحيون والزرادشتية واليهود الذين لاقوا قبل الإسلام أبشع أمثلة للتعصب الديني وأفظعها؛ سمح لهم جميعاً دون أي عائق يمنعهم بممارسة شعائر دينهم، وترك المسلمون لهم بيوت عبادتهم وأديرتهم وكهنتهم وأحبارهم دون أن يمسوهم بأدنى أذى، أو ليس هذا منتهى التسامح؟ أين روى التاريخ مثل تلك الأعمال؟ ومتى؟".(191)

إن السبب الحقيقي لانتشار الإسلام في الأرض هو تسامحه مع الآخرين، وليس عنفه المزعوم، لقد قرأت الأمم الحق في تسامح المسلمين، وعرفته في طيب معشرهم وحسن تعاملهم، خلافاً لما يشيعه الآخرون ظلماً وزوراً، يقول المؤرخ غوستاف لوبون: "إن القوة لم تكن عاملاً في انتشار القرآن ، فقد ترك العرب المغلوبين أحراراً في أديانهم .. فإذا حدث أن انتحل بعض الشعوب النصرانية الإسلام واتخذ العربية لغة له؛ فذلك لما كان يتصف به العرب الغالبون من ضروب العدل الذي لم يكن للناس عهد بمثله، ولما كان عليه الإسلام من السهولة التي لم تعرفها الأديان الأخرى".(192)

ويقول: "وما جهله المؤرخون من حلم العرب الفاتحين وتسامحهم كان من الأسباب السريعة في اتساع فتوحاتهم وفي سهولة اقتناع كثير من الأمم بدينهم ولغتهم .. والحق أن الأمم لم تعرف فاتحين رحماء متسامحين مثل العرب، ولا ديناً سمحاً مثل دينهم ". (193)

ويوافقه المؤرخ وول ديورانت فيقول: "وعلى الرغم من خطة التسامح الديني التي كان ينتهجها المسلمون الأولون، أو بسبب هذه الخطة اعتنق الدين الجديدَ معظمُ المسيحيين وجميع الزرادشتيين والوثنيين إلا عدداً قليلاً منهم .. واستحوذ الدين الإسلامي على قلوب مئات الشعوب في البلدان الممتدة من الصين وأندنوسيا إلى مراكش والأندلس، وتملك خيالهم، وسيطر على أخلاقهم، وصاغ حياتهم، وبعث آمالاً تخفف عنهم بؤس الحياة ومتاعبها". (194)

إن هذا التسامح الإسلامي هدي قرآني لازم للمؤمن الذي ينصاع لقول الله: ?لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم إن الله يحب المقسطين? (الممتحنة: 8).

فالآية تنوه بفضيلتين، وهما حق لكل من لم يقاتلنا ولم يعتدِِِِ علينا من غير المسلمين: أولاهما: التخلق بخصلة البر، وهذا البر الذي رغبَّ به القرآن تجلى في كثير من تشريعات الإسلام التي أبدعت الكثير من المواقف الفياضة بمشاعر الإنسانية والرفق.

فقد أوجب القرآن حسن العشرة وصلة الرحم حتى مع الاختلاف في الدين ، فقد أمر الله بحسن الصحبة للوالدين وإن جهدا في رد ابنهما عن التوحيد إلى الشرك، فإن ذلك لا يقطع حقهما في بره وحسن صحبته: ?وإن جاهداك على أن تشرك بي ما ليس لك به علم فلا تطعهما وصاحبهما في الدنيا معروفاً? (لقمان: 15).

ولما جاءت أسماء بنت الصديق إلى رسول الله r تقول: يا رسول الله ، قدمت عليّ أُمّي وهي راغبة ، أفأَصِلُ أُمي؟ فأجابها الرحمة المهداة : ((صِلِي أُمَّك)).(195)

ومن البر والتسامح الذي لا يمنعه اختلاف الدين؛ عيادة المريض ، فقد عاد النبي r عمه الكافر أبا طالب في مرضه (196)، وعاد أيضاً جاراً له من اليهود في مرضه، فقعد عند رأسه.(197)

كما أهدى النبي r إلى بعض أعدائه ومخالفيه في الدين، لما للهدية من أثر في كسب القلوب واستلال الشحناء؛ فقد أهدى إلى أبي سفيان تمر عجوة، وهو بمكة، وكتب إليه يستهديه أُدماً (198)، كما قبِل النبي r هدايا الملوك إليه، فقِبل هدية المقوقس، وهدية ملك أيلة أكيدر، وهدية كسرى.(199)

وعلى المستوى الاجتماعي قبِل r دعوة زينب بنت الحارث اليهودية، حين دعته إلى شاة مشوية في خيبر (200)، كما قبِل وأجاب دعوة يهودي دعاه إلى خبز شعير وإهالة سنخة. (201)

وأما الفضيلة الثانية التي رغّبت فيها آية سورة الممتحنة فهي: العدل الذي هو أهم مكارم الأخلاق التي جاء الإسلام لحمايتها وتتميمها؛ وهو غاية قريبة ميسورة إذا كان الأمر متعلقاً بإخوة الدين أو النسب، وغيرها مما يتعاطف ويتراحم له البشر.

لكن صدق هذه الخُلة إنما يظهر إذا تباينت الأديان وتعارضت المصالح، لذا فقد أمر القرآن الكريم بالعدل بين البشر عموماً، وخصَّ - بمزيد تأكيده – العدل مع المخالفين الذين قد يظلمهم المرء بسبب الاختلاف والنفرة، قال تعالى: ?يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين لله شهداء بالقسط ولا يجرمنكم شنآن قوم على أن لا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى? (المائدة: 8).

يقول الدكتور نظمي لوقا : "ما أرى شريعة أدعى للإنصاف، ولا أنفى للإجحاف والعصبية من شريعة تقول: ? ولا يجرمنَّكم شنآن قومٍ على ألا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى? (المائدة: 8)، فأي إنسان بعد هذا يكرم نفسه وهو يدينها بمبدأ دون هذا المبدأ، أو يأخذها بدين أقل منه تسامياً واستقامة؟!". (202)

وشواهد عدل المسلمين مع أهل ذمتهم كثيرة، ومنه خصومة الخليفة الرابع علي بن أبي طالب t مع يهودي في درعه التي فقدها، ثم وجدها عند يهودي، فاحتكما إلى قاضي المسلمين شريح القاضي، فحكم بها لليهودي، فأسلم اليهودي، وقال: "أما إني أشهد أن هذه أحكام أنبياء! أمير المؤمنين يدينني إلى قاضيه، فيقضي لي عليه! أشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، الدرع درعك يا أمير المؤمنين، اتبعت الجيش وأنت منطلق من صفين، فخرجت من بعيرك الأورق". فقال علي t: (أما إذ أسلمت فهي لك). (203)

ومن صور العدل مع المخالفين قصة القبطي مع عمرو بن العاص والي مصر وابنه، وقد اقتص الخليفة عمر بن الخطاب للقبطي في مظلمته من أمير مصر وابنه، وقال مقولته التي أضحت بين الناس مثلاً: "يا عمرو، متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحراراً؟".(204)

إن أمثال هذه المواقف الرائعة دفع بطريك بيت المقدس في القرن التاسع للقول عن العرب في كتابه إلى بطريرك القسطنطينية: "إنهم يمتازون بالعدل، ولا يظلموننا البتة، وهم لا يستخدمون معنا أي عنف".(205)

ولو أنصف الزاعمون لرددوا مع جوستاف لوبون قوله: "الإسلام من أكثر الأديان ملاءمة لاكتشافات العلم، ومن أعظمها تهذيباً للنفوس وحملاً على العدل والإحسان والتسامح".(206)

وصدق الدكتور لويس يونغ في كتابه "العرب وأوروبا" حين قال: "إن أشياء كثيرة لا يزال على الغرب أن يتعلمها من الحضارة الإسلامية منها نظرة العرب المتسامحة وعدم تمييزهم فروق الدين والعرق واللون".(207)

وهكذا فالإسلام بريء بشهادة النصوص والتاريخ مما يزعمه القائلون بأن الإسلام رعى العنصرية الدينية، بل على العكس من ذلك، لقد قدم المسلمون نموذجاً حضارياً فريداً ما تزال البشرية ترنو إلى مثله ، وهي أشد حاجة إليه اليوم في ظل تصاعد حملات الكراهية للمسلمين من أولئك الذي ما فتئوا يبشرون بصدام الحضارات والخطر المزعوم الذي تحمله الحضارة الإسلامية.

رابعاً : المسلمون والتحديات المعاصرة

إن نظرة سريعة في واقع المسلمين اليوم لن تخطئ في رؤية الكثير من التحديات التي تواجهها الأمة المسلمة في مطلع القرن الواحد والعشرين.

ولعل أول هذه التحديات قبوع الأمة التي قادت ركب الحضارة الإنسانية ثمانية قرون في ذيل القائمة في سلم الحضارة والعلم.

يستغل البعض هذا الواقع المرير للربط بين حال المسلمين ودينهم، متناسين أنه ليس من العدل والنصفة في شيء الحكم على دين بواقع أهله في برهة من الزمان، فالإسلام دين العلم والحضارة ، وحين تمسك المسلمون بدينهم كانوا أكثر الأمم عطاء في ركب الحضارة وأعظمها علماً وإبداعاً، لكنهم حين بعدوا عن دينهم واستبدلوه أو خلطوه بالغث الوافد عليهم من هنا وهناك تردوا عن السبق والحظوة التي منحها الله لهم بالعلم والمعرفة.

إن القرآن منذ نزلت أول آياته ?اقرأ باسم ربك الذي خلق? (العلق: 1) ما فتئ يدعو المسلمين إلى التعلم، ويثني على العلماء ويمتدح صنيع العقلاء ?يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجاتٍ ? (المجادلة: 11)، ?قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون إنما يتذكر أولوا الألباب? (الزمر: 9).

لقد كرم الإسلام العلم، وأعطى لأهله من الفضل والمنزلة بوناً شاسعاً على سائر الناس، بما فيهم العُبّاد الذين نذروا أنفسهم لعبادة الله تعالى، يقول r : ((فضل العالم على العابد كفضلي على أدناكم، إن الله وملائكته وأهل السموات والأرضين حتى النملة في جحرها وحتى الحوت؛ ليصلون على معلم الناس الخير)). (208)

وحين تمسك المسلمون بدينهم والتزموا شرائعه سبقوا أمم الدنيا ، وحملوا مشعل العلم والحضارة، وأبدعوا حضارة فريدة، يكفينا عن العرض المسهب لإنجازاتها أن ننقل بعض اعتراف العلماء المنصفين بسبقنا وإبداعنا، فقد سجلت كلماتهم بالإعجاب بعضاً من مآثر حضارتنا، وكانوا شهود عدل على مآثرنا.

ومن ذلك قول الدكتور ستانلي لين بول في كتابه "تاريخ العالم" : "لم يحدث في تاريخ المدنية حركة أكثر روعة من ذلك الشغف الفجائي بالثقافة الذي حدث في جميع أنحاء العالم الإسلامي، فكان كل مسلم، من الخليفة إلى الصانع، يبدو كأنما قد اعتراه فجأة شوق إلى العلم وظمأ إلى السفر، وكان ذلك خير ما قدّمه الإسلام من جميع الجهات". (209)

ويضيف المؤرخ جوليفيه كستلو في كتابه "قانون التاريخ" بأن "التقدم العربي بعد وفاة الرسول [r] كان عظيماً، جرى على أسرع ما يكون، وكان الزمان مستعداً لانتشار الإسلام، فنشأت المدنية الإسلامية نشأة باهرة، قامت في كل مكان مع الفتوحات بذكاء غريب ظهر أثره في الفنون والآداب والشعر والعلوم. وقبض العرب بأيديهم - خلال عدة قرون - على مشعل النور العقلي، وتمثلوا جميع المعارف البشرية .. فأصبحوا سادة الفكر، مبدعين ومخترعين، ولا بالمعنى المعروف، بل بما أحرزوه من أساليب العلم التي استخدموها بقريحة وقادة للغاية، وكانت المدنية العربية قصيرة العمر، إلا أنها باهرة الأثر، وليس لنا إلا إبداء الأسف على اضمحلالها".(210)

وإذا كان حال المسلمين فيما مضى كذلك، فكيف توارت الأمة المسلمة عن الشهود؟ ولم تقبع في ذيل الركب اليوم؟!

إن ما نشهده اليوم من ضعف حضاري للأمة المسلمة يرتبط بعاملين اثنين: أولهما هو بُعدُ المسلمين عن دينهم، فلئن كان تقدم أوربا مرهوناً بتخلصها من دينها المبدَّل؛ فإن نهضتنا لن تكون إلا بعودتنا إلى ديننا، فالمفارقة بين حالنا وحالهم، تنبع من الاختلاف بين خصائص أدياننا.

والعامل الثاني الذي أسهم في تردي أحوال الأمة المسلمة هو الاستعمار الغربي الذي غزا الشرق الإسلامي عقوداً من السنين، ولم يبرحها إلا وقد ترك فيها من العقد المستعصية ما تعجز عن حلها الأجيال ، ليضمن بذلك استمرار تفوقه ورواج سلعه في الشعوب التي جعلها أسواقاً استهلاكية لبضائعه، فارتهن مقدراتها ليضمن تفوقه ودوام سيطرته.

وأما المظهر الثاني من المظاهر التي تزري بواقع المسلمين اليوم، فهو اختلافهم وتناحرهم بل واحتراب طوائفهم وتراميهم بالتكفير والتبديع، وهم في ذلك أيضاً قد خالفوا أمر ربهم وهو يدعوهم إلى الوحدة والاعتصام ? واعتصموا بحبل الله جميعاً ولاتفرقوا ? (آل عمران: 103)، فقد خالفوه وهو يدعوهم إلى التوحد في أمة واحدة ? وإن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاتقون ? (المؤمنون: 52).

إن تشرذم المسلمين وتناحرهم يرجع إلى عوامل كثيرة، لكن أهمها تدخل أياد خفية تكيد لإخوتهم، وتتربص بوحدتهم الدوائر، فالكثير من خلافات المذاهب الإسلامية لم تؤثر في وحدة المسلمين طوال تاريخهم؛ لأنها بقيت في منأى عن الهجمة الاستعمارية المغذية للنعرات المذهبية، كما هو الحال في العلاقة بين السنة والزيدية، أو بين أتباع المذاهب الفقهية الأربعة.

إن المسلمين حين افترقوا لم يفترقوا بسبب اختلافهم حول أصول دينهم، فهذا ما لم تخالف فيه طائفة من طوائفهم المعتبرة، فالكل يؤمن بالله الواحد وصفاته وكتبه وأنبيائه ، وأصول شريعته وأركان دينه، وخلافهم بقي بعيداً عن أصول الدين التي لم يختلفوا فيها، فخلاف السنة مع الشيعة – وهو الخلاف الأقوى بين المسلمين اليوم – إنما هو خلاف حول الشخص الأحق باستحقاق الخلافة بعد النبي r، فهو خلاف سياسي تاريخي في جذوره، ولم تمس امتداداته أصول الدين من قريب أو بعيد.

وافتراق المسلمين أيضاً قدر الله لكل الأمم ، وفيه مصداق نبوءة نبوية لنبينا r حين قال: ((افترقت اليهود على إحدى وسبعين فرقة، فواحدة في الجنة، وسبعون في النار، وافترقت النصارى على ثنتين وسبعين فرقة، فإحدى وسبعون في النار، وواحدة في الجنة، والذي نفس محمد بيده لتفترقن أمتي على ثلاث وسبعين، فرقة واحدة في الجنة، وثنتان وسبعون في النار)) قيل: يا رسول الله من هم؟ قال: ((الجماعة)). (211)

وهكذا فالتفرق ميراثنا من الأمم السابقة، وتناحر بعضنا واقتتالهم مذموم لنكوصه عن هدي الإسلام إلى سبل الضلال والكفر ((فإن دماءكم وأموالكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا، في شهركم هذا، في بلدكم هذا إلى يوم تلقون ربكم .. فلا ترجعوا بعدي كفاراً يضرب بعضكم رقاب بعض)).(212)

إن حاضر المسلمين لن يصلح إلا بما أصلح ماضيهم، إن الإسلام هو الذي جعل من أوزاع العرب وغيرهم أمة واحدة، وأحالهم من أمة أمية جاهلة إلى أمة قادت ركب الحضارة الإنسانية ثمانية قرون.

إن الرصيد الذي يمتلكه الإسلام في مبادئه وتصوراته ما يزال الأمل الذي يتطلع إليه العقلاء، فكل سؤدد وشرف وحضارة في الاستمساك بالإسلام، في حين أن مظاهر التخلف والتفرق نتاج قدري حتمي لبعدنا عن الإسلام، فما أحرانا أن نسارع في العود إليه والاستمساك بهديه القويم.

خاتمة:

وهكذا يتبين الحق لكل منصف، فمن قبِل هبة الله التي تبينت له؛ شرح الله صدره للإسلام ? أفمن شرح الله صدره للإسلام فهو على نورٍ من ربه? وأما من قسى فلبه وكبُر عليه الإذعان للحق، فنصيبه تمام الآية: ?فويلٌ للقاسية قلوبهم من ذكر الله أولئك في ضلالٍ مبينٍ ? (الزمر: 22).

وبعد، ما الذي يمنع المرء من الولوج في الإسلام، أيشينه أن يعبد الله وحده، وأن يكون على دينه الذي بشر به الأنبياء وارتضاه الله لعباده ديناً.

ما بال بعضنا -في القرن الواحد والعشرين -يفضل ميراث الآباء وإلفِه على الحق الذي آمن بصدقه عقله؟

إن الكثيرين من العقلاء قد سبقوا إلى هذا الحق فاعتنقوه، منهم النجاشي رحمه الله، ملك الحبشة الذي عرض عليه الصحابة الإسلام فقال: يا معشر القسيسين والرهبان، ما يزيد ما يقول هؤلاء على ما تقولون في ابن مريم ما يزن هذه، مرحباً بكم وبمن جئتم من عنده، فأنا أشهد أنه رسول الله، والذي بشّر به عيسى ابن مريم، ولولا ما أنا فيه من الملك لأتيته حتى أحمل نعليه.(213)

لكم أشرق الإسلام في صدور أناس؛ فأخرجهم الله به من ضيق الصدر وضنك الدنيا وقتامة الحياة إلى رحابة الدنيا وسعادتها ونعيم الآخرة، ولكم تنكب طريق الحقيقة آخرون، فعاشوا في ضيق الدنيا واستحقوا أيضاً عذاب الآخرة ? فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام ومن يرد أن يضله يجعل صدره ضيقاً حرجاً كأنما يصعد في السماء كذلك يجعل الله الرجس على الذين لا يؤمنون ? (الأنعام: 125).

إن الإسلام بما أوتي من حق وبصيرة ووضوح يملأ الكون بهديه القويم، وتشير الدراسات والإحصاءات إلى أنه أكثر الأديان انتشاراً رغم الضعف الذي ينتاب الأمة الإسلامية عموماً، ورغم الحملات المسمومة التي ما فتئت تفتري على الإسلام على صفحات الإعلام وشاشات القنوات وغيرها من وسائل الاتصال، ليتحقق من بعد ذلك كله موعود الله ?يريدون أن يطفئوا نور الله بأفواههم ويأبى الله إلا أن يتم نوره ولو كره الكافرون? (التوبة: 32).

ولو أنصف المرء لردد ما قاله الدكتور نظمي لوقا عن النبي r: "أعرض بوجداني عن تلك النظرة الجائرة أو المتجنية التي نظر بها كثيرون من المستشرقين وغيرهم إلى الرسول العربي، ولكني حين أحتكم إلى العقل أرى الخير كل الخير فيما جنحت إليه .. فما كان كآحاد الناس في خلاله ومزاياه، وهو الذي اجتمعت إليه آلاء الرسل، وهمة البطل، فكان حقاً على المنصف أن يكرم فيه المُثل ويحيي فيه الرَّجل".(214)

إن البشرية اليوم أحوج ما تكون إلى الإسلام، إذا ما أرادت أن تتخلص من مشكلات عصرنا المتفاقمة، فالإسلام وحده كفيل بالقضاء على أمراضنا النفسية والاجتماعية، وهو وحده من يملك العصا السحرية التي تخفض معدلات الانتحار وتعيد لحياة البائسين المعذبين جمالها ورونقها في ظلال الإسلام.

يقول دوجلاس أرثر: "لو أحسن عرض الإسلام على الناس لأمكن به حلّ كافة المشكلات، ولأمكن تلبية الحاجات الاجتماعية والروحية والسياسية للذين يعيشون في ظل الرأسمالية والشيوعية على السواء. فقد فشل هذان النظامان في حلّ مشكلات الإنسان. أما الإسلام فسوف يقدم السلام للأشقياء، والأمل والهدى للحيارى والضالين. وهكذا فالإسلام لديه أعظم الإمكانات لتحديث هذا العالم وتعبئة طاقات الإنسان لتحقيق أعلى مستوى من الإنتاج والكفاية".(215)

وأما الكاتب الهندي كوفهي لال جابا فيقول في كتابه "رسول الصحراء": "الإسلام بوسعه تلبية كافة حاجات الإنسان في العصر الحاضر، فليس هناك أي دين كالإسلام يستطيع أن يقدم أنجح الحلول للمشكلات والقضايا المعاصرة. فمثلاً أشد ما يحتاج إليه العالم اليوم الأخوة والمساواة، وهذه وجميع الفضائل لا تجتمع إلا في الإسلام، لأن الإسلام لا يفاضل بين الناس إلا على أساس العمل والبذل". (216)

ولا نجد أخيراً إلا أن نردد مع أديب ألمانيا يوهان غوته هتافه الصادق: "إذا كان هذا هو الإسلام، أفلا نكون جميعنا مسلمين؟". (217)

قائمة المصادر والمراجع

* القرآن الكريم .

* الكتاب المقدس . طبعة دار الكتاب المقدس في الشرق الأوسط .

ــــــــــــــــ

* الإتقان في علوم القرآن، جلال الدين السيوطي، تحقيق: محمد أبو الفضل إبراهيم، المكتبة العصرية، صيدا، 1408هـ.

* الجامع الصحيح (سنن الترمذي)، محمد بن سورة الترمذي، تحقيق: أحمد شاكر، مكة المكرمة، المكتبة الفيصلية.

* الخصائص العامة للإسلام، يوسف القرضاوي، ط4، القاهرة، مكتبة وهبة ، 1409هـ.

* زاد المسير في علم التفسير، جمال الدين عبد الرحمن بن علي الجوزي، المكتب الإسلامي للطباعة والنشر.

* السلسلة الصحيحة، محمد ناصر الدين الألباني، الرياض، مكتبة المعارف.

* سنن ابن ماجه، أبو عبد الله محمد بن يزيد القزويني، بيت الأفكار الدولية، عمان.

* سنن أبي داود ، أبو داود السجستاني، دار الحديث ، 1391هـ .

* سنن النسائي، أبو عبد الرحمن أحمد بن شعيب النسائي، تحقيق: عبد الفتاح أبو غدة، ط2، حلب، مكتب المطبوعات الإسلامية ، 1406هـ.

* صحيح البخاري، محمد بن إسماعيل البخاري، ترقيم: محمد فؤاد عبد الباقي، في تحقيقه لكتاب فتح الباري بشرح صحيح البخاري، ابن حجر العسقلاني، ط2، القاهرة، دار الريان للتراث، 1407هـ.

* صحيح الترغيب والترهيب، محمد ناصر الدين الألباني، ط5، الرياض، مكتبة المعارف.

* صحيح مسلم، مسلم بن الحجاج القشيري، ترقيم : محمد فؤاد الباقي، دار إحياء التراث العربي . بيروت ، 1375هـ .

* قالوا عن الإسلام، عماد الدين خليل، طبع الندوة العالمية للشباب الإسلامي، 1412هـ.

* قصة الحضارة، وول ديورانت، ترجمة: محمد بدران، ط2، مطبعة لجنة التأليف والترجمة والنشر، 1964م.

* محمد الرسالة والرسول، نظمي لوقا، ط2، مطابع دار الكتاب العربي، 1959م.

* المدخل إلى دراسة الشريعة، عبد الكريم زيدان، ط5، جامعة بغداد، 1396هـ.

* المصاحف، أبو بكر بن أبي داود السجستاني، تحقيق: محب الدين عبد السبحان واعظ، ط2، دار البشائر الإسلامية، 1423هـ.

فهرس الموضوعات

الموضوع ... رقم الصفحة

مقدمة ...

الإسلام وأركانه ...

الركن الأول: الشهادة لله بالتوحيد ولرسوله محمد r بالرسالة ...

الركن الثاني: إقام الصلاة ...

الركن الثالث: إيتاء الزكاة ...

الركن الرابع: صوم رمضان ...

الركن الخامس: حج بيت الله الحرام ...

مفهوم العبادة في الإسلام ...

العبادة والأخلاق ...

مراتب الأحكام التكليفية ...

خصائص الشريعة الإسلامية ومقاصدها ...

أولاً : خصائص الشريعة الإسلامية ...

أ. ربانية المصدر والغاية ...

ب. العدل والمساواة ...

ج. الشمول والتوازن ...

د. المثالية الواقعية ...

ثانياً : مقاصد الشريعة الإسلامية ...

أ. حفظ الدين ...

ب. حفظ النفس الإنسانية ...

ج. حفظ العقل ...

د. حفظ النسل ...

هـ.حفظ المال ...

أركان الإيمان ...

الإيمان بالملائكة ...

الإيمان بالكتب ...

الإيمان بالأنبياء ...

القضاء والقدر ...

اليوم الآخر ...

ردود على أباطيل ...

أولاً : الإسلام والمرأة ...

ثانياً : الإسلام والإرهاب ...

ثالثاً : الإسلام والتعامل مع الآخر ...

رابعاً : المسلمون والتحديات المعاصرة ...

خاتمة ...

المصادر والمراجع

=============

#التصور السياسي للحركة الإسلامية

تأليف

الشيخ رفاعي سرور

بسم الله الرحمن الرحيم

مقدمة

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسوله الأمين. وبعد...

فإن الحقيقة التي يجب أن نفهمها قبل طرح النظرية السياسية الإسلامية هي أن الحركة الإسلامية هي القادرة وحدها على تكوين نظرية سياسية صحيحة.

ذلك لأن للنظرية السياسية شروطا علمية، وهي تكوين النظرية في بداية مرحلة إنشاء الأمة1 "الدعوة"، ومن خلال المضمون الحضاري لهذه الأمة دون انقطاع للوجود التاريخي لها2.

والأمة الإسلامية هي الأمة الوحيدة التي تكونت نظريتها السياسية من خلال منهجها مع تمام نشأتها.

والأمة الإسلامية هي الأمة التي لم ينقطع وجودها التاريخي لحظة واحدة على هذه الأرض3.

والأمة الإسلامية هي الأمة ذات المضمون الحضاري المطلق... وهو الحق.

ورغم ذلك فإن المستقر في الأذهان أن الدعوة الإسلامية لا تملك تصورا سياسيا... وقد جاء هذا الادعاء ف الابتداء كأسلوب خطير من أساليب التنقص الجاهلي بالدعوة... ولكن الادعاء استقر في الأذهان في الانتهاء؛ لأن الدعوة لم تعلن عن تصورها السياسي بعد، ولم يستطع هؤلاء الذين استقر في أذهانهم هذا الادعاء التفريق بين عدم وجود نظرية سياسية، وبين وجود نظرية سياسية لم تطرح بعد.

ويبقى السؤال: لماذا لم تطرح الحركة الإسلامية – في الواقع القائم – تصورها السياسي حتى الآن؟

والإجابة؛ إن طرح التصور السياسي للحركة هو ذاته عمل سياسي يجب أن ينضبط بأحكام النظرية السياسية ذاتها، ومن أهم أحكام هذه النظرية... العلاقة الصحيحة بين الفكر والحركة، وتصبح القاعدة في طرح التصور السياسي للحركة هي أن تبلغ الحركة مرحلة القوة السياسية... فهل بلغت الحركة الإسلامية هذه المرحلة؟ ونبدأ بمناقشة هذا التساؤل، وأول حقائق هذه المناقشة أن القوة السياسية تعرف بشواهدها.

وإن مواقع الدعوة المنتشرة في العالم المستضعفة أمام الحكومات الجاهلية... تتراوح بين الوصول إلى مرحلة القوة السياسية التي تنطبق عليها هذه الشواهد وبين مرحلة الاستضعاف الأولى التي يعبر عنها بالمرحلة الفردية.

مرورا ببعض المواقع التي ينطبق فيها بعض هذه الشواهد دون غيرها... ووصول واقع الدعوة إلى مرحلة القوة السياسية، والتي تتوافر فيها جميع هذه الشواهد يقتضي أن يطرح أصحاب هذا الواقع تصورهم السياسي... ويسيروا ملزمين بالدخول في مرحلة الممارسة السياسية لدعوتهم...

أما الشواهد العامة للقوة السياسية فأهمها أن أعداء الدعوة يفكرون بمنطق التعامل مع أصحابها لا منطق القضاء عليها، وهذا هو الشاهد الأول؛ لأن نشأة القوة السياسية تأتي من خلال نظرة أعدائها لها وأسلوب التعامل معها.

أن تكون قضية أصحاب القوة السياسية مؤيدة على مستوى الرأي العام اجتماعيا وفكريا وأن يكون التعاطف مع أصحابها ثابت ومؤكد، ويلاحظ في هذا الشاهد أن لا يحسب فقط من خلال التأييد والتعاطف القائم بل يشمل مدى قابلية غير المؤيدين لأن يكونوا مؤيدين.

أن يمثل المعتنقون لقضية القوة السياسية كثرة عددية تبلغ مستوى القاعدة الجماهيرية، بحيث يصل مستوى تلك القاعدة إلى أنها تكاد تمثل موقف " الشعب " أو الأمة.

أن تمثل هذه الكثرة نماذج متعددة من جميع المستويات الاجتماعية بحيث لا يمكن تقييده بمستوى اجتماعي معين أو فئة اجتماعية، ويشمل هذا الشاهد وجود عناصر اجتماعية متميزة من كل مجالات المجتمع.

أن تحقق الكثرة العددية بعناصرها المختلفة اختراقا واضحا لمستوى السلطة القائمة4.

أن تملك هذه القوة دائما رد الفعل المناسب إذا حاول أعداؤها التأثير في قوتها أو إضعافها بحيث يتطلب رد الفعل المطلوب الإمكانيات المادية اللازمة والاستعداد للبذل والتضحية بصفة دائمة ويقظة5.

أن يؤكد حجم القوة السياسية في الواقع المفاوضات والمعاهدات الاتفاقات السرية والعلنية بين القوة السياسية وأعدائها أصحاب السلطة.

فإذا بلغ موقع من مواقع الدعوة مرحلة القوة السياسية بشواهدها المذكورة على أصحاب هذا الموقع بدء الممارسة السياسية ابتداء من طرح التصور السياسي لهم والمنطلق من واقعهم القائم ومرحلتهم العملية.

وإذا كان طرح التصور السياسي للحركة الإسلامية عند وصولها إلى مرحلة القوة السياسية... شرطا أساسيا فإن هناك شروطا أخرى تمثل في الحقيقة حماية (مهمة الطرح) من عدة أخطاء أساسية:

الخطأ الأول: طرح التصور السياسي للحركة من خلال النظريات السياسية غير الإسلامية ادعاءً للصفة العلمية للنظرية المطروحة.

الخطأ الثاني: طرح التصور السياسي للحركة من خلال تجربة إسلامية تاريخية، مثل مرحلة الدولة الإسلامية التاريخية للأمة6، فيتكلم صاحب هذا الخطأ دائما في شكل الدولة الإسلامية في الماضي بكل مصطلحاتها ونمطها الشكلي.

الخطأ الثالث: طرح التصور السياسي للحركة من خلال البرنامج الإسلامي للإصلاح والذي سيكون عندما تقوم الدولة الإسلامية.

وتصحيح الخطأ الأول هو تحديد التصور السياسي للحركة الإسلامية من خلال المنطلق السلفي...

وتحديد النظرية السياسية بالحق الشرعي والدين الخالص... وهو الرد المباشر على أصحاب الخطأ الأول.

وتحديد التصور السياسي العام للحركة الإسلامية من خلال المرحلة التي تمر بها الدعوة فعلا في كل موقع من هذه المواقع تحديدا دقيقا هو الرد على أصحاب الخطأ الثاني.

أما الخطأ الثالث... فهو الذي يتطلب مناقشة مباشرة.

فالبرنامج خطة تفصيلية موقوتة منبثقة عن تصور ومحققة في واقع، فكيف يتحدد برنامج بغير واقع؟

إن الجاهلية تريد أن تُحَمِّل التصور الإسلامي كل مشاكلها الجاهلية لذا كان لابد من تعريف للمشكلة التي يجب أن نواجهها بالتصور السياسي الإسلامي.

فالمشكلة الإسلامية هي المشكلة التي تقابل الفكر الإسلامي في طريقه إلى الواقع الإسلامي.

وأي مشكلة خارج هذا الإطار وهذا المسار هي مشكلة جاهلية لا يعالجها إلا التفجير الإسلامي للواقع وترتيبه من جديد حسب التصور الصحيح.

والاستفزاز الجاهلي للحركة الإسلامية بأنها لا تملك برنامجا سياسيا أمر لا يجب الاستجابة له.

نحن نملك التصور السياسي.

نحن نملك النظرية السياسية.

أما البرنامج السياسي... فلابد لكي يطرح أن نملك الواقع، وكل من يريد برنامجنا السياسي عليه أولا أن يعطينا الواقع ويسلم قيادته، وليكن شعارنا في الرد على أصحاب هذا الاستفزاز " أعطني واقعك أعطك برنامجي ".

قيمة الممارسة السياسية (تمهيد):

ولأجل أن نبدأ تقييم الممارسة السياسية يجب أن نقارن بين طبيعة هذه الممارسة مع أساليب الحركة الإسلامية.

وقد اتفقنا أن الأساليب الأساسية للحركة الإسلامية هي: التبليغ بالكلمة واستخدام القوة وإقامة السلطة... أما الهجرة والعزلة فهي تصرف اضطراري يتحتم عند اليأس من الاستجابة، والفرق بينهما: أن الهجرة تصرف اضطراري جماعي، والعزلة تصرف اضطراري فردي... ولا تخرج أساليب العمل عن هذا الإطار العام.

أما العلاقة بين هذه الأساليب... فيثبت فيها أن استفاضة البلاغ وإقامة الحجة والدعوة بالكلمة هي الخط الأصلي للحركة، وأن خط القوة هو في الابتداء لإنشاء فرصة الدعوة بالكلمة عندما تمنع الجاهلية هذه الفرصة... وفي الانتهاء لإقامة السلطة وإنشاء الدولة.

أما موقع الممارسة السياسية من هذا الإطار فهو:

أن الممارسة السياسية تحقق ضبط العلاقة بين أساليب الحركة ذاتها من ناحية وأساليب الحركة بالنسبة للواقع من ناحية أخرى.

فهي التي تفرض أسلوب التبليغ بالكلمة بعد تحليل الواقع وموضع الدعوة.

وهي التي تفرض أسلوب القوة عندما تُمنع الدعوة من فرصة الاتصال بالناس.

وهي التي تحلل آثار القوة في الواقع وتؤكد تلك الآثار لتحقيق غاية الحركة الأصلية، وهي إقامة دولة الدعوة والهداية.

إذًا فالممارسة السياسية ليست أسلوبا قائما بذاته... ولكنها الضابط لكل أساليب الحركة... بحيث يتحقق الهدف الأساسي للدعوة من خلال أي أسلوب.

فهناك مثلا أسلوب الدعوة وأسلوب القوة.

وهناك السياسة الضابطة للعلاقة بين هذين الأسلوبين التي تضمن بها الدعوة الاتجاه بالأسلوب المناسب نحو تحقيق الهدف النهائي.

فقد تفرض الممارسة السياسية إيقاف أسلوب استخدام القوة وقد تحتمه، وفي كلا الافتراضين يكون تحقيق الهدف هو الأمر القائم المطلوب.

هذه هي قيمة الممارسة السياسية على مستوى أساليب الحركة.

أما قيمة الممارسة السياسية على مستوى الكيانات المتعددة في الواقع الواحد... فإنها قيمة ضخمة وهي إدخال الكيانات المتعددة للدعوة ضمن إطار الحركة الواحدة... دون علاقة حركية مباشرة بين هذه الكيانات باعتبار صعوبة تلك العلاقة منهجيا وحركيا، بل إن فرض التصور السياسي الصحيح للحركة هو الذي سيعطي لكل كيان بمنهجه الذي يتبناه مساحته الصحيحة في الواقع الحركي، ويصبح ضبط هذه المساحة وتلك العلاقة بالزيادة أو التحجيم مرتبط بهذا التصور وتلك الممارسة.

أو بمعنى آخر طرح التصور السياسي للحركة الإسلامية الذي يرى فيه كل كيان منهجيته التي يتصورها وحركته التي يمارسها، بحيث ينشأ الموقف الواحد لجميع كيانات الحركة بصورة سياسية صحيحة.

وكذلك فإن تحديد التصور السياسي للحركة الإسلامية سيسد ثغرات خطيرة في منهج الدعوة... وأخطرها: ثغرة الخروج عن الأحكام الشرعية في ممارسة الدعوة بادعاء "مصلحة الدعوة" حيث يسد التصور السياسي للدعوة بصبغته السلفية هذه الثغرة على أصحاب هذا الادعاء.

وأخطرها أيضا الارتداد عن خط المواجهة بالقوة بادعاء العمل السياسي وتحديد التصور السياسي بأبعاده المتعددة – بما فيه بُعد الممارسة بالقوة – يسد أيضا هذه الثغرة على أصحاب هذا الادعاء.

وبذلك لا تصبح السياسة لافتة فوق أي موقف باطل أو مرحلة ضعف... بحيث يصبح التصور السياسي للحركة الإسلامية ضابط لكل العبارات7 والمصطلحات التي تشكل خطرا كبيرا على الدعوة إذا أصبحت عنوانا للأهواء والتراجع والخلل.

فلا تصبح عبارات عائمة... بل تتحدد وتستقر وتنضبط.

أولاً

النظرية السياسية الإسلامية

والآن... ما هي النظرية السياسية للحركة الإسلامية؟

إن الأسلوب الأفضل في طرح النظرية هو البدء بتعريف " السياسة " الإسلامية، وبتحليل عناصر التعريف يتم طرح النظرية... فما هي السياسة الإسلامية؟

السياسة: هي حكمة (الجماعة) المنشئة (لدولة) الدعوة العالمية (الخلافة) المقيمة (لحضارة) الحق.

حكمة الجماعة:

اتفقنا أن الحكمة: هي حاسة الصواب الكامنة في كيان الداعية محددة له في واقع الدعوة سبيل الوصول إلى الغاية8.

وهذا هو المفهوم الفردي للحكمة.

فإذا تحدد المفهوم الجماعي للحكمة... كان هذا المفهوم هو السياسة... فإذا قلنا: إن الحكمة هي سياسة الفرد كانت السياسة هي حكمة الجماعة، وعلى هذا... فإن النظرية السياسية الإسلامية تتحدد أساسا بعناصر الحكمة الأربعة: " الواقع، الحق، الإنسان، الغاية ".

وارتباط هذه العناصر بالمستوى الجماعي للدعوة حيث يتحدد الإطار العام للنظرية السياسية للحركة.

بحيث يكون غياب أي عنصر من عناصر الحكمة الأربعة سببا في عدم تحديد هذا الإطار.

أ) تحليل الحركة السياسية (الواقع):

ومن هنا كان ابتعاد العلماء عن الحياة العامة جعلهم بعيدين عن السياسة نظريا وعمليا، وقد سجل هذه الظاهرة المؤرخ ابن خلدون... فذكر أن العلماء أبعد عن السياسة ومذاهبها؛ والسبب في ذلك أنهم معتادون النظر الفكري والخوض في المعاني وانتزاعها من المحسوسات وتجريدها في الذهن أمورا كلية ويطبقون من بعد ذلك الكلي على الخارجيات.

ويقصد ابن خلدون أن كثيرا من العلماء – لعيشهم مع الكتب – ينظرون إلى الأمور من خلال الكتب، مع أن الواقع الخارجي (الدول وأحوال الناس الاجتماعية والخارجية والاقتصادية) يكون مغايرا أو محتاجا إلى تدقيق في التفاصيل.

أما وضع الشيء الذي في الخارج في قالب الكتب فهذا يؤدي إلى الخطأ بالتأكيد، فالذي لا يعرف الواقع يظن – مثلا – أن الحكام المعاصرين مثل بعض حكام الدولة الأموية والدولة العباسية... مع أن الفارق كبير، فالسياسة – كما يقول ابن خلدون – تحتاج إلى مراعاة إلى ما في الخارج وما يلحقها من الأحوال فإنها خفية.

هذا إذا كانت السياسة بمعنى معرفة الواقع تماما ومحاولة للنهوض بالمسلمين من خلال هذه المعرفة إلى الدرجة التي يريدها الإسلام، أما إذا كان المقصود بالسياسة المراوغة والاحتيال وإتقان فن المداهنة والنفاق فلا (9 ".

والإطار الواقعي للنظرية السياسية يتحقق مقتضاه في الممارسة من جانبين: الواقع الذي نمارس فيه الدعوة، وواقع أصحاب الدعوة ذاتها.

فتتم الممارسة من خلال: التقييم السياسي للواقع وهو التصور الذي يختلف عن التحديد الفقهي المباشر في الحكم على هذا الواقع...

مثال ذلك: التفريق بين الروم والفرس باعتبار أن الروم ينتسبون إلى دين سماوي والفرس مجوس؛ مما جعل المسلمين يفرحون لنصر الروم رغم أن الحكم الشرعي في الدولتين هو الكفر.

ومثال ذلك أيضا: اختيار الرسول عليه الصلاة والسلام الحبشة لتكون موضعا للهجرة الأولى قائلاً: " اذهبوا إلى الحبشة فإن فيها ملكا لا يُظلم عنده أحد "10. رغم مساواته في الكفر مع غيره؛ لأن كلام الرسول صلى الله عليه وسلم فيه كان قبل إسلامه.

ومن هذين المثالين يتضح الفرق بين التصور الفقهي المجرد والتصور السياسي.

التصور الاجتماعي: وبهذه القاعدة يكون الاستفادة بطبيعة أي واقع، مثل الاستفادة بتقاليد الجوار... كما دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة في جوار أحد المشركين11، وكما أقر رسول الله صلى الله عليه وسلم اجتماع العرب قبل الإسلام على أن لا يظلم بينهم أحد، وهو المعروف بحلف الفضول الذي قال فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لو دعيت إليه لأجبت "12.

الموقع الجغرافي:

ويدخل ضمن الاستفادة بالواقع والاستفادة بكل عناصر هذا الواقع حتى جغرافية الواقع... ولقد كان موقع غفار في طريق تجارة قريش مانعا لقريش من قتل أبي ذر... وهذا نص الحديث كما رواه أبو ذر الغفاري، يقول أبو ذر لرسول الله صلى الله عليه وسلم بعد إسلامه: والذي بعثك بالحق لأصرخن بها بين أظهرهم. فجاء إلى المسجد وقريش فيه فقال: يا معشر قريش، إني أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا عبده ورسوله. فقالوا: قوموا لهذا الصبي. فقاموا، فضُربتُ لأموت فأدركني العباس فأكب عليَّ، ثم أقبل عليهم فقال: ويلكم... تقتلون رجلا من غفار ومتجركم وممركم على غفار؟! فأقلعوا عني، فلما أصبحت الغد رجعت فقلت ما قلت بالأمس، فقالوا: قوموا لهذا الصبي. فصُنع بي مثل ما صُنع بالأمس، وأدركني العباس فأكب عليَّ وقال مثل مقاله بالأمس13.

وكان موقع أبي ثمامة من أهل اليمامة وموقع اليمامة من أهل مكة مانعا لقريش من قتله، وتقول السيرة: فلما أسلم أبو ثمامة خرج إلى مكة معتمرا، حتى إذا كان ببطن مكة قال: فكأني أول من دخل مكة. أخذته قريش وقالوا: لقد اختبأت علينا. وأرادوا قتله، فقال قائل منهم: دعوه؛ فإنكم محتاجون إلى الطعام من اليمامة. فتركوه، فقال لهم: والله لا أرجع إلى دينكم ولا أرفق بكم فأترك الميرة تأتيكم من اليمامة ولن تأخذوا حبة قمح حتى يأذن لكم فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم 14.

التصور التاريخي:

وأهم مقتضيات التصور السياسي للواقع هو الاستفادة من تجاربه، فتنطلق الممارسة السياسية من مجموع التجارب السابقة على المستوى التاريخي للأمة.

ولقد احتج مؤمن آل فرعون على فرعون احتجاجًا تاريخيًّا صحيحًا عندما قال له: " وَلَقَدْ جَاءكُمْ يُوسُفُ مِن قَبْلُ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِّمَّا جَاءكُم بِهِ حَتَّى إذَا هَلَكَ قُلْتُمْ لَن يَبْعَثَ اللهُ مِن بَعْدِهِ رَسُولاً كَذَلِكَ يُضِلُّ اللهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُّرْتَابٌ "15.

وباعتبار أن السياسة وظيفة جماعية... فإن إدراك الواقع يجب أن يكون هو الآخر وظيفة جماعية.

وهذا يعني أن تجتمع كل إمكانيات الحركة الإسلامية بكل اتجاهاتها في مهمة إدراك الواقع.

ويصبح نظام جمع المعلومات ومتابعة الواقع الجاهلي بكل الوسائل والأساليب لصالح الحركة الإسلامية أهم واجبات الممارسة السياسية للحركة بكل كياناتها.

هذا من حيث الواقع الجاهلي الذي ستمارس فيه الدعوة... أما واقع الدعوة ذاتها فهو الذي يبدأ بتاريخها.

وتحقيق ذلك يحتم مناقشة قضية التراث باعتبارها سجل التجربة الإسلامية.

التحليل السياسي للتراث:

وقضية نقل الخبرة وهي قواعد الاستفادة بالتجربة المسجلة في كتب التراث ومناقشة قضية التراث تكون بالمنطق السياسي ذاته... بمعنى أن التعامل مع كتب التراث لا يكون تعاملا مع نصوص مجردة، بل يجب ربط النص التراثي بصاحبه وواقعه وهدفه، وبذلك يؤخذ التراث بمنطق الحكمة... حيث يتوفر في التعامل عناصر التعريف الأساسية لمعنى الحكمة... (النص وصاحب النص وواقع النص والهدف منه ".

وبذلك تتحقق مهمة إحياء التراث وتنبع من طبيعة وحقيقة التصور الصحيح لوظيفة ذلك الإحياء... أما الاقتصار على الوظيفة اللغوية أو حتى التاريخية فإنه يجعل الإحياء قاصرًا... أما الإحياء الكامل فهو الإحياء بالحكمة، أو الارتفاع بالإحياء إلى مستوى الوظيفة السياسية.

والتحليل اللفظي لنصوص التراث يسمح باكتشاف حقيقة المدركات الكامنة في الألفاظ.

والتحليل التاريخي يحدد الواقع من حيث الزمان والمكان

أما التحليل السياسي فهو ربط المدرك بالواقع... والإنسان هو الذي يقوم بذلك الربط فينطبق مفهوم الحكمة على مهمة التحليل.

ولذلك يقول حامد ربيع: " التحليل السياسي للتراث يلغي عنصر الزمان إذ يفرض على المحلل أن يسعى لإدراج التراث في إطار أكثر اتساعًا حيث يصير النص التقاءً بين ماضٍ وحاضر ومستقبل بحيث يكشف الحقائق الثابتة الدائمة وتمييزها عن الأخرى المؤقتة... ".

ونحن إذ نركز على الإنسان المحلل فإنما يكون ذلك بسبب أن الإنسان نفسه هو الذي يربط بين النص وواقع صاحبه... وهو الذي قد يضطر إلى تجريد النص التراثي من تلك العوامل إذا كانت نتيجة التحليل هي الوصول إلى حقيقة مطلقة يجب الاستفادة بها مجردة من ظروفها التاريخية.

ومهمة ربط النص بظروفه لإدراكه بصورة صحيحة.

وتجريد النص من ظروفه لاستخلاص حقيقته المطلقة والثابتة16 هو ما يسمى بـ "الوعي السياسي ".

إذن: الوعي السياسي هو مجموعة الحقائق المطلقة المأخوذة من التحليل السياسي للتراث التاريخي للأمة.

ومن هنا يجب ألا نتعامل مع النص التراثي كمجرد استجابة إلى نوع من أنواع الفضول، إنما من منطلق الحركية العلمية وهي أهم خصائص التنظيم السياسي. والحركة العلمية كخصيصة من خصائص التنظيم السياسي هي التعامل مع النص التراثي بمقتضى مفهوم الحكمة أو التصور السياسي.

وفي إطار تحليل الواقع التاريخي للدعوة تتحدد أخطر قضاياها تحديدًا سياسيًّا: وهي قواعد نقل الخبرة.

وأهم هذه القواعد:

تقييم الخبرة الإسلامية وعناصرها:

- الصواب الشرعي.

- بلوغ حد الاستطاعة المادي والتنظيمي لتحقيق الهدف.

- أثر التجربة المتحقق قدرًا.

- الارتفاع بمفهوم الأخوة فوق مستوى الصواب أو الخطأ.

- ربط التجربة بالواقع.

فعند تقييم أي عمل إسلامي في واقع الدعوة نسأل أولاً عن الحكم الشرعي في هذا العمل، فإن كان صوابًا شرعيًّ نسأل: هل بلغ أصحاب هذا العمل حد الاستطاعة المادي والتنظيمي قبل القيام به؟ فإن لم يبلغوا فيكون الحكم عليهم بالتقصير من هذه الناحية، وإن كانوا قد بلغوا فلا بأس عليهم، فإذا توافر الدليل الشرعي بالصواب من حيث الحكم وتوافر حد الاستطاعة المادي والتنظيمي من حيث العمل، ثم كان الخطأ في الممارسة... فإننا نواجه هذا الخطأ بعدة واجبات:

الأول: معالجة هذا الخطأ وأثره في الواقع.

الثاني: قد يحدث خطأ باعتبار الخطة وبالقياس إلى الهدف المحدد، ولكن قد يكون لهذا الخطأ بالاعتبار القدري جانب إيجابي بالقياس إلى الواقع، فعندئذ يجب التنبيه لهذا الخطأ والاستفادة منه في واقع الممارسة.

الثالث: ربط آثار التجربة بكل جوانبها الإيجابية المحددة تخطيطًا أو المحققة قدرًا أو السلبية الناشئة عن الممارسة... بواقع الدعوة وتقييم الوضع النهائي للتجربة.

الرابع: الارتفاع بمفهوم الأخوة فوق اعتبار الخطأ والصواب... بعد الاطمئنان إلى الاجتهاد، وفوق اعتبار النتائج؛ لأنها بقدر الله وحده.

ب) بناء النظرية السياسية (الحق):

سبق القول بأن السياسة هي المفهوم الجماعي للحكمة... وعلى أساس هذه الحقيقة يكون بناء النظرية السياسية هو الارتفاع بجوانب الحكمة إلى المستوى الجماعي، وذلك بمقتضى الحق.

ويصور الإمام ابن القيم جانب الحق في بناء النظرية، فيقول (بتصرف): السياسة ما كان فعلاً معه الناس أقرب إلى الصلاح وأبعد عن الفساد، وإن لم يصنعه الرسول صلى الله عليه وسلم ولا نزل به وحي، ومن قال: لا سياسية إلا بما نطق به الشرع؛ فقد غلَّط الصحابة؛ فقد جرى من الخلفاء الراشدين ما لا يجحده عالم بالسنن... وكفى تحريق علي الزنادقة17، وتحريق عثمان المصاحف، ونفيُ عمر نصر بن حجاج.

ويقول ابن القيم: وهذا موضع مزلة أقدام ومضلة أفهام، وهو مقام ضنك ومعترك صعب فرَّط فيه طائفة فعطلوا الحدود، وضيعوا الحقوق، وجرَّأوا أهل الفجور على الفساد، وجعلوا الشريعة قاصرة لا تقوم بمصالح العباد محتاجة إلى غيرها، وسدُّوا على أنفسهم طرقًا صحيحة من طرق معرفة الحق والتنفيذ له، وعطلوا مع علمهم وعلم غيرهم قطعًا أنه مطابق للواقع ظنًّا منهم منافاتها لقواعد الشرع.

ولعمر الله إنها لم تنافِ ما جاء به الرسول، وإن نافت ما فهموه من شريعته باجتهادهم، والذي أوجب لهم ذلك نوع تقصير في معرفة الشريعة وتقصير في معرفة الواقع وتنزيل أحدهما على الآخر، فلما رأى أولياء الأمور ذلك وأن الناس لا يستقيم لهم أمرهم إلا بأمر وراء ما فهمه هؤلاء من الشريعة أحدثوا من أوضاع سياستهم شرًّا طويلاً وفسادًا عريضًا، فتفاقم الأمر وتعذر استدراكه، وعز على العالمين بحقائق الشرع تخليص النفوس من ذلك واستنقاذها من تلك المهالك...

وأفرطت طائفة أخرى قابلت هذه الطائفة فسوغت من ذلك ما ينافي حكم الله ورسوله... وكلا الطائفتين أُتِيَت من قِبَل تقصيرها في معرفة ما بعث الله به رسله وأنزل به كتبه؛ فإن الله سبحانه أرسل رسله وأنزل كتبه ليقوم الناس بالقسط... وهو العدل الذي قامت به الأرض والسماوات، فإذا أظهرت أمارات العدل وأسفر وجهه بأي طريق كان فثم شرع الله ودينه، والله سبحانه أعلم وأحكم وأعدل من أن يخص طرق العدل وأماراته وأعلامه بشيء ثم ينفي ما هو أظهر منها وأقوى دلالة وأبين إمارة فلا يجعله منها ولا يحكم عند وجودها وقيامها بموجبها، بل قد بين سبحانه وتعالى بما شرعه من الطرق أن مقصوده إقامة العدل بين عباده وقيام الناس بالقسط، فأي طريق استخرج بها العدل والقسط فهي من الدين ليست مخالفة له... فلا يقال: إن السياسة العادلة مخالفة لما نطق به الشرع، بل موافقة لما جاء به، بل وجزء من أجزائه، ونحن نسميها " سياسة " تبعًا لمصطلحاتكم وإنما هي عدل الله ورسوله ظهر بهذه الأمارات والعلامات. أهـ 18.

ومن بناء النظرية السياسية تحققت:

1) شواهد الحق في الممارسة السياسية فكان أهمها:

العقيدة: وتتحقق كشاهد من شواهد الحق في ارتفاعها فوق الممارسة السياسية والحركية ونظام الدولة.

القوة: التي تفرض الحق كمضمون للنظرية والممارسة السياسية.

الثبات: وأهم شواهد انطلاق الممارسة السياسية من الحق هو ثبات الخط السياسي لهذه الممارسة؛ لأن الحق يرفع الممارسة السياسية فوق ظروف الواقع وزعاماته حتى يبلغ الأمر أن يصبح الخط السياسي هو الذي ينخرط به الواقع وتنتظم به الزعامات.

إن أكبر دلائل البعد عن الحق هو التفاف الخط السياسي حول منحنيات الواقع والالتواء فوق عقباته: وكذلك التلون بلون كل زعامة جديدة والاصطباغ بصبغتها.

وقد قدمت الفترة الإسلامية الأولى نموذجًا لهذا الثبات.

ابتداءً من أخطر مستويات المواقف السياسية.

مثال: إصرار أبي بكر الصديق على جعل أسامة بن زيد على رأس الجيش الذي جهزه الرسول صلى الله عليه وسلم واختار أسامة لقيادته.

وانتهاءً بأبسط مستوياتها.

مثل المرأة التي جاءت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقالت: أعطني19.

المفاصلة النظرية: بين السياسة الإسلامية والجاهلية.

فللنظرية السياسية الإسلامية مصطلحاتها... وكذلك للنظرية الجاهلية مصطلحاتها الخاصة بها.

وهناك مصطلحات مشتركة. قد تُقرر من جانب النظرية الإسلامية من حيث اللفظ؛ فيصير الأمر الخطير أن تفهم بمدلولها في السياسة الجاهلية. مما يصير به الأمر أشد خطرًا أن تفرض هذه المصطلحات بمدلولها الجاهلي فتنتفي دلالتها الصحيحة في النظرية الإسلامية. ولهذه المصطلحات أمثلة مشهورة أهمها مصطلح الثورة والحرية.

فالثورة في النظرية الجاهلية... تعني رفض الواقع بصورة مطلقة...

كما تعني بصورة مطلقة... الغضب.

وكذلك تعني العنف...

فإذا انتقلنا بمصطلح " الثورة " إلى النظرية السياسية الإسلامية فإننا نرى وجوداً لعناصر مصطلح الثورة ولكنه وجود صحيح.

حيث نرى الرفض موضوعيًا. والغضب واعيًا. والعنف منضبطًا.

فإذا ما أصبح مصطلح " الثورة " بهذه العناصر الصحيحة كان مصطلح الثورة إسلاميًا، وأصبح من الجائز إضافته إلى النظرية السياسية الإسلامية كمصطلح من مصطلحاتها.

حيث سيكون الرفض الموضوعي للواقع في التغيير والغضب الواعي في التعامل والعنف المنضبط في المواجهة... فمصطلح الثورة الإسلامية ليس مجرد رفض للواقع ولكن للباطل في هذا الواقع بحيث إذا كان في هذا الواقع حق أخذت به الثورة الإسلامية وأقره الإسلام وأصبح جزء من نظامه... مثل الزواج الذي أقرته الشريعة وقد كان نوعًا من الزواج في الجاهلية...

وأما الغضب فهو قمة الوعي؛ لأنه غضب لله... وليس غضبًا شخصيًّا يفقد فيه الغاضب وعيه ويصبح إغلاقًا.

وأما العنف فهو الأمر المنضبط بسياسة القوة وأحكامها الشرعية.

وبذلك يتحقق مصطلح الثورة الإسلامية بمنطلق خاص للتغيير يتميز بالحسم المتأني مثل معالجة مشكلة الرق20.

إن التقابل المطلق بين النظرية السياسية الإسلامية والجاهلية يقتضي الحذر الشديد من المحاولة الخاطئة للخلط بين مصطلحات النظرية السياسية الإسلامية وغيرها...

وابتداءً بالمصطلحات الضخمة كالثورة.

وانتهاءً بأدق التعبيرات البسيطة مثل رفض تعبير الإمبراطورية الإسلامية بدلاً من الخلافة.

مرورًا بأمثلة الخلط بين المفاهيم الإسلامية وغيرها مثل الخلط بين الشورى والديمقراطية... بما بينهما من فوارق جوهرية محددة حتى في الأساس المشترك بينهما؛ فالشورى قائمة على إجماع الرأي، وكذلك الديمقراطية، ولكن لصاحب الرأي في الشورى اعتبار كبير في هذا الإجماع... وليس إجماع الهمج الرعاع أتباع كل ناعق؛ كما في الديمقراطية21.

وانطلاق الممارسة السياسية من التصور السياسي بنظريته وأبعاده ومصطلحاته لايعني الاتفاق المطلق بين مفكري السياسة الإسلامية ومحلليها؛ لأن عنصر التفكير العقلي وإدراك الواقع والتصور المرحلي للهدف داخلة ضمن هذه الممارسة. وهي الأمور التي يكون فيها الاختلاف شيئًا طبيعيًّا. مما يجعل الممارسة السياسية سببًا في تحقيق أكبر اتساع لنطاق الاختلاف بين مفكري الحركة الإسلامية.

ومواجهة هذا الخطر تتمثل بصورة أساسية في تحديد:

2) ثوابت الفكر السياسي:

أ) تأصيل الفكر السياسي.

وأول ثوابت هذا التحديد هو إدراكنا للعلاقة بين الفقه والسياسة الذي تتحدد به طبيعة الممارسة.

وهي الحكمة ذاتها.

ذلك لأن الحكمة كما اتفقنا هي المفهوم الفردي للسياسة.

والحكمة هي الفقه.

وبذلك تصبح كل أصول الفقه أساسًا في الممارسة السياسية.

ب) الإطار السياسي للفكر الحركي:

والذي يُحدَّد بالإجابة على هذا السؤال:

ما هي الكتابات التي تكوِّن في مجموعها إطار الفكر في واقع الحركة الإسلامية...

إن هذا التحديد شرط جوهري في تنظيم العلاقة الصحيحة بين الفكر والحركة...

إن فقد هذا التحديد يجعل الدعوة معرضة لخطر التحول إلى مجرد ظاهرة فكرية ضخمة تتضاءل بجانبها واقعية الحركة حتى تضيع.

وتحديد هذه الكتابات بأصحابها قد يحقق فائدة السهولة في الرجوع إليها.

ولكن الأفضل هو إثبات القاعدة التي يتحدد بها هذه الكتابات ليصبح هذا التحديد أساسًا للفكربصورة مطلقة.

والقاعدة الأساسية:

- أن يكون صاحب الكتاب سلفي الفهم.

- أن يكون صاحب الكتاب هو نفسه من أصحاب التجارب الواقعية والعملية في مواجهة الجاهلية، وأن تكون كتاباته مرتبطة بواقعه وتجاربه ومواجهته بصورة مباشرة.

مع مراعاة أن ينطبق على جميع هذه الكتابات وأصحابها... قاعدة: أن كل إنسان يخطئ ويصيب ويؤخذ من كلامه ويرد عليه.

- وأن تتجرد في نفس الوقت عملية الأخذ والرد من عوامل الغيرة والحسد والأحاسيس الحقيرة التي قد تسعى بصاحبها إلى التفكير في هدم شوامخ الفكر ورؤوس الهدى والرشاد22.

ج) التنظيم السياسي للفكر:

وحرية الفكر في إطار الجماعة مكفولة في حدود الكتاب والسنة وأنه لا حرية خارج هذه الحدود.

وإعلان الرأي حق شرعي بشرط واجب شرعي مقابل؛ وهو أن تنقطع علاقة الفرد برأيه بمجرد الاطمئنان إلى وصول هذا الرأي إلى ولي الأمر.

وعندئذ ينطبق على هذا الرأي قواعد الجماعة في الحكم علي الرأي... والوصول إلى الصواب.

وبذلك يصبح الواجب شرطًا يقابل حقًّا؛ لأن تجاوز هذا الشرط ذلك يُسلم الفرد إلى مرحلة الانشقاق الفكري والمنهجي إذا تبنى رأيه بعد حكم الجماعة فيه بالبطلان.

ثم تُسلمه هذه المرحلة إلى الخروج عن الجماعة إذا أخذ موقفًا مبنيًّا على رأيه المحكوم عليه بالبطلان.

وبعد تحديد ثوابت الفكر السياسية المحققة للاتفاق على الحق ننتقل إلى مقتضيات الاتفاق على الحق في تلك الممارسة.

وأهم مقتضيات انطلاق الممارسة السياسية من الحق التعامل مع المعارضين للجماعة.

3) المعارضة السياسية:

والتصور السياسي الإسلامي يعتبر أفضل النماذج السياسية في التعامل مع أصحاب المعارضة السياسية...

فهناك مصطلحات أساسية متعلقة بمفهوم الجماعة:

1) الجماعة بمعنى الحق.

2) الجماعة بمعنى الأمير.

3) الجماعة بمعنى العامة.

4) الجماعة بمعنى العلماء.

ونضيف إلى هذه المصطلحات بخصوص المعارضة السياسية مصطلحين أوليين:

مصطلح الفرقة: وهو الخروج عن الجماعة بمعيار الحق الاعتقادي.

ومصطلح الطائفة: وهو الخروج عن الجماعة بمعيار الأمر العملي.

بمعنى: أن الفرقة: هي خروج عقيدي...

والطائفة: خروج عملي...

ولكل منهما أسلوب في التعامل:

فأسلوب التعامل مع الفرقة: بحسب قضية خروجهم عن الجماعة سواء كانت كفرًا أوبدعة.

وأسلوب التعامل مع الطائفة: بحسب قضية خروجهم عن الإمام أو الأمير.

وتعدد معاني الجماعة قائم على أساس الحفاظ عليها في كل الظروف...

أما المعنى الأساسي للجماعة فهو الجماعة بمعنى الحق والوارد فيه قول رسول الله صلى الله عليه وسلم

في الحديث: " التارك لدينه المفارق للجماعة "23.

ولكن عند تعدد الحق في الأفهام في إطار قضايا التوحيد تكون المفاصلة وتكون الفرقة، وإذا تعدد الحق في غير هذا الإطار كان رأي الأمير هو المعيار الذي تتبناه الجماعة في تلك القضية؛ ويتحقق بذلك الجماعة بمعنى الأمير... والوارد فيه حديثه صلى الله عليه وسلم: " من أطاع الأمير فقد أطاعني "24.

وعند غيبة الإمارة يكون إجماع العامة المسلمة هو معيار الحق وهو الوارد فيه قول رسول الله: " عليكم بالسواد الأعظم... "25.

وعند عجز السواد الأعظم عن الإجماع يكون للعلماء حق الطاعة، ويتحقق فيهم معنى الجماعة.

ولكن السواد الأعظم الذي يعتبر معيارًا للحق له صفات محددة وأهمها: توطين النفس على هذا الحق.

ولذلك لايكون هناك تقليد في مهمة إنشاء العامة المسلمة كما قال صلى الله عليه وسلم: " لا تكن إمعة إن أحسن الناس أحسنت وإن أساؤوا أسأت، ولكن وطنوا أنفسكم إن أحسن الناس أن تحسنوا وإن أساؤوا فلا تسيئوا "26.

ومن هنا أيضا فإن للعامة في منهج الدعوة مسئولية خطيرة.

فليس في التعامل مع العامة نمط الهياج والصور المزيفة...

وعندما يكون المطلوب معرفة إجماع العامة أو الرأي العام لهم؛ فإن المهمة تبدأ بإثبات رأي الفرد.

يقول ابن إسحاق: إن وفد هوازن بالجعرانة أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد أسلموا فقالوا: يا رسول الله، إنا أصل وعشيرة، وقد أصابنا من البلاء مالم يخف عليك، فامنن علينا منَّ الله عليك. قال: وقام رجل من هوازن، أحد بني سعد بن بكر يقال له زهير يكنى أبا صرد فقال: يا رسول الله إنما في الحظائر عماتك وخالاتك وحواضنك اللاتي كن يكفلنك، ولو أنا ملحنا للحارث بن أبي شمر، أو للنعمان بن المنذر ثم نزل من بمثل الذي نزلت به رجونا عطفه وعائدته علينا، وأنت خير المكفولين.

فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أبناؤكم ونساؤكم أحب إليكم أم أموالكم؟ فقالوا: يارسول الله، خيَّرتنا بين أموالنا وأحسابنا، بل تُردُّ إلينا نساؤنا فهو أحب إلينا، فقال لهم: أما ما كان لي ولبني عبد المطلب فهو لكم، وإذا ما أنا صليت الظهر بالناس فقوموا وقولوا: إنا نستشفع برسول الله إلى المسلمين، وبالمسلمين إلى رسول الله في أبنائنا فسأعطيكم عند ذلك، وأسأل لكم، فلما صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالناس الظهر قاموا فتكلموا بالذي أمرهم به، فقال رسول الله صلى الله عليهوسلم : أما ما كان لي ولبني عبد المطلب فهو لكم، فقال: المهاجرون: وما كان لنا فهو لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، وقالت الأنصار: وما كان لنا فهو لرسول الله صلى الله عليه وسلم 27.

وفي رواية: " فقال الناس. قد طبنا لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إنا لنعرف من رضي منكم ممن لم يرض. فارجعوا حتى يرفع إلينا عرفاؤكم أمركم28. فردوا عليهم نساءهم وأبناءهم لم يتخلف منهم أحد غير عيينة بن حصن. فإنه أبى أن يرد عجوزًا صارت في يديه منهم، ثم ردَّها بعد ذلك وكسا رسول الله صلى الله عليه وسلم السبي نبطية قبطية ".

وعندما يكون الحديث في أمر العامة فلا بد أن يكون للمتحدث صفات ضرورية ولازمة أهمها نفي السفه الذي يثبت الحكمة كما في الحديث: " سيأتي علي الناس سنوات خدّاعات يُصدّقُ فيها الكاذب، ويكذب فيها الصادق، ويؤتمن فيها الخائن، ويخون فيها الأمين، وينطق فيها الرويبضة. قيل: وما الرويبضة؟ قال: الرجل التافه يتكلم في أمر العامة"29.

ومن ناحية أخرى: فإن مصطلح العامة المسلمة يتحدد بانتفاء صفة الهمج الرعاع وحديث علي بن أبي طالب يبين الصفة الأساسية للهمج الرعاع.

الناس ثلاثة: " عالم رباني، ومتعلم على سبيل نجاة، والباقي رعاع أتباع كل ناعق"30.

وبذلك يتبين منهج الارتفاع فوق مستوى هؤلاء الهمج الرعاع.

إن الهمج الرعاع قوم لا يفقهون ولا يعلمون.

لا يدركون أصول التفكير فهم لا يفقهون.

ولا يعلمون صواب الواقع. وليسوا على سبيل النجاة.

وصواب التفكير وإدراك الواقع هي النجاة من صفة الهمج الرعاع.

بعدتحديد النظرية السياسية في إطارها الواقعي، وتحديد بناء النظرية السياسية بمقتضى الحق، نأتي إلى المحصلة بين الواقع والحق، أو:

4) العلاقة الجدلية بين الفكر والحركة:

وبادى ذي بدء نريد أن نوضح معنى " العلاقة الجدلية31 بين الفكر والحركة ".

ففي البدء تكون الفكرة ثم تكون بها الحركة، فتضيف الحركة خبرة جديدة تضاف إلى الفكرة الأصلية، فيتسع نطاق الفكرة فنتحرك به حركة أوسع؛ فتضيف إلينا الحركة الأوسع خبرة أكبر تضاف إلى نطاق الفكر ليتسع فنمارس بة حركة أوسع وهكذا. هذا هو تفسير جدلية العلاقة بين الفكر والحركة.

وعندما يزداد حجم الفكر دون أن نمارس به حركة مناسبة فإن هذا يمثل خللاً سياسياً إذ قد تتحول الدعوة بسبب هذا الخلل إذا تضخم إلى ظاهرة فكرية بحتة.

ومن هنا يلزم كضرورة سياسية تحديد إطار الفكر الذي ينشأ من خلال العلاقة الجدلية الصحيحة مع الحركة وهو ما يسمى فكر الحركي.

والإطار الأساسي لهذا الفكر هو قضايا حد الإسلام " قضايا الحكم والنسك والولاء ".

ويضاف إليها كل قضايا الفكر المستفادة من خبرة التحرك بقضايا حد الإسلام في الواقع.

وقد سبق تقرير أن الفكر في تطوره مع الحركة مستفاد من خبرة الحركة وأن تحديده يكون باعتبار أصحابه؛ فيصبح أي فكر ناشئ عن خبرة عملية مستفادة من مواجهة صاحبه مع الجاهلية يصبح هذا الفكر داخلاً في إطار الفكر الحركي.

وكما تحدد الفكر تتحدد الحركة.

والإطار الأساسي لهذه الحركة هو التبليغ بالكلمة واستخدام القوة وقيام السلطة؛ فيجب تحديد إطار الحركة الصحيحة التي تنشأ من خلالها العلاقة الجدلية الصحيحة مع الفكر. ومعنى هذا التحديد أن أي كيان لا يتبنى أسلوب التبليغ وإقامة الحجة ورفع اللتباس وتصحيح المفاهيم وأسلوب المواجهة القوية الهادفة إلى إقامة السلطة الإسلامية... أي كيان لا يتبنى هذه الأساليب يكون خارجاً من إطار التحديد السياسي للحركة...

وليكن معلوماً أن الخلل في العلاقة بين الفكرر والحركة خطر عظيم يسبب الفتنة، في مرحلة الحركة والجماعة ويسبب الانهيار32 في مرحلة الدولة.

وأبرز قضايا العلاقة الجدلية بين الفكر والحركة هي: قضية المرحلة المكية والمدنية، وتفسير لتلك العلاقة من أساسها.

وهذه القضية لها عناصر يجب إدراكها ابتداًء...

أن مرحلة الدعوة بعد تمام نزول القران تجاوزت المرحلة المكية والمدنية شرعاً.

أن اعتبار الدعوة في مرحلة مكية أو مدنية بعد ذلك اعتبار حركي.

فإذا كانت ظروف الدعوة تماثل المرحلة المكية اعتبرناها مرحلة مكية، وإذا كانت ظروف الدعوة تماثل المرحلة المدنية اعتبرناها مرحلة مدنية، ومارسنا تطبيق الأحكام المنهجية لكل مرحلة.

وعندئذ نكون ملزمين بدراسة علة الختلاف المنهجي بين المرحلتين من حيث الواقع.

وبمجرد البدء في الدراسة نجد أن الحد الفاصل البين في هذا الاختلاف هو حد القدرة والاستطاعة.

فإذا كان الأصل في الدعوة هو الإعلان فإن عدم القدرة عليه يجعلنا نمارس حكما منهجياً مكياً وهو السرية.

وأهم مثال عن الإعلان وإظهار الدين باعتبار القدرة:

هو جواز إقامة الجمعة والجماعات في غير ديار الإسلام.

فبالرغم من أن إقامة الجمعة التي تحدد لإقامتها شروط فقهية مباشرة أن تكون الدار التي تقام فيها الجمع هي دار الإسلام؛ فإنها تقام في غيرها من باب الجواز إذا كان هناك قدرة على إقامتها.

ولا يحتج لعدم إقامتها بانتفاء الوجوب لانتفاء الشرط الفقهي؛ لأن إقامتها باعتبار القدرة يكون من باب الجواز مثل إقامة الجمعة للمرأة والغلام والعبد من باب الجواز عند القدرة رغم عدم الوجوب بالنسبة لهم؛ لانتفاء شروط وجوبها عليهم.

غير أن السيرة تحفظ لنا حدثاً ثابتاًعن رسول الله صلى الله عليه وسلم يقوم به الدليل على اعتبار القدرة في التفريق بين المرحلة المكية والمدنية وهو محاولة رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعه علي بن أبي طالب كسر الأصنام ليلاً دون أن يراهم أحد. 33

وبعد تحديد المحصلة بين الواقع والحق نكون قد انتهينا من تحديد عنصرين من عناصر الحكمة في تحديد النظرية السياسية؛ لنأتي بعدهما إلى العنصر الثالث وهو الإنسان الذي يمثل الجانب الإنساني في النظرية.

ج) المنطلق الإنساني للممارسة السياسية (المسلم السياسي):

أما جانب " الإنسان " في النظرية السياسية فإنه يتمثل في مصطلحين:

الأول: المفكر السياسي: وذلك باعتبار أن الفكر مهمة إنسانية صادرة عن الإنسان المرتبط بالحق والناظر في الواقع والمدرك للغاية.

لتصبح جوانب الحكمة هي بذاتها عناصر الفكر السياسي.

وبذلك أصبح لزاماً على المفكر السياسي الإسلامي الالتزام بالأساس الشرعي؛ ليكون الحق هو القيمة العليا التي منها وبها تتحدد جميع أبعاد الممارسة السياسية.

وأصبح لزاماً على الفكر السياسي الإسلامي الارتباط بالواقع بجانبيه: الاجتماعي والحركي؛ وذلك من خلال الارتباط بالواقع الدعوة، وكذلك من خلال الالتزام بقواعد الحركة لهذا الواقع... أيضاً.

وأصبح لزاماً على المفكر السياسي الإسلامي اعتبار قضية الخلافة هي منطلقة الوحيد في بناء وتصور الحقيقة السياسية وذلك على أساس أن الخلافة هي الغاية النهائية للحركة.

وبذلك يكون الفكر السياسي علاقة تفاعل بين التأمل بالحق من جانب الإنسان في الواقع، وإدراك الغاية

وإذا كان التأمل يعكس النبوغ الفردي والحساسية الذاتية...

فإن الواقع ترجمة للمعاناة اليومية من خلال الممارسة...

والاستمرارية الفكرية تفترض التتابع المستمر والمعاناة المنتظمة في علاقة ثابتة بين الفكر والحركة؛ حتى تتحقق الغاية.

الثاني: الزعامة السياسية:

والزعامة السياسية تعني باختصار: القدرة الذاتية على اتخاذ القرار السياسي المحقق لأكبر احتمالات الصواب وأقضى درجات الاطمئنان النفسي " يعني الجانب الإنساني للقرار السياسي ".

وعلى هذا فإن الزعامة السياسية تتطلب بهذا الاعتبار عدة صفات أساسية:

الإخلاص الملهم للصواب والمجبر للخطأ والمحقق للثواب في كلا الأمرين والمحقق في نفس الوقت للتجرد من الصراعات النفسية والمؤثرات العاطفية والمصلحة الشخصية.

التوكل المعين على خوض التجربة قبل بدئها وعلى تحمل اثارها بعد تمامها.

الذكاء المحقق للإحاطة بالقرار واثاره واحتمالاته وبدائله؛ بدقة ذهنية واستشفاف مستقبلي يستوفي حق التفكير في القرار بأسرع وقت ممكن بحيث لا يصل صاحب التفكير إلى مرحلة الاستغراق النظري المضل والمحير.

الخبرة المستخلصة من تجارب الماضي المشابهة للتجربة القائمة لتحقيق كل عناصر الصحة والصواب بأسهل الأساليب، وتحقيق أكبر العوامل النبهة للتجربة إلى المزالق والثغرات التي دفع ثمنها أصحاب التجارب السابقة حتى لا يتضاعف الثمن وتتضاءل الحصيلة.

العزم الذي يجعل صاحب القرار منطلقاً بقراره بأقصى الاطمئنان الشرعي والحركي والنفسي... اطمئناناً يملؤه ويتعداه منه إلى جميع المحيطين به فيطمئنوا كما اطمأن اطمئناناً واثقاً، بغير غرور يعمي عن الحقيقة، وبغير تردد يضيع الهدف ويحير المشاركين له في الموقف.

القوة الشخصية التي يأخذ بها فرصته الكاملة في اتخاذ قراره ويتنبه بها ألى المحاولات الطبيعية المصاحبة لكل قرار جديد والتي يحاول فيها أصحابها نقد أو رفض القرار من المحيطين بصاحب القرار عندما يكون حوله المخلص غير الذكي والذكي الفاقد للخبرة؛ حيث سيتمثل كل فقد لأي عنصر من عناصر الإخلاص والذكاء والخبرة في محاولة معاكسة لصاحب القرار...

القوة الشخصية التى ينشئ بها واقعاً جديداً، ويدخل بها في مرحلة جديدة، ويحدث بها متغيرات جديدة بقرار واحد يتطلب رجلاً قوياً وزعيماً سياسياً.

صدق الإيمان الذي يجعله يتعرف على مصلحة الدعوة بكل كيانه ومواهبه.

تخطر له الفكر ويلهم الأمر. ويعيش الصواب.

يعيش قضيته... يغير ظروفه وينهض بأمته ويحيي حضارته.

الصبر الذى يتحمل به المناوأة من المختلفين معه داخل كيانه السياسي، والمتربصين به خارج كيانه، والضاغطيت عليه من العقول غير الفاهمة، والحاقدين عليه من النفوس غير السوية... الصبر الذي يحقق المرحلية المنبطة بلا بطء الخائف، ولا تهور المتحمس.

الحبوالألفة: التي تعين علي الأطمئنان لقراره وتخفف من وطأة الخطأ إذا حدث وتعين علي تحمل المعاناة المترتبة علي الخطأ... الحب الذي يجعل الجميع يبذل كل ما في وسعه؛ لإنجاح قرار يحبون صاحبه " خير أمرائكم من تحبونهم "34.

الربانية التي تحمي الزعيم من أي تناقض بين الحق المطلق وإنسانيته.

البصيرة التي تحمي الزعيم من غيبة الغاية عن تصوره.

العلم الذي يحمي الزعيم من الغفلة بالواقع وطبيعة الأمور.

وبذلك تجتمع في الزعامة السياسية كل العناصر المحققة لمضمون النظرية السياسية.

فتصبح الزعامة هي المحصلة النهائية للممارسة.

كما تصبح الزعامة السياسية أساساً في بناء النظرية السياسية مما يجعل هذا الأساس مقدمة ضرورية لتحقيق الإحكام بين جوانب بناء النظرية السياسية...

وذلك بعد تمام الوصول إلي الغاية.

د) أهداف العمل السياسي (الغاية):

وجانب الغاية في التصور السياسي، له معني جوهري وهو الهداية؛ لأن الهداية هي غاية الدعوة وحكمتها.

وباعتبار أن السلطة هي الوسيلة الأساسية لتحقيق الهداية. (إن الله يزع بالسلطان ما لم يزع بالقران)35.

وباعتبار أن للسلطة حداً نهائياً وهو الخلافة؛ أصبحت الخلافة هي الصيغة السياسية لغاية الهداية.

ولكن إقامة السلطة ابتداًء، والخلافة كحد نهائي لها تقتضي القوة... والقوة تقتضي الشهادة.

والشهادة تقتضي الجنة...

فأصبحت الشهادة والجنة غاية نهائية علي المستوي الفردي لأصحاب الدعوة.

وبذلك يتحدد مجموع الغايات بصورة مرتبة:

الهداية: كغاية نهائية للدعوة.

الدولة والخلافة: كصيغة سياسية لتلك الغاية.

الشهادة والجنة: كمقتضي؛ لتحقيق تلك الصيغة. وهذه الحقائق الثلاث هي التي تمثل في التصور السياسي جانب الغاية.

وبحسب ترتيب حقائق الغاية في التصور السياسي.

أصبحت غاية الهداية هي الهدف التي ترتبط بها كل الأساليب.

وهذا الأرتباط حقيقة بارزة في التصور الإسلامي العام حيث أن الغاية والأسلوب ليس بينهما في التصور الإسلامي أي تناقض.

ومن هنا أصبحت غاية الهداية هي المحصلة النهائية لكل أبعاد التصور السياسي.

فالهداية هي محصلة البعد العسكري بدليل قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لأن يهدي الله بك رجلاً واحداً خير لك من حمر النعم "36 وقوله: " عجبت لقوم يجرون الي الجنة بالسلاسل "37.

والهداية هي محصلة البعد القتصادي بدليل قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إني أعطي الرجل وغيره أحب إلي منه مخافة أن يكبه الله في النار "38 وقول الله: " والمؤلفة قلوبهم... ".

والهداية هي محصلة البعد الجماهيري39...

غير أن نقطة الضوء المكثفة حول حقيقة الغاية في التصور السياسي هي حق هذه الغاية علي مستوي كيانات الحركة المتعددة التي تتبني جميعها الهداية كغاية واحدة لتلك الكيانات.

فيجب أن يكون لهذه الغاية الواحدة – وهي الخلافة – حق مفروض علي طبيعة العلاقة بين الكيانات المتعددة الهادفة إلي هذه الغاية الواحدة.

ثانياً

الصيغة السياسية لحركة الهداية

أ) دولة الدعوة:

والسعي للخلافة كصيغة سياسية للغاية، يبدأ بإقامة الدولة المرتبطة بالهداية.

فالدولة الإسلامية أساسها نشر الدعوة والعقيدة، والدعوة الإسلامية محورها ووظيفتها خلق القناعة بحقيقة الدين.

وواجب الرسول صلى الله عليه وسلم هو الدعوة: " ادع إلي سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن "... هذه الطبيعة المتميزة كان لا بد وأن تكوِّن بخصائصها جميع عناصر ومتغيرات النموذج السياسي الإسلامي... فالدولة وظيفتها الدفاع عن العقيدة، وأساس شرعية السلطة ومحور وسبب وجودها هو نشر الدعوة فيها، والدعوة والسلطة يتفاعلان كحقيقة ديناميكية واحدة، ورغم أن المحور الأساسي وجوهر هذا التفاعل هو الدين إلا أن السلطة هي التي تأتي فتخلق ذلك الإطار الذي يتيح للمواطن بأن يحقق ذاته من خلال الاستجابة إلى قواعد الممارسة الدينية... وهكذا فإن شرعية السلطة هي الدين وأداة الدين هي السلطة.

إن واجب الدولة هو أن تدعو إلى كلمة الحق، وأن تدعو من خلالالإقناع، والاقتناع بهذا المفهوم لذا كان ولا بد أن يتحول إلى قواعد للمارسة في كل ما له صلة بنظرية التعامل السياسي في الحضارة الإسلامية.

وكذلك فإن البيعة كعقد سياسي مصدر للسلطة تتمركز حول عنصر أساسي هو وحده محور شرعيتها وهو مضمون الممارسة للسلطة: احترام الأحكام الإسلامية فإذا حدث إخلال بذلك المضمون يصير المسلم وقد أضحى ليس من حقه – فقط – عدم الطاعة، بل من واجبه رفض تلك الطاعة ومقاومة الحاكم ولو بالسلاح40.

والدولة هي مقتضى التوحيد؛ لأن الدولة هي الحُكم، والحكم هو مقتضى التوحيد: " ما تعبدون من دونه إلا أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم ما أنزل الله بها من سلطان إن الحكم إلا لله أمر ألا تعبدوا إلا إياه ذلك الدين القيم ولكن أكثر الناس لا يعلمون ".

والدولة هي التمكين للدين في الأرض: " وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم ".

والدولة هي الأداة الأساسية لإقامة الدين: " الذين إن مكناهم في الأرض أقاموا الصلاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر ولله عاقبة الأمور ".

لقد كانت بيعة العقبة الأولى هي أول مرحلة فعلية لإقامة الدولة... وكان مضمونها: " حتى أبلغ دعوة ربي "41.

فالدولة هي الوسيلة الأساسية للدعوة.

وفي قول الله: " ونريد أن نمن على الذين استضعفوا ".

فندرك أن الدولة لرفع الاستضعاف عن المسلمين.

وفي قوله سبحانه: " حتى لا تكون فتنة ".

ندرك أن الدولة لرفع الفتنة من جانب غير المسلمين؛ ويكون الدين لله.

ولذلك جاء تعريف وظيفة الدولة في التصور السياسي بأنها: مجموع الأهداف التي يجب أن تسعى الإرادة السياسية إلى تحقيقها من خلال الأداة النظامية42.

إن الدولة عندما تكون للدعوة فإن هذا معناه أن يكون الحاكم ونظم الحكم والمحكومين به أداة للدعوة.

بل تكون الدعوة قضية كل إنسان وحياة كل نسمة في دولة الدعوة.

بل يبلغ الأمر بأن تكون الدعوة قضية الهدهد في دولة سليمان نبي الله.

يعرفِّ الشرك: " وجدتها وقومها يسجدون للشمس من دون الله ".

ويعرِّف التوحيد: " ألا يسجدوا لله الذي يخرج الخبء في السموات والأرض ".

ويعرِّف سبب الشرك: " وزين لهم الشيطان أعمالهم ".

ويعرِّف السبيل: " فصدهم عن السبيل فهم لا يهتدون ".

يتأخر وهو مطمئن؛ لأن معه نبأ عظيم... نبأ فوق النظام... نبأ من أجله كان النظام... يتأخر ومعه عذره؛ لأن معه قضية الدعوة وهي قضية الحاكم وقضية الدولة وقضية الأمة... هدهد يعرف أن الدعوة لأهل الأرض جميعهم؛ فيجب ألا يكون شرك في أي مكان، ففي سبأ شرك يجب القضاء عليه... حتى لو لم تكن سبأ في ملك سليمان.

ودون أن يكون من رجال الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

ودون أن يكون من رجال الحسبة.

ودون أن يكون مكلفًا... أو موظفًا.

فالدعوة هي الضمير وهي الوعي والذات وهي الهوية.

ولذلك يقول الإمام ابن القيم في شفاء العليل: ولما كان الهدهد داعيًا إلى الخير وعبادة الله وحده والسجود له جاء النهي عن قتله... كما رواه الإمام أحمد وأبو داود وابن ماجه عن أبي هريرة رضي الله عنه43.

لقد كانت دعوة الهدهد ولاء للدولة الإسلامية.

فكلن لا بد أن يكون على الدولة الإسلامية واجب حمايته بعد أن أعطاها ولاءه، فجاء نهي رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قتله ومعه النملة والنحلة44.

من أجل ذلك يجب أن تكون خطوط الحركة مشدودة إلى هدف الدولة.

وهذه الخطوط هي أخطر خطوط التصور السياسي للحركة الإسلامية.

الخط الأول: هو أن يكون لقيام الدولة الاعتبار الأول في منهج الحركة وبحسب مقتضيات الواقع وطبيعة الظروف وبكل الإمكانيات.

ولكن...

هذا الاعتبار لا يوقف كل كيان الحركة على هذا الهدف إذ أن هناك أهدافًا موازية ضرورية في ذاتها بصفة شرعية ومؤدية إلى هذا الهدف الأساسي بصفة حركية.

وأهم هذه الأهداف:

- رفع الالتباس عن الناس واستفاضة البلاغ... وهذه هي الصفة الشرعية...

وهذا العمل هو في نفس الوقت بالصفة الحركية... يعني تكوين القاعدة المؤيدة للدولة الإسلامية ونظام الحكم الإسلامي عندما يقوم... ويبقى بعد ما يقوم.

- الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر... وهذه هي الصفة الشرعية وهذا العمل هو في نفس الوقت بالصفة الحركية تهيئة الواقع الاجتماعي للإذعان لحكم الله.

- جمع الإمكانيات لإقامة الدولة... وهو من إعداد القوة، وهذه هي الصفة الشرعية وهذا العمل هو في نفس الوقت بالصفة الحركية... سيحمي الحركة من الوصول إلى مرحلة حدوث العجز الإداري والفني عند إقامة السلطة.

والشرط الأساسي في ممارسة تحقيق هذه الأهداف الموازية لهدف إقامة السلطة هو ألا يطغى هدف بعينه على بقية الأهداف الموازية، وألا يطغى مجموع الأهداف الموازية على هدف إقامة السلطة والإعداد لها بالصورة الحركية المباشرة؛ لأن له الاعتبار الأول في الدعوة... ودون أن يوقف هذا الهدف الأساسي هذه الأعمال لأنها واجبات أصلية بصفتها الشرعية، ومؤدية إلى الهدف الأساسي بصفتها الحركية.

الخط الثاني: هو أن يكون للمستضعفين في زمن الحركة الولاية في نظام الدولة45... وذلك لأن الدولة والسلطة فتنة فلا يجب أن يتعرض لها إلا من لا تضره بإذن الله... والمستضعفون هم الذين عرضت على قلوبهم الفتن كالحصير عودًا عودًا كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديث46.

فالمستضعفون هم الذين لا تضرهم الدنيا والسلطان بعد أن مروا بمرحلة الاستضعاف...

من ناحية أخرى... فإن تولية المستضعفين مسألة عدل... يدل على ذلك خطبة عمر بن الخطاب التي رواها ليست عند عباس قائلاً: خطب عمر بن الخطاب بالجابية فقال: قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم مقامي فيكم فقال: " استوصوا بأصحابي خيراً، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم "47. كما قال عمر أيضاً في موضع اخر: إن الله عز وجل جعلني خازناً لهذا المال وقاسمه له ثم قال: بل الله يقسمه وأنا بادئ بأهل النبي صلى الله عليه وسلم ، ثم أشرفهم، نفرض لأزواج النبي صلى الله عليه وسلم عشرة الاف إلا جويرية وصفية وميمونة، فقالت عائشة: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يعدل بيننا، فعدل بينهن عمر، ثم قال: إني بادئ بأصحابي المهاجرين الأولين فإنا أخرجنا من ديارنا ظلماً وعدواناً، ثم أشرفهم، ففرض لأصحاب بدر منهم خمسة الف: ولمن شهد بدراً من الأنصار أربعة الاف ولمن شهد أحد ثلاثة الاف قال: ومن أسرع في الهجرة أسرع به العطاء، ومن أبطأ في الهجرة أبطأ به العطاء؛ فلا يلومن رجلاً إلا مناخ راحلته48.

ومن ناحية ثالثة... فإن تولية المستضعفين وهم خير من حفظهم الله من فتنة السلطة سيكونون خير من يحفظون أمانة السلطة.

وهذه خطبة عتبة بن غزوان التي تمثل الوثيقة السياسية التي يتأكد منها منهج الدعوة في الانتقال من مرحلة الحركة إلى مرحلة الدولة.

خطبنا عتبة بن غزوان فحمد الله وأثنى عليه، قال: أما بعد: فإن الدنيا قد اذنت بصرم وولت حذاء ولم يبق منها إلا صبابة كصبابة الإناء يتصابها صاحبها وإنكم منتقلون منها إلى دار لا زوال لها؛ فانتقلوا بخير ما بحضرتكم فإنه قد ذكر لنا أن الحجر يلقى من شفة جهنم فيهوي فيها سبعين عاماً لا يدرك لها قعراً، ووالله لتملأن، أفعجبتم، ولقد ذكر لنا أن ما بين مصراعين من مصاريع الجنة مسيرة أربعين سنة؛ وليأتين عليها يوم وهو كظيظ من الزحام ولقد رأيتني سابع سبعة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ما لنا طعام إلا ورق الشجر حتى قرحت أشداقنا فالتقطت بردة فشققتها بيني وبين سعد بن مالك فاتزرت بنصفها واترز سعد بنصفها فما أصبح اليوم منا أحد إلا أصبح أميراً على مصر من الأمصار، وإني أعوذ بالله أن أكون في نفسي عظيماً وعند الله صغيراً، وإنها لم تكن نبوة قط إلا تناسخت حتى يكون اخر عاقبتها ملكاً فستخبرون وتجربون الأمراء بعدنا49.

ومن تحليل الوثيقة يتبين:

كيف أن الولاية لم تؤثر في إيمان الولاة وارتباطهم بالآخرة واحتقارهم لشأن الدنيا، وكيف أن الولاية لم تنس الولاء فترة الاستضعاف وأنها لا زالت هي الفترة التي تملأ عقله ووجدانه ولم تزحزحهاعن ضميره ممارسة والحكم. وكيف أن الولاية لم تصبه بأمراضها فنراه يستعيذ بالله أن يكون في نفسه عظيماً وعند الله صغيراً، وكيف أن الولاية مرحلة ستمر ولن تبقى لهم وأنه سيأتي ولاة آخرون محددو الصفات والمعالم.

وهذه وثيقة أخرى تتضمن نفس القاعدة وهي وثيقة تعيين أول سفراء بعد إقامة الدولة الإسلامية.

وهذا بيان بأسماء المعينين وصفات كل منهم:

حاطب بن أبي بلتعة: سفير إلى مصر أرسل إلى المقوقس. وهو بدري شهد الحديبية50.

دحية بن خليفة الكلبي: سفير إلى الروم أرسل هرقل. وهو قديم شهد المشاهد51.

سليط بن عمرو العامري: سفير اليمامة أرسل إلى هوذة بن علي. وهو بدري له قدم في الإسلام52.

شجاع بن وهب الأسدي: سفير إلى دمشق أرسل إلى الحرث بن أبي شمر. من السابقين هاجر للحبشة53.

عبد الله بن حذافة السهمي: سفير الى فارس أرسل إلى ابرويزبن هرمز. مجاب الدعوة من سادة الصحابة54.

عمرو بن أمية: سفير إلى الحبشة ارسل إلى الأصم بن أبجر النجاشي. أسلم يوم أحد55.

عمرو بن العاص سفير إلى عمان. أسلم قبل الفتح56.

وعندما نقدم هذا النموذج التاريخي لدولة الدعوة نقدم معه هذه الحقيقة.

إن حقيقة دولة الدعوة لا تتجلى إلا في التجربة الإسلامية؛ لأن دار الإسلام هي الدار التي تعلوها أحكام الإسلام وعندما لا تعلوها أحكام الإسلام لا تكون إسلامية، وتصير خارج نطاق التجربة.

والإسلام يرفض إثبات اسم دار الإسلام لدولة لا تعلوها أحكام الإسلام ويعلن الفقه الإسلامي أن الدولة التي لا تعلوها هذه الأحكام ليست محسوبة على الإسلام.

وفي كل مراحل الدولة المسلمة... كان شرط الدعوة قائماً. ابتداًء من الخلافة الراشدة. حتى الملك العضود... كانت الدعوة.

أما التجارب التاريخية للأمم السابقة في العلاقة بين الدولة والدعوة فإنها تسمح بمتناقضات غاية في الخطورة، فالحضارة اليونانية والرومانية والفارسية... لم يكن لها اهتمام بالدين. وحتى الحضارة الكاثوليكية التي قامت على حقيقة التعصب الاستفزازي للمسيحية... كان هذا التعصب فارغاً من مضمون الدعوة.

حيث كانت صيغة هذا التعصب هي المزايدة بين الأمراء والاتهامات بالهرطفة والسيطرة المقيتة لرجال الدين... كانت هوساًً فارغاً من مضمون الدعوة. حتى مثال الدولة اليهودية كرمز للربط بين الدولة والدين يثبت ويؤكد أن دولة الدعوة ليست إلا الإسلام؛ لأن اليهود ليست لهم أية صلة باليهودية.

ومن هنا استحقت الدعوة الإسلامية، دون غيرها، أن تكون المقيمة لدولة الحق، واستحقت الخلافة الإسلامية أن تكون المقيمة لحضارة الحق.

ب) المضمون الحضاري لدولة الدعوة:

حضارة الحق... فلكل حضارة مضمون. والحركة صانعة الحضارة.

والحق هو مضمون الحركة الإسلامية وحضارتها.

ومن هنا كانت خصائص الحضارة الإسلامية صادرة عن مضمونها.

فالحق ومقتضاه من حيث الممارسة: الوحدة في معايير السلوك، والوحدة في معايير التعامل؛ وأبرز هذه المعايير هو العدل.

كذلك فللحق مقتضاه من حيث التعامل... وهو السيطرة.

وكذلك فإن الحق الذي تتبناه الحضارة يجب أن يستوعب الواقع البشري وهو العالمية، وأيضاً فإن الحق مقتضاه الاستمرارية...

ومن هنا يتحدد مقتضى الحق كمضمون للحضارة الإسلامية الذي تنشأ عنه خصائصها المستمدة من حركتها من البداية؛ لتكون:

ج) الصيغة السياسية للمضمون الحضاري:

بخصائصها الأساسية...

العدل... " السيطرة " " القوة " "الظهور ". العالمية. الستمرارية.

ولقد سبق القول في أن الحضارات السابقة حضارات مصنوعة جاء مضمون كل حضارة منها كرد فعل للحضارة التي تسبقها...

مثلما جاءت حضارة القوة المادية (الرومانية) كرد فعل لحضارة المثالية الخيالية (اليونانية) وجاءت حضارة الحاكم الإله... (الفارسية) كرد فعل للقوة المادية (الرومانية ".

ومثلما جاءت حضارة الفرد والقومية (الأوربية) كرد فعل للتعصب الكاثوليكي " الكاثوليكية ".

وهذا دليل على أنها حضارات لم تصنع على عين الله.

ودليل آخر على ذلك هو أن النظرية السياسية لكل حضارة لم تتكون إلا بعد فترة زمنية طويلة وقطع أشواط تاريخية عبر حياة الأمة... بل إن هناك أمماً لم تتكون نظريتها إلا في أواخر عمرها.

الأمر الذي يختلف تماماً في حضارة الأمة الإسلامية التي تكونت نظريتها السياسية في حياة مؤسسها الأول سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم من الحركة حتى الخلافة.

لأنها كانت الممارسة السياسية للمضمون الحضاري للأمة تعني أن يكون الموقف السياسي امتداداً طبيعياً لتاريخ الأمة وانسجاماً مطلقاً مع حضارتها.

وذلك يقتضي أن تجتمع في هذا الموقف كل الخبرة السياسية للأمة المأخوذة عن تراثها السياسي وتجاربها التاريخية.

ثالثاً

طبيعة الممارسة السياسية

أ) الموقف السياسي (نقطة البدء):

وكما تسهم كل نقطة عندما تتحرك في صنع الخط كذلك يسهم الموقف في تحديد اتجاه الخط السياسي للدولة وطبيعة البناء الحضاري للأمة في واقع الممارسة.

إذن فالموقف السياسي هو النقطة المتحركة الصانعة للخط السياسي.

ولإنشاء الموقف السياسي عدة قواعد:

الترتيب الإجرائي:

1) الحكم الشرعي في مضمون الموقف.

2) أثر الموقف على ولاء الجماعة.

فقد يكون الموقف صحيحاً ولكنه لا ينال إجماعة الجماعة حيث يسبب مجرد إعلانه انشقاقاً... عندئذ يكون الأولى ترك هذا الموقف حتى يتحقق الإجماع عليه وهذا ما كان من رسول الله صلى الله عليه وسلم عندما لم يعلن الدخول في معركة بدر حتى حقق إجماع المهاجرين والأنصار بعد أن قال له سعد بن عبادة سيد الأنصار: والله لو خضت بنا غمار هذا البحر لخضناه معك57.

إن مراعاة واقع الجماعة في اتخاذ القرار مبدأ سياسي هام يتجلى واضحاً في كل مواقف رسول الله صلى الله عليه وسلم السياسية58.

3) أثر الموقف في تحقيق الهدف العام للجماعة، وينقسم إلى ناحيتين:

أ) النتيجة العملية.

ب) الهدف الدعائي.

فقد يكون للموقف أثر صحيح من الناحية العملية. ولكنه يسبب اهتزازاً في صورة الدعوة أمام نظر الناس وهذا الذي جعل رسول الله صلى الله عليه وسلم لايقتل عبد الله بن أبي سلول وهو مستحق للقتل قائلاً لعمر: دعه حتى لا يتحدث الناس بأن محمداً يقتل أصحابه59.

ومن هنا كانت الترجيحات هي أساس إنشاء الموقف السياسي بعد ثبوت الترتيب الإجرائي.

الترجيحات:

فعندما... ننشئ موقفاً سياسياً بصورة نظرية.

ننظر إلى الحكم الشرعي فإذا ثبتت شرعيته ننظر إلى أثر الموقف على ولاء أصحاب الدعوة؛ لأن الحفاظ على هذا الولاء أولى من تحقيق أي نتيجة عملية.

فإذا لم يكن للموقف ضرر على ولاء الجماعة؛ ننظر إلى نتيجته العملية في الواقع؛ فإذا كانت له نتيجة محققة لمصلحة الدعوة ننظر في الأثر الدعائي والإعلامي للدعوة.

فإذا كان للموقف أثر دعائي ضار فلا نمارس هذا الموقف؛ لأن الضرر الدعائي مفسدة؛ ودرء المفاسد مقدم على جلب المصالح؛ فإذا لم يكن له ضرر دعائي مارسنا الموقف.

ثم مع ذلك يراعى في إنشاء الموقف الاعتبارات الأصلية الآتية:

1) التوافق بين الأسلوب والنتيجة:

والتوافق بين الأسلوب والنتيجة خصيصة من خصائص المنهج الإسلامي العام فالإسلام منهجاً هو الإسلام أثراً ونتيجة بغير تناقض.

بل إن النتيجة الصحيحة التي يمكن الوصول إليها بأسلوب غير صحيح محكوم عليها بالبطلان ولذلك يقول النبي صلى الله عليه وسلم: " من قال في كتاب الله برأيه وأصاب فقد أخطأ "60 لأن منهج أو أسلوب الوصول إلى النتائج يجب أن يكون صحيحاً في ذاته حتى يكون صحيحاً في نتيجته وبذلك تقوم الدعوة بالحق ويقوم الإسلام بالإسلام.

2) التوافق بين المبدأ والمصلحة:

إن أهم الحقائق المعروفة في الدعوة الإسلامية أنها دعوة مبادئ؛ وهذا ما سلم به أعداء الدعوة أنفسهم... حتى أن أبا سفيان يسأل عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمام هرقل ولم يكن قد أسلم بعد... سؤالاً خطيراً... أيغدر؟ قال: لا يغدر61...

ولكن موقفا آخريدل على أن الحفاظ على مبادئ الدعوة أمر لايمكن التفريط فيه مهما بلغت درجته وهذا الموقف الرجل أمام الرسول الله صلى الله عليه وسلم وقد جاءه رجل كان الرسول قد أحل دمه ووقف الرجل أمام الرسول ومشى دون أن يمسه أحد فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم للصحابة: لم لم تقتلوه؟ قالوا يا رسول الله! هلاّ أشرت إلينا؟ فقال: ما كان لنبي أن يكون له غلة. أي إشارة خفية62.

3) التوافق بين الوسيلة والغاية:

وكذلك الوسائل بعد الأساليب يجب أن تكون من الإسلام ذاته. من أجل ذلك رد النبي صلى الله عليه وسلم مشركاً يريد القتال مع المسلمين قائلاً له: " نحن لا نستعين بمشرك "63.

بل قد يبلغ الأمر أن يرد الرسول صلى الله عليه وسلم رجلاً لعن ناقته أثناء الذهاب إلى الغزو قائلاً له: ارجع بها لا تصحبنا بملعون64.

4) الدلالة السياسية للحدث السياسي:

ولما كان الموقف السياسي هو النقطة المتحركة للاتجاه السياسي كان لابد أن يقوم الموقف السياسي علي معناه الدال علي الاتجاه السياسي والقوة السياسية.

وهذا المعني هو ما نتفق علي تسمية بالدلالة السياسية.

وعلي هذا الاساس يقوم إنشاء الحدث بدلالة مقبولة أو نفي دلالة مرفوضة أو الاثنتين معاً.

والدلالة السياسية متعددة: منها الدلالة العملية، ومنها الدلالة القولية، ومنها الدلالة الشخصية.

وأقوي أمثلة ارتباط الموقف السياسي بدلالته هو المفاوضات والمعاهدات.

والدلالة الثابتة التقليدية للمعاهدات من الجانب الإسلامي:

1) إثبات وحدة الموقف.

2) فرض الإرادة السياسية.

3) تحقيق مكاسب عملية.

ومن الجانب الجاهلي غالبا ما يكون هدم هذه الاهداف وتضييع هذه الدلالات.

مثلما قال المفاوض عن قريش لرسول صلى الله عليه وسلم في معاهدة الحديبية: " جئت بأوشاب الناس لتفض بهم بيضتك وما أراهم إلا منفضين عنك " فأثبت له الصحابة غير ذلك عندما ابتدروا نخامة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ومسحوا بها أجسادهم، وتنافسوا علي وضوئه ليشربوه؛ حتى رجع المفاوض الي قريش ليقول لها: لقد رأيت الروم وقيصر، والفرس وكسري؛ فما وجدت قوماً يعظمون صاحبهم كما يعظم أصحاب محمد محمداً؛ وأري أن تصالحوه.

ومثلما حاول مفاوض الفرس في معاهدته مع المسلمين إنشاء شرخ في بناء موقفهم السياسي فاتفق مع المفاوض المسلم علي معاهدة الصلح، وأخبره أنها تبدأ من اليوم الذي تم فيه عقد هذا الصلح، ثم جاء مفاوض آخر فوافق مفاوض الفرس علي المعاهدة وأخبره أنها تبدأ من اليوم الذي جاء فيه المفاوض الثاني فرفض المفاوض المسلم أن يكون بدء المعاهدة من اليوم بل من الأمس كما حدد ذلك أخوه السابق عليه؛ وبذلك تتحقق وحدة الموقف وتخفق خطة الفرس في التفريق بين المفاوضين المسلمين حتى ولو بفارق يوم في تحديد تاريخ المعاهدة.

ولعل وحدة الموقف هذه التي أثبتها المفاوض الثاني هي التي ثبت معها فرض الإرادة السياسية وذلك بتمسكه باتفاق أخيه علي تاريخ المعاهدة.

ثم نبدأ طرح نماذج عامة بعد نموذج المعاهدات للموقف السياسية المتضمنة لجميع أنواع العلاقات بين الموقف السياسي كحدث له دلالته المتحققة من خلاله.

أنموذج:

دلالة سياسية تحققت بالكلام دون عمل وهو حديث عائشة: " يا عائشة لولا أن قومك حديث عهد بجاهلية لأمرت بالبيت فهدم، فأدخلت فيه ما أخرج منه وألزقته بالأرض، وجعلت له بابين باباً شرقياً وباباً غربياً فبلغت به أساس إبراهيم "65.

أنموذج:

من أمثلة إثبات الدلالة بصورة واضحة لا تحتمل غيرها هو حادثة المرأة التي ترك رسول الله صلى الله عليه وسلم قبيلتها وقاتل القبائل حولها.

كنا في سفر مع النبي صلى الله عليه وسلم ، وإنا أسرينا حتى إذا كنا في آخر الليل وقعنا وقعة ولا وقعة أحلي عند المسافر منها، فما أيقظنا إلا حر الشمس،...... فلما استيقظ النبي صلى الله عليه وسلم شكوا إليه الذي أصابهم، قال: " لا ضير – أو لا يضير – ارتحلوا ". فارتحل، فسار غير بعيد، ثم نزل فدعا بالوضوء فتوضأ، ونودي للصلاة فصلى بالناس، فلما انفتل من صلاته إذا هو برجل معتزل لم يصلِّ مع القوم، قال: " ما منعك يا فلان أن تصلي مع القوم؟! ". قال: أصابتني جنابة... ولا ماء. قال: " عليك بالصعيد؛ فإنه يكفيك ". ثم سار النبي صلى الله عليه وسلم فاشتكى إليه الناس من العطش، فنزل فدعا فلانًا – كان يسميه أبو رجاء نسيه عوف – ودعا عليًّا فقال: " اذهبا فابتغيا الماء ". فانطلقا فتلقيا امرأة بين مزادتين – أو سطيحتين – من ماء على بعير لها فقالا لها: أين الماء؟ قالت: عهدي بالماء أمس هذه الساعة، ونفرنا خلوفًا. قالا لها: انطلقي إذًا. قالت: إلى أين؟ قالا: إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم. قالت: الذي يقال له الصابئ؟ قالا: هو الذي تعنين، فانطلقي

فجاءا بها إلى النبي صلى الله عليه وسلم وحدثاه الحديث. قال: فاستنزلوها عن بعيرها، ودعا النبي صلى الله عليه وسلم بإناء ففرغ فيه من أفواه المزادتين – أو السطيحتين – وأوكأ افواههما وأطلق العزالى ونودي في الناس: استقوا. فسقى من شاء، وكان آخر ذاك أن أعطى الذي أصابته الجنابة إناء من ماء قال: اذهب فأفرغه عليك. وهي قائمة تنظر إلي ما يفعل بمائها. وأيم الله لقد أقلع عنها وإنه ليخيل إلينا أنها ملاة منها حين ابتدأ فيها. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: اجمعوا لها. فجمعوا لها - من بين عجوة ودقيقة وسويقة - حتى جمعوا لها طعاما فجعلوها في ثوب وحملوها ووضعوا الثوب بين يديها، قال لها: تعلمين ما رزئنا من مائك شيئاً، ولكن الله هو الذي أسقانا... فكان المسلمون بعد ذلك يغيرون علي من حولها من المشركين ول يصيبون الصرم الذي هي منه. فقالت يوما لقومها: ما أري أن هؤلاء القوم يدعونكم عمداً، فهل لكم في الإسلام؟ فأطاعوها، فدخلوا في الإسلام66.

أنموذج:

نفي دلالة مرفوضة، وإثبات دلالة مقبولة.

عن ابن عمر قال: كنا في غزاة فحاص الناس حيصة. قلنا: كيف نلقي النبي صلى الله عليه وسلم ، وقد فررنا من الزحف، وبؤنا بالغضب؟ فأتينا النبي صلى الله عليه وسلم قبل صلاة الفجر، فخرج فقال: من القوم؟ فقلنا نحن الفرارون، قال: لا بل أنتم العكارون (أي الكرارون)، فقبلنا يده، فقال: أنا فئتكم وفئة المسلمين، ُثم قرأ (إلا متحرفاً لقتال أو متحيزاً إلي فئة)67.

وذلك في تفسير قول الله عز وجل: " إذا لقيتم الذين كفروا زحفاً فلا تولوهم الأدبار ".

وفي غزوة أحد حيث وقف رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد الغزوة وجمع المسلمين حوله ليردوا علي أبي سفيان الذي أراد أن يحقق نتيجة سياسية للغزوة...

وأشرف أبو سفيان فقال: أفي القوم محمد؟ فقال: " لا تجيبوه " فقال أفي القوم ابن أبي قحافة؟ فقال: " لا تجيبوه ". فقال أفي القوم ابن الخطاب؟ فقال: إن هؤلاء قتلوا، فلو كانوا أحياء لأجابوا. فلم يملك عمر نفسه فقال: كذبت يا عدو الله، أبقي الله عليك ما يخزيك! قال أبو سفيان: أعل هبل. فقال النبي صلى الله عليه وسلم " أجيبوه ". قالوا: ما نقول؟ قال " قولوا: الله أعلي وأجل ". قال أبو سفيان. لنا العزي ولا عزي لكم. فقال الني صلى الله عليه وسلم: " أجيبوه " قالوا ما نقول؟ قال " قولوا: الله مولانا ولا مولي لكم ". قال أبو سفيان يوم بيوم بدر، والحرب سجال. قال الني صلى الله عليه وسلم: " أجيبوه "! قالوا: ما نقول؟ قال " قولوا: قتلانا في الجنة، وقتلاكم في النار "68.

حتى إن رسول الله صلى الله عليه وسلم سار ورائهم بالجيش وأقام ثلاث ليال حتى سميت غزوة حمراء الأسد69.

وكان في هذا أيضاً نفي دلالة مرفوضة وإثبات دلالة مقبولة.

فالوقوف بعد أحد ثلاث لنفي دلالة مرفوضة وهي قبول الهزيمة وإثبات دلالة مقبولة وهي الإصرار علي مواصلة الجهاد بعد حرمان العدو من تحقيق أي نتيجة سياسية لصالحه.

أنموذج:

حدث قام علي حفظ صورة الدعوة في نظر الناس كدلالة مطلوبة.

عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما: " كنا في غزاه... فكسع70 رجل من المهاجرين رجلا من الأنصار، فقال الأنصاري: يا للأنصار! وقال المهاجري: يا للمهاجرين! فسمعها الله رسوله صلى الله عليه وسلم قال: ما هذا؟

فقالوا: كسع رجل من المهاجرين رجلاً من الأنصار؟ فقال الأنصاري: يا للأنصار! وقال المهاجري: يا للمهاجرين! فقال النبي صلى الله عليه وسلم: دعوها؛ فإنها منتنة. قال جابر: وكان الأنصار حين قدم النبي صلى الله عليه وسلم أكثر، ثم كثر المهاجرون بعد فقال عبد الله بن أبي... أو عمر بن الخطاب رضي الله عنه: دعني يا رسول الله أضرب عنق هذا المنافق! قال النبي صلى الله عليه وسلم: دعه حتى لا يتحدث الناس أن محمداً يقتل أصحابه71.

أنموذج:

حدث نشأ بدلالة مقبولة، بعد تجريده من دلالة مرفوضة.

بعث النبي صلى الله عليه وسلم خيلا قبل نجد، فجاءت برجل من بني حنيفة يقال له ثمامة بن أثال فربطوه بسارية من سواري المسجد، فخرج اليه النبي صلى الله عليه وسلم فقال: ما عندك يا ثمامة؟ فقال: عندي خير يا محمد: إن تقتلني تقتل ذا دم، وإن تنعم علي شاكر، وإن كنت تريد المال فاسأل ما شئت، فترك حتى كان الغد ثم قال له، ما عندك يا ثمامة؟ قال: ما قلت لك: إن تنعم علي شاكر، فتركه حتى كان بعد الغد، فقال: ما عندك يا ثمامة؟ قال: عندي خير.

فقال: أطلقوا ثمامة. فانطلق إلي نخل قريب من المسجد، فاغتسل ثم دخل المسجد فقال: أشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله 72...

والملاحظة الأساسية في الحديث أن ثمامة ذكر الدم في اليوم الأول؛ ولذا تركه رسول الله صلى الله عليه وسلم مربوطا؛ لأنه لو تركه بعد ذكره الدم لكان معني الموقف هو الطمع في الدية أو الفداء. وفي اليوم الثالث لم يذكر ثمامة الدم أو المال فقال: عندي خير فقال أطلقوا ثمامة.

إن القاعدة السياسية التي يتضمنها هذا الموقف هي شرط جوهري في الممارسة السياسية وإنشاء الموقف السياسي وهو: الوضوح ومعناه أن يكون للموقف تفسير واضح لا يحتمل غيره ولذلك ترك رسول الله ثمامة حتى أصبح لإطلاق سراحه تعبير واحد ومعني واحد هو الإكرام الذي لا يختلط به معني الطمع في الدية أو الخوف من الثأر.

أنموذج:

حدث قام علي حفظ وحدة الموقف، وهي من أخطر دلالات الموقف السياسي.

لما غدر يهود بني قريظة بالمسلمين في غزوة الخندق وتحالفوا مع المشركين كان لابد من إجلائهم؛ لأن وجودهم كان مرهوناً بالمعاهدة التي كانت بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم.

ولكن تحالف اليهود مع الأنصار قبل دخول الرسول صلى الله عليه وسلم والذي لم يزل قائما بعد دخول رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة كان يمثل مشكلة خطيرة...

فالواجب إجلاؤهم ٍوقتالهم... وهم حلفاء الأنصار في نفس الوقت... فما الموقف...؟

كان الموقف السياسي هو إحالة أمرهم إلي الأنصار ذاتهم... فطلب منهم رسول الله أن ينزلوا علي حكم من يختارون. وكان من الطبيعي أن يكون اختيارهم من الأنصار باعتبارهم حلفاءهم؛ فاختاروا سعد بن معاذ سيد الأنصار.

وكما تقول كتب السيرة: " فلما أصبحوا نزلوا علي حمك رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فتواثبت الأوس فقالوا: يا رسول الله إنهم موالينا دون الخزرج، وقد فعلت في موالي إخواننا بالأمس ما قد علمت...

فلما كلمته الأوس قال: ألا ترضون يا معشر الأوس أن يحكم فيهم رجل منكم؟ قالوا: بلي؛ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فذاك إلي سعد بن معاذ... فلما حكمه رسول الله صلى الله عليه وسلم في بني قريظة أتاه قومه فحملوه علي حمار قد وطؤا له بوسادة من أدم، وكان رجلاً جسيماً جميلاً، ثم أقبلوا معه إلي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهم يقولون: يا أبا عمرو، أحسن في مواليك، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم إنما ولاك ذلك لتحسن فيهم؟ فلما أكثروا عليه قال: لقد آن لسعد أن لا تأخذه في الله لومة لائم. فرجع بعض من كان معه من قومه إلي دار بني عبد الأشهل. فنعي لهم رجال بني قريظة، قبل أن يصل إليهم سعد، عن كلمته التي سمع منه.

فلما انتهي سعد إلي رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمين، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: قوموا إلي سيدكم... فقاموا إليه، فقالوا يا أبا عمرو، إن رسول الله قد أمر مواليك لتحكم فيهم؛ فقال سعد بن معاذ: عليكم بذلك عهد الله وميثاقه أن الحكم فيهم لما حكمت؟ قالوا: نعم، قال: وعلى من ها منا، في الناحية التي فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وهو معرض عن رسول الله إجلالاً له؛ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: نعم؛ قال سعد: فإني أحكم فيهم أن تقتل الرجال، وتقسم الأموال، وتسبي الذراري والنساء. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لقد حكمت فيهم بحكم الله من فوق سبعة أرقعة73.

أنموذج:

حدث قام علي أساس توجيه أعداء الدعوة بما يناسب مصلحة الدعوة ذاتها.

قال أبو داود حدثنا محمد بن داود بن سفيان أخبرنا عبد الرازق أخبرنا معمر عن الزهري عن عبد الرحمن بن كعب بن مالك عن رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أن كفار قريش كتبوا إلي ابن أبي ومن كان معه يعبد الأوثان من الأوس والخزرج ورسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذ بالمدينة: آويتم صاحبنا وإنا نقسم بالله لنقاتلنه أو لنخرجنه أو لنسيرن إليكم بأجمعنا حتى نقتل مقاتلتكم ونسبي نساءكم فلما بلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم قال: " لقد بلغ وعيد قريش منكم المبالغ ما كانت تكيدكم بأكثر مما تريدون أن تكيدوا به أنفسكم يريدون أن تقاتلوا بأبنائكم وإخوانكم؛ فلما سمعوا ذلك من النبي صلى الله عليه وسلم تفرقوا74.

وهذا الموقف يتضمن قاعدة سياسية هامة وهي توجيه أعداء الدعوة إلي اتخاذ الموقف المناسب للدعوة بمنطق المصلحة لهؤلاء الأعداء وهذا الذي فعله رسول الله صلى الله عليه وسلم مع عبدة الأوثان الذين اجتمعوا لقتاله. وهو ما فعله مع قريش ذاتها عندما بلغه أنهم خرجوا إليه بالعوذ المطافيل75 لقتاله فقال: ويح قريش لقد أكلتها الحرب خلوا بيني وبين القبائل فإن كان الأمر لي عليهم كان شرفا لهم وإن كان الأمر لهم علي كان ما يرجون76. نفس منطق المصلحة يتحدث به الرسول إلي أعدائه ليوجههم إلي الموقف المناسب للدعوة...

ب) أبعاد الممارسة السياسية (الحدود النهائية):

1) البعد الجماهيري للتصور السياسي " العامة ":

والعامة هي العنصر الأساسي من عناصر الأمة حيث أن الأمة هي: الحكم، والملأ، والعامة وهذا العنصر هو المحقق لمعني الأمة المرتبط بخصائصها القدرية.

وهذه الخصائص هي:

- العصمة: حيث قال النبي صلى الله عليه وسلم: " لا تجتمع أمتي علي ضلالة " 77 وقال: " لا يجمع الله هذه الأمة إلا علي هدي " 78.

- الرحمة: حيث قال النبي صلى الله عليه وسلم: " هذه الأمة مرحومة " 79.

- النصر: حيث قال النبي صلى الله عليه وسلم: " هذه الأمة منصورة " 80. وقال " لا تزال طائفة من أمتي قائمة بأمر هذا الدين لا يضرهم من خالفهم " 81.

وهذه الخصائص مرهونة بالأمة بمعني السواد الأعظم باعتبارها العنصر الأساسي للأمة وكذلك الضمان الأخير لتحقيق معني الجماعة؛ ولذلك جاء معني الجماعة في مجموع النصوص الواردة بأربعة معايير؛ وكان منها معيار العامة 82.

ومما يجب إدخاله في الاعتبار وجوباً شرعياً جوهرياً هو أن العامة في دار الإسلام هي المقصودة - أساساً - بهذا المصطلح. أما العامة في دار الكفر فلا تنطبق إلا علي من كره ما عليه المجتمع من الكفر وهذه هي البراءة المذكورة في قول رسول الله صلى الله عليه وسلم فمن كره فقد برء إلا من رضي وتابع...

فلا يمكن أن نتصور أن مجموع الراضين عن الكفر والتابعين لأهله الملتصقين بهم في كفرهم أو مجموع الهمج الرعاع أتباع كل ناعق هم المحققون لمصطلح السواد الأعظم.

قيمة التوجه للعامة:

والحقيقة أن التعامل مع العامة ترجع أهميته إلي ارتباطه المباشر بغاية الدعوة وهي الهداية.

وذلك أن غاية الدعوة هي أن يؤمن الناس. وعندما يتمكن أصحاب الدعوة من التعامل المباشر مع الناس.

فإن هذا الأمر تكون له أهمية ضخمة قد تقترب من أهمية محاولة إقامة السلطة الإسلامية؛ لأن هدف هداية الناس هو أهم أسباب قيام هذه السلطة.

كما نعلم أن إسقاط الحكم الجاهلي هو إزاحة لأهم وصول الحق إلي الناس، وعندما تنشأ ظروف الدعوة التي تتاح فيها إمكانية وصول الحق إلي الناس...

تكون قد تحققت نتيجة أصلية هي نفسها أهم نتائج إسقاط الحكم الجاهلي وإقامة الحكم الإسلامي.

ومن هنا كان من أهم معاني الفتح 83 معاهدة الحديبية؛ لأن هذه المعاهدة هي التي أتاحت هذا الاتصال المباشر بين المسلمين والكفار، فحقق هذا الاتصال إيمان تسعة أعشار المسلمين الذين كانوا في فتح مكة ومن هنا كان لمعاهدة الحديبية معني الفتح؛ لأن لها حقيقته وسببه وغايته وهي أن يؤمن الناس...

وكما ترجع قيمة فرصة الاتصال بالناس إلي نتيجتها ترجع إالي سببها.

إن الجاهلية لا تتيح هذه الفرصة... بغير حساب.

إنها تتيحها تسليما بأقل الأخطار عليها.

إن الجاهلية توازن كما وازنت قريش فوافقت علي المعاهدة، وأعطت الجاهلية فرصة الدعوة عندما أيقنت أن الدعوة أمر واقع لا يمكن مواجهته. وعندما أيقنت أن استنفاد طاقة الدعاة في الدعوة بالكلمة هو البديل الحتمي لممارسة القوة.

فالفرصة لها ثمن، والفرصة ليست رخيصة، والفرصة ليست عارضة...

إنها محسوبة وبدقة من جانب الطرف الجاهلي الذي سلم بحركة الدعاة المتجهة إلي الناس.

وباعتبار أن عنصر الكثرة هي أهم عناصر العوام؛ فإن تحقيق الإضلال لهم أصبح أكبر أهداف الشيطان؛ لأن الشيطان يسعي أن يموت أكثر الناس علي الكفر.

ومن هنا فإن التعامل المباشر مع الناس هو الذي يقطع علي الشيطان هدفه في الإضلال العام.

وقد تكون مهمة إسقاط الحكم الجاهلي بالصفة الانقلابية أخطر وأشد؛ ولكن دعوة الناس مباشرة تستوعب أكبر عدد ممكن من هؤلاء الناس.

وهذا هو الذي يعطي لأسلوب الاتصال المباشر بالناس أهمية وقيمة.

فليست الخطورة معني مرادفا للأهمية في منهج الحركة.

فقد يكون الأمر أقل خطورة وأكثر أهمية.

أو أقل أهمية وأكثر خطورة.

ضرورة التوجه... ذلك لأن التوجه هو الذي يحقق أكبر فرصة لاستخلاص الطاقات الصالحة للحركة... وهناك في واقع الناس معادن مغمورة يقول فيها النبي صلى الله عليه وسلم: " خيارهم في الجاهلية خيارهم في الإسلام إذا فقهوا " 84.

إن التوجه إلي الناس... لا يعني أن يؤمن كل الناس... فإذا كانت الاستجابة قليلة فإن هذهالقلة هي النتيجة الطبيعية؛ وإدراك هذه الحقيقة يعالج اليأس الذي قد يطرأ علي أصحاب الدعوة إذا بذلوا جهداً ضخماً مع الناس.

ولذلك يقول النبي صلى الله عليه وسلم: " الناس كإبل مائة... لا تكاد ترى فيه راحلة " 85.

كما يعالج الرسول صلى الله عليه وسلم اليأس في نفوس الدعاة إذا اقتربوا ممن يحمل كرهاً شديداً للدعوة بحيث يصبح هذا الامر سبباً في الأمل والرجاء؛ فيقول النبي صلى الله عليه وسلم: " أشد الناس كرهاً لهذا الأمر هم أشد الناس حباً له بعد الدخول فيه " 86.

والقاعدة السياسية في تحقيق التأثير في العامة هي تحقيق مقتضيات الكيان الصحيح للدعوة:

1) البطولة وهي النموذج الإنساني السليم للتأسي والاقتداء إسلامياً.

2) التماسك. ويراجع فيه معاهدة الحديبية.

3) التضحية والبذل.

4) الثبات علي العقيدة الذي جعل مشركاً يسلم لما ضرب مسلماً ليقتله، فسمعه يقول: فزت ورب الكعبة.

أما أساسيات التوجه من حيث الاسلوب الحركي ومن حيث قضايا التبليغ.

فإن الأسلوب الحركي في دعوة العامة قائم علي قاعدة أن نغشي الناس كما قال الصحابي للنبي صلىالله عليه وسلم  عند قدومه إلي المدينة: " اغشنا في مجالسنا " 87.

ومن كلمة " اغشنا " ينطلق أسلوب التعامل مع العامة.

ومن كلمة " غشي " تنشأ عناصر الأسلوب. ومن لسان العرب.

1) أن غشينا من ذلك شيء من القصد إلي الشيء والمباشرة والتوجه.

2) وفي حديث المسعي: فإن الناس غشوه أي ازدحموا عليه وكثروا.

3) الغشاء: الغطاء والعموم.

4) غشي الشيء: إذا لابسه.

وبذلك يجتمع في معني (غشي) التوجه، والتعميم والازدحام والكثرة والملابسة.

يجب أن نغشي الناس فنذهب إليهم بكثرة... وليس مجرد التسلل إليهم.

ونغشاهم... وليس مجرد لقاءات عابرة.

والهدف...

هو أن تعيش الجماهير واقع الدعوة الذي يستردهم من أسر الإعلام الجاهلي.

الجماهير أسيرة... والدعوة تتطلب إنقاذهم واستردادهم وفك أسرهم.

والوسيلة: هي أن تصبح دعوة الجماهير موازية ومقابلة لمكر الليل والنهار.

السحر... البهارج والألوان الشيطانية التي تأخذ عيون الناس.

موازية للخبث الذي يصل إلي أعماق النفس البشرية.

للإغراء والفتنة... للكيد والدهاء.

الجماهير في وضع لا يطاق... نادراً ما تجد ناجياً من لوثته.

وحتى لا تخاف الجماهير عندما ترى الدعاة يقتربون منهم.

يجب أن يكون هذا الاقتراب من خلال المبررات الطبيعية لهذا الاقتراب.

فترتكز حركة التوجه إلي الجماهير من خلال مبرراته الطبيعية:

القرابة... الجواز... الصداقة... أو أي مبرر طبيعي آخر...

هذا هو الأساس في الأسلوب الحركي في التوجه للعامة.

ثم نأتي إلي الأساس في أسلوب عرض القضايا وهو البساطة.

الأمية:

والحد النهائي للبساطة هو مفهوم الأمية...

والأمية تعني التسليم بحقائق هذا الدين بغير مسلمات فكرية مسبقة؛ وعندئذ يخلو الملتقي من الخلط بين وحي السماء والثقافات الخاصة، ويعبر النبي صلى الله عليه وسلم عن حقيقة الأمية بقوله: " نحن قوم أميون الشهر وهكذا وهكذا " 88 مشيراً بيده وأصابعه.

يعني أنه أشار بيده ثلاث مرات:

في المرة الأولي والثانية يبسط أصابعه كلها دلالة علي عشرة أيام وعشرة أيام، وفي الثالثة بسط أصابعه عدا واحداً؛ للدلالة علي رقم (9) أي أن الشهر (29) يوماً.

ولعل أهم أمثلة التعالي الجاهلي بالثقافة المقابلة للأمية... كانت الثقافة اليونانية والرومانية.

وكانت هذه الثقافة هي بذاتها مادة اختلاط حقائق الدين المسيحي المنزلة من عند الله.

وكانت سبباً مباشراً في دخول هذه الوثنية إلي الدين المسيحي والترحيب بها لكثير من بلاد الدين المسيحي ذاته.

وكما تكون البساطة أساسا في أسلوب عرض قضايا الدعوة كذلك تفعل الجاهلية وفي مواجهة قضايا الدعوة.

الارتكاز الجاهلي علي خصائص الجماهير

هذا هو النمرود الذي حاج إبراهيم ربه يقول: " أنا أحيي وأميت) فينتقل سيدنا إبراهيم إلي دليل آخر ولم يكن هذا تسليماً بإمكانية ذلك ولكنه اليقين بإمكانية خداع الجماهير بأي صورة من الصور التي وردت في التفسير. وهي أن يأتي بأثنين محكوماً عليهما بالإعدام فيعدم أحدهما، ويترك الآخر، ويقول: أنا أحيي وأميت. فتصرخ الجماهير المقتنعة بذلك الموقف الوهمي والمتحمسة لموقف الملك الكذاب.

هذه هي الجماهير في ظل الجاهلية.

وهذا فرعون يقول: (يا هامان ابن لي صرحاً لعلي أبلغ الأسباب) إنما يحقق مضاعفة الخضوع؛ لأنهم يعرفون هامان كما يعرفون فرعون.

تتضاعف رموز السيطرة في إحساس الجماهير.

هذا هو النمرود الذي حاج إبراهيم في ربه يقول: " أنا أحيي وأميت "... فينتقل سيدنا إبراهيم إلى دليل آخر، ولم يكن هذا تسليمًا بإمكانية ذلك، ولكنه اليقين بإمكانية خداع الجماهير بأي صورة من الصور التي وردت في التفسير... وهي أن يأتي باثنين محكومًا عليهما بالإعدام فيعدم أحدهما ويترك الآخر، ويقول: أنا أحيي وأميت. فتصرخ الجماهير بذلك الموقف الوهمي والمتحمسة لموقف الملك الكذاب.

هذه هي الجماهير في ظل الجاهلية.

وهذا هو فرعون يقول: " يا هامان ابن لي صرحًا لعلي أبلغ الأسباب "... إنما يحقق مضاعفة الخضوع؛ لإنهم يعرفون هامان كما يعرفون فرعون.

تتضاعف رموز السلطة في إحساس الجماهير.

وعندما يقول: " ابن لي صرحًا " يبدو أمام الجماهير في غاية الموضوعية والمنطقية، وكأنه سيسر مع القضية خطوة خطوة، وأمام الناس.

وبذلك تصبح الجماهير الساذجة أمام الفضاء... يضع أعينهم أمام الفراغ... ماذا بعد الصرح؟! لا شيء... وهذه هي النتيجة المطلوبة.

أن يعتقد الناس أنه لا شيء في السماء وأن موسى كاذب.

إن البساطة أمر واضح محقق.

إن العامة تنخدع بمنتهى البساطة.

ألم يجعل لهم السامري عجلاً جسدًا له خوار؟ وبنفس منطق السامري واصل الصليبيون الخداع.

وهذا فصل حيل الرهبان:

وفيها يقول ابن تيمية: " وقد صنف بعض الناس مصنفًا في حيل الكهان، مثل الحيل المحكية عن أحدهم في جعل الماء زيتًا بأن يكون الزيت في جوف المنارة فإذا نقص صب فيها ماء فيطفو الزيت على الماء؛ فيظن أن نفس الماء انقلب زيتًا.

ومثل الحيلة المحكية عنهم في ارتفاع النخلة، وهو أن بعضهم مر بدير راهب... أسفل منه نخلة فأراه النخلة صعدت شيئًا حتى حازت الدير فأخذ من رطبها، ثم نزلت حتى عادت كما كانت، فكشف الرجل الحيلة... فوجد النخلة في سفينة في مكان منخفض إذا أرسل عليه الماء امتلأ حتى تصعد السفينة، وإذا صرف الماء إلى موضع آخر هبطت السفينة.

ومثل الحيلة المحكية عنهم في التكحل بدموع السيدة مريم، وهو أنهم يضعون كحلاً في ماء متحرك حركة لطيفة، فيسيل حتى ينزل من تلك الصورة فيخرج فيظن أنه دموع.

ومثل الحيلة التي صنعوها بالصورة التي يسمونها القونة بصيدنايا، وهي أعظم مزاراتهم بعد القيامة وبيت لحم، حيث ولد المسيح وحيث قبر – في زعمهم – فإن هذه هي صورة السيدة مريم، وأصلها حشة نخلة سقيت بالأدهان حتى سمنت وصار الدهن يخرج منها مصنوعًا يظن أنه من بركة الصورة.

ومن حيلهم الكثيرة... النار التي يظن عوامهم أنها تنزل من السماء في عيدهم في قمامة... وهي حيلة قد شهدها غير واحد من المسلمين والنصارى ورأوها بعيونهم أنها نار مصنوعة يضلون بها عوامهم، يظنون أنها نزلت من السماء، ويتبركون بها، وإنما هي صنعة صاحب محال وتلبس "89.

وقد أورد ابن كثير رحمه الله عند تفسيره قول الله تعالى: " يعلمون الناس السحر) حكاية عن بعض الرهبان، وهو أنه سمع صوت طائر حزين الصوت ضعيف الحركة، فإذا سمعته الطيور ترق له فتلقي في وكره من ثمر الزيتون ليتبلغ به، فعمد هذ الراهب إلى صنعة طائر على شكله، وتوصل إلى أن جعله أجوف فإذا دخلته الريح يسمع منه صوتًا كصوت ذلك الطائر، وانقطع في صومعة ابتناها، وزعم أنها على قبر بعض صالحيهم، وعلق ذلك الطائر في مكان منها، فإذا كان زمان الزيتون فتح بابًا من ناحيته، فتدخل الريح إلى داخل هذه الصورة فيسمع صوتها كل طائر في شكله أيضًا، فتأتي الطيور فتحمل من الزيتون شيئًا كثيرًا فلا ترى النصارى إلا ذلك الزيتون في هذه الصومعة، ولا يدرون ما سببه، ففتنهم بذلك وأوهمهم أن هذا من كرامات صاحب هذا القبر... عليهم لعائن الله المتتابعة إلى يوم القيامة.

وبعد عرض البعد الجماهيري للتصور السياسي... قيمته وضرورته وأسس ممارسته، فإنه يجب أن يتقرر:

أن العمل الجماهيري لا يمثل بديلاً عن العمل العسكري ولا نقابلاً له ولا مؤثرًا فيه.

ذلك لأن حسابات العمل الجماهيري قائمة على هدف استيعاب " القوة الجاهلية " في تيار الحركة الإسلامية، ولأن هدف العمل العسكري هو إضعاف هذه القوة وإفناؤها.

وفي حالة العمل الجماهيري المحقق [لاستيعاب] القوة الجاهلية.

وفي حالة العمل العسكري المحقق [لإفناء] القوة الجاهلية التي لم يستوعبها العمل الجماهيري.

لن تكون هناك [قوة جاهلية] رافضة لإقامة الحكم الإسلامي.

ولكن السنة الثابتة للتدافع بين الجاهلية والإسلام لن تترك التيار الإسلامي يستوعب الواقع الجاهلي بجماهيره وقوته دون أن تمنعه.

ومن هنا نشأ مفهوم حتمية العمل العسكري... بحيث يصل هو الآخر إلى مرحلة السنة الثابتة للعمل الإسلامي.

ولذلك قرر ورقة بن نوفل لرسول الله صلى الله عليه وسلم حقيقة المعاداة باعتبارها سنة ثابتة من سنن الثوابت، وليس باعتبارها حقيقة مستخلصة من خبرة الواقع.

فكانت حقيقة التدافع هي الحقيقة الأولى التي قالها النبي صلى الله عليه وسلم بعد حقيقة الوحي من حديث ورقة، إذ قال له بعد إخباره بالنبوة: يا ليتني كنت جذعًا إذ يخرجك قومك. قال: " أو مخرجيَّ هم؟! ".

قال: نعم... ما أتى أحد بمثل ما أتيت به إلا أُخرج وعُودي90.

وكما يكون الارتكاز على بساطة الجماهير في الإضلال يكون الارتكاز على تحقيق العصبية الجماهيرية للجاهلية.

إن تحقيق عصبية العامة للحكم الجاهلي مهمة صعبة، ولكن الجاهلية تمارسها بكل دقة، ونموذج تلك الممارسة هو الممارسة الفرعونية، وعناصر تلك الممارسة هي أن يشعر العامة أنهم أصحاب السلطة (شركاء في القرار) وهذه فكرة فرعون عندما قال: " فماذا تأمرون ".

ويبلغ إحساس العامة بالسلطة الكاملة عندما يقول لهم فرعون: " ذروني أقتل موسى ". إن فرعون يقول للعامة: ذروني. ودون أن يستطيع أحد أن يمنعه... يطلب فرعون من العامة أن يتركوه... يطلب التفويض الشعبي في اتخاذ القرار المناسب تجاه موسى، وأن يشعر العامة أنهم أصحاب المصلحة " يريد أن يخرجكم من أرضكم ".

أن يشعر العامة أنهم أصحاب السياسة " ويذهبا بطريقتكم المثلى "... سياستكم ومذهبكم السياسي.

أن يشعر العامة أنهم أصحاب القضية والمبدأ " إني أخاف أن يبدل دينكم ".

أن يشعر العامة أنهم حماة الواقع وأصحاب الإصلاح.

إن أهم عناصر العصبية هي إنشاء الخوف على النظام الحاكم غي نفوس الناس؛ ولذلك يعبر الناس عن الخوف قائلين: " أتذر موسى وقومه ليفسدوا في الأرض ويذرك وآلهتك ".

وحينئذٍ يكون طمأنة الناس هو واجب النظام " قال سنقتل أبناءهم ونستحيي نساءهم وإنا فوقهم قاهرون ".

ومن أهم عناصر العصبية أن يشعروا بأنهم محور النظام، ومن هنا كان الضمير يعود على الناس: " أرضكم – طريقتكم – دينكم... ".

وبذلك يتبين أن إطار التعامل الجاهلي مع الجماهير يقوم على البساطة المرتكزة على سذاجة الجماهير في إضلالهم وتحقيق عصبيتهم للضلال عن الحق.

2) البعد العسكري للتصور السياسي:

سياسة القوة:

وهذا البعد من أخطر أبعاد التصور السياسي للحركة الإسلامية؛ وذلك لأن المستقر في الأذهان أن السياسة تقابل القوة، ولكن التصور السياسي يتضمن أن هذه السياسة توافق القوة أو توازيها في مهمة تحقيق الغاية النهائية للدعوة، ومن هذه الحقيقة ينطلق هذا البعد.

أما تحقيق ذلك في مجال الممارسة فإنه يقتضي عدة أمور:

تحليل القوة العسكرية إلى عناصرها الأساسية في التنفيذ والاستفادة بهذه العناصر بغرض التأثير في الواقع الجاهلي دون الاضطرار إلى الممارسة الفعلية للقوة.

وتفسير ذلك:

أن الجاهلية تعتبر الحركة الإسلامية قوة سياسية طالما أيقنت بقدرتها على الممارسة العسكرية.

والقوة العسكرية لها عناصر لا تقوم إلا بها، وإدراك الجاهلية لتوافر هذه العناصر لدى الحركة الإسلامية ينشئ تأثيرًا عند الجاهلية لا يقل شأنًا عن الممارسة الفعلية للقوة العسكرية.

وهذه العناصر هي:

الزعامة... والولاء المطلق لها.

والكثرة العددية القوية.

والمستوى المرتفع للكفاءة العملية.

والاستعداد التام للبذل والتضحية.

كذلك تحليل القوة العسكرية إلى عناصرها الأساسية في التأثير وتحقيق هذه العناصر بصورة مباشرة في الواقع... فتحقق آثار القوة العسكرية دون ممارستها وأهمها الرهبة وفرض الإرادة...

ولما كان تحقيق هذه العناصر في واقع الدعوة – سياسيًّا – يعتبر أهم ضروريات التصور السياسي للقوة؛ لذلك كانت المعاهدات باعتبارها مجالاً للربط بين السياسة والقوة هي أيضًا المجال الفعلي لإبراز هذه العناصر في الواقع... مثلما كان في معاهدة الحديبية، حيث تحقق فيها مجمل العناصر المذكورة.

كما تقول كتب السيرة: خروج عروة بن مسعود زعيم ثقيف حتى أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فجلس بين يديه ثم قال:

يا محمد... أَجَمَعْتَ أوشاب الناس ثم جئت بهم إلى بيضتك لتفُضَّها بهم، إنها قريش قد خرجت معها المعوذ المطافيل قد لبسوا جلود النمور، يعاهدون الله لا تدخلها عليهم عنوة أبدًا، وايم الله لكأني بهؤلاء قد انكشفوا عنك غدًا. قال: وأبو بكر الصديق خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم قاعد، فقال: امصص بظر اللات، أنحن ننكشف عنه؟! قال: من هذا يا محمد؟ قال: هذا ابن أبي قحافة. قال: أما والله لولا يد كانت لك عندي لكافأتك بها، ولكن هذه بها. قال: ثم جعل يتناول لحية رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يكلمه، والمغيرة بن شعبة واقف على رأس رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديد، قال: فجعل يقرع يده إذا تناول لحية رسول الله صلى الله عليه وسلم ويقول: اكفف يدك عن وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل أن لا تصل إليك. فيقول عروة: ويحك! ما أفظك وأغلظك! قال: فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال له عروة: من هذا اي محمد؟ قال: هذا ابن أخيك المغيرة بن شعبة. قال: أي غدر، وهل غسلت سوأتك إلا بالأمس. فقاام من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد رأى ما يصنع به أصحابه... لا يتوضأ إلا ابتدروا وضوءه، ولا يبصق بصاقًا إلا ابتدروه، ولا يسقط من شعره شيء إلا أخذوه، فرجع إلى قريش فقال: يا معشر قريش... إني قد جئت كسرى في ملكه وقيصر في ملكه والنجاشي في ملكه، وإني والله ما رأيت ملكًا في قوم قط مثل محمد في أصحابه، ولقد رأيت قومًا لا يسلمونه لشيء أبدًا فرُوا رأيكم91.

فنلك هي العناصر القاتلة للجاهلية... المسلمون مقاتلون في كل لحظة، ولا ينتظرون فقط إلا الإذن بالقتال، وهذا تفسير التسوية بين من قضى نحبه ومن ينتظر... بين من قاتل ومن ينتظر القتال، فلكليهما نفس الأثر في قلوب الأعداء... وبذلك يكون للسياسة أثر الدماء في تحقيق الهدف.

حماية الدعوة من الاصطباغ بالصبغة العسكرية البحتة.

ولا نعني بذلك نفي هذه الصبغة، ولكن نعني طغيان هذه الصبغة على الدعوة كحركة هداية ورحمة...

وبذلك يعني مفهوم سياسة القوة: الحفاظ على الهدف النهائي للدعوة من خلال خط الممارسة العسكرية، بحيث لا تنفصل هذه الممارسة عن هذا الهدف النهائي... وذلك باعتبار أن السياسة هي التي تتبنى تحقيق هذا الهدف من خلال أساليب الحركة المتعددة.

- إن تقرير مبدأ القوة في التصور السياسي لا يعني أن توقفها تخلٍّ عن مبدأ من مبادئ الدعوة؛ لأن الممارسة والتوقف مرتبط بالهدف والواقع... والتصور السياسي هو الحكم المنهجي لتلك الممارسة.

- إن تحقيق التعاطف بتحقيق المنفعة والإقناع العقلي والقدوة الصالحة والصبر على الأذى والبذل والتضحية... هو الأساس في إقامة سلطان الحق على النفوس.

وكلها عوامل محققة لغاية الهداية، والقوة واحدة من هذه العوامل.

وبذلك يكون تحقيق هذه العوامل مع مجمل العناصر المذكورة الناشئة عن تحليل القوة العسكرية تنفيذًا أو تأثيرًا هي إطار التصور السياسي للقوة.

ولما كانت الهداية هي الهدف النهائي للدعوة... كانت كذلك هي القيمة العليا للمارسة السياسية، وكانت سياسة القوة هي تحقيق الهداية بالقتال.

ومقتضى ذلك يمثل أهم عناصر سياسة القوة:

- التبليغ قبل القتال.

- دعوة الأسرى.

- قبول استجارة المشرك.

- الجنوح للسلم إذا جنحوا له.

- قبول توبة من لم تصله يد القدرة: " إلا الذين تابوا من قبل أن تقدروا عليهم ".

وفي إطار حماية الدعوة من الاصطباغ بالصبغة العسكرية البحتة تتحدد العلاقة بين أساليب الحركة المتعددة والهادفة إلى تحقيق الغاية النهائية للدعوة بأساس نفسي ثابت.

- الحرص على إسلام الكفار بدلاً من قتلهم وهم على الكفر.

- ترجيح الهداية على الغنائم.

- الحزن على كفر الناس والأسى على ضلالهم.

- التجرد من الشعور بالانتقام والقصاص.

إن الظهور العسكري البحت أو الغالب للدعوة هو الذي سيحرمها من التعاطف الذي يمثل الجذور الحقيقية لجحم كيانها في الواقع.

إن المعيار النهائي لبعد القوة هو حماية الدعوة من محاولة الجاهلية الهادفة إلى اقتلاع الدعوة من الواقع أو الاستهانة بها في التعامل.

أما وصول الدعوة إلى تعامل الجاهلية كطرف له اعتباره العظيم فإن هذا يقتضي فكرًا سياسيًّا تحافظ به الدعوة على هذه المرحلة.

3) البعد الاجتماعي للتصور السياسي:

اتفقنا في النظرية الساسية على أن التوافق بين الواقع الحركي والاجتماعي يعتبر شرطًا أساسيًّ في صحتها، وهذا التوافق – كشرط في صحة النظرية السياسية – هو الذي تحاول الجاهلية القضاء عليه من خلال إنشاء التناقض بين الجانب الحركي والجانب الاجتماعي للدعوة.

والتناقض الذي تحاول الجاهلية إنشاءه يتمثل بصورة أساسية في الإسقاط الاجتماعي للدعوة، هذا الإسقاط الذي يظهر الدعوة بصورة متردية ومنحطة لا توافق مع مستوى قضية الدعوة وواقعها الحركي.

ومحاولة الإسقاط الاجتماعي للدعوة أسهل من مواجهتها فكريًّا؛ ذلك لأن هذه المحاولة سيكون التعامل فيها مع الإنسان بضعفه ونقائصه في إطار الدعوة، الأمر الذي يختلف عن المواجهة الفكرية التي سيكون التعامل فيها مع النصوص الشرعية الثابتة.

وكما أنها أسهل فهي أخطر...

ذلك لأن الناس في البداية لا يتعاملون مع الدعوة كقضية فكرية قبل رؤيتهم لصورة الدعوة الاجتماعية... وعلى هذا فإن الإسقاط الاجتماعي يعني قطع الصلة وبصورة نهائية بين الناس والدعوة.

ومحاولة الإسقاط الاجتماعي للدعوة بدأت من الأيام الأولى.

وكانت هذه البداية هي وضع واقع الدعوة في ميزان التصور الاجتماعي الجاهلي.

فاعتبرت الجاهلية أن النبي صلى الله عليه وسلم أبتر؛ لأنه لا ولد له.

وكما اعتبرت النبي صلى الله عليه وسلم لا يستحق النبوة؛ لأنه ليس رجلاً من القريتين عظيم.

واعتبرت أن الدعوة ليست صحيحة؛ لأن أتباعها فقراء.

ولكن هذه البداية لم تنجح؛ لأن الدعوة فرضت تصورها الاجتماعي، وأسقطت التصور الاجتماعي الجاهلي ذاته.

ولعل أبرز مواقف المحاولة الجاهلية كان عند المؤاخاة بين المهاجرين والأنصار؛ ذلك لأن المؤاخاة كانت علاقة اجتماعية كاملة تحققت كمقتضى للتوافق بين الجانب الحركي والاجتماعي للدعوة، فبلغت الجاهلية أقصى ما عندها في مواجهة هذه المؤاخاة سواء من جانب المشركين أو المنافقين أو اليهود، ولكن المحاولات فشلت حتى تحقق الهدف من المؤاخاة ثم تقرر العودة بالعلاقة الاجتماعية إلى أساسها الطبيعي، وهو صلة الدم والقربى بعد أن كان الأساس الحركي هو أساس العلاقة في موقف المؤاخاة92.

وإذا التقطنا هذا الخيط فإننا يندرك أن واقع الدعوة - منذ البداية حتى الواقع القائم الآن- كان من ناحية الدعوة محاولة لتحقيق التوافق بين الجانب الحركي والاجتماعي بإنشاء الواقع الاجتماعي المتناسب مع القضية الإسلامية فكريًّا وحركيًّا.

وكان من ناحية الجاهلية هو إحداث التناقض بين هذين الجانبين بإسقاط الدعوة اجتماعيًّا، وبهذا الإدراك يمكننا تحليل الواقع القائم الآن للدعوة بقدر من التفصيل.

فمن ناحية الدعوة تمثل الخلل الاجتماعي – أول ما تمثل – في مجرد إعلان الولاء للتجمع واتجاهه من جانب الأفراد المنتمين إلى الدعوة لتحقيق الارتباط العضوي بالتجمع دون النظر إلى الجانب التربوي والأخلاقي لهؤلاء الأفراد.

وكانت هذه مرحلة وسط بين الوضع المثالي ووضع الانحطاط الكامل المتمثل في المرحلة الثالثة.

وهي مرحلة الانتساب إلى الاتجاه الإسلامي بمجرد الهدي الظاهر.

" الجلباب – اللحية – الحجاب "...

وكان مدخل هؤلاء المنتسبين هو مجرد هذا الالتزام الشكلي... دون أن يكون هناك الكيان المستقطب القائم على مهمة التربية والتأصيل الأخلاقي.

يضاف إلى هذا الخطر خطر آخر يساويه، وهو الشعور غير الشرعي بالذات الناشئ عن الاعتزاز بالانتساب للدعوة صاحبة الأحداث المؤثرة في الواقع.

هذا الاعتزاز الذي وجد من غير مشاركة فعلية في الأحداث ةتحمل مسؤليتها... والذي سبب ضررًا نفسيًّا بالغًا؛ لأنه انتساب يفتقد المسؤلية والتضحية والبذل.

هذا الشعور الذي أضاع الفضل الحقيقي لأصحابه في واقع الدعوة مما أحدث اضطرابًا في العلاقات الاجتماعية وأحدث هذا الاضطراب بدوره ظاهرة الفوضى الاجتماعية التي تعاني منها الدعوة معاناة شديدة.

فأصبح الجميع دعاة وذوي تاريخ.

الأمر الذي يتنافى مع قاعدة ارتباط الفضل الاجتماعي في واقع الدعوة بالسبق والتضحية والعمل في سبيل الله.

ثم يضاف إلى شكلية الالتزام... وضياع حق أصحاب الفضل في واقع الدعوة.

خط التشتت الاجتماعي المترتب على معاناة الاعتقالات والسجون والاحتياج المادي الذي يسبب الإرهاق النفسي الشديد.

ثم كان الخطر الأكبر من خلال عملية التزاوج تحت مظلة هذه الأخطار المتعددة... هذا التزاوج:

في واقع انحطاط الأخلاق وضياع الأمانة.

وفي واقع الانتساب الشكلي بالهدي الظاهر فقط.

وفي واقع الشعور بالغرور والشعور غير الشرعي بالذات وضياع حق أصحاب الفضل.

وفي واقع الاحتياج المادي والإرهاق النفسي الناشئ عن السجن والاعتقال.

واقع هذا التزاوج...

أوجد أسرة أصبحت هي بذاتها مشكلة، وأصبحت محاولة علاجها الشغل الأساسي لأصحاب الدعوة، كما أصبحت معالجة آثار إخفاقها بعد الإخفاق في معالجتها... عبئًا لا يطاق.

ثم يأتي بعد ذلك الدور الجاهلي القائم على استغلال هذه الأخطاء بأبشع صورممكنة...

أما من ناحية الجاهلية فقد جاء منها أخطر الأساليب في محاولة الإسقاط الاجتماعي للدعوة، وهي إنشاء العناصر المتشبهة بالمظهر الإسلامي وممارسة السلوك الجاهلي بهذا المظهر... وعندما يراهم الناس تسقط مهابة هذا المظهر من نفوسهم، ويضيع تقدير الناس لسماتهم وشكلهم، وسواء كان انتشار هذه العناصر أمرًا مقصودًا أو حدث بصورة تلقائية، فإن النتيجة واحدة.

فكيف تحمي الدعوة نفسها من هذه النتيجة؟

لقد كان الإسلام قادرًا على حماية نفسه من هذه النتيجة يوم كان حكمه غالبًا وأحكامه سائدة، وكان أهم هذه الأحكام هو منع غير المسلمين من التشبه بالمسلمين.

وكان من أخطر هذه الأساليب الجاهلية كذلك هي إيقاع الضرر على العامة وتفسير هذا الضرر على أنه نتيجة حتمية للدعوة؛ ليحدث الانفصال بين العامة والدعوة...

مثل المقاطعة الاجتماعية التي فرضتها قريش على بني عبد المطلب؛ حتى يمارسوا ضغطًا على أصحاب الدعوة.

ولعل حادثة مقاطعة بني عبد المطلب – المذكورة آنفًا – بإقاع أضرار عليهم بصفة عامة بسبب أصحاب الدعوة لإيجاد الكُرْه، وإنشاء الحاجز مثال تاريخي على هذا الأسلوب.

مفهوم الدفاع الاجتماعي:

والآن لا بد من الدفاع الاجتماعي عن الدعوة.

وهذا المفهوم له عناصر يمكن تحديده من خلال المواجهة... المحاولة التي تمارسها الجاهلية لإسقاط الدعوة اجتماعيًّا.

وقد اتفقنا أن أول تلك العناصر هو افتقاد الكيان الواحد المسيطر على الامتداد الاجتماعي، ولما كان وجود الكيان الواحد مرتبطًا بمشكلة الفكر والمنهج فإن المعالجة الاجتماعية يجب أن تنفصل عن هذه المشكلة... بمعنى ضرورة إنشاء سلطة اجتماعية تتولى مواجهة المشكلات الاجتماعية في إطار بعيد عن مشكلة الاختلاف الفكري.

وهذا ما فسره الإمام الجويني حيث قال في كتاب غياث الأمم في التياث الظلم: أن يتولى كل عالم في ناحية من النواحي أو حي من الأحياء السلطة المفقودة للأمراء في هذا الحي.

ثم تأتي مواجهة ضياع حق أصحاب الفضل بترسيخ قواعد التعامل الاجتماعي المحددة لهذا الحق:

- حق العلماء الذي يوجب تقديمهم وتوقيرهم وإيثارهم على أنفسنا.

- حق أصحاب السبق الزمني وهو المقرر في قول الله: " والسابقون الأولون من المهاجرين... ".

ومفهوم الدفاع الاجتماعي يوجب تحديد أساس التعامل الاجتماعي بين أصحاب الدعوة والواقع القائم.

ويجب أن يتقرر ابتداءً أن الناس ينظرون إلى أصحاب الدعوة من خلال مفهوم المثالية؛ لأنهم يمثلون في نظرهم واقع التطبيق الصحيح للدين.

وظهور أي نقيصة أو خطأ سلوكي لن ينظر له على أنه أمر طبيعي محتمل، ولكن سينظر إلى صاحبه على أنه إنسان سيئ يحاول الوصول إلى مكانة لا يستحقها لينال تقديرًا بغير حق.

كما أن الناس ينظرون إلى أصحاب الدعوة على أنهم الفئة التي من الممكن أن تحكمهم في يوم ما فيرغبون بصورة قوية في الاطمئنان على أمانتهم وسماحتهم وحسن خلقهم؛ لأن أي خطأ يراه الناس يرتبط في أذهانهم بهذا الاحتمال.

فيقول كل من يرى الخطأ في نفسه: هكذا يفعل أصحاب الدعوة لعامة الناس عند حدوث أية مشكلة أو خصومة.

وعند حدوث أية مشكلة اجتماعية بين الناس وبين أحد أفراد الدعوة يجب أن تأخذ هذه المشكلة صورة العداء بين الجاهلية والإسلام.

لأن احتمال خطأ هذا الفرد المنتسب للدعوة قائم أمام الآخرين.

وهذا هو مضمون الموقف الذي نزل فيه قول الله عز وجل: " إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بما أراك الله ولا تكن للخائنين خصيما * واسغفر الله إن الله كان غفورا رحيما * ولا تجادل عن الذين يختانون أنفسهم إن الله لا يحب من كان خوانا أثيما ".

حيث جاء في تفسير الآية: إن نفرًا من الأنصار غزوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فسرق درع لأحد الأنصار، فحامت الشبهة حول رجل من الأنصار من أهل بيت يقال لهم بنو أبيرق، فأتى صاحب الدرع رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إن طعمة بن أبيرق سرق درعي. فلما رأى ذلك السارق عمد إلى الدرع فأقاها في بيت رجل يهودي اسمه زيد بن السمين، وقال لنفر من عشيرته: إني غيبت الدرع وألقيتها في بيت فلان، فانطلقوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقالوا: إن صاحبنا بريء وإن الذي سرق الدرع فلان، وقد أحطنا بذلك علمًا؛ فاعذر صاحبنا على رؤوس الناس... فنزلت الآية تبرئ اليهودي.

وفي مثل هذه الحالة يتمثل واجب نصرة الأخ في قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: " انصر أخاك ظالًا أو مظلومًا ". في رد الأخ عن ظلمه93 " فإن ذلك نصره ".

إن معالجة أي مشكلة عارضة بتلك القاعدة يكون بذاته أفضل أسلوب للدعوة.

أما إعطاء المشكلة الاجتماعية العارضة أبعاد العداء بين الجاهلية والإسلام فذلك أمر باطل.

لأن صورة العداء بأبعاده الكاملة لا تتفق مع المشكلات العارضة، مثلما حدث مع موسى والذي استغاثه... لقد كانت مشكلة عارضة حدثت بين رجل من بني إسرائيل ورجل من الأقباط، وتصرف فيها موسى عليه السلام بصفة شخصية لا تتعلق بمنهج الدعوة ومرحليتها فقتل القبطي، واعترف بأن هذا العمل من الشيطان، ولكنه كان سببًا في غرق فرعون وجنوده بصفة منهجية ترتبط بمنهج الدعوة ومرحليتها، وكان هذا عملاً طيبًا مقبولاً، ولم يكن من عمل الشيطان.

ومما يجب الحذر منه هو أن تؤثر الضخامة العددية لأصحاب الدعوة على الإحساس بالاستضعاف؛ لأن الضخامة العددية تسبب اعتزازًا وثقة تؤثر في أسلوب معالجة المشكلات العارضة بين أفراد الدعوة والجاهلية.

فالاستضعاف هو مرحلة ما قبل الوصول للسلطة.

حتى لو كان هناك قوة شخصية أو كثرة عددية.

ومعالجج المشكلة العارضة يجب أن ترتبط بمرحلة الاستضعاف للدعوة ولا يجوز تجاوزها.

وقد يكون للقوة الشخصية نفس أثر الضخامة العددية في إضعاف الشعور بالاستضعاف.

وهذا عمر بن الخطاب لم يكن يدانيه أحد في قوته الشخصية، حتى إنه هدد من يحول تتبعه في الهجرة فقال: " من أراد أن تيتم أولاده، وتتأرمل زوجته، أو تثكله أمه فليتبعني)94. ومع ذلك كان مستضعفًا؛ لأنه كان مرتبطًا بالجماعة المستضعفة التي لم يُمَكن لها بعد.

والواقع أن هناك حديثًا قدسيًّا يعالج قضية المحافظة على البناء الاجتماعي بعد فترة الاستضعاف.

وإليك نصه أولاً:

عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ مُطَرّفِ بْنِ عَبْدِ اللّهِ بْنِ الشّخّيرِ، عَنْ عِيَاضِ بْنِ حِمَارٍ الْمُجَاشِعِيّ أَنّ رَسُولَ اللّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ، ذَاتَ يَوْمٍ فِي خُطْبَتِهِ: " أَلاَ إِنّ رَبّي أَمَرَنِي أَنْ أُعَلّمَكُمْ مَا جَهِلْتُمْ مِمّا عَلّمَنِي، يَوْمِي هَذَا. كُلّ مَالٍ نَحَلْتُهُ عَبْداً، حَلاَلٌ. وَإِنّي خَلَقْتُ عِبَادِي حُنَفَاءَ كُلّهُمْ. وَإِنّهُمْ أَتَتْهُمُ الشّيَاطِينُ فَاجْتَالَتْهُمْ عَنْ دِينِهِمْ. وَحَرّمَتْ عَلَيْهِمْ مَا أَحْلَلْتُ لَهُمْ. وَأَمَرَتْهُمْ أَنْ يُشْرِكُوا بِي مَا لَمْ أُنْزِلْ بِهِ سُلْطَاناً. وَإِنّ اللّهَ نَظَرَ إِلَىَ أَهْلِ الأَرْضِ فَمَقَتَهُمْ، عَرَبَهُمْ وَعَجَمَهُمْ، إلاّ بَقَايَا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ. وَقَالَ: إِنّمَا بَعَثْتُكَ لأَبْتَلِيَكَ وَأَبْتَلِيَ بِكَ. وَأَنْزَلْتُ عَلَيْكَ كِتَاباً لاَ يَغْسِلُهُ الْمَاءُ. تَقْرَأُهُ نَائِماً وَيَقْظَانَ. وَإِنّ اللّهَ أَمَرَنِي أَنْ أُحَرّقَ قُرَيْشاً. فَقُلْتُ: رَبّ إِذاً يَثْلَغُوا رَأْسِي فَيَدَعُوهُ خُبْزَةً. قَالَ: اسْتَخْرِجْهُمْ كَمَا اسْتَخْرَجُوكَ. وَاغْزُهُمْ نُغْزِكَ. وَأَنْفِقْ فَسَنُنْفِقَ عَلَيْكَ. وَابْعَثْ جَيْشاً نَبْعَثْ خَمْسَةً مِثْلَهُ. وَقَاتِلْ بِمَنْ أَطَاعَكَ مَنْ عَصَاكَ. قَالَ: وَأَهْلُ الْجَنّةِ ثَلاَثَةٌ: ذُو سُلْطَانٍ مُقْسِطٌ مُتَصَدّقٌ مُوَفّقٌ. وَرَجُلٌ رَحِيمٌ رَقِيقُ الْقَلْبِ لِكُلّ ذِي قُرْبَىَ، وَمُسْلِمٍ. وَعَفِيفٌ مُتَعَفّفٌ ذُو عِيَالٍ. قَالَ: وَأَهْلُ النّارِ خَمْسَةٌ: الضّعِيفُ الّذِي لاَ زَبْرَ لَهُ، الّذِينَ هُمْ فِيكُمْ تَبَعاً لاَ يَتْبَعُونَ أَهْلاً وَلاَ مَالاً. وَالْخَائِنُ الّذِي لاَ يَخْفَىَ لَهُ طَمَعٌ، وَإِنْ دَقّ إِلاّ خَانَهُ. وَرَجُلٌ لاَ يُصْبِحُ وَلاَ يُمْسِي إِلاّ وَهُوَ يُخَادِعُكَ عَنْ أَهْلِكَ وَمَالِكَ ". وَذَكَرَ الْبُخْلَ وَالْكَذِبَ وَالشّنْظِيرُ الْفَحّاشُ، وَإِنّ اللهَ أَوْحَىَ إِلَيّ أَنْ تَوَاضَعُوا حَتّىَ لاَ يَفْخَرَ أَحَدٌ علىَ أَحَدٍ، وَلاَ يَبْغِي أَحَدٌ عَلَىَ أَحَدٍ)95.

والملاحظة العامة في هذا الحديث هو معالجته لعدة مراحل مرتبطة ببعضها:

1) نظرة شاملة لمرحلة ما قبل البعثة وبداية الأمر فيها وإثبات الأصل الذي كان عليه الوجود البشري... " كل مال نحلته عبدًا حلال "... " وإني خلقت عبادي حنفاء كلهم ".

" إن ربي أمرني أن أعلمكم ما جهلتم ". هذه مقدمة ضرورية للحديث... لأن الحديث يثبت أهمية النبي صلى الله عليه وسلم بصورة خطيرة...

صورة افتقار البشر جميعًا إلى رسالة... مما تقتضي إثبات افتقاره هو في رسالته إلى ربه.

والرسالة من الله أمر وعلم.

والأمر من الله " إن الله أمرني ".

والعلم من الله " أن أعلمكم ما جهاتم ".

والعلم يوم بيوم " ما علمني يومي هذا ".

وهذه هي المقدمة:

" كل مال نحلته عبدًا حلال ". والمال رمز لكل شيء آتاه الله إنسانًا. " وإني خلقت عبادي حنفاء كلهم ".

فالأصل في عطاء الله الحِل. والإنسان على الفطرة.

ثم جاءت الشياطين " فاجتالتهم عن دينهم ".

ونشأ الحرام " وحرمت عليهم ما أحللت لهم ".

اجتالت الشياطين الدين.

وملأ الأرض بالحرام. " وأمرتهم أن يشركوا بي ما لم أنزل به سلطانًا ". " وإن الله نظر إلى أهل الأرض فمقتهم عربهم وعجمهم ". والمقت أشد الغضب. " إلا بقايا من أهل الكتاب " المتمسكون بدينهم الحق من غير تبديل.

والنبي والبشر أمام مسئولية الرسالة سواء. " إنما بعثتك لأبتليك وأبتلي بك... ".

وحتى لا يكون التبديل واجتيال الدين. " أنزلت عليك كتابًا لا يغسله الماء ".

باقيًا لا تجري فيه سنن الفناء.

وأسبابه...

ثابتًا تقرؤه نائمًا ويقظان.

وهذه هي البعثة.

ويقر النبي بضعفه وافتقاره إلى ربه. "إذا يثلغوا رأسي فيدعوه خبزة ".

هذا هو الاستضعاف.

فيرد القوي الغني: " استخرجهم كما استخرجوك . واغزهم نغزك ".

وافتح عليهم بلادهم... نفتح عليك مددنا.

" وأنفق فسننفق عليك ".

" وابعث جيشًا نبعث خمسة مثله ".

" وقاتل بمن أطاعك من عصاك" . وذلك هو التمكين.

وبعد المقدمة... والبداية... والبعثة... والاستضعاف... والتمكين... قام المجتمع المسلم.

2) فكيف يكون حفظه بعد قيامه؟...

هذا بصفات أهل الجنة الثلاث:

- ذو سلطان مقسط متصدق موفق.

- ورجل رحيم رقيق القلب لكل ذي قربى ومسلم.

- وعفيف متعفف ذو عيال.

وهذه الصفات هي عناصر البناء الاجتماعي للدولة المسلمة.

وبهذه الصفات يكون المجتمع المسلم وتكون الأمة وتكون الجنة.

وبعدها صفات أهل النار الخمسة:

- الضعيف الذي لا زبر له، الذين هم فيكم تبعًا لا يتبعون أهلاً ولا مالاً.

- الحثالة الفارغين كمالة العدد.

- والخائن الذي لا يخفى (أي لا يظهر) له طمع وإن دق إلا خانه.

والخونة بطبعهم وتكوينهم وتصرفهم التلقائي.

- ورجل لا يصبح ولا يمسي إلا وهو يخادعك.

المخادعون: عن العرض والمال.

والبخل والكذب الشنظير الفاحش.

والشنظير: سيئ الخلق.

وفي رواية: وأن الله أوحى إليَّ أن تواضعوا حتى لا يفخر أحد على أحد ولا يبغي أحد على أحد.

فالتواضع يمنع الفخر الذي إذا امتنع امتنع معه البغي.

وبصفات أهل النار تكون نهاية المجتمع ونهاية الأمة... وتكون النار.

4) البعد الاقتصادي:

والبعد الاقتصادي للنظرية السياسية بُعدٌ منطقي؛ لأن المال له قوة نفسية واجتماعية بلغت حد الأثر في العقيدة والإيمان الذي أنشأ الخوف الشديد على أصحاب الدعوة من فتنة المال، كما قال تعالى: " ولولا أن يكون الناس أمة واحدة لجعلنا لمن يكفر بالرحمن لبيوتهم سقفًا من فضة ومعارج عليها يظهرون * ولبيوتهم أبوابًا وسررًا عليها يتكئون * وزخرفًا وإن كل ذلك لما متاع الحياة الدنيا والآخرة غند ربك للمتقين ".

ومن أجل هذا التأثير نستطيع أن نقول: إن أخطر أحداث الدعوة كا إنفاق عثمان بن عفان قافلته على المسلمين، وإن أخطر أحداثها من الجانب الآخر كا قرار مقاطعة قريش لبني عبد مناف الاقتصادية.

وليس أدل على أثر الاقتصاد السياسي من دعاء موسى بحسم الصراع بينه وبين فرعون في قوله سبحانه: " ربنا إنك آتيت فرعون وملأه زينة وأموالاً في الحياة الدنيا ربنا ليضلوا عن سبيلك ربنا اطمس على أموالهم واشدد على قلوبهم فلا يؤمنوا حتى يروا العذاب الأليم ".

وكذلك دعوة النبي صلى الله عليه وسلم بحسم الصراع مع قريش بقوله: " اللهم أعني عليهم بسنين كسني يوسف "96... رواه البخاري والترمذي، وفي رواية: " بسبع كسبع يوسف " رواه البخاري.

ولأجل هذا الأثر الاقتصادي على الدعوة كانت العلاقة بين الممارسة الاقتصادية والسياسية تلقائية في فهم الصحابة.

وهذا ثمامة يرجع إلى قومه مسلمًا يعلن لهم إسلامه ويعلن لهم مع إسلامه: يا قوم لقد أسلمت، ولن تأخذوا حبة قمح حتى يأذن لكم فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم97.

وبهذا الفهم التلقائي أدركت إحدى النساء مغزى تصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم عندما أععطى قبيلتها مالاً وزادًا، ثم أخذ يحارب القبائل الأخرى فقالت: والله ما أرى محمدًا قد ترككم بعد أن أعطاكم هذا المال والزاد ثم ذهب ليقاتل القبائل غيركم إلا لأجل شيء يريده منكم، وأرى أنه الإسلام... فأسلمت وأسلمت معها القبيلة98.

كما يتساوى البذل بالنفس والبذل بالمال في قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: " من جهز غازيًا فقد غزا، ومن خلفه في أهله فقد غزا "99، فتساوى التجهيز بالمال للغزو والخلف في الأهل بعد الغزو... مع الغزو نفسه عند الله سبحانه وتعالى.

والحقيقة أن العلاقة بين الاقتصاد والسياسة هي نفسها العلاقة بين العمل العسكري والسياسة، وذلك في مضمون فرض الإرادة.

فكما أن التصور العسكري يفرض إرادة المنتصر، فإن الجزية هي التي تبقي على فرض تلك الإرادة.

من أجل ذلك كان اعتبار عنصر المال من أخطر عناصر الدعوة المحققة لأهدافها، ولكن هذا العنصر المهم في ذاته تعتبر نتيجته خطيرة في ذاتها؛ لأن المال هو فتنة هذه الأمة كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم: " فتنة هذه الأمة في المال "100.

ولعل قصة ثعلبة101 الذي نزل فيه قول الله عز وجل: " ومنهم من عاهد الله لئن آتانا من فضله لنصدقن ولنكونن من الصالحين * فلما آتاهم من فضله بخلوا به وتولوا وهم مغرضون "... دليل على شدة خطر المال على النفس، وحتى لا نظن أنها حالة فردية... كانت هذه المواجهة القرآنية الحاسمة للمؤمنين في غزوة أحد: " منكم من يريد الدنيا ومنكم من يريد الآخرة ".

وعند تعميق الإحساس بخطر المال في واقع الدعوة لن تجد أشد من هذا الموقف الذي نرى فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم ينظر إلى التاقتين اللتين أعدهما أبو بكر للهجرة وهو يقول له: " بالثمن يا أبا بكر ".

إن الظروف أكبر وأقوى من أن يذكر فيه المال...

لأنهما اثنان مطلوب موتهما يُعدان أسباب نجاتهما.

ولكنها النبوة التي تضع الأسس وترسي القواعد " بالثمن يا أبا بكر ".

كما لن نجد حقيقة تدل على خطر المال أقوى من قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: " يغفر للشهيد كل ذنب إلا الدَّين ".

الشهيد... الشهيد... نعم... إلا الدَّين.

فإذا كان هذا مع الشهيد فليس لأحد من المسلمين خروج عن حساب المال.

ولذلك كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يسأل قبل أن يصلي على الجنازة: " هل عليه من دَين؟ " فإن قالوا: نعم. قال: صلوا على صاحبكم، إلا أن يقول رجل: دَينه عليَّ.

ومن هنا أصبح النجاح في تحقيق أساس اقتصادي للدعوة هو دليلاً أصليًّا وجوهريًّا على صحة الإيمان، ولعل الدليل على ذلك المثل الذي ضربه القرآن في قوله عز وجل: " لا يستوي منكم من أنفق من قبل الفتح وقاتل أولئك أعظم درجة من الذين أنفقوا من بعد وقاتلوا زكلا وعد الله الحسنى والله بما تعملون خبير ".

وكما تدل النفقة قبل الفتح على قوة الإيمان فإنها تدل كذلك على دقة أثر المال في الدعوة، وذلك لاختلاف أثر النفقة قبل الفتح وبعده، حيث كان للنفقة قبل الفتح أثر أكبر.

من أجل ذلك فإن السياسة الاقتصادية للحركة الإسلامية تقوم ابتداء من مفهوم الزهد الحقيقي في الدنيا.

ومن هنا يأتي دور مجموع نصوص الرقائق المحققة لهذا الزهد لا على أنها نصوص تُحفظ باللسان، بل لتكون واقعًا حيًّا وحياة واقعة لأصحاب الدعوة.

5) البعد القدري:

ومناقشة البعد القدري للنظرية السياسية يعتبر من أهم المناقشات؛ لأن الفكر السياسي يتميز ببروز الإعمال العقلي والارتباط بالواقع. والبعد القدري هو البعد المقابل لهاتين الميزتين في الفكر السياسي.

ذلك لأن ربانية الدعوة الإسلامية وارتباطها بقدر الله والسنن الثابتة جعل هذا الارتباط في أصل النظرية السياسية.

فعند تحليل الأحداث من المنظور المادي البحت وارتباط الأحداث ببعضها كسبب ونتيجة وفعل ورد فعل ودوافع وأغراض.

ومن المنظور القدري من حيث علاقة الأحداث بالسنن الثابتة وأحاديث آخر الزمان؛ تجد تحليل الواقع الجاهلي العام علي مستوي العالم له عناصر أساسية أهمها:

1) الهيمنة الصليبية المتمثلة في زعامة أمريكا للعالم والوحدة الأوربية.

2) العلو اليهودي.

3) العمالة والكفر علي مستوي الحكومات المسيطرة علي مواقع الدعوة.

4) الفقر والجهل علي مستوي الشعوب المحيطة بمواقع الدعوة.

فنجد أن عناصر هذا التحليل المادي للواقع الجاهلي يؤكد اجتماع الجاهلية وتحزبها بكل مستوياتها العالمية الحكومية والشعوبية ضد الدعوة مما قد يحدث في نفوس الدعاة منتهي اليأس والإحباط.

فيأتي المنظور القدري فيحقق غاية الرجاء من خلال إثبات سنة الله الثابتة بهزيمة الأحزاب. من هنا استبشر الرسول صلى الله عليه وسلم لما اجتمعت الأحزاب عليه؛ لأن تحزب الأحزاب معناه تحقيق فعل من أفعال الله القدرية وهو هزيمة الأحزاب.

وبذلك يصبح التصور القدري للأحداث بعدًا أساسيًّا من أبعاد النظرية السياسية.

هذا من حيث علاقة التصور القدري بالتحليل السياسي.

والواقع أن البعد القدري للنظرية السياسية كان أساساً حتمياً لتحليل مواقف متعددة في تاريخ الدعوة ما كان لنا أن ندركها إلا من خلال هذا البعد ولعل أبرز هذه المواقف طلب يوسف عليه السلام الوزارة في ظل حكم غير شرعي.

لذلك لأن قصة يوسف عليه السلام بأكملها تحقيق قدري للرؤيا التي رآها بالتمكين له في الأرض. وفي إطار هذا التصور كانت جميع أحداث القصة وأبرزها وضع السقاية في رحل أخيه حيث عقبت الآيات علي هذا التصرف بقوله سبحانه: " كذلك كدنا ليوسف ما كان ليأخذه أخاه في دين الملك إلا أن يشاء الله)، وعلى هذا لا يحتج بهذا الموقف سياسياً إذ يعتبر من الناحية الفقهية أحوال أعيان لا يقاس عليها.

ومن أمثلة تلك المواقف في تاريخ الدعوة في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم هو قطع أشجار اليهود في غزوة بني قريظة حيث أنكر اليهود علي الرسول صلى الله عليه وسلم قائلين له: أتنهانا عن الفساد وأنت تأمر بقطع الشجر فأنزل الله عز وجل " ما قطعتم من لينة أو تركتموها قائمة علي أصولها فبإذن الله ".

فهذا تصرف قدري بحت فعله رسول الله بإذن ربه والقدر فوق الشرع؛ ولكن هذا التصرف القدري لا يؤثر علي القاعدة الثابتة في الحروب ومنها النهي عن قطع الأشجار إلا أن يكون الأمر لأسباب عسكرية بحتة فيجوز ذلك اضطراراً ولكن لا يحتج بفعل رسول الله في غزوة بني قريظة علي الجواز المطلق من حيث التحليل.

والقواعد القدرية للتحليل السياسي محددة في عدة نقاط.

أولاً: الطاعة:

أما من حيث علاقة التصور القدري بالمواجهة السياسية فتقوم علي: الطاعة المطلقة لله لتحقيق المهابة لنا في قلوب أعدائنا؛ لأن المهابة هي حقيقتنا في قلوب أعدائنا وقوتنا في شعورهم وحجمنا في تصورهم وهي الأساس والأصل الذي تقوم عليه الممارسة السياسية؛ لأنه تبعاً لهذه المهابة تكون الممارسة السياسية في الواقع، والله قادر علي أن يجعل لنا في قلوب أعدائنا تلك المهابة وهو قادر أيضاً علي أن يجعلهم يروا ضخامة حجمنا في تصورهم بشكل مادي بحت.

غير أن للمهابة أسباباً: أولها الوجود الإسلامي الصحيح لأصحاب الدعوة حيث يصيروا بهذا الوجود كالقسورة التي تفر منها الحمر المستنفرة102.

وهناك أسباب مباشرة لتحقيق المهابة تراجع فيها الأحاديث؛ وأهمها الجهاد؛ حيث قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " ما ترك قوم الجهاد إلا ذلوا "103.

وقال في ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: " ولينزعن الله المهابة من قلوب أعدائكم)104 إلي آخر الحديث.

وابتداء من نشأة الحركة لا يغيب البعد القدري حتى إقامة السلطة، لنري أن أهم حقائق تلك السلطة هي قرشية الخلفية مثالاً هاماً للمقتضيات القدرية التي يجب الالتزام بها في التصور السياسي للدعوة وذلك لقوله صلى الله عليه وسلم: " الخلافة في قريش "105.

فلا يسمح التصور السياسي للدعوة بالجدل أو الإعمال العقلي البحت حول هذا الحقيقة لأنها حقيقة قدرية خالصة.

ثانياً: التفويض والتوكل:

وأهم الحقائق القدرية في التصور السياسي: الوفاء بالعهود والمواثيق؛ ذلك أن الله لا يحب الخائنين.

فإذا بدت مصلحة لكنها لا تتحقق إلا بنقض العهد؛ فهذه المصلحة باطلة سياسياً.

وفي المقابل فإن التصور السياسي يقيم العهود والمواثييق بقاعدة التوكل عل الله بعد استفراغ الجهد في التفكير والتقييم والتحليل والتوقع.

ومن هنا قال سبحانه: " وإن يريدوا خيانتك فقد خانوا الله من قبل فأمكن منهم والله عليم حكيم ".

وهذه هي القاعدة القدرية العامة في العهود ونصها قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: " ما نقض قوم العهد إلا سلط عليهم عدوهم)106.

ثالثاً: مراعاة السنن الثابتة:

مثل التفسير القدري للاختلاف كصيغة من صيغ العذاب الواقع علينا وتحقيق موجبات الرحمة التي يرفع بها هذا العذاب واعتبار هذه الموجبات أسباباً مباشرة في معالجة الاختلاف.

وكذلك معالجة الفتن القائمة بين المسلمين بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر باعتبار أن ترك هذا الأمر هو السبب في ضرب قلوبنا بقلوب بعض كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم: " والله لتأمرون بالمعروف ولتنهون عن المنكر أو ليضربن الله قلوبكم بقلوب بعض)107.

غير أن موضوعية البعد القدري للتصور السياسي تتمثل بصورة نهائية في الوصول بالدعوة من مرحلة الاستضعاف وخشية الاختطاف إلر مرحلة التمكين والعالمية إذ أن تجاوز الدعوة لجميع مراحلها لا يمكن أن يتحقق إلا بصورة قدرية.

ولعل حادثة أصحاب الفيل التي حفظ الله بها البيت تهيئة لظروف الدعوة؛ ولعل الصراع بين الروم والفرس الذي أجهد الدولتين تحقيقاً لتلك التهيئة دليل علي هذا البعد.

كما قال سبحانه: " محمد رسول الله والذين معه أشداء علي الكفار رحماء بينهم تراهم ركعاً سجداً يبتغون فضلاً من الله ورضواناً سيماهم في وجوههم من أثر السجود ذلك مثلهم في التوراة ومثلهم في الإنجيل كزرع أخرج شطأه فآزره فاستغلظ فاستوي علي سوقه يعجب الزراع ليغيظ بهم الكفار وعد الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات منهم مغفرة وأجراً عظيماً ".

وفي إطار البعد القدري للتحليل السياسي:

يجب حسم مسألة العلو اليهودي.

لأن هذه المسألة تأتي خطورتها من الفهم الخاطي للآيات الواردة فيها حيث يتحدد هذا الخطأ في الاعتقاد الجازم بحتمية أبدية للعلو اليهودي. ويغذي هذا الفهم اليهود أنفسهم من خلال كتابات108 معينة يخرج قارئها بتصور يفسد العقيدة حيث يعتقد أن اليهود يفعلون ما يريدون وأنه ما من حركة أو سكنة لإلا وهي جزء من خطة يهودية شاملة.

هذا التصور شرك صريح...

الله وحده هو الفعال لما يريد.

ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.

وعقيدة التوحيد ترفض هذا الوهم والواقع شاهد عي ذلك.

وحادثة واحدة... تكفي... وهي نكسة 1967م التي كان ظاهرها لصالح اليهود وكان باطنها الرحمة حيث كانت نقطة التحول في تاريخ الحركة الإسلامية حيث بدأت من مصر بعد أن قويت الرغبة في الرجوع إلي الله لتبدأ مع تلك الرغبة الدعوة الإسلامية بمستواها الفردي فيبلغ خطرها كل أنحاء العالم ويصبح مواجهة هذا الخطر هو محور السياسة العالمية علي مستوي الشرق والغرب.

رابعًا

النظرية السياسية الجاهلية

أ) التفسير العام للنظرية

والواقع أن للجاهلية نظريات ومذاهب واتجاهات ومدارس ونظماً سياسية مختلفة109، لكن ما نعنيه بالعنوان هو النظرية السياسية الجاهلية في تقابلها مع الإسلام؛ وهذا هو جوهر السياسة الجاهلية. وبهذا الاعتبار فإن هذا الاختلاف يصبح أمراً شكلياً بالنسبة لهذا الجوهر وتعدداً سطحياً بالنسبة لاتجاه الهدف الأساسي والنهائي للجاهلية وهو القضاء علي الإسلام. وللدلالة علي هذه الحقيقة نذكر مثالاً بأقصي تناقض شكلي في إطار النظريات السياسية الجاهلية يحقق أكبر توحد في حرب الإسلام وهذا المثال هو الديموقراطية والديكتاتورية حيث يمثل أكبر تقابل في إطار النظريات الجاهلية أكبر توحد في إطار النظرية الجاهلية الواحدة.

فكلا النظريتين يمنع وجود واقع صحيح للدعوة.

فالديمقراطية... هي أن يتكلم الجميع، والديكتاتورية هي أن لا يتكلم أحد. وهاتين النتيجتين المتقابلتين بالنسبة للدعوة يحققان نتيجة واحدة وهي أنه لن يسمع أحد لأحد حيث لا تقوم الدعوة إلا في واقع يجد فيه من يتكلم أحد يسمعه.

وأقرب تشبيه للقرف بين الديمقراطية والديكتاتورية هو فرق اللون بين الضباب والظلام؛ حيث يكون التقابل التام في اللون الأبيض والأسود بنتيجة واحدة - وهي انعدام الرؤية.

ففي الديمقراطية يتبدد الفكر الصحيح في واقع الإسقاف والثرثرة، وفي الديكتاتورية يتواري الفكر الصحيح في واقع القهر والكبت.

وفي الديقراطية يضيع الإنسان المفكر في ظواهر الفوضى الفكرية والإعلامية وفي الديكتاتورية يختفي الإنسان المفكر في غياهب السجون وفي كل من النظريتين... يغيب الإنسان المفكر... والفكر الصحيح. وجوهرية النظرية السياسية الجاهلية في مواجهة الإسلام لها غاية ثابتة وهي الصد عن سبيل الله.

والصد عن سبيل الله كغاية سياسية جاهلية له خطوط محددة:

منع ظهور الدين " قتل الأنبياء والذين يأمرون بالقسط من الناس ".

منع حدوث الامتداد إذا فرض الظهور من خلال التركيز علي الزعامة (محاولة منع الرسول الخروج من مكة) كما قال سبحانه: " وإذ يمكر بك الذين كفروا ليثبتوك أو يقتلوك أو يخرجوك ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين ".

التفسير غير الحقيقي للامتداد إذا فرض هذا الامتداد كما فسر رستم قائد الفرس خروج المسلمين للقتال بقوله: " ما أخرجكم إلا الجوع ".

فإذا ظهر الدين وفرض وجوده وتحقق امتداده... نشأت خطوط أخري.

منع الدين السياسي: العلمانية.

وفي منع الدين السياسي:

عشنا فترة تمتد علي الأقل منذ حركات الإحياء القومي في أعقاب الحرب العالمية الأولي وحتى هذه اللحظة حيث يدور التصور حول حقيقة واحدة تدور فتنبع من مبدأ تقييد الدلالة السياسية للدين الآسلامي وإبعاده بصورة أو بأخري من الحركة السياسية، ومن مفاهيم الصراع السياسي، ومن مفاهيم الصراع السياسي قبل الحرب العالمية بدعوي العلمانية، وبعد الحرب بدعوي الاشتراكية وتقييدها للتقاليد الاسلامية110.

مقاومة السلفية ونشر البدع (الانتساب العاطفي) للتحول بالناس إلي مرحلة الانتساب العاطفي الخاطيء... مثل التصوف.

ثم الاقتلاع العاطفي: مرحلة الانحلال - والإدمان...

ثم اقتلاع الجذور التاريخية؛ ومثال هذه المحاولة ما يتم في بلاد العالم المنتسبة إلي الإسلام مثلا حيث يتم هدم فكرة الخرفة تاريخيا من خلال الفكر العلماني، وتأكيد النتساب لمرحلة ما قبل الإنتساب – مثل الفرعونية في مصر – لإضعاف الأنتساب الإسلامي التاريخي، وتغيير الآثار والمعالم الدالة علي الانتساب الإسلامي التاريخي لهذه البلاد111.

الفصل بين الدعوة والناس بتشويه الصورة الاجتماعية للدعوة112.

وإيقاع الضرر بالعامة بسبب أصحاب الدعوة مثل مقاطعة قريش لبني عبد مناف حتى يكره الناس هذه الدعوة.

وفي ثنايا خطوط الصد عن سبيل الله تبرز عدة قواعد للسياسة الجاهلية أهمها:

قاعدة الهدف الناقص.

ففي مقاومة الجاهلية للدعوة سياسياً فإنها تنطلق من قاعدتها الأساسية وهي منع الدعوة من الوصول إلي هدفها الكامل. بمعني أن الجاهلية قد تسلم بمرحلة لا تمثل هدفاً كاملآً.

مثال أن تسلم الجاهلية بوجود كثرة مسلمة في واقعها إذا فرضت هذه الكثرة وجودها ولكنها - أي الجاهلية - تركز في مقاومة الدعوة إذا وصلت إلي هذه المرحلة علي الزعامة، فتفرض أو تسمح بنوع من الزعامة يحدث في هذه الكثرة تأثيراً يذهب أثرها؛ لأن الزعامة الصحيحة والكثرة المسلمة هدف كامل.

أو تركز علي التفريق... لأن الوحدة والكثرة هدف كامل. وعندما تحاول الجاهلية مهمة التفريق فإنها لا تستغل فقط اختلافات منهجية بين هذه الكثرة ولكنها تسعي إلي إنشاء التناقض الذي تضمن به عدم إمكانية تجاوز المحاولة الجاهلية في التفريق. وفي هذا الإطار يمكن نقل قضايا خلافية تاريخية مثل إتاحة مساحة كبيرة لفكر إرجائي أو خارجي بين واقع أهل السنة.

وعندما تعلم الجاهلية أن الصراع بين الاتجاهات، أو حتى محاولة تجمعهم سيستهلك طاقة أصحاب الدعوة؛ فإنها ستسمح بذلك إذا كان تقديرها أن محاولة التجمع هذه ستبوء حتماً بالإخفاق.

وعناصر الهدف الكامل هي الامتداد الإسلامي الصحيح الواحد القوي، وتحقيق النفص يمكن أن يأتي بقفد أي عنصر من هذه العناصر.

ومثال الهدف الكامل الذي عالجه القرآن هو قول الله عز وجل: " إن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاعبدون) فيكون الهدف هو الأمة الواحدة التي تعبد رباً واحداً فيأتي الشيطان ليمنع هذا الكمال؛ فإما أن يجعل الناس تعبده أو ييأس من ذلك فيلجأ إلي إنقاص الهدف من ناحية الأمة الواحدة فيحاول التفريق؛ وهذا معني قول رسول الله صلى الله عليهوسلمس: " إن الشيطان قد أيس أن يعبده المصلون، ولكن في التحريش بينهم"113.

قاعدة الخطر الأول:

وفي مقاومة الجاهلية للدعوة في حال الامتداد الواسع المواجهة الشاملة فيتم ترتيب هذا الامتداد بحيث يتم التركيز على ما يمكن أن تعتبره الجاهلية خطرًا أوليًّا.

ثم تتعامل مع الآخرين بأسلوب مختلف يحقق نوعاً من الأمان والانفصال عن الخط الذي سيتم التركيز عليه من جانب الجاهلية.

قاعدة سرقة الكفاح:

والواقع أن تدخل الجاهلية بعد أن تقطع الدعوة شوطاً هائلاً من طريقها وتقترب من تحقيق هدفها له أمثلة تاريخية محددة نضرب لها مثلاً قديماً من دعوة موسى... وهو موقف السامري والعجل بعد أن مرت أشد مراحل الدعوة قسوة وشدة وهي فترة تعبيد فرعون لبني إسرائيل، حيث تم الخروج من مصر؛ ليكون وقوف موسى ببني إسرائيل بين يدي الله عند جبل الطور لأخذلا التوراة وإقامة دولة الحق المنشودة وإذا بموسى يتعجل اللقاء فيسبق بني إسرائيل وتغيب القيادة ليظهر السامري متبنياً الهدف الذي حدده موسى من قبل وهو لقاء الله عز وجل لتلقي الشريعة.

فيأمر السامري بني إسرائيل بجمع الحلي وهو التصرف الذي جعل من كل بني إسرائيل صناعاً مشاركين في خطيئة العجل.

وعندئذ انفصلت جماهير بني إسرائيل عن دعوة موسى فلم يسمعوا لأخيه هارون وتوجهوا نحو العجل. واحتل السامري موقع الزعامة وكان مضمون تجربة السامري هو أن اقتراب الدعوة من تحقيق أهدافها لا يجعل الجاهلية تسلم بالأمر الواقع فتحاول احتواء هذه النتيجة بل والاستفادة من أساسها وإعادتها إلى فترة الضعف الأول...

ومن المثل القديم... إلى المثل الحديث... بنفس المضمون.

وهو موقف عبد الناصر والثورة من دعوة الإخوان حيث بلغت دعوة الإخوان مرحلة كانت فيها من السلطة قاب قوسين.

تجمعات جماهيرية مؤيدة ومتعاطفة مع الدعوة.

عناصر منبثة داخل الجيش والبوليس بأرفع مستويات القيادة.

وانتصارات عسكرية عظيمة على اليهود في فلسطين صنعت موقفًا تاريخيًّا يحقق أكبر رصيد من التقدير والإكبار في نفوس الناس.

وإذا التجربة تبدأ بحلقتها الأولى... تغيب القيادة بغياب الإمام حسن البنا.

ثم الحلقة الثانية... وهي تبني نفس الأهداف التي طرحتها دعوة الإخوان في خطتها الإصلاحية، فكانت أهداف الثورة هي – بالكلمة والحرف – مضمون رسالة المؤتمر الخامس للإخوان المسلمين، فتحولت الجماهير – في أغرب صورة – عن دعوة الإخوان وتوجهت نحو الثورة.

وبمقارنة سريعة بين المثلين: تجربة السامري وعبد الناصر... يتوضح أن أخطر عناصر التوافق هو التدخل في مرحلة ما قبل تحقيق الهدف.

ولعل مضمون هذين المثلين التارخيين يحقق الإدراك التام لحجم المترتب على غيبة القيادة في واقع الدعوة.

أما الحد النهائي لهذا الخطر فهو أن تغيب القيادة برغبتها وإرادتها؛ والعلة الثابتة دائمًا في هذه الغيبة هو الزهد في السلطة الذي يفهم على أنه إخلاص وتجرد.

وهذا الفهم قد يكون صحيحًا إذا كان هذا الزهد لا يخرج بالسلطة عن إطار الدعوة واصحابها الحقيقيين، أما أن يزهد أصحاب الدعوة في السلطة لتكون في أيدي أعدائها فتلك هي الجريمة الكبرى.

وهذا عمر مكرم أكبر الشيوخ في مصر التي كانت في مرحلة الانقياد التام لزعامة العلماء يسلم قيادة البلاد لمحمد علي في أغرب تصرف تاريخي بدأت به أكبر مرحلة تواجد علماني في مصر.

وغاية السياسة الجاهلية الثابتة هي: الصد عن سبيل الله، وتتحقق بمضمون ثابت.

ومضمون النظرية السياسية الجاهلية هو الطاغوتية، وهو المصطلح الذي يعني الشيطنة السياسية.

وأساسيات هذا المصطلح:

أ) هي السلطة بعناصرها الأصلية.

ب) والقتال: " الذين آمنوا يقاتلون في سبيل الله والذين كفروا يقاتلون في سبيل الطاغوت فقاتلوا أولياء الشيطان إن كيد الشيطان كان ضعيفًا ".

ج) الولاء: " الله ولي الذين آمنوا يخرجهم من الظلمات إلى النور والذين كفروا أولياؤهم الطاغوت يخرجونهم من النور إلى الظلمات أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون ".

وتندرج تحت هذه العناصر: أخطر الأفكار السياسية الجاهلية المحققة للسيطرة على الإنسان وعقله، والمنشئة في قلب الإنسان الجاهلي دافع القتال في سبيل الطاغوت.

والمحققة لولائه للجاهلية.

وبعد قواعد السياسة الجاهلية الأصلية نمتد إلى أخطر عناصرها.

عناصر الممارسة السياسية الجاهلية:

المكر السيئ:

والمكر هو التدبير الخفي، وقد وصفه الله بالسوء؛ لأن مجرد التدبير الخفي قد يكون للخير وهو ما جعله الله عز وجل يصف أفعاله بالمكر.

وخطر المكر السيئ يرجع إلى عدة حقائق:

- أننا على وجه الحقيقة لا نتحمل هذا المكر؛ لأن الله وحده هو القادر عليه، وهو سبحانه الذي يصده عنا، وهذا المعنى مأخوذ من قوله تعالى: " وقد مكروا مكرهم وعند الله مكرهم ".

- وأننا لا نستطيع صد هذا المكر؛ لأن الفاعلية الخبيثة للمكر الجاهلي هو أنه يزيل الجبال، وهو المأخوذ من قوله تعالى: " وإن كان مكرهم لتزول منه الجبال ".

والموقف الصحيح في مواجهة المكر الجاهلي هو الصبر على هذا المكر عندما يكون له أثر في الواقع، وإمهال الكافرين رويدًا حتى ترى الفعل الإلهي ردًّا على هذا المكر؛ لأننا كطرف من الدعوة خارجين فعلاً من دائرة المكر بين الله وأعدائه، وهو المأخوذ من قوله سبحانه: " إنهم يكيدون كيدًا * وأكيد كيدًا * فمهل الكافرين أمهلهم رويدًا ". ولذلك تكون أول صيغ الفعل الإلهي في رد المكر الجاهلي هو ارتداد أثره على مدبريه، وهو المأخوذ من قول الله: " ولا يحيق المكر السيئ إلا بأهله ".

ذلك أننا غير قادرين على وجه الحقيقة على صد المكر الجاهلي؛ لأنه مكر دائم لا يتوقف لحظة، وهو المأخوذ من قوله سبحانه: " بل مكر الليل والنهار "... ولا يكون زمن إلا ليل أو نهار.

- والموقف الصحيح في مواجهة المكر الجاهلي أيضًا هو أن نقف بالدعوة الموقف الصحيح ونعطيها وجودها الشرعي الذي تستحق به الدفاع الرباني عنها وعن أصحابها.

ومما يجعلنا نؤكد على الالتزام الشرعي البحت والمطلق في مواجهة الجاهلية هو استحقاق الدفاع الإلهي عن الدعوة، حتى لو خالف ذلك مقتضى التفكير العقلي أو العملي، وهذه هي طبيعة التصور السياسي للحركة الإسلامية.

فلا غدر ولا خيانة؛ لأن الله لا يحب الخائنين، ولا ظلم؛ لأن الله لا يحب الظالمين.

مرحلة التعذيب والقتل الهادفة إلى القضاء على أصحاب هذه الدعوة، وهي المرحلة التي تظن كل الجاهليات أنها المرحلة الحاسمة والنهائية.

ولكن المفاجأة تكون عندما تتجاوز الدعوة هذه المرحلة، فيتجه التفكير الجاهلي إلى مرحلة تقليدية ثالثة هي:

الاستنفار العام، ومعناه حشد كل القوى الجاهلية وكل أساليبها في مواجهة شاملة مع الدعوة، وهي المرحلة التي يرتفع فيها العداء للدعوة إلى المستوى القومي، وتتحرك فيها الجاهلية في كل الاتجاهات الأمنية والسياسية والإعلامية والاجتماعية، وتكون صيغة الاستنفار العام: " أن امشوا واصبروا عاى آلهتكم إن هذا لشيء يراد ".

امشوا: تحركوا في كل الاتجاهات، واصبروا: اثبتوا على آلهتكم التي كادت الدعوة تنسفها نسفًا، إن هذا لشيء يراد: إنها خطة محكمة متفق عليها بين الجميع، ولكلٍّ دوره فيها.

ويثبت أصحاب الدعوة ثباتًا يستحقون به التأييد من الله.

محاور النظرية السياسية الجاهلية:

1) المحور الإعلامي:

ولكن الجاهلية تقاوم، وسيكون أخطر عناصرها المقاومة الإعلامية الجاهلية للدعوة الإسلامية... وسيتركز المحور الإعلامي هو الآخر على عدة ركائز.

المتابعة الدقيقة لأصحاب الدعوة بحيث لا تدع الداعية لحظة واحدة يخلو فيها إلى الناس، وهذا أبو لهب يحقق أعلى مستويات المتابعة، حيث يسير وراء الرسول وهو يدعو إلى دين الله ليقول للناس في آخر كلامه: هذا ابن أخي... لا تصدقوه.

ولقد بدأت المتابعة الجاهلية فعلاً منذ لحظة الرسالة الأولى، حيث "أمر إبليس أتباعه بالانتشار في الأرض" عند بعثة النبي.

ومنذ أن انتشرت الشياطين في جميع الأرض لم تقف المتابعة عند حد إقليمي أو مستوى دولي، وقد مر في الكتاب أنه كما كانت المتابعة في مكة كانت في المدينة، وقد مر كيف أرسلت قريش إلى عبد الله بن أُبيٍّ تعتب عليه وجود الرسول في المدينة وتهدد بالتدخل العسكري لإنهاء هذا الوجود.

وليس هناك من دليل على دقة المتابعة العالمية للحركة الإسلامية من حادثة كعب بن مالك114.

التنفير الدائم للناس من أصحاب الدعوة، وذلك من خلال تصويرهم في أذهان الناس في صورة سيئة، وهذه هي الفكرة القديمة التي مارسها فرعون عندما قال عن موسى: " أم أنا خير من هذا الذي هو مهين ولا يكاد يبين)؛ وذلك بسبب العقدة التي كانت في لسان موسى، وكذلك اتهام بني إسرائيل لموسى بأنه آدر لما وجدوه لا يستحم معهم، وجاء ذلك في قول الله: " يا أيها الذين آمنوا لا تكونوا كالذين آذوا موسى فبرأه الله مما قالوا وكان عند الله وجيها ".

هذه الفكرة القديمة التي تمارس بالأساليب الحديثة والخبرات الفنية، ونظرة واحدة إلى صور المقبوض عليهم في قضايا الإسلام تؤكد لك هذه الحقيقة؛ حيث لا نرى إلا كل ما ينفر.

تصنع الصور بالأساليب الحديثة: الزيغ في النظرات، والبلاهة في الوجوه؛ لإثبات الانحراف والتيه.

وتصنع الصور: الشعاثة في الشعر، والشراسة في الملامح؛ لإثبات الإرهاب... صورة باهتة...

خلفيات مظلمة للإيحاء بالتآمر... وصفحات الجرائد هي المستند والدليل... كل هذا ضروري في مهمة الإعلام الجاهلي.

وكله نابع من النظرية الإساسية للإعلم الجاهلي بصورة محددة!

والحقيقة أن النظرية الإعلامية بصورة محددة... هي السحر والكهانة.

وهذا هو إعلام الجن والشياطين ببعثة النبي... يقول فيه أحد الشياطين: " أَلَمْ تَرَ الْجِنَّ وَإِبْلاسَهَا وَيَأْسَهَا مِنْ بَعْدِ إِنْكَاسِهَا وَلُحُوقَهَا بِالْقِلاصِ وَأَحْلاسِهَا "... ويقول شيطان آخر وذلك بعد أن صرخ صرخة لم أسمع115 صارخًا قط أشد صوتًا منه: " يا جليح أمر نجيح رجل فصيح يقول: لا إله إلا الله "... وهكذا يكون الأسلوب مؤثرًا.

أسلوب الجن والسحرة...

الصرخة المؤثرة والأخذ بالقلوب.

الصيغة الاستفزازية للعقل... ماذا تعني الصرخة؟!

الصورة امرأة سوداء مثيرة لشعرها116...

صوت... صورة... عبارة... أسلوب... عناصر إعلامية بحتة.

والتكرار أخطر عناصر الإعلام.

الخبر الصادق بجانب مائة كذبة... نظرية الجن في تحقيق التصديق هي نفس نظرية الأنباء.

فيكذب الكاهن مائة كذبة117.

وهذه هي عناصر الإعلام الشيطاني.

ولما كان الأمر متعلقًا بالتفاعل العقلي والنفسي، فلا بد أن يكون الإعلام: " زخرف القول غرورًا "... عناصر إعلامية جاهلية بحتة.

زخرف القول للإقناع بلا حقيقة أو مضمون... إقناع بالظاهر والشكل والأسلوب، وهذا هو الزخرف.

غرورًا: تغريرًا.

ولا بد أن يكون الإعلام الجاهلي أداة للتعامل مع الإنسان.

فلا بد أن يكون هناك الشكل المنطقي.

والصورة المبدئية كما حاول أن يبدو بها أبو جهل عندما قال في غزوة بدر: اللهم أقطعنا للرحم وأتانا بما لا نعرف فأحنه الغداة. فكان المستفتح118.

السمة الإنسانية كما قال عقبة بن أبي معيط في الإسلام: " فرق الناس، وخرب الديار، وجعل الولد يقتل والده"119... وكما تحاول الجاهلية اليوم الارتفاع فوق مستوى الدين بزعمهم بالمفاهيم الإنسانية: الحرية، الإخاء، المساواة.

والإعلام الجاهلي هو وسيلة الجاهلية العقلية والنفسية في الإنشاء والإبقاء على الكفر والفساد، والإعلام هو ساحر الحكم الجاهلي... الإعلام هو المحقق لمهمة الرضى والمتابعة بالكفر، وهو المقاوم للكراهية العارضة لهذا الكفر.

ومن أجل ذلك لا بد من الاستيعاب الكامل لوقت الإنسان وعمره، بحيث لا تفوت لحظة دون أن تكون فتنة، كما قال سبحانه: " بل مكر الليل والنهار ".

ولا بد من التناسب الدقيق مع العقلية البشرية كهدف للإعلام، ولعل مؤتمر الندوة الذي حاول الاتفاق على تعريف القرآن دليل على هذا التناسب120.

ولا بد من الأسلوب المؤثر السهل العبارة التي تخرج من هذا الفم ليتلقفها الجميع فتصبح على جميع الألسنة... والحقيقة أن عبد الله ابن سلول هو أستاذ هذا التعبير الإعلامي الجاهلي... فهذه عبارة من عباراته: " سمِّن كلبك يأكلك ".

ولكن كل عناصر الإعلام الجاهلي لا ترى مجتمعة إلا في مواجهة أي حدث إسلامي؛ عندئذ تكون العناصر المباشرة المواجهة للحدث:

التهوين من شأن الحدث: مثلما قال أبو لهب تعقيباً على إعلان الرسالة من النبي صلى الله عليه وسلم من فوق جبل مكة: " تباً لك طول يومك ألهذا جمعتنا)121، وكأن حدث الرسالة لن يبقى إلا يوم إعلانه (طول يومك)، الأمر الذي لا يستحق الجمع (ألهذا جمعتنا؟ ".

قطع الصلة بين أفراد الحدث والواقع الاجتماعي الذي تم فيه الحدث حتى لايكون لهؤلاء الأفراد امتداد اجتماعي... مثلما قال عروة بن مسعود لرسول الله صلى الله عليه وسلم: جئت بأوشاب الناس لتفض بيضتك، حتى أفهمه ابن أخيه أنهم ليسوا أوشاباً وكان يلبس المغفر على وجهه فضرب يد عمه وقال له: اخفض يدك عن لحية رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال عروة: من هذا يا محمد؟ قال: هذا ابن أخيك122...

إعلان أنهم ليسوا على شيء... مثلما استشار المشركون اليهود في أمر الدعوة، فأخبرهم اليهود أن المشركين أفضل من المسلمين، وكما قال القرآن على لسان اليهود في المشركين: " هؤلاء أهدى من الذين آمنوا سبيلاً ".

المزايدة على أصحاب الدعوة... مثلما زايد المشركون على المسلمين لسقاية البيت وعمارة المسجد الحرام، فأنزل الله عز وجل: " أجعلتم سقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام كمن آمن بالله واليوم الآخر "... والصورة الحديثة للمزايدة على أصحاب أي حدث إسلامي تافهة نفس التفاهة القديمة.

فبمجرد حدوث الحدث يتم تخصيص أماكن خاصة للسيدات في المواصلات وزيادة البرامج الدينية في وسائل الإعلام والاهتمام بأقرب مناسبة دينية والمبالغة في الاحتفال بها.

ولكي تمنع الجاهلية أثر أي حدث إسلامي فإنها بعد أن تمارس رد الفعل الإعلامي المذكور سابقًا بعناصره فإنها تبحث عن أخطاء يغلب الظن فيها أنها لا تنال تأييد الناس.

مثل قول اليهود للرسول: ما بالك تنهى عن الفساد في الأرض وتقطع الشجر؟! فرد القرآن عليهم مبينًا تفسير الموقف123.

ومثلما أخطأ بعض من أرسلهم الرسول صلى الله عليه وسلم في سرية فقتلوا بعض المشركين في الشهر الحرام فأرسلوا إلى رسول الله وقالوا: ما بالك تقتل في الشهر الحرام124.

فرد عليهم مقررًا في البداية خطأ هذا الفعل. " يسألونك عن الشهر الحرام قتال فيه قل قتال فيه كبير وصد عن سبيل الله وكفر به ".

هذا أساس الحكم.

لكن الذين قَتلوا لم يكونوا يعلمون أنهم دخلوا في الأشهر الحرم، فهذا اعتذار عن الفعل.

وإذا لم يكن هذا السؤال مجرد تشنيع بالمسلمين وكان حرصًا على حرمات الله، فهناك حرمة أكبر وقعوا هم فيها وهم يعلمونها...

" والمسجد الحرام وإخراج أهله منه أكبر عند الله ".

" والفتنة أكبر من القتل ".

ولا زالت الجاهلية تتابع الحركة الإسلامية وتبحث عن خطأ لها.

التأكيد على إصابة الحدث الإسلامي بأمراض وعقد نفسية... مثلما قال قوم شعيب لنبيهم بعد إعلان دعوته: " إن نراك إلا اعتراك بعض آلهتنا بسوء "... ومثلما قالول لرسول الله بعد إعلان النبوة: إن كان أصابك شيء طلبنا لك الأطباء125.

2) المحور الاقتصادي:

الفقر المنسي والغنى المطغي:

إن الجاهلية تنشئ بسياستها وضعًا اقتصاديًّا عالميًّا ينقسم الناس فيه إلى قسمين: الفقر المنسي، والغنى المطغي.

وهما الحالتان اللتان تبتعدان بالإنسان عن إدراك الحق، فالذي ينسى نفسه فقيرًا يصعب عليه التفكير الصحيح في الواقع، والذي لا يرى نفسه إلا غنيًّا وطاغيًا يصعب عليه إدراك الواقع؛ ولذلك حذر رسول الله من هاتين الحالتين في إطار التحذير من الأسباب التي تبتعد بالإنسان عن الحق والصواب، فيقول: " بادروا بالأعمال سبعا: هل تنتظرون إلا فقرا منسيا، أو غنى مطغيا، أو مرضا مفسدا، أو هرما مفندا، أو موتا مجهزا، أو الدجال فشر غائب ينتظر، أو الساعة فالساعة أدهى وأمر "126؛ من أجل ذلك أنشأت الجاهلية المصطلحات المشار إليها: مصطلح الدول النامية، ومصطلح الدول الصناعية الكبرى؛ حيث يعيش الفقر المنسي والغنى المطغي تحت هذين المصطلحين.

إن خطة الإفقار الجاهلية للعامة تهدف إلى إحداث معاناة معيشية شديدة تستهلك كل الطاقة الذهنية والنفسية للإنسان، وكذلك تهدف إلى تفتيت العلاقات الاجتماعية كنتيجة للحرص والأنانية، ومحاولة كل إنسان تحقيق أكبر قدر ممكن من المصالح الشخصية.

وحتى لا يصل الفقراء إلى نقطة الانفجار والثورة فإن السينما والتلفزيون يبتعدان به عن هذه النقطة من خلال موضوعات الأفلام والمسلسلات اليومية التي تضرب على الجرح والوتر الحساس فتثير الشجون تارة، وتارة أخرى تعالج الموضوعات التي تعرض حياة الترف والأرستقراطية التي تحدث نوعًا من السعادة وتعويض الحرمان...

وتارة ثالث تعرض الموضوعات التي ينتصر فيها الفقير على الغني من خلال قصص الحب... والمبادئ والأخلاق والشهامة.

المهم أن يبقى الفقر بلا ثورة...

أما خطة الغنى المطغي، فمنها خطة الترف الذي يفقد أصحابه الإحساس الحقيقي بغيرهم من البشر، وعندئذ لن تكون دعوة؛ لأن الدعوة إحساس بالغير... وكذلك ستجعلهم يفتقدون حاسة البحث عن الحق؛ لأن الترف أنشأ عندهم معيارًا للحق وهو المال فقط وعندئذ لن تكون دعوة؛ لأن الدعوة بحث عن الحق، وتجعلهم يفتقدون إدراك الواقع وعندئذ لن تكون دعوة؛ لأن الدعوة هي ثمة الإدراك الصحيح للواقع.

إن المترفين هم أصحاب المال عندهم تفسير كل شيء وعلة كل تصرف وحكمة كل حدث، وأساس كل واقع ومنتهى كل غاية وقيمة كل إنسان... إن الترف هو عدو الدعوة الأول.

ومن هنا فإن أهم مقتضيات الصراع بين الجاهلية والإسلام هو تخليص الإنسان من حالة الفقر المنسي، وواقع الغيبوبة النفسية والذهنية التي يعيشها البشر كما يوجب على الدعاة أن يعملوا بكل أساليبهم على إعادة العقل البشري من غيبوبة الفقر المنسي وإفاقته بكل المؤثرات النفسية والعصبية، وبكل الأساليب الكلامية والعملية، كما يجب أن يقف الدعاة أمام الترف الجاهلي وعناصر الثراء للاستعلاء بالإيمان وتجرده وكرامة الزهد وكرامة الزاهدين ومكانة العلماء؛ ليفيق المترفون عندما يشعرون أن هناك قيمة أعلى من المال وحقيقة أكبر منه هي قيمة الإيمان والإسلام.

سياسة المواجهة للنتيجتين:

إن التصور السياسي الصحيح يفرض على الدعاة في مواجهة الفقر المنسي والغنى المطغي أن نتعامل مع الإنسان بأقصى إمكانيات التأثير.

الإثارة الفكرية والعاطفية... بأعمق أبعادها.

المواقف المحزنة... الخواطر المخيفة... العبارات المطمْئِنة.

يجب أن يهتز الإنسان أمام الدعاة هزًّا عنيفًا... وليسكن سكونًا تامًّا يجب أن يستحوذ الدعاة على كيان الإنسان كله، يجب أن يقف الإنسان أمام الدعاة كأن على رأسه الطير...

لا حراك... سوى حركة النَّفَس ونبض العروق...

يجب أن يتكلم الدعاة بكل الألسنة وبكل الأساليب؛ لينسى الإنسان أمام الدعاة حياته الدنيا سواء كان فقيرًا أو غنيًّا.

ليبحثوا عن كل القصص الصحيحة... كل الطرائف... كل المواقف... السيرة... حياة الصحابة... الرقائق... الكرامات والمعجزات... الجن والملائكة... القبر وعذابه... الجنة والنار... كل الإسلام... كل حقائق الإسلام... كل قضايا الإسلام.

لإنقاذ الفقراء الناسين والأغنياء الطاغين.

وفي النهاية...

يجب أن يترفع الدعاة عن مصالح الدنيا؛ حتى لا يتهمهم الفقراء ولا يستهين بهم الأغنياء.

عندئذ يمكن الإطاحة بالاتاه الاقتصادي المنشئ لمصطلحات: العالم الثالث... الدول الصناعية الكبرى... الدول النامية... المعونة الاقتصادية... هذا المصطلح الذي يعني أن كيانات الدول النامية عالة على الآرض لا تتجاوز أهدافها وآمالها هدف العيش وأمل الاستقرار بالحصول على هذه المعونة، فتفرض الدول العظمى إرادتها على الدول الأخرى.

3) المحور القانوني:

ورغم أن الجاهلية فوضى وخروج عن الأصول، إلا أن الشيطان يرغب في اميصاص الطبيعة البشرية التي ارتكز فيها بصورة دفينة الرغبة في النظام والحياة في ظله.

فأنشأ الشيطان للجاهلية صيغة قانونية تحقق نظاماً يخضع له جميع الناس.

ولعل المثال التاريخي لهذا الوضع هو اعتراض قوم شعيب على الرسالة باعتبارها خروج على نظام لا يملكون إلا الخضوع له: " قالوا يا شعيب أصلاتك تأمرك أن نترك ما يعبد آباؤنا أو أن نفعل في أموالنا ما نشاء ".

فهناك نظام يجعلنا لا نستطيع التصرف بهوانا "أو أن نفعل في أموالنا ما نشاء ".

ولكن العلة في انتشار النظام الجاهلي لا تقف عند حد امتصاص الإحساس الطبيعي المركوز في النفس البشرية بالرغبة في النظام ولكنها في الأساس... أسلوب يضمن به الشيطان أن يكون له قيادة العالم وزعامته ليسيطر من خلال هذه القيادة وتلك الزعامة على جميع الناس.

وانطلقت الجاهلية في المرحلة القائمة لمقاومة الدعوة في اتجاهات متعددة.

وكانت الحرب العالمية هي رصيد السياسة الجاهلية عالمياً.

والتي نشأ عنها أخطر هذه الاتجاهات وهو الاتجاه القانوني تحت مظلة الأمم المتحدة – الهيئة الجاهلية القانونية العالمية.

وفي إطار دستور الأمم المتحدة الذي أعطى حق العضوية الدئمة في مجلس أمنها لدول محدودة وحق الفيتو مع حق العضوية الدائم.

من خلال هذا الوضع تمت الاتفاقيات والمعاهدات وكان أخطرها معاهدة بيكر التي تم الاتفاق فيها على وضع العالم تحت وصاية ومسئولية الدول الكافرة المسماة بالعظمى.

ولكي يبقى للمحور القانوني فاعليته يجب أن تبقى آثار الحرب الثانية التي تمثل رصيداً لقانون النظام العالمي ولا بد أن تبقى الحرب نفسها في إحساس العالم باعتبارها المصدر الفعلي لقوة القانون، وأول عناصر هذا الاتجاه هو إيحاء الحرب في عقل العالم وضميره من خلال الأفلام والقصص. ولعل من أبرز هذه الأساليب هو الإبقاء على مساعد هتلر سجيناً في سجن تشرف عليه دول الحرب المنتصرة وتتناوب حراسته دولة كل ثلاثة أشهر باعتبار هذا السجين أطول أثر واقعي للحرب...

4) المحور النفسي:

ومن أخطر المحاور النفسية للسياسة الجاهلية: هو امتصاص رد الفعل الإسلامي إذا فعلت الجاهلية ما يقتضي هذا الرد بحيث يتبدد رد الفعل الإسلامي بصورة نفسية شعورية غير عملية أو خطيرة ولعل أخطر الأمثلة على ذلك:

حاث سقوط الخلافة الإسلامية: ذلك الحدث الذي كان قتلاً لكل مسلمي العالم فكانت قصائد شوقي التي نعى فيها سقوط الخلافة فكانت قصائده بمثابة المستأجرة في المأتم التي تسعد أهل الميت فيخفف هذا من وطأة الفجيعة.

وكان منصب (الخلافة) الصوفية الذي تهتم به الدولة وتعطية الصفة الرسمية حيث يخرج (الخليفة) في المولد النبوي الشريف يركب (الفرس) وحوله (السيوف الخشب) و (الرايات) فيخرج الخليفة على جموع الشعب المتصوفة وهم يشعرون أن هذا (الخليفة) خير من ملء الأرض من (الخليفة) الذي ذهب...

ولكن هذه الخدعة الكبرى لا تستسيغها العقول الواعية فليكن لهؤلاء ما يخمد مشاعرهم ويهدئ من روعهم... فكان السماح بالجمعيات الدينية التي وضعت على رأس برنامجها (إعادة الخلافة) والتي أشعرت أصحاب هذه العقول الواعية أن الخلافة ستعود ولكنها مسألة وقت.

5) المحور العسكري:

المحور العسكري المتمثل في التطور التكنولوجي في التسليح إلى الحد المحقق ليأس جميع البشر في المواكبة ليستمر التطور حتى يصل إلى ما يطلق عليه حرب الفضاء لتصبح الأرض موقعاً تم الانتهاء منه ثم حرب الكواكب التي لا تمثل فيها الأرض إلا كوكباً صغيراً. فتتضاعف مشاعر السيطرة من جانب الدول العظمى ومشاعر اليأس من جانب الدول الأخرى.

تماماً مثلما سيشعر يأجوج ومأجوج بغلبهم لأهل الأرض فقالوا: الآن نحارب أهل السماء؛ فوجهوا لها حرابهم فنزلت فتنة لهم مخضبة بالدماء127.

ولكن...

تحت كل هذه التراكمات الصخرية والطبقات الجاهلية الجلدة يكون غليان الإيمان ويفتح الفهم الإسلامي الصحيح فوهة البركان.

مهما كان الوضع... ومهما كانت المؤامرة... سيفتت البركان الإسلامي تراكمات السياسة الجاهلية العالمية.

الله أكبر... الله أكبر... الله أكبر...

قالها رسول الله صلى الله عليه وسلم في أشد لحظات المشقة؛ في الخندق... عندما اجتمعت الأحزاب فكان المسلم لا يأمن أن يخرج ليقضي حاجته... ووقف حجر أمام الصحابة وعجزوا عن تحطيمه حتى الخندق فيه الأحجار ولكن رسول الله صلى الله عليه وسلم يأخذ معولاً ويضرب الحجر ضربة؛ ويرى في غبار حجر الخندق ثلاث صور:

الصورة الأولى: مدائن الفرس.

الصورة الثانية: قصور الروم.

الصورة الثالثة: اليمن128.

اختلطت الدول العظمى بغبار حجر الخندق.

وتبدد الوهم... وهم الدول العظمى. التي تحولت إلى مجرد صور.

وفتحت الفرس، وفتحت الروم، وفتحت اليمن.

إن عالمية الدعوة عقيدة أرساها رسول الله صلى الله عليه وسلم كما صنع نوح سفينة فوق الرمال، وسخر القوم من رسول الله كما سخروا من نوح وقالوا: لا يأمن أحدنا أن يقضي حاجته ويعدنا بقصور الروم ومدائن كسرى! 129. ولم يدر الساخرون أن الطوفان آت ليعم الأرض عقيدة سهلة نرى الأرض فيها تنزوي لرسول الله صلى الله عليه وسلم فيرى فتوحاته المقدرة له من عند الله... قدر سهل " إنما أمره إذا أراد شيئاً أن يقول له كن فيكون ".

خامسًا

نموذج للصراع السياسي بين الإسلام والجاهلية

(مصر: 1965 م - 1981 م)

ولكن قبل طرح نموذج الصراع؛ " مصر 1965 - 1981 ".

نجيب على تساؤل قد يتبادر إلى الذهن: لماذا مصر، ولماذا هذه الفترة؟

وللإجابة على هذا التساؤل ثلاثة جوانب:

الأول: إن الذين يعيشون التجربة أو يشاركون فيها، هم الذين يقدمونها، ولا يقدمها عنهم غيرهم... ولا يتجاوزون هم أيضاً حدود تجربتهم...

إن الكتابة عن تجارب الآخرين تسهم في إحداث طمس وإهدار للتجربة في كل موقع من مواقعها، وكل فترة من فتراتها. هذه قاعدة سياسية هامة...

الثاني: لأن الحركة الإسلامية في مصر اكتسبت صفة القوة السياسية خلال هذه الفترة حتى نهايتها مما يجعل لأحداث هذه الفترة وهذا الواقع فرصة قيمة لدراسة دقيقة يتم من خلالها تحليل هذه الأحداث التي انتقلت بالحركة لهذه المرحلة، وحققت لها صفة القوة السياسية.

الثالث: أن وصول الحركة الإسلامية في مصر إلى هذا المرحلة كان تحت وطأة أكبر ضغط جاهلي.

وذلك لأن النظرة الجاهلية العالمية لمكانة مصر على أنها مفتاح المنطقة العربية والشرق الأوسط جعلها تلقي بكل ثقلها الأمني والإعلامي والسياسي والعسكري لمحاربة الحركة الإسلامية في مصر...

مما يجعل مفاتيح الحركة في مصر نتائج عيارية للعلاقة بين الإسلام والجاهلية في أي موقع من العالم.

وهذه الجوانب الثلاثة هي بمثابة المقدمة للإجابة الأساسية عن التساؤل: " لماذا مصر... ولماذا في هذه الفترة " وهي أن الحركة الإسلامية في مصر تجربة منهجية كاملة.

وإن سبقها من حيث النتائج العملية والسياسية تجارب إسلامية أخرى في مواقع أخرى قد تكون قريبة من بلوغ غايتها ومنتهاها.

وذلك لأن الحركة الإسلامية في مصر منذ بداية الإخوان المسلمين والعمل الفدائي في القناة وحرب اليهود حتى المنصة تقدم أساسياته كحقائق مطلقة يمكن تجريدها من ظروفها وملابساتها الخاصة لتحقق وعياً سياسياً على مستوى الحركة الإسلامية العالمية في كل مواقعها.

ويحسن أن نذكر ابتداًن هذه الأساسيات بترتيبها الصحيح الذي يمثل في أي تجربة خطاً صحيحاً لتطور العلاقة بين الفكر والحركة وهذه الأساسيات هي: العقيدية. الحركية. الشرعية. القدرية.

السياسية بأبعادها المذكورة في الكتاب.

ولكن الأمانة تقتضي القول بأن ظهور هذه الأساسيات في الواقع لم يكن بهذا الترتيب النظري الصحيح...

حيث برزت دعوة الإخوان من خلال: الأساسية الحركية.

فقدمت نموذجاً لا مثيل له في البناء التنظيمي للجماعة...

ونماذج لا يعلى عليها في أساليب الحركة التي أظهرت على ضفاف القناة منهجاً حركياً تاريخياً... في حرب الإنجليز.

وقدرات تكتيكية عسكرية هائلة في حرب اليهود...

ولم يكن الواقع يسمح بخلاف عقيدي حول العدو حيث أن كفر الإنجليز واليهود كان أساس الاندفاع العسكري تحقيق نحو المواجهة.

ولكن قيام الحركة الخبيثة للضباط عام 1952 أنشأ ضرورة الحكم على العدو الجديد... لينشأ معها الأساسية العقيدية التي اكتملت في كتابات الأستاذ سيد قطب.

ولكننا نعترف أن إنشاء الأساسية العقيدية كان على حساب المستوى الحركي للدعوة. بعد توقف الحركة بسبب الخلاف والسجون.

لتبدأ الدعوة بعد توافر الأساسية العقيدية بخبرة حركية ضعيفة تمثلت في عدة محاولات لم تدخل منها في حيز التنفيذ سوى محاولة الفنية العسكرية، وبفكرة خداعية غير قائمة على المواجهة العسكرية الفعلية.

وذلك بعد انقطاع الصلة العملية بين أصحاب المستوى الأول في الحركة بسبب سجنهم وأصحاب المحاولات الأخيرة الذين بدأوا بخبرتهم وإمكانياتهم الذاتية.

كما نعترف أن البداية الجديدة للأساسية الحركية بخبرة المبتدئين وإمكانياتهم الذاتية أظهرت خطاً حركياً عظيماً.

وهو الارتكاب على الخبرة الشخصية والذكاء العقلي والفكر البوليسي؛ حتى بلغ الأمر أن تكون كل مراجع الحركة أجنبية مثل كتابات حرب العصابات...

وتجارب الكفاح المسلح التي لا تمت إلى الإسلام بصلة.

الأمر الذي نشأت به الأساسية الثالثة وهي الأساسية الشرعية الداعية إلى الالتزام بالدليل الشرعي في كل مراحل الدعوة، وضرورة أن يكون لأصحاب الدعوة سلف في كل موقف أو تصرف.

والاهتمام بالعلم الذي يتوافر به الأدلة حتى لا تكون دعوة داعية إلى إقامة المجتمع المسلم وهي تفتقد شرعية حركتها وسلفية منهجها.

وهي أساسية جوهرية أسهمت بصورة طيبة في تأصيل الدعوة من حيث قضيتها وأسلوب جمع الناس حولها.

ورغم أن هذا التأصيل قد تم من خلال الأساسية العقيدية؛ فكان لأصحاب سلفية الدعوة فضل تثبيت هذا التأصيل الشرعي في الواقع. بسبب تواجدهم في هذا الواقع بصورة واسعة.

وأخيراً؛ ونحن نواصل تحليل أساسيات المنهج الكامل من حيث الواقع يفيد الانتباه إلى هذه الحقيقة وهي أن الخطأ والصواب كان احتمالاً قائماً على جميع من حاول إبراز أساسية من هذه الأساسيات إلى الواقع.

ولكن قيام الاحتمال لا يلغي فضل المحاولة...

وهذا ما كان واضحاً في إبراز الأساسية القدرية بصورة كبيرة؛ وذلك لأن الفشل المتلاحق لتجارب الدعوة في مصر جعل أصحاب الدعوة يبحثون عن علة هذا الفشل فكانت أهم محاولة للبحث هي الاتجاه القائل بأن الدعوة لها أسباب وسنن يجب ارتباط منهج الحركة بها. كما يجب ارتباط منهج الحركة بأحاديث آخر الزمان وعلامات الساعة.

وقد كانت المحاولة خاطئة؛ لأنها لم تحقق الارتباط منهج الحركة والسنن الثابتة وأحاديث آخر الزمان وعلامات الساعة. ولكن فضل إبراز هذه الأساسية لم يذهب معها.

حيث التقط آخرون هذا التوجه الحركي ليعالجوا أخطاء المحاولة.

ويحددوا التصور القدري الصحيح لمنهج الحركة.

وما أن بلغت الدعوة هذه المرحلة المنهجية الهائلة والتي توافرت واستقرت فيها الأساسية العقيدية والحركية والشرعية والقدرية حتى انطلقت بكل قوتها وبكل استعدادها للبذل والتضحية؛ حيث تجاوزت الدعوة رحلة الجدل وغموض السبيل وقصر الرؤية الصحيحة للعمل؛ الأمر الذي تطلب إبراز الأساسية السياسية لتحقيق ضبط القوة وتوجيه الاستعداد؛ ليتحقق أكبر قدر من الأهداف بأقل قدر من التضحية حتى لا تتجاوز التضحيات حتى لا تتجاوز التضحيات المبذولة حجم الأهداف المحققة.

وبعد المقدمة... يبدأ التحليل...

ابتداء من الحضانة التي كان أشهر شعاراتها: " يا رب احفظ بابا جمال "

ومروراً بالمرحلة الابتدائية ذات المناهج المشحونة بالأفكار الاشتراكية وشخص عبد الناصر.

والمرحلة المتوسطة التي تتواصل فيها المناهج المشحونة وتكون فيه الرحلات الإجبارية إلى الهرم والسد العالي؛ لربط الشباب تاريخياً بالفراعنة بناة الهرم وحاضراً بالزعيم باني السد.

وانتهاءً بالجامعات التي فرغت فيها قاعات المحاضرات بعد توزيع الطلبة على الرحلات والمؤتمرات والمعسكرات ومسيرات التأييد والبيعة مدى الحياة للزعيم الملهم.

وفي هذا الوقت كان الشباب المواظب على الفرائض يبحثون له عن راق يتهامسون حوله: هل به مس؟

كانت صلاة الفجر سرًّا.

كان يكفي لينفض أي تجمع أن تحاول شرح آية: " ومن لم يحكم بما أنزل الله ".

كان الناس يشيرون إلى أحد البيوت قائلين: البيت ده فيه واحد من الإخوان.

كان جميع الكتاب والمفكرين والصحفيين ملزمين بالهجوم على الإخوان.

كانت البراعة والعبقرية تقاس بمستوى هذا الهجوم المفروض.

كانت الجمعيات الدينية جميعها وبلا استثناء وبكل توجهاتها تجتمع وتتفق وتنطلق عندما تكون المهمة هي الاستنكار وبشدة على الإخوان أو أي عمل من أعمالهم.

ومن هذا الواقع كان التحول...

وكان هذا التحول من المرحلة الاشتراكية إلى الإسلام في مصر...

هو في حقيقته آية من آيات الله سبحانه وتعالى ويجب أ، تكون دراسة آية التحول هي الدرس الأول في تاريخ الحركة القائمة.

لقد نشأت الحركة الإسلامية من خلال مجموعة من الشباب لا يملكون أي خبرة... أي إمكانية... أي تأييد... أي تصور... إلا قضية الحاكمية تفسير آية " ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون ".

في مجتمع...

يملك أيد يولوجيته الاشتراكية المتمكنة التي جعلت الأستاذ الجامعي الملحد هو القدوة والنموذج الاجتماعي.

أيديولوجية متمكنة فرخت كوادر مغسولة المخ تحت مظلة الدراسات السياسية التي أنشئت لها خصيصاً كلية أو مغسلة الاقتصاد والعلوم السياسية التي لا يلتحق بها إلا أصحاب أعلى درجات الثانوية العامة لدراسة أعداء الثورة... الإخوان... من خلال المناهج ورسائل الماجستير والدكتوراه.

مجتمع... له زعيمه... الذي اجتمعت فيه كل خصائص الزعامة القومية، صوت وصورة من يؤيده عالمياً: الكتلة الشرقية، ودول عدم الانحياز علناً، وأمريكا والغرب سراً.

مجتمع... له شعبه الذي كانت تتعلم فيه الأجيال النطق على حروف كلمة جمال مروراً بكل المواهب الشعبية، وعلى رأسهم الذي ترك له مصر أمانة في يده130.

والذي بلغ أن جعل لعيد الثورة صلاة... " في صلاة العيد: عيد الثورة بناجيك يارب ".

له زعيمه الذي أعلن قرار ضرب سوريا بعد حركة الانفصال وإنهاء الوحدة فصفق الناس تصفيقاً حاداً ملتهباً.

ثم قرر عدم ضرب سوريا لأن الدم العربي لايسفك بيد عربية فصفق الناس تصفيقاً حاداً ملتهباً.

التصفيق على التناقض... التصفيق على أي شيء... التصفيق فحسب.

لقد كان العالم وراء عبد الناصر في حرب الإسلام:

1) لقد أعلن عبد الناصر عن ضبط تنظيم 65 وهو في الاتحاد السوفييتي.

قائلاً بافتخار: لقد اعتقلنا 18 ألف في ليلة واحدة " وهذا هو الشرق ".

2) سافر المشير عبد الحكيم عامر للاتفاق أو للموافقة على أكبر صفقة سلاح فرنسية لمصر بعد أحداث التعذيب التي تمت في السجن الحربي... " وهذا هو الغرب ".

حتى يذكرنا منظره القبيح بقبح شجرة الجاهلية (ذات أنواط)131.

وداخل المجلة الرجل الحقيقي فعلاً المفكر القدوة الحبيب ملأ القلب والعين " سيد قطب " جالساً وحده في ساحة السجن. وبذلك يقولون: هذه هي الصفقة وجاء دور الثمن.

مجتمع له تنظيمه الداخلي " الاتحاد الإشتراكي العربي " على رأسه لجنة مركزية كل عضو من أعضائها كتلة لحمية حاقدة على الإسلام.

تنظيم كرأس الأخطبوط الجاثم بجسده فوق قلب مصر يعد النبض وتمتد أطرافه فوق كل أطرافها لينقل الحركة والهمس فلا عزبة ولا كفر ولا نجع ولا قرية إلا وترى فيها لافتة الشؤم: الاتحاد الاشتراكي العربي.

جهاز إعلامي...

أقنع الشعب بنصر 1956 بعد ضياع شرم الشيخ وغيرها من أرض مصر في المعركة ثم رتب الاحتفالات بعيد النصر من تاريخ ضياع الأرض أجازة قومية تعطل فيها المصالح "الهيئات الحكومية والمدارس".

جهاز إعلامي...

أقنع الشعب بأن العرب سيشربون القهوة في تل أبيب في الوقت الذي كان الجنود يجرون بملابسهم الداخلية فرارًا من ممر متلا...

جهاز إعلامي...

ابتداءً من الأراجوز وانتهاءً بالمسرح القومي ومهرجانات السينما.

ابتداءً من المنولجست132... وانتهاءً بأرقى القصائد التي جعلت السد معجزة عبد الناصر... معجزة ليس لها أنبياء133.

ثم إثبات النبوة لصاحب المعجزة التي ليس لها أنبياء على لسان القبيح قباني، حيث قال في عزاء جمال بعد أن نفق: قتلناك يا آخر الأنبياء.

نحن الآن في مصر سنة 1965:

- شباب صغير السن يأخذ على عاتقه الدعوة إلى الله.

- نشأت هذه الفكرة عنده دون أن يكون له نماذج يقتدي بها، وإخوة كبار ينصحونه.

كان اتجاه الحكم الناصري نحو الإخوان أو بقايا الإخوان في السجون.

كانوا لا يتصورون أنه من الممكن أن يكون هناك دعوة إلا من خلال الإخوان، والإخوان في السجن... انتهت المشكلة.

- عدم رغبة صلاح نصر في التعامل مع الأحداث التي كانت بعد القضاء على الإخوان بشيء من الاهتمام وعدم الرغبة في تصعيدها إلى رجال السلطة بعد إعطائهم تقريرًا بأنهاء المشكلة بعد مذابح الإخوان.

كما أن ارتكاز الدعوة في البداية على أفكار بعيدة عن فكرة الوصول للسلطة أحدث نوعًا من الاستهانة بالدعوة.

حيث بدأت الدعوة بالاهتمام بأحكام الهدي الظاهر (اللحية – الحجاب) من ناحية... ومن ناحية أخرى ظهرت فكرة العزلة والهجرة، وكلها أفكار بعيدة عن المواجهة.

كما أنه لم يكن هناك أجهزة أمنية تابعة للداخلية بمعنى الكلمة، بل كانت مكاتب مهملة تابعة للأقسام، وقد كانت المخابرات العامة هي المكلفة فعلاً بمواجهة الدعوة الإسلامية.

مما جعل هذا الجهاز بعد أحداث 15 مايو 1971 فرصة أمنية هائلة للحركة، حيث كانت أمن الدولة أجهزة بسيطة لا قيمة لها.

التحليل: الدعوة قضية فطرية وليست قضية تلقين...

الغباء غير الطبيعي من جانب الحكم الناصري...

قدر الله الغالب على أمره...

صغر سن الشباب خفف من التركيز الأمني عليهم.

صغر سن الشباب جعله متحمساً وخصوصاً أنه لم يقاس من أهوال الفترة الناصرية.

الرغبة الجامحة في القضاء على الحكم الناصري كرد فعل نفسي لأهوال الناصرية...

وكرد فعل للخوف من تكرار هذه الأهوال معهم.

النكسة:

هزيمة 67: التخفيف من وطأه القهر الناصري للشعب الذي حقق للدعوة فرصة حركية أوسع بين الناس.

- استغلال الشيوعيين للموقف ومحاولة القضاء على حكم عبد الناصر – هذا الاستغلال الشيوعيين الذي حقق فرصة أكبر للحركة الإسلامية كمواجهة للمد الشيوعي الخطير في مصر.

هزيمة 67: أسقطت الاتجاه الاشتراكي وألجأت الناس إلى ربها حتى ينصرها الله وحدوث موجة تدين طبيعية.

ومات جمال...

وتولى السادات الذي اضطر إلى رفع شعار العلم والإيمان لمواجهة الخطر الشيوعي ولا تزال حركة الشباب صغير السن مجهولة لدى الأمن – ويقرر السادات إعطاء فرصة للاتجاه الإسلامي كمواجهة للشيوعية ولكنه كان يظن أنه سينشئ الرغبة في التحول إلى الاتجاه الإسلامي من أساسها كتصرف سياسي وهو لا يدري أن هناك من سيلتقط فرصة وجوده الغالية.

إن نكسة 67 دليل قاطع على أن العالم لا يسير وفق خطة محكمة لا يخطئ أصحابها.

لأنه لو كان الأمر كذلك لما كانت نكسة 67 أصلاً ولو على الأقل في هذا التوقيت.

لأن هذا التوقيت لم تمت فيه جذور الأصالة الإسلامية بعد...

حتى جاءت النكسة لتتحول أرض مصر إلى تربة خصبة ومناسبة لا متداد وارتفاع هذه الجذور.

مقتل سيد قطب:

من أبرز حقائق الإسلام: حقيقة الشهادة.

وفهم هذا الدين: هو تحقيق مقتضياته وحقائقه.

ومقتضى حقيقة الشهادة: الإخلاص والتزام الحق، ويجمعها في الإسلام: " الاستعداد للموت في سبيل الله ".

لأن هذا الاستعداد يستحيل حدوثه في الواقع إلا بالإخلاص والطاعة، ويصبح الاستعداد للموت أقوى أدلة الحق في واقع صاحب هذا الاستعداد...

ومن هنا جاء معنى الشهادة...

إن صاحب هذا الاستعداد بذاته أقوى دليل على الحق، وتصبح هذه الشهادة أقوى أسباب الفهم الإسلامي على الإطلاق؛ لأن الفهم بالدليل، والشهيد أقوى درجات هذا الدليل.

وهذا مشرك يقتل مسامًا فيقول المسلم وهو يُقتل: الله أكبر... فزت ورب الكعبة. فيسلم المشرك... بعد أن تلقى من المسلم الشهيد الدرس الأخير.

وها هم فتية الدعوة الأوائل يقرأون الظلال قبل قتل سيد قطب، ويمرون عليه دون أن يعيروه أي انتباه... ثم يقتل سيد قطب؛ فيرجعون إليه ويعكفون عليه، ويتحقق أكبر نطاق من الفهم الإسلامي الصحيح في الزمن القريب... ويخدم الدعوة دمُه قبل قلمه، وباختصار شديد: فإن كتابات سيد قطب هي أول الكتابات الحديثة التي تنطبق فيها الشروط الصحيحة لكتابات الحركة الإسلامية.

فكان التواجد السريع للحركة الإسلامية من العناصر التي تترقب فرصتها.

الأمر الذي لم يتوقعه أحد وبأقصى درجات الفهم الصحيح المأخوذة عن كتابات سيد قطب بصفة أساسية.

كل هذه العوامل ساعدت على إنشاء الحركة الإسلامية لتمثل خط الواقع الذي هيأه الله للدعوة ثم يأتي خط التطور الطبيعي للحركة ذاتها.

بدأت مجموعات الشباب تنطلق إلى الدعوة من منطلقات مختلفة حيث لم يكن هناك واقع قائم للدعوة يمكن النسج على منواله أو السير على منهجه...

وكانت المنطلقات التي انطلقت منها الدعوة محددة:

منطلق الجهاد:

وأصحاب هذا المنطلق كانوا يعتبرون أنفسهم امتدادًا طبيعيًّا لتنظيم سيد قطب، حيث كانت القضية هي محاولة قلب نظام الحكم، وكان التأثير الفكري لسيد قطب قد بلغ مداه، فكانت المحصلة هي التجمع على مفهوم الجهاد بعد أن تعامل الإعلام المصري مع أحداث تنظيم ثورة 1965 على أن الجهاد هو الأسلوب الذي انتظمت به الأحداث.

منطلق العزلة:

وأصحاب هذا المنطلق كانوا ممن ارتكز مفهوم الرفض للجاهلية في أذهانهم، وكان السعي إلى موقف الرفض متمثلاً في العزلة موقفًا نفسيًّا تم صياغته بصورة منهجية مناسبة.

منطلق السلفية:

وأصحاب هذا المنطلق جاؤوا كرد فعل لعدم الانضباط الشرعي في منهج الدعوة وتجاوز الاجتهاد العقلي لحدوده في واقع الدعوة إلى درجة أن تكون الصلة بين الحركة والشرع ليست إلا في الانتساب والانتماء والهدف، أما الواقع والأسلوب فكان اجتهاديًّا عقليًّا بحتًا، مما أوجد التوجيه السلفي كمواجهة لهذه الظاهرة.

ثم كان خروج الإخوان من السجون ليتكون منطلق جديد وهو الممارسة الحزبية والنيابية والجماعات الإسلامية في الجامعة والعودة إلى الأساليب التارخية الثابتة للجماعة.

وكان تطور الحركة على مستوى مجموع هذه المنطلقات المختلفة متمثلاً في غيبة فكرة الجهاد والعزلة عن واقع الدعوة ومنهجها غير أن المحاور السابقة الأساسية للحركة تمثلت بصفة أساسية في الجهاد والإخوان والسلفية.

فكرة الجهاد... أعداد معدودة من الأفراد يتبنونها ويقول لسانهم بها...

لا يتجاوزون مرحلة الكلام.

محولات ساذجة... ضرب مولد لأحد الذين يطلق عليهم أولياء... إلقاء قنبلة في أحد الملاهي.

ثم كان تنظيم الفنية العسكرية... مجموعة من الشباب تربوا على فكرة الجهاد ولم يطيقوا تحمل الواقع المحيط بهم، فكان الاتفاق مع صالح سرية... والقيام بعملية الفنية.

وكانت خصائص حركة الفنية:

أنها كانت عقب انتصار حرب أكتوبر؛ الأمر الذي أكد الرفض الإسلامي للواقع رغم النتيجة العسكرية والإعلامية والسياسية التي حققها السادات من حرب أكتوبر.

إلا أنها كانت أول خطة تدخل حيز التنفيذ رغم أن خطة الفنية جاءت قائمة على فكرة خداعية... وليست على المواجهة العسكرية المباشرة.

إن غالبية العناصر المنفذة كانت طلبة الفنية والطب والهندسة، مما فرض التفسير الإسلامي الصحيح للأحداث والأشخاص الصحيحة والعقيدة الثابتة التي ارتفعت فوق مستوى التفسير الجاهلي الهزيل، والإحصائيات الجاهلية التافهة التي تعتبر هذه الأحداث ناتجة عن أشخاص يعانون من عوامل نفسية معقدة وقاسية.

المنصة - أو أقدار 1401 هجرية -:

هكذا كان السادات قبل قتله يبذل جهدًا هائلاً ضد نفسه، وكانت أيامه الأخيرة داخلة بأحداثها ضمن قدر إلهي بقتله، حتى بدا للجميع قتيلاً يمشي على الأرض... وكان تحرك السادات المكثف هو أبرز العلامات الدالة على الطبيعة القدرية للمنصة.

وكانت قرارات سبتمبر في الابتداء، ومرورًا بالسخرية من النقاب، وسب الشيوخ في الانتهاء، نقاطًا أساسية ثلاث في خط مقتله، وكان رد الفعل لهذا الخط وتلك النقاط هي ذاتها علامة جديدة، وكانت الرغبة في قتله في نفس الشعب، حتى بلغ هذا القتل مبلغ الأمنية الهائلة.

ثم كانت مجموعة العلامات الفردية التي ساهمت كل علامة فيها في تحقيق القدر الإلهي بالقتل، ولعل ما يمكن ذكره:

أن يأمر السادات – ولأول مرة – الحرس الذي كان أمام المنصة بالرجوع خلفها تحسبًا لهجوم متوقع من الخلف.

أن يمرض القائد المعين للطابور ليحل محله ضابط آخر اختار أن يفتش عربة ويترك عربة... ليجيء دور عربة الموت في ترتيب العربات التي لم تفتش.

أن يتوه الإراد المكلفون بإحضار القنابل من الصحراء بعض الوقت؛ فكان هذا التيه سببًا في نجاة هؤلاء الإفراد من أحد دوريات الشرطة التي انتشرت هناك في ذلك الوقت.

أن تنجو سيارة القنابل التي جاء بها المشاركون من حادثة محققة بالاصطدام مع أخرى قبل الدخول إلى القاهرة بوقت قريب، حيث توقفت السيارتان والمسافة بينهما متر واحد.

وتمت العملية في أقل من وقتها المحسوب وبصورة دقيقة جعلت العالم يطمئن إلى أن تمام هذه العملية نتيجة حتمية لمستوى سياسي هائل حُسبت فيه التوقيتات ودُرست فيه الظروف.

ثم كان الإفراج عن جميع القوى السياسية بعد المنصة، مما جعل من الحركة الإسلامية المنقذ العظيم من خطر الاعتقال لهذه القوى جميعها.

مما جعل للحركة الإسلامية محورية الحركة السياسية العامة في مصر، كما أن الجهد المبذول والتضحيات الهائلة من جانب أصحاب الحركة أجبر جميع القوى السياسية في مصر على احترامهم وتقديرهم.

ويضاف إلى ذلك الكيفية الإعجازية التي تمت بها العملية والتي كانت دليلاً في نظر الناس على عظمة التفكير وحكمة التدبير وإحكام العمل ودقة التنظيم... وفوق ذلك وقبل ذلك: " والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون ".

وكنتيجة لأن المنصة قتل فيها رئيس الجمهورية فقد كسر حاجز الخوف من السلطة.

ونتيجة للأسلوب الذي تمت به العملية... فقد أصبح الشخص المسلم بالنظرة الاجتماعية إنسانًا مفكرًا ومخططًا وفدائيًّا عظيمًا، بل أصبح نموذجًا اجتماعيًّا.

ونتيجة لمجموع هذه النتائج اتسع نطاق الانتساب للدعوة، وزاد عدد الملتزمين والمتعاطفين معها.

ولكن...

للجاهلية موقف تقليدي ثابت عند هزيمة أي عنصر من عناصرها:

- التبرؤ من المهزوم حتى لا تهبط الجاهلية إلى مستوى العنصر المهزوم...

- تأكيد النصح له وعدم استجابته للحفاظ على المستوى السياسي للجاهلية وعدم سقوطه مع العنصر الساقط...

- إدخال احتمالات غائبة في الموقف لتقليل التجاوب مع الحدث... وتضييع أثره السياسي.

ولعل أبرز هذه الاحتمالات الخاصة بالمنصة هو القول بأن أمريكا هي التي قتلته بعد انتهاء الاستفادة منه، وكتاب " خريف الغضب " هو أول من ترك مساحة فارغة للاحتمالات الخفية وراء الحادث، ولكن بمرور الوقت سيصبح من المناسب طرح التفسير المباشر للحادث كما يطرحه أعداء الدعوة، وسيكون أحد هذه الاحتمالات؛ وذلك حتى يكون الواقع أكثر تقبلاً لهذه الاحتمالات بقلة عدد الذين فعلوا الحادث أو عايشوه.

==============

#شخصية الرسول وأثره

للدكتور / مصطفى السباعي

أن محمد الرسول صلى الله عليه وسلم فلن يفكر أحد أن يكون مثله أو قريباً منه ، في إشراق روحه ، واتصاله بالملأ الأعلى ،يتلقى الوحي ، ويتنزل عليه الهدى آيات بينات ! لن يصل أحد إلى هذا ولا إلى قريب منه ، لأن الله ختم بنبوته النبوات، وبشريعته الشرائع ..

إن محمد الإنسان ، فهو هو الذي يحرص كل مسلم على أن يكون ظله في الأرض ، يتخلق بخلقه ، ويهتدي بهديه ، ويأتي به في صبره وجهاده وزهده وعبادته وتضحيته وإيثاره ومأكله وملبسه ، وما أعتقد أن الله أكرم رسول الله الإنسان بمدع أعلى من هذا المدح ( وإنك لعلى خلق عظيم ) سورة القلم .

تعال بنا لنتخطى أسوار الزمن حتى نصل إلى عتبه " محمد الرسول الإنسان " فنرى روح الحياة السارية المشرقة في مجتمع فاض بالبطولات والمروءات ، حتى يكاد تاريخه يلتحق بالأساطير ، لولا أنه حق لا مرية فيه ، وصدق لا كذب معه .

أوصافة الخلقية :

قالوا في أوصافه على الصلاة والسلام إنه كان : ظاهر الوضاءة ، متبلج الوجه(مشرقه) ، له نور يعلوه ، إذا زال زال تقلعاً(رفع الرجل بقوة ) ، يخطو تكفياً ( يميل إلى سنن المشي وقصده )ويمشي هوناً(الوقار ) ، ذريع المشية (واسع الخطو) كأنما ينحط من صبب ( العلو) ، خافض الطرف ، نظره إلى الأرض أطول من نظره إلى السماء ، جل نظره الملاحظة ، يمشي وراء أصحابه ، ويبدر(يبدأ ) من لقي بالسلام دائم الأحزان ، متواصل الفكرة ، ليست له راحة ، طويل السكت ، لا يتكلم في غير حاجة ، يفتتح الكلام ويختمه باسم الله ، وإذا تكلم أعاد الكلام ثلاثاً ليفهم عنه ، كلامه فصل لافضول ولا تقصير ، أوتي جوامع الكلم ، واختصرت له الحكمة اختصارا ليس بالجافي ولا المهين ، يعظم النعمة وإن دقت ، لا يذم منها شيئاً غير أنه لم يكن يذم ذواقا( طعاماً ) قد ولا يمدحه ، ولا تغضبه الدنيا ولا ما كان لها ، فإذا تعدي الحق لم يقم لغضبه شيء حتى ينتصر له ، ولا يغضب لنفسه ولا ينتصر لها ، وإذا غضب أعرض وأشاح ، وإذا فرح غض طرفه ، جل ضحكه التبسم ، إذا نطق فعليه البهاء ، وإذا صمت فعليه الوقار ، أزين الناس منظراً وأحسنهم وجهاً ، وأجودهم وأسخاهم نفساً ، يعضي عطاء من لا يخشى الفقر ، وما سئل عن شيء قط فقال : لا ، وما خُيّر بين أمرين إلا أختار أيسرهما ما لم يكن إثما .

تقول عائشة رضي الله عنها في مجامع خلقه : كان خُلُقه القرآن .

ويقول على رضي الله عنه في وصف شخصيته : من رآه بديهة هابه ، ومن خالطه معرفة أحبه .

معيشته في نفسه :

كان لا يتكلف في لباس ولا طعام ، يلبس ما يتيسر ,وأكثر لبسه المعتاد من لباس الناس وكان يلبس جيد الثياب إذا اقتضى الأمر لمقابلة وفود ، أو لمناسبة عيد ، وكان يأكل ما يجده ، فإن وجد اللحم والحلوى أكل ، وإن لم يجد إلا الخبز والزيت أو الخل أكل ، وإن لم يجد ما يأكله بات طاوياً ، وربما شد على بطنه الحجر من شدة الجوع . وكان ينام على فراض من جلد حشوه ليف ، ويجلس على الحصير وينام عليها كثيراً

معيشته في بيته :

كان حلو المعاشرة لزوجاته ، كثير المسامرة لهن ، متحملا لأخلاقهن ، وخاصة غيرتهن وكان يقول " خيركم خيركم لأهله " .

وكان نساؤه يحتملن منه شدة الحال وخشونة العيش ، وكان يسره ذلك منهن ،فلما فكرن يوما أن يطلبن منه التوسعة والزينة والمطعم ، شق ذلك عليه وهجرهن شهراً لا يكلمهن ، ثم نزل قوله تعالى } يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لِّأَزْوَاجِكَ إِن كُنتُنَّ تُرِدْنَ

الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ

سَرَاحًا جَمِيلًا {28} وَإِن كُنتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ

الْآخِرَةَ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنكُنَّ أَجْرًا عَظِيمًا {29}

فلما نزلت هاتان الآيتان خيّر نساءه وبدأ بعائشة وقال لها " ما أحب أن تختاري حتى تستأمري أبويك " ثم تلا عليها الآيات وفيها التخيير بين ا، تبقى عنده على شظف العيش وخشونة الحياة ، وبين أن يفارقها ويمتعها متاعا جميلا ، فكان جوابها على الفور : أفيك أستأمر أبوي ؟ بل أختار الله ورسوله والدار الآخرة ! وكذلك فعل بكل واحدة من نسائه على انفراد فكان جوابها كجواب عائشة ، وهي لا تعلم بما أجابت به غيرها .

وظل هكذا شأنه مع نسائه من التقشف وخشونة العيش حتى توفاه الله .

تقول السيدة عائشة رضي الله عنها : ما شبع آل محمد يومين من خبز بر ، ولقد كنا نمكث الشهر والشهرين لا يوقد في بيتنا نار ، وكان طعامنا إلا التمر والماء ، ولقد توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وما في بيتنا شيء يأكله ذو كبد ، إلا كسرة خبز من شعير على رف لي وقال أنس : رهن النبي صلى الله عليه وسلم درعاً له على شعير يأخذه لطعام أهله .

عمله في بيته :

سئلت عائشة رضي الله عنها : ماذا كان يعمل رسول الله صلى الله عليه وسلم لفي البيت ؟ فقالت : كان بشراً من البشر ، يخصف نعله ، ويرقع ثوبه ، ويحلب شاته ، ويعمل ما يعمل الرجل في بيته ، فإذا حضرت الصلاة خرج .

معاملته لأصحابه :

1. يقول أنس خادم رسول الله صلى الله عليه وسلم : خدمت النبي عشر سنين فما قال لي أف قط ، ولا قال لشيء صنعته : لِمَ صنعته ؟ ولا لشيء تركته : لم تركته ؟ وكان لا يظلم أحداً أجره .

2. وقالت عائشة رضي الله عنها : ما ضرب شيئاً قط ، ولا ضرب امرأة ولا خادماً .

3. وقال أبو هريرة رضي الله عنه : دخلت السوق مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ليشتري سراويل ، فوثب البائع إلى يد النبي صلى الله عليه وسلم ليقبلها فجذب يده ، ومنعه قائلا له : " هذا تفعله الأعاجم بملوكها وليست بملك ، إنما أنا رجل منكم " ثم أخذ السراويل فأردت أن أحملها فأبى وقال : " صاحب الشيء أحق بأن يحمله "

4. وكان عليه الصلاة والسلام مرة في سفر مع جماعة فلما حان موعد الطعام ، عزموا على إعداد شاة يأكلونها . فقال أحدهما : علي ذبحها . وقال الآخر : علي سلخها . وقال الثالث : علي طبخها فقال النبي عليه السلام : " وعلي جمع الحطب !" فقالوا : يا رسول الله ، نحن نكفيك العمل فقال :" علمت أنكم تكفونني ، ولكنني أكره أن أتميز عليكم ، وأن الله سبحانه وتعالى يكره من عبده أن يراه مميزا بين أصحابه "

5. جاء رجل من الأنصار يكنى أبا شعيب فقال لغلام له قصاب : اجعل لي طعاماً يكفي خمسة ، فإني أريد أن أعود النبي صلى الله عليه وسلم خامس خمسة ، فإني قد عرفت في وجهه الجوع ، فدعاهم ، فجاء معهم رجل ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم لصاحب الدعوة : " إن هذا قد تبعنا فإن شئت أن تأذن له فأذن له ، وإن شئت أن يرجع رجع فقال الأنصاري : لا بل أذنت له .

6. وكان من عادته صلى الله عليه وسلم مع أصحابه أنه يقبل معذرة المسيء ولا يجابه أحدا بما يكره ، وإذا بلغه عن أحد شيء يكرهه نبّه على خطئه بقوله : " ما بال أقوام يفعلون كذا " دون أن يذكر اسمه .

7. ولم يكن يجب أن يقوم له أحد ،وكان يجلس حيث انتهى به المجلس وينزل إلى أسواقهم فيرشدهم إلى الأمانة وينهاهم عن الخداع والغش في المعاملات .

8. وكان من عادته أن يبش إلى كل من يجلس إليه حتى يظن أنه أحب أصحابه إلى قلبه .

9. ويقرب إليه ذوي السبق في الإسلام والجهاد ولو كانوا غمار الناس .

10. ويستشر أولي الرأي فيما هو من شؤون السياسة أو الحرب أو أمور الدنيا ، وينزل عند آرائهم ولو خالفت رأيه كما حصل في معركة بدر وغيرها

خشيته وعبادته :

كان صلى الله عليه وسلم كثير المراقبة لله عز وجل ، واسع الخشية منه ، عظيم العبادة له ، في الليل متهجداً راكعاً ساجداً حتى تتورم قدماه ، وتفيض عيناه بالدمع من خشية الله حتى يسمع لصدره أزيز كأزيز الرجل من البكاء ، فتقول له في ذلك السيدة عائشة رضي الله عنها : أتفعل ذلك يا رسول الله وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر ؟ فيجيبها : " أفلا أكون عبداً شكورا ؟! ..." .

وكان كثير اللهج باسم الله عز وجل فإذا أكل أو شرب أو قام أو قعد أو ابتدأ شيئاً ، أو فعل أمراً بدأ ذلك كله بسم الله الرحمن الرحيم ، وإذا اختتمه اختتمه بالحمد لله رب العالمين .

وكان لا يفتر من الدعاء لربه . ومن دعائه عليه الصلاة والسلام " اللهم إني أعوذ بك من علم لا ينفع ، وعمل لا يرفع ، ودعاء لا يسمع " .

" اللهم إني أسألك من الخير كله ، ما علمت منه وما لم أعلم وأعوذ بك من الشر كله ، ما علمت منه وما لم أعلم " .

" اللهم أحسن عاقبتنا في الأمور كلها وأجرنا من خزي الدنيا وعذاب الآخرة " .

"اللهم إني أعوذ بك من زوال نعمتك وتحول عافيتك وفجاءة نقمتك وجميع سخطك " ."اللهم إني أعوذ بك من منكرات الأخلاق والأعمال والأهواء والأدواء " .

ولما كذبته ثقيف في الطائف ، وآذته وأغرت به سفهاءها يرجمونه بالأحجار حتى دميت قدماه ، اتجه إلى الله خالقه ، بهذا الدعاء الرهيب : " اللهم إني أشكو إليك ضعف قوتي ، وهواني على الناس ، يا أرحم الراحمين إلي من تكلني ، إلى عدو يتجهمني ، أم إلي قريب ملكته أمري ؟ إن لم تكن ساخطاً علي فيا أبالي ، غير أن عافيتك أوسع لي ، أعوذ بنور وجهك الذي أضاءت له السماوات والأرض وأشرقت له الظلمات ، وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة ، أن تحل علي غضبك ، أو تنزل علي سخطك ، ولك العتبى حتى ترضى ، ولا حول ولا قوة إلا بك " .

رياضته ونظافته :

ومع هذه العبادة ، وذلك التضرع والبكاء ، كان طيب النفس متفتحاً للحياة ، يتسابق مع عائشة ، ويتصارع مع ركانة ، ويشهد لعب الحبشة في أعيادهم ،و وعنى بلباسه ونظافته ، فهو كثير الاغتسال ، كثير الادهان بالطيب ، إذا مر من طريق يعرف الناس أنه قد مر به لما يجدون من طيبه ، ,إذا صافحه المصافح يظل يجد أثر الطيب في يده ثلاثة أيام ، وكان لا يفارقه في حضره وسفره مشطه ومقصه ومرآته ومكحلته .

وبهذا يفترق الأمر كثيراً عن معنى الدين والتعبد في الديانات الأخرى إذا يعتبرون من مآثر القديس عندهم أنه لم يقرب جسمه الماء طيلة حياته !.

كما يفترق عن عادة الغربيين في هذه الأزمان إذ رأيناهم يعيبون على الرجل أن يدهن بالطيب فتفوح رائحته الطيبة منه ، ولله في خلقه شؤون ! .

مزاحه ودعابته :

ومما يتصل بطيب النفس ، حب الدعابة البريئة ، والمزاح مع الأصحاب والمترددين عليه ، فقد كان صلى الله عليه وسلم يحب الدعابة ويبتسم للنكتة اللطيفة ،ويمازح أصحابه ويداعبهم بالنكات اللطيفة .

1- جاءته امرأة عجوز تطلب إليه أ، يدعو الله لها بدخول الجنة ، فقال لها مداعباً :" أو ما علمت أن الجنة لا تدخلها عجوز؟ " فولت تبكي فقال : " ردوها ،أما قرأت قوله تعلى : } إِنَّا أَنشَأْنَاهُنَّ إِنشَاء {35} فَجَعَلْنَاهُنَّ

أَبْكَارًا {36} عُرُبًا أَتْرَابًا {37}

2- وجاءته امرأة من الأنصار تشكو إليه زوجها .

فقال : " أزوجك الذي في عينه بياض ؟ " فجزعت إذ طنت أن بعينه عيباً لم تطلع عليه ، فأفهمها أ، كل إنسان في عينه بياض حول المقلة .

3- وجاءه أعرابي يسأله أن يمنحه ناقة يركب عليها في سفره فقال له : " أنا حاملك على ولد ناقة! "

فقال : وما أصنع به يا رسول الله ؟

فقال : " وهل تلد الإبل إلا النوق ؟ " .

تواضعه وسماحته :

وقد رأيت فيما مرّ معك من معاملته لأصحابه أنها معاملة نبي كريم ، وزعيم محبوب متواضع ، وإنسان عظيم استمد عظمته من خصائصه لا من جاهه ولا من نفوذه .

ومما يروع في سيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه ظل هو الإنسان المتواضع تواضع الأنبياء العظماء في مختلف مراحل دعوته ، حين كان مضطهداً ،و حين كل منتصراً ، وحين كان وحيداً ، وحين كان سيد الجزيرة العربية المطاع ، حين كان في أشد المحن ، وحين كان في أوج المجد والانتصار ..وما عهدنا بمثل هذا في تاريخ العظماء .. وما كان محمد عظيماً فحسب ولكنه رسول الله أيضاً ..

يوم فتح الله له مكة ، وانهزمت أمام جحافل جيوشه قريش الطاغية الباغية التي ناصبته العداء نحواً من عشرين عاما ، دخل مكة على جمل له ، مطأطئ الرأس خضوعا لله وشكراً . وجاءة الرجال خائفين ، وفيهم رجل ترتعد فرائصه ، فقال له : " هون عليه إنما إنا ابن امرأة من قريش كانت تأكل القديد ! " ( اللحم المقدد ) .

وظل رسول الله يستمع إلى العبد والعجوز والأرملة والمسكين . يقف في الطريق لكل من يستوقفه ، ويصافح كل من يلقاه ، فلا يترك يده حتى يكون الذي استوقفه هو الذي يترك يده ، يتفقد أصحابه ، ويزور مرضاهم ويشهد جنائزهم ، ويستمع إلى مشاكلهم ، ويشاركهم أحزانهم وأفراحهم.

رحمته وشفقته :

كان صلى الله عليه وسلم واسع الرحمة بالأطفال والنساء والضعفاء .

سمع بكاء صبي وهو في الصلاة فخفف صلته كيلا تفتن أمه التي كانت تصلي وراءه.

ومرّ بعد انتهاء إحدى المعارك بجثة امرأة مقتولة فغضب وقال : " ألم أنهكم عن قتل النساء ؟ ما كانت هذه لقاتل !" .

وبلغت رحمته بالحيوان حداً عجيباً فقد أصغى الإناء إبى هرة أرادت الشرب ...

ورأى جملاً هزيلا فقال :

"أتقوا الله في هذه البهائم ، أطعموها واركبوها صالحة ..." .

وبلغت معاملته للأرقاء ، ووصاياه فيهم حداّ لم يعرفه التاريخ وكل ذلك دليل على ما فاضت به نفسه الكبيرة من معاني الرحمه والشفقة .

مشاركته لآلام الشعب :

اشتكت إليه فاطمة بنته ما تلقاه من أعمال البيت من شدة وعناء ، وطلبت إليه أن يخدمها خادماً ، فرفض عليه السلام ذلك وقال لها " لا أعطيك أدع أهل الصفة –وهم جماعة من الفقراء – تطوي بطونهم من الجوع " .

وذهبت أم الحكم بنت الزبير وأختها فاطمة تسألان النبي صلى الله عليه وسلم معونة على أعمالهما البيتيةفقال لهما : " سبقكما يتامى بدر " .

وأتى النبي صلى الله عليه وسلم بيت فاطمة لزوره ، ثم عدل فلم يدخل عليها ، فبعثت علياً ليسأل عن سبب عدوله عن زيارتها ، فأجابه الرسول : " إني رأيت على بابها ستراً موشياً !" فعاد علي إلى فاطمة فأخبرها الخبر ، فقالت فاطمة : ليأمرني فيه بما شاء ، فقال عليه السلام " لترسلي به إلى فلان أهل بيت بهم حاجة " .

وأراد زيارتها مرة أخرى فعاد كذلك دون أن يدخل عليها ، فأرسلت تسأله عن سر ذلك أيضاً ، فأجابها : " إني وجدت في يدها سوارين من فضة " ،فبلغها ذلك فأرسلتهما إليه ، فباعهما النبي صلى الله عليه وسلم بدرهمين ونصف ، وتصدق بهما على الفقراء .

وتستعر هنا بيان أديب العربية الكبير المرحوم مصطفى صادق الرافعي ليعلق على هذه الحادثة فيقول : ( يا بيت النبي العظيم ! وأنت أيضا لا يرضى لك أبوك حلية بردهيمن ونصف وإن في المسلمين فقراء لا يملكون مثلها ؟!

أي رجل شعبي على الأرض كمحمد صلى الله عليه وسلم فيه للأمة كلها غريزة الأب وفيه على كل أحواله اليقين الذي لا يتحول ، وفيه الطبيعة التامة التي يكون بها الحقيقي هو الحقيقي ؟

يا بنت النبي العظيم ! إن زية بدرهمين ونصف لا تكون زينة في رأي الحق إذا أمكن أن تكون صدقة بدرهمين ونصف ! إن فيها حينئذ معنى غير معناها ! فيها حق النفس غالبا على حق الجماعة ، وفيها الإيمان بالمنفعة حاكما على الإيمان بالخير وفيها خطأ من الكمال ، إن صح في حساب الحلال والحرام ، لم يصح في حساب الثواب والرحمة .

تعالوا أيا الاشتراكيون فاعرفو نبيكم الأعظم ! إن مذهبكم ما تحيه فضائل الإسلام وشرائعه – إن مذهبكم لكالشجرة الذابلة تعلقون عليها الأثمار تشدونها بالخيط ، كل يوم تحلون ، وكل يوم تربطون ولا ثمرة في الطبيعة

ونحن أيضا نتساءل : أي زعيم من زعماء الدول الاشتراكية في عصرنا الحديث تؤثر عنه مثل هذه الحادثة وأمثالها ؟! .

زهده في الدنيا :

دخل عليه عمر رضي الله عنه يوماً فرآه على حصير فد أثر في جنبه ورفع رأسه في البيت فلم يجد إلا إهاباً معلقاً ( الإهاب كيس من جلد ) وقبضة من شعير وحصيراً تكاد تبلى ، فبكى عمر .

فقال له : " ما يبكيك يا ابن الخطاب ؟ " .

قال عمر : يا نبي الله ! وما لي لا أبكي ، وهذا الحصير قد أثر في جنبك ، وهذه خزائنك لا أرى فيها إلا ما أرى ، وذاك كسرى وقيصر ، في الثمار والأنهار ، وأنت نبي الله وصفوته ؟

فقال عليه السلام : " أفي شك أنت يا ابن الخطاب ؟ أولئك قوم عجلت لهم طيباتهم في الحياة الدنيا " . ودخل عليه ابن مسعود رضي الله عنه مرة فرآه على تلك الحال .

فقال له : يا رسول الله ألا آذنتنا (أعملتنا) حتى نبسط لك على الحصير شيئاً ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ما لي وللدنيا ؟ إنما مثلي ومثل الدنيا كراكب ظل تحت شجرة ثم راح وتركها " .

نفقاته وصدقاته :

وكان صلى الله عليه وسلم كثير النفقات والصدقات ، لا يدخر مالا ولا متاعا ، وكثيراً ما يستدين لينفق على بعض ذوي الحاجات ، وهو يعطي عطاء من لا يخشى الفقر كما قدمنا ، وقد توفي وليس عنده درهم ولا دينار ، وقد أوقف كل أرض كانت قد صارت إليه من الغنائم ، وفي ذلك يقول الحديث المشهور الذي خفي على بعض الطوائف سر روعته ودلالته على صدق نبوته وإخلاصه في رسالته : " نحن معاشر الأنبياء لا نورث ما تركناه صدقه " .

جاءه مرة مال كثير فأنفقه إلا بعضة دريهمات استبقاها ، إذ لم يجد لها طالباً ، فما عرف تلك الليلة النوم قلقاً مما بقي عنده ، وما كاد يصبح الصباح حتى سارع إلى إنفاقها .. وهكذا صح فيه قول صحابته : كان أجود ..الريح المرسلة .

عدله وشدته في الحق :

وكان لا يعرف في الحق صديقاً ولا قريباً فالكل عنده سواء ، والجميع مسؤولون عن أعمالهم أمام الله وأمام الشريعة :

سرقت امرأة من نبي مخزوم حلياً أو متاعاً ، ورُفع أمرها إلى النبي صلى الله عليه وسلم فاعترفت بالسرقة ، فخشي قومها أن ينفذ الرسول عقوبة السارق فيفتضحوا ، وجاؤوا إلى أسامة بن زيد – وكان معروفاً بحب النبي صلى الله عليه وسلم له ولأبيه زيد –وكلموه في أن يشفع للمرأة أن لا ينفذ فيها العقوبة ، فكلم رسول الله في ذلك فغضب عليه الصلاة والسلام وقال له : " أتشفع في حد من حدود الله " ثم جمع الناس فخطب فيهم فقال : " يا أيها الناس .. إنما أهلك من كان قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه ، وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد ، وايم الله لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطع محمد يدها " .

شجاعته في الحروب :

ومن كمال هذه الصورة العجيبة في اكتمالها ، شجاعته صلى الله عليه وسلم في الحرب ، فقد كان يقود الجيوش ، ويخوض المعارك ، ويحرض على القتال في سبيل الرسالة التي يحملها وآمن بها ، ولم يعرف عنه نكوص في معركة ولا فرارفي موقعة ، بل نجده في معركة أحد – وقد انهزم أكثر المسلمين – ثابت الجنان يتلى سهام الأعداء وهو واقف يقاتل ويناضل . وفي معركة حنين إذ فر عنه أكثر الناس وقف على بغلته وهو يقول : " أنا النبي لا كذب أنا ابن عبدالمطلب " .

وفي شجاعته يقول علي رضي الله عنه وهو البطل المقدام : كنا إذا احمرت الحدق ، وحمي الوطيس ( أي اشتدت الحرب ) نلوذ برسول الله صلى الله عليه وسلم فما يكون أحد أقرب إلى العدو منه .

حرصه على آداء رسالته :

لم يترك رسول الله صلى الله عليه وسلم وسيله لتبليغ رسالته إلى الناس إلا سلكها ، ولم يترك خصومه وسيلة لحمله على ترك دعوته إلا سلكوها ، ولكنه ثبت رغم كل إغراء وتهديد بالقتل والاغتيال ،وقال لعمه أبي طالب قولته المشهورة : " والله يا عم ! لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في يساري على أن أترك هذا الأمر حتى يظهره الله أو أهلك دونه ما تركته " . ولما شج وجهه صلى الله عليه وسلم في معركة ( أحد ِ) وكسرت رباعيته ( السن المجاور للناب ) قيل له لو دعوت عليهم ؟ ... فقال : " إني لم أبعث لعاناً ، ولكني بعثت داعياً ورحمة ، اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون " .

الرسول الكامل :

ذلك نمط من أخلاقه صلى الله عليه وسلم نلمح منها حقيقة شخصيته ، ولسنا نفيض في بقية أخلاقة ، من وفائه وأمانته ، وحيائه ، وإخلاصه ، وصدقه ، وعفافه ، وحسن سياسته وجميل جواره ، وفصاحته ، وغير ذلك مما فاضت به كتب السيرة والتاريخ . فنحن هنا – كما قلت نضرب الأمثال ولا نستقصي ، ولكني أختم هذا الحديث بالإشارة إلى ما كان لهديه في إرشاد قومه من أثر في توجيههم نحو الخير والحق والكرامة والسعادة .

الرسول المعلم :

حياة الرسول صلى الله عليه وسلم كلها إرشاد وهداية وتعليم ، وخاصة ما كان من أقواله عليه الصلاة والسلام التي قصد بها التشريع والهداية ولذلك كانت خصائصه وصفاته التي ذكرنا طرفاً مها آنفاً مدرسة يتعلم فيها أصحابه طرازاً جديداً من الحياة ، ومقياساً جديداً من المفاهيم كان له أكبر الأثر في قيام الدولة الإسلامية والمجتمع الإسلامي ونشوء الفرد المسلم ً في الجو الاشتراكي الذي أوضحنا معالمه في كتابنا " اشتراكية الإسلام " .

ونحن هنا نريد أن نذكر نموذجاً من تعليمه لأصحابه نعلم منه كيف كان يوجه ذلك المجتمع الجديد العهد بالإسلام ، والقريب العهد بالجاهلية ، توجيهاً بناء إيجابياً نحو الاشتراكية العاملة العابدة المتعاونة البارة الكاملة ..

1. جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم يريد الجهاد ،فقال : " أحيّ والداك ؟ " فقال : نعم ، فقال له الرسول : " ففيهما فجاهد " .

2. قَّل رسول الله صلى الله عليه وسلم الحسن بن علي ، وعنده الأقرع بن حابس التميمي جالس فقال الأقرع : إن لي عشرة من الولد ما قبَّلت منهم أحداً ، فنظر إليه رسول الله صلى اللهعليه وسلم  ثم قال : " من لا يَرحم لا يُرحم " .

3. جاءت امرأة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت : يارسول الله ! إنا لا نقدر عليك في مجلسك فواعدنا يوماً نأتك فيه فقال ِ: " موعدكن بيت فلان " فجاءهن لذلك الوعد ، وكان فيما حدثهن : " ما منكن امرأة يموت لها ثلاث من الولد فتحتسبهم إلا دخلت الجنة " فقالت امرأة : واثنان ؟ قال : " واثنان" .

4. كان رسول الله صلى الله عليه وسلم مع أصحابه فقال لهم : " أيكم مال وارثه أحب إليه من ماله ؟ " قالوا : يا رسول الله ! ما منا أحد إلا ماله أحب إليه من مال وارثه فقال صلى الله عليه وسلم : " مالك ماقدمت ، وما وارثك ما أخرت" .

5. عن أبي مسعود قال : كنت أضرب غلاماً لي فسمعت من خلفي صوتاً : " اعلم أبا مسعود ! الله أقدر عليك منك عليه " ، فالتفت فإذا هو رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قلت : يا رسول الله ! هو حر لوجه الله ! فقال : " أما إنك لو لم تفعل لمستك النار " أو للفحتك النار .

6. مرّ النبي صلى الله عليه وسلم بدابة قد وسم يدخن منخراه ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم " لعن الله من فعل هذا ، لا يَسِمن أحد الوجه ولا يضربنه " .

7. وقال عليه الصلاة والسلام : " إذا جاء أحدكم خادمه بطعامه فليجلسه معه فإن لم يقبل فليناوله منه " .

8. وقال أيضا : " لا يقل أحدكم " عبدي ، أمتي ، كلكم عبيد الله وكل نسائكم إماء الله وليقل : غلامي ، جاريتي ، وفتاي ، وفتاتي " .

9. سئل النبي صلى الله عليه وسلم : أي الأعمال خير ؟ قال : " إيمان بالله وجهاد في سبيله " ،قيل : فأي الرقاب أفضل ؟ ( أي في العتق ) . قال : أفرأيت إن لم أستطع بعض العمل ؟ قال : "فتعين صانعاً ، أو تصنع لأخرق (هو الذي لا يحسن صنعة) " فيقل له : أفرأيت أن ضعفت ؟ قال : " تدع الناس من الشر فإنها صدقة تصدق بها على نفسك " .

10. قال حرملة بن عبدالله : جئت النبي صلى الله عليه وسلم فقلت : ما تأمرني أعمل ؟ فقال عليه السلام : " ائت المعروف واجتنب المنكر ، وانظر الذي تكرهه أن يقول لك القوم إذا قمت من عندهم فاجتنبه " . قال حرملة : فلما رجعت تفكرت فإذا هما ( أي ائت المعروف واجتنب المنكر ) لم يدعا شيئا.ً

11. خطب رسول الله صلى الله عليه وسلم يوماً بالصحابة فقال :" أيها الناس ! اتقوا الظلم فإن الظلم ظلمات يوم القيامة ، واتقوا الشح فإن الشح أهلك من قبلكم وحملهم على أن سفكوا دماءهم واستحلوا محارمهم " وفي رواية أخرى زيادة : " وإياكم والفحش فإن الله لايحب الفاحش المتفحش " .

12. عن عائشة بنت سعد أن أباها قال : اشتكيت بمكة شكوى شديدة ( مرضاً شديداً ) فجاء النبي صلى الله عليه وسلم يعودني . فقال : يار سول الله ! إن أني أترك مالاً ، وإني لم أترك إلا ابنة واحدة ، أفاوصي بثلثي مالي وأترك الثلث ؟ قال : " لا " . قال : أوصي بالنصف وأترك لها النصف؟ قال : " لا " قال " أوصي بالثلث وأترك الثلثين . فقال : " الثلث والثلث كثير . إنك تدع ورثتك أغنياء خير من أن تدعهم عالة يتكففون الناس " .

13. وكان مما قله لأبي ذر : " إفراغكم من دلوك في دلو أخيك صدقة ، وأمرك بالمعروف ونهيك عن المنكر صدقة ، وتبسمك في وجه أخيك صدقة ، وإماطتك الحجر والشوك والعظم عن الطريق الناس لك صدقة ، وهدايتك الرجل في أرض الضالة صدقة " .

14. مرّ رجل على النبي صلى الله عليه وسلم ومعه بعض الصحابة فرأى أصحابه من جلده ونشاطه ما أعجبهم . فقال : يارسول الله ! لو كان هذا في سبيل الله ! فقال عليه السلام : " إن كان خرج يسعى على ولده صغاراً فهو في سبيل الله ، وإن كان خرج يسعى على أبوين شيخين كبيرين فهو في سبيل الله ، وإن كان خرج يسعى على نفسه يعفها فهو في سبيل الله ، وإن كان خرج يسعى رياء ومفاخرة فهو في سبيل الشيطان " .

15. وجاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يسأله شيئاً من المال وهو قوي معافى ، فقال له الرسول : " أما في بيتك شيء ؟ " قال : بلى ! حلس (كساء غليظ ممتهن ) نلبس بعضه ، ونبسط بعضه وقعب نشرب فيه من ماء . فقال رسول الله : " ائتني بهما " ، فأتها بهما فأخذهما رسول الله صلى اللهعليه وسلم  بيده وقال : " من يشتري هذين ؟" قال رجل : أنا آخذهما بدرهم ، قال الرسول : " من يزيد على درهم ؟ ) (مرتين أو ثلاثاً ) قال رجل : أنا آخذهما بدرهمين ، فأعطاهما إياه وأخذ الدرهمين فأعطاهما الأنصاري وقال له : " اشتر بأحدهما طعاماً فانبذه إلى أهلك ، واشتر بالآخر قدوماً فائتني به " ، فأتاه به فشد فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم عوداً بيده ثم قال : " إذهب فاحتطب ولا أرينك خمسة عشر يوماً " ، ففعل ، فجاء وقد أصاب عشرة دراهم ، فاشترى ببعضها ثوبا وببعضها طعاماً ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" هذا خير من أن تجيء المسألة نكتة في وجهك يوم القيامة ، إن المسألة لا تصلح إلا لثلاث : لذي فقر مدقع أو لذي غرم مفظع ، أو لذي دم موجع " .

16. وسأل رجل رسول الله صلى الله عليه وسلم : أي الإسلام خير ؟ فقال : " تطعم الطعام وتقرأ السلام على من عرفت ومن لم تعرف " .

17. وبينما النبي في مجلس يحدث القوم جاءه أعرابي فقال له : متى الساعة ؟ فأجابه : " إذا ضيعت الأمانة فانتظر الساعة " . قال : كيف إضاعتها ؟ قال : " إذا وسد الأمر إلى غير أهله فانتظر الساعة "

18. جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : " يار سول الله ! ما القتال في سبيل الله ؟ فإن أحدنا يقاتل غضباً ويقاتل حمية ، فقال :" من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو سبيل الله عز وجل " .

19. عن أسماء بنت يزيد قالت : دخلت أنا وخالتي على النبي صلى الله عليه وسلم وعلينا أسورة من ذهب فقال لنا : " أتعطيان زكاته ؟ " قالت : فقلنا : لا فقال : "أما تخافان أن يسوركما الله أسورة من نار ؟ أديا زكاته "

20. جاء رجل إلى مسجد النبي صلى الله عليه وسلم فلما نزل عن ناقته سأل الرسول : أأطلق ناقتي وأتوكل ؟ فقال عليه السلام : " اعقلها (أي أربطها ) وتوكل " .

21. عن أبي بشر قَبِيصة بن مخارق قال : تحملت حمالة (أصلح بين قوم فتحمل ديات قتلاهم ) فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم أسأله فيها ( أي يعطيه ما يعينه على أداء ديات القتلى ) . فقال الرسول : " أقم حتى تأتينا الصدقة ، فنأمر لك بها " ثم قال :"يا قبيصة ! إن المسألة لا تحل إلا لأحد ثلاثة : رجل تحمل حمالة فحلت له المسألة حتى يُصيبها ثم يُمسِك ، ورجل أصابته جائحة اجتاحت ماله فحلت له المسألة حتى يصيب قواما من عيش ،-أو قال : سِداداً من عيش – ورجل أصابته فاقة حتى يقول ثلاثة من ذوي الحِجى من قومه : لقد أصابت فلاناً فاقة ، فحلت له المسألة حتى يصيب قِواماً من عيش ، فما سِواهن من المسألة ، يا قبيصة ! فسُحْت يأكُلها صاحِبُها سُحْتا " .

وبعد فهذه صورة خاطفة عن شخصية الرسول وأخلاقه وأسلوب تعليمه لأصحابه ، وهي صورة غير متكاملة ولا تامة ،ولكني اجتزأت منها ما يدل على تمام الصورة وحقيقتها ، وتمام هذه الصورة كما يبدو مما ذكرته كتب السيرة أنه صلى الله عليه وسلم جمع في وقت واحد أسمى ما تكون عليه صلة رسول بربه . وأروع ما تكون سيرة زعيم بشعبه ، وأكل ما تكون علاقة مصلح بالعالم الإنساني كله .

أما الصلة بالله فكانت تتجلى في عبادته ودعائه وحرصه على رضى الله الله ورجائه لثوابه .

وأما السيرة في الأمة ،فهي سيرة من أحب لأمته الخير ومنحها النصح ، ودلها على الهدى ، ولآثرها على نفسه وأهله ، ولم يحتجن دونها مالاً ولا أثاثاً ولا رياشاً ، بل كان يعطيها ويحرم نفسه ولا يملأ بيوتها بالنعمة ، وإن بيوت أزواجه ليلفحها حر الخشونة والإقلال وشظف العيش ، وهي سيرة من لم يحمل أتباعه على ترك الدنيا ليعيشوا فيها كالغنم المشتتة بين قطيع الذئاب ! ولا حملهم على ركوب الدنيا فيكونوا فيها كالكلاب المسعورة إن لم تنهش اللحم فقد مزقت الثياب ! أوقد فيهم جذوة العمل للحياة مع شعلة الإيمان بالله ، وبثّ فيهم روح الثورة على الباطل والتمرد على الظلم والترفع عن الدنايا ، وغرس فيهم – وهم في الحرب – أرق شمائل الإنسانية الرحيمة في السلم ، فكان في حربه أسع صدراً وأكثر رحمة وأبر بالأسرى والضعفاء من كثير من زعماء الدول في سلمهم وسياستهم ورعايتهم للشعوب .

وأما الإصلاح للعالم الإنساني فحسبه هذا النظام الذي جنب العالم ويلات المادية وضعف الروحانية السلبية ، وحسبه هذه القوانبين التي جاءت في اشتراكيتها نمطاً فريداً خلا من عيوب المذاهب الاشتراكية كلها وجمع محاسنها كلها .

حسبه من الاصلاح العالمي أنه أنشأ أول دولة اشتراكية إنسانية في العالم ، وأول مجتمع اشتراكي إنساني في التاريخ ، وأول جيل اشتراكي علمي إنساني يبني أسمى الحضارات .

ذلكم هو محمد رسول الله ! .. باني أول دولة ! ومنشئ أول مجتمع!

من أقوال الغربيين عن الرسول وشريعته

قال المستشرق الفرنسي المسلم " ناصر الدين رينه " :

وكان النبي يُعنى بنفسه عناية تامة ، إلى حد أن عرف له نمط من التأنق على غاية من البساطة ، ولكن على جانب كبير من الذوق والجمال . وهو في كل ذلك يريد من حسن منظره البشري أن يروق الخال سبحانه وتعالى .

ومن هذا كان يحرِّم بشدة التغالي في الملبس ، وعلى الخصوص لبس الحرير ، حتى لايتيح للأغنياء فرصة التعالي على الفقراء...

وقال غوستاف لوبون بعد أن نقل أوصاف الرسول عن المصادر الإسلامية : " ويضاف إلي الوصف السابق ما رواه مؤرخو العرب الآخرون من ، أن محمداً كان شديد الضبط لنفسه ، كثير التفكير صموتا ،حازما سليم الطوي عظيم العناية بنفسه ، مواظباً على خدمتها بالذات حتى بعد اغتنائه .

وكان محمد صبوراً قادراً على احتمال المشاق ، ثابتاً بعيد الهمة ، لين الطبع وديعاً ، فذكر أحد خدمه أنه ظل عنده ثماني عشرة سنة فلم يُعزره قد في تلك المدة ولو مرة واحدة.

وكان محمد مقاتلا ماهراً ، فكان لا يهرب أمام المخاطر ولا يلقي بيديه إلى التهلكة ، وكان يعمل ما في الطاقة لإنماء خُلُق الشجاعة والإقدام في بني قومة .

وقيل : إن محمدا كان مصاباً بالصَّرع ولم أحد في تواريخ العرب ما يُبيح القطع في هذا الرأي ، وكل ما في الأمر ما رواه معاصرو محمد ، وعائشة منهم ، من أنه كان إذا نزل الوحي عليه اعتراه احتقان وجهي فغطيطُ فغشيان وإذا عدوت حماسة (واندفاع) محمد ، وجدته حصيفاً سليم الفكر ...

ولا يقف أيُّ قول بخداع محمد ثانية أمام سلطان النقد ، ومحمد كان يجد في حماسه ما يحفزه إلى اقتحام كل عائق ، ويجب على من يود ، يفرض إيمانَه على الآخرين أن يؤمن بنفسه قبل كل شيء ، ومحمد كان يعتقد أنه مؤيد من الله فيتقوى فلا يرتد أما أي مانع .

وجَمَعَ محمد قبل وفاته كلمة العرب ، وخلق منهم أمة واحدة خاضعة لدين واحد مطيعة لزعيم واحد ، فكانت في ذلك آيته الكبرى ...

ومهما يكن الأمر ، فإن مما لا ريب فيه أن محمداً أصاب في بلاد العرب نتائج لم تصب مثلها جميع الديانات التي ظهرت قبل الإسلام ومنها اليهودية والنصرانية ، ولذلك كان فضل محمد على العرب عظيماً ،ويتجلى هذا الفضل العظيم في جواب رُسُل عمر بن الخطاب إلى كِسْرى حين سألهم عن أعمال النبي ، قال أولئك الرسل : " فأما ما ذكرت من سوء حالنا فما كان أسوأ حالا منا وأما جوعنا فلم يكن يشبه الجوع ، كنا نأكل الخنافس والجِعلان والعقارب والحيَّات ، فكنا نرى ذلك طعامنا ،وأما المنازل ، فكانت ظهر الأرض ، ولم نلبس إلا ما غزلنا من أوبار الإبل وأشعار الغنم ، كان ديننا أن يقتل بضعنا بعضاً ويُغير بعضنا على بعض ، وكان أحدنا يدفن ابنته وهي حيَّة كراهية أن تأكل من طعامنا ، فكانت حالنا قبل اليوم على ما ذكرنا لك ، فبعث الله إلينا رجلاً معروفاً نعرف نسبه ونعرف وجهه ومولده ، فأرضُه خيرُ أرضنا ، وحسبُه خير أحسابنا وبيته أعظم بيوتنا وقبيلته خير قبائلنا ، فقذف الله في قلوبنا التصديق له واتباعه ، فما قال لنا فهو قول الله وما أمرنا فهو أمر لله ، فقال لنا : إن ربكم يقول " إني أنا الله وحدي لا شريك لي ، كنتُ إذ لم يكن شيء وكلُّ شيء هالك إلا وجهي ، وأنا خلقت كل شيء وإليَّ يصير كل شيء ، وإن رحمتي أدركتكم فبعثتُ إليكم هذا الرجل لأدلكم على السبيل التي بها أُنجيكم بعد الموت من عذابي ولأحلكم داري دار السلام ، فنشهد عليه أنه جاء بالحق من عند الحق " .

وإذا قِيسَت قيمة الرجال بجليل أعمالهم كان محمد من أعظم عرفهم التاريخ ، وأخذ بعض علماء الغرب يُنصِفون محمداً مع أن التعصب الديني أعمى بصائر مؤرخيهم عن الاعتراف بفضله ، قال العلامة بارتلمي سنت هيلر : ( كان محمد أثر عرب زمانه ذكاء وأشدَّهم تدينا وأعظمهم رأفة ، ونال محمد سلطانه الكبير بفضل تفوقه عليهم ، ونعد دينه الذي دعا الناس إلى اعتقاده جزيل النِّعم على جميع الشعوب التي اعتنقته ) .

وقال " كارليل " :

لقد أصبح من أكبر العار على كل فرد ممدن في هذا العصر أن يصغي إلى ما يظهر من أن دين الإسلام كذب ، أن محمدا خداع مزرو ، وآن لنا أن نحارب ما يشاع من مثل هذه الأقوال السخيفة المخجلة ، فإن الرسالة التي أداها ذلك الرسول ما زالت السراج المنير مدة اثني عشر قرناً لنحو مائتي مليون من الناس أمثالنا ، خلقهم الله الذي خلقنا ، أكان أحدهم يظن أن هذه الرسالة التي عاش بها ومات عليها هذه الملايين الفائتة الحصر أكذوبة و خدعة ؟ أما أنا فلا أستطيع أن أرى هذا الرأي أبداً ، فلو أن الكذب والغش يروجان عند خلق الله هذا الرواج ويصادفان منهم ذلك التصديق والقبول ، فما الناس إلا بله ومجانين ، وما الحياة إلا سخف وعبث وأضلولة ، كان الأولى بها أن لا تخلق " . وما نظن أكبر محب للرسول يقول فيه وفي دعوته عن طريق المنطق أحسن من هذا .

وقال تولستوي الحكيم الروسي :

( ومما لا ريب فيه أن النبي محمداً كان من عظام الرجال المصلحين الذين خدموا المجتمع الإنساني خدمة جليلة ، ويكفيه فخراً أنه هدى أمة برمتها إلى نور الحق ، وجعلها تجنح للسكينة والسلام وتؤثر عيشة الزهد ، ومنعها من سفك الدماء وتقديم الضحايا البشري وفتح لها طريق الرقي والمدنية وهو عمل عظيم لا يقوم به إلا شخص أوتي قوة ، ورجل مثل هذا جدير بالاحترام والإكرام ) .

وقال وليم موير في كتابه (سيرة محمد ) :

امتاز محمد بوضوح كلامه ويسر دينه ، وقد أم من الأعمال ما يدهش العقول ، ولم يعهد التاريخ مصلحاً أيقظ النفوس ، وأحيا الأخلاق ورفع شأن الفضيلة في زمن قصير كما فعل محمد .

ويؤخذ مما قاله لين بول : ( إن محمداً كان يتصف بكثير من الصفات الحميدة كاللطف والشجاعة ومكارم الأخلاق ، حتى إن الإنسان لا يستطيع أن يحكم عليه دون أن يثار بما تتركه هذه الصفات في نفسه من أثر ، ودون أن يكون هذا الحكم صادراً عن غير ميل أو هوى ، كيف لا وقد احتمل محمد عداء أهله وعشيرته أعواماً ، فلم يهن له عزم ، ولا ضعفت له قوة ، وبلغ من نبله أنه لم يكن في حياته البادئ بسحب يده من يد مصافحه ، حتى ولو كان المصافح طفلا ، وأنه لم يمر بجماعة يوماً ، رجالاً كانوا أو أطفالاً دون أن يقرئهم السلام ، وعلى شفتيه ابتسامة حلوة ، وفيه نغمة جميلة كانت تكفي وحدها لتسخر سامعها ، وتجذب القلوب إلى صاحبها جذباً ) . ومما قاله أيضاً : ( إن كثيراً من كتاب التراجم والسير من الأوربيين الذين تناولوا الكلام على سيرة محمد لم يتعففوا عن أن يشوهوا هذه السيرة بما أدخلوه عليها من افتراءات وادعاءات ، كاتهاماتهم إياه بالقسوة وارتكاب الموبقات والانهماك في الشهوات ، وإنه كان دجالاً دعياً وطاغية متعطشاً لسفك الدماء ) .

وعلل مونتيه طعن الغربيين على الرسول بقوله : ( كثيراً ما حكمت ليه الأحكام القاسية ، وما ذلك إلا لأنه ندر بين المصلحين من عرفت حياتهم بالتفصيل مثله وأن ما قام به من إصلاح الأخلاق وتطهير المجتمع ، يمكن أن يعد به من أعظم المحسنين للإنسانية ) .

وقال : ( لا مجال للشك في إخلاص الرسول وحماسته ) .

قال جان جاك روسو في القرن الثامن عشر : ( من الناس من يتعلم قليلاً من العربية ثم يقرأ القرآن ويضحك منه ، ولو أنه سمع محمداً يمليه على الناس بتلك اللغة الفصحى الرقيقة ، وذاك الصوت المقنع المطرب المؤثر في شغاف القلوب ، ورآه يؤكد أحكامه بقوة البيان ، لخر ساجداً على الأرض وناداه : أيها النبي رسول الله خذ بأيدينا إلى موقف الشرف والفخار ، أو مواقع التهلكة والأخطار فنحن من أجلك نود الموت أو الانتصار )

وقال كارلايل أيضاً : ( إن فرط إعجاب المسلمين بالقرآن وقولهم بإعجازه أكبر دليل على تباين الأذواق في الأمم المختلفة والترجمة تذهب بأكثر جمال الصنعة وحسن الصياغة ) .

وجاهر كلود فارير في القرن العشرين بأن ( آيات القرآن جميلة وتحسن تلاوتها ، فيها نفحة طاهرة عجيبة ، لأنها تأمر بالشجاعة والصدق والأمانة ,وتدعو إلى حماية الضعيف وإلى عبادة إله واحد)

وقالت (لورافيشيا فاعليري ) أستاذة اللغة العربية وتاريخ الحضارة الإسلامية في جامعة نابولي بإيطالية : وحاول أقوى أعداء الإسلام – وقد أعماهم الحقد – أن يرموا نبي الله ببعض التهم المفتراة ، لقد نسوا أن محمداً كان قبل أن يستهل رسالته موضع الإجلال العظيم من مواطنيه بسبب أمانته وطهارة حياته ، ومن عجب أن هؤلاء الناس لا يجشمون أنفسهم عناء التساؤل كيف جاز أن يقوى محمد على تهديد الكاذبين والمرائين في بعض آيات القرآن اللاسعة ، بنار الجحيم الأبدية ، لو كان هو قبل ذلك رجلاً كذابا ؟ كيف يجرؤ على التبشير ، على الرغم من إهانات مواطنيه ، إذا لم يطن ثمة قوى داخلية تحثه – وهو الرجل ذو الفطرة البسيطة – حثاً موصولاً ؟ كيف استطاع أن يستهل صراعاً كان يبدو يائساً ؟ كيف وفق إلى أن يواصل هذا الصراع أكثر من عشر سنوات في مكة ، في نجاح قليل جداً وفي أحزان لا تحصى ، إذا لم يكن مؤمناً إيماناً عميقاً بصدق رسالته ؟ كيف جاز أن يؤمن به هذا العدد الكبير من المسلمين النبلاء والأذكياء ، وأن يؤازروه ويدخلوا الدين الجديد ويشدوا أنفسهم بالتالي إلي مجتمع مؤلف في كثرته من الأرقاء ، والضعفاء ، والفقراء المعدمين إذا لم يلمسوا في كلمته حرارة الصدق ؟ ولسنا في حاجة إلى أن نقول أكثر من ذلك ، فحتى بين الغربيين يكاد ينعقد الإجماع على أن صدق محمد كان عميقاً وأكيداً .

مع رسول الله صلى الله عليه وسلم

( في ذكرى المولد تتجه الأنظار إلى المربي الأعظم صاحب الروح الكبيرة التي وسعت آلام الإنسانية وآمالها . فقد غرس في الدنيا – لأول مرة – من أخلاقه ومن روحانيته ومن تربيته صلوات الله وسلامه عليه ، ما ملأ الأرض بالنور ، والعدل والحق . وفي هذه النبذ القصيرة التي نذكرها من أدب رسول الله مع ربه ومع صحبه ومن مواقع كلمه نماذج من تعاليم مدرسته الروحية الكبرى التي أشرقت لها السماوات والأرض ) .

أدبه في عبادته :

كان عليه والصلاة والسلام يجد في العبادة مجلى راحته ، وميدان نعيمه ، كانت قرة عينه في الصلاة ، وكان يقول لبلال حين يريد القيام للصلاة : "أرحنا بها يا بلال " يطيل السجود حتى لتظن عائشة أن الله قد اختاره لجواره وهو ساجد ، ويستحضر من الخشوع والخضوع لله عز وجل ما تفيض منه عبراته ، حتى كان يسمع لصدره أزيز كأزيز المرجل (القدر) من البكاء ، ويكثر من الصلاة في أعقاب الليل ، حتى لتسأله عائشة عن كثرة عبادته ، وقد غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر ؟ فيقول لها :" أفلا أكون عبداً شكوراً "

أدبه مع أهله :

وكان مع هذه العبادة وهذا التبتل يحسن معاملة أهله ، ويداعب أزواجه ، ويتحمل منهن دعابتهن ، وغيرة بعضهن من بعض ، كان يحب عائشة أكثر من زوجاته الأخريات وكان يرسل إليها بنات الأنصار يلعبن معها ، وإذا أحبت شيئاً لا محذور منه ، تابعها عليه . وإذا شربت من الإناء أخذه فوضع فمه في موضع فمها وشرب منه .

أدبه في معاملته :

كان من أحسن الناس معاملة ، وأصدقهم موعداً ، وأبرهم عهداً ,إذا استسلف من رجل شيئاً قضاه إياه ودعا له فقال : "بارك الله لك في أهلك ومالك " . تقاضاه غريم له ديناً فأغلظ عليه ، فهم به عمر ، فقال عليه الصلاة والسلام : "مه (وتعني أكفف واسكت) ياعمر ! كنت أحوج إلي أن تأمرني بالوفاء ، وكان أحوج إلي أن تأمره بالصبر " .

أدبه في صحبته :

كان – كما قال علي رضي الله عنه- أوسع الناس صدراً ، وأصدق الناس لهجة ، وألينهم عريكة ، وأكرمهم عشرة ، وكان يتألف قلوبهم ، ويكرم كريمهم ، ويتفقدهم في شؤونهم ،ويعطي كلاً من جلسائه نصيبه من التكريم ، حتى يحسب جليسه أنه ليس أحد أكرم عليه منه . من جالسه أو قاربه لحاجة صابره حتى يكون هو المنصرف عنه . ومن سأله حاجة لم يرده إلا بها أو ميسور من القول . قد وسع الناس بسطه وخلقه ، فصار لهم أباً ، وصاروا عنده في الحق سواء . دائم البشر ، سهل الخلق ، لين الجانب ، ليس بفظ ولا غليظ ولا صخاب ولا فحاش ، ولا عياب ولا مداح ، يتغفل عما لا يحب ، ولا يقابل أحداً بما يكره ، إلا أنه في الحق من أشد الناس غيرة على حرمات الله ، وإنكاراً على انتهاك آداب الشريعة ، يجالس الفقراء ، ويصغي إلى العبد والأرملة والمسكين . قال أبو هريرة : دخلت السوق مع النبي صلى الله عليه وسلم ، فاشترى سراويل ، وقال للوزان : " زن وأرجح " فوثب البائع إلى يده صلى الله عليه وسلم يقبلها ، فجذب يده وقال : " هذا ما تفعله الأعاجم بملوكها ، ولست بملك ، إنما أنا رجل منكم " ثم أخذ السراويل فذهبت لأحمله فقال : " صاحب الشيء أحق بشيئه أن يحمله " .

وكان في مجلسه كثير الصمت لا يتكلم في غير حاجة ، يعرض عمن يتكلم بغير جميل ،وكان ضحكه تبسماً ، وكان كلامه فضلاً لا فضول ولا تقصير ، مجلسه مجلس حلم وحياء وخير وأمانة ، لا ترفع فيه الأصوات قال ابن أبي هالة : كان سكوته صلى الله عليه وسلم على أربع : على الحلم والحذر والتقدير والتفكر ..

نماذج من مدرسته الروحية :

1. " ثلاث لا يغل عليهن قلب امرئ مؤمن ( أي لا يخون فيهن) إخلاص العمل لله ، والمناصحة لأئمة المسلمين ، ولزوم جماعتهم فإن دعاءهم يحيط من ورائهم " رواه الزار وابن حبان

2. " إن الله لا يقبل من العمل إلا ما كان له خالصاً وابتغي به وجهه " رواه أبو داود .

3. " إنما الأعمال بالنيات ، وإنما لكل امرئ ما نوى ، فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله ، فهجرته إلى الله ورسوله ، من كانت هجرته إلي دنيا يصيبها ، أو امرأة ينكحها ، فهجرته إلى ما هاجر إليه "

4. " اتق الله حيثما كنت ، وأتبع السيئة الحسنة تمحها ، وخالق الناس بخلق حسن " .

5. عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : كنت خلف النبي صلى الله عليه وسلم يوماً فقال :" يا غلام! إني أعلمك كلمات : احفظ الله يحفظك ، احفظ الله تجده تجاهك ، إذا سألت فاسأل الله ، وإذا استعنت فاستعن بالله ، واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك ، ولو اجتمعوا على أن يضروك بشيء ، لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك ، رفعت الأقلام وجفت الصحف " . وفي رواية أخرى " احفظ الله تجده أمامك ، تعرف إلى الله في الرخاء يعرفك في الشدة ، واعلم أن ما أخطأك لم يكن ليصيبك ، وما أصابك لم يكن ليخطئك ، واعلم أن النصر مع الصبر وأن الفرج مع الكرب وأن مع العسر يسراً " .

من مزاحه صلى الله عليه وسلم

المزاح من السنة :

قال أنس بن مالك ، كان رسول الله صلى الله عليه وسلم من أفكه الناس .

وقال أيضاً : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "روحوا القلوب ساعة بعد ساعة "

وسئل سفيان الثوري ؟ المزاح هجنة ؟ فقال : بل سنة ، لقوله عليه السلام : " إني لأمزح ولا أقول إلا الحق " . رواه الطبراني . وقال أبو هريرة : قالوا : يارسول الله إنك تداعبنا ! قال : "إني لا أقول إلا حقاً " .

مع الحسن والحسين :

قال جابر بن عبد الله : دخلت على النبي صلى الله عليه وسلم ، والحسن والحسين على ظهره وهو يمشي بهما على أربع ويقول : " نِعمَ الجمل جملكما ، ونعم العدلان أنتما " . رواه ابن عدي وابن عساكر .

مع زوجاته :

كان عليه السلام في بيت عائشة ، فبعث إليه بعض نسائه بقصعة ، فدفعتها عائشة ، فألقتها وكسرتا ، فجل النبي عليه السلام بضم الطعام ويقول : " غارت أمكم " فلما جاءت قصعة عائشة ، بعث بها إلى صاحبة القصعة التي كسرتها ، وأعطى عائشة القصعة المكسورة .

مزاح أصحابه معه :

كان من الصحابة رجل يقال له ( نعيمان ) كثير المزاح ، حلو الفكاهة وكان يمازح رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ومن مزحه معه أنه كان لا يدخل المدينة طرفة إلا اشترى منها ثم يجيء بها إلى النبي صلى الله عليه وسلم فيقول : يارسول الله هذا أهديته لك ،فإذا جاء صاحبها يطالب نعمان بثمنها ، جاء به إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، فيقول : يا رسول الله أعط هذا ثمن متاعه ، فيقول عليه السلام : أولم تهده لي ؟ فيقول : يا رسول الله إنه والله لم يكن عندي ثمنه ولقد أحببت أن تأكله ، فيضحك عليه السلام ويأمر لصاحبه بثمنه .

ومن فكاهاته أن أبا بكر خرج قبل وفاة الرسول بعام في تجارة إلى بصرى ، ومعه نعيمان و سليط بن حرملة وكان سليط موكلاً بالطعام ، فقال نعيمان لسليط : أطعمني قال : لا أطعمك حتى يأتي أبو بكر ، فقال نعيمان : لأغيظنك ، فمروا بقوم فقال لهم نعيمان : تشترون مني عبداً لي ؟ قالوا : نعم ز قال : فإنه عبد له كلام وسيقول لكم : لست بعبد أنا ابن عمه ، فإن كان إذا قال لكم هذا تركتموه فلا تشتروه ، ولا تفسدوا علي عبدي ، قالوا : لا بل نشتري ولا ننظر في قوله ، فاشتروه منه بعشر قلائص ( وهي النوق الشابة) ، ثم جاؤوا ليأخذوا سليطاً على أنه هو العبد الذي باعه لهم نعيمان فامتنع سليط من الذهاب معهم ، فوضعوا في عنقه عمامة وشدوه بها فقال لهم : إنه يتهزأ ولست بعبده ، فقالوا له : قد أخبرنا خبرك ، ولم يسمعوا كلامه ، ثم ساقوه معهم بالقوة ، فجاء أبو بكر فلما علم بالخبر اتبع القوم فأخبرهم أن نعيمان يمزح ورد عليهم القلائص وأخذ سليطا منهم فلما قدموا على النبي صلى الله عليه وسلم أخبروه الخبر فضحك من ذلك هو وأصحابه حولا كاملا.

عبقرية الرسول السياسية والحربية

حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم وسيرته هي المثل الأعلى الذي يحتذيه كل مسلم وهي على تقادم العهد بها ، جديدة في كل عصر ، توحي لكل فئة من فئات الأمة بما يبعثها نحو الخير ويدفع بها إلى ميادين الخلود ، وإذا كانت ذكرى المولد النبوي الكريم حبيبة إلى قلب كل مسلم ، فإن هذه الذكرى أحب ما تكون إلى قلب الداعية السلم إذ يجدد فيها صلته بقائده الأعظم ويراجع فيها حسابه معه ويزيد فيها من إمعانه النظر بخطط الدعوة في مراحلها الأولى حين كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يضع أصولها ويوجًّه دفتها بما ينزل عليه من وحي ، وما تهتدي إليه عبقريته من وجوه الحق ومسالك النصر .

وسنقصر حديثنا اليوم على ناحية واحدة من النواحي التي تهم الدعاة إلى الله قادة وجنواً ، وهي ناحية جديرة منا بالعناية والدرس ، إذ يتوقف عمل فهمنا لها نجاح الدعوة في الموقف الحرجة إلى حد كبير .

كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحرص على أن لا يواجه الأعداء جميعاً في وقت واحد ، فإذا تجمعوا لقتاله حرص على التفريق فيما بينهم بكل الوسائل ، حتى إذا امكنته الفرصة بطش بأقواهم ثم بمن بعدهم حتى يتم له النصر ، ولم يكن عليه الصلاة والسلام حين يريد الأمر فيحال بينه وبين ما يريد ، تأخذه حمية المقاتل الذي يصر على أن ينتصر بل كان يقدر الظروف المحيطة به ، ويقارن بين ما يريد وبين ما يعرض له من فرصة ، وفإن وجدها أجدى عليه مما يريد عمل بها وأخر ما يريد إلى وقت آخر ، وبذلك نجت الدعوة في حياته من كثير من المتاعب ، وحال دون تألب الأعداء عليه جميعاً إلا حين لم يستطع لذلك دفعاً كما في غزوة الأحزاب ، وأنزل الضربات المتتالية بأعداء الدعوة فريقاً إثر فريق ، وتنازل في مواقف الشدة عن بعض مظاهر القوة ليدفع شراً أو ليكسب من وراء ذلك نصراً وإليكم الأمثلة على ذلك ..

في المدينة مع اليهود :

لما استقر الرسول عليه الصلاة والسلام بالمدينة بعد هجرته كان لا بد له من أن يستعد لنزال قريش وخوض الحرب معها فما كانت قريش بالتي ترضى أن تكون للرسول في المدينة العزة والمنعة . وهي التي حرصت ثلاثة عشر عاماً على مناصبة دعوته العداء ، فكيف وقد أفلت من يدها وأصبح في المدينة سيدها وقائدها ورئيسها المحبوب ؟ . لقد كان الصراع مع قريش بعد الهجرة – صراعاً حربياً – أمراً متوقعاً في نظر الرسول صلى الله عليه وسلم وكان في المدينة – مع الأوس والخزرج – عدد كبير من اليهود يسكنون في أرباضها أو على مواقع تحيط بها ، ولم يكن يتوقع الرسول من اليهود سلماً لدعوته ورضى بانتشارها وهم الذين كانوا يستولون على مقدرات سكانها من الأوس والخزرج ، ويثيرون العدوان بينهم ، لتظل لهم السيطرة السياسية والمالية عليهم ، فكيف يرتاحون إلى وحدة كلمة هؤلاء المؤمنين من جيرانهم ، وانتهاء الحروب والفتن الداخلية فيما بينهم ؟ هذا مع ما فاض به تاريخ اليهود من محاربة لرسل الله ، وقتل لأنبيائه ،وإثارة للفتن والعداء في كل مجتمع يعيشون فيه ، وبذلك واجه الرسول في المدينة جبهة أخرى معادية لدعوته ، بعد أن كان العداء بينه وبين خصوم الدعوة في مكة محصوراً في قريش ومن يناصرها .. هنا تتجلى حكمة الرسول البعيدة المدى ، إذ بادر إلى عقد ميثاق بينه وبين يهود المدينة ليأمن شرهم ، ويمنعهم من مؤازرة قريش في معاركها المقبلة . ووضع الميثاق وأصبح اليهود مواطنين في المدينة يربطهم الميثاق الجديد بالدفاع عن المدينة ممن يقصد غزوها ، وبأن يكونوا مع المؤمنين فيها يداً واحدة على النوائب ، ومن هنا استطاع الرسول أن يتفرغ لرد عدوان قريش ، وأن يخوض معها بدراً وأُحداً وغيرهما من المعارك ، آمناً في جبهته الداخلية ، مكفياً شر اليهود وهم أقدر على إيذائه من قريش إذ كانوا في أرباض المدينة وما حولها .

مع يهود بني قينقاع :

ولكن طبيعة اليهود تأبى إلا الغدر والخيانة ، فما كاد رسول الله صلى الله عليه و سلم ينتصر على قريش في بدر حتى ثارت في يهود بني قينقاع عوامل الحقد والبغضاء ، فأظهروا للمسلمين شراً ، وغدروا ببعض نساء الأنصار ، فهتكوا حرمتهن ، ولم ير رسول الله – وهو الذي يعلم أ، هؤلاء اليهود سيكون منهم ما كان من يهود نبي قينقا ع – أن يجاهرهم جميعاً بالعداء ، بل حارب بني قينقاع وحدهم ، وتمّ له إجلاؤهم عن ديارهم ، وظل على عهده مع بقية اليهود ، إذ لم يبد منهم في الظاهر ما يدل على نقض الميثاق ، ولأن معركته مع قريش لم تنته بانتصاره عليها في بدر ...

مع يهود بني النضير :

وتحرك بعد ذلك بنو النضير ، وهم يجاورون المدينة وقد كانوا حلفاء الخزرج قبل الإسلام ، وناصبوا الرسول العداء ، وبيتوا على قتله ومن معه ، فأنذرهم الرسول بوجوب الجلاء عن مساكنهم ، بعد أن بدا منهم الغدر ، فلما أبوا وتحصنوا في حصونهم ، نازلهم المسلمون وتغلبوا عليهم ، فاضطروا للجلاء عن ديارهم على أن لهم ما حملت الإبل من أموالهم إلا آلة الحرب .

مع يهود بني قريظة :

وظل الرسول بعد ذلك محافظاً علة ميثاقه مع بقية اليهود الذين لم ينقضوا الميثاق ، مع أن الدلائل كلها تدل على أنهم جميعاً محنقون من انتشار الدعوة ، مبيتون للغدر بالرسول ومن معه ، ذلك أن رسول الله سار على هذه الخطة الحطيمة وهي ألا يحارب في جبهتين وأن يتقي أقوى الجبهتين خطراً بأقلها وأقربها إلى الخضوع والاستسلام .. ومعركة قريش لا تزال هي المعركة الرئيسية في جزيرة العرب ، فليوجه إليها كل همه ، وليهدئ من عداء اليهود بقدر ما يستطيع ، حتى تنتهي المعركة الكبرى مع قريش بالنصر ، ولكن اليهود قوم لا يرتاحون إلى السلم والعيش الكريم ، فما كاد عظماء بني النضير يجلون عن ديارهم - عقوبة لهم على غدرهم – حتى أخذوا يثيرون قريشاً وقبائل العرب ضد الرسول وصحبه ، وكان من أثر ذلك غزوة الأحزاب التي تجمعت فيها قريش وغطفان ومرة وأشجع وبنو سليم وبنو أسد ، وهاجموا المدينة في عشرة آلاف محارب ، وكانت غزوة الأحزاب وتحركت بنو قريظة وهم يهود المدينة نفسها – فنقضوا الميثاق وأبدوا العداء للرسول ، وظنوا أن هذه المعركة قاضية على المسلمين في المدينة فأعلنوا الحرب وانحازوا إلى الأحزاب ، وهنا تشتد المعركة على المسلمين ، ويصبح أهل المدينة في قلق شديد على ذراريهم ونسائهم ،خوفاً من بني قريظة الذين أعلنوا عداءهم ، ويفكر الرسول في تفريق كلمة الأحزاب بأن يعمل على انسحاب غطفان من المعركة لقاء أن يعطيها ثلث ثمار المدينة ، ويتألم المسلمون من ذلك ، ويتدارك الله رسوله وصحبه بالعناية الإلهية ، فيسلم ( نعيم بن مسعود ) من غطفان وهو صديق قريش واليهود ، فيعمل على التفرقة بينهم ، ويغرس في نفوس كل من قريش واليهود عوامل الريبة والحذر بعضهم من بعض ، فتختلف كلمة الأحزاب ، ويرسل الله ريحاً باردة في ليلة شديدة الظلام ، فتولي قريش وحلفاؤها ، لا تلوي على شيء ، وينبلج الصباح عن فرار قبائل العرب في الظلام ، ويظل الرسول وجها لوجه مع يهود بني قريظة الغادرين في أحرج الساعات . ويتم القضاء عليهم بما حكم به حليفهم سعد بن معاذ ، من قتل الرجال ، وسبي النساء والأطفال ..

مع يهود الآخرين :

وانتظر الرسول حتى تم صلح الحديبية ، وأمن شر قريش ، فاتجه إلى تصفية قضية اليهود الباقين حول المدينة فأنهى علائقه مع يهود فدك ، بحقن دمائهم ومغادرة ديارهم ، وترك أموالهم ، ثم انتهى من يهود وادي القرى ويهود خيبر ، فتغلب عليهم ، وفرض عليها الجزية ، وجردهم من قوتهم الحربية .. وبذلك انتهى من معركة اليهود ، دون أن يخوض معهم جميعا معركة واحدة ، ودون أن يحاربهم وقريشاً في وقت واحد .

وهذه إحدى العبر في تاريخ الرسول السياسي والعسكري ، دلنا على براعته وتوفيقه في الوصول إلى النصر ، دون أن يثير قوى الأعداء عليه جميعاً ، ما دام يستطيع أن يفرق بينهم – كما في غزوة الخندق – أو أن يضربهم الواحد بعد الآخر كما حصل في تصفية قضية اليهود في جزيرة العرب .

في صلح الحديبية :

وأمامنا مثل آخر يدل على مرونة الرسول وبراعته وتفضيله المصلحة البعيدة المدى على المصلحة المؤقتة التي يمكن أن تكسب بالعاطفة ، ولكنها تفوت كثيراً من المكاسب السياسية ، ففي صلح الحديبية كان الرسول لا يريد القتال بل يريد الطواف في الكعبة ،فلما أصرت قريش على المنع صمم الرسول على قتالهم ، ووجد من المسلمين كل استعداد للفداء ، وبايعه المسلمون بيعة الموت المشهورة ببيعة الرضوان ، حتى إذا أبدت قريش رغبتها في الصلح على الشروط المعروفة ، وهي شروط لم يرضها المسلمون أول الأمر ، بل ، بل رأوا فيها ضعفاً وذلة ، ولكن القائد الرسول الذي يمتد بصره إلى ما لا يمتد إليه بصر جنوده المؤمنين ، أصر على قبول الشروط ، فلم يجد المسلمون بداً من القبول ، وتبين فيما بعد أن هذه الشروط كانت سبباً من أسباب تعجيل النهاية المرتقبة للوثنية في جزيرة العرب ، وأن صلح الحديبية كان الخطوة الأولى لفتح مكة واستسلام الوثنية العربية استسلاماً لا قيام لها من بعده أبداً .

هنا يجب أن يذكر الدعاة أن على القائد ، أن يجنب الدعوة المتاعب الكثيرة بأقل التضحيات ، وأن يخضع للظروف مع حسن الاستعداد والاستفادة ، كما فعل رسول الله حين رأى إصرار قريش على أن لا يدخل الرسول ذلك العام مكة أبداً ، فرجع عنها هو وصحبه بعد أن أوشكو على وصلها ، وكان قادراً على أ، يدخلها عنة واقتداراً ، ولكن المعركة يومئذ ستكلف المسلمين كثيراً من التضحيات ، وما كسبه الإسلام من صلح الحديبية ، كان أعظم سياسياً ودينياً وعسكرياً مما كان يكسبه لو دخل المسلمون آنئذ مكة عنوة ، وما هو إ انتظار سنتين بعد ذلك حتى دخل الرسول مكة فاتحاً ، وقد استسلمت قريش ، ثم دخلت في دين الله أفواجا

إن على القائد ألا يضيق ذرعاً بحماسة جنوده ،كما تحمل الرسول شدة عمر ومعارضته يوم صلح الحديبية ،وعلى الجنود أن لا يشقوا عصا الطاعة حين يحزم القائد أمره .

فصلى الله وسلم على نبينا محمد

كلما ذكره الذاكرون

وكلما غفل عن ذكره

الغافلون

المصدر : كتاب ( عظماؤنا في التاريخ ) للدكتور / مصطفى السباعي

-===============

#التربية الإسلامية و تحديات العصر

عبد الرحمن بن عبد الله الفاضل

بحث متطلب لمادة التربية الإسلامية وتحديات العصر يقدم لسعادة الدكتور محمد علي أبو رزيزة من قسم التربية الإسلامية والمقارنة بكلية التربية بجامعة أم القرى

ذو الحجة 1427هـ -يناير 2007م

c

c

عن أَبي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه ، قالَ: قالَ رَسُولُ الله 4 : «مَنْ لاَ يَشْكُرِ النَّاسَ لاَ يَشْكُرِ الله»(الترمذي،1994م ، جـ 6 ، ص61) .

والباحث بمقتضى هذا الحديث يتقدم بخالص الشكر والتقدير لسعادة الدكتور محمد علي أبو رزيزة ، فقد وجد الباحث منه الاهتمام والجدية في البحث والدراسة والحرص على إفادة الطلاب ، وقد استفاد الباحث منه كثيراً أثناء دراسته لمادة التربية الإسلامية وتحديات العصر ، فله من الباحث كل الثناء والتقدير ، أسأل الله أن يجزل له الأجر والمثوبة ، وأن يكتب له الخير حيث كان ، ومتى ما كان ، إنه ولي ذلك والقادر عليه ، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم .

g

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيد الأنبياء والمرسلين ..... وبعد ،

فإن التربية الإسلامية تستمد أصولها ومسلماتها وغاياتها وأهدافها من ديننا الحنيف وتصب في هذا الإطار أساليبها وعملياتها مستخدمة ومسخرة أدوات العصر وتقنياته في خدمة هذه الغايات .

وكما أن للعصر أدوات ، وتقنيات ، فإن فيه صعوبات ، وتحديات، تواجهها التربية الإسلامية التي يمكنها تجاوز الصعوبات والانتصار على التحديات بسبب خصائصها الفريدة ، وصلاحيتها لكل زمان ومكان .

والقضايا المطروحة كمشكلات وصعوبات وتحديات تواجه التربية الإسلامية كثيرة ، والتساؤلات التي تتصل بتلك التحديات كثيرة أيضاً ، وتؤدي هذه الكثرة والتعدد إلى تباين واختلاف وجهات النظر التي تعالج هذه القضايا ، والمعالجة التي ينطوي عليها هذا البحث تفترض مرونة التربية الإسلامية وقدرتها على التعامل مع مختلف التحديات والصعوبات ، بل والإفادة منها أيضاً .

وقد حاول الباحث من خلال فصول هذا البحث أن يوضح الصلة بين عناصر الموضوع والمتمثلة في تحديات العصر ومعالجة التربية الإسلامية لها .

وتنتظم فصول هذا البحث في تسلسل يهدف إلى معالجة القضايا الرئيسة في هذا الموضوع ، حيث تناول الباحث في الفصل الأول تحدي الحرية، ومفهومها في المنهج الإسلامي، وأنواعها، وواقعها،وكيفية تفعيلها .

كما تناول الفصل الثاني تحدي الحوار ، حقيقته ، وأهميته ، وأهدافه ، وأصوله ، وتقنياته ، والتعلم من خلال الحوار .

وتناول الفصل الثالث تحدي الغلو والتطرف الديني ، مفهومه ، ونشأته ، وأنواعه ، وموقف التربية الإسلامية منه ، وإفرازاته السلبية ، وسبل الوقاية والعلاج منه .

وتناول الفصل الرابع تحدي الإرهاب الفكري ، مفهومه ، وإشكالية تحديد الإرهاب ، وأنواع الإرهاب ، وأسبابه ، وموقف التربية الإسلامية منه ، وسبل الوقاية والعلاج منه .

وتناول الفصل الخامس تحدي غياب دور المرأة ، ومكانتها في الإسلام ، والفوارق الجوهرية بين المرأة والرجل ، والمرأة المسلمة بين التهميش والتحرير ، وكيفية تفعيل دور المرأة في بناء المجتمع المسلم .

وتناول الفصل السادس تحدي العولمة ، ومفهومها ، الفرق بين العولمة وعالمية التربية الإسلامية ، وسلبيات العولمة وإيجابياتها ، وكيفية الاستفادة من إيجابياتها واتقاء سلبياتها .

وقد حاول الباحث تناول العناصر الرئيسة للبحث وعرضها بطريقة متوازنة ، ويرجوا الباحث أن يكون قد وفق في تحقيق الغرض المنشود ، والثغرات الموجودة هي نموذج من القصور الإنساني ، أسأل الله التوفيق والسداد ، والحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء والمرسلين .

أهمية البحث

تنبع أهمية البحث من أهمية التربية الإسلامية التي تعمل كموجه للعملية التربوية والمناهج التعليمية والبرامج الإرشادية للفرد والجماعة ، محققة ما نصبو إليه من إعداد الإنسان الصالح الذي يعتبر قدوة لغيره من البشر في الاستقامة والخلق ، في المجتمع الصالح الذي يعد نموذجاً لغيره من المجتمعات البشرية في الحياة الفاضلة الكريمة .

تساؤلات البحث

التساؤل الرئيس :

ما أبرز التحديات التي تواجهها وتعالجها التربية الإسلامية ؟

1 2

3

4

5

6

التساؤلات الفرعية :

ما هو تحدي الحرية ؟

ما هو تحدي الحوار ؟

ما هو تحدي الغلو والتطرف الديني ؟

ما هو تحدي الإرهاب الفكري ؟

ما هو تحدي غياب دور المرأة ؟

ما هو تحدي العولمة ؟

1 2

3

4

5

6

7

أهداف البحث

التعرف على أبرز التحديات المعاصرة التي تواجه التربية الإسلامية .

التعرف على تحدي الحرية .

التعرف على تحدي الحوار .

التعرف على تحدي الغلو والتطرف الديني.

التعرف على تحدي الإرهاب الفكري .

التعرف على تحدي غياب دور المرأة .

التعرف على تحدي العولمة .

1=

التربية الإسلامية

و

تحدي الحرية

* مفهوم الحرية لغةً واصطلاحاً

* مفهوم المنهج لغة واصطلاحاً

* مفهوم الحرية في المنهج الإسلامي

* ضوابط الحرية وحدودها في المنهج الإسلامي

* أنواع الحرية

* مفهوم العالم الإسلامي

* واقع الحرية في العالم الإسلامي

* كيف نفعل الحرية في تربيتنا الإسلامية

مفهوم الحرية

تعريف الحرية لغةً :

" الحر ، بالضم : نقيض العبد " (ابن منظور ، 1410هـ ، جـ 4 ، ص 181 ) .

" والحرة : نقيض الأمة ، والجمع حرائر " ( المصدر السابق ) .

" وتحرير الولد : أن يفرده لطاعة الله عز وجل وخدمة المسجد ، وقوله تعالى (إِذْ قَالَتِ امْرَأَتُ عِمْرَانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّراً فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) (آل عمران:35) " ( المصدر السابق ) .

" والحر من الناس : أخيارهم وأفضالهم . وحرية العرب : أشرافهم " ( المصدر السابق ).

" والحرة : الكريمة من النساء " ( المصدر السابق ) .

" الحُرِّيَّةُ : الأرضُ اللينةُ الرمليةُ " ( الفيروز بادي ،1993م )

تعريف الحرية اصطلاحاً :

يمكن تعريف الحرية اصطلاحاً بعدة تعاريف منها :

"1-(انعدام القيود)

2- (عبارة عن قدرة المرء على فعل ما يريده)

3- (إطلاق العنان للناس ليحققوا خيرهم بالطريقة التي يرونها طالما كانوا لا يحاولون حرمان الغير من مصالحهم...)

إلى غيرها من التعاريف التي لا مجال لذكرها في المقام.

ولكن بعد التأمل الدقيق ـ نجد ـ أن مرجع جميع هذه التعاريف إلى جامع واحد وحقيقة مشتركة واحدة ـ هي القدرة على الفعل والاختيار ـ دلت عليها ألفاظ متعددة، وبصور مختلفة... ولذا لم يتحصل لدى الانتقال من تعريف لآخر أمر آخر يضيف على التعريف الأول شيئاً يذكر سوى التبسيط، والتوضيح . " ( حسين ، 1421هـ، 44 )

مفهوم الحرية في المنهج الإسلامي

أولاً : مفهوم المنهج

المنهج في اللغة :

نهج

: طريقٌ نَهْج : بَيِّنٌ واضِحٌ، وهو النَّهْج ، والجمع نَهجات ونُهُج ونُهوج

و مَنْهَج الطريقِ : وضَحُه. والمِنهاج : كالمَنْهَج . وفي التنزيل: ( لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً)(المائدة: من الآية48)

وأَنهَج الطريقُ: وضَحَ واسْتَبانَ وصار نَهْجا واضِحاً بَيِّناً ، والمِنهاج : الطريقُ الواضِحُ. واسْتَنْهَج الطريقُ: صار نَهْجا ( ابن منظور ، 1410هـ ، ج2 ، ص 383 )

المنهج في الاصطلاح :

" الطريق المؤدي إلى الكشف عن الحقيقة في العلوم بواسطة طائفة من القواعد العامة ، تهيمن على سير العقل ، وتحدد عملياته ، حتى يصل إلى نتيجة معلومة " ( العساف ، 1424 هـ ، ص 169 )

" فن التنظيم الصحيح لسلسلة من الأفكار العديدة ، من أجل الكشف عن الحقيقة " ( أبو سليمان ، 1416هـ ، ص 60 )

" طريق كسب المعرفة ، أوهو الطريقة التي يتبعها الباحث في دراسة المشكلة لاكتشاف الحقيقة ، أو هو الخطوات المنظمة التي يتبعها الباحث في معالجة الموضوعات التي يقوم بدراستها " ( الدغيمي ، 1417هـ ،ص 33 ) .

" كان ظهور الطريقة العلمية نتيجة للجهود المختلفة التي بذلها المهتمون خلال عصور طويلة ، لكن أول ملامح هذه الطريقة ظهرت على يد فرنسيس بيكون في نهاية القرن السادس عشر وبداية القرن السابع عشر حين اقترح بناء النتائج على أساس مجموعة كبيرة من الوقائع والملاحظات التي يمكن جمعها ، ثم تطور هذا المنهج نتيجة لجهود وأفكار نيوتن وجاليلو فظهر المنهج العلمي ، أو الطريقة العلمية التي تجمع بين الأسلوب الاستقرائي والأسلوب الاستنتاجي القياسي ، أو جمع بين الفكر الذي يمثله الأسلوب القياسي وبين أسلوب الملاحظة الذي يمثله الأسلوب الاستقرائي.

فالأسلوب العلمي أو الطريقة العلمية هي طريقة تجمع بين الفكر والملاحظة وبين القياس والاستقراء "(عبيدات ، 1424 هـ ، ص 44 )

ثانيا : مفهوم الحرية في المنهج الإسلامي

"خص المولى تبارك وتعالى "الإنسان" بالعقل والإدراك والتمييز , وأمر بحفظ حقه في حرية التفكير والتعبير مادام ذلك في حدود الشرع ومصلحة الجماعة , لا يقهر على أمر , ولا يقسر على رأي , ولا يمنع من إبداء الرأي والاجتهاد فيه , لأن هذا قوام :"نموه العقلي" واتساع مداركه وشحذ تفكيره , ومبادئه الإيجابية في بناء حياته الخاصة وفلسفته ونظرته للحياة , وتحقيق طموحاته المستقلة , ومساهمته الفعالة في بناء حياة الجماعة وتطوير نظمها وتراثها الفكري واعلمي والحضاري ,وتمكينها من بلوغ أهدافها المرجوة لخير جميع أفرادها .

ولأن في الحفاظ على حرية "الإنسان" في فكره وتعبيره , صونا "لآدميته" المكرمة من الله تعالى ,ودعما لكيانه المستقل والمتميز عن غيره , وتنمية لشخصيته لتكون قوية متماسكة ,وتعزيزا لاعتداده بذاته وثقته بنفسه , وراحة وسعادة له في حياته , وإعطاء هذه الحياة معاني الكرامة وأسباب الهناء.

والمولى سبحانه وتعالى , وهو يضرب لعباده المثل , وله وحده المثل الأعلى , أقر للإنسان حريته حتى فيما يتعلق بأمور الإيمان والعقيدة والتوحيد ، وهي أسمى الأمور ، وحمله مسؤولية حريته في إيمانه وكفره ، وهذا هو العدل التام ، وأقام عليه الحجة بما أعطاه من حرية قوامها الإرادة والاختيار والعقل " (الزنتالي ، 1993م ، ص196 ) .

قال تعالى : (فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَاراً أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا)(الكهف: من الآية29)

وقال تعالى : (لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ)(البقرة: من الآية256)

وقال عز وجل : (أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ)(يونس: من الآية99)

وقال جل جلاله : (فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ* لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ ) (الغاشية: 21،22)

ومن أسرار الشريعة الإسلامية حرصها على تعميم الحرية في الإسلام بكيفية منتظمة ، فإنّ الله لمّا بعث رسوله بدين الإسلام كانت العبودية متفشيّة في البشر، وأقيمت عليها ثروات كثيرة، وكانت أسبابها كثيرة: وهي الأسر في الحروب، والخطف في الغارات، وبيع الآباء والأمّهات أبناءهُمْ، والرهائن في الخوف، والتداين. فأبطل الإسلام جميع أسبابها عدا الأسر .

ضوابط الحرية

" على أن الحرية في التربية الإسلامية ليست سائبة ,ولا مطلقة العنان حتى تهوي بصاحبها إلى قاع الضلال الروحي ودرك الانحطاط الأخلاقي ,بل هي حرية واعية منضبطة ,فإذا خرج بها الإنسان عن أحكام الدين ونطاق العقل وحدود الأخلاق وصلحة الجماعة , تمت مساءلته ومحاسبته وإيقافه عند حده ورده عن غيه , منعا لضرر الفرد والجماعة, وفساد الدين والدنيا." (الزنتالي ، 1993م ، ص459)

ومن تعاريف الحُرِّيَّة أنها التصرّف بالملك بدون عدوان على النفس أو الغير، سواء أكان الملك حسياً أو معنوياً.

فلا يُعتبر الاعتداء على النفس أو الملك الشخصي حرية للإنسان، لذلك حرم " دين الإسلام " الانتحار أو الإضرار بشيء من الجسد أو الملك في غير مصلحة صحيحة مبنية على مكارم الأخلاق، وكذلك فإن الناس يمنعون الأفراد الذين يريدون الانتحار أو الإضرار بأملاكهم من ذلك.

كما لا يُعتبر الاعتداء على الغير سواء باللسان ( كالسَّبِّ ) أو الأركان ( كالضرب ) من الحرية.

فمن فعل ذلك فهو من الأشرار لا الأحرار.

ومن حدود الحرية: قول الله تعالى: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَسْخَرْ قَومٌ مِّن قَوْمٍ عَسَى أَن يَكُونُوا خَيْراً مِّنْهُمْ وَلا نِسَاء مِّن نِّسَاء عَسَى أَن يَكُنَّ خَيْراً مِّنْهُنَّ وَلا تَلْمِزُوا أَنفُسَكُمْ وَلا تَنَابَزُوا بِالأَلْقَابِ بِئْسَ الاِسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الإِيمَانِ، وَمَن لَّمْ يَتُبْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ *يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِّنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ، وَلا تَجَسَّسُوا وَلا يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضاً، أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ، وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ تَوَّابٌ رَّحِيمٌ *يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا، إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللهِ أَتْقَاكُمْ، إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ ) (الحجرات:11،13).

أنواع الحرية

" من أهم الخصائص التي تتميز بها التربية الإسلامية عن غيرها من أنواع التربية القديمة والحديثة ، وتسجل بها قصب السبق عليها ، هي خاصية الحرية ، حرية التفكير وحرية التعلم وحرية السعي ، بما يعزز الشخصية الإنسانية ويدعم استقلالها واعتدادها بذاتها في حدود الشرع والأخلاق " (الزنتالي ، 1993م ،ص 456 ) .

"ويمكن تقسيم الحريات إلى :

1- الحريات الشخصية أو المدنية: ومن أمثلة هذا الصنف: حرية السكن وحرمته، وحرية المراسلات. كما تدخل فيها الحريات العائلية).

2-الحريات الاقتصادية: وتشمل: حق الملكية، وحرية العمل، وحرية التجارة والصناعة... الخ.

3- الحريات الفكرية: وتشمل: الحريات الفلسفية، والدينية، والفنية، والأدبية."(حسين ، 1421هـ ، 44 )

ويندرج تحت التقسيمات السابقة عدة أنواع من الحقوق والحريات كحق الإنسان في الحياة ، وحقه في تولي الوظائف العامة ، وحقه في إنشاء الأسرة والرضا في الزواج ، وحق المرأة في الموافقة على الزواج أو رفضه ، وحرية التنقل والسفر .....الخ .

واقع الحرية في العالم الإسلامي

أولاً : مفهوم العالم الإسلامي

" يقصد بالعالم الإسلامي الدول التي تزيد فيها نسبة المسلمين عن 50% من سكانها ، أو يمثل المسلمون فيها الأغلبية " ( الجاسر ، 1427هـ ، ص 12 )

" ويغطي العالم الإسلامي مساحة كبيرة تقدر بأكثر من 32 مليون كم2 أي ما يعادل خمس مساحة اليابسة ، ويزيد عدد المسلمين حالياً عن أكثر من 1300 مليون مسلم يعيشون في 56 دولة إسلامية تقريباً ونسبة منهم يعيشون كأقليات إسلامية في دول غير إسلامية ، وهذا يعني أن عدد المسلمين يقارب ربع سكان العالم البالغ 6 مليارات نسمة تقريباً " ( المصدر السابق )

ثانياً : واقع الحرية في العالم الإسلامي :

"مازال الحوار يرتفع ويثور حول الكثير من المفردات التي تدخل ضمن نطاق حقوق الإنسان. فحرية الفكر والعقيدة وحق التنظيم والإعدام خارج القضاء وحالات الاختفاء والعزل السياسي والحق في محاكمة عادلة والامتناع عن التعذيب، كلها مصطلحات لها دلالات مختلفة بالنسبة للحكومات والأيديولوجيات والسياسات. ومشكلات مثل المجاعة والبطالة وتلوث البيئة ونتائج الحروب والوجود العسكري الأجنبي، تشغل حيزاً غير قليل من فكرة حقوق الإنسان، مثلما هي قضايا حق تقرير المصير والسيادة وعدم التدخل في الشؤون الداخلية، إضافة إلى قضايا حقوق المرأة والعنصرية والتطرف وحقوق الأقليات، يقابلها المشاركة والانتخابات، دون إهمال لحرمة المنازل وسرية الرسالة والهاتف والاتصالات والحقوق الفردية الأخرى. وإذا كانت تلك المفردات قد وجدت طريقها إلى التقنين الدولي في إطار حقوق الإنسان، فإن عالمنا العربي ما زال يعاني الكثير من النقص والقصور إزاء تناول هذه المشكلات " ( شعبان ، 2001م ، ص 3 ) .

ويمكن القول إن مستوى الحرية في العالم الإسلامي بصفة عامة ما زال منخفضاً ، وذلك بالنظر إلى أصغر مؤسسات الدولة كأنموذج يُنقل الحكم منه إلى غيره من مؤسسات المجتمع وأنظمته ، ويمثل تلك المؤسسة المدرسة ، حيث يمكن ملاحظة النظام المركزي في إدارة المدرسة من قبل مديرها من حيث التسلط ، والتعسف الإداري ، ومحاباة بعض المعلمين على حساب غيرهم ، وإلزام المعلم بما يكلفه به مدير المدرسة دون نقاش واستطلاع لرأيه، والتصرف في جدول المعلمين بما يرضي مدير المدرسة دون النظر إلى رغبات المعلمين ، وينتقل ذلك إلى تصرفات المعلمين مع الطلاب ومنعهم من الكلام والحركة ، واستخدام طرق التدريس التي لا تساعد على الحوار وإبداء الرأي والتشجيع على التفكير ، وكل ذلك يسفر عن قلة الوعي ، والتقليد الأعمى لأصحاب المناصب الأعلى ، وعدم التنبه لنتائج كبت الحريات ؛ كالتمرد على الأنظمة ، وضعف الإنتاج ، والتخلف الفكري والاجتماعي ؛ نسأل الله السلامة والعافية .

كيف نفعل الحرية في تربيتنا الإسلامية

"التربية الإسلامية تؤكد "مفهوم الحرية" وتنادي بالحفاظ عليه , تشريفا للإنسان وتكريما له وإعلاء لشأنه وفق ما اقتضته إرادة الله تعالى بتفضيله على كثير ممن خلق , سواء فيما يتعلق بأمور الدين أو أمور الدنيا " ( الزنتالي ، 1993م ، ص 456 )

"وسبيلها في ذلك فتح الباب أمام الإنسان ليمارس حريته وإرادته واختياره الواعي المسؤول دينيا وخلقيا ,وتمكينه من تكوين شخصيته على نحو متكامل وسوي ومتزن خال من الاضطراب العقلي والتوتر العصبي والقلق النفسي , وإتاحة الفرص العادلة المتكافئة أمامه لينمي عقله ويصقل قدراته وميوله ومواهبه , وتشجيعه على المبادءات الذاتية والنشاط الذاتي حتى يشارك بفعالية في بناء نفسه بنفسه من خلال العملية التربوية والتعليمية.ووسيلتها في تكوين الإنسان وتنشئته:الإقناع والحجة والبرهان ,والدعوة بالتي هي أقوم والمجادلة بالتي هي أحسن , والتذكير الواعي والنصح الرشيد , وتبصيره بشكل بناء إيجابي يخاطب عقله , ويستنير ذهنه ويقدح تفكيره , فتكون قناعاته بغير جبر أو إكراه , ويتحمل مسؤوليات حريته واختياره في دنياه وأخراه" ( المصدر السابق )

قال تعالى:

(ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ )(النحل: من الآية125)

وقال سبحانه:

(فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ )(الكهف: من الآية29)

وقال عز وجل:

(لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ )(البقرة: من الآية256)

وقال جل جلاله:

(قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ)(البقرة: من الآية111)

وقال جل شأنه:

(وَالَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْهَا صُمّاً وَعُمْيَاناً) (الفرقان:73)

"وقد عزز الرسول صلى الله عليه وسلم في سنته المطهرة وسيرته العطرة , مبدأ "الحرية" سواء في التفكير أم في التعبير أم في إعمال الرأي والاجتهاد في أمور الدين والدنيا , حرصا منه على تكوين الشخصية المستقلة المتماسكة القوية لدى المسلم .

فأثناء الاستعداد لمعركة "بدر الكبرى" والتخطيط لها , قال الصحابي الجليل "الحباب بن المنذر" رضي الله عن :"يا رسول الله , إن هذا المكان الذي أنت فيه ليس بمنزل, فانطلق بنا إلى أدنى ماء إلى القوم , فإني عالم بها وبقلبها , بها قليب قد عرفت عذوبة ماءه لا ينزح , ثم نبني عليه حوضا فنشرب ونقاتل . ونغور ماسواه من القلب فنزل جبريل عليه السلام على رسول صلى الله عليه وسلم فقال:

"الرأي ما أشار به الحباب "1.فنهض رسول الله صلى الله عليه وسلم ففعل ذلك .

ولما أراد الرسول صلى الله عليه وسلم أن يبعث الصحابي الفقيه "معاذ بن جبل" رضي الله عنه إلى اليمن ,ليعلم الذين دخلوا إلى الإسلام ويفقههم , قال عليه الصلاة والسلام :"كيف تقضي إذا عرض لك قضاء ؟"قال أقضي بكتاب الله قال "فإن لم تجد في كتاب الله " قال فبسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم .قال فإن لم تجد في سنة رسول الله ولا في كتاب الله ؟"قال: أجتهد برأي ولا آلو.فضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم صدره ,فقال:"الحمد لله الذي وفق رسول رسول الله إلى مايرضي رسول الله"2 وعن عائشة وعن أنس بن ثابت رضي الله عنهما ,أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"أنتم أعلم بأمور دنياكم"3 (الزنتالي ، 1993م ، ص458)

"عن محارب بن دِثَارٍ أَنَّ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ لِرَجُلٍ : «مَنْ أَنْتَ ؟ قَالَ: أَنَا قَاضِي دِمَشْقَ، قَالَ: وَكَيْفَ تَقْضِي ؟ قَالَ: أَقْضِي بِكِتَابِ اللَّهِ، قَالَ: فَإِذَا جَاءَ مَا لَيْسَ في كِتَابِ اللَّهِ، قَالَ: أَقْضِي بِسُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ، قَالَ: فَإِذَا جَاءَ مَا لَيْسَ في سُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ ؟ قَالَ: أَجْتَهِدُ بِرَأْيٍ وَأُؤَامِرُ جُلَسَائِي، فَقَالَ لَهُ عُمَرُ: أَحْسَنْتَ "( السيوطي ، 1994م ، جـ13 ، ص 472 )

2=

التربية الإسلامية

وتحدي الحوار

* مفهوم الحوار

* حقيقة الحوار في المنهج الإسلامي

* أهمية الحوار

* أهداف الحوار

* أصول الحوار

* آداب الحوار

* التعلم من خلال لغة الحوار

مفهوم الحوار

الحوار في اللغة :

"وتَحاوَرُوا : تَراجَعُوا الكلامَ بينهمْ." ( الفيروزبادي ، 1993م )

"حاورته : راجعته الكلام "(الفيومي،1987م ،ص 60 )

"وكلَّمته فما رَجَعَ إِلَيَّ حَوَاراً وحِواراً ومُحاوَرَةٌ وحَوِيراً ومَحُورَة ، بضم الحاء، بوزن مَشُورَة أَي جواباً. وأَحارَ عليه جوابه: ردَّه. وأَحَرْتُ له جواباً وما أَحارَ بكلمة، والاسم من المُحَاوَرَةِ الحَوِير ، تقول: سمعت حَوِيرَهما وحِوَارَهما . والمُحَاوَرَة : المجاوبة. والتَّحاوُر : التجاوب؛ وتقول: كلَّمته فما أَحار إِليَّ جواباً وما رجع إِليَّ حَوِيراً ولا حَوِيرَةً ولا مَحُورَةً ولا حَوَاراً أَي ما ردَّ جواباً. واستحاره أَي استنطقه. ( ابن منظور،1410 هـ ،جـ 4، ص218 )

" والمُحَاوَرَة : مراجعة المنطق والكلام في المخاطبة، " ( المصدر السابق ، ص218) .

الحوار اصطلاحاً :

" ويراد بالحوار والجدال في مصطلح الناس : مناقشة بين طرفين أو أطراف ، يُقصد بها تصحيح كلامٍ ، وإظهار حجَّةٍ ، وإثبات حقٍ ، ودفع شبهةٍ ، وردُّ الفاسد من القول والرأي ." ( ابن حميد ، د : ت ، ص 3 )

ويفهم من تعريف الحوار والمجادلة أنهما يشتركان في مراجعة الكلام وتداوله بين طرفين إلا أن المجادلة تأخذ طابع القوة والغلبة والخصومة،.والجدل لم نؤمر به، ولم يمدح في القران على الإطلاق، وإنما قيد بالحسنى كقوله تعالى :( وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ)(النحل: من الآية125) وقال تعالى(وَلا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلاَ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ)(العنكبوت: من الآية46)

فلفظ الجدل مذموم إلا إذا قيد بالأحسن، ومما يؤكد ذلك قوله صلى الله عليه وسلم : وما ضل قوم بعد هدى كانوا عليه إلا أوتوا الجدل ثم قرأ الآية:( مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلاَ جَدَلاً بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ )(الزخرف: من الآية58) (الترمذي ، 1994م ، جـ9،ص106 )4

حقيقة الحوار في المنهج الإسلامي

أولاً : مفهوم المنهج

المنهج في اللغة :

نهج

: طريقٌ نَهْج : بَيِّنٌ واضِحٌ، وهو النَّهْج ، والجمع نَهجات ونُهُج ونُهوج

و مَنْهَج الطريقِ : وضَحُه. والمِنهاج : كالمَنْهَج . وفي التنزيل: ( لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً)(المائدة: من الآية48)

وأَنهَج الطريقُ: وضَحَ واسْتَبانَ وصار نَهْجا واضِحاً بَيِّناً ، والمِنهاج : الطريقُ الواضِحُ. واسْتَنْهَج الطريقُ: صار نَهْجا ( ابن منظور ، 1410هـ ، ج2 ، ص 383 )

المنهج في الاصطلاح :

" الطريق المؤدي إلى الكشف عن الحقيقة في العلوم بواسطة طائفة من القواعد العامة ، تهيمن على سير العقل ، وتحدد عملياته ، حتى يصل إلى نتيجة معلومة " ( العساف ، 1424 هـ ، ص 169 )

" فن التنظيم الصحيح لسلسلة من الأفكار العديدة ، من أجل الكشف عن الحقيقة " ( أبو سليمان ، 1416هـ ، ص 60 )

" طريق كسب المعرفة ، أو هو الطريقة التي يتبعها الباحث في دراسة المشكلة لاكتشاف الحقيقة ، أو هو الخطوات المنظمة التي يتبعها الباحث في معالجة الموضوعات التي يقوم بدراستها " ( الدغيمي ، 1417هـ ،ص 33 ) .

ثانياً : حقيقة الحوار في المنهج الإسلامي

الحوار قيمة من قيم الحضارة الإسلامية المستندة أساسا إلى مبادئ الدين الحنيف وتعاليمه السمحة وهو موقف فكرى يعبر عن أبرز سمات الشخصية الإسلامية السوية وهي سمة التسامح .

الحوار في المنهج الإسلامي أسلوب من أساليب التربية وطريقة للفهم والإقناع والدعوة إلى الله عز وجل بالعقل والمنطق ،" ويمكننا تمييز ستة5 أشكال من الحوار ذكرت في القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة وهي :

1-الحوار الخطابي : وقد يتطرق إلى الناحية التعبدية ، وقد يتطرق إلى التذكير بنعم الله ، قال تعالى : (سَلْ بَنِي إِسْرائيلَ كَمْ آتَيْنَاهُمْ مِنْ آيَةٍ بَيِّنَةٍ)(البقرة: من الآية211) وقد يتطرق إلى التنبيه والإيضاح مثل قوله تعالى : (عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ*عَنِ النَّبَأِ الْعَظِيمِ*الَّذِي هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ) (النبأ:1-3) ، وقد يتطرق إلى إثارة العواطف الإنسانية والانفعالات الوجدانية مثل الخشوع لله والخوف من العذاب والشعور بالندم وشكر النعم ، قال تعالى : (فَذَكِّرْ فَمَا أَنْتَ بِنِعْمَتِ رَبِّكَ بِكَاهِنٍ وَلا مَجْنُونٍ) (الطور:29) .

2-الحوار الوصفي : ويقصد به وصف حالة نفسية أو واقعة بين المتحاورين ، وهدفه التربوي الاقتداء بصالح الأعمال والابتعاد عن سيئها ، وفي القرآن الكريم كثير من الآيات التي توضح حواراً يصف أهل الجنة أو أهل النار ، قال تعالى : (وَقَالُوا يَا وَيْلَنَا هَذَا يَوْمُ الدِّينِ *هَذَا يَوْمُ الْفَصْلِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ*احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ وَمَا كَانُوا يَعْبُدُونَ*مِنْ دُونِ اللَّهِ فَاهْدُوهُمْ إِلَى صِرَاطِ الْجَحِيمِ) (الصافات:20-23) .

3-الحوار القصصي : ويأتي في إطار قصة واضحة في شكلها وتسلسلها القصصي ، ويغلب عليه الإخبار ، وتأثيره التربوي يستند إلى الإيحاء وتربية العواطف وإدراك التصور الرباني لأمور الحياة ، ومن أمثلته الحوار الذي دار بين شعيب وقومه في سورة هود .

4-الحوار الجدلي لإثبات الحجة : وغايته إثبات الحجة على المشركين للاعتراف بضرورة الإيمان بالله وتوحيده ، ومن أمثلته قوله تعالى : (وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى*مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى*وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى*إِنْ هُوَ إِلاَ وَحْيٌ يُوحَى*عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى) (لنجم:1-5)

ومن آثاره التربوية تربية العقل على التفكير السليم وتحري الصواب والرغبة في الوصول إلى الحقيقة " ( غبان ، 1415هـ ، ص 121 )

أهمية الحوار

" استخدم رسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم هذا الأسلوب ( أسلوب الحوار ) في عديد من المواقف 6، لذا حرص المربون المسلمون على إتباع هذا الأسلوب والإشادة بأهميته . وفي هذا المجال يؤكد ابن خلدون أن الطريقة الصحيحة في التعليم هي التي تهتم بالفهم والوعي والمناقشة لا الحفظ الأعمى عن ظهر قلب ، ويشير إلى أن "ملكة العلم" إنما تحصل بالمحاورة والمناظرة والمفاوضة في مواضيع العلم ، ويعيب طريقة الحفظ عن ظهر قلب ويعتبرها مسئولة عن تكوين أفراد ضيقي الأفق عقيمي التفكير لا يفقهون شيئاً ذي بال في العلم " ( غبان ،1415هـ ، ص 122)

" والواقع أن المربين المسلمين قد اهتموا بأسلوب المناظرة والحوار في التدريس واعتبروه أسلوباً مفضلاً مجدياً في التعليم ، حيث يقول الزرنوجي :"إن قضاء ساعة واحدة في المناقشة والمناظرة أجدى على المتعلم من قضاء شهر بأكمله في الحفظ والتكرار " ( المصدر السابق ، ص 122 )

" والحوار الهادئ ينمي عقل الطفل ، ويوسع مداركه ، ويزيد من نشاطه في الكشف عن حقائق الأمور ، ومجريات الحوادث والأيام ، وإن تدريب الطفل على المناقشة والحوار يقفز بالوالدين إلى قمة التربية والبناء ، إذ عندها يستطيع الطفل أن يعبر عن حقوقه ، وبإمكانه أن يسأل عن مجاهيل لم يدركها ، وبالتالي تحدث الانطلاقة الفكرية له ، فيغدو في مجالس الكبار ، فإذا لوجوده أثر ، وإذا لآرائه الفكرية صدى في نفوس الكبار ، لأنه تدرب في بيته مع والديه على الحوار، وأدبه ، وطرقه ، وأساليبه ... واكتسب خبرة الحوار من والديه ." ( سويد ، 1422هـ ، ص 119 )

ويرى الشيخ سلمان العودة أن أهمية الحوار تبرز من جانبين:

الجانب الأول: دعوة الناس إلى الإسلام والسنة:

"فتعقد لذلك محاورات مع غير المسلمين؛ لإقناعهم بأن دين الله تعالى حق لا شك فيه، أو مع مبتدعين منحرفين عن السنة؛ لدعوتهم إلى السنة، وأمرهم بالتزامها. والقرآن الكريم حافل بنماذج من مثل هذه الحوارات التي جرت بين أنبياء الله ورسله عليهم الصلاة والسلام وبين أقوامهم، حتى إن قوم نوح قالوا له: (يَا نُوحُ قَدْ جَادَلْتَنَا فَأَكْثَرْتَ جِدَالَنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ) [هود:32]، فأكثر جدالهم حتى تبرَّموا من كثرة جداله لهم، والجدال نوع من الحوار.

إننا بحاجة إلى أن نحاور أصحاب المذاهب والنظريات والأديان الأخرى؛ بهدف دعوتهم إلى الله تعالى، فالحوار وسيلة من وسائل الدعوة.

ولا يجوز أبدًا أن نعتقد -كما يعتقد الكثيرون- أن العالم اليوم يعيش حالة إفلاس من النظريات والعقائد والمبادئ والمثل، فهذا غير صحيح؛ بل العالم اليوم يعيش حالة تخمة من كثرة النظريات والمبادئ والعقائد والمثل والفلسفات وغيرها، صحيح أنها باطلة، ولكن هذا الركام الهائل من الباطل مدجج بأقوى أسلحة الدعوة والدعاية، والدعاة الذين تدرَّبوا وتعلَّموا كيف يدافعون عن الباطل حتى يصبح في نظر الناس حقًّا.

أما أهل الحق فكثير منهم لا يحسن الطريقة المثلى للحوار؛ لإقناع الخصم بما لديه من الحق والسنة .

وقد لا يحسن هؤلاء أن يناقش بعضهم بعضًا، إلا من خلال فوهات المدافع والبنادق، فإن لم يملكوها، فمن خلال الأفواه التي تطلق من الكلمات الحارة الجارحة، ما هو أشد فتكًا من الرصاص والقذائف.

إذن، فإن الهدف الأول من الحوار هو دعوة الكفار إلى الإسلام، أو دعوة الضالين من المبتدعة إلى السنة." ( العودة ، د : ت ، ص18 )

.الجانب الثاني: فصل الخلاف في الأمور الاجتهادية:

"فالحوار يُعد وسيلة للوصول إلى اليقين والحق في مسألة اجتهادية اختلفت فيها أقوال المجتهدين، فيتكلم اثنان في محاورة أو مناظرة للوصول إلى الحق في مسألة اجتهادية ليس فيها نص صريح، أو إجماع لا يجوز تعديه.

وليس من الضروري -أيها القارئ الكريم- أن تعتقد أن نتيجة الحوار لابد أن تكون إقناعك الطرف الآخر بأن ما عندك حق، وما عنده باطل، فليس هذا بلازم، فقد تقنع إنسانًا بذلك، فإن لم تتمكن، فأقل شيء تكسبه من الحوار - إذا التزمتَ بالشروط الموضوعية له - أن يعلم خصمك أن لديك حجة قوية، وأنك محاور جيد، وأن يأخذ انطباعًا بأنك موضوعي متعقل، بعيد عن التشنج والهيجان والانفعال.

فكثير من الناس يظنون أن الآخرين لا يملكون الحق، وليس عندهم شيء، وأنهم مجرد مقلِّدين، فإذا حاوروهم وناظروهم علموا أن لديهم حججًا قوية، فأقل ما تكسبه أن تجعل أمام مناظرك علامة استفهام.

فقد تلتقي بنصراني داعية إلى النصرانية، فتناقشه، فمن المحتمل أن يسلم، وهذا خير كثير، وهو أرقى وأعلى ما تتمناه، لكن قد لا يسلم، فهل تعتبر أنك قد خسرت المناظرة؟ لا؛ لأنه وإن لم يسلم، فربما صار عنده تفكير في الإسلام يدعوه إلى أن يبحث، ثم قد يسلم ولو بعد حين، وإذا لم يفكر في ذلك، فعلى الأقل صار عنده شكوك في دينه، وإذا لم يحصل هذا، فعلى أقل تقدير فتر شيء من الحماس الذي كان يحمله لدينه، وصار عنده تردد في مذهبه الباطل.

ونحن نجد أن المسلمين الذين يكثرون الاحتكاك بأهل الكتاب أو بالمنحرفين عن الإسلام ويسمعون منهم الكثير؛ نجد أن هؤلاء المسلمين وإن لم يتركوا دينهم إلا أن حماسهم يقل ويفتر لدينهم حتى وهم على الحق؛ وذلك من كثرة ما سمعوا من أعدائه، فما بالك بأهل الباطل إذا سمعوا نقد باطلهم؟ لابد أن يفتر حماسهم له، أو يشكّوا فيه، أو يتراجعوا عنه. " ( المصدر السابق ، ص 20 )

أهداف الحوار وغاياته

"الغاية من الحوار إقامةُ الحجة ، ودفعُ الشبهة والفاسد من القول والرأي . فهو تعاون من المُتناظرين على معرفة الحقيقة والتَّوصُّل إليها ، ليكشف كل طرف ما خفي على صاحبه منها ، والسير بطرق الاستدلال الصحيح للوصول إلى الحق . يقول الحافظ الذهبي : ( إنما وضعت المناظرة لكشف الحقِّ ، وإفادةِ العالِم الأذكى العلمَ لمن دونه ، وتنبيهِ الأغفلَ الأضعفَ ) .

هذه هي الغاية الأصلية ، وهي جليَّة بيِّنة ، وثَمَّت غايات وأهداف فرعية أو مُمهِّدة لهذا الغاية منها :

* إيجاد حلٍّ وسط يُرضي الأطراف .

* التعرُّف على وجهات نظر الطرف أو الأطراف الأخرى ، وهو هدف تمهيدي هام .

* البحث والتنقيب ، من أجل الاستقصاء والاستقراء في تنويع الرُّؤى والتصورات المتاحة ، من أجل الوصول إلى نتائج أفضل وأمْكَنَ ، ولو في حوارات تالية ." ( ابن حميد ، د : ت ، ص 4 )

ومن أهداف الحوار :

أولاً: أن في الحوار مع الآخر اكتشاف الإنسان لما في نفسه من النقص والضعف والسلبيات التي لا تخلوا منها شخصية إنسانية.

ثانيا ً: أن في الحوار مع الآخر حصول الاحتكاك الفكرى والثقافى والتدافع الحضارى بين الناس .

ومن دون ذلك يركد الذهن ويفقد الدافع إلى المعرفة ، قال الله تعالى : ( وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ)(البقرة: من الآية251).

ثالثاً : تحقيق الذات وإثبات الهوية .

رابعاً : الحصول على التغذية الراجعة .

خامساً : الإبداع والابتكار .

سادساً : إزالة الضغائن والمشاحنات .

أصول الحوار الهادف

ذكر الشيخ ابن حميد ثمانية أصول للحوار :

الأصل الأول :

سلوك الطرق العلمية والتزامها ، ومن هذه الطرق :

1. تقديم الأدلة المُثبِتة أو المرجِّحة للدعوى .

2. صحة تقديم النقل في الأمور المنقولة .

وفي هذين الطريقين جاءت القاعدة الحوارية المشهورة : ( إن كنت ناقلاً فالصحة ، وإن كنت مدَّعيّاً فالدليل ) .

وفي التنزيل جاء قوله سبحانه : { قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ } وفي أكثر من سورة :البقرة :111 ، والنمل 64 . { قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ هَذَا ذِكْرُ مَنْ مَعِيَ وَذِكْرُ مَنْ قَبْلِي } (الانبياء:24) . { قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ } (آل عمران:93) .

الأصل الثاني :

سلامة كلامِ المناظر ودليله من التناقض ؛ فالمتناقض ساقط بداهة .

ومن أمثلة ذلك ما ذكره بعض أهل التفسير من :

1- وصف فرعون لموسى عليه السلام بقوله : { سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ } (الذريات:39) .

وهو وصف قاله الكفار – لكثير من الأنبياء بما فيهم كفار الجاهلية – لنبينا محمد صلى الله عليه وسلم . وهذان الوصفان السحر والجنون لا يجتمعان ، لأن الشأن في الساحر العقل والفطنة والذكاء ، أما المجنون فلا عقل معه البته ، وهذا منهم تهافت وتناقض بيّن .

2- نعت كفار قريش لآيات محمد صلى الله عليه وسلم بأنها سحر مستمر ، كما في قوله تعالى : { وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ } (القمر:2) .

وهو تناقض ؛ فالسحر لا يكون مستمراً ، والمستمر لا يكون سحراً .

الأصل الثالث :

ألا يكون الدليل هو عين الدعوى ، لأنه إذا كان كذلك لم يكن دليلاً ، ولكنه اعادة للدعوى بألفاظ وصيغ أخرى . وعند بعض المُحاورين من البراعة في تزويق الألفاظ وزخرفتها ما يوهم بأنه يُورد دليلاً . وواقع الحال أنه إعادة للدعوى بلفظ مُغاير ، وهذا تحايل في أصول لإطالة النقاش من غير فائدة .

الأصل الرابع :

الاتفاق على منطلقات ثابتة وقضايا مُسَلَّمة . وهذه المُسَلَّمات والثوابت قد يكون مرجعها ؛ أنها عقلية بحتة لا تقبل النقاش عند العقلاء المتجردين ؛ كحُسْنِ الصدق ، وقُبحِ الكذب ، وشُكر المُحسن ، ومعاقبة المُذنب .

أو تكون مُسَلَّمات دينية لا يختلف عليها المعتنقون لهذه الديانة أو تلك .

وبالوقوف عند الثوابت والمُسَلَّمات ، والانطلاق منها يتحدد مُريد الحق ممن لا يريد إلا المراء والجدل والسفسطة .

ففي الإسلام الإيمان بربوبية الله وعبوديَّته ، واتَّصافه بصفات الكمال ، وتنزيهه عن صفات النقص ، ونبوة محمد صلى الله عليه وسلم ، والقرآن الكريم كلام الله ، والحكم بما أنزل الله ، وحجاب المرأة ، وتعدد الزوجات ، وحرمة الربا ، والخمر ، والزنا ؛ كل هذه قضايا مقطوع بها لدى المسلمين ، وإثباتها شرعاً أمر مفروغ منه .

إذا كان الأمر كذلك ؛ فلا يجوز أن تكون هذه محل حوار أو نقاش مع مؤمن بالإسلام لأنها محسومة .

فقضية الحكم بما أنزل الله منصوص عليها بمثل : { فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ... } (النساء:65) . { وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ } (المائدة:45) .

وحجاب المرأة محسوم بجملة نصوص :

{ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلابِيبِهِنَّ } (الأحزاب:59) .

وقد يسوغ النقاش في فرعيات من الحجاب ؛ كمسألة كشف الوجه ، فهي محل اجتهاد ؛ أما أصل الحجاب فليس كذلك .

الربا محسوم ؛ وقد يجري النقاش والحوار في بعض صوره وتفريعاته .

ومن هنا فلا يمكن لمسلم أن يقف على مائدة حوار مع شيوعي أو ملحد في مثل هذه القضايا ؛ لأن النقاش معه لا يبتدئ من هنا ، لأن هذه القضايا ليست عنده مُسَلَّمة ، ولكن يكون النقاش معه في أصل الديانة ؛ في ربوبيَّة الله ، وعبوديَّة ونبوّة محمد صلى الله عليه وسلم ، وصِدْق القرآن الكريم وإعجازه .

ولهذا فإننا نقول إن من الخطأ – غير المقصود – عند بعض المثقفين والكاتبين إثارة هذه القضايا ، أعني : تطبيق الشريعة – الحجاب – تعدد الزوجات – وأمثالها في وسائل الإعلام ، من صحافة وإذاعة على شكل مقالات أو ندوات بقصد إثباتها أو صلاحيتها . أما إذا كان المقصود : النظر في حِكَمِها وأسرارها وليس في صلاحيتها وملاءمتها فهذا لا حرج فيه ، إذْ :{ وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ }(الأحزاب:36)

وأخيراً فينبني على هذا الأصل ؛ أن الإصرار على إنكار المُسلَّمات والثوابت مكابرة قبيحة ، ومجاراة منحرفة عن أصول الحوار والمناظرة ، وليس ذلك شأن طالبي الحق .

الأصل الخامس :

التجرُّد ، وقصد الحق ، والبعد عن التعصب ، والالتزام بآداب الحوار :

إن إتباع الحق ، والسعي للوصول إليه ، والحرص على الالتزام ؛ وهو الذي يقود الحوار إلى طريق مستقيم لا عوج فيه ولا التواء ، أو هوى الجمهور ، أو الأتْباع .. والعاقل – فضلاً عن المسلم – الصادق طالبٌ حقٍّ ، باحثٌ عن الحقيقة ، ينشد الصواب ويتجنب الخطأ .

يقول الغزاليّ أبو حامد : ( التعاون على طلب الحق من الدّين ، ولكن له شروط وعلامات ؛ منها أن يكون في طلب الحق كناشد ضالّة ، لا يفرق بين أن تظهر الضالّة على يده أو على يد معاونه . ويرى رفيقه معيناً لا خصماً . ويشكره إذا عرَّفه الخطأ وأظهره له ) .

ومن مقولات الإمام الشافعي المحفوظة : ( ما كلمت أحداً قطّ إلا أحببت أن يُوفّق ويُسدّد ويُعان ، وتكون عليه رعاية الله وحفظه .وما ناظرني فبالَيْتُ ! أَظَهَرَتِ الحجّةُ على لسانه أو لساني ) .

وفي ذمّ التعصب ولو كان للحق ، يقول الغزالي :

( إن التعصّب من آفات علماء السوء ، فإنهم يُبالغون في التعصّب للحقّ ، وينظرون إلى المخالفين بعين الازدراء والاستحقار ، فتنبعث منهم الدعوى بالمكافأة والمقابلة والمعاملة ، وتتوفر بواعثهم على طلب نُصرة الباطل ، ويقوى غرضهم في التمسك بما نُسبوا إليه . ولو جاؤوا من جانب اللطف والرحمة والنصح في الخلوة ، لا في معرض التعصب والتحقير لأنجحوا فيه ، ولكن لمّا كان الجاه لا يقوم إلا بالاستتباع ، ولا يستميل الأتْباع مثلُ التعصّب واللعن والتّهم للخصوم ، اتخذوا التعصب عادتهم وآلتهم )

والمقصود من كل ذلك أن يكون الحوار بريئاً من التعصّب خالصاً لطلب الحق ، خالياً من العنف والانفعال ، بعيداً عن المشاحنات الأنانية والمغالطات البيانيّة ، مما يفسد القلوب ، ويهيج النفوس ، ويُولد النَّفرة ، ويُوغر الصدور ، وينتهي إلى القطيعة .

وهذا الموضوع سوف يزداد بسطاً حين الحديث عن آداب الحوار إن شاء الله .

الأصل السادس :

أهلية المحاور :

إذا كان من الحق ألا يمنع صاحب الحق عن حقه ، فمن الحق ألا يعطى هذا الحق لمن لا يستحقه ، كما أن من الحكمة والعقل والأدب في الرجل ألا يعترض على ما ليس له أهلاً ، ولا يدخل فيما ليس هو فيه كفؤاً .

من الخطأ أن يتصدى للدفاع عن الحق من كان على الباطل .

من الخطأ أن يتصدى للدفاع عن الحق من لا يعرف الحق .

من الخطأ أن يتصدى للدفاع عن الحق من لا يجيد الدفاع عن الحق .

من الخطأ أن يتصدى للدفاع عن الحق من لا يدرك مسالك الباطل .

إذن ، فليس كل أحد مؤهلاً للدخول في حوار صحي صحيح يؤتي ثماراً يانعة ونتائج طيبة .

والذي يجمع لك كل ذلك : ( العلم ) ؛ فلا بد من التأهيل العلمي للمُحاور ، ويقصد بذلك التأهيل العلمي المختص .

إن الجاهل بالشيء ليس كفؤاً للعالم به ، ومن لا يعلم لا يجوز أن يجادل من يعلم ، وقد قرر هذه الحقيقة إبراهيم عليه السلام في محاجَّته لأبيه حين قال :{ يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطاً سَوِيّاً}(مريم:43).

وإن من البلاء ؛ أن يقوم غير مختص ليعترض على مختص ؛ فيُخَطِّئه ويُغَلِّطه .

وإن حق من لا يعلم أن يسأل ويتفهم ، لا أن يعترض ويجادل بغير علم ، وقد قال موسى عليه السلام للعبد الصالح :

{ قَالَ لَهُ مُوسَى هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْداً } (الكهف:66) .

فالمستحسن من غير المختص ؛ أن يسأل ويستفسر ، ويفكر ويتعلم ويتتلمذ ويقف موقف موسى مع العبد الصالح .

وكثير من الحوارات غير المنتجة مردُّها إلى عدم التكافؤ بين المتحاورين ، ولقد قال الشافعي رحمه الله : ( ما جادلت عالماً إلا وغلبته ، وما جادلني جاهل إلا غلبني ! ) . وهذا التهكم من الشافعي رحمه الله يشير إلى الجدال العقيم ؛ الذي يجري بين غير المتكافئين .

الأصل السابع :

قطعية النتائج ونسبيَّتها :

من المهم في هذا الأصل إدراك أن الرأي الفكري نسبيُّ الدلالة على الصواب أو الخطأ ، والذي لا يجوز عليهم الخطأ هم الأنبياء عليهم السلام فيما يبلغون عن ربهم سبحانه وتعالى . وما عدا ذلك فيندرج تحت المقولة المشهورة ( رأيي صواب يحتمل الخطأ ، ورأي الآخر خطأ يحتمل الصواب ) .

وبناء عليه ؛ فليس من شروط الحوار الناجح أن ينتهي أحد الطرفين إلى قول الطرف الآخر . فإن تحقق هذا واتفقنا على رأي واحد فنعم المقصود ، وهو منتهى الغاية . وإن لم يكن فالحوار ناجح . إذا توصل المتحاوران بقناعة إلى قبول كلٍ من منهجيهما ؛ يسوغ لكل واحد منهما التمسك به ما دام أنه في دائرة الخلاف السائغ . وما تقدم من حديث عن غاية الحوار يزيد هذا الأصل إيضاحاً .

وفي تقرير ذلك يقول ابن تيمية رحمه الله : ( وكان بعضهم يعذر كل من خالفه في مسائل الاجتهادية ، ولا يكلفه أن يوافقه فهمه ) ا هـ . من المغني .

ولكن يكون الحوار فاشلاً إذا انتهى إلى نزاع وقطيعة ، وتدابر ومكايدة وتجهيل وتخطئة .

الأصل الثامن :

الرضا والقبول بالنتائج التي يتوصل إليها المتحاورون ، والالتزام الجادّ بها ، وبما يترتب عليها .

وإذا لم يتحقق هذا الأصل كانت المناظرة ضرباً من العبث الذي يتنزه عنه العقلاء .

يقول ابن عقيل : ( وليقبل كل واحد منهما من صاحبه الحجة ؛ فإنه أنبل لقدره ، وأعون على إدراك الحق وسلوك سبيل الصدق .

قال الشافعي رضي الله عنه : ما ناظرت أحداً فقبل مني الحجَّة إلا عظم في عيني ، ولا ردَّها إلا سقط في عيني ) ( ابن حميد ، د : ت ، ص 8 )

آداب الحوار

إن آداب الحوار الصحيح، هي بإيجاز:

أولاً: حسن المقصد:

فليس المقصود من الحوار العلو في الأرض، ولا الفساد، ولا الانتصار للنفس، ولكن المقصود الوصول إلى الحق .

والله تعالى يعلم من قلب المحاور ما إن كان يهدف إلى ذلك أم يهدف إلى الانتصار، والتحدث في المجالس أنه أفحم خصمه بالحجة.

ثانيًا: التواضع بالقول والفعل:

من آداب الحوار: التواضع، وتجنُّب ما يدل على العجب والغرور والكبرياء.

وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم : "الكبر بطر الحق وغمط الناس"7

ثالثًا: الإصغاء وحسن الاستماع:

وهكذا كان الرسول صلى الله عليه وسلم، فربما تحدَّث معه بعض المشركين بكلام لا يستحق أن يُسمع، فيصغي النبي صلى الله عليه وسلم، حتى إذا انتهى هذا الرجل وفرغ من كلامه، قال له صلى الله عليه وسلم: "أوقد فرغت يا أبا الوليد؟" قال: نعم. فتكلَّم النبي صلى الله عليه وسلم بشيء من القرآن .8

رابعًا: الإنصاف:

وهو أن تكون الحقيقة ضالتك المنشودة، تبحث عنها في كل مكان، وفي كل عقل.

.خامسًا: البدء بمواضع الاتفاق والإجماع والمسلَّمات والبدهيات:

فمن المصلحة ألا تبدأ الحوار بقضية مختلف فيها؛ بل ابدأ بموضوع متفق عليه، أو بقاعدة كلية مسلَّمة أو بدهية، وتدرج منها إلى ما يشبهها أو يقاربها، ثم إلى مواضع الخلاف.

.سادسًا: ترك التعصب لغير الحق .

.سابعًا: احترام الطرف الآخر:

فنحن مأمورون أن نُنزل الناس منازلهم، وألا نبخس الناس أشياءهم.

ولهذا قال النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم - "ليس المؤمن بالطعَّان، ولا اللعَّان، ولا الفاحش، ولا البذيء"،9 فالمؤمن ليس باللعان، ولا بالطعان في الناس وأعراضهم، ونياتهم ومقاصدهم وأحوالهم، ولا بالفاحش، ولا بالبذيء.

وفي الصحيح عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنه أنه قال: "لم يكن النبي صلى الله عليه وسلم فاحشًا ولا متفحِّشًا، وكان يقول: إن من خياركم أحسنكم أخلاقًا"10، فهذا حال النبي صلى الله عليه وسلم وصفته، وهذا كلامه في وصف المؤمن، أنه لا يحب الفحش ولا التفحش.

ثامناً : الموضوعية :

الموضوعية تعني رعاية الموضوع وعدم الخروج عنه .

تاسعًا: عدم الإلزام بما لا يلزم أو المؤاخذة باللازم:

والإلزام -بأن تلزم إنسانًا بمقتضى كلامه- من المشكلات؛ لأن اللازم يصلح في كلام الله تعالى، فتقول: الآية يلزم منها كذا، واللازم يعتبر دليلاً من أنواع الدلالات، وكما يقول علماء الأصول: الدلالات ثلاث: دلالة المطابقة، ودلالة التضمن، ودلالة الإلزام، يعني: يلزم من هذا النص كذا وكذا.

فهذا يصح في كلام الله وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم، أما كلام الناس فلا إلزام فيه بشيء ما، تقول: يلزم من كلامه كذا وكذا، رغم أنه ما خطر في باله هذا اللازم، ولا فكَّر فيه يومًا من الأيام، وقد لا يوافقك على أنه لازم، ولو وافقك على أنه لازم قد لا يُقر به، فلماذا تلزم الناس بشيء لم يلتزموا به؟

.عاشرًا: اعتدال الصوت:

لا تبالغ في رفع الصوت أثناء الحوار، فليس من قوة الحجة المبالغة في رفع الصوت في النقاش والحوار؛ بل كلَّما كان الإنسان أهدأ كان أعمق؛ ولهذا تجد ضجيج البحر وصخبه على الشاطئ، حيث الصخور والمياه الضحلة، وحيث لا جواهر ولا درر، فإذا مشيت إلى عمق البحر ولجته وجدت الهدوء، حيث الماء العميق ونفائس البحر وكنوزه؛ لذلك يقول المثل الغربي: "الماء العميق أهدأ".

( العودة ، د : ت ، ص 37 )

التعلم من خلال لغة الحوار

" استخدم رسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم هذا الأسلوب ( أسلوب الحوار ) في عديد من المواقف 11، لذا حرص المربون المسلمون على إتباع هذا الأسلوب والإشادة بأهميته . وفي هذا المجال يؤكد ابن خلدون أن الطريقة الصحيحة في التعليم هي التي تهتم بالفهم والوعي والمناقشة لا الحفظ الأعمى عن ظهر قلب ، ويشير إلى أن "ملكة العلم" إنما تحصل بالمحاورة والمناظرة والمفاوضة في مواضيع العلم ، ويعيب طريقة الحفظ عن ظهر قلب ويعتبرها مسئولة عن تكوين أفراد ضيقي الأفق عقيمي التفكير لا يفقهون شيئاً ذي بال في العلم " ( غبان ،1415هـ ، ص 122)

" والواقع أن المربين المسلمين قد اهتموا بأسلوب المناظرة والحوار في التدريس واعتبروه أسلوباً مفضلاً مجدياً في التعليم ، حيث يقول الزرنوجي :"إن قضاء ساعة واحدة في المناقشة والمناظرة أجدى على المتعلم من قضاء شهر بأكمله في الحفظ والتكرار " ( المصدر السابق ، ص 122 )

" والحوار الهادئ ينمي عقل الطفل ، ويوسع مداركه ، ويزيد من نشاطه في الكشف عن حقائق الأمور ، ومجريات الحوادث والأيام ، وإن تدريب الطفل على المناقشة والحوار يقفز بالوالدين إلى قمة التربية والبناء ، إذ عندها يستطيع الطفل أن يعبر عن حقوقه ، وبإمكانه أن يسأل عن مجاهيل لم يدركها ، وبالتالي تحدث الانطلاقة الفكرية له ، فيغدو في مجالس الكبار ، فإذا لوجوده أثر ، وإذا لآرائه الفكرية صدى في نفوس الكبار ، لأنه تدرب في بيته مع والديه على الحوار، وأدبه ، وطرقه ، وأساليبه ... واكتسب خبرة الحوار من والديه ." ( سويد ، 1422هـ ، ص 119 )

ومن أهم التقنيات التي ينبغي مراعاتها في الحوار :

1-الاتجاه بالكلية إلى المحاور .

2-الاقتراب من المحاور .

3-التواصل البصري مع المحاور .

3=

التربية الإسلامية

وتحدي

الغلو والتطرف الديني

* مفهوم الغلو والتطرف

* نشأة وتطور الغلو والتطرف الديني في العالم الإسلامي

* أنواع الغلو

* موقف التربية الإسلامية من الغلو والتطرف

* الإفرازات السلبية للغلو

* سبل الوقاية والعلاج من مشكلة الغلو والتطرف الديني

مفهوم الغلو والتطرف

الغلو في اللغة :

"غَلاَ في الأَمْرِ غُلُوًّا: جاوَزَ حَدَّهُ، وـ بالسَّهْمِ غَلْواً وغُلُوًّا: رَفَعَ يَدَيْهِ لأقْصَى الغَايَةِ، كغالاهُ ، وـ به مُغالاةً وغِلاءً، فهو رجلٌ غَلاءٌ ، كسماءٍ، أي: بعيدُ الغُلُوِّ بالسَّهْمِ، وـ السَّهْمُ: ارْتَفَعَ في ذَهابِهِ، وجاوَزَ المَدَى" ( الفيروزبادي ، 1993م )

"وتَغَالَى النَّبْتُ: ارْتَفَعَ" ( المصدر السابق )

" والغلوة : الغاية وهي رمية سهم أبعد ما يقدر عليه "(الفيومي،1987م ،ص 172 )

" وغلا في الدين غلواً من باب قعد12 تصلب وشدد حتى جاوز الحد ، وفي التنزيل ( لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ)(النساء: من الآية171) وغالى في أمره مغالاة : بالغ ، وغلا السعر يغلو والاسم الغلاء بالفتح والمد : ارتفع " ( المصدر السابق ، ص 172 ).

غَلا في الدِّينِ والأَمْرِ يَغْلُو غُلُوّا : جاوَزَ حَدَّه. وفي التنزيل ( لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ)(النساء: من الآية171) ( ابن منظور،1410 هـ ،جـ15 ، ص 132)

" قال بعضهم غَلَوْت في الأَمر غُلوّا وغَلانِيَةً وغَلانِيا إِذا جاوزْتَ فيه الحَدّ وأَفْرَطْت فيه " ( المصدر السابق ، ص 132 ) .

التطرف في اللغة :

" والطَّرَف ، بالتحريك: الناحية من النواحي والطائفة من الشيء، والجمع أَطراف . وفي حديث عذاب القبر: كان لا يَتَطَرَّفُ من البَوْل13، أَي لا يَتباعَدُ؛ من الطرَف: الناحية. وقوله عز وجل: (وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفاً مِنَ اللَّيْلِ)(هود: من الآية114) يعني الصلوات الخمس فأَحدُ طَرَفي النهارِ صلاة الصبح والطرَفُ الآخر فيه صلاتا العَشِيِّ، وهما الظهر والعصر، وقوله (عز وجل): ( وَزُلَفاً مِنَ اللَّيْلِ)(هود: من الآية114) يعني صلاة المغرب والعشاء. وقوله عز وجل: ( وَمِنْ آنَاءِ اللَّيْلِ فَسَبِّحْ وَأَطْرَافَ النَّهَارِ)(طه: من الآية130) أَراد وسبح أَطراف النهار؛ قال الزجاج: أَطْراف النهار الظهر والعصر، وقال ابن الكلبي: أَطراف النهار ساعاته. وقال أَبو العباس: أَراد طرفيه فجمع. " ( ابن منظور،1410هـ ،جـ 9 ، ص 217 )

ويقال: طَرَّف الرجل حول العسكر وحول القوم، يقال: طرَّف فلان إِذا قاتل حول العسكر، لأَنه يحمل على طَرَفِ منهم فيردُّهم إِلى الجُمْهور. ابن سيده: وطرَّف حول القوم قَاتَلَ على أَقصاهم وناحيتهم، وبه سمي الرجل مُطَرِّفا . وتطرَّف عليهم: أَغار، وقيل: المُطَرِّف الذي يأْتي أَوائل الخيل فيردُّها على آخرها، ويقال: هو الذي يُقاتِل أَطراف الناس " ( المصدر السابق ، ص 217 )

الغلو والتطرف في الاصطلاح :

" إن الغلو أو التطرف لم يعد في الدين فقط ، بل في مختلف ممارسات الحياة اليومية ، فقد يكون التطرف في الفكر أو السلوك أو فيهما معاً ، وقد يكون في الماديات كالجلوس أو المشي ، وفي المعاملات داخل الأسرة أو مع أفراد المجتمع ، وقد يكون التطرف في المجال السياسي حيث يكون رجل السياسة متسلطاً لا يقبل الحوار والرأي الآخر والأحزاب الأخرى ." ( فرج ،1426هـ، ص 9 ) .

" أما التطرف الديني فيعني سؤ الفهم للنصوص الدينية الذي يؤدي إلى التشدد والغلو ، ويطلق عادة على بعض الأفراد الذين يلجئون إلى التفسير عن جهل في أمورهم الدينية ويضللون الناس " ( المصدر السابق ، ص 9 ) .

والغلو : " مجاوزة الحد والإفراط في التعظيم بالقول والاعتقاد والعمل " ( وزارة المعارف ،1423هـ ، ص 21 ) .

ومن الغلو : التنطع وهو " التعمق في الشيء والتكلف فيه ومجاوزة الحد في القول والفعل والتشدد في غير موضع التشدد " ( المصدر السابق ، ص 27 ) .

ومن الغلو أيضاً : الإطراء وهو " المبالغة في المدح والتعظيم والكذب فيه " ( المصدر السابق ، ص 27 ) كما جاء في الحديث : " لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم إنما أنا عبد . فقولوا : عبد الله ورسوله " ( البخاري ، 6 / 3445 )

ويمكن القول بأن التطرف يتضمن التفريط والتساهل في الأمور وعدم إعطائها ما تستحقه ، كما يتضمن الإفراط والمبالغة في الأمور وإعطائها أكثر مما تستحق وكما قال أبو سليمان البستي :

ولا تَغْل في شيءٍ من الأمر واقتصد

كلا طرَفَي قصد الأمور ذميم

نشأة وتطور الغلو والتطرف الديني

في العالم الإسلامي

نشأ الغلو والتطرف منذ القدم ، حيث ذكر الله تعالى قصة غلو قوم نوح في صالحيهم ، كما روى ابن عباس رضي الله عنهما في قول الله تعالى (وَقَالُوا لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلا تَذَرُنَّ وَدّاً وَلا سُوَاعاً وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْراً) (نوح:23)

قال : " هذه أسماء رجال صالحين من قوم نوح ، فلما هلكوا أوحى الشيطان إلى قومهم : أن انصبوا إلى مجالسهم التي كانوا يجلسون فيها أنصاباً وسمّوها بأسمائهم ، ففعلوا ولم تعبد حتى هلك أولئك ونسي العلم ، عبدت " ( البخاري ، 4920/8 ) .

قال ابن تيمية رحمه الله : " وأصل الشرك في بني آدم: كان من الشرك بالبشر الصالحين المعظمين. فإنهم لما ماتوا: عكفوا على قبورهم ، ثم صوروا تماثيلهم، ثم عبدوهم. فهذا أول شرك كان في بني آدم. وكان في قوم نوح. فإنه أول رسول بعث إلى أهل الأرض، يدعوهم إلى التوحيد. وينهاهم عن الشرك. " ( ابن تيمية، د:ت ، جـ14 ، ص343 )

وقال ابن القيم رحمه الله " وقال غير واحد من السلف: كان هؤلاء قوماً صالحين فى قوم نوح عليه السلام، فلما ماتوا عكفوا على قبورهم، ثم صوّروا تماثيلهم، ثم طال عليهم الأمد فعبدوهم. " ( ابن القيم ، د:ت ، جـ1 ، ص 217 )

وقد أخبر الله تعالى عن غلو اليهود والنصارى فقال في محكم التنزيل : (وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ) (التوبة:30)

وأما في العصر الإسلامي فقد ظهر الغلو مبكراً كما في حديث أنسَ بن مالكٍ رضيَ الله عنه قال: «جاء ثلاثةُ رَهْطٍ إلى بيوتِ أزواج النبيِّ صلى الله عليه وسلم يسألونَ عن عبادةِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم، فلما أُخبروا كأَنهم تَقالُّوها، فقالوا: وأينَ نحنُ منَ النبيِّ صلى الله عليهوسلم ؟ قد غَفر اللهُ لهُ ما تقدَّمَ من ذنبِهِ وماتأخَّر. قال أحدُهم: أما أنا فأنا أصلِّي الليلَ أبداً. وقال آخر: أنا أصومُ الدهرَ ولا أُفطر. وقال آخر: أنا أعتزِلُ النساء فلا أتزوَّجُ أبداً. فجاء رسولُ الله صلى الله عليه وسلم فقال: أنتُم الذين قلتم كذا وكذا؟ أما واللهِ إني لأخشاكم لله وأتقاكم له، لكني أصومُ وأُفطر، وأصلِّي وأرقُد، وأتزوجُ النساء، فمن رغِبَ عن سُنَّتي فليسَ مني». ( البخاري ، 9/5063 ) .

وعن عبدِ الله بنِ عمرو قال: «أنكَحَني أبي امرأةً ذاتَ حَسَبٍ، فكان يتعاهَدُ كَنَّتَهُ فيسألها عن بَعلها فتقول: نِعْمَ الرجُلُ من رجل، لم يطأ لنا فِراشاً ولم يُفتِّشْ لنا كَنَفاً مُنذ أَتيناه. فلما طال ذلك عليه ذكر للنبيِّ صلى الله عليه وسلم، فقال: الْقَنِي بِه فَلَقِيته بَعدُ، فقال: كيف تصوم؟ قلت: أصوم كلَّ يَومٍ. قال: وكيف تخْتم؟ قلت: كل ليلةٍ.قال: صمْ في كلِّ شهر ثلاثةً، واقرأ القُرآنَ في كلِّ شَهْرٍ. قالَ: قلْتُ: أُطِيقُ أَكْثَرَ من ذالِكَ، قالَ: صُم ثلاثةَ أيام في الجمعة. قال: قلت: أطِيقُ أكثرَ من ذلك. قال: أفطر يومَين، وصُم يوماً. قال: قلت: أطِيقُ أكثر من ذلك، قال: صُم أَفضَل الصَّوم صوْم داود، صيامَ يومٍ وإفطارَ يَومٍ، واقرأْ في كلِّ سبع ليالٍ مرَّةً. فَلَيتَني قبلتُ رُخْصةَ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم، وذاكَ أنّي كبرتُ وضَعُفت فكان يَقرأ على بعض أهله السُّبعَ من القرآن بالنهار والذي يقرؤه يَعرضه من النهار ليكُونَ أَخَفَّ عليه بالليل وإذا أراد أن يتقوَّى أفطَرَ أياماً وأحصى وصام مِثلَهُنّ، كراهيةَ أَن يَتركَ شيئاً فارقَ النبيَّ صلى الله عليه وسلم عليه». ( البخاري ، 8 / 5052 ) .

وعن ابن عباس : « أن رجلاً قال : يا رسول الله ، ما شاء الله وشئت ، فقال : جعلتني لله عدلاً ؟ بل ما شاء الله وحده » ( أحمد 1 / 2565 )

ونلاحظ في الأحاديث السابقة : أن النبي صلى الله عليه وسلم يحارب الغلو ويسارع إلى إنكاره بالتوجيه والإرشاد والحوار والدلالة إلى الخير والصواب والعمل الأفضل ، بل يحتج على المغالين بنفسه صلوات ربي وسلامه عليه فيقول " أما واللهِ إني لأخشاكم لله وأتقاكم له، لكني أصومُ وأُفطر، وأصلِّي وأرقُد، وأتزوجُ النساء، فمن رغِبَ عن سُنَّتي فليسَ مني». ( البخاري ، 9/5063 ) .

وكيف لا يكون ذلك وهو قدوة الصالحين كما قال تعالى: (لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً) (الأحزاب:21) .

والغلو والتطرف من سنة الحياة التي لا يخلو عصر من عصورها منه ، فهو ملازم للبشر ، كالصراع بين الخير والشر الذي لا ينقطع حتى يرث الله الأرض ومن عليها ، والمتأمل في قوله صلى الله عليه وسلم كما جاء عن أبي سعيدٍ رضيَ اللَّهُ عنه قال: «بُعِثَ إِلى النبيِّ صلى الله عليه وسلم بشيءٍ، فقَسَمَهُ بين أربعةٍ وقال: أتألفُهم. فقال رجلٌ: ما عَدَلتَ. فقال: يَخرُجُ من ضِئْضىء هذا قومٌ يمرُقونَ منَ الدين».( البخاري ، 8 / 4667 ) يدرك أن التطرف والغلو من سنن الحياة التي لا بد من حصولها ، ولذا وجب التعامل مع الغلو والتطرف تعاملاً يتفق مع سنة النبي صلى الله عليه وسلم كما في الأحاديث السابقة كالنصيحة والبيان والتوضيح والحوار والدلالة والإرشاد والإنكار بدرجاته الثلاث والتي قد تصل إلى القتال كما أورد النسائي في سننه مرفوعاً : «يَخْرُجُ فِي آخِرِ الزَّمَانِ قَوْمٌ كَأَنَّ هذَا مِنْهُمْ يَقْرَأونَ الْقُرْآنَ لاَ يُجَاوِزُ تَرَاقِيهِمْ يَمْرُقُونَ مِنَ الاِسْلاَمِ كَمَا يَمْرُقُ السَّهْمُ مِنَ الرَّمِيَّةِ سِيمَاهُمُ التَّحْلِيقُ لاَ يَزَالُونَ يَخْرُجُونَ حَتَّى يَخْرُجَ آخِرُهُمْ مَعَ الْمَسِيحِ الدَّجَّالِ فَإذَا لَقِيتُمُوهُمْ فَاقْتُلُوهُمْ هُمْ شَرُّ الْخَلْقِ وَالْخَلِيقَةِ».( النسائي 2 / 3532 ) .

ومقتل الخليفة الثالث عثمان بن عفان ( رضي الله عنه ) هو حلقة من حلقات الغلو والتطرف في التاريخ الإسلامي ، ثم ما حصل من الفتنة والقتال بين المسلمين بعد ذلك والله المستعان .

أنواع الغلو

سبق الكلام عن الغلو و التطرف وأنه " لم يعد في الدين فقط ، بل في مختلف ممارسات الحياة اليومية ، فقد يكون التطرف في الفكر أو السلوك أو فيهما معاً ، وقد يكون في الماديات كالجلوس أو المشي ، وفي المعاملات داخل الأسرة أو مع أفراد المجتمع ، وقد يكون التطرف في المجال السياسي حيث يكون رجل السياسة متسلطاً لا يقبل الحوار والرأي الآخر والأحزاب الأخرى ." ( فرج ،1426هـ، ص 9 ) .

وإذا أردنا أن نتكلم عن أنواع الغلو في الدين فنستطيع أن نصنفه في الأصناف التالية :

1-غلو اعتقادي ، كغلو الخوارج وأشباههم من الفرق المنحرفة ، حيث يكفّر الخوارج مرتكب الكبيرة ويقولون بتخليده في النار ، والرافضة يقولون بعصمة الأئمة ، وينزلون آل البيت ( رضي الله عنهم ) فوق المنزلة التي أنزلهم الله تعالى فيها .

2-غلو عملي ، كالغلو في العبادات ، والابتداع فيها ، وإيجاب ما لم يوجبه الله تعالى منها كتنزيل السنن والمستحبات منزلة الفرائض والواجبات ، والإنكار على من ترك السنة ، وكالزيادة في الوضوء على ثلاث غسلات ، ومنع المباحات ، والتضييق على الناس فيما وسّع الله تعالى لهم فيه .

3-غلو طبعي ، كالجفاء ، والغلظة ،والفظاظة في الدعوة ، وضيق النفس عن تقبل آراء الآخرين فيما يسوغ فيه الخلاف ، وترك الرفق واستبداله بالشدة في غير موضعها ، قال تعالى : ( أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ )(المائدة: من الآية54) ، وقال صلى الله عليه وسلم : «إِنَّ الرِّفْقَ لاَ يَكُونُ فِي شَيْءٍ إِلاَّ زَانَهُ، وَلاَ يُنْزَعُ مِنْ شَيْءٍ إِلاَّ شَانَهُ».( مسلم ، 16/6554) .

ويرى ( اليوسف ، 1425هـ ، ص 13 ) أن التطرف على ثلاث مستويات هي :

" أ- المستوى العقلي أو المعرفي والمتمثل في انعدام القدرة على التأمل والتفكير.

ب- المستوى الوجداني والمتمثل بالاندفاعية في السلوك.

ج- المستوى السلوكي والمتمثل في ممارسة العنف ضد الآخرين. "

موقف التربية الإسلامية من الغلو والتطرف

إن التربية الإسلامية تدعو المسلم إلى الاعتدال والتوازن ، لينشأ المسلم سوياً ، وبما يحقق له التربية السليمة بأبعادها المختلفة .

" والتربية الإسلامية ليست تربية مغالية أو مشطة في أساليبها واتجاهاتها ونظرتها إلى مختلف جوانب الشخصية الإنسانية ، بل تنظر إليها نظرة وسطية معتدلة متوازنة شمولية " ( الزنتاني ، 1993م ، ص 446 ) .

"وخاصية الاعتدال في التربية الإسلامية تكفل لفطرة الإنسان وطبيعته وكسبه ، كما شاء الله تعالى : هداية الإيمان والعقيدة فتزكي روحه ، وتفتح الفكر وحريته فتنمي عقله وتزيد معارفه وعلومه ، واتزان الوجدان بانفعالاته ومشاعره وأحاسيسه وعواطفه فترقي خلقه " ( المصدر السابق ، ص 446 ) .

و " يكسب الإسلام التربية توازناً بين النظرية والتطبيق ، وتوازناً بين الحياة الدنيا والحياة الآخرة ، وتوازناً بين أشواق الفرد الروحية وتلبية حاجاته المادية والاجتماعية ، وهذا التوازن في التربية الإسلامية يجعلها أقرب ما تكون إلى طبيعة الأشياء " ( غبان وآخرون، 1415 هـ ، ص 111 ) .

قال تعالى : (قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ)(لأعراف: من الآية32) .

وقال تعالى : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ) (البقرة:172) .

وقال تعالى : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ) (المائدة:87) .

وقال تعالى : (وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ) (القصص:77) .

وقال تعالى : (فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ وَلا تَطْغَوْا إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) (هود:1121) .

وقال تعالى : (يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ)(النساء: من الآية171)

وقال تعالى : (قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ)(المائدة: من الآية77) .

ونلاحظ في الأحاديث التالية : أن النبي صلى الله عليه وسلم يحارب الغلو ويسارع إلى إنكاره بالتوجيه والإرشاد والحوار والدلالة إلى الخير والصواب والعمل الأفضل ، بل يحتج على المغالين بنفسه صلوات ربي وسلامه عليه فيقول " أما واللهِ إني لأخشاكم لله وأتقاكم له، لكني أصومُ وأُفطر، وأصلِّي وأرقُد، وأتزوجُ النساء، فمن رغِبَ عن سُنَّتي فليسَ مني». ( البخاري ، 9/5063 ) .

قوله صلى الله عليه وسلم: «إِيَّاكُمْ وَالْغُلُوَّ فِي الدينِ، فَإنَّمَا هَلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ بِالْغُلُو فِي الدينِ» ( السيوطي ، 3/ 9309 ) .

وعن أنسَ بن مالكٍ رضيَ الله عنه قال: «جاء ثلاثةُ رَهْطٍ إلى بيوتِ أزواج النبيِّ صلى الله عليه وسلم يسألونَ عن عبادةِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم، فلما أُخبروا كأَنهم تَقالُّوها، فقالوا: وأينَ نحنُ منَ النبيِّ صلى الله عليه وسلم؟ قد غَفر اللهُ لهُ ما تقدَّمَ من ذنبِهِ وماتأخَّر. قال أحدُهم: أما أنا فأنا أصلِّي الليلَ أبداً. وقال آخر: أنا أصومُ الدهرَ ولا أُفطر. وقال آخر: أنا أعتزِلُ النساء فلا أتزوَّجُ أبداً. فجاء رسولُ الله صلى الله عليه وسلم فقال: أنتُم الذين قلتم كذا وكذا؟ أما واللهِ إني لأخشاكم لله وأتقاكم له، لكني أصومُ وأُفطر، وأصلِّي وأرقُد، وأتزوجُ النساء، فمن رغِبَ عن سُنَّتي فليسَ مني». ( البخاري ، 9/5063 ) .

وعن عبدِ الله بنِ عمرو قال: «أنكَحَني أبي امرأةً ذاتَ حَسَبٍ، فكان يتعاهَدُ كَنَّتَهُ فيسألها عن بَعلها فتقول: نِعْمَ الرجُلُ من رجل، لم يطأ لنا فِراشاً ولم يُفتِّشْ لنا كَنَفاً مُنذ أَتيناه. فلما طال ذلك عليه ذكر للنبيِّ صلى الله عليه وسلم، فقال: الْقَنِي بِه فَلَقِيته بَعدُ، فقال: كيف تصوم؟ قلت: أصوم كلَّ يَومٍ. قال: وكيف تخْتم؟ قلت: كل ليلةٍ.قال: صمْ في كلِّ شهر ثلاثةً، واقرأ القُرآنَ في كلِّ شَهْرٍ. قالَ: قلْتُ: أُطِيقُ أَكْثَرَ من ذالِكَ، قالَ: صُم ثلاثةَ أيام في الجمعة. قال: قلت: أطِيقُ أكثرَ من ذلك. قال: أفطر يومَين، وصُم يوماً. قال: قلت: أطِيقُ أكثر من ذلك، قال: صُم أَفضَل الصَّوم صوْم داود، صيامَ يومٍ وإفطارَ يَومٍ، واقرأْ في كلِّ سبع ليالٍ مرَّةً. فَلَيتَني قبلتُ رُخْصةَ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم، وذاكَ أنّي كبرتُ وضَعُفت فكان يَقرأ على بعض أهله السُّبعَ من القرآن بالنهار والذي يقرؤه يَعرضه من النهار ليكُونَ أَخَفَّ عليه بالليل وإذا أراد أن يتقوَّى أفطَرَ أياماً وأحصى وصام مِثلَهُنّ، كراهيةَ أَن يَتركَ شيئاً فارقَ النبيَّ صلى الله عليه وسلم عليه». ( البخاري ، 8 / 5052 ) .

وعن ابن عباس : « أن رجلاً قال : يا رسول الله ، ما شاء الله وشئت ، فقال : جعلتني لله عدلاً ؟ بل ما شاء الله وحده » ( أحمد 1 / 2565 ) .

وبما سبق من أحاديث يتضح موقف التربية الإسلامية من الغلو كتحريمه والإنكار على مرتكبيه ومجادلتهم بالتي هي أحسن وبالحوار وإقامة الحجة عليهم .

ويمكن الاستشهاد على ذلك بتأمل كيفية تعامل النبي صلى الله عليه وسلم مع أهل الكتاب ( وهم من روّاد الغلو والتطرف ) حيث تظهر حكمة القول في التعامل مع أهل الكتاب و دعوتهم إلى الله تعالى ، وأن يجادلوا بالتي هي أحسن ، بحسن خلق ولطف ولين كلام ، ودعوة إلى الحق ، وتحسينه بالأدلة العقلية والنقلية ، ورد الباطل بأقرب طريق وأنسب عبارة ، وأن لا يكون القصد من ذلك مجرد المجادلة والمغالبة وحب العلو ، بل لا بد أن يكون القصد بيان الحق ، وهداية الخلق ، كما قال عز وجل : (وَلا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ) (العنكبوت:46)

وقال عز وجل : (قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ) (آل عمران:64)

وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يستخدم القول الحكيم في دعوته إلى الله عز وجل ، ومن ذلك ما روته عائشة رضي الله عنها قالت : «دخلَ رَهطٌ من اليهود على رسولٍ الله صلى اللهعليه وسلم  فقالوا: السَّامُ عليكم. قالت عائشة: ففهمتُها فقلت: وعليكمُ السامُ واللعنة. قالت: فقال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: مهلاً يا عائشة، إنَّ اللهَ يحبُّ الرفقَ في الأمرِ كلِّه. فقلتُ: يا رسولَ الله، أولم تَسمعْ ما قالوا؟ قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم : قد قلتُ وعليكم». "(البخاري 12/5886)

وليس معنى هذا أن الحكمة تقتصر على الكلام اللين والرفق والعفو ، بل تكون أحياناً بالموعظة الحسنة والترغيب والترهيب وبيان الحق علماً وعملاً ، وتارة تكون باستخدام الجدال بالتي هي أحسن ، وتارة تكون باستخدام القوة وبالجهاد في سبيل الله ،

وبالتأمل في سيرة النبي صلى الله عليه وسلم وفي كيفية تعامله مع أهل الكتاب يمكن للناظر إجمال ذلك فيما يلي :

1-دعوتهم إلى الحق والهدى والإيمان .

2-مناظرتهم ومجادلتهم بالتي هي أحسن .

3-عقد العهود والمواثيق معهم والوفاء بها .

4-الإحسان إليهم وحسن معاملتهم .

5-مبايعتهم والاقتراض منهم والتعاون معهم .

6-قتالهم واستخدام القوة معهم .

وفي سيرته صلى الله عليه وسلم تتجلى التربية الإسلامية الحقة في التعامل مع الغلاة والمتطرفين من المسلمين وغيرهم .

الإفرازات السلبية للغلو

لا شك أن للغلو والتطرف إفرازات ونتائج سلبية وعواقب وخيمة" كالجور على حقوق أخرى ينبغي أن تراعى ، وواجبات يجب أن تؤدى ، وسوء الظن بالناس ، والنظر إليهم من خلال منظار أسود يخفي حسناتهم على حين يضخم سيئاتهم ، والغلظة في التعامل والخشونة في الأسلوب والفظاظة في الدعوة " ( فرج ،1426هـ،ص 10 ) .

ومن الإفرازات السلبية للغلو : " الشخصية المتطرفة على المستوى العقلي بأسلوب مغلق جامد التفكير ، أو عدم القدرة على تقبل أي معتقدات تختلف عن معتقداتها أو أفكارها أو معتقدات جماعتها ، وعدم القدرة على التأمل والتفكير والإبداع " ( المصدر السابق ، ص 11 ) .

والغلو والتطرف يفرز جماعة من الناس " لا يؤمنون بالحوار مع الآخر ، ولا يؤمنون بحرية الدين ، أو التعامل مع الأجنبي وبقائه في البلاد الإسلامية التي أقرها الإسلام في قوله تعالى : (لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ )(البقرة: من الآية256) " ( المصدر السابق ، ص 12 ) .

ومن الملاحظ أن" أصحاب الأفكار المتطرفة لديهم رغبة جامحة في إقصاء الآخر ، فهم الوحيدون القادرون حسب رؤيتهم على فهم الحقائق والأمور. ولديهم أحادية في النظر ، فالحقائق لديهم ليس لها إلا وجه واحد وطريق الحياة ليس له إلا مسار واحد في رؤيتهم.

وأنهم يحملون توجهات عقدية وفكرية تؤكد ما لديهم من قناعات ولا يرغبون في التنازل عنها كما أنهم غير مستعدين للتخلي عنها أو مناقشة الآخرين فيها." ( اليوسف ، 1425هـ ، ص 12 ) .

سبل الوقاية والعلاج من مشكلة الغلو والتطرف الديني

إن الوقاية والعلاج من مشكلة الغلو والتطرف الديني تكون بالأمور التالية :

1- تطبيق مبدأ حسن التعامل والحكمة في التعامل مع الآخرين ، فبه تسعد الأمة ، وتسلم من الانهيار والسقوط ، ولا شك أن الحياة تحتاج إلى التعامل مع المسلمين و غير المسلمين من عموم الكفار من أهل الكتاب وغيرهم كالمجوس والوثنيين حيث لا يمكن أن تتم بدونه ، والتعامل الصحيح يسهم في تكوين نظام دقيق هو الأساس في نجاح التعايش وتقبل أفكار الآخرين من المسلمين وغيرهم والعدل معهم وعدم ظلمهم ، قال تعالى (لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ) (الممتحنة:8)

وإذا كان هذا مع الكفار ، فهو مع المسلمين من باب أولى .

ومن الملاحظ سوء الفهم في جانب التعامل مع أهل الكتاب (من خلال الاطلاع على الأحداث في السنوات الأخيرة من استباحة دمائهم وأموالهم والتعدي عليهم بالقتل والتفجير) ، مخالفين بذلك قوله صلى الله عليه وسلم كما جاء في حديث عبدِ اللهِ بنِ عمرو رضيَ اللهُ عنهما عنِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم قال: «مَن قَتلَ مُعاهِداً لم يرحْ رائحةَ الجنة، وإِنَّ ريحَها توجَدُ من مَسيرةِ أربعين عاماً». "(البخاري ، 6/3097)

وقد نسي الكثير هذا الحديث وغيره أو تناسوه بحجة العمل بأحاديث إخراج المشركين من جزيرة العرب ، وكأنهم لا يعرفون أن قاتل الخليفة الثاني عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان كافراً مشركاً مجوسياً ومع ذلك فقد أدخله عمر رضي الله عنه لا لجزيرة العرب فقط بل إلى المدينة للحاجة إليه في مهنته ، حتى كتب الله الشهادة لعمر في المدينة وهو يصلي رضي الله عنه وأرضاه .

2-إيجاد الحوار المفتوح من رجال الفكر الديني والعلماء لكل الأفكار الواردة أو المتطرفة ، ومناقشة بعض الجوانب التي تؤدي إلى التطرف .

3-إشغال الفراغ الفكري للشباب وتوجيههم وتوعيتهم توعية دينية وإعلامية كافية .

4-معالجة أسباب التطرف والغلو كالأسباب الاقتصادية والاجتماعية والأسرية ( الخلافات الأسرية ، الطلاق ، غياب الأب أو الأم عن القيام بدورهم في حياة الطفل ، الحرمان ، سوء المعاملة ، الفقر ، البطالة ، الجهل ، ضعف الدور التربوي للمؤسسات التربوية ) .

5-العمل بمبدأ التسامح ، وتقبل الآخرين كما هم ، والانفتاح الفكري .

6-الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ( باعتبار الغلو والتطرف منكر يجب إنكاره والدعوة إلى تركه ) وذلك بالحكمة والموعظة الحسنة .

4=

التربية الإسلامية

وتحدي

الإرهاب الفكري

* مفهوم الإرهاب

* أنواع الإرهاب

* أسباب الإرهاب

* سمات الشخصية الإرهابية

* موقف التربية الإسلامية من تحدي الإرهاب

* سبل الوقاية والعلاج من مشكلة الإرهاب

مفهوم الإرهاب

الإرهاب في اللغة :

"رَهِبَ ، كَعَلِمَ، رَهْبَةً ورُهْباً، بالضم وبالفتحِ وبالتحريكِ، ورُهْباناً، بالضم ويُحَرَّكُ: خافَ، والاسْمُ: الرَّهْبَى، ويُضَمُّ ويُمَدَّانِ، والرَّهَبُوتَى، و«رَهَبُوتٌ ، مُحَرَّكَتَيْنِ، خيرٌ منْ رَحَمُوتٍ»، أي: لأَنْ تُرْهَبَ خَيْرٌ منْ أن تُرْحَمَ. وأرْهَبَهُ واسْتَرْهَبَهُ : أخافَهُ. وتَرَهَّبَهُ : تَوَعَّدَهُ. والمَرْهُوبُ : الأَسَدُ، كالرَّاهِبِ ، وفَرَسُ الجُمَيْحِ بنِ الطَّمَّاحِ. والتَّرَهُّبُ : التَّعَبُّدُ. والرَّهْبُ : النَّاقَةُ المَهْزُولَةُ، أو الجَمَلُ العالِي. وأرْهَبَ : رَكِبَهُ، والنَّصْلُ الرَّقيقُ، ج: كَحِبالٍ. وبالتَّحْرِيكِ: الكُمُّ. وكالسَّحابَةِ، ويُضَمُّ، وشَدَّدَ هَاءَهُ الحِرْمَازِيُّ: عَظْمٌ في الصَّدْرِ مُشْرِفٌ على البَطْنِ، ج: كَسحابٍ. والرَّاهِبُ : واحِدُ رُهْبَانِ النَّصارَى، ومَصْدَرُهُ: الرَّهْبَةُ والرَّهْبَانِيَّةُ، أو الرُّهْبَانُ، بالضم، قد يكونُ واحِداً، ج: رَهابِينُ ورَهابِنَةٌ ورَهْبانُونَ. و«لا رَهْبانِيَّةَ في الإسْلامِ»: هي كالاخْتِصاءِ، واعْتِناقِ السَّلاسِلِ، ولُبْسِ المُسوحِ، وتَرْكِ اللَّحْمِ ونَحْوِها. و أرْهَبَ : طالَ كُمُّهُ. و الأَرْهابُ ، بالفتحِ: ما لا يَصِيدُ من الطَّيْرِ، وبالكسرِ: قَدْعُ الإبِلِ عنِ الحَوْضِ. وكَسَكْرَى: ع. وسَمَّوْا: راهِباً ومُرْهِباً، كَمُحْسِنٍ، ومَرْهُوباً. ورَهَّبَتِ النَّاقَةُ تَرْهِيباً فَقَعَدَ يُحاييها: جَهَدَها السَّيْرُ، فَعَلَفَها حتى ثابَتْ إليها نَفْسُها.." ( الفيروزبادي ، 1993م ) .

"رهب رهباً من باب تعب خاف والاسم الرهبة فهو راهب من الله والله مرهوب والأصل مرهوب عقابه والراهب عابد النصارى من ذلك والجمع رهبان وربما قيل رهابين وترهب الراهب انقطع للعبادة والرهبانية من ذلك قال تعالى : ( وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا) (الحديد: من الآية27)" مدحهم عليها ابتداءً ثم ذمهم على ترك شرطها بقوله ( فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا)(الحديد: من الآية27) لأن كفرهم بمحمد صلى الله عليه وسلم أحبطها "(الفيومي،1987م ،ص92)

" رَهِب ، بالكسر، يَرْهَبُ رَهْبَة و رُهْبا ، بالضم، و رَهَبَا ، بالتحريك، أَي خافَ. ورَهِب الشيءَ رَهْبا ورَهَبا ورَهْبة : خافَه.

والاسم: الرُّهْب ، والرُّهْبى ، والرَّهَبوت ، والرَّهَبُوتي ؛ ورَجلٌ رَهَبُوت . يقال: رَهَبُوت خَيرٌ مِنْ رَحَمُوتٍ، أَي لأَن تُرْهَب خَيرٌ من أَنْ تُرْحَمَ.

وتَرَهَّب غيرَه إِذا تَوَعَّدَه؛ وقال الليث: الرَّهب ، جزم، لغة في الرَّهَب ؛ قال: والرَّهْباء اسم من الرَّهَب ، تقول: الرَّهْباء من اللهِ، والرَّغْباءُ إِليه.

وفي حديث الدُّعاءِ: رَغْبةً ورَهْبة إِليك. الرَّهْبة : الخَوْفُ والفَزَعُ، جمع بين الرَّغْبةِ والرَّهْبة ، ثم أَعمل الرَّغْبةَ وحدها، كما تَقدَّم في الرَّغْبةِ. وفي حديث رَضاعِ الكبير: فبَقيتُ سنَةً لا أَحَدِّثُ بها رَهْبَتَه ، قال ابن الأثير هكذا جاء في رواية أَي من أَجل رهبته ، وهو منصوب على المفعول له.

وأَرْهَبَه ورَهَّبَه و استَرْهَبَه : أَخافَه وفَزَّعه. ". ( ابن منظور،1410 هـ ،جـ )

ووردت كلمة الرهبة في القرآن الكريم بمعنى الخشية وتقوى الله سبحانه وتعالى وفيما يلي عدد من الآيات التي وردت فيها الكلمة:

{ في نُسْخَتِهَا هُدًى ورَحْمَة للَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِم يَرْهَبُونَ } (الأعراف: 154).

{ وأَوْفُوا بعَهْدِي أُوف بِعَهْدِكُمْ وإيَّايَ فَارْهَبُون } (البقرة: 40).

{ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ الله وعَدُوَّكُم وآخَرِينَ مِن دُونِهِمْ } (الأنفال: 60).

{ واسْتَرْهَبُوهُمْ وجَاءُوا بِسِحْرٍ عَظيمٍ } (الأعراف: 116).

{ لأَنتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً فِي صُدُورِهِم من الله } (الحشر: 13).

{ إنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُون فِي الخَيْرَاتِ ويَدْعُونَنَا رَغَباً ورَهَبَاً } (الأنبياء: 90).

" وقد وردت في القرآن الكريم عدة ألفاظ تدور معانيها حول مادة الإرهاب وهي: الخوف وقد وردت مادته مئة وثلاثاً وعشرين مرة، ومادة الرعب وردت خمس مرات، ومادة الروع وردت مرة واحدة فقط، ومادة الفزع وردت ست مرات، ومادة الرهبة وردت ثماني مرات."( اليوسف ، 1425هـ ، ص6 )

"كما وردت مصطلحات أخرى تندرج ضمن الإرهاب وهي البغي والطغيان والظلم والعدوان والخيانة والغدر والقتل والسرقة والحرابة، وهي صور ووسائل وأدوات هدامة تشيع الخوف في المجتمع وترهب الآمنين فيه وتعوق المسلمين من حسن خلافتهم في الأرض وحسن عبادتهم لله سبحانه وتعالى وإتقانهم لعمارة الكون، ولكن هناك جريمتين من بين هذه الجرائم أبرزهما الإسلام وحدد العقوبات لهما لأهميتهما وخطورتهما على المجتمع الإسلامي وهما: الحرابة والبغي." ( المصدر السابق ، ص 6 )

الإرهاب اصطلاحاً :

"التطور التاريخي لتعريف الإرهاب:في اتفاقية لاهاي 1907 المادة "22"نصت على أن الضرب بالقنابل من الجو يعتبر عملا غير مشروعا إن كان يهدف إلى إرهاب السكان.

في عام 1934 اتخذت عصبة الأمم قرارا بتشكيل لجنة خبراء لدراسة ظاهرة الإرهاب .

في عام 1946 وبعد عام من إنشائها أصدرت الجمعية للأمم المتحدة قرارا باسم "مبادئ الحقوق الدولية"

صدر قانون "الجرائم التي تهدد السلام والأمن "في عام 1954

أول قرار اتخذته الأمم المتحدة مختصا بمحاربة الإرهاب كان القرار رقم"2197"بتاريخ 18/12/1972

ونص القرار على إجراءات منع الإرهاب الدولي ودراسة أسباب وأشكال الإرهاب.

في سبتمبر 1992 أدرج موضوع "الإرهاب" رسميا في جدول أعمال الجمعية العامة للأمم المتحدة بهدف وضع تعريف محدد للإرهاب ..ولكن تم تصريف الأمر ب"الاستعانة بلجنة القانون الدولي في هذا المجال

وهناك تعريف الدول العربية للإرهاب الذي تضمنته "الاتفاقية العربية لمكافحة الإرهاب"التي وقعت في القاهرة في يوم"22/4/1988" حيث نص التعريف للإرهاب بأنه:"كل فعل من أفعال العنف أو التهديد به أيا كانت بواعثه أو أغراضه ويقع تنفيذا لمشروع إجرامي فردي أو جماعي ويهدف إلى إلقاء الرعب بين الناس أو ترويعهم بإيذائهم أو تعريض حياتهم أو حريتهم أو أمنهم للخطر أو إلحاق الضرر بالبيئة أو بأحد المرافق أو الأملاك العامة أو الخاصة أو احتلالها أو الاستيلاء عليها أو تعريض أحد الموارد الوطنية للخطر" .وخصصت الاتفاقية العربية فقرة منفصلة لتوضيح أن حالات الكفاح بمختلف الوسائل ضد الاحتلال الأجنبي لاتعد جريمة وفقا لمبادئ القانون الدولي .

من أشهر تعريفات الإرهاب من قبل الغربيين تعريف "جيفانوفيتش"حين قال أن "الإرهاب هو عبارة عن أعمال من طبيعتها أن تثير لدى شخص ما الإحساس بالتهديد مما ينتج عنه الإحساس بالخوف "ومن تعريفات الفقهاء العرب والمسلمين تعريف الدكتور صلاح الدين عامر حيث يقول:"إنه اصطلاح يستخدم في الأزمنة المعاصرة للإشارة للاستخدام المنظم للعنف لتحقيق هدف سياسي وبصفة خاصة جميع أعمال العنف التي تقوم منظمة سياسية بممارستها بخلق جو بعدم الأمن "ويرى بعض الباحثين أن التعريف الأمثل لابد أن يشتمل على أمرين :التجريد والموضوعية والحياد وعدم إغفال أي جانب من جوانب الظاهرة " ( آل ناجي ، د: ت ، ص 4 ) .

"وصف يطلق على الذين يسلكون سبيل العنف والإرهاب لتحقيق أهداف سياسية." ( اليوسف ، 1425هـ ،ص7 ) .

"استخدام العنف غير القانوني (أو التهديد به) بأشكاله المختلفة كالاغتيال والتشويه والتعذيب والتخريب والنسف بغية تحقيق هدف سياسي معين، مثل كسر روح المقاومة والالتزام لدى الأفراد وهدم المعنويات لدى الهيئات والمؤسسات أو وسيلة من الوسائل للحصول على المعلومات أو المال، وبشكل عام استخدام الإكراه لإخضاع طرف مناوئ لمشيئة الجهة الإرهابية" ( المصدر السابق ،ص7)

" والإرهاب في قاموس علم الجريمة A Dictionary of Criminology نمط من العنف يتضمن الاستخدام المنظم للقتل أو التهديد باستخدامه أو الأذى الجسدي والتدبير لإنزال الرعب أو الذعر (الصدمة) بجماعة مستهدفة (أوسع مدى من الضحايا الذين أنزل بهم الرعب) لإشاعة أجواء من الرعب"( المصدر السابق، ص7)

"الإرهاب والعنف والتطرف هو أي سلوك يهدف إلى إشاعة الرعب أو فرض الرأي بالقوة. والفساد والتدمير كلها صور من صور الإرهاب والعنف والتطرف ، كما أن ترويع الآمنين وإحداث الفوضى في المجتمعات المستقرة هو شكل حديث من أشكال الإرهاب والعنف والتطرف الذي أصبح ينمو مع شيوع الأفكار المتطرفة التي تهدف إلى إقصاء الآخر وفرض الأفكار بالقوة والتهديد بالسلاح. على أن هذه الأفكار ليست محصورة بمكان أو زمان معين وإنما أصبح العالم كله مسرحاً لها." ( المصدر السابق ، ص 8 ) .

" الإرهاب هو إستراتيجية عنف محرم دولياً ، تحفزها بواعث عقائدية ، وتتوخى إحداث عنف مرعب داخل شريحة خاصة من مجتمع معين ، لتحقيق الوصول إلى السلطة أو للقيام بدعاية لمطلب أو لمظلمة بغض النظر عن ما إذا كان مقترفو العنف يعملون من أجل أنفسهم أو نيابة عنها أو عن دولة من الدول " (فرج ، 1426هـ ، ص 16 ) .

" الإرهاب كل استخدام للقوة أو العنف أو التهديد أو الترويع والمحرم شرعاً يلجأ إليه الجاني تنفيذاً لمشروع إجرامي فردي أو جماعي بهدف الإخلال بالنظام العام أو تعريض سلامة المجتمع وأمنه للخطر " ( المصدر السابق ، ص 16 )

ويتضح من التعاريف السابقة التي تم استعراضها ارتباط الإرهاب بالعنف وأن الإرهاب لا بد أن يجد فكراً معيناً لكي يساعد على انتشاره هذا الفكر يأخذ نمط التطرف وإقصاء الآخر.

أنواع الإرهاب

" إرهاب عقائدي ويشمل الإرهاب اليساري ، والشيوعي ، وإرهاب اليمين المتطرف ، والإرهاب الصهيوني ، والهندوسي .

إرهاب وطني ويشمل العمليات التي تستهدف إخراج المحتلين أو تدمير آلياتهم ومصالحهم أو اغتيال رموزهم .

الإرهاب الديني أو العرقي أو اللغوي مثل العمليات الإرهابية التي نفذها أفراد طائفة التاميل ضد الحكومة السريلانكية ومثلها عمليات السيخ الهندوسي ضد المسلمين .

الإرهاب المرضي الناتج عن اعتلال عقلي أو نفسي ." ( فرج ، 1425هـ ، ص19 )

ويمكن تقسيم الإرهاب أيضاً إلى أربعة أقسام :

" 1-إرهاب السلطة ضد رعاياها مثل محاكم التفتيش في ألمانيا ، وحملات التطهير الستالينية في الاتحاد السوفيتي .

2-إرهاب المقهورين والمظلومين وتمثله حرب الشعوب التي لا تملك قوة أو مدداً كافياً ليؤهلها للقيام بحرب تحرير ضد عدوها .

3-إرهاب الحروب الأهلية الناتجة عن صراع ديني بين مجموعتين سكانية تعيشان معاً .

4-إرهاب التخريب وهو إرهاب سياسي أيدولوجي غالباً ما ينفذ عن بعد بواسطة منظمة كبيرة مقرها خارج المدينة . " ( المصدر السابق ، ص 19 ) .

"ويمكن تصنيف الإرهاب إلى صنفين رئيسين هما :

أ – صفة الإرهاب من حيث الفاعل ويندرج تحته نوعان من الإرهاب هما :

* الإرهاب الفردي : ما يقوم به شخص واحد أو عدة أشخاص محدودين من أعمال العنف .

* الإرهاب الجماعي : وهو إرهاب طائفة دينية ووطنية ضد أخرى أو شعب آخر أو أمة ضد أخرى ، ويتخذ شكلين هما : إرهاب المجموعات الوطنية ، وإرهاب المجموعات العقائدية .

ب – صفة الإرهاب من حيث الفعل :

* الاختطاف واحتجاز الرهائن ويقوم على مفهوم احتجاز أو أسر شخص أو أشخاص معينين في مكان سري ، وقد يكون الاختطاف للطائرات بكامل ركابها .

* الكمائن وهي من أنواع الهجوم المباغت والمفاجئ يتم بمقتضاه الاستيلاء على الهدف بعيداً عن أنواع الحماية والحراسة التي تخصص له أو يحيط بها نفسه في مكان إقامته أو عمله .

* أسلوب الاغتيال : الأسلوب المعروف بالعنف الإرهابي ويتم عادة للسياسيين والإعلاميين والليبراليين ، وقد يتم لرجال الدين المعارضين لفكر الإرهابيين .

* أسلوب العنف الطائفي في مهاجمة بعض المجموعات لبعض المواطنين ، إضافة إلى ممتلكاتهم الخاصة ، كذلك مهاجمة المساجد أو الكنائس أو المعابد .

* التفجيرات وهي عادة تتم لأماكن عبادة ، أو أماكن لإيواء أشخاص ينظر إليهم على أنهم أعداء أو من مواطني دول معادية رغم أن منهم ضحايا لسياسات معينة ، ومسالمين أبرياء ، وقد تحمل تلك التفجيرات رسالة للدولة التي نفذت فيها التفجيرات بهدف الابتزاز السياسي أو الديني أو المالي أو بهدف مواجهة نظام الحكم في تلك الدولة .

وهنالك عمليات أخرى كالقنص والتهديد بالإرهاب والحرب النفسية باستخدام البلاغات الإرهابية الكاذبة .. وغير ذلك "( فرج،1425هـ ، ص 20 )

أسباب الإرهاب

"هناك عوامل قد تهيئ لحدوث الفرصة السانحة للسلوك الإرهابي ومن هذه العوامل ما يأتي :

1. تردي الظروف الاقتصادية والاجتماعية.

2. قيام أنماط من السلوك المشابهة في بقاع أخرى من العالم.

3. عدم وجود منافذ للجوار.14

4. القناعة باستحالة تغيير الواقع بأي وسيلة أخرى.

5. وجود رموز فكرية تُنَظَّر للسلوك المنحرف.

6. التطرف على المستويات الثلاثة السابق ذكرها15 " ( اليوسف ، 1425هـ ، ص 14 ) .

7-" اتباع الفتاوى الشاذة والأقوال الضعيفة والواهية، وأخذ الفتاوى والتوجيهات ممن لا يوثق بعلمه أو دينه، والتعصب لها. مما يؤدي إلى الإخلال بالأمن وشيوع الفوضى وتوهين أمر السلطان الذي به قوام أمر الناس وصلاح أمور معاشهم وحفظ دينهم.

8- التطرف في محاربة الدين وتناوله بالتجريح والسخرية والاستهزاء والتصريح بإبعاده عن شؤون الحياة، والتغاضي عن تهجم الملحدين والمنحرفين عليه وتنقصهم لعلمائه أو كتبه ومراجعه وتزهيدهم في تعلمه وتعليمه.

9- العوائق التي تقام في بعض المجتمعات الإسلامية في وجه الدعوة الصادقة إلى الدين الصحيح النقي المستند إلى الكتاب والسنة وأصول الشرع المعتبرة على وفق فهم سلف هذه الأمة من الصحابة والتابعين والأئمة المعتبرين. فإن التدين فطرة فطر الله عباده عليها، ولا غنى لهم عنه، فمتى حرموا من العلم بالدين الصحيح والعمل به تفرقت بهم السبل وتلقفوا كل خرافة وتبعوا كل هوى مطاع وشح متبع.

10- الظلم الاجتماعي في بعض المجتمعات ؛ وعدم التمتع بالخدمات الأساسية، كالتعليم والعلاج، والعمل، أو انتشار البطالة وشح فرص العمل، أو تدهور الاقتصاد وتدني مداخيل الأفراد، فكل ذلك من أسباب التذمر والمعاناة، مما قد يفضي إلى ما لا تحمد عقباه من أعمال إجرامية.

11- عدم تحكيم الشريعة الإسلامية في بلاد غالبية سكانها من المسلمين، وإحلال قوانين وضعية محلها مع وفاء الشريعة بمصالح العباد وكمالها في تحقيق العدالة للمسلمين وغيرهم ممن يستظل بظلها، ويتمتع برعايتها، كيف لا وهي شرع الله الذي(لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ) (سورة فصلت أية 42)

12- نزعة التسلط وشهوة التصدر التي قد تدفع ببعض المغامرين إلى نشر الفوضى وزعزعة أمن البلاد، تمهيداً لتحقيق مآربهم غير آبهين بشرع ولا نظام ولا بيعة. " ( العبد الجبار ، د: ت ، ص 235 )

ويرى فرج ( 1426هـ ، ص 26 ) أن أسباب الإرهاب تنقسم إلى قسمين :

أولاً : ألأسباب العامة بظاهرة الإرهاب في العالم :

1-أسباب جغرافية :

كاتساع حدود الدول بالنسبة للقوات المسلحة وأجهزة الأمن بها والتي تتسم بالضعف والانتماءات الطائفية لقياداتها ، وتوفر أماكن وتضاريس معينة ومناطق عشوائية تصلح كمخابئ للمترددين وتسهل العمليات الإرهابية .

2-أسباب سياسية :

كالرغبة في تنبيه الرأي العالمي نحو مشكلة يهتم بها المنفذون للعملية الإرهابية ، أو التأثير على القرارات السياسية ، والسياسة الدولية وعدم قدرتها على وضع حد للظلم والاضطهاد والعنصرية والاحتلال ، واستخدام الدول الكبرى لحق النقض ( الفيتو ) ضد أي قرار يصدر لصالح الدول المحتلة والشعوب المستضعفة ، وغياب الديموقراطية والفراغ السياسي .

3-أسباب مرضية ونفسية :

كالفشل والعجز واليأس والإحباط والملل والحياة الروتينية التي يحياها كثير من الشباب ، وسيادة مشاعر الأنانية عند الأغنياء ، وعدم الاحترام المتبادل ، والبطالة ، والاختلالات العقلية التي تؤدي بدورها إلى العنف والحقد على المجتمع وأفراده والانتقام منهم .

4-أسباب إعلامية :

غالبية وسائل الإعلام غارقة في برامج بعيدة عن واقع المسلمين المعاصر ، وبعيدة عن تطلعات الشباب وتلمس احتياجاتهم ومناقشة مشكلاتهم ، وبث الوعي الديني الصحيح مما يجعلها تساهم بشكل أو بآخر في تغذية الشعور بالتطرف والإرهاب .

5-أسباب اقتصادية :

الأزمات الاقتصادية للدول والمجتمعات المطحونة من الأسباب الخطيرة والمحركة لموجات الإرهاب في العالم كما أن التقدم العلمي والتكنولوجي للأنظمة المصرفية في العالم زاد من سهولة انتقال وتحويل الأموال بين شبكات الإرهابيين ولا ننسى معاناة الأفراد في دول العالم الثالث من مشكلات اقتصادية تتعلق بالإسكان والديون والبطالة والفقر والتضخم في الأسعار والمواصلات والصحة .

6-أسباب أسرية :

التفكك الأسري ، وغياب الدور الرقابي للوالدين على الأبناء ، وسوء المعاملة الوالدية ، والتدليل الزائد من الوالدين أو الإهمال ، وغياب لغة الحوار مع الأبناء وإشراكهم في اتخاذ القرارات خاصة إذا كانت تتعلق مباشرة بمصيرهم كالتعليم والعمل والزواج وغيرها .

7-جماعة الأصدقاء :

وهي من أهم العوامل التي تؤدي بالفرد إلى الانخراط في جماعات التطرف والإرهاب لما لها من دور في التأثير والتحريض ، وانخراط الشباب في هذه الجماعات يكون أحياناً بدافع الصداقة أو المصلحة المالية أو نتيجة التأثير والإيحاء من الأصدقاء .

8-أسباب تربوية :

نقص وضعف الثقافة الدينية في المناهج التعليمية من الابتدائي وحتى الجامعة في معظم البلاد الإسلامية ، والاعتماد على طرائق تدريس تقليدية كالتلقين والحفظ وإغفال طرائق التدريس التي تنمي الحوار والابداع والتحليل والتخيل ، كذلك إسناد المواد الدينية لغير المتخصصين في العلوم الشرعية وعدم وضع برامج تربوية لمواجهة التحديات الداخلية والخارجية ومنها الإرهاب ، ولا ننسى التطرف في تدريس المواد الدينية وفهمها بطريقة لا تتفق مع أهداف تعليمها وتعلمها ، كل ذلك هيأ لخروج تيارات متطرفة انتهى بها الحال إلى اللجوء إلى العنف والإرهاب كوسيلة لتحقيق أغراضهم .

9-أسباب فكرية :

يعاني العالم الإسلامي اليوم من انقسامات فكرية حادة بين تيارات مختلفة ، وأبرز هذه التيارات : تيار علماني يدعو إلى بناء الحياة على أساس علماني بمنأى عن القيود الشرعية والتقاليد والقيم الاجتماعية ، وفي الجانب الآخر نجد التيار الديني المتطرف البعيد عن الوسطية والاعتدال ، وكل جانب يرفض فكر الآخر ويقاومه وينظر إليه نظرة ريب وشك ، وقد أوحى هذا الوضع لبعض المتطرفين من جهلة المسلمين لسلوك طريق الإرهاب الذي لا يقره الدين ولا يتفق مع أي توجه حضاري . " (فرج ،1426هـ ، ص 26 )

ثانياً : الأسباب الخاصة :

"1-نقص التربية الدينية في بعض المجتمعات الإسلامية .

2-إساءة الطريقة والأسلوب التربوي في توصيل الثقافة الدينية .

3-الجهل بالدين وبفقه العصر ومقتضياته أدى بالشباب إلى إصدار الفتاوى والأحكام والاستشهادات المختلفة للنصوص دون الرجوع للمختصين في العلوم الشرعية .

4-التطورات على الساحة الإسلامية والمتغيرات السياسية والاجتماعية والاقتصادية .

5-الفراغ الديني لدى الشباب وانشغالهم بمسائل فرعية وخلافية في الدين .

6-عدم فهم حقيقة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، ومن بيده تغيير المنكر بالقوة .

7-الخضوع التام والطاعة العمياء لقادة الجماعات الإرهابية في بعض المجتمعات الإسلامية وذلك أيضاً لسد حاجاتهم المادية .

8-عدم المشاركة الإيجابية في الحياة الاجتماعية . " ( المصدر السابق ، ص32 ) .

سمات الشخصية الإرهابية

"1/الجور على حقوق أخرى يجب أن تُراعى, وواجبات يجب أن تؤدى . حفطها الشارع الحكيم ورتب الأجر على من حافظ عليها

2/ الالتزام المتشدد في محاسبة الناس على النوافل والسنن وكأنها فرائض والاهتمام بالجزئيات والفروع والحكم على إهمالها بالكفر والإلحاد مع فضل من قام بها في الدنيا والآخرة

3/ سوء الظن بالناس ، والنظر إليهم من خلال منظار أسود يخفي حسناتهم على حين يضخم سيئاتهم .

4/ الغلظة في التعامل والخشونة في الأسلوب والفظاظة في الدعوة

5/ إدخال الخوف على نفس المسلمين والترويع بالحديث عن مؤامرات تدبر للإسلام وتُحاك ضدهم لا صحة لها

6/ أغلب المتطرفين من أنصاف المتعلمين ومصادر تعلمهم بالسماع من الخطباء والوعاظ مباشرة أو عبر التقنيات الجديدة

7/ يبيح المتطرفون القتل والتمرد على الشعوب الكافرة على حد قولهم وسرقة أموالهم بحجة توزيعها على فقراء المسلمين

8/ تفشي حالات التزاوج بين المتطرفين أنفسهم فكل واحد يزوج ابنته أو أخته لصاحبه ونحو ذلك

9/ العزلة في المجتمع وهجر الوظائف الحكومية وفي بعض الدول التي تفرض التجنيد الإجباري نجدهم يهربون من الخدمة العسكرية .

10/ يحرّمون جميع أنواع التعامل مع البنوك دون تفصيل وإيضاح لتعاملات البنك ويعتبرونها ممن يتعامل بالربا وأنهم محاربون لله .

11/لا يعترفون بالبطاقات الشخصية أو العائلية أو وجود التلفزيون والراديو في حالات نادرة ويعتبرونها وسائل للشيطان ودليل على الفساد بوجه عام دون النظر للفائدة والخير المتاح من استخدامها

12/ تتسم الشخصية المتطرفة على المستوى العقلي بأسلوب مغلق جامد عن التفكير أو ليس لديه القدرة على تقبُل أية معتقدات تختلف عن معتقداتها أو أفكارها أو معتقدات جماعتها وعدم القدرة على التأمل والتفكير والإبداع .

12/ يتسم المتطرَّفون بشدة الانفعال والاندفاع والعدوان والعنف والغضب عند أقل استثارة ، فالكراهية مطلقة وعنيفة للمخالف أو للمعارض في الرأي والحب الذي يصل إلى حد التقديس والطاعة العمياء لرموز هذا الرأي خاصة في فئات الشباب

13/ الخروج على الحكام من أبرز سماتهم ، ومسوغهم في ذلك دعوى تكفيرهم لعدم حكمهم بما أنزل الله أو لمخالفتهم للشرع أو لعمالتهم للغرب الكافر على حد زعمهم.

15/ الحكم على المجتمعات الإسلامية المعاصرة بأنها مجتمعات جاهلية والحكم على من لا يهجرها بالكفر ( أي تكفير المجتمعات القائمة ).

16/ الحكم على بلاد المسلمين التي لا يقيم حاكمها الحدود الشرعية بأنها دار كفر لا دار إسلام .

17/ يرجعون في جذورهم للخوارج في مسألة التكفير والحاكمية

18/ التعصب من أبرز سماتهم حيث يصادرون الآخرين رأيهم ويرون أنهم على حق ومن عداهم على الضلال والباطل .

19/ يبلغ هذا التطرف مداه حين يُسقط المتطرف عصمة الآخرين ويستبيح دمائهم أو أموالهم لأنهم خارجين عن الإسلام وكفار على حد زعمهم .

20/ منهجهم المتطرف يقوم على تفسير النصوص حرفيا دون مراعاة مقاصد الشريعة التي ضمنت حقوق الآخرين وتحريم الاعتداء عليها

21/ يقوم المتطرفون والإرهابيون بتكوين منظمات وخلايا سرية يتم من خلالها التغرير بالشباب للقيام بأعمال عنف وإرهاب ضد القادة أو معارضيهم من العلماء والدعاة الآخرين أو من العلمانيين على حد قولهم ، والهدف إشاعة الفوضى والانتفاضة على مرافق الحكم للوصول إلى سدة الحكم تحقيقا لمبدأ الحاكمية الذي يؤمنون به ويحلمون بالوصول إليه .

22/ لا يؤمنون بالحوار مع الآخر ولا يؤمنون بحرية الدين أو التعامل مع الأجنبي وبقائه في البلاد الإسلامية التي أقرها إلا سلام مستندين على فهم خاطئ لشبهة إخراج المشركين من جزيرة العرب ولو درسوا سيرة النبي e في تعامله مع اليهود في المدينة وكفار قريش في مكة ، وسيرة الإمام علي بن أبي طالب رضي الله عنه في تعامله مع اليهودي واحتكامه إلى القاضي في قضية الدرع الذي أخذه اليهودي بحكم القاضي ، لعرفوا خطأ اعتقادهم وسوء فهمهم وجهلهم بمقاصد الشريعة الإسلامية ." ( العبد الجبار ، د: ت ، ص 50 )

موقف التربية الإسلامية من تحدي الإرهاب

إن موقف التربية الإسلامية من قضية الإرهاب موقف واضح حيث أن الإسلام " يمنع ويعاقب بأشد العقوبات في مسألة أمن وسلامة المجتمع .. فيقطع يد من يرهب الناس ويأخذ أموالهم ( ويقطع من خلاف ) من عمل على مقاطعة الركبان وقطع طرق معاش الناس وأسفارهم .. وكذلك يعاقب بأقسى العقوبات الرادعة من تعدى على أعراض الناس وارتكب الفاحشة .. وهكذا تتواصل العقوبات إلى أعلى سقف في الجريمة ( قتل النفس ) . هذه العقوبات التي تحفظ أمن وسلامة المجتمع لم يترك تشريعها حتى للرسول محمد صلى الله عليه وسلم .. إنما أنزلها الله تعالى بواسطة الوحي .. أما قي ما يتعلق بإرهاب المسلم للكافر فهذا أيضاً من أوامر الله تعالى لأنه سبحانه وتعالى الحكم بالعدل يعلم بوسائل ضبط المجتمع ولا يرهب المسلم إلا من اعتدى عليه يقول الله تعالى : (فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ)(البقرة: من الآية194)

ويقول تعالى : ( وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ )(لأنفال: من الآية60) .

ولكن هؤلاء الأعداء .. ( وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ )(لأنفال: من الآية61) أذاً ليس في الإسلام شهوة الانتقام ." ( آل ناجي ، د: ت ، ص 4 ) .

إن التربية الإسلامية تدعو المسلم إلى الاعتدال والتوازن ، لينشأ المسلم سوياً ، وبما يحقق له التربية السليمة بأبعادها المختلفة .

" والتربية الإسلامية ليست تربية مغالية أو مشطة في أساليبها واتجاهاتها ونظرتها إلى مختلف جوانب الشخصية الإنسانية ، بل تنظر إليها نظرة وسطية معتدلة متوازنة شمولية " ( الزنتاني ، 1993م ، ص 446 ) .

"وخاصية الاعتدال في التربية الإسلامية تكفل لفطرة الإنسان وطبيعته وكسبه ، كما شاء الله تعالى : هداية الإيمان والعقيدة فتزكي روحه ، وتفتح الفكر وحريته فتنمي عقله وتزيد معارفه وعلومه ، واتزان الوجدان بانفعالاته ومشاعره وأحاسيسه وعواطفه فترقي خلقه " ( المصدر السابق ، ص 446 ) .

و " يكسب الإسلام التربية توازناً بين النظرية والتطبيق ، وتوازناً بين الحياة الدنيا والحياة الآخرة ، وتوازناً بين أشواق الفرد الروحية وتلبية حاجاته المادية والاجتماعية ، وهذا التوازن في التربية الإسلامية يجعلها أقرب ما تكون إلى طبيعة الأشياء " ( غبان وآخرون، 1415 هـ ، ص 111 ) .

سبل الوقاية والعلاج من مشكلة الإرهاب

إن الوقاية والعلاج من مشكلة الإرهاب والتطرف الديني تكون بالأمور التالية :

"1) المبادرة إلى إزالة الأسباب المؤدية للجريمة، والعمل على إحقاق الحق وإبطال الباطل، والاحتكام إلى شرع الله تعالى وتطبيقه في مختلف شؤون الحياة، فلا شرع أو في ولا أكمل منه في جلب مصالح العباد ودفع المفاسد عنهم،ولا أرفق منه ولا أقوم بالعدل ولا أرحم ) وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللّهِ حُكْمًا لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ ( ( سورة المائدة أية 50)

2) بيان فداحة الضرر العام والخاص الذي يصيب الدولة والأمة والمجتمع والأفراد من جراء أعمال العنف والتخريب والتدمير.

3) التربية الواعية الهادفة المخطط لها من أهل العلم والصلاح والخبرة، ووضع منهاج عملي واضح سهل ميسر لتحقيق ذلك.

4) تحرير المصطلحات الشرعية وضبطها بضوابط واضحة، وذلك كمصطلح الجهاد، ودار الحرب، وولي الأمر، ما يجب له وما يجب عليه، والعهود: عقدها ونقضها. " ( العبد الجبار ، د: ت ، ص 239) .

5) تطبيق مبدأ حسن التعامل والحكمة في التعامل مع الآخرين ، فبه تسعد الأمة ، وتسلم من الانهيار والسقوط ، ولا شك أن الحياة تحتاج إلى التعامل مع المسلمين و غير المسلمين من عموم الكفار من أهل الكتاب وغيرهم كالمجوس والوثنيين حيث لا يمكن أن تتم بدونه ، والتعامل الصحيح يسهم في تكوين نظام دقيق هو الأساس في نجاح التعايش وتقبل أفكار الآخرين من المسلمين وغيرهم والعدل معهم وعدم ظلمهم ، قال تعالى (لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ) (الممتحنة:8)

وإذا كان هذا مع الكفار ، فهو مع المسلمين من باب أولى .

ومن الملاحظ سوء الفهم في جانب التعامل مع أهل الكتاب (من خلال الاطلاع على الأحداث في السنوات الأخيرة من استباحة دمائهم وأموالهم والتعدي عليهم بالقتل والتفجير) ، مخالفين بذلك قوله صلى الله عليه وسلم كما جاء في حديث عبدِ اللهِ بنِ عمرو رضيَ اللهُ عنهما عنِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم قال: «مَن قَتلَ مُعاهِداً لم يرحْ رائحةَ الجنة، وإِنَّ ريحَها توجَدُ من مَسيرةِ أربعين عاماً». "(البخاري ، 6/3097)

وقد نسي الكثير هذا الحديث وغيره أو تناسوه بحجة العمل بأحاديث إخراج المشركين من جزيرة العرب ، وكأنهم لا يعرفون أن قاتل الخليفة الثاني عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان كافراً مشركاً مجوسياً ومع ذلك فقد أدخله عمر رضي الله عنه لا لجزيرة العرب فقط بل إلى المدينة للحاجة إليه في مهنته ، حتى كتب الله الشهادة لعمر في المدينة وهو يصلي رضي الله عنه وأرضاه .

6)إيجاد الحوار المفتوح من رجال الفكر الديني والعلماء لكل الأفكار الواردة أو المتطرفة ، ومناقشة بعض الجوانب التي تؤدي إلى التطرف .

7)إشغال الفراغ الفكري للشباب وتوجيههم وتوعيتهم توعية دينية وإعلامية كافية .

8)معالجة أسباب التطرف والغلو كالأسباب الاقتصادية والاجتماعية والأسرية ( الخلافات الأسرية ، الطلاق ، غياب الأب أو الأم عن القيام بدورهم في حياة الطفل ، الحرمان ، سوء المعاملة ، الفقر ، البطالة ، الجهل ، ضعف الدور التربوي للمؤسسات التربوية ) .

9)العمل بمبدأ التسامح ، وتقبل الآخرين كما هم ، والانفتاح الفكري .

10)الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ( باعتبار الغلو والتطرف منكر يجب إنكاره والدعوة إلى تركه ) وذلك بالحكمة والموعظة الحسنة .

5=

التربية الإسلامية

وتحدي

غياب دور المرأة

* مكانة المرأة في الإسلام

* الفوارق الجوهرية بين المرأة والرجل

* المرأة المسلمة بين التهميش والتحرير

* كيف نفعّل دور المرأة في بناء المجتمع المسلم

مكانة المرأة في الإسلام

"قلما نجد في أي دين من الديانات أو نظام من المجتمعات ذلك التكريم الذي أعطاه الإسلام للمرأة . ففي كل المجتمعات التي سبقت ظهور الإسلام على اختلاف زمانها ومكانها لم تكن المرأة تتمتع بنظرة محترمة . وكانت مكانتها الاجتماعية تتسم بالدونية بدرجات متفاوتة في هذه المجتمعات تشتد حيناً وتخف حيناً آخر " ( مرسي ، 1996م ، ص 157 ) .

ثم جاء الإسلام فرفع مكانة المرأة ، وأكرمها بما لم يكرمها به دين سواه ،

حيث أثبت لها حقوقها المسلوبة في الإرث والنفقة وفي الحياة وفي التقدير والبر والإحسان وفي البيع والشراء وفي سائر العقود . وقبل ذلك حفظ لها في صغرها حق الرضاع، والرعاية، وإحسان التربية وفي هذا حفظ لحقوقها المادية والمعنوية .

فجعل النساء شقائق الرجال ، وخير الرجال خيرهم لأهله .

" ويبرز تكريم الإسلام للمرأة في جميع شؤون حياتها منذ ولادتها ، وحتى بعد وفاتها ، ومن صور التكريم :

1-خلق الله الخلق ، وكلفهم بعبادته ، وجعلهم مسؤولين عن ذلك رجالاً ونساءً ، ولم يفرق بينهم ، ورتب الجزاء على هذا التكليف ، قال تعالى : ( مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ وَلا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيّاً وَلا نَصِيراً* وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلا يُظْلَمُونَ نَقِيراً) (النساء:123،124)

2-من حكمة الله تعالى – وهو العليم بخلقه – أن جعل لكل جنس منهم سمات تغلب عليه ، وصفات تظهر عليه ، فالعاطفة الجياشة ، والإحساس الرقيق ، والتأثر السريع من صفات المرأة الجبلية ، ولذا جعل الله سبحانه التكليف مناسباً لصفاتها ، فلم يكلفها بما لا تطيق ، وجعل للرجل القوامة عليها بمقتضى تكليفه وصفاته التي ميزه الله بها ، فلله الحكمة البالغة .

3-عظم الأجر برعايتها صغيرة محبوبة ، روى مسلم ، عن أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " من عال جاريتين حتى تبلغا ، جاء يوم القيامة أنا وهو " وضم أصابعه . (16)

4-أرشد الإسلام إلى ضرورة تربيتها منذ الصغر على الدين والأخلاق والطهر والعفاف ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " مروا أولادكم بالصلاة لسبع ، واضربوهم عليها لعشر ، وفرقوا بينهم في المضاجع " (17)

5-ولأهمية حياتها مع زوجها أمر الإسلام باستشارتها فيمن تقدم لخطبتها ، وحدد معالم من يقبل وهو الدين والخلق ، قال صلى الله عليه وسلم : " إذا أتاكم من ترضون دينه وخلقه فزوجوه إلا تفعلوا تكن فتنة في الأرض وفساد عريض "

6-أمر بتكريمها ورعايتها من قبل زوجها ، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " خيركم خيركم لأهله ، وأنا خيركم لأهلي " (18)

وقال صلى الله عليه وسلم : " وَاسْتَوْصُوا بِالنِّسَاءِ، فَإِنَّ الْمَرْأَةَ خُلِقَتْ مِنْ ضِلَعٍ، وَإِنَّ أَعْوَجَ شَيْءٍ فِي الضِّلَعِ أَعْلاَهُ، "(19)

7-أما كونها أماً فقد أوجب لها من الحقوق ما لا يخطر على نظام بشري قديماً وحديثاً ، ويكفي أن الله سبحانه جعل حقها بعد حقه جل وعلا فقال : ( وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَ تَعْبُدُوا إِلاَ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاهُمَا فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلاً كَرِيماً * وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيراً ) (الإسراء:23 ، 24 )

(وزارة المعارف ، 1422هـ ، ص 153 ) .

" ويسوي الإسلام بين الرجل والمرأة في القيمة الإنسانية الانطولوجية ( الوجودية ) ، حيث خلق الله الاثنين من طينة واحدة ومن معين واحد ، فلا فرق بينهما في الأصل والفطرة ، ولا في القيمة والأهمية ، والمرأة هي نفس خلقت لتنسجم مع نفس ، وروح خلقت لتتكامل مع روح ، وشطر مساو لشطر .

قال تعالى : (أَيَحْسَبُ الإِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدىً*أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنَى*ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى*فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالأُنْثَى) (القيامة:36– 39 )

وقال تعالى : (وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ جَعَلَكُمْ أَزْوَاجاً)(فاطر: من الآية11) والإسلام يقرر أن قيمة أحد الجنسين لا ترجع إلى كون أحدهما ذكراً والآخر أنثى بل ترجع إلى الكفاية الشخصية والعمل الصالح ، يقول الله تعالى : (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ) (الحجرات:13)

فهذه الآية الكريمة تنص فيما تنص على أن ليس للجنس من حساب في ميزان الله إنما هناك ميزان واحد يعرف به فضل الفرد وتتحدد به قيمته (إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ ) ( الحجرات : من الآية 13 ) وهكذا يقرر منهج الله سقوط جميع الاعتبارات الأخرى المزعومة لأحد الجنسين دون الآخر ، ويرفع ميزاناً واحداً بقيمة واحدة ، فلا اعتبار للذكورة والأنوثة في حد ذاتها ، وإنما الاعتبار بالعمل الصالح وحده والذي يجزى عليه الجميع ذكراناً وإناثاً ، بلا تفرقة ناشئة من اختلاف الجنس ، فالكل سواء في الإنسانية بعضهم من بعض والكل سواء في الميزان ، يقول تعالى : (أَنِّي لا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ)(آل عمران: من الآية195) وهكذا يمحو الإسلام كل التصورات السخيفة التي كانت تتصورها الإنسانية عن المرأة والتي كانت ترى فيها منبعاً للرجس والشر والبلاء ، وهكذا يعطي الإسلام للمرأة حقوقها كاملة في القيمة الإنسانية ، ويرد إليها كرامتها ، بعد أن كانت مجردة منها في الحضارات السابقة التي سلبتها كل خصائص الإنسانية وحقوقها . ( الخشت ، 1404هـ ، ص 85 ) .

الفوارق الجوهرية بين المرأة والرجل

قال الله تعالى في محكم التنزيل : ( وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالأُنْثَى )(آل عمران: من الآية36) .

" وجرياً على سنة الله تعالى في الطبيعة كان لابد أن يختلف كل من الرجل والمرأة في طبيعة التكوين والفطرة ، حتى إذا ما التقى الاثنان وجد كل منهما عند الآخر ما ليس موجوداً عنده و عند أمثاله . ولذا نرى كلاً من الاثنين يسعى سعياً حثيثاً إلى الاتحاد بصنوه المتمم له ، ويلتمس السعادة والكمال في الامتزاج به" ( الخشت ، 1404هـ ، ص6 ) .

ويمكن إجمال الفوارق بين المرأة والرجل في قسمين :

القسم الأول ، بنيان الجسم ووجوه النشاط الفسيولوجي :

كالبلوغ وتغيراته ، والحساسية البدنية ، والحمل ، والحيض ...

القسم الثاني ، السمات النفسية والعقلية :

كسرعة الاستجابة للدوافع ، وسرعة التأثر العاطفي ، والأمومة ...

ومن خلال هذا تتضح " طبيعة التباين الموجود بين المرأة والرجل ، وكيف أن هذا التباين لا يأتي فقط من الشكل الخاص للأعضاء الجنسية والحوض ، ومن وجود الرحم والحيض والحمل وخلافه . بل ينبع من طبيعة أكثر عمقاً ؛ حيث ينشأ الخلاف بين الجنسين من تكوين الخلايا والأنسجة ، ومن تلقيح الجسم كله بمواد كيميائية محددة تفرزها الغدد المختلفة . فالأنثى تحمل طابعاً أنثوياً في كل خلية من خلايا جسمها ، وفي كل هرمون من هرموناتها ، وفي كل عضو من أعضائها ، وفوق كل شيء في جهازها العصبي . والرجل أيضاً يحمل طابعاً ذكورياً في كل هذه النواحي . " ( الخشت ، 1404هـ ، ص79 ) .

وما سبق من الفروق والاختلافات الوظيفية " تتصاعد حتى تصبح اختلافات في النفس والعقل والوجدان " ( المصدر السابق ، ص79 ) .

" وبناءً على هذه الاختلافات العميقة والمتشعبة بين طبيعة المرأة وطبيعة الرجل كان منطقياً أن ينشأ اختلاف حاسم بينهما في المهمة والأهداف ، حتى يواجه كل منهما مطالب الحياة مواجهة عادلة حسب إمكانياته وقدراته . " ( المصدر السابق ، 79 ) .

المرأة المسلمة بين التهميش والتحرير

"ساوى الإسلام بين الذكر و الأنثى في حق التعليم والعمل (وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ)(النساء: من الآية124) وساوى كذلك بين الجنسين في اكتساب أجر يقابل نوع العمل (لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ)(النساء: من الآية32) وقد ساوى الإسلام بين الذكر والأنثى في الولاية ، فقال الله تعالى : (وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ)(التوبة: من الآية71) وفي تولي المسؤوليات ، إذ زادت الآية الكريمة تقول : (يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ)(التوبة: من الآية71) وللأمر بالمعروف والنهي عن المنكر سلطة خاصة من أهم سلطات الدولة في إدارة الأمن عهد الله بها إلى المؤمنين والمؤمنات على السواء " ( الأسرة ، 1424هـ ، ص28 ) .

"ويروى عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه ولّى أم الشفاء بنت عبد الله ، على مرفق اقتصادي مهم هو حسبة السوق بما يتطلبه ذلك من مراقبة للأسعار وقمع الغش " (20)( المصدر السابق ، ص28 ) .

" كما روي أن سمراء بنت نهيك الأسدية(21) كانت تمر في السوق تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر وبيدها سوط يرمز إلى هيبتها ويشير إلى وظيفتها الأمنية . وبصفة عامة فإن النساء لم يكن مغيبات عن المهام السامية في عهد الإسلام الأول . وقد أفردت كتب الحديث نساء راويات ومفتيات .( المصدر السابق ، ص28 ) .

" واشتهرت المرأة بالتثبت والصدق في رواية الحديث . ولا يعرف في تاريخ الرواية أن واحدة من النساء كانت من بين من ثبت عليه وضع الحديث الكاذب . وقد كانت عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها من مكثرات رواية الحديث ، حتى أنها روت ألفاً ومائتين وعشرة أحاديث . وعنها قال عروة بن الزبير : ما رأيت أحداً أعلم بفقه ولا بطب ولا بشعر من عائشة (22). فكانت عالمة تدرس الأبناء في خلافة عمر وعثمان رضي الله عنهما إلى أن توفيت رضي الله عنها ." المصدر السابق ، ص28 ) .

تلك مقدمة أوضح فيها أن المرأة في الإسلام وفي عصر الصحابة رضي الله عنهم لم تكن مهمشة ، بل كانت تحظى بحقوقها كاملة وهي طفلة أو شابة أو زوجة أو أماً .

وبالنسبة إلى التهميش فلا يمكن الحديث عنه دون فهم المجتمع الذي نعيش فيه ، فإذا أردنا الحديث عن تهميش المرأة في المجتمع السعودي فيجب علينا أولاً فهم طبيعة المجتمع السعودي وتعدد ثقافاته بين مناطق المملكة المختلفة في الريف أو المدن ، وإذا حصل هذا الفهم فقد تظهر لنا بعض صور التهميش الناتجة عن تصورات خاطئة وثقافات لا تتفق مع وجهة النظر الشرعية ، ومن تلك الصور على سبيل المثال لا الحصر :

1-النظرة الدونية للمرأة في بعض مناطق السعودية ، والخجل من ذكر اسمها .

2-منع المرأة من المطالبة بحقوقها دون حضور ولي أمرها ، الأمر الذي يوضح عدم اعتبار شخصيتها واستقلال مسؤوليتها .

3-اختيار الزوج المناسب لها ( من وجهة نظر وليها ) دون اعتبار موافقتها أو رفضها .

4-منع المرأة من ممارسة بعض الأعمال كقيادة السيارات ، وإلزامها بالركوب مع سائق خاص ، أو مع ولي أمرها . ( أتفق مع من يمنع المرأة من قيادة السيارة في الوقت الراهن ، حتى تتم تهيئة المجتمع ووضع الضوابط وتحسين الوضع الأمني والحد من الفوضى المرورية ، الأمر الذي يصعب توفيره حالياً على الأقل ) .

5-تفضيل الولد على البنت ، وتقديم العديد من التسهيلات له على حساب التفريط في حقوق البنات ( شراء السيارة ، المصروف الشخصي ،الهدايا والهبات ) .

6-عدم البت في كثير من القضايا الزوجية ، أو التأخر في ذلك ، أو عدم تنفيذ الأحكام القضائية ، الأمر الذي يؤدي إلى تضييع كثير من حقوق المرأة في القضايا التي تخصها كالنفقة ، والحضانة ... .

7-عدم تخصيص محاكم شرعية خاصة بقضايا الأسرة والزواج وما يتعلق بها .

8-عدم تخصيص فروع من المؤسسات الحكومية لتقديم خدماتها للنساء ( مع تخصيص المرأة بالعمل في هذه الفروع ) .

وتكمن خطورة تهميش المرأة في ظهور المطالبات بحقوق ليست لها والدعوة لها بالبحث عن العمل بجانب الرجل ودعوتها للسفور وترك حجابها ... "فإن أعداء الأمة الإسلامية ما برحوا يحاربون دين هذه الأمة ويسعون في سبيل ذلك بكل ما أوتوا من قوة مادية ، وفكرية ، وسياسية ، واقتصادية ، وقد تفتقت قرائحهم في هذا المجال عن أمر مهم وخطير ، وجعلوا له عناوين براقة ، مثل : (قضية المرأة ) أو (حقوق المرأة ) . " ( العبد الكريم ، 1425هـ ، ص5 ) .

كيف نفعّل دور المرأة في بناء المجتمع المسلم

" القول بأن المرأة هي نصف المجتمع ... حقيقة اجتماعية لا شك فيها ، ولكن هل الأساس القاعدي لنا للمناداة بضرورة تعليمها وتمتعها بما يتمتع به شريكها الرجل من الحقوق والمزايا وما يلتزم به من الواجبات والتكاليف ؟ إننا لو اقتصرنا على هذه المقولة فإنما نمهد منذ البداية إلى فشل القضية وخسارتها ، لأننا بذلك نحصرها في نطاق كمي بحت ... القضية إذن ( إنسانية )...( اجتماعية )...( دينية )" ( علي ، 1412هـ ، ص243 ) .

وفيما بعض التصورات التي من شأنها تفعيل دور المرأة المسلمة لبناء المجتمع الإسلامي :

1-التعريف بموقف الإسلام من قضايا المرأة وبخاصة ما يتعلق بحقوقها وواجباتها من المنظور الإسلامى .

2-المشاركة الفعالة في المؤتمرات الدولية التي تعقد بشأن المرأة وطرح البديل الإسلامى في المسائل الاجتماعية .

3-أن تولي السلطات الصحية جُلَّ جهدها لتشجيع النساء على الانخراط في مجال العلوم الطبية والتخصص في كل فروعها، وخاصة أمراض النساء والتوليد، نظراً لندرة النساء في هذه التخصصات الطبية . (23)

4-تمكين المرأة من ممارسة الأعمال التي لا تتنافى مع الشريعة المطهرة ، وقد سمح الرسول صلى الله عليه وسلم للمرأة أن تقوم ببعض الأعمال كما في حديث هشام بنِ عُرْوَةَ عن أبيه أنه أخبره عبد الله بن عبد الله عن رَيْطَةَ بنتِ عبدِ الله امرأةِ عبدِ الله بنِ مسعودٍ أُمّ وَلَدِهِ وكانتِ امرأةً صَنَاعَةً وليسَ لعبدِ الله بنِ مسعودٍ مالٌ، وكانَتْ تُنْفِقُ عليهِ وَعَلَى وَلَدِهِ من ثَمِنِ صَنَعْتَهَا، فقالتْ: والله لَقَدْ شَغَلْتَنِي أَنْتَ وَوَلَدُكَ عن الصَّدَقَةِ فما أسْتَطِيْعُ أَنْ أَتَصَدَّقَ مَعَكُمْ، فقالَ: ما أُحِبُّ إِنْ لم يَكُنْ لَكِ في ذَلِكَ أجرٌ أَنْ تَفْعَلِي، فَسَأَلَتْ رسولَ الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هِيَ وهُو فقالتْ: يا رسولَ الله إِنَّني امرأةٌ ذاتُ صَنْعَةٍ أَبِيْعُ مِنْهَا، وليسَ لِي ولا لِوَلَدِي ولا لِزَوْجِي شىءٌ، فَشَغَلُونِي فلا أَتَصَدَّقُ فَهَلْ لِي في ذَلِكَ أَجْرٌ، فقالَ النبيُّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَكَ في ذَلِكَ أَجْرُ ما أَنْفَقْتِ عَلَيْهِمْ، فَأَنْفِقِي عَلَيْهِمْ».(24)

5-إقامة مستشفيات ومرافق وأسواق تجارية ومؤسسات حكومية وأهلية خاصة بالنساء أو كفروع تختص بتقديم الخدمة للنساء على غرار المدارس والجامعات .

6-تقديم الحلول العملية لتسهيل عمل المرأة في بيتها لتحسين دخلها وإشغال وقتها وتنمية قدرتها في الاعتماد على نفسها ، كالخياطة ، والأعمال اليدوية البسيطة ، وتصميم برامج الحاسوب ، وطباعة الأبحاث والتقارير ، وتقديم الدروس الخاصة لبعض النساء أو الأطفال ، وتجهيز بعض أنواع الطعام ... على أن تتولى عرض الأعمال وتسويقها وجني أرباحها مؤسسة اجتماعية تعنى بهذا الأمر وفق ضوابط محددة .

7-إقامة دورات تدريبية (وفق حاجة المجتمع) لتنمية مهارات المرأة في معاهد ومؤسسات تعليمية معترف بها وعلى قدر عال من الجودة في التدريب .

6=

* مفهوم العولمة

* نشأة العولمة

* الفرق بين العولمة وعالمية التربية _....الإسلامية

* سلبيات العولمة وإيجابياتها

* كيف نستفيد من إيجابيات العولمة -..ونتقي سلبياتها

* مستقبل العولمة

مفهوم العولمة

العولمة لغة :

" العولمة ثلاثي مزيد، يقال: عولمة على وزن قولبة،وكلمة "العولمة " نسبة إلى العَالم -بفتح العين- أي الكون، وليس إلى العِلم -بكسر العين- والعالم جمع لا مفرد له كالجيش والنفر" ( الرقب ، 1423هـ ، ص 4 )

" العالَمُ : الخَلْقُ كُلُّهُ " ( الفيروز بادي ، 1993م )

العولمة من حيث اللغة كلمة غريبة على اللغة العربية ويقصد منها عند الاستعمال- اليوم- تعميم الشيء وتوسيع دائرته ليشمل العالم كله .

العولمة اصطلاحاً :

إن كلمة العولمة جديدة، وهي مصطلح حديث لم يدخل بعد في القواميس السياسية والاقتصادية ، ومن تعاريف العولمة : " العولمة هي الحالة التي تتم فيها عملية تغيير الأنماط والنظم الاقتصادية والثقافية والاجتماعية ومجموعة القيم والعادات السائدة وإزالة الفوارق الدينية والقومية والوطنية في إطار تدويل النظام الرأسمالي الحديث وفق الرؤية الأمريكية المهيمنة، والتي تزعم أنها سيدة الكون وحامية النظام العالمي الجديد " ( الرقب ، 1423هـ ، ص 9 )

ومن تلك التعاريف أيضاً ما اختاره الشيخ ناصر العمر :

"اصطباغ عالم الأرض بصبغة واحدة شاملة لجميع من يعيش فيه، وتوحيد أنشطتهم الاقتصادية والاجتماعية والفكرية من غير اعتبار لاختلاف الأديان والثقافات، والجنسيات والأعراق" ( العمر ،1424هـ ، ص 2 )

وأعتقد أن التعريفين السابقين يوضحان المفهوم العام للعولمة ، ولذا اكتفيت بذكرهما لبساطتهما ووضوحهما .

نشأة العولمة

"اختلف الباحثون في التأريخ لنشأة العولمة على قولين:

الأول:

يرى هؤلاء الباحثون أن ظاهرة العولمة قديمة، عمرها خمسة قرون، أي ترجع إلى القرن الخامس عشر- زمن النهضة الأوربية الحديثة-. حيث التقدم العلمي في مجال الاتصال والتجارة .

الثاني:

يرى فريق آخر أنً العولمة ظاهرة جديدة، فما هي إلا امتداد للنظام الرأسمالي الغربي بل هي المرحلة الأخيرة من تطور النظام الرأسمالي العلماني المادي النفعي، وقد برزت في المنتصف الثاني من القرن العشرين نتيجة أحداث سياسية واقتصادية معينة منها: انتهاء الحرب الباردة بين الاتحاد السوفيتي والولايات المتحدة الأمريكية عام 1961م ثم سقوط الاتحاد السوفيتي سياسياً واقتصادياً عام 1991م، وما أعقبه من انفراد الولايات المتحدة الأمريكية بالتربع على عرش الصدارة في العالم المعاصر وانفرادها بقيادته السياسية والاقتصادية والعسكرية ومنها: بروز القوة الاقتصادية الفاعلة من قبل المجموعات المالية والصناعية الحرة عبرة شركات ومؤسسات اقتصادية متعددة الجنسيات مدعومة بصورة قوية وملحوظة من دولها." ( الرقب ، 1423هـ ، ص 10 )

ومن الملاحظ أن العولمة بدأت من زمن النهضة الأوربية الحديثة كبداية عامة لم تتضح معالمها إلا بعد انفراد الولايات المتحدة الأمريكية بالتربع على عرش الصدارة في العالم المعاصر وانفرادها بقيادته السياسية والاقتصادية والعسكرية ، ولذا يستخدم البعض لفظ الأمركة بدلاً من العولمة .

الفرق بين العولمة وعالمية التربية الإسلامية

التربية الإسلامية تربية عالمية بعيدة عن التعصب العرقي أو الاجتماعي ، قال تعالى : (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ ) ( الحجرات: من الآية 10)

وقال تعالى : (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ) ( سورة الحجرات 13)

وخلافاً للتربيات الوضعية التي تتجه إلى أمة من الأمم أو جماعة من الناس ، فإن التربية الإسلامية " تربية عالمية ، والإسلام رسالة عالمية جاءت للناس كافة ، وعالمية الرسالة الإسلامية تعني أيضاً عالمية التربية الإسلامية " ( مرسي ، 1996م ، ص 79 ) .

وعالمية التربية الإسلامية تحترم خصوصيات كل شعب من الشعوب وكل أمة من الأمم ، ما دامت تلك الخصوصيات وطرق المعيشة والعادات الاجتماعية والاقتصادية ... لا تخالف الشريعة الإسلامية التي أنزلها الله تعالى ليهتدي بها العباد .

كما أن عالمية التربية الإسلامية تنتشر برغبة الشعوب والأمم في محاسنها انتشاراً تلقائياً لا إجبار فيه ولا إكراه ، قال تعالى : ( لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ ) (سورة البقرة: من الآية 256) .

وفي المقابل نجد أن العولمة أو الأمركة لا تحترم خصوصيات الشعوب المختلفة ، كما أنها تلجأ في بعض أمورها إلى القوة والإجبار والإكراه لفرض ما تريد .

وبهذا يتضح الفرق بين العولمة وعالمية التربية الإسلامية .

سلبيات العولمة وإيجابياتها

"لقد روَّج دعاة العولمة في الغرب وعملاؤهم في المنطقة العربية مجموعة من المقولات لصالح العولمة،ومن ذلك: أنّ العولمة تبشر بالازدهار الاقتصادي والتنمية والرفاهية لكل الأمم والعيش الرغيد للناس كلهم، والانتعاش،ونشر التقنية الحديثة، وتسهيل الحصول على المعلومات والأفكار عبر الاستفادة من الثورة المعلوماتية الحديثة، وإيجاد فرص للانطلاق للأسواق الخارجية، وتدفق الاستثمارات الأجنبية التي تتمتع بكفاءة عالية، وبالتالي ينتعش الاقتصاد الوطني والقومي.

ولكن سرعان ما اكتشف الباحثون والمفكرون أن تلك المقولات ما هي إلا شعارات استهلاكية جوفاء" ( الرقب ، 1423هـ ، ص 20 ) .

وما روّج له دعاة العولمة من إيجابيات يفتقد للتطبيق العملي في الواقع لأن تلك الإيجابيات تنصب غالباً للطرف الأقوى على حساب الطرف الضعيف .

وللعولمة الكثير من السلبيات التي تتعلق بمختلف المجالات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية ، ونكتفي هنا بذكر الآثار العقدية للعولمة :

"1- خلخلة عقيدة المسلمين، والتشكيك فيها ...

2- إضعاف عقيدة الولاء و البراء، والحب والبغض في الله

إن استمرار مشاهدة الحياة الغربية، وإبراز زعماء الشرق والغرب داخل بيوتنا، والاستمرار في عرض التمثيليات والمسلسلات، والاستماع إلى الإذاعات، والأشكال الأخرى لاستيراد الثقافات سيخفف ويضعف من البغض لأعداء الله...

3- نشر الكفر، والإلحاد، حيث إن كثيراً من شعوب تلك الدول لا يؤمنون بدين، ولا يعترفون بعقيدة سماوية. فلا حرج عندهم إذا نشروا أفلاماً تدعو بطريقة أو بأخرى لتعلم السحر، ومن أمثلتها أفلام السحر التي يقحمونها ببعض الألعاب القتالية، وهي منتشرة...

4- ومن أخطر الآثار العقدية الدعوة إلى النصرانية فالعولمة الغربية تتيح للتيارات الفكرية الموجودة بها نشر أفكارها، عن طريق الاستفادة من تقنياتها...

5- تقليد النصارى في عقيدتهم

وذلك باكتساب كثير من عاداتهم المحرمة التي تقدح في عقيدة المسلم، كالانحناء، ولبس القلائد والصلبان، وإقامة الأعياد العامة والخاصة، وقد رأينا القصات العالمية، وأشهر (الموضات)، إلى غير ذلك من صنوف التشبه المحرمة... " ( العمر ،1424هـ ، ص 29 )

كيف نستفيد من إيجابيات العولمة ونتقي سلبياتها

لكي نستفيد من إيجابيات العولمة ونتقي سلبياتها علينا أن نستخدم المنهج الانتقائي ، وذلك بقبول - فقط - ما لا يخالف هويتنا الدينية وثوابتنا التي لا نساوم عليها ، وبرفض ما يعارض ذلك .

ويعتبر ذلك نشراً لثقافة المقاومة وليس منعاً للعولمة بخيرها وشرها .

"و ما يرد إلينا من علوم وثقافات وافدة، فإن فيها حقاً وخيراً، وهذا يقبل ممن جاء به، كما أن فيها باطلاً وشراً، وهذا يرد على من جاء به، وهو غالب ما يرد، والمطلوب أن لا نخضع شريعتنا ونلويها حتى توافق ما وفد، وإنما نُحكِّمها فيما يرد، ونرضى بحكمها، ثم لا نجد حرجاً فيما قضت، ونوقن بأنه الخير والحق.

إن في سنة نبينا صلى الله عليه وسلم وفي عمل الصدر الأول تقرير لهذا المنهج، فقد نقل أهل السير لنا استفادته -صلى الله عليه وسلم- من ثقافة الفرس يوم حفر الخندق بمشورة سلمان الفارسي رضي الله عنه، وقد لبس -صلى الله عليه وسلم- جبة من صوف رومية، وعرف الإستبرق وأصله أعجمي، وأطلقوا على الجمال طويلة العنق ما كان يطلقه العجم فقالوا بختي و بختية، ورمى الصحابة بالمنجنيق وهي فارسية، واستعملوا سيوف الهند، وعرفوا الصولجان، و قرأوا المجال -مفرد مجلة- وهي وافدة، وأقر نبينا -صلى الله عليه وسلم- الدركلة ضرب من لعب الحبشة "( العمر ،1424هـ ، ص 27 )

"وبالمقابل نبذ الصدر الأول ثقافات وعادات وافدة، ومنها اللعب (بالإسبرنج) وهي الفرس التي في الشطرنج، وعرفوا الشطرنج وما فيه من بياذق أو بيادق وكلها فارسية، وجاء في الأثر: (من لعب بالنرد شير فكأنما صبغ يده في لحم خنزير ودمه)25، وعرفوا لعبة السُّدُّر -نوع من القمار- وأنكروها، وعرفوا السمسرة من فارس وتكلموا فيها.

و لما قدم معاذ بن جبل من الشام سجد لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما هذا؟) قال: يا رسول الله قدمت الشام فرأيتهم يسجدون لبطارقتهم وأساقفتهم فأردت أن أفعل ذلك بك.

قال: (فلا تفعل)26." ( المصدر السابق ، ص 28 )

"بل أكثر من ذلك كان عندهم نوع استقراء وتحليل للثقافة الوافدة، فقد تصوروا بعضها، وحكموا عليها –حكماً خاصاً- قبل أن تفد، ومن ذلك ما جاء في البخاري: عن عائشة رضي الله عنها قالت:لما اشتكى النبي -صلى الله عليه وسلم- ذكرت بعض نسائه كنيسة رأينها بأرض الحبشة يقال لها مارية، وكانت أم سلمة وأم حبيبة -رضي الله عنهما- أتتا أرض الحبشة فذكرتا من حسنها و تصاوير فيها، فرفع رأسه فقال: (أولئك إذا مات منهم الرجل الصالح بنوا على قبره مسجدا ثم صوروا فيه تلك الصور، أولئك شرار الخلق عند الله)27." ( المصدر السابق ، ص 28 )

"فينبغي للمسلمين أن يعدوا الدراسات ويقيموا الثقافات من حولهم، حتى يميزوا بين حقها وباطلها وفقاً لضوابط الشرع، فيقبلوا ما فيها من خير، ويحصنوا المجتمعات ضد ما فيها من شر، وأول ذلك يكون بتقرير الثقافة الإسلامية في نفوس ذويها، وترسيخ مفاهيمها وبيان محاسنها قبل دعوة الآخرين إليها." (المصدر السابق ، ص 29 ) .

مستقبل العولمة 28

الغيب لله..

(قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ)( سورة النمل الآية 65 )

ولكن هناك سننا ربانية تجري في حياة البشر، وهي سنن لا تتخلف ولا تتبدل، وهناك وعد ووعيد من عند الله، لا يتخلفان كذلك، وهناك واقع مشهود، يمكن رؤيته وتقدير احتمالاته على ضوء تلك السنن، وذلك الوعد والوعيد..

وكلها تقول إن هذه العولمة، سواء كانت - كما قلنا في نهاية الفصل السابق - أمريكية بحتة، أو يهودية بحتة، أو خليطا متجانسا متعاونا من الأمريكية واليهودية، لن تعيش طويلا كما يتمنى أصحابها!

إنها بادئ ذي بدء مخالفة لقدر مسبق من أقدار الله، ألا يكون الناس أمة واحدة على الإيمان أو على الكفر: (وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ) (سورة هود الآية118 - 119) (.. وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ..) (سورة المائدة : الآية48)

فكل محاولة لصبغ الناس كلهم صبغة واحدة، تفرضها القوة الغاشمة، هي محاولة فاشلة منذ البدء، وإن قدّر لها شيء من النجاح في بعض أرجاء الأرض لفترة محدودة من الزمان.

فاشلة لأنها مخالفة لإرادة ربانية أزلية، والله هو الذي يقدر المقادير، وليس البشر، وإن ظنوا في لحظات غرورهم وتألههم أنهم قادرون!

(فَأَمَّا عَادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَقَالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَكَانُوا بِآياتِنَا يَجْحَدُونَ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً فِي أَيَّامٍ نَحِسَاتٍ لِنُذِيقَهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَخْزَى وَهُمْ لا يُنْصَرُونَ) ( سورة فصلت الآية:15 - 16) (.. أَفَلا يَرَوْنَ أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا أَفَهُمُ الْغَالِبُونَ) (سورة الأنبياء الآية:44) (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا وَاللَّهُ يَحْكُمُ لا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ وَهُوَ سَرِيعُ الْحِسَابِ) (سورة الرعد الآية :41)

وهي فاشلة ثانيا لأنها مخالفة لسنة أخرى من سنن الله، وهي مداولة الأيام بين الناس (بمعنى النصر والهزيمة، والتمكين والزوال).

(إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ)( سورة آل عمران الآية :140)

ثم إنها - في الواقع المشهود الآن - تجد مجابهة ومعارضة في أكثر من مكان! ففرنسا وألمانيا في أوربا تستنكفان أن تصوغ لهما أمريكا طريقة حياتهما، وتقفان بشدة أمام كل محاولة لمحو شخصيتهما، وطبعهما بطابع غير طابعهما الذاتي، سواء في عالم اللغة أو الفكر أو الثقافة أو السلوك اليومي، فضلا عن السياسة والاقتصاد.

وفي آسيا توجد الصين واليابان، وكلتاهما قوة راسخة في الأرض، لا يسهل محوها، ولا إخضاعها، ولا طمس معالمها، ولا إذابة شخصيتها كما تشتهي العولمة.

وذلك فضلا عن الحركة الإسلامية، المكبوتة الآن بكل وسائل الكبت، ولكنها حية تستعصي على كل محاولة لوأدها، أو منعها من الانتشار.

* * *

وعلى فرض أن العولمة أمريكية، فأمريكا ذاتها مهددة - من داخلها - بالانهيار! ولسنا نحن الذين نقول ذلك إنما تقوله صحفهم وكتابهم ومفكروهم.

حقا إن القوة المادية لأمريكا من الضخامة بحيث يصعب حتى على القوى العالمية الأخرى مجاراتها أو التصدي لها، ولكن القوة المادية ليست هي في النهاية التي تقرر مصاير الأمم، أو على الأقل ليست وحدها التي تقرر مصايرهم.. وحين يتفشى الترف، ويتفشى الترهل (مما نبه إليه كلنتون ذاته في كلمات وجهها إلى شعبه) وحين تتفشى الفوضى الجنسية والشذوذ والانحراف، ويتعالن الشواذ بشذوذهم ويطلبون من دستورهم وبرلمانهم أن يقر بشرعيتهم وشرعية سلوكهم المنحرف.. وحين تتفشى الخمر والمخدرات والجريمة.. فكل ذلك من عوارض الدمار، مهما كانت القوة المادية..

ولسنا نقول إن أمريكا ستنهار غدا صباحا! فإن ما لديها من عوامل القوة الإيجابية يمكن أن يمد لها فترة من الزمن بحسب سنة الله. ولكنا نقول - فقط - إن هذا الأمر لا يتوقع كثيرا أن يطول.

وأما إن كانت العولمة يهودية، تعمل من خلال أمريكا، وهو الأرجح في نظرنا، فلليهود في كتاب الله وعد ووعيد: (وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إِسْرائيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوّاً كَبِيراً فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَاداً لَنَا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُوا خِلالَ الدِّيَارِ وَكَانَ وَعْداً مَفْعُولاً ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْنَاكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيراً إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لَأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ لِيَسُوءُوا وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا مَا عَلَوْا تَتْبِيراً عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنَا...) (سورة الإسراء الآية:4 - 8)

ويستوي - كما أشرنا من قبل - أن تكون المرتان المذكورتان تاريخيتين، أو تكون إحداهما تاريخية والثانية هي الواقعة اليوم.. فقوله تعالى: (وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنَا) فيه الفيصل فيما نحن بصدده. فالآيات تقول إنه كلما علا اليهود في الأرض وأفسدوا - سواء مرة أو مرات - جاء العقاب الرباني فأنزلهم من علوهم وأجرى عليهم وعيده: (وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذَابِ)( سورة الأعراف الآية:167)

وهم اليوم في قمة العلو.. ولم يسبق لهم في تاريخهم كله أن علوا وسيطروا بمقدار ما لهم اليوم من العلو والسيطرة في أرجاء الأرض.

والله هو الذي يقدر، وله حكمته في تقديره سواء عرفنا نحن الحكمة أم لم نعرفها.

وله حكمة ولا شك في الإملاء لليهود وتمكينهم في الأرض: (ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُوا إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ..) (سورة آل عمران الآية:112)

فهم ممكنون بحبل من الله ابتداء، أي بتقدير من الله وإمداد، ثم بحبل من الناس الذين يعينونهم على تنفيذ مخططاتهم.

أما الحكمة في ذلك فلا نعرفها، لأنها ليست مذكورة في كتاب الله ولا في حديث الرسول صلى الله عليه وسلم، ولكن ربما كان الله يعاقب البشرية التي كفرت اليوم كفرا لم تكفره من قبل، فأنكرت وجود الله (في جزء غير قليل منها) وشردت عن هديه (في الجزء الأكبر منها) ويعاقب الأمة الإسلامية بالذات على تفريطها وتقاعسها.. يعاقب الجميع بتسليط اليهود عليهم تحقيقا لقوله تعالى: (قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَاباً مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ)( سورة الأنعام الآية:65)

وأيًّا تكن الحكمة فالذي يهمنا هنا أن هذا العلو والإفساد في الأرض محدود بزمن معين يقدره الله، وليس طويل الأمد، لأنه استثناء من القاعدة، وليس هو القاعدة، وإن تكن القاعدة من تقدير الله، والاستثناء كذلك من تقدير الله..

* * *

وليس معنى هذا كله أن العولمة أمر هين ولا خطر منه، ولا يستأهل منا اهتماما ولا حركة..

إنه عاصفة جائحة هوجاء..

والعاصفة تهدأ بعد حين، ولكنها تكون قد دمرت ما دمرت، وخربت ما خربت، مما قد يحتاج في إصلاحه إلى عشرات السنين..

وإنما نقول للناس في العالم الإسلامي تحصنوا قدر الطاقة من العاصفة الهوجاء. تحصنوا أولا بالتمسك بدينكم وأخلاقكم وثوابتكم، ثم تحصنوا ثانيا ببذل أقصى الجهد في تحصيل العلم والتقنية وزيادة الإنتاج، لعلكم بذلك تقللون آثار الدمار الذي تخلفه العاصفة.

ثم نقول لهم كما قال موسى عليه السلام لقومه وهم في أتون الابتلاء: (اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ)( سورة الأعراف الآية:128)

9

وفي ختام هذا البحث أشير إلى أهمية معالجة قضايا التربية الإسلامية والتحديات المعاصرة التي تواجهها بطريقة موضوعية ونظرة واقعية ، خاصة وأن التربية الإسلامية تنفرد بينابيع متدفقة لكل بحث تربوي ينهل منها ويحسن استغلالها ويجيد استنباط الفوائد منها إذا سلك طريق الدقة والأمانة وحسن التأمل والنظر والبعد عن الهوى والتجرد التام لما يفيده النص والربط بين النصوص الشرعية مع استخدام خطوات البحث العلمي المعروفة .

وفي التربية الإسلامية كنوز تحتاج لمن يصدق معها ويحسن النية في التصدي لمهمة العناية بالجوانب التربوية التى تحويها ليقدمها للعالم فيستفيد منها علماء النفس ، وعلماء الاجتماع ، وعلماء التربية ، بل ليستفيد منها كل إنسان ليربي نفسه ومن تحت يده من الأولاد ذكوراً وإناثاً .

والباحث يأمل في نهاية بحثه أن يكون هذا البحث قد قدم جزءاً ولو يسيراً في موضوع التربية الإسلامية وتحديات العصر .

ويأمل الباحث حصول الفائدة من هذا البحث للباحث أولاً ، ولكل من يقرأ البحث ، والباحث يسأل الله التوفيق والسداد ، ويختم بحثه بالصلاة والسلام على سيد الأنام محمد بن عبد الله وعلى آله وصحبه وسلم .

`

x

1. ابن القيم ، محمد بن أبي بكر ( د : ت ) إغاثة اللهفان من مصائد الشيطان ، دار المعرفة .

2. ابن تيمية ، أحمد بن عبد الحليم ( د : ت ) فتاوى ابن تيمية ، دار عالم الكتب .

3. ابن حميد ، صالح بن عبد الله ( د : ت ) أصول الحوار وآدابه في الإسلام ، مكتبة صيد الفوائد .

4. ابن منظور ، جمال الدين محمد (1410هـ ) لسان العرب ،دار صادر ، بيروت .

5. أبو سليمان ، عبد الوهاب إبراهيم ( 1416 هـ ) كتابة البحث العلمي صياغة جديدة ، ط 6 ، دار الشروق ، جدة .

6. أحمد ، أحمد بن حنبل ( د : ت ) مسند الإمام أحمد ، دار إحياء التراث العربي .

7. آل عبد الكريم ، فؤاد بن عبد الكريم ( 1425هـ ) المرأة المسلمة بين موضات التغيير وموجات التغرير .

8. آل ناجي ، محمد عبد الله ( د: ت ) دور الجامعات في مواجهة تحديات العصر جريمة الإرهاب ،مركز البحوث التربوية ، جامعة الملك خالد .

9. البيهقي ، أحمد بن الحسين بن علي ( د : ت ) السنن الكبرى للبيهقي ، دار الفكر .

10. الترمذي ، محمد بن عيسى ( 1994م) سنن الترمذي ،دار الكتب العلمية .

11. الجاسر ، هيلة ناصر ، وآخرون ( 1427هـ ) جغرافية العالم الإسلامي للصف الثاني المتوسط ، وزارة التربية والتعليم ، المملكة العربية السعودية .

12. الحاكم ، محمد بن عبد الله ( د : ت ) المستدرك على الصحيحين ، دار الكتب العلمية ، بيروت .

13. حسين ، حيدر ( 1421هـ ) مجلة النبأ ، العدد 44 .

14. الخشت ، محمد عثمان ( 1404هـ ) وليس الذكر كالأنثى ، مكتبة القرآن ، القاهرة .

15. الدغيمي ، محمد راكان ( 1417هـ ) أساليب البحث العلمي ومصادر الدراسات الإسلامية ، ط2 ، مكتبة الرسالة ، الأردن .

16. الرقب ، صالح ( 1423 هـ ) العولمة ، الجامعة الإسلامية .

17. الزنتالي ، عبد الحميد الصيد ( 1993 م ) فلسفة التربية الإسلامية في القرآن والسنة ، الدار العربية للكتاب .

18. السجستاني ، أبو داود سليمان بن الأشعث ( د : ت ) سنن أبي داود ، دار إحياء التراث العربي .

19. سويد ، محمد نور بن عبد الحفيظ ( 1422هـ ) منهج التربية النبوية للطفل ، ط3 ، دار ابن كثير ، دمشق-بيروت .

20. السيوطي ، جلال الدين عبد الرحمن بن أبي بكر ( 1994 م ) جامع المسانيد والمراسيل ، دار الفكر .

21. شعبان ، عبد الحسين ( 2001م ) ثقافة حقوق الإنسان ، ط1 ، رابطة كأوا للثقافة الكردية ، بيروت .

22. العبد الجبار ، عادل ( د: ت ) الإرهاب في ميزان الشريعة ، صيد الفوائد .

23. عبيدات ، ذوقان ( 1424 هـ ) البحث العلمي ، إشراقات .

24. العساف ، صالح بن حمد ( 1424 هـ ) المدخل إلى البحث في العلوم السلوكية ، ط3 ، مكتبة العبيكان .

25. العسقلاني ، أحمد بن علي بن حجر ( 1409 هـ ) فتح الباري بشرح صحيح البخاري ، دار الريان للتراث ، القاهرة .

26. علي ، سعيد إسماعيل ( 1412هـ ) الأصول الإسلامية للتربية ، دار الفكر العربي ، القاهرة .

27. العمر ، ناصر بن سليمان ( 1424هـ ) رسالة المسلم في حقبة العولمة ، مركز الدراسات الإسلامية ، قطر .

28. العودة ، سلمان بن فهد ( د : ت ) أدب الحوار ، مكتبة صيد الفوائد .

29. غبان ، محروس أحمد إبراهيم، وآخرون ( 1415 هـ ) أصول التربية الإسلامية ، دار الخريجي للنشر والتوزيع ، الرياض .

30. فرج ، عبد اللطيف حسين ( 1426 هـ ) تربية الشباب للبعد عن التطرف والإرهاب ، مكة المكرمة .

31. الفيروز بادي ، محمد بن يعقوب ( 1993م ) القاموس المحيط ، مؤسسة الرسالة .

32. الفيومي ، أحمد بن محمد بن علي ( 1987م ) المصباح المنير ، مكتبة لبنان ، بيروت .

33. قطب ، محمد ( د : ت ) المسلمون والعولمة ، مكتبة صيد الفوائد .

34. مجلة الأسرة ( 1424هـ ) موضوع الغلاف : وليس الذكر كالأنثى ، العدد 124 رجب .

35. مرسي ، محمد منير ( 1996م ) التربية الإسلامية أصولها وتطورها في البلاد العربية ، الطبعة الثانية ، عالم الكتب ، القاهرة .

36. مسلم ، مسلم بن الحجاج بن مسلم ( 1992م ) صحيح مسلم ، دار الكتب العلمية .

37. النسائي ، أحمد بن علي ( د : ت ) سنن النسائي الكبرى ، دار الفكر .

38. وزارة المعارف ( 1422هـ ) الحديث والثقافة الإسلامية ،شركة المدينة المنورة للطباعة والنشر ، السعودية .

39. وزارة المعارف ( 1423 هـ ) مقرر التوحيد للصف الثاني المتوسط ، السعودية .

40. اليوسف ، عبد الله بن عبد العزيز ( 1425هـ ) دور المدرسة في مقاومة الإرهاب والعنف والتطرف ، اللجنة العلمية للمؤتمر العالمي عن موقف الإسلام من الإرهاب .

j

شكر وتقدير.......................................................................................................2

مقدمة....................................................................................................................3

أهمية البحث وتساؤلاته وأهدافه.........................................................................5

الفصل الأول..........................................................................................................6

التربية الإسلامية وتحدي الحرية..........................................................................7

مفهوم الحرية لغةً واصطلاحاً...............................................................................9

مفهوم المنهج لغة واصطلاحاً..............................................................................10

مفهوم الحرية في المنهج الإسلامي .....................................................................11

ضوابط الحرية وحدودها في المنهج الإسلامي ..................................................12

أنواع الحرية .......................................................................................................13

مفهوم العالم الإسلامي .....................................................................................14

واقع الحرية في العالم الإسلامي........................................................................14

كيف نفعل الحرية في تربيتنا الإسلامية..........................................................15

الفصل الثاني......................................................................................................18

التربية الإسلامية وتحدي الحوار........................................................................19

مفهوم الحوار......................................................................................................21

حقيقة الحوار في المنهج الإسلامي ....................................................................23

أهمية الحوار .....................................................................................................26

أهداف الحوار ..................................................................................................29

أصول الحوار .....................................................................................................30

آداب الحوار........................................................................................................36

التعلم من خلال لغة الحوار ................................................................................39

الفصل الثالث.....................................................................................................40

التربية الإسلامية وتحدي الغلو والتطرف الديني...............................................41

مفهوم الغلو والتطرف.........................................................................................43

نشأة وتطور الغلو والتطرف الديني في العالم الإسلامي ..................................45

أنواع الغلو ..........................................................................................................48

موقف التربية الإسلامية من الغلو والتطرف .....................................................49

الإفرازات السلبية للغلو .....................................................................................53

سبل الوقاية والعلاج من مشكلة الغلو والتطرف الديني..................................54

الفصل الرابع......................................................................................................56

التربية الإسلامية وتحدي الإرهاب الفكري.....................................................57

مفهوم الإرهاب....................................................................................................59

أنواع الإرهاب .....................................................................................................64

أسباب الإرهاب .................................................................................................66

سمات الشخصية الإرهابية ..............................................................................71

موقف التربية الإسلامية من تحدي الإرهاب......................................................74

سبل الوقاية والعلاج من مشكلة الإرهاب .......................................................76

الفصل الخامس..................................................................................................78

التربية الإسلامية وتحدي غياب دور المرأة.........................................................79

مكانة المرأة في الإسلام ...................................................................................81

الفوارق الجوهرية بين المرأة والرجل .................................................................84

المرأة المسلمة بين التهميش والتحرير ................................................................85

كيف نفعّل دور المرأة في بناء المجتمع المسلم....................................................88

الفصل السادس..................................................................................................90

مفهوم العولمة.......................................................................................................92

نشأة العولمة ........................................................................................................93

الفرق بين العولمة وعالمية التربية الإسلامية........................................................94

سلبيات العولمة وإيجابياتها..................................................................................95

كيف نستفيد من إيجابيات العولمة ونتقي سلبياتها..........................................97

مستقبل العولمة....................................................................................................99

الخاتمة.............................................................................................................103

المراجع..............................................................................................................104

=============

#حقوق الإنسان محور مقاصد الشريعة

الأستاذ الدكتور أحمد الريسوني

الأستاذ الدكتور محمد الزحيلي

الأستاذ الدكتور محمد عثمان شبير

تقديم بقلم :

عمر عبيد حسنه

الحمد لله الذي جعل حرية التدين، التي تعتبر من أرقى الحقوق الإنسانية، وتأصيل كرامة الإنسان، خيارًا لا إكراه فيه، فقال تعالى: (( لا إِكْرَاهَ فِى الدّينِ.. )) (البقرة:256)، وقال مخاطبًا نبيه صلى الله عليه وسلم وكل من يسير على سبيله، مقررًا لحقيقة يعتبر التزامها من الدين والطاعة والعبودية، كما يعتبر الخروج عليها من المنكر والفسوق والعصيان، بقوله: ((لَّسْتَ عَلَيْهِم بِمُسَيْطِرٍ)) (الغاشية:22)، وقوله على سبيل الاستفهام الإنكاري: ((أَفَأَنتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ)) (يونس:99)، وقوله محددًا مهمة النبوة: ((فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ)) (آل عمران:20)، ((وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلاَّ الْبَلَاغُ الْمُبِينُ)) (النور:54).

ذلك أن الإنسان مخلوق مكرم بتكريم الله له، قال تعالى: ((وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِى ءادَمَ..)) (الإسراء:70)، يمتلك العقل الذي يجعله أهلاً للاختيار، فهو مختار كذلك، أراد الله الخالق له أن يريد ويختار، والاختيار من أعلى درجات التكريم، وبذلك فهو المخلوق المكلف المسؤول، ولا مسؤولية بدون حرية، فإذا سقطت الأهلية (العقل) رفعت المسؤولية، وإذا أخذ ما وهب سقط ما وجب.

ولعلنا نقول في تعريف الإنسان وتمييزه عن سائر المخلوقات: بأنه المخلوق المكلف، أي المسؤول، وأن أي انتهاك لحرية الاختيار اعتداء على إنسانية الإنسان وإهدار لآدميته.

والصلاة والسلام على من كانت الغاية من بعثته إلحاق الرحمة بالعالمين، واسترداد إنسانية الإنسان، وكانت غاية مهمته إبلاغ الناس بما أُرسل به، قال تعالى: (( وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلاَّ الْبَلَاغُ الْمُبِينُ)) (النور:54)، وقال تعالى: ((فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ)) (آل عمران:20)، وكانت وسيلته الدعوةُ بالحكمة والموعظة الحسنة والمجادلة بالتي هي أحسن، والحوار بالدليل والبرهان، قال تعالى: ((ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَة))ِ (النحل:125)، وقال: ((وَلاَ تُجَادِلُواْ أَهْلَ الْكِتَابِ إِلاَّ بِالَّتِى هِىَ أَحْسَنُ)) (العنكبوت:46).. ومن دعائم عقيدة الإسلام، أن الحجة والبينة والبرهان سبيل الإيمان والتحقق باليقين.. وبعد:

فهذا كتاب الأمة السابع والثمانون: «حقوق الإنسان.. محور مقاصد الشريعة»، لمجموعة من الباحثين المتخصصين، استمرارًا للمضي في طرح مشروعات فكرية جماعية للقضايا المعاصرة، ومعاودة فتح ملفها واستدعائها، لتصبح همًا ثقافيًا، ومحركًا اجتماعيًا، وفرضًا كفائيًا، ومحرضًا حضاريًا، وشاحذًا للعقول، وسبيلاً للحوار الداخلي.

ولعل من الأولويات اليوم تتمثل في إعادة تشكيل النخبة، عقل الأمة، أو الطائفة القائمة على الحق، تمثلاً وبلاغًا، وتأسيس مرجعيتها في ضوء معرفة الوحي وتجربة النبوة الخاتمة وتطبيقات الخلافة الراشدة ومسيرة خيرة القرون، بحيث تمتلك من الرؤية الشرعية ما يمكنها من فقه الواقع بإشكالياته المتعددة، والقدرة على تحديد الاستطاعة، مناط التكليف في كل مرحلة، ومن ثم تنزيل الأحكام الشرعية بعد التحقق من توفر شروط محالها، اهتداءً بالسيرة النبوية، واعتبارًا بالتاريخ الخاص بمسيرة الأمة المسلمة، والعام بتاريخ الأمم، الذي يمكِّن من اكتشاف السنن الفاعلة في الحياة، أو قوانين الحركة الاجتماعية، حتى تتمكن من تسخيرها، ومدافعة قدر بقدر، بعيدًا عن المجازفات وإهدار الطاقات، والمجاهدة تحت رايات عمِّيَّة، وترك ما تستطيع إلى ما لا تستطيع، والاندفاع للإقدام على الفعل من خلال حالة الإحباط، والإعجاب بالموقف دون القدرة على النظر في تداعياته، وتحويل الأمة المسلمة إلى رصيد تضحيات جاهز للاستخدام والاستغلال من قبل (الآخر)، وتصفية الحسابات الدولية والإقليمية بدماء المسلمين، تحت شعارات ظاهرها فيه الرحمة وباطنها من قبله العذاب.

إن حالة التخلف والإحباط التي نعاني منها، تؤدي إلى خلل في التوازن وضبط النسب، وتغيّب التطلع إلى التحلي والتأهل بصفات البطولة في المجالات المتعددة، والتحول إلى انتظار البطل المنقذ، والقفز من فوق السنن، الأمر الذي لم تدّعيه النبوة، ولم تمارسه.

وقد تكون الإشكالية التي نعاني منها ليست في عدم وجود قيم ضابطة لمسيرة الحياة ومعايير لتقويمها وتحديد مواطن الخلل التي تعتريها، ولا في عدم وجود تجربة تاريخية وتنزيل لهذه القيم على واقع الناس، ولا في شمولية هذه القيم وتغطيتها لجميع مناحي الحياة البشرية، من القوة والضعف، والسقوط والنهوض، والنصر والهزيمة، والدعوة والدولة، وحقوق المسلم والمعاهد والمحارب.... إلخ، وإنما تتحدد الإشكالية -فيما نرى- بسوء التعامل مع القيم، الذي يؤدي إلى العبث بهذه الأحكام، والقراءة المغلوطة لمحالها، ومن ثم سوء تنزيلها على واقع الناس، ذلك أنه من المعروف شرعًا وعقلاً أن لكل حكم شرعي مواصفات وشروط لابد من توفرها في محل تنزيل الحكم، بعد النظر في توفر الاستطاعة، التي هي مناط التكليف.

إن العبث في التعامل مع الأحكام الشرعية، ومحاولة الاستشهاد بها والارتكاز إليها في تسويغ مشروعية الفعل البشري، دون الإدراك لوجود الاستطاعة، وتوفر شروط المحل، يوقع بإشكالات كبيرة جدًا، تكرس التخلف والتراجع، وقد تُحدث أزمة ثقة بالقيم والنصوص نفسها، واتهامها بالعجز عن تقديم الحلول المطلوبة، وانتشال الأمة من معاناتها.

ولا شك أن هناك أحكامًا شرعية منوط إنفاذها بالسلطة المسلمة، كالعقوبات، والفصل في الخصومات، وإبرام المعاهدات، والقضاء بين الناس...إلخ، ونصيب الفرد من التكليف بها لا يخرج عن السعي والعمل لإيجاد السلطة المسلمة التي تضطلع بإنفاذها، أما التطاول لتنفيذها من قبل الأفراد بحجة غياب السلطة المسلمة من خلال فقه بئيس فتخلق من المشكلات والفوضى ما لا يعلمه إلا الله سبحانه وتعالى.

إن عدم الإدراك الكامل لمواصفات الخطاب، في الكتاب والسنة، وحدود التكليف، وحدود الاستطاعة، وتوفر المحل، سوف يؤدي إلى العبث بالأحكام -كما أسلفنا- وتنزيل خطاب المعركة على محل الدعوة، وخطاب الدعوة على ساحة المعركة، أو خطاب المعركة على ساحة المعاهدة، ذلك أنه من المعلوم أن هناك أحكامًا شرعية تمثل خطاباً للمعركة والتعبئة النفسية والتحريض على القتال والغلظة في المواجهة، وأخرى تمثل خطابًا للدعوة والحوار والمجادلة باللين والحكمة وعدم الغلظة والفظاظة، وثالثة لبناء العلاقات الاجتماعية والوفاء بالمعاهدات وعقود الذمة، الأمر الذي إذا لم يدرك بفقهٍ سليم فسوف يؤدي إلى لون من التدين المغشوش والضلال للسعي، ونحن نحسب أننا نحسن صنعًا، كما يؤدي إلى تغييب مقاصد الشريعة ودورها الفاعل في حياة الناس.

ولا يقل عن ذلك خطورة ما نلاحظه من التقطيع في النسيج الثقافي للأمة، حيث أصبحت أمماً انفرط عقدها، وتحولت إلى طوائف معجبة بنفسها وفكرها واجتهادها، وغيبت معاني الأخوة الشاملة، وانسدت أقنية الحوار الداخلي والتفاهم وبناء القاعدة المشتركة.

ونعود إلى القول: بأن الإشكالية هي في التباس الذات بالقيم، وصور ومسالك التدين بقيم الدين، وبذلك تعطلت عمليات النقد والتقويم والمراجعة والاجتهاد، وحاول كثير ستر عوراتهم الفكرية وعجزهم عن توليد الأحكام بالتستر بالقيم نفسها، والحديث عن قدسيتها وعظمتها وإنجازها التاريخي.

ولا نزال نرى: بأن الإشكالية ليست بالقيم المعصومة، وإنما بكيفية التعامل معها، أو بمعنى أكثر دقة: إن الإشكالية ليست في الدين وتعاليمه وإنما بصور التدين وكيفية التعامل مع هذه القيم، وتوليد البرامج والخطط التي تسع حركة الحياة، في ضوء الاستطاعات أو الإمكانات المتوفرة والظروف المحيطة.

ولعل من نعمة الله على أمة الرسالة الخاتمة الخالدة، التي اصطفاها الله لوراثة الكتاب والاضطلاع بمسؤولية ما انتهت إليه النبوة تاريخيًا، أن وحي السماء الذي هو مصدر المعرفة الأساس، لم يتعرض للتفاصيل والجزئيات بشكل عام، بل ناط ذلك بالعقل الذي يمارس الاجتهاد ووضع البرامج والآليات، في إطار معرفة الوحي، التي اكتفت بوضع القيم الضابطة للمسيرة، والمعايير المطلوبة للتقويم والمراجعة والقياس للفعل البشري، المصوبة للمسيرة، ومن لوازم ذلك امتلاك القدرة على الاستجابة لتطور الحياة، واحترام العقل البشري، ومنحه الحرية والإرادة التي بها يتحقق تكريم الإنسان وتكليفه ومسؤوليته.

فالقيم، ومصدرها معرفة الوحي، وهي معصومة عن الخطأ، ويعتبر من خصائصها الخلود، تشكل أطرًا مرجعية؛ والبرامج المؤطرة بالقيم، ومصدرها معرفة العقل، ويجري عليها الصواب والخطأ، وتعتبر من وسائل تحقيق الخلود، منوط بها توفير الاستجابة لتطور الحياة.

وتبقى الغاية الأساس أو المقصد الأساس من إرسال الرسل وإنزال القيم هو إلحاق الرحمة بالعالمين وتحقيق سعادة الإنسان في دنياه وآخرته، قال تعالى: ((وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لّلْعَالَمِينَ)) (الأنبياء:107).

ويكاد يكون المنطلق أو المحور الرئيس لتحقيق هذه السعادة وإلحاق الرحمة وتوفير الحقوق، التي تحفظ إنسانية الإنسان وتحمي كرامته، يتمثل في إيقاف تأله البشر بعضهم على بعض، وعدم القبول بأن يكون الإنسان المخلوق مصدرًا لوضع القيم للآخرين المخلوقين مثله، حتى لا تتحول لتصبح جسرًا للتأله عليهم والتشريع لهم والترفع عنهم.

ولعلنا نقول هنا: بأن أصل الشر في الدنيا وانتهاك الحقوق الإنسانية والفساد وسفك الدماء، كامن في تسلط الإنسان على الإنسان، وإن هذا التسلط، أو إن شئت فقل: «التأله»، أخذ على مدار التاريخ والرحلة البشرية أشكالاً متعددة ومتنوعة، وكان لكل عصر آلهته وطاغوته.. فمنذ فجر التاريخ، في العهد الزراعي، أخذ هذا التأله أو التسلط صورة الإقطاعي الذي يملك الأرض والإنسان، ويتصرف كما يحلو له، ولا تزال عقدة أقنان الأرض تتسلل بشكل أو بآخر إلى كثير من النفوس في مجالات الحياة المختلفة، الأمر الذي يزري بكرامة الإنسان.

ولعل من أخطر أشكال التسلط وأعتاها هو تلبس الحكم بالألوهية، واعتبار الحاكم هو المتحدث باسم الله، أو هو ظل الله على الأرض، ينفذ إرادته ويتحكم بالبشر كما يحلو له، وأن أية معارضة أو قعود عن طاعة الأوامر هو عصيان لله تعالى.. فباسم الله قد يُستغل البشر، وتُنتهك الحرمات، وتُستباح الأعراض، وتُوضع القيم والتشريعات، التي لا تقبل المناقشة ولا النقد.

ومن أشكال التسلط وانتهاك حقوق الإنسان التي حفظها التاريخ أيضًا، تسلط طبقة رجال الدين، التي شكلت نوعًا من الكهانة واحتكار تفسير إرادة الله والتسلط على البشر باسم الدين، والتحكم بدنيا الناس وأخراهم، وابتزاز أموالهم وأعراضهم بما يسمى «الاعتراف والغفران»، وتصرفهم بالمصير والآخرة، وبيع صكوك الغفران، بما أسمي بالحكم «الثيوقراطي» أو الديني، والذي كان من الطبيعي الخروج عليهم، ذلك الخروج الذي لم يقتصر على رفض سلطة رجال الدين والكهنوت وتسلطهم وتصويب الممارسات التي لا علاقة لها بنصوص الدين، وإنما كان خروجًا وانسلاخًا من الدين كله وما يمت إليه بصلة.

إن الخروج على الواقع المنحرف، للتخلص من الحكم الثيوقراطي أوتسلط رجال الدين، جاء معالجة للانحراف ولكن بانحراف مماثل، لم يكن في صالح إنسانية الإنسان وحقوقه، وإنما هروبًا من تسلط البشر باسم الله إلى الوقوع من ألوهية البشر، لكن بشكل ولون آخر.

ومن أشكال التسلط والتأله في التاريخ أيضًا، الادعاء بأن العرق الآري، يمتلك من الخصائص والصفات المتميزة مالا يملكه الآخرون، الأمر الذي يبرر له استعمار الآخرين، والتحكم بأحوالهم، وسوقهم وفق إرادته، لأنهم يتصفون بالدونية بأصل الخلق فهم عضويًا غير مؤهلين.

ومن آثار ذلك أيضًا، الادعاء بتميز الرجل الأبيض.. وقد يكون الأخطر من هذا جميعه الادعاء أيضًا باختيار الله لشعب دون سائر الشعوب والأجناس، لا على كسبٍ فَعَله هذا الشعب وإنما بأصل الخلق، وقد يكون منهم المؤمن والكافر والفاسق... إلخ، وما يترتب على ذلك من العنصرية والتمييز والاعتداء على عدل الله، الذي يدّعون ذلك باسمه.

ومن صور وأشكال التسلط أيضًا، التسلط باسم الطبقة، والادعاء بأنها صاحبة المصلحة الحقيقية، وكذلك الحزب القائد، باعتبارهم لأنفسهم أنهم قدر الأمة، ومطاردة الآخرين على أنهم أعداء الشعب.

وقد لا يتسع المجال هنا لمزيد من فتح النوافذ على أشكال التسلط والظلم، وإهدار كرامة الإنسان، والعبث بحقوقه، مصدر الشر في العالم، وحسبنا أن نقول: بأنه لا مجال لاسترداد كرامة الإنسان وحماية حقوقه إلا بإيقاف هذا التسلط المتأتي من التأله البشري بكل أشكاله، وإعادة تصويب مفهوم الألوهية، وأنها مصدر القيم التي يتساوى الناس أمامها جميعًا، بحيث تستمد هذه القيم والمعايير من مصدر خارج عن الإنسان، ومن ثم التمييز بين قيم الدين المعصومة، وصور التدين التي يمكن أن تلحق بها إصابات وممارسات مخطئة وظلم محتمل، لذلك قال تعالى: ((الَّذِينَ ءامَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُواْ إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ)) (الأنعام:82).. فالتلبس بين قيم الدين وصور التدين وادعاء العصمة لسلوك الناس، نوع من الظلم والعتو في الأرض والعودة إلى التسلط ولكن بفلسفة أخرى.

وبالإمكان أن نقول بكل الاطئمنان: بأن الدعوة إلى الإيمان بالله وعدم الإشراك به، بأي نوع من أنواع الشرك، هو السبيل الوحيد لتوفير كرامة الإنسان وتحقيق إنسانيته ومساواته بالآخرين، فالتوحيد في نهاية المطاف يعني التحرير.. والذين يحاولون إلغاء الألوهية بهذا المفهوم، أو تحييده عن حياة الناس، إنما يفعلون ذلك ليجعلوا من أنفسهم آلهة - ولكل عصر آلهة- لأن الإيمان بالله واستمرار القيم والمعايير منه تسوِّيهم بغيرهم.

وقد يكون من المفيد أن نذكر: أن القيم المشرِّعة للحقوق الإنسانية، والمعايير وموازين التقويم الحارسة لها والضامنة لامتدادها، عندما تُستمد من مصدر خارج عن الإنسان، من الخالق العالِم بأحوال الناس، البريء من الهوى والانحياز والخطأ، المتصف بصفات الكمال، يتلقاها الناس بالقبول، لشعورهم بالتساوي وعدم التمييز أمامها، والعدل في إنفاذها، إضافة إلى أن احترامها والالتزام بها إنما يتم بدافع داخلي وبوازع ذاتي، لاعتقادهم بأن الذي شرعها وأمر بالتزامها يعلم السر وأخفى، ويحاسب عن التقصير بها أو الانتهاك لها.. وليس هذا فقط، بل وجود تشريعات لبيانها، وعقوبات لانتهاكها، وبذلك تتحصل القناعة والثواب بها من داخل النفس، وتصان بالتشريعات الملزمة والعقوبات للمعتدي عليها.

بينما عندما توضع تلك القيم والمعايير من الإنسان نفسه، فزيادة على احتمال أن تتحول إلى وسيلة للتسلط والتعالي والانحياز، لأن الإنسان، أي إنسان، مهما حاول التحرر فهو يقع بشكل طبيعي تحت تأثير تربيته ومجتمعه وقبيلته وطائفته وحزبه وأهوائه ونزواته، إضافة إلى عمره المحدود وعلمه المحدود، الذي لا يمكن أن يحيط بالحاضر والمستقبل، فالإنسان نفسه يرى في وقت ما لا يراه في وقت آخر.

ومن جانب آخر، يمكن لنا أن نطرح السؤال الكبير: ماهي الضمانات التي تجعل من الآخرين محل قبول واحترام لهذه المعايير البشرية، وعلى الأخص أن الناس خلقهم الله، ويشعرون وكأنهم يعيشون على مائدة مستديرة -بالتعبير الدبلوماسي- أي خلقوا متساوون في الحقوق، فبأي حق يمكن لبعضهم أن يعطي نفسه حق التشريع ووضع القيم للآخرين؟ وماهي الضمانات ألا تجيئ هذه القيم منحازة ومحققة لمصلحة من وضعها، وأداة للتسلط على الموضوعة له؟

أما إذا استمدت من مصدر خارج عن الإنسان فيتساوى أمامها الجميع، حيث تبرأ من الانحياز بأصل مصدرها، وتحمي كرامة الإنسان، وتمنحه الحق في وضع البرامج والآليات للتعامل مع هذه القيم الضابطة لمسيرة الحياة، وبذلك لا تلغي الإنسان وإرادته ونمو عقله، وتحميه من السقوط والانهيار، ولا تسمح بتسلطه وتألهه على البشر من أمثاله، والانشغال بوضع فلسفات وتسويغات لعمليات انتهاك حقوق الإنسان هنا وهناك.

وقبل أن نقدم بعض الملامح لقضية حقوق الإنسان، وكونها محور مقاصد الشريعة، لابد أن نشير هنا إلى قضية مركزية في مسألة حقوق الإنسان وحماية كرامته وتقرير إنسانيته، تتمثل في القيمة الكبرى التي حسمها الإسلام ولم يساوم عليها وهي عدم الإكراه، فلا إكراه، ولا إجبار، قال تعالى: ((لا إِكْرَاهَ فِى الدّينِ)) (البقرة:256)، وقال تعالى: ((وَمَا أَنتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ فَذَكّرْ بِالْقُرْءانِ مَن يَخَافُ وَعِيدِ)) (ق:45).

لقد جعل الله السبيل إلى الاقتناع بالدين هو التفكير والعلم والقراءة والاستدلال والبرهان، وجعل السلاح الأقوى في التأثير هو القلم.. وليس من قبيل المصادفة أن يكون أول ما نزل قوله تعالى ((اقْرَأْ))، ((عَلَّمَ ))، ((عَلَّمَ بِالْقَلَمِ)) ، وأن مشروعية الجهاد دائمًا جاءت لمدافعة الظلم وحماية حرية الاعتقاد.. وتبقى الإشكالية استبدال السيف بالقلم، نتيجة للقهر والإحباط.

فالإكراه بكل المعايير إسقاط للعقل، أساس كرامة الإنسان، وإلغاء للإرادة والاختيار، وسبيل للتسلط والفساد وسفك الدماء والظلم، وقتل للإنسان، بل هو أشد من القتل، ذلك أن إجبار الإنسان على دين أو مبدأ أو عقيدة لا يختارها ولا يقتنع بها، أو حرمانه من عقيدة أو دين يختاره، أشد فظاعة من قتله، لأن ذلك قتل لإرادته واختياره، وإلغاء لإنسانيته، وإسقاط لكرامته، لذلك قال تعالى: (( وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ)) (البقرة:191)، فجريمة القتل على فظاعتها ومخاطرها تبقى دون جريمة الإجبار والإكراه.. والمعروف أن الله شرع الجهاد، على الرغم مما يقع فيه من القتل، لحماية اختيار الناس، والحيلولة دون إكراههم أو إجبارهم أو فتنتهم، فقال تعالى: (( وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدّينُ للَّهِ)) (البقرة:193)، وفي ذلك إلغاء لتأله البشر.

وقد يبدو كلامنا عن «الإكراه» هو من بعض الوجوه إغراق في الابتعاد عن الواقع، ذلك أن المسلمين اليوم عاجزون حتى عن الدفاع عن أنفسهم، ناهيك عن إكراه الآخرين، وأن عمليات «الإكراه» والاغتصاب السياسي والثقافي والإعلامي والعسكري تمارس ضدهم على المستويات كافة ، إلا أن ذلك لم يمنعنا من التأكيد على أن شعار المسلمين الدائم يبقى هو: «لا إكراه»، بعيدًا عن جميع أنواع ردور الفعل.

لذلك يمكن أن نخلص إلى الحقيقة التي هي أشبه بالبدهيات: بأنه لا إنسان بلا دين، أي بلا معايير، بلا قيم، وأن الإشكالية التاريخية بين النبوة من جانب والطاغوت من جانب آخر هي في مصدرية تلقي القيم (الدين)، ونسخ ألوهية البشر، وإفراد الله بالتوحيد، والتوحيد هو التحرير -كما أسلفنا- أو تلقي القيم من البشر، لأن ذلك مهما ادعي له من الموضوعية والحياد فهو جسر للتسلط، والتأله، والانحياز، والاستغلال، والطاغوت، أي الطغيان، والإجبار.

ولعل الخطورة التي تتأتى من قبل أتباع النبوات، إنما تتأتى من صور التدين ومسالكه، وذلك عندما يتحول بعضهم إلى طبقة من الكهنة تحتكر المعرفة، ويحل فهمها محل القيم المعصومة، ويصبح سلوكها هو المعيار والمقياس ومصدر القيم، وتحاول تحويل الناس المؤمنين من قيم ومعايير الله الشارع، المعصومة، المبرأة من الانحياز والظلم، إلى فهم البشر، إلى فهم الشارح الظني، الذي يجري عليه الخطأ والصواب، وعند ذلك يهتز المعيار، وتتداخل انحيازات البشر وتأثيراتهم ورغباتهم، فتنقلب المعادلة، فبدل أن يُعرف الرجالُ بالحقِ يُعرف الحقُ بالرجالِ، ويبدأ الاستغلال والتسلط، لكن هذه المرة باسم الدين، الذي يعتبر الملجأ الأخير للناس.

والخشية هنا أن يفقد الناس ثقتهم بالقيم نفسها لا بحملتها فقط، ويصعب عليهم تجاوز الصورة المجسدة أمامهم إلى الحقيقة المجردة، فيكون التنكر لقيم الدين التي إنما شرعت لتحقيق الخلاص، فتحولت على يد الكهنة إلى أخطر مجال للاستغلال والتسلط، وهكذا يتحول الناس من جحيم إلى جحيم، وكلما دخلت أمة لعنت أختها، وتستمر رحلة العذاب والقهر والإجبار وإهدار كرامة الإنسان وحقوقه، وتشيع الفلسفات والتسويغات، ويقتل الإنسان عمليًا، سواء أكان ذلك بمطارق من حديد أو بحبال من حرير.

ولقد حذر الله سبحانه وتعالى الأمة الخاتمة من علل التدين التي لحقت بالأمم السابقة، وما يمكن أن تحدثه الكهانات الدينية من الظلم والتسلط والاستغلال، لتكون على بينةٍ من أمرها وحذرٍ من سوء العاقبة، فقال تعالى: (( اتَّخَذُواْ أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مّن دُونِ اللَّهِ)) (التوبة:31).. وقد يكون فيما ورد في تفسير الآية وبيان معناها ما لا يحتاج أي استزادة لمستزيد:

روى الإمام أحمد والترمذي، عن عدي بن حاتم، رضي الله عنه: أنه لما بلغته دعوة رسول الله صلى الله عليه وسلم فر إلى الشام، وكان قد تنصر في الجاهلية، فأُسرت أخته وجماعة من قومه، ثم مَنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم على أخته وأعطاها، فرجعت إلى أخيها فرغّبته في الإسلام وفي القدوم على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقدم عدي إلى المدينة، وكان رئيسًا في قومه طيئ، وأبوه حاتم الطائي المشهور بالكرم، فتحدث الناس بقدومه، فدخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي عنق عدي صليب من فضة، وهو يقرأ هذه الآية: (( اتَّخَذُواْ أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مّن دُونِ اللَّهِ )) قال فقلت : إنهم لم يعبدوهم، فقال: «بلى إنهم حرموا عليهم الحلال، وأحلوا لهم الحرام، فاتبعوهم، فذلك عبادتهم إياهم»... وهكذا قال حذيفة بن اليمان وعبد الله بن عباس وغيرهما في تفسير: (( اتَّخَذُواْ أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مّن دُونِ اللَّهِ )) : إنهم اتبعوهم فيما حللوا وحرموا" (مختصر تفسير ابن كثير، مجلد2، ص136-137).

وقد لا نكون بحاجة كبيرة للكلام عن دور الإسلام، أو دور القيم والمعايير الإسلامية، في تأسيس وتأصيل حقوق الإنسان، سواء على مستوى القيم والمبادئ أو على مستوى التطبيق والتجسيد والممارسة الحضارية، أي على مستوى الثقافة والحضارة معًا، واعتبار ذلك دين من الدين، وعبادة من العبادات، التي هي جزء من عقيدة المسلم، لا يخرج من عهدة التكليف إلا بأدائها، بل لعلنا نقول: إن حقوق الإنسان في الإسلام جزء من العقيدة، أو هي من صلب العقيدة، وأن ممارستها نوع من العبادة التي يترتب عليها الثواب في الفعل والعقاب في الامتناع.

ولم يكتف الإسلام بأن جعلها قناعات فكرية ووصايا ومواعظ وآداب أخلاقية فقط، وَكَل أمر الالتزام بها إلى ضمير الإنسان وقناعته، وإنما أيد ذلك بتشريعات ملزمة وعقوبات صارمة لمن يخرج عليها، باعتبار أن لها بعدًا اجتماعيًا يتجاوز الإنسان، وأقام لها أيضًا الحراسات والرقابة العامة والمستمرة، من مهام الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، أو ما يسمى بمهام الحسبة بشكل عام، على مختلف الأصعدة، فالتقى بذلك الوازع الداخلي والرقابة الذاتية مع التشريع الملزم، مع الرقابات والحراسة الدائمة من داخل النفس ومن خارجها.

ويبقى الإيمان بيوم الحساب وقاية للناس من الإحباط والارتكاس والارتداد عن الالتزام بالحقوق، عند عدم تحصل النتائج في الدنيا، وبذلك يستمر الخير حتى ولو غاب إنفاذ التشريع الملزم أو تراجعت الرقابة العامة.

ولابد من العودة إلى التأكيد: بأن ما أتت به النبوة في الكتاب والسنة، في هذا المجال وفي غيره، هو عبارة عن قيم ومعايير ضابطة لمسيرة الحياة، وأن أمر التشريعات والبرامج والخطط والتأسيس والتأصيل لهذه القيم إنما نيط بالعقل البشري، ليرتقي بوسائل إقرار حقوق الإنسان ويحققها ويحميها ويطور لها الرقابات والمنظمات وآليات الاحتساب ضمن مرجعية القيم، وأن الكثير من التخاذل قد لحق بالأمة المسلمة، بسبب عجزها وتقصيرها في تطوير هذه الآليات.

لقد تطورت التشريعات وتطورت الآليات والتنظيمات، وتطورت وسائل الرقابة العامة حتى غدا الإعلام اليوم، المقروء والمسموع والمكتوب والمشاهد، سلطة رابعة من سلطات الدول، بل نكاد نقول: إنه يتطور ويتطور ليقفز إلى المقدمة فيكون السلطة الأولى، ذلك أن الرقابة ترقى بالأداء، وتصوب الخطو، وترشد إليه، وتكشف الخطأ، وتفضح الاختلاس والاختلال والرشاوى، لكنها في غياب القيم والمعايير الضابطة قد تتحول إلى وسيلة بيد أهل الظلم والاستكبار، فتجعل الحق باطلاً والباطل حقًا.

وبالإمكان القول: إن مؤسسات حقوق الإنسان، وأشكال الحسبة والرقابة العامة ومنظمات المجتمع، المتجاورة مع النظام السياسي في بلاد المسلمين، إن وجدت، لا تزال تعاني من غربة الزمان والمكان، وكأنها تعيش بمعزل عن العالم وما حققه من تقنيات وتشريعات في هذا المجال، ودائمًا نجد لأنفسنا العزاء بالهروب إلى القيم للاحتماء بها وبما حققته من إنجاز تاريخي لتغطية مركب النقص وستر العورات، وتستمر في حياتنا الكهانات حتى تكون فوق الحساب والتقويم والمراجعة والنقد، خشية أن يكون ذلك موجّه للقيم ذاتها، وتستمر رحلة التستر على الأخطاء والأشخاص باسم حماية قيم الدين، ونُسْبَقُ من العالم، ونبقى نراوح في مكاننا، ونظن أننا نقطع المسافات بالصياح والهياج والصراخ، حالنا في ذلك أشبه ما يكون بحال الطفل الذي يستخدم الصراخ لاستدعاء أمه كلما أراد شيئًا.

لقد امتدت حالة الطفولة لتستغرق حياتنا، حتى ظننا أن كل مشكلاتنا يمكن أن تحل بالصياح والبكاء والصراخ والحماس والخطب الرنانة، وكأننا لما نشبع بعد خطبًا حماسية وصراخًا لا يجدي، على الرغم من كل هذا التقهقر وهذا الزمن الضائع، وهذه الفجوة الرعيبة بين قيمنا الإسلامية وواقعنا المتردي، دون أن يتملكنا القلق السوي الذي يدفعنا لاكتشاف الخلل وسبل معالجته.

وعلى أحسن الأحوال، فإننا نعيش في حالة ترقبٍ، انتظارًا لظهور البطل صاحب السلطة والقدرة الخارقة على قهر العدو، ومواجهة الخصم، يقدم حياته فداءً ويقاتل نيابة عنا، ليثأر لنا من (الآخر)، الذي ندعي دائمًا أنه سبب تخلفنا؛ بدل إشاعة معاني البطولة في النفوس ليتطلع إليها أفراد الأمة جميعها، والبحث عن المؤهلات والصفات الموضوعية التي تنتج البطل والمبدع والمخترع والمتفوق، وتؤهل لنهوض الأمة، حتى أن بعضنا بات لا يكاد يبصر من تاريخنا إلاّ فترات الغزوات والانتصارات، أما ما هي المؤهلات التي حققت هذه الانتصارات، وأن نفقه لماذا شرعت تلك الغزوات، وماذا حققت هذه الانتصارات، وكيف تعاملت مع السنن والأقدار، وما قدمت من التضحيات، لتوفير حقوق الإنسان وحمايتها من الانتهاك، وكيف ساهمت في إقرار حرية التدين والاختيار، ولماذا شُرع الإقدام على الموت وتقديم الشهداء، فذلك لايزال من الفقه الغائب.

لقد أباح الإسلام قتل أعداء حرية الاختيار الذين يمارسون الفتنة – لأن الفتنة حرمان للإنسان من حق الاختيار- وقرر الشعار الكبير: «لا إكراه»، ولكن مع الأسف، فإن ذلك لا يزال يقرأ بأشكال مغلوطة، أو لا يحظى إلا بالقليل من الدراسات، لأن ذلك يقتضي اجتهادًا وتفكيرًا وجهدًا كبيرًا، بينما الكثير منا –حتى في المؤسسات الأكاديمية- لا يُحسن إلا الشحن والنقل من الماضي والتفريغ في الحاضر، ولو اختلف الزمان والمكان والإنسان، وذلك إلقاء بالتبعة على (الآخر) من بعض الوجوه أيضًا.

وقد لا نكون بحاجة إلى التأكيد بأن حقوق الإنسان في الإسلام إنما شرعت بأصل الخلق، ولم تأت ثمرة لمعاناة أو مظاهرات أو صراعات بين الحاكم والمحكوم، أو بين العمال وأصحاب المعامل، أو بين الطبقات الغنية والفقيرة، أو ثمرة للثورات والحروب، فانتزعت انتزاعًا.. وإنما هي مقاصد الدين وغاياته العليا، ورسالة النبوة التاريخية، وأن الصراع التاريخي بين النبوة والكافرين بها هو بين إنكار هذه الحقوق وتقريرها.

من هنا ندرك مقاصد النبوة الخاتمة «الإسلام»، التي تعتبر جماع النبوات من لدن آدم عليه السلام، والتي انتهت إليها أصول النبوات جميعًا، وأن المؤمن بها مؤمن بالنبوة التاريخية ومتلق عنها، قال تعالى: (( وَإِنَّ هَاذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَأَنَاْ رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ)) (المؤمنون:52)، وأن الصراع التاريخي كان بين التوحيد والتحرير وبين الخارجين عليه، الذين يريدون أن يجعلوا من أنفسهم آلهة تتسلط على الناس، بين إقرار حقوق الإنسان وبين انتهاكها، لذلك نرى أن مرتكزات العقيدة، والشريعة، والأخلاق، والمسالك، في الرسالة الخاتمة، جميعها تتمحور حول هذه الحقوق أو هذه المقاصد، إيمانًا وتشريعًا وممارسة ورقابة، للوقاية من الانتهاك لها، إلى درجة يمكن أن نقول معها: إن حقوق الإنسان في حقيقة الأمر هي مقاصد الشريعة، أو مقاصد الدين، وأن مقاصد الدين هي حقوق الإنسان في الإسلام.

وقد يكون من المفيد أن نتوقف قليلاً عند هذه النقطة، فنلقي عليها بعض الضوء بما يمكن أن يتسع له المجال، فنقول: لقد استقرأ كثير من العلماء التكاليف الشرعية، أوامرها ونواهيها، في العقيدة والشريعة والعبادة والأخلاق، في الأصول والفروع، وأخذوا بعين الاعتبار أيضًا مراتب الحكم الشرعي في الفعل والكف، أو في الأمر والنهي، وخلصوا إلى أن الشريعة (الدين) إنما جاءت لتحقيق مصالح العباد في دنياهم وآخرتهم، وحمايتهم من المفاسد وما يفضي إليها، أي أنها تمحورت حول جلب المصالح ودرء المفاسد، وأن هذه المصالح لا تتحقق والمفاسد لا تدرأ إلا بتوفير ما اصطلحوا على تسميته الكليات الخمس، أو الضروريات الخمس، التي لا تستقيم الحياة وتستقر وتستمر بدونها، وهي: الدين، والنفس، والعقل، والنسل، والمال.. ورأوا، بعد التحري والاستقصاء والاستقراء، أن أي أمر أو نهي هو عائد إليها في نهاية المطاف، إما بشكل مباشر أو بشكل غير مباشر، وإنما شرع لتحقيق إحدى هذه الكليات الخمس، أو الضروريات الخمس.

فالدين: حاجة فطرية وضرورة حياتية، وعدم «الإكراه »، تحقيق لكرامة الإنسان؛ والنفس: إشباع غريزة الحياة، إقراراً وحماية؛ والعقل: محل أهلية الإنسان وتميزه، يستلزم حق التفكير والإرادة والاختيار؛ والنسل: نزوع وحاجة أصلية للجنس الآخر، يقتضي الحق في ممارسة الجنس بالطرق المشروعة وحماية الأنساب؛ والمال: تلبية لنزعة التملك والاحتياز وما يترتب على ذلك من حق التصرف والتملك والأهلية...إلخ، ولذلك اعتبر الإسلام هذه المقاصد من الثوابت الأساسية لاستقامة الحياة، ورتب على الإخلال بها أو الانتهاك لها عقوبات رادعة.

لقد اعتبر الإسلام الاعتداء على هذه الحقوق جريمة كبرى، وعظم أمرها، كما أنه لم يدع أمر تحديد العقوبة لرأي البشر واجتهادهم، وإنما نص على الجريمة ونص على العقوبة وحددها، وما العقوبات الحدية في الإسلام، أو العقوبات المنصوص عليها، إلاّ حماية لهذه الحقوق الإنسانية الأساسية وراجعة إليها.

فالقصاص وحد الحرابة والفساد في الأرض، يحمي حق الحياة، فمن قتل نفسًا بغير نفس فكأنما قتل الناس جميعًا، ويحقق الأمن الاجتماعي والنفسي؛ وحد السرقة، إضافة إلى تحريم الغش والاحتكار والربا والميسر والغصب وما وضع لها من عقوبات تعزيرية، يحمي حق التملك؛ وحد الشرب وتحريم المسكرات والمفترات يحمي حق العقل، محل التفكير والتعبير؛ وحد القذف يحمي حق صيانة الأعراض؛ وحد الزنى يحمي حق النسل وعدم اختلاط النسب؛ وحد الارتداد يحمي حق الاختيار والتدين والخروج على الجماعة والعبث بدينها (التارك لدينه المفارق للجماعة).

وهكذا نرى أن الإسلام اعتبر الاعتداء على الحقوق الأساسية جريمة كبرى، ونص على عقوبتها بما أسمي بالحدود الشرعية، والحدود هي العقوبات النصية التي لا مجال للاجتهاد فيها.

وصحيح أن الحدود قد لا تنشئ حقوقًا أو مجتمعًا تسوده هذه الحقوق، وإنها وإن كانت تساهم بذلك، لكنها في الأصل لحماية هذه الحقوق وليس لإنشائها، وما وراء ذلك من الانتهاكات الجزئية لهذه الحقوق فترك أمر تحديد عقوباتها للاجتهاد بما أسمي بالتعزيرات.. فإذا كانت عمدة القانون الجنائي: لا جريمة ولا عقوبة إلا بنص، ليكون المواطن على بينة من أمره، أدركنا أهمية التنصيص على العقوبات والجرائم الكبرى، التي تنال كيان المجتمع وتنتهك حقوق الإنسان، والتي لم يترك أمرها للاجتهاد من جانب، وكيف أن هذا التنصيص تعليم للإنسان بأهمية النص على العقوبات التعزيرية الاجتهادية أيضًا، ليكون الإنسان على بينة مما يلحقه عند الفعل أوالامتناع عن الفعل.

وقد تكون المشكلة اليوم، وعلى الأخص في عالم المسلمين، قضية حقوق الإنسان بين القيم الدينية والمسالك البشرية، أو بين نصوص الدين وواقع التدين، ذلك أنه بالإمكان القول: بأن كثيرًا من علل التدين التي لحقت بالأمم السابقة، والتي حُذرنا منها، قد تسربت إلينا بشكل أو بآخر، فجعلت صورة التدين وعلى الأخص التعاطي مع حقوق الإنسان بهذا الشكل البئيس، حيث تسربت إلينا بعض الكهانات، واستمرأها بعضنا، فأصبح يتوهم أنه هو الإسلام والإسلام هو، ولابد أن يُحترم ويُكرم ويعظم ويبجل، لأن تكريمه تكريم للإسلام وتعظيم له، ولا يجوز أن يحاسب أو يراجع، لأنه يمثل قيم الإسلام، والقيم معصومة فهو يمارس المعصوم وإن لم يدَّع ذلك، وبدل أن يكون في خدمة الأمة، يتمثل قيم الإسلام في سلوكه ويجسدها في حياته وعلاقاته، تصبح الأمة في خدمته، وبدل أن يكون في خدمة المؤسسة التي يعمل فيها تصبح المؤسسة في خدمته(!)

لذلك نرى بعض الناس نفر من الدين بسبب هذه الصور المنفرة، ونرى كثيرًا من أفراد المجتمع في هذا المناخ الردئ والتدين المغشوش استمرأ هذه الكهانة، وقد لا يكون له أدنى كسب شرعي، وقد يكون أمضى عمره في تخصصات علمية- وذلك من الفروض الكفائية كما هو معلوم- فيغادرها إلى نوع من صناعة المشيخة ومنابر الوعظ والإرشاد، ويعيش نوعًا من العطالة، وقد يوقع الأمة جمعيها في الإثم لعدوله عن تخصصه، وبدل أن يكون في خدمة المجتمع يريد أن يصبح المجتمع في خدمته، وبذلك تمارس صور من التدين تزري بقيم الدين وتحاصرها وتهون من شأنها، بدل أن تغري بها، فتتحول المشكلة من أزمة تدين لتصبح أزمة دين، والعياذ بالله.

وقد لا نجد حرجًا في القول: بأن هؤلاء الذين غادروا تخصصاتهم العلمية إلى منابر الوعظ والإرشاد، قد أهدروا بذلك حقوق الأمة عليهم، حيث لم يقوموا بواجباتهم، ولم يكتفوا بذلك وإنما تجاوزوا إلى مطالبة الأمة بحقوق لا يستحقونها، أو حقوق ليست لهم، لأن مالهم من حقوق إنما يتقرر في ساحة اختصاصهم مما تحتاج إليه الأمة.

ولعل من أخطر الإصابات التي نعاني منها على الأصعدة المتعددة، الاستمرار في هذه الصورة من الضخ الخطابي والكتابي عن تميز حقوق الإنسان في الإسلام، وعظمة القيم الإسلامية، وتفردها، وصوابيتها، وقدرتها على استرداد إنسانية الإنسان وتحقيق أمنه وسلامه، والإنجاز التاريخي العظيم لهذه القيم، وتنتهي مهمتنا عند النزول من على درجات المنبر، دون التفكير بواقع المسلمين المتردي وانتهاك حقوق الإنسان وإهدار كرامته، ودون التفكير بوضع البرامج والآليات لتنزيل القيم الإسلامية على واقع الناس، وتجسيد هذه الحقوق في حياتهم العملية، والانطلاق إلى فضاءات المجتمع والأمة، ووضع البرامج، وإقامة المؤسسات والروابط والندوات والنوادي المعنية بحقوق الإنسان وتحقيق كرامته، وإعادة النظر بتطوير نظام الحسبة ومؤسسات الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وإغراء الناس بالقيم الإسلامية، وإقناعهم بها، والإيمان بدورها في تحقيق كرامة الإنسان وتأمين حقوقه.

إن استمرار الكلام عن عظمة الإسلام، وما منحه للإنسان من حقوق، دون النظر في واقع المسلمين وأسباب العطالة لهذه القيم والتبصر بكيفية إعادة فاعليتها فأمر محزن قد ينال من القيم نفسها -كما أسلفنا- ويحمل الناس على التطلع إلى ما عند (الآخر) لعل فيه الخلاص، وعلى الأخص إذا كان من يدعون إلى تلك القيم هم أول من ينتهكها بسلوكهم، ولا يبصرون إلا حقوقهم، ولا يرون شيئًا من واجباتهم.

ولا يعفينا من المسؤولية الإلقاء بالتبعة على (الآخر)، على الأنظمة السياسية والأجهزة الأمنية، أو صور الاستبداد السياسي بشكل عام، لأن فضاءات المجتمع كبيرة، وكبيرة جدًا، ودوائر الخير فيه تتسع لبذر الخير ورعايته، لكن المشكلة أننا نحاصر أنفسنا، أو نسوغ عطالتنا، دون أن نفكر كيف نتحول نحن إلى أدوات للتغيير، كل بحسب موقعه.

ولعل من المفارقات العجيبة والأمور الغريبة، أن تكون حقوق الإنسان أكثر انتهاكًا في عالم المسلمين، الأمر الذي يقود مجتمعنا، في معظم الأحيان، إلى انفجارات اجتماعية ومجازفات خطيرة، تهلك الأمة وتجعل بأسها بينها شديد، وتبدد الطاقة، وتقضي على الآمال، وتغري (بالآخر)، حيث يتمتع الإنسان بأقدار كبيرة من حقوقه وكرامته، لأنه قد يجد نفسه هناك ويفتقد نفسه هنا، وقد يستطيع أن يقول في الشارع ما لا يستطيع قوله في بعض مساجد العالم الإسلامي(!) وهذا من البلاء والفتنة والصراع الثقافي الذي لا ينفع معه الادعاء، ذلك أن إمكانية النهوض الحضاري ترتكز أساسًا على كرامة الإنسان وحماية حقوقه، حتى يتمكن من استثمار طاقاته والانطلاق وإعادة البناء، خاصة أن كل الادعاءات التاريخية لعوامل النهوض التي تجاوزت الإنسان إلى أشيائه باءت بالفشل، وفتحت المجال لتقدم (الآخر)، والمشكلة أننا نلغي الإنسان ومن ثم نتساءل: لماذا هذا التخلف؟!

ولعل من نعمة الله تعالى على هذه الأمة، امتلاكها لإمكان النهوض الحضاري عندما تعزم على الرشد وتأخذ ما آتاها الله بقوة.. فهي تمتلك النص الإلهي السليم، أو القيم المعيارية للفعل والسلوك البشري، الخارجة عن وضع الإنسان وعبثه.

كما تمتلك التجربة المعصومة من السيرة في تنزيل هذه القيم على واقع الناس، وتجسيدها في برامج وممارسات بشرية، إضافة إلى التاريخ الغني بعبر السقوط والنهوض، التي لم تقتصر على تجربة الرسالة الخاتمة وإنما تتقدم إلى الإفادة من رصيد تجربة النبوة التاريخية، والكثير من الفترات التاريخية التي مكنتها من التجاوز ومعاودة الانطلاق.. فسلامة المعايير كفيلة بإعادة التصويب باستمرار.. وتبقى المشكلة في كيفية التعامل مع المعايير أكثر منها في مسالك الناس وصور التدين.

وعلى الرغم من واقع الإنسان في عالم المسلمين، أو واقع حقوق الإنسان، التي قد لا ترقى إلى مستوى حقوق الحيوان في بعض الثقافات والمجتمعات الأخرى، مع ذلك ما تزال القيم الإسلامية – معقد الأمل- في امتداد وصعود وظهور، والإيمان بها يمتد في سائر الحضارات والثقافات والشعوب، مهما كانت درجة رقيها أو تخلفها، ولعل ذلك مؤشر على أن القيم الإسلامية الخالدة قادرة على إقناع الإنسان بها، والارتحال إليها، مهما كانت سويته الحضارية، ومهما كان الواقع الإسلامي، وهذا من الإمكان الحضاري للقيم الإسلامية القادرة باستمرار على انتشال الإنسان ليجد إنسانيته فيها، وهذا مؤذن بظهور الدين (الإسلام) على الدين كله، على الرغم من إصابات المتدينيين التي قد لا تثير الاقتداء.

ولا نزال نعتقد أن الإصابة الأساس تكمن في أدوات توصيل القيم الإسلامية وما نالها من العطب.. ومما لا شك فيه أن الالتزام بها أو التحلي بها وتوصيلها بالقدوة، يعتبر من أهم وسائل توصيلها وأكثرها تأثيرًا.

فالإسلام اليوم يظهر وينتشر بقوة مبادئه، وسلامة معاييره، وبعدها عن التحيز، ورصيدها في الفطرة الإنسانية، وتحقيقها لكرامة الإنسانية.. ولعل الإشارة إلى بعض المنطلقات الأساسية لحقوق الإنسان، تفسر لنا انتشاره وظهوره المستقبلي على الدين كله.

وقد يكون من أبرز المنطلقات: إعلان المساواة التي هي روح الحضارة الإنسانية، فالناس في الإسلام ينحدرون من أصل واحد، يقول تعالى: (( يأَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مّن ذَكَرٍ وَأُنْثَى....)) (الحجرات:13)، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: «الناس بنو آدم، وآدم من تراب.....» (أخرجه الترمذي).

والإيمان في الإسلام بالإله الواحد، وتوجيه الخطاب للناس جميعًا، يسوي بين الناس، ويدفع تأله البشر وتسلط بعضهم على بعض، والتخلص من العنصريات والألوان والأجناس والشعب المختار، ذلك أن الإسلام دين مفتوح للجميع، والأكرم هو الأتقى، وليس حكرًا على جنس أو عرق أو طبقة أو جغرافية أو لون، وأن الحضارة الإسلامية جاءت نسيجًا من جميع العروق والأجناس والطبقات والمواقع الجغرافية.. فالتوحيد يعني التحرير –كما أسلفنا- ذلك أن الإشكاليات التاريخية المستهدِفة لإنسانية الإنسان وحقوقه إنما تركزت حول التمييز بشتى أشكاله، وتسلط الإنسان على الإنسان، وإكراه الإنسان على ما لم يقتنع به.. فالقيم التي معيارها وشعارها: «لا إكراه»، مرشحة لوراثة الحضارة والإنسانية واسترداد إنسانية الإنسان في كل مواقعها .

وهذا الكتاب، أُريد له أن يكون محاولة للتأصيل والتدليل على أن مقاصد الشريعة، بعد النظر والتدقيق، هي حقوق الإنسان، الهدف منها توفير الحقوق وحمايتها، وبيان ما تتميز به التعاليم والمعايير الإسلامية من منطلقات تؤكد وحدة الأصل البشري، وما يترتب عليها من المساواة التي تعتبر روح الحضارة، والتأكيد على كرامة الإنسان بأصل الخلق والتكوين، لمجرد كونه إنسانًا، مهما كان لونه وجنسه ودينه، كما تؤصل وتؤسس لحرية الاختيار تحت شعار: «لا إكراه»، وتعتبر أن إلغاء الاختيار والإرادة إسقاطٌ لإنسانية الإنسان.

إن «الإكراه»، أكبر من القتل، قال تعالى: ((وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ)) (البقرة:217)، وإن الاعتداء على حقوق الإنسان يشكل جريمة اجتماعية وفردية، رتب الإسلام عليها عقوبات نصية حدية، ولم يترك أمرها للاجتهاد، حيث لا تستقيم الحياة إلا بتوفيرها.

والكتاب محاولة أيضًا لتحرير بعض الأحكام الفقهية، وأهمية الاجتهاد في إدراك مواصفات الخطاب الإلهي، وشروط تنزيله على محاله، عندما تتوفر الاستطاعات التي تعتبر مناط التكليف، وأهمية تطوير وسائل الرقابة العامة لحراسة الحقوق، وإبراز دور الحسبة في حماية الحقوق، والتأسيس لهذه الوسائل في إطار المجتمع المدني، ومحاولة فك الحصار عن القيم الإسلامية، وإعادة النظر بوسائل توصيلها لإلحاق الرحمة بالعالمين.

وتشتد الحاجة أكثر فأكثر إلى مثل هذه البحوث في ظل الموجة العاتية لانتهاكات حقوق الإنسان، باسم حقوق الإنسان، وعودة التأله البشري، وتسلط الإنسان على الإنسان، تحت مظلة الدفاع عن حقوق الإنسان، حيث أعطت بعض الدول لنفسها حق «الفيتو»، الذي أشبه ما يكون بالمقصلة التي تقطع رقاب الشعوب، وتغتال حقوق الأمم وليس الأفراد.

ونعتقد أن ما نقدمه في هذا الكتاب، هو استدعاء لبعض الأبعاد الحضارية الغائبة لمقاصد الشريعة، وإشاعة روح الاحتساب، وتصحيح صور من التدين، والتمييز بين قيم التدين ومسالك المتدينين، والوصول إلى بناء إنسان الواجب، إنسان الفاعلية، الذي يحتسب في حمل الفكرة ويضحي في سبيلها، دون أن يبالي بما يناله من أذى، أو ينتظر من فوائد وحقوق.

والحمد لله رب العالمين.

إنسانية الإنسان قبل حقوق الإنسان

الأستاذ الدكتور أحمد الريسوني

مما لا شك فيه أن فكرة حقوق الإنسان، بتسميتها وفلسفتها ومضامينها المتداولة اليوم، هي فكرة غربية وثقافة غربية، بغض النظر عن التقائها وتقاطعها مع كثير من المبادئ والقيم الدينية، بل واستمدادها منها بشكل مباشر أو غير مباشر.

ومما لا شك فيه أيضًا أن حركة حقوق الإنسان هي تطور إيجابي نوعي في تاريخ البشرية التواقة دومًا إلى عديد من الشعارات والنداءات والمكتسبات التي جاءت بها حركة حقوق الإنسان الحديثة.

غير أن حركة حقوق الإنسان هذه، المنتمية إلى الحضارة الغربية وإلى الثقافة الغربية، تفتقر إلى المرتكزات الثابتة والغايات المقصورة الواضحة، وإلى المعايير الضابطة والموجِّهة. وهذا ما يجعلها في كثير من الأحيان تتأرجح وتتخبط وتسير في الاتجاه وضده حتى إنها تسير أحيانًا في خدمة الإنسان، وأحيانًا ضد الإنسان وفطرته، أحيانًا في خدمة الشعوب، وأحيانًا ضد إرادة الشعوب واختياراتها وقيمها.

وأهم خلل - في نظري- تعاني منه حركة حقوق الإنسان وثقافة «حقوق الإنسان»، هو أنها ركزت على حقوق الإنسان وأهملت أصل هذه الحقوق ومناطها الذي هو الإنسان، فكانت كمن اعتنى بجني الثمرة وتلميعها وأعرض عن سقي الشجرة وتهذيبها. والحقيقة أن هذا مجرد مثال للقيم المقلوبة المنكسة في الحضارة الغربية والثقافة الغربية، كما قال الله تعالى : (( أَفَمَن يَمْشِى مُكِبّاً عَلَى وَجْهِهِ أَهْدَى أَمَّن يَمْشِى سَوِيّاً عَلَى صِراطٍ مُّسْتَقِيمٍ)) (الملك:22) ، فالتركيز على حقوق الإنسان، مع إهمال كيان الإنسان، ومع إهدار جوهر الإنسان، هو من قبيل تركيزهم على حقوق الإنسان دون تركيز مماثل على واجبات الإنسان حتى أصبحنا أمام إنسان الحقوق لا أمام حقوق الإنسان، ومن قبيل تضخيمهم للبعد الفردي على البعد الجماعي لحقوق الإنسان، إلى غير ذلك من القيم المقلوبة.

إنسانية الإنسان أولاً:

الوضع الطبيعي والسوي هو أن تكون العناية بالإنسان - من حيث هو إنسان - أسبق وأكثر من العناية بحقوق الإنسان، لأن هذه الحقوق إنما أضيفت للإنسان واستحقها، لكونه إنسانًا، وليس لأنه كائن من الكائنات ومخلوق من المخلوقات، وإلا لوجب أن نتحدث بنفس المنطق وبنفس الدرجة عن حقوق الحيوان، وحقوق الحيتان، وحقوق الشجر والحجر.

فالعناية بالإنسان قبل حقوق الإنسان هي التي تسمح لنا أولاً بتحديد سبب هذا الامتياز، وثانيًا تجعلنا نصون سبب هذا الامتياز ونحافظ عليه، وربما نحسنه ونرقيه، وتجعلنا ثالثًا نوجه حقوق الإنسان بما يتلاءم ولا يتعارض مع هذا الامتياز الذي هو سبب وجود حقوق الإنسان، حتى لا نكون كمن يتمسك بالربح ويضيع رأس المال، بل نجعل الربح يعزز رأس المال وينميه.

فبماذا استحق الإنسان هذه الحقوق؟ وبماذا استحق كل هذه الحركة وهذه المعركة من أجل تلك الحقوق؟ لاشك أن هناك خصوصية وتفضيلاً وامتيازًا لهذا الإنسان، وإلا فلو رجعنا إلى مبدأ المساواة بين المخلوقات، لكان علينا أن نقول: كفانا من حقوق الإنسان، فقد أخذ هذا الإنسان على مدار التاريخ أضعاف أضعاف ما أخذته بقية المخلوقات من حقوق. علينا الآن - ونحن في عصر المساواة والإخاء والتسامح والتكافل - أن نركز على حقوق الكائنات الأخرى التي تتعرض لأبشع أشكال الاستغلال وأقصى درجات الإهمال لحقوقها، ويتم ذلك على يد الإنسان ولفائدة الإنسان؟

لن أمضي مع هذا الافتراض وهذا الاستطراد، مادمنا مجمعين على أفضلية الإنسان وامتيازه على باقي المخلوقات وعلى أن له من الحقوق ما ليس لها، وأن من حقوقه أن يسخرها ويستعملها لمصلحته، كما قال الله عز وجل: ((وَسَخَّرَ لَكُمْ مَّا فِى السَّمَاواتِ وَمَا فِى الاْرْضِ جَمِيعاً مّنْهُ إِنَّ فِى ذَلِكَ لاَيَاتٍ لّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ))(الجاثية:13)، وكما في قوله أيضا: ((وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِى ءادَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِى الْبَرّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مّنَ الطَّيّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً)) (الإسراء:70)

ولذلك أعود وأركز على قضية هذا البحث، القضية المهملة أو المغيبة لدى حركة حقوق الإنسان وفي ثقافة حقوق الإنسان؛ ألا وهي إنسانية الإنسان، وسبب الامتياز والتفضيل لهذا الإنسان.

في قصة خلق آدم ـ عليه السلام ـ تصريح بما خص الله تعالى به جنس الإنسان من أسباب التمييز والتكريم والتفضيل، نقرأ ذلك في أمثال هذه الآيات:

((وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنّي جَاعِلٌ فِى الارْضِ خَلِيفَةً)) (البقرة:30)، (( وَعَلَّمَ ءادَمَ الاسْمَاء كُلَّهَا)) (البقرة:31)، (( عَلَّمَ الإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ )) (العلق:5) ، (( الرَّحْمَانُ (1) عَلَّمَ الْقُرْءانَ (2) خَلَقَ الإِنسَانَ (3) عَلَّمَهُ البَيَانَ)) (الرحمن:1-4)، (( وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنّى خَالِقٌ بَشَرًا مِّن صَلْصَالٍ مّنْ حَمَإٍ مَّسْنُونٍ (28) فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِى فَقَعُواْ لَهُ سَاجِدِينَ)) (الحجر:28-29)، (( لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِى أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ )) (التين:4).

- فهذا الإنسان جعله الله خليفة في الأرض، وهو تشريف وتمكين لا نعلم مخلوقًا آخر حظي به.

- والله تعالى علم آدم الأسماء كلها، والأسماء هي مفاتيح العلم والتعلم. وهو سبحانه علمه ما لم يكن يعلم، ومن ذلك أنه علمه البيان، والبيان ليس مجرد النطق والكلام، بل البيان، قبل ذلك، فكر ونظم للأفكار، ثم بيانها.

- والله عز وجل خلق هذا الإنسان في أحسن تقويم وأكمل هيئة.

- والأهم من هذا كله، وسر هذا كله، هو أنه سبحانه نفخ فيه من روحه. وهذه الميزة في الحقيقة تمثل نوعًا من التشريف والتكريم لا يكاد يدركه عقل أو يستوعبه فكر، ولذلك جاء في الآية الأخرى: (( قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبّى وَمَا أُوتِيتُم مّن الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً )) (الإسراء:85)، ولا نعلم مخلوقًا آخر نفخ الله تعالى فيه من روحه ومنحه هذا الامتياز.

وعن هذا الامتياز ترتب أول حق من حقوق الإنسان، وذلك حين أمر الله عز وجل الملائكة بالسجود لآدم. فالعلة الحقيقية لإسجاد الملائكة لآدم هي التسوية الخاصة الفائقة لهذا الكائن، تم تتويجها بالنفخ فيه من روح الله، وهذا واضح في النظم القرآني: ((فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِى فَقَعُواْ لَهُ سَاجِدِينَ )) (الحجر:29)، فهو سجود لهذه الخاصية ولأجلها، وليس كما زعم التعيس إبليس الذي أبى أن يسجد وقال: (( أَءسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِينًا )) (الإسراء:61)، وقال: (( لَمْ أَكُن لاِسْجُدَ لِبَشَرٍ خَلَقْتَهُ مِن صَلْصَالٍ مّنْ حَمَإٍ مَّسْنُونٍ)) (الحجر:33)، حيث رأى في سجوده لآدم سجودًا لكائن طيني لا أقل ولا أكثر.

فالنفخ في الإنسان من روح الله هو سبب سموه وتفوقه، ومنبع مواهبه ومؤهلاته، والمدد الدائم لتساميه وترقيه. قال القاضي أبو بكر ابن العربي عند تفسير قوله تعالى: ((لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِى أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ))، قال: « ليس لله تعالى خلق هو أحسن من الإنسان؛ فإن الله خلقه حيًا، عالماً، قادرًا، مريدًا، متكلمًا، سميعًا، بصيرًا، مدبرًا، حكيمًا، وهذه صفات الرب»[1].

هذه الصفات الربانية التي منح الإنسان قبسًا منها، ومنح القدرة على تنميتها واستثمارها هي كنز الإنسان ورصيده الأغلى، وهي التي تمنحه هذا التفوق وهذا الامتياز على سائر الكائنات والمخلوقات، وبفضلها صارت له ـ دون غيره ـ قضية اسمها قضية حقوق الإنسان.

الإنسان بين البعد الديني والبعد الطيني:

لاشك أن الإنسان الحقيقي، صاحب الرفعة والامتياز، إنما هو الإنسان الذي تحدثت عنه الديانات ونزلت لأجله الرسالات، فجعلت منه محور الكون وسيد الكون، وأخبرت أنه يستمد من روح الله ومستخلف عن الله، وهو لذلك يجب أن يظل مؤمنًا بالله، مرتبطًا به، عابدًا له، وإلا انقطعت حباله وتمزقت أوصاله، فهذا هو الإنسان ذو البعد الديني.

أما حركة حقوق الإنسان، والمرجعية الفكرية التي تؤطرها وتوجهها اليوم، فهي لا تكاد تلتفت إلى الأبعاد الروحية والربانية والدينية للإنسان، بل لا تكاد تلتفت إلى هذا الإنسان صاحب حقوق الإنسان، ولا ترى في الإنسان وحقوق الإنسان سوى مجموعة من الطلبات والرغبات والتطلعات التي تحقق للإنسان احتياجاته المادية والجسدية ومحسناته السياسية والقانونية.

ومادام هذا الإنسان - عندهم- قد تم تجريده من أي أصل روحي، ومن أي بعد ديني، ولم تعد فيه ولا له ثوابت ولا مقدسات، فإن حقوقه نفسها تصبح خاضعة للتطوير والتكييف المستمر بلا حدود ولا محددات. المهم هو أن تستجيب لرغبات الإنسان في بعده الطيني.

قلت قبل قليل: إن إبليس لم ير في الإنسان إلا بعده الطيني، مع أن الخالق سبحانه قد نص وصرح في خطابه بأنه سوّاه ونفخ فيه من روحه، فالإصرار على تجاهل البعد الروحي للإنسان هو أول توجه أيديولوجي ضال عرفه التاريخ. ومهما تكن الأوصاف والمصطلحات التي يتم إضفاؤها على النظرة المادية للإنسان وعلى التفسير المادي للإنسان، مثل الحداثة، والعقلانية، والعلمية، والموضوعية...، فإن ذلك لا يعدو أن يكون تجديدًا وزخرفة لنظرة إبليس التي لا ترى في الإنسان سوى أنه كائن طيني صنع ((مِن صَلْصَالٍ مّنْ حَمَإٍ مَّسْنُونٍ)).

وللأسف فإن حركة حقوق الإنسان تمضي اليوم مشدودة إلى هذه النظرة، ومحكومة بهذه الفلسفة، بل إنها تزداد إيغالاً فيها. فالاحتياجات والحقوق الدينية والروحية والخلقية مغيبة أو مهمشة، والحقوق المادية الجسدية هي المهيمنة. وأنا أعني بالدرجة الأولى التطورات الجارية حاليًا ومؤخرًا في مفهوم حقوق الإنسان وفي توظيف حقوق الإنسان، وإن كانت الأدبيات والإعلانات الحقوقية الأولى لهذا العصر مسكونة هي أيضًا بالهواجس المادية والحقوق الجسدية، مع إشارات مبهمة وخاطفة إلى بعض الحقوق المعنوية.

فالإعلان العالمي لحقوق الإنسان الصادر عن الجمعية العامة للأمم المتحدة في 10 ديسمبر 1948م، وهو أكثر نضجًا وتوازنًا من كل ما سبقه، قد تحدث بتفصيل وإسهاب عن حقوق الحرية، والمساواة، والحياة، والسلامة البدنية، والمحاكمة العادلة والعلنية، والإقامة، والتنقل، واللجوء هربًا من الاضطهاد، والتملك، وتقلد الوظائف العامة، والشغل، والأجر العادل، وحق الراحة والتمتع بأوقات الفراغ، والصحة، والرفاهية، والخدمات الاجتماعية، ومنع التعذيب والاعتقال التعسفي والنفي والمعاملة القاسية أو الوحشية.

وهذا كله جيد ولا غبار عليه، ولكن الحقوق والتدابير التي تعتني بالإنسان وبجوهر الإنسان، وبالأبعاد النفسية السامية للإنسان، والتي تجعل الإنسان إنسانًا، وتبقي الإنسان إنسانًا، وتجعله أكثر ارتقاءً وسموًا، هذه الحقوق غائبة ساقطة، أو إن بالغنا في تحسين الظن وتحسين الفهم نقول: إنها هامشية باهتة غامضة؛ وذلك مثل الإشارات الخاطفة إلى مفردات العقل، والضمير، والكرامة، والشرف، والسمعة، وحماية الأسرة. وهذه -على كل حال- إشارات إيجابية لبعض الجوانب الإنسانية، لكن أيًّا منها لم يحظ بمادة مستقلة، وأكثرها لم تخصص له حتى جملة مستقلة، ولذلك قلت إنها مفردات.

فالمادة الأولى حين تتحدث عن كون الناس يولدون أحرارًا متساوين في الكرامة والحقوق، تضيف : «وقد وُهبوا عقلاً وضميرًا»، ثم لا نجد شيئًا قليلاً ولا كثيرًا يحفظ العقل والضمير أو يطالب بالمحافظة عليهما أو يندد بتضييعهما وتخريبهما.

والمادة الثانية عشرة تنص على أنه: «لا يتعرض أحد لتدخل تعسفي في حياته الخاصة أو مسكنه أو مراسلاته، أو لحملات على شرفه وسمعته، ولكل شخص الحق في حماية القانون من مثل هذا التدخل أو تلك الحملات».

شيء مهم أن يُحمى الإنسان في شرفه وسمعته بمقتضى القانون، لكن ما هو أولى بالعناية والحماية هو وجود هذا الشرف وبقاؤه بقاءً حقيقيًا، وليس مجرد ادعاء الشرف واللجوء إلى القانون لحماية هذا الادعاء. بل أكثر من هذا: كيف نبقي فكرة الشرف والسمعة موجودة وذات اعتبار لدى الناس؟ وإلا فقد لا نجد من يعتبر أن له شرفًا وسمعة، أو أن هناك شيئًا حقيقيًا ومصلحة حقيقية اسمها الشرف والسمعة، خاصة إذا لم يكن يترتب عليهما درهم ولا دينار، ولا سجن ولا تعذيب؟

ولعل أهم شيء يخدم الإنسان وإنسانية الإنسان في الإعلان العالمي لحقوق الإنسان هو هذه الجملة التي جاءت في الفقرة الثانية من المادة (26): «يجب أن تهدف التربية إلى إنماء شخصية الإنسان إنماءً كاملاً».. ولكن للأسف بقي هذا الإنماء الكامل مبهمًا ومفتوحًا على جميع الاحتمالات، بينما لم يكن بيانه وضبطه يتطلب أكثر من كلمتين أو ثلاث، لو أضيفت لكانت هذه الجملة -على ضآلتها- إضافة نوعية إلى ثقافة حقوق الإنسان ومواثيق حقوق الإنسان.

غير أن المشكل الأكبر والأخطر لا يكمن في الأدبيات والمواثيق الحقوقية الكلاسيكية، وإنما يكمن - كما أشرت من قبل- في الممارسات والتطورات الجارية اليوم باسم حقوق الإنسان، وإن كانت تعتبر امتدادًا طبيعيًا لتلك.

فباسم حقوق الإنسان تصدر النداءات والتوصيات للاعتراف بحق الشذوذ الجنسي، وبحق الزواج المثلي، وبشرعية الأسرة الناشئة عنه، وبالحق في إجهاض الأجنة ولو كانت في شهرها التاسع وبدون أي ضرورة، وبالحق في تغيير الجنس من ذكر لأنثى ومن أنثى لذكر.

ومنذ بضعة شهور نسمع عن الحملة وعن الضغوط الموجهة ضد مصر، لما يجري فيها من محاكمة لبعض الأفراد من طائفة الشواذ المثليين، حتى إن ستين منظمة للشواذ عبر العالم وجهت نداءً تضامنيًا معهم تحت شعار: «يا شواذ العالم اتحدوا»، وقامت مجموعة من أعضاء الكونجرس الأمريكي بتوجيه رسالة احتجاجية وتحذيرية للرئيس المصري يلوحون فيها بالسعي إلى قطع المعونات الأمريكية لمصر[2].. وكل هذا يتم باسم حقوق الإنسان.

وباسم حقوق الإنسان يدافعون عما يسمونه حرية العقيدة، أي عقيدة، ولو تجسدت في حركة عبادة الشيطان أو في السحر والشعوذة والوصول إلى الانتحار الجماعي.

وباسم حقوق الإنسان يضغطون من أجل تعليم الطفل الثقافة الجنسية والحق في الممارسة الجنسية. وقد يصلون إلى أن يجعلوا الثقافة الجنسية مادة دراسية إلزامية ثم يسعون بعد ذلك لكي تكون لهذه المادة حصصها التطبيقية حتى لا تبقى مادة نظرية جافة أو غير مفهومة.

وباسم حقوق الإنسان يجري هدم العلاقة الإنسانية الطبيعية والفطرية بين الرجل والمرأة، لتحويلها إلى علاقة تنافس وصراع وخصام بعد أن كانت على مر العصور وعند جميع الأمم والشعوب علاقة حب وتعلق وتكامل ووئام.

وباسم حقوق الإنسان يحاولون إلغاء ما بين الرجل والمرأة من اختلافات وتمايزات فطرية ليفرضوا عليهما المساواة التطابقية القسرية.

وباسم هذه المساواة، تحولت المرأة إلى مجال الامتهان والابتذال، تساق إليه بوتيرة وكيفية مذهلة لم يسبق لها مثيل في تاريخ الإنسان.. فالمرأة أصبحت سلعة.. والمرأة مسخرة لترويج البضائع والإعلان عنها.. والمرأة للمتعة الحرام، وللمنافسة بين القنوات التلفزيونية وجلب المشاهدين لها.. والمرأة لعرض الأزياء، أو لعرض الأشلاء باسم الأزياء...!

حينما يجرد الإنسان من بعده الروحي، ويختصر في بعده الطيني، وحينما تنبني حقوق الإنسان على هذا الأساس وتوجه في هذا الاتجاه، فإننا نجد حينئذ حقوق الإنسان عبارة عن نسخة مطورة ومزيدة ومنقحة عن حقوق الحيوان.

إن الحرية الجسدية، والحاجات الجسدية، والرعاية الصحية، والرفاهية المعيشية، ومنع الاعتقال والتجويع والتعذيب، وضمان قسط مناسب من الراحة، والاشتغال في حدود الطاقة، وحماية الضعيف من القوي، والانتصاف له ممن ظلمه، هذه ونحوها من أمثالها ومما يتفرع عنها، كلها حقوق لا غبار عليها وعلى ضرورتها، ولكن العكوف عليها والانحصار في دائرتها يجعلها لا تختلف كثيرًا وجوهريًا عن حقوق الحيوان كما تضمنها الإسلام في نصوصه وقواعده، وهي الحقوق التي يلخصها الإمام عز الدين بن عبد السلام في هذين النصين اللذين أوردهما لكل من أراد أن يدرس ويقارن.

قال رحمه الله: «القسم الثالث حقوق البهائم والحيوان على الإنسان، وذلك أن ينفق عليها نفقة مثلها ولو زمنت أو مرضت بحيث لا ينتفع بها، وأن لا يحملها ما لا تطيق، ولا يجمع بينها وبين من يؤذيها من جنسها أو من غير جنسها بكسر أو نطح أو حرج، وأن يحسن ذبحها إذا ذبحها، ولا يمزق جلدها ولا يكسر عظمها حتى تبرد وتزول حياتها، وأن لا يذبح أولادها بمرأى منها، وأن يفردها ويحسن مباركها وأعطانها، وأن يجمع بين ذكورها وإناثها في إبان إتيانها (حق الجنس والتناسل) وأن لا يخذف صيدها ولا يرميه بما يكسر عظمه أو يرديه بما لا يحلل لحمه»[3].

وقال في نص آخر : «فصْلٌ في الإحسان إلى الدواب المملوكة، وذلك بالقيام بعلفها أو رعيها بقدر ما تحتاج إليه، وبالرفق في تحميلها ومسيرها، فلا يكلفها من ذلك مالا تقدر عليه، وبأن لا يحلب من ألبانها إلا ما فضل عن أولادها، وأن يهنأ جرباها ويداوي مرضاها، وإن رأى من حمَّل الدابة أكثر مما تطيق فليأمره بالتخفيف عنها، فإن أبى فليطرحه بيده، فمن رأى منكم منكرًا فليغيره بيده، وقال : «إذا سافرتم في الخصب فأعطوا الإبل حظها من الأرض ( أي دعوها تأكل من نبات الأرض)، وإذا سافرتم في السنة (أي الجدب) فبادروا بها نقيها (عجلوا السير والرجوع بها لتأكل) وقد غفر لبغي بسقي كلب»[4].

تزكية الإنسان ثانيًا :

إذا كانت إنسانية الإنسان، بما تعنيه من خصائص وامتيازات لهذا الكائن، هي أول ما يجب أن نحافظ عليه ونصونه، وننطلق منه في كل ما يتعلق بالإنسان، فإن تزكية الإنسان يجب أن تكون الهدف الثاني والمحدد الثاني لحركة حقوق الإنسان، ولكل نشاط يستهدف الإنسان.

فالتزكية هي المقصد الأسمى الذي يريده الله لعباده في هذه الدنيا، وهي منتهى ما بعث الله لأجله رسله، وخلاصة ما ضمنه شرائعه.

والتزكية -كما هو متفق عليه عند اللغويين والمفسرين- تتضمن معنيين، أو هي تزكية ذات وجهين هما التطهير والتنمية. فالتزكية في الأمور المعنوية هي التطهير من العيوب والأدران والآفات (أي من الصفات السلبية)، وتنمية المحاسن والفضائل وعناصر الخير ( أي الصفات الإيجابية).

قال الشيخ محمد الطاهر بن عاشور: «التزكية تطهير النفس، مشتقة من الزكاة وهي النماء؛ وذلك لأن في أصل خلقة النفوس كمالات وطهارات، تعترضها أرجاس ناشئة عن ضلال أو تضليل، فتهذيب النفوس وتقويمها يزيدها من ذلك الخير المودع فيها، قال تعالى: ((لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِى أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ (4) ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ (5) إِلاَّ الَّذِينَ ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ)) (التين:4-6).. وفي الحديث: «بعثت لأتمم مكارم الأخلاق»، ففي الإرشاد إلى الإصلاح والكمال نماء لما أودع الله في النفوس من الخير في الفطرة» [5].

ويقول الشيخ سعيد حوى رحمة الله عليه : «فزكاة النفس تطهيرها من أمراض وآفات، وتحققها بمقامات، وتخلقها بأسماء وصفات، فالتزكية في النهاية تطهر وتحقق وتخلق»[6].

وإذا كان الدين قد اعتنى عناية تامة بالأبدان وصحتها وطهارتها وتغذيتها وتزكيتها، فلا شك أن عنايته العظمى هي تلك الموجهة إلى تزكية النفوس وإصلاحها لأنها عنصر تفرد الإنسان ومجال ارتقائه، كما قال الشاعر:

أقبل على النفس واستكمل فضائلها فأنت بالنفس لا بالجسم إنسان

ولقد نص القرآن الكريم في كثير من آياته على كون تزكية الإنسان وترقيته هي مقصود بعث الرسل عمومًا، وخاتمهم رسول الإسلام خصوصًا، قال تعالى: (( الَّذِى بَعَثَ فِى الامّيّينَ رَسُولاً مّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ ءايَاتِهِ وَيُزَكّيهِمْ وَيُعَلّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُواْ مِن قَبْلُ لَفِى ضَلَلٍ مُّبِينٍ )) (الجمعة:2).

فالآية الكريمة ناطقة صريحة في أن الرسول e بُعث إلى الناس لتزكيتهم، وإذا كانت تلاوة آيات الكتاب وتعليم معانيه وأحكامه وحكمته هي نفسها وسائل ومعابر للتزكية، فالنتيجة أن التزكية هي المعنى الغائي والهدف النهائي للرسل والرسالات في هذه الحياة الدنيا.

ومما يلفت الانتباه والتأمل في هذا الموضوع كون المعنى المنصوص عليه في هذه الآية قد تكرر في القرآن الكريم ثلاث مرات أخرى:

- ففي سورة البقرة على لسان إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام: ((رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مّنْهُمْ يَتْلُواْ عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكّيهِمْ إِنَّكَ أَنتَ العَزِيزُ الحَكِيمُ )) (البقرة:129).

- وفيها أيضًا: (( كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولاً مّنْكُمْ يَتْلُواْ عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِيكُمْ وَيُعَلّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلّمُكُم مَّا لَمْ تَكُونُواْ تَعْلَمُونَ )) (البقرة:151).

- وفي سورة آل عمران: (( لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مّنْ أَنفُسِهِمْ يَتْلُواْ عَلَيْهِمْ ءايَاتِهِ وَيُزَكّيهِمْ وَيُعَلّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُواْ مِن قَبْلُ لَفِى ضَلَالٍ مُّبِينٍ )) (آل عمران:164).

ولقد جاءت في القرآن الكريم نصوص أخرى تنبه على أن تزكية الإنسان يجب أن تكون هي الغاية القصوى والمقصد لكل نشاط إنساني، والمعيار الذي يحدد نجاحه وفلاحه، كقوله عز وجل: ((وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا(7) فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا(8) قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا (9) وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا)) (الشمس:7-10)، وقوله تعالى: ((قَدْ أَفْلَحَ مَن تَزَكَّى)) (الأعلى:14).

وإذا كانت الصفات الخيرة الحسنة هي الأكثر تأصلاً وعمقًا في كيان الإنسان، فإن اتصاف هذا الإنسان منذ البداية ببعض النقائص، مع قابليته لاكتساب صفات سيئة وشريرة، وقابلية النقائص الأصلية للنمو والتضخم، هي كذلك أمور ملموسة ومعيشة، بل ومصرح بها في نصوص الوحي، فالآية السابقة: ((وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا(7) فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا)) تفيد القابلية للاتصاف بالصفات الصالحة وتنميتها (التقوى) وبالصفات الفاسدة وتنميتها (الفجور).

وفي عالم النفوس -كما في عالم الأجسام- فإن الله تعالى الذي خلق الداء خلق له ومعه الدواء، فلكل داءٍ دواء، ولكل عيب شفاء، قال تعالى: (( إِنَّ الإنسَانَ خُلِقَ هَلُوعاً (19) إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً (20) وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً (21) إِلاَّ الْمُصَلّينَ(22) الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلاَتِهِمْ دَائِمُونَ(23) وَالَّذِينَ فِى أَمْوالِهِمْ حَقٌّ مَّعْلُومٌ (24) لّلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ (25) وَالَّذِينَ يُصَدّقُونَ بِيَوْمِ الدّينِ (26) وَالَّذِينَ هُم مّنْ عَذَابِ رَبّهِم مُّشْفِقُونَ (27) إِنَّ عَذَابَ رَبّهِمْ غَيْرُ مَأْمُونٍ )) (المعارج:19-28).

والإنسان قابل، بل ميال، للبغي والطغيان، وشفاء ذلك في أن يعرف ربه ويعرف أنه راجع إليه وواقف للحساب بين يديه: ((إِنَّ الإِنسَانَ لَيَطْغَى (6) أَن رَّءاهُ اسْتَغْنَى (7) إِنَّ إِلَى رَبّكَ الرُّجْعَى)) (العلق:6-8)، وقوله سبحانه وتعالى: (( فَأَمَّا مَن طَغَى (37) وَءاثَرَ الْحياةَ الدُّنْيَا (38) فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِىَ الْمَأْوَى (39) وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى)) (النازعات:37-40).

ومعلوم في جميع الديانات أن أهم وأبلغ تزكية يحصل عليها الإنسان ويرتقي فيها - بعد الإيمان بالله تعالى- هي ما شرعه سبحانه من عبادات وقربات، كالذكر والتفكر والصلاة والصوم والحج والزكاة وسائر النفقات.

وإن من أخص خصائص الإنسان أنه كائن متدين أو كائن متعبد، عن طواعية واختيار. فالملائكة تعبد الله بصورة جِبِليَّة خالصة، ليس لها فيها اختيار أو رفض، أو تأخير أو تقصير، وبقية الكائنات تخضع لسنن الله تعالى ونواميسه، في حركاتها وسكناتها، وحياتها وموتها، ونموها وتكاثرها، وغير ذلك من شؤونها. والإنسان يشترك معها في هذا الخضوع التلقائي، أو في هذه العبودية الاضطرارية، ولكنه يتميز بعبودية أخرى يتجاوب معها أو يتنكر لها بإرادته واختياره، وهي عبودية التعبد أو عبودية التدين. فبها يتميز، وبها يتزكى، وبها يحافظ على سموه وسر تفوقه على سائر المخلوقات. ولذلك كانت هذه الخاصية مقصدًا عامًا وأساسيًا من مقاصد الشريعة. وفي هذا المعنى يقول الإمام الشاطبي رحمه الله تعالى: «المقصد الشرعي من وضع الشريعة إخراج المكلف عن داعية هواه حتى يكون عبدًا لله اختيارًا كما هو عبد لله اضطرارًا»[7].

وإذا كانت شرائع الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم قد جاءت بحفظ كافة حقوق الإنسان، وعلى يد الأنبياء عرف الناس فكرة الحقوق والواجبات، ومن شرائعهم ومبادئهم وقيمهم التي زرعوها في تاريخ البشرية وثقافاتها، استمدت حركة حقوق الإنسان وجودها ومشروعيتها وأهم مبادئها، فإن هذه الشرائع والرسالات المنزلة كانت كلها تبتدئ بقضية عبادة الله، باعتبارها الضامن والداعم لأخص خصائص الإنسان التي عليها تنبني مشروعية حقوق الإنسان، فضلاً عن كونها مجالاً للتسامي والترقي لا يشبهه شيء ولا يدانيه شيء. وهكذا ما من نبي بعثه الله إلا قال لقومه: ((ياقَوْمِ اعْبُدُواْ اللَّهَ))[8] فلذلك صار تدين الإنسان وتعبده لربه الصفة المميزة للإنسان وسلوكه«مما يجوز معه أن نعرف الإنسان بأنه الكائن الحي المتدين. فالهوية الإنسانية تكون في حقيقتها هوية دينية»، كما يقول الدكتور طه عبد الرحمن[9].

والعبادة كما هو معلوم تشمل الإنسان في روحه وعقله ونفسه وعاطفته وبدنه وحواسه وماله ووقته وفكره وعلمه. ومعنى هذا أن العبادة تزكي الإنسان بكل جوانبه وأبعاده. غير أن تزكية النفوس خاصة تبقى ذات أولوية واضحة في التعاليم والتكاليف الدينية، إذ النفس هي مجمع الآفات والنزعات والشهوات: ((إِنَّ النَّفْسَ لامَّارَةٌ بِالسُّوء إِلاَّ مَا رَحِمَ رَبّى)) (يوسف:53).

ومن أمثلة الآفات النفسية التي وجهت العبادات لمعالجتها وتزكية الإنسان منها: آفة شدة التعلق بالمال، والحرص عليه، والشح به. فبسبب ذلك يتعادى الناس ويتخاصمون، ويتصارعون، ويقتتلون، وبسبب ذلك يفرط الإنسان في كثير من قيمه ومبادئه، وتتضخم أنانيته وذاتيته، ويفقد توازنه وطمأنينته، فلذلك جاءت تعاليم الإسلام وتكاليفه غنية بالتوجهات والتدابير الخاصة بمعالجة هذه الآفة. والنصوص المتعلقة بهذا الموضوع كثيرة متنوعة، وخاصة تلك المتعلقة بالتوجيهات القيمية النظرية، وأقتصر على بعض النصوص الإجرائية العملية الموجهة بشكل صريح إلى تزكية الإنسان من هذه الناحية.

فمن المعلوم أن من أركان الإسلام الخمسة فريضة الزكاة، ودور هذه الفريضة في تزكية الإنسان وترقيته واضح معلن من الاسم نفسه (الزكاة)، فهي زكاة للنفس الإنسانية أولاً وأساسًا. والآية الكريمة التي أمرت بأخذ الزكاة من ذوي الأموال عللت ذلك بهذه العلة دون غيرها من علل الزكاة ومقاصدها، قال تعالى: (( خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهّرُهُمْ وَتُزَكّيهِمْ بِهَا)) (التوبة:103).

ولم يقل خذ من أموالهم صدقة تطهر أموالهم وتزكيها لهم، بل تطهرهم وتزكيهم هم أنفسهم. فالذي يزكي ماله، يزكي في الحقيقة نفسه ويطهرها، قال العلامة الكاساني في بدائعه : « الزكاة تطهر نفس المؤدي، وتزكي أخلاقه بتخلق الجود والكرم وترك الشح والضن، إذ الأنفس مجبولة على الضن بالمال، فتتعود السماحة وترتاض لأداء الأمانة وإيصال الحقوق إلى مستحقيها، وقد تضمن ذلك كله قوله تعالى: ((خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهّرُهُمْ وَتُزَكّيهِمْ بِهَا)) (التوبة:103).

وإن الله تعالى قد أنعم على الأغنياء وفضلهم بصنوف النعمة والأموال الفاضلة عن الحوائج الأصلية وخصهم بها، فيتنعمون ويستمتعون بلذيذ العيش. وشكرُ النعمة فرضٌ عقلاً وشرعًا، وأداء الزكاة إلى الفقير من باب شكر النعمة»[10].

ووظيفة التزكية ليست خاصة بالزكاة، بل هي منصوص عليها وعلى طلبها في كافة أوجه الإنفاق الشرعي، قال تعالى: (( فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى(5) وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى(6) فَسَنُيَسّرُهُ لِلْيُسْرَى(7) وَأَمَّا مَن بَخِلَ وَاسْتَغْنَى (8) وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى(9) فَسَنُيَسّرُهُ لِلْعُسْرَى(10) وَمَا يُغْنِى عَنْهُ مَالُهُ إِذَا تَرَدَّى(11) إِنَّ عَلَيْنَا لَلْهُدَى (12) وَإِنَّ لَنَا لَلاْخِرَةَ وَالاْولَى(13) فَأَنذَرْتُكُمْ نَاراً تَلَظَّى(14) لاَ يَصْلَاهَا إِلاَّ الاْشْقَى(15) الَّذِى كَذَّبَ وَتَوَلَّى(16) وَسَيُجَنَّبُهَا الاْتْقَى(17) الَّذِى يُؤْتِى مَالَهُ يَتَزَكَّى)) (الليل:5-18)، وقال سبحانه: (( لَن تَنَالُواْ الْبِرَّ حَتَّى تُنفِقُواْ مِمَّا تُحِبُّونَ)) (آل عمران:92).

وليست العبادات وحدها هي مجال التزكية والترقية للإنسان وللنفس الإنسانية، بل إن كل ما في الإسلام موجه لتحقيق هذا الهدف وهذا المقصد. ومن ذلك مجال المعاملات والعلاقات الاجتماعية. ومن يلقي نظرة ولو سريعة على كتب السنة النبوية فسيجد أبواب الأخلاق والآداب والفضائل والعلاقات الإنسانية، غزيرة شاملة تتناول كل جوانب النفس البشرية وكل ما تحتاجه من فضائل ومكارم وما يعرض لها من آفات ورذائل.

وقد يبدو لبعض الناس أن ما عرفته البشرية اليوم من ارتقاء قانوني ومن تقدم حقوقي، وما وصلت إليه في كثير من الأقطار من تحقيق سيادة القانون وإقامة دولة الحق والقانون، يغني عن التعاليم الدينية ويحقق مقصودها بشكل أكثر نجاعة وفاعلية.

ولاشك عندي أن نوعًا من الترقي القانوني الحقوقي قد تحقق، وأنه جدير بالتقدير والاعتبار، ولكن الارتقاء القانوني والضبط التشريعي لبعض المبادئ والحقوق، لا يمثل إلا تقدمًا ظاهريًا إلزاميًا، يظل محكومًا بموازين القوة وحضور الرقابة والردع، دون أن يحدث تزكية أو أثرًا حقيقيًا في النفس وفي الضمير. وما أكثر ما نرى دعاة حقوق الإنسان، وحماة حقوق الإنسان، ودركيي حقوق الإنسان، يتنكرون لمبادئهم وشعاراتهم ويقلبون لها ظهر المجن، ويكشفون عن زيفهم وسطحية ثقافتهم الحقوقية، ويتحولون إلى وحوش ومناصرين للوحشية التي لا تعرف للإنسان حقًا ولا كرامة، ولا ترقب فيه إلاًّ ولا ذمة. فلذلك لا بد من التزكية الحقيقية الذاتية، ثم بعد ذلك، أو بجانب ذلك، تأتي المواثيق والحوافز القانونية والتدابير الإلزامية دعمًا للتزكية، أو حيث لم تنفع التزكية، وحيث لم تكن كافية، حسب الحالات.

وفي ظل تدهور إنسانية الإنسان، وفي غيبة تزكية الإنسان، ها نحن نرى الجهود الضخمة الهائلة والمتواصلة التي بذلت لأجل حقوق الإنسان، وتكاثرت وتراكمت لأجلها قناطير مقنطرة من البيانات والإعلانات والمواثيق والاتفاقات والدساتير والقوانين، تداس كلما احتيج لذلك، أو تعاد صياغتها أو تفسيرها كلما احتيج لذلك.

لقد كانت فكرة العدالة والحق في العدالة أسمى وأكثر ما شغل حركة حقوق الإنسان، وقد احتل هذا الحق حيزًا كبيرًا في الأدبيات والمواثيق والقوانين الحقوقية، ومع ذلك كله مازال حق العدالة وقوانين العدالة ملكًا لذوي القوة والنفوذ والغلبة، يطبقونه متى شاءوا، ويعطلونه متى شاءوا، ويفسرونه ويكيفونه كيف شاءوا.

ولعل أهم تطور حصل في هذه المسألة هو أن الظلم أصبح اليوم قانونيًا مؤسسيًا أكثر من ذي قبل.. قديمًا كان الظلم يقع بمقتضى الغلبة والبطش الصريح، بدون قانون وبدون مؤسسات، بل بسبب غيبة القانون وغيبة المؤسسات، أما الظلم اليوم فيتم باسم العدالة وبواسطة مؤسسات العدالة ومن خلال القوانين المستصدرة لأجل العدالة!

أي ظلم أفدح وأعظم من كون خمس دول (هي الدول دائمة العضوية بمجلس الأمن ) قد أعطت لنفسها حق التحكم في البشرية كلها، تتحكم في السلم والحرب والسياسة والاقتصاد، وتعاقب وتكافئ، وتعطي الشرعية لمن تشاء وتنزعها عمن تشاء.. وفق معايير ومصالح واعتبارات هي تضعها وهي تغيرها! أين حق العدالة؟ ليس للأفراد، بل للشعوب والدول!! أين المساواة.؟

حينما نقرأ الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، الصادر عن الجمعية العامة للأمم المتحدة، نجده يطالعنا في الفقرة الأولى من ديباجته بكون «الاعتراف بالكرامة المتأصلة في جميع أعضاء الأسرة البشرية وبحقوقهم المتساوية، هو أساس الحرية والعدل والسلام في العالم».

ثم نجد في مادته الأولى: «يولد جميع الناس أحرارًا متساوين في الكرامة والحقوق».. فهل توجد في عالم اليوم مساواة في الكرامة والحقوق لعموم البشر؟ هل يقيمون اعتبارًا للمواد القانونية المذكورة؟

القارة الإفريقية بكاملها ليس لها عضوية دائمة بمجلس الأمن، وكذلك قارة أمريكا اللاتينية، لأنهما قارتان فقيرتان. والعالم الإسلامي الذي تمثل دوله ثلث الدول الأعضاء في الأمم المتحدة، ليس له بمجموعه عضوية دائمة في مجلس الأمن؟

وهكذا، فالفقراء في العالم، والمسلمون في العالم (وهذه هي الأغلبية العظمى فيه) ليس لهم حق في المساواة، وليس لهم حق التقرير، ولا حق التأثير في شؤون هذا العالم ولا في شؤونهم هم أنفسهم.. فكيف يمكن التحدث عن الديمقراطية وعن الحقوق المتساوية التي هي أساس العدالة، والعدالة هي المتطلب المركزي لحركة حقوق الإنسان ؟!

قد يقال: إن المقصود بالعدالة وبالحقوق المتساوية حقوق الأفراد، مع بعضهم ومع حكوماتهم ومحاكمهم! وأقول: وهذه أدهى وأمر، كيف يتم التركيز على حقوق الأفراد - على علاتها وآفاتها- ويتم إسقاط حقوق الأمم والشعوب؟ وإسقاط حق شعب واحد يعني إسقاط حقوق عشرات الملايين، فكيف بشعوب ودول تعد بالعشرات؟

على أن الأمر لا يتعلق فحسب بحق المساواة، الذي هو أبسط مظاهر العدالة، بل إن عدم المساواة في هذه الحالة يعني ما لا يحصى من التوابع والتداعيات، ومن المظالم والاختلالات، يكون ضحيتها ملايين البشر، في حقوقهم المادية والمعنوية، بما في ذلك حقهم في الحياة.

إن الحركة الحقوقية بحاجة ماسة إلى أن تكون حركة أخلاقية وليس مجرد حركة قانونية ثقافية وفكرية. فبدون أخلاق وبدون تخليق، ستظل حركة حقوق الإنسان دائرة حول المظاهر دون أن تصل إلى المخابر، وستظل تشتغل بالوسائل من غير تقدم في تحقيق المقاصد. وأكثر من ذلك كله، ستظل عرضة للتكييف والتوجيه والتعطيل، بحسب ما يريده أصحاب الغلبة والنفوذ وذوو النزوات والشهوات.

وكما يقول د.طه عبد الرحمن: «فإن ضرورة الخُلق للإنسان كضرورة الخَلق سواء بسواء، فلا إنسانية بدن أخلاقية»[11].. ولذلك كان جوهر رسالة الأنبياء، صلوات الله وسلامه عليهم، هو غرس الأخلاق، وتنمية الأخلاق، وصيانة الأخلاق، كما قال خاتمهم ومتمم مقاصدهم، نبي الإسلام : «بعثت لأتمم مكارم الأخلاق»[12].

الهوامش :

[1] أحكام القرآن، 4/415، دار الفكر للطباعة والنشر، بيروت، د.ت.

[2] عن جريدة التجديد المغربية، عدد 260، بتاريخ 4 يناير 2002م.

[3] قواعد الأحكام في مصالح الأنام، 1/141، دار المعرفة، بيروت، د.ت.

[4] شجرة المعارف والأقوال وصالح الأقوال والأعمال، ص 169، تحقيق إياد الطباع، الطبعة الأولى، 1989م/1410هـ، دار الطباع ، دمشق.

[5] التحرير والتنوير، 2/49، الدار التونسية للنشر، 1984م.

[6] المستخلص في تزكية الأنفس، الطبعة الثالثة، 1405هـ/1985م ، دار السلام للطباعة والنشر والتوزيع.

[7] الموافقات، 2/168.

[8] تكرر هذا المعنى كثيرًا في القرآن الكريم على لسان الأنبياء خطابًا لأقوامهم، انظر على سبيل المثال سورة الأعراف، الآيات 59، 65، 73، 85 وسورة هود الآيات 50، 61، 84.

[9] سؤال الأخلاق، الطبعة الأولى، 2000م، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء، المغرب.

[10] بدائع الصنائع، 2/4، طبعة دار الفكر، بيروت، 1417هـ/1996م.

[11] سؤال الأخلاق، ص 55.

[12] الموطأ، كتاب حسن الخلق.

مقاصد الشريعة .. أساس لحقوق الإنسان

الأستاذ الدكتور محمد الزحيلي

مقدمة:

الحمد لله، علم القرآن، خلق الإنسان، علمه البيان، والصلاة والسلام على الإنسان الكامل، معلم الناس الخير، ومرشد البشرية إلى ما فيه صلاحهم وفلاحهم؛ محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبعد:

فقد كرّم الله الإنسان، واصطفاه على سائر خلقه، وجعله سيدًا في الأرض، وأمده بالوحي السماوي، والرعاية الإلهية، والشرع القويم، وأرسل له الأنبياء والرسل، وأنزل عليه الكتب، ليسير على الهدي السديد، والصراط المستقيم، وشرع له الأحكام لبيان الحقوق والواجبات..ولكن الإنسان ظلوم جهول.. جُبِل على العدوان والشر أحيانًا، وكثيرًا ما يكون ذئبًا على أخيه الإنسان، إن لم يكن أشد فتكًا به من الوحوش الضارية.

وظهر ظلم الإنسان للإنسان، والاعتداء عليه، طوال التاريخ في صور عديدة، وتحت شعارات مختلفة، ولأسباب متنوعة، داخلية وخارجية، عرقية وعنصرية، أخلاقية ومالية، دينية واقتصادية، وخاصة في العصور المظلمة في أوروبا، المسماة بـ (العصور الوسطى)، مع غياب العقيدة الصحيحة، والدين الحق، والشريعة السمحاء.. وتكرر الدمار والإبادة للإنسان من أخيه الإنسان، في القرن العشرين في عدة حروب، ثم كانت الحرب المدمرة الفتاكة الأولى في القرن الحادي والعشرين، وقد يتفاقم الظلم والعدوان في إطار الأسرة الواحدة.

وقام المفكرون والمصلحون في أوروبا خاصة، وفي العالم عامة، يحذرون من هذا الظلم والعدوان، ويدعون للاعتراف بحقوق الإنسان، حتى ظهر لأول مرة إعلان حقوق الإنسان في فرنسا، عام 1789م. ولكنه اقتصر على الدعاية، وكان مجرد شعار، لكنه ترك أثره في توعية الأفراد والشعوب، حتى صدر الإعلان العالمي لحقوق الإنسان عام 1948م، ثم الاتفاقية الدولية بشأن الحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، والاتفاقية الدولية بشأن الحقوق المدنية والسياسية عام 1966م، وظهرت منظمات حقوق الإنسان.

ومع غياب الوعي الإسلامي الشامل خلال القرنين الماضيين، وتخلف المسلمين، وإلغاء تطبيق الشريعة الإسلامية في معظم البلاد الإسلامية، وفرض الفكر الأجنبي، والغزو الثقافي والقوانين المستوردة، اختل وضع المواطن المسلم، وظهرت انتهاكات الحقوق، وارتفع على الأفق السؤال والاستفسار عن حقوق الإنسان في الإسلام، فنهض العلماء والدعاة والمصلحون لبيان تكريم الله للإنسان، وأن الشرع الحنيف جاء -أصلاً- من أجل الإنسان، وأن مقاصد الشريعة المقررة أساسًا هي المنطلق الرئيس لإنسانية الإنسان، وهي المرجعية الوحيدة لحقوق الإنسان، وهذا يستدعي العودة أولاً لحظيرة الدين، لينعم الإنسان بظلال الشريعة الوارفة، ويمارس عمليًا حقوق الإنسان، ويطبقها فعلاً وليس دعاية وشعارًا.

وهذا موضوع البحث في هذه الورقات المعدودة، لنذكّر بمقاصد الشريعة، وما تحتويه من حقوق، وما تتضمنه من التزام حقيقي بذلك، دون الوقوف وراء النصوص البراقة، والدعايات الخادعة، والمتاجرة بالمبادئ، والكيل بمكيالين، والتستر وراء منظمات حقوق الإنسان، لتسويق السموم والأهداف الاستعمارية الفكرية والثقافية والاقتصادية والسياسية، للتأكيد أن الله تعالى قرر حقوق الإنسان لخلقه، وبيّنها في شرعه، وجعلها واجبات دينية فرض أداءها على العباد، لتأخذ طريقها للتطبيق الصحيح، مع الثواب لفاعلها، والعقاب الديني والدنيوي لمن يتجاوزها أو ينتهكها.

ونسأل الله التوفيق والسداد، وعليه التكلان.

مفهوم المقاصد:

المقاصد لغة: جمع مَقْصَد، من قصد الشيء، وقصد له، وقصد إليه قصدًا، من باب ضرب، بمعنى طلبه، وأتى إليه، واكتنزه، وأثبته.. والقصد: هو طلب الشيء، أو إثبات الشيء، أو الاكتناز في الشيء، أو العدل فيه[1].

ومقاصد الشريعة في اصطلاح العلماء هي: الغايات والأهداف والنتائج والمعاني التي أتت بها الشريعة، وأثبتتها في الأحكام، وسعت إلى تحقيقها وإيجادها والوصول إليها في كل زمان ومكان[2].

تحديد مقاصد الشريعة:

إن الله تعالى خلق الإنسان على أحسن تقويم، وكرّم بني آدم غاية التكريم، وفضلهم على سائر المخلوقات، وسخر لهم ما في الأرض جميعًا وما في السموات وجعلهم الخلفاء في الأرض.

وإن الله تعالىلم يخلق الإنسان عبثًا، ولم يتركه سدى، وإنما أرسل له الرسل والأنبياء، وأنزل عليهم الكتب والشرائع، إلى أن ختم الله الرسل بسيدنا محمدصلى الله عليه وسلم: (( رَّسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيّينَ )) (الأحزاب:40)، وختم الكتب والشرائع بالقرآن العظيم وشريعة الإسلام، فأكمل به الدين : (( الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِى وَرَضِيتُ لَكُمُ الأسْلاَمَ دِيناً )) (المائدة:3).

وتهدف هذه الشريعة إلى تحقيق السعادة للإنسان في الدنيا لتحقيق خلافته في الأرض، فجاءت أحكامها لتأمين مصالحه، وهي جلب المنافع له، ودفع المضار عنه، فترشده إلى الخير، وتهديه إلى سواء السبيل، وتدله على البر، وتأخذ بيده إلى الهدي القويم، وتكشف له المصالح الحقيقية، ثم وضعت له الأحكام الشرعية لتكون سبيلاً ودليلاً لتحقيق هذه المقاصد والغايات، وأنزلت عليه الأصول والفروع لإيجاد هذه الأهداف، ثم لحفظها وصيانتها، ثم لتأمينها وضمانها وعدم الاعتداء عليها.

وحدد العلماء مقاصد الشريعة بأنها تحقيق مصالح الناس في الدنيا والآخرة، أو في العاجل والآجل، قال العز بن عبد السلام رحمه الله تعالى: «اعلم أن الله سبحانه لم يشرع حكمًا من أحكامه إلا لمصلحة عاجلة أو آجلة، أو عاجلة وآجلة، تفضلاً منه على عباده»، ثم قال: «وليس من آثار اللطف والرحمة واليسر والحكمة أن يكلف عباده المشاق بغير فائدة عاجلة ولا آجلة، لكنه دعاهم إلى كل ما يقربهم إليه»[3].. ومصالح الناس في الدنيا هي كل ما فيه نفعهم وفائدتهم وصلاحهم وسعادتهم وراحتهم، وكل ما يساعدهم على تجنب الأذى والضرر، ودفع الفساد، إن عاجلاً أو آجلاً.

وقد وردت الأحكام الشرعية لجلب المصالح للناس، ودفع المفاسد عنهم، وأن كل حكم شرعي إنما نزل لتأمين أحد المصالح، أو لدفع أحد المفاسد، أو لتحقيق الأمرين معًا.

وما من مصلحة في الدنيا والآخرة إلا وقد رعاها المشرع، وأوجد لها الأحكام التي تكفل إيجادها والحفاظ عليها.

وإن الشرع الحكيم لم يترك مفسدة في الدنيا والآخرة، في العاجل والآجل، إلا بينها للناس، وحذرهم منها، وأرشدهم إلى اجتنابها والبعد عنها، مع إيجاد البديل لها[4].

والدليل على ذلك الاستقراء الكامل للنصوص الشرعية من جهة، ولمصالح الناس من جهة ثانية، وأن الله لا يفعل الأشياء عبثًا في الخلق والإيجاد والتهذيب والتشريع، وأن النصوص الشرعية في العقائد والعبادات، والأخلاق والمعاملات، والعقود المالية، والسياسة الشرعية، والعقوبات، وغيرها، جاءت معللة بأنها لتحقيق المصالح ودفع المفاسد.

فالعقيدة بأصولها وفروعها جاءت لرعاية مصالح الإنسان في هدايته إلى الدين الحق، والإيمان الصحيح، مع تكريمه والسمو به عن مزالق الضلال والانحراف، وإنقاذه من العقائد الباطلة، والأهواء المختلفة، والشهوات الحيوانية، فجاءت أحكام العقيدة لترسيخ الإيمان بالله تعالى، واجتناب الطاغوت، ليسمو الإنسان بعقيدته وإيمانه إلى العليا، وينجو من الوقوع في شرك الوثنية، وتأليه المخلوقات من بقر وقرود، وشمس وقمر، ونجوم وشياطين، وإنس وجن، ويترفع عن الأوهام والسخافات والخيالات، والأمثلة على ذلك واضحة وصريحة وكثيرة، من التاريخ القديم والحديث، ومذكورة في النصوص الشرعية.

وفي مجال العبادات وردت نصوص كثيرة تبين أن الحكمة والغاية من العبادات إنما هي تحقيق مصالح الإنسان، وأن الله تعالى غني عن العبادة والطاعة، فلا تنفعه طاعة ولا تضره معصية، وأن العبادات تعود منافعها للإنسان في كل ركن من أركانها، أو فرع من فروعها، والنصوص الشرعية صريحة في ذلك وكثيرة.

وفي المعاملات بيّن الله تعالى الهدف والحكمة منها، وأنها لتحقيق مصالح الناس بجلب النفع والخير لهم، ودفع المفاسد والأضرار والمشاق عنهم، وإزالة الفساد والغش والحيف والظلم من العقود، لتقوم على المساواة والعدل بين الأطراف.

وتتجلى مصالح العباد في تحريم الخبائث والمنكرات لدفع الفساد والضرر عن الإنسان، وحمايته من كل أذى أو وهن.

وتظهر مصالح الإنسان بشكل قطعي في الدعوة إلى مكارم الأخلاق، وحسن التعامل، والإحسان إلى الإنسان، وتجنب الإساءة إليه ولو بالحركة والإشارة والكلمة واللسان، واليد والتصرفات، لتسود المودة بين الناس، ويكونوا كما صورهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: «مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى»[5]، وهذا يوجب بيان أهمية معرفة المقاصد.

أهمية معرفة المقاصد وفوائدها:

إن تحديد الهدف والمقصد لعمل ما، هو الباعث لأدائه، والمحرك لتحقيقه، والدافع لإنجازه والامتثال له، والموضح للغاية منه.

كما أن الهدف والمقصد يحدد الطريق السوي للوصول إليه، لاختصار الوقت، واختيار المنهج الأمثل له، حتى لا تتشعب الأهواء وتتبدد الجهود.. وإن معرفة مقاصد الشريعة في أحكامها وفروعها لها أهمية عظيمة وفوائد كثيرة، للمسلم عامة، وللباحث والعالم والفقيه والمجتهد خاصة، وتتجلى في الأمور التالية:

1- إن معرفة المقاصد تبين الإطار العام للشريعة، والتصور الكامل للإسلام، وتوضح الصورة الشاملة للتعاليم والأحكام، لتتكون النظرة الكلية الإجمالية للفروع، وبذلك يعرف الإنسان ما يدخل في الشريعة، وما يخرج منها.. فكل ما يحقق مصالح الناس في العاجل والآجل، في الدنيا والآخرة، فهو من الشريعة، ومطلوب من المسلم (فهو واجب عليه، وحق لغيره، وبالعكس).. وكل ما يؤدي إلى الفساد والضرر والمشقة والاضطراب فهو ليس من الشريعة، بل هو منهي عنه، فيحرم على المسلم فعله لأنه يضر بنفسه أو بغيره، ويجب على الآخرين الامتناع عنه رعاية لحق سائر الناس[6].

2- إن معرفة مقاصد الشريعة تبين الأهداف السامية التي ترمي إليها الشريعة في الأحكام، وتوضح الغايات الجليلة التي جاءت بها الرسل وأنزلت لها الكتب، فيزداد المؤمن إيمانًا إلى إيمانه، وقناعة في وجدانه، ومحبة لشريعته، وتمسكًا بدينه، وثباتًا على صراطه المستقيم، فيفخر برسوله، ويعتز بإسلامه، وخاصة إذا قارن ذلك مع بقية التشريعات والديانات والأنظمة الوضعية.

3- إن مقاصد الشريعة تعين في الدراسة المقارنة على ترجيح القول الذي يحقق المقاصد، ويتفق مع أهدافها في جلب المنافع ودفع المفاسد، مثل مراعاة جانب الفقراء في الزكاة، ورعاية جانب الصغار والأيتام والوقف في المعاملات، وهي المنارة والمشكاة التي تضئ للحكام في السياسة الشرعية، وقضاء المظالم، وفيما لا نص فيه.. كما تساعد المقاصد على الترجيح عند تعارض الأدلة الكلية والجزئية في الفروع والأحكام، مما يؤكد أن التعارض ظاهري بين الأدلة، ويحتاج إلى معرفة السبيل للتوفيق بينها، قال تعالى: (( أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْءانَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلَافاً كَثِيراً)) (النساء:82).

4- إن بيان مقاصد الشريعة يبرز هدف الدعوة الإسلامية التي ترمي إلى تحقيق مصالح الناس، ودفع المفاسد عنهم، وذلك يرشد إلى الوسائل والسبل التي تحقق السعادة في الدنيا، والفوز برضوان الله في الآخرة.

وإن مهمة الأنبياء والرسل كانت تهدف إلى تحقيق هذه المقاصد، وإن العلماء ورثة الأنبياء في الدعوة إلى الصلاح والإصلاح، وتسعى للخير والبر والفضيلة، وتحذر من الفساد والإثم والرزيلة والشر، لذلك كانت وظائف الأنبياء أنبل الأعمال وأشرف الأمور في تقرير حقوق الإنسان، وهي أسمى الغايات وأقدس المهمات، ومن سار على طريقهم لحق بهم، ونال أجرهم، ولذلك يحرص الدعاة والمصلحون إلى اقتفاء الرسل، والدعوة إلى التزام الشرع الحنيف لتحقيق السعادة لبني الإنسان، ومنع الاعتداء على حقوقه، أو تجاوز حدوده.

5- إن مقاصد الشريعة تنير الطريق في معرفة الأحكام الشرعية الكلية والجزئية من أدلتها الأصلية والفرعية المنصوص عليها، وتعين الباحث والمجتهد والفقيه إلى فهم النصوص الشرعية وتفسيرها بشكل صحيح عند تطبيقها على الوقائع، كما ترشد إلى الصواب في تحديد مدلولات الألفاظ الشرعية ومعانيها، لتعيين المعنى المقصود منها، لأن الألفاظ والعبارات قد تتعدد معانيها، وتختلف مدلولاتها، فتأتي المقاصد لتحديد المعنى المقصود منها.

6- إذا فقد النص على المسائل والوقائع الجديدة، رجع المجتهد والفقيه والقاضي والإمام إلى مقاصد الشريعة لاستنباط الأحكام بالاجتهاد والقياس والاستحسان، وسد الذرائع والاستصلاح والعرف، بما يتفق مع روح الدين، ومقاصد الشريعة وأحكامها الأساسية.

هذه الفوائد تحتم على الباحث والعالم والفقيه والمجتهد أن يضع مقاصد الشريعة نصب عينيه، لتضئ له الطريق، وتصحح له المسار، وتعينه على الوصول إلى الحق والعدل والصواب والسداد.

وقد لمس رجال التشريع هذه الأهمية والفوائد، ولجأت السلطات التشريعية في الدول المعاصرة إلى وضع المذكرة التفسيرية للقانون، أو للنظام، لتبين للناس المقصد العام له، والمقصد الخاص لكل مادة، ليستطيع القضاة والمحامون وشراح القانون من حسن فهم القانون وحسن تطبيقه وتنفيذه والقياس عليه، أو التوسع فيه، أو الحفاظ عليه، أو تطويره، بما يتفق مع روح التشريع والقصد الذي وضع من أجله..وتطلب معظم الأنظمة من القضاة أن يحكموا بمبادئ العدالة، وبما يتفق مع المبادئ العامة عندما يفقدون النص في النظام على أمر ما.

واتفق فقهاء الشريعة على أن تصرفات الإمام أو من ينوب عنه منوطة بالمصلحة، أي أن جميع تصرفات الحكام والمسؤولين مرتبطة بتحقيق مصالح الناس، فإن خرجت من المصلحة إلى المفسدة كانت باطلة، وتعرض أصحابها إلى المسؤولية في الدنيا والآخرة، ووضع الفقهاء القاعدة الفقهية المشهورة: «التصرف على الرعية منوط بالمصلحة»[7].

تقسيم المقاصد بحسب المصالح:

تبين مما سبق أن مقاصد الشريعة هي تحقيق مصالح الناس، ولكن المصالح ليست على درجة واحدة من حيث الأهمية والخطورة وحاجة الناس إليها، وإنما هي على مستويات مختلفة، ودرجات متعددة، فبعض المصالح ضروري وجوهري يتعلق بوجود الإنسان ومقومات حياته، وبعضها يأتي في الدرجة الثانية، ليكون وسيلة مكملة للمصالح الضرورية السابقة، وتساعد الإنسان على الاستفادة الحسنة من جوانب الحياة المختلفة في السلوك والمعاملات وتنظيم العلاقات، وبعض المصالح لا تتوقف عليها الحياة، ولا ترتبط بحاجيات الإنسان، وإنما تتطلبها مكارم الأخلاق والذوق الصحيح، والعقل السليم، لتأمين الرفاهية للناس، وتحقيق الكماليات لهم[8].

ومن هنا حصر العلماء مصالح الناس، وقسموها بحسب أهميتها وخطورتها وأثرها في الحياة وحاجة الناس إليها إلى ثلاثة أقسام، وأن مقاصد الشريعة جاءت لتحقيق هذه المصالح بأقسامها الثلاثة، وهي:

1- المصالح الضرورية:

وهي التي تقوم عليها حياة الناس الدينية والدنيوية، ويتوقف عليها وجودهم في الدنيا ونجاتهم في الآخرة، وإذا فقدت هذه المصالح الضرورية اختل نظام الحياة، وفسدت مصالح الناس، وعمّت فيهم الفوضى، وتعرض وجودهم للخطر والدمار والضياع والانهيار، وضاع النعيم في الآخرة، وحل العقاب.

وهذه المصالح الضرورية هي الأساس لحقوق الإنسان، وهي السند لها، والركيزة التي تعتمد عليها، والكوكب الذي تشع منه، سواء كانت حقوقًا عامة تنادي بها جميع الأمم والشعوب والدساتير والمواثيق العالمية، والقوانين والاتفاقات الدولية، وتسمى الحقوق الأساسية للإنسان، ومنها حق الحياة، وحق التدين، وحق الحرية، وحق المساواة، أم كانت حقوقًا فرعية وخاصة، وكلا النوعين هي واجبات على الآخرين يجب عليهم الالتزام بها، وحفظها لأصحابها، لأن كل حق يقابله واجب، والحق هو مصلحة مقررة شرعًا أو قانونًا، فالحق منفعة تثبت لإنسان على آخر، فالحق مصلحة قررها الشرع أو القانون، لينتفع بها صاحبها، ويتمتع بمزاياها، وبالتالي تكون واجبًا والتزامًا على آخر يؤديه، لتحقق الغاية منها [9].

- حصر المصالح الضرورية:

وتنحصر المصالح الضرورية للناس في نظر الإسلام في خمسة أشياء، وهي الدين، والنفس، والعقل، والنسل أو العرض أو النسب، والمال.

وجاءت الشريعة الغراء لحفظ هذه المصالح الضرورية، وذلك بتشريع الأحكام التي تحفظ الدين، وتحفظ النفس، وتحفظ العقل، وتحفظ النسل أو العرض أو النسب، وتحفظ المال[10].

واتفقت الشرائع السماوية على مراعاة هذه الحقوق الأساسية والمصالح الضرورية للناس، فنادت بها، وحرصت عليها، وعملت على حمايتها وحفظها.

قال حجة الإسلام الغزالي رحمه الله تعالى: «ومقصود الشرع من الخلق خمسة: وهو أن يحفظ عليهم دينهم، ونفسهم، وعقلهم، ونسلهم، ومالهم، فكل ما يتضمن حفظ هذه الأصول الخمسة فهو مصلحة، وكل ما يفوت هذه الأصول فهو مفسدة، ودفعها مصلحة» ثم قال: «وهذ الأصول الخمسة حفظها واقع في رتبة الضرورات، فهي أقوى المراتب في المصالح»[11].

ثم قال الغزالي: «وتحريم تفويت هذه الأمور الخمسة، والزجر عنها، يستحيل ألا تشتمل عليه ملة من الملل، وشريعة من الشرائع التي أريد بها إصلاح الخلق، ولذا لم تختلف الشرائع في تحريم الكفر، والقتل، والزنى، والسرقة، وشرب المسكر»[12].

2- المصالح الحاجية:

وهي الأمور التي يحتاجها الناس لتأمين شؤون الحياة بيسر وسهولة، وتدفع عنهم المشقة، وتخفف عنهم التكاليف، وتساعدهم على تحمل أعباء الحياة، وإذا فقدت هذه الأمور لا يختل نظام الحياة، ولا يتهدد وجود الناس، ولا ينتابهم الخطر والدمار والفوضى، ولكن يلحقهم الحرج والضيق والمشقة، ولذلك تأتي الأحكام التي تحقق هذه المصالح الحاجية للناس، لترفع عنهم العسر، وتيسر لهم سبل التعامل، وتساعدهم على صيانة مصالحهم الضرورية وتأديتها، والحفاظ عليها عن طريق الأحكام الحاجية، كالرخص في العبادات، وأحكام المعاملات[13]، كما سيأتي بيانها.

3- المصالح التحسينية:

وهي الأمور التي تتطلبها المروءة والآداب والذوق العام، ويحتاج إليها الناس لتسيير شؤون الحياة على أحسن وجه، وأكمل أسلوب، وأقوم نهج، وإذا فقدت هذه الأمور فلا تختل شؤون الحياة، ولا ينتاب الناس الحرج والمشقة، ولكن يحسون بالضجر والخجل، وتتقزز نفوسهم، وتستنكر عقولهم، وتأنف فطرتهم من فقدها.

وهذه الأمور التحسينية ترجع إلى ما تقتضيه الأخلاق الفاضلة، والأذواق الرفيعة، وتكمل المصالح الضرورية، والمصالح الحاجية على أرفع مستوى وأحسن حال[14].

الوسائل الشرعية لتحقيق المقاصد:

جاءت الشريعة الإسلامية لتأمين المصالح جميعها، بأن نصت على كل منها، وبينت أهميتها، وخطورتها ومكانتها، في تحقيق السعادة للإنسان، ثم شرعت الأحكام لتحقيقها.

ويدل الاستقراء والبحث والدراسة والتأمل بأن الشرع الحنيف جاء لتحقيق مصالح الناس الضرورية والحاجية والتحسينية، وأن الأحكام الشرعية كلها إنما شرعت لتحقيق هذه المصالح، وأنه ما من حكم شرعي إلا قصد به تحقيق أحد هذه المصالح أو أكثر، بحيث يكفل التشريع جميع المصالح بأقسامها الثلاثة.

وكان منهج التشريع الإسلامي لرعاية هذه المصالح باتباع طريقين أساسيين: الأول: تشريع الأحكام التي تؤمن تكوين هذه المصالح وتوفر وجودها.. الثاني: تشريع الأحكام التي تحفظ هذه المصالح وترعاها وتصونها، وتمنع الاعتداء عليها أو الإخلال بها، وتؤمن الضمان والتعويض عنها عند إتلافها أو الاعتداء عليها[15]، وبذلك تصان حقوق الإنسان، وتحفظ، وينعم الناس بها، ويتمتعون بإقرارها عمليًا في الحياة، وهو ما نريد تفصيله.

أولاً: حفظ الدين، وحق التدين:

الدين الحق مصلحة ضرورية للناس، لأنه ينظم علاقة الإنسان بربه، وعلاقة الإنسان بنفسه، وعلاقة الإنسان بأخيه الإنسان ومجتمعه، والدين الحق يعطي التصور الرشيد عن الخالق، والكون، والحياة، والإنسان، وهو مصدر الحق والعدل، والاستقامة، والرشاد.

والدين الذي نقصده هو الإسلام بمعناه الكامل، الذي يعني الاستسلام لله سبحانه وتعالى، ودعا له الأنبياء جميعًا، وخصه ربنا بقوله: (( إِنَّ الدّينَ عِندَ اللَّهِ الإِسْلَامُ)) (آل عمران:19)، وقوله تعالى : (( وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإسْلَامِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِى الاْخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ )) (آل عمران:85).

وقد شرع الإسلام أحكام الدين، وتكفل الله تعالى بيانه للناس منذ لحظة وجودهم على الأرض، فقال تعالى: (( وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإسْلَامِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِى الاْخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ )) (البقرة:38)، وأناط الله تعالى التكليف والمسؤولية بعد بيان الدين، فقال سبحانه وتعالى: (( وَمَا كُنَّا مُعَذّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً)) (الإسراء:15).

فبين الشرع أحكام العقيدة والإيمان كاملة في آيات كثيرة، وشرع الإسلام أركان الدين الخمسة، وبيّن أنواع العبادات وكيفيتها، لتنمية الدين في النفوس، وترسيخه في القلوب، وإيجاده في الحياة والمجتمع، ونشره في أرجاء المعمورة، وأوجب الدعوة إليه بالحكمة والموعظة الحسنة، لإخراج الناس من الظلمات إلى النور.

ومن أجل حفظ الدين ورعايته، وضمانه سليمًا، وعدم الاعتداء عليه، ومنع الفتنة فيه، شرع الإسلام الجهاد في سبيل الله، فقال تعالى: (( وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدّينُ للَّهِ)) (البقرة:193)، وقال سبحانه وتعالى: ((وَجَاهِدُوا فِى اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ))(الحج:78)، وقال تعالى: ((ياأَيُّهَا النَّبِىُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ )) (التوبة:73).

وشرع الإسلام عقوبة المرتد، لأن ردته عبث في الدين والمقدسات، قال تعالى: (( وَمَن يَرْتَدِدْ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُوْلئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالاْخِرَةِ وَأُوْلئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ)) (البقرة:217)، واتفق الفقهاء على وجوب قتل المرتد لقوله صلى الله عليه وسلم: «من بدل دينه فاقتلوه»[16]، وقوله عليه الصلاة والسلام: «لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث: الثيب الزاني، والنفس بالنفس، والتارك لدينه المفارق للجماعة»[17].

وشرع الإسلام -لحماية الدين- عقوبة المبتدع، والمنحرف عن دينه، وطلب الأخذ على يد تارك الصلاة، ومانع الزكاة، والمفطر في رمضان، والمنكر لما عُلِم من الدين بالضرورة، وغير ذلك، لإبعاد الناس عن الخبط في العقائد، والعزوف عن منابع الإيمان، ولحفظهم عن مفاسد الشرك، ولإنقاذهم من وساوس الشياطين، وعدم الوقوع في الانحراف والضلال، وحتى لا يسفَّ العقل في تأليه الطواغيت وعبادتها، فينقذ البشرية من الاعتقادات الباطلة، والعبادات المزيفة، والترانيم السخيفة[18].

ولم يقتصر الإسلام على أحكام إيجاد الدين وحفظه، بل شرع الأحكام الحاجية لصيانة الدين، وبقائه على أحسن صورة، وأجملها، فشرع الرخص في العبادات والعقيدة لرفع الحرج والمشقة عند الناس للتخفيف عنهم، فأجاز النطق بالكفر عند الإكراه، وأباح الفطر في رمضان للأعذار، وشرع قصر الصلاة وجمعها للمسافر والحاج، وأجاز للعاجز صلاة الفرض قاعدًا أو مستلقيًا على جنب، وأباح التيمم والمسح على الجبيرة، والمسح على الخفين.

ثم شرع الإسلام الأحكام التحسينية للناس للحفاظ على الدين، فشرع الله في العبادات أحكامًا متنوعة، لتكون العبادة على أقوم السبل، كالطهارة وستر العورة، وأخذ الزينة عند كل مسجد، والتطوع بنوافل العبادات، وإقامة المساجد، والنداء للصلاة بالآذان، وهو شعار الإسلام لإعلان التوحيد الخالص.. وشرع صلاة الجماعة، وترتيب الصفوف للصلاة، وخطبة الجمعة، والعيدين، لتعليم الناس دينهم ودنياهم.. وفي الجهاد حرّم قتل النساء والصبيان والرهبان، ومنع قطع الشجر وإتلاف المزروعات، ونهى عن الغدر والتمثيل بالقتلى، وطلب الإحسان في معاملة الأسرى، وفرض التبليغ قبل الحرب، ومنع الإكراه في الدين.. وهذا يقودنا للتفصيل في أهم حقوق الإنسان الأساسية، وهو حق التدين.

حق التدين:

يعتبر حق التدين، أو حرية الاعتقاد، من أهم حقوق الإنسان بعد حق الحياة، إن لم يسبقه معنويًا ويفوق عليه؛ لأن الدين أحد الضروريات الخمس، وهو أهم الضروريات، ويقدم على حق الحياة، لذلك شُرع الجهاد في سبيل الدين، وشرع الجهاد بالنفس والاستشهاد في سبيل الدعوة والحفاظ على الدين، لضمان حرية العقيدة، وحق التدين، ليحيا الإنسان الحياة الكريمة العزيزة، منسجمًا مع معتقده ودينه، وخاصة إذا كان الدين هو الحق الثابت، المنزل من الله تعالى، المحفوظ من التحريف والتبديل، المنسجم مع الفطرة والواقع، والتصور الصحيح عن الكون والحياة والإنسان.

وحق التدين مرتبط بالعقل والفكر، وحرية الإرادة والاختيار والقناعة الشخصية للإنسان، والعقيدة تنبع من القلب، ولا سلطان لأحد عليها إلا لله تعالى.

لذلك نص القرآن الكريم على حرية الاعتقاد وحق التدين صراحة، مع التحذير من الضلال والفساد، فقال تعالى: ((لا إِكْرَاهَ فِى الدّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيّ)) (البقرة: 256) ، وقال تعالى: (( وَلَوْ شَاء رَبُّكَ لآمَنَ مَن فِى الاْرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ )) (يونس:99).. وأرشد القرآن إلى الدين الحق، وهو دين الفطرة، فقال تعالى: ((فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِى فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لاَ تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدّينُ الْقَيّمُ )) (الروم:30).

ثم هدد القرآن من أعرض عن الإيمان الصحيح بالله تعالى، وبشريعته الغراء، فقال تعالى: (( وَقُلِ الْحَقُّ مِن رَّبّكُمْ فَمَن شَاء فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاء فَلْيَكْفُرْ)) (الكهف:29)، لأن الإنسان يولد أصلاً على الفطرة، حتى يبدلها بفعل إنساني، أو إيحاء شيطاني، فقال صلى الله عليه وسلم: «كل مولود يولد على الفطرة، فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه»[19].

التسامح الديني:

إن الإسلام ضمن حرية الاعتقاد للمسلمين أولاً، ومنع الإكراه على الدين ثانيًا، وقرر التسامح الديني مع سائر الأديان، مما لا يعرف التاريخ له مثيلاً، ويظهر ذلك في المبادئ التالية:

1- حرية الاعتقاد لغير المسلم:

إن الإسلام لا يلزم الإنسان البالغ العاقل على الدخول في الإسلام، مع القناعة واليقين أن الإسلام هو الدين الحق المبين، وأن عقيدته هي الصواب والصراط المستقيم، وأنها المتفقة مع العقل، ومع ذلك يترك للإنسان البالغ حرية الاعتقاد، واختيار الدين الذي يريده، على أن يتحمل نتيجة هذ الاختيار، لما ورد في الآية السابقة: ((لا إِكْرَاهَ فِى الدّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِن بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لاَ انفِصَامَ لَهَا))(البقرة:256).

وأكد القرآن هذه المعاني في عدة آيات، فقال الله تعالى: ((وَلَوْ شَاء رَبُّكَ لآمَنَ مَن فِى الاْرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ)) (يونس:99)، وقال تعالى: ((لَّيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَاكِنَّ اللَّهَ يَهْدِى مَن يَشَاء)) (البقرة:272). فالهداية من الله تعالى.. والرسول صلى الله عليه وسلم والدعاة والعلماء من بعده، مجرد مبلغين وناصحين ومذكرين، قال تعالى: ((فَذَكّرْ إِنَّمَا أَنتَ مُذَكّرٌ (21) لَّسْتَ عَلَيْهِم بِمُسَيْطِرٍ)) (الغاشية:21-22).

وبالتالي فإن الإسلام يترك للإنسان حريته واختياره في العقيدة؛ لأن الإيمان أساسه إقرار القلب وتسليمه، وليس مجرد كلمة تلفظ باللسان، أو طقوس وحركات تؤدي بالأبدان. ولكن القرآن دعا إلى إعمال العقل، وإجهاد الفكر لمعرفة الحق، والوصول إلى الخالق الواحد الأحد، وحث لذلك على معرفة الحقائق، واكتشاف أسرار الكون، وخزائن الأرض، مما يجعل التفكير ليس مجرد حق، بل هو فريضة إسلامية وعقلية.

2- احترام بيوت العبادة:

وهذا فرع من حرية الاعتقاد واحترام للعقيدة التي يختارها الإنسان، لذلك يترك الإسلام لغير المسلم حرية ممارسة العبادات التي تتفق مع عقيدته، ثم يأمر بالمحافظة على بيوت العبادة التي يمارس فيها شعائره، ويحرم على المسلمين الاعتداء على بيوت العبادة أو هدمها أو تخريبها، أو الاعتداء على القائمين فيها، سواء في حالتي السلم والحرب.. والوثائق التاريخية كثيرة في وصية الخلفاء لقادة الجيوش، وفي المعاهدات التي أبرمت في التاريخ الإسلامي، وعند الفتوحات ومنها الوثيقة العمرية مع أهل بيت المقدس، والدليل المادي الملموس شاهد على ذلك ببقاء أماكن العبادة التاريخية القديمة لليهود والنصارى وغيرهم في معظم ديار الإسلام والمسلمين.

3- المعاملة الإنسانية من المسلم لغير المسلمين:

يطلب الإسلام من المسلم أن يعامل الناس جميعًا بالأخلاق الفاضلة، والمعاملة الحسنة، وحسن المعاشرة، ورعاية الجوار، والمشاركة بالمشاعر الإنسانية في البر والرحمة والإحسان، وهي أمور يومية وشخصية وحساسة وذات تأثير نفسي كبير، بدءًا من معاملة الأبوين المشركين، إلى الإحسان للأسير، إلى الإنفاق على الأقارب وصلة الرحم والجيران غير المسلمين.

وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يزور أهل الكتاب، ويكرمهم، ويحسن إليهم، ويعود مرضاهم، وسار المسلمون على سنته ونهجه طوال التاريخ.. وكان هذ السلوك القويم أحسن وسيلة للدعوة للإسلام، والترغيب فيه، والتحبيب بأحكامه، مما دفع الملايين إلى اعتناقه.

وإن منهج الإسلام في المعاملة الإنسانية لا يفرق بين الناس في الدين والعقيدة، لذلك أوجب إقامة العدل بين جميع الناس، ومنع الظلم عامة، وحمى الدماء والأبدان والأموال والأعراض للمسلمين ولغير المسلمين، وأمر بالإنصاف ولو مع العداوة واختلاف الدين، قال تعالى: (( يَأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ للَّهِ شُهَدَاء بِالْقِسْطِ وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَانُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُواْ اعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُواْ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ )) (المائدة:8).

وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من ظلم مُعاهِدًا، أو انتقصه حقًا، أو كلفه فوق طاقته، أو أخذ منه شيئًا بغير طيب نفس منه، فأنا حجيجه يوم القيامة»[20]، وروى الخطيب -بإسناد حسن- أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: «من آذى ذميًا فأنا خصمه، ومن كنت خصمه خصمته يوم القيامة»، وفي رواية للطبراني -في الأوسط- بإسناد حسن، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: «من آذى ذميًا فقد آذاني، ومن آذاني فقد آذى الله»[21].

وكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يسأل القادمين من الأقاليم عن حال أهل الذمة، كما يسأل عن المسلمين والولاة والقضاة، وكان علي بن أبي طالب رضي الله عنه، يقول: «إنما بذلوا الجزية لتكون أموالهم كأموالنا ودماؤهم كدمائنا»، وسار على هذا المنهج الخلفاء والولاة.

وكانت هذه المعاملة الأدبية الإنسانية مع غير المسلمين سببًا رئيسًا في ترغيب الناس في الإسلام، ودخولهم في العقيدة، ومشاركتهم في الدين، وانضوائهم تحت راية الإسلام.

4- المعاملة المالية بين المسلمين وغيرهم:

قرر الشرع الإسلامي أن غير المسلم له ما للمسلمين، وعليه ما عليهم، وبالتالي أجاز الإسلام التعامل الكامل مع غير المسلمين، وقرر لهم الحقوق والواجبات نفسها التي وضعها للمسلمين، وكفلها لجميع المواطنين في دار الإسلام.

ونتيجة لذلك عاش غير المسلمين في ظلال الخلافة الإسلامية، وفي أحضان المجتمع الإسلامي طوال الأحقاب والقرون، وكانوا ينعمون بالأمن والأمان، والعدل والإحسان، والحرية الدينية، والمشاركة في شؤون الحياة المالية والعلمية والوظائف كما ينعم المسلمون، وأنه إذا وقع ظلم أو اعتداء في بعض فترات التاريخ فإنه يقع مثله على المسلمين، وقد يكون أشد، كما حصل مع اليهود والمسلمين في الأندلس، والمسلمين والنصارى في فلسطين المحتلة، مع التركيز على المعاملة المتميزة لأهل الكتاب في بلاد المسلمين.

وعرف التسامح الإسلامي في التاريخ بصورة مشرقة لم تعرف البشرية له مثيلاً ولا نظيرًا في القديم والحديث، وشهادات المستشرقين والمؤرخين تؤكد ذلك، ويحسن مقارنتها بما فعل الرومان قبل الإسلام مع المخالفين لهم في العقيدة، وما فعله الأسبان في الأندلس، وما ارتكبه الصليبيون في القدس وبلاد الشام، وما يزال يفعله في كثير من بلاد المسلمين اليوم، مما لا مجال للتوسع فيه.

حكم الارتداد عن الإسلام:

وهنا تثار مسألة يظهر فيها شيء من التناقض والتعارض بين حرية التدين والاعتقاد وتحريم الردة عن الإسلام، لما أجمع عليه الفقهاء من اعتبار الردة جريمة كبرى، تستوجب العقاب الشديد في الدنيا، والعقاب الوبيل في الآخرة، لقوله تعالى: (( مَن يَرْتَدِدْ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُوْلئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالاْخِرَةِ وَأُوْلئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ)) (البقرة:217)، وقوله صلى الله عليه وسلم: «من بدل دينه فاقتلوه»[22].

والحقيقة أن هذا الحكم الشديد للمرتد هو فرع عن حرية التدين والاعتقاد، لأن الإسلام لا يكره أحدًا على اعتناقه والدخول فيه، إلا إذا حصل عنده القناعة التامة، والرضى الكامل، والإقرار بأن الإسلام حق، فيعلن إسلامه، وينضوي تحت لوائه.. واتفق العلماء على أنه لا يقبل التقليد في العقيدة والإيمان، ولا بد من موافقة العقل والتفكير على ذلك، فإن ارتد بعد ذلك فهو إما أنه دخل الإسلام نفاقاً ورياء، ولمصلحة خسيسة، وبقي الكفر في قلبه، فهذا يتلاعب في العقيدة والمقدسات ونظام الأمة، فيستحق القتل لهذه الجريمة؛ وإما أنه خرج من الإسلام لوسوسة شياطين الإنس والجن، وإغوائهم وإغرائهم، فهنا يستتاب، وتكشف له الحقائق، ويناقش في شبهاته، حتى لا يبقى له حجة، وتزال عنه الأوهام، فإن أصر على الباطل فإنه يقتل لجريمة العبث بالمقدسات والعقائد والأديان، وخروجه عن النظام العام، وخيانته للأمة التي ترعاه، والدولة التي تحميه، فقتل المرتد هو بحد ذاته حماية لحق التدين حتى لا يصبح هذا الحق ألعوبة وسخرية ومهانًا ورخيصًا كسقط المتاع.

لذلك انفرد الإعلان الإسلامي لحقوق الإنسان في هذه النقطة المجمع عليها عن غيره، ونص أنه يتعين على المسلم -بعد أن اهتدى إلى الإسلام بالإيمان الصحيح المقنع بوجود الله تعالى، والاعتراف بوحدانيته، وتصديق نبيه- يتعين عليه الثبات عليه، ونصت المادة العاشرة منه على أنه «لما كان على الإنسان أن يتبع دين الفطرة، فإنه لا يجوز ممارسة أي لون من الإكراه عليه، كما لا يجوز استغلال فقره أو ضعفه أو جهله لتغيير دينه إلى دين آخر، أو إلى الإلحاد».

أما في المواثيق الدولية وإعلانات حقوق الإنسان فإن حق التدين، وحرية الاعتقاد، ليس لها تاريخ بعيد في الغرب وأوروبا خاصة، وسائر أنحاء العالم، وإنما كان الإكراه على الدين هو السائد، والتعصب الديني هو السياسة العامة حتى قامت الثورة الفرنسية وأعلنت حرية التدين.

وجاء الإعلان العالمي لحقوق الإنسان فنص على ذلك بتواضع واستحياء، ولم يخصص لذلك مادة مستقلة، وإنما جاء عرضًا ضمن المادة (81) التي تنص «لكل شخص الحق في حرية التفكير والضمير والدين، ويشمل هذا الحق حرية تغيير ديانته أو عقيدته، وحرية الإعراب عنهما بالتعليم والممارسة وإقامة الشعائر ومراعاتها، سواء أن ذلك سرًا أم مع الجماعة».

كما نشير إلى أن الجهاد لم يهدف إلى إكراه أحد على الإسلام، وإنما كان منصبًا على تبليغ الدعوة، وإزالة حكم الطواغيت، وإخراج الناس من عبادة العباد إلي عبادة الله، ومن جَوْر الحكام إلى عدل الإسلام، ولرفع العقبات أمام الدعوة، لتنفيذ حرية العقيدة والتدين، وإزالة الظلم، حتى يتمكن الناس من التفكير في العقيدة، واختيار الدين الحق، والإيمان الصحيح، قال خالد بن الوليد رضي الله عنه: «إنا لا نكره أحدًا على الإسلام، ولو كان الكافر يُقَاتَل حتى يسلم لكان هذا أعظم الإكراه على الدين».

ثانيًا: حفظ النفس وحق الحياة:

المراد بها النفس الإنسانية، وهي ذات الإنسان، وهي مقصودة بذاتها في الإيجاد والتكوين، وفي الحفظ والرعاية.

وشرع الإسلام لإيجادها وتكوينها: الزواج للتوالد والتناسل لضمان البقاء الإنساني، وتأمين الوجود البشري من أطهر الطرق، وأحسن الوسائل، ولاستمرار النوع الإنساني السليم على أكمل وجه وأفضله وأحسنه، ثم حرم الزنى وبقية أنواع الأنكحة الفاسدة الباطلة التي كانت في الجاهلية، وتسود في الظلام، ومنع المومسات والخوادن، واستئجار الرجل لنسله، وتعدد الرجال.

وشرع الإسلام لحفظ النفس وحمايتها، وعدم الاعتداء عليها، وجوب تناول الطعام والشراب واللباس والمسكن، وأوجب القصاص والدية والكفارة، وحرم الإجهاض والوأد.

ثم شرع الإسلام الأحكام الحاجية في إيجاد النفس وحمايتها، فطلب رعاية الحمل والجنين، ومنح الحامل والمرضع رخصًا للتخفيف عنهما ورعاية وضعهما، ثم وضع الأحكام للأولاد بدءًا من الولادة في التسمية والحضانة والتربية والتأديب، والغذاء الحلال، والتعليم حتى البلوغ.

كما شرع الإسلام الطلاق، كدواء لأمراض الزوجية المستعصية، وهو أبغض الحلال إلى الله، وجعل الدية على العاقلة في القتل الخطأ، تخفيفًا على القاتل، وأن الحدود تدرأ بالشبهات، ورغب ولي القتيل بالعفو عن القصاص والإحسان إلى الجاني.

وفي سبيل حماية النفس، حرم الإسلام الانتحار، لأنه اعتداء على النفس الإنسانية، وشرع القصاص في النفس والأعضاء والجروح لحماية النفس من جهة، وإبقائها على أحسن صورة خلقها الله تعالى، ونص القرآن الكريم على الحكمة من القصاص، فقال تعالى: ((وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حياةٌ يأُولِي الالْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ)) (البقرة:179).

وأثنى الله تعالى على المتقين الذين يعفون، ثم يحسنون، فقال تعالى: (( الَّذِينَ يُنفِقُونَ فِى السَّرَّاء وَالضَّرَّاء وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ)) (آل عمران:134).

وشرع الله الأحكام الحاجية والتحسينية لحفظ النفس، والحفاظ الكامل على الذات الإنسانية، فشرع الكسب للرزق الحلال الطيب، وأباح الطيبات من المطعومات والثمار، واهتم برعاية الجسم رعاية كاملة، فدعا إلى النظافة والطهارة، وندب إلى الرياضة والمبارزة، واعتبر الجسم السليم والقوة الجسدية ميزة في الأشخاص، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف، وفي كلٍ خير، احرص على ما ينفعك، واستعن بالله ولا تعجز، وإن أصابك شيء، فلا تقل: لو أني فعلت كذا لكان كذا، ولكن قل: ما قدر الله وما شاء فعل، فإن لو تفتح عمل الشيطان»[23]، وفي الحديث علاج لأمراض النفس، لمنع التردد والقلق والاضطراب.

ونلاحظ أن الحديث جمع بين القوة الجسدية والقوة النفسية والمعنوية، ثم ربط الأمرين بالإيمان بالله تعالى، وبالتسليم بالقضاء والقدر.

وطلب الإسلام البعد عن كل ما فيه هلاك محقق للجسم، أو خطر محدق، أو ضرر منتظر، وحرم كل ما يضر بالجسم، أو يوهنه، أو يضعفه، واتخذ جميع الوسائل لحفظ الحياة، وبذل الطاقة في صيانتها وسلامتها، والعناية بكمال الصفات، وكمال البدن، وحرم لحم الخنزير والميتة والدم، لضررها بالجسم وفساد تركيبها، وحذّر من الأمراض، وخاصة المعدية، وشرع التداوي، وأباح الزينة، وطلب الاعتدال في الطعام والإنفاق والشراب، وغيرها من الطيبات، وأنكر الامتناع عن الطعام زهدًا وتقشفًا، ونهى عن التبتل في العبادة، لأنه يضني الجسم، وحرم صوم الوصال، ومنع صيام الدهر، وجعل التكليف بقدر الاستطاعة، وفتح أبواب الرخص في العبادة والأحكام خشية العنت والمشقة، وصرح الفقهاء بقاعدة «صحة الأبدان مقدمة على صحة الأديان»، وأقام الإسلام منهجًا سديدًا لتنظيم الغرائز المختلفة والميول المتباينة، والعواطف المتعددة، وحرص على التوازن بينها، دون أن تطغى غريزة على أخرى، فيقع الإنسان في المهالك، وينتابه الشذوذ، أو تتحكم فيه الأهواء والشهوات، وتصرفه عن الجوانب العقلية والنفسية والروحية، فيختل نظام الإنسان والحياة.

حق الحياة:

يعتبر حق الحياة أول الحقوق الأساسية وأهمها بين حقوق الإنسان، وهو الحق الأول للإنسان، وبعده تبدأ سائر الحقوق، وعند وجوده تطبق بقية لحقوق، وعند انتهائه تنعدم الحقوق.

وحق الحياة هو حق للإنسان في الظاهر، ولكنه في الحقيقة منحة من الله تعالى الخالق البارئ، وليس للإنسان فضل في إيجاده، وكل اعتداء عليه يعتبر جريمة في نظر الإسلام[24].

ولكن هذا الحق اعتراه الخلل والخطر في أحقاب التاريخ، فكانت بعض الشرائع تجيز قتل الأرقاء، ويتولى – أحيانًا - رئيس العائلة أو القبيلة أو الملك والسلطان حق الحياة والموت على الأفراد، وكان الأب - في الجاهلية- يحق له وأد البنات، ولا يزال هذا الخطر الداهم يهدد الإنسان حتى في الوقت الحاضر، وكثيرًا ما يقتل الأبرياء جورًا وظلمًا وعدوانًا لأوهى الحجج، وأسخف المسوغات التي لا يقرها العقل والشرع، وكثيرًا ما تكون حياة الإنسان محلاً للتجارب عند صنع الأدوية وأدوات التدمير الشامل.

ثم جاءت المواثيق المعاصرة تؤكد على حق الحياة، فنص الإعلان العالمي لحقوق الإنسان على ذلك، فقال: «لكل فرد الحق في الحياة والحرية وسلامة شخصه» (المادة/3)، ونصت الاتفاقية الدولية لحقوق الإنسان المدنية والسياسية، أنه «لكل إنسان الحق الطبيعي في الحياة، ويحمي القانون هذا الحق، ولا يجوز حرمان أي فرد من حياته بشكل تعسفي» (م/6ف1)، ونص الإعلان الإسلامي لحقوق الإنسان على هذا الحق بصيغة إسلامية، فقال: «الحياة هبة الله، وهي مكفولة لكل إنسان، وعلى الأفراد والمجتمعات والدول حماية هذا الحق من كل اعتداء عليه، ولا يجوز إزهاق روح دون مقتضى شرعي» (م/2ف).

فحق الحياة حق مقدس ومحترم في نظر الشريعة الإسلامية، ويجب حفظه ورعايته وعدم الاعتداء عليه، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «كل المسلم على المسلم حرام: دمه وماله وعرضه»[25]، وجاء في خطبة الوداع: «إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم حرام عليكم كحرمة يومكم هذا، في شهركم هذا، في بلدكم هذا»[26].

وحق الحياة مكفول في الشريعة لكل إنسان حتى للجنين.. ويجب على سائر الأفراد أولاً، والمجتمع ثانيًا، والدولة ثالثًا، حماية هذا الحق من كل اعتداء، مع وجوب تأمين الوسائل اللازمة لضمانه، من الغذاء والطعام والدواء والأمن، وعدم الانحراف. وينبني على ذلك عدة أحكام شرعية نذكرها باختصار شديد:

1- تحريم قتل الإنسان: إلا لأسباب محددة، لأن حق الحياة مصون ومقدس بالنصوص القاطعة والدامغة، لما ورد في الحديثين السابقين ، ولقوله تعالى: (( وَلاَ تَقْتُلُواْ النَّفْسَ الَّتِى حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَق)) (الأنعام:151)، وقرر القرآن الكريم العقوبة المناسبة للقاتل، وهو القصاص، مع الإشارة إلى حكمته من ذلك، فقال الله سبحانه وتعالى: ((وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حياةٌ يأُولِي الالْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ)) (البقرة:179)، وقال تعالى: (( يأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى)) (البقرة:178)، فإن وقع القتل خطأ فيجب الدية تعويضًا للمجني عليه وورثته، مع الكفارة على الجاني[27].

2- تحريم الانتحار: لأن الحياة ليست في الحقيقة ملكاً لصاحبها، بل هي هبة من الله تعالى، والروح أمانة في يد صاحبها، فلا يحل له الاعتداء عليها، ولذلك اعتبر الإسلام الانتحار جريمة شنيعة، وأن لصاحبه أشد الإثم والعقاب في الآخرة، لما روى الشافعي رحمه الله، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: «من قتل نفسه بشيء من الدنيا عُذّب به يوم القيامة»[28].

3- تحريم الإذن بالقتل: وهذا فرع عن الأمر السابق، ويثبت الإثم للآذن وللمأذون له إن نفذ، لأن حق الحياة لا يجوز التصرف فيه إلا لله تعالى المحيي المميت.

4- تحريم المبارزة: وهي الاقتتال بين شخصين لإثبات حق، أو لدفع العار والإهانة، لقوله صلى الله عليه وسلم: «إذا التقى المسلمان بسيفيهما فالقاتل والمقتول في النار، قالوا: يا رسول الله، ما بال المقتول؟ قال: كان حريصًا على قتل صاحبه»[29].

5- تحريم الإجهاض: وهو قتل الجنين في الرحم، فإن حصل عمدًا، وباعتداء، وجب فيه الغُرة، وهي نصف عشر الدية، وإن نزل حيًا ثم مات فتجب فيه الدية كاملة.

6- إباحة المحظورات للحفاظ على الحياة: وذلك باتفاق الفقهاء للقاعدة: «الضرورات تبيح المحظورات».

7- حرمة إفناء النوع البشري: وذلك عندما يستعر القتال بين قبيلتين أو شعبين، أو تكتل دولي ضد آخر، أو ضد شعب أو أمة، ولذلك حرص الإعلان الإسلامي لحقوق الإنسان على التحذير من هذا الوباء، وخاصة في عصرنا الحاضر الذي تطورت فيه الأسلحة الفتاكة والمدمرة، كالقنابل الذرية أو النووية أو الجرثومية أو الكيميائية أو المشعة، وغيرها من أسلحة الدمار الشامل والفتك الإجرامي الذي يصيب الأبرياء والأطفال والشيوخ حتى أثناء الحرب.

ومن هذا المنطلق حرم جمهور العلماء فكرة تحديد النسل، والقضاء على الذرية، ولم يسمحوا إلا في صور محددة لتنظيمه وترشيده.

ويلحق بحق الحياة وجوب المحافظة على الكرامة الإنسانية، لأن الإنسان جسد فيه الحياة، وروح تتسامى في العلياء، وعقل يقدر الأشياء، فلا يقتصر حق الحياة على الجسد مع المهانة والمذلة، والله سبحانه كرّم بني آدم، كما سبق، وخلقه في أحسن تقويم.. كما يتصل بحق الحياة احترام الإنسان الميت، فيكرم بالغسل والتكفين والصلاة عليه ودفنه، ويحرم الجلوس على القبر، ونبشه، مع وجوب وفاء ذمة الميت قبل توزيع التركة[30].

ثالثاً: حفظ العقل، وحق التفكير والحرية:

العقل أسمى شيء في الإنسان، وأبرز ميزة وصفة تميزه عن بقية الحيوان.. وهو أعظم منحة من رب العالمين للإنسان، ليرشده إلى الخير، ويبعده عن الشر، ويكون معه مرشدًا ومعينًا.

والعقل هو مناط التكريم والتفضيل للإنسان، قال القرطبي رحمه الله: «وإنما التكريم والتفضيل بالعقل»، وقال: «والصحيح الذي يعول عليه أن التفضيل إنما كان بالعقل الذي هو عمدة التكيف، وبه يعرف الله، ويفهم كلامه»[31].

وإن وجود العقل لا دخل للإنسان فيه، وإنما هو مجرد جزء من إيجاد النفس، وذلك منحة وهبة من الله الخالق البارئ، وليس للعقل أحكام خاصة به بالذات، وإنما أحكامه أحكام النفس والجسم عامة، وربط الله تعالى به التكليف، مع الصلة الوثيقة بين النفس والعقل، أو الجسد والعقل والروح.

ولكن الحفاظ على العقل يختلف عن الحفاظ على النفس، ويختص بوسائل خاصة، فشرع الإسلام أحكامًا للحفاظ على العقل، مع أحكام الحفاظ على النفس، فدعا الإسلام إلى الصحة الكاملة في الجسم، لتأمين العقل الكامل، فالعقل السليم في الجسم السليم، وحرّم الإسلام الخمر وجميع المسكرات التي تضر سائر الجسم، ثم تزيل العقل خاصة، وتلغي وجوده، وتؤثر عليه.

وشرع الإسلام حد الخمر لمن يتناول هذه المشروبات الكحولية النجسة الضارة، لأن الحفاظ على العقل يمثل مصلحة ضرورية للإنسان، وإلا فقد أعز ما يملك[32].

ومن الوسائل الحاجية للحفاظ على العقل، واعتباره في الأحكام والتصرفات وسائر أعمال الإنسان، وضع الفقهاء أحكام الصبي المميز، والمعتوه، وأحكام تصرفات المجنون، وأحكام الحجر على السفيه والمبذر.

ومن أجل الاحتياط التحسيني على حفظ العقل وصيانته حرّم الإسلام القليل من الخمر، وإن لم يسكر، سدًا للذرائع، ودرءًا للمفاسد، فكل ما أدى إلى الحرام فهر حرام، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما أسكر كثيره فقليله حرام»[33]، وقال عليه الصلاة والسلام: «كل مسكر خمر، وكل خمر حرام»[34]، وقال أيضًا: «كل شراب أسكر فهو حرام»[35]، واعتبر رسول الله صلى الله عليه وسلم الخمر «أم الخبائث»[36]، و«مفتاح كل شر»[37]، ولعن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «شارب الخمر، وساقيها، وبائعها، ومشتريها، وعاصرها ومعتصرها، وحاملها والمحمولة إليه»[38]، لأن الإسلام يريد أن يسد منافذ الشيطان بشكل حاسم، ويقطع دابر الشر عند العقل احترامًا وتقديسًا واعتبارًا.

كما تحرم المخدرات والمفترات، وسائر ما يزيل العقل ويؤثر عليه.

حق التفكير، وحرية الرأي والتعبير:

ويرتبط بالعقل حق الإنسان بالتفكير، حتى بالتدين والاعتقاد، كما سبق، وأن الإسلام جعل التفكير فريضة دينية، لإعمال العقل، وحثّه على الانطلاق والعمل، والنظر في الكون والحياة، وفي الأرض والسماء، ومنحه الحرية في الاعتقاد والتدين، وحرية التفكير المرتبط بالبحث والاختيار لكشف الحقائق، ومعرفة أسرار الكون، والاستفادة مما فيه، وحرية التعبير والدعوة إلى الخير، وحرية العمل، والمسكن، والانتقال، وغيره.

وتعني الحرية -عادة- الملكة الخاصة التي تميز الكائن الناطق عن غيره، وتمنحه السلطة في التصرف والأفعال، عن إرادة وروية ورضى، دون إجبار، أو إكراه، أو قسر خارجي، وذلك بإعمال العقل، والتفكير في الأسباب والنتائج، والوسائل والغايات، لأن الإنسان يختار أفعاله عن قدرة واستطاعة على العمل أو الامتناع عنه، دون ضغط خارجي ودون الوقوع تحت تأثير القوى الأجنبية عنه، فالحرية هي حرية الإنسان تجاه أخيه الإنسان من جهة، وبما يصدر عنه باختياره من جهة أخرى.

ولكن هذه الحرية ليست مطلقة، وإلا أدت إلى الفوضى والدمار والتناقض، ولذلك يجب تقييدها، ولها قيدان أساسيان، الأول: أن تتوقف حرية الشخص عند حرية الآخرين، والثاني: أن تقييد حرية التفكير في حدود العقل وإمكانياته المادية، دون الغيبية، وأن تقيد بالأنظمة والقوانين العادلة التي ترعى المصالح العامة، وتشرف على ممارسة الحريات حتى لا تنقلب وبالاً على أصحابها، وهو ما نراه اليوم في إطلاق الحريات في بعض الجوانب، وغلّ يد الأفراد والشعوب في جوانب أخرى.

وتظهر حرية الرأي جلية بما قرره الإسلام من حق الاجتهاد في أمور الدين والدنيا، وهو بذل الجهد في معرفة الأحكام الشرعية من أدلتها، مع فتح باب الاجتهاد على مصراعيه للعلماء.

وتظهر أيضًا في باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وفي مراقبة الحكام، ونصحهم، ومشاركتهم في اتخاذ القرار بالشورى، دون استبداد أو تحكم أو تسلط، مع ممارسة الحرية السياسية.

وكان الخلفاء والحكام يطلبون من الناس إبداء الرأي، ويلتمسون منهم النصح والإرشاد، ويتخذون ذلك ديدنًا لهم بجماعة خاصة، وبشكل عام مع الجماهير مما لا مجال للتوسع فيه[39].

وكانت حرية الرأي والتعبير من أكبر الجرائم في أوروبا، وكان الحكام يحتجون بالحق الإلهي في الحكم والعصمة والسداد في الرأي، حتى ظهرت الثورة الفرنسية فأعلنت حرية الرأي والتعبير، ونص على ذلك الدستور الفرنسي، ثم نص عليها معظم الدساتير وإعلانات الحريات الأساسية، وكرسها الإعلان العالمي لحقوق الإنسان في المادة التاسعة، مع تقييدها في المادة (92)، ثم نص عليها الإعلان الإسلامي لحقوق الإنسان في المادة (22).

رابعًا: حفظ العرض أو النسل، وحقوق الأسرة:

العرض فرع عن النفس الإنسانية، والأمر الضروري فيه حفظ النسل من التعطيل، ويأتي حفظ النسب أو العرض أمرًا حاجيًا ووسيلة له.. والعرض ما يمدح به الإنسان أو يذم، وهو أحد الصفات الأساسية للإنسان، التي تميزه عن بقية الحيوان، وهو ما حرص عليه العرب، وجاء الإسلام فأقره، وصار حفظ النسل من الضروريات، والقصد حفظه بأرقى الوسائل وأشرف الطرق.

وإن وجود النسل فرع عن وجود النفس التي شرع الله تعالى لوجودها الزواج، ويتأكد وجود النسل والنسب الصحيح بأحكام الأسرة من حسن اختيار الخطيبة، ثم عقد الزواج والمهر، ثم رعاية الزوجة والحمل، ثم وجود الأحكام الخاصة لكل من الزوجين، والمصاهرة، والمحرمات في الزواج، ووجوب النفقة الزوجية ونفقة الأقارب، ثم الوصية بالأولاد عامة، والبنات خاصة، وإقرار الميراث بسبب الزوجية والقرابة لتوثيق الروابط المادية والمعنوية.

وإن الحفاظ على النسل مقصود لذاته من جهة، ويعتمد على وسيلة حفظ العرض، ورعاية الذرية من جهة أخرى، حتى لا تختلط الأنساب، وتضيع الذرية، ويتشرد الأطفال، فتحل بالإنسانية النكبات والويلات والأمراض الاجتماعية والجنسية.

وشرع الإسلام للحفاظ على النسل والعرض أحكامًا كثيرة تبدأ من غض البصر، ومنع القذف، والإساءة للعرض.. وأقام الشرع حد القذف، وهو ما انفرد به الإسلام في العالم القديم والحديث، بأن جعل مجرد الشتم في العرض والنسب من حدود الله تعالى، كما هو ثابت بنص القرآن الكريم، في سورة النور، ثم يأتي حد الزنا على المعتدي على العرض والنسل ماديًا وعمليًا.

وحرّم الإسلام التبني، لأنه اعتداء على نسب الطفل، ونسل أبيه، وأنه يمثل سرقة الدم الحقيقي للإنسان.. ومنع الإسلام الخلوة بالأجنبية، لأنها ذريعة للزنى، وإشاعة للفاحشة، وسوء الظن والاتهام في العرض.. كما حرم الإسلام الخصاء الذي يؤدي إلى قطع النسل، كما حرم تحديد النسل، خشية أن يؤدي لنقص البشرية، وانقراض الجنس البشري، وهو ما ظهرت بوادره في معظم دول أوروبا وروسيا من نقص مخيف في عدد السكان، ولذلك يسعون لتعويضه بالسماح بالهجرة ومنح الجنسية والتوطين من بلاد أخرى.

وإكمالاً لهذه الأحكام وضع الشارع الحكيم ما يراعي المصالح الحاجية والتحسينية لحفظ النسل والعرض، فوضع شروطًا لعقوبة الزنا، والقذف، لأن الحد عقوبة كاملة، فيشترط كون الجريمة كاملة، وندب الشرع إلى الستر في ذلك، وأمر بدرء الحدود بالشبهات، فعن عائشة رضي الله عنها، قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ادرأوا الحدود عن المسلمين ما استطعتم، فإن كان له مخرج فخلوا سبيله، فإن الإمام أن يخطئ في العفو خير من أن يخطئ في العقوبة»[40].

حقوق الأسرة:

يرتبط حفظ النسل والعرض بتكوين الأسرة التي تعتبر الخلية الأولى في المجتمع الإنساني، وهي نواته وعماده، لأن الإنسان يولد فيها، وينشأ في أحضانها، ويترعرع في جنباتها، ويتطبع بطباعها، وتنغرس فيه بذور الخير والشر، أو الفضيلة والرذيلة، أو الاستقامة والانحراف، ثم يخرج إلى المجتمع متأثرًا بأسرته وتربيته الأولى.

وتشمل الأسرة الأبوين والأولاد والإخوة الذين ينضوون تحت اسم العائلة الصغرى، ثم تتوسع لتشمل الأقارب من جهتي الأب والأم، والجد والجدة.

وتكوين الأسرة يتم - في نظر الإسلام- حصرًا بالزواج الذي يتحقق منه الإنجاب، ومن ثم حرّم الإسلام جميع العلاقات الواهية التي كانت منتشرة في الجاهلية الأولى، والتي بدأت تعود إلى الظهور، مما يثبت الشرع والعقل والواقع والنتائج صحة النظرة الإسلامية وسلامتها.

لذلك شرع الإسلام الزواج، وجعله سنة ومندوبًا للأفراد، وواجبًا للأمة عامة،ونظم الشرع الحنيف شؤون الزواج، وخصّه بمجموعة كبيرة من الآيات والأحاديث، وأفرده الفقهاء في جميع المذاهب بأبواب مستقلة، ولعله أهم الأبواب وأوسعها بعد العبادات، مما لا مجال لعرضه مفصلاً، ويدرس اليوم في الأحوال الشخصية.

لكن أصابت الأسرة في التاريخ القديم والحديث نكبات شديدة، واعتراها خطب شديد، ولعب الهوى والشهوة والجنس دورًا شيطانيًا خبيثًا، ولا تزال الأسرة تُستهدف بوسائل متعددة، وتعقد لذلك المؤتمرات والندوات، ولكن استقر العمل في الإعلان العالمي لحقوق الإنسان بما يتفق مع الشرع الإسلامي الذي سبقه بأربعة عشر قرنًا، فاعتبر الأسرة هي أساس المجتمع، وأناط بها سائر المسؤوليات العائلية (م/61ف2).

ونصت المادة العاشرة من الاتفاقية الدولية بشأن الحقوق الاقتصادية والاجتماعية على وجوب منح الأسرة أوسع حماية ومساعدة ممكنة، إذ أنها الوحدة الاجتماعية والطبيعية الأساسية في المجتمع، ثم أكدت المادة (32) من الاتفاقية الدولية بشأن الحقوق المدنية والسياسية على أهمية الأسرة، ونصت صراحة على أن «العائلة هي الوحدة الاجتماعية الطبيعية والأساسية في المجتمع، ولها الحق بالتمتع بحماية المجتمع والدولة، وتعترف بحق الرجال والنساء... بتكوين أسرة».. وجاء الإعلان الإسلامي لحقوق الإنسان، فنظم بعض أحكام الأسرة والزواج باختصار شديد في المادة الخامسة، وأحال بالتوسع إلى كتب الفقه الإسلامي.

خامسًا: حفظ المال:

المال شقيق الروح كما يقولون، وهو ما يقع عليه الملك، ويستبد به المالك عن غيره، وهو الوسيلة الأساسية التي تساعد الناس على تأمين العيش وتبادل المنافع والاستفادة من جوانب الحياة الكثيرة، وهو ما سخره الله تعالى للإنسان في هذا الكون، ولذلك كان المال مصلحة ضرورية، وإلا صارت حياة الناس فوضى وبدائية وهمجية.

وشرع الإسلام لإيجاد المال وتحصيله السعي في مناكب الأرض والكسب المشروع وإحياء الموات والاصطياد في البر والبحر، واستخراج كنوز الأرض.

وشرع الإسلام في سبيل الانتفاع بالمال المعاملات الشرعية التي تكفل الحصول عليه، وتوفيره للمسلم، والتبادل به، كالبيوع، والهبة، والشركات، والإجارة وسائر العقود المالية.

وشرع الإسلام لحفظه وحمايته ومنع الاعتداء عليه أحكامًا كثيرة، فحرم السرقة، وأقام الحد على السارق، وحرم قطع الطريق، وسمى فاعليه بالمحاربين لله، وأقام لهم حدًا متميزًا، وهو حد المحاربين أو قطاع الطريق، وأجاز تقويم الأموال، وحرم أكل أموال الناس بالباطل، واعتبر العقد عليها باطلاً، ومنع اتلاف أموال الآخرين، وشرع الضمان والتعويض على المتلف والمعتدي[41].

وأرشد الإسلام إلى حسن استعمال الأموال والتصرف فيها، حتى قرر المبدأ الإسلامي: «نعم المال الصالح للرجل الصالح»، فإن أساء صاحب المال ذاته في ماله، وتعسّف في استعماله، ووضعه في غير مواضعه الشرعية قرر الإسلام الحجر على المعتوه، والسفيه، والمبذر.

وشرع الإسلام - لتنمية المال وتداوله- البيوع، والشركات، والإجارة، لتأمين التعامل الصحيح بين الناس، وإرشادهم إلى القواعد السليمة والأسس العادلة في التبادل والأخذ والعطاء، لتأمين حاجات الناس، وجلب النفع لهم، ودفع الضرر عنهم.

وقرر الإسلام المؤيدات المدنية في الأموال والعقود، منها: البطلان، والفساد، والخيارات، ورخّص في بعض العقود التي لا تنطبق عليها الأسس العامة في العقود، فشرع السَّلَم، وهو بيع المعدوم، وأجاز الاستصناع، والمزارعة، والمساقاة، لرفع الحرج عن الناس في التعامل.

كما حرّم الإسلام الغش والتدليس والاحتكار، وحرم الإسراف والتقتير في الإنفاق، وإضاعة المال، ونهى عن بيع الإنسان ما ليس عنده، وبيع الإنسان على بيع أخيه، ونهى عن بيع النجاسات، ولم يعتبرها مالاً، لضررها على الإنسان، ونهى عن الغرر، والجهالة في البدلين، وكل ما يؤدي إلى التخاصم، لتتم مصالح الناس دون الوقوع في الخصومات والخلافات والأحقاد والضغائن بين الأفراد.

وجمع الإسلام بين الأحكام المالية والأخلاق السامية، ورعاية القيم والآداب الراقية، والفضائل الحميدة، ومن ذلك شروط الطهارة، والإحسان بالتعامل، والإنفاق من الطيب، وإحسان الأضحية... وغيرها.

وهكذا نلاحظ أن الإسلام شرع لكل مصلحة ضرورية للناس أحكامًا تكفل إيجادها وتكوينها، وترعى حفظها وصيانتها، وأحكامًا مكملة ومتممة، لتأمين المصالح الحاجية والتحسينية لكل مصلحة ضرورية، وذلك ليؤمن للناس حفظ الضروريات، ويكفل بقاءها واستمرارها، ثم أباح الله تعالى المحظورات إذا تعرضت المصالح الضرورية للخطر والتهديد.

حق التملك:

ويتعلق بحفظ المال عدة حقوق من حقوق الإنسان، وأبرزها وأهمها حق التملك، ويعني الاعتراف بحق الملكية الفردية للإنسان، وتمكين المالك من سلطة التصرف بالشيء، والاستفادة منه واستغلاله.. والأصل أن يكون في الأعيان، ثم قرر في المنافع والحقوق، واليوم شمل الحقوق الأدبية.

والتملك في الأصل يقع على المال، الذي هو أحد الضروريات الخمس في الإسلام، ويعتبر المال أحد الدعائم الأساسية في التعامل، ويلعب رأس المال دورًا مهمًا في الحياة، وهوأحد عناصر الإنتاج، مع العمل والموارد الطبيعية، ويشكل حجر الزاوية في نظام الدول، وانقسامها -بحسب موقفها من المال والملكية- إلى أنظمة مختلفة، بل ومتباينة.. والمال نفسه من نعم الحياة من جهة، وهو زينتها، وفُطر الإنسان على حبه من جهة أخرى.

وأقر القرآن الكريم حق التملك، فنسب المال إلى الإنسان والناس، لأنهم يستأسرون به، ويعملون على حيازته، والاستفادة منه، والتصرف فيه، فقال تعالى مقررًا مشروعية الملكية، وسبل انتقالها: (( يَأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ لاَ تَأْكُلُواْ أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلاَّ أَن تَكُونَ تِجَارَةً عَن تَرَاضٍ مّنْكُمْ)) (النساء:29)، وقال تعالى: (( وَلاَ تَأْكُلُواْ أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُم بِالْبَاطِلِ)) (البقرة:188)، وقال تعالى: ((وَلاَ تُؤْتُواْ السُّفَهَاء أَمْوالَكُمُ الَّتِى جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَاماً )) (النساء:5)، وقال سبحانه وتعالى: ((ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ لاَ تُلْهِكُمْ أَمْوالُكُمْ وَلاَ أَوْلَادُكُمْ عَن ذِكْرِ اللَّهِ)) (المنافقون:9)، وقال تعالى: ((وَإِن تُبتُمْ فَلَكُمْ رُءوسُ أَمْوالِكُمْ لاَ تَظْلِمُونَ وَلاَ تُظْلَمُونَ)) (البقرة:279).

كما أثبت القرآن الكريم حق التصرف بالمال، فقال تعالى: ((وَسَيُجَنَّبُهَا الاْتْقَى (17) الَّذِى يُؤْتِى مَالَهُ يَتَزَكَّى )) (الليل:17-18)، وقال تعالى: ((مَّثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ)) (البقرة:261)، وقال تعالى: ((الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوالَهُمْ بِالَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرّا وَعَلاَنِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُم عِندَ رَبّهِمْ)) (البقرة:274)، مع إقرار سبل الكسب والاستثمار، كما سبق.

والأصل في الملكية أن تكون للأفراد، وهي الملكية الفردية.. وأقر الإسلام الملكية العامة للدولة في الأموال التي تتعلق بها حاجات الأمة، وتهم مصالح الناس، ويتصرف فيها ولي الأمر بما فيه المصلحة العامة، كتملك مصادر الثروة، ومصانع الأسلحة، والصناعات الكبيرة، والموارد الطبيعية.. وأقر الشرع الملكية الشخصية الاعتبارية، كالوقف والمسجد والشركات.

ويتفرع على ذلك حماية المال الذي ثبت في النصوص الشرعية السابقة التي منعت أكل أموال الناس بالباطل، مع الاستعانة بأجهزة الدولة في ذلك، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «كل المسلم على المسلم حرام: دمه، وماله، وعرضه»[42].

وقال في حجة الوداع: «إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم حرام عليكم كحرمة يومكم هذا...»[43].

وقال عليه الصلاة والسلام: «لا يحل مال امرئ مسلم إلا بطيب نفس منه»[44].

وقرر الفقهاء القواعد الفقهية لذلك، منها: «لا يجوز لأحد أن يأخذ مال أحد بلا سبب شرعي»، و«لا يجوز لأحد أن يتصرف في ملك الغير بلا إذن»[45].

وحذر الرسول صلى الله عليه وسلم من إتلاف المال، فقال: «من أخذ أموال الناس يريد إتلافها أتلفه الله»[46]، وقال أيضًا: «على اليد ما أخذت حتى تؤديه»[47]، وقرر الفقهاء ضمان الأموال.

وإن حق التملك، وحرمة الملك، لا يعني الاستئثار المطلق، وحرية التصرف المطلقة، وإنما رسم الشارع لذلك نظامًا محكمًا لصرف المال والانتفاع به، وصرفه في طرقه المشروعة، وتعلق حق الآخرين فيه، وهي واجبات على المالك، وحقوق لغيره، ومنها:

1- إخراج الزكاة والصدقات.

2- النفقة على النفس والأهل والأولاد والأقارب.

3- استثمار المال في الوجوه المباحة شرعًا، فيجب استثماره، وخاصة مال اليتيم والمحجور عليه، ويحرم ادخاره واكتنازه وتعطيل منافعه.

4- تطبيق نظام الميراث على التركة بعد الموت.

5- قيود الملكية الواردة على المحل، وعلى سلطات المالك في الانتفاع والتصرف والاستغلال، والقيود المتعلقة بالمصلحة العامة، والقيود المتعلقة بالعدالة الاجتماعية، والتكافل بين الأفراد، مع الاعتراف بحرية التعاقد للتصرف بالملك حسب الإرادة والرضى.

وإن حق التملك مقرر في جميع الأنظمة والشرائع، مع تفاوتها في القيود، وأسباب التملك، وسلطات المالك، وطرق الانتفاع والاستثمار.. ولما طغى الإقطاع في أوروبا وظهرت الرأسمالية واستبداد الأغنياء بمقدرات الشعوب والأمم، وجاء رد الفعل بالشيوعية وإنكار الملكية، جاءت إعلانات حقوق الإنسان والاتفاقات الدولية بإقرار حق الملكية -المادة (71) من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، والمادة الأولى من الاتفاقية الدولية بشأن الحقوق الاقتصادية، والاتفاقية الدولية بشأن الحقوق المدنية، والمادة (51) من الإعلان الإسلامي لحقوق الإنسان- مما يتفق مع ما جاء في الشرع الحكيم.

وبعد:

فهذه لمحات سريعة، ومقتطفات يانعة عن مقاصد الشريعة الإسلامية وصلتها بحقوق الإنسان، ونستنتج الأمور التالية:

1- إن مقاصد الشريعة هي المنطلق الحقيقي والأساس لحقوق الإنسان.

2- إن الشرع الحنيف جاء أصلاً من أجل الإنسان، وتحقيق مقاصده، وذلك بجلب النفع له، ودفع الضرر عنه، وتأمين السبل الموصلة لذلك، وضمان الرعاية والعناية للحفاظ على الحقوق.

3- إن التطبيق الحقيقي لحقوق الإنسان يكمن في التطبيق العملي للدين الحق، وهذا يستدعي العودة الجادة للالتزام بالعقيدة الصحيحة، والتدين الكامل الشامل، دون الاقتصار على الدعاية والشعارات والمتاجرة بحقوق الإنسان لأهداف استعمارية: سياسية، واقتصادية، وفكرية، وتربوية، وثقافية، ومصالح ذاتية.

4- تتدرج مصالح الإنسان على درجات، أهمها المصالح الضرورية، وهي حفظ الدين، وحفظ النفس، وحفظ العقل، وحفظ النسل أو العرض، وحفظ المال، ثم تأتي المصالح الحاجية التي ترعى المقاصد الخمسة، ثم المصالح التحسينية التي تكمل المقاصد، وتصونها في أحسن أحوالها.

5- إن معرفة مقاصد الشريعة لها أهمية بالغة في بيان الإطار العام للشريعة، وتحديد أهدافها السامية، والمعاونة على الدراسة المقارنة والترجيح، وإبراز هدف الدعوة، والإنارة في الاجتهاد والاستنباط.

6- ورد في الشرع أحكامًا كثيرة، لبيان أحكامًا الدين وحفظه ومنع التلاعب فيه، وأعطى حق التدين حقه، وربطه بالفكر والعقل، وحرية الاعتقاد، واحترام بيوت العبادة، والمسامحة مع غير المسلمين، وعدم الإكراه في الدين، والتساوي في المعاملة المالية بين المسلم وغيره، مع تشريع العقوبة للمرتد، لأنه متلاعب بالدين، ويخالف النظام العام، ويعبث بالعقيدة، فاقتضى ذلك الحماية للدين نفسه.

7- نظم الإسلام إيجاد النفس بأفضل الطرق، وحرص على المحافظة عليها، ومنع الانتحار، والاعتداء عليها، وأوجب القصاص على العدوان العمد، وقرر حق الحياة لكل إنسان حتى للجنين، وأباح المحظورات للضرورة عند الحفاظ على النفس، وحرم إفناء النوع البشري بأية وسيلة تدميرية.

8- كرم الله الإنسان، وفضله بالعقل، ولذلك أوجب حفظه وترشيده في الصحة الكاملة، وحرم كل ما يؤثر عليه أو يزيله، ثم منحه حق التفكير، بل فرض التفكير على الإنسان، وأعطاه حرية الرأي والتعبير ضمن قيود مضبوطة.

9- إن حفظ النسل والعرض والنسب من خصائص الإنسان، فأوجب الشرع الحفاظ عليه حتى تدوم البشرية في أنصع صورها، مع أفضل القيم والأخلاق، ومنع اختلاط الأنساب والتبني، وأسهب الفقهاء في أحكام الأسرة، وجودًا، وحفظًا، وحماية، لأنها اللبنة الأولى في المجتمع، ومحط آمال العقلاء.

10- المال شقيق الروح، وشرع الإسلام الأحكام لإيجاده وتحصيله، واستثماره، وتداوله في المعاملات المتنوعة، وأقر حق التملك، والتصرف بالمال، وأوجب فيه الحقوق لأداء الصفة الاجتماعية فيه، لتحقيق التكافل والمواساة، ليكون الملك والمال وسيلة لتأمين رفاهية الإنسان وكفايته وتلبية حاجاته.

ويظهر كل من ذلك الصلة الوثيقة بين مقاصد الشريعة وحقوق الإنسان، التي تعتبر واجبات والتزامات متبادلة بين الأفراد لإقامة العدل والإحسان والمساواة ورعاية شؤون الإنسان فردًا وجماعة.

نسأل الله أن يرد المسلمين إلى دينهم، ردًا جميلاً، لينعموا بسعادة الدارين، كما حصل للأجيال السابقة، فيكونوا خير خلف لخير سلف. وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم،

والحمد لله رب العالمين.

الهوامش :

[1] القاموس المحيط، 1/327، مادة قصد؛ معجم مقاييس اللغة، 5/95؛ المصباح المنير، 2/691؛ مختار الصحاح، ص536؛ تهذيب الأسماء واللغات، 2/93.

[2] مقاصد الشريعة الإسلامية، الطاهر بن عاشور، ص13؛ الأصول العامة لوحدة الدين الحق، الدكتور وهبة الزحيلي، ص61.

[3] شجرة المعارف والأحوال، له، ص401.

[4] انظر: ضوابط المصلحة، للدكتور محمد سعيد رمضان البوطي، ص45 وما بعدها، وقال العلامة القرافي رحمه الله تعالى: "الشرائع مبنية على المصالح"، شرح تنقيح الأصول، ص427؛ وقال ابن تيمية رحمه الله تعالى: "جاءت هذه الشريعة لتحصيل المصالح وتكميلها، وتقليل المفاسد وتعطيلها"، الفتاوى الكبرى، 20/48؛ السياسة الشرعية، له، ص47.

[5] هذا الحديث أخرجه البخاري بلفظ "ترى المؤمنين..." (5/2238 رقم5665)؛ ومسلم باللفظ الأعلى (16/140 رقم2586)؛ وأحمد (4/270).

[6] يقول العلامة ابن القيم: "إن الشريعة مبناها وأساسها على الحكم ومصالح العباد في المعاش والمعاد، وهي عدل كلها، ورحمة كلها، وحكمة كلها، فكل مسألة خرجت عن العدل إلى الجور، وعن الرحمة إلى ضدها، وعن المصلحة إلى المفسدة، وعن الحكمة إلى العبث، فليست من الشريعة، وإن أُدخلت فيها بالتأويل، فالشريعة عدل الله بين عباده، ورحمته بين خلقه، وظله في أرضه، وحكمته الدالة عليه، وعلى صدق رسوله صلى الله عليه وسلم أتم دلالة وأصدقها"، أعلام الموقعين، 3/5، تحقيق الوكيل، 3/14 (بدون تحقيق).

[7]القواعد الفقهية على المذهب الحنفي والشافعي،ص436؛المادة78 من مجلة الأحكام العدلية.

[8] انظر: قواعد الأحكام، للعز بن عبد السلام، 1/29 ومابعدها، 42 وما بعدها، ص71 وما بعدها؛ حقوق الإنسان في الإسلام، الدكتور محمد الزحيلي، ص80.

[9] حقوق الإنسان في الإسلام، الدكتور محمد الزحيلي، ص9، 140.

[10] المستصفى، 1/286؛ الموافقات للشاطبي، 2/4؛ علم أصول الفقه، الشيخ عبد الوهاب خلاف،ص199، ط8؛ الأصول العامة لوحدة الدين الحق، الزحيلي، ص60-61.

[11] المستصفى، له، 1/287.

[12] المستصفى، 1/288؛ وانظر: فلسفة العقوبة، للشيخ محمد أبو زهرة، ص42؛ الأصول العامة لوحدة الدين الحق، ص5.

[13] المستصفى 1/289.

[14] الموافقات، 2/6؛ علم أصول الفقه، خلاف، ص200؛ المستصفى، 1/290.

[15] الموافقات، 2/5، علم أصول الفقه، ص201؛ الأصول العامة لوحدة الدين الحق، ص65.

[16] هذا الحديث أخرجه البخاري (3/1098رقم 2854) وأصحاب السنن وأحمد عن ابن عباس رضي الله عنهما (نيل الأوطار، 7/201؛ الفتح الكبير،3/175)، مسند أحمد (1/2، 7، 282، 283، 5/231).

[17] هذا الحديث أخرجه البخاري (6/2521 رقم 6484)، ومسلم (11/164 رقم1676)، وأصحاب السنن وأحمد عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه (نيل الأوطار، 7/7؛ الفتح الكبير 3/356).

[18] المستصفى، 1/287؛ الموافقات 2/5؛ ضوابط المصلحة، ص119.

[19] هذا الحديث أخرجه البخاري (1/456 رقم 1292)، ومسلم (16/207 رقم2658).

[20] هذا الحديث أخرجه أبو داود (2/152)، والبيهقي (5/205).

[21] انظر الفتح الكبير (3/144).

[22] هذا الحديث صحيح، وسبق بيانه.

[23] هذا الحديث أخرجه مسلم (16/215 رقم 2664)، وابن ماجه (1/31)، وأحمد (2/366،370)؛ وانظر: الفتح الكبير (3/251).

[24] انظر بحثًا مستفيضًا عن حق الحياة في اشتراكية الإسلام، لأستاذنا العلامة الداعية الدكتور مصطفى السباعي، ص59 وما بعدها؛ حقوق الإنسان في الإسلام، للدكتور محمد الزحيلي، ص86، 141.

[25] هذا جزء من حديث أخرجه مسلم (16/120رقم 2564)، وابن ماجه (2/1298)، وأبو داود والترمذي (انظر: نزهة المتقين، 1/251، الفتح الكبير، 2/322) عن أبي هريرة رضي الله عنه.

[26] هذا جزء من حديث أخرجه البخاري عن ابن عمر (6/2490 رقم 6403)، وعن أبي بكرة (1/37، 52، رقم 67، 105)، ومسلم عن جابر(8/182 رقم1218).

[27] انظر اشتراكية الإسلام، ص61؛ التشريع الجنائي الإسلامي، عبد القادر عودة، 1/446 –447.

[28] الأم (6/4)، وأحاديث تحريم الانتحار وأدلته كثيرة.

[29] هذا الحديث أخرجه البخاري (1/20 رقم31)، ومسلم (18/11 رقم 2888)، وأخرجه أبو داود والنسائي وابن ماجه وأحمد عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه (الفتح الكبير، 1/87).

[30] انظر اشتراكية الإسلام، ص66 وما بعدها؛ حقوق الإنسان في الإسلام، ص141 وما بعدها.

[31] تفسير القرطبي 10/294؛ وانظر تفسير الطبري، 15/125، 30/242؛ تفسير القاسمي، 10/3950؛ في ظلال القرآن، سيد قطب، 5/346؛ تفسير ابن عربي، 4/194.

[32] انظر الأصول العامة لوحدة الدين الحق، الدكتور وهبة الزحيلي، ص136.

[33] هذا الحديث أخرجه أبو داود (2/294)، والترمذي (5/607)، وابن ماجه وأحمد (6/71، 72، 131)، وابن حبان والنسائي عن جابر وعائشة (الفتح الكبير، 3/79).

[34] هذا الحديث أخرجه البخاري (1/95، 5/2121)، ومسلم (13/169، 172) وأحمد (2/16، 29، 31، 134)، وأبو داود(2/293)، والترمذي (5/598)، وابن ماجه (2/1124)، وانظر التلخيص الحبير، 4/73.

[35] هذا الحديث رواية ثانية للحديث الأول أخرجها البخاري ومسلم عن عائشة رضي الله عنها.

[36] هذا الحديث أخرجه القضاعي بهذا اللفظ، وأخرجه الدار قطني والطبراني في الأوسط بألفاظ قريبة.

[37] هذا الحديث أخرجه الحاكم في المستدرك (4/145).

[38] هذا الحديث أخرجه أبو داود (2/292)، وأحمد (1/316، 2/97) عن ابن عمر رضي الله عنهما، وأخرجه الحاكم (الفتح الكبير، 3/13).

[39] انظر الحرية السياسية في الإسلام، في: اشتراكية الإسلام، ص85؛ حقوق الإنسان في الإسلام، الدكتور محمد الزحيلي، ص183 وما بعدها.

[40] هذا الحديث أخرجه الترمذي مرفوعًا وموقوفًا (4/688)، وابن ماجه (2/850)، والحاكم (4/384)، والبيهقي (8/238)؛ وانظر نيل الأوطار (7/110)؛ التلخيص الحبير (4/56).

[41] انظر الموافقات، 2/5؛ علم أصول الفقه، خلاف، ص201؛ قواعد الأحكام، 2/5؛ الأصول العامة لوحدة الدين الحق، ص153.

[42] هذا حديث صحيح، سبق بيانه.

[43] هذا جزء من حديث صحيح، سبق بيانه.

[44] هذا الحديث أخرجه البيهقي عن خيفة الرقاشي وغيره (6/97، 100)، وأحمد (5/425)، والدار قطني (3/25، 26)، وابن حبان (موارد الظمآن، ص283)، والحاكم وغيره (الفتح الكبير، 3/359).

[45] المادة (96، 97 من مجلة الأحكام العدلية)؛ القواعد الفقهية في المذهب الحنفي والشافعي، الدكتور محمد الزحيلي، ص504، 511.

[46] هذا جزء من حديث أخرجه البخاري (2/841 رقم 2257)، وأحمد(2/361، 417)، وابن ماجه (2/806)، الفتح الكبير (3/151).

[47] هذا حديث أخرجه أحمد (5/8، 13)، والحاكم(2/47)، وأبو داود (2/265)، والترمذي وقال: حديث حسن صحيح (4/482)، وابن ماجه (2/802)، والبيهقي (6/90، 94)، والدارمي (2/262).

إحياء وتطوير مؤسسة الِحسْبة لحماية حقوق الإنسان

الأستاذ الدكتور محمد عثمان شبير

إن مؤسسة الحسبة في الإسلام من أكثر المؤسسات الدينية التي لاقت اهتمامًا كبيراً من أغلب علماء الدين الإسلامي، من فقهاء، وقضاة، ومفسرين، وشراح أحاديث، وأدباء، ومؤرخين، ومترجمين، ومفكرين. ويرجع سبب ذلك إلى أن تلك المؤسسة تعبر تعبيراً صادقاً عن وعى الإنسان تجاه نفسه وتجاه مجتمعه وتجاه دينه. كما أن لهذه المؤسسة دوراً كبيراً في حماية حقوق الإنسان، فتعد آلياتها من أكبر الضمانات لتلك الحقوق.

وقد جاء هذا البحث، في هذا العصر، لإبراز دور مؤسسة الحسبة في حماية حقوق الإنسان، بعد أن مرت عليها فترات من التاريخ أدت إلى طمس معالمها الحقيقية، وتشويه صورتها في أذهان كثير من المسلمين بسبب بعض التصرفات الخاطئة الصادرة عن بعض القائمين عليها.

ويشتمل البحث على مبحثين: الأول حول: تطور مفهوم الحسبة في الإسلام، والثاني حول: دور الحسبة في حماية حقوق الإنسان.

المبحث الأول: تطور مفهوم الحسبة في الإسلام

للحسبة في الإسلام مفهوم واسع لا يقتصر على تلك الولاية الدينية العامة التي يسند أمرها الإمام إلى بعض الموظفين، وإنما يتعدى ذلك إلى تلك المؤسسات المدنية التي تقوم برعاية حقوق الإنسان في المجتمع الإسلامي. وتستند هذه السعة في مفهوم الحسبة إلى المعنى اللغوي للحسبة، والمعنى الاصطلاحي لها، وتأصيلها الشرعي.

وفيما يلي بيان ذلك.

أولاً: المعنى اللغوي للحسبة:

الحسبة في اللغة: (بكسر الحاء و تسكين السين) اسم من الاحتساب كالعدة من الاعتداد. والاحتساب مأخوذ من الحَسْب، وهو على عدة معان[1]:

فالمعنى الأول: العد و الحساب، فتقول:حَسَبْت الشيء أحسبه حساباً وحسباناً:إذا عددته. ومنه قوله تعالى: (( وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْبَاناً )) (الأنعام: 96) وقال تعالى: ((وَلِتَعْلَمُواْ عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ )) (الإسراء: 12).

ويندرج تحت هذا المعنى احتساب الإنسان الأجر عند الله تعالى؛ إذا عده ضمن ما يدخر عنده تعالى. والاحتساب بهذا المعنى: إما أن يكون في الأعمال الصالحة، و إما أن يكون في الأعمال المكروهة التي تنزل بالإنسان. ففي الأعمال الصالحة، يكون بالقيام بأعمال البر على الوجه المرسوم فيها طلباً للثواب المرجو. وورد فيها قوله صلى الله عليه وسلم: «من صام رمضان إيماناً واحتساباً غُفر له ما تقدم من ذنبه»[2]، وقوله صلى الله عليه وسلم: «من اتبع جنازة مسلم إيماناً واحتساباً، وكان معه حتى يُصلى عليها ويفرغ من دفنها، فإنه يرجع من الأجر بقيراطين...»[3].. وأما في الأعمال المكروهة، فيكون بالمبادرة إلى طلب الأجر وتحصيله بالتسليم والصبر. وورد فيها أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث برسالة لابنته التي توفي ولدها: «إن لله ما أخذ وله ما أعطى، وكلٌ عنده بأجلٍ مسمّى، فلتصبر ولتحتسب»[4].

والمحتسب يدخر الأجر عند الله تعالى على كل ما يقوم به من عمل، وما يلاقيه من نصب وتعب.

وأما المعنى الثاني للحسب فهو الكفاية، فيقال: احتسب بكذا: اكتفى به. ومنه قوله تعالى: (( وَقَالُواْ حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ)) (آل عمران: 173)، وقوله تعالى: ((وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيباً)) (النساء:6).. والمحتسب يعتمد في كل أعماله على الله تعالى وحده لا شريك له.

وأما المعنى الثالث للحسب فهو الإنكار، فيقال احتسب عليه: أي أنكر عليه. وتسمية الإنكار بالاحتساب من قبيل تسمية المسُبب بالسبب؛ لأن الإنكار على صاحب المنكر سبب للأمر بإزالته، وهو الاحتساب.

وأما المعنى الرابع للحسب فهو التدبير، فيقال: فلان حسن الحسبة في الأمر: أي حسن التدبير له والنظر فيه وفق القوانين والأنظمة.. والمحتسب يقوم بتدبير خاص، وهو تدبير تطبيق الشرع الإسلامي. وهو أحسن وجوه التدبير.

وأما المعنى الخامس للحسب فهو الاختبار، فيقال: النساء يحسبن ما عند الرجال، أي يختبرن ما عندهم من تصرفات.. والمحتسب ينظر في تصرفات الناس الظاهرة ويحكم عليها، ويقدم على تغيير المنكر منها بعد التحري والنظر في المآلات.

فالحسبة في معناها اللغوي لا تقتصر على مجرد الإنكار على "الغير" دون النظر إلى النتائج والمآلات، وإنما تتضمن عدة عناصر جوهرية وهي: المبادرة الذاتية إلى تغيير المنكر رجاء طلب الأجر والثواب من الله تعالى، والاختبار والتحري والنظر في المآلات والنتائج، ومراعاة السياسة الحكيمة في تغيير المنكر، واعتماد المحتسب على الله تعالى ليكون خير عون له على تخطي الصعاب والعراقيل التي تعترضه. هذا بالإضافة إلى إنكار المنكر، الذي يعد عنصراً أساسياً في الحسبة.

ثانياً: المعنى الاصطلاحي للحسبة:

الحسبة في اصطلاح الفقهاء تطلق على عدة معان:

المعنى الأول: عرفها جمهور الفقهاء - باعتبارها وظيفة دينية يُسندها الإمام للمحتسب- بأنها: «أمر بالمعروف إذا ظهر تركه، ونهي عن المنكر إذا ظهر فعله»[5].. فالمعروف الذي يأمر به المحتسب المعين هو ما أمر به الشرع الإسلامي، والمنكر الذي ينهي عنه المحتسب هو ما ينهي عنه الشرع الإسلامي. وتقتصر وظيفة المحتسب على ما يظهر من الناس من منكرات من غير تجسس عليهم، وذلك بأن تكون مكشوفة للمحتسب: إما بالرؤية، أو السماع، أو النقل الموثوق، الذي يقوم مقامها، كما قال ابن تيمية: «إذا أظهر الرجل المنكرات وجب الإنكار عليه»[6].

وأما المعنى الثاني للحسبة، فقد عرفها كل من ابن بسام وابن الإخوة - باعتبارها وظيفة دينية- بالتعريف السابق مع إضافة عبارة: «وإصلاح بين الناس» فقال ابن الإخوة في تعريفها: «أمر بالمعروف إذا ظهر تركه، ونهي عن المنكر إذا ظهر فعله، وإصلاح بين الناس»[7]، وأيدا ذلك بقول الله تعالى: (( لاَّ خَيْرَ فِى كَثِيرٍ مّن نَّجْوَاهُمْ إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ)) (النساء:114)، وقوله تعالى: ((وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُواْ فَأَصْلِحُواْ بَيْنَهُمَا)) (الحجرات:9)، وأرى أنه لا داعي لتلك الإضافة؛ لأن الإصلاح داخل في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر كما قال ابن الإخوة: «إن الإصلاح نهي عن البغي والفساد إلى طاعة الله»[8].

وأما المعنى الثالث للحسبة، فهو ما عرفها به أبو حامد الغزالي، وهي: «شاملة للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر»[9]، وقريب من هذا ما ذكره السنامي: «الحسبة في الشريعة عام تتناول كل مشروع يفعل لله تعالى، كالآذان والإقامة وأداء الشهادة مع كثرة تعدادها. ولهذا قيل: القضاء باب من أبواب الحسبة، وقيل القضاء جزء من أجزاء الاحتساب»[10]، وما ذكره الأصفهاني: «فعل ما يحتسب به عند الله تعالى»[11].

والأولى بالاعتبار المعنى الثالث للحسبة، فهي في الشريعة الإسلامية ذات معنى واسع لا تقتصر على تغيير المنكر الظاهر، وإنما تشمل كل ما يفعل، ويراد به ابتغاء وجه الله تعالى، كالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والصدقة، والأذان، والإقامة، وأداء الشهادة، والجهاد في سبيل الله تعالى، وغير ذلك. ويؤيد ذلك: قوله تعالى: (( وَالَّذِينَ صَبَرُواْ ابْتِغَاء وَجْهِ رَبّهِمْ وَأَقَامُواْ الصلاةَ وَأَنْفَقُواْ مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرّا وَعَلاَنِيَةً وَيَدْرَءونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيّئَةَ أُوْلَئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ)) (الرعد:22)، وقوله سبحانه وتعالى: (( وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوالَهُمُ ابْتِغَاء مَرْضَاتِ اللَّهِ وَتَثْبِيتًا مّنْ أَنفُسِهِمْ كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ أَصَابَهَا وَابِلٌ فَأَتَتْ أُكُلَهَا ضِعْفَيْنِ )) (البقرة:265)، وقوله: ((وَمَا تُنفِقُواْ مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنتُمْ لاَ تُظْلَمُونَ)) (البقرة:272)..

فهذه الآيات تشير إلى أنه لابد أن تكون أعمال المسلمين ابتغاء وجه الله تعالى أو حسبة له. ويؤيد ذلك أيضاً قوله صلى الله عليه وسلم: «إن الله ليدخل بالسهم الواحد ثلاثة الجنة: صانعه يحتسب في صنعه الخير، والرامي به، والممد به....»[12]، وقوله صلى الله عليه وسلم:«إن السقط ليجر أمه بسرره إلى الجنة إذا احتسبته»[13]وجاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله! إن قتلت في سبيل الله صابراً محتسباً غير مدبر، أيكفر عني خطاياي؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «نعم»[14]، وقوله صلى الله عليه وسلم لنسوة من الأنصار: «لا يموت لإحداكن ثلاثة من الولد، فتحتسبه إلا دخلت الجنة». فقالت امرأة منهن: أو اثنان يا رسول الله؟ قال: «أو اثنان»[15]، وقد بوّب البخاري في صحيحه باباً بعنوان: «ما جاء في أن الأعمال بالنية والحسبة، ولكل امرئ ما نوى»[16]، ويدخل فيه الإيمان والوضوء، والصلاة، والزكاة، والحج، والصوم، والأحكام. وذكر من الأحاديث قوله صلى الله عليه وسلم: «إذا أنفق الرجل على أهله يحتسبها فهو له صدقة»[17]، وقوله : «إنك لن تنفق نفقة تبتغي بها وجه الله إلا أجرت عليها» [18].. هذه الأحاديث وغيرها تدل دلالة واضحة على عموم الحسبة وشمولها، وعدم اقتصارها على نوع معين من الأحكام، وإنما تشمل جميع الأحكام.

ويمكن تعريف الحسبة بناء على ذلك بما يلي: «فعالية المجتمع المسلم في القيام بأعمال البر والخير، وتغيير المنكر وفق السياسة الشرعية، حماية لمقاصد الشريعة الإسلامية».. فالأفراد في المجتمع الإسلامي يتصفون بالإيجابية والفعالية والمبادرة إلى القيام بالأعمال ابتغاء وجه الله، وطلباً للأجر والثواب في الآخرة. ولا يتوقف قيامهم بها على تحصيل الأجرة الدنيوية. فهم يحتسبون عملهم عند الله تعالى سواء حصلوا على أجر دنيوي، بأن كانوا معينين من قبل رئيس الدولة، أم لم يحصلوا، بأن كانوا متطوعين. وهم يراعون في قيامهم بأعمال الحسبة الحدود الشرعية المرسومة، والسياسة الشرعية الحكيمة، فيوازنون بين المصالح والمفاسد التي تترتب على القيام بالأعمال، ولا يقدمون عليها إلا بعد حساب دقيق للنتائج والمآلات. وهم يقصدون من القيام بتلك الأعمال حماية مقاصد الشريعة الإسلامية من ضروريات وحاجيات وتحسينيات، فيعملون على حماية الدين والنفس والعقل والعرض و المال وغير ذلك.

ولا تقتصر هذه الفعالية على الفرد، وإنما تتعدى إلى الجماعة والدولة، فإذا كان الأمر بالمعروف واجب على الفرد المسلم، فإنه واجب على الجماعة، حيث يتعاون عليه الأفراد في الجماعات ويتشاورون فيه لقوله تعالى: ((وَلْتَكُن مّنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ)) (آل عمران:104)، وقال تعالى: ((وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبرِ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ)) (المائدة:2).

كذلك فإن الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر هو واجب الدولة بكل مؤسساتها وأجهزتها، قال تعالى: (( الَّذِينَ إِنْ مَّكَّنَّاهُمْ فِى الاْرْضِ أَقَامُواْ الصلاةَ وَاتَوُاْ الزكاةَ وَأَمَرُواْ بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْاْ عَنِ الْمُنْكَرِ )) (الحج:41)، وقد اشار ابن تيمية[19] إلى هذا، حيث قال: «وإذا كان جماع الدين وجميع الولايات هو أمر ونهي، فالأمر الذي بعث الله به رسوله هو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. وهذا نعت النبي والمؤمنين، كما قال تعالى: (( وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ )) (التوبة:71)».

وهذا واجب على كل مسلم قادر، وهو فرض على الكفاية، ويصير فرض عين على القادر الذي لم يقم به غيره. والقدرة هو السلطان والولاية، فذوو السلطان أقدر من غيرهم، وعليهم من الوجوب ماليس على غيرهم، فإن مناط الوجوب هو القدرة، فيجب على كل إنسان بحسب قدرته، قال تعالى: (( فَاتَّقُواْ اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ )) (التغابن:16).. وجميع الولايات الإسلامية إنما مقصودها الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، سواء في ذلك ولاية الحرب الكبرى مثل نيابة السلطة، والصغرى مثل ولاية الشرطة، وولاية الحكم، أو ولاية المال، وهي ولاية الدواوين المالية وولاية الحسبة.

ثم قال: «الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الذي أنزل الله به كتبه وأرسل به رسله من الدين..».. وبيّن سبحانه أن هذه الأمة خير الأمم للناس، فهم أنفعهم لهم وأعظمهم إحساناً إليهم، لأنهم كملوا أمر الناس بالمعروف ونهيهم عن المنكر من جهة الصفة والقدر، حيث أمروا بكل معروف ونهوا عن المنكر لكل أحد، وأقاموا ذلك بالجهاد في سبيل الله بأنفسهم وأموالهم وهذا كمال للخلق. وسائر الأمم لم يأمروا كل أحد بكل معروف، ولا نهوا كل أحد عن كل منكر، ولا جاهدوا على ذلك، بل منهم من لم يجاهد. والذين جاهدوا، كبني إسرائيل، فعامة جهادهم كان لدفع عدوهم عن أرضهم كما يقاتل الصائل الظالم لا لدعوة المجاهدين وأمرهم بالمعروف ونهيهم عن المنكر، كما قال موسى لقومه: (( يَاقَوْمِ ادْخُلُوا الاْرْضَ المُقَدَّسَةَ الَّتِى كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَلاَ تَرْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ(21) قَالُوا يَامُوسَى إِنَّ فِيهَا قَوْماً جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَن نَّدْخُلَهَا حَتَّى يَخْرُجُواْ مِنْهَا فَإِن يَخْرُجُواْ مِنْهَا فَإِنَّا داخِلُونَ...))، إلى قوله تعالى: ((قَالُواْ يَامُوسَى إِنَّا لَنْ نَّدْخُلَهَا أَبَداً مَّا دَامُواْ فِيهَا فَاذْهَبْ أَنتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ)) (المائدة:21-24)

أنواع الحسبة:

بناء على المفهوم الواسع للحسبة، يمكن تقسيمها إلى قسمين: رسمية وتطوعية:

فالحسبة الرسمية التي تخضع لسيادة الدولة، كما قال ابن خلدون، هي وظيفة دينية من باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، الذي هو فرض على القائم بأمور المسلمين(الإمام)، حيث يعين لذلك من يراه أهلاً لها يسمى «المحتسب»، وهو يقوم باتخاذ الأعوان والمساعدين للقيام بتلك المهمة[20]. وقال ابن القيم: «جرت العادة بإفراد هذا النوع بولاية خاصة، كما أفردت ولاية المظالم بولاية خاصة، والمتولي لها يسمى والي المظالم... والمتولي لفصل الخصومات وإثبات الحقوق والحكم في الأنكحة والطلاق والنفقات وصحة العقود وبطلانها المخصوص باسم الحاكم والقاضي»[21]، وهي فرض عين على كل من الإمام والمحتسب.

وتختص ولاية الحسبة بالحكم بين الناس في القضايا التي لا تحتاج إلى دعوى وبينات، فيبحث المحتسب عن المنكرات الظاهرة، ويعزّر ويؤدب على قدرها، ويحمل الناس على المصالح العامة في المدينة، مثل: إقامة الصلوات، والمنع من المضايقة في الطرقات، ومنع الحمالين وأهل السفن من الإكثار في الحمل، والحكم على أهل المباني المتداعية للسقوط بهدمها، وإزالة ما يتوقع من ضررها على السابلة، والضرب على أيدي المعلمين في المكاتب (المدارس) وغيرها في الإبلاغ عن ضربهم للصبيان المتعلمين، ومنع البائعين من الغش و التدليس والتطفيف في المكاييل والموازين، ويتفقد أحوال الصناع الذين يصنعون الأطعمة والملابس والآلات، فيمنعهم من صناعة المحرم على الإطلاق، كآلات الملاهي، وثياب الحرير للرجال، ويمنع من اتخاذ أنواع المنكرات، ويمنع صاحب كل صناعة من الغش في صناعته، ويمنع من إفساد نقود الناس وتغييرها... وغيرها مما يدخل في الإنكار على أرباب الغش في المطاعم و المشارب والملابس. فإن هؤلاء يفسدون مصالح الأمة. والضرر بهم عام لا يمكن الاحتراز منه. فعليه أن لا يهمل أمرهم، وأن ينكل بهم أمثالهم[22].

ولا تقتصر اختصاصات المحتسب على الاحتساب على أصحاب المهن الحرة، وإنما تتعدى ذلك إلى الولاة والقضاة، كما ذكر ابن بسام وغيره من المصنفين في الحسبة[23]. ولهذا يشترط في المحتسب أن يكون عدلاً ذا رأي وصرامة وهيبة وعلم بالمنكرات وغير ذلك. كما ذكر الماوردي وغيره: «الحسبة موضوعة للرهبة، فلا يكون خروج المحتسب إليها بالسلاطة و الغلظة تجوزاً فيها ولا خرقاً»[24].

وأما الحسبة التطوعية أو غير الرسمية «الأهلية»، فهي التي طلبتها الشريعة الإسلامية من المكلفين، لأن المسلم مكلف بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. وهي فرض كفاية. ويطلق الفقهاء على من يقوم بهذه الحسبة: «المتطوع» [25] فهو يقوم بها من دون تعيين، ولا تولية من ولي الأمر، وإنما يستند في القيام بها على الواجب الديني الملقى على عاتقه، وهو واجب عام يرتبط بالوسع، ويؤديه كل مسلم حسب طاقته وقدرته، كما قال ابن القيم[26]: «وهذا واجب على كل مسلم قادر، وهو فرض كفاية... فإن مناط الوجوب هو القدرة، فيجب على القادر ما لا يجب على العاجز» قال تعالى: ((فَاتَّقُواْ اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ)) (التغابن:16)، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «إذا أمرتكم بأمر فائتوا منه ما استطعتم»[27].

وتختلف صلاحيات المتطوع عن صلاحيات المحتسب المعين؛ لأن المعين يقوم مقام ولي الأمر في هذا العمل، فيجوز له أن يعزّر ويعاقب في المنكرات الظاهرة، بخلاف المتطوع، فلا يجوز له أن يعزّر ويعاقب في المنكرات الظاهرة، وإنما له النصيحة والوعظ والحوار والمجادلة وغير ذلك من الوسائل السليمة.

وإذا كان للمحتسب المعين أن يتخذ الأعوان والمساعدين للقيام بأعمال الحسبة، فإن للمتطوعين وآحاد الناس أن ينظموا أنفسهم ويكونوا الجمعيات والمؤسسات الأهلية للقيام بأعمال الحسبة التي تدخل في صلاحياتهم، ويؤيد ذلك قوله تعالى: ((وَلْتَكُن مّنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ)) (آل عمران:104)، وقوله تعالى: ((وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبرِ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ)) (المائدة:2).

ثالثاً: التأصيل الشرعي للحسبة:

إذا كانت الحسبة تمثل الرقابة العامة على المجتمع، فإن قاعدتها وأصلها هو: «الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر»، كما قال ابن القيم: وهي صفة وصف الله بها هذه الأمة، وفضلها من أجل ذلك على سائر الأمم[28]. وتعد أدلة مشروعية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أدلة الحسبة. وفيما يلي بيان لذلك:

1- قوله تعالى: (( وَلْتَكُن مّنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ )) (آل عمران:104).

2- وقوله تعالى: (( كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ)) (آل عمران:110).

3- وقوله تعالى: (( وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ )) (التوبة:71).

4- وقوله تعالى، في وصية لقمان لابنه: ((يابُنَىَّ أَقِمِ الصلاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الاْمُورِ )) (لقمان:17).

5- وروى أبو سعيد الخدري رضي الله عنه، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: « من رأى منكم منكرًا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان»[29].

6- وعن حذيفة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «والذي نفسي بيده لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر، أو ليوشكن الله أن يبعث عليكم عذاباً منه، ثم تدعونه فلا يستجاب لكم» [30].

7- وعن ابن مسعود رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن أول ما دخل النقص على بني إسرائيل كان الرجل يلقى الرجل، فيقول: يا هذا اتق الله ودع ما تصنع، فإنه لا يحل لك، ثم يلقاه من الغد فلا يمنعه ذلك أن يكون أكيله وجليسه وشريبه وقعيده، فلما فعلوا ذلك ضرب الله على قلوب بعضهم»، ثم قال: (( لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن بَنِى إِسْراءيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذالِكَ بِمَا عَصَوْا وَّكَانُواْ يَعْتَدُونَ (78) كَانُواْ لاَ يَتَنَاهَوْنَ عَن مُّنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ )) (المائدة:78-79) ثم قال: «كلا والله لتأمرن بالمعروف، ولتنهون عن المنكر، ولتأخذن على يد الظالم، ولتأطرنه على الحق أطراً، أو تقصرنه على الحق قصراً» [31].

8- وعن أسامة بن زيد رضي الله عنهما، قال:سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يقول: «يؤتى بالرجل يوم القيامة فيلقى في النار فتندلق أقتاب بطنه، فيدور بها كما يدور الحمار بالرحى، فيجتمع إليه أهل النار، فيقولون: يافلان مالك؟ ألم تكن تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر؟ فيقول: بلى، قد كنت آمر بالمعروف ولا آتيه، وأنهى عن المنكر وآتيه»[32].

9- وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إياكم والجلوس بالطرقات» قالوا: «يارسول الله مالنا من مجالسنا بد، نتحدث فيها. فقال: فإذا أبيتم إلا المجلس فأعطوا الطريق حقه»، قالوا: وما حق الطريق يا رسول الله؟ قال: «غض البصر، وكف الأذى، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر»[33].

10- وعن أبي بكر الصديق رضي الله عنه، قال: «أيها الناس إنكم تقرأون هذه الآية: (( يأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لاَ يَضُرُّكُمْ مَّن ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ)) (المائدة:105)، وإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إن الناس إذا رأوا الظالم، فلم يأخذوا على يديه أوشك أن يعمهم الله بعقاب منه»[34].

11- وعن تميم الداري رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «الدين النصيحة»، قلنا: لمن؟ قال: «لله، ولكتابه، ولرسوله، ولأئمة المسلمين وعامّتهم» [35].

12- وقد أجمع العلماء على مشروعية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. ونقل الإجماع كل من ابن عبد البر والجويني وابن حزم والقرطبي، حيث قال ابن حزم: «لا خلاف بين الأمة الإسلامية على وجوبه» [36].

المبحث الثاني:

دور الحسبة في حماية حقوق الإنسان

من أبرز معالم هذا العصر قضية حقوق الإنسان، فهي تشكل مرتكزاً أساسياً للخارطة الدولية. فما دور الحسبة الشرعية في حمايتها؟ إن الجواب عن هذا السؤال يتضمن خمسة محاور: وهي الحسبة ومصدر حقوق الإنسان، والحسبة والغاية من حقوق الإنسان، والحسبة وتحديد مضامين حقوق الإنسان، والحسبة ودور الدولة في حماية حقوق الإنسان، والحسبة ومؤسسات المجتمع المدني التي تشكل إحدى الضمانات لحقوق الإنسان. وفيما يلي بيان لهذه المحاور.

أولاً: الحسبة ومصدر حقوق الإنسان:

إذا كان مفهوم حقوق الإنسان في القوانين الغربية المعاصرة يستند إلى القانون الطبيعي المستمد من العقل الإنساني و الطبيعة، وإلى مبادئ العدالة التي تتركز في ضمير الإنسان ووجدانه، وما نتج عنها من حرية فردية وعقد اجتماعي، هذا بالإضافة إلى العلمانية السياسية التي اصطبغ بها الفكر الغربي منذ القرن السابع عشر الميلادي، والتي عملت على استبعاد فكرة وجود قوانين إلهية تحدد حقوق الإنسان، واستبدال هذه القوانين بالقوانين الطبيعية التي لا علاقة لها بالله تعالى لا من قريب ولا من بعيد[37]، فإن الحسبة الشرعية، أو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والذي يعني إحقاق الحق ومقاومة البغي الذي يتعرض له الإنسان؛ تستند إلى الوحي الإلهي المتمثل في القرآن الكريم و السنة النبوية الشريفة، والذي يأخذه الإنسان المسلم بقلب مليء بالإيمان والعقيدة. وهذا يفسر لنا اقتران الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بالإيمان في كثير من الآيات، منها قوله: (( كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ)) (آل عمران: 110)، وقوله: ((مّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ ءايَاتِ اللَّهِ ءانَاء الَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ (113) يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الاْخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُسَارِعُونَ فِى الْخَيْراتِ وَأُوْلَئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ)) (آل عمران: 113-114)، وقوله: ((وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ)) (التوبة: 71).

«ومن النماذج الواقعية، ما روى الطبري في تاريخه أن ربعي ابن عامر دخل على رستم قائد الفرس في مجلسه، فبادر رستم بسؤال الشيخ المجاهد: ما جاء بكم؟ فأجابه الرجل المؤمن على الفور: «الله ابتعثنا، والله جاء بنا لنخرج من شاء من عبادة العباد إلى عبادة الله، ومن ضيق الدنيا إلى سعتها، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام»[38].

إن الحسبة الشرعية، بمفهومها الواسع للفرد والجماعة والدولة، هي محور حقوق الإنسان، وتؤصل لمصدر تلك الحقوق، فتربطها بالوحي الإلهى وعقيدة الإيمان بدلاً من ربطها بالطبيعة والعقل الإنساني المجرد ومبادئ العدالة وما ينتج عنها من عقد اجتماعي، وغير ذلك مما تقرره العقلية الغربية. وهذا مما يجعل هذه الحقوق ثابتة وموضوعية، وهي في حراسة عقيدة الإيمان وحمايتها، وهي ترتكز إلى أصول ثابتة في قلب الإنسان المسلم وضميره، تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها، وتجد احتراماً وتقديراً و قداسة من الإنسان.قال الله تعالى: (( إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإْحْسَانِ وَإِيتَآء ذِى الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْى)) (النحل:90)، وقال تعالى: ((إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّواْ الامَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُواْ بِالْعَدْلِ)) (النساء: 58)، أما ربط حقوق الإنسان بالقانون الطبيعي فيجعلها خاضعة لاعتبارات ذاتية ترتبط بمصلحة الدولة أو مصلحة الحكام دون النظر إلى الاعتبارات الموضوعية المتعلقة بإقرار الحقوق والواجبات، ولذلك قيدت نصوص المواثيق الخاصة بهذه الحقوق بالحماية التي كفلتها دساتير الدول[39].

وهذا يفسر لنا التصريحات المتناقضة بشأن حقوق الإنسان في الغرب، وسياسة الكيل بمكيالين ومدى (احترام) الغرب لحقوق الإنسان في غير بلاده!

ثانياً: الحسبة والغاية من حقوق الإنسان:

إذا كانت الغاية من حقوق الإنسان في القوانين الغربية المعاصرة هي تقرير القيم الغربية المستندة إلى مبادئ العدالة والحرية الفردية وتسويقها في المجتمعات الإنسانية عن طرق الدعاية الإعلامية، والدعوة إلى العلمانية أحياناً، وفي بعض الأحيان عن طريق الحرب، وتهديد الدول بوضعها في قائمة الدول المساندة للإرهاب والمنتهكة لحقوق الإنسان، فإن الغاية من الحسبة الشرعية هي تحقيق السلام العالمي، الذي يستند إلى تطبيق أحكام الشريعة الإسلامية، وحماية مصالح الناس في الدنيا والآخرة، ودفع الفساد عنهم.

وهي مصالح لا ترتبط بفئة معينة، ولا بجنس الفرد أو لونه أو موطنه، وإنما تشمل جميع الناس. وهي تسعى إلى إيجاد عالم يتمتع فيه الإنسان بالكرامة الإنسانية وبحرية العقيدة والقول، ويتحرر من التسلط والظلم والفزع والفاقة، كما يقول الغزالي وغيره من العلماء المسلمين: «إن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هو القطب الأعظم في الدين... ولو طوي بساطه وأهمل علمه وعمله، لتعطلت النبوة واضمحلت الديانة، وعمت الفترة، وفشت الضلالة، وشاعت الجهالة، واستشرى الفساد، واتسع الخرق، وخربت البلاد، وهلك العباد، ولم يشعروا بالهلاك إلا يوم التناد»[40].

إن الحسبة في غايتها العالمية تؤصل للغاية من حقوق الإنسان، فهي غاية عالمية خالدة، وليست آنية يتوقف وجودها وإقرارها على مصالح الدول والأمم التي تروج لها، وهي ترجع إلى حفظ مقاصد الشريعة في الخلق، كما أشار الشاطبي، حيث ربط بين الحسبة ومقاصد الشريعة. وهذه المقاصد لا تعدو ثلاثة أقسام: وهي الضروريات، والحاجيات، والتحسينيات.

فالضروريات هي التي لا بد منها في قيام مصالح الدين والدنيا، بحيث إذا فقدت لم تجر مصالح الدنيا على استقامة، بل على فساد وتهارج وفوت حياة، وفي الأخرى فوت النجاة والنعيم والرجوع بالخسران المبين.. ويتم حفظ الضروريات بأمرين:

الأول: ما يقيم أركانها ويثبت قواعدها، وذلك مراعاتها من جانب الوجود.

والثاني:ما يدرأ عنها الاختلاف الواقع أو المتوقع فيها، وذلك مراعاتها من جانب العدم.

فأصول العبادات راجعة إلى حفظ الدين من ناحية الوجود: كالإيمان، والنطق بالشهادتين، والصلاة، والزكاة، والصيام، والحج، وما أشبه ذلك.. والعادات راجعة إلى حفظ النفس والعمل من جانب الوجود أيضاً: كتناول المأكولات، والمشروبات، والملبوسات، والمسكونات.. والمعاملات راجعة إلى حفظ النسل و المال من جانب الوجود، وإلى حفظ النفس و العقل أيضا.ً. والجنايات راجعة إلى حفظ الجميع من دين ونفس وعرض وعقل ومال من جانب العدم.

والذي يجمع كل ذلك من الجانبين: الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر(الحسبة)، فيجمعها من جانب الوجود الأمر بالمعروف، ومن جانب العدم النهي عن المنكر.

وأما الحاجيات فترجع إلى ما يرفع الحرج عن الناس، ويخفف عنهم أعباء التكليف، وييسر لهم طرق المعاملات و المبادلات. وهي جارية في العبادات والمعاملات والجنايات. ففي العبادات شرعت الرخص تخفيفاً عن المكلفين إذا كان في العزيمة مشقة عليهم: كرخصة الإفطار في رمضان لكل من المريض والمسافر. وفي المعاملات شرعت البيوع والإجارات والمضاربات، ورخص في عقود لا تنطبق على الأصول العامة: كالسلم والاستصناع والمزارعة والمساقاة، وغير ذلك مما يحتاج إليه الناس. وفي الجنايات شرعت القسامة، وضربت الدية على العاقلة، وغير ذلك.

وأما التحسينيات فترجع إلى كل ما يجمل حال الناس ويجعلها على وفاق مما يليق بمحاسن العادات، وتجنب الأحوال المداسات التي تأنفها العقول الراجحات. ويجمع ذلك مكارم الأخلاق. وهي جارية في العبادات والمعاملات والعقوبات. ففي العبادات شرعت الطهارة وأخذ الزينة. وفي المعاملات منع الغش والتدليس والتغرير وبيع النجاسات. وفي العقوبات منع من قتل الرهبان والنساء والصبيان الذين لم يشاركوا في القتال، ونهي عن المُثلة و الغدر وغير ذلك[41].

ثالثاً: الحسبة وتحديد مضامين حقوق الإنسان:

إذا كانت المواثيق الغربية المعاصرة لحقوق الإنسان ودساتير الدول لم تتناول مضامين الحقوق بشكل قانوني منظم ومبوب، وإنما عمدت إلى تقريرها بأسلوب عاطفي أدبي، مما يزيد في انتقائية الدول لهذه الحقوق، ويجعلها في مرونة السلطة الحاكمة في إقرار بعض الحقوق أو عدم إقرارها في المجتمع، وليس أدل على ذلك من التفرقة العنصرية ضد الملونين التي تمارسها الدول الديمقراطية التي تدعي دفاعها عن حقوق الإنسان، أو السياسة الاستعمارية البشعة التي تمارسها كثير من الدول الكبرى في العالم[42]، فإن علماء الحسبة الشرعية قد تناولوا مضامين حقوق الإنسان بشكل مبوب يفوت على الدولة الانتقائية في إقرار الحقوق، ويكسب تلك الحقوق الحماية.

فقد قسم ابن تيمية الحقوق إلى قسمين: أولهما: الحقوق التي ليست لقوم معينين، بل منفعتها لمطلق المسلمين، أو نوع منهم، كلهم محتاج إليها، وتسمى حدود الله وحقوق الله، ومثّل لذلك بحد قطع الطريق، وحد السرقة، والزنى، والتصرف في الأموال السلطانية (المالية العامة)، والوقف، والوصايا التي ليست لمعين. فهذه من أهم أمور الولايات، ولهذا قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: «لا بد للناس من إمارة، بَرَّة كانت أو فاجرة. فقيل: يا أمير المؤمنين هذه البرة قد عرفناها فما بال الفاجرة؟ فقال: يقام بها الحدود، وتأمن بها السبل، ويجاهد بها العدو، ويقسم بها الفيء»، فهذا القسم يجب على الولاة البحث عنه وإقامته من غير دعوى أحد به: وأما القسم الثاني: فهو الحقوق التي لآدمي معين، وترجع إلى حفظ النفس بالقصاص، والعقل، والمال بتشريع المعاملات وغير ذلك[43].

ويضيف الماوردي قسماً ثالثاً إلى حقوق الله وحقوق الآدميين: وهو الحقوق المشتركة بين حقوق الله وحقوق الآدميين، ولهذا نجده قد قسم الحقوق ثلاثة أقسام وربطها بالحسبة بفرعيها: الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر[44].

وجعل الفرع الأول على ثلاثة أقسام. وهي حقوق تتعلق بالله تعالى وما يجب له، وحقوق تتعلق بالآدميين، وحقوق مشتركة بين الله والآدميين.

فالقسم الأول: المتعلق بحقوق الله على ضربين:

الضرب الأول: ما يلزم الأمر به في الجماعة دون الانفراد: كصلاة الجمعة في وطن مسكون، وصلاة الجماعة في المساجد، وإقامة الأذان فيها. فهي من شعائر الإسلام وعلامات التعبد، فإذا اجتمع أهل بلد أو محلة على تعطيل صلاة الجماعة في مساجدهم، وترك الأذان في إقامة صلواتهم، كان المحتسب مندوباً إلى أمرهم بالأذان والجماعة في الصلوات.

وأما الضرب الثاني:فما يأمر به آحاد الناس وأفرادهم: كالأمر بأداء الصلاة في وقتها وعدم تأخيرها، فيذكر المحتسب بها ويأمر بفعلها.

وأما القسم الثاني: المتعلق بالأمر بالمعروف في حقوق الآدميين فعلى ضربين: عام، وخاص:

فالضرب الأول: عام يتعلق بمصلحة عموم الناس: ومثاله ما إذا تعطل شِرب[45] البلد، أو انهدم سوره، فعلى المحتسب أن يأمر المسؤولين بإصلاحه إذا كان في بيت المال مال وإلا لزم الكافة القيام بذلك، فيبادر القادرون إلى إصلاحه، وإن قصروا في ذلك أمرهم المحتسب وحثهم عليه.

وأما الضرب الثاني: من حقوق الآدميين فهو خاص، ويكون فيما إذا مُطلت الديون وأخر المدين القادر على سدادها، فللمحتسب أن يأمر القادرين على السداد بقضاء ما عليهم من ديون إذا حان وقت السداد، إذا طلب منه أصحاب الديون ذلك.

وأما القسم الثالث المتعلق بالأمر بالمعروف فيما كان مشتركاً من حقوق الله تعالى وحقوق الآدميين، فيمثل له بأمر الأولياء بنكاح الأيامى أكفائهن إذا اشتكين للمحتسب، ومنع تعسف الأولياء في حق الولاية عليهن، وإلزام النساء بأحكام العدة إذا فورقن، وله تأديب من خالفت في العدة: بأن تزوجت قبل انتهائها. ويأخذ السادة بحقوق العبيد والإماء و (الخدم)، وأن لا يكلفوا من الأعمال مالا يطيقون، ويأمر من أخذ لقيطاً برعايته، وعدم التقصير في كفالته.

وجعل الفرع الثاني: وهو النهي عن المنكر، على ثلاثة أقسام أيضاً:

فالقسم الأول: يتعلق بحقوق الله تعالى، وهو على ثلاثة أضرب:

الضرب الأول: ما يتعلق بالعبادات، من قصد مخالفة هيئاتها المشروعة، وتعمد تغيير أوصافها المسنونة: كأن يقصد الجهر في صلاة الإسرار، والإسرار في صلاة الجهر، أو أن يزيد في الصلاة أو الأذان أذكاراً غير مسنونة؛ فللمحتسب إنكارها وتأديب المعاند فيها. وكذلك إذا أخل الإنسان بتطهير جسده أو ثوبه أو موضع صلاته أنكره عليه إذا تحقق ذلك، وإذا رأى من يتصدى لعلم الشرع وليس من أهله أنكر عليه ذلك.

وأما الضرب الثاني: فما يتعلق بالمحظورات من حقوق الله، مثل منع الناس من مواقف الريب ومظان التهمة: كوقوف رجل مع إمرأة في طريق خال، والمجاهرة بإظهار الخمر، واستعمال الملاهي المحرمة وغير ذلك.

وأما الضرب الثالث: فما يتعلق بالمعاملات من حقوق الله، والبيوع الفاسدة، والعقود المحرمة، والغش في المبيعات، وتدليس الأثمان، وغير ذلك.

وأما القسم الثاني: المتعلق بالنهي عن المنكر في حقوق الآدميين المحضة؛ فيمثل له بتعدي الجيران على بعضهم، إذا طلب المتعدى عليه إنصافه. وكذلك مراقبة أهل الصنائع في الأسواق ومنعهم من الغش.

وأما القسم الثالث: المتعلق بالنهي عن المنكر في الحقوق المشتركة بين حقوق الله تعالى وحقوق الآدميين؛ فيمثل له بالمنع من الإشراف على منازل الناس والإطلاع على عوراتهم، ومنع أئمة المساجد من الإطالة في الصلاة حتى لا يعجز عنها الضعفاء ولا ينقطع عنها ذوو الحاجات. ومنع القضاة من الجور في الأحكام. ومنع أرباب السفن من حمل ما لا تسعه، ويخاف منه غرقها، ومنعهم من السير عند اشتداد الريح، وإذا حمل فيها الرجال والنساء حجز بينهم بحائل. ويراقب المحتسب المحلات التي يرتادها النساء، فإذا كان العامل فيها ممن حسنت سيرته وأمانته أقره فيها، وإن ظهرت منه الريبة وبان عليه الفجور؛ منع من العمل فيها وأدب على ذلك. وينظر المحتسب في مقاعد الأسواق، فيقر منها ما لا ضرر فيه على المارة، ويمنع ما استضر به المارة. ويمنع من التكسب بالكهانة واللهو، ويؤدب عليه الآخذ والمعطي وغير ذلك.

مما سبق من عرض لأنوع حقوق الإنسان في تشريع الحسبة في الفقه الإسلامي، تتبين الأمور التالية:

1- إن الحسبة ببيان أنواع الحقوق فيها تستوعب كل ما جاء في إعلانات حقوق الإنسان في الدساتير الحديثة والمواثيق الدولية المعاصرة، فهي تشمل الحقوق الشخصية الذاتية والفكرية والسياسية والقانونية والاجتماعية والاقتصادية والحريات العامة: كحرية التعبير وحرية التنقل والإقامة، والحرية الفكرية والمعنوية، هذا بالإضافة إلى تقرير حق المساواة بين أفراد الدولة أمام شريعة الله تعالى. كما يتمتع أهل الذمة من غير المسلمين بالمساواة أمام القانون والقضاء؛ لأن الذمي من رعوية الدولة الإسلامية ويحمل جنسيتها، فله حقوق المواطنة العامة في الإسلام.

وتزيد حقوق الإنسان في الإسلام على ما جاء في تلك المواثيق بإقرار عبودية الإنسان لخالقه تعالى، وتحريره من العبودية للخلق. وهي ركيزة أساسية في تحقيق إنسانية الإنسان وكرامته، إذ بدونها تبقى حقوقه عرضة للانتهاك.

2- إن الحسبة في عرضها للحقوق الواجبة للإنسان لا تغفل عن الواجبات الملقاة على عاتقه، فيجعل كثيراً من حقوقه واجبات دينية مطالب بها. فإبداء الرأي(الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر) واجب شرعي عليه وحق له كذلك، أوجبه الإسلام على الفرد المسلم في قوله تعالى : ((وَلْتَكُن مّنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ)) (آل عمران:104)، واعتبره حقاً له وواجباً على الدولة، فعليها أن تمكن المسلمين من أدائه، في قوله: ((وَشَاوِرْهُمْ فِى الاْمْرِ )) (آل عمران:159) كما يجب على الدولة أن تخصص ولاية خاصة بالحسبة، وتعين المحتسب والأعوان.

هذا بالإضافة إلى أن الحقوق في الإسلام جاءت مقيدة بالواجبات: فحرية التنقل في داخل بلاد الدولة الإسلامية مقيدة بعدم إلحاق الضرر بالأمة، كأن يكون ذلك البلد ثغراً في مواجهة العدو، وحينئذ فإن على أهله واجب البقاء فيه وعدم الانتقال عنه، ولو تعرضت مرافقه للتلف فيجب على الدولة إصلاحها إن كان في بيت المال مال، والإ وجب على الكافة القيام بالإصلاح، ولا يجوز لهم الانتقال عنه، كما قال الماوردي: «إن كان البلد- أي الذي تعرض شِربه للتلف- ثغراً بدار الإسلام لم يجز لولي الأمر أن يفسح في الانتقال عنه، وكان حكمه حكم النوازل إذا حدثت في قيام كافة ذوي المكنة به. وكان تأثير المحتسب في مثل هذا إعلام السلطان به وترغيب أهل المكنة في عمله. وإن لم يكن هذا البلد ثغراً مضراً بدار الإسلام كان أمره أيسر وحكمه أخف...»[46].

إن الجمع بين الحقوق والواجبات في تشريع الحسبة وغيرها، يؤدي إلى تواضع الإنسان في مطالبته بحقوقه وعدم تسرعه، فقبل المطالبة للآخرين بالحقوق يطالب نفسه بالواجبات الملقاة على عاتقه. وهذا بدوره يؤدي إلى إيجاد إنسان الواجب الذي يستشعر دوره في المجتمع، وبالتالي يكون معطاء فعالاً إيجابياً مدركاً لواجبه تجاه نفسه ومجتمعه ودينه.

3- إن تشريع الحسبة قرر الحقوق الجماعية للشعوب ولم يكتف بتقرير حقوق الفرد: مثل حق تقرير المصير والكيان السياسي للأمة، وهي ما يطلق عليها المصلحة العامة أو حق الله تعالى، وهي حقوق مقدمة على الحقوق الخاصة، كما جاء في حديث السفينة، حيث قال النبي صلى الله عليه وسلم: «مَثَلُ المُدْهِن في حدود الله والواقع فيها مثلُ قوم استهموا سفينة، فصار بعضهم في أسفلها، وصار بعضهم في أعلاها، فكان الذي في أسفلها يمرون بالماء على الذين في أعلاها، فتأذوا به فأخذ فأساً فجعل ينقر أسفل السفينة، فأتوه، فقالوا: مالك؟، قال: تأذيتم بي ولا بد لي من الماء، فإذا أخذوا على يديه أنجوه ونجّوا أنفسهم، وإن تركوه أهلكوه وأهلكوا أنفسهم»[47].

رابعاً: الحسبة و دور الدولة في حماية حقوق الأنسان:

ولاية الحسبة من الولايات الشرعية العامة الخاضعة لسلطة الدولة، حيث تجب على الإمام بحكم وظيفته في حفظ الدين على أصوله المستقرة وتنفيذ أحكامه، ورعاية حقوق الناس ومصالحهم[48]. ولذلك كان الخلفاء في العصور الأولى للإسلام يباشرونها بأنفسهم، ثم أسندوا أمرها إلى والٍ خاص يُعْرَف بالمحتسب، وأُعطي من الصلاحيات و الأعوان بحيث يقوم بها خير قيام، فيمشي في الأسواق والشوارع ويقتحم أبواب المؤسسات العامة والدوائر الحكومية، ليأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، سواء تعلق ذلك بقيمة من قيم الإسلام معطلة أو بحق من حقوق الناس مهدر، مهما كان مركز ذلك الفاعل للمنكر، فيدخل المحتسب على الأمراء والولاة وينكر عليهم، كما قال ابن الإخوة: «ينبغي للمحتسب أن يقصد مجالس الأمراء والولاة ويأمرهم بالشفقة على الرعية، والإحسان إليهم، ويذكر لهم ما ورد في ذلك من الأحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم مثل: «ما من عبد استرعاه الله رعية، ولم يحطها بنصيحة إلا لم يجد رائحة الجنة»[49]، وقال صلى الله عليه وسلم: «ما من وال يلي رعية من المسلمين، فيموت وهو غاش لهم إلا حرم الله عليه الجنة»[50]، ويبين لهم خطر الولاية. ولا يسلم الوالي إلا بمخالطة العلماء والصلحاء وفضلاء الدين ليعلموه طريق العدل.

ومن أعظم خصال الوالي وأحمدها توقياً في نفوس الخاصة والعامة، إنصافه من خاصته وحاشيته وأعوانه، وتفقدهم في كل ساعة، ويمنعهم أن يأخذوا فوق ما يستحقون.. »[51]، ويدخل على القضاة في محاكمهم، كما قال ابن بسام: «ينبغي للمحتسب أن يتردد إلى مجالس القضاة والحكام... فإذا رأى القاضي قد اشتاط على رجل غيظاً أو شتمه أو احتدّ عليه في كلامه ردعه عن ذلك، ووعظه، وخوفه الله عز وجل، فإن القاضي لا يجوز له أن يحكم وهو غضبان، ولا يقول هجراً ولا يكون فظاً غليظاً»[52]..

ويراقب المحتسب التجار والصناع، ويشرف على أحوالهم، ويطالع أخبارهم، فيقر المعروف وينكر المنكر، ويمنع صاحب كل صناعة من الغش في صناعته، وكل تاجر من الغش في بضاعته[53].

فعلى المحتسب أن يأخذ على يد الظالم، وأن يحارب الجريمة والانحراف قبل أن يستفحل خطرها ويشتد أمرها، وتفتك بالناس في المجتمع؛ وإلا كان مسؤولاً عن ذلك، ومن ورائه الدولة التي عينته، قال تعالى: (( لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن بَنِى إِسْراءيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذالِكَ بِمَا عَصَوْا وَّكَانُواْ يَعْتَدُونَ (78) كَانُواْ لاَ يَتَنَاهَوْنَ عَن مُّنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ)) (المائدة: 78-79).

وإذا جاز للمحتسب اقتحام الدوائر الحكومية العامة، من إدارة الوالي والمحكمة الشرعية وغير ذلك، فلا يجوز له اقتحام بيوت الناس الخاصة والتجسس عليهم، كما ذكر ابن جزي في القوانين ضمن شروط المحتسَب عليه: «أن يكون معلوماً بغير تجسس، فكل من ستر على نفسه وأغلق بابه، لا يجوز أن يتجسس عليه»[54].. وروى الخلال عن أحمد بن حنبل: «أنه سئل عن الرجل يسمع حس الطبل والمزمار ولا يعرف مكانه، فقال: وما عليك؟ وقال: ما غاب فلا تفتش»[55]. وقال ابن تيمية: «إذا أظهر الرجل المنكرات وجب الإنكار عليه»[56].

وقال الماوردي: «وأما ما لم يظهر من المحظورات فليس للمحتسب أن يتجسس عنها، ولا أن يهتلك الأستار حذراً من الاستتار بها»[57]، ويؤيد ذلك قوله صلى الله عليه وسلم:«من أصاب من هذه القاذورات فليستتر بستر الله، فإنه من يبدي لنا صفحته نقم عليه كتاب الله»[58]، وقوله صلى الله عليه وسلم: «إنك أن اتبعت عورات المسلمين أفسدتهم أوكدت أن تفسدهم»[59]، وما روي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال: «إن ناساً كانوا يؤخذون بالوحي في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإن الوحي قد انقطع، وإنما نأخذكم الآن بما ظهر لنا من أعمالكم، فمن أظهر لنا خيراً أمناه وقربناه، وليس لنا من سريرته شيء، الله يحاسبه على سريرته» [60].

واستثنى الماوردي من عدم جواز التجسس على الناس حالة واحدة: وهي ما إذا كانت الجريمة على وشك الوقوع، ونقلها إلى المحتسب ثقةٌ عدلٌ. أما إذا لم تكن على وشك الوقوع أو لم يخبر بها ثقة عدل، فلا يجوز التجسس واقتحام البيوت الخاصة للناس، حيث قال: «فإن غلب على الظن استسرار قوم بها لأمارات دلت وآثار ظهرت فذلك ضربان: أحدهما: أن يكون ذلك في انتهاك حرمة يفوت استدراكها: مثل أن يخبره من يثق في صدقه أن رجلاً خلا بامرأة ليزني بها أو برجل ليقتله؛ فيجوز له في مثل هذه الحالة أن يتجسس، ويقوم على الكشف والبحث حذراً من فوات مالايُستدرك من انتهاك المحارم وارتكاب المحظورات... وهكذا لو عرف ذلك قوم من المتطوعة جاز لهم الإقدام على الكشف والبحث في ذلك والإنكار. والضرب الثاني: ما خرج من هذا الحد وقصر عن حد هذه الرتبة؛ فلا يجوز التجسس عليه، ولا كشف الأستار عنه»[61].

هذا يدل دلالة واضحة على أن تشريع الحسبة يحمي الحياة الخاصة للإنسان، فلا يجوز التجسس عليه ولا مراقبته بحجة المصلحة الوطنية، ولا التنصت على مكالماته الهاتفية وغير ذلك.

خامساً: الحسبة ومؤسسات المجتمع المدني التي تشكل إحدى الضمانات لحقوق الإنسان:

إذا كان المجتمع المدني يعني أنه المجتمع الذي ينظم أفراده أنفسهم بتنظيمات تطوعية حرة، تملأ الفراغ بين الأسرة والسلطة السياسية والمجتمع، بحيث يتمكن الأفراد من أن يديروا أنفسهم بأنفسهم، من خلال منظماتهم التطوعية، ملتزمين في ذلك بقيم الاحترام ومعاييره والإدارة السلمية للنزاع والخلاف، فهو بهذا المعنى يتضمن عدة عناصر وهي:

العنصر الأول: المبادرة إلى الانضواء في عضويات حرة، وتنظيمات فاعلة تسعى لتحقيق مصالح الناس، وترعى حقوقهم على وجه الكفاية. وبقدر ما يحمل الشخص من بطاقات عضوية في تلك التنظيمات الحرة يكون عنصراً نشطاً في مجتمعه.

العنصر الثاني: التنظيم الجماعي، فهي مؤسسة ذات نظام خاص بها، ينظم حقوق الأفراد وواجباتهم.

العنصر الثالث: اتباع الطرق السليمة في حل الخلافات، فالأفراد في المجتمع المدني يعترفون بحق "الغير" في تنظيم نفسه وحماية حقوقه[62].

فإن الحسبة بمعناها التطوعي تعمل على إيجاد مؤسسات أهلية أو مؤسسات المجتمع المدني، فللمتطوعين أن يبادروا إلى إقامة مؤسسات وجمعيات في سائر حقول الحياة، تنفيذاً لأمر الله تعالى: ((وَلْتَكُن مّنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ)) (آل عمران:104)، وقوله تعالى: ((وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبرِ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ)) (المائدة:2).. فلا بد للمسلمين من تجميع طاقاتهم وتنظيمها حتى تتحول إلى قوة إيجابية فعالة تساند الحق وتقف في وجه الباطل.

هذا بالاضافة إلى أن الحسبة التطوعية بحكمها التكليفي، وهو حسب رأي جمهور الفقهاء[63] فرض كفاية، تؤيد إنشاء المؤسسات والجمعيات الأهلية. وبيان ذلك، أن الواجب الكفائي يعني أن على القادر القيام بالمطلوب ومباشرته، فإذا قام به "البعض" سقط الإثم عن الآخرين. وهذا لا يقلل من شأن الواجب الكفائي، وإنما يعلي من مكانته، فهو يقوم برعاية المصالح العامة للمجتمع، كما قال الشاطبي: «وذلك أن الكفائي قيام بمصالح عامة لجميع الخلق»[64].

وقال العز بن عبد السلام: «واعلم أن المقصود بفرض الكفاية تحصيل المصالح ودرء المفاسد دون ابتلاء الأعيان بتكليفه. والمقصود بتكليف الأعيان حصول المصلحة لكل واحد من المكلفين على حدته؛ لتظهر طاعته أو معصيته، لذلك لا يسقط فرض العين إلا بفعل المكلف به، ويسقط فرض الكفاية بفعل القائمين به دون من كلف به في امتداد الأمر. أما سقوطه عن فاعليه؛ فلأنهم قاموا بتحصيل مصلحته، وأما سقوطه عن الباقين فلتعذر التكليف»[65].

وإذا كان الواجب الكفائي يتعلق بالمصالح العامة؛ فإنه يجعل ذلك الواجب واجباً عاماً يلقي على عاتق المسلمين جميعاً القيام به، فالقادر على القيام به يباشره بنفسه، وغير القادر يحمل القادر على مباشرته، كما قال الشيخ محمد الخضري: «الواجبات الكفائية إذا ورد من الشارع طلب شيء منها، فإنما يوجه إلى "البعض" القادر على العمل، وعلى بقية الأمة أن تحمل هؤلاء على العمل إذا هم تهاونوا في القيام به.. فالمستعدون مكلفون بمباشرة العمل، والباقون مكلفون بحمل القادرين على العمل بمباشرته»[66].

وعليه، فإن مفهوم واجب الكفاية يتسع ليشمل وجوب تشكيل مؤسسات أهلية للقيام بمصالح الناس عامة. ومن المؤسسات التي تدخل تحت الكفاية المؤسسات الفكرية، ومراكز الدراسات التي تعنى بإصدار النشرات والدوريات البحثية المتخصصة. وقد عدَّ الزركشي تصنيف الكتب العلمية ضمن مجالات فروض الكفاية، فقال: «تصنيف كتب العلم لمن منحه الله تعالى فهماً وإطلاعاً، ولن تزال هذه الأمة مع قصر أعمارها في ازدياد وترق في المواهب»[67].

ومنها: المؤسسات الاجتماعية التي ترمي إلى سد الخلات ودفع حاجات المحتاجين، وإغاثة الملهوفين، وإنقاذ الغرقى، وغير ذلك. ومنها: المؤسسات التطوعية لإصلاح المرافق العامة في حالة عجز ميزانية الدولة عن سد نفقات الإصلاح: كإصلاح شِرب بلد تعطل، أو سور مدينة انهدم، كما قال الماوردي:

«فإن كان في بيت المال مال، لزم إصلاح ما تعطل من بيت المال؛ لأنها حقوق تلزم بيت المال. فأما إذا أعوز بيت المال كان الأمر ببناء سورهم وإصلاح شربهم وعمارة مساجدهم وجوامعهم ومراعاة بني السبيل فيهم متوجهاً إلى كافة ذوي المكنة منهم، ولا يتعين أحدهم في الأمر به، وإن شرع ذوو المكنة في عملهم وفي مراعاة بني السبيل وباشروا القيام به سقط عن المحتسب حق الأمر به، ولم يلزمهم الاستئذان في مراعاة بني السبيل ولا في بناء ما كان مهدوماً. ولكن لو أرادوا هدم ما يعيدون بناءه من المسترم والمستهدم لم يكن لهم الإقدام على هدمه فيما عمّ أهل البلد من سوره وجامعهم إلا باستئذان ولي الأمر دون المحتسب ليأذن لهم في هدمه..»[68].

ومنها: النقابات المهنية والحرفية، فقد أشارت كتب الحسبة إلى ضرورة وجود عريف في كل صنعة من صالح أهلها، خبيراً بصناعتهم، بصيراً بغشوشهم وتدليسهم، مشهوراً بالثقة والأمانة، مشرفاً على أحوالهم، ويطالع المحتسب بأخبارهم[69].

وإذا كان اتباع الطرق السليمة عنصراً أساسياً في المجتمع المدني، فإن المتطوعين بالحسبة يباشرونها بالطرق السليمة في تلك المؤسسات، فليس لهم أن يعزروا ويعاقبوا في المنكرات الظاهرة، وإنما لهم النصيحة والوعظ والحوار والمجادلة وغير ذلك من الوسائل السلمية؛ لأن إعطاء صلاحيات تنفيذ العقوبات للمتطوعين وآحاد الناس يثير الفوضى والاضطراب في المجتمع الإسلامي، ويؤدي إلى مفاسد كثيرة، وهو افتيات على الإمام، كما قال ابن عبد السلام: «تولي الآحاد لما يختص بالأئمة مفسدة»[70]، هذا إذا كان الإمام مطبقاً لأحكام الشريعة الإسلامية وملتزماً بها. أما إذا كان جائراً أو غير مطبق لأحكام الشريعة، فقد أجاز الفقهاء لآحاد الناس تولي ما يختص بالأئمة في الأموال خاصة، فلهم أن يوزعوها، ويضعوها في مواضعها، كما قال ابن عبد السلام[71]: «يجوز - يقصد تولي آحاد الناس- لما يختص بالأئمة في الأموال إذا كان الإمام جائراً، يضع الحق في غير مستحقه تحصيلاً لمصلحة ذلك الحق الذي لو دفع إلى الإمام الجائر ولكان دفعه إليه إعانة على العصيان»، وقال تعالى: (( وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبرِ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ)) (المائدة:2).

ولا شك أن هذه المؤسسات الأهلية السلمية المحتسبة، هي التي تنشئ العمل الجاد المثمر، القادر على حماية حقوق الإنسان أكثر من المؤسسات الرسمية؛ لأنها تكون مستقلة عن السياسة المحلية للدولة، فلا تدور في فلكها، وإنما تدور في فلك مصلحة الأمة، ولأنها تعتمد في الغالب على أناس مخلصين يفرزهم العمل ويبرزهم الميدان، وبالتالي يكونون محل ثقة الناس واحترامهم و تقديرهم. هذا في الأعم الأغلب، وإلا فقد يوجد بين القائمين على المؤسسات الرسمية من يفوق العاملين في المؤسسات الأهلية إخلاصاً لله وغيرة على دينه.

الهوامش :

[1] لسان العرب لابن منظور، مادة(حسب)، (1/205)؛ معجم مقاييس اللغة لابن فارس، 2/59؛ المصباح المنير للفيومي، ص185؛ المفردات للأصفهاني، ص116؛ بصائر ذوي التمييز للفيروز آبادى، 2/460؛ النهاية في غريب الحديث لابن الأثير، 1/381.

[2] صحيح البخاري، كتاب الصوم، باب (6)، ص361.

[3] صحيح البخاري، كتاب الإيمان، باب (35)، ص32.

[4] صحيح البخاري، كتاب الجنائز، باب (33)، ص251.

[5] الأحكام السلطانية للماوردي 240؛ والأحكام السلطانية لأبي يعلى الفراء، 284.

[6] مجموع الفتاوى لابن تيمية، 28/ 217.

[7] معالم القربة في أحكام الحسبة لابن الإخوة، ص51؛ وانظر: نهاية الرتبة في طلب الحسبة لابن بسام، ص10.

[8] معالم القربة لابن الإخوة، ص 62.

[9] إحياء علوم الدين للغزالي، 2/312.

[10] نصاب الاحتساب للسنامي، ص83.

[11] المفردات للراغب الأصفهاني، ص117.

[12] سنن الترمذي، كتاب فضائل الجهاد، باب(11)، ص285، وقال: حسن صحيح.

[13] سنن ابن ماجه، كتاب الجنائز، باب (58)، ص175، وهو حديث صحيح.

[14] موطأ الإمام مالك مع تنوير الحوالك، كتاب الجهاد، باب الشهداء في سبيل الله، 1/307.

[15] صحيح مسلم، كتاب البر، باب (151)، ص1147.

[16] صحيح البخاري، كتاب الإيمان، باب (41)، ص34.

[17] صحيح البخاري،كتاب الإيمان، باب (41)، ص34.

[18] صحيح البخاري، كتاب الإيمان، باب (41)، ص34.

[19] الحسبة لابن تيمية (ص14-69-71).

[20] المقدمة، لابن خلدون، ص150؛ بدائع السلك في طبائع الملك لابن الأزرق،1/262.

[21] الطرق الحكيمة في السياسة الشرعية لابن القيم، ص237.

[22] المرجع السابق، والمقدمة لابن خلدون، ص150.

[23] نهاية الرتبة في طلب الحسبة لابن بسام(بتصرف)،(213-215)؛ ومعالم القربة في أحكام الحسبة لابن الإخوة (295-319).

[24] الأحكام السلطانية للماوردي، ص242، والأحكام السلطانية لأبي يعلى الفراء، ص286.

[25] المرجعان السابقان.

[26] الطرق الحكيمة لابن القيم، ص237، وانظر:الحسبة لابن تيمية، ص13.

[27] صحيح البخاري، كتاب الاعتصام، باب(2) رقم (7288)، ص1390.

[28] الطرق الحكيمة لابن القيم، ص237.

[29] صحيح مسلم، كتاب الإيمان، باب(20) رقم(177)، ص42.

[30] سنن الترمذي، كتاب القدر، باب(9) رقم(2169)، ص360، وقال: حديث حسن.

[31] سنن الترمذي، كتاب التفسير، باب سورة المائدة رقم(3047)، ص485.و قال: حسن غريب؛ وسنن أبي داود، كتاب الملاحم، باب(17) رقم(4336)، ص473.

[32] صحيح مسلم، كتاب الزهد، باب(7) رقم (7473)، ص1293.

[33] صحيح البخاري، كتاب الاستئذان، باب(2) رقم (6229)، ص1199.

[34] سنن الترمذي، كتاب الفتن، باب(8) رقم (2168)، ص360، وهو حديث صحيح.

[35] صحيح مسلم، كتاب الإيمان، باب (22) رقم (196)، ص44.

[36] الفصل في الملل والأهواء والنحل لابن حزم، 4/171؛ وانظر: الإرشاد للجويني، ص311؛ الجامع لأحكام القرآن للقرطبي، 4/48.

[37] (بتصرف) من حقوق الإنسان بين الشريعة الإسلامية و الفكر القانوني الغربي للدكتور محمد فتحي عثمان، ص11-12؛ حقوق الإنسان بين تعاليم الإسلام وإعلان الأمم المتحدة للغزالي، ص115؛ والنظرية السياسية الإسلامية في حقوق الإنسان الشرعية لمحمد مفتي وسامي الوكيل، ص26-33.

[38] تاريخ الطبري،2/134.

[39] بتصرف من النظرية السياسية لمفتي و الوكيل، ص31-33.

[40] إحياء علوم الدين للغزالي، 2/306، ومعالم القربة في أحكام الحسبة لابن الإخوة، ص61.

[41] بتصرف من الموافقات للشاطبي، 2/8-12.

[42] النظرية السياسية الإسلامية في حقوق الإنسان لمفتي و الوكيل، ص32.

[43] السياسة الشرعية لابن تيمية (بتصرف)، 78-191؛ وانظر: حقوق الإنسان لمحمد فتحي عثمان، ص30-31.

[44] انظر: الأحكام السلطانية للماوردي، ص243-258؛ الأحكام السلطانية لأبي يعلى، ص287-308.

[45] الشِرب: النصيب من الماء المخصص للبلد، أو الذي يسمى بمصلحة المياه.

[46] الأحكام السلطانية للماوردي، ص246.

[47] صحيح البخاري، كتاب الشهادات، باب (29) رقم (2686) ص511.

[48] الأحكام السلطانية للماوردي، ص15-16.

[49] صحيح البخاري، كتاب الأحكام، باب(8) رقم (7150) ص1364.

[50] صحيح البخاري، كتاب الأحكام، باب(8) رقم (7151) ص1364.

[51] معالم القربة في أحكام الحسبة لابن الإخوة، ص316-319.

[52] نهاية الرتبة في طلب الحسبة لا بن بسام، ص214.

[53] الطرق الحكيمة في السياسة الشرعية لابن القيم، ص237.

[54] قوانين الأحكام لابن جزى، ص463.

[55] الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لأبي بكر الخلال، ص115.

[56] مجموع الفتاوى لا بن تيمية، 28/217.

[57] الأحكام السلطانية للماوردي، ص252.

[58] المؤطأ للإمام مالك مع تنوير الحوالك، 2/169.

[59] رياض الصالحين للنووي ، تحقيق شعيب الأرناؤوط، الطبعة الرابعة، ص596، قال: رواه أبو داود بإسناد صحيح.

[60] المرجع السابق.

[61] الأحكام السلطانية للماوردي، ص252.

[62] مشروع المجتمع المدني والتحول الديمقراطي لمصطفى حمارنة، ص5؛ وبحث فرض الكفاية لكل من الدكتور عبد الله الكيلاني وعبد الرحمن الكيلاني، مجلة دراسات، مجلد 25، عدد2، ص228.

[63] الفواكه الدواني للنفراوي، 1/463؛ الحسبة لابن تيمية، ص13؛ الطرق الحكيمة لابن القيم، ص237.

[64] الموافقات للشاطبي، 2/177.

[65] قواعد الأحكام في مصالح الأنام للعز بن عبد السلام، 1/41.

[66] أصول الفقه للخضري، ص42.

[67] المنثور في القواعد للزركشي، 3/35.

[68] الأحكام السلطانية للماوردي، ص246.

[69] نهاية الرتبة في طلب الحسبة لابن بسام، ص18، وانظر مقالة النقابات الإسلامية لبرنارد لويس، مجلة الرسالة المصرية، الأعداد 355-356-357-362، سنة 1940م.

[70] قواعد الأحكام في مصالح الأنام للعز بن عبد السلام، 1/80.

[71] المرجع السابق.

===============

# الإسلام بين كينز وماركس وحقوق الإنسان في الإسلام

دراسة

السيدة العزيزة .

لقد قرأت ببالغ الأهمية موضوعك حول :" الاسلام بين كينز و ماركس ". و لقد ذهلت لتحليلك العميق للجانب الاقتصادي للإسلام الذي أوحت به الرسالة الإسلامية . فلا أحد تقريباً ،يملك في الوقت الحاضر ما يحيط بالتدابير الاقتصادية العميقة للإسلام سواكِ . و لذا ،فإن إسهامك هذا ، في هذا المجال لا غنى عنه . إنك بذلك تساهمين في تحطيم الأمركة الاقتصادية الحديثة بإقامة الدليل على أن التخلي عن الأخلاقية في الإنسان التي ثبّت دعائمها القانون الإلهي ، أبطلت المفعول المجدي لعلم الاقتصاد الحديث بشكل كامل . إن تأملك العميق حول الإسلام يتماشى مع تأمل الأستاذ :" فرانسوا بيرو " فيما يتعلق بإسهام المسيحية في التحليل الاقتصادي . أنت ، كما هو ، ترفضان هذا التعارض المطلق بين الدين و المجتمع ،بين اليقين و العقل ، هذا التعارض الذي ينبع من الجهل المطبق ، في الوقت نفسه ، لمبادئ الاقتصاد ، و لمضمون النصوص الدينية معاً . و لدى تعمّقي في قراءة نصك ، أعتقد أن الإسلام ذهب أبعد بكثير مما ذهبت إليه المسيحية ،لأنها _ بلا شك_ منذ " سان أوغستان " تحول الاتجاه فيها إلى إبعاد الشعور الروحاني ،بشكل مبالغ فيه، عن المعيار

الأخلاقي .

آمل لعملك هذا أن يصل إلى مدارك أكبر عدد ممكن من الشعوب .

توقيع :

آلان باركر

- ×× -

بسم الله الرحمن الرحيم

مقدمة

إن الهدف من هذا الكتاب ليس الدخول في أحكام النظريتين، الماركسية، والرأسمالية وفلسفاتهما من حيث هي، وإنما من خلال انعكاسهما على المجتمع الإنساني من سعادة ورفاهية وعدالة وأمان، وكيف استطاعت الامبراطورية، الإسلامية على امتداد مساحاتها الشاسعة والواسعة، حتى في فترة انحلالها في عهودها الأخيرة، أن تتلافى طوابير العاطلين عن العمل من الحاملين لأعلى الشهادات، والألوف المؤلفة من الجائعين المنتظرين منذ أيام للحصول على كأس صغير من الحساء، على بعد عشرات الأمتار من البيت الأبيض الأمريكي صبح مساء، وملايين النائمة في العراء، في قيظ الصيف وقر الشتاء... بينما توصلت اليمن في عهودها الإسلامية النيرة -على سبيل المثال- إلى الحصول على لقب "اليمن السعيد" لشمول السعادة والرفاهية والحياة الكريمة لكل فرد من أفرادها، في طول البلاد وعرضها، وكيف توصلت بعض المدن الإسلامية (الكوفة) في عهد الخليفة عمر بن عبد العزيز إلى إعادة الأموال، التي كانت ترسل إليها لتوزيعها على الفقراء والمحتاجين، إلى بيت المال لعدم وجود من يستحق فيها الزكاة (يوجد في الوقت الحاضر مايزيد على أربع أخماس المعمورة يستحق فيها الزكاة)، وكيف كان الخليفة عمر بن الخطاب يعتبر نفسه مسؤولاً حتى عن الشاة الجائعة ولو كانت في أقصى المدينة، بينما لايعتري أحد من الحكام، في الوقت الحاضر، أي هاجس للملايين التي تموت في ظل رعايتهم جوعاً وسقماً وبلاء..؟!

ولابد لنا إذاً، في هذا الكتاب، للوصول إلى هذا الهدف، بعد أن دُوِّل النظامان وفرضت مشاكلهما وحلولهما على العالم أجمع، من دراسة العناصر التالية:

-تحليل المشاكل التي طرحها المذهبان لاستشفاف ما إذا كانت هذه المشاكل، هي بالفعل، مشاكلهما الحقيقية بالذات، قبل أن تصبح مشاكل العالم أجمع، ومشاكل الإنسان في كل مكان...؟

-استعراض الوسائل والحلول المعتمدة لحل هذه المشاكل، وما إذا كانت قد أتت أكلها الطيبة لشعوبها بالذات، قبل أن يعم خيرها على جميع الناس...؟

-ماهي المشاكل التي طرحها الإسلام، وماهي الحلول التي قدمها للشعوب المستضعفة التي استظلت بمظلته، من كافة الأعراق والألوان، على امتداد مسافات شاسعة، من شمال الكرة الأرضية إلى جنوبها، خلال قرون عديدة من الزمان، وكيف استطاع أن يؤمن لها صنوفاً من السعادة والحياة الكريمة اللائقة بالإنسان؟....

-وهل مازال المسلمون يملكون ذات الوسائل والمعطيات لتقديم ذات الحلول التي تمكنهم من تطبيق أحكام الإسلام؟...

أم أن ماجرى على هذا الكون من تحكم النظامين وغطرستهما، وتخريبهما، واستهتارهما بالإنسان، ومحاربتهما له خلال قرنٍ من الزمان، وفي كل مكان، لم يبق من الإسلام للمسلمين سوى:

-العبادات المجانية.

-الموت في سبيل الله، الذي هو- في الواقع، في سبيل الأمريكان...!

×××

القسم الأول :

الاقتصاد كعلم أو مذهب

ماهو المذهب الاقتصادي؟

وماهو علم الاقتصاد؟

لابد من التنويه بأن لعلم الاقتصاد، خلافاً لبقية العلوم الطبيعية، تعريفين أو أكثر، تختلف باختلاف المذهب الاقتصادي الذي يراد تطبيقه. وسنتناول أولاً التعريف بشكل عام.

فعلم الاقتصاد: هو العلم الذي يتناول تفسير الحياة الاقتصادية وأحداثها وظواهرها، وربط تلك الأحداث والظواهر بالأسباب والعوامل العامة التي تتحكم بها.

وأما المذهب الاقتصادي: فهو عبارة عن النهج، الذي يفضل القائمون على تفسير الحياة الاقتصادية، بالطريقة التي يتبعونها، تطبيقه في حياة المجتمع، وحل مشاكله العلمية والعملية وبتعبير آخر:

العلوم الاقتصادية: هي دراسات منظمة للقوانين الموضوعية التي تتحكم في المجتمع في حياته الاقتصادية، والمذهب الاقتصادي هو عبارة عن نهج خاص

للحياة، يطالب أنصاره بتطبيقه لتنظيم الوجود الاجتماعي على أساسه، بوصفه المخطط الأفضل الذي يحقق للإنسانية ماتصبو إليه من رخاء وسعادة على الصعيد الاقتصادي.

وعلى هذا، فالمذهب هو دعوة عمل وتصميم، والعلم كشف أو محاولة كشف عن حقيقة وقانون. لهذا السبب كان المذهب عنصراً فعالاً وعاملاً من عوامل الخلق والتجديد، وأما العلم فهو يسجل مايقع في مجرى الحوادث الاقتصادية كما هو دون تصرف أو تلاعب.

وعلى هذا الأساس، فقوانين المادية التاريخية علم، والنهج الاشتراكي مذهب -حسب ماركس- والقوانين الطبيعية علم، والنهج الرأسمالي مذهب -حسب آدم سميث وريكاردو-.

إلا أنه إذا تبين لنا -كما تبين لدى قسم كبير من الباحثين العصريين- أن ماركس لم يكن على صواب في تفسير المادية التاريخية والقوانين الطبيعية التاريخية، بل إنه تصرف بها وأخذ منها ما يناسبه، وأن آدم سميث وريكاردو قد حصرا القوانين الطبيعية في ظل النظام الحر المطلق، أي أنها ليست كالقوانين الطبيعية في الفيزياء والكيمياء، تطبق في كل مجتمع، وكل زمان ومكان، وهي بذلك لاتتصف بصفة العلم، أدركنا أن الاقتصاد كعلم ليس له أساس موضوعي، فلم يبق إذاً إلا الاقتصاد كنهج.

إن ماقصد إليه النهجان -في الواقع- من إصباغ صفة العلم على نهجيهما، هو التدويل لكل نهج من جهته، وجعله صالحاً لتطبيقه لكل شعب على وجه الأرض، ولكل زمان ومكان، بغية مد هيمنته وسيطرته على العالم أجمع* .

أما وقد أثبت النظام الماركسي فشله على أرضه بالذات في عمر لم يتعد النصف قرن، وتربع الثاني وحده على عرش متداعي الأركان لسوف لايطول به العهد أيضاً لسنوات، فإن ماكان أساسه هشاً لايؤمل له الصمود "وإن للباطل جولة ثم يضمحل....".

-×××-

الفصل الأول

النظرية الماركسية كعلم أو مذهب

آ-المفهوم العلمي للماركسية:

-المادية التاريخية: تعتبر المادية التاريخية -في رأي الماركسية- أنها الطريقة الوحيدة التي تفسر التاريخ والحياة الإنسانية بكافة ظواهرها. وبتعبير آخر، إن الوضع الاقتصادي، وعلى وجه التحديد، وضع القوى المنتجة ووسائل الإنتاج، هي التي تصنع تاريخ الناس وتنظمهم وتطورهم، وتحدد أوضاعهم السياسية والدينية والفكرية، وما إليها من ظواهر الوجود الاجتماعي.

وهنا، لا حاجة لنا في الدخول في الديالكتيك الفلسفية التي اتبعت أساساً لاستنباط تلك القاعدة العلمية، ولا التساؤلات التي انصبت عليها، وكلها تدور في حلقة مفرغة: (هل الدجاجة أصل البيضة، أم البيضة أصل الدجاجة؟!....) فعلى سبيل -المثال: هل المجتمع يغير الأفكار أم الأفكار تغير المجتمع؟

جواب ماركس: "لا هذا ولا ذاك، إنها وسائل الإنتاج.."

-وإذا كانت وسائل الإنتاج تصنع التاريخ وتغير البشر، فما هو السبب في تغيير وسائل الإنتاج؟ جواب ماركس: "إنها وسائل الإنتاج ذاتها"

ولذا، فلسوف نعتمد على التطبيق والمقارنة والواقع لفحص النظرية الماركسية لنرى ما إذا كانت وسائل الإنتاج هي التي كانت المحرك الأول في نشوء الماركسية ذاتها، وفي البلدان الاشتراكية على وجه التحديد لنحكم من خلال التطبيق على صحة النظرية، وبالتالي درجتها من المحتوى العلمي.

ولابد لنا -في بادئ الأمر- من لفت النظر إلى الفرق الشاسع بين الباحث التاريخي والباحث العلمي في مجال العلوم الطبيعية (كالفيزياء، والكيمياء والرياضيات،... الخ)، فإن الباحث التاريخي الذي يريد أن يفسر المجتمع البشري ونشوءه وتطوره لايستطيع أن يفحص هذه الظواهر بصورة مباشرة، كالعالم الطبيعي (في مخبره الخاص)، وإنما هو مضطر إلى تكوين فكرة عنها بالاعتماد على النقل والرواية وشتى الآثار العمرانية وغيرها. كما أنه لايملك لتحريها مايملكه العالم الطبيعي من إجراء التجارب وتقديم الدليل التجريبي على نظرياته، وعلى هذا، فهو لايملك سوى الملاحظة التي تعتمد -كما ذكرنا- على الرواية.

فمن ناحية الملاحظة بالذات، فإن الماركسية لم تكن تملك حين وضعت مفهومها الخاص عن التاريخ، سوى الملاحظة المحدودة في نطاق ضيق لاكتشاف قوانين التاريخ كلها واليقين العلمي بها. فقد قال (أنجلز)* :

"وبما أن البحث عن الأسباب المحركة في التاريخ مستحيلاً تقريباً في سائر المراحل السابقة بسبب تعثر علاقتها واختلاطها مع ردود الفعل التي تؤثر بها، فإن عصرنا قد بسط هذه العلاقات كثيراً بحيث أمكن حل اللغز: فمنذ انتصار الصناعة الكبرى في انكلترا، لم يعد خافياً على أحد بأن النضال السياسي كله يدور فيها حول طموح طبقتين إلى السلطة: الاستقراطية، والبورجوازية".

ومعنى هذا، إن ملاحظة الوضع الاجتماعي، في فترة معينة من حياة أوروبا، بل وفي انكلترا وحدها بصورة خاصة، كانت كافية في رأي المفكر الماركسي (انجلز) لليقين العلمي بأن العامل الاقتصادي، والتناقض الطبقي، هو العامل الأساسي في التاريخ الإنساني كله، بالرغم من أن فترات التاريخ الأخرى لاتكشف عن ذلك لأنها غائمة معقدة، كما اعترف هو نفسه، مع أن سيطرة عامل معين، على مجتمع معين، في فترة معينة، لايكفي لتعميم سيطرته الرئيسية في كل أدوار التاريخ، وفي كافة المجتمعات* .

أما الناحية التطبيقية، فهي المقياس الذي سنلجأ إليه لاختيار صحة النظرية الماركسية، على أرضها بالذات، أي في البلدان الاشتراكية وذلك تماشياً مع الأهمية الكبيرة التي يعطيها ماركس نفسه للناحية التطبيقية في كشف مدى صحة المقياس العلمي، وقبل أن يطول العهد ونعتمد على الروايات السليمة منها أو الفاسدة. فالناحية التطبيقية -حسب الماركسية نفسها- هي المقياس الأعلى لاختبار صحة كل نظرية. وكما قال (ماوتسي تونغ):

"إن نظرية المعرفة في المادية الديكالتيكية تضع التطبيق في المكان الأول. فهي ترى أن اكتساب الناس للمعرفة يجب ألا ينفصل في أية درجة كانت عن التطبيق، إذ أن إهمال التطبيق يوقع في المجرد الذهني.."

ولنأخذ القسم الخاص من التطبيق للنظرية في المجال الذي يتصل بتطور المجتمع الرأسمالي ونشوء الاشتراكية. والسؤال الذي يفرض نفسه هنا: هل حصلت الثورة الاشتراكية نتيجة لنمو الرأسمالية الصناعية وبلوغها الذروة؟

في الواقع، كلنا نعلم أن الثورة الاشتراكية، في البلدان التي طبقت فيها الاشتراكية تطبيقاً جزئياً مثل: بولونيا، وتشيكوسلوفاكيا، والمجر، لم تنبثق عن تناقضات المجتمع الداخلية، وإنما فرضت فرضاً من الخارج بقوة الجيش الأحمر، أي بواسطة الحرب الأجنبية والغزو العسكري المسلح. وإلا فأي قانون من قوانين التاريخ شق ألمانيا نصفين، وأدرج قسمها الشرقي ضمن العالم الاشتراكي، وجزءها الغربي ضمن العالم الرأسمالي؟ أهو قانون القوى المنتجة (التي هي واحدة في الشطرين) أم قوة الجيش الفاتح؟

وأما في البلدان التي طبقت فيها الاشتراكية بشكل كلي عن طريق الثورات الداخلية، فإن هذه الثورات لم تحصل طبقاً للنظرية التي حل بها الماركسيون كل ألغاز التاريخ وهي: "المادية التاريخية".

ففي روسيا مثلاً، وهي البلد الأول في العالم الذي سيطر عليه النظام الاشتراكي عن طريق الثورات الداخلية، فإن هذه الثورات لم تحصل نتيجة نمو وسائل الإنتاج والقوى المنتجة. فالقوى المنتجة فيها لم تكن لتبلغ الدرجة التي تحددها النظرية لإمكان التحول واندلاع الثورة الاشتراكية. لقد كانت روسيا -في الواقع- في مؤخرة الدول الأوروبية من الناحية الصناعية لكي يلعب تزايد القوى المنتجة دوره الرئيسي في تقرير شكل النظام، بل -على العكس- نمت تلك القوى في فرنسا وبريطانيا وألمانيا نمواً هائلاً، ودخلت هذه البلاد مرحلة عالية من التصنيع، ومع ذلك، فبمقدار ارتفاعها في هذا المضمار، كان بعدها عن الثورة ونجاتها من الإنفجار الثوري الشيوعي المحتوم في مفاهيم المادية التاريخية. أي أن الاتجاه الثوري في روسيا لم يخلق نتيجة للثورة الصناعية وتطور وسائل الإنتاج، بل العكس هو الصحيح، فقد جاءت الثورة الصناعية كنتيجة للثورة السياسية، فكان الجهاز الانقلابي في الدولة هو الأداة لتصنيع البلاد وتطور قواها المنتجة، وليس التصنيع هو الخالق لهذا الجهاز.

وإن كان من الضروري أن نربط بين الثورة من ناحية، وحركة التصنيع ووسائل الإنتاج من ناحية أخرى، فالتطبيق أثبت عكس العلاقة التي حددتها الماركسية.

فروسيا، مثلاً لم يدفعها نمو الإنتاج إلى الثورة بمقدار ما دفعها انخفاض تلك القوى وتخلفها الخطر عن ركب الدول الصناعية التي قفزت بخطوات عالية جداً في مضمار الصناعة والإنتاج.

فكان لابد لروسيا، لكي تحتفظ بوجودها الحقيقي في الأسرة الدولية وتنجو من الاحتكارات التي أخذت تقيمها الدول السباقة، وتفرض كيانها كدولة حرة على مسرح التاريخ، من إنشاء الجهاز السياسي والاجتماعي الذي يحميها من تلك الاحتكارات، ويحل مشاكلها التصنيعية حلاً سريعاً، ويدفع بها إلى الأمام في حلبات التصنيع، ومجالات السباق الدولي.

ومن ثم، فإن الثورات الداخلية في روسيا ماكان لها أن تنتصر بفعل التناقضات الطبقية المفروضة -حسب النظرية- بمقدار ما اعتمدت على انهيار الجهاز السياسي الحاكم انهياراً عسكرياً في ظروف حربية قاسية، كانهيار الحكم القيصري عسكرياً في ظروف حربية (الحرب العالمية الأولى)، الأمر الذي مكن قوى المعارضة، وعلى رأسها الحزب الشيوعي، من الانتصار السياسي، وإقامة الحكومة الاشتراكية.

وشيء آخر جدير بالملاحظة، هو أن الحكومة الاشتراكية نفسها، بحكم السلطة المطلقة التي لاحدود لها، التي مارستها، هي التي ساهمت في خلق أسباب وجودها والمبررات الماركسية لنشوئها؛ فهي التي أنشأت الطبقة التي تزعم أنها تمثلها، كما أنها هي التي نقلت وسائل الإنتاج والقوى المنتجة إلى المرحلة التي أعدها (ماركس) لاشتراكيته العلمية.

والصين، البلد الآخر الذي ساد فيه النظام الاشتراكي بالثورة، ينطق أيضاً بالتناقض الواضح بين النظرية والتطبيق.

فلم تكن الثورة الصناعية -التي لم تبدأ بالفعل إلا بعد وفاة (ماو) وانفتاحها على الغرب وتخليها عن مقومات الاشتراكية الأساسية- هي العامل الأساسي في تكوين الصين الجديدة، وقلب نظام الحكم فيها، ولم يكن لوسائل الإنتاج (التي مازالت حتى عهد قريب تقليدية) أي دور في ذلك، ولم يكن لفائض القيمة الصناعي (فالصين بلد زراعي، بل ويحرص على أساليب الزراعة التقليدية)، ولا لتناقضات رأس المال التي تقررها قوانين المادية التاريخية، أي دور في المعترك السياسي. إن الثورة الشيوعية في الصين كانت قد بدأت قبل الغزو الياباني، وظلت لمدة عقد كامل تنتشر وتتوسع، ولم يتحقق لها النصر إلا بعد تحطيم جهاز الدولة نتيجة ظروف حربية خارجية أدت إلى زعزعته.

وهناك أقطار عديدة عاشت نفس الظروف والعوامل التي أنجحت الثورة الاشتراكية في روسيا، ولكنها لم تأخذ مثلها طابعاً اشتراكياً، رغم التشابه في القوى الإنتاجية، نظراً للظروف الفكرية والتيارات المتناقضة التي كانت تعمل في الحقل السياسي والمجال الثوري هنا وهناك.

فإذا كان التطبيق يدعم حقاً النظرية، كما يزعم المنطق الديكالكتيكي للماركسية، فإن المادية التاريخية يعوزها حقاً هذا الدليل....!

المادية التاريخية، والحياة الفكرية

لعل أخطر وأهم النقاط الجوهرية في المفهوم المادي للتاريخ عند الماركسية يكمن في العلاقة التي تؤكد على وجودها بين الحياة الفكرية للإنسان بشتى ألوانها (من فلسفية وعلمية، ودينية... الخ). وبين الوضع الاقتصادي، وبالتالي وضع القوى المنتجة. لا بل وإنها تتهم كافة المفكرين بجهلهم المطبق للأسباب التي خلقت. لهم أفكارهم، والتي لم يتح اكتشافها إلا للمادية التاريخية.

وهذا الإطار الاقتصادي الذي تضع الماركسية ضمنه كل أفكار الإنسان في المعمورة منذ الخليقة حتى تاريخها، جدير بالبحث العلمي والفلسفي المستفيض أكثر من بقية الجوانب الأخرى، وقد خصص له المرحوم (محمد باقر الصدر) كتاباً بعنوان "فلسفتنا" يمكن الرجوع إليه. وإن مايهمنا من هذه العلاقة هو استعراض بعض النواحي التطبيقية.

فالمجتمعات التي سبقت العصر الحديث في الوجود كانت متقاربة -إلى حدٍ كبير- في وسائل الإنتاج وأساليبه، ولم يكن بينها أي فرق جوهري. فالزراعة التقليدية، والصناعة اليدوية هما الشكلان الرئيسيان للإنتاج في مختلف تلك المجتمعات، وبالرغم من ذلك فإنها كانت تختلف اختلافاً كبيراً في مستوياتها العلمية. فلو كانت أشكال الإنتاج وأدواته هي العامل الأساسي الذي يحدد لكل مجتمع محتواه العلمي ويطور الحركة العلمية تبعاً لدرجته التاريخية، لما وجدنا تفسيراً لهذا الاختلاف، ولامبرراً لازدهار العلم في مجتمع دون آخر.

فلماذا -على سبيل المثال- اختلف المجتمع الأوروبي في القرون الوسطى عن المجتمعات الإسلامية في الأندلس والعراق ومصر، مع اشتراكها في نوعية القاعدة؟ وكيف ازدهرت في المجتمعات الإسلامية الحركة العلمية في مختلف العلوم، وبدرجة عالية جداً، ولم يوجد لها أي تباشير في أوروبا الغربية التي هالها مارأته في حروبها الصليبية من علوم المسلمين ومدنيتهم؟*

ولماذا استطاعت الصين القديمة وحدها أن تخترع الطباعة، ولم تتوصل إليها سائر المجتمعات إلا عن طريقها (فقد أخذ المسلمون هذه الصناعة عن الصينيين في القرن الثامن الميلادي، ثم أخذتها أوروبا عن المسلمين في القرن الثامن عشر).

بالإضافة إلى ذلك، فكثير من الحاجات الاقتصادية القديمة العهد بالتاريخ لم يتوصل الفكر إلى تلبيتها إلا بعد مرور قرون عديدة، بينما -على العكس- فقد سبق العلم الحاجات الاقتصادية بعشرات القرون في كثير من الحالات. (فعلى سبيل المثال، فإن اكتشاف المغناطيس في تعيين اتجاه السفن لم يتم إلا في القرن الثالث عشر، مع أن الطريق البحري كان هو الطريق الرئيسي منذ قرون خلت، وعلى العكس، فإن اكتشاف البخار قد تم في القرن الثالث الميلادي، أي قبل المجتمع الرأسمالي الذي دعا إليه بعشرات القرون.

المادية التاريخية وتكون الطبقات

ومايقال في تكون الأفكار لدى الماركسية نتيجة للوضع الاقتصادي والقوى المنتجة، يقال أيضاً بالنسبة لتكون الطبقات: (( إن انقسام الناس-حسب الماركسية- إلى فئة تملك كل وسائل الإنتاج، وفئة لاتملك منها شيئاً، هو السبب التاريخي لوجود الطبقات في المجتمع بأشكالها المتنوعة تبعاً لنوعية الاستغلال الذي تفرضه الطبقة الحاكمة على المحكومة من عبودية أو قنانة أو استخدام بالأجرة)).

ونعود هنا إلى السؤال التقليدي: (الدجاجة سبقت أم البيضه)؟ فالتكوين الطبقي للطبقة الرفيعة الحاكمة في المجتمع، إذا كان نتاجاً للملكية (الوضع الاقتصادي)، فلابد لها من إيجاد هذه الملكية لكي تصبح رفيعة حاكمة، ولاسبيل إلى حصولها على تلك الملكية إلا عن طريق النشاط في ميادين العمل. ولم يسبق أن كان النشاط في ميادين العمل هو الطريق الأساسي لتكون الطبقة الحاكمة في المجتمع، اللهم إلا بالنسبة للمجتمع الرأسمالي في ظروف تكونه وتكامله، وحتى في هذا المجتمع، فكان السلب والنهب والنفوذ الاستعماري وسيلة الوصول إلى الحكم أكثر منه عن طريق النشاط في ميادين العمل. وكلنا يعلم كيف تكونت الطبقة الحاكمة في أمريكا، وأعمال البطش والإبادة الجماعية التي استعملها الغازون الأوروبيون بالهنود الحمر، الشعوب الأصلية، دون أن يكون لهؤلاء الغازين في هذه القارة أي عنصر من عناصر المادية التاريخية.

وإذا عدنا إلى التاريخ القديم نجد أن طبقة رجال الأعمال في المجتمع الروماني كانت تداني الأشراف في ثرواتها بالرغم من التفاوت الكبير بين مقامهما الاجتماعي. وعلى العكس، فإن طبقة (الساموراي) ذات النفوذ الكبير في اليابان القديمة، والتي كانت تداني الإقطاع في السلم الاجتماعي، لم تكن تعتمد إلا على فروسيتها وخبرتها في حمل السيف وليس على الملكية. وقس على ذلك طبقة (الآريين الفيديين) الذين غزوا الهند قبل التاريخ الحديث بألفي سنة وسيطروا عليها وأقاموا فيها تنظيماً طبقياً لم يكن للملكية أي أثر في تكوينه، بل كان قائماً على أسس عسكرية، ودينية وعنصرية، ولم يشفع للتجار والصناع مكليتهم لوسائل الإنتاج كي يرتقوا إلى مصاف الطبقات الحاكمة، أو ينافسوها في سلطانها السياسي والديني.

وأخيراً، كيف نفسر قيام الطبقة الإقطاعية في أوروبا الغربية نتيجة للفتح الجرماني، إذا لم نفسره تفسيراً عسكرياً وسياسياً؟ فكلنا يعلم، وحتى انجلز نفسه قد اعترف بأن القواد الفاتحين الذين تكونت منهم تلك الطبقة لم يكن مقامهم الاجتماعي ناتجاً عن الملكية الإقطاعية، وإنما تكونت ملكيتهم الإقطاعية هذه تبعاً لدرجتهم الاجتماعية، وامتيازاتهم العكسرية والسياسية الخاصة، بوصفهم غزاة فاتحين دخلوا أرضاً واسعة، وتقاسموها، فكانت الملكية أثراً، ولم تكن هي العامل المؤثر.

وهكذا، فإن الواقع التاريخي للإنسانية لايسير في موكب المادية التاريخية، وبذلك تخسر الماركسية برهانها العلمي، وتبقى في مستوى سائر الاقتراحات المذهبية.

نظرية ماركس بالقيمة الفائضة

لابد لنا قبل أن نعرج على الماركسية كمذهب من إبداء الملاحظتين التاليتين عن نظرية ماركس "بالقيمة الفائضة" التي تعتبر المصدر العام لأرباح الطبقة الرأسمالية، والسبب في الصراع الطبقي المحتوم بين الطبقة المالكة لوسائل الإنتاج والطبقة العاملة، والذي سيؤدي بالرأسمالية العالمية -حسب رأيه- إلى مصيرها المحتوم.

وكلنا يعلم أن نظرية القيمة الفائضة، تعتبر أن المنبع الوحيد لقيمة السلع هو العمل الذي أهرق فيها. وإن الفرق بين مايدفعه الرأسمالي إلى العامل من أجور، وما يتسلمه من إنتاجه من قيمة (إذ أن الرأسمالي يقتطع من العامل جزءاً من القيمة التي يخلقها، كربح له) هو بمثابة السرقة لحقوق العامل. وهذه من شأنها أن تؤدي -بطبيعة الحال- إلى قيام صراع عنيف بين الطبقة المسروقة والطبقة السارقة، حسب رأيه.

الملاحظة الأولى:

إن كان العمل يحتل أهمية قصوى في تحديد قيمة السلعة، إلا أن المادة (موضوع العمل) لايمكننا أن ننكر قيمتها. فالعمل المنصب على استخراج معدن كالذهب مثلاً، لاتقارن قيمته بالنسبة للعمل المصروف على استخراج صخور لاتجدي نفعاً. فالعنصران إذاً، (المادة والعمل) متفاعلان ومتضامنان في تكوين القيمة التبادلية للسلع المستخرجة. فليست القيمة كلها -إذاً- نابعة من العمل، وليس صاحب العمل هو المصدر الوحيد لقيمة السلعة، وبالتالي ليس من الواجب أن تكون القيمة الفائضة (الربح) جزءاً من القيمة التي يخلقها العامل دون اعتبار ما لمواد الإنتاج الطبيعية من نصيب في قيمة السلعة المنتجة.

الملاحظة الثانية:

وهناك عنصر آخر أقصته الماركسية من حسابها، لدى محاولة اكتشاف سر الربح، وهو القدر الذي يخلقه المالك نفسه من قيمة، بسبب مواهبه التنظيمية والإدارية التي يستعملها في تسيير المشروع الصناعي أو الزراعي. فهناك مشاريع متساوية في رؤوس أموالها والأيدي العاملة التي تعمل فيها، ومع ذلك فقد تختلف اختلافاً هائلاً في الأرباح التي تجنيها طبقاً لكفاءات التنظيم ومقدرة الرؤوس الخالقة للثروة من الإشراف على عملية الإنتاج وعلى تصميمها، وتحديد مايلزم، والبحث عن منافذ لتوزيعها.

وإذا كان العمل جوهر القيمة -حسب ماركس- فمن باب أولى أن يكون للعمل القيادي والتنظيمي، والفكر الذي خلق الثروة نصيب من القيمة التي يخلقها العمل في السلعة.

وهكذا، فإن انهيار نظرية القيمة الفائضة يتبعه رفض التناقضات الطبقية التي تستنتجها الماركسية من هذه النظرية، كالتناقض بين العامل والمالك بوصفه سارقاً يقتطع من العامل الجزء الفائض من القيمة التي يخلقها في السلعة موضوع العمل.

والحقيقة التي يقررها الاقتصاد الإسلامي بهذا الصدد هي أن المالك لا يشتري من العامل عمله، كما يرى الاقتصاد الرأسمالي، ولايشتري أيضاً منه قوة العمل، كما يقرر الاقتصاد الماركسي* وإنما يشتري المالك من العامل منفعة عمله. فمنفعة العمل شيء مغاير للعمل ولطاقة العمل، وهي بضاعة لها قيمة بمقدار مالتلك المنفعة من أهمية، كتحويل قطعة الخشب إلى منضدة، أو تحويل فلزات الذهب إلى مجوهرات. وهذا المبدأ يفسر انخفاض القيمة التبادلية لسلعة من السلع، تبعاً لانخفاض الرغبة الاجتماعية فيها نتيجة عامل سياسي أو ديني أو فكري أو أي عامل آخر، فتتضاءل قيمة السلعة بالرغم من احتفاظها بنفس الكمية من العمل الاجتماعي، وبقاء ظروف إنتاجها كما هي دون تغيير. وهذا يبرهن بوضوح على أن للدرجة التي تتيحها السلعة من الإنتفاع وإشباع الحاجات، أثراً في تكوين القيمة التبادلية.

ب-الماركسية كمذهب اقتصادي

ذكرنا في مطلع هذا الفصل أن العلوم الاقتصادية هي دراسات منظمة للقوانين الموضوعية التي تتحكم في المجتمع، كما تجري في حياته الاقتصادية. أما المذهب الاقتصادي فهو المنهج الذي يطالب به أنصار النظرية العلمية لتنظيم الوجود الاجتماعي على أساسه، بوصفه المخطط الأفضل الذي يحقق للإنسانية، ماتصبو إليه من سعادة ورخاء.

وقد تناولنا العلوم الاقتصادية من وجهة نظر الماركسية بالتحليل والفحص على مجهر الواقع التطبيقي، ورأينا كيف أن المادية التاريخية التي تفسر كافة الفعاليات والنشاطات الإنسانية في التاريخ من خلالها، لاتفتقر فقط إلى الدليل العلمي، وإنما أنها -في أغلب الأحوال- قد قلبت المفاهيم رأساً على عقب. كما أن انهيار نظرية القيمة الفائضة قد اتبع معه كافة التناقضات الطبقية التي استنتجتها الماركسية من هذه النظرية، وتلاشى معها التناقض العلمي المزعوم وبطلت فكرة الصراع الطبقي المستوحاة من ذلك التناقض.

وبذلك، لم يبق من الماركسية سوى المذهب الذي اتبعه أنصارها لتخليص المجتمع العالمي من تناقضاته -حسب زعمهم- وتحقق للإنسانية كل مايؤمن سعادتها ورخاءها.

وفي المذهب الماركسي مرحلتان تطالب الماركسية بتطبيقهما تباعاً، وهما: المرحلة الاشتراكية، ثم الشيوعية. فالشيوعية تعتبر -من وجهة نظر المادية التاريخية- أعلى مرحلة من مراحل التطور البشري، لأنها المرحلة التي يحقق فيها التاريخ معجزته الكبرى. وأما الاشتراكية فهي تقوم على أنقاض المجتمع الرأسمالي. وهي من ناحية تعبر عن الثورة التاريخية المحتومة على الرأسمالية حين تأخذ بالاحتضار، ومن ناحية أخرى تعتبر شرطاً ضرورياً لإيجاد المجتمع الشيوعي، وقيادة السفينة إلى شاطئ التاريخ....!

الاشتراكية، ومعالمها الرئيسية:

تتلخص معالم الاشتراكية وأركانها الأساسية فيما يلي:

-محو الطبقية، وخلق المجتمع اللاطبقي.

-استلام البروليتاريا للأداة السياسية، بإنشاء حكومة دكتاتورية.

-تأميم مصادر الثروة ووسائل الإنتاج، واعتبارها ملكاً للمجموع.

-قيام التوزيع على قاعدة: (من كل حسب طاقته، ولكل حسب عمله).

الشيوعية:

وهي قمة الهرم التاريخي للبشرية. وفيها يحدث التغيير في أكثر المعالم والأركان السابقة، عدا الطبقية التي تحتفظ بها. فهي تهدف للقضاء على قصة الحكومة والسياسية، وتحرر المجتمع منها. كما أنها لاتكتفي بتأميم وسائل الإنتاج، بل تلغي الملكية الخاصة لوسائل الإنتاج الفردية (وهي التي يستثمرها المالك بنفسه لاعن طريق الأجراء)، وتحرم الملكية الخاصة لبضائع الاستهلاك وأثمانها. وكذلك فإنها تجعل التوزيع مرتكزاً على قاعدة: (من كل حسب طاقته، ولكل حسب حاجته).

وبصورة عامة، فإن ماركس لايستند في تبرير الاشتراكية والشيوعية إلى قيم ومفاهيم خلقية معينة في المساواة، كغيره من الاشتراكيين الذين يصفهم ماركس بالخياليين. إن القيم والمفاهيم الخلقية ليست في رأي الماركسية إلا وليدة العامل الاقتصادي، والوضع الاجتماعي للقوى المنتجة. فلا معنى للدعوة إلى وضع اجتماعي على أساس خلقي بحت.

وسنتناول دراسة الأركان والمعالم الرئيسية للاشتراكية على ضوء التطبيق العملي، ومدى تماشيه مع الأهداف المحددة.

معالم الاشتراكية بين الأهداف والتطبيق

-من خلال محو الطبقية:

إن محو الطبقية -الركن الأول للاشتراكية- من شأنه -حسب المبدأ- أن يضع حداً فاصلاً لما ذخر به تاريخ البشرية -على مر الزمن- من ألوان الصراع، لأن مرد تلك الألوان إلى التناقض الطبقي الذي نتج عن انقسام المجتمع إلى مالكين ومعدمين، فإذا ماقامت الاشتراكية وحولت المجتمع إلى طبقة واحدة، زال التناقض الطبقي، واختفت كل ألوان الصراع، وساد -حسبها- الوئام والسلام إلى الأبد...!

إلا أن التطبيق قد أثبت في البلدان الاشتراكية نفسها أن إزالة الملكية الخاصة، وتأميم وسائل الإنتاج، لم يقض على التركيب الطبقي، إذ أن تركيباً طبقياً من نوع آخر قد برز إلى الوجود على أساس آخر (الجهاز الحزبي والسياسي). وأن الإمكانيات والصلاحيات التي تمتع بها الجهاز المذكور تفوق سائر الإمكانيات التي حصلت عليها أكثر الطبقات على مر التاريخ. فقد كسب رجال الحزب الشيوعي سلطة مطلقة على جميع الممتلكات ووسائل الإنتاج المؤممة في البلاد، كما كسبوا مركزاً سياسياً يتيح لهم الانتفاع بتلك الممتلكات، والتصرف بها تبعاً لمصالحهم الخاصة. وتمتد امتيازاتهم من إدارة الدولة والمؤسسات الصناعية ووسائل الإنتاج إلى كل نواحي الحياة. كما تنعكس أيضاً في التناقضات الشديدة بين أجور العمال ورواتبهم الضخمة.

ولذلك، فإن صراعاً من نوع آخر قد برز إلى الوجود بين الطبقات البديلة ذاتها، صراعاً يفوق إلى حدٍ كبير العنف الذي عرفته الماركسية لأشكال التناقض الطبقي في التاريخ.

وعلى سبيل المثال، فقد شملت عمليات التطهير تسعة وزراء من أعضاء الوزارة الأحد عشر الذين كانوا يديرون دفة الحكم في الاتحاد السوفياتي عام 1936، واكتسحت ثلاثة وأربعين أميناً من أمناء سر منظمة الحزب المركزية الذين كان يبلغ عددهم ثلاثة وخمسين أميناً، وثلاثة من مارشالات الجيش السوفياتي الخمسة، و60% تقريباً من مجموع جنرالات السوفييت، وجميع أعضاء المكتب السياسي الذي أنشأه لينين بعد الثورة، باستثناء ستالين، كما أدت عمليات التطهير إلى طرد مايزيد على مليونين من أعضاء الحزب عام 1939 من أصل مليونين ونصف وكذلك سبعين عضواً من أعضاء مجلس الحزب الثمانين. وبذلك كاد الحزب الشيوعي المطرود يوازي الحزب الشيوعي نفسه*.

وهكذا، يبدو جلياً كيف تؤدي طبيعة المادية الدكتاتورية في الجهاز الحاكم في المجتمع الاشتراكي الذي يرمي بأهدافه إلى القضاء على الطبقية إلى ظروف طبقية تتمخض عن ألوان رهيبة من الصراع، وأن هذه التجربة التي جاءت لتمحو الطبقية قد أنشأتها من جديد، ولكن على مستوى لايرعى حرمة لوطن ولا لشعب، ولا لمبدأ؛ فهي نفسها التي انقلبت على الحزب، والطبقة، والوطن في أوائل التسعينيات وفتحت الأبواب على مصراعيها لحثالات الشعوب من المتعطشين للدماء والمال، وأعادت إلى التاريخ بذرة لأفظع ماتصف الماركسية من ألوان الطبقية في التاريخ.

-من خلال سلطة البروليتاريا المطلقة الوهمية

يشترط الركن الثاني للتجربة الاشتراكية، أن تتحقق على أيدي ثوريين محترفين يتسلمون قيادتها، وهم وحدهم الذين يستطيعون أن يؤلفوا حزباً جديداً، بلشفي الطراز، إذ ليس من المعقول أن تباشر البروليتاريا بجميع عناصرها قيادة الثورة وتوجيه التجربة. أي أن القيادة الثورية للطبقة العاملة كانت محصورة بمن يدعون أنفسهم بالثوريين المحترفين، وإن على هذه القيادة أن تتسلم السلطة بصورة مطلقة لتصفية حسابات الرأسماليين نهائياً. وتعتبر هذه السلطة الدكتاتورية ضرورية، ليس فقط لتصفية الرأسمالية فحسب، كما تزعم الماركسية، بل لابد منها لتنفيذ كل مايتطلبه التخطيط الاقتصادي من سلطة قوية غير خاضعة للمراقبة، ومتمتعة بإمكانيات هائلة، ليتاح لها أن تقبض بيد حديدية على كل مرافق البلاد بحجة أن تنمية الإنتاج تتطلب مثل هذه السلطة الحديدية.

إلا أن مانتج عن هذه السلطة، هو استفحال قوتها إلى أن استفردت وحدها بالإنتاج، والقيمة، وفرق القيمة... وهذا ما أدى إلى تداعي النظام ذاته، لتضطلع -هي نفسها- بمسؤولية حكم ديمقراطي لايختلف، من قريبٍ أو بعيد، عن شريعة الغاب في الماوماو الأسطورية....!

-من خلال التأميم لمصادر الثروة

لقد هدف التأميم -في الواقع- بالإضافة إلى محو الطبقية، إلى تحقيق الملكية الجماعية لوسائل الإنتاج. وهنا أيضاً، فقد أثبت التطبيق أنه لا يكفي أن تلغى الملكية الخاصة بقانون، وأن يتم الإعلان عن الملكية الجماعية للثروة بقانون، لكي يتمتع المجموع مثلاً بهذه الملكية...

في الواقع، لقد سمح التأميم للطبقة الحاكمة بأن تتمتع هي وحدها بالمحتوى الحقيقي للملكية بسيطرتها المطلقة على مقدرات البلاد وثرواتها. وحصلت هذه الطبقة على نفس الفرص التي كان الرأسماليون الاحتكاريون يتمتعون بها في المجتمع الرأسمالي، كل ذلك مع حق تمثيل المجتمع اللاطبقي والتصرف بممتلكاته، كما أصبحت أقدر من أي رأسمالي، على سرقة القيمة الفائضة.

ولقد اضطر ستالين للاعتراف بأن كبار رجال الدولة والحزب قد استغلوا فرصة انشغال دولتهم في الحرب الأخيرة، فجمعوا الثروات الباهظة... وقد أعلن عن ذلك بمنشور أذاعة وعممه على جميع أبناء الشعب...

فالتأميم -في الواقع- لم يقم على أساس روحي أو قناعة بقيم خلقية وإنسانية، وإنما قام على أساس مادي بحت لتحقيق أكبر نصيب من الإنتاج.

إن رجال السلطة أنفسهم الغيورين على الإنتاج لزيادة الإنتاج فقط، هم أنفسهم الذين شلوا كافة الفعاليات الإنتاجية في البلاد تمهيداً للثورة المضادة التي قام بها غورباتشوف فيما بعد، مما أدى إلى وقوعها في أزمة اقتصادية عويصة لاسبيل إلى حلها -حسب زعمهم- إلا عن طريق هدم النظام من أركانه الأساسية. وهذا ماحصل بالفعل في أوائل التسعينيات على يد المنقذ الإصلاحي الكبير غورباتشوف، والذي انتهى دوره عند هذا الحد، ليتربع السادة الحقيقيون من الثوريين المحترفين على نظام يتقاذفه الرعاع من كل قطب من أقطاب العالم، لاتربط بينهم أية رابطة من طبقة أو عنصر أو مبدأ، إلا رابطة الفساد والتخريب وتعطيل الإنتاج، والمضاربات، وتهريب الممتلكات والعملات وامتصاص الدماء. ولم يبق من تنمية الإنتاج في مفاهيم المادية التاريخية، التي هي القوة الدافعة للتاريخ على مر الزمن -حسب رأيهم- إلا أضغاث أحلام....!

- من خلال التوزيع وعدالته

إن الركن الأخير من الاشتراكية، وهو التوزيع، فيرتكز على مبدأ: "من كل حسب طاقته، ولكل حسب عمله".

أي حق كل فرد أن يعمل ليعيش في مجتمع، يتألف من طبقة واحدة، وذلك تماشياً مع قانون ماركس للقيمة "بأن العمل هو أساس القيمة"، وأن للعامل نصيباً من الإنتاج بالقدر الذي يتفق مع كمية عمله.

وهنا يبدو التناقض الصارخ بين هذا المبدأ واللاطبقية للمرحلة الاشتراكية. مما لاشك فيه، أن الأفراد يختلفون في أعمالهم تبعاً لاختلاف كفاءاتهم، ونوعية العمل تخلقها تلك الأعمال. فالعامل الذي يمارس إنتاج أجهزة دقيقة ومعقدة لاتقاس قيمة عمله بالعامل الذي يستخدم في حمل الأثقال مثلاً.

فإذا ماجرى التوزيع حسب قاعدة (لكل حسب عمله)، لابد من أن يجري على درجات متفاوتة، وبذلك سوف يخلق الفروقات الطبقية من جديد، أو أن يجري بالتساوي على جميع العاملين، أي للعامل البسيط كما للعامل المركب، وللعامل الموهوب كما للعامل العادي، وبذلك تكون قد اقتطعت من العامل الموهوب القيمة الفائضة التي يتفوق بها على العامل البسيط، كما كان يصنع الرأسمالي تماماً على حساب المادية التاريخية.

ولهذا اضطرت السلطة من خلال التطبيق إلى الاتجاه إلى دفع المجتمع إلى التناقضات الطبقية من جديد، بأن تركت فروقات في الدخل تتراوح بين

1.5 و5%.

إلا أن السلطة قامت فيما بعد بتعميق الفروقات والتناقضات، فأنشأت طبقة البوليس السري، وميزت عملها الجاسوسي بامتيازات ضخمة، وسخرتهم لتدعيم كيانها الدكتاتوري التي أوصلت البلاد إلى أسوأ مما جاءت لإصلاحه، إلى أن أتت على النظام برمته كما ذكرنا.

الشيوعية

وهي نهاية المرحلة الاشتراكية، وبداية المجتمع الشيوعي. ولها ركنان:

الأول: توسيع التأميم ليشمل كل وسائل الإنتاج، وكل البضائع الاستهلاكية .

والثاني: تحرير المجتمع من الحكومة والسلطة السياسية بصورة نهائية.

-فمن خلال توسيع التأميم ليشمل البضائع الاستهلاكية وتوزيعها على جميع أفراد الشعب حسب مبدأ "لكل حسب حاجته لا عمله فقط"، فقد بدا فيها المذهب الاشتراكي في قمة إمعانه في الخيال، إذ يتصور أن بالإمكان أن يعطي كل فرد كل مايشبع رغبته ويحقق سائر طلباته، لأن الثروة التي سيملكها الشعب من جراء النظام الاشتراكي، سوف تصبح قادرة على إشباع كافة الرغبات. فلا ندرة من بعض البضائع ولاتزاحم على السلع، ولا حاجة للتنظيم...! أي أن الشيوعية كما جنحت في خيالها في صنع المعجزات في الشخصية الإنسانية فحولت الناس إلى عمالقة في الإنتاج، فهي تصنع المعجزات مع الطبيعة نفسها فتجردها من الشح والتقتير والمحل ونفاذ الموارد الطبيعية، وتمنحها روحاً كريمة سخية تغدق بعطائها على كل مايتطلبه الإنتاج الهائل من موارد ومعادن ومياه*.

ويبدو أن قادة التجربة الماركسية قد حاولوا خلق الجنة الشيوعية الموعودة على الأرض ففشلوا، وذلك حين جردوا الفلاحين من وسائل إنتاجهم الفردية فترة 1928-1930، التي راح ضحيتها مائة ألف قتيل باعتراف التقارير الشيوعية ذاتها، وأضعاف هذا العدد في تقرير أعدائها، ومن ثم إضراب عام 1932، الذي راح نتيجة المجاعة الناجمة عنه ستة ملايين نسمة باعتراف الحكومة نفسها، مما اضطر السلطة إلى التراجع، ومنح الفلاح شيئاً من الأرض وكوخاً وبعض الحيوانات للاستفادة منها، على أن تبقى الملكية الأساسية للدولة.

-الشيوعية والحكومة

وتزداد الشيوعية تجنيحاً بأخيلتها عندما تفترض الانتقال بالشيوعية من مرحلة حكومات دكتاتورية إلى مرحلة "اللاحكومة".

ولنجنح مع الماركسية في أخيلتها، ولنفرض أن المعجزة قد تحققت، وأن المجتمع الشيوعي قد وجد وأصبح كل شخص يستطيع أن يشبع كافة حاجاته ورغباته؛ أفلا يحتاج المجتمع إلى سلطة تحدد هذه الحاجات، وتوافق بين الحاجات المتناقضة فيما إذا تزاحمت على سلعة واحدة، وتنظم العمل وتوزعه على فروع الإنتاج؟ ولذا، فإن الشيوعية لم تر النور، وأن الاشتراكية قد أخمدت جذوتها الرياح الفاسدة من داخلها خلال مدة لم تتجاوز النصف قرن.

النتيجة:

نتيجة لما تقدم يتبين لنا أن إلغاء الملكية الخاصة، وتأميم كافة وسائل الإنتاج، والقضاء المبرم على طبقة، واستبدالها بطبقة أخرى استناداً إلى فلسفات خيالية محضة، وخاصة إذا ماكانت الطبقة الأولى نشيطة ومنتجة ولديها الخبرة والتمرس في إدارة المؤسسات الإنتاجية وإنجاحها، وكانت الطبقة البديلة لاتملك من ذلك شيئاً؛ كانت السبب الرئيسي في فشل الاشتراكية وانحرافها عن أهدافها في إعطاء الطبقة العاملة حقوقها، وبالتالي في تنشيط عجلة الإنتاج وتحسينه في تأمين الحاجات القصوى للشعب من جهة، وتزويد الخزينة بما يسد عجزها ويؤمن متطلباتها من جهة أخرى.

إن إزالة الملكية الخاصة، وتسليم وسائل الإنتاج لإدارة الطبقة الجديدة المصطنعة، لم تكن -بحد ذاتها- حلاً عادلاً وصائباً، وذلك من النواحي الاقتصادية، والاجتماعية والسياسية.. الخ:

-فمن الناحية الاقتصادية، لقد فقدت الدولة بهروب هذه الطبقة وبعثرتها، الرؤوس التي تصنع الثروة، والتي هي -بحد ذاتها- أكبر ثروة، إلى جانب ثرواتهم التي هربوها معهم. وهي -من جهتها- لاتعجز عن استثمارها في أي مكان من العالم. وكلنا يعلم أن أموالها التي نقلتها إلى أوروبا الغربية قد ساهمت إلى أقصى حد في إنعاشها، بينما حاقت بأوروبا الشرقية وحدها الخسارة الفادحة.

إن الملكية الخاصة، في الواقع، لم يحصل عليها المالك إلا لقاء عمل وجهد وفكر وتضحية برأس مال خاص، لم يسرقه أو يستولي عليه من أحد، أو آل إليه من تعب آبائه وأجداده. ولذا، فليس من حق الدولة أن تسلبه إياه، وتسلمه لغيره، ممن لاناقة له فيه ولاجمل.

لقد كان باستطاعة الدولة، الغيورة على مصالح الطبقة العاملة، أن تدع هذه الطبقة تواصل استثمار ثرواتها في بلادها، وتتمتع بملكها ضمن شروط اقتصادية واجتماعية تخدم أهدافها، وتضيف إلى هذه الطبقة طبقة جديدة من المحرومين تضع تحت تصرفها مايوجد تحت تصرف الدولة من ثروات طبيعية غير مستغلة من القطاع العام، لتقوم بإحيائها واستغلالها. وبذلك، فإنها تضيف إلى الملكيات الخاصة السابقة ووسائل الإنتاج الموجودة، وبالتالي للطبقة الغنية، طبقة أخرى، قد تفوقها فكراً وعطاء وغنى، وبذلك، تستفيد الدولة من فعاليات كافة الطبقات العاملة في المجتمع، والذين أثبتوا فعلاً نجاحهم في فعالياتهم، وتتلافى خلق طبقة مصطنعة لاتملك الإمكانيات الفكرية والعملية المطلوبة لنجاح الفعاليات الإنتاجية التي استلمت مقاليدها. هذا، ناهيك عن إفساد هذه الطبقة من جراء حصولها على حقوق الغير دون أن تبذل أي جهد، اللهم إلا موالاة السلطة، مما يجعلها أيضاً عديمة الاهتمام، غير مكترثة سواءً نجح المشروع الذي استولت عليه أو فشل. كما أن من شأن ذلك، توسيع دائرة النصب والاستيلاء على تعب الغير وحقوقهم إلى درجة تطمس كل حق لغيرهم من أبناء الشعب.

-ونتيجة لفشل تلك الطبقة في إدارة المؤسسات الإنتاجية التي آلت إليها وعدم أمانتها على مقاليدها، فقد انعكس ذلك بخسارة فادحة على الدولة وكيانها السياسي، وعلى المجتمع برمته، فتهدم النظام برمته. فبالإضافة إلى كون هذه الطبقة لاتملك الفكر المنظم والخالق للثروة، فهي لاترعى حقاً أو واجباً نحو الدولة، والوطن والمجتمع، لأنها الحصينة بانتسابها إلى الحزب الحاكم قد أطلقت لغرائزها العنان بسلب حقوق الوطن والعاملين فيه بحيث أدى ذلك إلى إفلاس البلاد وإفقار الناس وضياع الوطن، بينما اغتنت هي وحدها غناءً فاحشاً أهلها لتتبوأ عرش النظام الرأسمالي الإنقلابي وويلاته الذي تلاه.

وهذا مايبرر -في الواقع- أن محاولة الانتقال بروسيا من الاشتراكية إلى الرأسمالية، في أوائل التسعينيات، لم تواجه بأية معارضة على الإطلاق، ولم يطوقها الأعداء من الخارج. فقد كانت التحاقية بالكامل، بل وتلقت مكافآت على ذلك، وأخذت الطبقة التي خلقها الحزب الشيوعي نفسه من ثواره الميامين، تسخر نظام الحرية لمصلحتها بشراسة منقطعة النظير، فأحلت لنفسها، باسم الحرية والديموقراطية كل ما يجلب لها الثروة، وبأية طريقة كانت: من تهريب المخدرات والعملات، وبيع ممتلكات الدولة ومؤسساتها وثرواتها واختراعاتها ومخترعيها وأسرارها الحربية، وعلومها الفضائية، وجلود نسائها وأطفالها.. إلى آخر ما هناك من فظائع يندى لها الجبين.. لقد تحولت -في الواقع- إلى أدوات مرتهنة بأيدي المافيا الصهيونية العالمية، تسعى فقط إلى الثروات بنهم وعدم مسؤولية، فتحلم بعمال دون أجور، ومتقاعدين دون رواتب تقاعدية، ومجتمع دون نقابات، وحياة دون ثقافة، واقتصاد دون إنتاج، وأموال دون عمل..! فالأسواق المالية ومضارباتها وبورصاتها غدت المصدر الوحيد للشرعية، وأصبح ارتكاب جرائم القتل والسلب والنهب الخبز اليومي للشعب، وامتلأت الطرقات والأرصفة بالمتسولين والبؤساء والعاطلين عن العمل وفتيات الطريق، وأصبحت تجارة الجنس المورد الرئيسي للبلد لجلب القطع الأجنبي.

وبعد أن كان الاقتصاد الحر قد وضع جل أمله في روسيا، بعد أن تدخل في حلبته، ممنياً نفسه بالإنفتاح على أسواقها لحل مشاكله وأزماته، أصبحت الأزمة الاقتصادية المستعصية فيها، وانهيار أسواقها المالية، وتدهور عملتها، من أولى المشاكل التي تهدد الاقتصاد الحر.

فالإسلام -في الواقع، قد تجلت عبقريته الإلهية بأنه لم يقض على طبقة ليستبدلها بطبقة أخرى، وإنما أصلح الطبقة الغنية التي كانت نافذة في السابق، بأن حولها من طبقة مستغله ظالمة وجبارة، إلى معطاءة وخيره وسمحة، تنفذ أوامر الله في عباده في السر والجهر، وتغدق بالأموال على بيت مال المسلمين دون حساب؛ وخلق إلى جانبها، بفضل قيام الدولة بواجباتها تجاه رعاياها، بإسناد ما بحوزتها من الملك العام إلى الطبقة المحرومة، والتكافل الاجتماعي بين أفراد المجتمع الإسلامي، خلق من العبيد أسياداً وعباقرة، ومن المستغلين الباطشين أكرم الناس وأعدلهم، وبذلك تحول المجتمع برمته إلى طبقة واحدة نشيطة ومنتجة وورعة، تعمل لدنياها كأنها تعيش أبداً، وتعمل لآخرتها كأنها تموت غداً...! وبذلك فقد عاش الإسلام في ربوع عديدة من الكرة الأرضية خلال قرون عديدة، ولم يتسن للنظام الاشتراكي أن يبلغ النصف قرن...!

×××

الفصل الثاني

الاقتصاد الرأسمالي كعلم أو مذهب

مقدمة:

كما يقسم الاقتصاد الماركسي إلى علم ومذهب، كذلك، يقسم الاقتصاد الرأسمالي إلى علم ومذهب.

فمنذ فجر التاريخ العلمي للاقتصاد، حين كان آدم سميث وريكاردو يضعان بذور هذا العلم وبنياته الأولية (الاقتصاد الطبيعي الكلاسيكي) سادت الفكر الاقتصادي آنذاك فكرتان:

- إحداهما: أن الحياة الاقتصادية تسير وفقاً لقوى طبيعية محدودة تتحكم في كل الكيان الاقتصادي للمجتمع، كما تسير شتى مناحي الكون طبقاً لقوى الطبيعة المتنوعة. والواجب العلمي تجاه تلك القوى التي تسيطر على الحياة الاقتصادية هو اكتشاف قوانينها العامة التي تصلح لتفسير مختلف الظواهر والأحداث الاقتصادية.

- والأخرى: أن تلك القوانين الطبيعية كفيلة بضمان السعادة البشرية، إذا عملت في جو من الحرية المطلقة، وأتيح لجميع أفراد المجتمع التمتع بتلك الحرية في مجالات: التملك، والاستغلال، والاستهلاك.

وقد وضعت الفكرة الأولى البذرة العلمية للاقتصاد الرأسمالي، والثانية بذرته المذهبية.

ولقد ارتبطت الفكرتان حتى خيل للمفكرين الاقتصاديين أن تقيد حرية الأفراد والتدخل في الشؤون الاقتصادية من الدولة، يعني الوقوف في وجه الطبيعة وقوانينها، وبالتالي يعتبر جريمة في حق القوانين الطبيعية العادلة...!

وهذا اللون من التفكير -في حد ذاته- يخرج علم الاقتصاد من حيِّز العلوم الاقتصادية. فالخروج على قانون طبيعي علمي لا يعني أن هناك جريمة ارتكبت في حق هذا القانون، وإنما يبرهن على خطأ هذا القانون، وينزع عنه صفة العلم الموضوعي. فالقوانين الطبيعية لا تختلف في ظل الشروط والظروف المختلفة، وإنما تختلف باختلافها آثارها ونتائجها.

وعلى هذا، لا بد من أن تدرس الحريات الرأسمالية، لا بوصفها ضرورات علمية تحتمها القوانين الطبيعية، وإنما تدرس على أساس مدى ما يتيح للإنسان من سعادة وكرامة، وللمجتمع من قيم ومثل...

وفي الواقع، فإن المذهب الرأسمالي ليس له طابع علمي، ولا يدعي لنفسه هذه الصفة، كما أنه لا يستمد كيانه من القوانين العلمية، كالمذهب الماركسي، وإنما يستمد كيانه من تقديرات مادية بحتة. وتقتصر العلاقة بين الجانب العلمي والجانب المذهبي في تحديد الإطار ومجرى الاتجاه للقوانين العلمية. أي أن القوانين المذكورة لا تعمل إلا في ظل الظروف الاجتماعية التي تسيطر عليها الرأسمالية بجوانبها الاقتصادية وأفكارها ومناهجها، وليست مطلقة كالقوانين الفيزيائية والكيميائية، تنطبق على كل مجتمع وفي كل زمان ومكان.

ولا بد لإيضاح ذلك من إلقاء بعض الضوء على عدد من القوانين الاقتصادية المذكورة لكي نعلم كيف، وإلى أية درجة يمكن الاعتراف لها بصفة العلم.

آ- قوانين الاقتصاد الرأسمالي العلمية

قانون العرض والطلب :

-هذا القانون القائل: "إن الطلب على سلعة إذا زاد، ولم يكن في المقدور زيادة الكميات المعروضة استجابة للزيادة في الطلب، فإن ثمن السلعة لا بد أن يرتفع".

هذا -في الواقع- ليس قانوناً موضوعياً كقوانين الفيزياء والفلك. وإنما يمثل ظواهر الحياة الواعية للإنسان. فهو يوضح أن المشتري سيقدم -في مثل الحالة المذكورة- على شراء السلعة بثمن أكبر من ثمنها، وأن البائع سيمتنع عن البيع إلا بذلك الثمن.

ونظراً لعلاقته بإرادة الإنسان، فهي تتأثر بكل المؤثرات التي تطرأ على الوعي الإنساني. فليس صحيحاً من الناحية الإنسانية أن الإرادة الإنسانية في مجرى الحياة الاقتصادية تسير دائماً، وفي كل مجتمع، كما تسير في المجتمع الرأسمالي، ما دامت المجتمعات تختلف في إطاراتها الفكرية والمذهبية والروحية، وليست بالضرورة غارقة في ضرورات المادة ومفاهيمها إلى قمتها.

فالرأسمالية، كما رأينا، مثلها مثل الاشتراكية، من أجل تدويل نظامها وفرضه على كافة شعوب العالم، أرغمتهم مسبقاً بأن يتقولبوا بقولبها الفكري والروحي والإحساسي والنفسي، بغسل أدمغتهم -تحت شعار التطور- لكي يتكون لديهم ذات الإحساس بالمشاكل التي ادعتها ومن ثم حتمت عليهم ذات الحلول لكي تفرض -من خلالها- سيطرتها على العالم أجمع..

فالقاعدة الرئيسية التي وضع في ضوئها كثير من القوانين الاقتصادية الكلاسيكية تجرد الإنسان من كل الروابط الاجتماعية -فيما عدا المادة- وتفترض أن كل إنسان، هو في قرارة نفسه، إنسان اقتصادي يؤمن بالمصلحة المادية الشخصية كهدف أعلى. وهذه القاعدة، لا تنطبق إلا على المجتمع الرأسمالي الأوروبي، وطابعه الفكري والروحي، وأساليبه الخلقية والعملية. إلا أنها -كما رأينا- تسربت، من خلال غسل الأدمغة الدائم، عن طريق الاستعمار الثقافي والعلمي والاقتصادي.. الخ إلى المجتمعات الأخرى في كل ركن من أركان المعمورة.

فأين ما كان دائراً في المجتمعات الإسلامية في عصورها الزاهرة، مما يدور فيها الآن؟ ويمكننا أن نورد -على سبيل المثال- الفقرة التالية في وصف الإجارات والتجارات للشاطبي:

(( نجدهم في الإجارات والتجارات، لا يأخذون إلا بأقل ما يكون من الربح أو الإجرة، حتى يكون ما حاول أحدهم من ذلك كسباً لغيره لا له. ولذلك بالغوا بالنصيحة فوق ما يلزمهم. فكأنهم وكلاء للناس لا لأنفسهم، بل كانوا يرون المحاباة لأنفسهم -وإن جازت- هي كالغش لغيرهم ))

وإلى عهد غير بعيد، وقبل أن يستفحل الغزو الثقافي الغربي في المجتمع الإسلامي، كان سائداً في أسواق الباعة التقليديين في حلب، عندما يطلب شخص من بائع شراء حاجة أن يجيبه: "اذهب إلى جاري- إنني استفتحت (أي بعت شيئاً)، بينما جاري لم يستفتح بعد...!".

من هنا ندرك مدى الخطأ في إخضاع مجتمع، كان يتمتع بمثل هذه الخصائص والمقومات، لنفس القوانين التي يخضع لها مجتمع رأسمالي زاخر بالأنانية والمفاهيم المادية.

ولقد شهد الربع الأخير من هذا القرن كيف أن المسيطرين على الفكر الرأسمالي يتلاعبون بالعرض والطلب، ويخلقون القوانين العلمية حسب مصلحتهم.

وإلا..! ما الذي أدى في أوائل الثمانينات إلى أن تهبط أسعار البترول من 42 دولاراً للبرميل إلى ما دون السبع دولارات؛ وتنهار أسعار المواد الأولية الأخرى إلى أدنى مستوى شهدته في تاريخها، هذا، بينما كان الاقتصاد الغربي يواصل نموه بشكل جيد في النصف الثاني من الثمانينات؟!.. إن الزوبعة الكاذبة والضالة التي خلقوها بإيهام البلدان البترولية بوصولهم إلى خلق مواد بديلة للطاقة. في ذلك الحين، وتحول البترول إلى مادة نتنة سوف تفسد في آبارها، هي التي أدت إلى السرعة المدهشة في زيادة الإنتاج وفيضان السوق الأوروبية والغربية برمتها ومخازنها بالبترول وتخلي الحكام عن سياساتهم التي كانت معتمدة للحد من إهدار الطاقة، هذه المادة النادرة، والقابلة للنفاد عن قريب، والتي هي بمثابة الشريان الرئيسي الذي يمد الحياة إلى كافة المرافق الحيوية، ليس في الغرب وحده، بل في العالم أجمع، بعد أن أصبحت بفعل التدويل، على النمط الغربي في كافة متطلبات الحياة.

وأين هو القانون الذي كان لا بد أن يعمل في ظل الانتعاش الاقتصادي العالمي لينعكس -كما كان في السابق- بارتفاع أسعار الطاقة والمواد الأولية بدل انخفاضها؟!..

إن هذا الانخفاض الفاحش لأسعار الطاقة والمواد الأولية الأخرى، كان -في الواقع- هو الذي أدى إلى انخفاض معدلات التضخم في البلدان الغربية إلى مستوى لم تشهده من قبل (من العشرينات إلى الرقم الواحد أو الرقمين)، هذا، بينما تصاعدت في البلدان المسروقة أضعافاً مضاعفة لدرجة أصبحت كلفة الحياة فيها تفوق كلفتها في البلدان الغربية إلى حدٍ كبير، مع الاختلاف الفاحش بمستوى الدخل (من عشرات إلى مئات المرات). وهكذا، فقانونهم في العرض والطلب يسرق المواد الأولية وثروات شعوبهم بأسعار شبه مجانية، ويسرق دخول هذه الشعوب التافهة ببضائعهم الباهظة الثمن.

فكيف لنا ألا نتصور أن هذا النظام سوف يؤول بالقسم الأكبر من بلدان العالم إلى الدمار الكامل، وإلى شعوبها بالإبادة جوعاً وسقماً وبلاءً...!؟

- قوانين توزيع الدخل.

إن هذه القوانين، كما شرحها ريكاردو وغيره من الأقطاب الكلاسيكيين، تقضي بتخصيص جزء من الإنتاج أجراً للعامل يحدد وفقاً لقيمة المواد الغذائية القادرة على إعاشته والاحتفاظ بقواه للعمل، ويقسم الباقي على شكل: ربح، وفائدة، وريع .

لقد استخلص الاقتصاد الرأسمالي من ذلك أن للأجور قانوناً حديدياً لا يمكن بموجبه أن تزيد الأجور أو تنقص، وإن زادت أو انخفضت كمية النقد التي يتسلم بها العامل أجره تبعاً لارتفاع قيمة المواد الغذائية وهبوطها.

ويتلخص هذا القانون الحديدي في أن العمال إذا ازدادت أجورهم لسبب ما، فسوف تتحسن حالتهم المعيشية ويقدمون بصورة أكثر على الزواج والتناسل، فتكثر الأيدي العاملة، ويتضاعف العرض، فتنخفض الأجور إلى الحد الطبيعي.

وإذا حدث العكس أدى ذلك إلى انتشار البؤس والمرض في صفوفهم، فيقل عددهم وتنخفض كمية العرض، فترتفع الأجور.

وبهذا، فقد بات الإنسان في ظل الحرية الرأسمالية نفسه سلعة خاضعة لقوانين العرض والطلب، وأصبحت الحياة الإنسانية رهناً لهذه القوانين، وبالتالي رهن القانون الحديدي للأجور. فإذا زادت القوى البشرية العاملة، وزاد المعروض منها على مسرح الإنتاج الرأسمالي، انخفض سعرها لأن الرأسمالي سوف يعتبر ذلك فرصة حسنة له على حساب أتعاب الآخرين، فيهبط بأجورهم إلى مستوى لا يحفظ لهم حياتهم، كما قد يقذف بعدد هائل منهم إلى الشارع يقاسون آلام الموت جوعاً، لا لشيء إلا لأنه يتمتع بحرية غير محدودة. والأمل الوحيد الذي تقدمه الرأسمالية للطبقة العمالية المذكورة هو في انخفاض عددهم بسبب تراكم البؤس والشقاء والموت من الجوع، لكي يقل عددهم، ويزيد الطلب عليهم على العرض لترتفع أجورهم وتتحسن أحوالهم.

هذا القانون الذي يتقدم به إلينا الاقتصاديون الكلاسيكيون بوصفه تفسيراً علمياً، وقانوناً طبيعياً للحياة الاقتصادية، لا ينطبق، في الحقيقة -إلا على المجتمعات الرأسمالية التي لا يوجد فيها ضمان اجتماعي عام، ويعتمد التسعير فيها على جهاز السوق. أما في مجتمع يسود فيه مبدأ الضمان الاجتماعي العام لمستوى حياة كريمة كالمجتمع الإسلامي، أو في مجتمع يلغي فيه جهاز السوق ويجرده من وظيفته في تحديد الأسعار تبعاً لنسبة العرض إلى الطلب، كالمجتمع الاشتراكي، فلا تتحكم فيه تلك القوانين أصلاً.

والآن، بعد أن فاضت سوق العمل الغربية بالأيدي العاملة -على مختلف المستويات- الوافدة من كل حدبٍ وصوب، بسبب الحروب الدائرة في كل مكان بين الشركات العالمية الأمريكية والأوروبية، بأيدي الشعوب نفسها، وما تمخص عن النظم الاقتصادية المفروضة على العالم من استهتار بالإنسان وتشريده وتجويعه، فإن إجرة العامل هبطت -في كل مكان- إلى دون ما يسمى بعتبة الفقر، خالية من أي ضمان صحي أو اجتماعي، كما أصبح العامل معرضاً للطرد في أية لحظة كانت، وأعتقد أن لذلك أيضاً علاقة بانهيار المعسكر الاشتراكي، فلم يعد هناك من خطر يهدد النظام الرأسمالي من دولة العمال وثورة العمال، بل أصبح العكس هو الصحيح، فالعولمة الأمريكية ومنافستها الأوروبية قد أعلنتا الحرب الطبقية على العمال، وفازت بها...!

وهكذا، فإن الهيكل العلمي للاقتصاد الرأسمالي ليس له صفة القوانين العلمية الموضوعية، فلم يبق منه إلا الإطار المذهبي.

ب- الاقتصاد الرأسمالي كمذهب

يرتكز المذهب الرأسمالي على أركان ثلاثة رئيسية هي:

حرية التملك، وحرية الاستغلال- وحرية الاستهلاك

1- الأخذ بمبدأ الملكية الخاصة بشكل غير محدود:

فالملكية الخاصة، في هذا المبدأ، هي القاعدة العامة التي تمتد إلى كل المجالات، وميادين الثروة المتنوعة، على العكس من المذهب الاشتراكي، ولا يجوز الخروج عنها إلا بحكم ظروف استثنائية، تضطر أحياناً إلى تأميم بعض المشاريع. ويتكفل القانون في المجتمع الرأسمالي بحماية الملكية الخاصة، وتمكين المالك من الاحتفاظ بها.

2- حق كل فرد باستغلال ملكيته وتمكينه من ذلك، والسماح له بتنمية ثروته بمختلف الوسائل والأساليب التي يتمكن منها.

وتستهدف هذه الحرية أن تجعل الفرد العامل الوحيد في الحركة الاقتصادية، إذ ما من أحد أقدر منه على معرفة منافعه الحقيقية وطرق اكتسابها.

3- ضمان حرية الاستهلاك.

فلكل فرد الحرية في إنفاق ماله كما يشاء واختيار نوع السلع التي يستهلكها، ولا يمنع ذلك لجوء الدولة -في بعض الأحيان- إلى منع بعض السلع، مثل المخدرات.

والسؤال الذي يقفز إلى مجال البحث هو: ما هو الهدف من الحرية الاقتصادية؟

والجواب على ذلك -حسب الاقتصاديين الرأسماليين يتلخص فيما يلي:

1- لأن مصالح الفرد التي يندفع إلى تحقيقها بحرية كاملة ودوافع ذاتية محضة، تتوافق مع مصالح المجتمع، فالحرية -على هذا الأساس- ليست إلا أداة لتوفير تلك المصالح العامة، وضمان ما يتطلبه المجتمع من خير ورفاه.

2- لأن الحرية الاقتصادية هي أفضل قوة دافعة للقوى المنتجة، وأكفأ طريقة لتفجير الطاقات والإمكانيات وتجنيدها لزيادة الإنتاج ومضاعفة الثروة الاجتماعية.

3- وهناك فكرة ثالثة ذات طابع خلقي محض وهي: إن الحرية، بوجه عام، هي حق إنساني أصيل، وتعبير عملي عن الكرامة البشرية، وعن شعور الإنسان بها. فليست هي أداة للرفاه الاجتماعي أو لتنمية الإنتاج فحسب، وإنما هي تحقيق لإنسانية الإنسان ووجوده الطبيعي الصحيح. والآن لنستعرض من خلال التطبيق مدى توافق النتائج التي توصلت إليها الحرية الاقتصادية في النظام الرأسمالي مع أهدافها.

1- مفهوم الحرية كوسيلة لتحقيق المصالح العامة.

ذكرنا أن هذه الفكرة ترتكز على أساس الإيمان بأن الدوافع الذاتية تلتقي دائماً مع المصالح العامة والرفاه الاجتماعي، شرط أن تعمل في جو من الحرية المطلقة المجردة من كل قيد من القيم الروحية أو الخلقية، لأنها حرية حتى في تقدير هذه القيم. فالأفراد أحرار في التقيد في تلك القيم أو رفضها.

فعن طريق التنافس الحر بين مختلف المشاريع الإنتاجية، يعمل صاحب المشروع بدافع من مصلحته الخاصة على تحسين مشروعه والاستزادة من كفاءته حتى يحتفظ بأسبقيته على سائر المشاريع. وأن جزاء من يتخلف عن هذا السباق هو إفلاس مشروعه. فالمنافسة الحرة في النظام الرأسمالي سيف مسلط على رقاب المنظمين يطيح بالضعيف والمهمل والمتكاسل، ويضمن البقاء للأصلح.

لقد أصبح اليوم حديث التوافق بين المصالح العامة والدوافع الذاتية في ظل الرأسمالية والحرية المطلقة أدعى للسخرية منه للقبول. فالمنافسة الحرة من كل قيد، لم تؤد -في الواقع- إلى إشباع الحاجات الإنسانية بأقل نفقة ممكنة، بل إلى تخفيض نفقات الإنتاج بأقل أجر ممكن لليد العاملة ونقل الإنتاج للخارج، وتسريح العمال، وإعادة الهيكلة. فعلى سبيل المثال، إن أكثر بلدان العالم إنتاجية وثراء (أمريكا) أصبحت أكثر اقتصاديات العالم سرقة للأجور. فالمنافسة المتصاعدة تسببت في إصابة ما يزيد على نصف السكان بالفزع. ففي عام 1995 حصل أربعة أخماس مجمل المستخدمين والعمال الذكور في الولايات المتحدة الأمريكية، عن كل ساعة عمل، على مبلغ تقل قيمته الشرائية عما كانوا يحصلون عليه عام 1973 بمقدار 11%، أي أن المستوى المعيشي الفعلي للغالبية العظمى للشعب الأمريكي قد انهار في العقدين الأخيرين مع بلوغ أمريكا مرتبة "أكثر اقتصاديات العالم إنتاجية"، وفرحة كلينتون بالازدهار الذي يعم الاقتصاد الأمريكي "على نحو لا مثيل له منذ ثلاثين عاماً". هذا، علماً بأن الأجر قد انخفض بالنسبة للثلث الأدنى في سلم الدخول على نحو أشد مما سبق: فهذه الملايين من السكان صارت تحصل على أجر يقل بمقدار 25 % عما كان سائداً قبل عشرين عاماً.

وهذا لا يعني أن المجتمع الأمريكي، إجمالاً، هو الأفقر. إذ لم يسبق أبداً أن حاز الأمريكيون على ما يحوزون عليه اليوم من الثروة والدخول. إلا أن المشكلة تكمن فقط في أن النمو المتحقق هو برمته من حصة الخمس الثري، أي من حصة العشرين مليون عائلة لا غير، حسب الإحصاءات.

وحتى في إطار هذه الفئة يتوزع الدخل توزيعاً غير عادل على نحو شديد للغاية. فواحد بالمائة من أثرى العائلات تضاعف دخلها مرات عديدة منذ 1980. وهكذا، أضحى أغنى الأغنياء، أي حوالي نصف مليون مواطن يمتلكون اليوم ثلث الثروة التي يمتلكها الأهالي في الولايات المتحدة الأمريكية. وانعكست هذه الثمار على مديري المشروعات الكبيرة. الذين ارتفع دخلهم، العظيم أصلاً، بشكل صاف بمقدار 250% خلال السنوات السبع الأخيرة.

ويحصل غالبية هؤلاء المديرين الكبار على رواتبهم العالية إكراماً لما يبذلون من جهد يرمي إلى تخفيض تكاليف العمل من ناحية الأجور، بكافة السبل بما فيها الانتقال من الوطن إلى أي بقعة من بقاع العالم.

فعلى سبيل المثال، تشغل المشروعات الأمريكية في المكسيك ما يقرب من نصف مليون عامل بأجر يقل عن دولار واحد في اليوم. أضف إلى هذا، أن هؤلاء العاملين لا يحصلون على أية مدفوعات اجتماعية كالتأمين الصحي أو الضمان الاجتماعي. وفي كافة القطاعات طور المديرون القياديون استراتيجيات يستطيعون من خلالها تفادي تأسيس أية تنظيمات تدافع عن مصالح العاملين لديهم. وكما قال lester Thurou (لستر ثارو): "إن بوسع المرء أن يدعي أن من في أمريكا من رأسماليين، قد أعلنوا الحرب الطبقية على عمالهم، وأنهم قد فازوا بها".

والسؤال الذي يفرض نفسه في الوقت الحاضر، إذا كان هذا هو عليه الحال في أمريكا، قلب الحرية النابض؛ فإلى أي مدى يمكن أن تضمن الدوافع الذاتية للرأسماليين فيها تحقيق المصالح العامة في مختلف المجتمعات.

وبمعنى آخر، هل تتوافق المصالح الخاصة للمجتمع الرأسمالي مع مصالح غيره من المجتمعات البشرية، وخاصة بعد أن مد أجنحته لتطال، عن طريق العولمة، كل بقعة من بقاع العالم، مع ما ذكرنا من تجرده المذهبي من كل الإطارات الروحية والخلقية. ألسنا نعيش في الوقت الحاضر نظام السخرة واستعباد الشعوب في أراضيها لحسابه واستعبادها لقضاء دوافعه الذاتية فقط؟!

والواقع التاريخي للرأسمالية هو الذي يجيب على هذا السؤال.

فكلنا يعلم ما قاسته الإنسانية على أيدي المجتمعات الرأسمالية نتيجة لفراغها الروحي، وانهيارها الخلقي. فالحرية الاقتصادية التي لا تحدها حدود معنوية، هي من أفتك أسلحة الإنسان بالإنسان، وأفظعها إمعاناً في التدمير والخراب. لقد كان من نتاج هذه الحرية مثلاً، تسابق الدول الأوروبية بشكل جنوني على استعباد البشر الآمنين وتسخيرهم في خدمة الإنتاج الرأسمالي. وتاريخ أفريقيا وحدها صفحة من صفحات ذلك السباق المحموم، تعرضت فيه القارة الأفريقية لطوفان من الشقاء، إذ قامت دول عديدة كبريطانيا، وفرنسا، وهولندا وغيرها، باستيراد كميات هائلة من سكان أفريقيا الآمنين، وبيعهم في سوق الرقيق، وتقديمهم قرابين للعملاق الرأسمالي. وكان تجار تلك البلاد يحرقون القرى الأفريقية ليضطر سكانها إلى الفرار مذعورين، فيقوم التجار بكسبهم وسوقهم إلى السفن التجارية التي تنقلهم إلى بلاد الأسياد. وما قيام بريطانيا، فيما بعد بحملة واسعة ضدهم وضد القرصنة، إلا تمهيداً لقرصنتها وحدها، حيث أتت بأسطولها الفخم إلى سواحل أفريقيا، واحتلت مساحات كبيرة على الشواطئ الغربية وبدأت بعملية استعباد لا نظير لها في التاريخ.

ومن العبودية والاستعمار البريطاني، عانت القارة خلال مدة نصف قرن خلت من فظائع الحروب والانقلابات على أيدي النظامين المسيطرين على العالم، الشرقي والغربي على السواء. وبقيت تتأرجح من أيدي الماركسيين إلى أيدي ما يسمى بالديموقراطيين، مع كل ما تبع ذلك من قلب بنياتها رأساً على عقب، وتبديد ثرواتها، ونهك قيمها الروحية والفكرية، وسرقة كل ما هو ضروري لحياة شعوبها. وها هي تحت ظل نظام العولمة الجديد، تحل فيها قرصنة أمريكا بأجلى صورها. فمع اعتذار الرئيس الأمريكي كلينتون لها من التاريخ، تشعل فيها الحروب الطاحنة من كل حدبٍ وصوب بين الشركات الأمريكية، الغازين الجدد، والشركات الأوروبية الغزاة التقليديين، لاغتصاب ثرواتها المعدنية الدفينة، هذه الحروب التي تجري بأيدي شعوبها بالذات وباسم الديموقراطية والحرية..!

فهل لنا أن نعتقد بأن الحرية الرأسمالية. التي تعمل دون أي اعتبار روحي أو خلقي، بإمكانها أو تستطيع تحويل جهود البشر في سبيل مكاسبهم الخاصة، إلى آلة تضمن المصالح العامة والرفاه للجميع؟!...

وهذا، في الواقع، لا يقتصر على أفريقيا وحدها، بل يشمل جميع أنحاء العالم التعيس. فحمى التخصيص، في ظل العولمة، وما يرافقها من تسريحات عشوائية للعمال، نتيجة الصهر والإندماج للمؤسسات الإنتاجية والمرافق العامة، والسلب لقواهم الشرائية وحقوقهم الاجتماعية والصحية.. الخ، لم تستثنِ أي بلد على الإطلاق، وهي بصفتها حرب ضارية على الطبقة العاملة، ليست كبقية حروب الطبقات التي شاعت منذ أوائل القرن حتى الآن؛ ذلك أنها تصيب ما يزيد على 95% من الجنس البشري على وجه الكرة الأرضية، بعد أن نسف من الوجود كل منتج خاص أو تقليدي، وتحول القسم الأعظم منها، في كافة فروع الإنتاج إلى عمال، واقتصرت الفعاليات الاقتصادية على الشركات العالمية في كل مكان. وهكذا، تحولت الرأسمالية إلى سلاح جاهز بيد الأقوياء يشق لهم الطريق، ويعبد أمامهم سبل المجد والثروة على جماجم الآخرين...!

2- الحرية سبب لتنمية الإنتاج

لا بد لإيضاح هذا الخطأ الجسيم من عرض بعض نتائج تنمية الإنتاج في ظل الحرية الرأسمالية:

لنتساءل أولاً: ما هي المشاريع التي نما إنتاجها في ظل الحرية المطلقة المقرونة بألوان لا حصر لها من الظلم والاستهتار والجشع والطمع؟!

إنها -بدون شك- المشاريع القوية التي حطمت غيرها من المشاريع (دون حاجة إلى تأميم)، وبدأت بالاحتكار تدريجياً إلى أن قضت على كل لون من ألوان التنافس وثمراته في مضمار الإنتاج. وتحولت بذلك المنافسة إلى صفر.

فالتنافس الحر الذي يواكب الحرية بالمعنى الذي يسمح بزيادة الإنتاج، لا يواكب الحرية والرأسمالية إلا شوطاً محدوداً، ثم يخلي الميدان بعد ذلك للاحتكار، الذي ينجم عنه تراجع النمو الاقتصادي نتيجة الجشع والطمع من جهة المنتجين، وتضاؤل القوة الشرائية لدى المستهلكين، وهكذا فإن النظام الاستهلاكي يقضي على المستهلكين...!

إن الزيادة في الإنتاج -في الواقع- لم تقترن بانخفاض الأسعار، لفقدان المزاحمة رغم انخفاض كلفة الإنتاج بسبب انهيار أسعار المواد الأولية، وسرقة حقوق العمال، ولم تترافق بتوفير قدر أكبر من السعادة للمجتمع الرأسمالي نفسه، نظراً لسوء التوزيع الذي رافق الوفرة في الإنتاج.

والمذهب الرأسمالي أعجز ما يكون عن امتلاك الكفاءة التوزيعية التي تضمن رفاه المجتمع وسعادة الجميع. فالرأسمالية -في الواقع- تعتمد في التوزيع على أساس جهاز الثمن. وهذا يعني أن من لا يملك ثمن السلعة ليس له الحق في الحياة. وبذلك يحكم بالموت جوعاً على من كان عاجزاً عن اكتساب هذا الثمن لعدم قدرته على المساهمة في الإنتاج، أو لعدم تهيئة فرصة له للمساهمة، أو لوقوعه فريسة في يد المساهمين الأقوياء الذين سدوا في وجهه كل الفرص. ولهذا كانت بطالة الأيدي العاملة في المجتمعات الرأسمالية من أفجع الكوارث الإنسانية في المجتمعات الأخرى.

فليست المبالغة في كفاءة المذهب الرأسمالي وقدرته على تنمية الإنتاج إلا تضليلاً وستراً للجانب المظلم منه، والذي يحكم بالحرمان من التوزيع على من لا يحصل على القطع السحرية من النقود.

فما الفائدة إذاً من زيادة الإنتاج إذا لم يقترن بالرفاه الاجتماعي العام؟ إن الرفاه العام لا يتعلق بكمية الناتج العام، بمقدار ما يتعلق بكيفية تقسيم هذا الناتج على الأفراد. ولذا فقد قرن الإسلام وشريعته الإلهية التنمية بالتوزيع كما سنرى فيما بعد.

3- الحرية تعبير عن الكرامة الإنسانية

أي بوصفها المظهر الجوهري للكرامة وتحقيق للذات اللذين ليس للحياة بدونهما أي معنى. والمراد بالحرية الجوهرية توفير القدرة والوسائل والشروط التي تعين الفرد على النجاح في عمله كإنسان في ظل الحرية.

والرأسمالية، في الواقع، بعيدة كل البعد عن هذه الحرية بالمعنى الجوهري، وتقتصر على الحرية الشكلية، أي حرية أصحاب الثروات الضخمة في الاستزادة من ثرواتهم بالطرق التي تتفق مع مصالحهم الشخصية، وحريتهم في استخدام العامل أو رفضه، وحرية رجال السلطة في استخدام أتباعهم في أعلى المراكز، ولو لم يملكوا من المؤهلات ما يسمح لهم بذلك وحريتهم في تحويل الخطأ إلى صواب والصواب إلى خطأ، وحريتهم في كم الأفواه التي لا توافقهم، وشطب العلوم التي ليست من مصلحتهم.. الخ.

وهكذا، فإن هذه الحرية الشكلية لا تتأتى إلا لعدد ضئيل جداً من الشعب، بحيث تحولهم -لشدة المبالغة في الحرية- إلى صفة الهمجية، في الوقت الذي يراد منها أن تمثل الصفة الأولى للإنسانية.

فتحت اسم نظام السوق الغوغائي تتحكم في العالم أجمع، في الوقت الحاضر طبقة ضئيلة جداً من الشبان المراهقين، دون علم ولا خبرة ولا إحساس بالمسؤولية، مدعومة بأجهزة تكنولوجية على درجة كبيرة من السرعة والفعالية، ولا تخضع لسيطرة أية حكومة، حتى في أمريكا نفسها، حامية هذا النظام. ويكفي أن يعلن أي مسؤول عن حصول تباطؤ في أي رقم من الفعاليات الاقتصادية في بلاده، حتى تقوم بنزح كل ما لديها من أموال، غدت خفيفة الحركة لاعتمادها على الأسهم والسندات والمضاربات بها وبالعملات، وتؤدي بالبلد، في لمح البصر إلى الإفلاس*.

أما بقية أفراد الشعب، فالحرية الشكلية التي تؤمنها لهم لا تعدو السماح لهم بممارسة مختلف ألوان النشاط الاقتصادي في سبيل الغايات التي يسعون إلى تحقيقها دون أن تعينهم على ذلك.

إن إقرار هذا النوع من الحرية الشكلية، يعني عدم إمكان وضع مبدأ لضمان العمل للعامل، أو ضمان المعيشة لغير العامل من العاجزين، لأن وضع مثل هذه الضمانات لا يمكن أن يتم بدون تحديد تلك الحريات التي يتمتع بها أصحاب العمل وأرباب الثروة.

وهو ما يتنافى مع مبدأ الحرية الشكلية التي تسمح لكل شخص بالتصرف في المجال الاقتصادي كما يريد. ولما كانت الرأسمالية تؤمن بهذا المبدأ، فقد وجدت نفسها مضطرة إلى رفض فكرة الضمان أي فكرة الحرية الجوهرية. ولكن!... لقد تبين -بما لا يدع أي مجالٍ للشك: "أن من يعمل ليعيش وحده، لا بد من أن يزول هو أيضاً، إن آجلاً أو عاجلاً، مع المجموع...

فالحرية -في الواقع- إن كانت نزعة أصيلة في الإنسان لأنه يرفض بطبعه القسر والضغط والإكراه، ولكن لا بد للإنسان من حاجات جوهرية لا معنى للحرية بدونها. فهو بحاجة -مثلاً- إلى شيء من السكينة والاطمئنان في حياته، لأن القلق يرعبه، كما ينغص حياته الضغط والإكراه. فإذا فقد كل الضمانات التي يمكن للمجتمع أن يؤديها له في حياته ومعيشته، خسر بذلك حاجة من حاجاته الجوهرية، وحرم من إشباع ميله الأصيل إلى الاستقرار والثقة، كما خسر حريته كاملة. فالتوفيق الدقيق والحكيم بين حاجة الإنسان الأصيلة إلى الحرية، وحاجته إلى الاستقرار مثلاً في العمل، والثقة في المستقبل، وسائر حاجاته الأصلية الأخرى في الحياة، هو العملية التي يجب أن يؤديها أي مذهب كان للإنسانية، إذا أراد أن يكون عالمياً قائماً على أسس راسخة من الواقع الإنساني.

وأخيراً، فإن موقف الرأسمالية من الحرية والضمان ينسجم كل الانسجام مع الإطار العام للتفكير الرأسمالي، لأن الضمان ينطوي على فكرة تحديد حريات الأفراد والضغط عليها، ولا تستطيع الرأسمالية أن تجد لهذا الضغط والتحديد مسوغاً على أساس مفاهيمها العامة عن الكون والإنسان.

إن الضغط والتحديد في الإسلام، يستمد -في الواقع- مبرره من الإيمان بسلطة عليا تمتلك حق تنظيم الإنسانية وتوجيهها في حياتها، ووضع الضمانات المحددة لحريات الأفراد، على ضوء الدين الحنيف، إذ يرى أن للإنسان خالقاً حكيماً من حقه أن يصنع له وجوده الاجتماعي، ويحد طريقته في الحياة لصالحه وصالح الإنسانية جمعاء.

أوجه الالتقاء بين الماركسية والرأسمالية

بعد كل ما تقدم، لسنا بحاجة إلى كثير من الجهد لنبين أن الرأسمالية مقرونة بالحرية المطلقة، تلتقي مع المذهب الماركسي في عدة نقاط جوهرية:

- إن كلا النظامين أعطى القيمة الرئيسية في المجتمع لمالكي وسائل الإنتاج والمسيطرين عليها، وإن مصالح الإنتاج هي التي تحدد القيم التي تحكم المجتمع لا مصالح الإنسان.

- إن وسائل الإنتاج انحصرت في يد الأقوياء في النظامين، في يد رجال الحزب السياسي الذين يملكون السلطة السياسية في النظام الاشتراكي، وفي يد المحتكرين للإنتاج والذين يفرضون رجال السلطة السياسية في النظام الرأسمالي.

وبهذا، فإنهم يجمعون بين السلطة والمال بآن واحد في كلا النظامين*.

ويتساوى النظامان بتدويل نظاميهما وفرضهما على جميع بلدان العالم وشعوبها، وكأن العالم في كل مكان، ورغم بعد المسافات واختلاف العقول والثقافات والمعطيات، يعاني من ذات المشاكل وذات الهموم، ويتقبل ذات الحلول، حتى وإن ثبت أن هذه الحلول غير ناجعة في موطنهم بالذات. هذا، مع كل مازامن هذا التدويل من نبش وقلب للبنيات الأساسية من هذا النظام أو ذاك...

- أليست التحولات التي حصلت لصالح الاشتراكية في بلدان العالم الثالث عن طريق تجريد الزراع والصناع المحليين من وسائل رزقهم وإنتاجهم بغية خلق الطبقة الرأسمالية التي تستطيع أن تشيد المصانع والمزارع الكبيرة التي هي الطريق إلى الاشتراكية، حسب زعمها، أليست هذه التحولات هي نفسها التي فرضها أيضاً النظام الرأسمالي على هذه البلدان باسم التخلص من التخلف، لإحلال الإنتاج المؤسساتي -في الواقع- محلها لصالح الشركات العالمية، وباسم التطور والتقدم؟!...

- أليس في تجريد شعوب بلدان العالم الثالث من ثرواتها الطبيعية، ووسائل إنتاجها، ومهنها، وجعلها تابعة للخارج -في الشرق أو الغرب- ذات المفهوم من العبودية الذي تفسر به الماركسية تحول طبقة أسرى الحرب إلى عبيد للقبائل التي أثرت نتيجة استعبادهم؟

- ألم تعاني شعوب هذه البلدان من سيئات النظامين معاً: جهاز الحكم الدكتاتوري العسكري سياسياً، هبة الماركسية، الذي يبيح لنفسه القتل والسجن والطرد والتعذيب دون حكم أو محاكمة، ويستولي على الممتلكات ويغتصب الحقوق ويتوزعها بين أفراده، والجهاز الاقتصادي الذي لا يرى حرجاً باقتباس النهج الرأسمالي باشنع صوره، والذي يتيح للشركات العالمية الغربية الحرية المطلقة في قلب البلدان أعاليها أسافلها لإبادة كل أثر للإنتاج المحلي بكافة أنواعه، وإعداد البنيات التحتية التي تسهل لها إقامة مؤسساتها الإنتاجية البديلة، على حساب الكروم والبساتين والحقول، التي كانت تغذي الشعوب بأفضل أنواع المنتجات الزراعية وأرخصها*، لإيصال منتجاتها البديلة إلى كل بقعة من بقاع هذه البلدان، وتجعلها تابعة إليها في الغذاء والكساء وكافة الاحتياجات.

- أليس النظامان هما المسؤولان عن إلحاق عملية التفريغ المادي لشعوب بلدان العالم الثالث بالتفريغ الذاتي من الأسس التربوية والأخلاقية والثقافية والعلمية.. الخ وفرض الأسس الغريبة عنهم محلها، من الشرق أو الغرب -حسب الحال- مما جعل السكان الأصليين غرباء في أوطانهم، وعبيداً للأجانب في عقر دارهم؟

هذا، وإذا ما أفاد المذهب الماركسي في شيء، فإنه –مما لا شك فيه- قد أفاد المذهب الرأسمالي، وجعل المنتجين يغدقون بعطاءاتهم للعمال ليسدوا بذلك الطريق الذي يمكن أن تنفذ منه الشيوعية. وما أن زال خطر ثورة العمال المرتقبة، بزوال الاشتراكية نفسها في موطنها بالذات، حتى كشرت السلطات الرأسمالية عن أنيابها، وأخذت بتشليح العمال الضمانات الاجتماعية التي كانت قد منحتهم إياها، وتفننت بألوان التسريح التعسفي، واستغنت أكثر فأكثر عن العمال، وقلصت أجورهم إلى أدنى المستويات، وتحول ثلاثة أرباع المعمورة إلى فقراء..

وها هو ميخائيل كورباتشوف، أخذ يصحو -بعد فوات الأوان- من ثمالة أقداح انتصاره في حركته التصحيحية الميمونة، بعد أن نحي جانباً عشية تأديته واجبه كاملاً نحو أسياده ومخدريه، وأخذ يسير في جنازة شعبه نائحاً، بعد أن سدد له الطعنة المميتة، ليعلق في فندق "الفيرمونت" في سان فرنسيسكو عام 1995، رداً على سؤال أحد الصحفيين التالي:

"إن كنتم تعتقدون أن العالم برمته سيتحول إلى برازيل كبيرة، أعني إلى دول تسودها اللامساواة، مع وجود أحياء مقفلة تسكنها النخب الثرية؟"

فأجاب:

"إنكم بهذا السؤال تطرحون لب المشكلة على بساط البحث.. إنها لحقيقة أن روسيا نفسها أصبحت على شاكله البرازيل".

في الواقع، لقد تحول العالم أجمع إلى برازيل كبيرة... إلا أن هذا لا يعني أن الأسلاك الشائكة، والأجهزة الألكترونية، وكاميرات الليل والنهار، سوف تحمي إلى ما لا نهاية هذه القلة الضئيلة من الأثرياء المتخمين من الطوفان السكاني المتصاعد من الجائعين والمغتصبة حقوقهم والمحرومين، فثورة الجائعين لا ترحم...!

النتيجة.

وهكذا، يتبين لنا مما تقدم أن الاقتصاد كعلم قد خسر برهانه العلمي في النظرية الماركسية والرأسمالية على السواء، وأن الاقتصاد كمذهب، على العكس من الأهداف المرسومة له في كلا المذهبين الدوليين قد أثبت فشله في اكتشاف المشاكل الحقيقية التي تعاني منها الشعوب، لأنه بالأصل لا يهدف فعلاً إلى اكتشافها.

وبالتالي، فإن الحلول التي طرحت لمعالجة المشاكل الوهمية قد أتت على النظام الاشتراكي من أساسه، وأنها، مما لا شك فيه، سوف تأتي -إن آجلاً أو عاجلاً- على النظام الرأسمالي، فبذور انحلاله أخذت تترعرع فيه، وما الانفجارات المالية التي اندلعت في كل مكان من آسيا إلى أوروبا الشرقية، إلى أمريكا اللاتينية، وفي القريب العاجل إلى أوروبا الغربية، ومنها إلى كل مكان من المعمورة، سوف لا تستثني أمريكا، القلب النابض في هذا النظام، من الوقوف عن الخفقان...!

وإذا ما كان في تاريخ الإنسانية نظام يستحق أن يعم العالم أجمع لما يغدق على شعوبه من الخير والعدالة والإنسانية والأمان؛ فمما لا شك فيه، إنه النظام السماوي الذي طرحه الإسلام. لقد ضمن فعلاً، في عصوره الزاهرة تحويل شعوب الإمبراطورية الإسلامية التي امتدت في القسم الأكبر من الكرة الأرضية، شمالاً وجنوباً، شرقاً وغرباً، إلى طبقة واحدة؛ ولكنها واحدة بسعادتها ورفاهيتها، ونبوغها، وإنسانيتها وتكافلها مع بعضها، لا إلى طبقة واحدة بشقائها، وفقرها، وتشردها وخوفها على حاضرها ومستقبلها ومستقبل أجيالها، كالنظام الرأسمالي العالمي الجديد... الذي هيمن على العالم وحده في الوقت الحاضر.

والتحديد للحرية في المجتمع الإسلامي لم يكن فقط لصالح المجتمع على حساب الفرد، ولا لصالح الفرد على حساب المجتمع، ولم يكن زجرياً بأكثريته بل كان يتكون في ظل التربية الخالصة التي ينشئ الإسلام عليها الفرد في المجتمع، ويصوغ شخصيته ضمنها. إن لتلك الإطارات قوتها المعنوية الهائلة التي توجه الأفراد توجيهاً صالحاً دون أن يشعروا بسلب شيء من حريتهم. ولذا، فإن هذا التحديد الذاتي لم يكن -في الحقيقة- تحديداً للحرية، وإنما هو عملية إنشاء للمحتوى الداخلي للإنسان الحر، إنشاءً صالحاً بحيث تؤدي الحرية في ظله رسالتها الصحيحة.

فبينما يقول القرن الثامن عشر: "لا يجهلن سوى الأبله، إن الطبقات الدنيا يجب أن تظل فقيرة، وإلا فإنها لن تكون مجتهدة" (آرثر يونج)؛

ويقول القرن التاسع عشر: "ليس للذي يولد في عالم تم امتلاكه حق في الغذاء إذا تعثر عليه الظفر بوسائل عيشه عن طريق عمله أو أهله، فهو طفيلي على المجتمع، ولا لزوم لوجوده، فليس له على خوان الطبيعة مكان، والطبيعة تأمره بالذهاب"(مالتوك)

يقول الإسلام قبل هؤلاء بألف سنة: "إن الفقر والحرمان ليسا نابعين من الطبيعة نفسها، وإنما نتيجة لسوء التوزيع والإنحراف عن العلاقات الصالحة التي يجب أن تربط الأغنياء بالفقراء"؛ ويقول علي كرم الله وجهه:

" ما جاع فقير إلا بما متع به غني"

إن هذا الوعي لقضايا العدالة الاجتماعية في التوزيع، لا يمكن أن يكون وليد المحراث والصناعة البدائية اليدوية، رداً على مفهوم المادية التاريخية، ولا وليد الحرية المطلقة في استغلال الإنسان لأخيه الإنسان المشروطة في النظام الرأسمالي، إنه يكمن في الإنسان ذاته، الإنسان الذي رباه الإسلام فأحسن تربيته، والذي تعتبره كافة الأديان السماوية خليفة لله في الأرض...!

فما هو الإسلام؟

وما هي حقوق الإنسان في الإسلام؟.

- ××× -

القسم الثاني :

الاقتصاد في الإسلام

كعلم أو مذهب

مقدمة: الثورة في المفهوم الإسلامي

يعتقد المفكرون الغربيون، ومن يجري في إثرهم من المستغربين أن الإسلام هو عبارة عن دين وليس باقتصاد، عقيدة وليس بنهج للحياة، علاقة بين العبد وربه، وليس أساساً لثورة اجتماعية اقتصادية صالحة لكل زمان ومكان.

لقد غاب عن خلدهم أن الإسلام هو ثورة حقيقية لا تنفصل فيها الحياة عن الإيمان، وأن المفهوم الاجتماعي فيه يشكل جزءاً لا يتجزأ من المضمون الروحي (لأن الله غني عن العالمين)، وأن هذه الثورة هي وحيدة من نوعها في التاريخ الإنساني.

والوحدانية هي جوهر الإيمان في الإسلام. فهو يحرر الإنسان من كل شكل من أشكال العبودية ما عدا الله (لا إله إلا الله)، وذلك يعني أنه يرفض كل شكل من أشكال "المعبود"، خلال تعاقب الأزمان. وهذا يقود بالذات إلى تحرير كافة ثروات الطبيعة من كل نوع من أنواع الملكيات ما عدا الله، وهنا يربط الإمام علي كرم الله وجهه بين هذين المفهومين في قوله:

"إن العبيد هم عبيد الله، وإن الثروات هي ثروات الله".

وبذلك، فقد هدم الإسلام كل القيود الشكلية، وكل السدود التاريخية التي كانت تمنع الإنسان من السعي الدائم والحثيث من الاتصال بربه والسعي في الأرض لكسب رزقه، سواءً ما كان منها مصطنعاً تحت تأثير الخوف من قوى أسطورية، أو ما كان منها بشرياً، كظالم أو متجبر أو جماعة صغيرة مسيطرة ومستغلة تراكم الأموال على حساب الشعوب وتحول بينها وبين تأمين مستلزماتها الحياتية، وتفرض عليها علاقات تتصف بالعبودية.

من هنا، فقد ناضل النبي في الإسلام، كما ناضل كافة الأنبياء في بقية الأديان، نضالاً ثورياً ضد كل شكل من أشكال الظلم والاستغلال والعبودية. وكما ثاروا لتحرير الإنسان من الداخل لكل شكل من أشكال العبودية لغير الله، فقد جاهدوا لتحرير الأرض وثرواتها من الخارج. وقد لقب التحرير الأول: "الجهاد الأكبر"، والتحرير الثاني: "الكفاح الأصغر، بمعنى أن الأخير لا يتسنى له أن ينجح ويحقق هدفه إلا في إطار الأول. ويستنتج من ذلك:

1- أن الثورة لا تسمح بأن يحل مستغل محل مستغل آخر، ولا أي شكل من الظلم محل شكل آخر، ذلك أنه في الوقت نفسه الذي حرر فيه الإنسان من الاستغلال الخارجي، فقد حرره من داخله من ينابيع الاستغلال للغير الكامنة فيه، وذلك بتغيير مفهوم العالم والحياة بالنسبة إليه.

ولذلك، فالثورة في المفهوم الإسلامي تختلف اختلافاً جذرياً عنها في المفهوم الغربي والشرقي على السواء. فليست في إحلال الرأسمالية محل الإقطاعية، ولا في إحلال الطبقة العاملة محل الطبقة الرأسمالية، أي ليس المقصود منها تغيير أسماء المستغل، وإنما محوه من جذوره وتحرير الإنسان من كل شكل منافٍ للعدالة الإنسانية من الخارج ومن داخل نفسه بالذات (لأن النفس أمارة بالسوء...)

2- إن كفاح الأنبياء ضد الظلم والاستغلال، لم يأخذ شكل كفاح الطبقات، كما هو الحال في كثير من الثورات الاجتماعية في التاريخ، حيث أنها ثورة إنسانية هدفها تحرير كل إنسان، من أية طبقة كان، وتحريره من شيطانه في الداخل أولاً. فليس كل إقطاعي ظالماً، وليس كل غني مستغلاً ولا كل عامل ملاكاً، ولا كل فلاح نبيلاً..! ولذا، فقد سمى النبي الكريم هذا الكفاح "الكفاح الأكبر".

وبفضل هذا الكفاح استطاع الإسلام أن يحقق مطالب الكفاح الأصغر، بحيث أيقظ في كافة النفوس مكامنها الخيرة والحسنة، وفجر فيها الطاقات الإبداعية، وقضى على جذور السيئات في أعماقها.

إن الثوري الذي يتابع خط الأنبياء، في "الكفاح الأكبر"، ليس بذلك الإنسان المستغل الذي يحسب أنه يستمد قيمته من امتلاك وسائل الإنتاج، ووسائل السيطرة والنفوذ في الأرض، فيلجأ إلى اقتناصها من أيدي المالكين الأصليين واقتنائها في حوزته، حاسباً بأن انتماءه إلى طبقة المستغلين هو الذي يحدد مكانه في النضال الاجتماعي. إن الثوري الذي يسير في خط الأنبياء، هو ذلك الإنسان الذي يستمد قيمته من جهوده التي يبذلها بالتقرب من الله عن طريق نفعه لعباده "أحبهم إلى الله أنفعهم لعباده"، واتصافه بكافة القيم الإنسانية، والذي يضارع بضراوة كل أشكال الاستغلال التي يعتبرها اختلاساً للقيم الإنسانية، والانحراف بها عن مسيرها الحقيقي وتحقيق أهدافها الكبرى، نحو إلهائها بالتفتيش عن الغنى والإثراء الفاحش بشتى الوسائل.

إن ما يحدد هذا الوصف الثوري الذي يتبع خط الأنبياء هو درجة نجاحه في الكفاح الأكبر، وليس وضعه الاجتماعي، ولا الطبقة الاجتماعية التي ينتمي إليها.

وسنتناول عناصر البحث في الاقتصاد الإسلامي، على منوال البحث في النظامين الماركسي والرأسمالي، بمحاولة الفصل إلى علم ومذهب، علماً بأن الإسلام لا يدعي لاقتصاده بصفة العلم. وقد سبق أن نفينا أيضاً صفة العلم عن كل من النظامين الاقتصاديين السابقين.

آ- الاقتصاد الإسلامي كعلم

إن المذهب الإسلامي لا يزعم لنفسه الطابع العلمي، كالمذهب الماركسي، كما أنه ليس مجرداً عن أي أساس عقائدي معين أو أية نظرة إلى الحياة والكون سوى النفع المادي، كالمذهب الرأسمالي. وقد أثبتنا فيما سبق أنهما لا يملكان بالفعل صفة العلم.

وبمعنى آخر، فالاقتصاد الإسلامي ليس علماً مصطنعاً لقوانين يعتبرها طبيعية، وهي -في الواقع- غير طبيعية (الماركسية)، ولا كعلم الاقتصاد السياسي الذي يراقب ويحسب ليقدم التفاسير والتعليلات التي لا طائل تحتها (فالتعديلات التي تطرأ عليه كل عام تتجاوز الأسس الثابتة، وتذخر بالتناقضات).

فالاقتصاد الإسلامي -كما ذكرنا- هو ثورة لقلب الواقع الفاسد وتحويله إلى سليم. إنه ثورة من داخل النفس على النفس الأمارة بالسوء لكي تصبح كريمة سخية عادلة جديرة بصفة الإنسان. إنه تغيير الواقع، لا وصف وتفسير له. كما أنه ليس علماً افتراضياً مرسوماً في أروقة المكاتب، والذي جاءت نتائجه خاطئة وبعيدة جداً عن الواقع.

وما لنا وكلمة العلم في هذا المجال. فلم يسبق في تاريخ الحضارات التليدة التي تعاقبت على الكون، في عظمتها وجلالها وسموها وعبقريتها، أن ادعت حضارة أن اقتصادياتها كانت تقوم على العلم، أو أنها ابتدعت نظريات علمية اقتصادية، خاصة وقد ثبت لنا أن الاقتصاد العلمي، بشقيه الشرقي والغربي، لاقى فشلاً ذريعاً في نظرياته خلال مدة لم تتجاوز النصف قرن، بينما استمر الإسلام ينشر رايته الخيرة، ويسبغ السعادة والرفاهية على الشعوب كافة مدة قرون عديدة. فما هي الأسس التي بني عليها المذهب الاقتصادي في الإسلام.

ب- الاقتصاد الإسلامي كمذهب

الهيكل العام للاقتصاد الإسلامي:

يتميز الهيكل العام للاقتصاد الإسلامي بأركان رئيسية ثلاثة تختلف عن سائر المذاهب الاقتصادية الأخرى وهي:

1- مبدأ الملكية المزدوجة

2- مبدأ الحرية الاقتصادية في نطاق محدود

3- مبدأ العدالة الاجتماعية.

1- مبدأ الملكية المزدوجة

يختلف الإسلام عن الرأسمالية والاشتراكية في نوعية الملكية التي يقررها اختلافاً جوهرياً.

فالرأسمالية تؤمن بالملكية الخاصة كقاعدة عامة، لمختلف أنواع الثروة في البلاد، ولا تعترف بالملكية العامة إلا حين تفرضها الضرورة الاجتماعية القصوى.

والاشتراكية، على العكس من ذلك، تعتبر فيها الملكية الاشتراكية أو ملكية الدولة بمثابة المبدأ العام الذي يطبق على كل أنواع الثروة في البلاد.

أما الإسلام، فيقر الأشكال المختلفة للملكية في وقت واحد. فيضع مبدأ الملكية المزدوجة (الملكية ذات الأشكال المتنوعة) بدلاً من مبدأ الشكل الواحد للملكية الذي أخذت به الرأسمالية والاشتراكية. فهو يؤمن بالملكية الخاصة، والملكية العامة، وملكية الدولة. ويخصص لكل شكل من هذه الأشكال حقلاً خاصاً تعمل فيه. دون أن يعتبر شيئاً منها شذوذاً واستثناءً، أو علاجاً مؤقتاً اقتضته الظروف.

ولهذا، كان من الخطأ أن يسمى المجتمع الإسلامي مجتمعاً رأسمالياً، وإن سمح بالملكية الخاصة، لأن الملكية الخاصة بالنسبة إليه ليست هي القاعدة العامة. كما أن من الخطأ أن نطلق على المجتمع الإسلامي اسم المجتمع الاشتراكي، وإن أخذ بمبدأ الملكية العامة، لأن الشكل الاشتراكي للملكية ليس هو القاعدة العامة في رأيه.

وكذلك من الخطأ أن يعتبر مزجاً مركباً من هذا وذاك، لأن تنوع الأشكال الرئيسية للملكية في المجتمع الإسلامي، لا يعني أن الإسلام مزج بين المذهبين وأخذ من كل منهما جانباً، وإنما يعبر ذلك التنوع في أشكال الملكية عن تصميم مذهبي أصيل، قائم على أسس وقواعد معينة، وموضوع ضمن إطار خاص من القيم والمفاهيم تناقض الأسس والقواعد التي قامت عليها الرأسمالية الحرة والاشتراكية الرأسمالية.

فتحديد نوع الملكية يمكن أن يستوحى من الطبيعة ذاتها للثروات الطبيعية:

فالملكية العامة، كمنابع، المياه، والأحراش، والمراعي ومصادر الطاقة، والثروات المعدنية عموماً هي، كالشمس والهواء ملك لكل ما خلق الله على وجه الأرض.

فهي ملكية مشتركة منع الإسلام الفرد من الاختصاص بها، وفرض ألا يتملك منها إلا بقدر حاجته.

وحتى المعامل التي تقوم باستثمار هذه الثروات يجب أن تكون مشتركة لأن الإنتاج من حق المجموعة. فإذا ملك فرد مصنعاً لاستخراج هذه الثروات، فهذا يعني أنه سيستخرج منها أكثر من حقه فيها، أي ما هو حق لمجموع أفراد المجتمع.

ولذا، فعلى الجماعة الممثلة بالدولة أن تتولى تنظيم استخراج هذه المواد وتوزيعها على المجموع لأن الفرد سيلجأ إلى بيعها للناس وهذا لا يجوز لأنها من حقهم على الدولة.

نظرة الإسلام العامة إلى الأرض

تقسم الأرض إلى قسمين:

- الأرض العامرة طبيعياً: وهي التي وفرت لها الطبيعة شروط الحياة والإنتاج من ماء ودفء ومرونة في التربة وما إلى ذلك.

- الأرض الميتة: وهي التي بحاجة إلى جهد إنساني يوفر لها تلك الشروط.

فالأرض العامرة هي ملك للدولة، وكذلك بالنسبة للأرض الميتة، أي ذات طابع عام للملكية. إلا أن إحياء الأرض الميتة، أي إنفاق الفرد جهداً خاصاً على أرض ميتة، يمنح هذا الفرد الحق بالانتفاع بالأرض، ما دام عمله مستمراً في الأرض، فإذا استهلك عمله، أو توقف عن استثمارها سقط حقه فيها. أي أن العمل في الأرض ليس سبباً لتملك الفرد رقبة الأرض وإنما سبباً لحقه في الانتفاع فيها فقط. ويسمح الإسلام من الناحية النظرية للإمام بفرض الضريبة عليه لتساهم الإنسانية كلها في الاستفادة من الأرض، التي هي -في الأصل- ليست ملكاً أو حقاً لأي فرد، إنها هبة من الله تعالى للإنسانية جمعاء وكافة الكائنات الحية على وجه الأرض.

المواد الأولية:

تأتي المواد الأولية بعد الأرض مباشرة في الأهمية. فكل ما يتمتع به الإنسان من سلع وطيبات مادية مردها إلى الأرض. وما تذخر به من مواد وثروات معدنية.

ويقسم الفقهاء المعادن إلى قسمين: المعادن الظاهرة، والمعادن الباطنة.

فالمعادن الظاهرة: هي التي لا تحتاج إلى مزيد من العمل لإجلاء جوهرها، كالملح والنفط مثلاً. أي المعدن الذي تكون طبيعته المعدنية بارزة، سواءً احتاج الإنسان إلى حفر وجهد للوصول إلى آباره في أعماق الطبيعة، أو وجده بيسر وسهولة على سطح الأرض (أي كله من عطاء الله، عدا استخراجه)

وأما المعادن الباطنة: فهي كل معدن احتاج في إبراز خصائص المعدنية إلى عمل وتطوير، كالحديد والذهب (أي يحتاج إلى جهد زائد من البشر)

والرأي الفقهي السائد أن المعادن الظاهرة تعتبر من المشتركات العامة بين كل الناس، فلا يعترف الإسلام لأحد بالاختصاص بها، ولأنها مندرجة ضمن الملكيات العامة. ويسمح للأفراد بالحصول منها على قدر حاجتهم، دون أن يستأثروا بها أو يتملكوا ينابيعها.

وعلى هذا، يصبح للدولة وحدها الحق في أن تستثمرها، بقدر ما تتطلبه الشروط المادية للإنتاج والاستخراج من إمكانيات، وتضع ثمارها في خدمة الناس.

أما المشاريع الخاصة التي يحتكر فيها الأفراد استثمار المعدن، فتمنعها منعاً باتاً. ولو مارست تلك المشاريع العمل والحفر للوصول إلى المعدن واكتشافه في أعماق الأرض، فليس له الحق في تملك المعدن وإخراجه عن نطاق الملكية العامة.

وأما المعادن الباطنة: إنها في الرأي الفقهي السائد من المشتركات العامة، فهي تخضع لمبدأ الملكية العامة، ولا يسمح للفرد بتملك عروقها وينابيعها في الأرض إلا بالقدر الذي تمتد إليه أبعاد الحفرة عامودياً وشاقولياً، حسب الرأي السائد فقهياً. وإن كان هناك اختلافات كثيرة بين الفقهاء في هذا الصدد*

ويواجه الفرد، منذ البدء في العمل، تهديداً بانتزاع المعدن منه إذا حجز المعدن وقطع المعدن، وجمد الثروة المعدنية. ويكون بذلك حكمه حكم الأرض إذا توقف عن إحيائها.

وهذا النوع من الملكية، يختلف بكل وضوح عن ملكية المرافق الطبيعية في المذهب الرأسمالي، لأن هذا النوع من الملكية لا يتجاوز كثيراً عن كونه أسلوباً من أساليب تقسيم العمل بين الناس، ولا يمكن أن يؤدي إلى إنشاء مشاريع فردية احتكارية، كالمشاريع التي تسود المجتمع الرأسمالي، ولا يمكن أن يكون أداة للسيطرة على مرافق الطبيعة، واحتكار المناجم، وما تضم من ثروات، لأنها ملك الناس قاطبة. وهكذا، فإن الإسلام قد سمح بالملكية الخاصة إلا أنه أحاطها بحدود عديدة.

2-مبدأ الحرية الاقتصادية في نطاق محدود

ويتجلى هذا المبدأ في الاقتصاد الإسلامي بالسماح للأفراد بحرية محدودة بحدود القيم المعنوية والخلقية والطبيعية التي يؤمن فيها الإسلام، والتي تؤمن استفادة جميع خلق الله من الثروات الطبيعية التي أنعم الله بها عليهم.

وهنا نجد الاختلاف البارز بين الاقتصاد الإسلامي والاقتصادين الرأسمالي والاشتراكي. فبينما يمارس الأفراد حريات غير محدودة في ظل الاقتصاد الرأسمالي (لا أخلاق في الاقتصاد والمال) (الغاية تبرر الواسطة)، وبينما يصادر الاقتصاد الاشتراكي حريات الجميع (عدا رجال الحزب)، يسمح الإسلام للأفراد بممارسة حرياتهم ضمن نطاق القيم والمثل العليا التي تهذب الحرية وتصقلها، وتجعل منها أداة خير للإنسانية جمعاء.

والتحديد الإسلامي للحرية في الحقل الاقتصادي على قسمين:

الأول: التحديد الذاتي، الذي ينبع من أعماق النفس، ويستمد قوته ورصيده من المحتوى الروحي والفكري للشخصية الإسلامية.

والثاني: التحديد الموضوعي، والذي يأتي من قوة خارجية تحدد السلوك الاجتماعي والاقتصادي وتضبطه.

فالتحديد الذاتي، يتكون طبيعياً في ظل التربية الخاصة التي ينشئ الإسلام عليها الفرد في المجتمع الذي يتحكم الإسلام في كافة مرافق حياته.

وقد كان لهذا التحديد الذاتي نتائجه الرائعة في تكوين طبيعة المجتمع الإسلامي مما برهن على كفاءة الإنسان لخلافة الأرض عن الله سبحانه وتعالى، وصنع عالماً جديداً زاخراً بمشاعر العدل والرحمة، واجتث من النفس البشرية عناصر الشر. ودوافع الظلم والفساد.

ويكفي من نتائج التحديد الذاتي، أنه ظل وحده هو الضامن لأعمال البر والخير في المجتمع الإسلامي، بالرغم من ابتعاد المسلمين عن روح تلك التجربة مدة قرون عديدة. فما زال ملايين المسلمين يقدمون بملء حريتهم على دفع الزكاة والضمان الاجتماعي وغيرها من حقوق الله سراً وجهراً حتى الآن. وقد ثبت أنها أشد مضاءً من التحديد الخارجي.

أما التحديد الخارجي، فهو التحديد الذي يفرض على المجتمع الإسلامي من الخارج، بقوة الشرع. ويقوم على المبدأ القائل: "لا حرية للشخص فيما نصت عليه الشريعة المقدسة من ألوان النشاط التي تتعارض مع المثل والغايات التي يؤمن الإسلام بضرورتها".

ويتم تنفيذ هذا المبدأ عن طريق النصوص التي تنص الشريعة على منع بعض النشاطات الاجتماعية والاقتصادية، وإشراف ولي الأمر على تنفيذها بصفته سلطة مراقبة وموجهة مستمدة من القرآن: ] وأطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم[.(سورة النساء- الآية 59)

ولذا، فالحرية في الإسلام، ليست حيوانية مستهترة متعالية مستكبرة، إنها محدودة في إطار اجتماعي إنساني يضمن مستوى مناسباً من المعيشة لجميع أفراد المجتمع، بحيث لا تكون هذه الحرية على حساب فقدان الآخرين عملياً وواقعياً قدرتهم على التحرك ليسعوا في الأرض ويأكلوا من رزق الله، كما تفعل الشركات العالمية في الوقت الحاضر في ظل نظام العولمة.

وبهذا، فقد حدد الإسلام الملكية الخاصة في حيازة الثروة، ولم يطلقها كما في النظام الرأسمالي دون قيود قانونية أو أخلاقية مما يؤدي إلى اضطراب في توزيع الثروة العامة وخلق الفروق الطبقية.

إلا أنه لم يصادرها كليةً كالنظام الاشتراكي، فمصادرة الملكية الخاصة مخالف لفطرة الإنسان، ذلك أن حيازة الأشياء من مظاهر غريزة البقاء، وهي متأصلة في الإنسان، ولا يمكن تجاهلها. فمن طبيعة الإنسان السعي لجمع الثروة له ولأولاده، فإذا انتفى هذا الهدف فقد الحافز على العمل، وفقد الإنسان القدرة على الإبداع وإعمار الأرض والسعي فيها كما أمره الله. كما أنه لم يطلق يد المالك في ملكيته ولا في الطريقة التي يحصل عليها.

بعض المبيحات والمحرمات في الإسلام:

إن الدين الإسلامي- في الحقيقة- هو دين يسر، وليس بدين عسر، أي أنه لم يشدد على البشر في الواجبات والمحرمات، بل ينطلق في شرائعه من مصلحة الفرد والمجتمع معاً. وحتى في العبادات نفسها، وطرق تأديتها تتجلى مصلحة الفرد والمجتمع بأجلى مظاهرها]فالله غني عن العالمين[.وما يهمنا في هذا البحث منها ما له صلة بالنواحي الاقتصادية والمعيشية، أي ما له علاقة بحقوق الإنسان في الحياة: وقبل كل شيء، فقد كرم الإسلام الإنسان ذاته كإنسان في جميع مراحل حياته: كرمه كبويضه منع إتلافها، وجنيناً منع إجهاضه، بل وحض على إكثاره وتبجيله:]المال والبنون زينة الحياة الدنيا[* ، وكرمه أماً: ]الجنة تحت أقدام الأمهات[، وكرمه امرأة وزوجة، وكرمه شيخاً عجوزاً وعاجزاً فقيراً.. الخ وذلك، بشكل لم يسبق شريعة من الشرائع الدينية أو الدنيوية أن وصلت إليه، حتى توّجه أخيراً بجعله "خليفة الله في الأرض"..

ولذا فقد حض الإسلام، أول ما حض، على تنمية الإنتاج وربطها بالتوزيع. وقد تكون تنمية الإنتاج النقطة الوحيدة التي تتفق عليها المذاهب الإسلامية والرأسمالية والماركسية جميعاً على الصعيد المذهبي للاستفادة من الطبيعة إلى أقصى حد ضمن الإطار العام للمذهب.

فكل هذه المذاهب تجمع على أهمية هذا الهدف وضرورة تحقيقه بجميع الأساليب والطرق التي تنسجم مع الإطار العام للمذهب. كما أنها ترفض مالا يتفق مع إطارها المذهبي. فالرأسمالية ترفض مثلاً من الأساليب في تنمية الإنتاج وزيادة الثروة ما يتعارض مع مبدأ الحرية الاقتصادية، والإسلام يرفض من تلك الأساليب مالا يتفق مع نظرياته في التوزيع وتحقيق العدالة الاجتماعية، وأما الماركسية فهي تؤمن بأن المذهب لا يتعارض مع تنمية الإنتاج، بل يسير معها في خط واحد تبعاً لنظرتها عن الترابط الحتمي بين علاقات الإنتاج وشكل التوزيع، أي أن لكل شكل من الإنتاج نوع خاص من التوزيع، ولا بد لتكييف التوزيع طبقاً لحاجات الإنتاج، عكس الإسلام الذي يحدد الإنتاج لحساب التوزيع.

فالإسلام يريد من الإنسان المسلم أن ينمي الثروة ليسيطر عليها وينتفع منها في تحسين وجوده ككل، لا لتسيطر عليه، وتستلم منه زمام القيادة، وتمحو من أمامه الأهداف الكبرى. فالثروة وأساليب التنمية تهدف ضمن الشرائع الإلهية إلى تأكيد صلة الإنسان بربه المنعم عليه، وتهيء له عبادته في يسر ورخاء، وتفسح المجال أمام مواهبه وطاقاته للنمو والتكامل، وتساعده على تحقيق مثله في العدالة والأخوة والكرامة.

والإسلام، على العكس من الرأسمالية التي تنظر إلى عملية تنمية الثروة بصورة منفصلة عن توزيعها، فهو يربط تنمية الثروة كهدف بالتوزيع ومدى ما يحققه نمو الثروة لأفراد الأمة من يسر ورخاء. فليست تنمية الإنتاج للإنتاج ذاته كهدف وإنما كطريق للتوزيع وسعادة البشرية. فإن لم تساهم عمليات التنمية في إشاعة اليسر والرخاء بين الأفراد، وتوفر لهم الشروط التي تمكنهم من الانطلاق في مواهبهم الخيرة وتحقيق رسالتهم، فلن تؤدي تنمية الثروة دورها الصالح في حياة الإنسان. وفي هذه الحالة فالله ينتزعها منهم: ]إن يشأ يذهبكم ويستخلف من بعدكم من يشاء[ فالتنمية في الإسلام إذاً ليست كما في النظام الرأسمالي، بزيادة دخل المنتج بنسبة كذا، ولو كان ذلك على حساب تسريح العمال، وزيادة معدل البطالة، وسرقة حقوق العاملين، ولا لاستثمار رؤوس الأموال الأجنبية وتنميتها ولا لمضاربيها ومرابيها على كافة المستويات..

2-ولذا، فقد حرم الإسلام الربا، بوصفه أولى العقبات في التنمية الاقتصادية، ووسيله سهلة لسرقة أموال الناس دون عمل. فالربوي الرأسمالي يقوم بامتصاص أموال المقترضين دون أن يؤدي أي عمل إنتاجي.

والبديل في الإسلام هو توظيف هذا المال في مشروعات إنتاجية تؤمن خلق فرص عمل جديدة وزيادة في الإنتاج يتقاسم ريعه العاملون، وأصحاب الأموال، وغير العاملين من المحتاجين، وهو أكثر ضماناً، إذ قد يتعرض المرابي إلى خسارة الفائدة ورأس المال معاً، كما يجري حالياً نتيجة للمضاربات والإفلاسات لكبار المصارف وبيوت المال في العالم الصناعي وما يدور في فلكه.

وتعتبر الفائدة في العرف الرأسمالي بمثابة أجر رأس المال النقدي الذي يسلفه الرأسماليون للمشاريع التجارية وغيرها. وتحدد بنسبة مئوية من المال المسلف. ولا تختلف كثيراً عن الأجر الذي يحصل عليه أصحاب العقارات، وأدوات الإنتاج، نتيجة لإيجار تلك العقارات والأدوات.

أما الإسلام، فقد سمح للكسب الناتج عن إيجار العقارات وأدوات الإنتاج وحرم أجر رأس المال، وما ذلك إلا للأسباب التالية:

-فالقاعدة التي تجتمع عليها كافة التشريعات هي: أن الكسب لا يقوم إلا على أساس عمل، وبدون المساهمة من شخص بإنفاق عمل لا مبرر لكسبه. فالكسب الناتج عن ملكية أدوات الإنتاج مسموح به نظراً لما تخزنه الآلة من عمل سابق سوف يكون للمستأجر الحق في استهلاك قسط منه خلال استخدام الآلة في عملية الإنتاج التي يباشرها. أما الكسب الناتج عن ملكية رأس المال النقدي (الفائدة) فليس له ما يبرره نظرياً، لأن المستقرض سوف يرد المبلغ للدائن بكامله دون أن يستهلك منه شيئاً.

وكذلك الحال بالنسبة لاستئجار العقار، فالمستأجر يستأجر عملاً سابقا سوف يستهلك المستأجر قسماً منه حين الانتفاع به.

وتبرر الرأسمالية الفائدة بصفتها تعبيراً عن الفارق بين قيمة السلع الحاضرة وقيمة سلع المستقبل، اعتقاداً منها بأن للزمن دوراً في تكوين القيمة. فالقيمة التبادلية لدينار اليوم أكبر من القيمة التبادلية لدنيار المستقبل.

إلا أنه إن كان صحيحاً أن العملات الضعيفة في البلدان الفقيرة المستدينة تنخفض قيمتها باستمرار، كما تنخفض معها- في الوقت نفسه- قيمة موادها الأولية، فإن العملات في البلدان الغنية الدائنة، هي في ارتفاع مستمر كما ترتفع معها قيمة بضائعها باستمرار. ولنتصور حجم الخسائر الباهظة والمضاعفة التي تتكبدها البلدان الضعيفة المدينة:

-التسديد لخدمة الدين* بعملات مرتفعة باستمرار، من عملات وبضائع محلية منخفضة باستمرار.

-زيادة الفوائد المتصاعدة باستمرار لتبلغ أضعاف حجم الدين ذاته

-خسارة المشاريع التي تمولها، أو شللها من قبل الدائنين بالذات لكونها تنافس بضائعهم بالذات، أو توقفها عن العمل لعدم وجود أسواق لمنتجاتها في الخارج، وعدم قدرة الأسواق الداخلية على امتصاصها لضعف الدخول.

وكذلك، فمن وجهة نظر الإسلام، ليس للرأسمالي الحق بالفائدة على القرض، حتى إذا صح أن سلع الحاضر أكبر قيمة من سلع المستقبل، لأن توزيع الثروة في الإسلام يتطلب إنفاق عمل مباشر أو مختزن، ويرتبط بمفاهيم الإسلام المذهبية وتصوراته عن العدالة.

وتعتبر الرأسمالية المخاطرة بالمال مبرراً لحق الرأسمالي بالفائدة، فهي بذلك تحرمه من الانتفاع بالمال المسلف- حسب رأيها- كما أنها بمثابة مكافأة له على انتظاره طيلة المدة المتفق عليها، أو أجرٍ يتقاضاه الرأسمالي نظير انتفاع المدين بالمال الذي اقترضه منه، كالأجر الذي يحصل عليه مالك الدار من المستأجر لقاء انتفاعه بسكناها.

والإسلام يعارض ذلك، لأنه لا يعترف بالكسب تحت اسم الأجر أو المكافأة إلا على أساس إنفاق عمل مباشر أو مختزن -كما ذكرنا- وليس للرأسمالي عمل مباشر أو مختزن ينفقه ويمتصه المقترض ليدفع إليه أجره، ما دام المال المقترض سوف يعود إلى الرأسمالي دون أن يستهلك منه شيئاً.

3-وكذلك، فقد حرم الإسلام كنز المال:

الآية: ] والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله فبشرهم بعذاب أليم[.

والهدف الاقتصادي في هذا التحريم يكمن في أن كنز المال يعني انخفاض كمية الثروة المنتجة، ومن ثم تقليص فرص العمل، وحصول البطالة، مما يزيد الفروقات الاجتماعية وحالات البؤس وشظف العيش.

وهذا المنع من اكتناز المال ليس مجرد ظاهرة عرضية في التشريع الإسلامي، إنه يعبر عن أوجه الخلاف الخطير بين المذهب الإسلامي والمذهب الرأسمالي. فبينما تؤيد الرأسمالية استعمال النقد للاكتناز (بالإضافة إلى دوره كمقياس للقيمة وأداة للتداول) وتشجع عليه بتشريع نظام الفائدة، يحاربه الإسلام بفرض ضريبة على المال المكتنز (الزكاة). وجاء في الحديث عن الإمام جعفر الصادق: "إنما الله أعطاكم هذه الفضول من الأموال حيث وجهها الله، ولم يعطكموها لتكنزوها".

ومن مضار كنز المال الاقتصادية أيضا، أن تجميع الثروات الكبيرة في أيدي الأفراد دون استثمارها، يؤدي إلى زيادة البؤس والحاجة لدى الأغلبية العظمى من الشعب. وهذا يؤدي بدوره، إلى عجز هذه الطبقة عن استهلاك ما يشبع حاجتها من السلع، فتتكدس المنتجات دون تصريف، ويسيطر الكساد * على الصناعة والتجارة، فتعم الإفلاسات مختلف النشاطات الاقتصادية ويتوقف الإنتاج، وتستفحل المجاعات، كما في المعادلة التالية:

انخفاض الاستهلاك = كساد= توقف عن الإنتاج= زيادة بطالة= مجاعة

4-وحرم الإسلام المخاطرة:

كالقمار، لأن الكسب فيه لا يقوم على عمل، وإنما يرتكز على أساس المخاطرة، مما يعرض الفرد وعائلته إلى الإفلاس والضياع، ويعود على المجتمع بالانحلال. والإنفاق فيما حرم الله، كالخمر ولحم والخنزير. وقد تبين ضررهما الشديد في الوقت الحاضر نظراً للأمراض الخطيرة التي نتجت عنهما. وتشن السلطات في البلدان الغربية حرباً إعلامية واسعة النطاق للحد من تعاطي الخمر لصلته الوثيقة بأمراض الشرايين، وتشمع الكبد، بالإضافة إلى ضحايا الطرق، التي تشكل القسم الأكبر من الوفيات كل عام.

5-ونهى -في الوقت نفسه- عن الإسراف والتقتير.

الآية: ] ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك ولا تبسطها كل البسط فتقعد ملوماً محسورا ً[

وجعل المبذر بمثابة السفيه الذي يجب أن يحجر عليه.

والغاية من ذلك، إن في تبديد الثروة وتقتيرها، منع باقي عباد الله من الاستفادة منها.

ومنع إنتاج المواد ذات التكاليف الباهظة المبددة للثروة والمشكلة عبئاً على الاقتصاد العام، وكذلك المصاريف غير المنتجة التي تصرف على المظاهر والاحتفالات لأن المحرومين من وسائل عيشهم أحق فيها. ويكفي أن نعلم حجم مليارات الدولارات التي تنفق حالياً على ألعاب الكرة وحدها في العالم كل عام، في الوقت الذي تموت فيه الملايين من الجوع، لنعلم فقط زاوية واحدة من زوايا التكاليف الباهظة المبددة للثروة التي تمتص موارد البشرية جمعاء*.

6-وحذر من الوقوع في أخطار التبعية الاقتصادية للغير.

وهي في الواقع من أولى خصائص التخلف الاقتصادي في العالم الثالث:

"لا خير في أمة لا تأكل مما تنتج، ولا تلبس مما تصنع".

ومن المعلوم أن التبعية الاقتصادية في هذه البلدان تصل إلى ما يزيد على 90% في غذائهم وكسائهم وإنتاجهم وأدوات إنتاجهم.. الخ، بينما لا يتجاوز في البلدان الصناعية 20% ويبدو خطرها أشد ما يبدو من الناحية الغذائية:

فسلاح الغذاء، أشد مضاءً من كافة الأسلحة، وأنه كان وراء انهيار الاتحاد السوفياتي -كما رأينا- إذ لم تتردد أمريكا في استعماله في الماضي والحاضر، ومن أخطاره أيضاً أن يمنع من وصول المواد الغذائية عوائق طبيعية من زلازل وأعاصير، أو فيضانات، أو جفاف.. الخ تقضي على المزروعات في البلد المصدر نفسه أو حتى الحروب، (وما أكثرها!).

كما أن الاعتماد على الغير في تغذية الشعوب يخشى معه تعريضها إلى أخطار صحية عن قصد أو غير قصد، من جراء استيراد مواد فاسدة، أو سامة، أو مشبعة بالهرمونات.. الخ، كما يحصل من وقت لآخر، مثال: لحوم البقر البريطانية المجنونة، والدجاج البلجيكيه، والألبان ومشتقاتها، والزيوت الإسبانية، مما تطالعنا به الأخبار كل يوم..

7-وفضل الإسلام الإنفاق الإنتاجي على الاستهلاكي:

حرصاً منه على تنمية الإنتاج وزيادة الثروة. فنهى عن بيع العقار وتبديد ثمنه في الاستهلاك، وحض، حتى في الصدقات على تقديم ما يساعد الفقير على الإنتاج ليأكل من ثماره، على العكس من النظام الرأسمالي- كما رأينا- والذي رفع شعار المجتمع الاستهلاكي ليشجع الإنتاج، فقضى عن الإنتاج والمستهلكين بالذات..

8-ولذا، فقد حذر الإسلام من العبث في الأرض وإفساد الطبيعة:

الآية: ]ظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس ليذيقهم بعض الذي عملوا لعلهم يرجعون[ (الروم-41).

والفساد في البر والبحر هو ما نعيشه الآن من التلوث في الطبيعة والانهيارات وعدم التوازن الذي طال المرافق الطبيعية بكافة أشكالها نتيجة التعرض للقوانين الطبيعية بغية التحكم فيها وتعديلها وتعليمها دروسها. فهي إذاً نتيجة لغطرسة الإنسان وجبروته واعتقاده مشاركة الإله في ألوهيته ومن المعلوم أن التلوث هو ابن هذه الحضارة الحديثة واكتشاف الطاقة، والإنتاج على مستوى عالمي لغزو العالم في كافة أصقاعه* وهو من آيات الله ليريهم نتيجة ما عملوا لعلهم يمتنعون عن ذلك.

9-وحض على ضرورة التوازن في الطبيعة مراعاة لقوانينها:

الآية: ]الأرض مددناها، وألقينا فيها رواسي، وأنبتنا فيها من كل شيء موزون، لكم فيها معايش، ومن لستم له برازقين، وإن من شيءٍ إلا عندنا خزائنه، وما ننزله إلا بقدر معلوم[ (الحجر 19-20).

وكلنا يعلم أن التنافس على الثروة في الاقتصاد الرأسمالي، ونضح الموارد الطبيعية ببرها، وبحرها، وسمائها ومائها، قد أنهك هذه الأرض، وأربك توازنها** فالهزات المتوالية، وتعاقب حالات الفيضانات واليباس، والحر والقر، والانهيارات الأرضية والجبلية والجليدية، والأعاصير والعواصف، تشمل الكرة الأرضية بأجمعها، ولا يكاد يمر يوم واحد دون حصول هذه النكبات.

10-ولذا فقد وضع الإسلام ضوابطَ للتصرف في الحرية، وفي حق الإنسان في التصرف بملكيته الخاصة "فلا ضرر، ولا ضرار.."

ومن الأمثلة على سوء التصرف بالملكية الخاصة وانعكاسه على أضرار الغير والمجتمع بما فيه المالك نفسه، المثال التالي:

"ركب قوم في سفينة، فاقتسموا.. فاختص كل منهم بمكان.. فأخذ أحدهم ينقر مكانه بفأس.. فقالوا له ماذا تفعل؟! قال: هذا مكاني أفعل به ما شئت.. فإن أخذوا على يده (أي منعوه) نجا ونجوا، وإن تركوه هلك وهلكوا..!"

وهكذا، فإن المنع من التصرف المطلق بالملك الخاص، يكون ضمن مصلحة الفرد والمجتمع بآن واحد.

فالإسلام إذاً، يؤمن بالملكية الخاصة ضمن حدود، وهي من حق جميع أفراد الشعب وطبقاته وأديانه دون أي تمييز، إلى جانب الملكية العامة وملكية الدولة. وقد برهن الواقع من التجربتين: الاشتراكية والرأسمالية على خطأ الفكرة المعتمدة على شكل واحد للملكية. وما انهيار النظام الاشتراكي إلا نتيجة الاعتداء على الملكية الخاصة، ونسف طبقة كانت تعمل وتنتج وتغذي الخزانة، واستبدالها بطبقة أخرى، تبين أنها أشد من الأولى استغلالاً وظلماً، دون أن تكون لديها ذات المؤهلات للإنتاج، ولا حتى ذات الدوافع لتنمية الثروة وتغذية الخزينة، اللهم إلا دوافعها الخاصة، وما الانفجارات والأزمات في النظام الرأسمالي إلا نتيجة لإطلاق حرية الملكية من عقالها، دون حدود أو قيود، لدرجة أصبحت موارد الكرة الأرضية برمتها بأيدي فئة ضئيلة من البشر، نادراً ما سجل التاريخ مثيلاً لها في الطمع والجشع والظلم والاستهتار، لا وطن لها، ولا دين، ولا حافز ولا هدف إلا جمع المال بأية طريقة كانت "فالغاية تبرر الواسطة" والاستئثار بحقوق البشرية جمعاء، مما لم يعد يدع أي مجال لتطبيق العدالة الاجتماعية الركيزة الأساسية للإسلام، حتى في بلاد الإسلام بالذات دون تحرير الموارد الطبيعية من أيديها.

3-العدالة الاجتماعية في الإسلام

مقدمة: كل ما تقدم، من شمول الملكية العامة في الإسلام للقسم الأكبر من ثروات الطبيعة، وانحصار الملكية الخاصة ضمن حدود ضيقة تضمن مصلحة المجتمع، يقودنا إلى عمق العدالة الاجتماعية في الإسلام، أي حق جميع أفراد المجتمع، العاملين منهم، والمحرومين من العمل وغير القادرين على العمل، الفقراء والمحتاجين، وكل من يعيش على وجه الأرض بالحياة اللائقة الكريمة، وحقهم في اقتسام موارد الطبيعة وخيراتها التي خلقها الله للناس أجمعين.

ولتأمين ذلك، أوجب الإسلام على الحاكم، الذي يملك -في الواقع- التصرف بالملكية العامة، أن يؤمن العمل ويسهله لجميع القادرين على العمل في حدود صلاحيته، ومن لم تتح له فرصة العمل، أو كان عاجزاً عنه، فعلى الدولة أن تضمن حقه في الاستفادة من ثروات الطبيعة بتوفير مستوى الكفاية له من العيش الكريم من موارد الملكية العامة وملكية الدولة كما فرض الإسلام على العاملين الذين يستفيدون من استغلال ثروات الله أن يؤدوا لهم نصيبهم من هذه الثروات، أي أن يكفلوا الحياة الكريمة لغير العاملين والفقراء والمحتاجين.. الخ وهي فريضة الزكاة التي:

-تضمن حق المحرومين من ثروات الله.

-وتحول دون احتكار الأقوياء للثروة.

-وتمد الدولة بالنفقات اللازمة لممارسة واجبها بتحقيق الضمان الاجتماعي.

فالضمان الاجتماعي في الإسلام يرتكز إذاً على أساسين:

-التكافل العام بين أفراد المجتمع.

-حق الجماعة على الدولة في الموارد العامة وتأمين العيش الكريم.

ولكل من الأساسين حدوده ومقتضياته في تحديد نوع الحاجات التي يجب أن يضمن إشباعها.

فالأساس الأول للضمان، لا يقتضي أكثر من ضمان إشباع الحاجات الحياتية والملحة للفرد، بينما يفرض الثاني إشباع الحاجات الكمالية أيضاً، لتصل بالفرد إلى مستوى الغنى. وفي كلا الضمانين تبدو عظمة الإسلام في تحقيق الحرية الجوهرية، وليس فقط الشكلية، عكس الحرية التي يقدمها المبدأ الرأسمالي كما مر معنا.

التكافل العام. وهو الأساس الأول للضمان الاجتماعي.

الحديث و الآية:" كلكم راعٍ، وكلكم مسؤول عن رعيته" ]وأنفقوا مما جعلكم مستخلفين فيه[.

إنه المبدأ الذي يفرض فيه الإسلام كفاية" على المسلمين، ضمان بعضهم بعضاً في إشباع الحاجات الحياتية الضرورية للفرد، وفي حدود ظروف المسلم وإمكانياته، عن طريق الزكاة التي اعتبرها حقاً لهم، وليست مجرد هبة أو صدقة.

وعن أبي عبد الله الصادق (ع): "إن الله عز وجل فرض في مال الأغنياء ما يسعهم، ولو علم أن ذلك لا يسعهم لزادهم، إنهم لم يؤتوا من قبل فريضة الله عز وجل، ولكن من منع من منعهم حقهم، ولو أن الناس أدوا حقوقهم لعاش الجميع بخير".

أي أن منع الناس من ممارسة حقهم، هو السبب في الفقر. وأن الثروة المنتجة من قبل الأفراد تشكل حجماً كبيراً يتجاوز حق المنتجين وحدهم، ويمتد إلى أصحاب الحق من المحرومين من العمل والإنتاج.

والمكلف في الإسلام لا يكمن في طائفة أو حزب أو دين، وإنما في أبناء المجتمع جميعاً "فالخلافة عامة". وهي الوجه الاجتماعي للعدالة الاجتماعية الإلهية التي نادى بها الأنبياء كافة. وإذا ما كانت "الوحدانية" تعني اجتماعياً أن "المالك هو الإله الواحد" فإن العدالة" تعني أن هذه الملكية التي يختص بها الله لا تسمح باعتبارها عادلة بتفضيل فرد على آخر، ولا تعطي الحق لفئة اجتماعية على حساب فئة أخرى، ولكن تمنح الخلافة للمجموعة بكاملها.

وإن كان يحق للدولة أن تمارس حقها في إلزام المكلفين على دفع الزكاة، وامتثال ما يكلفون به بموجب الشرع، إلا أن الإسلام يهتم، لتحقيق أهدافه بالعامل النفسي، أكثر من اهتمامه باستعمال القوة والزجر. أي أنه يلجأ إلى الطريقة الإنسانية، والمفاهيم السامية التي أعطاها للحياة، عن طريق البث في المجموعة المكلفة عنه المشاعر النبيلة التي توجهها لتحقيق الأهداف.

وكلنا يعلم، أن المجتمعات الجاهلية كانت -شأنها شأن المجتمعات المسماة بالمتطورة الآن" لا تنظر للحياة إلا من خلال مرحلتها العابرة التي تنتهي بالموت، ولا تحقق ذاتها وسعادتها إلا بإشباع الغرائز والشهوات الحياتية. ولذا، فإن جمع المال لذاته وتكديسه والتنافس عليه، هو بالنسبة إليها الهدف الطبيعي الذي بموجبه يتمكن الإنسان أن يملأ حياته بالعظمة، وينتهي بها - من الناحية الكمية والمعنوية- على الوجه الذي يؤمن له الخلود على الأرض.

هذا المفهوم الذي تعطيه المجتمعات المادية للحياة، والدور الذي تنيطه بالمال، هما أسباب الجهود التي تبذلها لزيادة الدخل والغنى. كما أنها خلف كل تناقض، وكل نمط من أشكال الاستغلال.

ولكي يحرر الإسلام الإنسان من هذا المفهوم، ويقتله من قرارة نفسه، رفض أن يعطي للمال أية قيمة لذاته، ونهى عن تكديسه، ومحى عنه كل قوة تؤمن له الخلود والعظمة.

وهنا يبدو دور الدين وأثره في التوفيق بين الدوافع الذاتية والمصالح الاجتماعية العامة. فالدين هو الطاقة الروحية التي تستطيع أن تعوض الإنسان عن لذائذه الموقوتة التي يدعها في حياته على الأرض، أملاً في النعيم الدائم، وتخلق في تفكيره نظرة جديدة تجاه مصالحه، ومفهوماً عن الربح والخسارة، أرفع من المفاهيم التجارية المادية. فالعناء طريق اللذة، والخسارة لصالح المجتمع سبيل الربح، وحماية مصالح الآخرين تعني حماية مصالح الفرد في حياة أسمى وأرفع.

الآية: ] من عمل صالحاً فلنفسه، ومن أساء فعليها[.

ولذا، فقد جعل الإسلام الفرائض المالية (التكافل) بمثابة العبادات الشرعية التي تنبع من دافع نفسي، طلباً لرضاء الله، والقرب منه.

فالدين إذاً، هو صاحب الدور الأساسي في حل المشكلة الاجتماعية عن طريق تجنيد الدافع الذاتي لحساب المصلحة العامة* بالترغيب تارة، والوعيد أخرى.

آ-عن طريق الترغيب:

فالإسلام -بصورة عامة- لا يرغم أحداً بالقوة على تنفيذ تعاليمه: ]لا إكراه في الدين، لقد تبين الرشد من الغي[.

وعن طريق الترغيب، يقدم القرآن صوراً رائعة للربط بين المصالح الدنيوية والمصالح الأخروية.

الآيات: ]يومئذٍ يصدر الناس أشتاتاً ليروا أعمالهم، فمن يعمل مثقال ذرة خيراً يرة، ومن يعمل مثقال ذرة شراً يره[.

] من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها، ومن جاء بالسيئة فلا يجري إلا مثلها[ لقد حل الإسلام -في الواقع- قيمة العمل الصالح محل قيمة المال والغنى للخلود، وحض على التنافس فقط سعياً لهذا الهدف. فمنح الإنسان الطمأنينة الحقيقية بأن خلوده لا يتحقق بتكديس الثروة، ولا باكتناز الأموال، وإنما بمقدار ما يقوم به من عمل صالح. فغير بذلك مفهوم الاستثمار: فبدلاً من اعتباره مبدداً لثروته ومقلصاً لنفوذه وخطراً على مستقبله وخلوده، جعل منه -على العكس- ضماناً لخلوده، وكعطاء بمقابل يزيد على عشر أضعافه.

الآيات: ]إن تقرضوا الله قرضاً حسناً يضاعفه لكم[.

]مثل الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله كمثل حبة أنبتت سبع سنابل في كل سنبلة مائة حبة، والله يضاعف لمن يشاء، والله واسع عليم[.

فحياة الإنسان على الأرض إذاً، هي بمثابة الاختبار الذي يجتازه الإنسان أمام الخالق، فمن اجتازه بنجاح كان جديراً بالخلود، ومن يفشل كان بمثابة العدم.

الآية: ]أفحسبتم أنما خلقناكم عبثاً[ (115-المؤمنون) أي أن الإنسان ليس بعابر سبيل أتى إلى هذه الأرض ليأكل ويشرب وينهب حياة الآخرين ويكدس الأموال ثم يموت..]وهو الذي يبدأ الخلق، ثم يعيده[ أي يعيده بالعاملين الذين نجحوا في الاختبار على الأرض.

والآيات التي تعدد انحراف الإنسان عن الغاية من خلقه كمكلف باستثمار خيرات الأرض، وحسن توزيع خيراتها لا تحصى، وهي تلفت النظر إلى انحراف الإنسان عن الهدف الذي كلفه به ربه من ناحيتين:

أولاً: امتناعه عن استثمار الخيرات بذاته، والتوقف بذلك عن الإبداع والابتكار.

ثانياً: امتناعه عن القيام بتوزيع ما يفيض عليه من الخيرات على المحتاجين، سواءً كان المستغل فرداً، أو جماعة أو دولة..

ب-عن طريق الترهيب. وهو نادر جداً في القرآن، كما ذكرنا

الآية: ]ويل لكل همزة لمزة، الذي جمع مالاً وعدده يحسب أن ماله أخلده كلا لينبذن في الحطمه، وما أدراك ما الحطمه، نار الله الموقدة، التي تطلع على الأفئدة، إنها عليهم مؤصدة، في عمدٍ ممدده[.

ففي هذه الآية، يهدد الله الإنسان الذي يكسب المال عن طريق الاستغلال والقوة (الهمزة واللمزة) والذي يجمعه لذاته ويجعل تكديسه الهدف منه (الذي جمع مالاً وعدده) والذي يعتبر هذا المال مخلداً له في الحياة (يحسب أن ماله أخلده)، يتوعده بجهنم (الحطمة)*

وفي حديث، أن الإمام جعفر قال: "أيما مؤمن منع مؤمناً شيئاً مما يحتاج إليه، وهو يقدر عليه من عنده أو من عند غيره، أقامه الله يوم القيامة مسوداً وجهه، مزرقة عيناه، مغلولة يداه إلى عنقه، فيقال: هذا الخائن الذي خان الله ورسوله، ثم يؤمر به إلى النار".

وينتج عن ذلك: أن الكفاية هي في حدود الحاجات الشديدة، وشدة الحاجة تعني كون الحاجة حياتية، والحياة عسيرة بدون إشباعها.

الأساس الثاني للضمان الاجتماعي

واجب الدولة

"الإمام راعٍ وهو مسؤول عن رعيته"

لقد أوجب الإسلام على الدولة رعاية شؤون الناس من وجوهها المختلفة، وأناط بها المسؤولية المباشرة في الالتزامات التالية:

- تنفيذ مبدأ التكافل العام

- تطبيق المباحات والمحرمات -سبق ذكرها-

- توجيه الموارد لحاجات المجتمع على أساس الحق العام للجميع في الاستفادة من ثروات الطبيعة.

-تأمين العمل لمن ليس له عمل.

تأمين التوازن الاجتماعي: بكفاية الحاجات المعيشية إلى درجة الغنى حتى للعاملين.

-بتأمين الحاجات الضرورية والكمالية أيضاً لغير العاملين والمحتاجين.

-وتأمين التوازن الاجتماعي بتطبيق مجموعة التشريعات الإسلامية

-ملء منطقة الفراغ من التشريع.

-فمن حيث الضمان الاجتماعي المفروض على الدولة لتنفيذ مبدأ التكافل العام بين المسلمين، فهو يعبر -في الحقيقة- عن دور الدولة في إلزام رعاياها بامتثال ما يكلفون به شرعاً- بالموعظة الحسنة- من زكاة وصدقة، حتى إنه يحق للوالي أحياناً أن يلجأ إلى إكراههم على القيام بواجباتهم في كفالة العاجزين، إذا امتنعوا عن القيام بها، وخاصة في الحالات التي يختل فيها التوازن الاجتماعي اختلالاً جذرياً.

- حق الجماعة على الدولة في مصادر الثروة

لا تستمد الدولة مبررات الضمان الاجتماعي الذي تمارسه من تنفيذ مبدأ الضمان المفروض على الأفراد (التكافل العام) فحسب، بل من أساس آخر للضمان الاجتماعي وهو حق الجماعة في مصادر الثروة. وعلى هذا الأساس تكون الدولة مسؤولة بصورة مباشرة عن ضمان معيشة المعوزين والعاجزين، بقطع النظر عن الكفالة الواجبة على أفراد المسلمين أنفسهم. وترتكز فكرة الضمان الاجتماعي على أساس إيمان الإسلام بحق الجماعة كلها في موارد الثروة، لأن هذه الموارد خلقت للجماعة كافة لا لفئة دون فئة ]خلق لكم ما في الأرض جميعاً[. وهذا الحق يعني أن كل فرد من الجماعة له الحق بالانتفاع بثروات الطبيعة والعيش الكريم منها فمن كان منهم قادراً على العمل في أحد القطاعات العامة والخاصة، كان من وظيفة الدولة أن تهيئ له فرصة العمل في حدود صلاحياتها. ومن لم تتح له فرصة العمل أو كان عاجزاً عنه، فعلى الدولة أن تضمن حقه في الاستفادة من ثروات الطبيعة بتوفير مستوى الكفاية له من العيش الكريم.

وبموجب هذه المسؤولية، لا تفرض على الدولة ضمان الفرد في حدود حاجاته الحياتية فحسب (كالتكافل العام) بل تفرض عليها أن تضمن للفرد مستوى الكفاية من المعيشة الذي يحياه أفراد المجتمع الإسلامي (أي المواد الكمالية أيضاً) ففي حديث أن الإمام موسى بن جعفر قال محدداً ما للإمام وما عليه:

"إنه وارث من لا وارث له، ويعول من لا حيلة له".

وذهب هذا التضامن إلى درجة جعلت للجائع الحق على ثروات المجتمع كما لو أنها ليست ملكاً لأحد:

"إذا بات مؤمن جائعاً فلا مال لأحد"

وقال (ص): "من ترك مالاً فلورثته، ومن ترك كلاً فإلينا"

والكل هو الضعيف.

وجعل الإسلام من تخلف الحاكم عن القيام بهذا الواجب، الحق للرعية أن تحجب عن طاعته:

"إن الله استخلفنا على عبادة لنسد جوعتهم، ونوفر لهم أمنهم، فإن لم نفعل، فلا طاعة لنا عليهم"

عن الخليفة عمر بن الخطاب.

كما أن ضمان الدولة، لا يختص بالمسلم فقط. فالذمي الذي يعيش في كنف الدولة الإسلامية إذا كبر وعجز عن الكسب، كانت نفقته من بيت المال. وقد نقل الشيخ الحر حديثاً)

عن الإمام علي:

"أنه مر بشيخ مكفوف كبير السن يسأل، فقال أمير المؤمنين: ما هذا؟ فقيل له: يا أمير المؤمنين إنه نصراني.. فقال الإمام: استعملتموه حتى إذا كبر وعجز منعتموه!! أنفقوا عليه من بيت المال".

آية: ]فكلهم عباد الله، والله رؤوف بالعباد[.

]أحبكم إلى الله أنفعكم لعباده[.

أي لكل عباده لا لطائفة دون أخرى ولا لمذهب دون آخر، ولا لجنس ولا لدين دون آخر..

ويمتد هذا الواجب على المسؤول نحو الشاة الجائعة كقول الخليفة عمر بن الخطاب: "لو كان في أقصى المدينة شاة جائعة، لكان عمر المسؤول عنها يوم القيامة".

هذا، بينما لا يعتري أحد من الحكام، في هذه الأيام أي هاجس للملايين التي تموت في ظل رعايتهم جوعاً وسقماً وبلاء (إنها بنظرهم ضريبة التطور المحتوم)

- وكواجب المسؤول بتأمين العمل لمن ليس له عمل، كان الرسول (ص) والخلفاء من بعده يقطعون الأفراد من الأراضي، ويعطونهم الأموال للاستعانة بها على استثمارها. إلا أنه لم يسمح لولي الأمر بإقطاع الفرد شيئاً من مصادر الطبيعة، إلا بالقدر الذي يتمكن فيه الفرد من استثماره والعمل فيه، لأن إقطاع ما يزيد عن قدرته يبدد ثروات البلاد الطبيعية وإمكانياتها الإنتاجية، ويحرم الغير من حقه فيها، ويخل بالتوازن الاجتماعي.

وكان (ص) قبل أن يسمح بإعطاء أية صدقة يحاول أن يجعل المحتاج يأكل من عمله وجهده. وكمثال على ذلك: جاء رجل يطلب من رسول الله مالاً، فسأله: هل يملك شيئاً.؟ فأخبره بأنه يملك متاعاً معيناً. فأمره بإحضاره، فباعه الرسول (ص) بطريقة المزايدة ثم أعطى الرجل ثمن المتاع ليحتطب ويأكل من عمله.

-تأمين التوازن الاجتماعي المنوط بالمسؤول في الإسلام:

إن مبدأ التوازن الاجتماعي لا يعني -في الواقع- عدم الاعتبار للاختلافات الطبيعية السيكولوجية التي تنبع منها الاختلافات الشخصية في مختلف الخصائص والصفات من فكرية وروحية وجسدية، فهذه كلها يقرها الإسلام، ولا يرى فيها خطراً على التوازن الاجتماعي ولا تناقضاً معه. فالتوازن الاجتماعي هو التوازن بين أفراد المجتمع في مستوى المعيشة، أي أن يحيا جميع الأفراد مستوى واحداً من المعيشة، مع الاحتفاظ بدرجات داخل هذا المستوى الواحد تتفاوت بموجبها المعيشة، ولكنها تفاوت درجة، وليس تناقضاً كلياً في المستوى، كالتناقضات الصارخة بين مستويات المعيشة في المجتمع الرأسمالي.

ولتحقيق هذا الهدف، قام الإسلام بضغط مستوى المعيشة من أعلى بتحريم الإسراف، ومن أسفل، بالارتفاع بالأفراد الذين يعيشون مستوى منخفضاً من المعيشة إلى مستوى أعلى عن طريق الزكاة.

وقد جاء في الحديث لتحديد مسؤولية الوالي حتى الإغناء:

"إن الوالي يأخذ مال الزكاة فيوجهه حسب الوجه الذي وجهه الله له على ثمانية أسهم للفقراء والمساكين. يقسمه بينهم بقدر ما يستغنون في سنتهم بلا ضيق ولا تقية. فإن فضل من ذلك شيء، رد إلى الوالي، وإن نقص من ذلك شيء، ولم يكتفوا به، كان على الوالي أن يمونهم من عنده بقدر- سعتهم حتى يستغنوا".

وهذا النص يحدد بوضوح: إن الهدف النهائي الذي يحاول الإسلام تحقيقه ويلقي مسؤوليته على ولي الأمر: هو إغناء كل فرد في المجتمع الإسلامي.

فتعميم الغنى هو الهدف الذي تضعه الشريعة أمام ولي الأمر.

ففرضت بإعطاء الزكاة للفقير حتى يصبح غنياً، ومنعت إعطاءه بعد ذلك. أي جعلت الغنى فاصلاً بين جواز الزكاة ومنعها "تعطيه من الزكاة حتى تغنيه" عن الإمام الجعفر.

وعلى هذا الأساس، يمكننا تحديد مفهوم الغنى والفقر عند الإسلام بشكل عام: فالفقير هو الذي لم يظفر بمستوى من المعيشة يمكنه من إشباع حاجاته الضرورية والكمالية بالقدر الذي تسمح به حدود الثروة في البلاد. أو بتعبير آخر: من يعيش في مستوى تفصله هوة عميقة عن المستوى المعيشي للأثرياء في المجتمع الإسلامي (كم نحن بعيدون في هذا التعريف للفقر، عن مستواه في الوقت الحاضر، بالملايين الذين يموتون جوعاً كل عام!).

أما الغني فهو من لا تفصله في مستواه المعيشي هذه الهوة، ولا يعسر عليه إشباع حاجاته الضرورية والكمالية بالقدر الذي يتناسب مع ثروة البلاد ودرجة رفاهيتها المادية، سواءً كان يملك ثروة كبيرة أم لا.

فالنصوص تأمر الوالي إذاً بإعطاء الزكاة وما إليها، إلى أن يلحق الفرد بالناس، أو إلى أن يصبح غنياً، أو لإشباع حاجاته الأولية والثانوية من طعام وشراب وكسوة وزواج.. الخ ما يتمتع فيه المسلمون في مجتمعه.

ومن واجبات الوالي تطبيق مجموعة التشريعات الإسلامية التي حضت على حماية التوازن، كإلغاء الفائدة، ومحاربة اكتناز الأموال وتبديدها وتوجيه الموارد بشكل يكفل الموارد الضرورية للمجتمع، والامتناع عن إنتاج المواد الضارة والمحرمة وذات التكاليف الباهظة المبددة للثروة والمشكلة عبئاً على الاقتصاد العام، أو السيطرة على مساحات واسعة من الأرض، والتوقف عن إحيائها.. الخ، كما ذكرنا سابقاً.

ملء منطقة الفراغ من التشريع

إلا أن مسؤولية الدولة لا تقتصر على مجرد تطبيق الأحكام الثابتة في الشريعة، بل تمتد إلى ملء منطقة الفراغ من التشريع، لكي تملأها في ضوء الظروف المتطورة بالشكل الذي يضمن الأهداف العامة للاقتصاد الإسلامي.

فالإسلام، لا يقدم مبادئه التشريعية للحياة الاقتصادية بوصفها علاجاً موقوتاً (نرفع الفائدة ونخفض الفائدة بين يوم وليلة، ونرفع العملة ونهبط العملة بين لحظة والثانية، كالنظام الرأسمالي على سبيل المثال) وتنظيما مرحلياً يجتازه التاريخ بعد فترة من الزمن إلى شكل آخر من أشكال التنظيم، وإنما يقدمها باعتبارها الصورة النظرية الصالحة لجميع العصور. ولا بد لإعطاء الصورة هذا العموم والاستيعاب، أن ينعكس تطور العصور فيها ضمن عنصر متحرك، يمد الصورة بالقدر من التكيف وفقاً لظروف مختلفة.

فمن الواضح فقهياً -على سبيل المثال- أن يباح للبائع البيع بأي سعر أحب، ولا تمنع الشريعة بيع المالك للسلعة بسعر مجحف. إلا أن الرسول (ص) عندما علم أن بعض التجار يمارسون تضييقاً فاحشاً على الناس، وشحاً قبيحاً، واحتكاراً للمنافع، وتحكماً في البياعات، منع الرسول الاحتكار، كما أمر الإمام علي واليه الأشتر بتحديد السعر، ومنع التجار من البيع بثمن أكبر، وفرض أن يكون البيع بيعاً سمحاً بموازين عدل، وأسعار لا تجحف بالفريقين: البائع والمشتري.

وقد صدر عنهما ذلك بصفة "ولي أمر" استعمالاً لصلاحياتهما في ملء منطقة الفراغ، وفقاً لمقتضيات العدالة الاجتماعية.

وكمثال آخر على ذلك:

فالمبدأ التشريعي القائل: "إن من عمل في الأرض، وأنفق عليها جهداً حتى أحياها، فهو أحق بها من غيره" يعتبر في نظر الإسلام عادلاً، لأن من الظلم أن يساوي بين العامل الذي أنفق على الأرض جهده، وغيره ممن لم يعمل فيها شيئاً ولكن هذا المبدأ بسيطرة قدرة الإنسان على الطبيعة ونموها، أصبح من الممكن استغلاله. ففي عصر كان يقوم إحياء الأرض فيه على الأساليب القديمة، لم يكن يتاح للفرد أن يباشر عمليات الإحياء إلا في مساحات صغيرة. وأما بعد أن توفرت لدى الإنسان وسائل السيطرة على الطبيعة، أصبح بإمكان أفراد قلائل ممن تؤاتيهم الفرصة، أن يحيوا مساحات هائلة من الأرض، باستخدام الآلات الضخمة، الأمر الذي يزعزع العدالة الاجتماعية ومصالح الجماعة. فكان لا بد للصورة التشريعية من منطقة فراغ يمكن ملؤها حسب الظروف. فيسمح بالإحياء حسب الوسائل القديمة، ويمنع في الحالة الثانية إلا في حدود تتناسب مع أهداف الاقتصاد الإسلامي وتصوراته عن العدالة*.

والدليل التشريعي على إعطاء ولي الأمر صلاحيات كهذه لملء الفراغ: هو النص القرآني: ]يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله، وأطيعوا الرسول، وأولي الأمر منكم[.(النساء –29)

إلا أن لصلاحيات ولي الأمر حدود: فيسمح لولي الأمر بالمنع أو الأمر لكل فعل مباح تشريعياً بطبيعته، ولا يوجد نص تشريعي يدل على حرمته أو وجوبه، فإذا منع الإمام عن فعل مباح بطبيعته، أصبح حراماً، وإذا أمر به، أصبح واجباً. وأما الأفعال التي ثبت تشريعياً تحريمها بشكل عام (كالربا) مثلاً، فليس من حق ولي الأمر السماح بها. كما أن الفعل الذي أوجبته الشريعة، كإنفاق الزوج على زوجته، لا يمكن لولي الأمر منعه، لأن طاعة أولي الأمر مفروضة بالحدود التي لا تتعارض مع طاعة الله، وأحكامه العامة.

فألوان النشاط المباحة بطبيعتها في الحياة الاقتصادية هي التي تشكل منطقة الفراغ.

وكما وضع الإسلام مبدأ التوازن الاجتماعي وحدد مفهومه، تكفل أيضاً بتوفير الإمكانيات اللازمة للدولة لكي تمارس ذلك المبدأ وتحقق العدالة الاجتماعية للجميع.

ويمكن تلخيص هذه الإمكانيات في الأمور التالية:

- إيجاد قطاعات لملكية الدولة، تستثمرها وتنفق مواردها لأغراض التوازن الاجتماعي.

- فرض ضرائب ثابتة تؤخذ بصورة مستمرة (الزكاة)

إيجاد قطاعات عامة*

لم يكتف الإسلام بالضرائب الثابتة، كالزكاة وما إليها، والتي سنبحثها بالتفصيل مؤخراً، لتنفيذ أحكام العدالة الاجتماعية وإيجاد التوازن بين جميع فئات الشعب وأفراده، بل جعل الدولة مسؤولة إلى جانبها بالإنفاق من القطاع العام بهذا الغرض. فقد جاء في الحديث عن الإمام موسى بن جعفر (ع): "إن على الوالي في حالة عدم كفاية الزكاة، أن يمون الفقراء من عنده بقدر سعتهم حتى يستغنوا.

وكلمة (من عنده) تعني أي من غير الزكاة. من موارد بيت المال ويعتبر الفيء، من أحد موارد بيت المال. كقوله تعالى:

الآية: ] ما أفاء الله على رسوله من أهل القرى، فلله وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل، كي لا يكون دولة بين الأغنياء

منكم[.(الحشر-7)

ولا يختص الفيء بالغنيمة التي يغنمها المسلمون بدون قتال، بل يمتد إلى الأراضي الموات، وبطون الأودية، والمعادن، وكافة ما تدخل ملكيته في منصب النبي والإمام والتي تستخدم لغرض حفظ التوازن، وضمان تداول المال بين الجميع، كما تستخدم للمصالح العامة.

وكان الرسول (ص) والخلفاء من بعده يقطعون الأفراد من الأراضي، ويعطونهم الأموال للاستعانة بها على استثمارها، وذلك بحدود قدرتهم على استثمارها -كما ذكرنا- وكان الرسول (ص) قبل أن يسمح بإعطاء أية صدقة يحاول أن يجعل المحتاج يأكل من عمل يده.

وهكذا، فإن الإسلام يلزم الحاكم بتقديم مساعدته من أملاك الدولة، كمساعدة للعمل والإنتاج لا للاستهلاك فقط، فيحقق بذلك الفائدة للفرد والمجتمع بآن واحد. وبذلك فقد حض الإسلام على العمل وقدسه كما سنرى فيما بعد.

الزكاة كضريبة ثابتة

فالزكاة، كضريبة مالية مفروضة، هي الركن الرابع من أركان الإسلام الخمس، وهي من أهم العبادات الدينية، لكونها ليست مجانية، بل مادية مكلفة كما أنها أهم وسائل الضمان الاجتماعي، لقيمتها ليس فقط الاجتماعية والإنسانية بتحقيق التوازن الاجتماعي بمفهومه في الإسلام، وإنما السياسية والاقتصادية أيضاً.

آ-ويبدو دور الزكاة من الناحية الاجتماعية والاقتصادية جلياً من خلال تحديد مقدار الزكاة: إنه ربع العشر من المال المدخر، ولا تتركه حتى تنخفض به إلى عشرين ديناراً (حسب القوة الشرائية آنذاك).

وهنا تعتبر الزكاة بمثابة مصادرة تدريجية للمال الذي يكنز ويجمد عن العمل وبذلك تندفع جميع الأموال إلى حقول النشاط الاقتصادي بكافة فعالياته.

الآيات: ]الذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله فبشرهم بعذاب أليم، يوم يحمى عليها من نار جهنم فتكوى بها جباههم وجنوبهم وظهورهم. هذا ما كنزتم لأنفسكم فذوقوا ما كنتم تكنزون[ (التوبة-34)

وصورة (الهمزة)، وقد مر ذكرها سابقاً.

وهذا المنع من اكتناز المال ومحاربته بفرض ضريبة الزكاة عليه، يعبر عن أوجه الخلاف الخطير بين المذهب الإسلامي والمذهب الرأسمالي كما ذكرنا سابقاً، فالنظام الرأسمالي يشجعه، ويخلق له المصارف وبيوت المال لتكديسه وحجبه عن الإنتاج المثمر، ويكافئه بتشريع نظام الفائدة بينما يحاربه الإسلام ويمتصه عن طريق الزكاة ويدخله في حلبة الإنتاج وزيادة الاستهلاك الذي يدير عجلة الإنتاج.

ب- أما من الناحية السياسية، فإن استئثار فئة قليلة بالقسم الأكبر من المال، لابد أن يؤدي إلى أن يطغى نفوذها على الحكام أنفسهم، فلا يصبح بمقدورهم أن يعالجوا الخلل الاقتصادي والاجتماعي.

الآية: ]كي لا تكون دولة بين الأغنياء منكم[ (الحشر-7)

وهو ما نعيشه في الوقت الحاضر، في كافة بقاع العالم، إذ أن الثروات الضخمة التي تكدست في أيدي فئة قليلة من البشر، فاقت الثروات التي تملكها الحكومات ذاتها، ففقدت الدول بذلك هيبتها وسيطرتها على هؤلاء. الأثرياء، وانحصرت مهمتها بتأمين مصالحهم الخاصة فقط وتيسير مهماتهم على حساب استفحال الفقر والجوع والحرمان من أمس الحاجات الضرورية التي تقاسي منها الغالبية العظمى من الشعوب.

جـ- تحقيق التوازن الاجتماعي، وذلك بتأمين التقارب في مستوى المعيشة بين جميع أفراد الأمة، وذلك عن طريق تحويل المجتمع إلى طبقة واحدة غنية ومترفة، أي مساواة الناس بالغنى وليس بالفقر كما هو الحال في النظامين السابقين والدليل الفقهي على علاقة هذه الضريبة، وما إليها (الصدقة، والخمس) حسب المذاهب، بأغراض التوازن الاجتماعي، بالإضافة إلى الناحية الإنسانية والاقتصادية ما يلي:

عن إسحاق بن عمار: "قال: قلت للإمام جعفر بن محمد: هل أعطي الفقير مائة من الزكاة؟ قال: نعم، قلت: مائتين؟ قال: نعم، قلت: ثلاثمائة؟ قال: نعم، قلت: أربعمائة؟ قال نعم، قلت: خمسمائة؟ قال: نعم حتى تغنيه..."

وكما مر معنا عن أبي بصير، عن الإمام جعفر بن الصادق:

"إن الله تعالى نظر في أموال الأغنياء، ثم نظر في الفقراء، فجعل لهم في أموال الأغنياء ما يكتفون به، ولو لم يكفهم لزادهم".

وعن الإمام علي رضي الله عنه: ]إن الله سبحانه وتعالى فرض في أموال الأغنياء أقوات الفقراء، فما جاع فقير إلا بما منع به غني، والله تعالى جده سائلهم عن ذلك يوم القيامة[. نهج البلاغة.

وفي كل ذلك ما يبين امتداد حق الفقراء في أموال الأغنياء حتى الغنى وتحقيق التوازن الاجتماعي، وتقريب مستويات المعيشة بين جميع أفراد الأمة والمجتمع.

أصحاب الحق في الزكاة

الآيات: ]والذين في أموالهم حق معلوم للسائل والمحروم[(المعارج-25)

]إنما الصدقات للفقراء والمساكين، والعاملين عليها، والمؤلفة قلوبهم، وفي الرقاب، والغارمين وفي سبيل الله، وابن السبيل[ (التوبة/ 60)

فالزكاة إذاً، هي حق معلوم في أموال الأغنياء، يصرف للفئات التي سمتها الآية 60 من صورة التوبة المذكورة.

الحض على العمل: وإذا كان الإسلام قد جعل لغير العاملين والفقراء والمساكين... الخ، ممن ورد ذكرهم في أحكام الزكاة، حقاً في ثروات الله التي حصل عليها العاملون، فإن هذا لا يعني أنه دفع الناس للخلود إلى الراحة والكسل، والاعتماد على الغير في معيشتهم، بل -على العكس- فقد حض الله تعالى على العمل وقدسه إلى منزلة العبادة

الآيات: ]وقل اعملوا فسيرى الله عملكم[ (التوبه-105)

]هو أنشأكم من الأرض، واستعمركم فيها[ (هود /61) أي كلفكم بإعمارها.

]هو الذي جعل لكم الأرض ذلولاً، فامشوا في مناكبها وكلوا من رزقه وإليه النشور[ (الملك/ 15)

- وفضل الإسلام من يأكل بعمل يده عمن يقبل الصدقة. وقال (ص)

"اليد العليا خير من اليد السفلى" فأخذ المسلمون يتسابقون إلى العمل وأداء الصدقة بدل قبولها

وقال أيضاً: "من فتح على نفسه باب السؤال، فتح الله عليه سبعين باباً من الفقر".

ومن تقديسه للعمل إلى منزلة العبادة، جاء في الحديث:

أثنى الصحابة أمام الرسول على رجل يكثر من العبادة، فسألهم: من يعيله؟ قالوا: "كلنا"، فقال: "كلكم أعبد منه".

وعن الرسول (ص): أنه رفع يوماً يد عامل مكدود فقبلها، وقال:

"طلب الحلال فرض على كل مسلم ومسلمة، ومن أكل من كد يده مر على الصراط كالبرق، ومن أكل من كد يده نظر الله إليه بالرحمة، ثم لا يعذبه أبداً، ومن أكل من كد يده حلالاً فتح الله له أبواب الجنة يدخل من أين شاء.

وكان الرسول (ص) كما جاء في سيرته الشريفة، يسأل عن الشخص إذا أعجبه مظهره، فإذا قيل له "ليس له حرفة، ولا عمل يمارسه"، سقط من عينه،

ويقول: "إن المؤمن من إذا لم تكن لديه حرفة يعيش بدينه".

ويقول الصادق:"لا خير فيمن لا يحب جمع المال من حلال، يكف به وجهه، ويقضي به دينه، ويصل به رحمه".

وجعل الإسلام العمل سبباً لتملك الأرض: "من أحيا أرضاً فهي له"، كما جعل عمارة الأرض سبباً لتملكها، فإن توقف عن إعمارها اقتطعت منه. قال(ص): "وليس لمحتجز حق فوق ثلاث"، أي لا يحق لمن يحتجز أرضاً أن يهملها أكثر من ثلاث سنوات.

الحض على العلم:

كان الحصن على العلم أول آية أنزلت على رسول الله (ص)، الآية: ]اقرأ باسم ربك الذي خلق، خلق الإنسان من علق، اقرأ وربك الأكرم، الذي علم بالقلم، علم الإنسان مالم يعلم[.

وجعل الإسلام من طلب العلم فريضة على كل مسلم ومسلمة:

الحديث: ]العلم فريضة على كل مسلم ومسلمة[.

" كما جعل العلماء بمثابة الأنبياء وفضلهم على سائر البشر:

]هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون؟![ (الزمره-5)

الآية: ]إن في ذلك لآيات لقوم يعقلون[. (الرعد-4)

]إنما يخشى الله من عباده العلماء[.(*) (فاطر-28)

]ويتفكرون في خلق السموات والأرض[

وأقرن الإسلام العلم بالعمل: "العلم والعمل توأمان"، وذلك لكي يتم التحقيق من صواب العلم من خلال تطبيقه العملي، ولكي تتم تغذية العمل باستمرار بنتائج العلم الصائب، لتطوير العمل وتحسينه. ولكنه ألح على طلب العلم النافع: "اللهم احمنا من علمٍ لا ينفع"، (للأسف، إننا في عصر يسود فيه العلم الضار - بكافة صنوفه من الطب، للزراعة وأسمدتها الكيماوية ومبيدات أعشابها وتصنيعها، إلى الفضاء وتجسسه وأسلحته الفتاكة، إلى الإشعاعات والجينات وأنابيب خلق الكائنات...الخ)(**)

وبصورة عامة، لابد للعلم والعمل من أن يهدفا إلى تحقيق سعادة الفرد في الدنيا وخلوده في الآخرة: عن علي (ع):

"اعمل لدنياك كأنك تعيش أبداً، واعمل لآخرتك كأنك تموت غداً".

وذلك، لكي لا يفقد الإنسان أمله في الحياة، فلا يتوقف عن العمل المستمر مهما أصيب من أمراض، ومصائب وفشل (فالله يغير من حالٍ إلى حال).

ولابد من أن يكون عمله -في الوقت نفسه- صالحاً لخير المجتمع، فيكسب بذلك دينه ودنياه.

وهكذا، فإن السياسة الاقتصادية في الإسلام توجب على الحاكم تحسين الدخول فرداً فرداً، أي ليس باحتساب الزيادة الإجمالية في الدخل التي قد لا تصيب في التوزيع إلا فئة بسيطة من المستغلين، كما هو الحال في النظامين السابقين.

وبفضل هذه العدالة الاجتماعية، ازداد الشعور بالمسؤولية بين المسلمين، وأقبلوا على العمل بشغف وإتقان ونشاط، لدرجة قلما كان يوجد بين صفوف المسلمين من يستحق الزكاة. ويشهد على ذلك أنه في عهد الخليفة (عمر بن عبدالعزيز)، كان أحد عملائه في الكوفة يعيد الأموال، التي كان يكلفه الخليفة بتوزيعها على الفقراء والمحتاجين، إلى بيت مال المسلمين، وعندما سأله الخليفةعن السبب أجاب:

"لم أجد فيها من يستحق الزكاة".

وكما قال الكاتب الفرنسي الكبير (آلان راود)، في كتابه "اليمن وشعوبها": "أحببت صنعاء كما يحب البستان الماء، لا لأنها بلد الـ(13000) حمام و(13000) جامع، في كامل الجلال والجمال، في عهد هارون الرشيد، ولكن، لأن فيها كل ما يشهد على حضارة ورفاهية شعب بأسره"(*).

والسؤال الآن:

لماذا جعل الإسلام الزكاة حقاً للسائل والمحروم...الخ

وليست مجرد هبة أو صدقة؟!..

مما لاشك فيه، أن للزكاة -كما رأينا - منافع عديدة، اقتصادية، وسياسية، واجتماعية، وهي العبادة الوحيدة المكلفة، والمتوجبة طيلة حياة المسلم المكلف. ولكن...لماذا جعلها الله سبحانه وتعالى حقاً للمستحقين، وليست هبة أو صدقة، كما في قوله تعالى:

الآية: ]الذين في أموالكم حق معلوم للسائل والمحروم[.(النور-33)

والجواب -على ما أعتقد يكمن - بصفتي اقتصادية- في الآيتين الكريمتين التاليتين:

- ] وآتوهم من مال الله الذي آتاكم [.

- والله الذي خلق السموات والأرض، وأنزل من السماء ماءً فأخرج به من الثمرات رزقاً لكم، وسخر لكم الفلك لتجري في البحر بأمره، وسخر لكم الأنهار، وآتاكم من كل ما سألتموه، وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها، إن الإنسان لظلوم كفار". (ابراهيم-32)

أي أن الله سبحانه وتعالى الذي خلق الكائنات على وجه الأرض، خلق لهم فيها ما يكفيهم جميعاً.وأن ما على سطح الأرض، ومافي جوفها، وسمائها هوملك لله وحده، ومخصص لجميع عباده.وما الإنسان العامل إلا مستخلف من قبل الله لاستثمار خيراته. فالامتناع عن استغلالها أو المنع من ذلك، يعتبر ظلماً وكفراً، ويحول دون وصول البشر إلى مرتبة خليفة الله في الأرض.

أما العاجزون عن العمل والمحرومون فيه، والبؤساء والمساكين.. الخ. فهم أيضاً من عباد الله، ولهم نصيبهم مما آتى العاملين والمورثين، فهو خالقهم وكافلهم أيضاً من ثروات الله ]وآتوهم من مال الله الذي آتاكم[.

في الحقيقة، إن الله الذي خلق هذا الكون بكل مافيه من إنسان وحيوان ونبات، خلق له معه في هذه الطبيعة كل مايكفل له حياته إلى أجل لا يعلمه إلا هو. فالإنسان، يجد في هذه الأرض، كل مايؤمن له، طعامه وشرابه، وكساءه، ودواءه، ومتعته ومأواه.. الخ.. وحضه على العمل لاستثمار هذه الثروات واستغلالها، وجهزه بكل مايلزم لذلك من عقل وطاقة وقوة... الخ. وفرض عليه أن يؤدي من هذا المال الذي آتاه الله به حصة الفقراء والمساكين والمحرومين من العمل.. الخ، أصحاب الحق في الحياة من هذه الثروات مثله.

والحيوان، هداه الله عن طريق الغريزة إلى اكتشاف مايؤمن له غذاءه الذي يتفق مع تكوينه، واختيار مأواه، وحماية نفسه.. الخ( وما تدخل الإنسان في حياة الحيوانات، وتعليمها دروسها، وتكثيرها بطرق اصطناعية تجارية محضة، إلا وراء اندثار القسم الأكبر من هذه الحيوانات، وفسادها)، فالعصفور -على سبيل المثال- يميز من ذاته بين الحبة النافعة التي تلائمه وغير النافعة، أو الحجرة؛ والنحلة، وحتى النملة، أدق مخلوقات الله، تقوم بنفسها بأمهر ما يقوم به أفضل العلماء من بني الإنسان فبيوت النمل الرائعة الصنع استوحيت منها ناطحات السحاب في أمريكا، والنحل -كما نعلم- يقوم بأدهش عملية إنتاجية في الكون، تنظم فيها مراحل الإنتاج، وتوزع الأدوار على العاملات وتقوم كل منها بدورها في أوقات محددة دقيقة، حسب المستلزمات والمعطيات من الطبيعة، دون أن يكون فيها أي دور أوجهد للإنسان، اللهم إلا ليمد يده ويتناول أقراص الشهد، ويأكله هنيئاً مريئاً فيه شفاء للناس.

(وكلنا يعلم أن تدخل الإنسان الحديث في تغذية النحل في الوقت الحاضر، قد أفسد العسل، وشل وظيفته كشفاء للناس، إن لم يكن قد حولها إلى ضرر بالصحة).

فلماذا يختص الشخص الذي حصل على العسل به وحده، وما الذي جعل له الحق به وحده، من دون المحتاج، علماً بأنه خلق للناس أجمعين؟

فعملية الإنتاج في هذا المثال، واليد العاملة، والمواد الأولية، والإشراف على العمل، ورأس المال والعمل والعمال، كلها من عند الله، وهديه لعباده.

وقس على ذلك بالنسبة للأسماك، التي تغص بها البحار والأنهار، والتي لا تتطلب إلا إلقاء الشبكة في الماء(*)، وملايين الأنواع من النباتات الصالحة كغذاء وكساء ودواء، مما اكتشف، ومالم يكتشف بعد، والتي لا حاجة في إنتاجها للإنسان وعمله، فكلها من عند الله، ولصالح عباده أجمعين.

كما أن هناك عدداً لا يحصى من الثروات التي خلقها الله في الطبيعة، والتي لابد للاستفادة منها من عمل الإنسان. كاستخراج المعادن من باطن الأرض، وتصنيعها وتحويلها، وزراعة البساتين والكروم والحقول... الخ. ويتجلى في هذه العمليات الإنتاجية اشتراك الخالق مع البشر جنباً إلى جنب في استخراج ملك الله واستثماره.

ولنأخذ مثال الإنبات في الزراعة، لنحدد ما نتج منه بفضل عمل البشر، وماهو من هبة الإله.

فهناك عدد كبير من النباتات والثمار، لا تحتاج من جهد الإنسان إلا وضع البزرة في التربة، علماً بأن البزرة الأولى، والشجرة الأولى لكل ما ينبت على وجه الأرض من نباتات هي من خلق الله. قال تعالى: ] وآية لهم الأرض الميتة أحييناها، وأخرجنا منها حباً فمنها يأكلون، وجعلنا فيها جناتٍ من نخيل وأعنابٍ، وفجرنا فيها من العيون[.(ياسين-33)

وما التربة وما بداخلها من مواد عضوية لتغذيتها، والأمطار التي تهطل من السماء لسقايتها، والشمس التي تمدها بالحرارة لإنضاجها، والرياح التي تتولى عملية التلقيح، وتمدها بالأوكسجين والهيدروجين إلى آخر ما هنالك،مما نعلم وما لا نعلم.. ما هذا كله إلا من عند الله، وليس لإنسان أي دور فيه(*)، فالمواد الأولية الأساسية في هذا المثال، الضرورية لعملية الإنتاج، كلها هبة من عند الله، ولذا فإن الإنتاج حق لعباده أجمعين.

وهناك عدد آخر من النباتات تحتاج إلى جهد أكبر من الإنسان في زراعتها، وسقايتها، وحصادها، وجنيها، كما تحتاج إلى رأس مال لتأمين ذلك. أي أنها تحتاج إلى:

ـ رأس مال.

ـ أدوات إنتاج، تقليدية أو عصرية.

ـ يد عاملة.

ولكن، هذه الخدمات لا تقاس بالعطاءات المجانية التي يقدمها الإله، وهي الوسائل الرئيسية في الإنتاج، ولا يمكن أن يتم الإنتاج بدونها:

ـ الأرض وما تحتوي تربتها من المواد العضوية.

ـ الماء الذي ينبع من الأرض أو يهبط من السماء.

ـ الشمس، والهواء,....الخ..

وهذه تأتي كلها مجاناً من عند الإله، والحق فيها لعباد الله قاطبة".

فكيف يتم التوزيع حسب النظام الحالي، وكيف يجب أن يتم حسب تعاليم الإسلام؟...

التوزيع حسب النظام الحالي:

يأتي رأس المال، على رأس المستفيدين من حصة الإنتاج، من ربح، وفائدة وريع، علماً بأن صاحبه لايقوم بأي عمل

وإذا ما كان هونفسه الذي يقدم وسائل الإنتاج، كالشركات العالمية، وهذا هو الغالب في الوقت الحاضر، فإنه يستأثر بالإنتاج وحده، ولا يصيب العاملين الذين قدموا الجهد الأكبر سوى نسبة بسيطة كأجر، لا يكفيه قوت يومه، وهو يأخذ بالتضاؤل شيئاً فشيئاً نظراً لكثرة العرض في اليد العاملة على الطلب، والمشردة من كافة بلدان العالم.

فتوزيع الإنتاج يقتصر هنا على حق رأس المال وأدواته من الوسائل البشرية، ولا يأخذ بعين الاعتبار وسائل الإنتاج الربانية، والتي بدونها لا يستطيع أي إنسان، وأي رأس مال، وأية وسائل إنتاج بشرية، أن تنتج شيئاً. أي أن التوزيع -بهذه الحالة- لا يصيب حصة الفقراء والمحتاجين...الخ. ممن لهم حق ونصيب في هبات الله، والذين خلقهم وتكفل بهم.

التوزيع حسب أحكام الله:

يجعل الإسلام العمل -بصورة عامة- شرطاً في تملك الثروة الطبيعية التي لا يملكها فرد آخر مثل: الخشب الذي يقتطعه العامل من أشجار الغابة، والأسماك والطيور في البحر والجو، والمواد المعدنية التي يستخرجها المنتج من مناجمها، والأرض الميتة التي يحييها الزراع ويعدونها للإنتاج، وعين الماء التي يستنبطها من أعماق الأرض... الخ. وهي كلها ملك عام كما ذكرنا.

فالعامل -في هذه الحالات- له وحده ملكية الإنتاج الذي أنتجه، على أن يوزع، قبل كل شيء، حصة غير العاملين والمحتاجين... الخ. الوارد ذكرهم في آية التوبة، كما ذكرنا سابقاً، وليس لرأس المال على تلك الثروات إلا الحق بالأجر.

وبهذا، فإن الفرق بين النظرية الإسلامية في التوزيع، مابعد الإنتاج، والنظرية الرأسمالية كبير للغاية. ومرد هذا الفرق إلى اختلاف النظريتين في تحديد مركز الإنسان، ودوره في عملية الإنتاج. فدور الإنسان في الأولى هو دور الوسيلة التي تخدم الإنتاج، ودوره في الإسلام الغاية التي يخدمها الإنتاج. فالإنسان، في النظام الرأسمالي، كما في النظام الاشتراكي، هو بمثابة سائر القوى المساهمة في الإنتاج، يتلقى نصيبه من الثروة الطبيعية التي جهد في استخراجها وتحويلها، بوصفه خادماً للإنتاج، كأجر فقط، لاستمرار حياته وعمله، بينما يصبح مالك رأس المال مستحوذاً على جميع ما يقوم به الأجراء لإنتاجه، ومن حقه بيعه بالثمن الذي يحلو له، دون أن يؤدي حصة من لهم نصيب من ملك الله الذي آتاهم....(*).

أما النظرية الإسلامية، فهي تجعل العمل شرطاً في تملك الثروة الطبيعية، وتمنح العامل وحده حق ملكية الإنتاج الذي أنتجه، وتختفي سيطرة رأس المال على تلك الثروات، التي يمتلكها في ظل المذهب الرأسمالي لمجرد قدرته على توفير الآلات اللازمة للإنتاج، ودفع نفقاته، وتحل محلها سيطرة الإنسان على ثروات الطبيعة التي خلقها الله لخدمة الإنسان، لأنه الغرض من الإنتاج. ولا يحصل رأس المال وأدواته إلا على أجر لقاء الخدمة التي قدمها، وهي لا تعني المشاركة في الثروة المنتجة.

وإذا لم يكن للوسائل المستعملة في الإنتاج مالك آخر سوى الإنسان العامل نفسه، فلا يشاركه أحد في الإنتاج سوى من لهم نصيب من ملك الله الذي آتاه كحقه تماماً.وهم الفقراء والمحتاجون الوارد ذكرهم في آية التوبة... الخ. كما ذكرنا.

الفرق في التوزيع بين الماركسية والإسلام:

- من الناحية النظرية:

مما لاشك فيه أن النظرية الماركسية كانت قداستوحت من النظام الإسلامي شيئاً من مبدأ العدالة الاجتماعية. وذلك فيما يتعلق بمسؤولية الدولة في تأمين سبل العمل لكافة السكان (وبالفعل، لم يكن قبل انهيار النظام المذكور في أوائل التسعينات عاطل واحد عن العمل)، (يتجاوز عدد العاطلين عن العمل في ظل نظام الحرية الجديد 65% في روسيا عام 1996، وتقارب في الوقت الحاضر ثلاث أرباع السكان)، كما ضمنت للعاجز والمريض الضمانات الضرورية اللازمة للحياة.

وهي تعتبر أيضاً تماشياً مع القواعد الإسلامية، أن للعامل الحق بالإنتاج وليس بالأجر، إلاأنها تقيده بما أضافه العامل بعمله على المادة الأساسية -قبل العمل- من قيمة جديدة تبادلية. ولذا، فإن للعامل في رأي الماركسية الحق في السلعة المنتجة، باستثناء قيمة المادة التي تسلمها من الدولة قبل الإنتاج.

- من الناحية العملية:

أما من خلال التطبيق العملي، فإن القائمين على إدارة المشاريع المؤممة لم يدفعوا للعالم إلا أجراً –كأصحاب المشاريع الرأسمالية- لايكاد يكفيه ليتابع عمله، وكدسوا لأنفسهم الأموال على حساب العامل، والمشاريع الإنتاجية نفسها، التي أفلس معظمها، مما أدى إلى استفحال مديونية الدول الاشتراكية، وتوقفها عن تسديد ديونها، وفقدان الحاجات الضرورية، حتى الغذائية الأساسية. وكلنا يذكر طوابير البشر التي كانت تتدافع، أمام مراكز التوزيع، أياماً وأسابيع، للحصول على قطعة لحم مجمدة، أو حتى ربطة خبز جافة، آخر أيام العهد، والتي كانت السبب الرئيسي في سقوط النظام. ومن الطبيعي أن هؤلاء المستغلين – هم أنفسم – الذين استلموا مقادير الحكم في النظام الجديد، ليعودوا بالشعوب، ليس فقط إلى أيام القياصرة، فهم بعيدون جداً عنها حتى أيام النظام الاشتراكي في عهده المرموق، بل إلىعصور الهمجية والغوغائية في أظلم العهود...!

أما الإسلام، فقد منح العامل، نظرياً وعملياً، خلال قرون عديدة من تطبيقه لشريعته، كل الثروة التي أنتجها العامل، إذا كانت المادة الأساسية التي مارسها العامل في عملية الإنتاج ثروة طبيعية لا يملكها فرد آخر، أي إذا كان هونفسه قداستخرجها من الطبيعة، ومهما كانت هذه الثروة، سواءً كانت ذهباً أو حجراً، أما إذا كانت ملكاً لفرد آخر، فلا مجال لمنحها للإنسان العامل على أساس الإنتاج الجديد الذي أدخله عليها، لأنها تحمل عمل المالك الذي له الحق الثابت بالملك، ويقتصر هنا حق العامل على الأجر فقط، وهذا مايطلق عليه اسم ظاهرة الثبات في الملكية(*).

إلا أن هذه الأحكام، أصبحت في الوقت الحاضر، -على مايبدو- مستحيلة التطبيق، حتى في البلدان التي تتبنى الإسلام في الذات، وأضحت العدالة الاجتماعية حبراً على ورق في اجتهادات الفقهاء في الإسلام، فلا الراعي ولا الرعية بقادرين على تنفيذ أحكامها لفقدان المعطيات في بلاد الإسلام بالذات.

ـ فلا الأرض ومافيها من الثروات الطبيعية بقيت ملكاً للإله –حسب زعمهم- ولا للشعوب ولا الحكام.. إنها فيما فوقها، وماتحتها وما في جوفها وسمائها ومائها بأيدي الشركات الأجنبية العالمية... تتصرف فيها كما تشاء.

ـ وأصبح العمل،ووسائل العمل بأيدي هذه الشركات...

ـ وانحصر المحصول ومردود المحصول في ملكها أيضاً، تحوله أين تشاء وتحرم شعوبه منه.

وهذا يتعارض -في الواقع- مع أحكام الإسلام الذي منع ملكية رقبة الأرض، حتى للعاملين فيها من أبناء الشعب(فهي ملك لله)، وحصر منفعتها فقط بهم، على ألا يتوقفوا عن استثمارها، وإلا أخذت منهم، وسلمت لغيرهم،كما رأينا، ولكن، على أن يوزعوا حقوق المحتاجين.

ـ وكذلك، امتدت سيطرة الشركات المذكورة ــ عن طريق التخصيص ـ إلى كل مرفق من المرافق العامة، التي كانت في عهدة الحكام، وفقدت الحكومات كل سيطرة عليها، مما أدى إلى شلل مهمة الراعي في تأمين العدالة الاجتماعية، وتأمين الخدمات العامة للشعوب، واقتصردورهم على سن القوانين التي تفتح للشركات الأجنبية المذكورة، الأبواب على مصراعيها، لسرقة خيرات البلاد، وتكديس الأموال، وتحويلها دون رقابة ولا حساب، إلى أي مكان تشاء.(*)

ولم يبق -في الواقع- للشعوب التي حضها الإسلام على العمل واستثمار خيرات الأرض، أية فرصة للعمل، سوى التمثيل، والرقص، والغناء، واحتلال الأرصفة (من رجال ونساء وأطفال) لإمتاع السياح. فليس لهم الحق في اقتطاع حجر، أو احتطاب خشب، أو زراعة أرض، أو غرس شجر، أو صيد سمك، أوحتى عصفور، كما لم يبق لها الحق في فتح دكان كقصاب أو سمان...!. ولم يبق في ساحة العمل إلا الشركات الأجنبية، ومجمعاتها، وعملاؤها في الداخل، وكأن الله تعالى، قد استخلف فقط الإنسان الأمريكي الصهيوني. على ثروات الأرض بكاملها، ومنحهم إياها بوثيقة مضمونة -كما يعتقدون-. وإنني لأتساءل هل خصهم الإله من المميزات العقلية والجسدية، بما يفوق منها مالدى الشعوب التعيسة الأخرى؟!...

وهل اكتشف، أن خليفة الله هذا، قد حباه الله بأربع عيون، ورأسان وثمانية أطراف؟....

أم أن الله قد خلق البشر كلهم سواسية "كأسنان المشط"، لا فرق بينهم إلا بالتقوى؟!..

وهاهي حضاراتهم التليدة تشهد على عبقرياتهم ومهاراتهم بشكل لا مجال فيه للمقارنة بينها وبين حضارة الصهاينة الأمريكان...!.

والحضارة الإسلامية، في هذا المضمار -والتي نقل القسم الأعظم منها ومن علومها وفنونها إلى متاحفهم، عدا ما حرق وأبيد منها بدافع الحقد والإعاقة، بالطبع، خوفاً منها -شاهدة على ذلك-...

وهي لم تهدم حضارة البلدان التي فتحتها، بل -على العكس-.. فقد رممتها وجددتها، وأضافت عليها من مميزاتها وإبداعها، وذلك بشهادة أقسى أعدائها، كما أنها لم تسلب حق الشعوب في استثمار خيرات بلادها، بل -على العكس- وزعت الحق في إنتاج هذه الثروات وخيراتها، على كل فرد، فرداً فرداً، فمن اليمن السعيد إلى الأندلس العتيد إلى ربوع الصين والهند وكازخستان وإيران... برزت حضارات يعجز اللسان عن وصفها، مصحوبة -قبل كل شيء- بسعادة الإنسان كل إنسان...!

حتى اعترف لها بذلك المؤرخ الإنكليزي الكبير بقوله:

"ما عرف التاريخ فاتحاً أرحم من العرب"....

ولكنني للأسف الشديد، لست على يقين، بوجود من يملك من المسلمين في هذه الأيام، الجدارة، والحرية، والاستقلال بثروات البلاد، لاستلام مقاليد الإسلام.

لقد تعطل -كما رأينا- دور الراعي في القيام بمسؤولياته، للقيام بتأمين سبل العدالة الاجتماعية، واستثمار خيرات البلاد، وإدارة مرافقها، فلم يعد قادراً على تأمين العمل والعيش الكريم للقادرين على العمل، ولا الحاجات الكمالية، لا بله الحياتية الأساسية، للعاجزين عنه، وكبلت البلدان بالديون، وجفت الموارد العامة من الخزينة، وضغطت النفقات من حساب حياة الشعوب، ليوجه القسم الأكبر منها لتسديد الديون...

- كما تعطل دور الأفراد أيضاً بالقيام بدورهم في كفالة بعضهم بعضاً.

فكيف يمكن للعاملين، الذين هبطت دخولهم إلى دون عتبة الفقر بكثير، أن يكفلوا حياة غير العاملين، والمحرومين...الخ. وهم أنفسهم بحاجة لمن يكفل لهم حاجاتهم الرئيسية أيضاً؟!...

فالجميع الآن بحاجة للتكافل...!

فمن الذي سيدفع الزكاة؟!....

أهي الشركات العالمية، والصهيونية التي تمولها، وهي تشن حرباً ضروساً على الشعوب كافة، وخاصة منها الشعوب الإسلامية، بكافة الوسائل، وفي كل مكان؟!...

وإذا لم يحقق الإسلام للمسلمين هذا الضمان، فماذا يبقى للمسلمين من الإسلام؟!...

الموت في سبيل الله!؟...

أم في سبيل الصهاينة الأميركان؟!....

الخلاصة العامة

إن الهدف من هذا البحث، ليس الدخول في أحكام النظريتين الماركسية والرأسمالية، وفلسفاتهما من حيث هي، وإنما من خلال انعكاسهما على المجتمع الإنساني من سعادة، ورفاهية، وعدالة، وأمان .

ومرد هذا الاختلاف يعود، في الواقع، إلى الاختلاف في تحديد مركز الإنسان ودوره في عملية الإنتاج.

فبالنسبة للنظام الرأسمالي، فإن دور الإنسان هو الوسيلة التي تخدم الإنتاج والربح، لا الغاية التي يخدمها الإنتاج، فهو في صف القوى المساهمة في الإنتاج، من طبيعة وماديه ورأس مال، بل والحلقة الأوهى منه، فيتلقى أجراً على مساهمته في الإنتاج، يعينه فقط على متابعه الإنتاج.

أمافي النظام الماركسي، فإن دوره في عملية الإنتاج هو الوسيلة التي تخدم النظام وتوصل وسائل الإنتاج، ولو بشكل مصطنع، إلى المرحلة المطلوبة حسب المادية التاريخية المبتدعة لتبرير هذا النظام، ولذا، فإن العامل من الناحية النظرية فقط، له الحق من الإنتاج بمقدار ما منحه بعمله من فرق في القيمة التبادلية الجديدة، شأنه في ذلك شأن بقية وسائل الإنتاج. أما من الناحية العملية، فإن نصيبه الفعلي قد انخفض إلى مستوى أدنى بكثير مما حصل عليه العامل من أجر في النظام الرأسمالي، وانفرد الحكام بالقيمة وفرق القيمة معاً.

ولذا، فلا فرق بين النظامين في الواقع، فرأس المال الخاص ينتخب رجال الحكم والحكام في النظام الرأسمالي، الذين يشتركون معه في الربح على حساب العمل والعمال، ويختص رجال الحكم في النظام الماركسي برأس المال ووسائل الإنتاج ليثروا على حساب العمل والعمال.

أما مركز الإنسان في الإسلام، فهومركز الغاية لا الوسيلة، فليس هو في مركز الوسائل المادية لتوزيع الثروة بين الإنسان وتلك الوسائل، بل إن الوسائل المادية تعتبر خادمة للإنسان في إنجاز عملية الإنتاج، لأن عملية الإنتاج هي نفسها لأجل الإنسان.وبذلك يختلف نصيبه عن نصيب الوسائل المذكورة. فهو وحده صاحب الحق في الإنتاج. بينما تتقاضى الوسائل المادية، ويتقاضى رأس المال مكافأة من الإنسان المنتج، بوصفها خادمة له.

ولابد من خلال النتائج التي آلت إليها التطبيقات للمذهبين الاقتصاديين الدوليين اللذين شملا العالم خلال مدة نصف قرن، لابد أن نشك في أن المشاكل التي تصدى لها المذهبان، كان المراد منها رعاية حقوق الإنسان، بل على العكس محاربة الإنسان في كل مكان، لأن الحلول المطروحة قد أدت إلى استفحال المشاكل الحقيقية، وخلق مشاكل جديدة سدت أمام الشعوب كل حق بالحياة في العالم أجمع، وليس فقط في موطنهما بالذات.

فالسؤال الذي يتحتم علينا أن نجيب عليه بعد دراسة هذين النظامين هو إذاً:

هل كانت المادية التاريخية المبتدعة، ووسائل الإنتاج المصطنعة، والطبقية التي أبيدت لتحل محلها الطبقية التي خلقت، من جهة النظام الماركسي؛ وقوانين العرض والطلب، والحرية المطلقة من عقالها بلا حدود، وتطوير وسائل الإنتاج لتحل محل الإنسان وتكثر من الإنتاج، من جهة النظام الحر، هل كانت بالفعل الحلول الحقيقية الناجعة لمشاكلهم في موطنهم بالذات، قبل أن تصبح الترياق في كل مكان...؟!…

فالمادية التاريخية: التي اتخذت صفة العلم في النظام الماركسي تفسر أوضاع الأمم السياسية والتاريخية والثقافية والحضارية من خلال تطور وسائل الإنتاج، علماً بأن التاريخ يشهد على أن المجتمعات التي سبقت العصر الحديث في الوجود، كانت متقاربة جداً في وسائل الإنتاج، ومع ذلك، فقد كانت تختلف اختلافاً كبيراً في مستوياتها العلمية والفكرية والحضارية، فشتان بين المجتمع الأوروبي في القرون الوسطى المظلمه، وبين المجتمعات الإسلامية وحضاراتها الرائعة في الأندلس، والعراق،ومصر... الخ في ذلك الحين.

ووسائل الإنتاج نفسها، كان قد أجري عليها التغيير بشكل مصطنع، بعد الثورة لكي تصل إلى المرحلة المطلوبة للإيديولوجية الماركسية، إذ أن وسائل الإنتاج في روسيا مثلاً، لم تكن قبل الثورة الاشتراكية لتبلغ الدرجة التي حددتها النظرية لا مكان التحول المطلوب واندلاع الثورة العمالية. فقد كانت في مؤخرة الدول الأوروبية من الناحية الصناعية. وعلى العكس، فقد كانت تلك القوى في مرحلة القمة من تطورها في كل من فرنسا وبريطانيا وألمانيا. ومع ذلك، فهذه البلدان كانت وبقيت أبعد ما تكون عن التحول العلمي الإجباري المطلوب للمادية التاريخية.

أما الطبقية التي دثرت بحجة الظلم والتعسف، لتحل محلها الطبقة الأرحم والأعدل، والأدهي التي خلقت، فإن الاستيلاء على وسائل الإنتاج من طبقة كانت تنتج وتغذي الشعب والخزينة بالحاجات الضرورية، وتسليمها إلى طبقة أخرى هي، بالأصل، لا تملك ذات المؤهلات لإدارة عجلة الإنتاج، لم يقض على التركيب الطبقي بل خلق تركيباً من نوع آخر، وإن الإمكانيات والصلاحيات التي تمتعت بها الطبقة الجديدة تفوق سائر الإمكانيات التي حصلت عليها أكثر الطبقات ظلماً على مر التاريخ. وسمح لها النظام أن تتمتع وحدها بالمحتوى الحقيقي للملكية الجماعية لوسائل الإنتاج، وحصلت على نفس الفرص التي كان الرأسماليون والاحتكاريون يتمتعون بها، كما أصبحت، أقدر من أي رأسمالي على سرقة فرق القيمة في الإنتاج، والاستئثار بها، دون أن يجرؤ أي لسان أو قلم على انتقادها، إذ كمت الأفواه، وقيدت حرية الفكر والإصلاح.

وهذا ما يفسر الفروق الشاسعة بين ثرواتها الضخمة التي راكمتها، وحالات الضيق والحرمان وفقدان المواد الغذائية الرئيسية التي عانى منها السكان، بل والأزمة الاقتصادية العصيبة التي أتت على النظام في أوائل التسعينات.

كل هذا، وهذا غيض من فيض، يجعلنا نشك بأن المشاكل التي طرحها هذا النظام، والحلول التي طبقها كانت لتخليص الشعوب من ظلم القيصرية وتأمين الحقوق لها والعدل والأمان، ناهيك عن جدواها لمشاكل شعوب العالم قاطبة بعد تدويلها والتي لا ناقة لها ولا جمل بالقيصرية ولا بالمادية التاريخيةووسائلها الإنتاجية - أو سواها من المشاكل المبتدعة.

فقادة التجربة الماركسية الجدد الذين زعموا أنهم يرغبون خلق الجنة الشيوعية الموعودة للشعوب على الأرض بدلاً لجنة الله في السماء، كانوا قد قضوا على قادة الثورة الحقيقيين ورؤوسها المفكرة عشية نجاح الثورة، فقاموا بعمليات تطهير ما يزيد على مليونين من أعضاء الحزب عام 1939 من أصل مليونين ونصف، عدا الوزراء وكافة ضباط الجيش.

كما جردوا الفلاحين المالكين من وسائل إنتاجهم (1928-1930). لأنهم يعتبرون الزراعة تخلفاً، وبوسائل وحشية يندى لها الجبين، راح ضحيتها مائة ألف قتيل، باعتراف التقارير الشيوعية ذاتها، وأضعاف هذا العدد حسب تقرير أعدائها، اتبعوها بالمجاعة الفاحشة (1932)، التي راح ضحيتها ستة ملايين نسمة، وذلك باعتراف الحكومة نفسها.

وهكذا، فقد سقط هذا النظام، ولم يبلغ من العمر نصف قرن، ذلك لأن معدّته لم تعد تهضم صناعة الحديد والصلب، في وقت لجأت معه أمريكا إلى استعمال سلاح الغذاء الأشد مضاءً من كافة ترسانته النووية. سقط وبأيدي قادته الجدد وطليعته المزعومة، ليتربعوا -هم أنفسهم- على عرش ماتلاه من أسوأ نظام يدعي الحرية والديموقراطية، ودون أن يرتفع فيه صوت واحد يعلن الاحتجاج.

وإذا ما أفاد المذهب الماركسي في شيء، فإنه مما لاشك فيه قد أفاد المذهب الحر في البلدان الصناعية ذاتها، وجعلها تغدق بعطاءاتها على العمال لتسد الطريق الذي يمكن أن تنفذ منه الشيوعية. وما أن زال خطر ثورة العمال المرتقبه بزوال خطر الشيوعية نفسها في موطنها بالذات، حتى كشرت الحقبة المسيطرة على القطاعات الإنتاجية الرأسمالية عن أنيابها، وأخذت بتشليح العمال الضمانات الاجتماعية التي منحهم إياها النظام، وتفننت بألوان التسريح التعسفي، والأدوات التكنولوجية الحديثة التي تستغني أكثر فأكثر عن العمال (فالتكنولوجيا الحديثة المتطورة هي بالدرجة الأولى، ذات هدف سياسي، الغاية منه تقليص دور العمال وحجمهم وسرقة حقوقهم).

وفي روسيا الديمقراطية الحالية بالذات، تطالعنا آخر المآسي من "عمال بلا أجور"، و"متقاعدين دون تقاعد"، و"ضباط بلا رواتب"، وعاطلين عن العمل تتجاوز نسبتهم العاملين، مع تفشي الجرائم والصراعات من شتى الأنواع: من صراعات عرقية وعنصرية، ودينية وحياتية، في الاتحاد السوفياتي السابق، قل أن يكون لها وجود. وقد تحولت تحت تأثير نظام العولمة الجديد إلى حروب ضد الطبقة العاملة نفسها،، جعلت ميخائيل كورباتشوف يسير في جنازة شعبه نائحاً، بعد أن سدد له الطعنة المميتة في فندق "الفير مونت" في سان فرانسيسكو عام 1995 عندما سئل:

"هل سيتحول العالم بأجمعه إلى برازيل كبيرة، أعني إلى دول تسودها اللا مساواة، مع وجود أحياء مقفلة تسكنها النخب الثرية؟"...

فأجاب: "إنكم بهذا السؤال تطرحون لب المشكلة على بساط البحث، إنها لحقيقة أن روسيا نفسها ستصبح على شاكلة البرازيل...".

في الواقع، لقد تحول العالم أجمع إلى برزايل كبيرة، إلا أن هذا لا يعني أن الأسلاك الشائكة، والأجهزة الإلكترونية، وكاميرات الليل والنهار سوف تحمي إلى ما لا نهاية هذه القلة الضئيلة من الأثرياء المحدثين من الطوفان السكاني المتصاعد من الجائعين والمحرومين والمغتصبة حقوقهم، فثورة الجائعين لا ترحم.

أما نظام الحرية المطلقة دون حدود، والذي تبنته أمريكا، فقد اتخذ في صراعه مع النظام المغتصب للحرية إلى أبعد الحدود، لتدويل نظامه، طرح مشاكل وحلول أكثر دهاءً وخبثاً ومضاءً. لقد استغل الحربين العالميتين بعدم اشتراكه الظاهري فيهما، وقد يكون هو نفسه قد أشعل فتيلتهما، فزودهما بالسلاح والعتاد والغذاء والجواسيس، واستطاع بذلك أن يحسم نتيجة الحربين لصالحه، استراتيجياً، واقتصادياً، وعسكرياً، ومالياً. وبينما خرج الجميع من الحربين منهارين على كافة الأصعدة، خرج وحده متخماً بالأموال والمنتجات على اختلاف أنواعها، ولابد له من أسواق لها. فشرع بنشر مظلته الإنسانية، مبتدئاً بتقديم مساعداته المالية لإعمار ما خربته الحروب، ومنها مشروع "مارشال" لإعمار أوروبا، الذي أدى في الواقع، إلى سيطرة شركاته الكبيرة الأم على الاقتصاد الأوروبي ذاته، وخلق شركات أوروبية فروعاً لها ملحقه به.

كما هب لمساعدة بلدان العالم الثالث على تخليصها من الاستعمار السياسي الأوروبي -حسب زعمه- ليحل في أسواقها استعماره الاقتصادي والاجتماعي والثقافي والعلمي والمالي، باسم التطور والازدهار ومحاربة الفقر والحرمان. وهكذا فقد عانت هذه البلدان من التأرجح، خلال مدة تزيد على النصف قرن، بين أيدي القائمين على النظام الحر الرأسمالي من جهة والنظام الماركسي من جهة أخرى، مع كل ما تلا ذلك من أشكال الانقلابات في البنيات الاقتصادية، والاجتماعية، والسياسية والعلمية والثقافية.. الخ. من وقت لآخر، حسب النظام، فلم تعد الشعوب تدري ماهي، وماهي هويتها، وماذا تريد...!..

ومن استعراض المشاكل والحلول التي طرحها النظام المذكور، وفرضها على العالم أجمع، والنتائج التي آلت إليها نرى:

أنه نادى بنظام الحرية المطلقة من كل حدود، معتبراً أن مصلحة الفرد دون رقابة ولا توجيه، تتوافق مع مصالح المجتمع، وأنها أكبر قوة دافعة لزيادة الإنتاج ومضاعفة الثروة الاجتماعية، وأنها أفضل ضامن لتحقيق إنسانية الإنسان وكرامته الشخصية...!.

إن النتائج التي آلى إليها تطبيق نظام الحرية المطلقة المذكور، تحرر الإنسان من كل الروابط الاجتماعية والأخلاقية والدينية والحضارية والإنسانية...الخ.فيما عدا المادية... إنها تفترض أن كل إنسان على وجه الأرض هو في قرارة نفسه إنسان اقتصادي مادي فردي وجشع كالإنسان الأمريكي، ليس له إلا هدف واحد في الحياة هو المصلحة المادية. إن هذه القاعدة -في الحقيقة- لا تنطبق إلا على المجتمع الأوروبي نفسه الذي غزا أمريكا وأباد شعبها الأصيل بكافة صنوفه الوحشية المادية المستمدة من طابعه الفكري والروحي، ومقاييسه الخلقية والعملية من الجبروت والتسلط والاستهتار بكل إنسان، وتلاه الصهاينة، المتمرسون على يده، في إبادة الشعب الفلسطيني وتشريده طاعة لحكم إلههم المزعوم -كما يدعون-.

إلا أنه من خلال الاستعمار الثقافي وغسل الأدمغة الدائم لكافة شعوب العالم عن طريق التطوير المفروض، سرت هذه المعايير إلى كل ركن من أركان المعمورة. فقوانين الأقطاب الكلاسيكيين الأوائل. والكلاسيكيين الجدد، والتي تقضي بتخصيص العامل بجزء من الإنتاج يكفي فقط لقيمة المواد الغذائية الرئيسية القادرةعلى إعاشته للاحتفاظ بقواه اللازمة للعمل، لم تقتصر فقط على العامل الأمريكي، وتجعل ما يزيد على أربع، أخماس الطبقة العاملة لا تتوصل حتى للكفاف في معيشتها، بل سرت بسرعة البرق إلى كل جزء من أجزاء المعمورة، وحتى للبلدان الاشتراكية بالذات قبل سقوطها، والتي ينادي مذهبها بحق العامل بأكبر حصة من الإنتاج (فرق القيمة)، كما ذكرنا.

لقد أصبح اليوم حديث التوافق بين المصالح العامة والمصالح الفردية، في ظل الحرية المطلقة، أدعى للسخرية منه للقبول. فالمنافسة الحرة من كل قيد لم تؤد -في الواقع- إلى إشباع الحاجات الإنسانية بأقل نفقة، بل -على العكس- إلى تخفيض نفقات الإنتاج عن طريق سرقة أجور العمال، فعلى سبيل المثال: إن أمريكا، أكثر بلدان العالم إنتاجية وثراء في الوقت الحاضر، أصبحت أكثر اقتصاديات العالم رخصاً للأجور وسلباً لحقوق العمال، وتسريحاً لهم، دون حق أوضمان. وهذا لايعني أن المجتمع الأمريكي هو الأفقر، كما ذكرنا، إذ لم يسبق أبداً أن حازت أمريكا، في ظل نظام العولمة الجديد، الذي تستغل فيه ثروات العالم أجمع، على ما بحوزتها اليوم من الثروة والدخول.

إلا أن المشكلة تكمن فقط في أن هذه الثروة والدخول، تنحصر فقط بالخمس الثري فقط من الأمريكان. وحتى في إطار هذه الفئة، فالدخل يتوزع بشكل متفاوت للغاية، فواحد بالمائة من أغنى الأغنياء (أي حوالي نصف مليون أمريكي)، يملكون اليوم ثلث الثروة التي هي من حق جميع السكان، ويحصل غالبية المديرين على رواتب زادت بمعدل 250% خلال سبع سنوات، في الوقت الذي انخفضت فيه القوة الشرائية لبقية العاملين بين 11 و25% حسب الفئات. وما ذلك إلا إكراماً للمديرين المذكورين لجهودهم المبذولة في الوصول إلى تخفيض تكاليف الإنتاج عن طريق سرقة العمال مهما كانت الوسائل.

وكما قال (لسترثارو): "إن بوسع المرء أن يدعي أن مَنْ في أمريكا من رأسماليين قد أعلنوا الحرب على عمالهم، وأنهم قد فازوا فيها"...

في الواقع، إننا نعيش فترة الثورة المضادة على العمال في جميع بلدان العالم دون أن يتوصلوا -هم أنفسهم- إلى إعلان ثورتهم...!.

أما علاقة الحرية المطلقة بتنمية الإنتاج، وسد حاجات جميع السكان، فإنني لأتساءل ماهي المشاريع التي نما إنتاجها في ظل الاستهتار بالقيم الإنسانية والأخلاقية، والألوان التي لا حد لها من الجشع والطمع؟ إنها –بدون شك- المشاريع التي تكتلت وحطمت غيرها من المشاريع الصغيرة والمتوسطة (دون حاجة إلى تأميم)، وقضت على كل لون من ألوان التزاحم الشريف، عن طريق الاحتكار. كما أن الزيادة في الإنتاج لم تقترن بانخفاض الأسعار لتسد حاجات جميع السكان، لفقدان المزاحمة، بل على العكس، فقد خفضت القوة الشرائية للقوة العاملة إلى أدنى المستويات، لدرجة اضطرت القسم الأكبر من العمال إلى العمل في عدة مجالات لتغطية نفقات عائلاتهم، وحرمتهم من المتعة والراحة العائلية حتى أيام العطل والأعياد.

والأدهى من ذلك، اعتبار الحرية المطلقة تعبيراً عن الكرامة الإنسانية...!

وهنا أيضاً لابد من التساؤل عمن طالتهم هذه الحرية، وهذه الكرامة الإنسانية؟ لقد انحصر حق الحرية والديمقراطية المزعومة قطعاً، في حرية قبضة من الأمريكان الصهاينة، وأتباعهم وأذنابهم في كل مكان: من مجرمين، وقطاع طرق،ومضاربين، وتجار جنس، وخاطفين للأطفال، والشبان، من فتيان وفتيات، وتجار الدم الفاسد الملوث بجراثيم الإيدز، ومهربي المخدرات، والمتجولين في الملوثات المبيدة للجنس البشري، ومفجري الحروب، وبائعي الأسلحة، وزارعي المتفجرات...!.

فهؤلاء هم الذين يملكون في الوقت الحاضر، القسم الأكبر من الثروة، ويتحكمون بحياة الشعوب ومصيرهم، وهم أصحاب الكرامات، وأصحاب الحق في الحياة وهم دعاة حقوق الإنسان، والذين يصلبون الإنسان في كل مكان....

ومن أبرز تناقضات هذا النظام بأنه يرتكز -بالدرجة الأولى- على زيادة الاستهلاك لتسريع جملة الإنتاج -وإذا به يقضي على مستهلكيه بالذات، ويراكم الإنتاج ليفسد في مخازنه ومستودعاته، وكأن زيادة الإنتاج هي للإنتاج بالذات فإلى متى سيعيش هذا النظام؟!….

مما لاشك فيه أن المبالغة في التطرف التي وصل إليها هذا النظام، سوف تقضي على النظام ذاته بذاته، فبذور انحلاله أخذت تترعرع فيه، وهاهي الأنظمة المتفرعة عنه تتساقط تباعاً، فلجوء المرابين إلى المضاربات بالأسهم والعملات بدلاً عن الإنتاج لكسادة وللحصول علىأرباح ولو بالقيود أدى إلى الانفجار الرهيب لفقاعاتها منذ عام 1997، ابتداءً من النمور الآسيوية، إلى الأعجوبة اليابانية إلى كبريات الدول الاشتراكية منذ أن بزغ فيها أول شعاع من الحرية، فدول أمريكا اللاتينية والبترولية، والبقية تأتي...

كما أن عام 1999 يحمل في طياته الأخطار المرتقبة والانهيارات المتوقعة لبداية القرن المقبل في كل من أمريكا وأوروبا بالذات، والذي تحاول الكتلتان الحاليتان معالجته، في الوقت الحاضر -عن طريق الحروب الطاحنة بكافة أنواع الأسلحة، للهدم، وإعادة إنتاج الأسلحة وإعادة البناء... إنها -في الواقع- بذور الانحلال التي سوف تقضي على هذا النظام، ولم تعد تنتظر الإمهال...

فما هو البديل إذاً...؟

مما لاشك فيه أنه لا يوجد ثمة بديل واحد ناجع للعالم أجمع، وإلا فإننا سنقع، بأخطاء النظامين السابقين نفسها. بل هناك لكل شعب بديل ولكل حضارة بديل... وإذا كنت أرى أن الإسلام الذي أثبت خلال قرون عديدة أنه خير نظام أخرج للناس، وخير من خلص الشعوب التي خضعت لامبراطوريته الممتدة شرقاًوغرباً وشمالاً وجنوباً من الظلم والفقر والحرمان، ودفعها إلى استثمار خيرات بلادها بذاتها ولذاتها، وحسب طاقاتها وعلومها وثقافاتها وحضاراتها دون أن يزيلها، بل زاد عليها، وزود النفوس من الداخل بوقود من المميزات الحسنة التي اختارها الله لبني الإنسان، وشذبها من الشرور العالقة فيها، والتي تأتمر فيها نفس الإنسان، وحثها على أن تسعى جاهدة لاكتشاف المزيد من خيرات الله فتأكل من رزقه وتقاسم المحرومين والعاجزين عن العمل في حقهم بثروات الله.. إذا كنت أرى ذلك، فإنني لأتساءل هل ترك النظامان الجائران أي مجال أو خيار للحاكمين والمحكومين لتطبيق تعاليم الإسلام في بلاد الإسلام بالذات....؟

فما هو الإسلام؟

الإسلام ثورة تختلف اختلافاً جذرياً عن النظامين السابقين.

يعتقد المفكرون الغربيون، ومن يجري في إثرهم من المستغربين العرب والمسلمين، أن الإسلام هو عبارة عن دين وليس باقتصاد، عقيدة، وليس بنهج للحياة، علاقة بين العبد وربه، وليس أساساً لثورة اجتماعية اقتصادية لخير الإنسانية جمعاء.

لقد غاب عن خلدهم أن الإسلام، هو ثورة حقيقية لا تنفصل فيها الحياة عن الإيمان، وأن المفهوم الروحي يشكل جزءاً لا يتجزأ من المفهوم الاقتصادي والاجتماعي "لأن الله غني عن العالمين"... و"وما أرسلناك إلا رحمةً بالعالمين"...

ففي الوقت الذي يحرر فيه الإنسان من كل شكل من أشكال العبودية لغير الله، يحرر فيه الثروات الطبيعية من كل نوع من أنواع الملكيات ما عدا الله. وهنا يربط الإمام علي كرم الله وجهه بين هذين المفهومين بقوله: "إن العبيد هم عبيدالله، وإن الثروات هي ثروات الله".

من هنا، فقد ناضل النبي(ص) في الإسلام، كما ناضل كافة الأنبياء في بقية الأديان نضالاً ثورياً ضد كل شكل من أشكال الظلم والعبودية والاستغلال. وكما ثاروا لتحرير الإنسان من الداخل من العبودية لغير الله، فقد جاهدوا لتحرير الأرض وثرواتها من المستغلين من الخارج والداخل، ولقب التحرير الأول "الجهاد الأكبر"، والثاني: "الجهاد الأصغر"..

وفي الوقت الذي حرر فيه الإنسان من الاستغلال الخارجي، حرره من داخله من ينابيع الاستغلال للغير الكامنة فيه، وذلك بتغيير مفهوم العالم والحياة بالنسبة إليه.

فالثورة في الإسلام تختلف اختلافاً جذرياً عنها في المفهوم الغربي والشرقي على السواء. فليست في إحلال الرأسمالية محل الإقطاعية، ولا في إحلال الطبقة العاملة محل البورجوازية. أي ليس المقصود منها تغيير أسماء المستغل، وإنما محوه من جذوره، ومن نفس الإنسان بالذات (فالنفس أمارة بالسوء)، إن كفاح الأنبياء ضد الظلم والاستغلال، لم يأخذ شكل صراع الطبقات، وإنما اتخذ طابعاً إنسانياً هدفه تحرير كل إنسان من أية طبقة كان، فليس كل إقطاعي ظالماً، وليس كل غني مستغلاً، ولا كل عامل ملاكاً، ولا كل فلاح نبيلاً.

وإن بإمكان الإسلام أن يحول الجميع إلى خيرين، صالحين، ونبلاء... وبالفعل، فقد أيقظ الإسلام من النفوس، حتى الشريره، مكامنها الخيرة، والحسنة، وفجر فيها الطاقات الإبداعية، ووجهها لخير المجتمع وسعادته.

ـ إن الثوري الذي يتابع خط الأنبياء، ليس بذلك المستغل الذي يحسب أنه يستمد قيمته من امتلاك وسائل الإنتاج أو تكديس الأموال على حساب الشعوب، إنه يستمد قيمته من الجهود التي يبذلها بالتقرب من الله، ليس فقط عن طريق الصوم والصلاة، وإنما لنجاحه بمسؤولياته كخليفة الله في الأرض، أي في جهده وابتكاره ونفعه لعباد الله: "أحبهم إلى الله أنفعهم لعباده".

للهيكل العام للاقتصاد الإسلامي ثلاثة أسس رئيسية تميزه عن المذهبين السابقين التاليين:

1 ـ الملكية متنوعة ومحدودة:

يتميز الهيكل العام للاقتصاد الإسلامي باختلافه عن المذهبين السابقين، بإقراره للأشكال المختلفة للملكية بآن واحد، بدلاً من مبدأ الملكية الخاصة كقاعدة للنظام الرأسمالي، وملكية الدولة للنظام الماركسي.

فهو يقر الملكية العامة، والخاصة، وملكية الدولة.

وينطلق من قاعدة: "الملك على الأرض لله، والإنسان مستخلف فيه لمصلحة كافة عباد الله"، ويستوحي نوع الملكية من الطبيعة ذاتها للثروة الطبيعية وودرجة شموليتها لعناصر الحياة لجميع خلق الله.

فالملكية العامة: كمنابع المياه، والمراعي، والأحراش، ومصادر الطاقة...الخ..! عموماً هي كالشمس والهواء والماء، ملك لجميع مخلوقات الله. فهي ملكية مشتركة لا يجوز الاختصاص بها.

والأرض العامرة، هي ملك الخليفة ، باعتبار المنصب لا الشخص، وكذلك الأرض الميتة، أي أنها ذات طابع عام (ملك دولة)، ولا يجوز تملكها إلا بحدود العمل فيها. والعمل في الأرض يعطي العامل حق الانتفاع بالأرض فقط مادام عمله مستمراً فيها، فإذا ما توقف عن استغلالها انتزعت منه وأعطيت لغيره. فالإسلام إذاً سمح بالملكية الخاصة إلا أنه أحاطها بحدود، أي قلص منها وضغطها لتتحول إلى أداة لتحقيق الهدف وهو خلافة الله في تحمل المسؤوليات لإشباع حاجات الإنسانية المتنوعة، وليس غاية بذاتها، تطلب بوصفها تجميعاً وتكديساً شرهاً لا يرتوي ولا يشبع. قال رسول الله (ص): ليس لك من مالك إلا ما أكلت فأفنيت، ولبست فأبليت، وتصدقت فأبقيت (أبقيت أي معوض عليك)، وما سوى ذلك، فأنت ذاهب وتاركه للناس.

2 - الحرية الاقتصادية في نطاق محدود:

وكذلك، فالحرية في النظام الإسلامي محدودة أيضاً، فليست منطلقه من عقالها، كالنظام الرأسمالي، وليست مسروقة كالنظام الماركسي، والتحديد الإسلامي إما أن ينبع من أعماق النفس، ويستوحي من المحتوى الروحي والفكري للإسلام ويسمى التحديد الذاتي، أو يأتي من قوة خارجيه تحدد السلوك الاجتماعي والاقتصادي وتضبطه حسب أحكام الشريعة ويسمى التحديد الموضوعي. وقد ثبت أن التحديد الذاتي أشد مضاءً من التحديد الخارجي، وقد كانت له نتائج رائعة في تكوين طبيعة المجتمع الإسلامي، ويكفي من نتائجه أنه ظل وحده الضامن لأعمال البر والخير في المجتمع الإسلامي، بالرغم من ابتعاد المسلمين عن روح التجربة مدة قرون عديدة، فما زال عدد كبير من المسلمين يقدمون بملء حريتهم علىدفع الزكاة، والتضامن مع أخواتهم المحتاجين، سراً وجهراً حتى الآن.

لقد ثبت أن مصادرة الملكية الخاصة مخالف لفطرة الإنسان. فحيازة الأشياء من مظاهر غريزة البقاء في الإنسان،ومن طبيعة الإنسان السعي في الأرض لجمع الثروة له ولأولاده، فإذا ما انتفى هذا الهدف فقد الحافز على العمل.

كما ثبت أن إطلاق الحرية من عقالها، أدى إلى انحصارها في طبقة ضئيلة أزاحت من طريقها الطبقات الأخرى، واستأثرت وحدها بالثروات على اختلاف أنواعها، إنه مخالف أيضاً لطبيعة الإنسان، ومانع له من السعي في الأرض، وتحطيم له ولميزاته في الإبداع. فكأن الأمريكي وحده خليفة الله في الأرض، وحده المكلف بالإبداع، وحده المكلف بالإعمار، ولوحده الحق بثروات الله، وله مطلق الحرية أن يبيد ما سواه من عباد الله.

وهكذا، فالحدود التي فرضها الإسلام، والمحرمات التي منعها والمباحات التي أباحها، تنبع -في الوقت نفسه- من مصلحة الفرد ومصلحة المجتمع.

بعض المبيحات والمحرمات في الإسلام:

لقد حضّ الإسلام على تنمية الإنتاج، كالنظام الرأسمالي، إلا أنه ربطها بالتوزيع، فتنمية الثروة في الإسلام ليست غاية بذاتها، وإنما لما تحققه لأفراد الأمة من يسر ورخاء، وما توفره لهم من الشروط التي تمكنهم من الانطلاق لتحقيق مواهبهم الخيرة والإبداعية وتحقيق رسالتهم كخليفة لله في الأرض، فإن لم يفعلوا لانتزعها الله منهم (إن يشأ يذهبكم، ويستخلف من بعدكم ما يشاء).

فالتنمية إذاً، ليست للأجنبي ورؤوس أمواله ومضاربيه ومرابيه على كافة المستويات.

ولذا، فقد حرم الإسلام الربا، بوصفه أولى العقبات أمام التنمية والازدهار الاقتصادي، لكونه يحجز المال عن الإنتاج، وأنجع الوسائل لسرقة أموال الناس وتكديس الأموال دون جهد وعناء.

والبديل عنه في الإسلام هو توظيف هذه الأموال في مشروعات إنتاجية لاستثمار الثروات، وتأمين خلق فرص عمل جديدة، وزيادة الإنتاج ليتقاسم ريعه العاملون وغير العاملين من المحتاجين والمحرومين من العمل. كما أنه أكثر ضماناً لصاحب رأس المال، إذ قد يتعرض المرابي إلى خسارة الفائدة ورأس المال معاً، كما هو الحال في المضاربات المالية والإفلاسات المصرفية السائدة حالياً.

وكذلك فقد حرم كنز المال، لأنه يعني أيضاً انخفاض كمية الثروة المنتجه، ومن ثم تقليص فرص العمل وحصول البطالة، مما يزيد حالات البؤس والشقاء:

الآية: ] والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله فبشرهم بعذاب أليم[.والآية:]ويل لكل همزة لمزة....[ الخ، وهذا المنع من اكتناز المال ليس مجرد ظاهرة عرضية في التشريع الإسلامي، إنه يعبر عن أوجه الخلاف الخطير بين المذهب الإسلامي والرأسمالي. فبينما تؤيد الرأسمالية استعمال النقد للاكتناز، بالإضافة إلى دوره كمقياس للقيمة وأداة للتداول، وتشجع عليه بنظام الفائدة، يحاربه الإسلام بفرض ضريبة على المال المكتنز (الزكاة). وجاء في الحديث عن الإمام جعفر بن الصادق: "إنما الله أعطاكم هذه الفضول من الأموال لتوجهوها حيث وجهها الله، ولم يعطكموها لتكنزوها..".

ومن مضار كنز المال الاقتصادية أن تجميع الثروات في أيدي الأفراد دون استثمارها يؤدي إلى زيادة البؤس والحاجة لدى الأغلبية العظمى من الشعب فتتوقف عن الاستهلاك، فتتكدس المنتجات دون تصريف ويسيطر الكساد على الصناعة والتجارة، فتعم الإفلاسات مختلف النشاطات الاقتصادية ويتوقف الإنتاج، وتستفحل المجاعات، كما في المعادلة التالية:

انخفاض الاستهلاك= كساد= توقف عن الإنتاج= إفلاس= زيادة بطاله= مجاعة...

وحض الإسلام على الاكتفاء الذاتي، ونهى عن التبعية الاقتصادية في المأكل والملبس، وهي ما فرضه النظام الرأسمالي على كافة شعوب العالم:

"لا خير في أمة لا تأكل مما تنتج، ولا تلبس مما تصنع"..

فهو يحصن الأمة من الوقوع تحت رحمة غيرها من الاستعمار الغذائي، الذي هو أشد مضاءً من كافة أنواع الاستعمار، ويحميها من حالات وقوع الكوارث لدى الطرف الآخر فيتوقف عن تغذيتها...

كما حض الإسلام على توجيه المال للإنتاج أكثر منه للاستهلاك، على عكس المجتمع الاستهلاكي، فيأكل الإنسان بذلك من إنتاجه وليس من رأس ماله، فيستفيد ويفيد المجتمع معه.

وحرم المخاطرة كالقمار، لأن الكسب فيه لا يقوم على عمل، ويعرض الفرد وعائلته، ومن ثم المجتمع من خلفه إلى الانحلال.

ومنع إنتاج المواد الضارة والمحرمة وذات التكاليف الباهظة المبددة للثروة، ونهى عن التقتير والإسراف. ويكفي أن نعلم حجم المليارات من الدولارات التي تتفق حالياً على مباريات الكرة وحدها في العالم، في الوقت الذي تموت فيه الملايين من الجوع كل عام، بالإضافة إلىمايبدده المجتمع الاستهلاكي من ثروات الطبيعة ليكدسها، في جبال شاهقة من المزابل، أفسدت الأرض والسماء والبحار والأنهار.

ولذا، فقد حذر الإسلام من العبث في الأرض، وإفساد الطبيعة قبل أن تفسد في الوقت الحاضر: الآية: "ظهر الفساد في البر والبحر بماكسبت أيدي الناس ليذيقهم بعض الذي عملوا لعلهم يرجعون"(صورة الروم-41).

والفساد في البر والبحر هو ما نعيشه الآن من التلوث في الطبيعة، وهو نتيجة لغطرسة الإنسان وجبروته واستهتاره بقوانين الطبيعة، واعتقاده مشاركة الإله في ألوهيته، وهو من آيات الله ليريهم نتيجة ما عملوا لعلهم يرتدعون.

ولذا فقد حض الإسلام على ضرورة المحافظة على التوازن في الطبيعة:

مراعاة لقوانينها، وذلك قبل قرون عديدة من علماء العصر الحاضر...

الآية: ]الأرض مددناها، وألقينا فيها رواسي، وأنبتنا فيها من كل شيءٍ موزون، لكم فيها معايش، ومن لستم له برازقين[.

والآية :]وإن من شيء إلا وعندنا خزائنه، وما ننزله إلا بقدر ٍمعلوم[.

(سورة الحجر 19-20)

وكلنا يعلم أن التنافس المستشري على الثروة في النظام الحر، ونضح الموارد الطبيعية بنهم، قد أنهك هذه الكرة الأرضية، وأربك توازنها. فالهزات الأرضية المتوالية، وتعاقب حالات الفيضانات واليباس، والانهيارات الأرضية والجبلية والجليدية، والعواصف والأعاصير المتلاحقة، تشمل الكرة الأرضية بأجمعها، وهي مثال صارخ على اختلال التوازن في الطبيعة.

ولذا، تقرر القاعدة الفقهية الشهيرة أن "لا ضرر ولا ضرار". فحرية الفرد محدودة بمصلحة المجتمع والعالم أجمع.

من كل ما تقدم، وهذا غيض من فيض، نرى أن الملكية العامة تشمل القسم الأكبر من ثروات الطبيعة، وهي كملك الله، بالإضافة إلى الملكية الخاصة المحدودة بمصالح المجتمع، تضمن تطبيق العدالة الاجتماعية في الإسلام.

3 ـ العدالة الاجتماعية:

وهي تعني حق جميع الناس، العاملين منهم والمحرومين من العمل، والفقراء والمحتاجين بأخذ نصيبهم من موارد الطبيعة، وخيراتها التي خلقها الله لعباده، وحقهم بالحياة الكريمة اللائقة كبشر.

ويرتكز الضمان الاجتماعي في الإسلام على أساسين:

ـ الأول: التكافل العام بين أفراد المجتمع.

ـ الثاني: حق الجماعة على الدولة في تأمين الضمان الاجتماعي وفرص العمل للجميع. فالأول مفروض على الأفراد فيما بينهم، ]إن في أموالكم حقٌّ معلوم، للسائل والمحروم[، ]كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته[، أي تعتبر هذه القاعدة جميع العاملين والمستثمرين لخيرات الله بمنزلة الحاكم المسؤول عن الرعية في إشباع الحاجات الضرورية للمحتاجين، عن طريق الزكاة.

وإنها حق لهم وليست هبة أو صدقة.

ـ والثاني يفرض على الحاكم أن يؤمن العمل لمن ليس له عمل، والحياة الكريمة لمن لا يقدر على العمل"الإمام راع وهو مسؤول عن رعيته".

وإذا كانت الزكاة هي وسيلة التكافل بين الأفراد، فإن إقطاع الأراضي غير المستثمرة وتقديمها هي وسيلة الحاكم. أي أن الإسلام يلزم الحاكم بتقديم مساعدته من أملاك الدولة، كمساعدة للعمل والإنتاج، لا للاستهلاك فقط، فيحقق بذلك الفائدة للفرد والمجتمع بآن واحد.

وذهب هذا التضامن إلى درجة جعلت للجائع، الحق على مال المجتمع كما لو أنه ليس ملكاً لأحد:

"إذا بات مؤمن جائعاً، فلا مال لأحد".

ولذا، فعلى الدولة أو الحاكم أن تضمن للعاجز عن العمل حقه في ثروات الله باعتباره من مخلوقات الله التي تكفل بها سبحانه وتعالى:

قال (ص): "من ترك مالاً فلورثته، ومن ترك كلاًّ فإلينا"..

والكل هو الضعيف...

وجعل الإسلام من تخلف الحاكم عن القيام بهذا الواجب، أن تحجب الرعية عن طاعته: "إن الله استخلفنا على عباده لنسد جوعتهم، ونوفر لهم أمنهم، فإن لم نفعل، فلا طاعة لنا عليهم... عن الخليفة عمر بن الخطاب.

ولا يختص هذا الحق بالمسلم فقط من المحتاجين، وإنما يشملهم إلى الذمي أيضاً" فكلهم عباد الله، والله رؤوف بالعباد". من كل دين وكل طائفة وكل مذهب وكل عرق أو لون...

ويمتد هذا الحق، وهذه المسؤولية حتى إلى الشاة الجائعة:

"إن كان في أقصى المدينة شاة جائعة، لكان عمر المسؤول عنها".

ولا تقتصر مسؤولية الدولة أو الحاكم بضمان الحاجات الأساسية فقط، للمحتاجين، بل تعدتها إلى الحاجات الكمالية أيضاً:

عن الإمام الصادق: "إن الله فرض في مال الأغنياء ما يسعهم، ولو علم أن ذلك لا يسعهم لزادهم".

وبفضل هذه العدالة الاجتماعية ازداد الشعور بالمسؤولية لدى المسلمين، وأقبلوا على الإنتاج والإبداع وتسابقوا إلى عمل الخير بشغف دون إكراه أو إرغام، لدرجة قلما كان يوجد في بعض المناطق من يستحق الزكاة.

وهكذا، فقد لعب الدين دوراً هاماً في التوفيق بين الدوافع الذاتية والمصالح الاجتماعية، مما لم يتمكن المذهب الماركسي العلماني من الوصول إليه عن طريق القوة وسلب الملكية، ولا المذهب الرأسمالي من إيقاف الدوافع الذاتية عند حدها دون دافع ديني. فالمكلف بالضريبة في النظام الرأسمالي يلجأ إلى التهرب منها بكافة الوسائل، إذ يرى فيها خسارة حقيقية غير معوضه، فلا خلود لغير المال ولا سعادة بغيره.

من كل ذلك إنني لم آت بشيء جديد، فقد أسهب العلماء والفقهاء في بيانه إلا أن السؤال الذي أطرحه بصفتي اقتصادية هو:

لماذا جعل الله للسائل والمحروم والعاجزين عن العمل... الخ. حقاً في مال الأغنياء، وليس مجرد هبة أو صدقة؟....

فالزكاة، أهم مورد يغذي بيت المسلمين، هي من أهم وسائل الضمان الاجتماعي لقيمتها، ليس فقط الاجتماعية والإنسانية، وإنما الاقتصاديه أيضاً. وتقدر بربع العشر من المال المدخر،وتهبط إلى عشرين ديناراً.

(حسب القوة الشرائية آنذاك).

وأصحاب الحق في الزكاة هم حسب قوله تعالى:

]إنما الصدقات للفقراء والمساكين والعاملين عليها، والمؤلفة قلوبهم وفي الرقاب، والغارمين وفي سبيل الله وابن السبيل[(التوبة /60/).

ـ كما تتوجب في حالة حصول خلل في التوازن الاقتصادي.

"حتى لا تكون دولة بين الأغنياء منكم".

كما هو الحال في الوقت الحاضر. فرأس المال يمسك زمام الحكم في كل مكان.

ـ كما تعتبر ضريبة تمنع تمركز الثروة بأيدي ضئيلة تجردها عن الاستثمار. فهي بمثابة مصادرة تدريجية للمال المجمد وإدخاله في حوزة النشاط الاقتصادي. ولئلا تخلد الناس إلى الكسل والتواكل على الغير، فقد حض الإسلام على العمل في كسب الرزق، وجعل: "اليد العليا خير من اليد السفلى".

"هو أنشأكم من الأرض واستعمركم فيها"، أي كلفكم بإعمارها.وجعل العمل سبباً لتملك الأرض: "من أحيا أرضاً فهي له"..

وحض في الوقت نفسه على العلم وجعله توأماً للعمل:

"العلم والعمل توأمان"، لكي يستفيد العلم من خبرة العمل، ويستفيد العمل من صحة العلم.وجعل العلماء بمثابة الأنبياء.

فللزكاة، مما لاشك فيه، منافع اقتصادية عديدة، ولكن لماذا جعلها الله حقاً للسائل والمحروم... الخ... وليست هبة أوصدقة؟.. بقوله تعالى: ]إوالذين في أموالهم حقٌّ معلوم للسائل والمحروم[...

والجواب على ذلك يكمن -على ما أعتقد في الآيتين الكريمتين التاليتين:

ـ ]الله الذي خلق السموات والأرض وأنزل من السماء ماء فأخرج به من الثمرات رزقاً لكم، وسخر لكم الفلك لتجري في البحر بأمره، وسخر لكم الأنهار، وآتاكم من كل ما سألتموه، وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها، إن الإنسان لظلوم كفار[.

ـ ]وآتوهم من مال الله الذي آتاكم[..

أي أن الله سبحانه وتعالى الذي خلق جميع الكائنات على وجه الأرض، خلق لهم فيها مايكفيهم جميعاً. وإن ما على سطح الأرض ومافي جوفها وسمائها هو ملك لله وحده، ومخصص لجميع عباد الله. وما الإنسان العامل إلا مستخلف من قبل الله لاستثمار خيراته. فالامتناع، عن استغلالها أو المنع من ذلك، يحول دون الوصول إلى مرتبة خليفة الله.

أما العاجزون عن العمل والمحرومون منه، والبؤساء.. الخ، منهم أيضاً عبادالله، ولهم نصيبهم مما خلق الله، فهو خالقهم وكافلهم أيضاً.

وتبدو نعمة الله تعالى على الإنسان في زراعة الأرض، على سبيل المثال، بتقديم التربة الصالحة للزراعة، والمواد العضوية التي يحتاجها البذار للإنبات، بل والبذرة الأولى، والشجرة الأولى، والماء الذي يهبط من السماء أو ينبع من الأرض، والشمس التي تؤدي إلى عملية الإنضاج، والرياح للإلقاح... إلى آخر ما هناك مما نعلم وما لا نعلم: فهذه كلها حصل عليها الزارع هبة من عند الله وهي لعباده كافة.

كما أن النحل، ليس بحاجة لأي جهد من الإنسان في صنع العسل فكله من عند الله.

وبينما لا يصيب التوزيع الحالي من الإنتاج، سوى المالكين للأرض ورأس المال وأدوات الإنتاج، ويعطي أجراً للعامل فقط، فالإسلام يصيب بالتوزيع من الإنتاج نفسه بالدرجة الأولى العامل، والمحرومين من العمل، ولا يعطي رأس المال وأدوات الإنتاج إلا أجراً فقط.

فالمحروم من العمل له الحق إذاً بحصته من وسائل الإنتاج الإلهية المخصصة لجميع عباد الله، لعظم أهميتها في عملية الإنتاج، واستحالة الإنتاج بدونها. وقس على ذلك في استخراج البترول، والحديد، والذهب، وكافة الفعاليات الإنتاجية.

هذا، وختاماً للمقارنة، بينما يقول "آرثر يونج"، في القرن الثامن عشر: لا يجهلن سوى الأبله، إن الطبقات الدنيا يجب أن تظل فقيرة وإلا فإنها لن تكون مجتهدة".

ويقول القرن التاسع عشر: "ليس للذي يولد في عالم تم امتلاكه حق في الغذاء، إذا تعثر عليه الظفر بوسائل عيشه عن طريق عمله، أو أهله، فهو طفيلي على المجتمع، ولا لزوم لوجوده، فليس له على خوان الطبيعة مكان، والطبيعة تأمره بالذهاب (مالتوك)؛ يقول الإسلام قبل هؤلاء بألف عام: "إن الفقر والحرمان ليس نابعاً من الطبيعة نفسها، وإنما هو نتيجة سوء التوزيع والانحراف عن العلاقات الصالحة التي تربط الأغنياء بالفقراء"، فيقول الإمام علي كرم الله وجهه:"ماجاع فقير إلا بما متع به غني".

إن هذا الوعي لقضايا العدالة الاجتماعية في التوزيع لا يمكن أن يكون وليد المحراث والتجارة البدائية، أو الصناعة اليدوية، إنه يكمن في الإنسان ذاته الذي رباه الإله فأحسن تربيته. ولذا فإنهم يخشون الإسلام، ويتعاون النظامان على طعن الإسلام والمسلمين في كل مكان..

إنني على يقين، إذا ما طبق هذا النظام من العدالة الاجتماعية بشكل عالمي، لكان بالإمكان مكافحة الجوع والموت جوعاً (نتائج النظامين المذكورين)، في غضون أشهر، بل وأيام. فالخزائن تغص بالمواد الغذائية على اختلاف أنواعها، بينما يفضل المحتكرون أن تفسد في مخابئها، أو ترمى إلى البحر، على أن يمد بها في عمر الأحياء المتضورة من الجوع...

إن مكافحة الجوع لا تحتاج للمؤتمرات والتسويفات التي، حتى إذا صدقت النوايا فإنها (كمؤتمر القمة العالمي للأغذية المجتمع عام 1998)، تمهل الهياكل العظمية التي نخرها الجوع إلى عام 2005 لتغذية نصف عددهم البالغ 800 مليون نسمة (حسب أرقام المؤتمر العام 1996)، وهي ليست جادة في ذلك، وعلى أية حال، فحتى ذلك التاريخ، فإن العدد المذكور، سوف يتضاعف مرات عديدة وإن مات القسم الأكبر منهم.

والسؤال الأخير: كيف يمكن في الوقت الحاضر تطبيق أحكام الشريعة الإسلامية فيما يتعلق بمضمون العدالة الاجتماعية، حتى في البلاد الإسلامية بالذات، إذا كانت الأرض (التي، من المفروض، حسب الإسلام، أن تبقى ملكاً لله، لا يحق للعامل فيها أن يمتلك رقبتها وله فقط حق بالانتفاع منها) وما فوقها وما تحتها إلى أعماق جوفها، بأيدي الشركات الأجنبية، وأصبح العمل فيها ووسائل العمل بأيدي هذه الشركات، وأصبح المحصول ومردود المحصول أيضاً ملكاً لها؟!...

وكيف يمكن أن يبقى في هذه البلدان حق من الإنتاج لغير العامل والسائل والمحروم من العمل، وما أكثرهم، إذا كان العامل نفسه وابن البلد نفسه محروماً من هذا الحق؟! لم يبق، في الواقع، للشعوب في بلادها ثمة حق في اقتطاع حجر، أو احتطاب شجر، أو زراعة أرض، أو صيد سمكه، أو حتى عصفور، وليس له حتى حق بمكان للعمل كقصاب أوسمان...؟!...

إنني لأتساءل: من الذي سيقوم بدفع الزكاة؟

أهي الشركات العالمية التي لا تدفع حتى أجراً للعامل الذي تستخدمه يكفيه قوت يومه؟!

أما العمال الذين هم أنفسهم يستحقون الزكاة:

وإذا لم يتحقق هذا الهدف، فماذا يبقى للمسلمين من الإسلام؟!

الموت في سبيل الله؟....!...

أم في سبيل الأمريكان؟....

وكلمتي الأخيرة التي أختم بها هذا الكتاب:

إن أخشى ما نخشاه في هذا الزمان: إذا ماقال أحدنا: "أشهد ألا إله إلا الله"، درج في عداد المتعصبين الإرهابيين، وإذا ما جادل، ولو بالحسنى، صنف في عداد الملحدين المارقين.. وإذا ما لهج لسانه بذكر الماضي، قيل أنه من المقوقعين الرجعيين المنبوذين...

وإذا ما محص في علومه الذاتية، وصم بالجهل والانغلاق...

وإذا مااستند إلى مايدعمه في علوم غيره، فهو عميل محترف... فماذا يريد هذا الزمان من الإنسان؟!...

إنه يرفض الإنسان، كل إنسان...

ولا يسند ويساعد سوى الحروب والتشاحن، والتصادم، والشتات، والجوع، والتجويع، والحرمان، وإهراق الدماء للإنسان في كل مكان....!.

الحصيلة الإجمالية لتدويل النظامين

نعم!... إنها الحروب ضد الشعوب...!

قرن من الحروب، كل أنواع الحروب نتجت عن تطبيق النظامين وتدويلهما ضد الإنسان في كل مكان...

من حروب ضد الأنظمة الملكية تارة، وضد الإقطاعية أخرى؛ ضد البورجوازية تارة، والرأسمالية أخرى؛ وضد الاشتراكية تارة، والطبقة العاملة بالذات أخرى...

قرن من الحروب ضد كل مذهب وكل دين.. ضد البروتستانتيه تارة. والأورثوذكسية أخرى؛ ضد اليهودية تارة، والإسلام والمذاهب الإسلامية فيما بينها أخرى؛ ضد كل عنصر، وكل جنس، وكل عرق، وكل لون، وكل لسان. ضد الآري تارة، والسامي أخرى؛ ضد الأسود تارة، والأحمر والأصفر والأبيض أخرى؛ ضد العرب تارة، والبربر والعجم أخرى؛ ضد العثمانيين تارة والأرمن والأكراد أخرى؛ ضد الأوتو والتوتسي، ضد البوذيين والهندوس والسيخ، إلى ما هنالك على سطح الكرة الأرضية من عناصر وأعراق لا حصر لها....

من حروب مباشرة، تسيل فيها الدماء، وتقوض البيوت على السكان، وتشرد الشعوب المغلوبة على أمرها، من شيوخ وأطفال ونساء، حاملة متاعها على أكتافها عبر التلال والوديان، منبوذة من اللجوء إلى أي مكان، من الشرق إلى الغرب ومن اليمين إلى الشمال...

وحروب غير مباشرة، باسم التطهير والتحديث التعيس.. حروب ضد مأواهم في مدنهم وقراهم ومأوى آبائهم وأجدادهم منذ غابر الأزمان، ضد كرومهم وبساتينهم ولقمة عيشهم، ضد مهنهم وفنونهم ووسائل إنتاجهم، ضد عاداتهم وعلومهم وثقافاتهم، وأديانهم، ضد أجدادهم وأجيالهم وأصولهم وفروعهم، ضد سمائهم ومائهم وبحرهم وبرهم، وضد الطبيعة التي تغذي وجودهم وجميع وسائل حياتهم...!

والأوهى من ذلك، أن كل ما تقدم قد جرى تحت اسم العلم والتطور والازدهار، من العلوم السياسية وثوراتها الديموقراطية، إلى العلوم الاقتصادية وقوانينها التطورية، إلى قواعد حقوق الإنسان، والتي تدعي إنقاذه من الجهل والفقر والتخلف والحرمان وهي التي تصلب الإنسان في كل مكان...

وهي تنحصر، في الوقت الحاضر، بعد أن قضت على الماركسية، وحولت العالم إلى ركام، والبلدان إلى قطعان بلا رعيان، إلى الأهداف التالية:

- إحاطة روسيا وتحطيم آخر معسكر لها فيما حولها

- إبادة جماعية للمسلمين وتشتيتهم في أصقاع الأرض عن طريق إلهائهم في حروب حدودية وداخلية ومذهبية فيما بينهم وثورات، وثورات مضادة تحت حجة رفع راية الإسلام، كما هو الحال في أفغانستان والصومال ومصر والجزائر والسودان، ومجاهدي خلق المعسكرة في العراق ضد الثورة الإسلامية في إيران، والثورة المضادة للإسلام المتوقعة من الطلاب الإيرانيين في أقرب وقت ممكن..

- السيطرة الكاملة على الثروات الطبيعية والبترولية وممراتها، موضوع الصراع في الوقت الحاضر بين الشركات الأمريكية وعولمتها، والشركات الأوروبية وعولمتها المضادة، الذي يجري بحروب ضارية بأيدي الشعوب المغلوبة على أمرها نفسها، وباسم الديموقراطية والحرية.

ما الحل إذاً؟!... وما هو البديل؟!...

لا يوجد ثمة بديل واحد صالح لكافة شعوب العالم، وإنما هناك لكل شعب بديل، ولكل حضارة بديل، وإلا فإننا سنقع في كافة أخطاء التدويل السابقة ولكن لابد قبل كل شيء، من إنقاذ ما يمكن إنقاذه:

- خنق رأس المال العالمي وشركاته الاستغلالية بعدم التعامل معها.

- الاعتماد على الذات مهما كانت التضحيات، لتقوم الشعوب ذاتها باكتشاف النهج الذي يلائمها، والذي يتماشى مع تاريخها وحضارتها وعاداتها وعلومها وثقافاتها، ويفجر طاقاتها الإبداعية، ويحفظ لها هويتها ووجودها.

- اختيار مبدأ العدالة الاجتماعية من الإسلام، إلى جانب ما منحتهم حضاراتهم من ضمان. فالإسلام يعلو ولا يعلى عليه في هذا المجال.

- ولابد لذلك من أن تربى الشعوب على أسس دينية رفيعة، فبدون العامل الديني لا يمكن النجاح والوصول إلى أي هدف من الأهداف. لقد ثبت أن العلمانية والكفر بالله، والتجبر عليه هي من أولى العوامل التي صبغت القلوب بالقسوة، والعقول بالجدب، والنفوس بالظلم والطغيان، والطبيعة بالغضب والانتقام. وهي وراء فشل النظامين في موطنهما وفي كل مكان...!

×××

ملحق

إلى إذاعة لندن

موضوع

حقوق الإنسان في الإسلام

رداً على ما جاء في إذاعة لندن الناطقة باللغة العربية بتاريخ9/11/1998، من مقابلة ومناظرة بين مهاجم لحقوق الإنسان في الإسلام ومدافع عنه* إنني أجيب:

استمعت في التاسع من شهر تشرين الثاني إلى مناظرة إذاعية حول موضوع حقوق الإنسان في الإسلام الذي أثير في المؤتمر الدولي لحقوق الإنسان المنعقد في جنيف من الشهر نفسه. وقد لفت انتباهي أن المهاجم لحقوق الإنسان في الإسلام جاء باتهامات للدين الإسلامي لا تقل ضلالاً عن تهجمات الصهاينة على الإسلام. ومما التقطته منه بشكل سريع:

- أن الإسلام يأمر بقطع الأيدي والأرجل وسائر أعضاء الجسم، في حالة السرقة، حتى الموت

- أن الإسلام يسرق حقوق المرأة، فهي ترث نصف حق الرجل، وجعل الرجل فوقها درجة.. الخ

- الإسلام يأمر بالجلد للزاني والزانية حتى الموت..

- الإسلام غير ديموقراطي

هذا، إلى آخر ما أحاطت به ذاكرتي بسرعة.

ومما لفت انتباهي أيضاً أن رد المدافع، عن الإسلام جاء مقتضباً للغاية ولم يزد عن قوله:

"العلة في المسلمين وليست في الإسلام"

ولم يفند ويدعم رده بالتفاصيل المقنعة التي تبين أن في هذه الأحكام تكمن حقوق الإنسان، مما جعل كفة المتهجم على الإسلام ترجح كثيراً على كفة المدافع، وفي نظر المسلمين بالذات، وأغلبهم جاهل بحقيقة الإسلام...

ولذا، فإنني أسمح لنفسي بأن أجيب على حجج المتهجم على الإسلام ونعته له بأنه ضد حقوق الإنسان، بشيء أكثر من التفصيل، مع اعترافي بأن المسلمين في الوقت الحاضر ليسوا من الإسلام في شيء.

فيما يتعلق بقطع يد السارق..

- إن كان حقاً أن الإسلام قد أمر بقطع يد السارق أو السارقة، إلا أن كتب التاريخ، عن تلك الحقبة من الزمن لم تحدثنا عن وجود مقطوعي الأيدي والأرجل سائر الأعضاء في الطرق بالمئات، بل- على العكس- عن مظاهر السعادة والرفاهية للشعوب بأسرها التي طالتها الفتوحات الإسلامية، بشكل لم يسبق لها مثل قبلها، ولا بعدها. ويمكننا أن نفسر ذلك بالأسباب التالية:

- لأن الإسلام، عن طريق الترغيب أو الوعيد قد حصَّن المؤمن ذاتياً من الداخل ضد المخالفات لتعاليمه ومنها السرقة. لقد صنع الإسلام بذلك ثورة من الإنسان على ما بداخل نفسه من عناصر الشر ودوافع الظلم والفساد والانحلال، وحقنه بفيض من مشاعر النبل والكرامة والعزة والرحمة. فكان المسلم يقبل بنفس طائعة على الأعمال الكريمة، ويحجم عن الأعمال الفاسدة التي نهى عنها الإسلام، أيضاً من ذاته. دون أن يحتاج إلى حسيب أو رقيب.. أو جزاء أو عقاب.

- وليس أدل على ذلك من أنه لم يكن يوجد في بعض المدن الإسلامية (الكوفة) شخص واحد يستحق الزكاة أو يقبل بها، فالأموال التي كانت ترسل إليها كانت تعاد إلى بيت مال المسلمين، فكيف بوجود من يسرق ويستحق قطع اليد؟!…

- إن عدم وجود سارق واحد يستحق قطع اليد في العهود الإسلامية الزاهرة يعود، ليس فقط، إلى الترغيب في الجنة والترهيب من النار فقط، وإنما لعدم الحاجة إلى السرقة. لقد أتاح الإسلام فرص العمل وأمنه لجميع أفراد المجتمع، وحضَّ على دفع الحقوق للعاملين كاملة غير منقوصة "قبل أن يجف عرقهم"، وأنذر الذين يسرقون حقوق العامل من أرباب العمل بقطع أيديهم إذا اضطر العامل أن يعود إلى السرقة مرة أخرى.

"إن عاد عاملك إلى السرقة مرة أخرى قطعت يدك أنت"

أي يد رب العمل..

- أما المحرومون من العمل (لا بدافع البطالة والتسريح والطرد كما يجري حالياً)، فهؤلاء لا وجود لهم في المجتمعات الإسلامية)، وإنما بسبب العجز، والبؤساء والمساكين، فقد جعل لهم الحق شرعاً في جزء مما حصل عليه العاملون من استثمار ثروات الأرض وخيراتها، والتي خلقها الله للناس أجمعين وليست بحسنة أو هبة..

]والذين في أموالهم حقّ معلوم للسائل والمحروم".

فكان ما تدره عليهم الزكاة يكفيهم، ليس فقط لحاجاتهم الأساسية، وإنما الكمالية أيضاً. ولذا، فلم يكونوا بحاجة إلى السرقة، وبالتالي لقطع الأيدي والأرجل وسائر الأعضاء حتى الموت..!

هذا، بالإضافة إلى التكافل والتضامن في المجتمع الإسلامي، حيث يتكفل المسلمون، من أنفسهم، بالمحتاجين من جيرانهم وأقربائهم وحتى الغرباء لشدة ما حضَّ الإسلام المسلمين على ذلك دون أن يشعروهم بذل السؤال

"وأوصاني بالجار حتى حسبت كأن الجار قد يرث"

وما زالت هذه العادة سائرة في المملكة العربية السعودية حتى الآن.

- ولكي لا يدع الإسلام الناس مستسهلين قبول الصدقة، فقد كرم العمل والإنسان العامل أكثر من تكريمه للعابد، وجعل الذي يقدم الصدقة أفضل من يتلقاها: "اليد العليا خير من اليد السفلى".

لذا، فقد كان الناس يتسابقون على تقديم الصدقة (اليد العليا) أكثر منهم على قبولها (اليد السفلى)، مما لا يدع مجالاً لمن يسرق وتقطع أوصاله الحين، أن الباعة كانوا يدعون مخازنهم ودكاكينهم مفتوحة، ويذهبون لتأديه الصلاة دون أن تمتد إليها يد سارق واحد. وما زال في المملكة العربية السعودية هذا الإجراء ساري المفعول حتى الآن رغم بعد الزمن منذ ذلك الحين حتى الآن.

- وليس أدل على عدم وجود من يسرق في ذلك.

إنهم بفضل التربية الرشيدة للإنسان في الإسلام لم يكونوا بحاجة إلى كافة أنواع الأجهزة الألكترونية لتفادي السرقات كما في مجتمعات حقوق الإنسان في عصرنا الحالي، هذه المجتمعات التي تحولت بجملتها إلى لصوص من كافة المستويات، من أعلى الهرم حتى أسفله. ولو كان علينا أن نطبق عقوبة الإسلام، في الوقت الحاضر، لما وجدنا، إلا النادر من الناس، كامل اليدين أو الأطراف -حسب قول المتهجم-. وهذا، ما يفسر جزءاً من خوفهم من الإسلام.

ففي الوقت الذي لم يكن هناك شخص واحد يستحق الزكاة في عهد الإسلام، وفي الوقت الذي كان يعتبر فيه أحد الخلفاء الراشدين نفسه مسؤولاً حتى عن الشاة الواحدة إن جاعت، "لو كان في أقصى المدينة شاة جائعة لكان عمر المسؤول عنها" يوجد في الوقت الحاضر، في ظل حقوق الإنسان، ما يزيد على أربع مليارات نسمة على وجه الكرة الأرضية حسب الافتتاحية المنشورة في جريدة لوموند ديبلوماتيك لشهر شباط لعام 2000، جائعة تستحق الزكاة، وبما فيها البلدان المدعية أنها ترعى حقوق الإنسان بالذات (في أمريكا، ربع السكان عليهم أن يكفوا حاجاتهم بما يقل عن دولار واحد في اليوم)، ودون أن يوجد مسؤول واحد يرى نفسه مسؤولاً عنهم، بل على العكس، إنهم يعتبرونهم غير أهل للحياة لعدم تلاؤمهم مع الحضارة الحديثة، وعليهم أن يرحلوا، فليس لهم على خوان الحضارة الحديثة شيئاً. هذا، دون الكلام عمن ماتوا ويموتون من الجوع يومياً، ومن يعانون من الحشرجات الأخيرة بؤساً وتشرداً وضياعاً...

إن لنا الحق أن نتساءل في ظل حقوق الإنسان هذه، إنها لأي إنسان؟!…

لاشك أنها لحفنة من المسيطرين المتجبرين الطغاة، الذين وضعوا أيديهم الحديدية على كافة ثروات العالم في الكرة الأرضية بأجمعها، والتي خلقها الله لعباده قاطبة. إنهم مصاصي الدماء، ورجال الشركات العالمية الكبرى، وعلى رأسهم الصهاينة، وإلى جانبهم رجال أعمال من كافة البلدان يساعدونهم في مهمتهم ويتقاسمون معهم جزءاً من حصتهم من السرقة، إلى جانب مهربي المخدرات* الذين ارتقوا إلى الصفوف العليا بين المرموقين المحترمين أصحاب الحقوق في نظام حقوق الإنسان. وهؤلاء لا تتجاوز نسبتهم 2% من الشعوب في بلدان العالم الثالث، و 10% في البلدان المتحضرة.

ب- أما ما يتعلق بالزعم بإساءة الإسلام لحقوق المرأة، وسلبها حقها في الإرث إلى نصف حصة الرجل، فإنني أجيب:

إذا كان الإسلام قد حكم للمرأة بنصف حق الرجل من الإرث، فما ذلك إلا للأسباب التالية:

- إنه جعل واجب إعالتها على الزوج إن كانت متزوجة، وعلى الأخ إن كانت عزباء، وهذا ما لا تحلم به أية امرأة في كافة الشرائع والديانات الإلهية وغير الإلهية (فالمرأة في غير الإسلام، وخاصة في المجتمعات الغربية، لا تحلم حتى بكأس ماء لا تشارك في دفع ثمنه).

- وبذلك، فإن المال الذي ترثه المرأة هو حق لها وحدها لتدخره لمستقبلها فقط، فلا تحتاج إذا ما توفي زوجها أو أخوها أن تمد يدها لأحد، أو تتصرف تصرفاً مشيناً... ولذا، فهي لا تصرف درهماً واحداً من مالها على طعامها وشرابها وكسائها وسائر احتياجاتها.. في ظل حياة زوجها أو أخيها.

- بالإضافة إلى ذلك، جعل الإسلام المرأة مستقلة مالياً عن زوجها وأخيها تتصرف بمالها بمنتهى الحرية، وذلك على العكس من المدافعين عن المرأة في ظل حقوق الإنسان، حيث تحرم المرأة الغربية من الاستقلال المالي، ولا يحق لها أن تتصرف بما لها بحرية، أو تفتح به حساباً خاصاً بها في المصارف مستقلاً عن زوجها، كما أنها لا تنال من أجر على عملها إلا ثلث حق الرجل، للعمل نفسه.

- لقد رفع الإسلام من قدر المرأة ومكانتها حين الزواج، ففرض لها حقوقاً على الزوج ولم يدعها لقمة سائغة لكل عابر سبيل وكل مضلل، حتى أن الخليفة علي ابن أبي طالب(ع) أجبره الرسول على بيع درعه وفرسه لكي يجهز بقيمتيهما بيته قبل زواجه من ابنته فاطمة كرم الله وجهها، وذلك لكي لا يدع للمسلمين سابقة بتزويج بناتهم دون حقوق* وصان حقوقها في حال الطلاق لتعويضها عن شبابها الذي وهبته للرجل، ولتستطيع أن تمارس حياتها من جديد بالاعتماد على نفسها.

هذا، عكس ما وصلت إليه المرأة في ظل حقوق الإنسان المعاصر، حيث جعل جسدها مطية لكل مفترس أو عابر سبيل، وشجعها على ذلك بكافة الأساليب، موهماً إياها بأنه يمنحها حقها في الحرية، والتي هي -في الواقع- حرية الرجل بالتمتع بكل امرأة اشتهتها نفسه، وحريته في أن يلفظها، بعد حين، للتمتع بأخرى أصغر وأجمل.. وهكذا.. بعد أن يكون قد سحق نضارتها وشبابها دون أي تعويض أو حساب أو عقاب.

- ولشدة تكريم الإسلام للمرأة، لم يكلفها بأي جهد في رعاية شؤون بيتها، إذ أوجب على الزوج تأمين من يقوم بخدمتها، كما لم يكلفها حتى: بإرضاع طفلها. وكلنا يعلم انتشار وجود المرضعات على نطاق واسع في ظل الحضارة الإسلامية. ولذا، فقد كانت المرأة ترفل بثياب العز والكرامة وتسبغ السعادة والطمأنينة على الأسرة الإسلامية ولم يكن هناك مجال للجلد حتى الموت، لعدم وجود الزاني والزانية في الأسرة الإسلاميه، بينما كلهم زناة في ظل حقوق الإنسان... فلو طبق حكم الإسلام في الوقت الحاضر لما كنا نعلم منْ يجلد مَنْ...! ولذا فهم يخشون الإسلام...

- لقد ساوى الإسلام بين الرجل والمرأة في حقها بالعلم "العلم فريضة على كل مسلم ومسلمة"، كما ساوى بينهما في الحق في العمل في كافة الميادين، دون أن يطالبها بكثير من الواجبات وأعطاها ذات الأجر لذات العمل.

فأين المرأة في الإسلام من المرأة في حضن دعاة حقوق الإنسان حيث تعمل كادحة من الصباح حتى المساء، وبأجر لا يوازي ثلث أجر الرجل، وتعود إلى البيت مكدودة بعد أن تلملم أطفالها جارية من مؤسسة إلى أخرى.

وغالباً ما ينحصر عملها بأعمال تافهة عديمة الشأن (سكرتارية، عاملة هاتف.. الخ) فالأعمال الهامة محصورة قطعاً بالرجال.

- أما تفضيل الرجال على النساء بقوله تعالى:

]الرجال قوامون على النساء، بما فضل الله بعضهم على بعض، وللرجال عليهن درجة[

فإن كلمة قوامون لا تعني السيطرة والتحكم وإنما القيام بمسؤوليتها والقيام بمساعدتها، وحمل أثقالها، وطفلها، وجلب حاجياتها، وكل ما يعتبر الإسلام أن جسم المرأة وكرامتها لا تسمحان بذلك. ولذلك فإنه شرحها بقوله: "بما فضل الله بعضهم على بعض" أي بما فضل الله الرجل على المرأة بعضلات قوية تقوى على الحمل وتحمل النساء. وحض الرجل على الرفق في معاملة النساء بقوله: "رفقاً بالقوارير" أي النساء*.

على العكس تماماً من الواجبات التي تلقى على جسم المرأة في مجتمعات حقوق الإنسان من قيام المرأة بكافة الأعمال الجسدية المرهقة في المنزل وخارجه. فقلما نجد رجلاً واحداً يتسوق حاجاته في الأسواق أو حاجات بيته، أو يحمل كيساً أو طفلاً أو سواه. وإذا ما اضطر لشراء خبز (باكيت بالفرنسية) فإنه يواريها في محفظته الدبلوماسية عن عيون الإنسان تحاشياً للعار (للأسف، فقد انتقلت هذه العادات إلى مجتمعاتنا الإسلامية، مع الغزو الاقتصادي والثقافي من الغرب، واعتبرت -فوق ذلك- من حقوق المرأة المسلوبة في عهد حقوق الإنسان). أي أن على المرأة أن تكافح لتنال حقها هذا في العبودية...

أما عن الديموقراطية في الإسلام فحدث ولا حرج

فالشورى في الإسلام تستفيض بها كتب الشريعة كقوله (تعالى)

]وأمرهم شورى بينهم[

وكان رأي الشورى مفروضاً ولو كان مخالفاً لرأي الرسول نفسه (ص) مثال: غزوة أحد.

والأمثلة لا تعد ولا تحصى على الديموقراطية والعدالة في الإسلام مما لا يتسع المكان هنا لسردها. ويكفي أن نذكر -على سبيل المثال- أن الخلفية عمر ابن الخطاب قال في معرض إحدى خطبه:

"إن رأيتم فيَّ اعوجاجاً فقوموني"

فأجابه أحد المستمعين:

"إن رأينا فيك اعوجاجاً لقومناه بسيوفنا"

فأجابه عمر:

"أحمد الله أنه وجد في أمة محمد من يقوم عمراً بسيفه إن أخطأ"

ولنا في قضية "الإزار الجريح" أفضل مثال على العدالة في الإسلام حيث اشتكى أعرابي للخليفة أن واليه داس على إزاره. فاستدعى الخليفة واليه بحضور الأعرابي وطلب من الأخير أن يدوس على إزار الوالي كما داس الوالي على إزاره...

فائتونا يا دعاة حقوق الإنسان بمثال مثله في ظل حقوق الإنسان في هذا الزمان...

ألا فاتقوا الله يا دعاة حقوق الإنسان في الإسلام. فإنه لم يطلب من الجار أن يرفع الفأس ويهوي به على رأس جاره (كدعاة الدين اليهودي، والدين منهم براء) ولا بإبادة شعب بكامله من رجاله لنسائه لأطفاله لشيوخه، بالفؤوس* ولم يجعل من كل عضو من أعضاء المرأة سلعة استهلاكية لرواج بضائعه، ولم يتاجر بالأطفال ويشرد الشعوب التي وقعت تحت حكمه، ويحكم عليها بالموت جوعاً، ويسلبها أوطانها وثروات بلادها، بل على العكس. كانت إسبانيا قبل الإسلام قاحلة جرداء لا تعرف معنى الزراعة، فجعلها الإسلام جنة يانعة، وكانت الهند تعتبر الأرض قبل الإسلام، مقدسة (كالبقرة) لا تمس بمحراث، ففجر فيها الثروات الدفينة لدرجة أنها أصبحت تملك أغنى ثروة طبيعية في العالم. لم يكن في الإمبراطورية الإسلامية شبر واحد من الأرض دون استثمار، إذ كانت القوافل تقطع الطرق الصحراوية التي تفصل بين المدن تحت ظلال الأشجار. ولذا، فقد عمت السعادة والبهجة والرفاهية كافة الشعوب التي استظلت بمظلة الإسلام، وفتحت الأبواب على مصراعيها لدخول الفاتحين المسلمين بناءً على طلب الشعوب المظلومة من حكم الرومان دون حروب أو قتال.

وكما قال أحد المؤرخين الإنكليز "ما عرف التاريخ فاتحاً أرحم من العرب"...

لقد أوصى الإسلام في فتوحاته لنشر الدعوى الإسلامية بألا يقتلوا طفلاً ولا امرأة ولا شيخاً عجوزاً، ولا يقطعوا شجرة، وأن يكونوا رؤوفين بالعباد.

أي أن هذه الفتوحات كانت لصالح الشعوب ولم تكن للهيمنة والسيطرة وضد الشعوب بالذات، كالغازين الحاليين -باسم التطور- لكافة ثروات الشعوب وممتلكاتها. إنهم -في الواقع- يخوضون حروباً ضارية، بلا هوادة، منذ ما ينوف على قرن من الزمن ضد الشعوب بالذات، كافة الشعوب البريئة، بالثورات والثورات المضادة المفتعلة، يبيدون كرومهم وبساتينهم وحقولهم برمتها، يهجرونهم من ديارهم، من القرى إلى المدن فإلى البراكات (براكات الموت) يقضون على مهنهم ويدثرونها، يحولونهم عن ثقافاتهم وعلومهم ولغاتهم وحضاراتهم وكل ما يصبغ ذاتيتهم، ويقطعون موارد رزقهم من أية جهة كانت، ويفرضون عليهم الحصار لكي يموتوا جوعاً، إلى آخر ما هناك من أساليب الإبادة الجماعية في حروبهم فيما بينهم، باسم الحرية والديموقراطية، والتي هي -في الواقع- حرية المبتدعين لحقوق الإنسان بأنها تنحصر فيهم وحدهم كإنسان...

في ظل حقوق الإنسان هذه، سلب وطن بأكمله من شعبه، الذي كان يعرف منذ الخليقة باسمه (فلسطين). وأبيد القسم الأكبر منه، وشرد الأكثر، وحكم على الباقين، ليس فقط بقطع الأرزاق -الذي هو أمر وأشقى من قطع الأعناق- وإنما بالإبادة الجماعية السريعة والموت البطيء معاً. هذا، دون أن يصبح وضع الشعب اليهودي بأفضل مما كان عليه. فالشعب اليهودي -في الوقت الحاضر- في فلسطين، من أتعس الشعوب وأشقاها، دون الأخذ بعين الاعتبار للمظاهر البراقة. لقد حرموا من أوطانهم الأصلية، وأصبحوا عرضة للكره الشديد والرفض من الشعوب الأصلية، مع كل ما يرافق ذلك من عداوات سوف تزداد عمقاً للأبد. وكم من اليهود الشرقيين يشعرون في قرارة أنفسهم بالحسرة واللوعة لمفارقتهم أوطانهم الأصلية التي دفن فيها آباؤهم وأجدادهم الحقيقيون منذ قرون عديدة، ويحنون إلى المعاملة الحسنة التي كانوا يحصلون عليها من العرب في كافة البلدان العربية التي عاشوا فيها سوية.

مما لا شك فيه أن الصهيونية العالمية هي على رأس المبدعين والمخططين والمنفذين لكل هذه المآسي التي اصطبغ فيها هذا العصر. ولم ينج منها اليهود في كافة بقاع العالم. فالدولة اليهودية لم تقم حقاً على الهدف الروحاني المقدس، بل كان هذا هو المحرك للشعوب اليهودية المتدنية لوصول الصهيونية العالمية إلى الهدف الحقيقي وهو الهيمنة على العالم بأسره بكافة صنوفها. فقامت بحملة شعواء لاجتثاث اليهود الأمريكيين والأوروبيين والأفارقة والشرقيين من بلادهم وأوطانهم التي رسخوا فيها منذ قرون، وهم يحملون صبغتها في لون بشرتهم، وعيونهم وشعورهم. وأحجامهم وقاماتهم.. الخ، مع كل ما رافق ذلك من عذاب التشتيت والضياع. فشتات اليهود الفعلي بدأ -في الواقع- منذ تحريضهم على الهجرة إلى فلسطين، بدعوى أنها موطن أجدادهم الأقدمين بوثيقة مختومة من الإله رب العالمين. لقد تركوا -بالفعل- في بلادهم الأصلية، جثث آبائهم وأجدادهم الحقيقيين، بدمائهم التي مازالت ساخنة في قبورهم، لكي يأتوا وينبشوا القبور في فلسطين، ويهدموا الجوامع والمساكن بحثاً عن عظمة واحدة لأجدادهم الأقدمين، ولم ولن يعثروا على شيء، اللهم إلا إبادة الفلسطينيين، ومحو جذورهم وأصولهم وذريتهم...

فالدافع الديني ليس له وجود بالفعل بين 90% من يهود فلسطين، وأن الدينين الحقيقيين فيها هم أكثر شعوبها فقراً وشظفاً في العيش، وخاصة الشرقيين منهم. وهم -في نظر الصهيونية العالمية- لا خير فيهم إلا كترسانة على الحدود، وفداءً لهم في الحروب، وأجرهم على الله، كما يقولون...

هذا هو الإنسان المصلح الذي ساد الكون في هذه الأيام، وسن القوانين لحماية حقوق الإنسان (التي هي- بالأصل- حقوقه وحده، والذي أخذ يتجرأ -بكل وقاحة- وظلم- على الإسلام.

ما هذه الحملات الظالمة -في الحقيقة- على الإسلام، إلا لأنهم يخشون الإسلام... نعم! إنهم يخشونه ويعتبرونه عدوهم الأكبر، في الوقت الذي ما عرف اليهود في التاريخ المعاملة الإنسانية الحقة، إلا من الإسلام* لقد عرفوا جميع أصناف الحروب والإبادة من العصور الغابرة حتى العصور الحديثة، ومن الشرق إلى الغرب، ولم يسددوا سهامهم إلا إلى جهة العرب المسلمين.. "اتق شر من أحسنت إليه" هذا صحيح ولكن... إذا اتجه الإحسان للئام:

"إن أنت أكرمت الكريم ملكته

... ... وإن أنت أكرمت اللئيم تمردا"

نعم! إنهم يخشون الإسلام، وإنهم إذ يخشونه فما ذلك إلا لأن الإسلام جاء لسعادة الإنسان، وهم لإبادته وشقائه...

فالإسلام أينما حل، في عهوده الزاهرة، شحن عقول الشعوب بالخلق والعبقرية والإبداع، وأيقظها من كبوتها، فأبدعت بأيديها بالذات، حضارات فريدة من نوعها يعجز القلم عن رسمها، وحلق بها في سماء الكون، وأطفأ الشرور من ثناياها، وبذلك فلم يخشاها...

والإسلام لم يشمخ، ولم يتعال، ولم يصنف الشعوب إلى بهائم وبجم من دونهم، ولا إلى شعب الله وشعب الشيطان، حسب هواهم، بل حض على التواضع والرحمة والإنس في المعاشرة:

]ولا تمش في الأرض مرحاً إنك لن تخرق الأرض ولن تبلغ الجبال طولا[

] والله رؤوف بالعباد[.

"الناس سواسيه كأسنان المشط"

ولا يكون المسلم مسلماً حقاً، مستحقاً لحب الله ورضاه إلا إذا قام بالقول والفعل بنفع عباد الله كافة

]وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين[

]أحبكم إلى الله أنفعكم لعباده[

أي لجميع عباده، لا لطائفة دون أخرى، ولا لدين دون آخر، ولا لجنس ولون وعرق على وجه الخصوص، ولم يفرق بين شعب الله وشعب الشيطان..

والإسلام، لم يضغط بكافة الأساليب الوحشية على الشعوب الأخرى لإبادة نسلها وتعقيمها، واستئصال أجهزتها، لإبادة نسلها واجتثاث أصولها، بل حض الشعوب على الإنجاب:

]المال والبنون زينة الحياة الدنيا[

وحض الأبناء على رعاية آبائهم في شيخوختهم، لا أن يدعوهم يموتون كما في البلدان المتطورة وحيدين لا يشعر بهم أحد إلا بعد أن تنتشر روائح جثثهم المتفسخة، فيهرع الجيران للإبلاغ عنهم، أو بين أيدي الغرباء الفظة في المصحات وبيوت العجزة

]وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحساناً.. الخ[

وبذلك، رانت السعادة على الشعوب التي دخلت في الإسلام بشكل لم تعرفها في أي عهد من عهودها السابقة، وهكذا، فإن المتجول في أنحائها لم يجد أثراً لمقطوعي الأيدي والأرجل وسائر الأعضاء تزحف على بطونها...

أعتقد أنني بمثل هذه التفاصيل أستطيع -لحد ما- أن ألقي بعض الضوء على ما جاء في مناظرة السيدين المذكورين سابقاً حول حقوق الإنسان في الإسلام.

إن ما جئت به ما هو -في الواقع- إلا غيض من فيض، يحتاج إلى مجلدات لتغطيته، مما يتعذر على كافة العلماء والفقهاء أن يحيطوا به مجتمعين.

وهل يمكن لأية قوة الكترونية أو سواها، مهما كانت درجة فعاليتها، أن تحصي الذرات المنطلقة من شعاع من النور أضاء الكون بأسره من رب العالمين، وبلسان نبيٍ كريم؛ بجله تعالى بقوله:

]وإنك لعلى خلق عظيم[

صدق الله العظيم...

- ×××× -

المصادر:

- القرآن الكريم

"نهج البلاغة"، الإمام علي بن أبي طالب (ع)

- "اقتصادنا"، السيد محمد باقر الصدر، الجزء الأول والثاني، وهو -على ما أعتقد- أفضل كتاب إسلامي تناول النظريات الثلاث وقد اعتمدت عليه في قسم كبير من المعلومات الإسلامية،

-وعنه المصادر التالية:

- "دور الأفكار التقدمية في تطوير المجتمع"، ستالين

- "ضد دوهريك"- انجلز

- "التفسير الاشتراكي للتاريخ"، إنجلز

- "المادية الديالكتيكية"، موريس كونفورت

- "دور الفرد في التاريخ"، بليخانوف

- "رأس المال"، ماركس

- محمد باقر الصدر "L, Islam conduit la vie"

- "دور الفرد في النظرية الاقتصادية الإسلامية"، العلامة السيد محمد باقر الحكيم- مجلة الثقافة الإسلامية- دمشق

- "بعض اتجاهات المنهج الإسلامي في المسألة الاقتصادية"، الدكتور: أحمد فتحي بدرخان، المرجع السابق

- "الروح الحزبية في الفلسفة" بليخانوف

- "العلاقات بين النظم الاشتراكية ودول العالم الثالث"، رسالة دكتوراه في العلوم الاقتصادية والمالية- جامعة السوربون- باريس -1- 1976 (عن الفرنسية)، للمؤلف.

- "التكنولوجيا الحديثة، الديون والجوع، وربما نهاية العالم" رسالة دكتوراه في العلوم الاقتصادية والمالية -1985- للمؤلف (مترجمه للغة العربية)

- "العولمة في النظم التكنولوجية الحديثة، والتفتيش عن طريق بديل" للمؤلف

محاضرة في مؤتمر أوتاوا في كندا 1997، ومؤتمر ليليا باسو في روما 1998 (مترجم للغة العربية) للمؤلف

- "اليمن بين قديمه وحديثه" للمؤلف.

- "الأوضاع الاقتصادية والمالية للدول العربية"، التقارير السنوية لاتحاد المصارف العربية الفرنسية في باريس للأعوام (1976 حتى 1982) للمؤلف.

وعن كتاب اقتصادنا للإمام محمد باقر الصدر:

- "الوسائل" للشيخ الحر العاملي محمد بن الحسن

- "جواهر الكلام في شرح شرائع الإسلام" الشيخ محمد حسن النجفي

- "نهاية المحتاج إلى شرح المنهاج"

- "الأحكام السلطانية" للماوردي

- "قواعد الأحكام" للعلامة الحلي

- "المغني" لابن قدامة

- أصول الكافي" لمحمد بن يعقوب الكليبي.

××××

ضبط الآيات القرآنية

م ... الآية الكريمة ... رقمها ... السورة ... ترتيبها ... الصفحة في الكتاب

1 ... (إنّ الله غني عن العالمين ... 97 ... آل عمران ... 3 ... 47

2 ... (إنّ النفس لأمارة بالسوء) ... 53 ... يوسف ... 12 ... 48

3 ... (وأطيعوا الله وأطيعوا الرسول) ... 59 ... النساء ... 4 ... 54

4 ... (إنّ الله غنيٌّ عن العالمين) ... 97 ... آل عمران ... 3 ... 55

5 ... (المال والبنون زينة الحياة الدنيا ... 46 ... الكهف ... 18 ... 55

6 ... (وإذ قال ربّك إني جاعل في الأرض خليفة) ... 30 ... البقرة ... 2 ... 56

7 ... (إن يشأ يذهبكم ويستخلف من بعدكم ما يشاء) ... 133 ... الأنعام ... 6 ... 57

8 ... (والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله فبشرهم بعذاب أليم) ... 34 ... التوبة ... 9 ... 59

9 ... (ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك ولا تبسطها كل البسط فتقعد ملوماً محسورا) ... 29 ... الإسراء ... 17 ... 60

10 ... (ظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس ليذيقهم بعض الذي عملوا لعلهم يرجعون) ... 41 ... الروم ... 30 ... 61

11 ... (والأرض مددناها وألقينا فيها رواسي وأنبتنا فيها من كل شيء موزون، وجعلنا لكم فيها معايش ومن لستم له برازقين) ... 19-20 ... الحجر ... 15 ... 62

12 ... (وأنفقوا مما جعلكم مستخلفين فيه) ... 7 ... الحديد ... 57 ... 64

13 ... (من عمل صالحاً فلنفسه ومن أساء فعليها) ... 46 ... فصلت ... 41 ... 65

14 ... (لا إكراه في الدين، لقد تبين الرشد من الغي) ... 256 ... البقرة ... 2 ... 66

15 ... (يومئذ يصدر الناس أشتاتاً ليروا أعمالها، فمن يعمل مثقال ذرة يره، ومن يعمل مثقال شراً يره) ... 6-7-8 ... الزلزلة ... 99 ... 66

16 ... (من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها ومن جاء بالسيئة فلا يجزي إلا بمثلها وهم لا يظلمون ... 160 ... الأنعام ... 6 ... 66

17 ... (إن تقرضوا الله قرضاً حسناً يضاعفه لكم) ... 17 ... التغابن ... 64 ... 67

18 ... (مثل الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله كمثل حبة أنبتت سبع سنابل في كل سنبلة مائة حبة والله يضاعف لمن يشاء، والله واسع عليم) ... 261 ... البقرة ... 2 ... 67

19 ... (أفحسبتم أنّما خلقناكم عبثاً) ... 115 ... المؤمنون ... 23 ... 67

20 ... (وهو الذي يبدأ الخلق، ثم يعيده) ... 27 ... الروم ... 30 ... 67

21 ... (ويل لكل همزة لمزة، الذي جمع مالاً وعدّده، يحسب أنّ ما له أخلده كلا لينبذن في الحطمة، وما أدراك ما الحطمة، نار الله الموقدة، التي تطلّع على الأفئدة، إنها عليهم مؤصدة، في عمد ممددة) ... 1-2-3-4-5-6-7-8-9 ... الهمزة ... 104 ... 67

22 ... (بل كذبوا بما لم يحيطوا بعلمه، ولما يأتهم تأويله) ... 39 ... يونس ... 10 ... 68

23 ... (هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعاً) ... 29 ... البقرة ... 2 ... 69

24 ... (والله رؤوف بالعباد) ... 30 ... آل عمران ... 3 ... 70

25 ... (يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله، وأطيعوا الرسول، وأولي الأمر منكم) ... 59 ... النساء ... 4 ... 74

26 ... (ما أفاء الله على رسوله من أهل القرى فلله وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل كي لا يكون دولة بين الأغنياء منكم) ... 7 ... الحشر ... 59 ... 75

27 ... (والذين يكنزون الذهب والفضّة ولا ينفقونها في سبيل الله فبشرهم بعذاب أليم، يوم يحمى عليها في نار جهنم فتكوى بها جباههم وجنوبهم وظهورهم هذا ما كنزتم لأنفسكم فذوقوا ما كنتم تكنزون) ... 34-35 ... التوبة ... 9 ... 76

28 ... (كي لا يكون دولة بين الأغنياء منكم) ... 7 ... الحشر ... 59 ... 76

29 ... (والذين في أموالهم حقٌ معلوم للسائل والمحروم) ... 24-25 ... المعارج ... 70 ... 77

30 ... (إنّما الصدقات للفقراء والمساكين والعاملين عليها والمؤلفة قلوبهم وفي الرقاب والغارمين وفي سبيل الله وابن السبيل فريضة من الله والله عليم حكيم) ... 60 ... التوبة ... 9 ... 77

31 ... (وقل اعملوا فسيرى الله عملكم) ... 105 ... التوبة ... 9 ... 77

32 ... (هو أنشأكم من الأرض واستعمركم) ... 61 ... هود ... 11 ... 77

33 ... (هو الذي جعل لكم الأرض ذلولاً، فامشوا في مناكبها، وكلوا من رزقه وإليه النشور) ... 15 ... الملك ... 67 ... 77

34 ... (اقرأ باسم ربك الذي خلق، خلق الإنسان من علق، اقرأ وربك الأكرم، الذي علم بالقلم، علم الإنسان ما لم يعلم) ... 1-2-3-4-5 ... العلق ... 96 ... 78

35 ... (هل يستوي الذين يعملون والذين لا يعلمون) ... 9 ... الزّمر ... 39 ... 79

36 ... (إنّ في ذلك لآيات لقوم يعقلون) ... 4 ... الرعد ... 13 ... 79

37 ... (إنما يخشى الله من عباده العلماء) ... 28 ... فاطر ... 35 ... 79

38 ... (ويتفكرون في خلق السماوات والأرض) ... 191 ... آل عمران ... 3 ... 79

39 ... (لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي) ... 256 ... البقرة ... 2 ... 79

40 ... (أأنتم تخلقونه أم نحن الخالقون) ... 59 ... الواقعة ... 56 ... 79

41 ... (علم الإنسان ما لم يعلم) ... 5 ... العلق ... 96 ... 79

42 ... (والذين في أموالهم حقٌ معلوم للسائل والمحروم ... 24-25 ... المعارج ... 70 ... 81

43 ... (وآتوهم من مال الله الذي آتاكم) ... 33 ... النور ... 24 ... 81

44 ... (والله الذي خلق السموات والأرض، وأنزل من السماء ماء فأخرج به من الثمرات رزقاً لكم، وسخر لكم الفلك لتجري في البحر بأمره، وسخر لكم الأنهار، وسخر لكم الشمس والقمر دائبين، وسخر لكم الليل والنهار، وآتاكم من كل ما سألتموه، وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها، إن الإنسان لظلوم كفار) ... 32-33-34 ... إبراهيم ... 14 ... 18

45 ... (وآتوهم من مال الله الذي آتاكم) ... 33 ... النور ... 24 ... 81

46 ... (وآية لهم الأرض الميتة أحييناها وأخرجنا منها حباً فمنه يأكلون، وجعلنا فيها جنات من نخيل وأعناب وفجرنا فيها من العيون) ... 33-34 ... ياسين ... 36 ... 83

47 ... (فإن الله غني عن العالمين) ... 97 ... آل عمران ... 3 ... 98

48 ... (وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين) ... 107 ... الأنبياء ... 21 ... 98

49 ... (إن يشأ يذهبكم ويستخلف من بعدكم ما يشاء) ... 133 ... الأنعام ... 6 ... 101

50 ... (والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله فبشرهم بعذاب أليم) ... 34 ... التوبة ... 9 ... 101

51 ... (ويل كل همزة لمزة) ... 1 ... الهمزة ... 104 ... 101

52 ... (ظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس ليذيقهم بعض الذي عملوا لعلهم يرجعون) ... 41 ... الروم ... 30 ... 102

53 ... (والأرض مددناها، وألقينا فيها رواسي، وأنبتنا فيها من كل شيء موزون، وجعلنا لكم فيها معايش ومن لستم له برازقين)

(وإن من شيء إلا وعندنا خزائنه وما ننزله إلا بقدر معلوم)

... 19-20-21 ... الحجر ... 15 ... 103

54 ... (والذين في أموالهم حقٌ معلوم للسائل والمحروم) ... 24-25 ... المعارج ... 70 ... 103

55 ... (والله رؤوف بالعباد) ... 30 ... آل عمران ... 3 ... 104

56 ... (إنما الصدقات للفقراء والمساكين والعاملين عليها، والمؤلفة قلوبهم وفي الرقاب والغارمين وفي سبيل الله وابن السبيل) ... 60 ... التوبة ... 9 ... 105

57 ... (كي لا يكون دولة بين الأغنياء منكم) ... 7 ... الحشر ... 59 ... 105

58 ... (هو أنشأكم من الأرض واستعمركم فيها) ... 61 ... هود ... 11 ... 106

59 ... (والذين في أموالهم حقٌ معلوم للسائل والمحروم) ... 24-25 ... المعارج ... 70 ... 106

60 ... (الله الذي خلق السموات والأرض وأنزل من السماء ماء فأخرج به من الثمرات رزقاً لكم، وسخر الفلك لتجري في البحر بأمره، وسخر لكم الأنهار، وسخر لكم الشمس والقمر دائبين وسخر لكم الليل والنهار وأتاكم من كل ما سألتموه وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها إن الإنسان لظلوم كفار) ... 32-33-34 ... إبراهيم ... 14 ... 106

61 ... (وآتوهم من مال الله الذي آتاكم) ... 33 ... النور ... 24 ... 106

62 ... (والذين في أموالهم حق معلوم للسائل والمحروم) ... 24-25 ... المعارج ... 70 ... 114

63 ... (الرجال قوامون على النساء كما فضل بعضهم على بعض) ... 34 ... النساء ... 4 ... 117

64 ... (وللرجال عليهن درجة) ... 28 ... البقرة ... 2 ... 117

65 ... (وأمرهم شورى بينهم) ... 38 ... الشورى ... 42 ... 118

66 ... (وإذا الموؤدة سئلت بأي ذنب قتلت) ... 8 ... التكوير ... 81 ... 118

67 ... (ولا تمش في الأرض مرحاً إنك لن تخرق الأرض ولن تبلغ الجبال طولا) ... 37 ... الإسراء ... 17 ... 122

68 ... (والله رؤوف بالعباد) ... 30 ... آل عمران ... 3 ... 122

69 ... (المال والبنون زينة الحياة الدنيا) ... 46 ... الكهف ... 18 ... 122

70 ... (وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحسانا) ... 23 ... الإسراء ... 17 ... 122

71 ... (وإنك لعلى خلق عظيم) ... 4 ... القلم ... 68 ... 123

الفهرس

صدر للمؤلفة

1. التكنولوجيا الحديثة، الديون والجوع، وربما نهاية العالم- مؤسسة الرسالة ، دمشق 1996 وصدر عن ذات المؤسسة.

2. أثر التكنولوجيا الحديثة على الجسم البشري، لعام 1996.

3. اليمن بين قديمه وحيثه، لعام 1998.

4. العولمة في النظم التكنولوجية الحديثة، والتفتيش عن طريق بديل، لعام1998.

×××

هذا الكتاب

دراسة تعرض لأسس علم الاقتصاد ومنطلقاته إضافة إلى المذهب الاقتصادي في المجتمع الرأسمالي لتنتقل إلى عرض الموضوع نفسه في المجتمع الاشتراكي وذلك من خلال إبراز الثغرات والسلبيات التي ظهرت في كلا النظامين من خلال مفاهيم وسائل الإنتاج، والملكية والتوزيع، والعمل والحرية وسواها من العناصر التي تتحكم في مسيرة هذا النظام أو ذاك لتدلف إلى مكونات علم الاقتصاد في المجتمع الإسلامي محللة المذهب الاقتصادي فيه، شارحة منطلقاته وأسسه ومكوناته وذلك من خلال أشكال الملكية في الإسلام ونظام المحرمات في الاقتصاد مبينة أهمية النظرية الاقتصادية الإسلامية من خلال التركيز على مفهوم العدالة الاجتماعية.

=============

#الشيعة هم العدو فاحذرهم

شحاتة محمد صقر

إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا ، من يهد الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادى له ، ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، ونشهد أن محمدًا عبده ورسوله ، اللهم صل وسلم على نبينا وحبيبنا محمد وعلى آله وأصحابه والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.

إن الهدف من هذا الكتيب تقديم فكرة مبسطة ومختصرة جدًا عن الشيعة وخطرهم.فإن اليهود والنصارى والمشركين وسائر الكفار ، أعداء للإسلام والمسلمين ، وهذه حقيقة يقررها الإسلام ، ويدركها كل من تمسك بإسلامه ودينه ، وهذا العداء مكشوف وواضح وصريح.ولكن هناك أيضًا أعداء آخرون ، خطرهم كبير ، وشرهم عظيم ، حذّر منهم الإسلام ، وحدد القرآن مواصفاتهم ، وسمّيت سورة باسمهم ، وذكرت في السيرة أخبارهم ، أولئك هم المنافقون المجرمون ، الذين يصافحون بيد ويطعنون بالأخرى ، الذين يظهرون الغيرة على الدّين وهم يحطمونه ، يتحدثون باسم الإسلام وهم أعداؤه ، إن فضِح أمرهم ، وكشِفت مقالاتهم ، وتبيّنت أهدافهم ، حلفوا بالله ما أردنا وما قصدنا ، يحلفون بالله ليرضى الناس عنهم ، يخادعونهم ويُموّهون عليهم ، وإذا خلوا إلى بعضهم وإلى شياطينهم كان لسان حالهم ومقالهم : إنّا معكم إنّما نحن مستهزئون .

والمنافقون أصناف عديدون : فمنهم العلمانيّون ، الذين يرفضون شرع الله ? ويريدون دينًا حسب مواصفاتهم ومقاييسهم ورغباتهم ومنهم الفرق الباطنيّة الهدّامة، ومنهم طائفة رداءها النفاق، وشعارها الكذب ، ودينها اللعن والتكفير للصّحابة وأتباعهم .ولمَ لا نحذر منهم ! وهم يخدعون من يجهل حقيقتهم ، ويلبسون لباس الدّين ، ويظهرون التّباكي على قضايا المسلمين ، ويرددون دعوتهم للتقارب ووحدة الصّف ونبذ الخلاف إنهم طائفة الشّيعة الرافضة.

فرق الشيعة المعاصرة اليوم كثيرة ، الكبرى منها ثلاث هي: 1- الإسماعيلية ، ومنها النصيرية ( العلويون في سوريا )، والدروز، والبهرة، والبهائية ، والبابية والأغاخانية ، وغيرها . وكلها مارقة عن دين الإسلام .

2- الزيدية : وهم أتباع زيد بن عليّ بن الحسين ، ويعتبرون ـ رغم ضلالاتهم ـ من أقرب الفرق الشيعية لأهل السنة ، ما عدا فرقة منهم تسمى الجارودية ، فهي فرقة من الروافض وإن تسمت بالزيدية ، وموطن الزيدية في اليمن .

3- الإثنا عشرية ( الروافض) وهي كبرى الفرق الشيعية كالذين في إيران والعراق ولبنان وبعض دول الخليج (وهي موضوع هذا البحث) .

الاثنا عشرية : هم الذين يسمون الرافضة والجعفرية نسبة إلى جعفر الصادق ـ وهو منهم بريء ـ ط ، وسموا بالاثنى عشرية لقولهم باثنَي عشر إمامًا ، ويشكّلون الغالبية العظمى من الشيعة اليوم .

نشأتها: تمتد جذورها الفكرية إلى طائفة السّبئية ، أتباع عبدالله بن سبأ اليهودي، والسّبئية هم أول من قال بالنص على خلافة عليّ ط ورجعته ، والطعن في الخلفاء الثلاثة وأكثر الصحابة ن ، وهي آراء أصبحت فيما بعد من أصول المذهب الاثنى عشري.

أهم عقائد الشيعة الاثنى عشرية

1- الإمامة : يرون أن إمامة الاثني عشر ، ركن الإسلام الأعظم ، وهي عندهم منصب إلهي كالنبوة ، والإمام عندهم يوحى إليه ، ويؤيد بالمعجزات ، وهو معصوم عصمة مطلقة.

* يميل علماء الشيعة إلى حصر أهل البيت النبوي في الابنة الصغرى للنبي ث فاطمة ، وزوجها عليّ وابنيها الحسن والحسين ن وتسعة من نسل الحسين ، ثم يعمدون إلى إغفال خلفاء المسلمين عبر العصور والتقليل من شأن منجزاتهم في نصرة الإسلام والمسلمين.

* أما أهل السنة فإنهم يعتبرون أهل البيت كل من حرمت الصدقة عليه من أقرباء النبي ث و يشمل هؤلاء عليّ وآله ، وجعفرًا وآله، وعقيلاً وآله، والعباس وآله.كما يعتبر علماء المسلمين زوجات الرسول من أهل البيت بنص الآية 33 من سورة الأحزاب، إذ يخاطبهن الله بقوله:? وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى وَأَقِمْنَ الصَّلَاةَ وَآتِينَ الزَّكَاةَ وَأَطِعْنَ اللهَ وَرَسُولَهُ إِنَّمَا يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا? هذا فضلاً عن كون زوجات النبي ث أمهات كل من ادعى أنه مؤمن إذ تقول الآية السادسة من سورة الأحزاب: ?النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ?. كما أن صالحي أهل البيت ـ بدون استثناء ـ لهم مكانة سامية لدى أهل السنة ؛ فإن من عقيدة أهل السنة حب آل بيت النبي ث وحب أصحابه ، رضي الله عن الجميع.

2- الطعن في الصحابة : يزعم الشيعة أن الصحابة ن ارتدوا عن الإسلام إلا ثلاثة أو أربعة أو سبعة ، على اختلاف أساطيرهم ، وكيف يقال مثل هذا القول في أفضل قرن عرفته البشرية ، في قوم نقلوا لنا الدين ، وشهدت بفضلهم آيات القرآن العظيمة ، ونصوص السّنة المطهّرة ، ووقائع التاريخ الصادقة .

3- محاولتهم النيل من كتاب الله : لمَّا كانت نصوص القرآن لا ذكر فيها لإمامة الاثنى عشر ، كما أنها تُثني على الصحابة وتعلي من شأنهم ، تحيّروا فقالوا لإقناع أتباعهم : إن آيات الإمامة وسب الصحابة قد أُسقِطَتْ من القرآن ، ولكنّ هذا القول كشف القناع عن كفرهم ، فراحوا ينكرونه ، ويزعمون أنهم لم يقولوا به ، ولكنّ رواياته قد فشت في كتبهم ، وآخر فضائحهم في ذلك كتاب كتبه أحد كبار شيوخهم سمّاه (فصل الخطاب في إثبات تحريف كتاب رب الأرباب )، حيث أثبت تواتر هذا الكفر الصريح ، والكذب المكشوف في كتب الروافض ، واعترف بأن شيوخهم يؤمنون بهذا الكفر ، فكان هذا الكتاب فضيحة كبرى لهم وعار عليهم أبد الدهر .

*بعضهم قالوا بأن جبريل قد أخطأ في الرسالة فنزل على محمد ث، بدلاً من أن ينزل على عليّ ط لأن عليًّا يشبه النبي ث كما يشبه الغرابُ الغرابَ ولذلك سُمُّوا بالغرابية.

4- عقيدة التقية عند الشيعة

التقية عند الشيعة هي التظاهر بعكس الحقيقة ، وهي تبيح للشيعي خداع غيره فبناء على هذه التقية ينكر الشيعي ظاهرًا ما يعتقده باطنًا ، وتبيح له أن يتظاهر باعتقاد ما ينكره باطنًا ، ولذلك تجد الشيعة ينكرون كثيرًا من معتقداتهم أمام أهل السنة ، مثل القول بتحريف القرآن وسب الصحابة وتكفير وقذف المسلمين وإلى غير ذلك من المعتقدات .

يقول شيخهم ورئيس محدثيهم الملقب بالصدوق في (رسالة الاعتقادات ص 104):«واعتقادنا في التقية أنها واجبة من تركها كان بمنزلة من ترك الصلاة...والتقية واجبة لا يجوز رفعها إلى أن يخرج القائم فمن تركها قبل خروجه فقد خرج من دين الله وعن دين الإمامية وخالف الله ورسوله والأئمة».

خطر الشيعة الروافض: تعد الرافضة من أخطر الفرق على الأمة، وأشدها فتنة وتضليلاً ، خصوصًا على العامة الذين لم يقفوا على حقيقة أمرهم ، وفساد معتقدهم ، والشيعة في هذا الزمان قد أحدثوا حِيَلاً جديدة لاصطياد من لا علم عنده من أهل السنة ، والتأثير عليه بعقيدتهم الفاسدة الكاسدة. فمن ذلك ما أحدثوه من دعوة التقريب بين السنة والشيعة ، والدعوة إلى تناسي الخلافات بين الطائفتين.وما هذه الدعوة إلا ستار جديد للدعوة للرفض والتشيع، ونشر هذه العقيدة الفاسدة بين صفوف أهل السنة ، وإلا فالشيعة لا يقبلون التنازل عن شيء من عقيدتهم.

* نشأت فرقة الشيعة الإثنى عشرية عندما ظهر رجل يهودي اسمه (عبد الله بن سبأ) ادعى الإسلام ، وزعم محبة أهل البيت ، وغالى في عليّ ط ، وادعى له الوصية بالخلافة ثمّ رفعه إلى مرتبة الألوهية ، وهذا ما تعترف به الكتب الشيعية نفسها.

من أسماء هذه الفرقة: الشيعة ، الإمامية ، الإثنا عشرية ، الرافضة، الجعفرية.

الكتب الرئيسة عند الإثنى عشرية : 1- الكافي للكُلَيني: وقد أشار علماء الشيعة إلى أن هذا الكتاب أصح الكتب الأربعة المعتمدة عندهم ، وشرَحَه عدد من شيوخهم ، ومن شروحه(مرآة العقول) للمجلسي، الذي اعتنى بالحكم على أحاديث الكافي من ناحية الصحة والضعف.. وقد صحّح كثيرًا من الروايات المفتراة والمكذوبة ، والتي هي كفر بإجماع المسلمين كروايات تحريف القرآن وتأليه الأئمة.

2- من لا يحضره الفقيه لشيخهم المشهور عندهم بالصدوق محمد بن بابويه القمي.

3- تهذيب الأحكام لشيخهم المعروف بـ(شيخ الطائفة) أبي جعفر محمد بن الحسن الطوسي. وقد ألفه لمعالجة التناقض والاختلاف الواقع في رواياتهم.

4-الاستبصار لأبي جعفر محمد بن الحسن الطوسي .

اعتقاد الشيعة الإثنى عشرية في القرآن الكريم

أولا: اعتقاد تحريف القرآن الكريم:

* يقول الله U :? إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ? [ الحجر: 9] ويقول الشيعة :إن القرآن الذي عندنا ليس هو الذي أنزل الله على محمد ث ، بل جرى عليه التغيير والتبديل، وزِيد فيه ونُقص منه.وجمهور المحدثين من الشيعة يعتقدون التحريف في القرآن كما ذكر ذلك النوري الطبرسي صاحب كتاب( فصل الخطاب في إثبات تحريف كتاب رب الأرباب) وهو كتاب شامل مفصل بحث فيه المحدث الشيعي بحثًا وافيًا في إثبات التحريف في القرآن ـ بزعمه ـ ، وأورد فيه أكثر من ألفَي رواية من الروايات الشيعية المعتمدة في كتبهم تفيد القول بالتحريف والنقص ، وأن لا اعتماد على هذا القرآن الذي بين أيدي المسلمين اليوم .وردّ الطبرسي على من أنكر أو أظهر التناكر من الشيعة .

ويرى الأستاذ محب الدين الخطيب / أن سبب الضجة أنهم يريدون أن يبقى التشكيك في صحة القرآن محصورًا بين خاصتهم ، ومتفرقاً في مئات الكتب المعتبرة عندهم ، وأن لا يجمع ذلك كله في كتاب واحد تطبع منه ألوف من النسخ ويطلع عليه خصومهم فيكون حجة عليهم ماثلة أمام أنظار الجميع.

ولما أبدى عقلاؤهم هذه الملاحظات خالفهم فيها مؤلفه ، وألّف كتابًا آخر سماه: رد بعض الشبهات عن (فصل الخطاب في إثبات تحريف كتاب رب الأرباب). وقد ألّف كتابه هذا في أواخر حياته قبل موته بنحو سنتين ، و قد كافئوه على هذا المجهود ـ في إثبات أن القرآن الكريم مُحَرَّف ـ بأن دفنوه في مكان متميز من بناء المشهد العلوي في النجف.

ومما استشهد به النوري الطبرسي على وقوع النقص بالقرآن إيراده في الصفحة 180 من كتابه سورة تسميها الشيعة ( سورة الولاية ) مذكور فيها ولاية علي ط ، وهذا نصها:« يا أيها الذين آمنوا آمنوا بالنبي والولي اللذين بعثناهما يهديانكم إلى الصراط المستقيم * نبي وولي بعضهما من بعض و أنا العليم الخبير * إن الذين يوفون بعهد الله لهم جنات النعيم * والذين إذا تليت عليهم آياتنا كانوا بآياتنا مكذبون * إن لهم في جهنم مقامًا عظيمًا إذا نودي لهم يوم القيامة أين الظالمون المكذبون للمرسلين * ما خلفتهم المرسلين إلا عني و ما كان الله ليظهرهم إلى أجل قريب و سبح بحمد ربك و عليّ من الشاهدين). تعالى الله عما يقولون و يفترون.

صورة من سورة الولاية في مصحف الشيعة المحرف

بعض أقوال شيوخهم في إثبات تحريف القرآن

* يذكر صاحب( الكافي):«...رفع إليَّ أبو الحسن مصحفًا وقال:«لا تنظر فيه، ففتحته وقرأت فيه ? لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا?[البينة:1) فوجدتُ فيها ـ أي السورة ـ اسم سبعين رجلاً من قريش بأسمائهم وأسماء آبائهم ».(الكافي 2/261).

* وفي( الكافي )كذلك( 1/412): عن جابر، عن أبي جعفر ÷قال: قلت له: لمَ سُمِّي أمير المؤمنين ـ أي عليّ بن أبي طالب ـ ؟ قال:« الله سماه هكذا ؛ أنزل في كتابه:« وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم وأن محمدًا رسولي وأن عليًا أمير المؤمنين »ا. هـ.

فإضافة هذه الزيادة على الآية الكريمة ( وأن محمدًا رسولي وأن عليًا أمير المؤمنين ) واعتبارها من القرآن ، هو عين القول بالتحريف ، ومعناه أن الآية كما هي مثبَتَة في كتاب الله تعالى .. وكما يقرأها المسلمون .. إنما هي آية ناقصة .. لم تُكتب كما أنزلت ..!!

* وفي (الكافي) كذلك( 1/417): عن أبي جعفر ÷قال:« نزل جبرائيل ÷ بهذه الآية على محمد ث هكذا:« بئسما اشتروا به أنفسهم أن يكفروا بما أنزل الله في عليّ بغيًا » ا. هـ.... فقوله (هكذا) أي نصًاوحرفاً .. وهذا صريح الكذب والتحريف!

* يقول المحدث الشيعي (نعمة الله الجزائري) ـ نسبة إلى جزائر البصرة ـ في كتابه (الأنوار النعمانية):«إن الأصحاب (أي علماء المذهب الشيعي) قد أطبقوا على صحة الأخبار المستفيضة بل المتواترة الدالة بصريحها على وقوع التحريف في القرآن.» (فصل الخطاب ص 30) .

* الخميني الذي يستشهدون بأقواله على عدم وقوع التحريف يفضحه الله تعالى ، حيث قال في معرض كلامه عن الإمامة والصحابة:«..فإن أولئك الذين لا يعنون بالإسلام والقرآن إلا لأغراض الدنيا والرئاسة، كانوا يتخذون من القرآن وسيلة لتنفيذ أغراضهم المشبوهة، ويحذفون تلك الآيات من صفحاته، ويُسقِطون القرآن من أنظار العالمين إلى الأبد، ويلصقون العار ـ وإلى الأبد ـ بالمسلمين وبالقرآن، ويُثبتون على القرآن ذلك العيب الذي يأخذه المسلمون على كتب اليهود والنصارى».(كشف الأسرار ص 131)

* وقد أثنى الخميني أكثر من مرة على نور الدين الطبرسي ، مؤلف كتاب (فصل الخطاب في إثبات تحريف كتاب رب الأرباب) (الحكومة الإسلامية ص 66 ).

* وقد درج بعض شيوخهم المعاصرين على التظاهر بإنكار هذه الفِرْية ، والدفاع عن كتاب الله سبحانه. لكن يلاحظ كفره في فلتات لسانه ، وترى الباطل يحاول دسه في الخفاء. ومن أخبث من سلك هذا الطريق شيخهم أبو القاسم الخوئي ، المرجع الأعلى للشيعة في العراق وغيرها من البلاد. ففي تفسيره(البيان) يقرر أن المشهور بين علماء الشيعة ومحققيهم ، بل المتسالم عليه بينهم هو( القول بعدم التحريف) .(تفسير البيان ص226). ولكنّ أبا القسم الخوئي يقطع بصحة جملة من روايات التحريف فيقول:« إن كثرة الروايات تورث القطع بصدور بعضها عن المعصومين، ولا أقل من الاطمئنان بذلك، وفيها ما روي بطريق معتبر». (تفسير البيان ص222).

ونقول للخوئي وأمثاله: لا شك أن أمير المؤمنين عليّ ط ما كان يقرأ ويحكم إلا بالمصحف الذي أجمع عليه الصحابة ن ، وهذا ما تعترف به كتب الشيعة.ولو كان هناك مصحف غير القرآن كما يزعم الجاهلون لأخرجه عندما كان خليفة للمسلمين ، ولحكم به وهذا ما لم يحدث ، وهذا طعن من الشيعة في عليّ ط .ولهذا أخرج ابن أبي داود بإسناد صحيح من طريق سويد بن غفلة قال:قال عليّ:« لا تقولوا في عثمان إلا خيرًا ، فوالله ما فعل في المصاحف إلا عن ملإٍ منا». وقد نقلت ذلك كتب الشيعة.

ثانيًا:العمل بالقرآن ريثما يخرج مصحفهم مع إمامهم المنتظر:

قال شيخهم نعمة الله الجزائري:« قد روي في الأخبار أنهم ‡ أمروا شيعتهم بقراءة هذا الموجود من القرآن في الصلاة وغيرها والعمل بأحكامه حتى يظهر مولانا صاحب الزمان فيرتفع هذا القرآن من أيدي الناس إلى السماء ، ويخرج القرآن الذي ألفه أمير المؤمنين فيقرأ ويعمل بأحكامه»(الأنوار النعمانية: 2/363-364).

مصحف فاطمة: وتدعي كتب الشيعة نزول مصحف على فاطمة م بعد وفاة رسول الله ث . ويزعم الشيعة أنه قد دُوِّن فيه علم ما يكون، مما سمعته الزهراء م من حديث الملائكة بعد وفاة أبيها ث. وذلك تسكينًا لها على حزنها لفقد أبيها ث.

وممّا يدل على كذبهم وجود بعض الروايات عندهم التي تتحدث عن مصحف فاطمة أنه من إملاء رسول اللّه ث وخَطِ عليّ ط : جاء في( بصائر الدرجات ص 153) عن عليّ بن سعيد عن أبي عبد اللّه u: « وعندنا واللّه مصحف فاطمة ، ما فيه آية من كتاب اللّه وإنّه لإملاء رسول اللّه ث وخط عليّ u (1)بيده » . .

والمضحك أنّه توجد روايات أخرى تشير إلى أن المصحف ألقي على فاطمة من السماء ، ولم يكن المملي رسول اللهث ، ولا خط عليّط ، ولم يحضر ملك يحدثها ويؤنسها ليكتب عليّ ما يقوله الملك، تقول الرواية:«مصحف فاطمة ‘ما فيه شيء من كتاب الله وإنما هو شيء ألقي عليها »(بحار الأنوار 26/48).

وتزعم الشيعة أن مصحف فاطمة ثلاثة أضعاف القرآن:فعن أبي بصير عن أبي عبد اللّه u قال:« وإنّ عندنا لمصحف فاطمة سلام الله عليها، وما يدريهم ما مصحف فاطمة سلام الله عليها؟ قال: قلت: وما مصحف فاطمة سلام الله عليها؟ قال: مصحف فيه مثل قرآنكم هذا ثلاث مرات، واللّه ما فيه من قرآنكم حرف واحد».(الكافي1/239). وهذه الأسطورة يرويها ثقة الإسلام ـ عندهم ـ الكليني بسند صحيح ـ عندهم ـ كما يقرره شيوخهم (انظر: الشّافي شرح أصول الكافي3/197(.

عقيدة الشيعة في السنة

الشيعة يردّون كتب السنة جملةً وتفصيلاً فلا يعتبرونها ولا يُقِرّونها ؛ لأن رواتها كفار ـ بزعمهم ـ وترتب على ردِّهم للسنة أن يوجدوا بدائل وهذه البدائل هي أقوال الأئمة ، لذلك لا تجد لهم في كتبهم من الأحاديث ما هو مرفوع للنبي ث إلا نادرًا خصوصًا كتب الفقه الشيعي ، لا تجد فيها عن فلان عن فلان عن النبي ث ، فكل الروايات تسند عن أئمتهم.

يقول في تعريفها شيخهم محّمد الحسين آل كاشف الغطاء:« إنهم [ أي الشيعة ] لا يعتبرون من السنة ـ أعني الأحاديث النبوية ـ إلا ما صحّ لهم من طريق أهل البيت ‡عن جدهم ث ، يعني:ما رواه الصادق عن أبيه الباقر عن أبيه زين العابدين عن الحسين السبط عن أبيه أمير المؤمنين عن رسول الله سلام الله عليهم جميعًا ، أمّا ما يرويه مثل: أبي هريرة ، وسمرة بن جندب ، ومروان بن الحكم ، وعمرو بن العاص ونظائرهم فليس لهم عند الإمامية من الاعتبار مقدار بعوضة وأمرهم أشهر من أن يذكر»(أصل الشيعة وأصولها، ص 236) .

فالسنة عندهم هي:«كل ما يصدر عن المعصوم من قولٍ أو فعلٍ أو تقريرٍ»(محمد تقي الحكيم، الأصول العامة للفقه المقارن ص122)، والمعصوم هو رسول الله ث ، والأئمة الإثنا عشر، أي لا فرق عندهم في هذا بين هؤلاء الإثنى عشر وبين من لا ينطق عن الهوى ث ، إن هو إلا وحي يوحى. ولا فرق في كلام هؤلاء الإثنى عشر بين سن الطفولة ، وسن النضج العقلي ؛ إذ إنّهم ـ في نظرهم ـ لا يخطئون عمدًا ولا سهوًا ولا نسيانًا طوال حياتهم ، ولهذا قال أحد شيوخهم المعاصرين: « إن الاعتقاد بعصمة الأئمة جعل الأحاديث التي تصدر عنهم صحيحة دون أن يشترطوا إيصال سندها إلى النبي ث كما هو الحال عند أهل السنة ، وأن الأئمة كالرسل ، قولهم قول الله ، وأمرهم أمر الله ، وطاعتهم طاعة الله ، ومعصيتهم معصية الله ، وإنهم لم ينطقوا إلا عن الله تعالى وعن وحيه »(الاعتقادات لابن بابويه ص 106).

عقيدة الشيعة في أصحاب رسول الله ث

تقوم عقيدة الشيعة الإثنى عشرية على سب وشتم وتكفير الصحابة ن . ذكر الكليني في (فروع الكافي) (كذبًا)عن جعفر:« كان الناس أهل ردة بعد النبي ث إلا ثلاثة ، فقلت:من الثلاثة؟ فقال: المقداد بن الأسود ، وأبو ذر الغفاري ، وسلمان الفارسي ». وذكر المجلسي في (حق اليقين) أنه قال لعليّ بن الحسين مولى له: « لي عليك حق الخدمة فأخبرني عن أبي بكر وعمر؟ فقال:إنهما كانا كافرين ، الذي يحبهما فهو كافر أيضًا ». وفي تفسير القمي عند قوله تعالى:? وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ ? [النحل :90] قالوا: الفحشاء أبو بكر، والمنكر عمر، والبغي عثمان.

ويقولون في كتابهم(مفتاح الجنان):« اللهم صل على محمد وعلى آل محمد والعن صنمَيْ قريش وجِبتَيْهِما وطاغوتَيْهما وابنتيهما.. إلخ» ويعنون بذلك أبا بكر وعمر وعائشة وحفصة ن .

وفي يوم عاشوراء يأتون بكلب ويسمونه عمر، ثم ينهالون عليه ضربا بالعصي ورجمًا بالحجارة حتى يموت ، ثم يأتون بسخلة(2) ويسمونها عائشة ، ثم يبدؤون بنتف شعرها وينهالون عليها ضربًا بالأحذية حتى تموت.

* كما أن للشيعة عيد يقيمونه في اليوم التاسع من ربيع الأول ، يحتفلون باليوم الذي قتل فيه الفاروق عمر بن الخطاب ط ، ويسمون قاتله أبا لؤلؤة المجوسي: بابا شجاع الدين ، رضي الله عن الصحابة أجمعين وعن أمهات المؤمنين.

وبلغت استهانة الخميني بأصحاب رسول الله ث أن فضّل عليهم شعب إيران كما يذكر ذلك في وصيته:« وأنا أزعم بجرأة أن الشعب الإيراني بجماهيره المليونية في العصر الراهن أفضل من أهل الحجاز في عصر رسول الله»( الوصية السياسية:الخميني ص 23)، ويقول هذا الخبيث الكافر في سبه لخير الأمة بعد نبيها ث:

« إننا هنا لا شأن لنا بالشيخين، وما قاما به من مخالفات للقرآن ، ومن تلاعب بأحكام الإله ، وما حللاه وما حرماه من عندهما ، وما مارساه من ظلم ضد فاطمة بنت النبي ث ، وضد أولادها، ولكننا نشير إلى جهلهما بأحكام الإله والدين»، ثم يقول في الصفحة الأخرى:«وإن مثل هؤلاء الأفراد الجهال الحمقى، والأفاقين والجائرين غير جديرين بأن يكونوا في موضع الإمامة، وأن يكونوا ضمن أولي الأمر».(كشف لأسرار:الخميني ص126-127).

قال الإمام مالك /عن الشيعة :« إنما هؤلاء قوم أرادوا القدح في النبي ث فلم يمكنهم ذلك ، فقدحوا في أصحابه حتى يقال : رجل سوء ، ولو كان صالحًا كان أصحابه صالحين » ( الصارم المسلول ج 3 ص 108) .

أوجه التشابه بين اليهود والشيعة الإثنى عشرية

قال شيخ الإسلام ابن تيمية /: « وآية ذلك أن محنة الشيعة الإثنى عشرية محنة اليهود ، وذلك أن اليهود قالوا لا يصلح الملك إلا في آل داود ، وقالت الشيعة الإثنى عشرية: لا تصلح الإمامة إلا في ولد عليّط. وقالت اليهود: لا جهاد في سبيل الله حتى يخرج المسيح الدجال وينزل السيف ، وقالت الشيعة الإثنى عشرية:لا جهاد في سبيل الله حتى يخرج المهدي وينادي مناد من السماء.

واليهود يؤخرون الصلاة إلى اشتباك النجوم ، وكذلك الشيعة الإثنى عشرية يؤخرون المغرب إلى اشتباك النجوم . والحديث: « لا تزال أمتي على الفطرة ما لم يؤخروا المغرب إلى اشتباك النجوم».(3)

واليهود حرفوا التوراة وكذلك الشيعة الإثنى عشرية حرفوا القرآن. واليهود لا يرون المسح على الخفين وكذلك الشيعة الإثنى عشرية. واليهود تبغض جبريل يقولون هو عدونا من الملائكة، وكذلك الشيعة الإثنى عشرية يقولون غلط جبريل بالوحي على محمد ث. وكذلك الشيعة الإثنى عشرية وافقوا النصارى في خصلة النصارى ؛ ليس لنسائهم صداق إنما يتمتعون بهن تمتعا ، وكذا الشيعة الإثنى عشرية يتزوجون بالمتعة ويستحلونها.

وفُضِّلت اليهود والنصارى على الشيعة الإثنى عشرية بخصلتين: سُئلت اليهود: من خير أهل ملتكم؟ قالوا: أصحاب موسى. وسئلت النصارى: من خير أهل ملتكم؟ قالوا: حواري عيسى ، وسئلت الشيعة الإثنى عشرية: من شر أهل ملتكم؟ قالوا:أصحاب محمدث.

عقيدة الإمامة عند الشيعة الإثنى عشرية

الإمامة عند الشيعة تختلف عن الإمامة في الدين عند أهل السنة والجماعة، فالإمام عند الشيعة له من الخصائص كما للنبيث!، يقرر ذلك محمد حسين آل كاشف الغطاء في كتابه(أصل الشيعة وأصولها ص85) يقول:« إن الإمامة منصب إلهي كالنبوة ، فكما أن الله سبحانه يختار من يشاء من عباده للنبوة والرسالة ، ويؤيّد بالمعجزة التي هي كنَصّ من الله عليه. فكذلك يختار للإمامة من يشاء ويأمر نبيه بالنص عليه وأن ينصبه إمامًا للناس من بعده ».

والإمامة عند الشيعة أحد أركان الإسلام الخمسة ، فهم يعتقدون كما جاء في أصول الكافي عن أبي جعفر أنه قال:«بني الإسلام على خمس ، على الصلاة ، والزكاة ، والصوم ، والحج والولاية ، ولم ينادَ بشيء كما نودي بالولاية ، فأخذ الناس بأربع وتركوا هذه ــ يعني الولاية » .

منزلة الإمامة وحكم منكرها: جعلت الشيعة مدار قبول الأعمال من العباد على الإيمان بالإمامة ، فنسبوا إلى الصادق قوله: « إن أول ما يُسأل عنه العبد إذا وقف بين يدي الله Y عن الصلوات المفروضات ، وعن الزكاة المفروضة ، وعن الصيام المفروض ، وعن الحجّ المفروض ، وعن ولايتنا أهل البيت ، فإن أقرّ بولايتنا ثمّ مات عليها قبِلت منه صلاته وصومه وزكاته وحجه ، وإن لم يقر بولايتنا بين يديY لم يقبل الله منه شيئا من أعماله».(أمالي الصدوق ص 154).وحكى المفيد ـ أحد علماء الشيعة ـ إجماع الإمامية على أن من أنكر إمامة أحد من الأئمة وجحد ما أوجبه الله تعالى له من فرض الطاعة فهو كافر ضال مستحق للخلود في النار.(البحار8/366 ، 23/390) .

عصمة الأئمة: ذهب الشيعة إلى القول بعصمة الأئمة ، فلا يخطئون عمدًا ولا سهوًا ولا نسيانًا طول حياتهم ، ولا فرق في ذلك بين سن الطفولة وسن النضج العقلي ، ولا يختص هذا بمرحلة الإمامة.

يقول الخميني: «إنّ الأئمة الذين لا نتصور فيهم السهو والغفلة، ونعتقد فيهم الإحاطة بكل ما فيه مصلحة المسلمين »(الحكومة الإسلامية، ، ص 52).

ويقال هنا:إنّ العصمة من الخطأ كبيرِه وصغيرِه ، عمدًا وسهوًا، ونسيانًا من المولد إلى الممات أمرٌ يتنافى مع الطبيعة البشرية ، وهذا ممّا لا يقبله العقل إلا بدليل قطعي من الشرع. وإنّ النّفي المطلق للسّهو والنّسيان عن الأئمّة تشبيه لهم بالله ? لا تأخذه سنة ولا نوم. والقول بالعصمة يتنافى مع ما ثبت من أن الأئمة يعترفون بالذنوب ويستغفرون الله منها.

الأئمة عندهم يعلمون الغيب: يروي الكُلَيني في(أصول الكافي، باب أنّ الأئمة إذا شاءوا أن يعلموا علموا) عن جعفر أنّه قال:« إن الإمام إذا شاء أن يعلم علم ، وأنّ الأئمة يعلمون متى يموتون ، وأنّهم لا يموتون إلا باختيار منهم ».

ويعتقدون أنّ الله ? خلق السماوات والأرضين لأجل عليّط، وجعله صراطه المستقيم، وعينه وبابه الذي يؤتى منه ، وحبله المتصل بينه وبين عباده من رسل وأنبياء وحجج وأولياء.(الوافي للفيض الكاشاني المجلد الثاني ص224) وبهذا يقضون على السبب الحقيقي من خلق الخلق الذي سطره الله في القرآن بقوله تعالى:?وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ ? [الذاريات:56] .

الأئمة هم أسماء الله وصفاته :روى الكليني عن أبي عبد الله في قول الله U:? وَلِلّهِ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا ? [الأعراف: 180] قال:« نحن والله الأسماء الحسنى التي لا يقبل الله من العباد عملاً إلا بمعرفتنا » (أصول الكافي1/143-144). وقد تناقل هذا المعتقد علماء الشيعة في روايات عديدة نسبت زورًا لجعفر الصادق ط وغيره.

الغلو في كيفية خلق الأئمة: قال الخميني في كتابه (زبدة الأربعين حديثا): « اعلم أيها الحبيب ، أن أهل بيت العصمة عليهم السلام ، يشاركون النبي في مقامه الروحاني الغيبي قبل خلق العالم، وأنوارهم كانت تسبح وتقدس منذ ذلك الحين ، وهذا يفوق قدرة استيعاب الإنسان حتى من الناحية العلمية. ورد في النص الشريف « يا محمد ، إن الله تبارك وتعالى ، لم يزل منفردًا بوحدانيته ، ثم خلق محمدًا وعليًّا وفاطمة ، فمكثوا ألف دهر ، ثم خلق جميع الأشياء، فأشهدهم خلقها ، وأجرى طاعتهم عليها، وفوض أمورهم إليهم، فهم يُحِلون ما يشاءون أو يُحَرّمون ما يشاءون، ولن يشاءوا إلا أن يشاء الله تعالى ، ثم قال: يا محمد ، هذه الديانة التي من تقَدَّمَها مَرَقَ، ومن تخلف عنها مُحِق، ومن لزمها لَحِقَ ، خذها إليك يا محمد ».

الأئمة الإثنا عشر عند الشيعة أفضل من الأنبياء:من المعلوم من الدين بالضرورة أنّ الرّسل أفضل البشر وأحقّهم بالرّسالة ؛ حيث حققوا كمال العبوديّة لله تعالى، وأتموا التّبليغ والدّعوة، ? اللهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ ? [الأنعام:124] ، وقد امتازوا برتبة الرّسالة ، وفضلهم الله بمنزلة النبوة عن سائر النّاس ، وقد أوجب الله على المسلمين متابعتهم. قال تعالى: ? وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللهِ ? [النّساء: 64] ولا يجوز لأحد أن يفضّل أحدًا من البشر عليهم. قال الإمام الطّحاوي في بيان اعتقاد أهل السّنّة:«ولا نفضّل أحدًا من الأولياء على أحد من الأنبياء ‡ونقول: نبي واحد أفضل من جميع الأولياء».(شرح العقيدة الطّحاويّة: ص493).ولكن غلو الشيعة جعلهم يضعون أئمتهم في درجة أفضل من الأنبياء والرسل والملائكة المقربين كما يذكر ذلك (الحر العاملي) قائلاً:« الأئمة الإثنى عشر أفضل من سائر المخلوقات من الأنبياء والأوصياء السابقين والملائكة وغيرهم ».(الفصول المهمة ص152). ووصل بهم الحال إلى اختلاق روايات على أهل البيت تؤكد أنّ الأئمة يُوحى إليهم ، وأنّ عليًّا ط ناجاه جبريل u في فتح خيبر. وأن فاطمة م لما توفى رسول الله ث بعث الله لها ثلاثة ملائكة يُكلمونها ويسلّونها ،وكان عليّط يكتب ما يقول المَلك!(خطاب ألقاه الخميني يوم الأحد 2/3/86م بمناسبة عيد المرأة).

ويقول الخميني:«إن للإمام مقاما محمودًا ودرجة سامية، وخلافة تكوينية تخضع لولايتها وسيطرتها جميع ذرات هذا الكون ، وإن من ضرورات مذهبنا أن لأئمتنا مقامًا لم يبلغه ملك مقرب ولا نبي مرسل...»وقال أيضًا:«إن تعاليم الأئمة كتعاليم القرآن لا تخص جيلاً خاصًّا وإنما هي تعاليم للجميع في كل عصر ومصر إلى يوم القيامة ».(الحكومة الإسلامية ص112).

ويقول أيضًا:فالإمام المهدي الذي أبقاه الله I ذخرًا من أجل البشرية ، سيعمل على نشر العدالة في جميع أنحاء العالم وسينجح فيما أخفق في تحقيقه جميع الأنبياء.(خطاب ألقاه الخميني بمناسبة الخامس عشر من شعبان عام 1401هـ.)

عقيدة الرجعة عند الشيعة

الرجعة عند الشيعة تعني العودة بعد الموت.وهي من أصول مذهب الشيعة الإثنى عشرية ، ومن المعلوم ضرورةً أنّ هذا مخالف لصريح الكتاب والسنة من أن من قضى نحبه وانتهى أجله أنه لا يعود مرة أخرى حتى يُبعَث الناس من قبورهم يوم القيامة. كقوله تعالى : ? حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ * لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ ? [المؤمنون99-100] .

وجنوح الشيعة الإمامية لتأصيل هذه العقيدة وبثها في نفوس الشيعة، إنما هو من باب تصبير الشيعة وتثبيتهم على معتقداتهم الفاسدة ، لما يرون من حالات الضعف والمهانة التي لقوها من الناس عبر التاريخ ، وهي تبعث الأمل لدى الشيعة الإمامية بأنّ هناك يومًا ما سينتقم فيه الشيعة من أعدائهم ، وتكون الغلبة لهم.

وقد قسم الشيعة الإمامية رجوع الناس بعد الموت إلى ثلاثة أصناف:الأول:رجوع المهدي أو خروجه من مخبئه ، وكذلك رجوع الأئمة بعد موتهم.

الثاني: رجوع خلفاء المسلمين الذين اغتصبوا الخلافة!، والاقتصاص منهم.

الثالث:رجوع أصحاب الإيمان المحض، وهم الشيعة الإمامية ومن تابعهم، ورجوع أصحاب الكفر المحض وهم جميع من لم يؤمن بمذهبهم، وعلى رأسهم أهل السنة بلا شك، ويستثنى من ذلك المستضعفين وهم النساء ، والبُلْه ، ومن لم تتم عليه الحجة كأصحاب الفترة…وهؤلاء عند الشيعة الإمامية مُرجَوْن لأمر الله إما يعذبهم أو يتوب عليهم.(انظر بحار الأنوار 8/363 )

وبرجعة الأئمة يفرح الشيعة الإمامية بملاقاة أئمتهم وخصوصًا المهدي الذي طالما اشتاقت إليه نفوسهم ، وبعودة الأئمة تكون الغلبة لهم والرفعة لهم. وبرجعة الخلفاء الذين اغتصبوا الخلافة ، تطيب نفوسهم ، وتشفى صدورهم بالانتقام ممن اغتصب الخلافة من عليّ وهم أبو بكر وعمر وعثمان ن وفي رجعة المؤمنين أي الشيعة الإمامية أهل الإيمان المحض ! ، والكافرين وهم غير الشيعة الإمامية تتمة لسرورهم برؤية أعدائهم وهم يعذبون وينكل بهم. فكان الأولى أن تسمى عقيدة التنكيل والانتقام بدلاً من عقيدة الرجعة ، لأنها مبنية على الانتقام والتشفي.

عقيدة ظهور الأئمة عند الشيعة الإمامية

عقيدة الرجعة عند الشيعة الإمامية ليست هي عقيدة الظهور، فعقيدة الرجعة خاصة للإمام الثاني عشر والظهور له ولغيره من الأئمة ، وتعني أن يظهر الإمام أو غيره بعد موته لأناس معينين، ولذا فقد بوّب المجلسي في بحار الأنوار، باب : أنهم يظهرون ـ أي الأئمة ـ بعد موتهم ، ويظهر منهم الغرائب». (بحار الأنوار27/303). وهذا الظهور خاضع لإرادة الإمام ، فمتى أراد أن يظهر ظهر. وتذكر كتب الشيعة أنّ أبا الحسن الرضا كان يقابل أباه بعد موته ، ويتلقى وصاياه وأقواله » (بحار الأنوار 27/303 ، وبصائر الدرجات ص78).

ظهور المهدي لإغاثة الملهوف: قال الشيعي المعاصر الشهرودي:

« لا يخفى علينا أنه u ، وإن كان مخفيًا عن الأنام ومحجوبا عنهم، ولا يصل إليه أحد ، ولا يعرف مكانه ، إلا أن ذلك لا ينافي ظهوره عند المضطر المستغيث به الملتجئ إليه ، الذي انقطعت عنه الأسباب وأغلقت دونه الأبواب ، فإنه إغاثة الملهوف ، وإجابة المضطر في تلك الأحوال ، وإصدار الكرامات الباهرة ، والمعجزات الظاهرة ، هي من مناصبه الخاصة ، فعند الشدة وانقطاع الأسباب من المخلوقين ، وعدم إمكان الصبر على البلايا دنيوية أو أخروية ، أو الخلاص من شر أعداء الإنس والجن ، يستغيثون به ، ويلتجئون إليه».(الإمام المهدي وظهوره ص 325).( لاحظ أن هذا الاعتقاد شرك بالله U) .

خرافاتهم في خروج المهدي (*)ورجعته

* يحكم بحكم داود:إن الحكم يقام على غير شريعة المصطفى ث، جاء في الكافي وغيره، قال أبو عبد الله:« إذا قام قائم آل محمد حكم بحكم داود وسليمان ولا يُسأل بينة».(أصول الكافي1/397)

* يقيم الحدّ على أم المؤمنين عائشة م :عن أبي جعفر قال:«أما لو قام قائمنا ، وردت إليه الحميراء ، حتى يجلدها الحد وحتى ينتقم لابنة محمد فاطمة ». (بحار الأنوار 52 /314).

* يُخرِج أبا بكر وعمر م من قبريهما ، ويصلبهما ويحرقهما.(الأنوار النعمانية 2 /85).

* يبعثه الله نقمة:عن أبي جعفر قال:« إنّ الله بعث محمدًا رحمةً ، وبعث القائم نقمةً.»(بحار الأنوار52 /315).

* يقتل ذراري قتلة الحسين : قيل للرضا:« يا ابن رسول الله ما تقول في حديث روي عن الصادق أنه قال:إذا خرج القائم قتل ذراري قتلة الحسين بفعل آبائها»، قال: « هو كذلك» قلت:« وقول الله تعالى :? وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى? [ الإسراء :15] قال ذراري قتلة الحسين يرضون بفعال آبائهم ويفتخرون بها.»

* ويقتل المهدي العرب:عن أبي عبد الله قال:«ما بقي بيننا وبين العرب إلا الذبح».(الأنوار العمانية 52/ 349). (لاحظ بغضهم للعرب ؛ لأن العرب المسلمين هم الذين قضوا على امبراطورية أجدادهم المجوس عبدة النار) .

عقيدة النياحة وشق الجيوب وضرب الخدود

إنّ الشيعة يعقدون محافل ومجالس للمآتم والنياحة ويعملون المظاهرات العظيمة في الشوارع والميادين في ذكرى شهادة الحسين ط في العشر الأوائل من محرم كل عام معتقدين أنها من أجَلّ القربات فيضربون خدودهم بأيديهم وصدورهم وظهورهم ويشقون الجيوب يبكون ويصيحون بهتافات: يا حسين...يا حسين، وخاصة في اليوم العاشر من كل محرم ، ويخرجون في ذلك اليوم مترابطين متصافين يحملون قبة الحسين (التابوت) المصنوعة من الخشب ونحوه ويقودون خيلا مزينًا بسائر الزينة ، يمثلون به حالة الحسين في كربلاء بفرسه وجماعته ويستأجرون عمالاً بأجور ضخمة ليشتركوا معهم في هذا الضجيج والفوضى ويسبون أصحاب رسول الله ث ويتبرءون منهم وقد تؤدي هذه الأعمال ـ أعمال الجاهلية الأولى ـ إلى المنازعات مع أهل السنة خاصة عند سبهم لأصحاب رسول الله ث والطعن والتبرؤ من الخلفاء أبي بكر وعمر وعثمان ، فتسبب إراقة دماء الأبرياء.

والشيعة يصرفون في مآتم الحسين ط أموالاً طائلة ؛ لأنّهم يعتقدون أنّها من أصول دينهم وأعظم شعائرهم . إن الشيعة يعوِّدون أولادهم بالبكاء في هذا المأتم ، فإذا كبروا اعتادوا البكاء متى شاءوا، فبكاؤهم أمر اختياري وحزنهم حزن مخترع ، مع أنّ الشريعة الإسلامية أكدت في النهي عن النياحة وشق الجيوب وضرب الخدود، والقرآن الكريم أوصى المسلم المبتلى بالمصائب بالصبر والرضا بالقضاء.

ثمّ إنّ الأئمة المعصومين عندهم والذين تجب طاعتهم ـ عندهم ـ قد ثبت عنهم أيضا مثل ذلك ، فقد ذكر في نهج البلاغة ، قال عليّ ط بعد وفاة النبي ث مخاطبًا إياه ث :« لولا أنك نهيت عن الجزع وأمرت بالصبر لأنفدنا عليك ماء الشؤون». (الشُّؤُون وهي مَواصل قَبائل الرأس ومُلْتَقاها ومنها تَجيءُ الدُّموع.)

وجاء في ( نهج البلاغة) أيضا أن عليًّا u قال: «من ضرب يده عند مصيبة على فخذه فقد حبط عمله». وقال الحسين لأخته زينب في كربلاء:« يا أختي أحلفك بالله وعليك أن تحافظي على هذا الحلف، إذا قتلت فلا تشقي على الجيب ولا تخمشي وجهك بأظفارك ولا تنادي بالويل والثبور على شهادتي » . ( منتهى الآمال 1/248).

ونقل أبو جعفر القمي أنّ أمير المؤمنين u قال فيما علم به أصحابه:« لا تلبسوا سوادًا فإنّه لباس فرعون ».(من لا يحضره الفقيه:للقمي ، ص51) وفي فروع الكافي للكليني أنه ث وصى السيدة فاطمة الزهراء م فقال:«إذا أنا مت فلا تخمشي وجهًا ولا تنادي بالويل ولا تقيمي على نائحة».

مناسك المشاهد والأضرحة

زيارة الأضرحة فريضة من فرائض مذهب الشيعة يكفر تاركها ففي الوسائل «عن هارون بن خارجة عن أبي عبد الله u قال: «سألته عمن ترك الزيارة زيارة قبر الحسين u من غير علة، فقال: هذا رجل من أهل النار». (وسائل الشيعة 10/336-337) وقد عقد لذلك المجلسي بابًا بعنوان: «باب أن زيارته (يعني زيارة الحسين). واجبة مفترضة مأمور بها، وما ورد من الذم والتأنيب والتوعد على تركها » وذكر فيه (40) حديثًا من أحاديثهم (انظر: بحار الأنوار101/ 1-11).

وشد الرحال إلى قبر الحسين ط عند الشيعة من أركان دينهم ومن بقايا الوثنية التي أرساها ابن سبأ اليهودي ، ولا نعجب إذا رأينا الشيعة تضع في ثواب زيارته الأحاديث الكثيرة الموضوعة التي ترغب في زيارته والاستشفاء من تربته:

* تزعم الشيعة أن ثواب من زار قبره مثل ثواب مائة ألف شهيد من شهداء بدر (انظر بحار الأنوار للمجلسي 98 /17 رواية رقم 24).

* ومن أتاه تشوقًا كتب الله تعالى له ألف حجة مقبولة وألف عمرة مبرورة وأجر ألف شهيد من شهداء بدر وأجر ألف صائم وثواب ألف صدقة مقبولة وثواب ألف نسمة أريد بها وجه الله تعالى. ( بحار الأنوار98/ 18 ) .

* وأن زيارته تعدل الحج والعمرة والجهاد في سبيل الله تعالى وعتق الرقاب(بحار الأنوار 98 / 28 ـ 48) وأن الأنبياء والرسل والملائكة يأتون لزيارته ويدعون لزواره ـ ويبشرونهم ويستبشرون لهم .(انظر بحار الأنوار 98/51، 68).

* وبلغ بهم الكذب أن قالوا:إن القيام بكربلاء يوم عرفة أفضل وأكثر أجرًا من الوقوف على صعيد عرفات الطاهر (مصباح الطوسي ص 498). وعن ابن مسكان قال: قال أبو عبد اللّه u :

« إن الله تبارك وتعالى يتجلى لزوار الحسين صلوات عليه قبل أهل عرفات ويقضي حوائجهم ، ويغفر من ذنوبهم ، ويشفعهم في مسائلهم ، ثم يثني بأهل عرفات فيفعل ذلك بهم» ( ثواب الأعمال ص 82).

* وقد وضعت الشيعة الروافض لزيارة القبور مناسك كمناسك الحج إلى بيت الله الحرام.يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: «وقد صنف شيخهم ابن النعمان المعروف عندهم بالمفيد كتابًا سماه «مناسك المشاهد» جعل قبور المخلوقين تحج كما تحج الكعبة البيت الحرام الذي جعله الله قيامًا للناس ، وهو أول بيت وضع للناس ، فلا يطاف إلا به ، ولا يصلى إلاّ إليه ، ولم يأمر إلا بحجه »

الشيعة والمتعة الجنسية

* الإيمان بالمتعة عند الشيعة أصل من أصول الدين ومنكرها منكر للدين.(من لا يحضره الفقيه 3/366).

* يزعم الشيعة أن الله تعالى أحلّ لهم المتعة عوضًا عن المسكرات ، ويفترون على الله تعالى الكذب فيقولون : إن المتعة رحمة من الله جل جلاله خصّ الشيعة بها دون سائر الناس. فعن أبي عبد الله u في قول اللّه U :? مَا يَفْتَح اللهُ للناس مِنْ رَحْمَةٍ فَلاَ مُمْسِكَ لَهَا ? قال:

« والمتعة من ذلك».(وسائل الشيعة 14/439).

* ورغم إباحتهم للمتعة فالعجيب ثبوت روايات التحريم للمتعة عند أئمة آل البيت وفي كتبهم ، ومن ذلك:

1- عن عبد الله بن سنان قال:سألت أبا عبد الله u عن المتعة فقال:«لا تُدَنِّسْ نفسَك بها».(بحار الأنوار 100/318).

2 -عن عمار قال:قال أبو عبد الله u لي ولسليمان بن خالد:«قد حُرِّمَتْ عليكما المتعة».(فروع الكافي 2/48)

3- عن عليّ بن أبي طالب ط أنه روى عن النبي ث تحريمه للمتعة(التهذيب 186، الاستبصار 3/142) وعندهم أيضًا عن الإمام أبي عبد الله ، قال عن اللاتي يمارسن المتعة : « ما يفعلها عندنا إلا الفواجر »

أحكام امرأة المتعة عند الشيعة: (قارن بينها وبين الزانية(

* امرأة المتعة ليست زوجة حرة ، أو زوجة أمَة ، ولا ملك يمين ، وإنّما هي مستأجرة ؟!

* امرأة المتعة لا تَرِث ولا تُوَرَّث ( تحرير الوسيلة للخميني2/288).

* المتمَتَّع بها تَبِين بانقضاء المدة أو بهِبتها ، ولا يقع بها طلاق ، ويجوز التمتِّع بالمرأة الواحدة مرارًا كثيرة ، ولا تحرم في الثالثة ، ولا في التاسعة كالمطلقة !بل هي كالأمَة.

* جواز حبس المهر!! عن المرأة المتمتع بها بقدر ما تخلف.

* يجوز أن يتمتع بأكثر من أربع نساء!! وإن كان عنده أربع زوجات بالزواج الدائم!!

* تصديق المرأة عند نَفْي العدة والزوج ( أي قولها إنها ليست ذات زوج) ونحوهما ، وعدم وجوب التفتيش والسؤال ولا حتى منها .

* ليس هناك حد لعدد النساء المتمتع بهن ، فيجوز للرجل أن يتمتع بمن شاء من النساء ولو ألف امرأة أو أكثر.(الاستبصار للطوسي3/143 تهذيب الأحكام 7/259).

** والعجيب أنهم يرون إباحة التمتع بالمرأة المحصَنَة-أي المتزوجة- أي دون علمِ زوجها.(انظر فروع الكافي5/463، تهذيب الأحكام7/554، الاستبصار3/145). وفي هذه الحالة لا يأمن الأزواج على زوجاتهم، فقد تتزوج المرأة مُتْعَةَ دون علم زوجها الشرعي، ولست أدري ما رأي الرجل وما شعوره إذا اكتشف أن امرأته التي في عصمته متزوجة من رجل آخر غيره زواج متعة؟؟، ولست أدري لمن سينسب الولد هنا؟؟.

قاذورات جنسية:1- الخميني يبيح التمتع بالبنت الرضيعة.يقول الخميني في كتابه(تحرير الوسيلة ص241 مسالة رقم 12).«وأما سائر الاستمتاعات كاللمس بشهوة والضم والتفخيذ فلا بأس بها حتى في الرضيعة»!!! (التفخيذ:إدخال الذكَر بين الفخذين)

2- الخميني يبيح وطء الزوجة في الدبر ، يقول الخميني:«المشهور الأقوى جواز وطء الزوجة دبرًا على كراهية شديدة »!(تحرير الوسيلة ص241 مسألة رقم 11).(لاحظ:كراهية وليس تحريم)

3- اللبناني محمد فضل الله يبيح النظر إلى النساء وهن عاريات! (النكاح ج1 ص66)

4- أبو القاسم الخوئي يبيح لعب الرجل بعورة الرجل ، والمرأة بعورة المرأة من باب المزاح! (صراط النجاة في أجوبة الاستفتاءات ج3).

5– جواز التمتع بالبكر ولو من غير إذن وليها ، ولو من غير شهود أيضا.(شرائع الأحكام لنجم الدين الحلي2/186).

6– جواز التمتع بالبنت الصغيرة التي لم تبلغ الحلم ، وبحيث لا يقل عمرها عن عشر سنين. (الاستبصار للطوسي 3/145)

7–لا داعي لسؤال المرأة التي يتمتع بها إن كانت متزوجة أو كانت عاهرة.(الاستبصار للطوسي3/145)

فضيحة: كتبت مجلة الشراع الشيعية العدد 684 السنة الرابعة الصفحة الرابعة: أن الزعيم الشيعي رافسنجاني أشار إلى أن في إيران ربع مليون لقيط بسبب زواج المتعة!! وقد وُصفت مدينة مشهد الشيعية الإيرانية ـ حيث شاعت ممارسة المتعة ـ بأنها المدينة الأكثر انحلالاً على الصعيد الأخلاقي في آسيا.

* عنصرية:الأشراف من علماء الشيعة لا يسمحون لقريباتهم بممارسة نكاح المتعة لأن فيه مهانة لهم مع أنهم يسمحون به لغيرهم.

الخميني والمتعة: روي السيد حسين الموسوي (أحد علماء الشيعة) في كتابه (لله ثم للتاريخ..كشف الأسرار وتَبْرِئَةُ الأئمةِ الأَطهار ص35-37) أن الخميني عندما كان مقيمًا في العراق تمتع بصبية عمرها أربع سنوات أو خمس .وعندما ناقشه حسين الموسوي في ذلك قال له الخميني : إنّ التّمتع بها جائز ، ولكن بالمداعبة ، والتقبيل والتفخيذ. أمّا الجماع فإنّها لا تقوى عليه.

شبهة من شبهات أهل الضلال

يقول علماء الشيعة بإباحة نكاح المتعة ؛ لأنها كانت مباحة على عهد الرسول ث . ولم يحرمها سوى عمر بن الخطاب أثناء خلافته.

* الرد: معنى قوله تعالى : ? وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاء إِلاَّ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ كِتَابَ اللهِِ عَلَيْكُمْ وَأُحِلَّ لَكُم مَّا وَرَاء ذَلِكُمْ أَن تَبْتَغُواْ بِأَمْوَالِكُم مُّحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ فَمَا اسْتَمْتَعْتُم بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا تَرَاضَيْتُم بِهِ مِن بَعْدِ الْفَرِيضَةِ إِنَّ اللهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا ? [النساء:24] ? فَمَا اسْتَمْتَعْتُم بِهِ مِنْهُنَّ ? هو استمتاع الزوج بزوجته ضمن عقد الزواج .

* وقد ثبت في الحديث الصحيح أن نكاح المتعة قد أباحه النبي ث عند الحاجة الطارئة الشديدة مثل الجهاد في سبيل الله. وكان يحرمه بمجرد انتهاء تلك الحاجة ، بل وعندما أبيح في المرة الأخيرة أتبعه بإعلان تحريم نكاح المتعة نهائيًا. فقد جاء في صحيح مسلم أن رسول الله ? قال: « يا أيها الناس إني قد كنت أذِنتُ لكم في الاستمتاع من النساء، وإن الله قد حرم ذلك إلى يوم القيامة، فمن كان عنده منهن شيء فليخل سبيله، ولا تأخذوا مما آتيتموهن شيئا.»

فالإباحة كانت ـ في الواقع ـ إباحة مؤقتة واستثناء من القاعدة الأساسية ـ مثل التدرج في تحريم الخمر وتحريم الزواج بالمشركات ـ وقام بهذا الاستثناء النبي ث وهو يملك الصلاحية لذلك فهو لا ينطق عن الهوى ، أما غيره فلا يملك تلك الصلاحية ، وكان النبي ث حريصًا على سد هذا الباب بإعلانه تحريم الله لمتعة النكاح إلى يوم القيامة. وشيء آخر أن نكاح المتعة الذي أباحه الرسول ث في مناسبات محدودة لم يكن يشترط أن تكون المرأة فيه مسلمة أو كتابية، أي كان يجوز نكاح المشركة ، مما يميزه بوضوح عن الزواج الشرعي.

أما عن قول علماء الشيعة الجعفرية الإثنى عشرية بأن التحريم كان من عمرط ، فقول عمر بن الخطاب ط يؤكد التحريم و يعيد إعلانه لمن لم يبلغه التحريم.

استعارة الفرج عند الشيعة

نقل الطوسي : عن محمد بن مسلم عن أبي جعفر عليه السلام قال: قلت له: الرجل يحل لأخيه فرج جاريته؟ قال: « نعم لا بأس به ، له ما أحل له منها ». (الاستبصار ج3 ص136 )

ونقل الطوسي أيضًا: عن محمد بن مضارب قال قال لي أبو عبد الله ÷: يا محمد خذ هذه الجارية تخدمك و تصيب منها فإذا خرجت فاردُدْها إلينا ). (الاستبصار 3 / 136 وفروع الكافي 2 / 200) .

عقيدة البداء

البداء له معنيان:1- الظهور بعد الخفاء، كما في قوله تعالى:? وَبَدَا لَهُمْ مِنَ اللهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ ? [الزمر:47] .

2- نشأة رأي جديد لم يكن من قبل ، كما في قوله تعالى:? ثُمَّ بَدَا لَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا رَأَوُا الْآياتِ لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى حِينٍ? [ يوسف:35]

والبداء بمعنييه السابقين يستلزم سبق الجهل وحدوث العلم وكلاهما مُحال على الله U فإن علمه تعالى أزلي وأبدي لقوله تعالى:

? وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ? [الأنعام:59] .

قالت اليهود:«وكان كلام الرب إلى صموئيل قائلا :ندمت أني قد جعلت شادا ملك لأنه رجع من ورائي ولم يقم كلامي »(سفر صموئيل الأول ص15) الله يقول ندمت !!.. ماهذا الكفر؟

البداء بمعنييه زعمته الشيعة وأطلقته في حق الله ـ تعالى عما يصفون ـ: فروى الكُليني في الكافي عن أبي الحسن قال:« نعم يا أبا هاشم بدا لله في أبي محمد بعد أبي جعفر ما لم يكن يعرف له، كما بدا له في موسى بعد مضي إسماعيل ما كشف به عن حاله وهو كما حدثتك نفسك وإن كره المبطلون»(أصول الكافي1/327).

والبداء تعده الشيعة الإمامية من أصولها التي لا بد من الإيمان والإقرار بها. ذكر محمد بن يعقوب الكليني في كتابه «أصول الكافي» بابًا كاملاً في البداء وسماه (باب البداء) وأتى فيه بروايات كثيرة منها:«عن زرارة بن أعين:«ما عُبِدَ اللهُ بشيء مثل البداء».(أصول الكافي 1/146)

والشيعة ذهبوا إلى أن البداء متحقق في الله U كما تدل عليه النصوص من مراجعهم الأساسية: وقد كذبوا على الله في ذلك وعلى أئمتهم ـ يظنون في الله غير الحق ظن الجاهلية ـ يدّعون أن الله كان يريد الإمامة لأبي جعفر ثم لما مات قبل أن يصبح إمامًا حينئذ بدا لله العليّ القدير أن يكون الإمام أبو محمد ففعل ، وذلك كما أنه قد كان يريد الله أن يجعل إسماعيل إمامًا ثم (والعياذ بالله) بدا لله الرأي الجديد فغير رأيه السابق فجعل موسى الكاظم إماما للناس، وهكذا يفترون على الله الكذب سبحانه اتباعًا لأهوائهم. ونسوا ـ قاتلهم الله ـ أنه ينتج من أكاذيبهم هذه نسبة الجهل إلى الله العليم الخبير الحكيم الجليل، وهذا كفر بواح.

غرض الشيعة من اختلاق عقيدة البداء:1- إنّ من عقيدة الشيعة أن أئمتهم يعلمون الغيب ، ويعلمون ما كان وما سيكون ، وأنهم لا يخفى عليهم شيء! فإذا أخبر أئمتهم بأمر مستقبل وجاء الأمر على خلاف ما قالوا ، فإما أن يُكَذّبوا بالأمر وهذا محال لوقوعه بين الناس ، وإما أن يكَذّبوا أئمتهم وينسبوا الخطأ إليهم ، وهذا ينسف عقيدتهم التي أصَّلوها فيهم من علمهم للغيب. فكان أن أحدثوا عقيدة البداء. فإذا وقع الأمر على خلاف ما قاله الإمام قالوا:بدا لله كذا ، أي أن الله قد غير أمره.

ولكن الشيعة الإمامية وقعت في شر أعمالها ، فهي أرادت أن تنزه إمامها عن الخلف في الوعد وعن الكذب في الحديث ، فاتهمت الله ? بالجهل!

2- ولقد كان بعض شيوخ الشيعة الإمامية يمنّون شيعتهم بأن الأمر سيعود إليهم والغلبة ستكون لهم ولدولتهم بعد سبعين سنة، ولما انقضت تلك المدة ولما يتحقق من ذلك شيء ، لجؤوا إلى البداء وقالوا قد بدا لله سبحانه!(انظر تفسير العياشي 2/218، والغيبة للطوسي ص 263).

خرافات شيعية

* بول الأئمة وغائطهم سبب دخول الجنة: ليس في بول الأئمة وغائطهم استخباث ولا نتن ولا قذارة بل هما كالمسك الأذفر، بل من شرب بولهم وغائطهم ودمهم يحرم الله عليه النار واستوجب دخول الجنة».(أنوار الولاية ص 440).

* النظر إلى فرج المرأة يورث العمى:وكَرِهَ النَّظَرَ إِلَى فُرُوجِ النِّسَاءِ وَقَالَ يُورِثُ الْعَمَى، وَكَرِهَ الْكَلَامَ عِنْدَ الْجِمَاعِ وَقَالَ يُورِثُ الْخَرَسَ».(من لا يحضره الفقيه3/556).

* رمضان اسم من أسماء الله الحسنى .(الكافي 4/69).

* فساء وضراط وغائط الأئمة كريح المسك. (الكافي 1/319).

* مرويات الحمار عفير:عن أمير المؤمنين عليّ أنه قال:«إن أول شيء من الدواب توفي عفيرـ حمار رسول الله ـ توفي ساعة قبضَ رسول الله ث ، قطع خطامه ثم مر يركض حتى أتى بئر بني خطمة بقباء فرمى بنفسه فيها فكانت قبره. قال: إنّ ذلك الحمار كلّم رسول الله فقال: بأبي أنت وأمي ،(تأمل ما فيه من احتقار للنبي ث )إنّ أبي حدثني عن أبيه عن جده عن أبيه أنّه كان مع نوح في السفينة فقام إليه نوح فمسح على كفله ثمّ قال:يخرج من صُلب هذا حمار يركبه سيد النبيين وخاتمهم. قال عفير:فالحمد لله الذي جعلني ذلك الحمار».(الكافي1/184).(لاحظ الجهل فبين هذا الحمار ـ الذي كان في زمن النبي ث ـ بزعمهم ـ وجده الذي كان مع نوح في السفينة ثلاثة أجيال فقط ، مع أن بين نوح÷ وبين نبينا ث ألوفاً من السنين . (فتأمل نتيجة الكذب على الله ورسوله ث).

* أكل الجبن عند أول كل شهر يقضي الحوائج: روي أن من يعتد أكل الجبن رأس الشهر أوشك أن لا تُردّ له حاجة.(مفاتيح الجنان366).

شركيات الخميني

1- اعتقاده تأثير الكواكب والأيام على حركة الإنسان:

فهو يزعم أنّ هناك أيامًا منحوسة من كل شهر يجب أن يتوقف الشيعي فيها عن كل عمل ، وأن لانتقال القمر إلى بعض الأبراج تأثيرًا سلبيًا على عمل الإنسان ، فليتوقف الشيعي عن القيام بمشروع معين حتى يتجاوز القمر ذلك البرج المعين. جاء في تحرير الوسيلة ؛ حيث يقول: «يكره إيقاعه (يعني الزواج) والقمر في برج العقرب ، وفي محاق الشهر، وفي أحد الأيام المنحوسة في كل شهر وهي سبعة: يوم 3، ويوم 5، ويوم 13، ويوم16، ويوم 21، ويوم 24، ويوم 25 (وذلك من كل شهر)» (تحرير الوسيلة: 2/238).

ولاشك أن اعتقاد تأثير والكواكب في جلب سعادة ، أو إحداث ضرر أو منعه هو اعتقاد الصابئة في الكواكب.

2- القول بالحلول والاتحاد: أ- قوله بالحلول الخاص:

يقول عن أمير المؤمنين عليّ: «خليفته- يعني خليفة الرسول ث القائم مقامه في الملك والملكوت ، المتحد بحقيقته في حضرة الجبروت واللاهوت ، أصل شجرة طوبى ، وحقيقة سدرة المنتهى ، الرفيق الأعلى في مقام أو أدنى ، معلم الروحانيين ، ومؤيد الأنبياء والمرسلين عليّ أمير المؤمنين» (مصباح الهداية: ص1).وقوله: «المتحد باللاهوت» كقول النصارى باتحاد اللاهوت بالناسوت (أن الله هو عيسى بن مريم u )، كقول غلاة الشيعة الذين زعموا أن الله حَلّ في عليّ .

ومن منطلق دعوى حلول الرب بعليّ ينسب الخميني لأمير المؤمنين عليّ ط أنه يقول:« كنت من الأنبياء باطنًا ، ومع رسول الله ظاهرًا».(مصباح الهداية: ص142).ويعلق عليه فيقول:«فإنه u صاحب الولاية المطلقة الكلية والولاية باطن الخلافة... فهو u بمقام ولايته الكلية قائم على كل نفس بما كسبت ، ومع كل الأشياء معيّة قيّومية ظليّة إلهية ظل المعية القيومية الحقة الإلهية، إلا أن الولاية لما كانت في الأنبياء أكثر خصهم بالذكر» (مصباح الهداية: ص142). وقال في قوله U :? يُدَبِّرُ الأَمْرَ يُفَصِّلُ الآيَاتِ لَعَلَّكُم بِلِقَاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ? [الرعد : 2]. قال:« أي ربكم الذي هو الإمام».(مصباح الهداية: ص145).

ب- قوله بالحلول والإتحاد الكلي: وتجاوز الخميني مرحلة القول بالحلول الجزئي ، أو الحلول الخاص بعليّ إلى القول بالحلول العام. فهو يقول ـ بعد أن تحدث عن التوحيد ومقاماته حسب تصوره ـ: «النتيجة لكل المقامات والتوحيدات عدم رؤية فعل وصفة حتى من الله تعالى ، ونفى الكثرة بالكلية ، وشهود الوحدة الصرفة.» (مصباح الهداية ص134).

ثم يكذب على أحد أئمته أنه قال: «لنا مع الله حالات هو هو ونحن نحن، وهو نحن، ونحن هو»(مصباح الهداية ص114)

3- دعوى النبوة: أفرزت شركيات الخميني ، وخيالاته الفلسفية دعوى غريبة ، وما هي إلا كفر صريح ، حيث رسم للسالك الصوفي أسفارًا أربعة: ينتهي السفر الأول إلى مقام الفناء ، وينتهي السفر الثاني عنده إلى أن « تصير ولايته تامة ، وتفنى ذاته وصفاته وأفعاله في ذات الحق».(مصباح الهداية: ص148-149). أمّا في السفر الثالث فإنه « يحصل له الصحو التام ويبقى بإبقاء الله ، ويسافر في عوالم الجبروت والملكوت والناسوت ، ويحصل له حظ من النبوة، وليست له نبوة التشريع ، وبالسفر الرابع:«يكون نبيًا بنبوة التشريع» (مصباح الهداية ص149).

فمراحل السفر عند الخميني:الفناء، والولاية وفيها الفناء عن الفناء، والنبوة بلا تشريع ، ثم النبوة الكاملة ، وهي تتضمن أن النبوة مكتسبة عن طريق «رياضات» ومجاهدات أهل التصوف. وهي دعوى ترجع إلى أصول فلسفية صوفية قديمة ، ولذا قال القاضي عياض ـ أحد علماء أهل السنة ـ:« ونكفرمن ادعى النبوة لنفسه ، أو جوّز اكتسابها ، والبلوغ بصفاء القلب إلى مرتبتها كالفلاسفة وغلاة الصوفية »

فهذه المقالة كفر صريح ، كفر بالنبوة وبالأنبياء ، وخروج عن دين الإسلام ، وقد ذكر في كتابه الحكومة الإسلامية:«أن الفقيه الرافضي بمنزلة موسى وعيسى »(الحكومة الإسلامية ص95). وقد ذكرنا عن الشيعة معتقدهم أنّ مقام الإمامة عندهم أعلى من مقام النبوة.

عقائد الشيعة في الإسلام والمسلمين

أولاً: تكفيرهم من لا يؤمن بولاية الأئمة الإثنى عشر:

يرى الشيعة أن الإمامة أصل من أصول الدين وأن النبي ث نصّ على اثني عشر إمامًا. يقول رئيس محدثيهم بن بابويه القمي الملقب عندهم بالصدوق في رسالة الاعتقادات ص103 ما نصه: « واعتقادنا فيمن جحد إمامه أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب والأئمة من بعده عليهم السلام أنه كمن جحد نبوة جميع الأنبياء واعتقادنا فيمن أقر بأمير المؤمنين وأنكر واحدًا من بعده من الأئمة أنه بمنزلة من أقر بجميع الأنبياء وأنكر نبوة نبينا محمد ث ».

ثانيًا: النواصب في معتقد الشيعة هم أهل السنة والجماعة:

يقول شيخهم حسين بن الشيخ محمد آل عصفور الدرازي البحراني الشيعي في كتابه (المحاسن النفسانية في أجوبة المسائل الخرسانية ص 157): « ليس الناصب إلا عبارة عن التقديم على عليٍّ غيرَه»اهـ. والإمام أبو حنيفة / يقدم أبا بكر وعمر وعثمان ن على عليّ لذا وصفوه بالنصب والعياذ بالله. ولأن أهل السنة يقدمون الثلاثة على عليّ فهم نواصب أيضًا عند الشيعة .إذن النواصب هم كل أهل السنة .

ثالثًا: إباحة دماء أهل السنة:

إن الشيعة يستبيحون دماء أهل السنة ، شرفهم الله تعالى ، وإنهم عند الشيعة في حكم الكفار ، إنّ السني ناصب في معتقدهم ، وما يلي يكشف لك خبثهم ودهاءهم. روى شيخهم بن بابوية القمي والملقب عندهم بالصدوق وبرئيس المحدثين في كتابه علل الشرائع (ص601 طبع النجف)، وعن داود بن فرقد قال: « قلت لأبي عبد الله : ما تقول في قتل الناصب؟ ـ النواصب:الخوارج ـ قال:« حلال الدم ، ولكني أتقى عليك ، فإن قدرت أن تقلب عليه حائطًا أو تغرقه في ماء لكيلا يشهد به عليك فافعل ».

رابعًا: إباحة أموال أهل السنة:

وأمّا إباحة أموال أهل السنة فنذكر لك ما رووه عن أبى عبد الله أنه قال: « خذ مال الناصب حيث ما وجدته وادفع إلينا الخمس» أخرج هذه الرواية شيخ طائفتهم أبو جعفر الطوسي في تهذيب الأحكام (4/122) وبمضمون هذا الخبر أفتى مرجعهم الكبير الخميني في تحرير الوسيلة (1/352) بقوله: «والأقوى إلحاق الناصب بأهل الحرب في إباحة ما اغتنم منهم وتعلق الخمس به بل الظاهر جواز أخذ ماله أين وجد وبأي نحو كان ووجوب إخراج خمسه». إن أسلوب الغش والسرقة والنصب والاحتيال وغيرها من الوسائل المحرمة ، ولكنها جائزة عند الخميني مع أهل السنة بدليل قوله: ( وبأي نحو كان ).

نجاسة أهل السنة عند الشيعة الإثنى عشرية :

يقول الخميني:« وأما النواصب والخوارج ـ لعنهما الله تعالى ـ فهما نجسان من غير توقف ».

وَهْمٌ اسمُه التقريب بين أهل السنة والشيعة الإثنى عشرية: كيف يمكن التقريب مع من يطعن في كتاب الله ، ويفسره على غير تأويله ، ويزعم بتنزيل كتب إلهية على أئمته بعد القرآن الكريم، ويرى الإمامة نبوة ، والأئمة عنده كالأنبياء أو أفضل ، ويفسر عبادة الله وحده التي هي رسالة الرسل كلهم بغير معناها الحقيقي ، ويزعم أنها طاعة الأئمة ، وأن الشرك بالله طاعة غيرهم معهم ، ويُكَفر خيار صحابة رسول الله ث، ويحكم بردة جميع الصحابة إلا ثلاثة أو أربعة أو سبعة على اختلاف رواياتهم ، ويشذ عن جماعة المسلمين بعقائد في الإمامة والعصمة والتقية ويقول بالرجعة والغيبة والبداء. إن الشيعة من أجل التقية والخداع يكتبون ويقولون ما لا يعتقدون أصلاً.

سؤال للمخدوعين من دعاة التقريب من أهل السنة: لو أن بعض الشباب كفّروا علماءكم الذين يمثلون المرجعية الدينية بالنسبة لكم ، أو كفّروا آباءكم أو أمهاتكم ، ولم يقولوا بأن القرآن محرف ـ كما يقول الشيعة ـ ، لَتَبَرّأْتُم منهم و لَحَذَّرتم الناس منهم ، فلماذا لا نجد مثل ذلك منكم مع من يقولون بتحريف القرآن ويتقربون إلى الله بتكفير ولعن وسب الصحابة ن وعلى رأسهم أبو بكر وعمر وعثمان وغيرهم ممن بشرهم الرسول ث بالجنة؟

أهل السنة في إيران

*أهل السنة في إيران يشكلون ثلث السكان أي ما بين 15 إلى 20 مليون نسمة يمنعون من إقامة ولو مسجد واحد لهم في طهران ، وغيرها من المدن الكبرى الشيعية.

* وطهران هي العاصمة الوحيدة في العالم التي لا يوجد فيها مسجد واحد للسنة مع وجود عشرات الأديرة والكنائس ، والمعابد لليهود والنصارى ، والهندوس والمجوس فيها ، هذا فضلا عن عدم إشراكهم في الحكم ، ومنعهم حقوقهم السياسية والاجتماعية وحتى المدنية ، وهدم مساجدهم ، ومدارسهم الدينية ، واضطهادهم المبرمج ، وإبادة قياداتهم بشتى الطرق وباسم الوحدة الإسلامية تقيةً ونفاقًا.

أقوال أئمة السلف والخلف في الشيعة الإثنى عشرية

* قال الإمام مالك بن أنس/: «الذي يشتم أصحاب رسول الله ث ليس له اسم ، أو قال: نصيب في الإسلام » .

* وقال الحافظ ابن كثير عند قوله سبحانه: ? مُحّمَّدٌ رَّسُولُ اللهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاء عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاء بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّنَ اللهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِم مِّنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا? [سورة الفتح :29]. :« ومن هذه الآية انتزع الإمام مالك ـ رحمة الله عليه ـ في رواية عنه بتكفير الروافض الذين يبغضون الصحابة -رضوان الله عليهم ـ ، قال: لأنهم يغيظونهم ومن غاظه الصحابة ن فهو كافر لهذه الآية.ووافقه طائفة من العلماء على ذلك».

* قال الإمام القرطبي:« لقد أحسن مالك في مقالته وأصاب في تأويله ، فمن نقص واحدًا منهم أو طعن عليه في روايته فقد رد على الله رب العالمين وأبطل شرائع المسلمين».

* قال شيخ الإسلام بن تيمية /معلقاً على ما قاله أئمة السلف: «وأما الشيعة الإثنى عشرية فأصل بدعتهم عن زندقة وإلحاد وتعمُّد الكذب كثير فيهم ، وهم يقرون بذلك حيث يقولون: ديننا التقية ، وهو أن يقول أحدهم بلسانه خلاف ما في قلبه وهذا هو الكذب والنفاق فهم في ذلك كما قيل: رمتني بدائها وانسلت » .

* وقال الإمام أحمد بن حنبل: «ليست الرافضة من الإسلام في شيء ».(كتاب السنة للإمام أحمد بن حنبل صفحة 82).

* وروى الخلال قال: أخبرني حرب بن إسماعيل الكرماني قال موسى بن هارون بن زياد قال: سمعت الفريابي ورجل يسأله عمّن شتم أبا بكر قال: «كافر»، قال: فيصلى عليه؟ قال:«لا».

* عندما ناظر النصارى الإمام ابن حزم وأحضروا له كتب الرافضة للرد عليه لإثبات التحريف في القرآن قال عن الرافضة: « إن الرافضة ليسوا مسلمين ، وليس قولهم حجة على الدين، وإنما هي فرقة حدث أولها بعد وفاة النبي ث بخمس وعشرين سنة وكان مبدئها إجابة ممن خذله الله لدعوة من كاد الإسلام، وهي طائفة تجري مجرى اليهود والنصارى في التكذيب والكفر».

* قال الإمام البخاري /:« ما أبالي صليتُ خلف الجهمي والرافض ، أم صليت خلف اليهود والنصارى ، ولا يُسَلم عليهم ولا يُعَادون ولا يُنَاكحون ولا يشهدون ولا تؤكل ذبائحهم »(خلق أفعال العباد للإمام البخاري: ص125).

*وقال الإمام أبو زرعة الرازي: « إذا رأيت الرجل ينقص أحدًا من أصحاب رسول الله ث فاعلم أنه زنديق ».(كتاب الفرق بين الفرق ص356) .

* قال الإمام الشوكاني:« إن أصل دعوة الروافض كيد الدين ومخالفة الإسلام وبهذا يتبين أن كل رافض خبيث يصير كافرًا بتكفيره لصحابي واحد فكيف بمن يكفر كل الصحابة واستثنى أفرادا يسيرة ».( هذا قاله في نثر الجوهر على حديث أبي ذر) .

* قال الألوسي:ذهب معظم علماء ما وراء النهر إلى كفر الإثنى عشرية.(كتاب منهج السلامة).

* قال الشيخ ابن باز: الشيعة فرق كثيرة وكل فرقة لديها أنواع من البدع وأخطرها فرقة الرافضة الخمينية الاثني عشرية لكثرة الدعاة إليها ولما فيها من الشرك الأكبر كالاستغاثة بأهل البيت ، واعتقاد أنهم يعلمون الغيب ، ولا سيما الأئمة الاثني عشر ـ حسب زعمهم ـ ولكونهم يُكَفِرون ويسبون غالب الصحابة كأبي بكر وعمر م .(مجموع فتاوي ومقالات متنوعة4 /439)

غدير خُم

* عيد غدير خم هو عيد للشيعة يصادف اليوم الثامن عشر من شهر ذي الحجة ويفضلونه على عيدي الأضحى والفطر ويسمونه بالعيد الأكبر، وصيام هذا اليوم عندهم سنة مؤكدة ، وهو اليوم الذي يدَّعون فيه بأن النبي ث قد أوصى فيه بالخلافة لعليّ من بعده.

* يقول الطبطبائى ـ أحد كبار علماء الجعفرية في القرن العشرين ـ إن الحجة الجوهرية في أحقية على بن أبى طالب للخلافة بعد النبي ث هي حادثة غدير خُم. ويقول الشيعة :

1- إن الذين شهدوا خطبة غدير خم أكثر من مائة ألف صحابي.

2- ألقى النبي ث هذه الخطبة عند غدير خم وهو عائد من حجة الوداع إلى المدينة في الثامن عشر من شهر ذي الحجة وأن سبب خطبته هذه هو نزول الآية التالية عليه في هذا المكان: ? يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ? [المائدة:67] .

3- لهذا أعلن الرسول ث التالي:

أ- أنه سيترك للمسلمين ثقلين: أحدهم كتاب الله. طرفه بيد الله وطرفه الآخر بأيدي المسلمين وأن الآخر هو عترة النبي ث ، وأن ربه أخبره بأنهما لن يفترقا حتى يردا عليه الحوض.

ب- بعد أن رفع يد عليّ قال: « من كنت مولاه فعليّ مولاه » .

ج- وأن الرسول ث أيضا قال: « اللهم وال من والاه وعاد من عاداه » .

د- وقال: «اللهم أدِرْ معه الحق حيث دار» .

هذا ما يقوله علماء الجعفرية من الشيعة عن حادثة غدير خم.

فماذا يقول علماء أهل السنة والجماعة؟

* حسب دعوى علماء الشيعة لم يثبت على الإسلام الصحيح بعد وفاة النبي ث سوى بضعة من الصحابة لا يكاد يتجاوز عددهم البضعة عشر صحابيًا. وقد حضر خطبة الغدير أكثر من مائة ألف صحابي يعني أن كل هؤلاء المائة ألف قد نقضوا عهدهم وتآمروا على حرمان عليّ بن أبى طالب ط من الخلافة بعد الرسول ث . ما هي نسبة احتمال حصول ذلك؟ ولأي مصلحة؟ لو استعرضنا حتى كتابات علماء الشيعة لما وجدنا أي مصلحة في ذلك!

* خطبة غدير خم كانت في اليوم الثامن عشر من ذي الحجة من العام نفسه الذي حج فيه الرسول ث حجة الوداع ، وفى الشهر نفسه الذي نزلت فيه آية : ?الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينًا ? [المائدة:3] في اليوم التاسع من ذي الحجة يوم عرفة فكيف يمكن لهذه الآية الأخيرة الختامية أن تنزل قبل آية يأمر الله فيها نبيه بتبليغ الرسالة؟ خاصة وقد شهد ألوف الحجاج يوم عرفة بأن الرسول ث قد أدى الأمانة وبلغ الرسالة.

و يؤكد جمهور علماء المسلمين بأن آية :? يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ ? قد نزلت قبل حجة الوداع بل وقبل فتح مكة وغزوة خيبر.

* أهل بيت النبي ث لا ينحصرون في عليّ وآل عليّ إذ يشملون عقيلاً وآل عقيل وجعفرًا وآل جعفر والعباس وآل العباس وزوجات النبيث ، أمهات المؤمنين ، ولم يقل الرسول ث تمسكوا بأهل بيتي أو أنهم الهدى والنور ، ولو كان الحديث يحتمل أي معنى يتضمن تخويل سلطة خاصة لأهل بيته لكانت في جميع أهل بيته ولوجبت بها شرعية خلافة العباسيين الوراثية على أعناق الشيعة ووجب احترام الشيعة لحكم العباسيين بدلا مما في مصادر الشيعة من تسويد لصفحاتهم ظلمًا وافتراءً.

* لو ثبتت صحة هذا الحديث في مناسبة غير هذه فإنها لا تعنى أكثر من قول الله تعالى مخاطبا زوجات النبي ث : ? إِن تَتُوبَا إِلَى اللهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا وَإِن تَظَاهَرَا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللهَ هُوَ مَوْلَاهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلَائِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ ? [التحريم:4] فهذا لا يعنى أن صالح المؤمنين أوصياء على النبي ث ولكن أصحابه وناصروه ، ثم إن الرسول لم يقل :من كنت وليه فعليّ وليه ، ولم يقل :من كنت وليه أو مولاه فعليّ وليه أو مولاه عقب وفاتي فيحتمل أن تعنى أن الخلافة من بعده لعليّ بن أبى طالب ط. والواقع أن جدل علماء الشيعة في هذه المسألة يظهر عقيمًا عندما نقرأ ما ورد في الصحيحين عن اقتراح النبي ث خلافة أبى بكر وعمر وعثمان بتلميحات صريحة أحيانًا ولطيفة أحيانًا أخرى.

* هذه الحادثة أخرجها الإمام مسلم في صحيحه من حديث زيد بن أرقم قال :قام رسول الله ث فينا خطيبًا بماء يُدعى خما بين مكة والمدينة فحمد الله وأثنى عليه وأثنى عليه ووعظ وذَكّر ثم قال : «أما بعد ، ألا يا أيها الناس إنما أنا بشر يوشك أن يأتي رسول ربي فأجيب وأنا تارك فيكم ثقلين أولهما كتاب الله فيه الهدى والنور فخذوا بكتاب الله وأستمسكوا به » قال : فحث على كتاب الله ورغّب فيه ثم قال : «وأهل بيتي أذكركم الله في أهل بيتي ، أذكركم الله في أهل بيتي , أذكركم الله في أهل بيتي » قال حصين الراوي عن زيد: ومن أهل بيته يا زيد ، أليس ؟ قال : نساؤه من أهل بيته ، ولكن أهل بيته من حُرِم الصدقة بعده. قال : ومن هم ؟ قال : هم آل عليّ وآل عقيل وآل جعفر وآل العباس . قال : كل هؤلاء حُرم الصدقة ؟ , قال : نعم ».

* جاءت زيادات لهذا الحديث عند أحمد والترمذي وغيرهم أن النبي ث قال في ذلك المكان : « من كنت مولاه فعليّ مولاه » وجاءت كذلك زيادات أخرى منها ( اللهم والي من ولاه وعاد من عاداه وانصر من نصره واخذل من خذله وأدر الحق معه حيث دار) يمكننا أن نقسم هذا الحديث إلى أربعة أقسام :

القسم الأول : ما جاء في حديث مسلم وهو ليس فيه من كنت مولاه فعليّ مولاه .

القسم الثاني : الزيادة خارج مسلم وهي عند الترمذي وأحمد والنسائي وغيرهم و هي التي فيها زيادة ( من كنت مولاه فعليّ مولاه ) .

القسم الثالث : زيادة أخرى عند الترمذي وأحمد وهي ( اللهم والِ من ولاه وعادِ من عاداه).

القسم الرابع : وهي زيادة عند الطبراني وغيره (وأنصر من نصره وأخذل من خذله وأَدِرْ الحق معه حيث دار ) .

* أما القسم الأول فهو في صحيح مسلم ونحن مسَلّمون بكل ما في صحيح مسلم .

القسم الثاني وهو( من كنت مولاه فعليّ مولاه ) فهذا حديث صحيح عند الترمذي وأحمد إذ لا يلزم أن يكون الحديث الصحيح فقط عند مسلم والبخاري .

أما زيادة ( اللهم والِ من ولاه وعاد من عاداه) فهذه اختلف فيها أهل العلم, هناك من أهل العلم من صححها وهناك من ضعفها ، حتى قوله( من كنت مولاه فعليّ مولاه ) هناك من ضعفها كإسحاق الحربي وابن تيمية وابن حزم وغيرهم .

* أما الزيادة الأخيرة وهي (وانصر من نصره واخذل من خذله وأدر الحق معه حيث دار ) هذه كذب محض على النبي ث .

* هذا الحديث يستدل به الشيعة على خلافة عليّ بعد النبي ث مباشرة بدلالة ( من كنت مولاه فعليّ مولاه ) قالوا المولى هو الحاكم والخليفة ، إذن عليّ هو الخليفة بعد رسول الله ث مباشرة .

* لو كان النبي ث يريد خلافة عليّ ط كان يقول هذا في يوم عرفة، حيث الحجاج كلهم مجتمعون , هناك يقول هذا الكلام ث , حتى إذا غدر أهل المدينة شهد له باقي المسلمين من غير أهل المدينة,

* الشيعة يقولون: النبي كان خائفًا !! أن يبلغ هذه الخلافة , يخاف أن يُرَدَّ قوله , يخاف من أهل المدينة ثم يترك الناس كلهم ويخاطب أهل المدينة فقط !! ما هذا التناقض ؟ لا يُقبل مثل هذا الكلام.

* ثم لماذا يخاف النبي ث من الصحابة !! الذين تركوا أموالهم وأولادهم وديارهم وهاجروا في سبيل الله , الذين قاتلوا في سبيل الله , الذين شاركوا في بدر وأحد والخندق والحديبية وخيبر وحنين وفتح مكة وتبوك؟ هل هؤلاء هم الذين يخاف منهم النبي ث؟ !! بذلوا المُهَج بذلوا الأموال في سبيل الله I ثم بعد ذلك يخاف منهم النبي ث أنهم ما يقبلون خلافة عليّ ط .

* ( من كنت مولاه فعليّ مولاه ) , هم يقولون المولى الحاكم ونحن نقول المولى المحب بدليل قوله بعد ذلك :« اللهم وال من والاه وعادِ من عاداه ». ما معنى قوله ( وال من والاه وعاد من عاداه ) وقوله (من كنت مولاه فعليّ مولاه) ؟ المعنى واحد .

*كلمة (المولى ) ـ كما يقول بن الأثير ـ تقع هذه على : الرب والمالك والمنعم والناصروالمحب و الحليف والعبد والمعتق وابن العم والصِّهر .كل هذه المعاني تطلق عليها كلمة (مولى) ولكن الشيعة قالوا: المقصود بها الخليفة .ولكن .....

* لو كان النبي ث يريد الخليفة كان يأتي بكلمة صريحة واضحة ما يأتي بكلمة تحتمل أكثر من عشرة معاني .. يأتي بكلمة واضحة سهلة بيّنة يعرفها كل أحد( عليّ هو الخليفة من بعدي) ، انتهى الأمر , لكن لم يأتي النبي ث بتلك الكلمة التي تنهي كل خلاف .

* وأما أن المقصود بكلمة ( مولى) أنها حاكم فهذا ليس بسليم ؛ قال الله تبارك وتعالى : ?فَالْيَوْمَ لَا يُؤْخَذُ مِنكُمْ فِدْيَةٌ وَلَا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مَأْوَاكُمُ النَّارُ هِيَ مَوْلَاكُمْ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ? [ الحديد :15 ]. سماها مولى وذلك لشدة الملاصقة وشدة اللحمة والقرب , ثم إن الموالاة وصف ثابت لعليّ ط في زمن النبي ث وبعد زمن النبي ث ، فهو في زمن النبي ث مولى وبعد وفاة النبيث مولى ، وهوالآن مولانا ط وأرضاه ، ولذلك قال الله تبارك وتعالى : ? إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ ? [ المائدة: 55] فكل المؤمنين بعضهم أولياء بعض كما قال الله تبارك وتعالى .

* هذا دليل الموالاة الذي يستدل به الشيعة على إمامة عليّ ط وأرضاه بعد النبي ث كما ترى لا دلالة فيه أبدًا . ولذلك يقول عالمهم النوري الطبرسي: « لم يصرح النبي لعليّ بالخلافة بعده بلا فصل في يوم غدير خم وأشار إليها بكلام مجمل مشترك بين معانٍ يُحتاج إلى تعيين ما هو المقصود منها إلى قرائن » (فصل الخطاب ص 205 و 206 ) إذا كان الأمر كذلك فكيف بعد ذلك يُقال أن هذا الحديث نص على خلافة عليّ بعد النبي ث .

* قولُ علماء الشيعة بأن الرسول ث قال: « اللهم والِ من والاه وعادِ من عاداه »ـ على فرض صحته ـ دعاءٌ لا يميِّز عليًا ط بالخلافة ، فقد دعا النبي ث لخلق كثير أنواعًا من الدعاء لا حصرلها.

* أما قول علماء الشيعة إن الرسول ث قال:« اللهم أدر الحق مع على حيث دار»، فإن شيخ الإسلام ابن تيمية يؤكد كذب هذا الإدعاء. ونتساءل : أي حق هذا الذي يدور مع مخلوق حيث دار ويتلون حسب قراراته وآرائه وخلجات صدره؟ ولو أن الكذبة ادعت بأن الرسول ث طلب من الله أن يجعل عليًا مع الحق، لكان ذلك معقولا.

أساليبهم الملتوية

نظرًا لعدم وجود أدلة في القرآن الكريم والسنة الموثقة تؤيد ما ذهب إليه علماء الشيعة من التحيز المبالغ والغلو الأعمى فإنهم اضطروا إلى الأساليب التالية للدفاع عن عقيدتهم لخداع العامة:

1- الادعاء بأن القرآن الكريم غير كامل وتعرض للتبديل ، وهذا الإدعاء عادة لا يجهرون به لخطورته ولكنهم يدسونه في كتبهم المعتمدة و يهمسون به إلى من وثقوا من تبعيته.

2- اختلاق الكثير من الأحاديث أو تشويه خلفياتها التاريخية أو نصوصها وذلك لاستخدامها في تشويه معاني الآيات القرآنية الجلية فضلاً عن المتشابه منها أو تسخيرها مباشرة في تبرير دعاواهم المتحيزة.

3- اختلاق أو تشويه أحداث التاريخ الإسلامي أو ظروفها وملابساتها لتأييد غلوهم والاستعانة بها في تشويه معاني القرآن الكريم أو الأحاديث الصحيحة.

4- كما أنهم قد استشهدوا بكتب غيرهم ممن تسربت قصصهم المختلقة إلى كتبهم ، وقد يلجؤون إلى الاستشهاد ببعض المصادر غير الجعفرية حتى لو أشار المؤلف إلى الرواية المكذوبة للرد عليها. فمثلا يذكرون في مصادرهم أن المرجع السني كذا وكذا يؤيد القضية أو أن علماء السنة يوافقون على كذا أو مائة من كتب السنة أشارت إلى الرواية المذكورة. وعندما تعود إلى تلك المصادر المشار إليها تجد :إما أن القصة الشيعية وردت للرد عليها من قِبَل المؤلف أو أن القصة لم تَرِدْ بتاتًا أو تختلف عنها.

وخلاصة القول فإنه ينبغي على المسلم الذي يخشى على دينه ومصيره في الآخرة أن يحذر من الاعتماد على مصادر علماء الشيعة الذين يرون أن الكذب تسعة أعشار دينهم وعقيدتهم .

كذابون درجة أولى

أكذب الطوائف المبتدعة على الإطلاق هم الرافضة ، ولهذا يقال في المثل « أكذب من رافضي » ، وقد دأب الرافضة على الكذب سواء على الله أو على رسوله ث .

* قال شيخ الإسلام ابن تيمية : «وقد رأينا في كتبهم من الكذب والافتراء على النبي ث وصحابته وقرابته أكثر مما رأينا من الكذب في كتب أهل الكتاب من التوراة والإنجيل ». ( مجموع فتاوى شيخ الإسلام ..جـ 28 ص 482 )

وقال أيضًا في ( منهاج السنة النبوية ) (1/59) :« وقد اتفق أهل العلم بالنقل ، والرواية ، والإسناد ، أن الرافضة من أكذب الطوائف ، والكذب فيهم قديم »ا.هـ.

* قام عالمهم السيد المرتضى ، مؤلف كتاب (أمالي المرتضى) و أخوه الشريف الرضي الشاعر، بتزوير كتاب (نهج البلاغة)، ونسبوه كذبًا إلى الإمام عليّ ط ، وفيه تعريض بالصحابة وتحامل عليهم .

* ومن كتبهم التي امتلأت بالكذب على النبي ث كتاب«المراجعات» لمؤلفه عبد الحسين بن يوسف شرف الدين العاملي الموسوي ـ عامله الله بما يستحق ـ ، وقد خرّج العلامة محمد ناصر الدين الألباني / بعضًا من أحاديث الكتاب المذكور ، وخاصة فيما يتعلق بفضائل عليّ بن أبي طالب ط.

(مع العلم أنه قد ورد في فضله أحاديث كثيرة أخرى صحيحة ) ، قال الشيخ العلامة محمد ناصر الدين الألباني في( الضعيفة) (2/297): «وكتاب ( المراجعات ) للشيعي المذكور محشو بالأحاديث الضعيفة والموضوعة في فضل عليّ ط، مع كثير من الجهل بهذا العلم الشريف ، والتدليس على القراء والتضليل عن الحق الواقع ، بل والكذب الصريح ، مما لا يكاد القارئ الكريم يخطر في باله أن أحدًا من المؤلفين يحترم نفسه يقع في مثله ».ا.هـ.

* طار الرافضة بكتاب (المراجعات) هذا في الآفاق ، وخدعوا به أتباعهم ، وزعموا أن هذا الكتاب طبع أكثر من مائة مرة ، وقصة الكتاب عبارة عن مراسلات ـ كما زعم المؤلف ـ بينه وبين شيخ الأزهر سليم بن أبي الفرج البشري ، وزعم أن المراسلات انتهت بأن صحح شيخ الأزهر مذهب الرافضة ، بل شيخ الأزهر أبطل مذهب أهل السنة !!!

* والوضع والكذب على أهل السنة ليس مستغربًا منهم فقد نسبوا كتاب « سر العالمين » إلى أبي حامد محمد الغزالي ، وهو كتاب موضوع عليه . فهم يبيحون لأنفسهم الوضع على أهل السنة ما دام أن لهم أهدافًا ، وعلى طريقة : « الغاية تبرر الوسيلة » ، ولكن نقول : « لقد أجازوا لأنفسهم الكذب على رسول الله ث وصحابته الكرام، وأهل بيته الأطهار ، فكيف لا يكذبون على أهل السنة ؟

أمارات الوضع والكذب في هذا الكتاب :

أولاً : زعم الموسوي أن الكتاب مراسلات خطية حصلت بينه وبين شيخ الأزهر سليم البشري ، ولم يوثق كتابة ولا بصورة واحدة من تلك الرسائل الخطية. ورسائل الكتاب بلغت 112 رسالة ، منها 56 رسالة لشيخ الأزهر . وهذا يدل على كذب الموسوي ، ويطعن في صحة الرسائل.

ثانيًا : لم يُنشَر الكتاب إلا بعد عشرين سنة من وفاة شيخ الأزهر البشري ، فالبشري توفي سنة 1335 هـ ، وأول طبعة للكتاب في سنة 1355 هـ.

ثالثًا : كيف تكون المراسلات بين شيخ الأزهر البشري ولا يعلمها ـ على أقل تقدير ـ المقربون من شيخ الأزهر ، وخاصة من يعملون معه في الأزهر ؟ ولذلك بادر كثير من أهل العلم إلى تكذيب هذه الرسائل ، ونفي نسبتها لشيخ الأزهر البشري.

رابعًا : أسلوب الرسائل واحد لا يختلف ، أي أن الموسوي هو الواضع للأسئلة وهو الذي أجاب عنها ، ومن دقق عرف ذلك.

خامسًا : يشعرك الموسوي أن شيخ الأزهر البشري رجل لا يعرف شيئًا ، وليس صاحب تلك المكانة في العالم الإسلامي من جهة منصبه العلمي ، وكأن شيخ الأزهر يُسَلم بكل ما يطرحه الموسوي ، والأمثلة في هذا الباب كثيرة جدًا .

وبعد هذه الأمارات نجزم أن الموسوي هو من ألف وحبك الأسئلة، وأجاب عليها ليوهم أهل السنة أن مثل هذه الحيل تمر عليهم ولكن هيهات هيهات .

* إن القوم كأنهم والكذب توأمان ، فلقد كذبوا وما أكثره وأشنعه بأن أئمتهم يملكون الأوصاف الإلهية المختصة بذات الله وجلاله، وأنهم يشاركونه في أموره وتقديراته I عما يقولون علوًا كبيرًا .

فهذا هو الكليني ـ وهو كالبخاري عند السنة ـ يكذب على عليّ بن أبي طالب ط أنه قال:« لقد أعطِيتُ خصالاً لم يعطهن أحد قبلي ـ وحتى الأنبياء ـ ، علمت المنايا والبلايا والأنساب وفصل الخطاب، فلم يفتْني ما سبقني، ولم يعْزُب عني ما غاب عني»(الأصول من الكافي ج19 ص197].

والثابت في كتاب الله المنزل على محمد ث :? وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ ? [سورة لقمان : الآية 34] .وأنه أمر نبيه ث أن يقول : ? لَا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللهَ? [سورة النمل : الآية65] .

وأما الشيعة فلم يكتفوا بأن يثبتوا الصفات الربانية المختصة بمقامه وشأنه جل وعلا لعليّ ط مخالفين كتاب الله وتعاليم رسوله ث ، بل أثبتوها لأئمتهم جميعًا ، فلقد بوب الكليني بابًا مستقلاً «إن الأئمة عليهم السلام يعلمون علم ما كان وما يكون وإنه لا يخفى عليهم الشيء».

* ابحث مع الشيعة في السرداب عن إمامهم الغائب: إمامهم الثاني عشر شخصية موهومة نُسِبَتْ كذبًا «للحسن العسكري» الذي مات عن غير ولد ، وصفَّى أخوه «جعفر» تركته على أنه لا ولد له ، و قد كان للعلويين سجل مواليد يقوم عليه نقيب في تلك الأزمان لا يولد منهم مولود إلا سُجِّل فيه ، ولم يُسَجَّل فيه للحسن العسكري ولد ، ولا يعرف العلويون المعاصرون للحسن العسكري أنه مات عن ولد ذكر، ولكن لما مات الحسن العسكري عقيمًا وقفت سلسلة الإمامة عند أتباعهم الإماميين ، ورأوا أن المذهب مات بموته وأصبحوا غير إماميين لأنهم لا إمام لهم.

فاخترع لهم شيطان من شياطينهم يسمّى: «محمد بن نصير» فكرة أن للحسن ولدًا مخبوءًا في سراديب بيت أبيه ، ليتمكن هو وزملاؤه من الاحتيال على عوام الشيعة ، وأغنيائهم بتحصيل الزكاة منهم باسم إمام موجود ، وليواصلوا الادعاء كذبًا أنهم إمامية ، وأراد أن يكون هو (الباب) للسرداب الموهوم بين الإمام المزعوم وبين شيعته ويتولى جمع أموال الزكاة ، فخالفه زملاؤه من سائر شياطين هذه المؤامرة وأصروا على أن يكون (الباب) رجل زيات ، أو سمان له دكان على باب بيت الحسن العسكري ، وكان أهل بيت الحسن وأبيه يأخذون منه حاجتهم المنزلية.

فلما وقع هذا الاختلاف انفصل عنهم صاحب الاختراع وأسس مذهب النصيرية المنسوب إليه ، وكان زملاؤه يريدون أن يجدوا حيلة لإظهار ثاني عشرهم المزعوم ، وأن يتزوج ليكون منه ولد وأحفاد يتولون الإمامة ، ويستمر بهم مذهب الإمامية ، ولكن تبين أن ظهوره سيدعوا إلى التكذيب به من نقابة العلويين ، وجميع العلويين ، وبني عمومتهم من خلفاء بني العباس ، وأمرائهم ، فزعموا أنه بقي في السرداب منذ سنة 206هـ وحتى الآن ، وأن له غيبة صغرى ، وغيبة كبرى إلى آخر هذه الأسطورة التي لم يُسمع مثلها ولا في أساطير اليونان ، ويريدون من جميع المسلمين الذين أنعم الله عليهم بنعمة العقل أن يصدقوا هذه الأكذوبة ، وهيهات هيهات! إلا أن يتحول العالم الإسلامي كله إلى «مارستان» لمعالجة الأمراض العقلية ، والحمد لله على نعمة العقل فإنها مناط التكليف، وهي بعد صحة الإيمان أجلّ النعم وأكرمها.

ولاء المسلمين

إن المسلمين يوالون كل مسلم صحيح الإيمان ، ويدخل في ذلك صالحوا آل البيت بغير حصر في عدد معين ، وفي مقدمة صفوة المؤمنين الذين يوالونهم: العشرة الذين بشرهم النبي ث بالجنة ومنهم عليّ بن أبي طالب ط. ولو لم يكن للشيعة من أسباب التكفير إلا مخالفتهم النبي ث بأن هؤلاء العشرة من أهل الجنة لكفى.

وكذلك يوالي المسلمون سائر الصحابة الذين قام الإسلام ، والعالم الإسلامي على أكتافهم ، ونبت الحق والخير في تربة الوطن الإسلامي بدمائهم ، وهؤلاء هم الذين كذبت الشيعة على عليّ وأبنائه فزعمت أنهم أعداء لهم ، وقد عاشوا مع عليّ أخوة متحابين متعاونين ، وما أصدق ما وصفهم به الله U ، في سورة الفتح الآية 29 من كتابه ـ الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه ـ فقال فيهم عزّ من قائل: ? مُحَمَّدٌ رَّسُولُ اللهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاء عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاء بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّنَ اللهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِم مِّنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا ? [الفتح:29] وقوله : ? لَا يَسْتَوِي مِنكُم مَّنْ أَنفَقَ مِن قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُوْلَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِّنَ الَّذِينَ أَنفَقُوا مِن بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلاً وَعَدَ اللهُ الْحُسْنَى وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ? [الحديد: 10] وهل يخلف الله وعده؟!

الحب والمودة بين الخلفاء الراشدين

إن من محبة أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب ط لإخوانه الثلاثة الخلفاء قبله ، أن سمّى أبناءه بعد الحسنين ومحمد ابن الحنفية بأسمائهم ، فمن أولاد عليّ بن أبي طالب ولد سمّاه (أبا بكر) وآخر سمّاه (عمر) وثالث سمّاه (عثمان)، وزوّج ابنته أم كلثوم الكبرى لعمر بن الخطاب ط ، وعبد الله ابن جعفر ذي الجناحين ابن أبي طالب سمّى أحد بنيه باسم أبي بكر ، وسمّى ابنًا آخر له باسم (معاوية)، ومعاوية هذا ـ أي ابن عبد الله بن جعفر بن أبي طالب ـ سمى أحد بنيه باسم (يزيد) لأنه كان يعلم أن يزيد كانت سيرته صالحة كما شهد له بذلك محمد بن الحنفية بن عليّ بن أبي طالب، رضي الله عن الجميع.

* هل كان إمامهم الأول عليّ بن أبي طالب ط مخطئًا في تسمية أولاده أبا بكر وعمر وعثمان وهل كان أكثر خطأً بتزويجه بنته من عمر بن الخطاب ط.

* وهل كان محمد بن الحنفية كاذبًا في شهادته ليزيد لما جاءه عبد الله بن مطيع داعية ابن الزبير وزعم له أن يزيد يشرب الخمر، ويترك الصلاة ويتعدى حكم الكتاب.

فقال له محمد بن عليّ بن أبي طالب (كما جاء في البداية والنهايةلابن كثير:8/ 233): «ما رأيت منه ما تذكرون ، وقد حضرتُه وأقمتُ عنده فرأيتُه مواظبًا على الصلاة متحريًا للخير يسأل عن الفقه ملازمًا للسنة».فقال له ابن مطيع والذي معه:« إن ذلك كان منه تصنعًا لك». فقال: «وما الذي خاف مني أو رجا ،حتى يُظهر إليّ الخشوع؟ أفأَطْلَعَكم على ما تذكرون من شرب الخمر؟ فلئن كان أطلعكم على ذلك إنكم لشركاؤه ، وإن لم يكن أطلعكم فما يحل لكم أن تشهدوا بما لم تعلموا ». فإذا كان هذا ما يشهد به ابن عليّ بن أبي طالب م ليزيد ، فأين هذه الحقيقة مما يفتريه الشيعة على أفضل البشر بعد الأنبياء؟ أعني أبا بكر وعمر وعثمان وطلحة والزبير وعمر بن العاص وسائر أعلام الصحابة ، الذين حفظوا لنا كتاب الله وسنة رسوله ، وجاهدوا في سبيل الله .

الشيعة ومخالفتهم أهل البيت

* يزعم الشيعة أنهم موالون لأهل بيت النبي ث ، ومحبون لهم ، ومذهبهم مأخوذ من أقوالهم وأفعالهم ، ومبني على آرائهم ومروياتهم.

* إن الشيعة حاولوا خداع الناس بأنهم موالون لأهل لبيت النبي ث ، وأنهم أقرب الناس إلى الصحة والصواب من بين طوائف المسلمين، وأفضلهم وأهداهم لتمسكهم بأقارب النبي ث وذويه، وأن المتمسكين بأقوالهم ، والعاملين بهديهم ، والسالكين مسلكهم، والمتتبعين آثارهم وتعاليمهم هم وحدهم لا غيرهم.

* والقوم لا يقصدون من أهل البيت أهل بيت النبوة ، وهم لا يوالونهم ولا يحبونهم ، بل يريدون ويقصدون من وراء ذلك عليًا ط وأولاده المخصوصين المعدودين.

* و الشيعة لا يقصدون في قولهم إطاعة أهل البيت واتباعهم لا أهل بيت النبي ث ولا أهل بيت عليّ ط فإنهم لا يهتدون بهديهم. ولا يقتدون برأيهم، ولا ينهجون منهجهم ، ولا يسلكون مسلكهم، ولا يتبعون أقوالهم وآرائهم ، ولا يطيعونهم في أوامرهم وتعليماتهم بل عكس ذلك يعارضونهم ويخالفونهم مجاهرين معلنين قولاً وعملاً، ويخالفون آرائهم وصنيعهم مخالفة صريحة. وخاصة في خلفاء النبي الراشدين ، وأزواجه الطاهرات المطهرات ، وأصحابه البررة ، حملة هذا الدين ومبلغي رسالته إلى الآفاق .

* فلْنَرَ الشيعة الزاعمين اتباع أهل البيت ، المدّعين موالاتهم وحبهم، ولْنَرَ أئمتهم المعصومين ـ حسب قولهم ـ آل البيت ماذا يقولون في أصحاب رسول الله ث ، وماذا يعتقدون فيهم؟

وهل أهل بيت النبي يبغضون أصحاب نبيهم ث ويشتمونهم ، بل ويكفرونهم ، ويلعنونهم كما يلعنهم هؤلاء المتزعمون ؟ أم غير ذلك يوالونهم ، ويتواددون إليهم ، ويساعدونهم في مشاكلهم ، ويشاورونهم في أمورهم ، ويقاسمونهم همومهم وآلامهم، ويشاركونهم في دينهم ودنياهم ، ويشاطرونهم الحكم والحكومة، ويبايعونهم على إمرتهم وسلطانهم ، ويجاهدون تحت رايتهم، ويأخذون من الغنائم التي تحصل من طريقهم ، ويتصاهرون معهم، يتزوجون منهم ويزوجونهم بهم ، يسمون أبناءهم بأسماءهم ، يذاكرونهم في مجالسهم ، ويرجعون إليهم في مسائلهم ، ويذكرون فضائلهم ومحامدهم ، ويقرّون بفضل أهل الفضل منهم ، وعلم أهل العلم ، وتقوى المتقين ، وطهارة العامة وزهدهم.( و النقول من كتب الشيعة أنفسهم )

* فها هو عليّ بن أبي طالب ط الخليفة الراشد الرابع عندنا ـ أهل السنة ـ ، والإمام المعصوم الأول عندهم ، يذكر أصحاب النبيث عامة، ويمدحهم ، ويثني عليهم ثناء عاطرًا بقوله: لقد رأيتُ أصحاب محمد ث ، فما أرى أحدًا يشبههم منكم! لقد كانوا يصبحون شُعثًا غبرًا ، وقد باتوا سُجّدًا وقيامًا ، يراوحون بين جباههم وخدودهم ، ويقفون على مثل الجمر من ذكر معادهم! كأن بين أعينهم ركب المعزى من طول سجودهم! إذا ذكر الله هملت أعينهم حتى تبل جيوبهم ، ومادوا كما يميد الشجر يوم الريح العاصف ، خوفًا من العقاب ، ورجاء للثواب» [نهج البلاغة ص143، وهو من الكتب الموثقة عند الشيعة]

* ويمدح عليّ ط المهاجرين من الصحابة في جواب معاوية بن أبي سفيان ن فيقول:« فاز أهل السبق بسبقهم ، وذهب المهاجرون الأولون بفضلهم » [«نهج البلاغة» ص383].

وأيضًا: « وفي المهاجرين خير كثير تعرفه ، جزاهم الله خير الجزاء » [(نهج البلاغة) ص383].

* كما مدح الأنصار من أصحاب محمد ث بقوله : « هم والله ربُّوا الإسلام كما يربي الفُلُوّ مع غنائهم بأيديهم السباط ، وألسنتهم السلاط » [«نهج البلاغة» ص557].(الفلو:المُهر)

* وسيد الرسل نفسه ث يمدح الأنصار ـ حسب قول الشيعة ـ «اللهم اغفر للأنصار ، وأبناء الأنصار، وأبنا أبناء الأنصار، يا معشر الأنصار! » [تفسير «منهج الصادقين» ج4 ص240، «كشف الغمة» ج1 ص224].وكذلك «قال النبي ث : الأنصار كرشي وعيبتي [أَيْ بِطَانَتِي وَخَاصَّتِي]، ولو سلك الناس واديًا ، وسلك الأنصار شعبًا لسلكت شعب الأنصار» [تفسير «منهج الصادقين» ج4 ص240، أيضًا «كشف الغمة» ج1 ص224].

عن الطوسي رواية موثوقة عن عليّ بن أبي طالب ط أنه قال لأصحابه: أوصيكم في أصحاب رسول الله ث ، لا تسبوهم ؛ فإنهم أصحاب نبيكم ، وهم أصحابه الذين لم يبتدعوا في الدين شيئًا، ولم يوقروا صاحب بدعة، نعم! أوصاني رسول الله ث في هؤلاء» [«حياة القلوب للمجلسي» ج2 ص621].

* ويمدح عليّ ط المهاجرين والأنصار معًا حيث يجعل في أيديهم الخيار لتعيين الإمام وانتخابه ، وهم أهل الحل والعقد في القرن الأول من بين المسلمين وليس لأحد أن يرد عليهم ، ويتصرف بدونهم ، ويُعرض عن كلمتهم ، لأنهم هم الأهل للمسلمين والأساس كما كتب لأمير الشام معاوية بن أبي سفيان ط أن الإمام من جعله أصحاب محمد إمامًا لا غير، فها هو عليّ بن أبى طالب ط يذكّر معاوية بهذه الحقيقة ويستدل بها على أحقيته بالإمامة.

قال عليٌّ ط:«إنما الشورى للمهاجرين والأنصار، فإن اجتمعوا على رجل وسموه إمامًا كان ذلك لله رضى ، فإن خرج منهم خارج بطعن أو بدعة ردوه إلى ما خرج منه ، فإن أبى قاتلوه على اتباعه غير سبيل المؤمنين ، وولاه الله ما تولى» [(نهج البلاغة) ج3 ص7 وص367] . (والكلام منقول من كتاب الشيعة).

فما موقف الشيعة من عليّ بن أبى طالب ط ومن كلامه هذا حيث يجعل:أولاً : الشورى بين المهاجرين والأنصار من أصحاب النبي ث وبيدهم الحل والعقد ، رغم أنوف الشيعة.

ثانيًا : اتفاقهم على شخص سبب لمرضاة الله وعلامة لموافقته I إياهم.

ثالثًا :لا تنعقد الإمامة في زمانهم دونهم ،وبغير اختيارهم ورضاهم.

رابعًا:لا يَرُدّ قولَ الصحابة ولا يخرج من حكمهم إلا المبتدع أو الباغي ، والمتبع والسالك غير سبيل المؤمنين. فما ظنك بمَن يسبهم.

خامسًا : يقاتَل مخالف الصحابة ، ويُحكَم السيف فيه.

سادسًا : وفوق ذلك يعاقَب عند الله لمخالفته رفاق رسول الله ث وأحبائه ، المهاجرين منهم والأنصار ن.

سابعًا: الإمامة والخلافة في الإسلام لا تنعقد إلا بالشورى والانتخاب ، لا بالتعيين والوصية والتنصيص كما يزعمه الشيعة مخالفين نصوص أئمتهم ومعصوميهم ـ حسب زعمهم ـ.

موقف أهل البيت من أعداء الخلفاء الراشدين

* روى علم الهدى الشيعي في كتابه «الشافي» في الحديث :«إن عليًا u قال في خطبته : خير هذه الأمة بعد نبيها أبو بكر وعمر»[«كتاب الشافي» لعلم الهدى ، ص428].

*هكذا كان حب عليّ ط لأمير المؤمنين وخليفة المسلمين أبي بكر الصديق ولعبقري الإسلام ومحسن الملة المجيدة عمر الفاروق م .

وهذا كان موقفه تجاههما وتجاه المعادي لهما.يقول في مبغضي الصديق بعد ما يبالغ في مدحه « فغضبُ الله على من ينقصه ويطعن فيه » (ناسخ التواريخ للمرزا محمد تقي لسان الملك الشيعي 5 /143، مروج الذهب 3 /60).وفى مبغضي الفاروق بعد الثناء العاطر عليه : وأعقب الله من ينقصه اللعنة إلى يوم الدين».وقال في مبغضي عثمان ط بعد ما ذكر أوصافه الجميلة وأخلاقه الحميدة : «فأعقب الله من يلعنه لعنة اللاعنين» (ناسخ التواريخ3 /60).

أكاذيب الشيعة على أهل البيت

مع ادعاء الشيعة حب أهل البيت وموالاتهم ، فإنهم ليسوا إلا مبغضي أهل البيت وأعدائهم ، يخالفون أوامرهم ويأتون منهياتهم، ينكرون المعروف ويأتون المنكر، ويبغضون أحباءهم ويتوددون إلى أعدائهم ، يطاوعون الأهواء والنفس الأمارة بالسوء ، ولا يتركونها ولا يعصونها، وفوق ذلك يختلقون القصص والأساطير والأكاذيب على أهل البيت ، ويفترونها وينسبونها إليهم ، يريدون من ورائها أغراضًا ذاتية وإرواء النفس من شهواتها وملذاتها، رواجًا لمذهبهم، وجلبًا لأوباش الناس إلى دينهم الذي هم كوّنوه واخترعوه بأنفسهم ، فيخسرون الدنيا والآخرة وذلك هو الخسران المبين ؛ لأن الصالحين من أهل البيت لم يقولوا شيئًا يخالف كتاب الله وسنة رسول الله ث ، ولا ينبغي أن ينسب إليهم ما يخالف الكتاب والسنة؛ لأن أهل البيت كغيرهم من المسلمين لم يؤمروا إلا أن يعملوا بكتاب ربهم وسنة نبيهم ث وأن يتمسكوا بهما.

إهانة الشيعة لأهل البيت

* ابنا عم رسول الله ث ، وسيدا بني هاشم :عامل عليّ وصفيه عبد الله بن عباس، وأخوه عبيد الله بن عباس قالوا فيهما :

إن أمير المؤمنين قال : اللهم العن ابني فلان ـ يعني عبد الله وعبيد الله ـ واعم أبصارهما كما أعميت قلوبهما ، واجعل عَمَى أبصارهما دليلاً على عَمَى قلوبهما» [«رجال الكشي» ص52 تحت عنوان دعاء عليّ على عبد الله وعبيد الله ابني عباس].

* عقيل بن أبي طالب شقيق عليّ م قالوا فيه افتراءً علىا عليّ بن أبي طالب أنه قال ـ وهو يذكر قلة أعوانه وأنصاره ـ:« ولم يبق معي من أهل بيتي أحد أطول به وأقوى ، أما حمزة فقتل يوم أحد ، وجعفر قتل يوم مؤتة ، وبقيت بين خلفين خائفين ذليلين حقيرين، العباس وعقيل» (الأنوار النعمانية للجزائري ، «مجالس المؤمنين» ص78).

والمعروف أن العباس وعقيل وآلهما من أهل بيت النبوة كما أقر به الأربلي أن رسول الله ث سئل :من أهل بيتك؟ قال : آل عليّ، وآل جعفر، وآل عقيل، وآل عباس» (كشف الغمة1/43].

* أهانوا بنات النبي ث الثلاثة حيث نفوا عنهن أبويته ، وقالوا : إن النبي لم ينجبهن ، بل كن ربيبات ، فيذكر حسن الأمين الشيعي:«ذكر المؤرخون أن للنبي أربع بنات ، ولدى التحقيق في النصوص التاريخية لم نجد دليلاً على ثبوت بنوة غير الزهراء (ع) منهن ، بل الظاهر أن البنات الأخريات كن بنات خديجة من زوجها الأول قبل محمد ث» (دائرة المعارف الإسلامية الشيعية 1/ 27).

* عليّ ط الإمام المعصوم الأول عند الشيعة ـ والخليفة الرابع عندنا أهل السنة ـ أهانوه ، وصغروه ، واحتقروه ، ونسبوه إلى الجبن والذل ، واتهموه بالتذلل والمسكنة .فهذا هو عليّ بن أبي طالب في نظر الشيعة ، وهكذا يصورونه جبانًا ، خائفًا ، مذعورًا ، وهو الذي اختلقوا فيه القصص، واخترعوا الأساطير، فيه، وفي قوته وشجاعته وطاقته وجرأته وبسالته.

* بل اتهموه بالجُبْن والهوان إلى حدّ قالوا فيه على لسان زوجته ابنة النبي ث، فاطمة م أنها لامَتْه ، وغضبت عليه ، وطعنته، وشنعت عليه بعد ما طالبت فدك وتشاجرت مع الصديق والفاروق م ، ولم يساعدها علي في تلك القضية ـ حسب زعمهم ـ قالت له :يا ابن أبي طالب! اشتملت مشيمة الجنين، وقعدت حجرة الظنين ـ إلى آخر ما قالته ـ» [«الأمالي» للطوسي ص259].( الظنين :الضعيف )

وقالوا:«إن فاطمة ‘لامَتْهُ على قعوده وهو ساكت» (أعيان الشيعة ، القسم الأول ص26).

وأكثر من ذلك أنهم قالوا إن عمر بن الخطاب غصب ابنة عليٍّ م ولم يستطع أن يمنعه من ذلك ، فلقد قال الكليني أن أبا عبد الله قال في تزويج أم كلثوم بنت عليّ :إن ذلك فرج غُصِبْنَاه »(الكافي في الفروع2 /141).وقالوا أيضًا « إن عليًا لم يكن يريد أن يزوج ابنته أم كلثوم من عمر، ولكنه خاف منه، فوَكَّل عمه عباس ليزوجها منه» (حديقة الشيعة ص277).

* أهانوا رسول الله ث وزوجته وعليًا ، م في رواية باطلة خرافية، قبيحة وسخيفة ، حيث ذكروا :« كان لرسول الله ث لحاف ليس له لحاف غيره ، ومعه عائشة ، فكان رسول الله ث ينام بين عليّ وعائشة ، ليس عليهم لحاف غيره ، فإذا قام رسول الله ث من الليل حطّ بيده اللحاف من وسطه بينه وبين عائشة » (كتاب سليم بن قيس ص221).هل هناك إهانة أكبر من هذه الإهانة؟هل تقبل أيها المسلم هذا على زوجتك أو أمك؟

* وكانوا يهينون عليًا ط ويخذلونه بعد ما تولى الحكم وصار خليفة للمسلمين وأميرًا للمؤمنين ، فلم يكن يذهب بهم إلى معركة ولا إلى حرب إلا وكانوا يتسللون منها ملتمسين الأعذار ، وبدون العذر أيضًا خفية تارة وجهرًا تارة أخرى ، وكتب التاريخ مليئة بخذلانهم إياه ، وتركهم وحده في جميع المعارك التي خاضها، والحروب التى أججت نيرانها وابتلي بها وعلى ذلك كان يقول :

« قاتلكم الله : لقد ملأتم قلبي قيحًا ، وشحنتم صدرى غيظًا، وأفسدتم عليَّ رأيي بالعصيان والخذلان حتى لقد قالت قريش: إن ابن أبي طالب رجل شجاع ، ولكن لا علم له بالحرب ـ إلى أن قال ـ ولكن لا رأْيَ لمن لا يُطاع » [«نهج البلاغة» ص70، 71].

* أهانوا ابنة رسول الله ث أم الحسن والحسين ، زوجة عليّ ، فاطمة الزهراء ن أجمعين ، ونسبوا إليها أشياء لا يُتَصَوَّر صدورُها من أية امرأة مؤمنة مسلمة ، دون أن تصدر من ابنة الرسول وسيدة نساء أهل الجنة ، ومنها أنهم قالوا إنها كانت دائمة الغضب على ابن عم الرسول ث، وكانت تعترض عليه وتشكوه إلى أبيها في أشياء كثيرة ، صغيرة وتافهة.

* أما الحسن ط فلم يُهَنْ أحد مثل ما أُهين هو من قبل الشيعة، فإنهم بعد وفاة أبيه عليّ ن جعلوه خليفته وإمامًا لهم ، ولكنهم لم يلبثوا إلا يسيرًا حتى خذلوه مثل ما خذلوا أباه ، وخانوه أكثر مما خانوا عليًا ط .

وأهانوه إلى أن شدوا على فسطاطه وانتهبوه حتى أخذوا مصلاه من تحته ، ثم شد عليه عبد الرحمن بن عبد الله الجعال الأزدي ، فنزع مطرفة عن عاتقه ، فبقى جالسًا متقلدًا السيف بغير رداء» (الإرشاد للمفيد ص190).

«وطعنه رجل من بني أسد الجراح بن سنان في فخذه ، فشقه حتى بلغ العظم…وحُمِل الحسن على سرير إلى المدائن … اشتغل بمعالجة جرحه ، وكتب جماعة من رؤساء القبائل إلى معاوية بالطاعة سرًا ، واستحثوه على سرعة المسير نحوهم ، وضمنوا له تسليم الحسن إليه عند دنوهم من عسكره أو الفتك به ، وبلغ الحسين u ذلك … فازدادت بصيرة الحسن u بخذلانهم له، وما أظهروه له من سبه وتكفيره ، واستحلال دمه، ونهب أمواله » (كشف الغمة ص540، 541).

* أوضح الحسن ما فعلت به شيعته وشيعة أبيه وما قدمت إليه من الإساءات والإهانات ، وأظهر القول وجهر به فقال :«أرى والله معاوية خير إلي من هؤلاء يزعمون أنهم لي شيعة ، ابتغوا قتلي، وأخذوا مالي. والله! لأن آخذ من معاوية عهدًا أحقن به دمي وآمن به في أهلي خير من أن يقتلوني فيضيع أهل بيتي وأهلي » [«الاحتجاج» للطبرسي ص148].

* وأهانوه حيث قطعوا الإمامة من عقبه وأولاده ، بل افتوا بكفر كل من يدعي الإمامة من ولده بعده.

* أما الحسين ط فأهانوه قولاً وفعلاً، فقالوا :إن أمه فاطمة م بنت رسول الله ث كرهت حمله ، وردّت بشارة ولادته عدة مرات كما لم يكن رسول الله ث يريد أن يقبل بشارة ولادته ، ووضعته فاطمة كرهًا ، ولكراهة أمه لم يرضع الحسين من فاطمة م. وهذه الروايات في أهم كتب الحديث عند القوم وأصحها . (الأصول من الكافي ج1 ص464].

* وقالوا:«ولم يرضع الحسين من فاطمة ‘، ولا من أنثى كان يؤتى به النبي ، فيضع إبهامه في فِيهِ فيمص منها ما يكفيه اليومين والثلاث » (الأصول من الكافي ص465).

* وعاملوه معاملتهم أخيه وأبيه من قبل.

* وبقية أهل بيت عليّ وأهل بيت النبي ث لم ينجوا من إيذائهم وإضرارهم وإساءتهم وإهانتهم، فكفّروا وفسّقوا، وسبّوا وشتموا جميع من خرجوا ثأرًا للحسين وطلبًا للحق والحكم والحكومة، وادعوا الإمامة والزعامة ـ غير الثمانية من أولاد الحسين ـ سواء كانوا من ولده أو ولد الحسن أو عليّ بن أبي طالب ن أجمعين ، من محمد بن الحنفية، وابنه أبي هاشم، وزيد بن زين العابدين، وابنه يحيى ، وعبد الله بن المحض بن الحسن المثنى ، وابنه محمد الملقب بالنفس الزكية ، وأخيه إبراهيم ، وابني جعفر بن الباقر عبد الله الأفطح ومحمد ، وحفيدي الحسن :المثنى حسين بن عليّ ويحيى بن عبد الله ، وابنى موسى الكاظم : زيد وإبراهيم ، وابن عليّ النقي: جعفر بن عليّ ، وغيرهم كثير من العلويين والطالبيين الذين ذكرهم الأصفهاني في (مقاتل الطالبيين) وغيره في غيرهم من الطالبيين من أولاد جعفر بن أبي طالب وعقيل بن أبي طالب ، كما اعتقدوا كُفْر جميع من ادعى الإمامة من العباسيين ـ أهل بيت النبي ث باعتراف القوم أنفسهم ـ وأبناء عم رسول الله ث .

* وأما الثمانية من أولاد الحسين الذين خلعوا عليهم لقب الإمام، لم يكونوا بأقل توهينًا وتحقيرًا وتصغيرًا من قبل الشيعة أنفسهم ، فإنهم تكلموا فيهم ، وشنعوا عليهم ، وخذلوهم، وأذلوهم ، وضحكوا عليهم ، واتهموهم بتهم هم منها براء ، كفعلتهم مع آباءهم ، مع الحسنَيْن ، وعليّ بن أبي طالب ن، وصنيعهم مع سيد الأنبياء ورسول الثقلين ث ، وأنبياء الله ورسله.

دور الشيعة في هدم الإسلام

1- من أهم أسباب انهيار الحضارة الإسلامية و انتقالها للغرب هو سقوط دار العلم بغداد بيد المغول. هذا السقوط لم يكن ممكنًا لولا مساعدة الشيعة للمغول. و لا يخفى ـ على من له أدنى وعي بتاريخ الشيعة ـ الدور الخياني للوزير الشيعي ابن العلقمي في سقوط بغداد ، عاصمة الخلافة الإسلامية آنذاك ، وما جره على المسلمين من القتل والخراب والذل والهوان بالاتصال بهولاكو ، وإغرائه بغزو العراق ، وهيأ له من الأمور ما يمكنه من السيطرة.

2- إن الحروب التي قام بها الصليبيون ضد الأمة الإسلامية ليست إلا حلقة من الحلقات المدبرة التي دبرها الشيعة ضد الإسلام والمسلمين، كما يذكر ابن الأثير وغيرة من المؤرخين.

3- إقامة الدولة الفاطمية ( العبيدية)في مصر وإنزالها العقاب على كل شخص ينكر معتقدات الشيعة.

4- قتل الملك النادر في دلهي (بالهند) من قِبَل الحاكم الشيعي آصف خان على رؤوس الأشهاد ، وإراقة دماء المسلمين السنة في ملتان من قِبَل الوالي أبي الفتح الشيعي ، ومذبحة جماعية للمسلمين السُنَّة في مدينة لكناؤ الهند وضواحيها من قِبَل أمراء الشيعة على أساس عدم تمسكهم بمعتقدات الشيعة بشأن الخلفاء الثلاثة ن .

5- اضطرت دار الخلافة العثمانية في استانبول لسحب جيوشها الفاتحة التي كانت على مشارف فيينا ـ عاصمة النمسا ـ بسبب هجوم الدولة الصفوية الشيعية في إيران عليها.

6 - كانت دولة ايران من أوائل الدول التي اعترفت بالكيان اليهودي سنة 1948م بقيادة القادة الشيعة من ملوك ايران .

7- أعلن محمد على أبطحي نائب الرئيس الإيراني للشؤون القانونية والبرلمانية مساء الثلاثاء 15/1/2004م :أن بلاده إيران:« قدمت الكثير من العون للأمريكيين في حربَيْهم ضد أفغانستان والعراق»، وأكد أنه «لولا التعاون الإيراني لمَا سقطت كابول وبغداد بهذه السهولة »!! وأبطحي يعبر عن أساه ؛ لأن أمريكا التي كانت الدولة الإيرانية الشيعية تدعوها بـ«الشيطان الأكبر» لم تُقَدّر الخدمة الإيرانية لها , فأردف قائلا:«...لكننا بعد أفغانستان حصلنا على مكافأة وأصبحنا ضمن محور الشر، وبعد العراق نتعرض لهجمة إعلامية أمريكية شرسة ».

8- أفاد عديد من الخبراء العسكريين بأن الطائرات التي انطلقت من قواعد أمريكية في الدول العربية لا يمكن أن تعبر لأفغانستان إلا عن طريق الأجواء الإيرانية في وقت كان المسئولون الإيرانيون يشددون على «حرمة الأجواء الإيرانية» إلا على «الطائرات المضطرة للهبوط اضطراريًا في إيران ».

حزب الله الشيعي اللبناني : حزب الله أم حزب الشيطان؟

*أصبح أدولف هتلر بطلاً في أعين كثير من الناس و خصوصًا العرب و ذلك كرهًا و نكاية باليهود ، بل ان منهم من سمى ابنه (هتلر) . و مع ارتفاع سعر الدم اليهودي أصبحت المواجهة معهم بطولة. بغض النظر عن الهدف من هذه المواجهة.

* قد يقول قائل: ان هؤلاء الشيعة يقاتلون اليهود المحتلين بينما العرب في سبات عميق. فنقول: الفيتناميون قاتلوا الأمريكان و كذلك الكوبيون والألمان فهل سيدخل كل هؤلاء الجنة؟ ثم إن أعداء الله قد يختلفون فيما بينهم و يتناحرون. فهل يعني هذا أن الطرف الذي يقاتل اليهود هو حزب الله؟ أن الأمركذلك لكان «چورچ حبش» أول مجاهد. و أخيرًا نقول : إن قدوتنا هو الرسول الأعظم ث و ليس العرب الذين هم في سبات عميق.

* يحرص هذا الحزب على عدم إظهار وجهه الشيعي للمسلمين في خارج لبنان ، وخير دليل على ذلك أنه يحرص على أن يخلو الأذان في (فضائية المنار) من جملة ( أشهد أن عليًا ولي الله) على حين يضمنها الأذان على (قناة المنار الأرضية).

* كما يحرص (حزب الله) على عدم تناول رموز أهل السنة في مختلف العصور بسوء على قناته الفضائية ، ولكنه على قناته الأرضية لا يوقّرهم.وبينما يدعو إلى الأخوة والاتحاد مع المسلمين ونبذ الطائفية، يقوم عناصره بتوزيع كتيبات فاخرة خاصة في الجامعات والتجمعات ، وهي مختومة بختم (التعبئة التربوية لحزب الله) تحتوي على شتائم وألفاظ نابية ولعن بحق رموز أهل السنة التاريخيين ، وذلك جهارًا نهارًا دون رادع وخاصة في مناسباتهم.

* في كل المواضيع لابد للحزب من استغلال القضية الفلسطينية والتذكير بأن الحزب سيقف دائمًا إلى جانب الانتفاضة الفلسطينية، وهذه مسألة دعائية ، والدليل أن الحزب يعلم تمامًا أن الاتفاقات التي وقعها مع العدو ومنها اتفاقية(نيسان) حرّمت شمال الأرض المحتلة على قذائف وصواريخ حزب الله ، وتحول موقفه منذ الانسحاب الصهيوني إلى حامي لحدود العدو ومدافع عنها ، وهذا ماجاء على لسان الأمين العام الأول للحزب الشيخ صبحي الطفيلي الذي قال:« لو كان أناس غير حزب الله على الحدود ـ يقصد الفلسطينيين وأهل السنة ـ لما توقفوا عن قتال العدو مطلقًا ، والآن إذا أرادوا الذهاب يعتقلهم الحزب ويسلمهم إلى الأمن اللبناني ، وتقولون لي إنه لا يدافع عن حدود الصهاينة »، وتزامن هذا الكلام الخطير مع مقال لأمين سر حركة فتح في لبنان نشرته جريدة القدس العربي في 5/4/2004 ،جاء فيه « ...فقد أحبط حزب الله أربع محاولات فلسطينية على الحدود ، وقامت عناصر حزب الله باعتقال المقاومين الفلسطينيين وتقديمهم للمحاكمة »!!!

* يجب على المسلم ألا ينسى أن ( حزب الله ) الشيعي قبل الاعتداء الصهيوني الأخيرعلى لبنان كان حارسًا للحدود الشمالية للكيان الصهيوني.

* وإن كان ( حزب الله ) الشيعي قد أطلق بعض الصواريخ على شمال الكيان الصهيوني لأهداف معينة ، فقد أطلق الشيعة آلاف (الصواريخ) التي تتهم كتاب الله ? بأنه ناقص ومحرف ، وتكَفّر أصحاب رسول الله ث، وزوجتيه: عائشة وحفصة ن.

* ويجب على المسلم ألا ينسى أن (حسن نصر الله) زعيم (حزب الله الشيعي) قد تربى في إيران على يد الخومينى الذي كفره علماء المسلمين وعلى يد تلاميذ الخميني ، بل يعلن (حزب الله ) دائمًا أن الخوميني ـ الذي كفره علماء المسلمين ـ هو المرشد الروحي لهم.

* ويجب على المسلم ألا ينسى تعاون ( حركة أمل ) الشيعية و(حزب الله ) الشيعي على القضاء على الفلسطينين في لبنان بمساعدة سوريا .

* ويجب على المسلم ألا ينسى تعاون حركة ( أمل ) الشيعية مع سوريا لتصفية الوجود السنّي في بيروت .

* ويجب على المسلم ألا ينسى أنه بعد الاحتلال الأمريكي الشيعي للعراق قتِل حوالي 200 ألف سني :قتِل منهم 100ألف على يد الأمريكان و قتِل منهم 100ألف على يد (جيش المهدي) التابع للزعيم الشيعي مقتدى الصدر والميليشيات الشيعية الأخرى، هذا ما صرح به أحد كبار زعماء أهل السنة العراقيين في أحد المؤتمرات ، وكان بجواره شيخ شيعي إيراني في لجنة التقريب بين المذاهب الإسلامية ، فقام الشيخ الشيعي وقال:« إن إيران حاولت أن تضغط بقدر استطاعتها على جيش المهدي كي يكفوا عن هذه المذابح».[!!!]وهذا اعتراف ضمني بحدوث هذه المذابح.

~يقول الله ? :? وَلاَ تَرْكَنُواْ إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُواْ فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُم مِّن دُونِ اللهِ مِنْ أَوْلِيَاء ثُمَّ لاَ تُنصَرُونَ ? (هود:113)

بعض أسئلة موجهة لخمينى العرب(حسن نصر الله)

* تعلم أنك مُعيّن من قِبَل إيران وموالى لها وتعتز بذلك وتفخر به فلماذا لم تبعث أمك الحنون إيران مبلغ الخمسين مليون دولار التى وعدَتْ بها السلطة الفلسطينية منذ أربعة أشهر بل أعلن وزير خارجية إيران أن الأمر مازال فى مرحلة اتخاذ القرار ؟

*إذا كان حزبك الشيعى يقاتل الآن حقاً من أجل الفلسطينين فلماذا يُذبح الفلسطينيون فى العراق على يد المليشيات الشيعية التى درَّبْتَ أنت بعضها وهذا أمر فاحت رائحته ولا يمكن لمتابع أن ينكره.

*إذا كنتَ حقاً تجاهد فى سبيل الله فأين جهاد إخوانك من الشيعة فى العراق المحتلة منذ ثلاث سنوات؟لماذا أعلن علماؤك الشيعة فى العراق من أمثال السيستانى والصدر المسالمَةَ التامة للأمريكيين بل وحرمة قتالهم ثم دعوا لجهاد أهل السنة حتى كفّر الشيرازى وغيره من لا يقاتل الوهابيين؟ فأين جهادكم فى أرض الرافدين أم أنك تركت الجهاد فى العراق المحتل ثم أتيت لتجاهد فى لبنان المحرر؟

*كيف تقول إنك تدافع عن أهل السنة فى فلسطين وغيرها مع كونك تعتقد كفر أهل السنة بناء على مذهبك بل ويقول مذهبك إنهم أشد كفراً من اليهود والنصارى والمجوس؟ هل تسعى لحقن دم تعتقد أنه يجب أن يُسَال ؟

* كم من عام مضى على الأسرى وهم يعانون أسرهم فلما لم يحْل هذا الأمر إلا الآن؟ هل أردت خطف الأضواء من حماس السنية أم أردت تحسين صورة الشيعة الذين افتضح قبحهم فى العراق؟أم أردت الضعط على أمريكا لتحقيق مصالح سوريا وإيران ؟أم تعمل فى إطار المشروع الشيعى لإقامة ما يسمى بالهلال الشيعى الذى تخطط له إيران والممتد من إيران إلى لبنان؟

*لماذا تتحفظ حتى الآن عن إدانة الإحتلال الأمريكى للعراق؟ أين غيرتك يا زاعم الجهاد ؟أفى لبنان تجاهد بدمك وتبخل عن الجهاد بكلمة واحدة فى العراق؟

* إذا كنتم حقاً أعداء الصهاينة فلما نثرتم لهم الورود عند دخولهم لبنان سنة 1982 ، أتنثرون لهم الورود وهم غزاة ، وتجاهدونهم بعد الرحيل ؟

* إذا كانت القضية هى قضية كل المسلمين كما تزعمون فلماذا لا تمدون أهل السنة فى مزارع شبعا بالسلاح كى يجاهدوا معكم أو على الأقل تتركوهم يجاهدون ؟أم أنه احتكار شيعى للمقاومة ؟

* بماذا تفسر قول أحد قادة حزبك وهو إبراهيم الأمين عندما سُئل: «هل أنتم جزء من إيران؟» قال:« بل نحن إيران فى لبنان ولبنان فى إيران »؟

* إذا كنتم حقاً تقاومون أعداء الإسلام فلماذا تهجّم نائب الأمين العام لحزب الله نعيم القاسم على المقاومة السنية فى العراق ؟ أليسوا يقاومون أيضاً أم لابد أن يكونوا شيعة وأن يعملوا ضمن خطتكم حتى تقبلوهم؟

* لماذا تدافعون عن اللبنانيين والفلسطينين اليوم وقد سجل التاريخ بحبر لن يُمحى أنكم قتلتموهم فى مخيماتهم فى لبنان فى الثمانينات بعد إجبارهم على أكل لحوم القطط والكلاب ؟

* رأيناك تقبِّل يد الخمينى فهل نسيت أن الخمينى قال لشعبه يوماً: لا تُلْهِكم الحرب الصغيرة عن الحرب الكبيرة فمحاربة العراق أهم لنا بكثير من محاربة إسرائيل؟

* بم تفسر سماح أمريكا لـ 35000 خمسة وثلاثين ألف جندى من الحرس الثورى الإيرانى بالانتشار فى العراق لقتل أهل السنة ؟

وهذه رسالة إلى المخدوعين بالشيعة المعاصرين ننقلها مقتطفات من كلام الأستاذ سعيد حوى / ـ أحد قيادات (الإخوان المسلمين) في سوريا ـ في كتابه (الخمينية شذوذ في العقائد وشذوذ في المواقف).

قال /: « * جاءت الخمينية المارقة تحذو حذو أسلافها من حركات الغلو والزندقة التي جمعت بين الشعوبية في الرأي والفساد في العقيدة ، تتاجر بمشاهير جماهير المثقفين المتعلقين بالإسلام تاريخًا وعقيدة وتراثا ، فتتظاهر بالإسلام قولا وتبطن جملة الشذوذ العقدي والحركي ، فتدعي نصرة الإسلام وهي حرب عليه .

* الشيعة الاثنى عشرية لهم من العقائد الزائغة الكثير .

* الشيعة أسبغوا العصمة على أئمتهم ، فجعلوا القول بعصمة الإمام أصلاً من أصول مذهبهم فإجماع أئمتهم من المتقدمين والمتأخرين يفيد أن الإمام معصوم عن الخطأ والسهو والإسهاء والنسيان عن قصد أو عن غير قصد ، وأن الإمامة أعلى مرتبة من النبوة وأن لهم حرية الاختيار في التحليل والتحريم .

* وجاء الخميني ليؤكد هذا الغلو ويعمقه ، وذلك جحود لما هو معلوم من الدين بالضرورة ، وهو كفر بواح .

* نقل [ أي الخميني]عن المحدث نعمة الله الجزائري قوله في كتاب (الأنوار ) : «إن الأصحاب قد أطبقوا على صحة الأخبار المستفيضة بل المتواترة الدالة بصريحها على وقوع التحريف في القرآن ؛ كلامًا ومادة وإعرابًا والتصديق بها ). (فصل الخطاب : 30 / 238 ـ 329) وهذا كله كفر محض ؛ لأنه مناقض لما هو معلوم من الدين بالضرورة ، أي ميزة تكون للإسلام إذا كان كتابه محرفًا أو مغيرًا أو ناقصًا .

* وكنا نأمل أن يتصدى الخميني لمثل هذه الكفريات وينزه كتاب الله سبحانه عنها ويلعن القائلين بها ويصرح بكفرهم وخروجهم عن ملة الإسلام ، إلا أنه عاد فأكد هذا الشذوذ العقدي في كتابه (كشف الأسرار ) حينما قال: (لقد كان سهلاً عليهم ـ يعني الصحابة الكرام ـ أن يُخرجوا هذه الآيات من القرآن ويتناولوا الكتاب السماوي بالتحريف ويسدلوا الستار على القرآن ويغيبوه عن أعين العالمين ، إن تهمة التحريف التي يوجهها المسلمون إلى اليهود والنصارى إنما تثبت على الصحابة ). (كشف الأسرار : ص 114 نقلاً عن كتاب صورتان متضادتان للشيخ أبي الحسن الندوي) وهذا من خميني كفر بواح ونقض للإسلام كله .

* من المعروف المجمع عليه عند علماء الشيعة ، بل من أصول مذهبهم ، أن الأمة قد كفرت بعد وفاة رسول الله ث وارتدت عن دين الله إلا ثلاثة أو أربعة لذلك فإن الشيعة أجمعين لا يحتجون من السنة إلا بما صح لهم من طريق أهل البيت .

* الخميني وشيعته ينكرون كل السنة التي رُوِيَت لنا بأسانيد صحاح ، وفي ذلك إنكار لأحاديث صحيحة كثيرة ، وبعض ما أنكروه يبلغ مبلغ المتواتر ، وجميع ما أنكروه يدخل ضمنًا في حد التواتر ، وهم بذلك ينقضون الأساس الثاني لهذا الدين وهو السنة .

* وهم بدلاً عن السنة الثابتة يعتمدون روايات عن أئمة الكذب والوضع مما جمعه الكليني وغيره ، وقد بلغَنا أن بعضهم نقد رجال الكليني فذكر عددًا كبيرًا منهم بأنهم كذابون ، وتلك شهادة الشيعة أنفسهم على ما في كتبهم المعتمدة من دس عند كثير من المنصفين منهم ، أما نحن[يقصد أهل السنة] فلا نقبل رواياتهم أصلاً لأنهم منحرفون في العقيدة يستحلون الكذب في نصرة اهوائهم . وقد ثبت أن الخميني الذي يقول بارتداد الصحابة بعد وفاة رسول الله ث ويتهمهم بوضع الحديث ، ويطعن في رواة الأمة الثقات ، لا يستدل في بحوثه إلا بكتب فرقته ، وهو أمر مشهور .

* الخميني قد كتب فصلين في كتابه ( كشف الأسرار ) أحدهما في بيان مخالفة أبي بكر للقرآن (كشف الاسرار : 111 – 114)، والآخر في مخالفة عمر لكتاب الله(كشف الأسرار : 114 – 117، فيهما من الكذب والافتراء والحقد على أئمة المسلمين ما لا يتصور وصفه من رجل يدعي العلم والمعرفة والدين .

* ووصف الخميني سيدنا عمر بن الخطاب ط بأن أعماله : ( نابعة من أعمال الكفر والزندقة والمخالفات لآيات ورد ذكرها في القرآن الكريم). (كشف الأسرار : 116)

* يقول خميني : ( نحن نعتقد بالولاية ، ونعتقد ضرورة أن يعين النبي خليفة من بعده ، وقد فعل ) (الحكومة الإسلامية :ص 18)، ويقول بعد قليل : ( وكان تعيين خليفة من بعده عاملاً ومتممًا ومكملاً لرسالته) (الحكومة الإسلامية : 19 ) ، ثم يوضح ذلك فيقول : ( بحيث كان يعتبر الرسول صلى الله عليه وآله وسلم لولا تعيين الخليفة من بعده غير مبلغ رسالته ) ( الحكومة الإسلامية : 23) وهذا هو الشّذوذ الذي يخرج قائله عن دائرة الإسلام .

* أفظع مثال على مخالفتهم الإجماع إباحتهم لنكاح المتعة الذي لا زال قائمًا في إيران بعهد الخميني ، وما نكاح المتعة إلا زنا صريح بعد انعقاد الإجماع على تحريمه ، وممن قال بتحريمه عليّ بن أبي طالب نفسه .

* هم ( أي الشيعة ) يخالفون الإجماع في كثير من أمورهم في العقيدة والعبادة ومناهج الحياة ، ألا تراهم يخالفون الإجماع في الصلوات وفي الصوم وفي الحج وفي غير ذلك من شعائر الإسلام وشرائعه .

* والخميني يؤكد هذه المخالفة ، بل يكرسها في دستوره ، عندما يعتمد مذهب الاثني عشرية كمذهب وحيد وإلى الأبد ، ويجعل هذه المادة غير قابلة للبحث والتعديل ( المادة 12 ) .

* إن الشيعة الاثنى عشرية تَعُدّ كل من لا يؤمن بالأئمة وعصمتهم ناصبِيًّا تحرُم عليه الجنة ويدخل النار ، ومن مقولاتهم التي ذكروها في كتبهم وتبناها الخميني في كتبه ضرورة مخالفة أهل السنة والجماعة.

* ألا فليعلم شباب أهل السنة والجماعة من هذه الأمة رأي الخميني في أهل السنة والجماعة عامة ، ولينتبهوا إلى خداعه ومراوغته وخداع أتباعه فما هم إلا دعاة ضلالة وما هم إلا دعاة إلى النار .

* وقد آن لشباب الإسلام أن يدركوا خداع هؤلاء ، وأن يعرفوهم على حقيقتهم . فهنالك عقيدة صحيحة واحدة هي عقيدة أهل السنة، وهي التي ينبثق عنها كل خير ، أما هؤلاء فعقيدتهم زائفة ولا يُجتنى من الشوك العنب .

* وكفى بالخميني فضيحة صفقات السلاح مع إسرائيل وتعاونه الكامل معها ، فتلك علامة أنه لن يخرج من إيران إلا الدمار والولاء لأعداء الله .

* إن بعض من نفترض عندهم الوعي غاب عنهم الوعي فلم يدركوا خطر الخمينية ، وإن بعض من نفترض عندهم العلم قصروا عن إبراز خطر الخمينية فكادت بذلك تضيع هذه الأمة ، ولذلك فإننا نناشد أهل الوعي أن يفتحوا الأعين على خطر هذه الخمينية ، ونناشد أهل العلم أن يطلقوا أقلامهم وألسنتهم ضد الخمينية .

* لقد آن لهذا الطاعون أن ينحسر عن أرض الإِسلام ، وآن للغازي أن يكون مغزوًّا ، فالأمة الإِسلامية عليها أن تفتح إيران للعقائد الصافية من جديد ، كما يجب عليها أن تنهي تهديدها الخطير لهذه الأمة ، وليعلم أصحاب الأقلام المأجورة والألسنة المسعورة الذين لا يزالون يضللون الأمة بما يكتبونه وبما يقولونه أن الله سيحاسبه على ما ضلوا وأضلوا ، فليس لهم حجة في أن ينصروا الخمينية ، فنصرة الخمينية خيانة لله والرسول والمؤمنين ، ألم يروا ما فعلته الخمينية وحلفاؤها بأبناء الإِسلام حين تمكنوا ، ألم يعلموا بتحالفات الخمينية وأنصارها مع كل عدوٍ للإِسلام ، لقد آن لكل من له أذنان للسمع أن يسمع ، ولكل من له عينان للإِبصار أن يبصر ، فمن لم يبصر ولم يسمع حتى الآن فما الذي يبصره وما الذي يسمعه، فهؤلاء أنصار التتار والمغول وأنصار الصليبيين ، والاستعمار يظهرون من جديد ينصرون كل عدو للإِسلام والمسلمين ، وينفذون بأيديهم كل ما عجز عنه غيرهم من أعداء الإسلام والمسلمين ، ألا فليسمع الناس وليبصروا ولات ساعة مندم .

* وهؤلاء الخمينيون ظالمون ومن بعض ظلمهم أنهم يظلمون أبا بكر وعمر ، فكيف يواليهم مسلم والله تعالى يقول : ? وَكَذَلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضًا بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ ? (الأنعام:129)، إنه لا يواليهم إلا ظالم ، ومن يرضى أن يكون ظالما لأبي بكر وعمر وعثمان وأبي عبيدة وطلحة والزبير ؟ ومن يرضى أن يكون في الصف المقابل للصحابة وأئمة الاجتهاد من هذه الأمة ؟ ومن يرضى أن يكون أداة بيد الذين يستحلون دماء المسلمين وأموالهم ؟

* اللهم إني أبرأ إليك من الخميني والخمينية ومن كل من والاهم وأيدهم وحالفهم وتحالف معهم اللهم آمين وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.( انتهى كلام الأستاذ سعيد حوى/)

خاتمة

ندعو فيها كل مسلم ومسلمة إلى القيام بما أمرهم الله به ، من أداء الواجبات وترك المحرمات ، وتحقيق التوحيد قولاً وعملا ، وتطبيق الإسلام حياةً ومنهجا ، والاقتداء برسول الله ث ، والثبات على الحق ولو كثر المخالفون ، والدعوة إلى الهدى مهما خذّل المخذّلون ، ونصرة دين الله بلا خوف أو خجل ، والحرص على وقاية النفس والأهل نارًا وقودها الناس والحجارة ، وتربية النفس والأهل على الغيرة على الإسلام وأهله، وبذل النفس والنفيس في سبيل عزّه ، والغضب إذا انتهكت حرمات ربّه ، وإخلاص الدين لرب العالمين ، وموالاة المسلمين ، والبراءة من الكفار أجمعين ، وتعلم دين الله وتعليمه ، وشرح التوحيد وتبيينه ، وتهذيب الخُلق وتزيينه ، وتخليص البيوت من الوسائل الشيطانية ، وإقامتها على الطريقة الرّبانية ، وتزيينها بالتربية الإسلامية ، والشعور بمصائب المسلمين ، والمشاركة في نصرهم وعونهم تطبيقًا للشرع والدّين ، والمؤازرة للعلماء والدعاة الصالحين المصلحين المخلصين ، والدفاع عن حملة هذا الدين ، أصحاب النبي الأمين ث، وأزواجه الطاهرات الطيّبات أمّهات المؤمنين ، والرّد على منتقصهم والمتعرض لهم ، وفضح أعداءهم ، وعدم التّهاون والتّميّع مع المعتدي على أعراضهم .

مراجع للتوسع

1- الخومبنبة شذوذ في العقائد وشذوذ في المواقف للأستاذ سعيد حوى .

2-صورتان متضادتان عند أهل السنة والشيعة الإمامية للشيخ أبي الحسن الندوي.3-الموسوعة الميسرة في الأديان والمذاهب والأحزاب المعاصرة (الندوة العالمية للشباب الإسلامي)4-أصول مذهب الشيعة الإمامية ؛ للدكتور ناصر القفاري .5- المذاهب الإسلامية ، محمد أبو زهرة .6ـ تاريخ الإمامية وأسلافهم من الشيعة ، د. عبد الله فياض.7ـ دراسات في الفِرَق ، د. صابر طعيمة .8ـ مختصر التحفة الاثنا عشرية ، تحقيق محب الدين الخطيب. 9ـ الشيعة والسنة ، للعلامة إحسان إلهي ظهير .10ـ الشيعة والتشيع ، للعلامة إحسان إلهي ظهير.11ـ الشيعة وأهل البيت ، للعلامة إحسان إلهي ظهير.12-الخطوط العريضة للأسس التي قام عليها دين الشيعة الإمامية الإثني عشرية ، محب الدين الخطيب .13ـ الصراع بين الشيعة والتشيع ، الدكتور موسى الموسوي.14ـ عبد الله بن سبأ وأثره في إحداث الفتنة في الإسلام، د. سليمان بن حمد العودة.

n

أهم عقائد الشيعة الاثنى عشرية...............................................................5

الكتب الرئيسة عند الإثنى عشرية................................................................ 8

اعتقاد الشيعة الإثنى عشرية في القرآن الكريم............................................... 9

مصحف فاطمة..................................................................................... 14

عقيدة الشيعة في السنة.........................................................................16

عقيدة الشيعة في أصحاب رسول الله ث......................................................17

أوجه التشابه بين اليهود والشيعة الإثنى عشرية............................................19

عقيدة الإمامة عند الشيعة الإثنى عشرية......................................................20

عصمة الأئمة........................................................................................22

الأئمة عندهم يعلمون الغيب.....................................................................22

الأئمة الإثنا عشر عندهم أفضل من الأنبياء...................................................24

عقيدة الرجعة عند الشيعة........................................................................25

عقيدة ظهور الأئمة عند الشيعة الإمامية......................................................27

خرافاتهم في خروج المهدي ورجعته.........................................................28

عقيدة النياحة وشق الجيوب وضرب الخدود.................................................29

مناسك المشاهد والأضرحة......................................................................31

الشيعة والمتعة الجنسية..........................................................................33

الخميني والمتعة....................................................................................36

شبهة من شبهات أهل الضلال...................................................................37

استعارة الفرج عند الشيعة.......................................................................38

عقيدة البداء.........................................................................................38

خرافات شيعية......................................................................................41

شركيات الخميني...................................................................................42

عقائد الشيعة في الإسلام والمسلمين........................................................ 45

وَهْمٌ اسمُه التقريب بين أهل السنة والشيعة الإثنى عشرية................................47

أهل السنة في إيران.............................................................................. 48

أقوال أئمة السلف والخلف في الشيعة الإثنى عشرية......................................48

غدير خُم............................................................................................51

أساليبهم الملتوية..................................................................................59

كذابون درجة أولى................................................................................60

ابحث مع الشيعة في السرداب عن إمامهم الغائب............................................64

ولاء المسلمين.....................................................................................65

الشيعة ومخالفتهم أهل البيت...................................................................68

أكاذيب الشيعة على أهل البيت.................................................................73

إهانة الشيعة لأهل البيت........................................................................74

دور الشيعة في هدم الإسلام....................................................................80

حزب الله الشيعي اللبناني : حزب الله أم حزب الشيطان؟.................................81

يجب على المسلم ألا ينسى.......................................................................83

بعض أسئلة موجهة لخمينى العرب(حسن نصر الله)........................................85

رسالة إلى المخدوعين بالشيعة المعاصرين...................................................87

الأستاذ سعيدحوى يتبرأ من الخميني والخمينية ومن كل من والاهم.....................93

خاتمة...............................................................................................93

مراجع للتوسع......................................................................................64

3

رقم الإيداع :9732/2006

مواقع على الإنترنت تفضح دين الشيعة:

1- يمكنك الحصول مجانًا على موسوعة الرد على الرافضة (الشيعة) من موقع (منتديات سفينة النجاة) www.alnga.net

والموسوعة برنامج يحتوي على حوالي 130كتابًا في فضح حقيقة دين الشيعة والرد على ضلالاتهم.

2- يمكنك تنزيل محاضرات الشيخ محمد إسماعيل عن الشيعة وحزب الله من مواقع: طريق السلف www.alsalafway.com، صوت السلف www.salafvoice.com ،طريق الإسلامwww.islamway.com

3- موقع البرهان www.albrhan.com

4- فيصل نور www.khayma.com/fnoor

البحيرة ـ أبو حمص ـ حي الزهور

ت : 0452569826 ــ 0129732131

=============

#ونطقت الرويبضة!!(منصور النقيدان أنموذجا)

كتبه:

عبدالله بن صالح العجيري

Abosaleh95@islamway.net

بين يدي المقدمة

الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده محمد بن عبدالله وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا ..أما بعد..

فقد فاجأت قناة العربية مشاهديها ببرنامج وثائقي غريب ، اختير ليكون بطلها شخصية مغمورة على المستوى العام ، لا يعرف له نتاج علمي يستحق التعريف أو نشاط اجتماعي ملفت للنظر أو عمل سياسي يجعله تحت المجهر ، وإنما مواقف وكلمات ونكوص عن الحق وإغراق في باطل يمكن أن يستثمر في التشويش والبلبلة على الدين وأهله ، ذاكم هو منصور النقيدان وهذا هو البرنامج الجديد والمعنون بـ (منصور النقيدان بين تيارين)1 ، والعجب لا ينتهي من مثل هذا الصنيع ، ومثل هذا التوجه ، فإنا كنا نعهد أن البرامج الوثائقية تعنى بالشخصيات الفاعلة والمؤثرة ، أو المشهورة المعروفة ، أو من كتبوا بصنيعهم أو قولهم شيئا من التاريخ ، وأين منصور النقيدان من هذه فلا هو في العير ولا في النفير ، فما أسباب هذا التسويق الفاضح لهذه الشخصية المضطربة ، وهذا الفكر هزيل ، وهذا النموذج غير البرئ ، إن الأمر عجيب جد عجيب ، وغريب جد غريب ، وأعجب منه وأغرب أن ينصب هذا حكما على التشدد والاعتدال ، (منصور النقيدان من التشدد والاعتدال)! هكذا يقال وهكذا يراد للأمة أن تسقط في هذه الهوة ، وإنا لله وإنا إليه راجعون ، وقد كُتبت هذه الأوراق إثر اللقاء الذي جرى بين النقيدان وتركي الدخيل في برنامج إضاءات على القناة ذاتها ، والذي قاء فيه النقيدان بأسوأ ما كان عنده وعلى الهواء ، وحال دون ظهور هذه الأوراق ظروف وأمور نسأل الله أن تكون خيراً ، فكان هذا البرنامج الوثائقي والذي بث قريبا سببا في إخراج هذه الأوراق علّ فيها فائدة وعبرة ، وقد ارتضيت أن تخرج كما هي يوم كُتبت من غير تعديل أو زيادة ، إذ المقصود بها يحصل بذلك ، ولا جديد في البرنامج فيذكر ، فإلى المقدمة.

المقدمة

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .. أما بعد..

يقول الله تعالى: (مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيّاً مُرْشِداً) ، ويقول سبحانه: (مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي وَمَنْ يُضْلِلْ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْخَاسِرُونَ) ، ويقول عز وجل: (وَمَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِهِ وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى وَجُوهِهِمْ عُمْياً وَبُكْماً وَصُمّاً مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ كُلَّمَا خَبَتْ زِدْنَاهُمْ سَعِيراً) ، ويقول تعالى: (ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُضْلِلْ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ) ، ويقول عز وجل: (وَمَنْ يُضْلِلْ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ * وَمَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُضِلٍّ أَلَيْسَ اللَّهُ بِعَزِيزٍ ذِي انْتِقَامٍ) ، ويقول سبحانه: (وَمَنْ يُضْلِلْ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ وَلِيٍّ مِنْ بَعْدِهِ) ، ويقول عز وجل: (وَمَنْ يُضْلِلْ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ سَبِيلٍ) ، ويقول تعالى: (وَمَنْ يُضْلِلْ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً) ، ويقول تعالى: (مَنْ يُضْلِلْ اللَّهُ فَلا هَادِيَ لَهُ وَيَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ) ، ويقول عز وجل: (مَنْ يَشَأْ اللَّهُ يُضْلِلْهُ وَمَنْ يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ) ، ويقول سبحانه: (بَلْ اتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَهْوَاءَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ فَمَنْ يَهْدِي مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ) ، ويقول تعالى: (فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنْ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) ، ويقول عز وجل: (وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْظُرُ إِلَيْكَ أَفَأَنْتَ تَهْدِي الْعُمْيَ وَلَوْ كَانُوا لا يُبْصِرُونَ) ، ويقول تعالى: (أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ أَوْ تَهْدِي الْعُمْيَ وَمَنْ كَانَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) ، ويقول سبحانه: (إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ) ، ويقول تعالى: (فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ وَاللَّهُ أَرْكَسَهُمْ بِمَا كَسَبُوا أَتُرِيدُونَ أَنْ تَهْدُوا مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ وَمَنْ يُضْلِلْ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً * وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً...) ويقول النبي صلى الله عليه وسلم: (بادروا بالأعمال فتنا كقطع الليل المظلم يصبح الرجل مؤمنا ويمسي كافرا أو يمسي مؤمنا ويصبح كافرا يبيع دينه بعرض من الدنيا)2 ، ويقول صلى الله عليه وسلم: (..فإن الرجل ليعمل بعمل أهل النار حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخل الجنة وإن الرجل ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخل النار)3 ، وكان يكثر أن يقول صلى الله عليه وسلم: (يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك) فقيل له: آمنا بك وبما جئت به فهل تخاف علينا ، قال: (نعم إن القلوب بين أصبعين من أصابع الله يقلبها كيف يشاء)4 ، إن الثبات على الدين نعمة جليلة عظيمة يمن الله بها على من يشاء من عباده ، شأنها في ذلك كشأن الهداية إلى الدين والاستقامة عليه بل هي عينها وتمامها ، والناظر في أحوال أهل الإسلام اليوم يجد من فتن الشبهات وصنوف الشهوات ما يجعل الحاجة للهداية آكد ، والثبات والاستقامة مطلبا أكثر إلحاحا ، إنه زمن القابض فيه على دينه كالقابض على الجمر ، زمن تصديق الكاذب وتكذيب الصادق وائتمان الخائن وتخوين الأمين ، إنها سنوات خداعة تصدر فيها الأراذل ، وارتفع الأسافل ، وتكلم الرويبضة ، وأُخذ فيها عن الصِغار –عليهم من الله الذلة والصَغار - ، وممن سلك في هذا النظام وخاض هذا المضمار الموحل رويبضة تافه ، صُدر فتصدر ، وقُدم فتقدم ، فأطل على الناس في قناة فضائية (عربية) ، ليعلن فيها ضلاله ويكشف عن انحرافه في صورة تعد سابقة في إعلان الضلالة والانحراف بكل وقاحة وصلافة وصفاقة وبجاحة ، وكأن الدين من قلوب الناس قد انعدم ، والإيمان قد زال منها وانثلم ، فمن كان ينتظر أو يتوقع في هذه المرحلة أن يطل رجل كان يظهر الإسلام ليعلن عن تدين جديد (الإنسانية)!، وعن فكر متصالح مع الكل اليهودي والنصراني والبوذي! وعن خطة تسع الجميع ، وعن منهج لا تكفير فيه لأحد يهوديا كان أو نصرانيا بل وبوذيا! ، أليس هذا الكلام زندقة مكشوفة؟ أليس هذا التصريح كفرا وردة لا يختلف في ذلك عامة الأمة ولا خاصتها؟ ومع فداحة الخطب وعظم المصيبة بهذا الإعلان المزري للضلال والانحراف بالصوت والصورة ، فإن تحرك أهل الدين والغيرة لفضح هذا التوجه ، وكشف أبعاد هذا التحرك ، لم يكن بمستوى الخطب الواقع ، نعم الرجل أحقر من أن يشتغل به أو يتحدث عنه أو يضاع فيه عمر ثمين صرفه في غيره من الأمور أهم وأولى ، وأمره أبين من أن يبين ، والكلام فيه كما يقال تحصيل حاصل ، ولكن الأمر أمر سابقة قد أقامها بين الناس ، وسنة يوشك عن قريب أن تكون طريقة مسلوكة وهديا يتبع ، إن له أصحابا ينتظرون ، يترقبون ، ينظرون ماذا سيحصل وماذا سيجري ، فإن كان الإغضاء والسكوت ، ومر الأمر كأن لم يكن ، وقعت الجرأة وتقدم القوم إلى (الخلف)! خطوة ، واستسهل البعض قول الكفر ، واستسهل الناس سماعه ، إن الواجب بيان خطورة الأمر ، ووضعه في نصابه الشرعي ، وتبيين حكم الله جل وعلا في هذا الرجل ليكون الأمر فيما قاله بينا واضحا لجمهور الناس ، بل الواجب أن يقام حكم الله فيه على ما (قاءه) في هذه القناة ، وما خطه (بشماله) في عالم الصحافة والإنترنت ، علّ من خلفه يخنسون ويضعفون ويعلمون أن للأمر ما بعده ، وأنه لن يكون لهم كما يريدون ويحبون ، (إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ) هذا قوله سبحانه في مريدي شيوع الفاحشة في المؤمنين فكيف سيكون القول في مريدي شيوع ما هو أعظم منه وأخطر من الشرك والكفر والزندقة ، والقصد من هذه الوريقات جمع جملة من انحرافات الرجل ليقف عليها الناظر علّ في ذلك تحريكا لعلماء أفاضل وشيوخ كرام أن يقولوا فيه كلمتهم وليبينوا للناس حكم الشرع فيه ، سدا لباب كفر أن يفتح ، ولرأس زندقة أن يطل ، والواقف على مقالات النقيدان لا يكاد يجاوز مقالا إلا وهو مؤسس على انحراف ، إضافة إلى تعمد الإجمال والإبهام والغموض في كثير من الخطاب ، سيرتهم في ذلك كسيرة رأسهم الأول عبدالله بن أبي بن سلول: لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل! فلما ووجه بالكلام أنكر ، ولو ثُبِّت عليه وأَقر فلعله سيقول: فأنت الأعز يارسول الله وأنا الأذل!! هذا شأنهم في كل زمان ومكان ، تشابهت قلوبهم وأقوالهم وأعمالهم ، ينكؤون في كثير مما يقولون جرحا فإن أردت وضع أصبعك على الجرح لم تستطع ، والعجب أنهم كثيرا ما يريدون ضرب الدين بالدين ، تراهم قد استشهدوا بما يظنونه دينا ليهاجموا ما هو من الدين ، فعجبا لهم كيف يستدلون بالدين ثم هم أولاء يمدون ألسنتهم صوب الدين ، أعاذنا الله من سوء الحال

في الدنيا والآخرة ، وليس القصد تتبع جميع مظاهر الانحراف في كتابات النقيدان ، والوقوف على كل سقطة فإنه أمر يطول ، وإنما المقصود انتقاء شئ من أبشع ما قاله وأشنعه ، غير معقب عليه برد فالأمر سيطول والقصد بيان ما عنده ليس إلا لتعرف حقيقة الرجل ، ويعرف الموقف الشرعي منه5 ، وعامة المنقول غني عن الرد والجواب لوضوح وجه الجواب ، وجلاء الحق والصواب ، أسأل الله أن ينفع بهذه الوريقات إنه سبحانه خير مسؤول..

منصور النقيدان في سطور

منصور النقيدان ببساطة رجل يظن نفسه على شئ وهو على (لا شئ) له في كل وقت رأي وفي كل ساعة فكر ، وفي كل زمان اعتقاد ، فمرة مسلم (مغال) (متنطع) (مشاد للدين) ، ترك الدراسة في المدارس النظامية وتبرأ منها فما حصل غير شهادة (المتوسطة) ، ترك الوظائف الحكومية لأنها غير محبذة لدى الأصحاب ، أتلف ما عنده من أشرطة الكاسيت ، وأحرق معظم ما لديه من كتب المعاصرين ، خلع الساعة من يده ، وحول التوقيت إلى الغروبي ، لا تطيب قراءة كتب السلف عنده إلا بعد إطفاء الأنوار وإضاءة السراج ، سكن بيت الطين بغير كهرباء ، يواسيه في حرارة القيض سراج وقربة ومهفة ، عزاؤه في ذلك كله أن الأجر على قدر المشقة ، قام بإحراق محل للفيديو ، يضلل من خالفه وربما رأى كفره ، سجن غير مرة ، ثم انقلب حاله فترك ذلك كله ليستقبل قبلة جديدة ولييمم وجهه صوب أفق جديد ، وليبتدأ لنفسه طريقة أخرى فغدى عصرانيا ، عقلانيا ، ليبراليا ، أو قل كما قال هو (شيئا آخر)!! يتورع عن تكفير المسيحي واليهودي و(البوذي)! وسائر أهل الملل والأديان لا يجد غضاضة من أن يُنسب إلى دين جديد (الإنسانية مثلا)! بل يُطالب بإخراج دين جديد للناس ولا بأس إن سمي المسخ الجديد إسلاما بعد ذلك ، فما ذاق في رحلتي شتائه وصيفه دفء الإيمان وبرد اليقين ، ولم يجد للاعتدال طعما ، ولم يكن له من الوسطية معنى ولا نصيب ، ولم يعرف الإسلام الحق حق المعرفة في مختلف تقلباته وانعطافاته ، يحدثنا عن بداية ذلك الانقلاب وسببه فيقول: (منذ بلوغي سن السادسة عشرة وأشعر أنني إنسان يطرح الأسئلة، أنني إنسان قلق كثير التساؤل، أنني لا أحب أن أقمع الأسئلة الداخلية لدي)6 ، ويقول: (وأنا في سن السادسة عشرة عصفت بي شكوك وتساؤلات وحيرة استمرت معي شهوراً،كانت ذا طابع وجودي، أذكر جيداً لحظة ولادتها،كنت أصلي العشاء في المسجد، داهمتني تلك الأفكار والوساوس، عدت بعدها إلى البيت ولزمت سريري ثم توضأت وأويت إلى فراشي، فارق عيني النوم، نهضت وتوضأت وصليت ركعتين، ودعوت الله أن يعيذني من وساوس الشيطان ،بكيت وتضرعت، وشقيقي قريب مني يغط في نوم عميق، وضعت رأسي على الوسادة ولم تفارقني تلك الهواجس، في تلك الفترة قرأت كل ما وقع بيدي من كتب لها صلة بمعاناتي، كنت أقاسي عذاباً لا يطاق، أذكر مرة أنني عاهدت الله أن أتخلى عن كل شيء لأجله إن أراحني من تلك الشكوك التي سممت عيشي، ولأن الحديث عن مثل هذا النوع من العذابات الروحية داخل في نطاق المحرم، فقد لزمت الصمت ودفنته بين جوانحي... هدأت نفسي بعد حين)7 ، لكنه لم يصبر ويعالج مرضه بل أخرج المخبوء وكشف المستور وقاء بما قاء به مدعيا الشجاعة في ذلك فيا ويله ، يقول: (الكثيرون يتغيرون في الظل، ولكن القلة هم الذين يملكون الشجاعة ليتحدثوا عن تجاربهم)8 ، فهو من تلك القلة التي تملك الشجاعة ، هكذا منصور تسمعه فتحس منه رائحة الغرور والعجب ينفثها من فيه في مثل قوله: (أنا شئ آخر)9 ، ولا ينسى أن يرفع رأسه ويشمخ بأنفه لتتكامل الصورة ، وما قصة تغيره وتقلبه ونكوصه إلا علامة العظمة إذ هذا شأن العظماء من قبل ومن بعد! يقول: (ما من شخص ما من عالم أو مفكر أو فيلسوف أو شخص له تأثير في تاريخ الفكر الإنساني إلا وستجد له أكثر من رأي في فترة متغيّرة)10 ، فشأنه كشأنهم بل هو منهم! ولذا فلا يستغرب منه إن حاول إلصاق ما يعانيه من أمراض نفسية وأزمات روحية بعظماء زعم أنهم عانوا ما عاناه ، وابتلوا بما ابتلي به ، لكن الفرق أن أولئك كبلهم ماضيهم ومحبيهم أما هو فتحرر من ذلك أجمع طلبا للحقيقة ، ولا حقيقة مطلقة تُدرك –زعم وافترى- انظر إليه وهو يلصق مرضه بغيره على منهج (ودت الزانية لو أن كل النساء زواني)! يقول: (وهذه المرحلة من القلق استجابة تعكس جملة معقدة من المؤثرات ، التي يترك كل منها طابعا معينا في النفس وتجعل الإنسان تركيبا مختلفا عن الآخرين ، وهذه الأزمة الروحية ، التي يراها البسطاء (خللا نفسيا وحالة مرضية) تنبلج عن قلق مقدس يساور كل مصلح في كل هم يحاوله وعمل يزاوله وموضع يستقر فيه ، مبعثه صفاء النفس وشفافية الروح وحدة الذكاء ، فيدرك النقص ليروم الكمال ويسأم الركود فيبتغي التحول...! إنه إرهاص ظهور كل عظيم ومصلح في كل أمة)11 أرأيت كيف يكون القلق والأزمات الروحية وما يُرى أنه خلل نفسي وحالة مرضية إرهاصا لظهور العظماء والمصلحين في كل أمة! وأن مبعث ذلك أجمع صفاء النفس وشفافية الروح وحدة الذكاء!! والنقيدان يسعفنا بالتمثيل على نماذج من هؤلاء فانظر إليه كيف يفتري على شيخ الإسلام ابن تيمية بقوله: (هل كان ابن تيمية شخصية قلقة ؟ رأيي هو بالإيجاب)12 ، ويفصل أوجه القلق والاضطراب في شخص ابن تيمية بعد إيراد جملة من قصصه وأحواله فيقول: (هذه القصة لا تعكس شغفاً معتاداً بالعلم ومعرفة القول الصحيح في تفسير آية ما بقدر ما تعكس حالة من الحيرة والقلق إزاء مسائل كبرى ذات طابع وجودي، تجعل إيمان الإنسان على المحك، فهذا الإلحاح والتخفي والتمرغ في مسجد عتيق وتكرار الدعاء هي حال طالب للهداية والطمأنينة وبرد اليقين أكثر منها حال طالب للعلم والمعرفة أشكلت عليه آية، أو استغلق عليه فهمها ، فهل كان ابن تيمية فيما يحكيه ابن القيم عن تسلط الأرواح الشيطانية يشير إلى عاصفة من الشكوك كانت تلم به بين الحين والآخر حتى تنعكس على حالته النفسية والصحية؟ فنحن نعلم أن السنة النبوية جاءت بأدعية ورقى وتعاويذ لمن أصابه مرض جسدي وليس في شيء منها أي ذكر لآيات السكينة في القرآن، مما يعني أن ابن تيمية وهو الفقيه الحافظ للسنة كان يجتهد باستخدام آيات من القرآن تساعده على تخفيف حالته المرضية (الخاصة))13 ، ولذا فهذه الشخصية المريضة القلقة كان لها أن تصل إلى بعض مما وصل إليه النقيدان من فهم جديد للإسلام ومحاولات لمسخ تعاليمه وأحكامه ، يقول النقيدان: (في تصوري أن ابن تيمية لو تأخر زمنه لكان أحد القلائل الذين بإمكانهم أن يقدموا تفسيراً جديداً للإسلام)14 ، ويقول: (كان بإمكانه أن يكون لوثر آخر في الإسلام)15 ، لكن ابن تيمية (المريض)! (القلق)! لم يستطع المضي في هذا السبيل والسعي في هذا الطريق ليصل إلى ما وصل إليه صاحبنا ، تأمله وهو يقول: (كان عقله أكبر من مذهبه ، ولكن خيوطاً خفية نسجتها عدد من العوامل والظروف، والبيئة العلمية التي ترعرع في أحضانها، كانت تشده دائماً إلى الخلف...فقد كانت العشيرة: قبيلة المذهب تنتظر منه دوماً موقفاً مدافعاً ونصرة، ولم يكن الرجل يخذل أصحابه)16 ، فأي الرجلين خير من الآخر وأعظم! أبن تيمية الذي لم يواصل المشوار ، وانقطع عن المسير ، أم الآخر الذي واصل طريقه حتى النهاية؟! هذا هو النقيدان وهذا ظنه بنفسه مريض قلق ، وهذا المرض أمارة العظمة بل لعله شرطها ، إذ هو شأن العظماء من قبله ، ومن يعرف النقيدان يعلم حبه للأضواء والشهرة يصعب عليه أن ينخرط في سلك أناس ، وأن يسير بسيرة الناس ، لا بل هو على منهج خالف تعرف ، يتشوق لإلقاء الأحجار في المياه الراكدة ، ويأنس بإشعال المتفرقعات ليضطرب الناس في شأنه يوما أو بعض يوم في المجالس والساحات ما بين جاهل مدافع ، ومميع مداهن ، وناقم ناقد ، ومن هم على هذه الشاكلة فالعود إلى الحق ومراجعة الصواب صعب ، إذ الحق والصواب ليس المبتغى ، إنما القصد والطلب هو الذكر بين الناس ولو بالسب واللعن ، ولموقع ولو في حواشي التاريخ (فلان زاغ يوم كذا وكذا)! على طريقة (دخل التاريخ من

أوسخ أبوابه)! وهو مستعد للعمل بيديه ورجليه في سبيل تحصيل ولو شئ يسير من مبتغاه وطلبته مهما كان طرحه سخيفا ومخزيا ومقرفا ، انظر إليه وهو يقول: (أنا لا مشكلة لدي-كما هو رأي د. تركي الحمد- مع من يكفرني ، ولكن في المقابل سأقول أنا ما أراه وما أقتنع به، وسأنتقدهم، وسأرد عليهم إذا رأيت ذلك ، ولكن هذا الحق لن تناله مادمت ستقف في طوابير الانتظار ، خذه من فك الأسد، وقاتل دونه...وياما..ياما.. في هذا الطريق ضحايا..وغرباء...ومكاسير ، نحن الذين علينا أن نوجد حريتنا، مادام أن من بيدهم القرار سيفكرون طويلاً قبل أن يفتحوا الأقفال، في الوقت الذي يملؤ قلوب بعضهم الرعب والهلع من إيقاف مشايخ التكفير والإرهاب ، أو التعرض لهم ، يمنع من الكتابة نخبة من أفضل كتابنا!.)17، ويقول: (وكانت قناعتي دائماً أن الحرية لاتوهب، وإنما تؤخذ غلاباً، وأن شيئاً من تصرفاتنا وقناعاتنا وكتاباتنا مما يشعر الآخرون تجاهه بالقرف، والخزي، والعار، ليس علينا إلا أن نستمر بتكراره لنجعله واقعاً مفروضاً، غيرمقبول من الأكثرية..نعم..ولكنهم يتفهمونه، ويتعاملون معه،هذا بحد ذاته نجاح)18 ، هذا هو الطموح وتلك هي الخطة وهكذا يكون النجاح! قال أحدهم لمنصور بعد مقال كتبه: (خفف شوي ! أخشى أن تمنع من الكتابة في الصحف ؟ قال: سوف أخرج في الشوارع لأوزع المقال الذي أكتبه ولن أسكت عن أي مظهر من مظاهر التخلف أبداً)19 ، فأربع على نفسك فـ(لستَ أوّلَ من حط رحله في هذه الصحراء الموحشة، بعيداً عن التقوى والمراقبة ورعاية حق الله الخالق العظيم، ولعلك إن لم تسبق إليك منه رحمة ستبقى وحيداً في غربتك إلى الأبد)20 ، هذا طرف من شأن النقيدان وحاله ، يتفهم من خلاله سبب ولوجه للباب الذي ولج ، وسقوطه على أم رأسه في حمأة الضلال والانحراف ، نسأل الله العفو والعافية ، فإلى شئ من أقواله المنبئة عن سيئ أحواله..

* دين النقيدان ، ونظرته للتدين:

يقول النقيدان:

(ولو قابلت يوماً أحد رموز العلمانية لسألته: هل تؤمن بالإنسان؟ فإن قال: نعم ، قلت له: فأنا على ذلك الدين)21.

ثم قال في لقائه في قناة العربية في برنامج (إضاءات) ما يوضح حقيقة هذه العبارة وأبعادها ، وأن النقيدان يذهب بها إلى أقصى مداها ، جاء في اللقاء:

(منصور النقيدان: أنا أحترم أي شخص مهما كان دينه وعقيدته.. لأن العقل ضد العنف الذي يبرره..

تركي الدخيل: طيب هل هذا ما أشرت إليه عندما قلت الإيمان عندي هو كثير من الإنسانية، قليل من الرهبانية، وقلت أيضاً لو قابلت يوماً أحد رموز العلمانية لسألته هل تؤمن بالإنسان؟ فإن قال: نعم، قلت له: أنا على ذلك الدين؟ يعني هل أنت هل هي ديانة جديدة إنسانية مثلاً؟

منصور النقيدان: ربما شيء من هذا القبيل..

تركي الدخيل: هذا كلام خطير..

منصور النقيدان: لا بأس.. لا بأس أنا لي فهمي الخاص للدين أنا بالنسبة إليّ أعتقد أن الدين في الحقيقة هو ما يحمله قلبك من الشعلة من الروحانية ، ما تحمله للآخرين من حب ومن سلام ومن تسامح ، أنا لا أعطي للطقوس وللأشياء المادية المقام الأول، المقام الحقيقي بالنسبة لي هو ذلك الإيمان والنور الذي يزهر في قلب الإنسان، أن يعيش مسالماً للآخرين، ومحباً للآخرين، ومتفهماً للآخرين ، وأنا اخترت أن يكون هذا هو مفهومي للدين ، دين دعني أقولها ربما أكثر سكينة، أكثر تهذيباً، الإسلام أنا أعتقد أن الإسلام دين عظيم، أنا أؤمن أن محمداً – صلى الله عليه وسلم – وحده الشخصية العظيمة التي أثرت في تاريخ الإنسانية، أنا أؤمن أن الإنسان أثر في تاريخ الحضارة الإنسانية للإسلام لكنني أنا لي فهمي الخاص..

تركي الدخيل: طيب هل تعتبر نفسك مسلم ولاّ إنساني يعني؟

منصور النقيدان: أنا نشأتي نشأت في بيئة مسلمة، وتلقيت العلم الديني، وكنت ذات يوم شيخاً صغيراً..

تركي الدخيل: ولكنك تحوّلت عن ذلك.

منصور النقيدان: لكنني تحوّلت أنا اليوم أعتقد أنني إنسان أحترم الدين، وأحترم الإسلام، وأحترم الأديان عامة، وأعتقد أن الآخرين حقهم فليختاروا ما يشاؤون من الأديان)22.

ويقول:

((صلاح) شاب مسلم ومتدين، يقول إنه بعد التفجيرات الأخيرة في الرياض تعاظمت لديه شكوك كثيرة، لهذا هو حائر ماذا يفعل في رمضان؟ كيف يعيش روحانية الدين؟ كيف يمارس العبادات، في مجتمع محافظ متشدد، يحصي عليك حتى الأنفاس؟ صلاح يتساءل هل بإمكانه أن يحتفظ بإيمانه ويمارس الدنيوية في حياته؟

قد تكون الطريقة التي يُمارس بها الدين في مجتمعاتنا جافة تعكس التزاماً بالتقاليد والأعراف الاجتماعية أكثر مما هي قناعة حقيقية واختيار ورغبة نابعة من الذات، وهذا ما يجعل البعض يعيش هذا التمزق الذي ألم بصلاح وربما العشرات ممن لا يستطيعون الإفصاح ، حسناً ، يبدو أن صلاح عنده فهم مغلوط في تصوره لواجبات الدين وشعائره، وفي تصوره كذلك للعلمانية أو الدنيوية ، بإمكانك أن لا تكون متديناً، وتصبح أكثر دنيوية؛ ولكنك في الوقت نفسه مؤمن، تمارس من طقوس الدين ما يتماشى مع هويتك ويمنحك الانسجام والتناغم مع من هم حولك ، قبل ذلك بإمكانك أن تكون مسلماً جيداً، مظهرك جميل، لحيتك ليست بشعة، لست إرهابياً متطرفاً، ويكون لك فهمك الخاص لوظيفة الدين في المجتمع ، ولكن، من قال إن الإنسان بين خيارين لا ثالث لهما: إما أن يكون مؤمناً ومتديناً حسب فهم خاص للدين مرتبط ببقعة أو ثقافة إقليمية ما، أو وفق رؤية مذهبية أو طائفية، أو أن يكون ملحداً أو غير مؤمن أو علمانياً؟ - إذا سلمنا بهذه العلاقة المتنافرة ما بين الإيمان والعلمانية ، هناك دوائر أوسع لفهم الدين وتفسيره، ولسماحة الشريعة وتصور حقيقة الإيمان ودوره في حياة الفرد والمجتمع، هي تفاسير ومدارس في اسوأ أحوالها لا تصل بالإنسان إلى أن يكون لا دينياً أو عدمياً ، الإيمان شيء جميل، يبعث فينا العنفوان وحب الحياة، ويسعفنا لفهم ما يدور حولنا من ظواهر ونواميس كونية نجهل غاياتها، وتعجز عقولنا الواهنة عن تفسير لها، أليس ذلك خيراً من التيه والحيرة، حتى ولو كان وهماً؟

إن الله يكفيه منا أن نحمل الشعلة في قلوبنا ، أن نكون دائماً على أهبة الاستعداد للعكوف بمحرابه ، لنقدم شيئاً (لعياله) لعباده فهو غني عن عبادتنا)23.

* تحرر النقيدان من كافة الضوابط وإن كان الدين:

يقول:

(أنا وجدت نفسي من حين عرفت أن لي حقاً في السؤال، والاعتراض والرد،وطرح رؤيتي، ووجدتها حينما آليت على نفسي أن لا أسلم دماغي إلى بشر كائناً من كان، اكبر القضايا التي تزلزل الواحد منا هي القضايا الوجودية الكبرى، وهي تجربة ذاتية يحسمها الإنسان وحده،وما عداها من القضايا كغيرها،لا تشعرني أنا بالضياع مهما تعددت الآراء،وحتى إن لم أصل إلى قناعة تامة ، فلدى كل واحد منا قضايا مركونة على الرف، فتش..وستجد)24.

ويقول:

(لهذا أخذت على نفسي ان لا أمنح أحدا من الخلق، فرصة ليمارس أبويته ، ووصايته ، وما قرأت ما قاله أحمد بن حنبل لعبدالرحمن بن ميمون: "إياك أن تقول بمسألة ليس لك فيه إمام" ما قرأته إلا قلت ..يا حسرة على العقول.

وبعدها وقبلها مازلت أرى حتى ساعتي هذه ما أحب وما أكره، أسلو أحياناً، وأطنش كثيراً. يتعبني ويزعجني ويؤلمني بعض ما أسمعه، وما يتعرض له أحبابي وأصدقائي بسببي، ولكن دائماً أقول العاقبة للمتقين..والآن أكتب متى ما أردت وأحمد الله على السلامة، والحرية التي أتمتع بها)25.

وسئل منصور السؤال التالي:

(يقولون: مابين الإيمان والإلحاد إلا (شعره) أو نقطة على كلمة أو فاصلة بين حروف ، وإمام الحرمين الجويني وغيره .. لما غرقوا في دركات البحث الفلسفي .. لم يجنوا إلا أن قالوا في أخريات حياتهم: "ليتنا على دين العجائز" أو في هذا المعنى ، سؤال..ألا تخاف على نفسك الإلحاد ... من نهاية التنقلات والبحث .. أو ما تخشى أن ( يغّتر ) من ليس لديه حصانة علميه وإيمان وفقه ، أن يتحول وينتقل مثلك ثم لا يستطيع العودة).

فكان من جوابه أن قال:

(لا فأنا لا أخشى هذه الشعرة، ولا يخيفني إلى ماذا سأنتهي يوماً، دع الآخرين يجربون ..دعهم يغترون ربما يعودون وربما لا يعودون..هل هو أول عذاب للبشرية؟....يا سيدي نحن معذبون إلى آخر واحد منا على هذه البسيطة.... دعه يقترب من السجف وتحرقه سبحات الحقيقة...دعه ..يهيم بهذا ثم يألف غيره....

ويسلوهم من فوره حين يصبح)26.

* إيمان النقيدان بنسبية الحقيقة ، وعدم تملك أحد أيا كان للحقيقة المطلقة:

يقول:

(نحن نطالب بأن الآخرين من حقهم، حقهم أن يعبروا عن آرائهم وإيماننا بنسبية الحقيقة أنه ليس من أحد يعبر عن الحقيقة المطلقة ليس من أحد البتة يعطي الحقيقة المطلقة، وبالتالي هو لا يمتلك الحقيقة دون غيره)27.

* دعوة النقيدان لتطوير دين الإسلام ، وإعادة تفسيره:

يقول:

(الرهان على "الإسلامية"، هي طامة كبرى، فنحن بحاجة إلى إسلام متصالح مع الآخر، إسلام لا يعرف الكراهية للآخرين من أجل معتقداتهم أو توجهاتهم، نحن نحتاج إلى لوثرية جديدة، وإعادة تفسير "جريئة" للنص الديني لكي نتصالح مع العالم ، فبعد سبتمبر بدت عوراتنا الحقيقية، وتهاوى الجينز، ليبدو من تحته العباءة العربية القذرة، العالم أدرك أننا نكن له كرهاً متجذراً في نصوص ديننا، وعرف أننا لا نعرف لأحد كرامة إلا أبناء ديننا، وأن الآخرين لا حرمة لدمائهم وأموالهم، إلا من دخل تحت العهد بالذمة، حيث يلبسون لبوس الصغار، نحن نحتاج إلى إسلام كإسلام الجيل الثالث اليوم من أبناء المسلمين في فرنسا)28.

ويقول:

(الخلاصة أننا بحاجة إلى إسلام جديد من قبل سبتمبر و"الحرب الصليبية" ومن بعد سبتمبر ، هي ضرورة ذاتية مرتبطة بوجود الأمة وكيانها)29.

ويقول:

(حرية التفكير والنقد، وإخضاع أكثر الأفكار قدسية للمراجعة كانت وراء مراجعة المسيحية نفسها لكثير من أفكارها الدينية ، وهذا ما نحتاج إليه نحن المسلمين اليوم)30.

ويقول:

(ويأتي ضمن هذا التغيير الصادق المراجعة الشاملة لكثير من الأفكار الدينية التي أتت بها بعض الدعوات الإصلاحية والتي انعكست آثارها الإصلاحية على العالم الإسلامي)31.

ويقول:

(تظهر الحاجة الملحة إلى فهم واع للشريعة والنصوص الدينية ومقاصدها مع التحولات الكبرى ورياح التغيير التي تعصف بالأمم والثقافات، ومع التماس الحضاري، تتكشف سوءات ويتهاوى ركام من المقولات التي يتعامل معها بقدسية مطلقة ، وتظهر على السطح أزمات نابعة من ممارسات تجد لها غطاءً من الشرعية في النصوص والتراث الفقهي والديني)32.

ويقول:

(أعتقد أن ما نعيشه اليوم من تغيرات جذرية، يمثل فرصة تاريخية لا تزال مفتوحة وممتدة أمام جهود التغيير والتجديد ولإحداث حركة تصحيحية كبرى، وضخ دماء جديدة في مؤسسة الفتوى تمدها بالحيوية، والقدرة على التكيف مع المستجدات، للخروج من هذه الأزمة الخانقة والفقر في مستوى الخطاب الذي أصبح اليوم لا يجد من يصغي إليه، هناك نوعان من التغيير أحدهما ليس إلا نزوة عابرة، و هذا لا ينتج إلا العقم والفشل، والثاني يتمثل بإجراء مراجعة صارمة وموسعة، وانتهاج مسلك الإصلاح داخل الإطار والمؤسسة، وهذا التجديد لابد أن يكون مقترناً بتشجيع إرادة الإصلاح المتدرج الهادئ، لاسيما وأن الجوانب الإيجابية التي ينبغي الحفاظ عليها كثيرة ومتنوعة ، وبما أننا نعلم أن اجتهادات العلماء ومدارسهم وتفسيراتهم ومحاولاتهم لتطبيق فهمهم للإسلام عرضة للصواب والخطأ، فإننا بحاجة إلى إخضاع أفكارهم للنقد والمراجعة، وامتصاص بؤر التوتر فيها، والقضاء على منابع القلق ومناطق التوظيف المغرض، وتفعيل ما تضمنته من إيجابيات، وفتح المجال رحباً للنقد والمراجعة الصادقة، وخصوصاً أننا نعلم أن الإسلام ليس لوناً واحداً ولا مذهباً واحداً، وأن بالإمكان الاستناد على قاعدة صلبة من المشروعية الدينية، باعتماد ما يتناسب والمتغيرات والظروف التي تمر بها منطقتنا ومجتمعاتنا)33.

ويقول:

(أعتقد أن ما نعيشه اليوم من تغيرات جذرية يعيشها العالم والانفتاح الإعلامي في مجتمعاتنا، يمثل فرصة تاريخية لا تزال مفتوحة وممتدة أمام جهود التغيير والتجديد ولإحداث حركة تصحيحية كبرى ،وضخ دماء جديدة في المؤسسة الدينية تمدها برواء الحياة ، والقدرة على التكيف مع المستجدات ، بدلاً أن تفاجأ بأزمة خانقة وفقر في مستوى الخطاب المقنع للجمهور أو الأفكار الناجعة،فالأغبياء فقط هم الذين لا يتغيرون)34.

ويقول:

(في ظروف تاريخية معينة تواجه المجتمعات إشكالات كبرى وتمزقاً بين جمودها على ما تتصوره ثوابتَ فكريةً ودينيةً وبين متطلبات حياتها وضرورات وجودها ينعكس تمسكها بها سلباً على حياة أفرادها الاجتماعية والاقتصادية والفكرية، وعلى علاقتها بالعالم من حولها، مما يوجب على فقهائها ومفكريها البحث عن مخرج وعادةً ما يكون أنسب الحلول هو إعادة التفسير، والتأويل، وربما الانتقائية ، كم في تراثنا الضخم من تفاسير وفهوم ومذاهب ومقولات، نحتاج إلى أن نتعامل معها على ضوء القاعدة التي تقول: (اذكروا محاسن موتاكم) ، إن حضارة ما وإن كان الدين بشكل نسقها لن تشق طريقها حتى تدفع بالأفكار المعوقة -التي تقف دون الاستيعاب لشتى الشعوب والديانات والثقافات تحت عباءتها - إلى الصفوف الخلفية،وإن كانت تلك الأفكار هي الشرارة الأولى، والدافع في البدء لتلك الانطلاقة،فالحضارة تأكل أفكارها الأولية، أو تطورها بما يتناسب واللحظة التاريخية، ولا يمكن ألبتة أن تبقى على نقائها وسذاجتها الأولى)35.

ويقول:

(فأحداث سبتمبر كان يمكنها أن تكون ذات أثر عميق ينعكس على فهمنا للدين، لولا الانكفاء الذي حصل بعدها والتقهقر، واللجاج وإنكار الحقيقة، وتلكؤ الحكومات عن الاعتراف بدور الدين أو"فهمنا للدين" فيما حصل ، إلى ما حصل من جموع غفيرة لا يستهان بها من كتاب ومثقفين ومفكرين، من تبرئة للذات واتهام للغرب، كفلسفة معاوية حينما قال: "من قتل عماراً هو من أتى به إلى أرض المعركة"! إلى تلك الآراء/الفتاوى الغريبة التي تعتبر أسامة بن لادن، وما فعله المجاهدون في أمريكا وبقاع أخرى من العالم من سفك للدماء وقتل للأبرياء، اجتهاداً يسوغه الشرع، وصاحبه بين الأجر والأجرين، ، وفي المقابل ترى تلك العقول المنتنة أن القرضاوي في إباحة الغناء، ضال مضل، ينشر الفساد والرذيلة..! الحادي عشر من سبتمبر كان لنا كالكَسَّاح الذي أخرج آخر ما في الباطوس من قذارة، ونتن وعفن، وكلما ازددت حفراً -منذ يوم الثلاثاء المبارك- تقيأت لك أرضنا مالا يخطر لك ببال)36.

ويقول:

(هذه الروح في التعامل مع نصوص الشريعة وأحكامها، لو تم تفعيلها، بعملية مراجعة مستمرة، وإعادة تفسير متدفقة، مساوقة للتغير الهائل الذي طرأ على حياة المسلمين اليوم، في شتى مناحي الحياة- وقد ذكرنا سابقاً كيف نجحت عملية إعادة تفسير الآيات المتعلقة بالكون إثر كل اكتشاف علمي- فلربما تعطي بديلاً لنموذج علماني متعسف، ولكن إن استمر الحال على هذا الجمود، والتخاذل، والانكفاء مع امتلاء أهوج وتورم أرعن "أننا نملك الحل لهذا العالم" ، من دون أن نرى شيئا مقنعاً على أرض الواقع، فالمآل معروف للجميع ، فالبديل معروف)37.

ويقول:

(هناك دائما عملية إعادة تفسير مستمرة لنصوص القرآن، غير أن كونها تجري دائماً بعيداً عن الضوضاء، داخل مراكز دراسات ،تنشر بحوثها في دوريات ومطبوعات متخصصة، ، جنبها ردود أفعال تقضي عليها في مهدها ، ومكنها من أن تخطو خطوات)38.

ويقول على وجه الثناء:

(في تصوري أن ابن تيمية لو تأخر زمنه لكان أحد القلائل الذين بإمكانهم أن يقدموا تفسيراً جديداً للإسلام)39.

ويقول كذلك:

(كان بإمكانه أن يكون لوثر آخر في الإسلام)40.

والنقيدان لا يتوقف عند مرحلة المطالبة والتنظير المجمل لعملية تطوير الدين ومسخه ، بل يقدم المبرر الشرعي لمسخ الشرع!! وذلك بفتح باب الاعتراض على الشريعة ، وتجويز التشريع بوضع الأحكام الجديدة محل القديمة وهكذا! ، يقول: (فعمر بن الخطاب أكثر الصحابة اعتراضاً على الرسول (ص)41 وأكثرهم تساؤلاً حول الحكمة من التشريعات)42 ، ويقول: (وضرب عمر ضرباته في اجتهادات جريئة...فكان بذلك أكبر المشرعين43 ، وفتح لمن بعده كوة إلى رحابة التشريع ومرونة الأحكام، وانحنائها أمام المنعطفات والتغيرات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية)44 ، وبناء على هذا التأصيل يأتي على شئ من التفاصيل التي يرى أنها مما يجب أن يعاد النظر فيه ، ومن ثم يعاد تفسيره ، ليقدم في صورته الإسلامية الجديدة! لكنه كما يقال: (إسلام آخر زمن)! يقول في عبارة جامعة لأوجه المراجعة المطلوبة:

(يتميز الإسلام بأنه لا يوجد فيه هيئة دينية عليا تقرر ما هي -بالتحديد- العقيدة الصحيحة المستقيمة نظراً لوجود آيات محكمات وأخر متشابهات و عدم قياس ثابت متفق عليه إجماعاً لتحديد الفاصل القاطع بين استقامة العقيدة والمروق عنها، إضافة إلى عوامل الاجتهاد والتأويل والإجماع الظرفي المتغير بذاته مع الزمن، والعرف والظروف البيئية ونوعية العقلية السائدة في تحديد مواقع الأنماط الفكرية،فعدم وجود هذا القاطع "الرسمي" بين الاستقامة والانحراف يدفعنا غير مخيرين إلى ضرورة النقد الداخلي والشجاعة والصدق مع النفس،والسماح للآراء الأخرى الراشدة بالتنفس، والتعبير عن وجهات نظرها مهما كانت قاسية، ومهما كانت جارحة للكبرياء ، إن من أهم المسائل التي تستوجب من علمائنا الأفاضل أخذها بعين الاعتبار قضايا ضوابط التكفير وموانعه، ونواقض الإسلام ما هو موضع اتفاق وما هو موضع اختلاف، ومفهوم تطبيق الشريعة،والحكم بما أنزل الله، والذي غدا اليوم كقميص عثمان في التبرير لكل متسلق إلى السلطة مستبيح للدماء والأموال، وإعادة النظر في مفهوم الولاء والبراء ولوازمه ومتعلقاته ، وإزالة كل ما علق بهذا المفهوم من زيادات وإضافات دعت إليها ربما ظروف سياسية وخصومات مذهبية وظفت فيما بعد سيفاً مصلتاً على كل مخالف، وأصبح تلقين التلاميذ والطلبة بها كاللعب بالنار بحيث يمكن أن توظف لإشعال الفتن،والطعن في عقائد الناس والخروج على الحكومات، كما أن علماءنا الأفاضل مطالبون ببيان أن قصر مدلول الحكم بما أنزل الله على المعاملات التجارية أو الحدود والعقوبات المقدرة- دون ما عداها من أوامر الله ونواهيه التي هي مما أنزل الله ومن أحكامه تعالى- سوء فهم لمقاصد شريعة الإسلام وصلاحيتها، فالرحمة بالناس مؤمنهم وكافرهم، ومراعاة أحكام الجوار على صعيد الأشخاص والمجتمعات أو على صعيد العلاقات الدولية، وتحسين صورة المسلمين وتحبيب الإسلام إلى البشرية، كل ذلك هو من الحكم بما أنزل الله الذي يغفله أولئك الذين يريدون أن يحصروه بالعقوبات وقطع الأيدي وجلد الزناة)45 ، هذا موجز لمجالات المسخ المطلوبة ، وإليك بعضها من كلامه مفصلة:

*تطوير عقيدة الولاء والبراء:

يقول النقيدان:

(وعلينا نحن فقط دون غيرنا مسئولية القيام بتلك المراجعات، أن نقدم للعالم ديناً أكثر تسامحاً وأكثر تعايشاً مع الآخرين)46.

ويقول:

(يستحيل أن يستوعب خطاب يكرس الكراهية تجاه الآخر دينياً أو طائفياً، ويسوغ العنف بكل أشكاله ضده، ويصنف المجتمع والمواطنين على أساس ديني، ومذهبي يستحيل أن يستوعب مفاهيم حقوق الإنسان، إذا أخذنا في الاعتبار أن الأصابع مازالت تشير إلى عرابيه بالتورط في توفير الفتاوى والمشروعية الدينية لغزوتي واشنطن ومنهاتن ، إن الفلسفة التي تقوم عليها مفاهيم حقوق الإنسان، تتصادم في الجوهر مع ثقافة تنتج هذا الخطاب)47.

*تطوير ما يتعلق بالتكفير ، ونواقض الإسلام بإحياء نزعة الإرجاء وفرضها على الناس:

يقول النقيدان:

(لدي قناعة تامة أن من الحكمة الآن التركيز على تلقين الناس مذهب (الإرجاء) في الإيمان ، فالفكر السلفي -بمعناه المعاصر- يحمل في بنيته نزعة تكفيرية إقصائية ، ونحن نحتاج اليوم إلى بعث وإحياء نزعة (الإرجاء) التي تجد لها مستندا قوياً في نصوص القرآن والسنة ومقولات السلف ، إن إحياء مذهب الإرجاء اليوم بتنوع ألوان طيفه ومقولاته المتعددة هو أفضل الحلول، كالقول بـ"قصر مفهوم الإيمان على الاعتقاد القلبي فقط، وما عداه فهو كمال"، إلى آخر يرى أنه " قاصر على الاعتقاد واللفظ الإقرار"، إلى من يذهب إلى القول بأن "الإيمان المنجي في الآخرة يكفي فيه الاعتقاد مع الإقرار اللفظي مع أداء شيء من أعمال الإيمان يتحقق بها جنس العمل الذي يدخل به المسلم الجنة"، والأخيران مذهبان كانا واسعي الانتشار في العصور الأولى بين علماء وفقهاء الأمة، ونستطيع اليوم أن نجد له شاهداً قائماً في المجتمع الأندونيسي الذي يحمل في فهمه للدين نزعة (علمانية) ، كما أن للإرجاء في تراثنا تجليات أخرى رائعة في أحكام تكفير المسلم: موانعه وشروطه، تنم عن تسامح الإسلام ورحابته ، الحقيقة التي لا يمكن تجاهلها أن (تفعيل) الدين-حسب بعض أشياخي- في حياة المجتمعات، ورفع مستوى الشعور الديني، كفيل بأن يصل بنا إلى الكوارث التي نراها اليوم ماثلة أمامنا، غير أن إجراء عملية (خَصْيٍ) لفيروس الأفكار القابلة للانبعاث، عبر نشر مذهب(الإرجاء)، وتكثيف حضوره في الخطاب الديني والوعظي في المقام الأول، قد يقدم شيئاً مفيداً وجديداً، شريطة أن لا تكون الحكومات-التي ترى أن لديها مشكلة حقيقية تحتاج إلى علاج- هي الراعي المباشر لهذه الحملات، بل يجب أن تبقى بعيدة ترقب وتفسح المجال فقط وتزيل العقبات، أو على الأقل فقط أن تمنحه من الفرص ما تمنحه للآخرين)48.

* تطوير شريعة الجهاد:

يقول النقيدان:

(أخلص من هذا إلى أن إشكالية خطاب (الجهاد) من الممكن أن نتعامل معها (دينياً) على مستويين:

أولاً: إبراز مفهوم الجهاد الحقيقي في النفس، والمال، والنجاح في الحياة، ومساعدة الآخرين، والتركيز على النصوص والشروحات التي تجلي هذا المفهوم ، واعتبار الظروف التاريخية والسياسية التي أحاطت بتشريع الجهاد في الإسلام، وكيف أن الإسلام انتشر طوال عقد ونيف قبل تشريع المقاومة المسلحة، وأن الجهاد كان ينصرف حينها إلى الصبر، والعفو واحتمال الأذى،ومقابلة السيئة بالحسنة.

وثانياً: نزع (القدسية الدينية) عن مفهوم المقاومة والدفاع عن الذات والوطن، التي تندرج ضمن مصالح المجتمعات والدول، عبر احتوائها ببث وإرساء ثقافة الشرعية الدولية، وحق تقرير المصير والقانون الدولي، فما دام أنه ثمة اتفاق بين فقهاء الأمة وعلمائها اليوم على أن جهاد الطلب والابتداء - وهو المقصود أصالة في التشريع - قد أغلق إلى الأبد، وأنه لا يجوز اليوم إعلان دولة مسلمة الجهاد على جارة لها غير مسلمة، وأن ثمة نظاماً دولياً جديداً تشكل ويتشكل، ونحن منخرطون فيه كسائر خلق الله، فلم يبق إلا أن يبين أن الدفاع عن النفس والبلد والأرض هو غريزة أساسية في الإنسان وحق فطري، أسبغ عليه الشارع وصف الجهاد توسعاً وتشريفاً،كما وصف الرسول من يموت في الهدم أو الغرق أو الحريق شهيداً، مع القطع بأن الشهيد شرعاً لا يدخل فيه أحد هذه الأصناف، وأن وصفه بالجهاد لا يعني أنه متعال على الزمان والمكان، لا يخضع كغيره للتوازنات ومصالح المجتمعات والدول)49.

ويقول:

(الجهاد، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، بابان من أبواب الفقه لم تقدَّم فيهما دراسات ذات بال تتوافق والمتغيرات والمنعطفات الكبرى التي عاشتهما الأمة الإسلامية في القرنين الأخيرين، وبعد نشوء مفهوم الدولة الحديثة، والشرعية الدولية وحقوق الإنسان، بحيث لم تزل أحكام الجهاد تدرس كما لو أننا نعيش في القرن الرابع أو الخامس، مع علم الجميع أن جهاد الطلب والابتداء أمر قد ولى زمنه، حضور ذلك الفقه بطابعه التقليدي سوّغ لكثير من الإسلاميين الاستناد على مثل آراء ابن تيمية السابقة لإعلان الجهاد ضد حكوماتهم التي يرونها (مرتدة) وبالتالي هي أشد خطراً من الحكومات الكافرة كفراً أصلياً، ولدى ابن تيمية من الآراء والاجتهادات التي يدعي فيها إجماع علماء المسلمين ما يستندون عليه ويعبون منه حتى الثمالة)50.

* تطوير مفهوم الاحتساب:

يقول النقيدان:

(إن مفهوم الحسبة اليوم يعاني من أزمة مردها إلى أن ثمة واقعاً مغايراً ومتغيراً، صفته الحراك والتطور، يراد له أن يصلح ويمارس عليه مفاهيم عبر قوالب متجمدة، ولن يكون لمفهوم الحسبة دور إلا بإحساس المجتمع عامة بالحاجة إليه مثالاً وهدفاً والالتزام بما يفرضه ويقتضيه، وأما الجمود على تلك القوالب والمقولات التي صاغها المتقدمون فلا يمكن بحال أن يكون مرجعا لصياغة نظريات جديدة للحسبة اليوم ، نعم يمكن البناء على ما يصلح البناء عليه منها متى ما ناسب الواقع وقارب روح الشرع من دون أن ترفع إلى مستوى الوحي المنزل)51.

* تطوير أحكام الحدود:

يقول النقيدان:

(هناك قواعد وعناوين يكثر إطلاقها، كمقولة إن: "الحدود توقيفية، ولا يجوز الاجتهاد فيها، أو استبدال عقوباتها المحددة بأخرى"، وحينما نتجاوز ذلك التعميم إلى قراءة كل جزئية على حدة، سنجد أن الأمر ليس من الرهبة كما يبدو للوهلة الأولى، فعمر بن الخطاب أمر ألا تقام الحدود في أرض العدو أثناء الحروب52، وعمر نفسه كان قد جعل حد شارب الخمر ثمانين جلدة، -مع أنه لم يكن لها عدد محدد في حياة الرسول- فلما حكم علي بن أبي طالب ردها إلى أربعين53، فإذا ساغ الاجتهاد في زيادة أو نقصان54 جنس العقوبة ، فاستبدالها بأخرى وارد على هذا الأصل)55.

ويقول:

(فقه الشريعة يقول: إن إبدال العقوبة المحددة بأخرى هو من جنس الزيادة في العقوبة ومضاعفتها56،كما فعل عمر،وإذا ساغ للفقيه الزيادة للمصلحة، جاز أيضاً نقصانها للمصلحة، أو استبدالها بأخرى،سيان في ذلك عقوبات الحدود أو غيرها)57.

وانظر كلامه في حد الردة مثلا:

(العنف المادي، هذا لا شيء يقرره ولا شيء يبرره أياً كان حتى مهما كانت التبريرات الدينية، أنا لا أقصد العنف تجاه أي إنسان كان مهما كانت ديانته، مهما كانت عقيدته، مهما كان جرمه الفكري وما ينظر بأنه مرتد أو زنديق أو أياً كان، ليس من شيء يبرر العنف والاعتداءات الجسدية والمادية على الآخرين، أما بالنسبة للآخرين فأنا أقبلهم لكن هل هم سيقبلوني؟ هذا شيء آخر، يعني أنت منذ قليل ذكرت أن الآخرين يصفونك بأنك متطرف، كثير من أولئك الذين ينظرون بأن منصور النقيدان مثلاً أنه اليوم متطرف وأنه اليوم انقلب على أفكاره الأولى، وبالتالي ليس له رؤية واضحة محددة لأنه لا يقر له قرار، هم يكفّرون مجتمعات إسلامية بعامة، يكفرون طوائف مسلمة هم يختلفون معها، فهؤلاء هم آخر من يتحدث عن التطرف وآخر من يتحدث عن الإرهاب أو العنف أو ما شابه)58.

*دعوة النقيدان لحرية التعبير المطلقة:

يقول النقيدان:

(أنا أؤمن تماماً بحرية التعبير والانتماء الديني أو الطائفي، ولكنني أدرك جيداً أن الدعوة إليه، أو التفكير في ممارسته ومحاولة ذلك في مجتمع كالمجتمع الذي درجت فيه هو انتحار وجنون، غير أننا بحاجة أحياناً إلى أن نخوض هذا الجنون،نحن بأمس الحاجة إلى أن نظهر مواقف شجاعة تشعرنا بالرضى عن النفس، والتناغم مع حقيقة وجودنا)59.

ويقول:

(لا حل سوى حرية التعبير ، فهي الكفيلة بتحجيم هذا السرطان المستشري ، ورفع الوعي وتعزيز ثقافة التسامح التي تتمثل أولاً بقبول آراء الآخر المسلم فقهياً ومذهبياً وفكرياً)60.

ويقول:

(إن حرية التعبير ورفع سقف الرقابة وعدم قسر الناس على ثقافة دينية معينة ورؤية مذهبية واحدة هو إحدى وسائل بتحجيم هذا السرطان المستشري ، ورفع الوعي وتعزيز ثقافة التسامح التي تتمثل أولاً بقبول آراء الآخر المسلم فقهياً ومذهبياً وفكرياً)61.

ويقول:

(ما نحن بأمس الحاجة اليوم إليه، إدراك أن الإرهاب الفكري الذي مورس ويمارس على الآخر المسلم الشيعي أو الصوفي، أو الليبرالي أو العلماني أو أو، هو الوجه الآخر للتنظيمات المسلحة، إن فتاوى كانت ومازالت يتم تداولها منذ سنوات لأحد كبار العلماء في السعودية وممن يتمتعون بجماهيرية كاسحة، تسيء إلى أصحاب المذهب الشيعي تحتاج اليوم موقفاً حاسماً، أمثال هؤلاء يجب أن يوقفوا عند حدهم وأن تتم محاكمتهم وإدانتهم لإثارة النعرات الطائفية، وأي تساهل مع هؤلاء سيكون له آثاره السيئة على الجميع، من الحكمة الآن القيام بإجراءات كثيرة وتنفيس وبحبوحة من حرية الممارسة والتعبير، تفادياً للمقبل من الأيام، ورتقاً لخرق بدأ يتسع، فما يجري في العراق اليوم مؤذن بشر مستطير قد يطال شرره كل من حوله)62.

ويقول:

(أعتقد أن الحل يكمن في أن يكون هناك حرية، وأن يطرح الجميع ما لديهم، وأن يبقى الجدل الديني بعيداً عن السلطة السياسية وتدخلاتها)63.

ويقول:

(حدود الحرية الدينية عندي هي الحدود التي منحت عبدالله بن أبي بن سلول أن يقول : (لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل) يقصد أنه هو الأعز ، والرسول"ص" الأذل!، ولم يقتله رسول الله .. تقولون خشية أن يقال إن محمداً يقتل أصحابه ، أقول: لم تكن هناك حملات توعية، تمهد للقضاء عليه، لم تعقد له الجلسات ، لم تكن خطب الجمعة عنه ، لم يقم أبو هريرة بنشر مطويات تحذر منه ، وتوضح عظم خطره على الإسلام ، ولم يتناوله الرسول بالحديث عن نفاقه علناً، ولم تنزل سورة تفضحه باسمه كما فعل مع أبي لهب، وزوجته البائسة أم جميل، كان يقوم بين يدي الرسول"ص" يوم الجمعة عقب الصلاة، ويعظ الناس، لم ينقل عن الرسول أنه قاطعه أو أسكته، أو أهانه في مجلس،أو كسر خاطره علناً، كان يرغم فتياته على البغاء"تجارة الرقيق الأبيض"، وهو بين ظهراني المسلمين في المدينة، فنزلت فيه آية "النور"، بعتاب لطيف، (ولا تكرهوا فتياتكم على البغاء إن أردن تحصناً لتبتغوا عرض الحياة الدنيا، ومن يكرههن فإن الله من بعد إكراههن غفور رحيم) ، لم ينقل أنه امتنع من ذلك الفسق ولم تتم مداهمته بأحد جموس الهيئة، أو على الأباعر بقيادة عباد بن بشر، أو عبدالله بن أنيس ، مات فكان محل التقدير والاحترام ، ألبسه الرسول جبته ، ونزل معه في قبره، ونزلت آية التوبة تنهى الرسول عن الصلاة عليه، وانه لو استغفر له سبعين مرة، فلن يغفر الله له، وقال الرسول: (لو علمت أنني إن زدت غفر له لفعلت ذلك) ، هذه هي الحرية التي كانت في المدينة على حياة الرسول صلى الله عليه وسلم.

أما حدود الحرية السلوكية والأخلاقية، فهي التي تسمح لمثل مغيث أن يتبع بريرة ،في الأسواق، والناس جيئة وذهاباً، وهي ليست على ذمته، ودموعه- ياعيني عليه-تسيل على خديه وقد ذاب قلبه عليها حباً وعشقاً، والرسول ينظر إليه ويعجب، ثم يلتفت إلى العباس ويقول: ألا تعجب من حب مغيث لبريرة؟ ومن بغض بريرة له؟

ومنها حدود حرية المسلك والاجتهاد الفقهي، حيث كان من المشهور أن أبا طلحة الأنصاري كان يأكل البرد في رمضان، وهو صائم ويقول: (إنه ليس بطعام ولا شراب)! ولم يتعرض له أحد بأذى أو تضييق، وهي الحرية التي تسمح لعائشة أن تكذِّبَ أحاديث يحدث بها بعض الصحابة، وترد عليهم بناء على رؤيتها الشخصية)64.

* موقفه من التحاكم للشريعة ، وعلاقة الإسلام بالسياسة:

يقول النقيدان:

(في لقاء أجرته صحيفة الشرق الأوسط نشر أول أمس الثلاثاء ، قال الكبيسي :(إن من الخسة أن تكذب وتدجل وأن تدعي أنك تريد أن تقيم دولة إسلامية، وأنت لم تستطع طوال 15 قرناً أن تقيمها حتى عندما كنت في أوج قوتك وفي وجود جيشك) ، مؤكداً أنه ما من عباءة أشد فرقة من العباءة الدينية، ولذلك لا ينبغي أن تقوم حكومة دينية في العراق اليوم ، ويقول بالحرف الواحد: ( نحن لا يجب أن نجعل دين الدولة على مذهب واحد، نريد دولة شعبها مسلم يتمتع بحريات كاملة دون أن تمثل طائفة بعينها) ، هذه الرؤية التي قدمها الكبيسي لعراق جديد تشابه إلى حد كبير رؤية (أبو الحسن الندوي) المفكر الهندي الذي كان يرى -بعد انفصال باكستان عن الهند- أن (العلمانية) هي أفضل وضع يمكن أن يعيشه المسلمون في الهند بحكم كونهم أقلية، ولاستحالة إقامة دولة إسلامية بحيث تحمي العلمانية/الديمقراطية حقوقهم، غير أن المثير فيما ذكره الكبيسي أن الوضع في العراق مختلف تماماً، فالكبيسي يؤكد أن إقامة (حكومة إسلامية) أمر مستحيل، مستشهداً بالتجربة التاريخية للمسلمين عبر خمسة عشر قرناً، مؤكداً من غير أن ينطق أن دولة الإسلام أمر قائم وحكم مستقر مع كل ما مر بالأمة من فترات ضعف وانحطاط، ومع كل ما توالى عليها من خلفاء وحكام وملوك ورؤساء تفاوتت درجات تمسكهم بالشريعة وشعائر الإسلام مادام أن المجتمع يمارس واجباته الدينية ويحظى بحقوقه بشتى مذهبياته وطوائفه،فدولة الإسلام باقية ما بقي المسلمون)65.

ويقول:

(راهن الكبيسي على مفاهيم الحداثة :الشرعية الدولية، واتفاقيات جنيف، وحقوق الإنسان، ناسفاً ما عداها من شعارات تقتات عليها الحركات الإسلامية، ومصدر شرعيتها (إقامة الدولة الإسلامية) ، فهل حقاً تشكل تلك قناعة راسخة لدى الشيخ بأن تلك الأطر والمفاهيم التي تشكل ثقافة (المحتل الغازي) هي الضمان الحقيقي لأن ينال الإنسان العراقي بمختلف أشكاله الطائفية والعرقية كرامته؟ وأن شعارات (الإسلام السياسي) والسعي لإقامة حكومة مسلمة ليس إلا دجلاً وكذبا؟ً وهل هذا يشكل انقلاباً حقيقياً في رؤية الشيخ أم أنه تكتيك؟)66.

وقال في أثناء المقال نفسه:

(هذه رؤية سياسية واقعية لما يجب أن يكون عليه العراق يقدمها أحد أشهر علماء المسلمين في العراق).

وقال في آخر المقال مثنيا على هذا الموقف ناقما على المواقف الأخرى التي (تقتات) عليها الحركات الإسلامية على حد تعبيره:

(فهل نعتبر تصريحات الشيخ الكبيسي المثيرة ورؤيته الواقعية لعراق جديد رهاناً على الإنسان، ومباديء حقوق الإنسان، وطلاقاً بائناً لشعارات طالما أهلكت الحرث والنسل؟).

ويقول:

(فالإسلام الذي جاء به محمد"ص"واحد، ولكنه غدا من بعده إسلامات عدة، وقراءات متنوعة، ومذاهب شتى، وما أتمناه ليس هو تغيير نمط التدين المحلي، فهذا يحتاج إلى ثورة على أكثر من صعيد ، وهي بعيدة المنال حسب ما أراه، ربما أن قد أشرت إليها فيما سبق من إجابات ، المشكلة الكبرى هو أن الدين لدينا قد انعجن بالسياسة، حتى أن الواحد لا يدري أحياناً أهو يلامس التابو الديني، أم يقارب المحرم السياسي)67.

*موقف النقيدان من مختلف الطوائف والمذاهب والملل والنحل:

*موقفه من منهج السلف والسلفيين وأئمة السنة:

يقول النقيدان:

(كنت في مقال سابق نشرته جريدة إيلاف الإليكترونية، قد ذكرت أن لدي قناعة تامة أن الفكر السلفي يحمل في بنيته نزعة تكفيرية، وأنا في استعراضي السابق ركزت على الظاهرة الإسلامية/الإسلاموية في السعودية، وهي على شتى ألوانها ترتكز على قاعدة السلف الصالح، ومرجعية أقوالهم ومواقفهم من الآخر المسلم وغيره، فهذه التشكلات المتطرفة اليوم ليست استثناءً، فقد ولدت كلها من عباءة السلف وقد وقعت أحداث مشابهة لما نراه ونسمعه اليوم من تكفير وإهدار للدم ومطالبة بإقامة حد الرد ، على فلان وعلان، من علماء ضد علماء مثلهم لا يقلون عنهم تقوى وتديناً وتمسكاً، فكيف بمخالفيهم من أصحاب المذاهب الدينية والطوائف الأخرى، والتاريخ الإسلامي حافل بأمثلة كثيرة جداً ، أنا أشبه علاقة نزعة التكفير ببنية هذا الفكر، بتلك العلاقة التي كانت تربط (سيد الخواتم) بصانعه(ملك الظلام) ، ألم يقل ذلك الساحر الطيب إن الخاتم يحن إلى صاحبه، ويشتاق إليه، وصاحبه لايقر له قرار حتى يجده؟ كلاهما منجذبان إلى بعضهما ، لهذا كتب أحدهم يوماً: (إن ديناً لا تكفير فيه ليس بدين)!)68.

ويقول:

(أعتقد أن هذه المفارقات تجد جذورها في تراث هائل من أقوال السلف، وتعاملهم مع المخالف حيث بإمكانك أن تجد آراء تذهب إلى أن التقوى تتمثل بأن تأكل مع غير المسلم على أن تجتمع مع مسلم مخالف لك في النحلة على مائدة واحدة، وأن نكاح مسلمة محصنة عفيفة مخالفة لك في المذهب/المعتقد هدم للدين، بينما يجوزون أن ينكح مسيحية أو يهودية، أو أخرى ساقطة لا تعرف العفة ولا الفضيلة ، كما ستجد من ينخرط في مناظرات مع أهل الكتاب ولكنه لا يجوز لك أن تناظر مسلما مخالفاً في الاعتقاد أو الطريقة أو النحلة... إنه تراث لم يزل حاضراً وبقوة ، ومرشح للبقاء طويلاً، بعد أن تحول اليوم عفونة تصبغ حياتنا وتسمم أجواءنا، وبعد أن فقد عصارته، وتعفنت ثماره، ولم يبق منه إلا الدغل، وخيوط عنكبوت تلتف حول أعناقنا،وتعرقل مسيرتنا)69.

ويقول:

(لدينا اليوم عدد لا بأس به يعملون جاهدين على استدعاء أكثر الأفكار في التراث الديني الإسلامي تخلفاً، يتخذون منها درعاً واقياً لهوية مستهدفة، ويحتمون بها عوامل للشحن والتعبئة ، أفكار عديدة شكلت النسق في أدبيات الجماعات الإسلامية اليوم لم تأت من فراغ ، بل كانت قابعة في جيوب ومخابئ ثقافتنا ألغاماً قابلة للانفجار تظهر حيناً وتختفي ردحاً من الدهر متى ما توفرت الشروط الموضوعية لانبعاثها واستدعائها، فهي في متناول اليد، يستحيل القضاء عليها إلا بالقضاء على أسباب انبعاثها ، لا أسباب وجودها ، فهي كامنة كالفيروس)70.

ويقول:

(ربما يشعر البعض أنني أتحدث عن قضايا بعيدة كل البعد عن واقعنا ونوازله، ولكن هذا الفقه والتراث بمقولات أئمته وبكل طميه حاضر في ثقافتنا، ويشكل المرجعية والأرضية الصلبة لحركات وتوجهات ونزعات تعشعش بيننا، ونصطلي اليوم بثمار أفكارها)71.

ويقول:

(نسمع أحياناً أن العالم الفلاني استنكر أو رد أو استهجن ...إلخ، ولكننا نعلم أن هذا الفكر التكفيري الخارجي يجد له مستنداً وجذوراً في (النصوص المؤسسة) وفي ثقافة راسخة تعود إلى العهد الأول، وهذا ما يحاول البعض أن يتجنبوا الحديث عنه لحساسيته ، وهو مالا يمكننا استبعاده إن أردنا أن نقدم شيئاً ذا بال فيما يخص هذه المسائل ، صحيح أننا أمام هذه الإشكاليات الكبرى نلجؤ إلى التأويل وإعادة التفسير، والانتقائية، ولكنه أفضل المتاح حالياً ، هذا أفضل الحلول لنستطيع أن نتعايش مع العالم ، فلا أدري كيف سيتم قبولُ من يكررون صباحاً ومساءً نصوصاً دينية مقدسة تنضح بكره الآخر غير المسلم ومعاداته في مجتمع ليس مسلماً!)72.

ويقول:

(الترويج لخطاب الجهاد هو كاللعب بالنار، فاليوم بإمكانك أن توظف مفهوم الجهاد ضد عدوك الآخر الخارجي، أو المخالف الطائفي، وغداً سيرتد إليك لأن الجهاد وفق الرؤية الفقهية التقليدية لا يستثني العدو الداخلي، والذين لهم إلمام بأحكام الجهاد وفقهه وأصناف من يجب أو يجوز قتالهم والخروج عليهم، وأحكام نواقض الإيمان، وتكفير المعين شروطه وموانعه، وفق الرؤية السلفية، يدركون جيداً أن من اليسير تنزيل بعض النصوص والفتاوى، وتوظيف نقول وآراء -ظن الكثيرون أنها استنفدت أغراضها - وبعثها كرة أخرى لتأجيج فتن واحتراب داخلي مجرد تصوره يثير الخوف والفزع، في ظل ظروف مناسبة ومتغيرات كبرى، وإحباط عام يغذي أفكار الغلو، وتراث ديني في متناول اليد يسبغ المشروعية، وليس سراً أنه تم مؤخراً إيقاف مجموعة من دعاة الفكر التكفيري حيث جرى التغاضي عنهم في السابق حتى تعاظم شرهم واستأثروا بعد تفجيرات سبتمبر بحصة لا يستهان بها من الشباب الذين يتبنون اليوم أفكار القاعدة، ويحلمون بإقامة الجهاد هنا في بلدهم، ولم يترددوا في التوجه إلى العراق للجهاد؛ بتحريض وتشجيع مشايخ يحظون باحترام واسع عبر وسائل الإعلام المقرؤة والمرئية)73.

ويقول:

(لهذا أخذت على نفسي أن لا أمنح أحدا من الخلق، فرصة ليمارس أبويته ، ووصايته ، وما قرأت ما قاله أحمد بن حنبل لعبدالرحمن بن ميمون: "إياك أن تقول بمسألة ليس لك فيه إمام" ، ماقرأته إلا قلت ..يا حسرة على العقول ، وبعدها وقبلها مازلت أرى حتى ساعتي هذه ما أحب وما أكره، أسلو أحياناً، وأطنش كثيراً ، يتعبني ويزعجني ويؤلمني بعض ما أسمعه، وما يتعرض له أحبابي وأصدقائي بسببي، ولكن دائماً أقول العاقبة للمتقين. .والآن أكتب متى ما أردت وأحمد الله على السلامة، والحرية التي أتمتع بها)74.

ويقول:

(ومن الغرائب ما تنقله كتب العقائد من أن أحدهم دخل عليه رجل (من أهل الأهواء) فوضع إصبعيه في أذنيه وأبى أن يسمع منه حرفاً واحداً قال له: أتلو عليك آية، فقال: ولا آية ، وقد ذكر الله جل وعلا أن عباده (يستمعون القول فيتبعون أحسنه) ، والرسول صلى الله عليه وسلم جلس مع عتبة بن ربيعة وسمع منه حتى انتهى وأجابه عن كل نقطة في حديثه ، هذه العبارات التي كثيراً ما ترد في كتب العقائد صدرت من وعاظ وقصاص يملأون مجالسهم بشتم مخالفيهم وتكفيرهم ولعنهم فإذا ما أُحرجوا بالدعوة إلى المناظرة والجدال ولم يكن لديهم من العلم والمعرفة ما يقابلون به خصومهم لم يجدوا خيراً من هذه الأقوال يتدرعون بها، ومثل ذلك قولهم: أن المبتدع على وجهه ظلمة لا تفارقه وذلة لا تنفك عنه، وأنهم (وإن طقطقت بهم البغال وهملجت بهم البراذين فإن ذل المعصية لا يفارق وجوههم ))75.

ويقول:

(وراق لبعضهم أن يتألى على الله ويحجر رحمته فقال بعدم قبول توبة الزنديق!!، وبأن المبتدع لا يتوب ولو أراد التوبة لم يوفق إليها!! فإذاً لا مناص من القتل صيانة للدين وذباً عن حرماته!!، وتحذلق بعضهم مدعين أن المبتدع يحضر لكل سؤال من بدعته جواباً قلما يستطيع مجادله نقضه، ولهذا فلا ينبغي مناظرة أهل البدع ولا تمكينهم من كتابة آرائهم ليرد عليهم!!، فيذكر ابن بطة في كتاب (الإبانة) أنه ما أضر بأهل الإسلام مثل مناظرة أهل البدع ومجادلتهم داعياً إلى التجافي عن سماع أقوالهم وعن مجادلتهم بالتي هي أحسن، مع أن الله في كتابه دعى إلى مجادلة المخالفين بالتي هي أحسن، كما دعى إلى مجادلة أهل الكتاب بالحسنى إلا الذين ظلموا منهم، فما دام أن القصد من إنزال الكتب وبعثة الرسل هو هداية الخلق ورحمتهم فما المحذور في مجادلتهم ومناقشتهم؟! ولكن هذه الأقوال الغريبة التي شاعت وحشيت بها كتب العقائد وجعلت قواعد مقدسة للتعامل مع المخالفين في الفكر والاعتقاد كان مصدرها بعض القصاص والوعاظ!! من أدعياء العلم الذين يملئون مجالسهم بلعن أهل البدع وتكفير مخالفيهم! ورواية الأكاذيب والأساطير في أن المخالفين لهم يمسخون في قبورهم قردة وخنازير!!، مثل هؤلاء يجرون أحياناً إلى النقاش والمناظرة فلا يجدون ما يسترون به جهلهم سوى هذه الأقوال والنقول التي يتدرعون بها!!، فلا عجب بعد هذا أن يكثر الزنادقة والمنحلون من الدين إذا كان المدعون للعلم بهذا المستوى من الهشاشة والضعف)76.

ويقول:

(ومن الأقوال التي تطلق بلا عنان ما يذكر في مباحث بيان تحريم الغناء والمعازف من أن (الغناء ينبت النفاق في القلب) ، ومعلوم أن كثيراً من المحرمات إذا اقترفها العبد وجد من نفسه ضيقاً وضنكا، فإما أن يراجع ويتوب فيكون حاله بعد التوبة أفضل منه قبل المعصية وإما أن يأتي بأعمال صالحة تكفر الذنب أو تخففه، والنفاق إما أن يكون نفاقاً أكبر بإظهار الإسلام وإبطان الكفر وإما أن يكون من النفاق العلمي كالكذب في الحديث والفجور في الخصومة وغيرها، وليس ثمة تلازم البتة بين سماع الغناء والنفاق، وما العلة في اختصاصه دون غيره من الذنوب بإنباته للنفاق!77 ، ولم لم يكن الكذب هو مفتاح النفاق وبابه؟78

برأيي أن مصدر هذه المقولة أن أحد سلفنا الصالح كان يسمع الغناء خفية وهو يعتقد حرمته، وهي ازدواجية تجعل الإنسان يعيش تمزقاً وعذاباً وشعوراً قاتلا بالنفاق وهي تجربة ذاتية (تخصه) ليس له أن يعممها79 ، وقد رأينا من تشف نفسه وتنبل أخلاقه وتجنح روحه حينما يستمع أعذب الألحان وأحلى الأصوات، فالغناء كالكلام حسنه حسن وقبيحه قبيح، ومن الكلام ما ينبت الكفر والإلحاد، فهل أصاب ابن القيم الحنبلي حينما قال في نونيته:

حب الكتاب وحب ألحان الغنا****في قلب عبد ليس يجتمعان)80.

ويقول:

(أطلق ابن حنبل أقوالاً وآراء صارت من بعده عقائد لا يرقى إليها الشك ومسلمات لا تناقش ، امتُحِنَ الناس بها ولازالوا، آراء يُحتج لها ولا يُحتج بها ويُستدل لها ولا يُستدل بها81، فضلل وبدع من توقف في خلق القرآن ووكل علم ذلك إلى الله فعده شراً من الجهمية82 ، ولا أدري ما حجته وربنا سبحانه يقول : (ولا تقف ما ليس لك به علم إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسؤولا) ، وقال في مسألة اللفظ بالقرآن قولاً عجباً83 فأوذي كثير بسببها ونال البخاري ومسلماً وغيرهما الاضطهاد والتضييق من جرائها ، وأحمد بن حنبل هو الذي أوصى أحد أصحابه أن لا يقول بمسألة ليس له فيها إمام، ولما سئل عن مسألة في الفرائض توقف فيها لأنه لا يعلم في ذلك شيئاً عمن سلفه، ولأحمد ولغيره ممن سبقه أو لحقه في وصف البدع وأهلها وأهل الأهواء والضلالة آراء في حكم التعامل مع المخالف ممالا يفصل فيه نص قطعي الدلالة قطعي الثبوت، خلفوا أقوالاً سرت إلى عقول الأمة وسلطها العامة سيفاً مسلطاً على كل باحث عن الحقيقة أصيل الفكر نابذ للتقليد)84.

ويقول:

(فالفكر السلفي بعامة والوهابي بخاصة له موقف متشنّج معادٍ من الآخر المسلم، له موقف من الصوفية، وله موقف من الشيعة، ومن.. التكفيريون معادٍ.. غير أن وجود السياسي ونضج السياسي وعقلانية السياسي وواقعيته كانت كفيلة في العقود الماضية لتحجيم هذا التطرف وقمع هذا الغول الذي بإمكانه أن يخرج من عمق في أي لحظة.. في لحظة ما ، الوهابية اليوم تحتاج إلى أن تبسط رواق السلم والتسامح مع المذاهب الفقهية الأخرى)85.

ويقول:

(لا بد من الاعتراف بحقيقة مرة وهي أنني حينما أرجع إلى أدبيات الجماعة الإسلامية وجماعة الجهاد في مصر بعد مقتل السادات كثير من أدبيات القاعدة وغيرها كثير من أعداد مجلة صوت الجهاد التي هي ... اللسان الناطق لتنظيم القاعدة في السعودية ، هي ليست بعيدة كل البعد عن الأصول الفكرية للوهابية: الولاء والبراء.. التكفير موجبات التكفير شروطه وموانعه وما هي مسببات التكفير؟ هذه الأشياء كلها موجودة فيها وبالتالي لا يمكن أبداً أن تفكّ هذه الأفكار عن أصولها ، غير أنها ليست الوهابية نفسها ، هي المسؤولة عنها أساساً ، هذه أفكار لم تكن يوماً من الأيام فقط مسؤولة عنها الوهابية هي مشكلة الفكر السلفي بعامة)86.

* موقفه من أهل السنة والجماعة:

يقول النقيدان:

(أهل السنة والجماعة كغيرهم، لديهم صواب وخطأ)87.

* موقفه من الشيعة:

يقول النقيدان:

(أما الشيعة فهم إخواني)88.

ويقول:

(لقد أثبت أبناء الطائفة الشيعية أنهم أكثر حرصاً على وحدة هذا البلد واستقراره، مع كل الثغرات التي كان من الممكن أن يجد البعض فيها فرصة لما يدعيه المتطرفون الذين أثبتت الوقائع أنهم هم الخطر الحقيقي، مهما ادعوا أنهم الأكثر أصالة وسلامة معتقد وألصق بتعاليم بن عبدالوهاب)89.

*موقفه من العلمانية والعلمانيين:

يقول النقيدان:

(ثنائية الإسلامي/العلماني لها في مجتمعنا السعودي أحاديث وأسمار وملاحم، كان ضحاياها أشخاصاً مخلصين لأمتهم، وكتاباً حادبين على وطنهم، وآخرين ركعاً وسجداً يرجون رحمة ربهم ويخشون عذابه، ومنهم من فاضت روحه إلى بارئه تشكوا ما نالها من ظلم وقسوة ونبذ وصقيع اغتراب جلل حياتهم لم يكونوا يبحثون عنه،وآخرون يراهنون على الزمن..مؤمنين أن ما نعجز عن قوله، أو نخشى ردة الفعل الصاعقة تجاهه ؛ ما علينا إلا أن نكرره،ونلح عليه..ليكون يوماً واقعاً مفروضاً يرغم الآخرين على التعايش معه ،فالحريات لا توهب،وإنما تؤخذ غلاباً)90.

ويقول:

(كنت في السابق أقاسي العذاب الرهيب من أن يزيغ قلبي فأنحرف..انحرفت فاستمعت إلى عبد الباسط ، وسلمان العودة، بأشرطة الكاسيت، قلت: لا ، المهم أن لا أجالس وأصاحب الذين أشربت قلوبهم حب الوظائف والمدرس النظامية، فزغت قليلاً...وقرأت كتب سيد قطب خفية من الأصحاب... قلت: مازلت أنا على خير ، حتى الآن... ثم انحرفت فرأيت أفلام المجاهدين في أشرطة الفيديو، فقلت: الحمد لله مازلت متدينا،ولا أعصي الله، وأصلي النوافل ، ثم انحرفت فقرأت كتب الطنطاوي،وكرد علي والعقاد،..قلت: مسلم يشدو الأدب...ثم انحرفت...فقرأت الجرائد....ثم جالست وصادقت وقرأت لمن يوصفون بالعلمانية، فرأيتهم خيراً مني ، ومن كثير من المشعوذين ، يحملون هم أمتهم ، ولديهم رؤيتهم، ويحملون قلوباً مفعمة بحب البشرية جمعاء، وتتمنى خيرها ... وهكذا حتى أصبحت اليوم (إنساناً)، لا تأسرني الرؤية المذهبية المقيتة ، ولا الطائفية ، أقاتل حتى الشراسة عما أراه ، وأعبر عن أفكاري بحرية لم أتسولها من أحد ولم أنتظر فيها إذنا، ولم أطرق الأبواب لأقف في الطوابير ليأذن لي فلان أو علان ، لا أعادي الآخرين لتوجهاتهم، ولا أجد في قلبي غلاً لإنسان مهما كان دينه أو نحلته أو توجهه ، أتساءل دوماً وأحاول أن أتلمس حقيقتي أنا ، أجلس مع شروق الشمس وعلى أنغام فيروز ، أتأمل حياتي السالفة، وأضحك من طنين الذابة)91.

ويقول في جواب سؤال:

(أما سؤالك الكريم عن هل من الممكن أن يكون المسلم ليبرالياً ومسلماً في الوقت نفسه؟ فنعم.

وأما العلماني فهذا يعتمد على كيفية تصورك للعلمانية، ولحقيقة لإيمان وعلاقة الإنسان بربه، وهل الدين الذي ينجو به العبد ويدخل الجنة هو الفطرة الإيمان بوحدانية الله التي نجى بها النجاشي وكان بها مسلماً، وهو لم يركع لله ركعة واحدة92، ولم يبدل من سياسة حكمه قيد أنملة وبقي على سنة من قبله في السياسة والحكم ، وقد تأخرت وفاته إلى السنة السادسة من الهجرة، بعد نزول أكثر الأحكام التشريعية،مما يجعلنا نجزم أنه كان مطلعاً أول بأول على مستجدات التشريع،ومع ذلك صلى عليه الرسول صلاة الغائب93.

أما إن كان تصورك لحقيقة الإيمان لا يكون الإنسان مؤمناً إلا بالإقرار والإذعان لحكم الشريعة، فهنا يأتي الحديث عن العذر بالجهل، والتأويل، وبيان الحجة، وهو حديث يطول، وإذا كان ابن تيمية يقول لخصومه: أنا أعذركم، ولكنني لو اعتقدت ما تقولون به لكفرتُ، فأحسب أن الأمر أيسر مما نتوهم)94.

ويقول:

(دعني أسألك عزيزي مستمع : ألا تلتقي أوقاتاً بأناس تشعر من حين تراهم أنك التقيت بهم منذ الأزل في عالم المثال، أو منذ لحظة البدء، أو أنهم قد يكونون من الأرواح التي تعرفت عليها نفسك المنفوسة وأنت في صلب أبيك؟. هكذا أبو طارق95)96 ، والطيور على أشكالها تقع.

* موقفه من الكفار من أهل الملل والنحل الأخرى:

يقول النقيدان:

(لتعلموا أن ديناً لا يسعى لسعادة الإنسان، لحفظ مصالحه الحقيقية، ليس إلا وبالاً، وتذكروا قول النبي محمد صلى الله عليه وسلم: (إن هدم الكعبة أهون عند الله من سفك دم مؤمن) ، كل المؤمنين من كل الأديان (إن الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى والصابئين من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحاً) ، الإيمان عندي هو كثير من الإنسانية قليل من الرهبانية ، ربما يكون لحياتنا طعم آخر ، ابحثوا عن الجمال والروحانية في الطبيعة ، وفي الموسيقى الهادئة ساعات السحر ، وفي صوت عبدالباسط حينما يقرأ القرآن ويرفل في صوته الملائكي ، الروحانية ليست في السجود وقراءة القرآن فقط ، بل حتى في الحب الصادق ، اكتشفوا الإيمان لدى المؤمنين الآخرين ، ربما تعلمون أنكم تتفقون معهم في معظم ما يقتلهم الإرهابيون لأجله ، قد نعود بعدها بفهم أكثر اعتدالاً ، وتكون نفوسنا أكثر هدوءاً)97.

ويقولكما في لقائه مع تركي الدخيل في قناة العربية:

(أنا أعتقد أن الدين بحد ذاته ضروري للمجتمع الإنساني هو حاجة وضرورية يلبي لدى الآخرين ، لكنني لدي موقف محايد من الأديان كلها أنا لا أكفّر أحداً، أعتقد أن..

تركي الدخيل: محايداً إيش..؟

منصور النقيدان: محايداً.. أنا لا أكفر مسيحياً ولا يهودياً ولا بوذياً ولا أياً كان، أنا لي موقف متفهّم للأديان كلها..

تركي الدخيل: طيب يعني هل هذا ما أشرت إليه..

منصور النقيدان: أنا أحترم أي شخص مهما كان دينه وعقيدته)98.

ويقول:

(لا أعادي الآخرين لتوجهاتهم، ولا أجد في قلبي غلاً لإنسان مهما كان دينه أو نحلته أو توجهه)99.

*موقفه من الغرب:

يقول النقيدان:

(وللأمانة والتاريخ، فإن كل ما يتفوه به أصحابنا اليوم من حديث وجدل حول حرية التعبير، لم يكن سوى نفحة من حضارة نقتات على نتاجها، ننبهر بألقها، يسحرنا جبروتها، ويكسرنا من الأعماق تفوقها، ولكننا نأبى إلا أن نحجب الشمس بأكفنا)100.

ويقول ذاما أهل الإسلام مثنيا على الغرب الكافر:

(علينا أولاً أن نعترف بأننا لؤماء، نعض اليد التي تحسن إلينا، وأننا نجحد فضل الآخرين علينا، وندعي ونحن التافهون أننا نحن الذين علمناهم، ونورناهم، وأنهم اليوم يصطلون بقبس حضارتنا الغابرة، ونصرخ كالمجانين، حينما تفتح لنا كوة نحو النور والضياء،راضين أن نقبع في أماكننا كالزواحف ...نتناسل في الغرف المغلقة، لتتوالد العقارب ويضج بها المكان ويضيق حتى تلتفت إلى نفسها وتلدغ بعضها بعضاَ،والعالم ينظر إلينا بكل سخرية)101.

ويقول:

(وعلينا نحن فقط دون غيرنا مسئولية القيام بتلك المراجعات، أن نقدم للعالم ديناً أكثر تسامحاً وأكثر تعايشاً مع الآخرين، ديناً ينأى بحامليه عن أن يكونوا ألأم الناس، وأكثرهم خسة ودناءة، وأكثرهم نكراناً للمعروف، وهم يتبجحون أمام العالم أنهم خير أمة أخرجت للناس، ديناً يجنب حامليه عن أن يكونوا من الضعة بمستوى يدفعهم إلى الشماتة بجراح بلد ومجتمع آواهم وعلمهم وأنفق عليهم ورفع من إنسانيتهم، وأشعرهم حقاً كيف يعيشون بشريتهم، كيف يتواءمون مع العالم كيف يكونون طيبين تماماً ومنتجين كمواطني تلك المجتمعات التي احتضنتهم، وأطمعتهم من جوع وآمنتهم من خوف)102.

* نظرة النقيدان لهذا البلد وأهله في دينه ومؤسساته الدينية والتعليمية وغيرها:

يقول النقيدان:

(ولم أصدق أبدا أنني أدركت أخيرا أن الإسلام ليس هو الوهابية وحدها ، وأن أشكالا أخرى منه تحث على التسامح والمحبة ، ولكي أتخلص من ألم ذلك الاكتشاف ، بدأت أكتب ضد الوهابية ، والذي حقق لي بعض الطمأنينة ، وكان كفارة عن ماضي الجهل والعنف ، وهذا ما تحتاجه المملكة العربية السعودية كشعب ، ولادة جديدة ، إننا نحتاج أن نتقبل الألم الناشئ عنه ونتعلم كيف نقبل التغيير ، نحتاج إلى صبر وقدرة لتحمل نتائج جرائمنا في العقديين الماضيين ، فقط عندما ننظر لأنفسنا بالشكل الذي ينظر به إلينا بقية العالم –أمة تفرخ الإرهابيين- ونفكر في أسباب ذلك وماذا يعني ، عندها سنتمكن من أن نخطو خطوتنا الأولى نحو تصحيح تلك الصورة ونجتثها من جذورها)103.

ويقول:

(المشكلة الحقيقة أن السعودية تغوص في مستنقع التطرف الديني المتجذر في معظم المدارس والمساجد والتي أصبحت أرضا خصبة للإرهابيين ، نحن لن نستطيع معالجة مشكلة الإرهاب طالما هو مستشر في مؤسساتنا التعليمية والدينية)104.

ويقول:

(الحادي عشر من سبتمبر كان لنا كالكَسَّاح الذي أخرج آخر ما في الباطوس من قذارة، ونتن وعفن، وكلما ازددت حفراً -منذ يوم الثلاثاء المبارك- تقيأت لك أرضنا مالا يخطر لك ببال)105.

ويقول:

(لقد كان المسئولون يعتقدون أن بالإمكان تفادي ضررهم في الداخل ، ربما كان الخوف من أن يكون أي تشديد أو ملاحقات أمنية ضد أولئك سبباً في أن يوجهوا عملياتهم للداخل ، وكان اليقين بأن بالإمكان التحكم بذلك ، وأن بالإمكان التعامل مع العمليات الإرهابية والمسئولين عنها والمتورطين فيها بقسوة مفصولاً عن التعامل مع ثقافة الغلو والتطرف الحاضنة لتلك التوجهات والتي يتم تلقينها في كل مركز صيفي، وفي كل مسجد وجامع، وفي كل حلقة تحفيظ، وفي المخيمات الدعوية ، والبرامج الدينية في التليفزيون وإذاعة القرآن الكريم وحتى في فتاوى تنشر في الصحف، وكتب ومنشورات تباع في المكاتب أو توزع مجاناً ، أخيراً أدرك أصحاب القرار والمعنيون أن ثقافة التطرف، ثقافة الدم، أن الفهم المتشدد للدين ، أن الغلو والخارجية التي ضربت أطنابها وعششت في أدمغة جيل بأكمله مسئولة مسئولية مباشرة عن كل ماحدث)106.

ويقول:

(علينا أولاً أن نعترف بأننا لؤماء، نعض اليد التي تحسن إلينا، وأننا نجحد فضل الآخرين علينا، وندعي ونحن التافهون أننا نحن الذين علمناهم، ونورناهم، وأنهم اليوم يصطلون بقبس حضارتنا الغابرة، ونصرخ كالمجانين، حينما تفتح لنا كوة نحو النور والضياء،راضين أن نقبع في أماكننا كالزواحف ...نتناسل في الغرف المغلقة، لتتوالد العقارب ويضج بها المكان ويضيق حتى تلتفت إلى نفسها وتلدغ بعضها بعضاَ،والعالم ينظر إلينا بكل سخرية ، أما أن يكون الحل هو الجهاد، وأن يكون البناء هو الهدم..والعدم، وأن يستجلب الحب بقتل الأبرياء والأطفال، والسلام عبر الاحتراب، والأمل عبر ثقافة الاستئصال والقتل، فهو ما يصعب على العقل السوي فهمه ... الجنون الذي نراه اليوم عرض من أعراض المرض والعلة التي استشرت في جسد هذه الأمة وثقافتها، وهذه راجعة أساساً إلى تراث متعفن، وثقافة الصديد والضحالة التي يربى أبناؤنا عليها صباحاً ومساءً، في المساجد، وعبر خطب الجمعة، وفي دروس الدين، ومن إذاعة القرآن الكريم، ومن قناة المجد)107.

ويقول:

(إن إحدى الإشكالات الكبرى التي تواجهها المؤسسة الدينية (وزارة الشؤون الإسلامية/ هيئة الفتوى) أنه لم يتم فصام وقطيعة مع الأسس التي تغذي أفكار التطرف والغلو، وليس غريباً أن كتب"عصام البرقاوي -أبومحمد المقدسي" وغيره اعتمدت في تكفير الحكومات الإسلامية قاطبة، وفي تكفير أعضاء هيئة كبار العلماء في السعودية مراجع منها " الدرر السنية في رسائل علماء الدعوة النجدية" والتي كانت توزعها مجاناً الرئاسة العامة لإدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد"وقراءة سريعة عابرة في مجلدي "الجهاد " و"حكم المرتد" من الدرر السنية ، ولقاءات و حوارات "الشيخ حمد بن عتيق " وسليمان بن سحمان " و"سليمان بن حمدان" و" حمود التويجري " كافية في إعطاء حكم واضح)108.

*استعداء الغرب الكافر ومختلف الدول وتحريكهم ضد هذا البلد وأهله ، وطلب تدخلهم ومساعدتهم:

يقول النقيدان كما في مقالة له في مجلة النيويورك تايمز الأمريكية:

(قبل أسبوع من يوم أمس كان المفترض أن أحضر إلى أحد أقسام الشرطة لأتلقى 75 جلدة على ظهري ، الحكم الذي صدر فيّ من محكمة دينية بسبب مقالات كنت قد كتبتها أدعوا فيها إلى حرية التعبير ، وانتقاد الوهابية ، المذهب الرسمي للمملكة العربية السعودية)109 ، ومعلوم للجميع سبب صدور هذا الحكم ، وأنه لا علاقة له بمسألة حرية التعبير ، اللهم إلا أن تكون هذه الحرية في قذف الناس والطعن في الأعراض فنعم!

ويقول:

(كما أظهرت الهجمات الأخيرة أننا بحاجة الآن أكثر من أي وقت مضى لمساندة ومساعدة البلدان الأخرى لمساعدتنا للوقوف في وجه الثقافة الدينية المتطرفة والتي تمارس التمييز ضد الأقليات الدينية عندها إضافة للشيعة والصوفية)110.

هذا ما تيسر جمعه من أقوال النقيدان ومواقفه أسأل الله أن يكون فيها نفع وإفادة في معرفة حقيقة الرجل ودعوته وماذا يريد وما هو الموقف الشرعي الصحيح منه ومن نظرائه وقرنائه والله أعلم وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

=============

#نهاية التاريخ أم نهاية الإنسان أم سقوط حضارة

(1) نهاية التاريخ

الزعم بنهاية التاريخ ، هو ما ادعاه المفكر الأمريكي فرانسيس فوكوياما : وهو النائب السابق لمدير مجموعة تخطيط السياسة بوزارة الخارجية الأمريكية

وقدم أطروحته تلك أولا : في محاضرة ألقاها بهذا العنوان " نهاية التاريخ" خلال السنة الدراسية 88\1989 بمركز مختص بالبحث في ( نظرية وتطبيق الديموقراطية بجامعة شيكاغو) ، ثم تحولت المحاضرة إلى مقال شهير بمجلة ناشيونال إنتيريست ، ثم تحولت إلى كتاب نشرته دار النشر فيريبريس ، وقام بترجمة الكتاب إلى العربية الدكتور حسين أحمد أمين ونشره " مركز الأهرام للترجمة والنشر " ، الطبعة الأولى 1993

وقد ذهب المؤلف في كتابه إلى أن الديموقرطية الليبرالية تشكل " نقطة النهاية في التطور الأيديولوجي للإنسانية ، والصورةَ النهائية لنظام الحكم البشري وبالتالي فهي تمثل نهاية التاريخ " ، وبعبارة أخرى فإنه - كما يقول فوكوياما - إنه بينما شابت أشكالَ الحكم السابقة عيوبٌ خطيرة أدت إلى سقوطها فإن الديموقراطية الليبرالية يمكن القول بأنها خالية من مثل تلك التناقضات الأساسية الداخلية

ولم يكن يقصد فوكوياما بنهاية التاريخ نهاية وقوع الأحداث ، بما في ذلك الأحداث الخطيرة والجسام ، وإنما يقصد ( التاريخ من حيث هو عملية مفردة متلاحمة وتطورية ، لتجارب كافة الشعوب في جميع العصور ) ص8

وقد ارتبط هذا الفهم للتاريخ من قبل بكل من الفيلسوف الألماني هيجل ، وماركس ، فعند هذين المفكرين : أن ثمة تطورا متلاحما للمجتمعات البشرية من مجتمعات قبلية بسيطة قائمة على العبودية وزراعة الكفاف ، إلى مختلف أشكال الحكومات الدينية والملكية والأرستوقراطية الإقطاعية ، وانتهاء بالديموقراطية الليبرالية الحديثة والرأسمالية القائمة على التكنولوجيا عند هيجل ، والشيوعية من بعد ذلك عند ماركس .

كان في اعتقاد كل من هيجل وماركس أن تطور المجتمعات ليس إلى ما لانهاية ، بل إنه سيتوقف حين تصل البشرية إلى شكل من أشكال المجتمع يشبع احتياجاتها الأساسية والرئيسية وهكذا افترض الاثنان أن للتاريخ نهاية : هي عند هيجل الدولة الليبرالية ، وعند ماركس المجتمع الشيوعي ، وليس معنى هذا أن تنتهي الدورة الطبيعية للحياة والأحداث وإنما يعني هذا أنه لن يكون ثمة مجال لمزيد من التقدم في تطور المبادئ والأنظمة الأساسية ، وذلك لأن كافة المسائل الكبيرة حقا ستكون قد حلت . ص 9

ثم يصل فوكوياما إلى أن يقول في كتابه : إن لنا ونحن نودع القرن العشرين أن نعود إلى تأكيد ما قرره هيجل من قبل وهو : أن تاريخ البشرية يتجه بالشطر الأعظم من البشرية صوب الديموقراطية الليبرالية كنهاية للتطور التاريخي ، وذلك لسببين : الأول يتصل بالاقتصاد ومن ثم بالعلوم الطبيعية الحديثة ، والثاني يتصل بما يسمى " الصراع من أجل الاعتراف ونيل التقدير والاحترام "ص 9، فالبشر لا يرغبون في الرفاهية المادية فحسب ، وإنما يسعون إلى الاعتراف بمكانتهم وكرامتهم من جانب غيرهم من البشر .

فمن ناحية السبب الأول : نجد أن المبادئ الليبرالية في الاقتصاد - أي السوق الحرة - قد انتشرت ونجحت في خلق مستويات من الرخاء المادي لم نعهدها من قبل سواء في الدول المتقدمة أو العالم الثالث .

ولذلك أثره الكبير في استقرار الديموقراطية على أساس فرضيات ثلاثة تقوم عليها السياسة الخارجية الأمريكية : الفرضية الأولى : ( أن الديموقراطيات الليبرالية لا تميل إلى محاربة بعضها ) ولذلك له أثره الكبير في توسيع دائرة منطقة السلم في العالم ، الفرضية الثانية أنه ليس هناك مثال تاريخي واحد لأية دولة ديموقراطية ارتدت إلى السلطوية بعد وصول مستوى الفرد فيها إلى ما فوق مستوى 6 آلاف دولار من الناتج المحلي لسنة 1992 ، والفرضية الثالثة : أن أفضل طريقة لتشجيع النمو الاقتصادي هي دمج الدولة دمجا كاملا في النظام الرأسمالي الليبرالي للتجارة والاستثمار ) .

وتأتي هنا أهمية التقدم العلمي ( حيث تخلق آفاقا متجانسة من إمكانات الإنتاج الاقتصادي ، فالتكنولوجيا تتيح إمكانية تراكم الثروة بغير حدود ، وتتيح بالتالي إمكانية إشباع قدر متزايد دوما من الرغبات الإنسانية ، ولا شك في أن هذه العملية تضمن تجانسا متزايدا بين كافة المجتمعات البشرية بغض النظر عن أصولها التاريخية أو تراثها الحضاري .. وقد زادت الروابط التي تربط بين مثل هذه المجتمعات بفضل الأسواق العالمية وانتشار الثقافة الاستهلاكية في العالم كله ) ص 11

غير أن هذا العامل الاقتصادي لا يكفي وحده للوصول إلى نهاية التاريخ من وجهة نظر الديموقراطية الليبرالية ، لأنه ( ثمة حالات عديدة أمكن فيها للدول الديكتاتورية الوصول إلى معدلات نمو اقتصادي لم تتمكن المجتمعات الديموقراطية من تحقيقها ) ص 11 وذلك لأن الإنسان عند فوكوياما ( ليس مجرد حيوان اقتصادي ) ص 12

ومن هنا يتبين لفوكوياما أهمية العنصر الثاني الذي يحرك التاريخ وهو الرغبة الأساسية لدى الإنسان في الحصول على اعتراف الغير به واحترامه ، وهو الأمر الذي لا يوفره التقدم الاقتصادي في ظل الدول الديكتاتورية ، فكانت نهاية التاريخ من ثم لا يمكن أن تتم في ظل التصور الماركسي ، وكان لابد من توقعها في ظل تحقيق المجتمعات الديموقراطية الليبرالية بزعم أنها هي التي تحقق العنصرين معا : التقدم الاقتصادي ، والحصول على الإحساس بالرضا وعزة النفس .

هذا الأمر هو الذي جعل فوكوياما يعود إلى هيجل ونظريته غير المادية في التاريخ القائمة على أساس " الصراع من أجل نيل التقدير والاحترام " ص12 وذلك بالوصول إلى الديموقراطية اللليبرالية . كما يعود في نفس الوقت إلى ذلك الجانب الذي سماه أفلاطون : الثيموس ( أي الهمة أو الشجاعة أو القوة الغضبية ) ضمن الجوانب الثلاثة عنده للإنسان : العقل والشهوة والقوة الغضبية ص 13 .

ثم هو يبني أطروحته على اتجاه الاقتصاد العالمي في طريق العولمة : ويقررأنها - أي العولمة وجدت لتبقى لأسباب ثلاثة :

أولا : لأنه - كما يقول ( لم يبق هناك نموذج تنمية كبديل عملي يعد بنتائج أفضل من العولمة حتى بعد أزمة الدول الأسيوية عام 1997\1998 ) طبقا لما صرح له به بعض زعماء الحركة الاقتصادية النامية في سنغافورة وماليزيا من أنهم أصبحوا يفضلون نمط السياسة القائمة على الحقوق الذي هو سمة من سمات الغرب " يفضلونه على نمط السياسة القائمة على الدكتاتورية الأبوية كسمة من سمات الثقافة الأسيوية

السبب الثاني : في عدم احتمال نقض العولمة هو : أن مشاكل عدم المساواة الاقتصادية التي يسعى اليسار إلى حلها لا يمكن حلها في الوقت الراهن إلا على أساس من المستوى العالمي

السبب الثالث : أن العولمة المعاصرة تلقى الدعم من تكنولوجيا المعلومات التي نشرت التليفون والفاكس والراديو والتليفزيون والإنترنيت في أقصى بقاع الأرض . .

وليس معنى ذلك عند فوكوياما ( أن الديموقراطيات الراسخة المعروفة في زمننا هذا كالولايات المتحدة أو فرنسا او سويسرا لا تعرف الظلم أو المشكلات الاجتماعية الخطيرة ، غير أن هذه المشكلات هي في ظني - حسب تعبيره - وليدة قصور في تطبيق المبدأين التوأم : الحرية والمساواة ، اللذين قامت الديموقراطية على أساسهما ولا تتصل بعيوب في المبدأين نفسيهما ) ص 8

تعليق (1) : وهنا نجد أن فوكوياما يتناسى أن الديموقراطية الحديثة لم تقم على أساس هذين المبدأين الحرية والمساواة فحسب : ولكن بضميمة العلمانية إليهما ، ومن هنا يصح لنا أن نتوقع مجييء العيوب من هذا المبدأ الثالث نفسه

تعليق (2) : إذا كان هذا الاعتذار - عدم القصور في المبدأ نفسه - مقبولا في شأن إخفاق الديموقراطية الحديثة إلى حد أنها كما يقول فوكوياما نفسه ( قد ترتد إلى أشكال أخرى للحكم أكثر بدائية كالحكومة الدينية أو الديكتاتورية العسكرية ) ص 8 .. فهل يقبل العلمانيون هذا الاعتذار عندما يقال في شأن النظام الإسلامي ؟

تعليق (3) : بالرغم من تصريح فوكوياما بأن الإنسان ليس حيوانا اقتصاديا ،وإنما هو يحتوي على الرغبة في اعتراف الآخر به ( انطلاقا من الثيموس الأفلاطوني ومطلب الاعتراف عند هيجل ) فإننا نحن نرى أن الأمر مع ذلك ما يزال يتحرك في النطاق المادي ، ولا يمكن تحقيق الشعور بالاحترام إلا من خلال تحقيق رغبة الإنسان في التطلع للحصول على الرضا من خلال رغبته في الاتصال بالأعلى ، بالله والآخرة ، وإذن فلا ينتهي التاريخ إلا باستسلام الإنسانية كلها للدين الذي يشبع هذه الرغبة ، و ذلك ما تنبأ به محمد صلى الله عليه وسلم في قوله من علامات الساعة ( والذي نفسي بيده ليوشكن أن ينزل فيكم ابن مريم حكما عدلا فيكسر الصليب ، ويقتل الخنزير ، ويضع الجزية ، ويفيض المال حتى لا يقبله أحد ، حتى تكون السجدة خيرا من الدنيا وما فيها ) رواه البخاري وغيره .

تعليق (4) : ارتبط هذا الفهم للتاريخ بكل من الفيلسوف الألماني هيجل ، وماركس ، فعند هذين المفكرين : أن ثمة تطورا متلاحما للمجتمعات البشرية من مجتمعات قبلية بسيطة قائمة على العبودية وزراعة الكفاف ، إلى مختلف أشكال الحكومات الدينية والملكية والأرستوقراطية الإقطاعية وانتهاء بالديموقراطية الليبرالية الحديثة والرأسمالية القائمة على التكنولوجيا .

تعليق (5) : نرى أن هذا التاريخ بهذا المفهوم الدنيوي البحت نظرية قابلة للجدل ، إذ أين المسار الديني الخاضع لقيومية الآخرة عند من يعتقد كونه عاملا أساسيا لا يزول ؟

تعليق (6) : كان في اعتقاد كل من هيجل وماركس أن تطور المجتمعات ليس إلى ما لانهاية ، بل إنه سيتوقف حين تصل البشرية إلى شكل من أشكال المجتمع يشبع احتياجاتها الأساسية والرئيسية وهكذا افترض الاثنان أن للتاريخ نهاية : هي عند هيجل الدولة الليبرالية ، وعند ماركس المجتمع الشيوعي ، وليس معنى هذا أن تنتهي الدورة الطبيعية للحياة والأحداث وإنما يعني هذا أنه لن يكون ثمة مجال لمزيد من التقدم في تطور المبادئ والأنظمة الأساسية ، وذلك لأن كافة المسائل الكبيرة حقا ستكون قد حلت ص 9

تعليق : ونحن نقول إن هذا يتوقف على وجهة النظر القيمية : إذ أين تأثير مسار القيم الأخروية عند من يؤمن بها وينتظر عندئذ مستقبلا لتحقيقها ؟

( 7) ثم يؤكد فوكوياما في كتابه : أن لنا ونحن نودع القرن العشرين أن نعود إلى تأكيد ما قرره هيجل من قبل : أن تاريخ البشرية يتجه بالشطر الأعظم من البشرية صوب الديموقراطية الليبرالية

تعليق : ونحن نرى أن هذا التأكيد ينطلق من تقدير مفعم بالذاتية ، وهي ذاتية ليست مقدسة ، ولا محصنة ضد الجدل ، فإذا لم تؤصل على أسباب موضوعية فقد اصبح وخصومه على مفترق طرق منذ البداية .

وما يذكره فوكوياما من أسباب لهذا الاعتقاد يؤكد ذاتيته .

(2)

هل تراجع فوكويوما

في مقاله الأخير الذي أصدره فوكوياما مؤخرا بعنوان ( إعادة نظر في نهاية التاريخ ) وقد نشرته مجلة " الكتب وجهات نظر " في عددها الثامن سبتمبر 1999 بترجمة الأستاذ أحمد محمود . يتساءل فوكوياما في هذا المقال الأخير : هل يعني ذلك من الصحيح أن ما قدمه في كتابه من أن كل شئ في النظام السياسي والاقتصادي الكوني يسير فعلا إلى حالة الاستقرار النهائية ؟ يجيب فوكوياما على هذا السؤال في مقاله الأخير بالنفي ، ولأسباب سياسية واقتصادية إلى الحد الذي يجعله يصرح بسؤال : لماذا كان القول بنهاية التاريخ خطأ إلى حد كبير ؟ ، إنه يصرح بأنه اكتشف أن احتمال كون الإنسانية في هذه المرحلة الديموقراطية الليبرالية القائمة على العولمة الحتمية قد اقتربت من نهاية التاريخ إنما ينشأ فقط في ظل شرطين : أولهما أن التقدم العلمي التكنولوجي له نهاية يتوقف عندها . والثاني : أن الطبيعة البشرية ثابتة لا تتغير تغيرا جذريا . وبما أن هذين الشرطين غير متوفرين : كما تبين له أخيرا فإن احتمال تحقق ما سماه نهاية التاريخ أصبح أمرا مشكوكا فيه كذلك :

أما الشرط الأول فقد أصبح مشكوكا فيه بسبب التقدم العلمي الذي لم يعد له نهاية ملحوظة إلى الحد الذي ينبئ باحتمال أن يخلق نوعا جديدا من البشر ومن ثم ينهار الشرط الثاني الذي افترض ثبات الطبيعة البشرية .

وفي المجال العلمي فهو يقرر أن الإنسانية على شفا انفجار جديد من الابتداع التكنولوجي ، وأنه إذا كان القرن العشرون هو قرن الفيزياء التي كانت منتجاتها النموذجية القنبلة الذرية والترانزستور فإن القرن الواحد والعشرين يبشر بأن يكون هو قرن البيولوجيا أو علم الأحياء .

فإلى حد ما من الممكن اعتبار ما حدث طوال القرن والنصف المنصرمين ثورة في التكنولوجيا الحيوية إذ جاءت لنا بالتطعيمات ضد الجدري وشلل الأطفال مما أدى إلى زيادة متوسطات الأعمار المتوقعة ، والثورة الخضراء في الزراعة والفوائد الأخرى التي لا حصر لها . غير أن اكتشاف تركيب ما يسمى الحمض النووي فتح مجالا أرحب كثيرا في غزو الإنسان للطبيعة . وسوف تجعل أنواعُ التطورات التي يحتمل حدوثها في الجيلين القادمين : تجعل ما حدث في السابق من تقدم تافها إذا ما قورن بها .

وتوحي الأبحاث التي أجريت مؤخرا على الخلايا الموجودة في الأجنة التي لم تتخلق بعد لتصبح أعضاء الطفل المختلفة توحي بأن الشيخوخة وعدم تجديد الخلايا الميتة عمليتان يمكن التحكم فيهما وراثيا ويمكن تشغيلهما أو وقفهما بطريقة متعمدة ، ويعتقد بعض الباحثين في الوقت الراهن - كما يقول - أنه قد يكون من الممكن للعلم أن يمكن بعض البشر من أن يحيوا بشكل معتاد لمدة مائتي أو ثلاثمائة عام ، وربما أطول من ذلك ، وعلى مستوى عال من الصحة .

إن النتيجة الأكثر جذرية للبحث الدائر في مجال التكنولوجيا الحيوية هو احتمال تغيير الطبيعة البشرية ذاتها ليس فقط بالتأثير على الفرد الذي تطبق عليه : وإنما على كل الذرية التالية لهذا الفرد ، فلا تكتفي بنشاطها في الأغراض العلاجية وإنما - وفي ظل عدم وجود اتفاق فيما يتعلق بما يشكل أساس الصحة - : سيصبح في الإمكان أولا إعطاء هرمون النمو لطفل يعاني من القزامة لوجوده في شريحة الشذاذ الذين لا يتجاوزن نسبة خمسة في المائة ليصبح في عداد من يعتبرون أطفالا عاديين ، ثم يصبح بعد ذلك يعطى لطفل في شريحة العاديين ( شريحة الخمسين في المائة ) ليصبح في عداد نموذج جديد من البشر وهكذا تتغير مقاييس أشكال الصحة أساسا بغيثر ضابط أو نهاية

يقول كثيرون - حسب فوكوياما - : إنه يمكننا أن نرسم خطا بين العلاج المطلوب ، والتحسين المحذور ، وأنه يمكننا أن ندخر الهندسة الوراثية من أجل العلاج - [كما هي الدعوة التي يتبناها في مصر الدكتور حمدي السيد نقيب الأطباء عن طريق إصدار القوانين والمواثيق ] هؤلاء حسب رأي فوكوياما واهمون ، أو هم من غير المهتمين بما يجري في الحياة العلمية في الفترة الأخيرة .

فمما سيمكن تحقيقه في يوم من الأيام : العلاج بالعقاقير الذي يحدث نفس المستوى الأساسي من التأثير على السلوك البشري ، وهناك أعداد لا حصر لها من الحالات التي تمت فيها تهدئة أطفال على قدر كبير من الفوضى أو العنف أو العدوانية بعقار ريتالين .

وبالمثل فإن هناك عقار بروزواك الذي كان له أثر كبير في علاج المرضى الذين يعانون من الاكتئاب ، وهو يؤثر تأثيرا على مستوى السيروتونين في المخ الذي يرتبط ارتباطا وثيقا بالمشاعر الخاصة بالثقة بالنفس والكرامة

وبدلا من السعي - كما كان الأمر يحدث سابقا - إلى التغلب على النفس بكل قلقها ومحدوديتها .. يمكن لنا الآن أن نبتلع حبة دواء فحسب .

ويمكن للعقار الأول أن يقلل من ذكورة الأولاد ، كما يمكنه أن يقلل من أنوثة المرأة - حسب الطلب أو التخطيط المركزي على السواء - ليصل بنا إلى صنف مخنث من البشر ، وهو الهدف الذي تهدف إليه السياسة الجنسية المعاصرة ، تحقيقا لهدف المساواة ، الذي قال نيتشة عنه في الإنسان السوبرمان ( الكل يريدون أن يكونا سواء ، فالكل سواء )

وهذه التطورات التي يشهدها علم العقاقير العصبية تقدم لنا عينة لما سيأتي في القرن الجديد ، وبالتالي سنكتسب القدرة على التحكم في المورثات نفسها ، وبالتالي تغيير مجموعة السلوك التي كان يتم التحكم فيها وفقا لنظام المورثات قبل هذا التعديل .

وأن الأمر يتطور إلى أن يصبح في إمكان هذه التقنيات أن تؤدي إلى : أن تخلق نوعا جديدا من البشر .

وبهذا يكشف فوكوياما عن أن الافتراضين الأساسيين اللذين بنى عليهما أطروحته في نهاية التاريخ : وهما نهائية التقدم العلمي ، وثبات الطبيعة البشرية غير صحيحين : وأنه إذا كان البشر -حسب زعمه قابلين للتشكل بصورة لا نهائية وأن الثقافة تحتوي على إمكانات أكبر في قابلية التشكيل فحينئذ ( يكون جليا أنه ليست هناك مجموعة معينة من المؤسسات السياسية والاقتصادية الليبرالية يمكن أن تصل إلى أن تكون مرضية كل الرضا )

(3)

نهاية الإنسان

لكن الأمر لا ينتهي عند هذا الحد في مقالة فوكويوما الأخيرة

فهو يلاحظ- في صحوة ضمير - :أنه بينما أن للتكنولوجيا الحيوية آثارها المفيدة التي لا يمكن إنكارها فإن كثيرين ينظرون إليها بقدر أكبر كثيرا من الشك ، بل إن مصدر الخطر فيها هو مالها من هذه الآثار المفيدة التي تجعل من غير الممكن الاستغناء عنها .

وفي أوربا وألمانيا على وجه الخصوص جعلهم التراث النازي حذرين بشأن الأبحاث الوراثية والتحكم في الجينات ، وقد حظر الألمان أنشطة مثل أبحاث المورثات ، كما دخلوا في خلافات مع شركات التكنولوجيا الحيوية بشان الأطعمة التي أدخلت عليها تغييرات وراثية .

وفي تكنولوجيا المعلومات : (هناك بعض الاستخدامات التي لن يدافع عنها حتى أكثر المؤيدين لحريتها : مثل عري الأطفال على صفحات الإنترنيت ، - ناهيك عن عري النساء الذي لم يشر إليه فوكوياما - وتداول معلومات صنع القنابل ، وحتى إذا أراد أحد السيطرة ، على استخدامات التكنولوجيا في مجال المعلومات فلن يكون بالإمكان القيام بذلك ، وأية محاولة لفرض قيود على استخدام تكنولوجيا المعلومات في الوقت الراهن سوف يتطلب مستوى من الحكم الكوني الذي لاوجود له حاليا ومن غير المحتمل أن يكون موجودا في أي وقت في المستقبل ) . ( وسوف تواجه المشاكل ذاتها أية محاولة للسيطرة على التكنولوجيا الحيوية فسوف تكون منافعها على قدر كبير بالنسبة لكثير من الناس بحيث سيتم تجاهل الهموم الأخلاقية بشأن مساوئها التي هي في رأيي - حسب تعبير فوكوياما - أشد خطورة بكثير من تكنولوجيا المعلومات .. ) ويقرر أننا قادمون على تطورات ( أكثر جذرية وبالتالي أشد رعبا تكمن في المستقبل ) : وأنه لن يكون بمقدورنا -في مجال الاستنساخ مثلا - أن نفرض قيودا سياسية على البحث العلمي ( وحتى إذا أردنا أن تكون هناك قيود فلن يمكن فرضها )

( وتعني العولمة - عنده - أن أية دولة ذات سيادة تسعى لفرض قيودها على الاستنساخ مثلا أو خلق الأطفال المصمَّمين لن تفلح في ذلك ، فالأزواج الذين يواجهون حظرا يفرضه الكونجرس الأمريكي قد يمكن لبعضهم التسلل إلى جزر الكيمان أو المكسيك .. بل التنافس الدولي قد يدفع الدول إلى تجاهل وخز الضمير ، فإذا بدا أن منطقة أو دولة تنتج أفرادا أسمى وراثيا من خلال قواعدها المتساهلة بشأن التكنولوجيا الحيوية فسوف يكون هناك ضغط على الدول الأخرى لتلحق بها) ويصبح النظام الدولي - القائم على العولمة والذي سمح بانتقال تكنولوجيا المعلومات الخيرة  ، غير صالح لمواجهة التكنولوجيا الحيوية الأكثر شرا ( وعندئذ تكون جهود إغلاق الأبواب لا نفع فيها )

ولا يصح لأحد - كما يقول فوكوياما - أن يقلل من شأن النتائج المحتملة لذلك على أي من السياسة والأخلاق ، وإذا بلغ الأمر- كما يقول - فوكوياما - حد أن الطبيعة ليست شيئا وهبنا إياه الرب ، أو ميراثنا الارتقائي ، بل صنعه البشر فحينئذ ندخل مملكة الرب - على حد تعبيره بكل القوى المخيفة للخير والشر التي يوحي بها هذا الدخول .

والمشكلة إذن - كما وضع فوكوياما يده عليها أخيرا في صحوة ضمير - مشكلة أخلاقية .

وسوف نتوقف نحن عند هذه النقطة لنعود إليها ، لكن يبقى أن نسأل عن أطروحته في نهاية التاريخ ما الذي حدث لها بعد هذا التحليل ؟

هنا نجد فوكوياما يحاول بلعبة لفظية إنقاذ أطروحته السابقة في نهاية التاريخ إذ يقول أنه ( سنكون قد انهينا التاريخ البشري بكل تأكيد لأننا سنكون قد ألغينا البشر أنفسهم ، وحينئذ سيبدأ تاريخ ما بعد البشري ) .

(4)

نهاية حضارة

إن ما يسميه فوكوياما نهاية التاريخ البشري والانتقال لما بعد البشري لا يعني غير انهيار البشرية لأسباب أخلاقية كما صرح بذلك ، وليس الوصول بهذه البشرية - كما زعم سابقا - إلى مرحلة الرضا المنبعث من ( الثيموس ) . بل دون أمل فيما يسميه ما بعد البشرية .

إذ ماذا يتبقى بعد هذه النهاية المأساوية لتاريخ البشرية ليقوم عليه تاريخ ما بعد البشرية ؟

وماذا في يد العلم ليبدأ الخطوات الأولى في هذا التاريخ بعد أن تم استبعاد الله - وحاشاه - من الطبيعة ، كما استبعد من البشرية ؟

وقد كان على فوكوياما بدلا من الدخول في ضباب وأسطورية ما بعد البشري - حسب زعمه - أن يتوقف طويلا أمام حقيقة أن تاريخ البشرية يحتاج إلى ما ينقذه :

ونحن نوافق فوكويوما في نظرته اليائسة لمن ينقذ البشرية في مرحلتها الحضارية الأخيرة لكي يعيدها إلى الطريق في سيرها نحو حالة الرضا : نعم نوافقه على ذلك لكن لسبب لم يدركه فوكويوما منذ البداية وهو أن هذه الحضارة إذ ارتكزت على عنصري الاقتصاد ومطلب اعتراف الآخر فقد أهملت منذ البداية عنصر الإيمان بالدين والاعتراف بها أمام الله ، وقامت على العلمانية الأمر الذي جعلها في نهاية تطورها الخاص بها في موقف الإفلاس الأخلاقي إفلاسا لم يعد يمكنها من الإمساك بقشة النجاة من الغرق بالرغم من تفوقها الاقتصادي والعلمي ، بل بسبب تفوقها الاقتصادي والعلمي معا .

هنا نمسك بتلابيب المأساة : وهي مأساة هذا النموذج الغربي للحضارة ، إذ ليس من شك في أن المشروع الذي قامت عليه الحضارة الأوربية المعاصرة في أصل بنيتها منذ بداية النهضة قد استبعد الدين تماماً، وإن كانت تلجأ إليه لأسباب عارضة أحيانا كما هو الحال في صراعها مع المسلمين . وهذه هي مأساة هذه الحضارة بالذات .

كل ذلك يهون ، أو يقاس ـ مع الفارق ـ على آثام حضارات تداعت من قبل ، لكن : ما تصنعه هذه الحضارة من كارثة للأرض : كوكباً ضمن المنظومة الفلكية ؟! لا يقاس عليه شيء .

وأخيرا يأتي مابشرحه فوكوياما من تدمير لتاريخ البشر ، انتظارا لوهم ما بعد البشرية

ومن هنا فقد كان يجدر بفوكوياما أن يتحلى بقدر أكبر من الشجاعة وأن يرتفع إلى مستوى المفكرين الذين ارتفعوا بقامتهم إلى مستوى معالجة هذا الموضوع ، وبدلا من أن يلعب لعبته اللفظية في القول بنهاية التاريخ البشري ليبدأ ما يسميه التاريخ ما بعد البشري : كان عليه أن يعلن بشجاعة نهاية هذه الحضارة لا نهاية التاريخ لتبدأ لا أسطورة ما بعد البشري ولكن : حضارة أخرى تجمع بين تجربة التقدم الاقتصادي وتجربة التقدم العلمي وتجربة التقدم الأخلاقي القائم على الدين .

فهل يصلح ما يسميه هاننجتون " صدام الحضارات " إعادة تأهيل أم هو محض غطاء لسقوط الحضارة

-==============

#الحضارة الإسلامية سمات وخصائص

[11/03/2006]

تعريف الحضارة الإسلامية

أجمع العلماء على أنَّ الحضارةَ الإسلاميةَ تحتل مكانةً رفيعةً بين الحضاراتِ الكبرى التي ظهرت في تاريخ البشرية، كما أنها من أطول الحضارات العالمية عمرًا، وأعظمها أثرًا في الحضارة الإنسانية.

والحضارة الإسلامية هي نتاجٌ لتفاعل ثقافات الشعوب التي دخلت في الإسلام، سواء إيمانًا وتصديقًا واعتقادًا، أو انتماءً وولاءً وانتسابًا، وهي خلاصةٌ لتلاقح هذه الثقافات والحضارات التي كانت قائمةً في المناطق التي وصلت إليها الفتوحات الإسلامية، ولانصهارها في بوتقة المبادئ والقيم والمُثُل التي جاء بها الإسلام هدايةً للناس كافة، لقد نجحت الحضارة الإسلامية في اختيار العناصر الصالحةِ منها، ثم مزجت بينها وأكملت نواحي النقص بحيث صار لها في النهايةِ نكهة خالصة، وشخصية مميزة استمرَّت على مدى قرون طويلة، بل ما زالت تعيش بين ظهرانَيْنا حتى الآن.

والحضارة الإسلامية نوعان: النوع الأول حضارة إسلامية أصيلة وتُسمَّى حضارة الخلق والإبداع، وقد كان الإسلام مصدرها الوحيد، وعرفها العالم لأول مرة عن طريق الإسلام، والنوع الثاني حضارة قام بها المسلمون في الأمور التجريبية امتدادًا وتحسينًا، كما عرفها الفكر البشري من قبل، وتُسمَّى حضارة البعث والإحياء، فالحضارة الإسلامية بهذا المفهوم الجامع الشامل العميق هي إرثٌ مشترك بين جميع الشعوب والأمم التي انضوت تحت لوائها، وشاركت في بنائها، وأسهمت في عطائها، وهي الشعوب والأمم التي كوَّنت وشائج الأمة الإسلامية ونسيجَها المُحْكَم.

فليست الحضارة الإسلامية حضارةَ جنسٍ معيَّن فتكون بذلك حضارةً قوميةً تنتمي إلى قوم مخصوصين، ولكنها حضارةٌ جامعةٌ شاملةٌ للأجناس والقوميات جميعًا التي كان لها نصيبُها في قيام هذه الحضارة، ودورها في ازدهارها وتألقها، وفي امتداد تأثيرها ونفوذها إلى العالم الذي كان معروفًا خلال القرون التي سطع فيها نجمُها واتسع إشعاعها وامتدَّ نفوذها.

سمات وخصائص الحضارة الإسلامية

تنفرد الحضارة الإسلامية بخصائصَ وسماتٍ تكسبها الطابعَ المميزَ لها بين الحضارات الإنسانية المتعاقبة في الماضي والحاضر على السواء، ومن هذه الخصائص:

- حضارة إيمانية

إنها حضارة إيمانية انبثقت من العقيدة الإسلامية، فاستوعبت مضامينَها وتشرَّبت مبادئها واصطبغت بصبغتها، فهي حضارةٌ توحيديةٌ انطلقت من الإيمان باللَّه الواحدِ الأحد، البارئِ المصوِّر، مبدعِ السماوات والأرض، الأولِ والآخر، الباطنِ والظاهر، خالقِ الإنسان والمخلوقات جميعًا. هي حضارةٌ من صنع البشر فعلاً، ولكنها ذات منطلقات إيمانية ومرجعية دينية، كان الدين الحنيف من أقوى الدوافع إلى قيامها وإبداعها وازدهارها، ولقد تفرَّدت الحضارة الإسلامية بكونها الحضارةَ العالميةَ التي تبلورت وازدهرت في ظل المرجعية الدينية الإسلامية، بل وكأثر من آثار هذه المرجعية الدينية، فلم يكن نهوضها وازدهارها كغيرها على أنقاض الدين وعمل الثورة على الدين كما حدث في أوروبا إبان عصر النهضة.

- حضارة عالمية

من خصائص الحضارة الإسلامية أنها عالمية الأفق والرسالة؛ فالقرآن الكريم أعلن وحدةَ النوع الإنساني رغم تنوع أعراقه ومنابته ومواطنه، في قوله تعالى ?يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ? (الحجرات:من الآية13).

إن القرآن حين أعلن هذه الوحدةَ الإنسانيةَ العالميةَ على صعيدِ الحق والخير والكرامة جعل حضارته عقدًا تنتظم فيه جميع العبقريات للشعوب والأمم التي خفقت فوقها رايةُ الفتوحات الإسلامية، ولذلك كانت كل حضارة تستطيع أن تفاخر بالعباقرة من أبناء جنس واحد وأمة واحدة إلا الحضارة الإسلامية، فإنها تفاخر بالعباقرةِ الذين أقاموا صرحها من جميعِ الأممِ والشعوبِ.. فأبو حنيفة ومالك والشافعي وأحمد والخليل وسيبويه والكندي والغزالي والفارابي وابن رشد.. وأمثالهم ممن اختلفت أصولُهم وتباينت أوطانُهم، ليسوا إلا عباقرةً قدَّمت فيهم الحضارةُ الإسلامية إلى الإنسانية أروعَ نتاجِ الفكر الإنساني السليم.

فإذا نظرنا للحضارات السابقة على الإسلام فنجدها وقد عرفت كل الحواجز التي أقامتها بين الفئات المختلفة من رعاياها، فالحضارة الرومانية فرَّقت في الحقوقِ بين سكان روما وسكان سائر إيطاليا، ثم بين الرومان وسائر رعايا البلاد المفتوحة، وبين الذين خضعوا للإمبراطوريةِ ومن كانوا خارجها الذين دعتهم (برابرة)، أما حضارة الإسلام فقد أزالت الحواجز النفسية والمكانية بين أبنائها في مختلف أنحاء العالم فكانت بحق إنسانية عالمية.

- متماسكة في مواجهة التحديات

تماسكت الحضارة الإسلامية وثبتت أمام التحديات التي لو واجهتها أية حضارة أخرى لانتهت إلى زوال؛ فقد بنى المسلمون هذه الحضارة الإسلامية وصنعوا التاريخ الإسلامي في ظل أشرس التحديات، فلقد حرَّرت فتوحاتهم الإسلامية الأولى الشرق من القوى الاستعمارية القديمة.. الفرس والروم، ثم قهر المسلمون أطماعَ الحروب الصليبية التي دامت قرنين من الزمن، وعلى أيديهم تمت الهزيمة الأولى للمغول الذين أبادوا الأخضرَ واليابسَ، بل استطاعوا أن يُدخِلوا كثيرًا منهم في الإسلام، وفي العصر الحديث قهروا أطماع أوروبا الاستعمارية، واليوم يصنع المسلمون تاريخًا من الصمود والمقاومة ضد أحلام الإمبريالية الأمريكية في العراق وشريكتها الصهيونية في فلسطين ساعين إلى إلحاقها بمصيرِ الغزاةِ والمستكبرين.

وسر هذا التماسك في القرآن الكريم.. هذا الكتاب الخالد جمع الأمةَ الإسلاميةَ على مرِّ العصور، ومهما ضعفت فإن الله يقيِّض لها على رأس كل قرن من يجدِّد لها دينَها طالما كان بينهم كتاب الله، يقول تعالى ?إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ (92)? (الأنبياء) ففيه القوة الجامعة لشتاتها "تركت فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا بعدي أبدًا: كتاب الله وسنتي".

ومن هنا حرص أعداء الإسلام على أن يطعنوا الأمةَ في موقعِ قوتها، وذلك بعزلها عن كتاب الله، ففي البلاد التي تتكلم بلغته حاولوا عزلها عن التطبيق لمفاهيمه وتحويله إلى شعائرَ تُتْلى في المآتم. أما البلاد التي تتكلم بلغات أخرى وكانت حروفها عربيةً فقد حرصوا على تبديل الحرف العربي الذي يربطها بالقرآن وإدخال حروف أجنبية تمهيدًا لعزلها عن مصدر (الشخصية الجماعية لأمة القرآن).

- حضارة معطاءة

إنها حضارة معطاء؛ أخذت واقتبست من الحضارات والثقافات الإنسانية التي عرفتها شعوب العالم القديم، وأعطت عطاءً زاخرًا بالعلم والمعرفة والفن الإنساني الراقي وبقيم الخير والعدل والمساواة والفضيلة والجمال، وكان عطاؤها لفائدةِ الإنسانية جمعاء، لا فرق بين عربي وعجمي، أو أبيض وأسود، بل لا فرق بين مسلم وغير مسلم، سواء أكان من أتباع الديانات السماوية والوضعية، أم ممَّن لا دين لهم من أقوام شتَّى كانوا يعيشون في ظل الحضارة الإسلامية.

- حضارة باقية

إنها حضارة باقية بقاء الحياة على وجه الأرض، تستمد بقاءَها من الإسلام الذي قامت على أساس مبادئه، وقد تكفل الله تعالى بحفظ الدين الحنيف، وهي بذلك حضارةٌ ذات خصوصيات متفردة، فالحضارة الإسلامية لا تشيخ لتنقرض، لأنها ليست حضارةً قوميةً، ولا هي بعنصرية، ولا هي ضد الفطرة الإنسانية، والإسلام لا يتمثَّل في المسلمين في كل الأحوال، لأن المسلمين قد يضعفون ويقل نفوذُهم ويتراجع تأثيرُهم، ولكن الإسلام لا يضعف ولا يقل نفوذُه ولا يتراجع تأثيرُه، وهي بذلك حضارة دائمة الإشعاع تتعاقب أطوارها وتتجدَّد دوراتها.

- ذات وحدة في الروح والطابع

أول ما يتجلَّى لنا عند النظر إلى حضارة الإسلام بصورة عامة هو وحدتها أي تشابهها في الروح والخصائص المميزة لها أيًّا كان ميدانها، فسواء نظرنا إلى الفقه أو الشريعة أو الفلسفة أو الطب أو الصيدلة أو العمارة فإننا نحس أن بينها وعلى اختلافها في الطبيعة الخاصة بكل منها خيطًا رفيعًا رابطًا يحس به الإنسان لأول وهلة، وهذا الخيط غير المنظور هو الذي يُشعرنا بأنَّ هذه كلها ميادين من حضارةٍ واحدة، ويرجع ذلك في نهاية الأمر وبدايته إلى الإسلام، الذي هو عقيدة وشريعة ونظام إجتماعي وخط سلوكي وحضارة، وهذه هي القوائم التي قامت عليها بناء الحضارة الإسلامية في شتى صورها وأشكالها، وهذه الوحدة في الروح والطابع هي التي أعطت المجتمع الإسلامي هذه الوحدة.

- حضارة متوازنة

وازنت الحضارة الإسلامية بين الجانب الروحي والجانب المادي في اعتدال، فلا تفريط ولا إفراط ولا غلو، هذه بعض سمات حضارتنا الإسلاميةلماذا تقدموا ولماذا تخلفنا / 4 / الحضارة الاسلامية بين الواقع والمأمول

12:55 AM, Tue-19-Jun-2007 .. نشر الساعة مقالات مسلسلة .. 3 التعليقات .. الرابط

مدخل اول :

ما الفرق بين الحضارة والثقافة؟

الفرق دقيق الى حد اننا قد نلتبس فيه. لكنه في الوقت ذاته كبير. فالحضارة انجاز تاريخي لأمة او مجموعة بشرية تساهم فيه في المسيرة الانسانية نحو عالم افضل في المعرفة والتقنية والرفاهية.

الثقافة جزء من كل فهي وجه من الوجوه المتعددة للحضارة. انها منظومة من الافكار والقيم والتقاليد التي تراكمت مع الزمن في البيئة والتراث لتكون الحالة الذهنية والنفسية و العقلية السائدة في مجتمع ما.

والحضارة هي الثابت الذي يسهل رصده في تاريخ الامة ، لان الحضارة في موتها او تواصل عطائها تشكل الصرح المادي والظاهر الذي لا يمكن تجاهله.

اما الثقافة فهي المتحول والمتغير في الحضارة اى عندما تضمحل الثقافة ولا تتفاعل مع الواقع التى تحيا فيه – بما انها المتحول والمتغير فى الحضارة – تؤدى الى موت الحضارة – ويظهرهذا واضحا - لانها تمثل الصرح المادى والملموس

مدخل تانى

: انتهاء الحضارة الاسلامية بسبب الانطفاء التدريجى للعقل العربى

اى عندما نحاول ان نثبت ان الحضارة الاسلامية التى كانت موجودة فى الماضى والتى ابدعت فى شتى المجالات واخرجت الينا علماء مثل ابن الهيثم والفارابى اصبحت الان جثة هامدة , ذلك لان الثقافة المسيطرة على العقول العربية والاسلامية ما هي الا ثقافة الخوف , ثقافة سد الذرائع , ثقافة التكفير

لقد شهدت بدايات الالفية الميلادية الثانية الانطفاء التدريجي الجدلي والثقافي للعقل العربي باعلان المذاهب السنية والشيعية خاتمة الاجتهاد في التفسير الديني. ولعل الدافع الى ذلك هو خوف فقهاء السنة والشيعة، على الاسلام الملتزم بالتفسير الصريح والبسيط للقرآن الكريم والحديث النبوي، من المذاهب والبدع التي ذهبت في الاجتهاد .

غير ان حالة الانطفاء الفكري ما لبثت ان تحولت الى حالة موت للعقل العربي والاسلامي في القرون الوسيطة. وهذه المرحلة الاجتماعية والثقافية الخاملة مهمة للغاية، لانها شبيهة بالموت الحالى للعقل العربي الذى ينتشرهذه الايام المجتمعات العربية والاسلامية.

مدخل ثالث

: صعوبة عودة الحضارة الاسلامية لاستحالة تغيير ثقافتنا

الإسلام دين شامل متفاعل مع واقع زمانه ومع الإنسان، صنع للعرب دولة هي السياسة بعينها، وأقام اقتصادا مركزيا للقبائل المتشرذمة، وأنشأ الفنون والثقافة والعلوم، وتحاور مع الأديان والثقافات الأخرى.

ولكن الأزمة في التمسك بغير الصحيح من الدين وإضفاء القدسية على حلول ومواقف قدمها الإسلام في ظرف وزمان محدد بالواقع المحيط وجعلها حلولا ومواقف صالحة لكل زمان ومكان، برغم أن الزمان والمكان مختلفان تماما

فالتطور الهائل في العالم اليوم بفضل العلم ومكتشفاته قد غادر مكاننا وزماننا إلى مساحات جديدة ،لانه يحتاج عقلا وفهما وقرارات وحلولا غير ما كان يحدث في جزيرة العرب من مواقف أقل تعقيدا من اليوم بما لا يمكن أن يقارن بدنيانا شديدة التعقيد.

فيبدو أن هناك اختلاطا ما في المسألة يؤدي إلى التباسها، هو أن الدين في حد ذاته ليس طرفا في الموضوع، إنما هو خارج اللعبة وبريء من التخلف مثلما هو بريء من التقدم، وأن الإسلام كدين في ذاته لم يكن عنصرا في إنجازات الرازي والفارابي وابن الهيثم، وليس عنصرا في اختفاء العلماء المسلمين.

ومع الإسلام نفسه تقدمت دول أخرى في شرقي آسيا أطلق عليها لقب النمور الآسيوية، وبالإسلام نفسه تعيش بقية دول المسلمين في مؤخرة الأمم.

إن المشكلة ليست في الدين ولا في أي دين، لكنها في كيفية استثمار هذا الدين، فهناك من استثمره في التقدم وهناك من يستثمره في التخلف، وهناك من احترم الدين فصانه بعيدا عن الألاعيب السياسية ودسائس المشايخ والسلاطين، وهناك من يستثمره حفاظا على خط فكري نظري واحد ليظل سيد الموقف في كل شأن وكل أمر.

ففي الوقت الذي يتحدث فيه العالم عن الفصل بين السلطات يتحدث المشايخ عن الدمج الكامل بين السلطات الدينية والدنيوية في دولة إسلامية.

وفي الوقت الذي يتحدث فيه العالم عن الحريات يتحدث قادة الصحوة الإسلامية وعلماؤها ومشايخها عن حد الردة ورضاع الكبار وعدم الاجتهاد مع وجود النص، وهدر دماء الكتاب والمفكرين.

وفي الوقت الذي تتحرك فيه الدنيا في وثبات عملاقة في الاقتصاد والعلم والمعرفة يدعو المشايخ إلى الثبات والعودة إلى خير القرون واحتقار الزمان الحاضر ومنجزاته .

مدخل رابع وأخير

: الحل فى التحول الفكرى والثقافى للعلم والفهم المستنير للدين

ان قال العلم أن الأنسولين هو علاج السكر وليس عسل النحل ، فلا يجوز لأي احد أن يقدم علاجاً للناس خارج علم الطب ، مهما قال انه يستخدم ، سواء كان يستخدم شعر ملك الجن أو بول الابل, هذا كله في علم الطب لا ينفع مريضاً ، بل هو السبيل إلى مزيد من المرض وأذى الناس والتجارة بأمراضهم.

العالم اليوم يتحول إلى قرية كونية تختلف فيها الأعراق والأديان وتتوحد إنسانيا ومصلحيا، ومازلنا نصارع من أجل تأسيس مفهوم الوطن الكلاسيكي مثل الخلافة والجماعة التي تؤخرنا كلما حاولنا النهوض

وهذه العودة إلى الطائفية والقبلية تشكل منظومة التخلف، وتهدد الاستقرار والتنمية ومعاش ، وإذا أدرجت في سياق المقدس والجهاد فإنها تتحول إلى كارثة عظيمة تدمر كل شيء.

وبالتالي فالفهم المستنير للدين هو الذي يشكل بداية الانطلاقة الحضارية، وهو الذي يحرّر الطاقات ، وبدونه لا يمكن للحضارة أن تتشكل ولا للنزعة الإنسانية أن تسود. نقول ذلك وبخاصة إذا ما رافق هذا الفهم التنويري العقلاني تقدم علمي وتكنولوجي، وكذلك نموّ اقتصادي متواصل كما حصل في أوروبا منذ أربعة قرون.

ما زلت على قناعة راسخة بأن النظام العربي حفر لنفسه فخا. فهو يتحمل مسؤولية كبيرة في ترويج اسلام التلقين الذي مهد عبر الشاشة الرسمية المؤهلة لصعود الاسلام المتشدد

وعبرالسماح لمجتمعات ضعيفة الوعي والثقافة، بتداول الكتب الدينيه المستوردة من القرون الوسطى ، دون السماح للاعلام الرسمي وللمثقف العربي، بوضع هذه الكتب على مائدة العرض وتحت مجهر البحث والنقد والبرهان العقلي

=============

#الأسر العلمية ظاهرة فريدة في الحضارة الإسلامية

الخميس6 من جمادى الثانية1428هـ 21-6-2007م الساعة 09:38 ص مكة المكرمة 06:38 ص جرينتش

الصفحة الرئيسة > نافذة ثقافية > كتب

مفكرة الإسلام: صدر حديثا في مصر كتاب بعنوان الأسر العلمية ظاهرة فريدة في الحضارة الإسلامية للدكتور خالد حربي أستاذ الفلسفة بجامعة الإسكندريةيقول د. حربي: لقد شهد المجتمع الإسلامي إبان عصر الترجمة التي ازدهرت في العصر الأموي وبلغت ذروتها في العصر العباسي وجود أسر علمية أسسها الأفراد ولعبت دورا مهما في نقل الكثير من علوم الأمم الأخرى إلى العالم الإسلامي منها: أسرة بنو حنين بن اسحق الذي ألم باللغات اليونانية والسريانية والعربية، وقصد بغداد وعمل مع جبرائيل بن بختيشوع الطبيب الخاص للخليفة العباسي المأمون، فترجم كتب جإلينوس أصناف الحميات والقوى الطبيعية، وقد قلده المأمون رئاسة بيت الحكمة المعهد العظيم الذي يعزى إليه وإلى منشئه الفضل في انطلاقة علمية مذهلة، أثمرت ما أطلق عليه العصر الذهبي للعلوم الإسلامية. كان حنين يمارس العلم من خلال مجالس العلم والمناظرات التي تعقد بحضرة الخلفاء والوزراء في زمن تميز باحتضان سلطة الدولة للعلم والعلماء، الأمر الذي انعكس على تقدم وازدهار المجتمع العلمي، خاصة المجتمع العام بعامة. وقد كانت أغلب المجالس تنتهي بتصنيف كتب تتضمن تفاصيل ما ورد فيها من حوار علمي، وذلك لينتفع بهذه الكتب من لم يحضرها.أما مدرسة بنو قرة، فيشير حربي إلى أن عملها في الترجمة قد انصب على المؤلفات الرياضية الحساب والهندسة، وقد وضع ثابت بن قرة رأس الأسرة أسساً سار عليها هو وأعضاء أسرته، منها ضرورة تحصيل العلم إلى حد درجة الإتقان وإجادة لغات الأمم الأخرى فضلا عن إجادة العربية طبعا. ومن أعضاء هذه الأسرة أبو سعيد سنان بن ثابت بن قرة الذي مهر في الطب وكانت له قوة بالغة في علم الهيئة وله مؤلفات كثيرة وترجمات من اليونانية والسريانية؛ فقد نقل نواميس هرمس والسور وصلوات الصابئين. ومن أفراد هذه الأسرة ثابت بن سنان وهو حفيد ثابت بن قرة، وقد صار طبيبا حاذقا كان يتولى تدبير البيمارستان ببغداد، ويبدو أن تضلع ثابت الحفيد في الصناعة الطبية شغله عن التأليف أو الترجمة.

ومن أهم الأسر التي قدمت إلى بغداد ولعبت دورا مهما في حركة الترجمة، أسرة بني بختيشوع التي تكاد تكون الأسرة الوحيدة التي انفردت بالترجمة الطبية دون غيرها، ساعدها على ذلك أن جميع أفرادها كانوا أطباء مهرة.

ويؤكد حربي ان هذه الأسرة اختصت بالتعليم الطبي، ومن أفرادها جورجيس بن بختيشوع الذي عمل رئيس أطباء جنديسابور، ونقل كتبا كثيرة من اليونانية إلى العربية، وله مؤلفات عدة منها رسالة إلى المأمون في المطعم والمشرب، ومن أفرادها أيضا بختيشوع بن جورجيس وجبرائيل بن بختيشوع.

كما أن هناك العديد من الأسر العلمية التي ظهرت في مجال العلوم البحتة منهم: أسرة بني موسى بن شاكر، التي نبغت في علوم الفلك والهندسة والحيل الميكانيكا والمساحة والفيزياء، وكان قوامها الأبناء الثلاثة محمد وأحمد والحسن. إلا أن الأب لم يعمل مع هذه الأسرة لأنه توفي وهم صغار، وكان في بداية حياته قاطعا للطريق مغيراً على القوافل بالليل في جهات خراسان، لكنه ما لبث أن تاب على يد المأمون، الذي، كما قيل، كان وراء تكوينه العلمي، حيث أتقن علوم الفلك والرياضيات.

كما يوضح حربي انه في القرن الخامس الهجري، ظهرت عائلة بني زُهر في الأندلس وقد استمرت انجازات هذه العائلة على مدى قرنين من الزمان. وقد اطلعت العائلة على تراث أعظم أطباء العصر قاطبة وهم: الرازي، على بن عباس، الزهراوي وابن سينا، مما ساعدهم في انطلاقتهم العلمية في المجال الطبي.

أما الجيل الثاني من العائلة، فقد عاصر الفيلسوف والطبيب العربي ابن رشد. وكان أول جيل العلماء في هذه العائلة أبو مروان بن زهر، وأبو العلاء بن زهر الذي أثرى الحركة الطبية العربية في الأندلس، فقد ترك مؤلفات قيمة منها الخواص والأدوية المفردة. وقد لحق به ابنه أبو مروان في صناعة الطب. وكان قد ارتبط بصلات علمية مع ابن رشد وألف له كتاب التيسير في المداواة والتدبير وقد تميز بابتكار أساليب علاجية غير مألوفة، خاصة مع الأدوية التي لا يستسيغها المرضى. ومن أهم كتبه أيضا كتاب الأغذية الذي كان له أثر قوي في تقدم الفن العلاجي في العصور اللاحقة.

أما الحفيد أبو بكر بن زهر، فهو يمثل الجيل الرابع في العائلة. وقد عرف بحبه لفروع أخرى من العلم، خاصة العلوم الشرعية. ومارس هو أيضاً العمل العلمي الجماعي واستطاع أن يكوّن جماعة علمية، ضمت أخته وبنت أخته اللتين أظهرتا نبوغا في الطب وممارسته،خاصة فيما يتعلق بطب النساء لدرجة أن الخليفة المنصور اختصهما بتطبيب نسائه. ويمثل الجيل الخامس من علماء بني زهر أبو محمد الحفيد أبي بكر بن زهر، الذي اتبع التقاليد العلمية الخاصة بالعائلة، حيث قرأ أمهات كتب الطب النظرية ومارس الجوانب العملية وقد علمه والده علم النبات. وقد صار فيما بعد من أمهر الأطباء وذاعت شهرته العلمية في بلاد الأندلس.

يؤكد حربيأن أهمية الأسر العلمية إنما تقاس أو تحدد بالناتج العلمي لعمل الأسرة ككل، وأثر ذلك على الأجيال العلمية اللاحقة. فأعمال أسر الترجمة قد شكلت النصيب الأكبر من حركة الترجمة ككل، وذلك بفضل العمل الجماعي القائم على روح الفريق. فهذه الأسر تكشف عن مدى التواصل العلمي بين أفرادها وبين الجماعات العلمية المختلفة وهذه حقيقة علمية ينبغي أن تؤخذ في الاعتبار عند الحديث عن النهضة العلمية التي شهدها المجتمع الإسلامي.ويدعو الدكتور حربي الباحثين إلى البحث والتنقيب في مؤلفات تلك الأسر التي لا تزال في صورتها المخطوطة لتحقيقها ونشرها بصورة حديثة تليق بحجم انجازاتها

==============

#حضارة على وشك الانتحار… ألمانيا تسعى لتقنين البغاء بوصفه مهنة لـ 400 ألف امرأة!!!!

الصفحة الرئيسة

تريد ألمانيا أن تحذو حذو هولندا التي اتخذت إجراء الخريف الماضي يقضي بالاعتراف بالبغاء مهنة، ملبية بذلك مطلبا تكرره المومسات الألمانيات منذ أكثر من عشرة أعوام, ويفترض أن يقدم تحالف حكومي بين الاجتماعيين الديموقراطيين وحزب الخضر اقتراح قانون لمجلس النواب يهدف إلى جعل البغاء 'نشاطا يندرج في إطار الخدمات العادية'، يتمتع بفرص كبيرة لتبنيه. ويسمح النص للمومسات بتوقيع عقود عمل وملاحقة زبائنهن أمام القضاء في حال تقصيرهم في الدفع. كما سيتمتعن بحق تعويضات البطالة والمرض والتقاعد. وفي المقابل ينص المشروع على إلغاء عقوبة التشجيع على البغاء المحددة في القانون الجزائي حاليا بالسجن ثلاثة أعوام.

ويعمل في ألمانيا حوالي 400 ألف مومس ينتشرن في بيوت الدعارة و الشوارع.

وتعتبر شتيفاني كلي [39 عاما] التي تعمل مومسا لحسابها الخاص منذ عشرين عامًا، وصديقاتها في لجنة العمل من أجل البغاء، هذا النص انتصارًا، ورأت انه لا يشكل سوى 'خطوة صغيرة في الاتجاه الصحيح لكنه ليس ما وعد به حزب الخضر في السنوات الأخيرة'.

وكانت كلي كسبت في 1995 دعوى رفعتها أمام المحاكم على زبون لم يدفع الأجر الذي يترتب عليه في حكم فريد من نوعه.

وتفيد استطلاعات للرأي أن حوالي 70% من الألمان يجدون البغاء أمرا طبيعيا ويرون أنه يجب الاعتراف به مهنة.

'ميدل إيست أون لاين'

تعليق: ماذا يحدث للإنسان عندما يبتغي حكم نفسه المتغيرة بعقله القاصر وفق علمه الناقص ؟ والجواب ما تراه دون ما تقرؤه, فهذه الحضارة الأوروبية كفرت بمناهج الله كلها حتى المحرف منها, ومضت تشق لنفسها طريقا عله يوصلها إلى ... ؟ .. لا ندري, لسبب بسيط أن الغرب نفسه لا يدري إلى أي وجهة يسير, أو بمعنى آخر لقد شق الغرب لنفسه طريقا للوراء كي يسير عليه للأمام, وبمعنى ثالث المنهج الغربي ليس منهجا للسير في أي اتجاه بقدر ما هو منهج للمراوحة في المكان, فهو منهج ينطلق من نفس الإنسان و ينتهي داخلها, ونتيجة لذلك فالثقافة الغربية الآن ـ بمعناها الواسع ـ يحدوها الرغبة في التحرر التام من القيود بجميع أشكالها, وسوف تتساقط القيود, أو ما بقي منها واحدا في إثر الآخر ـ والله أعلم ـ, حتى يجد الرجل الأوروبي نفسه يوما ما طليقًا بلا قيد, حرًا من غير شرط, عندها فقط ستدرك الحضارة الغربية أنها سكرت حتى الثمالة …

إن أصدق وصف للحضارة الغربية أنها حضارة تبغي الانتحار, حضارة ترتقي إلى الطابق الأخير, كي تلقي بنفسها من عل ...

==============

#العالم الإسلامي في مهب التحولات الحضارية كتاب جديد

الاثنين15 من ربيع الأول1428هـ 2-4-2007م الساعة 08:32 ص مكة المكرمة 05:32 ص جرينتش

الصفحة الرئيسة > نافذة ثقافية > كتب

... مكتبة ...

مكتبة

مفكرة الإسلام :صدر مؤخرا في القاهرة كتاب بعنوان العالم الإسلامي في مهب التحولات الحضارية لمؤلفه الدكتور أحمد دواد أوغلوا المستشار السياسي لرئيس وزراء تركيا رجب طيب أردوغان، وقد قام بترجمته الدكتور إبراهيم البيومي غانم.يتضمن الكتاب ثمانية فصول، أربعة منها تتحدث عن نقد الرؤية الغربية للعالم ومحاولة مصادرة مستقبله باسم أيديولوجيات مصطنعة كأيديولوجية نهاية التاريخ التي ابتدعها فرانسيس فوكوياما وشرح الأزمة الحضارية التي يواجهها الغرب, والفصول الأربعة التالية تتحدث عن الرؤية الإسلامية للعالم كرؤية بديلة، وبحث إمكانيات تحقق هذه الرؤية في الواقع.

ينتقد المؤلف نظرية نهاية التاريخ التي بشرت بانتصار الليبرالية الرأسمالية على الاشتراكية واعتبارها الأيديولوجية التي يتوقف معها جدل الإنسان والتاريخ.ويرى أن هذه النظرية تعيد صياغة نظريات تعود للقرن الـ19 عبر عنها هيغل وماركس وتتحدث عن أن مسار التاريخ هو مسار خطي متصاعد.

وعموما فأطروحات نظرية النهاية هي ظاهرة من ظواهر العالم الغربي تكتسي ثوبا عصريا، كما هو الحال مع نظرية نهاية الأيديولوجيا التي سادت فترة الستينيات، وقصد منها تبرير الوضع الراهن لدمج المفكرين مع أسلوب الحياة الأميركية وثبت أنها غير علمية.كذلك نهاية التاريخ تتحيز لرؤية تاريخ الجنس البشري من المنظور الغربي وتتجاهل المساهمات الحضارية الأخرى، وهي في الواقع وسيلة دفاعية للنسخة الحداثية الخاصة بالحضارة الغربية ضد التحديات التي تواجهها وتشكل تهديدا لسلامة وأمن الجنس البشري.ومن ثم فما يجري في العالم بعد سقوط الاشتراكية هو تعبير عن تحول حضاري أكثر شمولا واتساعا من مجرد قراءته كنصر نهائي للتقاليد الديمقراطية الليبرالية وللاقتصاد الرأسمالي، ونظريات النهاية ذات الطابع الحداثى تحاول نفي الدين وإعلان نهايته بينما الواقع يشير إلى عكس ذلك.

ويذهب المؤلف إلى أن الإسلام هو القادر على أن يطرح بديلا للحداثة الغربية، فصمود الإسلام أمام محاولات القضاء عليه يشير إلى قوة وتماسك الرؤية التي يقدمها للعالم وتمثل بديلا للرؤية الحضارية الغربية.

فالإدراك الذاتي للإسلام من جانب المسلمين هو شرط تحقق إسلامهم، وهو ملازم للإنسان ما بقي حيا، فصمود أهل البوسنة راجع لذلك وحركات الإحياء الإسلامي هي نوع من تجديد الإدراك الذاتي بالإسلام.

وهذا الإدراك هو الذي يحدد حرية الإنسان وأمنه، فالحرية في المنظور الإسلامي هي تعبير عن نضج روحي يمكن الإنسان من أن يتحكم في أنانيته الذاتية، فالحرية ليست موضوعا من موضوعات القوة بقدر ما هي موضوع للوعي بالذات ومعرفة النفس وكذلك الأمن يكمن في شخصية الإنسان ووعيه الذاتي.

ينطلق النظام المعرفي الإسلامي من التوافق والاتساق بين جميع مصادر المعرفة والمبدأ الأسمى وهو التوحيد، ومن هنا لم يعرف الإسلام العلمانية التي هي تعبير عن عجز المؤسسة الدينية للإجابة عن أسئلة الواقع المتجددة، والعقل والاجتهاد يعملان بكل قوة ولكن في سياق الوحي الضابط لاحتمال سوء الاستخدام.

وينطلق النموذج الإسلامي من جعل القيم حاكمة على الواقع ومؤسساته فهي مطلقة ومتجاوزة للزمان والمكان، ولذا فالنظريات الاجتماعية الإسلامية لا يمكنها أن تتجاوز القيم الإسلامية ولا أن تؤسس نماذج اجتماعية وقانونية ضدها، وهكذا تظل القيم الإسلامية هي معيار الشرعية لأي مؤسسات أو نظم أو قواعد.

ويضمن النموذج الإسلامي السلام مع البيئة لأن الكون هبة الله وهو حق مشترك للجنس البشري ولذا لا بد من المحافظة علي البيئة سمة جوهرية لبقاء الكون.

ويعبر النموذج الإسلامي عن الأصالة والتعددية، فتصوره للتاريخ والزمن يؤكد على الطبيعة الدائرية وليست الخطية الأحادية، ومن هنا أهمية التجديد وقدرة الحضارة الإسلامية على استعادة مكانتها، فالسيادة الحقيقية لا تنطلق من التفوق المادي وإنما من التفوق القيمي والروحي.

كما يؤكد المؤلف أن أزمة الأفكار والمؤسسات في العالم الإسلامي لبناء نموذج حضاري جديد ترجع إلى انفصال النخب الفكرية العلمانية عن المرجعية الإسلامية، ومحاولة هذه النخب الحاكمة والمسيطرة فرض ثقافة جديدة مطابقة للمفاهيم الغربية وإنجاز التنمية الاقتصادية وبناء القوة العسكرية لتحقيق موقع أفضل على الساحة الدولية وفي نفس الوقت تسويغ السياسات الاحتكارية لهذه النخب في مختلف المجالات.

ولكن هذه النخبة تواجه مأزقا اليوم وهناك تحول حضاري جديد أهم ما فيه أنه يستلهم المرجعية الإسلامية ويقوده جيل جديد من المسلمين ذوي التعليم العالي فكثير من قيادات الحركة الإسلامية داخل المجتمعات الإسلامية تجدهم إما مهندسين أو علماء اجتماع أو أطباء. وهناك أزمة اقتصادية حالت دون تحقيق وحدة بين دول العالم الإسلامي فحرص كل منها على الاندماج في النظام العالمي أكثر من حرصها على تحقيق الوحدة بينها وهناك أيضا أزمة سياسية متمثلة في الشرعية الشكلية المنفصلة عن منظومة القيم والميراث الاستعماري المتمثل في تكريس ميراث التجزئة المصطنعة. هذه الأزمات تحول دون تحقق الإسلام بديلا حضاريا.

وفي الأخير يشير المؤلف إلى أن خلفية المواجهة بين العالم الإسلامي والعالم الغربي راجعة إلى تطور داخل المركز الحضاري الإسلامي نحو بناء مركز مستقل عن الغرب بظهور حركات الإحياء الإسلامي وتنامي وعي متزايد لدى الجماهير الإسلامية بضرورة العودة إلى الإسلام ويضرب مثالا لذلك بتركيا التي يتنامي العامل الإسلامي بقوة في سياستها الداخلية والخارجية.وهكذا يضعنا المؤلف في سياق إستراتيجي واسع لفهم ما يجري من أحداث على الساحة العالمية، حيث يهدف الغرب إلى منع قيام بديل حضاري إسلامي يمكن أن يمثل بديلا محتملا للمركز الحضاري الغربي الذي يواجه أزمة شاملة لا يمكن حلها من داخله.

===============

#رؤية لآليات الصراع وموقع الأمة منه في فكر تنظيم القاعدة

السبت 21 من صفر1428هـ 10-3-2007م الساعة 09:27 ص مكة المكرمة 06:27 ص جرينتش

الصفحة الرئيسة > مقالات وتحليلات

... القاعدة ...

القاعدة

عصام زيدان

ما زال تنظيم القاعدة الأم بزعامة أسامة بن لادن يشغل حيزًا كبيرًا من الاهتمام العالمي؛ نظرًا للتأثير الذي يتركه التنظيم على مجريات الأحداث بأبعادها العالمية والإقليمية والمحلية, خاصة بعد حادثة ضرب عدة مراكز مؤثرة وحساسة في الولايات المتحدة الأمريكية في سبتمبر عام 2001.

وقد تباينت حيال هذا التنظيم النظريات, وتضاربت زوايا الرؤية, والتبست الأهداف بالتكتيكات والاستراتيجيات, وبات من يحكم على التنظيم يحكم عليه إجمالاً دون تفرقة بين هذه الأبعاد الثلاثة, رغم ما قد يكتنف بعض الأهداف النهائية للتنظيم كالخروج من التبعية للغرب وتحكيم الشرع وتحرير المقدسات من مصداقية يحنو إليها الشارع العربي والإسلامي, وما قد يعتور التكتيكات والاستراتيجيات من تجاوزات شرعية وتجاهلاً لما قد يقتضيه ويفرضه الواقع السياسي بأبعاده وإحداثياته, وقواعد السياسية الشرعية.

وفي مقال لنا سابق عن التنظيم تحت عنوان "الملامح المميزة لخطابات الظواهري وابن لادن" تناولنا نقديًا ما يخص جانب الأهداف والتكتيكات, وفي هذا المقال سنتناول "فكرة الصراع, وموقع الأمة منها" كاستراتيجية في فكر القاعدة ومنهجها, نعتمد في هذا التحليل بالأساس على ما سبق أن نشرته جريدة الشرق الأوسط اللندنية من كتاب الرجل الثاني في التنظيم أيمن الظواهري بعنوان "فرسان تحت راية النبي".

الصراع كاستراتيجية أساسية لتنظيم القاعدة:

في هذا الكتاب أبان الظواهري عن استراتيجية تراكبية لتنظيم القاعدة قائمة في الأسس على فكرة الصراع, وتجييش الأمة في مواجهة الأعداء, تمهيدًا لتكوين نواة تمثل اللبنة الأولى في المشروع وتشكل قاعدة انطلاقية نحو دولة الخلافة العالمية كما يراها التنظيم.

ويمكن تناول مفردات الصراع في فكر تنظيم القاعدة على النحو التالي:

أولاً: عالمية الصراع:

بدأ فكر القاعدة مبنيًا على رؤية قائد التنظيم أسامة بن لادن في استهداف "العدو البعيد" المتمثل في المحور الأمريكي ـ الصهيوني ومن التحق به من قوى الغرب, وكان التنظيم قائمًا بذاته من حيث التخطيط والتنفيذ, غير مكترث بصورة ما بغيره من التنظيمات حتى تلك التي تتبنى أيديولوجية متشابهة, ولكن بعد مؤتمر شرم الشيخ 1996, تبنت القاعدة استراتيجية أكثر مرونة تسمح بإطلاق المبادرات الذاتية إقليميًا ومحليًا, وتم تحويل المشروع من "مشروع تنظيم" إلى "مشروع شراكة متعددة الجنسيات" بتوسيع دائرة المنتمين إلى التنظيم حتى ولو فكريًا فقط طالما أنه سيسعى مستقبلاً لإنفاذ مشروع القاعدة وأهدافها.

فبعد عامين من المؤتمر أي في عام 1998 كانت انطلاقة ما يسمى بـ"الجبهة العالمية لقتال اليهود والأمريكان", ووقع عليه قادة عدة فصائل جهادية كان على رأسهم زعيم القاعدة أسامة بن لادن, ورفاعي طه رئيس الجماعة الإسلامية بمصر, وتعددت بعد ذلك الكيانات والفصائل التي التحقت بالتنظيم وكان آخرها الجماعة السلفية للدعوة والقتال بالجزائر.

واستطاع الرجل الثاني في التنظيم أيمن الظواهري أن يضيف ما وصفه بـ"العدو القريب" الذي يتمثل من وجهة نظرة في الأنظمة العربية والحكام, إلى قائمة المستهدفين, لينقسم العالم وفق رؤية القاعدة إلى حلف المجاهدين تحت لواء القاعدة, وحلف المناوئين تحت اللواء الغربي.

ليس من المصلحة ولا من السياسية في شئ أن نجعل الأنظمة الحاكمة في سلة واحدة مع العدو البعيد, بل إن وضعها في دائرة "العدو" في حقيقة الأمر لا يمكن التسليم به بحال.

فالعدو البعيد لا يستهدف فقط الشعوب وإنما يستهدف الأمة كلها, ومن ثم فان توصيف تلك الأنظمة بالعدو لن يفيد إلا العدو الحقيقي المتمثل في الغرب.

فالأجدى إذن أن نبحث عن قواصم مشتركة, وأرضية ثابتة يمكن أن ينطلق منها مشروع يحفظ الأمة من الصراع الداخلي المرير الذي لن يجني حصاده إلا العدو الغربي المتربص بالأنظمة والشعوب على حد سواء.

فإن كانت ثمة معركة حقيقية مع الأنظمة, فهي معركة فكرية تهدف لتجييشها في معركة الأمة ضد المؤامرات الخارجية ولا تحيدها ولا تجعلها في سلة العدو الغربي الذي يسعى حثيثا ويجعل نصب عينه ألا تجتمع الأنظمة مع الشعوب يوما, ليبقى العداء مستعرا وتحت أقدامه ولهيبه تضيع المصالح العليا للأمة.

وفي كتابه المشار إليه يوصّف الظواهري المعركة, ويصنفها تحت عنوان الصراع العالمي, فيقول: "ولا يمكن أن تخاض (المعركة) إقليمية دون النظر إلى العداء العالمي.. لا يمكن خوض الصراع من أجل إقامة الدولة المسلمة على أنه صراع إقليمي, فقد اتضح أن التحالف الصليبي - اليهودي بزعامة أمريكا لن يسمح لأية قوة مسلمة بالوصول للحكم في أي من بلاد المسلمين، وإنه سيحشد كل طاقاته لضربها وإزالتها من الحكم إن تمكنت من الوصول، وإنه تحقيقًا لذلك سيفتح عليها ميدانًا للمعركة يشمل العالم كله، بل سيفرض على كل من يساعدها العقوبات، هذا إن لم يشن عليهم الحرب، ولذلك فإننا تكيفًا مع هذا الوضع الجديد، يجب أن نعد أنفسنا لمعركة لا تقتصر على إقليم واحد بل تشمل العدو الداخلي المرتد والعدو الخارجي الصليبي - اليهودي".

وفي موضع آخر من كتابه يقول: "أي محايد لابد أن يلمح عدة ظواهر بدأت في التشكل في عالمنا الإسلامي بشكل عام؛ منها عالمية المعركة, فالقوى الغربية المعادية للإسلام حددت عدوها بوضوح, وهو ما تسميه بالأصولية الإسلامية, ودخل معها في هذا الحلف عدوتهم القديمة روسيا, واتخذوا عدة أدوات لمحاربة الإسلام منها الحكام الموالون والحاكمون لشعوب المسلمين...".

ثانيًا: أدوات الصراع:

الصراع سواء مع "العدو القريب" أو "العدو البعيد", لا يمكن النظر إليه في منظور القاعدة, إلا من باب الجهاد المسلح, وفقط, حيث لم يعد هناك من سبيل آخر يمكن من الوصول للأهداف المرجوة في ظل التآمر العالمي على الإسلام والمسلمين.

وجاء في "فرسان تحت راية النبي" للظواهري: "ومع ظهور هذه الطائفة الجديدة من المسلمين الذين طال غيابهم في واقع الأمة, يزداد بين كل أبناء الإسلام الحريصين على نصرته وعي جديد خلاصته: ألا حل إلا بالجهاد".

وعن كيفية الوصول إلى هذه النتيجة استعرض الظواهري بصورة نقدية بعض تجارب العمل السياسي للإسلاميين في الجزائر ومصر.. فقال عن التجربة الجزائرية: "لقد تعامت جبهة الإنقاذ في الجزائر عن أصول العقيدة وحقائق التاريخ وثوابت السياسة وموازين القوة وقوانين السيطرة، واندفعت نحو صناديق الانتخاب لتدلف منها إلى قصور الرئاسة ومقار الوزارة، ولكن على أبوابها كانت الدبابات بانتظارها، وقد وجهت مدافعها المحشوة بالذخيرة الفرنسية إلى صدور الذين نسوا سنن المواجهة بين الحق والباطل، فأعادتهم نيران الضباط المتفرنسين إلى أرض الواقع بعد أن حلّقوا في سماء الأوهام".

كما برّر حصر الوسيلة في الجهاد بشراسة المعركة وطبيعتها بقوله: "ومما ساعد على الوصول إلى نتيجة: "ألا حل إلا بالجهاد"; شراسة وتعسف الحملة الصليبية اليهودية الجديدة التي تعامل أمة الإسلام بغاية الاحتقار...".

ثالثًا: تكتيكات الصراع ومرحليته:

في فكر القاعدة لا يمكن لفئة محددة أو من وصفها الظواهري بالصفوة أن تخوض ذلك الصراع العالمي بمفردها, بل "يجب أن تخوض الحركة الجهادية المعركة وهي وسط الأمة وأمامها, وأن تحذر كل الحذر من أن تنعزل عن أمتها وتخوض ضد الحكومة معركة الصفوة ضد السلطة". كما جاء في كتاب الظواهري.

ومن هنا جاء اهتمام القاعدة بخطاب الأمة ومحاولة تجييشها في الصراع من أجل بناء قاعدة داخلية يمكن الانطلاق منها والاستمرار في المعركة, فآليات الصراع ومرحليته وفق منظور القاعدة ينقسم لشقين:

• الشق الأول: تثوير الأمة وتجييشها:

فقد جعل الظواهري من بين الأهداف الأساسية لكتابه وضع الإطار الفكري والنظري لمحاولة تجييش الأمة لتخوض الصراع العالمي المسلح ضد قوى الداخل والخارج على السواء.

وتستخدم القاعدة الأعمال المسلحة خاصة في البلاد الغربية والتركيز على القضايا المفصلية العامة كقضية فلسطين في الدفع بالأمة إلى أتون هذا الصراع.

يقول الظواهري في كتابه: "إن تصعيد العمل الجهادي للنيل من الأهداف الأمريكية واليهودية يبعث روح المقاومة بين أفراد الشعب الذي يعتبر اليهود والأمريكان رمزًا بشعًا على التكبر والطغيان...".

• الشق الثاني: إنشاء قاعدة للخلافة الإسلامية:

يبرز في هذا الشق الهدف من تجييش الأمة وخوض الصراع بها, وهو إيجاد "قاعدة" في قلب العالم الإسلامي تنطلق منها دولة الخلافة التي تسعى إليها القاعدة.

يقول الظواهري: "كل ما استعرضناه من وسائل وخطط لحشد الأمة وتجييشها سيظل مكسبًا معلقًا في الهواء دون نتيجة ملموسة وعائد مشاهد ما لم يؤدّ إلى إنشاء دولة الخلافة".

وضح إذن من خلال ذلك العرض أن الأمة في فكر التنظيم ومن خلال الزج بها في الصراع يراد منها أن تكون درعًا لحماية التنظيم من المواجهة المستنفدة لطاقاته مع الأنظمة, ومعبرًا لتكوين قاعدة تنطلق منها دولة الخلافة المشكّلة في ذهن التنظيم.

وقفات وتأملات:

حقيقةً, فكرة الصراع هذه التي ينطلق منها تنظيم القاعدة تحتاج إلى وقفات وتأملات نجملها في عدة عناصر كالتالي:

أولاً: إذا ما نظرنا إلى مرحلية الصراع من وجهه نظر التنظيم وخوضه بالأمة, سنجد خللاً واضحًا وبينًا بين مرحلة التأهيل للصراع, ومرحلة خوض الصراع, فالتنظيم بدأ بالفعل في الصراع, فيما الأمة لم تحقق حتى الحد الأدنى من مقومات الدخول في ذلك الصراع الشرس والمهلك.

كما قرر دخول الأمة هذا الصراع, وكأنه متفرد بالقرار, مهدرًا كثيرًا من الطاقات العلمية والشرعية الأخرى التي قد لا تتفق بالضرورة مع توجهاته, ومن ثم فإن اختطاف تنظيم واحد أو محاولته ذلك للأمة نرى به قدرًا كبيرًا من التعسف غير المبرر وتجهيل القسم الأكبر من المرجعيات الرافضة لهذا المنحى القاعدي.

ثانيًا: من زاوية النظر العالمية أيضًا التي انطلق منها التنظيم في التأصيل, نرى أن هناك خللاً في ميزان القوى بكافة جوانبه الاقتصادية والعسكرية... يميل بلا شك لصالح الغرب, فيما الأمة الإسلامية ما زالت حتى الآن لم تستكمل - إن صح التعبير - لم تبدأ في مشروع نهضتها الذي يجعلها في استقلالية حتى الأقل غذائية واقتصادية, فهي حتى الآن تعتمد بصورة أساسية على الغرب الذي نشب أنيابه من قبل في أراضيها وامتص ثرواتها وما زال.

ولا شك, أن خوض صراع عالمي دون عدة وإعداد لا يجد ما يدعمه من أصول الشرع وقواعد التشريع وأبجديات السياسية الشرعية, بل نجد الظواهري قد انتقد جبهة الإنقاذ لعدم إدراكها لموازين القوى وقواعد السياسية, وما نراه قد التزمها.

ثالثًا: من هذا المنظور, العالمي أيضًا, وتأسيسًا على ما سبق نقول: إن شن صراع عالمي واستفزاز الغرب من خلال عمليات متناثرة تقتل بضع مئات تجعل من الأمة رجالها ونسائها في مواجهة غير محسوبة, وغير مستعد لها خلفت وما زالت مآسي عديدة من قبل الغرب الذي يتاح له من خلال هذا الصراع الفرص المواتية لممارسة أفعاله الإجرامية بالمسلمين.

فعند التحقيق, نجد القاعدة فشلت حتى الآن فيما خططت له من نقل المعركة إلى باحة العدو وأرضه, فيما اتسعت الرقعة المحروقة من بلاد العرب والمسلمين, وذاقت الأمة من ألوان الإهانات والإذلال وانتهكت حرمات النساء ما سطرت فيه المؤلفات والكتب, ولم تجيَّش الأمة للصراع, ولم تذهب إلى ساحة غير مؤهلة لها.

رابعًا: الانطلاق من فشل تجربة العمل السياسي, والاستشهاد بها على حصر وسيلة الصراع في الأعمال المسلحة وفقط تحتاج إلى وقفتين:

الأولى: أن تلك التجارب التي استشهد بها الظواهري في ذاتها في حالة إلى مراجعة منهجية, ولا يمكن من خلالها فقط الحكم على العمل السياسي بالفشل, وإلا انطلقنا من ذات الفهم للحكم على العمل المسلح بالفشل كذلك؛ لأنه لم تتمكن جماعة واحدة من جماعات العنف من الوصول لأهدافها بتلك الأعمال, بل تراجعت الجماعة الإسلامية في مصر عن منهجها, وجماعة الجهاد في الطريق إلى ذلك ما لم يقطع الطريق عليها قاطع.

الثانية: هذا الاستقطاب ما بين تجربة سياسية وأخرى مسلحة يغلق الباب أمام اجتهادات أخرى قد تكون أقل استقطابًا وحدية من الوسيلتين السابقتين, تدفع بالنخبة من الأمة لتدشين مشروع نهضة على كافة الأصعدة, لاسيما الإيمانية والأخلاقية, وشحذ قوى الفاعلية وسنن المفاعلة ليخرج الأمة كلها من ربقة العبودية للغرب, إلى فسحة الحضارة والروح الإسلامية المتقدة, ولاشك أن تجارب عدة في مجال التنمية والنهوض جاءت من شرق آسيا تحمل بشائر طيبة, وإن كانت مقوماتها لم تستكمل بعد.

وان كانت كلمة أخيرة بين يدي هذا المقال, فإنا نقول: إن مشاريع عدة قد طرحت وما زالت للخروج من الليل البهيم والنفق المظلم الذي طال الركون فيه, ولن يستطيع إلا من اعتمد سنن التاريخ وقواعد الشرع في مشروعه أن يحقق للأمة ما تصبو إليه, ومن غير هاتين الدعامتين سيسير السائر بالأمة إلى نفق أشد ظلمة, ولن نخرج من التيه المفروض.

===============

#قرطبة.. "مكة أوروبا" بين عبق الماضي واضطهاد الحاضر

الأربعاء 11 من صفر1428هـ 28-2-2007م الساعة 08:19 م مكة المكرمة 05:19 م جرينتش

الصفحة الرئيسة > تقارير > تقارير مترجمة

... مسجد قرطبة ...

مسجد قرطبة

إعداد: ياسر مجدي

مفكرة الإسلام: أعتقد أننا جميعًا نعرف هذا الاسم، ولا يمكن حتى أن ننساه أو نتناساه؛ لأنه في الحقيقة مكتوب بأحرف من نور في تاريخ الحضارة الإسلامية والإنسانية، وما زال يتلألأ هذا النور، وإن خبت جذوتها، غير أن الشهر الماضي شهد حملة مغرضة شنتها صحيفة "أيه.بي.ثي" أحد الصحف المسيحية، التي لا تتورع في أن تصوّب أقلامها المملوءة بالأحبار السامة ضد دول إسلامية وعربية؛ زاعمة أن هناك ما تسميه مخططًا إسلاميًا لبناء مدينة بقرطبة، تطلق عليها "مكة أوروبا"على نفس نمط "مكة المكرمة" بالمملكة العربية السعودية.

وتحت عنوان "مكة أوروبا" نشرت تلك الصحيفة عدة مقالات وتحقيقات، يقول مدير الصحيفة في أحد المقالات: "إن المعلومات التي نشرتها الصحيفة على مدى أسبوعين أو أكثر، تشير إلى أنهم حاولوا ويحاولون وسيحاولون بكل جهدٍ وعزمٍ أن تتحول قرطبة إلى مدينة إسلامية، على غرار ونمط "مكة" العربية، في محاولة منهم لاستعادة مجدهم المفقود، وإعادة التلألأ من جديد إلى تلك المدينة التي كانت يومًا من الأيام مقرًا للخلافة الإسلامية بالأندلس.

وأضاف مدير الصحيفة المسيحية: "إن الرسالة التي وجهتها رئيسة الكيان المسيحي "فيليبا بيوتستا" قد كشفت القناع عن مشروعات واهتمامات؛ لاستعادة قرطبة، تعكس هذه الاهتمامات طموحات أكثر من مليار مسلم، يبحثون عن مجدهم المفقود، مشيرًا إلى أن هذه الرغبة بدأت تنمو وتتجاوز أحلام المسلم البسيط، إلى أن أصبحت فكرة راسخة لدى زعماء العرب، وخاصة من دول الخليج العربي، وما يؤكد ذلك هو قيام أحد مشايخ هذه الدول بتمويل مشروعات لإقامة أربعة مساجد ضخمة في إسبانيا، ما يعكس أن استعادة الأندلس بما فيها "قرطبة" تحوّلت من مجرد فكرة إلى مطمع "إسلامي".

ويبدو أن الحاقدين والكارهين للإسلام من الكتّاب الأسبان المسيحيين وجدوا في هذا الموضوع ضالتهم المنشودة، وبدوا جميعًا يتنافسون ويتبارون في الكتابة، عما وصفته الصحيفة بمشروع "مكة أوروبا"، حيث قام أحد الكتاب - وعلى نفس الصحيفة السابقة - بالخوض في هذا المضمار مستهلاً مقالاته بجملة تكشف عن مدى حقدهم الدفين للإسلام، قائلاً: "إن اهتمامات العالم الإسلامي لاستعادة قرطبة ليست وليدة لحظة، ولكن هذه الاهتمامات ظلت متخفية منذ عدة سنوات، تبحث بشتى السبل عن المفاتيح التي تفتح أمامها الأبواب المغلقة، التي تحول بينها وبين "قرطبة"، وقد تحقق ذلك عن طريق قيام بعض الأسبان الذين دخلوا الإسلام حديثًا، وموّلتهم بعض الدول العربية بالتخطيط لإنشاء مسجد بالقرب من مدينة "الزهراء"، التي أسسها الخليفة الأموي "عبد الرحمن الثالث" في عام 976 ميلاديًا" ليكون أكبر مسجد في أوروبا، وثاني أكبر مسجد في العالم، في خطوة تعتبر الأولى في طريق التخطيط لاستعادة "قرطبة" التي تعتبر بالنسبة للمسلمين ليست مجرد رمز ديني، ولكنها مجد مفقود، زاعمًا أن المسلمين ليسوا في حاجة إلى مسجد قرطبة للصلاة، فهناك أكثر من 800 مسجد منتشرة في جميع المدن الإسبانية - رقم مبالغ فيه، حيث تؤكد الجالية أن المساجد الموجودة في إسبانيا لا تتجاوز 400 مسجد، معظمهم "مصليات صغيرة"، "غير أن هذا الإصرار والإلحاح في الطلب يؤكد الرغبة الإسلامية الدفينة".

وزعم الكاتب أن رئيس الجالية الإسلامية "منصور أسكوديرو" التقى بوفد من المملكة العربية السعودية، وأخر من الإمارات العربية المتحدة، فيما بين عامي 1999 و 2000م؛ للتخطيط لإقامة مدينة "المنصور" على أرض تبلغ مساحتها 112 هيكتار، تحمل طابعًا معماريًا يشبه الأندلس أيام الدولة الإسلامية، غير أن هذا المشروع لم يتم، وإن كان المحامي الإسباني المسئول عن المشروع قد أكد أن الفكرة مازالت قائمة.

المسلمون والصلاة في مسجد قرطبة:

فشلت كل الجهود التي بذلتها الجالية الإسلامية للسماح للمسلمين بالصلاة في مسجد - كاتدرائية قرطبة - رغم تأكيد رئيس الجالية الإسلامية مرارًا وتكرارًا أنهم يردون الصلاة في المسجد فقط، وليس كما يزعم استعادته، ويبدو أن هذا الحلم صعب المنال، بعد أن أعلن "مونسنيور خوان خوسيه" أسقف قرطبة رفضه القاطع للرسالة التي بعث بها "منصور أسكوديرو" رئيس الجالية الإسلامية بإسبانيا، إلى بابا الفاتيكان "بينيديكت السادس عشر"؛ لكي يمسح للمسلمين بالصلاة في مسجد - كاتدرائية قرطبة -، معللاً رفضه بحجج واهية، حيث أشار إلى أن قبول مثل هذا الوضع لن يسهم في وجود تعايش سلمي بين الرموز الدينية، ولن يساعد في وجور حوار بين مختلف الأديان السماوية الموجودة في إسبانيا، مضيفًا أن هذا الطلب ليس وليد الصدفة, بل هو موجود منذ حوالي عدة عقود، بل الأدهى والآمر في ذلك هو تصريحات مجلس الأساقفة الأسبان، التي أشاروا فيها إلى أنه ليس للمسلمين حق في مسجد قرطبة، لذا لا يليق بهم أن يطلبوا من بابا الفاتيكان السماح لهم بالصلاة في مسجد - كاتدرائية قرطبة -، مشيرين إلى أن "الكاتدرائية" لا تنتمي للفاتيكان، وأن المسجد قام أساسًا على أنقاض كنيسة - حسب مزاعمهم الزائفة -، معتبرين طلب كل من الجالية الإسلامية الإسبانية والائتلاف الإسلامي بأحقية المسلمين في الصلاة بمسجد - كاتدرائية قرطبة - ليس له أساس من الصحة، لا من الناحية التاريخية، ولا من الناحية القضائية.

مشروع مدينة "السلام" بقرطبة:

كان هذا المشروع هو نقطة الانطلاق لهذه الحملة المسيحية، وذلك بعد أن كشفت الجمعية الإسلامية - في قرطبة - عن مشروع بناء مدينة "السلام"، بتكلفة مالية تقدر بحوالي 22 مليون دولار، حيث من المفترض أن يتضمن المشروع مسجدًا ومدرسة إسلامية، وفندقًا ومطعمًا ومكتبة وملاعب رياضية بمدينة قرطبة، التي يقولون إنها ستكون "مكة أوروبا".

تزيف التاريخ:

كعادة الغرب، وخاصة الدول التي أشرقت فيها شمس الإسلام كـ"الأندلس" دائمًا ما يلجأون إلى تزيف الحقائق والتاريخ، حيث زعمت الصحيفة أن الأرض المقام عليها مسجد قرطبة كانت في الأساس كنيسة، غير أن الجيش الإسلامي استولى عليها، وقام بتشييد مسجد "قرطبة" الكائن بدلاً منها، وتلك دعوة باطلة، حيث إن الخليفة الأموي "عبد الرحمن بن معاوية" قام بشراء تلك الأرض من الكنيسة آنذاك، وقام ببناء وتشيد مسجد "قرطبة" عليها.

نبذة تاريخية:

يعتبر مسجد "قرطبة" من أعظم مساجد الأندلس وأكثرها أناقة، يعدّ تحفة فريدة من حيث روعة زخارفه، وفنون عمرانه، حيث إنه من الناحية الجغرافية يقع في الجهة الجنوبية الغربية من مدينة قرطبة بالقرب من نهر الوادي الكبير، وتحيط به من جوانبه الأربعة أزقة ضيّقة.

يرجع تأسيس المسجد إلى سنة (92هـ) عندما اتخذ "بنو أمية" قرطبة حاضرة لملكهم، حيث شاطر المسلمون نصارى قرطبة كنيستهم العظمى، فبنوا في شطرهم مسجدًا، وبقي الشطر الآخر للروم، وحينما ازدحمت المدينة بالمسلمين وجيوشهم اشترى "عبد الرحمن بن معاوية" شطر الكنيسة العائد للروم، مقابل أن يُعيد بناء ما تمّ هدمه من كنائسهم وقت الفتح، وأمر "عبد الرحمن الداخل" سنة (170هـ) بإعادة بناء الجامع على أساسٍ وشكلٍ جديدين، بلغت مساحته آنذاك (4875مترًا مربعًا)، وكان المسجد قديمًا يُسمى بـ "جامع الحضرة"، أي جامع الخليفة، أمّا اليوم فيُسمى بـ "مسجد الكاتدرائية"، بعد أن حوله الأسبان إلى "كاتدرائية مسيحية".

=============

#ماذا ينتظرنا من العلمانيين ؟

الأحد 8 من صفر1428هـ 25-2-2007م الساعة 10:23 م مكة المكرمة 07:23 م جرينتش

الصفحة الرئيسة > مقالات وتحليلات

... مسجد ...

مسجد

د ـ محمد مورو

مفكرة الإسلام : منذ أن نشأت العلمانية ـ وهي لقيطة النشأة خبيثة الأثر ـ وهي تحاول أن تضرب بجذورها في التربة العربية والإسلامية مستخدمة في ذلك كل الوسائل غير المشروعة بالطبع من تلفيق وتزوير وَلَيٍّ للحقائق وتعسف في التفسير وغيرها.

وقصة العلمانية في بلادنا هي في الحقيقة قصة الصراع بين بلادنا المسلمة والاستعمار الأوروبي كآخر حلقة من حلقات التحدي الوثني الأوروبي المتسربل بقشرة مسيحية مزورة، ويمكننا أن نطلق على هذا التحدي اختصارًا كلمة الصليبية أي الوثنية ذات القشرة المسيحية، أو نطلق عليها كما فعل العلامة محمود محمد شاكر المسيحية الشمالية وهي مسيحية لا صحيحة ولا محرفة. بل وثنية أوروبية أخذت المسيحية فوثنتها توثينًا أي جعلتها وثنية.

بل إن العلمانية الأوروبية ما هي إلا ثورة وثنية أوروبية على المسيحية المحرفة –مسيحية الباباوات وصكوك الغفران- أي هي محاولة أوروبية للثورة على الكنيسة لحساب القيم الإغريقية واليونانية والرومانية القديمة مع إضافات سكسونية وجرمانية ولاتينية معاصرة، وما عصر النهضة الأوروبية الذي بدأ في القرن الخامس عشر إلا بعثًا للقيم الإغريقية والفلسفة الإغريقية الوثنية، بل وحتى الفنون الإغريقية القديمة مع إضافات لاتينية وجرمانية وسكسونية.

وحتى المسيحية الأوروبية ذاتها – والرومانية أيضًا، لم تكن مسيحية حقيقة ولا محرفة أيضًا، بل هي إدخال للمسيحية في الوثنية الإغريقية عن طريق الدولة الرومانية القديمة التي فرضت رؤيتها الإغريقية للمسيحية على جميع المسيحيين بما فيهم مسيحيو الشرق واضطهدت منهم من رفض هذه الرؤية اضطهادًا بشعًا تمتلئ به كتب التاريخ الكنسي وغير الكنسي.

المسيحية الأوروبية الرومانية إذا أخذت القيم الثابتة للحضارة الإغريقية، وهي القهر والعنف والاضطهاد الديني ومارستها في كل مراحلها، وعلى نفس المنهج سارت المسيحية الكاثوليكية، فاضطهدت العلماء، واضطهدت المسلمين واليهود وأنشأت محاكم التفتيش التي نقبت وبحثت في الضمائر، وأحرقت المخالفين في العقيدة أو حتى في الاجتهاد داخل المسيحية نفسها، بل وحتى العلماء والفلاسفة.

وعندما ظهرت البروتستانتية تعرضت بدورها للاضطهاد الكاثوليكي، ثم عندما تمكنت هذه البروتستانتية في بعض البلدان الأوروبية قامت بدورها باضطهاد الكاثوليك وغيرهم، أي إنها حملت نفس الاضطهاد الأوروبي والقهر والعنف وما كان لها إلا أن تحملها.

ومع عصر النهضة الأوروبية –ومع الثورات الأوروبية ضد الإقطاع المتحالف مع الكنيسة- وهو ما أفرز العلمانية، نستطيع أن نلمح ثورة أوروبية على المسيحية ذاتها وإسقاطها من الحساب لدرجة ما، أي العودة الكاملة للوثنية الكاملة الإغريقية، ووجدنا بعثًا للفنون الإغريقية والشعر الإغريقي والمسرح الإغريقي والفلسفات الإغريقية، ولم تكن العلمانية الأوروبية إلا لتحمل بدورها نفس البذور ونفس القيم الأوروبية الثابتة من القهر والعنف والمنفعة اللاأخلاقية والاضطهاد الديني، وعلينا أن ننظر إلى كل الإفرازات الأيديولوجية والسياسية والاجتماعية الأوروبية من فاشية ونازية واشتراكية ورأسمالية وشيوعية وغيرها، من خلال أنها إفراز طبيعي لنفس الأرضية الحضارية الأوروبية، وإذا فسدت الأرضية فسدت الإفرازات فلا فرق حقيقيًا بين هذه ، والصراع بين هذه الأيديولوجيات الفاسدة هو صراع على نفس الأرضية وتحمل نفس السمات العامة وأهمها التعصب ضد كل ما هو إسلامي ومحاولة تحطيم الإسلام والحضارة الإسلامية، وهكذا لم نجد فرقًا كبيرًا في السلوك بين الممارسات الإجرامية للفرنسيين في الجزائر سواء كانوا من اليمين أو اليسار، ملكيين أو جمهوريين، ديجوليين أو اشتراكيين، تحالفًا من الرأسماليين والديمقراطيين أو تحالفًا من الاشتراكيين والشيوعيين بل نجد معدل الجرائم يرتفع في الجزائر عندما تكون الحكومة الفرنسية حكومة من الاشتراكيين والشيوعيين فالحكومة الاشتراكية الشيوعية في فرنسا في عام 1945 هي التي ارتكبت المذبحة التي قام بها الطيران الفرنسي فأباد وأحرق 45 قرية جزائرية كاملة، بل كان وزير الطيران الفرنسي شيوعيًا.

وفي إطار الصراع بين أجنحة الحضارة الأوروبية، نجد أن كل مدرسة وكل دولة أوروبية تعمل على تجنيد طابور خامس وطني للتبشير بقيم الحضارة الأوروبية عمومًا، وهذه الدولة أو المدرسة وتلك خصوصًا، وهكذا يمكن أن نفهم الصراع بين الإنجليز والفرنسيين أو بين الكنيسة البروتستانتية والكاثوليكية أو المبشرين الألمان والإيطاليين أو المستشرقين من هؤلاء وأولئك على تجنيد أكبر قدر من العملاء المحليين، ولكن هذا كله في إطار تناقض جوهري يضم كل هؤلاء ضد كل ما هو إسلامي.

* * *

العلمانية في بلادنا ما هي إلا مفرزة استخباراتية متقدمة تتغير وتتبدل حسب أحوال الصراع في أوروبا، فدنلوب الإنجليزي يصفي النفوذ الثقافي الفرنسي في مصر لحساب النفوذ الثقافي الإنجليزي، وهكذا.

وقصة العلمانية هي قصة الصراع بين الحضارة الوثنية الأوروبية أو آخر فصول هذا الصراع مع الحضارة الإسلامية. وهذا الصراع ممتد في التاريخ والجغرافيا وشهد العديد من المراحل وأخذ الكثير من الملامح حسب الزمان والمكان.

وهذا الصراع بدأ مبكرًا جدًا في حياة الرسول r، والذي أدرك بفراسته ونبوته أن هذا الصراع سيشكل المساحة الأكبر في تاريخ الإسلام، ووضع له الأسس الصحيحة، وهي أن الهجوم خير وسائل الدفاع، وهكذا خاض المسلمون في حياة الرسول r العديد من المعارك ضد الدولة البيزنطية وحلفائها، على اعتبار أن هذه الدولة البيزنطية تمثل في ذلك الوقت المواقع المتقدمة للحضارة الأوروبية الإغريقية والرومانية، خاض المسلمون في حياة الرسول r العديد من المعارك ضد الدولة الرومانية وحلفائها في مؤتة وتبوك ودومة الجندل، وجهز الرسول r جيش أسامة بن زيد لغزو الشام، إلا أنه r مرض فأوصى بإنفاذ هذا الجيش، ووفى الخليفة الصديق t عنه بهذه الوصية بعد وفاة الرسول r.

واستمر الصراع بعد وفاة الرسول r، ونجح المسلمون في تحرير الشام وشمال أفريقيا من الدولة الرومانية، بل ووصل المسلمون إلى الأندلس، وأقاموا فيها حضارة إسلامية زاهرة لمدة ثمانية قرون، وهددوا الدولة البيزنطية نفسها في شرق أوروبا، وحاصروا روما أيضًا أكثر من مرة ووصلوا بنفوذهم ووجودهم إلى مختلف جزر البحر المتوسط قبرص، وصقلية، وإقريطش (كريت) وغيرها.

وعندما أصبح وجود الدولة الرومانية البيزنطية نفسه مهددًا بعد موقعة (ملازجرد) التي انتصر فيها السلاجقة على الدولة البيزنطية سنة 1071 م؛ قامت الدولة البيزنطية بالاستنجاد ببابا روما، وهكذا نشأت الحروب الصليبية في الشرق العربي 1095 – 1291 م، ومع فشل هذه الحروب الصليبية واندحارها ثم استمرار عملية الصراع في الأندلس وشمال أفريقيا قبل هذه الحروب الصليبية وبعدها وأثناءها، ومع ظهور الخلافة العثمانية التي أوصلت الإسلام إلى قلب أوروبا وأسقطت الدولة البيزنطية نهائيًا وفتحت القسطنطينية سنة 1453 م على يد محمد الفاتح، ووصلت الجيوش العثمانية الإسلامية إلى أسوار فيينا وجنوب روما ودخل الإسلام إلى ألبانيا والمجر والبوسنة والهرسك وكوسوفو، وخضع الصرب والكروات والمجريون والرومانيون وغيرهم للحكم الإسلامي العثماني، أحست أوروبا بالخطر الشديد، وقررت تغيير التكتيك من الصدام العسكري إلى الاختراق الثقافي والعسكري والسياسي.

ومن خلال هذا الاحتكاك المباشر وغير المباشر والذي وصل إلى قلب أوروبا عن طريق الأندلس إلى جنوب فرنسا وسويسرا وعن طريق العثمانيين إلى كل أوروبا الشرقية، ومن خلال جزر البحر المتوسط، كان من الممكن أن يعرف الأوروبيون حقيقة الإسلام فيدخلوا فيه وقد حدث هذا بالفعل في أكثر من مكان أوروبي مثل ألبانيا والبوسنة والهرسك وكوسوفو وغيرها، وكان لا بد لأوروبا من جهاز للدعاية لحماية رعاياهم من الأثر الإسلامي ونشأ من هنا الاستشراق الذي كان في البدء محاولة لمعرفة الإسلام بهدف تشويه صوته في عيون الأوروبيين، ومع حالة النوم والاسترخاء التي عاشها العالم الإسلامي، طمعت أوروبا في ذلك الوقت فيما هو أكثر، خاصة بعد أخذها بأسباب العلم والقوة، فتحول جانب من الاستشراق إلى تجسس أوروبي مباشر وغير مباشر على الدول الإسلامية؛ لمعرفة نقاط الضعف والتجهيز لحملة صليبية جديدة تحت اسم الاستعمار، وكذلك نشأ التبشير، ومن الاستعمار والتبشير والاستشراق بدأت الحملة الصليبية الجديدة التي انتهت بسقوط الخلافة العثمانية ووقوع معظم بلاد العالم الإسلامي في قبضة الاحتلال الأوروبي، وحدث تطور جديد في الاستشراق، فكان لا بد أن يمنع أي محاولة للنهضة في العالم الإسلامي وأي محاولة للمقاومة، وذلك بطمس معالم القوة في الثقافة الإسلامية وإحداث ما سمي بالتفريغ الثقافي على حد تعبير العلامة محمود محمد شاكر، وهذا التفريغ الثقافي يقوم على تشكيل مدرسة ثقافية محلية تتلمذ على يد المستشرقين وتردد نفس رؤيتهم للإسلام واللغة العربية والآداب الإسلامية وغيرها أو يتم تشكيل الوجدان والعقل لهؤلاء المدجنين من خلال المعارف الأوروبية وحدها.

وهكذا وجدنا أنفسنا أمام تيارين أسوأ من بعضهما البعض الأول هو هؤلاء الذين ينظرون إلى الثقافة والآداب واللغة بل والدين بمنظور المستشرقين، وفضلاً عما في هذا الأمر من تآمر واضح فإنه أيضًا أمر غريب وعجيب، لأنه من البدهي أنه مهما كان المستشرق قد تعلم في اللغة العربية أو الآداب فإنه سيظل مجرد تلميذ في هذا الإطار، ولا يمكن أن يتحول إلى أستاذ أو دارس أو باحث أو صاحب مدرسة؛ لأنه قد نشأ وتعلم واكتسب ثقافته في أرضية ثقافية أخرى وبدهي أن أحدًا لن يفهم لغة أو ثقافة ما إلا إذا كان ابنًا لهذه اللغة وهذه الثقافة، وفي هذا الإطار يقول العلامة محمود محمد شاكر في كتابه المهم (رسالة في الطريق إلى ثقافتنا): "غاية ما يمكن أن يحوزه مستشرق أن يكون عارفًا معرفة ما بهذه اللغة أو الآداب، وأحسن أحواله أن يكون في منزلة طالب عربي في الرابعة عشرة من عمره، بل هو أقل منه على الأرجح، أي هو في طبقة العوام الذين لا يعتد بأقوالهم أحد، ولا يمكن لمستشرق أن يكون محيطًا بالثقافة التي هي لازمة لتعلم اللغة والآداب، وهذه الثقافة سر من الأسرار الملثمة في كل أم من الأمم وفي كل جيل من البشر، وشرط الثقافة هذا ممتنع على المستشرق كل الامتناع، بل هو أدخل في باب الاستحالة من اجتماع الماء والنار في إناء واحد".

ويضيف العلامة محمود محمد شاكر: "فأعجب العجب إذن أن يعد أحد شيئًا مما كتبه المستشرقون في لغتنا وثقافتنا وديننا متضمنًا لرأي حقيقًا بالاحترام والتقدير، فضلاً عن أن يكون عملاً علميًا أو بحثا منهجيًا نسترشد به في شئون لغتنا وثقافتنا وتاريخنا وديننا، كما هو السائد اليوم في حياتنا الأدبية الفاسدة".

* * *

أما التيار الثاني، وهو الذي التقطته أوروبا، وعلمته ودجنته بحيث أصبح غربي التفكير والسلوك وحصل على العلوم وخاصة الاجتماعية منها من منظور أوروبي، فهذا سيأتي إلينا للتبشير بالقيم الأوروبية مباشرة.

أي إننا أمام تيار كامل تقريبًا أو تيار يفهم اللغة والآداب بل والدين من منظور المستشرقين وهو منظور سطحي في أحسن الفروض أو مشبوه ومتآمر في أسوئها.

من هؤلاء وأولئك نشأت العلمانية – وهي محاولة للتفريغ الثقافي أو تفسير الدين واللغة تفسيرًا سطحيًا أو تآمريًا يخدم مخططات الغرب، أو محاولة لزرع القيم والثقافة الأوروبية فينا، وكل هذا جزء من مخطط استعماري واضح المعالم معروف الأهداف، وهكذا لم يكن عجيبًا ولا غريبًا أن ترتبط العلمانية في بلادنا بكل مدارسها ورموزها بالاستعمار بطريقة مباشرة ومفتوحة، وقد فضح نابليون نفسه هذا الأمر في رسالته إلى كليبر التي يقول فيها "اجتهد في جمع 500 أو 600 شخص من المماليك أو من العرب ومشايخ البلدان لنأخذهم إلى فرنسا فنحتجزهم فيها مدة سنة أو سنتين يشاهدون فيها عظمة الأمة الفرنسية ويعتادون على تقاليدنا ولغتنا. وعندما يعودون إلى مصر يكون لنا منهم حزب ينضم إليه غيرهم، ويضيف بونابرت: "كنت قد طلبت مرارًا جوقة تمثيلية وسأهتم اهتمامًا خاصًا بإرسالها إليك؛ لأنها ضرورية للجيش وللبدء في تغيير تقاليد البلاد".

وقد قام مفكرون إسلاميون مشكورون بفضح ورصد العلاقة بين الاستعمار وهؤلاء العلمانيين، فالعلامة محمود شاكر فضح لويس عوض وأثبت ارتباطه بدوائر الاستعمار في كتابه المهم أباطيل وأسمار، وطارق البشري فضح ورصد العلاقة المريبة بين الأحزاب الشيوعية المصرية خصوصًا والعربية عمومًا وبين الصهيونية وإسرائيل في كتابه الحركة السياسية في مصر 1945 – 1952 وقال إن تلك الأحزاب أنشأتها الصهيونية خدمة لمشروعها المرتقب وقتئذٍ في إقامة إسرائيل.

وفي الحقيقة فإنه أينما سرت وفتشت تجد هذه العلاقة بين العلمانية وبين الإنجليز أو الفرنسيين أو الأمريكان أو دوائر التبشير والاستشراق وهكذا، فعلي عبد الرازق مثلاً في دعوته لإلغاء الخلافة الإسلامية والزعم بأنها ليست من أصول الإسلام، وإنكاره أن الإسلام دين ودولة لم يكن إلا ناقلاً لبحث قام به الإنجليز وعملاؤهم في الهند إبان الحرب العالمية الأولى، وذلك خوفًا من إعلان الخلافة العثمانية لفكرة الجهاد لتعبئة المسلمين ضد الحلفاء في تلك الحرب، فأرادوا التشويش على فكرة الخلافة ذاتها، ثم قبع البحث في أدراج الخارجية الإنجليزية إلى أن تم نشره عن طريق علي عبد الرازق، وكذا قاسم أمين فما هو إلا ناقل لشبهات المستشرقين، وجدير بالذكر هنا أن كلاً من علي عبد الرازق وقاسم أمين كانا ينتميان إلى حزب مصري من صنائع الإنجليز، وهو حزب الأمة الذي لم يكن يخفي دعوته لاستمرار الاحتلال الإنجليزي لمصر، ونجد أن الذي هاجم قاسم أمين وكتابه هو حزب الاستقلال ورفض الإنجليز والكفاح ضدهم وهو الحزب الوطني، مصطفى كامل - محمد فريد.

نفس الارتباطات المشبوهة نجدها عند أحمد لطفي السيد رئيس تحرير جريدة حزب الإنجليز "حزب الأمة"، ونجدها في سلامة موسى ولويس عوض وغالي شكري، وشبلي شميل الذي يعترف رفعت السعيد أنه كان يدافع عن الإنجليز ويلتمس له العذر لذلك؛ لأنه كان هاربًا من النفوذ العثماني في الشام!

وفي الواقع فإن الأستاذ محمد محمد حسين في كتابه الهام اتجاهات وطنية في الأدب المعاصر" قد فضح الدوائر الاستعمارية التي كانت تقف خلف الدعوات الفرعونية أو القومية أو العلمانية عمومًا في مصر في أوائل هذا القرن.

وحتى اليوم نفس الارتباطات المشبوهة مع دوائر التنصير وهو الأمر الذي فضحه الدكتور محمد عمارة وجلال كشك وغيرهما في أكثر من كتاب ومقال، أو مع مؤسسات أمريكية أوروبية مشبوهة مثل مؤسسة فورد كونديشن التي تمول نشاطات ما يسمى بحركة تحرير المرأة وقد افتضح الأمر على يد بعض عضوات هذه الحركة أنفسهن داخل أروقة المؤتمر الذي انعقد سنة 1986 حيث تساءلن عن تمويل المؤتمر فاعترفت نوال السعداوي بأن مؤسسة فورد كونديشن الأمريكية. وكذا هيئة المعونة الأمريكية – بالقاهرة وجمعية نوفيك الهولندية ومكتب أكستوان بالقاهرة هم الذين مولوا هذا المؤتمر!

وآخر المطاف –هناك الذي يدعو الغرب جهارًا نهارًا للتدخل في مصر عسكريًا، ويدعو أيضًا للتحالف مع إسرائيل وضرب السودان، وعلاقته بالسفير الإسرائيلي أكثر من مشهورة.

وهكذا فإن العلمانية بكل مدارسها وتياراتها ورموزها مشبوهة الارتباطات مشبوهة الأهداف، وهي إما اختراق مخابراتي أجنبي مباشر، أو نشأت في أحضان دوائر التبشير كالجامعة الأمريكية، ببيروت مثلاً التي نشأ في أحضانها الكثير من القوميين العرب أو تلاميذ للمستشرقين المتآمرين أو السطحيين، وبدهي أنه ليس في الاستشراق إلا متآمر أو سطحي.

وهكذا وجدنا كل الدعوات العلمانية من دعوة إلى القومية العربية لضرب الوحدة الإسلامية وتقطيع أواصر المسلمين، أو دعوة إلى الفرعونية أو الفينيقية أو غيرها من الدعوات المقيتة التي تستهدف استبعاد الإسلام، أو الحركات الشيوعية المريبة ذات العلاقة بقيام إسرائيل، أو هؤلاء الداعين إلى الكتابة باللغة العامية نكاية في اللغة العربية وعزلاً لها وبالتالي عزل القرآن الكريم عن الواقع، أو الدعوة إلى استبدال الحروف العربية بالحروف اللاتينية حتى يصبح كل تراثنا طلاسم على أبنائنا يحتاج لمن يترجمه لهم، أو هؤلاء الداعين للأخذ بثقافة الغرب بزعم أنها ثقافة العصر أو الحضارة العالمية، أو غيرها من المصطلحات الداعرة.

أو هؤلاء الذين يدسون في الإسلام ما ليس فيه، أو يهيلون التراب على قيمه الثابتة للتشكيك فيها، ما بين مشكك في إعجازه، أو نافيًا للمعلوم من الإسلام بالضرورة محللاً للربا، أو للخمر، أو هذا الذي يلقي بالشبهات على الصحابة, أو الآخر الذي ينفي الشريعة ويريد أن يفصل الدين من الدولة, أو التي ترى تحرر المرأة في خروجها على تعاليم الإسلام وليس محاربة الاستعمار مثلاً، بل الحصول على التمويل منه لحركة تحرير المرأة وهكذا.

* * *

على أن آخر مراحل العلمانية وبعد هذا الكم الهائل من الشبهات حول الإسلام واللغة والتاريخ والشريعة، وجدنا من يريد أن يعلمنا الجانب العقائدي في الإسلام ويخضع الغيب للواقع أي ضرب العقيدة في مقتل مثل محمد أركون ومحمود إسماعيل .

===============

#د. محمد عمارة: الليبراليون العرب أكثر استبداداً من غيرهم

الخميس5 من صفر1428هـ 22-2-2007م الساعة 05:30 م مكة المكرمة 02:30 م جرينتش

الصفحة الرئيسة > حوارات

... المفكر الإسلامي الدكتور محمد عمارة ...

المفكر الإسلامي الدكتور محمد عمارة

- منهج أهل السنة هو التحذير من التكفير.

- أمريكا بدأت بالعراق لإحداث تغيير في المنطقة يحقق مصالحها هي وإسرائيل.

- النموذج الأمريكي مرفوض إسلامياً وهذه هي الأسباب.

- مشكلتنا مع الغرب في مشروعه للاستعمار والهيمنة والاستغلال.

- لا أخاف التطرف الفكري لأن الأمة سترفضه.

- ليس هناك ارتباط بين الديمقراطية العلمانية.

- لن ينجح الحوار مع الغرب مادام الفاتيكان يسعى لتنصير المسلمين.

- الغطرسة الأمريكية جمعت بين القارونية والفرعونية.

حاورته/ د. ليلى بيومي

يعد الدكتور محمد عمارة مفكرأ إسلاميا بارزا , وهو غني عن التعريف , حيث قدم للمكتبة الإسلامية العديد من الكتابات التي أثرت الفكر الإسلامي المعاصر،

كما أنه من أبرز من سبروا أغوار الفكر العلماني، ولذلك فهو فارس مغوار في دمغ حجج العلمانيين والمعادين للفكرة الإسلامية، وفي كتاب أخير صدر له يناقش قضية التكفير انتهز المتربصون به جملة وردت في الكتاب فأقاموا الدنيا على الرجل وطالبوا بمحاكمته.

عن كل هذه القضايا، وعن بعض ما يتصل بهموم الحركة الإسلامية والفكر الإسلامي كان هذا الحوار مع د. محمد عمارة.

* كتابكم "فتنة التكفير" سبب لكم مشكلات كثيرة، طالب الأقباط على أثرها بمحاكمتكم، ما هي قصة هذا الكتاب؟.

** أردت أن أقول في هذا الكتاب، أصدرته وزارة الأوقاف، إن منهج أهل السنة هو التحذير من التكفير ويقول في ذلك أبو حامد الغزالي: "لا يسارع إلي التكفير إلا الجهلاء، وأن الخطأ في ترك ألف كافر أهون من إراقة دم مسلم"، ويقول "نحن لا نكفر أهل السنة"، ومع ذلك وافق الغزالي علي تكفير غير المسلم؟. والمشكلة جاءت من مجرد كلمتين فقط وهما "إباحة الدماء" في مضمون اقتبسته من كتاب لأبي حامد الغزالي اسمه "فيصل التفرقة بين الإسلام والزندقة"، وقد قررت إحقاقا للحق حذفهما، ولا أعرف كيف ضمنهما أبو حامد كتابه، فأنا أقرأ له وأخذ منه في ثقة ولا أفتش وراءه، لكن هذا ليس موقف الإسلام الذي لا يبيح دماء الآخرين.

لقد خلصت في كتابي إلي تحديد موقع بؤر وألغام الخلاف الموجود في التراث وهي فكرة التكفير داخل مذاهب المسلمين.

وفي أحد فصول الكتاب جاء عنوان "ما العمل" وذكرت تحت هذا مطلبين، الأول هو إصدار فتوى جماعية بين السنة والشيعة والسلفية بعدم تكفير أي من المذاهب الأخرى لكل من ينطق بالشهادتين، أما المطلب الثاني فهو تهذيب كتب التراث بتطهيرها من أحكام التكفير.

وطالبت بأشياء عدة أهمها، دعوت منظمة المؤتمر الإسلامي بعقد مؤتمر لكل مفتيي العالم الإسلامي بإصدار فتوى "لا للتكفير"، أما المطلب الثاني وهو تهذيب التراث كما يحدث في تهذيب "ألف ليلة وليلة" من الفحش والأدب المكشوف وفقاً لحكم قضائي يقضي بحذف ما يتعارض مع الآداب كي نتمكن من تدريسها بالمدارس.

* كيف تنظرون إلى الاحتلال الأمريكي للعراق؟.

** الحرب التي شنتها أمريكا وحلفاؤها على العراق هي حرب مقاصدها معلنه من قبل الأمريكان أنفسهم، فعلى لسان وزير الخارجية الأمريكي السبق قال: إنها حرب تبدأ بالعراق لأحداث تغيير شامل في المنطقة على النحو الذي يحقق مصالح أمريكا وينهى الصراع الفلسطيني الإسرائيلي. ومنذ عقود كتب نيكسون في كتابه "انتهزوا الفرصة" يقول: إن أمريكا ليس لها في الشرق العربي إلا النفط وإسرائيل، وأمريكا بعد سقوط المنظومة الشيوعية أعلنت أن القرن الحالي هو قرن الإمبراطورية الأمريكية التي لا تريد قطباً آخر ولا شريكاً ولا منافساً في الهيمنة الامبريالية على العالم، وحتى تحقق هذا خطط مفكرو اليمين الديني في الحزب الجمهوري منذ سنوات للسيطرة على منابع الطاقة في العالم حتى تستطيع أمريكا التحكم في القوة الصناعية في العالم فتمنع قيام قطب منافس أو شريك في النظام الدولي، ولهذا ذهبت إلى أفغانستان وأقامت أكثر من 10 قواعد عسكرية في جمهوريات آسيا الوسطى للهيمنة على بترول بحر قزوين، وحتى تكون على حدود القوى المرشحة للنمو مثل الصين والهند وروسيا. وهى تلعب نفس الدور في منطقة البحيرات الأفريقية عبر ورقة الأقليات في السودان، من أجل السيطرة على النفط هناك.

* لماذا ترفض النموذج الأمريكي؟.

** النموذج الأمريكي مرفوض رفضًا كاملاً من وجهة النظر الإسلامية لثلاثة أسباب أساسية:

السبب الأول: أن النموذج الأمريكي توءم للنموذج الصهيوني، فالولايات المتحدة تأسست على إبادة شعب وحضارة، وإحلال مستوطنين غرباء محلهما أتوا بهم من أوروبا إلى أمريكا. ففلسفة إقامة وتكوين هذا النموذج هي نفس الفلسفة الصهيونية "أرض بلا شعب لشعب بلا أرض".

والسبب الثاني: أن من سمات هذا النموذج المرفوض هو تمثيله للرأسمالية الليبرالية المتوشحة. والولايات المتحدة ترى أنها يجب أن تسود العالم إما حربًا أو سلمًا، من خلال صراع أو صدام الحضارات. ولقد لفرض هذا النموذج عبر استغلال برامج التنمية في مؤسسات التمويل الدولية، مستغلة حاجة الشعوب الفقيرة للقروض لتمويل عمليات التنمية. وقد فرضت تطبيق هذا النموذج عبر وصفة إجبارية لم تكن مناسبة لكثير من المجتمعات التي فُرِضت عليها، أو كانت قد تم تطبيقها في مجتمعات مشابهة فجرَّت الخراب والدمار.

والسبب الثالث: أن النموذج الأمريكي يمثل في هذا الوضع الراهن جنون القوة في تعامله مع العالم وخاصة العالم الإسلامي. فلقد تطورت علاقة أمريكا بالشعوب الطامحة للاستقلال والحرية من مرحلة سياسة القوة إلى مرحلة غطرسة القوة إلى المرحلة الحالية وهي جنون القوة. وهذا النموذج في وضعه الراهن يجمع ما بين القارونية من ناحية، والفرعونية من ناحية ثانية؛ ولذلك لا يمكن أن يكون مقبولاً من وجهة النظر الإسلامية بل ولا حتى من وجهه النظر الإنسانية المتحرر.

* هل الغرب كله شيء واحد؟.

** إنني أدعو إلي توخي الحذر عند رؤيتنا للغرب، فنحن يجب أن نميز بين الإنسان الغربي، وهذا لا مشكلة لنا معه بل إنه يفتح عقله وقلبه للإسلام ولقضايانا العادلة إذا نحن أحسنّا عرضها عليه وهذا الإنسان الغربي هو في الحقيقة ضحية للإعلام الغربي وللموروث الثقافي الغربي المليء بالمغالطات في ما يتعلق بالإسلام فهو أي الإنسان الغربي ضحية أكثر منه جانياً.

الشريحة الثانية في الغرب هي العلم الغربي وهذا لا مشكلة لنا معه بل إننا مدعون إلى طلبه وتعلمه والتلمذة علي أهله فهو مشترك إنساني عام.

أما المشكلة في ما يتعلق بالغرب فهي المشروع الغربي مشروع الاستعمار والهيمنة والاستغلال وهذا المشروع يمثل بالنسبة لنا مشكلة ليس لأنه غربي فنحن انطلاقا من الإسلام نؤمن بالتعددية الدينية والثقافية والقومية والحضارية ونؤمن أن العالم يجب أن يكون منتدى حضارات تتعايش وتتفاعل وتتمايز في الخصوصيات الثقافية، لكن الذي يجعل المشروع الغربي مشكلة لنا هو أن الحضارة الغربية ذات نزعة مركزية تجعلها تؤمن بأن الحضارة بدأت بالإغريق والرومان وانتهت بالنهضة الأوروبية وأن النموذج الغربي الحضاري هو الحضارة الإنسانية والعالمية الوحيدة وعلي الآخرين تقليدها والتبعية لها والذوبان فيها، أي أن المشروع الغربي هو بحكم نزعته المركزية ينفي المشاريع الحضارية الأخرى وفي مقدمتها المشروع الحضاري الإسلامي.

* الحركة الإسلامية متهمة بممارسة الديكتاتورية عندما تصل إلى الحكم، كما حدث في السودان، وأفغانستان، وحتى قبل الوصول إلى الحكم أو حال الوصول إليه كما حدث في الجزائر عندما هاجم نائب رئيس جبهة الإنقاذ الديمقراطية، وأيضا في مصر انتقد الكثيرون تجربة الإخوان في النقابات المهنية وقالوا إنها كانت غير مشجعة، حيث كانوا يرفضون أن يشاركهم غيرهم إدارة النقابات ... كيف تردون على هذه الاتهامات؟.

أنا أولاً لي ملاحظات على التيارات الفكرية جميعها من حيث الموقف من الشورى والديمقراطية، وأنا أيضا أتساءل: هل الليبراليون عندما حكموا في بلادنا كانوا ديمقراطيين؟! هذا لم يحدث، التطبيقات الديمقراطية عند من يدعون الليبرالية كانت حكماً لفئة من الإقطاعيين أو الرأسماليين، بينما كانت جماهير الشعب محرومة، ولو نظرنا إلى الأحزاب الليبرالية فسوف نجد أن زعامتها وقيادتها كانت احتكاراً لفئة من الناس.

والأحزاب والتيارات القومية هي التي أقامت الديكتاتوريات والنظم الشمولية على مساحة العالم العربي بأكمله، فالمناخ الذي نعيشه يعاني من سلبيات كثيرة فيما يتعلق بالديمقراطية والتوجهات الشورية. نأتي إلى قضية الإسلاميين وأنا لا أبرئ التيارات الإسلامية أن لديها أيضا هذه المفاهيم الخاطئة فيما يتعلق بالديمقراطية والشورى، لكنها قد تكون أفضل من غيرها في هذا المجال، أنا لا أدري ماذا ستفعل إذا وصلت إلى الحكم، لأن هذا في علم الغيب، لكني أتصور أن كثيراً من الحركات والجماعات الإسلامية لها في تنظيماتها مجالس شورى، وتتحدث كثيرا عن موضوع الشورى.

أما فيما يتعلق بالتطبيقات فبخصوص التجربة السودانية فإن لها ظروفا وملابسات تجعلني أتروي في الحكم عليها، لأن الحركة السياسية في السودان كانت حركات صوفية قبلية ذات طابع إقطاعي، وهذا واضح عند الختمية والأنصار، وكانت حركات حديثة أغلبها أحزاب يسارية محدودة التأثير والعدد. أما الحركة الإسلامية في السودان فهي الحركة الحديثة القائمة على تنظيم غير قبلي وغير إقطاعي، فهي تجمع ما بين التوجهات الحديثة وبين المرجعية الإسلامية. ثم إن السودان له خصوصية، فلديه عدد من الثقافات وليس ثقافة واحدة، وليس شعبا واحداً ولا ديانة واحدة، ولا عرقاً واحداً، ولا لغة واحدة، وهذا يجعل للسودان خصوصية تجعلنا نحبذ أن تعطى له فرصة قبل الحكم على هذه التجربة مع التسليم بأنه ليس هناك نظام حكم، سواء كان إسلاميا أم غير إسلامي، يمكن أن يمثل المثال الذي نريده، فدائما هناك فارق بين المثال والواقع، فنحن حينما نتحدث عن الشورى والديمقراطية فإن القضية ليست مثلاً وأحلاماً.

أما بخصوص التصريحات التي صدرت عن بعض الإسلاميين في جبهة الإنقاذ في الجزائر، فجبهة الإنقاذ جبهة وليست تنظيما متحداً، وهي لها من اسمها نصيب فهي تيارات مختلفة ومستنيرة، ومن هنا فطبيعي أن يكون داخلها وجهات نظر مختلفة، وأن نسمع بعض التصريحات السلبية عن الديمقراطية.

وأحيانا فإن الإعلام المعادي يركز على خطبة قالها خطيب مجهول أو تصريح قد يكون لصاحبه تفسيرات معينة، وحتى لو قال "على بلحاج" نائب رئيس الجبهة إن (الديمقراطية كفر) فهو يقصد أنها تعطي الأمة سلطة التشريع حتى أنها تحرم الحلال وتحلل الحرام، وهذا موجود في بعض الدول الأوروبية كأن يكون للشذوذ الجنسي قانون، وللزنا بالتراضي قانون.. الخ، لأن فلسفة الديمقراطية في النظام الغربي هي أن الأمة مصدر السلطات بشكل مطلق وليس هناك سقف على سلطة الأمة، لكن الديمقراطية كمؤسسات وآليات وتجربة إنسانية فيها النظام النيابي، والانتخابات، والرأي العام، وتبادل السلطة. كل هذا لا يختلف مع الإسلام ولا مع الشورى الإسلامية، وهنا يجب ألا يعزل التصريح عن سياقه وملابساته ومقاصده، وألا يعمم.

أما قضية الإخوان فهم لهم أدبيات معينة تلتزم بالديمقراطية، وتبادل السلطة، والتعددية، والشورى، والاقتراع، بل إن لهم تصريحات كثيرة تتحدث حتى عن قبولهم لأحزاب شيوعية، وأن الحكم هو الأمة، وأنا بالنسبة لأي حزب أو جماعة أحاكمها بناء على أدبياتها ولا أتحدث عن النوايا لأن بعض الناس يريد أن يحاكم الناس ولو فعلنا ذلك نستطيع أن نرفض كل الناس، لأنه لا يعلم النوايا إلا الله، ونحن نتعامل مع الناس فيما يتعلق بالحياة الدنيا بالظاهر والمعلن، وأنا أقول إنه ليس هناك تيار سياسي في عالمنا العربي والإسلامي يستطيع أن يكون نموذجا للحكم والمثال الذي نتحدث عنه.

لكن على مستوى الواقع "من كان منكم بلا خطيئة فليرمها بحجر"، فأين هو التيار الديمقراطي الحقيقي الذي من حقه أن يحاكم الآخرين على سلبياتهم الديمقراطية.

* وصل الصدام بين الحركات الإسلامية والحكومات إلى أعنف مدى، حتى وصل إلى الصراع المسلح وأعمال العنف. هل كان هذا الصدام لازما لا فكاك منه؟ وما هي الآليات التي أوصلتنا إلى ما نحن فيه الآن؟.

** لا أنكر أن هناك فصيلاً، وهو بالمناسبة محدود العدد والتأثير في الظاهرة الإسلامية، يؤمن بالعنف، وهذا الفصيل نشأته حديثة.

نحن نميز بين أمرين، الأول: حوادث عنف، وهذه موجودة منذ أن نشأت الدنيا منذ قابيل وهابيل، وموجودة في تيارات فكرية كثيرة، فالعنف قانون في التيار اليساري، لأن الثورات الحمراء واستخدام العنف وتغليب طبقة على طبقة هذا عنف.

والتيارات الانقلابية التي تلجأ إلى الانقلابات العسكرية في العالم العربي هي تيارات عنف، التيار القومي تيار انقلابي وقام بحركات عنف واستولى على السلطة في عدد من البلاد، وهذا عنف، وهناك في الحركة الإسلامية فصائل للعنف.

مثلا "حزب التحرير" يؤمن بالاستيلاء على السلطة بواسطة الجيوش والانقلابات العسكرية. العنف في الحركة الإسلامية أصبح له نظرية منذ المحنة التي تعرض لها الإخوان المسلمون في 1954 ثم في 1965، وأعتقد أن "سيد قطب" – رحمه الله - كان أول مصري ينظر للعنف. فلم يعد العنف مجرد حادثة فردية إنما أصبح هناك نظرية ترفض الواقع، تحكم عليه بالكفر والجاهلية وتستعلي على هذا الواقع وتدعو إلى تغييره بالعنف.

فسيد قطب لم يكن منظراً للعنف الفردي والعشوائي الذي رأيناه في مصر، لأن هذا لون من العبث، لكنه كان منظراً لعنف ثوري، أي أنه يثور المجتمع ويحضر المجتمع الإسلامي والتيار الإسلامي لكي يقوم بعمل عنيف وثورة تغير الواقع الجاهلي الذي يتحدث عنه.

سيد قطب قبل محنة السجن كان مفكراً مستنيراً وعقلانياً وكتاباته من الاجتهادات المبدعة في الفكر الإسلامي، ولكن عندما وضع في المحنة والمحرقة حدثت تغيرات في فكره، ورفض الواقع، وأصبحت القضية بالنسبة له "أبيض وأسود" ، كل ما يقوله الآخر الذي يمتحنه ويقهره ويعذبه ويسجنه فهو رافض له، فبعد أن كان يتحدث عن العدالة في الإسلام أصبحت الاشتراكية بالنسبة له كفراً، وكذلك القومية، فقد غالى إلى الحد الذي تحدث فيه أن الأمة ارتدت وأن معتقدات الناس أصبحت شركاً. فالذي أدى إلى هذا هو المحنة، فالعنف والتنظير له ولد في السجون، ولذلك فالسبيل للخروج من هذا الفكر الجامد والمغلق هو أن تتاح فرص وقنوات للعمل الشرعي والسلمي والقانوني أمام كل تيارات الفكر، وأنا لا أميل إلى تقييد أي لون من ألوان الفكر، حتى الفكر الذي أرفضه ولو كان كفراً، لأن صاحب الاجتهادات التي تؤدي إلى الكفر قمعه يجعله شهيداً ويصبح له أنصار، لكن إذا تركناه يقول ما يقول سيرفضه الناس وسيفلس أمام الجماهير.

ونحن على مدار تاريخنا الإسلامي كانت الأفكار الشاذة موجودة، وعندما كانت تقيد هذه الأفكار كان يصبح لها سلطان.

يجب أن يتاح التعبير للجميع حتى الفكر المتطرف، وأنا لا أخاف التطرف الفكري، لأن الأمة سترفضه لكن أرفض العنف الذي يفرض الأفكار، فلو أن إنساناً لديه فكر متطرف دعه يقوله، فلو سمحت له بجريدة مثلا سوف تجعله يراجع أفكاره قبل أن يكتبها، لكن إذا منعت ذلك عنه فسوف يكتب في الظلام كل الانحرافات التي وقعت في ذهنه، ولذلك فإن إتاحة العمل القانوني والشرعي والسلمي أم تيارات الفكر هي أهم السبل للقضاء على ظاهر العنف.

فالعمل السري والعنيف يعطي صاحبه نوعاً من الكبرياء الكاذب والأهمية الخادعة لأنه يتصور أنه موضوع لأنه مهم فتتضخم الذاتية عنده.

* البعض يتهم الحركات الإسلامية بأنها لم تقطع علاقاتها بالحكومات فقط، بل قطعتها أيضا بالتيارات الأخرى داخل مجتمعاتها، فهل العنف والتدابر صفة ذاتية في هذه الحركات؟ وهل يمكن أن يلتقي الإسلاميون مع بقية التيارات الأخرى؟.

** هذا السؤال قد يكون فيه تعميم، لأني أرى أن الحركة الإسلامية في الأردن مثلا تحالفت مع التيارات السياسية والفكرية الأخرى في كثير من القضايا مثل الموقف مع التسوية السلمية مع إسرائيل، وقضية الحريات والديمقراطية.. الخ. كما أن الحركة الإسلامية في اليمن شاركت في السلطة وتحالفت تحالف مع "حزب المؤتمر الشعبي" وخاضوا معا حربا ضد التيارات الانفصالية، وبالتالي فليسوا غرباء عن العمل المشترك والعمل الجبهوي، حتى في السودان كثير من فصائل التيارات السياسية والحزبية الأخرى تعاونوا مع الجبهة القومية الإسلامية، وفي مصر دخل "الإخوان المسلمون" الانتخابات مع الوفد عام 1984م، ودخلوا في التحالف الإسلامي مع حزبي العمل والأحرار عام 1987م، وأيضا شاركوا في عمل مشترك كثيراً مع الأقباط والوفد والشيوعيين والأحرار في كثير من القضايا، بل إنه كان هناك مشروع للاتفاق على الحد الأدنى للعمل المشترك بين التيارات الفكرية والسياسية بما فيهم الإخوان.

إن إتاحة فرصة العمل السياسي الشرعي والقانوني هي التي تشجع الحركات على العمل المشترك، لكن عندما نمنع الحركات الإسلامية ونحجر عليها فكيف يقومون بعمل مشترك إذا كان عملهم في حد ذاته مجرما وممنوعاً؟.

إنني أدرك أن العمل الجبهوي والتعاون بين تيارات الفكر يحتاج إلى أفق واسع وتجارب وتدريب، وأتصور أن كل تياراتنا الفكرية والحزبية عندها قصور في ذلك، الأحزاب في أحيان كثيرة تتصرف بروح القبيلة، ولذلك هناك نقص في التعاون بين الأحزاب السياسية بشكل عام، لكن بالذات أمام المخاطر الخارجية التي تهدد الأمة ووجودها وهويتها نجد تعاوناً وعملاً مشتركا بين تيارات الفكر والتنظيمات السياسية في بلادنا.

أنا معك نحن في حاجة إلى أن ننمي روح العمل الجماعي والمشترك، وهناك إيجابيات موجودة في أرض الواقع، وفي العقود الأخيرة كانت هناك أمور مشجعة.

* بصفتك مفكراً إسلامياً تهاجم العلمانية ورموزها، كيف ترى مستقبل العلمانية في مصر والعالم العربي؟ وهل أسهم الفكر الإسلامي الحديث في إضعاف العلمانية أم في استفزازها وتنشيطها وإشعالها؟.

** الاستفزاز والإشعال قائم في شريحة الغلو العلماني وليس في العلمانيين كافة، فنحن كما قلنا فهناك غلو ديني يحكم على المجتمعات بالجاهلية والكفر، ويتخذ العنف سببا للتغيير. وفي نفس الوقت هناك غلو علماني يجري في الثوابت والأصول والمعتقدات، أي يضرب في القرآن، والنبوة والرسالة، ويتحدث عن تاريخية النصوص ويرى نسخ الشريعة.

وما نحن بصدده الآن ليس العلمانية بشكلها الجزئي التي تتخوف من التطبيقات الإسلامية والدولة الإسلامية، وإنما نحن بصدد ظاهرة غلو علماني تستفز الحس الإسلامي، وتجرح المعتقدات والثوابت الإسلامية. والمد الإسلامي وانعطاف الأمة وبحثها عن الحلول الإسلامية والبديل الإسلامي في التقدم والنهضة قلص مساحات الفكر العلماني.

ونحن نشهد الآن كثيرا من المثقفين العلمانيين يشكون من الإفلاس، انصرف عنهم الجماهير، فأنت الآن لو عقدت "ندوة إسلامية" تجد جمهوراً لكن لو عقدت "ندوة علمانية" لا تجد جمهوراً رغم أن في يدهم السلطة والإمكانات والتمويل وأجهزة الإعلام، لكن الشارع ليس معهم وهذا من أسباب الاستفزاز عندهم فيشعرون بحالة من الإحباط تجعلهم في حالة من التوتر، وهذا هو الذي يصعد من لهجتهم في مواجهة الإسلام.

وهذا ينعكس حتى في الأحزاب، فالأحزاب العلمانية على حد تعبير أحد العلمانيين يقول: إنها "مصابة بجفاف جماهيري" ونحن نرى أحزابا تعطي مقرات ورخصاً ودعماً وليس داخلها أحد، بينما التيار الإسلامي الذي يصلب ويضرب يقبل عليه الناس. وهذا دليل على أن الظاهرة الإسلامية لها رصيد في عقيدة الأمة وتفكيرها، فالناس بالفطرة مؤمنة، وتطمئن للحل والنموذج الإسلامي، فالناس جربت الحل الإسلامي والنظام الإسلامي لأكثر من ثلاثة عشر قرناً، أما الحديث عن النمط الغربي فجديد على الأمة، وكل تجاربه بألوانه المختلفة لا تؤتي ثمرة طيبة. بينما الناس تدري أن الذي صنع لها الدولة والأمة والعقيدة والشريعة هو الإسلام، فضلا عن أنه هو السبيل إلى الدار الآخرة التي هي خير وأبقى. العلمانية حل غربي لمشكلة غربية، فقد كانت هناك كهانة وكنيسة تحكم بالحق الإلهي، وتجعل الدنيا ديناً خالصاً وتحجر على العلم.

وأمام هذا الغلو الديني جاء غلو علماني لا ديني رفض أن يكون للدين مدخل في عمران الحياة الإنسانية. وإذا كانت العلمانية حل غربي لمشكلة غربية فإن الإسلام لا يعرف هذه المشكلة فهو ليس فيه كهانة، ولا حكم بالحق الإلهي، ولا عصمة لبشر، ولا عصمة لاجتهاد بشري ومن ثم فليس عندنا المشكلة التي تستدعي العلمانية، والعلمانيون عندنا يبذرون بذرة في أرض غير قابلة لنمو هذه البذرة. وحتى عندما تفرد العلمانيون بالعمل في المجتمعات الإسلامية لم تكن لهم جذور في الواقع الإسلامي.

* الحركة الإسلامية متهمة بأنها سطحية وليس لديها عمق ثقافي وأنها تربي أبناءها على الشعارات. ما هو رأيكم في هذه المقولة؟.

** تعبير الحركة الإسلامية تعبير واسع، فإذا أردنا بالسؤال الإشارة إلى الفصائل التي تنحاز إلى العنف والجمود، فأنا معك أن أغلب هذه الحركات بضاعتها شعارات وتخلوا أدبياتها إلى حد كبير من العمق والموضوعية والفقه بالمعنى الإسلامي، أما إذا كان الحديث عن الحركات الوسطية المعتدلة فإن هذه التعميم يصبح ظالما، لأن لدى الكثير من الحركات الإسلامية الوسطية أفكار ورؤى وتصورات وكتابات وأيضا إبداعات فكرية على مستوى طيب، صحيح أنها لا تلبي الطموحات التي نريدها لكن إذا قارنتها بغيرها من الحركات الفكرية في الإطار القومي اليساري لن تجدها فقيرة في الناحية الفكرية.

أما إذا كانت الإشارة إلى تيار المفكرين والمجددين والذين لهم استقلالية عن التنظيمات والحركات الإسلامية لكنهم يبدعون مشروعا حضاريا إسلاميا أو بديلا إسلاميا للنموذج الغربي في التحديث، فأنا أعتقد أن المكتبة الإسلامية في العقود الأخيرة بها العديد من الكتب والدراسات والاجتهادات التي تقدم رؤية الإسلام في كثير من القضايا وملامح وقسمات المشروع الحضاري.

ومن هنا فلا أوافق أن يكون المعني هو تيار التجديد والتفكير والاجتهاد الإسلامي، فهذا التيار منذ جمال الدين الأفغاني إلى محمد عبده إلى الكواكبي إلى المراغي إلى شلتوت إلى رشيد رضا إلى وضعنا الراهن، أقول إن لدينا تيار فكري مجدد ومجتهد ومبدع وله اجتهادات تمثل معالم لمشروع حضاري. وهكذا فإننا إذا نظرنا إلى الظاهرة الإسلامية، وليس الحركة الإسلامية، فلن نستطيع أن نحكم عليها بأنها فقيرة من الناحية الفكرية.

* العلمانية في أوروبا عادة ما ترتبط بالديمقراطية وحرية العبادة والأديان، ولكن عندنا في الدول العربية عادة ما تشتبك مع الدين، كيف نفك هذا التداخل؟.

** أريد أن أفك الارتباط المزعوم بين الديمقراطية وبين العلمانية، لأنه من الممكن أن تكون هناك مجتمعات ديمقراطية وليست علمانية، ويمكن أن تكون هناك مجتمعات علمانية وليست ديمقراطية، فالمجتمع الشيوعي هو مجتمع قمة في العلمانية الثورية الملحدة، ومع ذلك هو مجتمع غير ديمقراطي.

والمجتمعات الفاشية والنازية مجتمعات علمانية وغير ديمقراطية، والذين يربطون في مجتمعاتنا حقوق الأقليات الدينية بالعلمانية مخطئون لأن التعددية الدينية في المجتمعات الإسلامية حقيقة تاريخية، يعني حيث كان الغرب يرفض التعددية الدينية بل ويرفض التعددية المذهبية حتى داخل النصرانية، وقد كان هذا هو حال المجتمع الغربي طوال تاريخه يعني المجتمع البروتستانتي يقتل غير البروتستانتي، والمجتمع الكاثوليكي يقتل غير الكاثوليكي، وهكذا، بينما جعل الإسلام الحفاظ على الآخر الديني جزءً من العقيدة الدينية فلا يكتمل إيمان المسلم إلا إذا آمن بكل الرسل والرسالات السابقة وأيضا إلا إذا أمن غير المسلم على ذاته ونفسه، وأبنائه وأمواله، وكنائسهم وصلبانهم وعقائدهم. أي أن حماية الآخر الديني جزء من العقيدة الإسلامية، ولذلك عاشت الشرائع والملل الأخرى في بلادنا على مر التاريخ الإسلامي، ففي مصر ظهرت أقدم كنائس الدنيا في ظل الإسلام.

بل إنني ألفت النظر إلى حقيقة هامة، فنحن عادة نضرب المثل بمصر في التسامح الديني وفي التعايش والإخاء. وهذا التعايش والتسامح ثمرة إسلامية وليس ثمرة مصرية، فالشخصية المصرية قبل الإسلام لم تكن شخصية متسامحة، تأملي معي مصر الفرعونية عندما جاءت ديانة إخناتون اضطهدت وأبادت معابد آمون واضطهدت كهنته وأبادتهم، وعندما هزمت الأخناتونية اضطهد كهنة آمون الاخناتونيين وأبادوهم، وعندما دخلت النصرانية مصر قبل الإسلام كانت ديانة مضطهدة من الوثنيين، وكلما قويت كانت تبيد الوثنيين فتدمر المعابد، وتحرق المكتبات، وتسحل الفلاسفة الوثنيين. بل إن الدولة الرومانية عندما كانت على وثنيتها كان حكامها في مصر يضطهدون الأقباط المصريين، وأقباط مصر يؤرخون بـ "عصر الشهداء" أي الشهداء في العصر الروماني، حتى بعد أن تدينت الدولة البيزنطية بالنصرانية كان لها المذهب الملكاني وكان غير المذهب المصري، وكان هناك اضطهاد، وظل أقباط مصر مضطهدين حتى في ظل المسيحية الملكانية البيزنطية. فقط عندما جاء الإسلام فإن عمرو بن العاص هو الذي استدعى المضطهدين من المغارات والجبال والصحاري ورد إليهم كنائسهم التي كانت مغتصبة من النصارى الملكانيين البيزنطيين.

ومنذ الفتح العربي الإسلامي لمصر بدأت التعددية في مصر، والذين يأتون بالعلمانية الآن لكي تكون حلاً لمشكلة الأقليات، أقول لهم إن العلمانية حل غربي جاءنا في ركاب الغزوة الاستعمارية الحديثة التي جاءت تقهر القبطي والمسلم معا، فهل تكون حلا للأقليات في مصر؟!

الحل هو المشروع الحضاري الذي يمثل هوية الأمة بأغلبيتها وأقليتها، وأحيانا أتساءل: لو أنني قبطي مصري، أيهما أولى لي: أن أحكم بالفقه الإسلامي الذي هو فقه عربي إسلامي واجتهاد وطني؟ أم بقانون نابليون الذي جاءنا ليحتلنا ويقهرنا مسلمين وأقباطاً؟.

إن كرومر كان يحتقر الأقباط المصريين لأنهم شرقيون ولكنه لا يستطيع أن يميز بينهم وبين المسلمين. لذلك فالوحدة واضحة عندنا في الشعب والأمة والدولة والثقافة والفلسفة والقيم والنظرة للكون.

ولحسن الحظ فإن الشريعة الإسلامية كتدبيرات مدنية لشئون الدنيا ليس هناك بديل نصراني لها، وبالتالي فإن حكم الشريعة الإسلامية ليس بديلاً لشريعة النصرانية وإنما هو بديل لعلمانية غربية.

فإذا كان المسيحي المصري يتقبل القانون الروماني فهل يتقبل قانون الرومان الذين قتلوا أجداده وأصبح يؤرخ بقتلاهم وشهدائهم، ولا يقبل القانون الإسلامي الذي حرره من هذا الاضطهاد؟ بالمنطق الديني والدنيوي، ليس هناك أي مبرر لاستدعاء العلمانية كحل لمشكلة الأقليات. لقد كنت في حوار إسلامي مسيحي في عمان وجاء قسيس إيطالي كاثوليكي يقول: إن الحل هو العلمانية، فقلت له أنت قسيس وتقول هذا؟ هل عندما يكون لك ابن أيهما يطمئن قلبك: أترسله إلى مدرسة متدينة تعلمه أن لهذا العالم خالق؟ أم ترسله إلى مدرسة علمانية تعلمه أن هذا العالم بدون خالق؟ إن آخر شيء يمكن أن يفكر فيه أي مؤمن بأي دين من الأديان هو أن يحتكم إلى العلمانية لأنها عندما بدأت، بدأت عدواناً على النصرانية في الغرب، فكيف يتبناها المسيحي في الشرق وهي في بداياتها عدوان على القيم الإيمانية والحكم النصراني في الغرب. وعلى هذا فالأقليات تلتمس كامل المواطنة في مشروع الأمة الحضاري وليس في المشروع الذي يخترق أمن الأمة.

* نسمع كثيرا عن الحوار بين الأديان والحضارات، على أي أساس يمكن أن يقوم هذا الحوار؟ وما هي الضمانات التي تحول دون تحوله من حوار حقيقي إلى غزو فكري وفرض للآراء؟.

** الحوار ليس فقط فضيلة إسلامية، إنما هو فريضة إسلامية، لأن الإسلام هو الذي يجعل التعددية في الشعوب والقبائل.. في الألوان وفي الألسنة.. في المناهج والشرائع، أي في الملل والحضارات، يجعل هذه التعددية سنة من سنن الله التي لا تبديل لها ولا تحويل.

وإذا كانت صورة التعددية في الرؤية الإسلامية [ ولا يزالون مختلفين] والمفسرون يقولون: للاختلاف خلقهم. وحتى ظهور الإسلام على الدين كله ليس معناه أن الإسلام ينفرد بالبشرية، إنما معناه ظهور الحلول الإسلامية حتى في البلاد التي لا تدين بالإسلام.

فإيطاليا الكاثوليكية حينما تأخذ بالطلاق فهنا يكون ظهور الإسلام على الدين كله، فرغم أنها على كاثوليكيتها لكن لجأت إلى حل الإسلام، ولما تدرس بعض البلاد الغربية الآن النظام الإسلامي اللاربوي لأنها ترى أن في هذا حل لمشكلة التضخم فهذا ظهور على الدين كله. دون أن يكون الإسلام هو الذي سيزيح هذه الأديان، لأن التعددية في الملل سنة من سنن الله التي لا تتخلف [ ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة ].

فالتعددية هي السر الذي يجعل هناك حوافز للتسابق، لكن لا يمكن أن يكون هناك تعدد بلا حوار، ولأن الإسلام يؤمن بالتعددية فهو يؤمن بالحوار، لكن شرط الحوار أن يكون المتحاورون يعترف كل منهم بالآخر، فالذين يتحدثون عن الحوار بين الحضارات أو عن الحوار بين الأديان هؤلاء إما مخدوعون وإما عابثون، نحن نعترف بالنصرانية وباليهودية، لكن هؤلاء لا يعترفون بنا، فكيف نتحاور مع من لا يعترف بنا؟ إن الشرط الأول واللبنة الأولى للحوار أن يكون هناك اعتراف متبادل من الفريقين.

إن صورة عيسى وأمه في الإسلام ليس بعدها قداسة وإجلال، وصورة موسى، وهارون وأنبياء بني إسرائيل في التصور الإسلامي في غاية من القداسة، بينما صورة الإسلام والقرآن ومحمد صلى الله عليه وسلم عند الآخرين في غاية من السوء.

ولذلك فإنني أدعو الآخرين إذا كانوا جادين في الحوار مع الإسلام والمسلمين أن يعترفوا بالإسلام كدين.

نحن نعترف بأن التوراة والإنجيل أصابها بعض التحريف إنما هم رأيهم في القرآن أنه كله هرطقة، وكله تأليف من عند محمد صلى الله عليه وسلم. فمطلوب إذن الاعتراف بالإسلام كدين سماوي، وإذا قال أحد إن هذا صعب بالنسبة لهم لأن فيه تغيير لبعض معتقداتهم فأنا أقول إنهم غيروا في نظرتهم لليهود، وبعد أن كانوا يلعنونهم في الصلوات ويتحدثون عنهم باعتبارهم هم الذين قتلوا وصلبوا المسيح غيروا هذا وصدرت منهم مواثيق جديدة تبرئ اليهود. إذن فالتغيير قائم وممكن، أم هو حلال مع اليهود وحرام مع الإسلام؟!.

أما بالنسبة للحوار بين الحضارات فإن الغرب يعتبر نفسه الحضارة العالمية والإنسانية والوحيدة، ويدعو الآخرين إلى الاقتداء به والتبعية له، فهو لا يعترف بنا كحضارة متميزة. ونحن نقول: الغرب حضارة متميزة، الإسلام حضارة متميزة. هم يريدون العالم تابعاً للمركز الغربي، ونحن نريد العالم منتدى حضارات فيه عضوية لمختلف الحضارات، نتعاون فيما اتفقنا فيه ونتحاور فيما نحن متميزون فيه، نتفق في العلوم الطبيعية التي لا تختلف حقائقها، ونتمايز في الآداب والثقافات والفنون والمعتقدات التي تختلف من بلد إلى بلد، ومن حضارة إلى حضارة.

إذن فلا بد لكي يكون هناك حوار حقيقي بين أطراف متعددة أن يكون هناك اعتراف بالتعددية، واعتراف بنا كدين سماوي، واعتراف بالحضارة الإسلامية كحضارة متميزة، ثم نبحث في نقاط الالتقاء والتمايز.

ولكن كيف يكون بيننا حوار وهناك مؤتمرات تنصير تعلن أن هدفها تنصير العالم الإسلامي بكامله؟ قد يقول قائل إن هذا من سبيل الدعوة إلى الدين والمسلمون يدعون إلى دينهم فمن حق النصارى أن يدعوا إلى دينهم. أقول لو كان هذا في إطار حرية الدعوة إلى الدين لقبلناه، لكن الآخر لو كان داعية للنصرانية لتخلق بالأخلاق الدينية في الدعوة، لكنه يعترف بأنه يصنع الكوارث في العالم الإسلامي ليحدث الاهتزاز والخلل في التوازن كي يحول الناس عن دينهم. يحدث الكوارث في البوسنة والهرسك وفي الصومال وفي أفغانستان كي ينصر الناس في سبيل جرعة دواء أو لقمة عيش. فهل الوصول للدين يكون عبر وسائل وأساليب غير دينية وغير أخلاقية؟. ثم أنا أسأل: أوروبا الآن تنصرف عن النصرانية، فكيف يتركونها بلا تنصير ثم يذهبون لينصروا العالم الإسلامي؟. كان من الأولى أن ينصروا أوروبا أولا. إن الكنائس تغلق في أوروبا وينصرف عنها الناس إلى المادية، واللامبالاة، والشك، والإلحاد.. أي ينصرفون عن النصرانية. إذن القضية ليست مجرد دعوة إلى الدين وإلا لبدءوا بدينهم، ولكن القضية أن التنصير ومنذ تاريخه، والاستشراق، أصبحا جزءً من المد الاستعماري والامبريالي الغربي. وبالتالي فنحن لا نطمئن لدعوات الحوار طالما أن هذه المواقف اللا أخلاقية هي أساس التنصير.

=============

#د.سيد دسوقي: التنمية التي يفرضها الغرب علينا تزيدنا تخلفاً

الخميس21 من محرم1428هـ 8-2-2007م الساعة 12:21 م مكة المكرمة 09:21 ص جرينتش

الصفحة الرئيسة > حوارات

... الاستاذ سيد دسوقي ...

الاستاذ سيد دسوقي

- نحن لا نخطط لمستقبلنا، وإن خططنا له فإننا نضع هياكل ناقصة.

- التنمية من المنظومات الناقصة في بلادنا.

- نحن نطحن الناس في نظم تعليمية لا تعرف هدفا تنمويا واضحا.

- لا ينبغي أن نتبنى خدمات وسلعاً يصنعها لنا غيرنا.

- الأصل في الأشياء هو التدريب، والتعليم يعد الفرد لنوع من التدريب.

- منظومة التعليم غير السليمة تنتج مشكلات معقدة وتصل بنا إلى البطالة.

- لا بد أن تعود الأمة إلى سياسة الوقف لمساندة التنمية الصناعية.

- يجب أن يظهر في بلادنا المال المغامر الذي يتحدى بمشروعاته المجهول.

حاورته/ د. ليلى بيومي

الدكتور سيد دسوقي حسن رئيس قسم هندسة لطيران بكلية الهندسة جامعة القاهرة، ورئيس هيئة تنمية الابتكارات باتحاد المنظمات الإسلامية، تلميذ للمفكر الإسلامي الكبير مالك بن ني، فقد قرأ بشغف، واستوعب كل ما قاله أستاذه ، وبعد ذلك انشغل تماماً بالموضوع الرئيسي الذي تتلمذ على يد أستاذه فيه وهو "الفقه الحضاري"، ولكنه لا يكتب في موضوعه من الناحية النظرية فقط، بل يقدم نماذج تنموية واقعية وخططا تنموية تناسب الواقع العربي والإسلامي.

ونحن في هذا اللقاء نقترب من فكر الرجل ونضعه أمام فقهاء التنمية في بلادنا لعله يفيدهم.

* موضوعكم الأساسي الذي يشغلكم هو "الفقه الحضاري" ماذا تقصدون بهذا المصطلح؟ وكيف يمكن أن يساعد في تنمية الأمة؟.

** الفقه الحضاري هو فقه الانبعاث من الواقع الراهن بظروفه المفروضة علينا، والانعتاق منه إلى واقع آخر مستخدمين في ذلك فكرا معينا وأدوات معينة.

إن المجتمع العربي الإسلامي في انبعاثه الأول لم يكن مجتمعا ذا حضارة، فكيف صنع حضارته؟ أول الانبعاث حدث في العصر العباسي، لذلك فعلينا أن نقارن بين ظروفنا الآن وظروف المجتمع في العصر العباسي. إن المسلمين في العصر العباسي كانوا يترجمون نتاج حضارة توقفت، أما نحن الآن فنترجم نتاج حضارة حية، وإذا قلنا إن مشكلة الأمس هي مشكلة اليوم وهي الترجمة فالطرفان مختلفتان، والحضارتان مختلفتان، ومن ثم يحتاج الأمر إلى شيء من الفقه، أي ماذا نترجم، ولمن نترجم؟.

كذلك فإن المسلم في العصر العباسي كان مشغولا بالنمو الحضاري، بينما نحن الآن قضيتنا هي الانعتاق من التخلف والتبعية في وقت نجد فيه كل الأسلحة في وجوهنا تمنعنا من التقدم خطوة واحدة.

إننا في عالمنا الإسلامي لا نخطط لمستقبلنا، وإن خططنا له فإننا نضع هياكل ناقصة ثم نسأل بعد ذلك أين الدواء؟ والدواء هو في المنظومة المفقودة، أو في المنظومة الناقصة، ولو انتبهنا إلى ذلك لوضعنا أيدينا على كثير من العلل.

* ولكن ما دور الفقه الحضاري في كشف هذه العلل التي نعاني منها؟ وكيف يمكن مثلا أن يوجد خطط التنمية في بلادنا؟

** التنمية ليست بعيدة عن الفقه الحضاري، بل هي صلب اهتماماته، والتنمية من المنظومات الناقصة في بلادنا، فهي منظومة يعهد بتصميمها في بلادنا لرجال الاقتصاد، وهم إن كان لهم دور لا ينكر في مثل هذا التصميم ولكنه جزء من كل، ومن ثم يأتي التصميم دائما ناقصا، ونعاني من تدهورنا الاقتصادي والتنموي معاً بدلاً من أن يحدث الانطلاق والانعتاق .

إن آية واحدة في سورة النحل تعطينا الفلسفة الأساسية للتنمية وهي قوله تعالى: [وأوحى ربك إلى النحل أن اتخذي من الجبال بيوتا ومن الشجر ومما يعرشون، ثم كلي من كل الثمرات فاسلكي سبل ربك ذللا، يخرج من بطونها شراب مختلف ألوانه فيه شفاء للناس، إن في ذلك لآية لقوم يتفكرون].

فالله تبارك وتعالى ألهم النحل أمورا ثلاثة: كيف يسكن، وكيف يأكل، وكيف يكون حراً، وهذه الأمور لو تحققت فسوف تعطي هذه الحشرة الصغيرة للإنسانية عسلا مختلفا ألوانه فيه شفاء للناس. فهل يمكن أن نقول: إن هذا هو المفهوم النحلي للتنمية، وما الذي يمنع الناس أن يكونوا كالنحل؟ وما دور الدولة وأنظمتها في هذا المنع؟ وما دور النظم القانونية والاقتصادية والتعليمية والاجتماعية في منع الناس من أن يكونوا كالنحل؟ ومتى تخلي الدولة بين الناس وترابهم الوطني ليتفاعلوا معه؟. إن الدولة إذا وضعت من القوانين والأنظمة المتعارضة والمتضاربة في مجالات الحياة المختلفة ما يعوق الإنسان عن التفاعل مع ترابه الوطني فلا تسأل بعد ذلك عن تنمية.

ونحن يمكن أن نضع تصورا للتنمية يوضح الهيكل الحضاري لها، وأول شيء في هذا الهيكل هو تصور فلسفة التنمية وتحديد أحد الخيارات الثلاثة: أي هل نحن نريد تنمية بقاء، أو تنمية نماء، أو تنمية سبق، أو اختيار نسبة معينة من كل منهم تناسب حال الأمة أو المرحلة التي تعيشها، ويتلو ذلك التعرف على الإمكانيات المادية والبشرية المتاحة، مع الأخذ في الاعتبار مجموعة من الضوابط الحضارية حتى لا تستنفذ الإمكانيات وتلوث البيئة، وتورث الأجيال التالية ضياعاً.

ثم يأتي في المرحلة الثالثة تخطيط لعالم الأشياء، سواء كان ذلك في الملبس أو المسكن أو المأكل، وما حول ذلك من عالم الأشياء خادم. ويأتي في المرحلة الرابعة تدريب العنصر البشري على صناعة عالم الأشياء الخاص بنا مع التقليل قدر الإمكان من الاعتماد على الخارج، ثم يصاحب التدريب دائما نظام تعليمي يعين الناس على القدرة التدريبية. ونحن هنا نضع التدريب قبل التعليم حتى يتحدد هدف التعليم بوضوح وحتى لا تتكرر المأساة الدائمة في العالم الإسلامي، والتي تطحن الناس في نظم تعليمية لا تعرف هدفا تنمويا واضحا، فإذا مضت المنظومة كما أسلفنا نكون قد استعددنا استعداداً جيدا لتحقيق عالم الأشياء وتصنيعه.

* هل يمكن لنا في ظروف تخلفنا أن نبني خططا تنموية تناسب ظروفا وتضعنا على بداية الطريق، وما دور فلسفة التنمية وخياراتها الثلاثة التي أشرت إليها في هذا الأمر؟.

** أولا يجب أن نقارن بين نموذجين، النموذج الأول عشناه في الماضي حيث كنا نزرع طعامنا، ونغزل صوفنا، وننسج ملابسنا، ونعمل في الزراعة، وفي هذه الحرف، وكنا نعتمد على أنفسنا ولا نمد أيدينا خارج القرية.

والنموذج الثاني هو ما نراه اليوم في القرية التي هجرت العمل واستراحت في انتظار أن يأتيها كل شيء من المدينة، وفي المدينة أيضا نجد الملايين في الصباح على ظهور القطارات والسيارات ذاهبون للعمل ولا يعملون شيئا ومهمتهم هي السفر الدائم، وعلماء المدينة لا يكفون عن العمل ويحملون أوراقهم لينشروها في الصحف، أما تطوير المصانع وإنشاؤها فلا دخل لهم بذلك.

وبالتالي فخطتنا للتنمية يجب أن تركز على ثلاثة أنماط للتنمية:

النمط الأول هو تنمية البقاء: وتتلخص في الاستخدام الأمثل للموارد الطبيعية، وعزائم الرجال من أجل تحقيق اكتفاء كريم من متطلبات الحياة الأساسية مع الاهتمام بنظافة البيئة، وعدم تلويثها. وهذا النمط يصنع كله بأيدي الناس، مقللين ما استطعنا من الميكنة. لكن ما هي طبيعة الأعمال في هذا النمط، وما طبيعة التعليم الذي يصاحبه؟ للإجابة على ذلك نضرب المثال التالي: في منطقة زراعية يتوفر فيها الماء والأرض الصالحة فإننا نرسم خريطة الأعمال المطلوبة لتحقيق تنمية البقاء سواء كانت أعمالا زراعية أو تصنيع منتجات زراعية أو خدمات زراعية أو تربية حيوانية، وحينئذ نصمم مناهج التعليم نعطيها بعدا بيئيا يعين الطالب أن يتفاعل مع بيئته، وما أن يبلغ الطالب السادسة عشرة حتى يكون قد امتهن مهنة هو قادر عليها فإن شاء أن يكمل دراسته في نفس ميدانه وكان قادرا على ذلك ماديا وعلميا نوفر له الفرصة، وبذلك يسهم الطالب في خريطة الأعمال الخاصة بتنمية البقاء.

النمط الثاني هو تنمية النماء: وفيه يبني عالم أشياء من النوع السائد في الحضارة المعاصرة وخاصة الضروري منه مما يتعلق بوسائل الدفاع، واستخراج كنوزنا المدفونة، وتصنيعها، وما يستتبع ذلك من نظام تعليمي وتدريبي وبحثي، ورغم أن هذا النمط من التنمية إذا أحسنا إعداده قادر على استيعاب كل أفراد الأمة في العمل، إلا أننا في عالمنا البائس نتوجه إلى استيراد عالم الأشياء دون أن نصنعه، فتضيع علينا فرصة العمر في عملية التعليم والتدريب. وفي هذا النمط لا ينبغي أن نتبنى خدمات يصنعها غيرنا لنا، فمثلا تستطيع البرامج المتقدمة في تنمية النماء تصنيع طواحين هوائية مناسبة لرفع المياه وتوليد الكهرباء بحيث يمكن تصنيعها في ورش صغيرة، كما يمكن استنباط أنواع جديدة من السلالات يتدرب عليها المزارعون، كما يمكن عمل بحوث لتصنيع الطوب من طفلة متوفرة، وتصميم منزل قروي، مناسب وتطوير الآلات اليدوية أو نصف الميكانيكية في خدمة الزراعة والصناعات الزراعية.

النمط الثالث هو تنمية السبق: فينبغي أن نجد لأنفسنا بعض الميادين التي نستطيع أن ننجز فيها شيئا، ونحن بالتأكيد نستطيع أن نسبق في ميادين ثقافية وسياحية وتكنولوجية، لكن القضية هي أن نحدد ما نستطيع أن ندخل فيه سباقا ثم نعدو فيه تعليما وتدريبا وإنتاجا، واضعين في الاعتبار أن ثمة أسواقا متحيزة لنا هي الأسواق العربية والإسلامية.

* تولون التدريب مكانة كبيرة في منظومتكم الحضارية.. فأين مكانة التعليم على خريطة اهتمامكم؟.

** التعليم هو أداة المجتمع لتحقيق أمرين، الأول: يتعلق ببث الأشواق الحضارية والنماذج الثقافية للمجتمع في أفئدة الناس، والثاني: يتعلق بإعداد الأفراد علميا لتقبل البرامج التدريبية على المهن والحرف والنشاطات المتعلقة بالعمران.

ونحن نفتقد في عمليتنا التعليمية أمرين: الأول الوجهة والقصد الثقافي والتنموي، والثاني المؤسسات التدريبية التي تأخذ بأيدي الناس على تعليم حرف ونشاطات حياتية، بحيث تتدرج هذه المؤسسات صعودا وهبوطا من مهن وحرف لا تحتاج إلى تعليم كثير إلى نشاطات علمية دقيقة.

ففي بلد مثل سويسرا، يدخل الأطفال التعليم في مرحلة أساسية يتلقون فيها الثقافة الأساسية التي ينبغي على كل سويسري أن يشربها، حتى إذا أتموا تسع سنوات في هذا التعليم ذهب أكثر من 90% منهم إلى مدارس التعليم الفني حيث يتدربون ويتقنون مهنا وحرفا مطلوبة في المجتمع، ويواصل 7% التعليم الثانوي، حتى إذا أنهوا هذا التعليم ذهب أقل من نصفهم إلى التعليم الجامعي والنصف الآخر إلى معاهد تدريبية. أي أن أكثر من 95% يذهبون إلى مجالات التدريب على مهن بعينها مطلوبة في المجتمع.

والأصل في الأشياء هو التدريب، ويقوم التعليم بإعداد الفرد لنوع ما من التدريب، والتدريب المتقدم يحتاج إلى تعليم متقدم، والتدريب البسيط يحتاج إلى تعليم بسيط.

* في فقهكم الحضاري تهتمون بالتعليم والتدريب والتنمية.. لكن لدينا الآن مشكلة كبيرة وهي البطالة... فكيف تستطيع هذه المنظومة الحضارية التعامل مع مشكلة البطالة؟.

** المشكلة حينما تتعقد تتحول إلى مشكلات كثيرة في آن واحد، فمشكلة منظومة التعليم غير السليمة تنتج مشكلات كثيرة معقدة وتصل بنا إلى البطالة. إننا قبل خمسين عاما كان نظامنا الحياتي قد استقرت أموره في إطار تنمية البقاء وما تبعها، واستقر معها نظام تعليمي وتدريبي، فمنظومة التعليم والتدريب حينئذ لم تكن منظومة حكومية بأسرها، فآلاف الورش تخرج آلاف العمال الذين يصنعون لنا ما قنعنا به من احتياجات، وآلاف الكتاتيب تدفع بالملايين إلى الحقول ليصنعون طعامنا، وتدفع بعض مئات أو آلاف إلى التعليم الحكومي أو الأزهري حيث تتكون طبقات من الوعاظ والقضاة والإداريين.

والآن أصبحت هذه الملايين كلها في قبضة التعليم العام الذي دفع بها ومازال يدفع بها إلى الشارع حيث لا تستطيع أن تطعم نفسها ولا تصنع ثيابها، ولذلك فإنني أتحدث في هذا الصدد عن "المدرسة الشاملة وتقنية التعليم" ونعني بالمدرسة الشاملة تلك التي نسمح فيها بقدر من الحرية الدراسية فيما يتعلق بالمواد التقنية وكميتها مقارنة بالمواد الإنسانية الأخرى، والإضافات التقنية سوف تتلون بالبيئة المحيطة. ولتحقيق هذه الإضافات لا بد من مشروع لتوصيف الحرف والمهارات توصيفا يتناسب مع قدرات الطلاب وينمو معهم. فمثلا يكون توصيف مهارات السباكة لطالب الابتدائي بحيث تصبح عنده القدرة على إصلاح حنفيات المنزل، ثم نزيد الجرعة في الإعدادي حيث يصبح قادرا على تركيب سباكة المنزل كاملة، ثم نزيد الجرعة في الثانوي حيث يصبح هذا الطالب قادرا على تركيب شبكات معقدة. وعملية توصيف الحرف والمهارات البيئية يمكن أن تصاحبها صناديق الحرف والهوايات التي إن عجزت الدولة عن توفيرها فيمكن للطلبة شراؤها والتدريب عليها في المنزل والمدرسة.

وفي مدرسة ساحلية مثلا يمكن أن تكون الإضافات التقنية متعلقة بصيد الأسماك وحفظها وتعليبها، وفي بناء القوارب وصناعة أدوات الصيد وما تستلزمه الصناعات السمكية.

وتنظيميا يمكن للإدارات التعليمية أن تضطلع بوضع المناهج التقنية في منطقتها بما يتناسب مع بيئتها الخاصة، ويبقى بعد ذلك البعد الثقافي والحضاري في العملية التعليمية الذي ينبغي أن تقوم عليه وزارة التربية والتعليم حتى تضمن وحدة الأمة الثقافية والحضارية وذلك من خلال وضع خريطة لعالم أشياء مطلوب.

وتأتي مثلا جهة مثل وزارة الصناعة لتقوم بترجمة هذه الخريطة من المشاريع وتوزعها على أساتذة الجامعات والعاملين في مراكز البحوث الصناعية، والتي هي غير موجودة الآن، وترتبط بهذه المشروعات مجموعات مختلفة تعمل على تطويرها.

من أجل ذلك يجب العمل على تقنية التعليم بحيث يزداد الجزء التقني، ثم يليه الجزء التصميمي، ثم يليه الجزء التعليمي بنسب مناسبة لأوضاعنا الخاصة في هذه المرحلة. فمثلا إذا كان مطلوباً مصاعد كهربائية فإن دورنا الآن في هذه المصانع لا يتعدى صنع الكبائن وكل شيء سوى ذلك مستورد، ولنا أن نتصور أننا نصنع جهاز التحكم وجميع المجسات وأننا نصنع التروس والمحرك، إن كمية البحوث والمشاريع وما يتفرع عنها من أعمال للمهندسين والفنيين والعمال حينئذ ستكون كبيرة، والعدد حينئذ سيكون عشرة أضعاف الموجودين حالياً.

والأمر ليس صعبا، لقد قمت بتجربة في قسم هندسة الطيران بجامعة القاهرة وصنعنا جهازا للتحكم في المصاعد تكلف ثلاثمائة جنيه مصري، بينما يتكلف مثيله حوالي عشرة آلاف جنيه، ما الذي يمنع أن نفعل ذلك في كل شيء؟ إن الإجابة على ذلك تقول: إن هناك غيابا كاملا للمنظومة البشرية التي تسيطر على صنع القرار من أول اختيار عالم الأشياء، مرورا بترجمته إلى مجموعة من المشاريع العلمية والتطويرية، وانتهاء بعمليات التصنيع المختلفة.

* لكن هل تظل المنظومة الثقافية للأمة بعيدة عن مجالات التعليم والتدريب والتنمية؟ وأين مكان التنمية الثقافية للأمة على خريطة الفقه الحضاري؟.

** كنت في معارك الصبا أجادل إخواني العلمانيين حول الثقافة فأجنح بها إلى مزيد من الإرهاق في التراث كرد فعل لإغراقهم مضامينهم الثقافية في الأبعاد الترويحية أو تقديسهم للوثنية التاريخية، فلما اشتد العود الثقافي بفضل الله ونأينا عن معارك ردود الأفعال تبين أن دور الثقافة في الأمة هو طيف ذو سبعة عناصر:

العنصر الأول: هو أن الثقافة لا بد أن تعمل على تقوية النسيج الاجتماعي للأمة مرتكزة على البعد الإيماني، فينبغي أن تدرس بدقة كل الخيوط التي تكون نسيج الأمة، سواء كانت خيوطا عرقية أو طائفية أو اقتصادية أو ثقافية. ويدرس أيضا مدى الاختلاف والوحدة بين كل هذه الخيوط، وهل هناك تباين حقيقي يمثل مشكلة أم أن التباين شكلي خاص. إن كثيرا من الاختلاف يبنى على أوهام قد تكون سائدة بين الجهلة، ويمكن تجاوزها بالتثقيف. ثم لا بد من توهين الصراع التاريخي ما أمكن بإلقاء الضوء على أوهام قد تكون سائدة بين الجهلة ويمكن تجاوزها بالتثقيف، ثم لا بد من توهين الصراع التاريخي ما أمكن بإلقاء الضوء على الروايات التاريخية. ثم لا بد من تعميق الفهم لعناصر التحدي الحضاري في الحاضر والمستقبل حتى يستشعر الفرقاء أهمية التوحد.

والعنصر الثاني: هو أن الثقافة لا بد أن تعين وتساعد على تقبل المفاهيم التنموية، فهناك أنواع من التنمية تختلف في أهدافها ووسائلها عن التنمية في المفاهيم الغربية. وليس علينا حرج أن نحدد تنمية قاصدة تتناسب مع ظروفنا، مع ملاحظة أن التنمية التي يفرضها الغرب علينا تزيد من تخلفنا وتبعيتنا له، ولا بد أن تساعد الثقافة على نشر وتقبل هذه المفاهيم التنموية الجديدة والمختلفة.

والعنصر الثالث: هو أن تحتوي الثقافة على عنصر الترويج الذي يعين المؤمن المكدود، هذا الترويح لا بد أن يشجع على الاستغراق النفسي والروحي بالعبادة وأن يشجع الرياضة الجماعية، والسمر الجماعي في تنافس صحي، ويشجع على السير في الأرض، ورؤية آثار الأمم الغابرة، ويشجع الآداب من قصة وشعر ونوادر، ويبتعد تماما عن الابتذال والميوعة.

والعنصر الرابع: أن تقوم الثقافة بتبيان موقف الإسلام من قضايا الحياة بمختلف جوانبها تبيانا علميا شاملا.

والعنصر الخامس: أن تكون الثقافة لشحذ الفعالية الروحية عند الفرد حتى يصبح ذا همة حضارية، وتوجه إصلاحي. فالفرد هو البنية الأساسية التي يقوم عيها أي عمران.

والعنصر السادس: أن تكون الثقافة لتقوية المنهج العلمي الإسلامي عند المثقفين صانعي القرار، فتربية الأجيال المسلمة على المنهج الإسلامي تحتاج إلى برنامج ثقافي مصاحب يعين على التدريب على المنهج حتى يصبح ملكة عند المثقفين وصانعي القرار، ولقد أفلحت نظم التعليم في الغرب على تربية الناس على طرائق للتفكير أكثر قربا مما نبتغيه من تربية إسلامية من كثير من طرائقنا التربوية في بلاد المسلمين.

والعنصر السابع: هو أن تعمل ثقافتنا على بيان التحدي الحضاري الذي يواجه الأمة وإسقاط ذلك على دور الفرد، فأحيانا لا ينقص الناس الهمة والإخلاص، وإنما ينقصهم فهم عناصر التحدي الحضاري على مستوى الفرد والجماعة، ومن ثم فإنهم يتوجهون بهذه الهمة في غير مقصدها الأمثل.

وهكذا فإن التخطيط الثقافي لهذا الطيف السباعي يمثل تحديا عظيما للتيارات الإصلاحية، فهي لم تعطه حقه من البحث، فضلا عن المنظومات الثقافية المتاحة لدينا حاليا التي يصب معظمها في الترفيه والسياحة التاريخية. إن تخطيطا ثقافيا محكما يسرع بخطى الأمة نحو أهدافها العظيمة، ويسهل مهمة القيادة الحكومية في الوصول إلى أي هدف تنموي.

* نحن نعاني من تخلف تقني وقصور في توطين التكنولوجيا في بلادنا، والحكومات معذورة في عدم وجود التمويل الكافي.. فما هو دور الفرد والمجتمع الأهلي والجمعيات الخيرية في ذلك؟.

** لقد أسهمت في هذا الخصوص بدعوة جديدة وهي ما أسميته "المنظومة الغائبة في فكرنا الصناعي" حيث دعوت إلى وقف هيئة لتنمية الابتكارات في عالمنا الإسلامي، وقلت: إن هذه الهيئة هي الجهد الشعبي في اتجاه التصنيع، ونحن هنا ينبغي أن نحدد دور الدولة ثم دور الأمة ثم دور الاقتصاديين.

فالأمة يجب أن تعود إلى "سياسة الوقف" التي توقفت مثلا عندنا في مصر.

إن هذه القناة كانت تتفق فيها أعمال النفوس الخيرة، وسد هذا الطريق مصيبة كبرى، فأنا كمتخصص في مجال الطيران عاطل بلا عمل، لأن الدولة لا تتبنى سياسات تصنيعية في هذا المجال، ولو أن الأمة بأوقافها أنشأت هيئة علمية أوقفتها على هذا المال التكنولوجي لتغير الحال تماما. ومفهوم الوقف هنا يجب أن يتحول ليسهم في التقدم التقني، فلم يعد مقبولا أن يوقف المال على العمارات والأراضي الزراعية، وإنما يجب أن يوقف على مشروعات علمية دقيقة تضع الأمة على أعتاب التقدم.

ودور الدولة في هذا الأمر هو أن يكون لديها فلسفة للتنمية، فالدولة تهمل تقنية التعليم، كما أن الإعلام التقني مفقود، فنحن لدينا الكثير من القنوات التليفزيونية والمحطات الإذاعية ليس بها أية قناة أو إذاعة تقنية. كما يجب على الدولة أن يكون لها سياسات واضحة لحماية منتجاتها الوطنية وسياسة تشريعية تفرض الهندسة العكسية، بمعنى أنه من أراد أن ينشئ مصنعا جديدا فليستورد ما يحتاجه في البداية، ولكن عليه أن يصنع ما يحتاجه بعد ذلك بجهوده الهندسية والتطويرية. كما أننا ليس لدينا تشريعات تفرض البحوث التطويرية في مصانعنا.

وبالنسبة لدور الاقتصاديين فيجب أن يظهر المال المغامر الذي يتحدى المجهول. إن الآلية التي تتقدم بها الصناعة الأمريكية هي آلية المال المغامر، أما لدينا فالبنوك تستثمر أموالها في المضمون وتبتعد عن المشروعات القومية التي تنفع المسلمين، وما تقوم به هذه البنوك يمكن أن يقوم به أي تاجر. لماذا لم يقم هؤلاء ببحوث في الصناعات الحربية، والطائرات، والزراعات المتطورة؟.

وهكذا فإن هذه المنظومة الثلاثية الأبعاد (دور الفرد – دور الأمة – دور الدولة) يجب أن يعاد النظر فيها، فلا ينبغي أن نجد الدولة حيث ينبغي أن نفتقدها، ولا أن نفتقدها حيث ينبغي أن نجدها.

... =============

#تاريخ السلوك التنظيمي

الأربعاء 20 من محرم1428هـ 7-2-2007م الساعة 12:27 م مكة المكرمة 09:27 ص جرينتش

الصفحة الرئيسة > فن الإاداره > سلوك إداري

كنا قد تكلمنا في مرة سابقة عن مفهوم السلوك التنظيمي وأنه يعني سلوك الفرد داخل المنظمات، كما تحدثنا عن الهدف من وراء دراسة السلوك التنظيمي وأن هناك ثلاثة أهداف رئيسية من دراسة السلوك التنظيمي ألا وهي:

1. التعرف على مسببات السلوك الإنساني.

2. التنبؤ بالسلوك وذلك من خلال معرفة مسببات السلوك.

3. التوجيه والسيطرة والتحكم في السلوك من خلال التأثير في المسببات.

وبذلك يتضح لنا مدى أهمية السلوك التنظيمي فهو يركز على فهم وتوجيه سلوكيات وتفاعلات العنصر البشري, والذي يعتبر أهم عناصر الإنتاج في المنظمة, ونجاح المنظمة مرهون بنجاح تفعيل العنصر البشري وتحسين أدائه.

واليوم سنتحدث بإذن الله عن تاريخ نشأة هذا العلم وكيف وصل إلى ما وصل إليه الآن.

جذور تاريخية بعيدة:

المستقرئ للتاريخ يجد أن محاولات فهم السلوك الإنساني داخل المنظمات له جذور تاريخية بعيدة, ففي الحضارة الفرعونية مثلاً، وجد أنه كان هناك اعتراف فيما بينهم بضرورة الاستماع إلى شكوى العاملين, ولا شك أن الاستماع وحده يكون في أحيان كثيرة علاجاً –ولو مؤقتاً – لبعض العاملين.

وإذا طالعت التاريخ الإسلامي ستجد أن الحضارة الإسلامية قد اهتمت بالسلوك البشري داخل المنظمات اهتماماً بالغاً، فأقرت مبدأ التشاور مع المرؤوسين عند اتخاذ القرار وهذا ما يسمى حالياً بالمشاركة في اتخاذ القرارات الإدارية، كما شجعت الاتصال المباشر بين الرئيس والمرؤوس، كما أن مفاهيم الاتصال الجيدة كانت لها مجالات واسعة في الدين الإسلامي بشكل كبير.

وقد ظهر في القرن السادس عشر نموذج لمحاولة تفسير السلوك الإنساني والتحكم فيه ألا وهو النموذج الميكافيللي, حيث وضع ميكافيللي نظريته القائمة على أن سلوك الناس محفوف بعدم الثقة والشك، وأن الأسلوب الملائم للسيطرة على سلوكهم هو القسوة والخداع، أو أي وسيلة أخرى يمكن من خلالها السيطرة على هذا السلوك, وقد أودع ميكافيللي نظريته هذه في كتابه الشهير "الأمير" والذي كان قد كتبه لإرضاء حاكم إحدى المدن الإيطالية، وشرح خلال هذا الكتاب كيف يجب أن يتصرف الأمير الكفء، وكان مبدؤه الأساسي هو "الغاية تبرر الوسيلة" بمعنى أن أي وسيلة يمكن استخدامها ولو كانت غير نبيلة أو مشروعة طالما أنها ستوصل في النهاية إلى هدف نبيل, وقد أوصى ميكافيللي في كتابه بضرورة استخدام أساليب المكر والدهاء والخداع والتدليس والمراوغة، بجانب استخدام أساليب القهر والقسوة والشدة والردع لإحكام السيطرة على سلوك المرؤوسين، ولايمنع ذلك من استخدام أسلوب الحوافز والمكافآت على أن يكون في ظلال نظام الردع الوارفة, والعجيب أن بعض هذه الأساليب لازالت موجودة في بعض المنظمات إلى يومنا هذا وبخاصة السياسي منها، كما من الممكن أن نقول أن العمل السياسي يتبع العديد من مبادئ ميكافيللي التي أودعها في كتابه منذ ما يقرب من خمسة قرون !!

الفكر الإداري المعاصر:

إذا انتقلنا للكلام حول الفكر الإداري المعاصر سنجد أن أول مدرسة إدارية تكلمت حول السلوك الإنساني وكيفية السيطرة عليه بطريقة علمية حديثة هي المدرسة الكلاسيكية، وقد افترضت المدرسة الكلاسيكية بشكل عام بأن الأفراد كسالى وأنهم غير قادرين على تنظيم وتخطيط العمل وأنهم غير عقلانيين وأنهم انفعاليين، ولهذه الأسباب هم غير قادرين على أداء أعمالهم بطريقة صحيحة وفعالة, وبالتالي صارت السيطرة على هذا السلوك الغير الرشيد حتماً مقضياً، ولذا ستجد أن جميع النماذج الخارجة من المدرسة الكلاسيكية تركز على فرض نموذج عقلاني ورشيد وقوي على العاملين وذلك كمحاولة للسيطرة على سلوكهم داخل المنظمة.

وسنعرض سريعاً ثلاثة نماذج من المدرسة الكلاسيكية ألا وهي: نموذج الإدارة العلمية، ونموذج العملية الإدارية، والنموذج البيروقراطي.

أولاً: نموذج الإدارة العلمية:

افتراضات هذا النموذج قائمة على اعتبار أن الأفراد كسالى، أنهم مدفوعون فقط من الناحية المادية، وأنهم غير قادرين على تخطيط وتنظيم الأعمال المنوطة بهم, وبالتالي ظهرت محاولات رواد هذه المدرسة للسيطرة على السلوك الإنساني داخل المنظمات من خلال عمل تصميم مثالي للوظائف ومن خلال الحوافز المالية، وتعتبر محاولات فريدريك تيلور هي أول المحاولات المنظمة في هذا المجال، حيث كانت له مجموعة من التجارب الإدارية في الشركات التي كان يعمل بها، وقد تبلور الفكر الناتج عن هذه التجارب في كتابه "مبادئ الإدارة العلمية ".

وتلت جهود تيلور ما قام به الزوجان فرانك وليليان جيلبرث بما يسمى "دراسة الحركة والوقت"؛ حيث قاما ببحث أنواع الحركات التي يؤديها العامل في عمله ووقت كل حركة، ثم يحددون بعد ذلك ما هي أنسب حركات عليه أن يؤديها ليصل إلى أسرع وأفضل أداء ممكن.

لقد اعتبر رواد هذه المدرسة أن الإنسان مثله مثل أي مورد آخر من موارد المنظمة من آلات وغيرها, وبالتالي يجب التحكم في هذا المورد عن طريق تصميم وظيفته وتدريبه وتحديد معيار علمي لقياس معدل إنتاجه، هذا بجانب تحفيزه على العمل باستخدام الحوافز المالية.

ثانياً: نموذج العملية الإدارية:

وتتشابه افتراضاتها حول السلوك الإنساني مع الافتراضات التي تبنتها الإدارة العلمية إلا أنها اختلفت معها في الأسلوب الذي يمكن أن تتخذه المنظمة للتحكم في السلوك الإنساني، فلئن كانت الإدارة العلمية قد ركزت على وجود تصميم مثالي أوحد لأداء العمل بجانب الحوافز المادية، فقد جاءت نظرية العملية الإدارية لتقول أنه يمكن السيطرة على السلوك الإنساني من خلال العملية الإدراية والقواعد والأوامر، أي من خلال تصميم محكم للعمليات الإدارية كالتخطيط والتنظيم والتوجيه والرقابة, وأيضاً من خلال وضع ضوابط محددة للأداء يسيطر على السلوك الإنساني.

ومن أشهر رواد هذا النموذج الفرنسي هنري فايول الذي قسم العملية الإدارية إلى خمسة أقسام: التخطيط والتنظيم والأمر والتنسيق والرقابة, وبناء على هذه الأنشطة قام بوضع أربعة عشر مبدأ إدارياً يمكن من خلالها القيام بأنشطة الإدارة على خير وجه.

ثالثاً: النظام البيروقراطي:

وقد افترض رواده أن الناس غير عقلانيين وأنهم انفعاليون في أدائهم للعمل، مما يؤدي إلى جعل الاعتبارات الشخصية سائدة في العمل وجعل الاعتبارات العقلية والموضوعية غير واردة في محيط العمل, وقد انعكس ذلك على وضعهم للنموذج البيروقراطي من أجل السيطرة على السلوك الإنساني داخل المنظمات، حيث تذكر النظرية أنه سيتم السيطرة على السلوك الإنساني من خلال وجود نظام صارم للقواعد والإجراءات داخل المنظمة.

ويعتبر ماكس فيبر أشهر علماء هذه المدرسة، قد اتخذ هذا الاتجاه من خلال ملاحظته لسوء استخدام المديرين لسلطاتهم، وعدم الاتساق في أسلوب الإدارة لعدم وجود قواعد حاكمة للسلوك.

ومن الجدير بالذكر أن مبادئ البيروقراطية في ذاتها ليس فيها ما يعيبها، إلا أنه عند تطبيقها تجد العاملين يهابون من أي تصرف نظراً للخوف من عدم وجود قاعدة أو إجراء تسمح بهذا التصرف مما قد يوقعهم في العقوبة, ولذلك فالبيروقراطية الزائدة تؤدي إلى قتل روح الإبداع والابتكار؛ إذ يصير الهم الأكبر هو الالتزام بالقواعد والإجراءات فقط, دون النظر إلى التجديد والابتكار ورفع الكفاءة وزيادة الفاعلية.

وقد أدى هذا النقد الموجه إلى النماذج المختلفة من المدرسة الكلاسيسكية إلى ظهور مدرسة جديدة تهتم بالعنصر البشري في المنظمات, وتعتبره إنساناً اجتماعياً وليس فقط إنساناً اقتصادياً, وقد ظهرت نظريات تبعاً لافتراضات هذه المدرسة ومن أبرزها:

نظرية العلاقات الإنسانية:

وهي على النقيض من المدرسة الكلاسيكية افترضت بأن الإنسان مخلوق اجتماعي، يسعى إلى إنشاء علاقات أفضل مع الآخرين، وأن أفضل صفة إنسانية جماعية هي التعاون وليس التنافس، وبالتالي اختلفت سياسات هذه النظرية عن سابقتها في التعامل مع العنصر البشري للسيطرة على سلوكه، فاتجهت هذه النظرية إلى القيادة الديموقراطية ومشاركة العاملين في اتخاذ القرارات ووضع أنظمة الشكاوى والاقتراحات والرحلات والحفلات الاجتماعية, ومن العيوب التي قد تتخذ على هذه النظرية أنها أفرطت في الاهتمام بالعلاقات الاجتماعية، الأمر الذي قد يصل في النهاية إلى تدليل العاملين وإفسادهم.

نظرية العلوم السلوكية:

وقد جاءت نتيجة للعلوم التي ظهرت في نظرية العلاقات الإنسانية، حيث حاول بعض العلماء تطويرها ليتم استخدام كل الجوانب السلوكية لإعطاء تفسيرات أكثر دقة وشمولاً للسلوك الإنساني، ففي حين ركزت نظرية العلاقات الإنسانية على العلاقات والمشاعر، جاءت هذه النظرية تعترف بالجوانب الإيجابية والسلبية لكل من سلوك الأفراد والإدارة وتحاول أن تعطي تفسيرات أكثر واقعية للسلوك الإنساني لتتمكن من توظيف كل الطاقات السلوكية للناس في أعمالهم.

ويمكن تجميع آراء رواد هذه النظرية وتلخيصها في المبادئ التالية:

1. يختلف الناس في حاجاتهم، فبعضهم تسيطر عليه الحاجات المادية وبعضهم تسيطر عليه الحاجات الاجتماعية وبعضهم تسيطر عليه الحاجة لتحقيق الذات.

2. يسعى الأفراد لأن يكونوا ناضجين وناجحين في العمل، وهم حريصون على إبراز طاقاتهم ليشعروا بالنجاح.

3. يسعى الأفراد لكي يكونوا منضبطين في العمل، ولكن الرقابة المباشرة قد تؤذي هذا الشعور بالانضباط الذاتي، ولذلك فالرقابة الغير مباشرة من الإدارة مع إشعار العاملين بأنهم مسئولون عن أعمالهم يمكن أن يعمق الإحساس بالانضباط الذاتي وينشر حالة من الرقابة الذاتية في العمل.

4. يتميز العاملون بأن لديهم قدر من الدافعية الذاتية والطاقة الداخلية لإنجاز العمل واتقانه وعلى المنظمة أن تستغل هذه الطاقة الداخلية وتوظيفها.

5. تتدخل عناصر أخرى في التأثير على سلوك الفرد في عمله، ومن أبرزها طريقة الفهم، وأسلوب اكتساب السلوك، والاتجاهات النفسية والقدرات، وأسلوب الاتصال بالآخرين، والقدرة على القيادة، وعلى المديرين أخذ كل هذه الاعتبارات في الحسبان عند توجيه الآخرين.

6. يسعى الأفراد لتحقيق تماثل بين أهدافهم وأهداف المنظمة، ولذلك إن لم يحدث تعارض بين أهداف المنظمة وأهداف الأفراد انطلقت طاقات الفرد النفسية وقدراته الذاتية في العمل.

7. يختلف السلوك الفردي والإداري من دولة لأخرى (أو من حضارة لأخرى) وعلى كل من يمارس أعماله مع حضارات ودول مختلفة مراعاة هذه الفروق.

8. يختلف سلوك الأفراد على حسب الموقف الذي يتعرضون له, وكذلك تختلف طريقة الإدارة المثلى في التصرف مع الأفراد على حسب هذه الظروف, ولذلك يختلف النمط القيادي المفضل على حسب الموقف، فمثلاً يفضل النمط القيادي التسلطي مع الأفراد المتسيبين، بينما يفضل النمط القيادي الديموقراطي مع الأفراد المنضبطين.

ولعل النقطة الأخيرة تشير إلى المبدأ الموقفي في الإدارة، ونستطيع القول بأن هذا المبدأ – المبدأ الموقفي – هو التوجه الذي صار عليه السلوك التنظيمي اليوم. أي أن التصرفات الإدارية الصحيحة التي يجب أن تتخذ للتحكم في السلوك الإنساني تتوقف على حسب الموقف القائم والظروف المحيطة به والأشخاص المعنيين في هذا الموقف.

------------------------------------------------------------------

أهم المراجع:

1) السلوك التنظيمي مدخل لبناء المهارات د/ أحمد ماهر.

2) السلوك التنظيمي د/حامد أحمد بدر جامعة الكويت.

3) السلوك التنظيمي والأداء أندرو دي سيزلاقي و مارك جي والاس

===============

#مسلمي صقلية..كتاب عن حضارة المسلمين في الجزيرة

الاثنين18 من محرم1428هـ 5-2-2007م الساعة 11:28 ص مكة المكرمة 08:28 ص جرينتش

الصفحة الرئيسة > نافذة ثقافية > كتب

مفكرة الإسلام :صدرت حديثا الترجمة العربية لكتاب مسلمي صقلية الذي كتبه الايطالي ميكيلى أمارى في القرن الـ19وقام بترجمته فريق من المتخصصين على رأسهم الدكتور محب إبراهيم الأستاذ في كلية الألسن في جامعة عين شمس الذي أكد أهمية كتاب مسلمي صقلية في تأريخ حقبة مهمة من تاريخ الحضارة الإسلامية وأثرها على القارة الأوروبية.واعتبر إبراهيم أن كتاب مسلمي صقلية ليس كتاب تاريخ وحسب بل كتاب حضارة المسلمين في صقلية.

وأضاف أن هذا الكتاب لم يسبق أن ترجم كاملا وما وصل منه لا يزيد عن شذرات موضحا أن ما وصل إلى اللغة العربية من هذا الكتاب كان منقولا من كتب أخرى ولغات متعددة غير اللغة الأصلية للكتاب وهى اللغة الايطالية.

وأوضح المترجم أن الكتاب يتناول فترة مهمة من تاريخ المسلمين في جزيرة صقلية لاسيما الفترة الممتدة من القرن التاسع الميلادي وحتى القرن الحادي عشر موضحا أن الكتاب يعتبر سجلا شاملا لصقلية إذ يستعرض مختلف ظروف الحياة قبل الفتح الاسلامى وبعده ومدى تأثير حياة الإسلام على تلك الجزيرة.

وأشار إبراهيم إلى مؤلف الكتاب أمارى الذي توفى سنة 1889 بالقول إنه بدأ بنشر كتابه بين عامي 1845 و1874 إذ يتكون من ثلاثة أجزاء كما أنه اعتمد على ما يقارب 70 مخطوطا من المخطوطات العربية الإسلامية.

وأضاف أن أمارى ترجم وحقق في العديد من الكتب ونقلها من اللغة الايطالية إلى العربية والعكس كذلك كما أنه قام بتأليف عدد من الكتب باللغة العربية مشيرا في هذا السياق إلى اهتمام أمارى بالبحث التاريخي لاسيما في تاريخ جزيرة صقلية وعلاقتها بالمسلمين.

وفى شأن الكتاب ذاته قال إبراهيم إنه تميز بأمور عدة أهمها أن لغته رصينة قديمة في تراكيبها ومفرداتها كما تميز بالإيجاز حينا وبالإطناب حينا آخر إضافة إلى انتهاج السرد القصصي في بعض فصوله والأسلوب العلمي في فصول أخرى.

وأشار إلى بعض الصعوبات التي واجهت فريق الترجمة لاسيما في ترجمة بعض الأسماء عربية الأصل إلى اللغة العربية مرة أخرى موضحا أن هذه الأسماء هي في الأصل عربية فلا يمكن نقلها عن طريق الترجمة إلى العربية.

وقال إن هذه العملية تطلبت جهدا في التحقق من تلك الأسماء المنقولة من الايطالية إلى العربية إضافة إلى بعض أبيات الشعر التي ترجمت من العربية إلى الايطالية "فقد حاولنا كتابة الأشعار كما كتبت باللغة العربية وليس ترجمتها.

===============

#ندوة علمية: واقعنا رغم قسوته به إيجابيات تبعث على الأمل

الخميس14 من محرم1428هـ 1-2-2007م الساعة 12:36 م مكة المكرمة 09:36 ص جرينتش

الصفحة الرئيسة > تحقيقات

... د. حامد طاهر ...

د. حامد طاهر

• هناك سبع دول عربية وإسلامية مرشحة لتكون دولاً متقدمة.

• عدم فهم الإسلام فهمًا متكاملاً يعوق تقدم المسلمين.

• المسلمون يكابرون ولا يعترفون بتخلفهم.

• من الطبيعي أن يقلق الغرب من المد الإسلامي المتنامي.

أحمد وهدان

مفكرة الإسلام: " الإسلام .. الواقع والتحديات" كان موضوع الندوة التي عقدتها الجمعية الخيرية الإسلامية وتحدث فيها د. حامد طاهر، نائب رئيس جامعة القاهرة، والعميد السابق لكلية دار العلوم، وأستاذ الفلسفة الإسلامية. وفي معرض حديثه عن واقع الإسلام في عالم اليوم تحدث عن إيجابيات الواقع فقال: إن المسلمين من حيث العدد كثرة غالبة تتجاوز المليار، وهذا المليار ليس عددًا محدودًا ولا محصورًا ولا ساكنًا بل هو في تزايد مستمر نتيجة للمواليد ونتيجة أيضًا للإقبال المتزايد على الإسلام من الوثنيين وأهل الديانات الأخرى. وهذا الإقبال المتزايد على الإسلام يحدث رغم ضعف المسلمين من ناحية ورغم عدم امتلاكهم لأجهزة دعوية قوية من ناحية أخرى. إنني عشت في الغرب فترة طويلة ووجدت أن كثيرًا من الأسر تدخل في الإسلام ولكنها تخفي ذلك لحرصها على مكانتها الاجتماعية والوظيفية، وهؤلاء لا نعرف عنهم شيئًا ولا يدخلون في الإحصاءات.

كما أن هناك في هذا الواقع صحوة إسلامية تعم العالم الإسلامي كله ومن مظاهرها التعمق في الدين والالتزام بشعائره.

فهناك إقبال على الصلاة في المساجد التي تكتظ بالمصلين، وكنا نرى في فترة الأربعينات والخمسينات تهاونًا في أداء الصلاة، كما نلاحظ الحرص على الصيام أكثر من ذي قبل، ولم نعد نرى من يجاهر بإفطاره إلا قليلاً. وأصبحنا نرى عوام المسلمين، رغم أنهم يدفعون الضرائب، إلا أنهم يتوجهون إلى لجان الزكاة المنتشرة في معظم المساجد. وهذه كلها مظاهر تدل على الصحوة والإقبال على الإسلام بصورة تدعو إلى التفاؤل والأمل.

والمسلمون في عالم اليوم ينتمون إلى مجموعة الدول النامية التي تتميز بأمرين هما انخفاض متوسط دخل الفرد وقلة استخدام التكنولوجيا في مجالات الحياة وسيادة نمط العمل اليدوي.

والدول الإسلامية فيها دول مؤهلة لتصبح متقدمة مثل باكستان وإيران وإندونيسيا وماليزيا، وذلك نتيجة للقدرة الاقتصادية والعسكرية التي بدأت تظهر فيها، وعلى مستوى العالم العربي فإن مصر والمغرب وسوريا مرشحة لذلك.

سلبيات الواقع الإسلامي

ويضيف د. حامد طاهر أنه رغم الأمل المنبعث من النقاط السابقة إلا أن هناك عددًا من السلبيات في واقع المسلمين مثل افتقاد التنسيق بين دول العالم الإسلامي، بل إن هناك خصومات ومنازعات بين غالبية الدول العربية المتجاورة، وهذا العداء نتيجة حدود رسمها الاستعمار، كما لا يوجد تواصل بين العناصر المتكاملة في العالم الإسلامي.

فالعالم الإسلامي غني بثرواته الطبيعية والإنتاجية والبشرية ولكن كلاً يعمل وحده منفردًا. ولو اجتمعت قوتان إسلاميتان أو ثلاثة لحدثت نقلة كبيرة، ولكن للأسف فإن أصحاب القوة البشرية بعيدون عن أصحاب القوة الإنتاجية والطبيعية وهكذا. كما أننا نجد في العالم الإسلامي ضعفًا في الإنتاجية، فمعدل إنتاج الفرد في مجتمعاتنا ضعيف جدًا.

وقد حدثت ثورات تكنولوجية كثيرة لم تستفد منها بلادنا الاستفادة الكاملة.

كما أن الإدارة في العالم الإسلامي غير جيدة مما ينعكس على الإنتاجية وعلى معدل التنمية وعلى انضباط الحياة والواقع بوجه عام. كما أننا نلاحظ افتقاد الإبداع وقلة الاختراعات والمبادرات الخاصة في الدول الإسلامية، وإذا حدث واجتهد فينا أحد فإن مجتمعاتنا تقف ضده ولذلك هاجرت العقول المبدعة، ولم نجد على المستوى العلمي إلا

النقل والتقليد والمحاكاة.

التحديات الداخلية في العالم الإسلامي

وعن هذه التحديات قال د. حامد طاهر إن أولها هو عدم الفهم المتكامل للإسلام، وإنما يأخذ المسلمون ببعض الأجزاء فقط ويفهمون الإسلام فهمًا جزئيًا، وهذا ما قاله رواد النهضة الإسلامية الحديثة مثل الأفغاني ومحمد عبده ورشيد رضا والكواكبي وعبد الله النديم وحسن البنا. إن المفهوم المتكامل للإسلام بسيط لو أخذناه من القرآن والسنة، إن الإسلام يقوم على أربع دعائم أساسية هي العقيدة والشعائر الأربع والأخلاق والتشريع.

وبالنسبة للعقيدة فقد اختلف المسلمون فيها اختلافات كبيرة أنهكتهم رغم أن هذه العقيدة تقوم على أمرين أساسيين هما: الإيمان بالله الواحد، والإيمان بالبعث بعد الموت.

ولو نظرنا إلى الجزء المكي من القرآن، وهو أكبر من النصف، لوجدناه يدور حول هاتين الحقيقتين. وفي الحديث الشريف فإن الإيمان هو أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقدر خيره وشره. والحديث يدور حول الأمرين المذكورين.

فالإيمان بالله يستتبعه الإيمان بالملائكة والكتب والرسل ومنهم خاتم الرسل محمد عليه الصلاة والسلام، وكذلك الإيمان بالقدر الذي هو من عند الله. ثم نجد الإيمان باليوم الآخر أصل وحده. أما الدخول في تفريعات العقيدة مثل الأسماء والصفات وتوحيد الألوهية والربوبية فقد شغل الناس وصرفهم عن بساطة الإسلام.

وشعائر الإسلام الأربعة هي: الصلاة والصوم والزكاة والحج.

والصلاة تنهى عن الفحشاء ونحن مأمورين أن نستعين بالصبر والصلاة، والصلاة إن لم تؤثر في نفوس المسلمين وحياتهم فتضبطها فإنها تصبح مثل نقر الغراب. ونحن نجد في واقعنا أن الصلاة لا تؤدي كما يجب، ولذلك فلا تحقق الهدف المرجو منها وهو ضبط إيقاع حياة المسلمين. أما الصوم فهو تربية للإرادة الإنسانية، فالمسلم من خلاله يمسك نفسه عن الحلال حتى لا يقع في الحرام. والصوم يربي أيضًا الضمير الإنساني لأنه عبادة خاصة بين الإنسان وربه. والزكاة والحج ليسا مفروضين على كل الناس، فكثير من المسلمين ليس عليهم زكاة لأنهم لا يملكون النصاب، والحج لا يجب إلا على القادر ماديًا وبدنيًا.

وبالنسبة للأخلاق فإن المسلم إذا كانت عقيدته قوية وعبادته صادقة فإنها تنعكس على أخلاقه، فالأخلاق عبارة عن دافع داخلي وسلوك خارجي، والمسلمون بعيدون عن السنة النبوية التي هي تطبيق لأخلاق الرسول الكريم. ونحن في حاجة إلى كتاب شامل يجمع الأحاديث الصحيحة عن رسول الله، لأن السنة هي التي تحدد لنا منهج حياة رسول الله وتبعدنا عن الخلافات التي وقع فيها كثير من المسلمين.

أما بالنسبة للتشريع فإن الشريعة الإسلامية فيها مجموعة من الثوابت ثم تفتح المجال أمام العقل المسلم لكي يعمل وتدعوه إلى الاجتهاد.

إننا اختلفنا كثيرًا حول النظام السياسي في الإسلام وكذلك النظام الاقتصادي في الإسلام، وهذا يتعارض مع مبدأ أن الإسلام صالح لكل زمان ومكان.

فالاقتصاد حركة يومية وشهرية وسنوية وهو يتغير من وقف لآخر ومتروك لعرف الناس، ونحن لدينا قاعدة وهي أن ما يحقق المصلحة للمسلمين فهو حلال، وهناك من تعب نفسه وحاول أن يفرض نظامًا سياسيًا معينًا باسم الإسلام، والإسلام ليس فيه نظام سياسي معين، لكن فيه مبادئ أساسية مثل الشورى والعدالة والمساواة، ومتى تحققت هذه الأمور في أي نظام سواء كان ملكيًا أو جمهوريًا أو فيدراليًا أو غير ذلك فإنه يكون متوافقًا مع الإسلام.

وفي نفس الوقت فإننا إذا أقمنا نظامًا للخلافة ولم تتحقق فيه هذه الأمور فإنه لن يكون نظامًا إسلاميًا. وبالمثل فإنه لا يوجد نظام اقتصادي إسلامي وإنما توجد مبادئ اقتصادية مثل النهي عن الربا والغش والاحتكار، ومتى تحققت هذه الأمور في أي نظام اقتصادي فإنه يكون إسلاميًا أو متوافقًا مع الإسلام.

وبالإضافة إلى الفهم غير المتكامل للإسلام المنتشر في العالم الإسلامي فهناك كذلك الفهم الخاطئ للإسلام، وفي هذا الإطار فإن هناك فرقًا كثيرة انحرفت عن الإسلام وفهمته فهمًا خاطئًا في الماضي وفي الحاضر.

وهناك الآن بناء الأضرحة وزيارتها والنذر والذبح لها والطواف حولها وتقديس الأولياء .. الخ. فكلها أمور خاطئة ومتعارضة مع الإسلام وعقيدته، ويدخل في هذا الأمر الموالد والشكليات الصوفية.

المسلمون يفتقدون القدرة على التعايش مع الحضارة الحديثة

ومن التحديات الداخلية أن المسلمين يفتقدون القدرة على التعايش مع الحضارة الحديثة، فأدباؤنا الكبار مثل توفيق الحكيم لم يروا من الغرب غير المسرح، ولم ينقل آخرون إلا الروايات والقصص، بينما الكتب التي صنعت الحضارة لم ننتبه إليها. والمسلمون في بداية هذا القرن، وحينما وجدوا أنفسهم أمام هذه الحضارة الحديثة، كان لهم ثلاثة مواقف رئيسية:

الأول: موقف الرفض الكامل الذي تمثله بعض الاتجاهات السلفية..

والثاني: موقف الذوبان الكامل فيها والانبهار بها وهو الموقف الذي اتخذه الجانب العلماني، وعلى رأسه سلامة موسى وطه حسين وقاسم أمين ولطفي السيد .. الخ.

والثالث: هو الموقف التوفيقي الذي يرى أن نأخذ الصالح من هذه الحضارة ونترك السيئ، لكن هذا الاتجاه لم يبلور موقفه جيدًا حتى الآن.

إننا هنا ينبغي أن نفرق بين الثقافة والحضارة، فالثقافة شيء خاص وكل شعب له ثقافته الخاصة بل كل إقليم وكل قرية لها ثقافتها الخاصة، والثقافة هي مجموعة التصورات التي يعمل الإنسان على أساسها والتي لو خرج عليها يجد المجتمع يقف في وجهه.

أما الحضارة فإنها تكون حضارة واحدة في العالم وهي متصلة بالأمور العملية أكثر، أي طريقة بناء المساكن والحياة وطريقة اللبس والأكل والتعامل مع الناس .. الخ.

ونحن الآن نعيش عصر الحضارة الغربية الحديثة التي ورثت الحضارة الإسلامية واستفادت منها.

ومن التحديات الداخلية أيضًا التي تواجه المسلمين صعوبة تجاوز الحاجز العلمي والتكنولوجي، فحركة النمو العلمي في بلادنا ضعيفة والإنتاجية العلمية ضعيفة.

على سبيل المثال فالإنتاجية العلمية العربية هي 1% فقط من الإنتاج العلمي العالمي. ولم يحصل من المسلمين على جائزة نوبل في العلوم إلا العالم الباكستاني البروفيسور عبد السلام والعالم المصري الدكتور أحمد زويل، ولم يأخذانها لأنهما يعيشان في باكستان ومصر بل أخذاها لأنهما يعملان ويعيشان في أمريكا. ومستوى التعليم في بلادنا الإسلامية وأساليبه متخلف ويركز على الكم دون الكيف.

ومن التحديات الداخلية أيضًا المكابرة في عدم الاعتراف بالتخلف، مع أن التخلف مرض والمريض لن يصل للشفاء إلا إذا اعترف وآمن بأنه مريض. وعدم الاعتراف بذلك يجعل المسلمين في مكانهم لا يتقدمون. وأحد أسرار نهضة دول شرق آسيا أنها دول تعترف بأخطائها ومطيعة وتريد التعلم، أما نحن فلا نقبل التعلم ولا الاعتراف بخطئنا.

التحديات الخارجية في مواجهة العالم الإسلامي

وعن هذه التحديات قال د. حامد طاهر إن من المؤكد أن العالم الغربي قلق جدًا من تصاعد المد الإسلامي ومن النهوض الإسلامي وهذا أمر طبيعي. فمعروف أننا أسواق تستهلك الرديء من منتجاتهم وتصدر لهم المواد الخام الرخيصة، وهكذا فإنه أمر طبيعي أن يقف الغرب ضد نهضتنا التي سوف تكون على حسابهم . والغرب متخوف أيضًا من الجماعات الإسلامية لدينا، وهو يضع الإسلام عدوه في القرن المقبل وهذا أمر طبيعي أيضًا.

فنحن في مساجدنا وعلى منابرنا وفي منتدياتنا نَسُبُّ الغرب ونلعنه ونعلن العداء له، والغرب يسجل ذلك جيدًا ويحلله بدقة وبالتالي يضعنا في خانة العدو الأول. فلا يفتح الأبواب أمام انتقال التكنولوجيا إلينا كي نظل تحت رحمته. وفي هذا الإطار فإن الإسلام سوف يظل يرعب الآخرين حتى لو كان أهله ضعفاء، وفي الحديث الشريف (نصرت بالرعب مسيرة شهر)، ولهذا كله يرفض الغرب أن يشترك المسلمون في حركة الحياة الحديثة وفي النظام العالمي الجديد. وأقرب مثال على ذلك تركيا فهي بشريًا واقتصاديًا وتكنولوجيًا أكثر تقدمًا من اليونان ومع ذلك يرفض الغرب انضمامها إلى السوق الأوروبية والاتحاد الأوروبي بينما يقبل اليونان، وإذا حدث أي نزاع بين تركيا واليونان يقف الغرب مع اليونان بالحق والباطل.

إن تركيا تقول لهم إنها تحارب الإسلام ومع ذلك يرفضونها لأنهم يعرفون حقيقية الأمر وهو أن شعب تركيا مسلم قوي الإسلام.

وبعد تفجير قنبلة الهند النووية حدث رد فعل بسيط، لكن بعد تجربة باكستان كاد الغرب أن يضربها .. وهكذا. وهذه كلها تحديات تفرض على المسلمين التوحد وفهم الواقع والتعامل معه من خلال كيان موحد ونسيان الخلافات الداخلية.

===============

#حلم إسلامي بـ"تحرير" إسبانيا؟

الجمعة 8 من محرم1428هـ 26-1-2007م الساعة 09:31 م مكة المكرمة 06:31 م جرينتش

الصفحة الرئيسة > تقارير

... إسبانيا ...

إسبانيا هل تكون إسلامية

إعداد: ياسر مجدي

مفكرة الإسلام: بعد مرور ما يقرب من 1300 عام منذ أن وطأت أقدام المسلمين الأوائل أرض الأندلس تحت قيادة القائد المسلم "طارق بن زياد" في شهر رجب 92 هـ «711م» عند المضيق المسمى باسمه لهذا اليوم (جبل طارق )، وتمكُّن المسلمون من تأسيس دولة وحضارة إسلامية في الأندلس تضاهي تلك التي توجد في بلاد الشرق آنذاك، وبدأت شمس الإسلام تبزغ فوق أرض الأندلس في وقت

كانت إسبانيا أو ـ الأندلس قديمًا، تلك الدولة التي كانت يومًا من الأيام دولة إسلامية ومنارة من منارات الحضارة الإسلامية، في فترة كانت أوروبا جمعاء تتخبط في ظلام دامس، غير أن هذا الضوء لم يدم سوى ثمانية قرون ليخفت إلى يومنا هذا.

غير أن هناك معطيات بدأت تظهر من جديد وتبلورت فكرة الجهاد وتحرير المدن الإسلامية بما فيها "الأندلس"ـ إسبانيا حاليًا ـ وقد كانت الدعوة التي وجهها زعيم تنظيم القاعدة "أسامة بن لادن " ـ حسب المزاعم الإسبانية ـ بمثابة الشرارة والدافع لهذه الفكرة الدفينة في نفوس المسلمين، والتي لاقت قبولاً، وخاصة من قِبل الجماعات الإسلامية الموجودة في كل من المغرب والجزائر ـ حسب مزاعم المخابرات الإسبانية .

وتحت عنوان " الحلم الإسلامي لتحرير إسبانيا " نشرت صحيفة "لا باث ديختال" مقالاً مطولاً تقول في بدايته :"في مطلع هذا العام قامت جماعة إسلامية تتخفى تحت اسم "نديم المغربي"، والتي ذات صلة بـ"القاعدة" بنشر دعوة على الإنترنت للجهاد وتحرير الأراضي الإسلامية المحتلة بما فيها إسبانيا، وقد تم نشر هذه الدعوة على موقع الجماعة الإسلامية "الأنصار" ، والتي جاء فيها أنه في كثير من العواصم الأوروبية هناك معرفة كبيرة بالنسبة للقضية الفلسطينية، ودعوات تطالب بحلها، ولكن تلك المعرفة قائمة على افتراض أن "فلسطين" هي في جملتها أرض "إسرائيلية" وليست عربية، " أما الوضع بالنسبة لجزيرتيْ "سبته ومليلة" فهو مختلف، حيث إننا نتعامل مع إسبانيا وليست إسرائيل، ومن ثم هددت تلك الجماعة من خلال ما تضمنته الوثيقة بشن حرب مقدسة ـ الجهاد ـ ضد الدولة الإسبانية "الكافرة".

واستشهدت الصحيفة بما نشرته صحيفة "الباييس" الإسبانية مسبقًا، التي نشرت معلومات في عددها الصادر بتاريخ 5-11- 2006م نقلاًَ عن مصدر بالمخابرات الإسبانية، والتي حذّرت من أن كل من جزيرتيْ "سبته ومليلة" قد أصبحتا هدفين للجماعات الإسلامية كما أشرنا سالفًا .

وأشارت الصحيفة أن الطبيعة الجغرافية للجزيرتين ليست هي الخطر الوحيد الذي يهدد "إسبانيا" في المستقبل، ولكن الذي يهدد إسبانيا هم "الإسلاميون" الذين يقطنون الجزيرتين، وخاصة بعد عملية الاعتقال التي قامت بها الشرطة الإسبانية في مطلع الشهر الجاري، وقد اعتقلت 11 إسلاميًا بينهم 7 ينتمون إلى الجماعة "السلفية الجهادية"، التي تعتبر الجناح العسكري "للقاعدة" في شمال إفريقيا.

أما صحيفة "أ.بي.ثي" الإسبانية فقد حاولت أن تلتزم الحياد، غير أنها سقطت في المحظور، ونظرت إلى الموضوع من نفس المنظور السابق حيث نشرت تحت عنوان "الجهاد في سبته أم في إسبانيا ؟ والذي يبدو فيه أنها تبنت نفس الأفكار التي روّجت لها الصحيفة السابقة، ولكن بنظرة تحليلية أكثر منها نقدية مستندة على تحليل قام به باحثون لدراسة تلك الظاهرة "الجهاد" "حيث أشاروا أن الجزيرة شهدت في الآونة الأخيرة زيادة مطردة للنشطاء الذين يدعمون فكرة " السلفية الجهادية" ، وحذّرت الدراسة من تنامي انتشار هذه الأفكار في الجزيرة؛ الأمر الذي سيؤدي إلى ظهور حركات إسلامية تدعو للقيام بتنفيذ هجمات في "سبته" أو ربما تمتد هذه الهجمات إلى داخل إسبانيا نفسها، مؤكدة أن هذه الدراسة تتطابق مع المعلومات التي وصلت الأجهزة الأمنية .

لكن الصحيفة أشارت إلى شيء مهم لا يجب أن نغفله, حيث أكدت أن معظم سكان سبته من المسلمين ليسوا متشددين ، يرفضون كل الأعمال "المتشددة" وينظرون إلى المتشددين نظرة ازدراء، وهذه ليست نظرة المسلمين في "سبته" وحدها، بل هي نظرة عامة للمسلمين في كل العالم!.

لكن هذا يمثل رأي أشخاص ومحللين، أما بالنسبة لغالبية الإسبان فهل ينظرون إلى تلك القضية بنفس نظرة المحللين أم سيكون لهم رأي مختلف؟

من الواضح أن نظرة الغرب للإسلام هي نقطة متفق عليها من قِبل كل طوائف وشرائح المجتمع الغربي، لا فرق بين محلل ومواطن، فالإسلام بالنسبة لهم مرتبط بالإرهاب؛ نتيجة للصورة المشوهة التي ينقلها الإعلام الغربي عن الإسلام والمسلمين، وهو ما بدا جليًا من خلال الاستفتاء الأخير الذي أجراه معهد الكانو الملكي، ونشره موقع "تيليجرام دي مليلة" حيث يشير الاستفتاء أن أكثر من 70% من الإسبان يعتقدون أنه من الممكن أن يقوم إسلاميون بهجمات لاسترداد السيادة الإسلامية ـ المغربية ـ على الجزيرتين اللتين تخضعان للحكم "الإسباني" .

ولم يكن الخطر الإسلامي حسب المخابرات الإسبانية يتمثل في الحركات الإسلامية في "سبته ومليلة" فقط ولكن هناك خطرًا آخر بدأ يلقي بظلاله على الساحة الإسبانية، وهو ما أشارت إليه صحيفة الباييس الإسبانية حيث أفادت الصحيفة في السابع عشر من شهر ديسمبر: "أن إسبانيا بدأت تتأهب لعودة مجاهدين تدربوا على أسلحة ومتفجرات في العراق بعد مشاركتهم في أعمال الجهاد ضد قوات الاحتلال الأجنبية، مشيرة أن هؤلاء "المجاهدين" يشكلون خطرًا محتملاً على دول الاتحاد الأوروبي بما فيهم إسبانيا .

وأضافت الصحيفة " أن هؤلاء الرجال الذين قاتلوا في العراق من خلايا تابعة لتنظيم القاعدة في بلاد الرافدين، التي كان يتزعمها "أبو مصعب الزرقاوي" ـ الذي قُتل يونيو الماضي ـ "أصبحوا يشكلون جسر عبور للقاعدة والموالين لها إلى إسبانيا، وأنهم في صدد الاستعداد للعودة إلى إسبانيا مرة أخرى.

وأطلقت المخابرات الإسبانية على هؤلاء المجاهدين وخاصة من المغاربة والجزائريين، بأنهم صاروا الآن بمثابة "فرسان طروادة الجدد للقاعدة"، لكنهم حتى الآن لا يتسببون في أي أذى، وأنهم في انتظار التحرك؛ الأمر الذي يصعّب توقيفهم

".وزعمت المخابرات أن سوريا كانت هي الممر لهؤلاء المجاهدين لدخول العراق، والذي كان من بينهم "داود أوهاني"، الذي يأتي على رأس قائمة المطلوبين للبحث عنهم؛ بزعم تورطه في تفجيرات مدريد، و"عامر عزيز" الذي من المفترض أنه قُتل في بغداد.

وكانت المخابرات الإسبانية قد أعربت عن قلقها من أن تتحول شبه جزيرة 'أيبيريا' إلى قاعدة لعمليات المقاتلين الإسلاميين بعد عودتهم من العراق وأفغانستان, مشيرةً أنها لم تعرف بالضبط أعداد 'المجاهدين' الذين سيعودون إلى إسبانيا في يوم ما.

وأمام تلك الاتهامات التي تُكال وتوجّه للإسلام والمسلمين، كان لزامًا أن يكون هناك رد فعل، وبالأحرى على لسان الجالية الإسلامية بإسبانيا وهو ما نشرته صحيفة "أ.بي.ثي"، فقد نشرت دفاعًا لرئيس الجالية الإسلامية منصور "اسكوديرو" ـ مسيحي اعتنق الإسلام ـ ، والذي قلّل من تلك المزاعم، وطعن فيما نُشر، حيث أشار قائلاً: "ما الخطر المتمثل لما تسميه إسبانيا بـ"الجهاد الإسلامي" ، وإذا كانت هناك معلومات تشير إلى ذلك، فما هي المصداقية والمعايير التي ترتكز عليها تلك المعلومات؟ أو بمعنى آخر: ما هي التهديدات التي يمثلها الجهاد الإسلامي سواء لجزيرتي سبته ومليلة أو لإسبانيا بصفة عامة

=============

#الفلسفة.... التاريخ والنشأة[1]

الخميس7 من محرم1428هـ 25-1-2007م الساعة 02:44 م مكة المكرمة 11:44 ص جرينتش

الصفحة الرئيسة > عيون غربية

إذا أردنا التحدث عن الفلسفة، فنحن نتحدث عن حقبة من أهم حقب التاريخ الغربي من حيث النتاج الفكري، تلك الحقبة هي حقبة الحضارة اليونانية.

لقد كانت لنشأة الفلسفة أبلغ الأثر في التاريخ الغربي والإسلامي على حد سواء؛ فقد ساهمت الفلسفة في تحريف العقيدة النصرانية أبان اعتناق الدولة الرومانية للمسيحية، كذلك كانت السبب الرئيس في ظهور الكثير من الفرق الإسلامية، والتي حاول أصحابها التوفيق بين فلسفة اليونان والعقيدة الإسلامية.

وهذه نبذة موجزة عن الفلسفة وعوامل نشأتها، وما هي أهم مدارسها؟ مع الإشارة إلى المراحل التي مرت بها الفلسفة، وأخيرًا حكم الفلسفة من المنظور الإسلامي، وسوف نخص هذه المقالة بالعناصر التالية:

1- معنى الفلسفة.

2- نشأة الفلسفة.

ما هي الفلسفة؟

وكلمة فلسفة (philosophia) هي كلمة يونانية قديمة مركبة من مقطعين، هما" فيلو "بمعنى حب أو محبة، و"سوفيا "بمعنى حكمة، وتفسيرها: محبة الحكمة، فلما عُرِّبت قيل: فيلسوف؛ فالفيلسوف هو محب للحكمة، والمقصود بالحكمة: المعرفة العقلية الراقية، والإدراك الكلي لحقائق الوجود.

وبعبارة أخرى، الفيلسوف هو الإنسان الذي يبحث في ماهية الأشياء وأصولها وعلاقة بعضها ببعض، ولما كان الإنسان من طبيعته أن يفكر ويبحث على هذا النحو، فإن كلمة فيلسوف لم تُطلَق على كل إنسان، بل أُطلقت على المرء الذي من أهم أهدافه في حياته دراسة طبائع الأشياء وتعقلها، وكانت لديه قدرة إدراك الأشياء بسرعة معتمدًا على فكره الخاص، ومارس هذا العمل حتى أصبح وكأنه مهنة أو صنعة له سيطرت عليه معظم حياته.

مر مصطلح الفلسفة بعدة أطوار؛ وعلى هذا فإن تعريف (الفلسفة) يختلف باختلاف الأطوار والأزمان، كما أنه يختلف باختلاف الفلاسفة الذين وضعوا لها حدودًا وتعريفات، ومن تلك التعريفات [اليونانية منها]:

-1 عصر ما قبل سقراط: كان موضوع الفلسفة في هذا العصر يتناول الكون الطبيعي؛ ولذا فمحاولاتهم هي: معرفة الأصل الذي نشأ عنه هذا العالم الطبيعي المحسوس، فتعريف الفلسفة إذاً في هذا العصر هو: البحث في الوجود الطبيعي، وغايته ومصيره وعلل ظواهر الأشياء.

-2 عصر السوفسطائيين وسقراط: كان موضوع الفلسفة في هذا العصر قاصر على الإنسان ومعرفة الحقيقة، والحق والعدل والخير، ودراسة هذه القيم مبنية على التصور العقلي وحده ولا علاقة للحواس بها؛ أي أن الفلسفة عند سقراط قد اشتملت على بيان وتوضيح معاني الحق الخير والعدل. فتعريف الفلسفة إذاً عند سقراط هو: البحث عن الحقائق بحثًا نظريًا، وخاصة الحقائق والمبادئ الخُلُقية؛ من خير وعدل وفضيلة.

-3 عصر أفلاطون: كان موضوع الفلسفة في هذا العصر يتناول جواهر الأشياء وحقائقها الثابتة التي لا تتغير، والتي يطلق عليها أفلاطون "عالم المُثُل"؛ فتعريف الفلسفة عند أفلاطون هي: البحث عن الأمور الأزلية، أو معرفة حقائق الأشياء ومعرفة الخير للإنسان.

4- عصر أرسطو: يشمل كل المعرفة الإنسانية، أو بعبارة أخرى أصبحت الفلسفة مرادفة لمعنى العلم؛ فيندرج تحت الفلسفة جميع العلوم؛ من المنطق، والرياضة، والطبيعة، والأخلاق والسياسة.

وُتعرف الفلسفة عند أرسطو بأنها: العلم بالمبادئ الأولى التي تُفسَّر بها طبيعة الأشياء، أو هي البحث عن علل الأشياء وأصولها الأولى؛ أي العلة الأولى التي هي علة العلل .

نشأة الفلسفة

اختلف المؤرخون في أول من استخدم كلمة فلسفة؛ فحُكي أنه كريتس، كما يروي مؤرخو الفلسفة أن هذه الكلمة قد جرت على لسان بعض الفلاسفة، حيث نسب هؤلاء المؤرخون إلى فيثاغورث([1]) [حوالي 580-500 ق.م ] أنه قال: إن الإنسان مهما بالغ في طلب الحكمة لا يمكن أن يكون حكيمًا، لأن الحكمة لا تضاف لغير الآلهة، وما أنا إلا فيلسوف (PHILOSOPHOS) أي محب للحكمة؛ وحسب الإنسان شرفًا أن يحب الحكمة و يجدَّ في طلبها.

كما عزوا إلى سقراط أنه أطلق على منهجه كلمة فلسفة، وإلى بريكليس أنه قال: نحن نتفلسف بدون هوادة.

نشأت الفلسفة في بقاع عدة ولكنها اشتهرت في بلاد اليونان، أما بالنسبة لبداية نشأة التفكير الفلسفي، فقد الفلسفي نشأ أولًا في حضارات الشرق القديم؛ كالحضارة المصرية والفارسية، والبابلية، والهندية، والصينية، ولكنه كان مجموعة من الأساطير أو الملاحظات التجريبية التي دفعتهم إليها حاجتهم إلى الشراب والطعام والمسكن، واعتمدوا فيها على الأوهام.

ورغم اختلاف الباحثين في نشأة الفلسفة إلا أنهم أجمعوا على أن الفلسفة اليونانية كانت أعمق الفلسفات بحثًا، وأوسعها موضوعًا، وأحسنها تنظيمًا وترتيبًا، وقد استوى ساق الفلسفة على يد أفلاطون ومن بعده أرسطو.

والسبب في ذلك ـ أي في كون الفلسفة اليونانية أعمق الفلسفات ـ هو أن هناك بعض العوامل قد تضافرت على ازدهار الفكر الفلسفي باليونان دون غيرها من البقاع، وهذا ما سنبدأ بعرضه بإذن الله في المقالة القادمة.

([1]) فيثاغورث أو بيتاغوراس الساموسي هو فيلسوف ورياضاتي إغريقي (يوناني)، عاش في القرن السادس قبل الميلاد، وتنسب إليه مبرهنة فيثاغورث، وتحاك حول شخصية بيتاغوراس العديد من الروايات والأساطير ويصعب التحقق منها.

=============

#حينما نكتفي بالاستهلاك والبذخ بينما الآخرون ينتجون ويبدعون!

الخميس7 من محرم1428هـ 25-1-2007م الساعة 12:44 م مكة المكرمة 09:44 ص جرينتش

الصفحة الرئيسة > تحقيقات

... الإسراف ...

- الاستهلاك مرض يهدر إمكاناتنا.

- ننفق على الهواتف المحمولة والفياجرا ونهمل إنشاء المصانع!

- متى نتجاوز ثقافة المظاهر والاستهلاك ونعتنق ثقافة الجدية والإنتاج؟.

منى محروس

مفكرة الإسلام: تعاني مجتمعاتنا العربية من أزمة خطيرة يمكن تسميتها "الابتعاد عن صناعة التاريخ والحضارة" والاكتفاء بالنظر إلى الآخرين وهم يصنعوا هذه الحضارة وعدم مشاركتهم في هذا الشرف الكبير ومزاحمتهم فيه، كما فعلت شعوب أخرى كانت مثلنا وربما أقل منا ولكنها دخلت المعترك ونفضت عنها غبار الكسل والتخلف.

وأول مداخل صناعة التاريخ والحضارة هو أن نتحول إلى شعوب إنتاجية، ننتج طعامنا ولباسنا وسلاحنا وخدماتنا وآلاتنا، بل ونعمل جاهدين أن نغزو أسواق العالم لنبيع هذه المنتجات. لكن الواقع أننا نكتفي بالوقوف متفرجين ونكتفي بأن نكون مستهلكين، بل ومستهلكين ببذخ وإسراف.

والمدقق لحال شبابنا العربي يجده متعطلاً بلا عمل، مقيماً في المقاهي وأمام أجهزة الفيديو والتليفزيون يشاهد الأفلام والبرامج ذات الشكل الغربي، بينما الشباب الصيني يطرق علينا بيوتنا ليبيع لنا منتجات صينية بسيطة.

وإذا كان هذا هو حال الشباب، فإن نساءنا أيضاً أصبحن يتسابقن في شراء أدوات التجميل والأزياء الغربية والأجهزة الكهربائية المستوردة.

سفه وتبذير رغم سوء الأوضاع

يرى د. إبراهيم الشيخ أستاذ الاقتصاد أنه في الوقت الذي يبلغ فيه الاستهلاك العربي الترفي حد السفه، تقف العديد من الأرقام والإحصائيات المرعبة في الطرف المقابل للصورة، وهي أرقام بقدر ما تحمل من الجزع والهلع بقدر ما تحمل العديد من المفارقات الساخرة، التي تدل على مدى الهوة العميقة التي وقعنا فيها.

ففي الوقت الذي يبلغ فيه عدد سكان العالم العربي الآن 285 مليون نسمة، فإن إجمالي الناتج القومي في كل المنطقة العربية لا يتجاوز 730 بليون دولار، ولم يتجاوز معدل النمو الاقتصادي خلال 20 سنة 2%، بينما يبلغ معدل التضخم 3% سنويا، في الوقت الذي وصل فيه عدد العاطلين عن العمل بالعالم العربي إلى 18 مليون نسمة من مجموع القوى العاملة البالغة 98 مليون نسمة.

وفي الوقت الذي ينفق فيه العرب مليارات الدولارات على أجهزة الهاتف المحمول سنويا، فإن هناك حوالي 62 مليون عربي ( أي ما نسبته 22% من جملة السكان ) يعيشون على دولار واحد فقط في اليوم ، بينما يعيش 145 مليون عربي ( أي قرابة 52% من تعداد السكان العرب) على دخل يومي يتراوح ما بين 2 و5 دولارات، وفقا لإحصائيات التقرير الاقتصادي العربي الموحد لعام 2001 .

وتتجلى مفارقات الكوميديا الساخرة إذا علمنا أن الدخل القومي في المنطقة العربية في عام 2000 ( بدون عائدات النفط ) بلغ حوالي 70 مليار دولار، وهو رقم يقل عن الناتج القومي لفنلندا التي يبلغ عدد سكانها 5،5 مليون نسمة.

أما الدخل القومي للعالم العربي بعد إضافة عائدات النفط إليه فقد وصل إلى 234 مليار دولار، في الوقت الذي بلغت فيه صادرات سنغافورة وهونج كونج وحدهما خلال نفس العام نحو 250 مليار دولار، أي ما يتجاوز الناتج القومي للمنطقة العربية بأكملها.

ويتعجب د. إبراهيم الشيخ من أنه وسط سفه إهدار المليارات العربية على الفياجرا وحفلات الزفاف وتدخين الشيشة وأطعمة الكلاب والقطط، يطل علينا في المقابل شبح الديون الخارجية للدول العربية بوجهه القبيح، إذ تضاعفت هذه الديون في العقدين الماضيين بمعدل سبع مرات، ليصل حجمها إلى 325 مليارا عام 2000، بعد أن كانت لا تتجاوز 49 مليار دولار عام 1980، ولم يصاحب هذا الارتفاع زيادة مماثلة في الناتج المحلي الإجمالي، وبينما كانت هذه الديون تشكل 12% من الناتج المحلي الإجمالي للعالم العربي في بداية الفترة نفسها، أصبحت في نهايتها تشكل 46% من إجمالي هذا الناتج.

ووفقا للإحصاءات الرسمية فإن فائض الموازين التجارية للبلدان النفطية بدأ يتجه نحو الهبوط ، حيث انتقل من 123.3 مليار دولار في عام 1980 إلى 18.4 مليارا في عام 1998، كما ارتفع عجز الموازين التجارية للبلدان غير النفطية في الفترة نفسها من 14.8 مليار دولار إلى 24.7 مليار.

أما المديونية العامة الداخلية القائمة في ذمة الدول العربية فقد بلغت مع نهاية عام 2000 حوالي 304 مليارات دولار، وارتفع هذا الدين عن حجمه في عام 1999 بمقدار 28.1 مليار دولار، أي أن وضع المديونية الداخلية للدول العربية شهد ارتفاعا نسبيا في عام 2000، حيث ازداد حجم الدين الداخلي بنسبة 10.1% مقارنة بعام 1999.

مرض يهدر الإمكانات

ترى د. تهاني ناصر أستاذة إدارة الأعمال أن معظمنا في العالم العربي مصاب بمرض الاستهلاك الذي يصل عند قطاعات منا إلى مستوى الاستهلاك الترفي.

فنحن ننفق المال على سلع كمالية وفي مناسبات غير ضرورية، بقصد التباهي وحب الظهور وتعويض نقص اجتماعي معين.

وهناك أنواع من السلع لا نقدرها ولا نشتريها لصفاتها الذاتية، أو لاحتياجنا الفعلي لهذا ولكن وفقاً لما تمثله من مكانة اجتماعية.

والسلوكيات الاستهلاكية بدأت تتغير اليوم، إما بسبب ثورة المتغيرات والإنتاجية الكبيرة، أو لأننا ننتهج مسلكاً استهلاكياً لإخفاء شيء في نفوسنا، كمستوانا المالي أو الثقافي مثلاً، ولذلك كان خيارنا عشوائياً، حسب ما يمليه ذوق المصمم أو حسب النص الإعلاني في وسائل الإعلام.

والاستهلاك الترفي يعد مرضاً اقتصادياً اجتماعياً بسبب غياب الضابط الاجتماعي في عملية الاستهلاك الترفي، فالكثير من الإمكانات التي لا يستفاد منها بشكل صحيح، بإمكانها أن تشارك في عملية التكافل الاجتماعي.

وهذا الاستهلاك الترفي يمثل هدراً لإمكاناتنا الاقتصادية: فالثروات الاقتصادية ينبغي في الدرجة الأولى، أن تتوجه إلى تقوية البنية التحتية للمجتمع، والاستهلاك الترفي، هو ضرب من ضروب هدر الإمكانات والقدرات الاقتصادية في غير موضعها الطبيعي.

ثم إن الحضارات والمدنيات لدى المجتمعات الإنسانية قاطبة، لا تقوم على الاستهلاك وتداعياته الاقتصادية والاجتماعية، بل على المزيد من توجيه الثروات إلى عمليات الإنتاج في إطار مؤسسات وجمعيات ترجع بالنفع على الجميع.

وتضيف د. تهاني ناصر أن نمط السلوك الاستهلاكي يتأصل لدى الطفل منذ الصغر، وعملية التنشئة الاستهلاكية هي عملية مستمرة يتعلم الطفل من خلالها المعارف والمهارات والاتجاهات التي تتناسب مع حصوله على المنتجات.

ومما لاشك فيه أن دور الأسرة مهم فالطفل يتعلم السلوك الاستهلاكي داخل أروقتها قبل أن يخرج إلى العالم الخارجي.

وتستطيع الأسرة الواعية أن تدرب الطفل على التعامل مع المواقف الاستهلاكية كعملية الشراء ومفهوم الميزانية مثلاً لكن ذلك يحدث نادراً لدى أسرنا فقد طالت حمى الاستهلاك الترفي أصحاب الدخل المحدود في مجاراة للنمط العام.

واقع مؤلم

وفي مصر التي تعاني من مشكلات اقتصادية عديدة تنتشر أيضاً ظاهرة الإنفاق الترفي الاستهلاكي والأرقام تقول إن المصريين يدفعون سنويا في مكالمات المحمول أكثر من مليارين ونصف مليار جنيه، كما يدفعون أيضا نفس المبلغ في شراء أجهزة محمول جديدة سنويا، أي أن الحصيلة الإجمالية للإنفاق على المحمول في مصر تتجاوز 5 مليارات جنيه سنويا، في الوقت الذي يكشف فيه تقرير لجنة التعليم والشباب بمجلس الشورى عن أن عدد المتعطلين عن العمل يقترب من مليون ونصف مليون شاب ، تقدر تكاليف إيجاد فرص عمل لهم بنحو20 مليار جنيه، وهو ما يعني أن ما ينفقه المصريون على التليفون المحمول في 4 سنوات كفيل بالقضاء على مشكلة البطالة.

كما تكشف الأرقام أيضاً أن المصريين مثلا ينفقون ما قيمته مليار جنيه سنويا على الفياجرا، بل وتصل إحصائيات أخرى بهذا الرقم إلى 7 مليارات جنيه، في الوقت الذي تبلغ فيه ميزانية المجلس الأعلى للشباب والرياضة ـ الذي يرعى 34 مليون شاب يمثلون أكثر من نصف المجتمع ـ نحو 220 مليون جنيه، أي أن متوسط نصيب الشاب الواحد لا يتجاوز 6 جنيهات تقريبا في السنة !! بينما ينفقون حوالي15 مليار جنيه علي المخدرات، و13 مليارا أخرى علي الدروس الخصوصية، و3 مليارات علي الكتب الخارجية، و20 مليون جنيه على "الآيس كريم" المستورد، بالإضافة إلى استيراد سلع استفزازية أخرى مثل طعام القطط والكلاب واللبان ومستلزمات الأفراح بنحو مليار جنيه .

كما كشفت دراسة ميدانية مصرية أجراها الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء عن أن المصريين ينفقون على السجائر والتدخين 4 مليارات جنيه سنويا، وهو ما يعادل 3% من إنفاق الأسرة المصرية تقريبا، يضاف إليها مبلغ 2.6 مليار جنيه أخرى يجري إنفاقها على المقاهي والفنادق، في حين أن هناك 4.3 مليون أسرة يقل دخلها السنوي عن 3 آلاف جنيه ( أي ما يعادل 250 جنياً شهريا )، ومليونين و768 ألف أسرة يقل دخلها عن 6 آلاف جنيه سنوياً.

أنماط الحياة الجديدة

ويلفت د. رمضان الجوهري أستاذ علم الاجتماع الأنظار إلى قضية أخرى فيقول: هناك أنماط حياة جديدة أصبحنا نشاهدها في مجتمعاتنا بتأثير العولمة التي دخلت حياتنا في أدق التفاصيل، وأثرت حتى في تعريف هوية ونمط حياة وشخصية الفرد، أو ما يعرف بـ"life style". وتتنوع مظاهر "اللايف ستايل" في حياة الجيل الجديد بين الملابس، قصة الشعر ولونه، طريقة الكلام والتحدث باللغة الانجليزية وأحيانا طغيانها على لغتنا الأم "العربية"، أو طريقة التعبير عن الشخصية والآراء، وغيرها من طرق التعبير.

ونحن نعتبر هذه الظاهرة دليل على السطحية والتباهي والتأثر بشكليات الثقافة الغربية التي تؤثر على أسلوب حياتنا إيجابا وسلبا، في حين يعتبر البعض الآخر "اللايف ستايل" طريقة للتعبير عن شخصية الفرد وما يندرج تحتها من مظاهر.

ويضيف د. رمضان الجوهري: لقد تخلصت الشعوب العربية من الاستعمار الظاهر، لكنها اليوم نعاني استعماراً من نوع آخر، فالعولمة أدت إلى حدوث اختراق لكل شعوب العالم ومن أهم ما جنته المجتمعات العربية انها أصبحت مجتمعات استهلاكية.

والقضية ليست أن ندعو إلى ترشيد الاستهلاك، فنبدأ في الضغط على الأبناء في مصروفاتهم، وإنما الترشيد سياسة للتعامل مع المال الذي هو من عصب الحياة.

ترشيد الاستهلاك هو نمط يتوجه إلى إنماء النعم والثروات، عن طريق العمل على تحويل هذه النعم إلى مصادر دخل دائمة لصالح المواطن المستهلك، إنه نقل هذه الثروات من دائرة الاستهلاك إلى دائرة الإنتاج.

خطورة الإنفاق الاستهلاكي

ويتحدث د. عبد المجيد الضبع أستاذ إدارة الأعمال عن ظاهرة المجتمع الاستهلاكي التي تنتشر في بلادنا العربية فيقول إن المجتمع الاستهلاكي هو مجتمع يسوده المال من ناحيتين، من حيث يلهث فيه المرء وراء الكسب ليتمكن من استهلاك أوفر ورفاهية أفضل، ومن حيث أن حركة الاستهلاك موجهة بالفعل ومخطط لها بشكل مدروس ومبرمج. وفي هذا المجتمع تنتشر ظاهرة الشراء التلقائي، ويقصد بها شراء سلع لم تكن في ذهن المشتري قبل دخول المتجر، وهناك ظاهرة حمى الشراء أو النهم الاستهلاكي،لأن الإدمان على الشراء لا يقل خطراً ودماراً نفسياً عن خطر الإدمان على الكحول أو المخدرات، وهناك أيضاً ظاهرة الاستهلاك الترفي، وهو الإنفاق على سلع كمالية وفي مناسبات غير ضرورية.

ويرى د. الضبع أن الإنفاق الاستهلاكي يأتي كنتيجة طبيعية لضعف الالتزام بقواعد النظام الاقتصادي الإسلامي، وقد أدى ذلك إلى ارتفاع الميل الحدي للاستهلاك وزيادة الاتكالية والاعتماد على الخدمات الحكومية والزيادة المفرطة في الاستيراد للسلع والخدمات للترفيه والإنفاق البذخي، وكان من نتيجة هذا المسار الإنفاقي المغلوط، إضافة إلى المسار التنموي المغلوط في البلاد الإسلامية، أن لجأت الدول الإسلامية إلى محاولة سد العجز بالاعتماد على الاحتياطي العام وعلى الاستثمار الخارجي.

مجال آخر للسطحية والشكلية

ويلفت د. أحمد اليمني النظر إلى أن هناك مئات المليارات التي ينفقها العرب من الرجال والنساء، بحثًا عن الجمال في الشكل والهيئة من خلال جراحات التجميل، والتي أضحت تشمل الطبقة العادية والمتوسطة من الأسر العربية بعدما كانت مقصورة من قبل على المشاهير والأغنياء وصفوة المجتمع فقط، وبالتالي أصبحت محاكاة الغرب في إنفاق المليارات سنويا على عمليات شد الوجه وتصغير الأنف وتكبير وتصغير الثديين وشد البطن وشفط الدهون وزراعة الشعر من الأمور المعتادة

=============

#الشك العلمي عند المسلمين تفوق على الغرب

الخميس15 من ذو الحجة 1427هـ 4-1-2007م الساعة 02:43 م مكة المكرمة 11:43 ص جرينتش

الصفحة الرئيسة > تحقيقات

... أحمد فؤاد باشا ...

- العلم هو الفريضة الغائبة في مجتمعاتنا.

- عدم إدراكنا لتاريخ العلم وفلسفته يجعلنا نخسر ملايين الدولارات.

منى محروس

مفكرة الإسلام : "تاريخ العلم وفلسفته وأثرها في التنمية" .. كان موضوع الندوة التي نظمتها أكاديمية البحث العلمي وتحدث فيها د. أحمد فؤاد باشا، نائب رئيس جامعة القاهرة، والعميد السابق لكلية العلوم بجامعة القاهرة الذي بدأ حديثه قائلاً إننا يجب أن نتوقف عند ثلاث كلمات (علم – فلسفة العلم – تنمية) فالعلم عند العرب هو الإدراك الصحيح لحقائق الأشياء .. والعلم نقيض الجهل ويقصد منه في معناه العام أنه لفظ كلي لا يدل على موضوع معين .. والعلم غير المعرفة فالعلم نقيضه الجهل والمعرفة موضوعها الفكرة ولذا يقال علم الله .. والله عليم ولا يقال عرف الله والله عارف.

إلا أن الخلط يبدأ عندما تذكر كلمة العلم فينصرف الفهم إلى المصطلح الشائع وهو (Science) وهنا يحدث الخلل لأن مفهوم هذه الكلمة عند أصحابه عليه اختلاف كبير.

وقد صنف علماء المسلمين العلوم إلى قسمين علوم نقلية وعلوم عقلية ،وكان لهذا التصنيف أثره السيئ عندما سميت العلوم الشرعية بالنقلية وسميت العلوم الحديثة بالعقلية أو الدخيلة ،كما أنهم صنفوا العلم الطبيعي إلى فرض كفاية ففهم الناس من ذلك أنه من قبيل تحصيل الحاصل ،لكنه في الحقيقة أخطر من فرض العين .. فطالما أن العلم لا يؤدي دوره في المجتمع فتعتبر الفريضة غائبة.

فالفرض العين كالصلاة والصيام يخص الفرد فقط ،أما الفرض الكفائي كالعلم مثلاً فيخص الأمة كلها .. ومن هنا فينبغي وضع العلم فقه العلم والتقنية أي معرفة غايته ودوره في مقدمة الأولويات.

أما تاريخ العلم فيتميز عن تاريخ الأمم والأشخاص بأنه يتكون من مقولات وحقائق علمية قابلة للتحقيق والاختبار والاستنتاج إذا ما توفرت لها نفس الظروف أو اتبع في استنتاجها نفس الأسلوب ،أي أننا نستطيع أن نعيد تجربة أرشميدس مرة أخرى لكننا لا نستطيع إعادة حملة نابليون مثلاً.

أي أن مادة تاريخ العلم الأساسية هي مادة تاريخ العلم نفسه ولغته الموضوعية .. إلا أن هذه الموضوعية تهتز أحياناً بتحيز المؤلف إلى بلده ،ففي كتب المقررات العلمية لو كان الكتاب مؤلفاً في فرنسا فإنه يتحدث كما لو كان كل العلماء الذين صاغوا العلم فرنسيين وهكذا . وكذلك هناك تحيز بالنسبة لمرحلة تاريخية معينة أو لعالم معين. كذلك فإن مؤرخ العلم والتقنية لا يستطيع إلا أن يضع النشاط العلمي والتقني في إطاره الاجتماعي والثقافي .. فالمعرفة الإنسانية تفقد طابعها العلمي متى نسي الناس الظروف التي نشأت في أحضانها.

أما فلسفة العلم .. فإنه من العلوم البينية التي يتجاذبها الفلاسفة والعلماء ،إلا أن نصيب العلماء فيه أكبر عندما يكون الحديث فيه عن لغة العلم والتجارب العلمية والإنجازات العلمية ،ويكون نصيب الفلاسفة منه أكبر عندما يكون الحديث مرتبطاً بالأصل الفلسفي عن نظرية المعرفة .. وكانت فلسفة العلم تقتصر حتى وقت قريب على مناهج البحث العلمي ،إلا أن الأمور تغيرت الآن وأصبح هذا العلم مهتماً بجوانب كثيرة تسهم في تشكيل العلم ودفع حركة تقدمه .. فالبيئة الاجتماعية ومدى تقبل المجتمع لنظرية علمية ما .. كل ذلك أدى إلى ظهور علم اجتماع العلم وأصبح مبحثاً مستقلاً ،وأيضاً الجوانب النفسية أسفرت عن مبحث يسمى سيكولوجية العلم.

وهكذا تعددت المباحث المتعلقة بالعلم .. لدرجة أن العلماء الآن لا يتحدثون عن العلم ولكنهم يتحدثون عن (علوم العلم) ويعتبر تاريخ العلم جزءاً من علوم العلم.

أما مصطلح التنمية فنقصد به كل ما يخطط له ويتم تنفيذه على نطاق الإنسان والمجتمع والبيئة مما يعتبر مجالاً للنماء والكثرة واستبدال الحال بما هو أفضل وتحسين ظروف الحياة والتقدم في سلم الرخاء.

الاهتمام العالمي بالتراث العلمي

فعلى مستوى العالم تم إنشاء مؤسسات علمية أكاديمية في الكثير من الجامعات لرعاية تاريخ العلم وفلسفته وتم إصدار أكثر من مائة مجلة متخصصة ودورية في تاريخ العلم. وهناك عدد كبير من العلماء والفلاسفة يهتمون بتأليف الكتب في موضوع تاريخ العلم وفلسفته ،ونسمع عن (بنية الثورات العلمية لتوماس كون) و(منطقة الكشف العلمي لكارل بوبر) وكتب كثيرة دار حولها نقاش طويل وخطير في الغرب بينما كان إحساسنا بها ضعيفاً جداً.

كما أن هناك اهتماماً بتنشيط الجهود الدولية لإعادة نشر الأعمال الكاملة للنابهين من العلماء على مر العصور ليس فقط بهدف تخليد ذكراهم وإزكاء الانتماء ،ولكن أيضاً بهدف إتاحة الفرصة للباحثين المعاصرين لكي يقرءوا هذه الأعمال قراءة جديدة.

وقد حدث أن لجأت الهيئات المسئولة عن نشر الأعمال الكاملة (لبرنولي) إلى تدعيم جهودها عن طريق الاكتتاب ويجري حالياً إعداد طبعة جديدة من هذه الأعمال من خلال التعاون بين أكثر من 7 دول سوف تصدر تباعاً في نحو 45 مجلداً.

وقد بدأت أمريكا في تبني هذا المبدأ لإصدار أعمال العديد من العلماء أمثال جاليليو في إيطاليا ونيوتن في إنجلترا وجاوش في ألمانيا وديكارت ولابلاس في فرنسا.وإذا أردنا الاهتمام بإحياء تراثنا العلمي العربي فلا مانع من إشراك هذه الدول المتقدمة معنا لأنها إذا كانت رغم هذا التقدم وهذه الإمكانيات تلجأ إلى الاكتتاب لمساعدتها في نشر هذه الأعمال وإلى التعاون بين أكثر من 7 دول .. وإذا كانت هذه الدول تقول إنها مهتمة بالتراث العلمي العالمي في العالم كله بما فيه العالم الثالث.. وبما أننا أسهمنا بنصيب وافر في هذا التراث حيث إن الحضارة العربية الإسلامية من أطول الحضارات التي عرفها التاريخ الإنساني... فنحن أحق الناس بإعادة نشر تراثنا.

نموذج لندوة أوروبية في تاريخ العلوم والثقافة

وقد عرض د. أحمد فؤاد باشا ملخصاً لتقرير عن ندوة عقدت في فلورنسا مؤخراً واشترك فيها عدد كبير من العلماء الأوروبيين المتخصصين في الموضوع. حيث أشار إلى أن العلم قد يوصف بأنه "معرفة بدون ذاكرة، وأنه يشق طريقه إلى الأمام دون التفاتة واحدة للخلف ،والباحثون أنفسهم متعلقون في حاضر شبه دائم .. فالمقالات التي ترد في دوريات علمية نادراً ما يشار فيها إلى مراجع يزيد عمرها عن 6 سنوات".

وطبقاً لما قاله أحد المشاركين في الندوة فإنه إذا كان فقدان الذاكرة هذا قد أسهم في وقت من الأوقات في زيادة فاعلية المشروع العلمي إلا أنه قد بدأ الآن يصبح مضاداً للإنتاجية ، والباحثون المحرومون من الثقافة التاريخية والمنعزلون عن الأسس التي تقوم عليها علومهم يميلون إلى أن يضلوا طريقهم ويضاعفوا أخطاءهم ،وهؤلاء الباحثون قد يظلون دائرين في حلقات مفرغة في مسارات سبق اكتشافها من قبل واتضح أنها تفضي إلى نهايات مسدودة.

وبعض الاكتشافات التي تقدم الآن على أنها ثورية مثل الموصلات الفائقة ونظريات الفوضى قد لا تكون في الحقيقة سوى إعادة تشكيل لبعض الأفكار القديمة التي أهملت ونسيت من سنين عديدة.

ويتندر البعض في أحد المؤتمرات العلمية العالمية على إحدى الدول العربية التي أرادت أن تنشئ مصنعاً لصمامات الراديو قبل أن يظهر الترانزيستور. وتكلف المصنع 30 مليون دولار .. وما أن انتهى بناء المصنع كانت تقنية الصمامات كلها قد انتهت.

فلو كان متخذ القرار السياسي عنده إلمام بهذا الموضوع لما حدث ذلك .. فمفهوم أجيال التكنولوجيا كان غائباً عند اتخاذ القرارات الهامة وهكذا فإن الموضوع مرتبط بترشيد التنمية وتوجيه الثقافة العلمية.

الدور الإسلامي وخصوصيته في تاريخ العلم والتقنية

إن جان دونبريه الذي يعمل حالياً أستاذاً للرياضيات في جامعة نانت وكان رئيساً للجمعية الفرنسية لتاريخ العلوم والتقنيات يقر بوجود فجوات واسعة في الأعمال التي يتضمنها النشاط الدولي في هذا المجال فيقول : "ليس للعلماء غير الغربيين أي وجود في هذه النشاطات حتى إنهم لم يحظوا حتى بالإعلام عنهم بأي أسلوب" .. ويضيف "نحن اليوم لا نزال نعرف شارحي إقليدس بدءاً من ثابت بن قرة إلى ادلارد ومن جيرال الكريموني إلى عمر الخيام الذي لا يمكن إنكار دوره أيضاً كشاعر مبدع وعالم في الرياضيات".

وهكذا ينصف هذا الرجل الدور العربي والإسلامي في تاريخ العلوم والحضارة ونحن نضيف من جانبنا أن هذا التحيز الواضح في الاهتمام العالمي بتراث العلماء الغربيين دون غيرهم يجب أن يقابله جهد مكثف من جانب أصحاب الحضارات المختلفة التي أسهمت في صنع التقدم العلمي والتقني عبر الأجيال .. وخاصة نحن أبناء الحضارة الإسلامية الزاهرة التي أنجبت الكندي والفارابي والرازي والبيروني والقزويني والخيام وابن سينا وابن الهيثم وغيرهم الكثير حين ظلوا لأكثر من ثمانية قرون يشعون على العالم علماً وفناً وأدباً وحضارة.

ولا نعلم اليوم شيئاً عن أغلب مؤلفاتهم ومخطوطاتهم المفقودة أو التي لا تزال بكراً في مظانها المختلفة تنتظر من يتولى البحث عنها لتحظى بالتحليل والدراسة .. إلا أن العلم يوظف في كثير من الدول بطريقة تخدم أيديولوجيات وفلسفات في هذه الدول .. فمثلاً في قضية مثل محاولة فهم تطور العلوم أو العلاقة بين تاريخ العلم وفلسفة العلم فقد تعرض لها الفيلسوف المعاصر (توماس كون (فإنه يقرر كيف يتقدم العلم فيقول : "العلم يسير في قفزات ،فالأبحاث العلمية تظل سائدة في إطار نموذج قياسي معين أي فكر سائد معين ،ثم تظهر نتائج جديدة يتبعها بعض الكشوف الثورية التي تناقض هذا الفكر السائد فتؤدي بذلك إلى مرحلة جديدة لها فكر جديد ،وهذا الفكر الجديد يستمر لفترة معينة ثم تأتي القفزة التالية .. وهكذا فمثلاً لفترة طويلة كان الناس يتصرفون على أن الأرض هي مركز الكون والأفكار والفلسفات والأبحاث تتم في إطار هذه الرؤية ، لكن نشأت بعض النتائج العلمية التي تتعارض مع هذا النموذج ولديها قدرة أكبر على تفسير الظواهر والأشياء ،أسفرت بعد ذلك عن مركزية الشمس فأصبحنا في إطار جديد وأصبح العلماء يبحثون في إطار هذا النموذج".

ورغم أن توماس كون منطقي إلا أنه جانبه الصواب حينما رأى أن العلم بدأ فقط بعصر النهضة الأوروبية الحديثة وأطلق على ما قبل ذلك مرحلة اللاعلم .. ولكن بحكم منهجه ومقولاته هو نفسه فإن مفهوم الثورة العلمية ينطبق على عالم مثل الحسن بن الهيثم .. لأنه إذا كان الفكر السائد في عصر الحضارة الإغريقية قائماً على التأمل العقلي الفلسفي الخالص ،وكنا أمام مجموعة من النظريات في مجال الضوء لا نستطيع أن نفضل واحدة على أخرى طالما أننا لا نحتكم إلى التجربة .. وكان يمكن أن يستمر هذا الحال طويلاً لولا أن جاء الحسن بن الهيثم ولجأ إلى التجربة العلمية والملاحظة واستطاع أن يقرر أن عملية الإبصار تتم "بانعكاس الضوء أو انعطافه من الأجسام على العين".

فلو لم تظهر هذه المقولة على بساطتها لتأخرت مسيرة علم البصريات بالذات وهو السبب في تقدم كل العلوم الأخرى إلى حد كبير.

الشك العلمي بين علماء الغرب وعلماء المسلمين

يقول العلماء عن الشك المنهجي إنه أول مراحل التفكير العلمي وهو شك مؤقت الغرض منه الوصول إلى مزيد من الدقة وليس الشك المذهبي أو المرضي الذي يبدأ فيه الإنسان شاكاً وينتهي شاكا .. وسنأخذ مثالين أحدهما غربي والآخر إسلامي في هذه القضية ونقارن بينهما. فكارل بوبر الذي يباهي به الفكر الغربي كأحد عمالقته في الفكر العلمي وفلسفة العلم وهو كذلك يعرف العبارة العلمية بأنها (العبارة التي يمكن إخضاعها باستمرار لمعيار الدحض والتكذيب، وكان الوضعيون يعرفونها بأنها العبارة التي يمكن التثبت منها بالمشاهدة والتجربة).

وهكذا فإن بوبر يقول أنا لا أثق في هذا القانون بل أتهمه ،فهو قانون غير صحيح وسأظل أبحث عن التجارب التي تثبت تكذيب هذا القانون ودحضه ،وطالما أنه ثابت لعمليات الهجوم هذه فهو صحيح وسأتعامل معه ،ولكن في اعتقادي أنه قانون مؤكد وسيأتي يوم أنجح فيه في دحض هذا القانون والوصول إلى قانون أقوى منه قادر على تفسير الموضوعات والظواهر العلمية.

وعليه فإن بوبر لا يؤمن بحقيقة علمية مطلقة فيقول : إننا لا نعلم ولكننا نخمن فقط.

ولذلك نجد "راسل" يصف خلاصة الفكر المادي بقوله (والإنسان وليد عوامل ليست بذات أهداف .. إن بدايته ونشوءه وأمانيه ومخاوفه وعقائده كلها جاءت نتيجة ترتيب رياضي اتفاقي في نظام الذرة .. والقبر ينهي حياة الإنسان ولا تستطيع أية قوة إحياءه مرة أخرى .. إن الكفاح الإنساني كله سوف يدفن حتماً تحت أنقاض الكون ،ولو لم تكن هذه الأفكار قطعية فإنها أقرب ما تكون إلى الحقيقة ،حتى أن أي فلسفة تحاول إنكارها ستلقى فنائها تلقائياً) .. فهذا نموذج غربي علمي تفكيره مادي الحادي بحت.

وفي المقابل وفي نفس الموضوع الذي تحدث فيه بوبر يقول ابن الهيثم في معالجته لقضية الشك نفسها (إني لم أزل منذ الصبا مروياً في اعتقادات الناس المختلفة وتمسك كل منهم بمعتقده من الرأي ،فكنت متشككاً في جميعه موقناً بأن الحق واحد وأن الاختلاف فيه إنما هو من جهة السلوك إليه، فلما كملت لإدراك الأمور العقلية انقطعت إلى طلب معدن العلم ،ووجهت رغبتي وحرصي إلى إدراك ما به، تنكشف تمويهات الظنون وبعثت عزيمتي لتحصيل الرأي المقرب إلى الله .. فرأيت أنني لا أصل إلى الحق إلا من آراء يكون عنصرها الأمور الحسية وصورتها الأمور العقلية.(

ويقول ابن الهيثم أيضاً في مقالته الشكوك على بطليموس (الحق مطلوب لذاته .. وكل مطلوب لذاته فليس يعني طالبه غير وجوده ،والحقائق منغمسة في الشبهات ، وحسن الظن بالعلماء في طباع جميع الناس ،فالناظر في كتب العلماء إذا استرسل مع طبعه وجعل غرضه فهم ما ذكروه حصلت الحقائق عنده .. وما عصم الله العلماء من الزلل ولا حمي علمهم من التقصير والخلل ،ولو كان ذلك كذلك لما اختلف العلماء في شيء من العلوم ولا تفرقت آراؤهم في شيء من حقائق الأمور والوجود بخلاف ذلك.

فطالب الحق ليس هو الناظر في كتب المتقدمين المسترسل مع طبعه في حسن الظن بهم بل طالب الحق هو المتهم لظنه فيهم المتوقف فيما يفهمه عنهم المتبع الحجة والبرهان لا قول القائل الذي هو إنسان المخصوص في جبلته بضروب الخلل والنقصان .. والواجب على الناظر في كتب العلوم إذا كان غرضه معرفة الحقائق بأن يجعل نفسه خصماً لكل ما ينظر فيه ،ويحيل فكره في جميع حواشيه، ويخصمه من جميع جهاته ونواصيه ويتهم أيضاً نفسه عند خصامه .. فإنه إذا سلك هذه الطريقة انكشفت له الحقائق).

هذا هو كلام ابن الهيثم وهو نفس كلام بوبر ولكن الإطار الفكري الإيماني يغلفه والفائدة منه أكبر وأعم .. فهو يقدم الشك العلمي في منهج نقدي تجريبي قادر على بلوغ الحقيقة العلمية الجزئية بأكبر قدر ممكن من اليقين.

==============

#د. صوفي أبو طالب يواصل تفنيد حجج المعترضين على تطبيق الشريعة

الخميس15 من ذو الحجة 1427هـ 4-1-2007م الساعة 02:33 م مكة المكرمة 11:33 ص جرينتش

الصفحة الرئيسة > حوارات

... صوفي أبو طالب ...

صوفي أبو طالب

- الصحوة الإسلامية قادت الدعوة إلى تطبيق الشريعة.

- كل الاعتراضات على تطبيق الشريعة من السهل الرد عليها وتفنيدها.

- الشريعة فيها من المرونة ما يواجه تطور مجتمعاتنا.

- الأقليات غير الإسلامية في بلادنا ليست عائقاً أمام تطبيق الشريعة.

- الشريعة الإسلامية تضارع أرقى النظم القانونية الموجودة وتتفوق عليها.

- الدستور المصري ابتداءً من 1971 لا يجيز إصدار قوانين تخالف الشريعة.

حاوره/ أحمد وهدان

مازال الحديث متصلاً وهو عن موضوع "تطبيق الشريعة الإسلامية" والذي تحدث فيه د. صوفي أبو طالب رئيس مجلس الشعب وأستاذ الشريعة بكلية الحقوق جامعة القاهرة.

وقد تحدث د. صوفي في الجزء السابق عن السياق التاريخي لإزاحة الشريعة الإسلامية وإحلال القوانين الغربية محلها حتى وصلنا إلى مرحلة تم فيها صبغ المجتمع بصبغة غير إسلامية. وها هو الحديث يتصل.

* ما هي ردود الفعل التي حدثت داخل مجتمعاتنا العربية في أعقاب انحسار تطبيق الشريعة الإسلامية؟.

** انحسار تطبيق الشريعة وظهور أنماط الحياة الغريبة كان له ردود فعل ثلاثية، فكان هناك رد فعل إسلامي صرف ويتهم الحضارة الأوروبية بالكفر والإلحاد وأننا لا نريد منهم شيئًا، وهذا هو الفكر الذي ينظر في القرن الأولى فإذا وجد هذا الأمر قد فعله السابقون فبها ونعمت وإلا اعترض عليه.

وعكس هؤلاء يقف العلمانيون الذين يفصلون بين الدين والدولة ويقولون لا دخل لنا بما قاله الفقهاء المسلمون وإنما نأتي بكلام الأوروبيين جاهزًا ونطبقه ونتقدم كما تقدموا. وكان رد الفعل الثالث هو مذهب الوسط الذي حمل لواءه جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده وقالوا نحافظ على الأصالة الفكرية الإسلامية وننقل ما لا يتعارض مع الأصالة الإسلامية مثلما فعل الأولون، فحينما جاء الإسلام لم يكن عند العرب حضارة، وبدءوا يفهمون الحضارات السابقة عليهم ويفهمون فلسفة الكتاب والسنة ثم أبدعوا حضارة جديدة اعتمادًا على هذه الحضارات بما لا يهدم الأصل. ونحن الآن مطالبون بأن نفعل مثلما فعل هؤلاء الأوائل، فالإسلام يقول شورى والنظم الأوروبية تقول ديمقراطية والإسلام يقول بيعة والنظم الأوروبية تقول صناديق انتخابات.

والذين يفتقدون المرونة يقولون إن إبداء الرأي بورقة في صندوق الانتخابات لا يمكن أن نوافق عليه لأنه لم يكن على أيام المسلمين الأوائل، وكذلك يقولون عن الديمقراطية، رغم أن روح الديمقراطية هي نفس روح الشورى، والنتيجة واحدة وإن اختلفت الأساليب. ولذلك فلا يحق لنا الاعتراض طالما أن الأمر لا يخالف أصلاً إسلاميًا. بينما يختلف الأمر بالنسبة للعلماني الذي يقول بالفصل بين الدين والدولة وألا تكون هناك وزارة أوقاف، وأن الحكومة ليس لها دخل بالدعوة للدين وحمايته، وظلت ردود الفعل هذه تفعل فعلها في المجتمع وحمته من التحول وتغيير الجلد تمامًا كما حدث في تركيا.

* هل كان ظهور الحركة الإسلامية الحديثة داعماً لقضية تطبيق الشريعة؟

** لقد قامت الصحوة الإسلامية وهي تهدف إلى أمرين: أحياء التراث الإسلامي بعد ما حصلت الدول الإسلامية على استقلالها، والعودة إلى تطبيق الشريعة الإسلامية ليس حنينًا للماضي ولكن إظهارًا للذات الإسلامية لهذه الأمة. إن الحضارة دائمًا أبدًا فيها جانبان جانب مادي والآخر معنوي، فالجانب المادي يمكن نقله من مكان لآخر كالعلوم التجريبية والتطبيقية، والجانب المعنوي هو الذي يميز شعبًا عن آخر. فهناك شعب يشرب الشاي بعد الظهر وشعب آخر لا يفعل ذلك .. الخ. وحينما يتخلى الشعب عن الجانب الثقافي المعنوي فإنه يفقد ذاتيته فيمن نقل عنه. والشعب الذي يتمسك بخصائصه الثقافية والفكرية وينقل الجانب المادي يظل محتفظًا بذاتيته، كما فعلت اليابان حيث نقلت الجانب المادي كله من أمريكا وأوروبا، ولكن لازالت اليابان هي اليابان، يأكلون على الطبلية وينامون على مرتبة على الأرض ويحيون على طريقتهم ويعطف الكبير على الصغير ويحترم الصغير الكبير. إن الجزائر بلد يتحدث الفرنسية وفقد اللغة العربية وفقد الخصائص العربية وبدأ يصبح جزءًا من المجتمع الفرنسي، وما يحدث الآن في الجزائر نتيجة للصراع بين فريقين فريق يطالب بالعودة إلى الإسلام والتقاليد الإسلامية وفريق يريد أن يعيش على النمط الفرنسي.

وهكذا فإن الشريعة الإسلامية هي المظهر الثقافي للمسلمين، والبلاد التي تنقل القوانين الأوروبية والنظام الاقتصادي والسياسي الأوروبي ليس لديها تراث حضاري في هذا الشأن وهم معذورون. لكن ما هو عذر المسلمين الذين لديهم تراث حضاري عظيم في هذا الشأن فلماذا نتركه؟.

والهدف الثاني الذي قامت من أجله الصحوة الإسلامية هو أن المسلم مخاطب في سورة المائدة من خلال ثلاث آيات تلزم المسلم وتطالبه بتطبيق أحكام الشريعة الإسلامية أي الحكم بما أنزل الله وتصف من لا يفعل ذلك مرة بالكفر ومرة بالظلم ومرة بالفسق، فالمسلم لا يكتمل إسلامه إلا بتطبيق أحكام الشريعة الإسلامية. كما أن احترامي للقانون حينما يكون نابعًا من داخلي أفضل ألف مرة من الضوابط التي توضع لاحترام القانون الوضعي.

وهذا الاحترام الداخلي يتوفر للشريعة الإسلامية، فالمسلم يحترم الشريعة لأنها نابعة من داخله. فهناك كثير من التجار يغشون لكنهم يصرون على إخراج زكاتهم والذهاب للحج رغم أن الزكاة والحج جزاؤهما مؤجل ليوم القيامة بينما الغش عقوبته الآن وهي الحبس، لكن المسلم يخاف من الخالق دون أن يوجد رقيب عليه. وهكذا فإن تطبيق الشريعة يجعل الناس تخدم القانون وتعود إليه. وخاصة أن بضاعة الشريعة الإسلامية تضارع أرقى النظم القانونية الموجودة إن لم تتفوق عليها. هذه كلها أشياء دعت الصحوة الإسلامية إلى ضرورة العودة إلى الشريعة الإسلامية.

* ما هو واقع العالم الإسلامي اليوم بالنسبة لتطبيق الشريعة؟

** العالم الإسلامي اليوم به ثلاثة نماذج: الأول أكثر قوانينه من الغرب وقليل من الشريعة وضمن هذا النموذج كثير من الدول العربية وكثير من الدول الإسلامية.

والنموذج الثاني أكثر قوانينه من الشريعة وأقلها من الغرب ويدخل في هذا النموذج السعودية واليمن والإمارات والسودان. والنموذج الثالث هو الذي حاول التوفيق بين النموذجين مثلما تفعل مصر وباكستان. إلا أنه يجمع الدول الإسلامية عمومًا أنها كلها تطبق قوانين الأحوال شخصية من الشريعة الإسلامية.

* ما هي حكاية مصر مع تطبيق الشريعة وتقنين القوانين لكي تتفق معها؟

** ابتداءً من عام 1971 لا يجوز للبرلمان المصري أن يصدر قانونًا يخالف الشريعة الإسلامية لأن النص الدستوري يطالب بضرورة العودة للشريعة الإسلامية. وأي قانون يصدر مخالفًا للشريعة يصبح غير دستوري ويطعن فيه بعدم الدستورية، إلا أن هناك أمر هام يجب الانتباه إليه وهو أن تكون المخالفة للشريعة في الأمور القطعية التي لا خلاف عليها فهنا يحكم القضاء بعدم جوازها وعدم دستوريتها.

وهذا لا ينطبق على الجزئيات التي تكون مصدر اختلاف، فالأمور القطعية والتي هي قواعد قانونية مؤبدة ولا تتغير ولا تتعدل لوجود النص الصريح فيها مثل أنصبة المواريث وخلافه فهي أمور ثابتة وأصول، وهي قليلة في الفقه الإسلامي ولكن لا يسع أحد مخالفتها. أما الأمور الظنية غير القطعية والتي وردت في أحاديث الآحاد أو وردت في القرآن والأحاديث المتواترة ولكنها تحتمل أكثر من تفسير فلا تصبح قواعد مؤبدة ثابتة فهذه فيها آراء كثيرة ويمكن الانحياز إلى أحدها.

* ما هي العقبات التي تواجه تطبيق الشريعة الإسلامية؟

** هذه العقبات تنقسم إلى عقبات فنية وعقبات سياسية، وبالنسبة للعقبات الفنية فإن البعض يقول إن الشريعة الإسلامية مضى عليها أكثر من 14 قرنًا وكانت تصلح لعصر الجمال والدواب لكنها لا تصلح الآن في عصر الذرة والإلكترونيات، وهؤلاء القوم الذين يقولون ذلك إما جاهلون بأحكام الشريعة أو يتجاهلونها، فهذه الأحكام من المرونة بحيث تواجه كل تطور.

والله سبحانه صاغ آيات الأحكام – التي لا تتعدى 200 آية في القرآن – في صورة مبادئ عامة ولم يتعرض للتفاصيل لأنه سبحانه يعلم أن الزمن يتغير، فقال عز من قائل [وأحل الله البيع وحرم الربا] وترك التفاصيل.

وبالنسبة لنظام الحكم أمر سبحانه فقط بالشورى في آيتين [وشاورهم في الأمر] وفي الأخرى [وأمرهم شورى بينهم] ولم يلزمنا بنظام جمهوري أو ملكي أو اشتراكي أو ديمقراطي – الخ. فترك سبحانه كل ذلك لتطور الأزمنة والأمكنة. كما أن الطريقة التي اختير بها أبو بكر غير الطريقة التي اختير بها عمر غير عثمان غير علي. والشورى عند أهل السنة هي نظام اجتهادي يحتمل التغيير والتبديل بعكس الأمر عند الشيعة الذين يرون أن نظام الحكم ركن ثابت في الدين وحصروه في عليَّ وأولاده من فاطمة، ومن يخالف ذلك فقد خالف ركنًا في الدين فهو كافر وهم لذلك يكفرون أبا بكر وعمر وجمهور أهل السنة. بينما الزيدية في اليمن قالوا إنه تجوز ولاية المفضول مع وجود الفاضل.

إن الشريعة الإسلامية فيها من المرونة ما يمكننا من مواجهة كل تطور في المجتمع، فمبدأ " لا ضرر ولا ضرار" موجود وهو يمنع الضرر ابتداءً ويمنع أن يرد على الضرر بمثله، فالضرر ممنوع أيًا كان مصدره من طائرة أو صاروخ أو غواصة أو حتى حمار.

وهناك عقبة فنية أخرى يقول بها البعض وهي لماذا تتعبون أنفسكم في تطبيق الشريعة الإسلامية بينما هذه الشريعة نقلت عن القانون الفرنسي الذي هو مأخوذ من القانون الروماني فاتركونا نأخذ مباشرة من القانون الروماني.

ومن الافتراءات التي يقولون بها أن الإمام الشافعي ولد في غزة ولابد أنه درس القانون الروماني في مدرسة بيروت. وهذا خطأ وجهل فالشافعي حمل بعد فطامه مباشرة إلى مكة ومن مكة إلى العراق ومن العراق إلى مصر. والشريعة الإسلامية مستقلة تمامًا عن القانون الروماني أو الفرنسي ونشأت في بيئة عربية خاصة ولم يوجد فقيه عربي واحد نقل عن القانون الروماني.

ثم إن هناك عقبة أخرى وهي أن كثيرًا من رجال القانون وأساتذة الجامعات والمفكرين قالوا إننا لدينا تراث قانوني عربي ابتداءً من عام 1875، فهل نهدر هذا التراث لنبدأ مع الشريعة الإسلامية.

فهل الأفضل أن يكون ما لدينا أصيل أم متجنس؟ إن الأصالة بلا شك هي المطلوبة. ثم إننا لا نهدر هذا التراث الذي يتحدثون عنه وتعب فيه القضاة ورجال القانون بل نستفيد منه في صياغة الأحكام.

* وماذا عن اعتراض العلمانيين بأن الأقليات غير الإسلامية عائق في سبيل تطبيق الشريعة، لأنه لا يجوز تطبيق الشريعة عليها؟.

** البعض يثير في هذا الخصوص قضية الأقليات غير الإسلامية، ونحن نقول إن الشريعة الإسلامية تميزت على سائر القوانين الوضعية وغير الوضعية بأمور لم يعرفها العالم إلا بعد الثورة الفرنسية.

فالشريعة اليهودية مثلاً لا تسوي بين اليهود وغير اليهود، فاليهودي لا يجوز أن يقرض يهوديًا بفائدة، ولكنه مطالب بأن يقرض غير اليهودي بفائدة. ولا تسمح اليهودية لغير اليهودي أن يطبق الأحكام الخاصة باليهود، فالعالم لا يحق له إلا أن يكون على دينهم. كذلك فعلت أوروبا المسيحية بالمسلمين، كما حدث لهم بعد هزيمتهم في الأندلس ففرضوا عليهم إما النصرانية أو الفناء.

أما الفكر الإسلامي فقد جاء لأول مرة بالمساواة في الحقوق والواجبات بين المسلمين وغير المسلمين، فهم لهم مالنا وعليهم ما علينا، كما جاء الإسلام بحرية العقيدة وأنه لا إكراه في الدين. وكان الإسلام هو أول نظام يسمح لغير المسلم أن يعيش معه في نفس المجتمع ولا يكرهه على دينه، بل ويمكن لهؤلاء أن يشتركوا في الحكم ولا توصد في وجوههم أبواب الرزق.

وهنا يثير خصوم تطبيق الشريعة الإسلامية عدة مسائل تتصل بالأقليات غير المسلمة مثل الشهادة وتولي القضاء والجزية .. فبخصوص الشهادة كان الفقه القديم لا يجيز لغير المسلم أن يشهد على المسلم للحديث الشريف (ولا ولاية لغير المسلم على المسلم).

أما الفقه الإسلامي الحديث فقال إن معنى الشهادة هو الإخبار عن واقعة والهدف من الشهادة توخي الصدق وهي فضيلة توجد في المسلم وغير المسلم. ويستثني من ذلك شهادة غير المسلم على المسلم في العبادات والأحوال الشخصية. وبالنسبة لولاية القضاء فإن الفكر الإسلامي الحديث يقبل ذلك في غير مسائل الأحوال الشخصية.

أما عن الجزية فإن الإسلام طلب من الناس في البلدان التي فتحها إحدى ثلاث: إما الإسلام أو الجزية أو القتال، أما النظم غير الإسلامية فلم تكن تعرف إلا أسلوبين فقط إما قبول مبادئها أو القتال. وهذا يفسر أن المسلمين ليس لهم أقليات في الدول غير الإسلامية في الوقت الذي توجد هناك أقليات غير إسلامية في الدول الإسلامية. إن الجزية مبلغ معين يدفعه غير المسلم نظير حمايته، لقد كنا ندفع البدلية حتى لا نشترك في الجيش، وكان المسلمون يفعلون ذلك.

إنهم يعيبون على دفع الجزية، فهل كان المطلوب أن يموت المسلم في الدفاع عن الوطن وغير المسلم يقيم المشروعات ويكسب المال ولا يدفع مقابل ذلك؟.

إن مقدار الجزية كان دينارين أي نصف جنيه ذهبي أو ما يعادل 340 جنية الآن يدفعها غير المسلم كل عام. أما اليوم فالتجنيد إجباري وعلى المسلم وغير المسلم ضريبة الدم. لقد ذكر الطبري مجموعة معاهدات في عهد عمر بن الخطاب حيث سمح لغير المسلمين على حدود الدولة الإسلامية بأن ينخرطوا في الجيش المسلم للدفاع عن الحدود وأسقط عمر عنهم الجزية أي أن الجزية كانت مقابل الاشتراك في الجيوش.

كما يقول خصوم تطبيق الشريعة إن في هذا التطبيق عدوان على حرية العقيدة للمسيحيين مصر. ونحن نقول إن المسيحية ليس فيها إلا الأحكام الأخلاقية والعقائدية والعبادية وليس فيها التنظيم السياسي والاقتصادي والقانوني. ولذلك فنحن نجد دولاً أوروبية تشترك في المذهب الديني وتختلف في المذهب القانوني.

إن المسيحيين من حقهم أن يغضبوا لو عندهم قانون يطبقونه، وبما أنهم ليس عندهم هذا القانون فلماذا الغضب؟.

إن الإسلام يسمح لغير المسلمين بتطبيق أحكام دينهم فيما بينهم حتى ولو خالفت الإسلام، فهل هناك تسامح أكثر من ذلك؟.

وهناك عقبة سياسية أخرى يرفعها البعض وهي قولهم إن العودة إلى تطبيق الشريعة معناها العودة إلى الحكم الثيوقراطي الديني وحكم رجال الدين، ونحن نقول إن الفكر الإسلامي السني الذي يدين به أكثر من 90% من المسلمين لا يعرف الحكم الثيوقراطي. هذا الفكر موجود في المذهب الشيعي، ففي هذا المذهب لا يختار أحد الحاكم، وإنما الحاكم الذي يحكم يختار من يخلفه، والحاكم الشيعي مسئول عما يفعل أمام الله وليس أمام الناس. أما أهل السنة فعندهم أن الحاكم مسئول أمام الناس وليس محصنًا ضد المساءلة والحكم ليس وراثيًا. وهؤلاء المعترضون يقولون ما معنى خليفة يرعى شئون الدين والدنيا؟ وهنا نقول إن ملكة بريطانيا هي رئيسة كنيسة كونتربري بحكم المنصب فهل يعني ذلك أن الحكم في بريطانيا ثيوقراطي؟.

* يرفع العلمانيون مقولة إن تطبيق الشريعة يفتح الباب أمام المتطرفين للاستيلاء على السلطة، فكيف الرد على هؤلاء؟.

** إننا لا نعترف أصلاً بهؤلاء الغلاة كي يستولوا على السلطة من الفكر الإسلامي المعتدل، الذي يرفضهم منذ أيام الإمام علي.

فالمجتمع المسلم الطبيعي الذي تسوده الثقافة الإسلامية الرشيدة يمنع المتطرفين من أن يتولوا أمره.

==============

#الحرب العالمية الرابعة ..كتاب عن حروب المستقبل

الأحد 4 من ذو الحجة 1427هـ 24-12-2006م الساعة 10:53 ص مكة المكرمة 07:53 ص جرينتش

الصفحة الرئيسة > نافذة ثقافية > كتب

... ...

صدرت مؤخرا في القاهرة ترجمة كتاب الحرب العالمية الرابعة لمؤلفه باسكال بونيفاس وقام بالترجمة أحمد الشيخ. في هذا الكتاب يستكمل باسكال بونيفاس الكاتب والمفكر الاستراتيجي الفرنسي ما بدأه في كتابه السابق الذي ترجمه الشيخ أيضا من يجرؤ علي نقد إسرائيل؟ والذي حاول من خلاله أن يطرح رؤيته الخاصة المناقضة لأراء الكثير من الجماعات والتيارات السياسية القوية وأن يضع المقولات التي يفترض أنها من المسلمات الإستراتيجية والسياسية تحت الاختبار ويعيد النظر فيها من جديد وكل ذلك في محاولة لتقديم لغة سياسية جديدة: وهو المنطلق الذي دعي المترجم أحمد الشيخ لترجمة كتابي باسكال كمحاولة لمد جسور من التواصل مع الأخر، ومن هذا المنطلق لم تأت ترجمة الشيخ لكتاب الحرب العالمية مجرد عملية نقل من اللغة الفرنسية بل احتوي الكتاب أيضا علي حوار طويل بين المترجم والكاتب الفرنسي وهو ما اكسب الكتاب طابعا حيويا وجدليا أكثر.

ومثلما حّاول باسكال تقديم رؤية نقدية في كتّابه الأول لإسرائيل ولطبيعة العلاقات الفرنسية الأوربية معها، وحالة إسرائيل كدوله فوق المحاسبة يواصل هذه المرة تفنيد خرافة مصطلح الحرب العالمية الرابعة أو الحرب علي الإرهاب وهو المصطلح الذي بدأ استخدامه في التسعينات بعد سقوط الاتحاد السوفيتي وتزايد في الفترة الأخيرة بعد أحداث 11 سبتمبر، حيث يري باسكال أن الإرهاب ليس هو الخطر الوحيد الذي يهدد عالمنا اليوم بل أنصار القوة واستخدام البطش في العالم الغربي أيضا يشكلون تهديدا علي القيم والأفكار الليبرالية والديمقراطية، وترك الساحة لهؤلاء الذين لا يرون في العالم سوي (هم ونحن، الخير،و الشر) لا يمكن أن يجعل عالمنا يعبر بسلام المأزق الذي يمر به بل قد يقودنا هؤلاء الأشخاص ذو التفكير الآحادي إلي كارثة حرب عالمية رّابعة. وبلغة تجمع بين الرصانة الأكاديمية ورشاقة الأسلوب الصحفي لا يتواني باسكال عن نقد أطروحات من يسميهم بصقور الإدارة السياسية الغربية الذين يرون أن القضاء علي الإرهاب لا يمكن إلا باستخدام القوة العسكرية حيث يبدأ فصول كتابه بتحليل رؤية صمويل هنتنجتون حول صدام الحضارات والتي تعتبر الأطروحة الأكثر حضورا في السنوات الأخيرة: فباسكال يلفت النظر أولا إلي الحضور الطاغي لتلك النظرية في معظم النقاشات السياسية مؤخرا ورغم ازدياد النقد الموجه لهذه النظرية إلا أن حضورها يزداد تأكيدا حيث يوضح هذه الحالة التعبير البليغ للفنان الأمريكي أندي وارهول لا يهم أن يقولوا أمورا سيئة عني طالما أنهم يكتبون اسمي بصورة صحيحة وهكذا لأنه لا يوجد من يخطأ في تهجئة اسم هنتنجتون فمازال الاسم وأطروحته حاضران باستمرار علي الساحة.

يري باسكال أن أطروحة صدام الحضارات تحتوي علي الكثير من الثغرات التي لم يفسرها هنتنجتون كوضع الحضارة اليهودية أو تفسيره لحروب الخليج التي دارت معظمها بين أبناء حضارة واحدة هي الحضارة الإسلامية، ويطرح باسكال النقد الأساس الذي يوجهه لأطروحة هنتنجتون والذي يتمثل في الطبيعة الحتمية التي يتحدث بها هنتنجتون عن صراع الحضارات حيث يفترض مقدما كأن الحضارات تسير بالضرورة نحو المواجهة فيما بينها، وأن هذه المواجهة ستكون بالضرورة بلا نهاية. كما لو كان البشر لا يمكنهم أن يغيروا مجري الأحداث بأعمّالهم وكما لو أن الشعوب وقادتها متفرجون سلبيون علي تاريخهم الخاص.

يفند باسكال بعد ذلك الإدعاء القائل بأن الصراع الفلسطيني الإسرائيلي يعد أحد أشكال صدّام الحضارات ففلسطين تحتوي علي عدد متعدد من الطوائف الدينية والمسيحية وليس من السهل إدماجها كلها تحت قائمة الحضارة الإسلامية، لكن مع ذلك يشير باسكال لخطورة الصراع الفلسطيني الإسرائيلي فهذا الصراع الذي يمكن اعتباره صراع علي مستوي الشعوب العربية الرافضة لوجود إسرائيل وإسرائيل التي تمارس التجاوزات في حق هذه الشعوب يمكن أن يقود في حال استمراره إلي انتحار متبادل للشعبيين الفلسطيني والإسرائيلي وهو ما قد يعجل فعليا مسيرة العّالم نحو صدام شامل: فالحكومات العربية استخدمت القضية الفلسطينية لعقود طويلة لتأطير طاقة الجماهير العربية وتحويلها بعيدا عن مشاكل السياسية الداخلية ولذلك فعدم إنشاء دولة فلسطينية أو رفض الاعتراف بهذه الدولة وبحقوق الشعب الفلسطيني ،ينظر له من قبل الشعوب العربية والإسلامية كرمز تام للمصير التعس المكرس لهم وحالة الإحباط المتولدة من استمرار الصراع الفلسطيني دون حل تعتبر أقوي مولدات الغضب لدي الشعوب الإسلامية.

يّتوسع باسكال في القضايا التي يتناولها بعد ذلك في كتابه، فنجده يتناول في فصلين كاملين العلاقات الفرنسية الإسرائيلية والعلاقات الأمريكية الإسرائيلية، مقدما رؤية تحليلية لطبيعة العلاقات في كلا الحالتين ومراحل تطورها التاريخية. فمنذ انقطاع التحالف الاستراتيجي الفرنسي الإسرائيلي بعد حرب 1967 وفرنسا تلتزم بالرؤية التي وضعها الجنرال ديجول والتي تعتبر أن الاحتلال العسكري للأراضي ليس شرعيا وليس مفيدا وإذا كانت فرنسا تعمل من أجل حل الصراع الإسرائيلي¬الفلسطيني، فذلك لأنها تري أن استمراره لا يتفق مع القانون الدولي وهو مدان علي الصعيد الأخلاقي وخطر علي الصعيد الاستراتيجي.

وفي مقابل ذلك فهناك العلاقات الأمريكية الإسرائيلية والتي يرصد الكاتب مراحل تطورها التاريخي منذ نشأة إسرائيل وكيف عملت أمريكا طوال الوقت علي توفير الغطاء العسكري والسياسي والاقتصادي لإسرائيل ولجرائمها وتجاوزها للقوانين والأعراف الدولية لكن باسكال يرصد مفارقة هامة في طبيعة العلاقات الأمريكية الإسرائيلية، فالحامي (الولايات المتحدة) لا يستطيع أن يفرض شروطه علي المحمي (إسرائيل) بل المحمي هو الذي يفرض شروطه علي من يحميه ويعقد في هذا الصدد مقارنة بين موقف أمريكا من ألمانيا الغربية قبل توحيد الألمانيتين وموقفها من إسرائيل، فألمانيا الغربية كانت محمية من أمريكا ولم تكن تستطيع أبدا أن تخالف أمريكا في توجهاتها السياسية لكننا نشاهد العكس مع إسرائيل التي تملي شروطها علي أمريكا بل وصل الأمر في بعض الأحيان إلي إغراق مدمرة أمريكية هي المدمرة ليبرتي من قبل إسرائيل لتحقيق أهداف عسكرية خاصة بها ومع ذلك لم تعترض أو تثور الإدارة الأمريكية بل قبلت الرواية الإسرائيلية الرسمية التي وصفت الحّادث بالخطأ المؤسف حيث اعتقدت القوات الإسرائيلية المدمرة الأمريكية مدمرة مصرية.

في نهاية الكتاب الذي يمتد ل201 صفحة يضع باسكال عددا من السيناريوهات التي يتوقعها للمستقبل علي ضوء معطيات الواقع السياسية: أول هذه السيناريوهات هو تزايد القوة الأمريكية ومعها سيزداد الغرور والعمي الأمريكي، ومعه يزاد العنف والتجاوزات الإسرائيلية وهو ما سيؤجج الغضب العربي الإسلامي تجاه أمريكا وإسرائيل وبالتالي ينتهي الأمر بكّارثة يدفع ثمنها الطرفان. السيناريو الثاني هو أن يتدخل المجتمع الدولي بمساعدة المؤمنين بالسلام من الطرفين (الإسرائيلي¬الفلسطيني) لفرض السلام العادل الذي يكفل عودة اللاجئين الفلسطينيين وقيام دولة فلسطينية وإسرائيلية علي حدود 1967 مع تقديم إسرائيل للتعويضات المناسبة للاجئين الفلسطينيين الذين تم تهجيرهم طوال هذه السنوات. أما السيناريو الثالث فهو استمرار المفاوضات الإسرائيلية الفلسطينية التي تفضي بعد سنوات إلي دولة فلسطينية متناهية الصغر، مع استمرار الاحتلال وبالتالي استمرار القمع علي قسم من الضفة، وعدم إعادة القدس الشرقية يتواكب كل هذا مع استمرار الحضور العسكري الأمريكي في العراق وعمليات عسكرية ضد إيران بدعوة مقاومة انتشار السلاح النووي وكل هذا يعطي أسامة بن لادن وأصدقائه مزيدا من القوة والشعبية وهكذا يسدل الستار في النهاية علي قادة أمريكيين يتشدقون بالسير في الاتجاه الصحيح وقادة إسرائيليين ينادون بالصبر ويؤكدون علي ضمان أمن إسرائيل قبل كل شيء، ومثقفين وخبراء ليسوا بالضرورة غير مبالين، يرفعون شعارات أخلاقية، لكنهم يقبلون القيام بدور الكورال. وفي حالة كهذه سيقترب أكثر صدام الحضارات، والحرب العّالمية الرابعة المستندة علي حمّاقة إستراتيجية ستصير واقعا والقرن العشرين الذي كان قرن حروب سيتم تجاوزه بفظائع القرن الحادي والعشرين.

==============

#عصرنة الدين أم تديين العصر

الخميس1 من ذو الحجة 1427هـ 21-12-2006م الساعة 01:52 م مكة المكرمة 10:52 ص جرينتش

الصفحة الرئيسة > كشاف المجلات > مؤامرات

... مصحف ...

مصحف

الحقيقة الكامنة وراء دعوى عصرنة الدين وتهميش لغة القرآن

مجلة منار الإسلام ـ العدد 379 ـ رجب 1427هـ ـ يوليو 2006م.

بقلم الأستاذ الدكتور: محيي الدين عبد الحليم

أعجب لأمر هؤلاء الذين انبهروا بالنمط الغربي وبدلاً من أن يعملوا على تحديث الحياة في مجالات تخصصهم وينهضوا بالمجتمعات التي أفرزتهم وعلمتهم ودفعت لهم من قوت الفقراء والمجاهدين من أهله وذويهم ويردوا الدين للأيادي التي ساعدتهم والقلوب التي آزرتهم، نراهم وقد تملكهم الغرور وارتدوا قبعات الغرب ولبسوا أقنعته وتعالوا على أهلهم وذويهم الذين حرموا أنفسهم ليطعموهم وشقوا ليعلموهم.

ولم يكتف هؤلاء بالتعالي والصلف والغرور، بل سولت لهم أنفسهم التطاول على ثوابت العقيدة وراحوا ينادون بتطويرها كي تتوافق مع متغيرات العصر، ويسخرون من هؤلاء الذين باعوا الدنيا بالآخرة وراحوا يعملون في صمت العابدين ويعبدون الله بجهد العاملين لا ذنب لهم إلا أنهم تحملوا هموم أوطانهم وتسلط مترفيهم وظلم جلاديهم فتوقفت مسيرة التقدم التقني والتطور العلمي بفعل أوضاع فرضت عليهم وعناصر نهبت ثرواتهم وقتلت الأمل في نفوسهم والحلم في قلوبهم.

فهذا يطالب بتطوير العلاقة بين الشاب والفتاة لتكون علاقة متحضرة كحضارة الأمم القوية قائلاً: إنه يكفي ما عانته المرأة من ظلم الرجل المسلم سنوات طويلة حتى حولها إلى دمية أو قطعة أثاث يضعها حيث يشاء.

وذاك يطالب بإباحة الخمور والفجور تماشيًا مع نمط الحرية التي يعيشها الإنسان في دول غزت الفضاء وسيطرت على الكواكب وقهرت الأرض والجبال وأطلقت للإنسان حرية الخلق والابتكار لكي يُبدع ويبتكر.

وآخر يدافع عن المعاملات الربوية باعتبارها نظامًا عالميًا لا يمكن للشعوب أن تنهض من دونه وإلا فإنها سوف تسقط في مستنقع الفقر والفاقة، ثم رأينا من يطالب بتعميم لغة العالم المتقدم لتكون اللغة الأم التي تحمل معارف وثقافات لا تستطيع لغة العرب التعبير عنها وصياغة معانيها ومفرداتها ويتهمونها بالعجز وعدم القدرة على الاستجابة للمستجدات العصرية في مختلف العلوم والفنون، وكأنهم يرددون مقولة الاستعمار القديم والحديث على حد سواء الذي يسعى بكامل طاقته إلى إضعاف هذه اللغة ليسهم في انصراف المسلمين عنها حتى تنقطع الصلة بينهم وبين جذورهم وتراثهم، مستهدفًا من وراء ذلك النيل من القرآن الكريم ذاته، فأخذوا يوجهون سهامهم إلى اللغة التي تنزل بها هذا الكتاب العظيم.

ويدعي هؤلاء أن التخلف الذي أصاب المجتمع الإسلامي إنما يرجع إلى قصور اللغة العربية وعدم قدرتها على نقل ما جادت به القرائح والعقول عند الأمم الغربية المتحضرة. ولذا وجب على أهل العربية أن يتركوا هذه اللغة ويبحثوا لهم عن لغة أخرى حتى يلحقوا بركب الحضارة ويتفهموا المتغيرات الجديدة التي فرضت نفسها على العصر لمعايشة التطور السريع الذي يسود العالم المتقدم.

فهل لغة العرب التي علمت العالم أصبحت عاجزة عن مسايرة التقدم الذي يسود العالم؟ هذه اللغة التي يشهد لها الخبراء والمختصون بأنها تمتاز عن سائر اللغات بالقدرة على إيصال المعاني بأقصر الطرق، كما تتميز بالسعة والمرونة والوضوح فهل يعي هؤلاء ما قاله الحق جل وعلا في سورة يوسف: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} وما ذكره في سورة فصلت الآية: {كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ}.

إن العربية أكثر اللغات السامية احتفاظًا بالأصوات التي اشتملت عليها تلك اللغات وأوسع هذه اللغات وأدقها في قواعد النحو والصرف فهي تشتمل على جميع الأصول التي تشتمل عليها أخواتها السامية أو على معظمها وتزيد عنها بأصول كثيرة لا يوجد لها نظير بين هذه اللغات.

فهل من عصرنة الدين ضرورة فك التلازم القائم والعلاقة العضوية بين اللغة العربية والدين الإسلامي لاختراق الثقافة الإسلامية تلك الثقافة التي هي في صميمها ثقافة عربية بلسان رسولها الكريم صلى الله عليه وسلم وعربية بلسان من استقبلوا دعوتها، وحكموا بشريعتها وعربية بالوطن العربي الذي طلعت فيه شمسها وتجلت فيه آياتها وهي اللغة التي تؤدى بها معظم المناسك والعبادات الإسلامية.

وهل من عصرنة الدين تهميش علومه في المناهج العلمية في المدارس والمعاهد والجامعات حتى تتحول هذه العلوم إلى مواد مساعدة لا يهتم الطالب بها؟ وهل من عصرنة الدين فصل علوم الإسلام عن علوم الحياة فيكون هناك قانون إسلامي وقانون مدني واقتصاد إسلامي واقتصاد غير إسلامي وتربية إسلامية وأخرى غير إسلامية.

وأقول لهؤلاء الذين يرون في الدين وعلومه حجر عثرة في سبيل التقدم الذين ينشدونه: ماذا لو تم تديين العصر بدلاً من عصرنة الدين؟ وتديين العصر يعني الانطلاق إلى علوم العصر وفنون وتقنياته من منطلقات إسلامية تربط العلماء والباحثين بالأصول والثوابت وتنطلق إلى الإبداع والابتكار والتحديث من منطلقات أخلاقية.

ولست في حاجة على أن أؤكد أنه في هذا الإطار سوف ينطلق المبدعون على آفاق الحياة الرحبة في البر والبحر والجو لاستكشاف كنوزها ويوظفون كشوفهم لخير الإنسان بدلاً من توظيفها للتسلط والظلم والفساد، وهذا ما حققه المسلمون حين كانت لهم السيادة والريادة العلمية كما أكد ذلك العلامة "سديو" في كتابه تاريخ العرب حين قال: «كان المسلمون الأوائل متفردين في العلم والفلسفة والفنون، وقد نشروها أينما حلت أقدامهم وتسربت عنهم إلى أوروبا فكانوا هم سببًا لنهضتها وارتقائها».

وكما قال الأستاذ "ليبري": «لو لم يظهر العرب على مسرح التاريخ لتأخرت نهضة أوروبا الحديثة قرونًا عدة، وقد كانت ترجمات العرب العلمية المصدر الوحيد للتدريس في جامعات أوروبا نحو ستة قرون».

إن تديين العصر لا يعني التخلُّف والجمود كما أنه لا يعني توظيف القنوات الفضائية والأسلحة النووية وعلوم الطب والأحياء لتدمير الإنسان، وهو لا يعني الظلم والتسلط والفساد واستغلال النفوذ والسلطان والمال لقهر الفقراء وقمع الضعفاء وتسلط الأغنياء، إن الدين حين يحكمهم فهذا يعني حكم الفضيلة والأخلاق والمُثل العليا والارتقاء بالإنسانية وإثراء قيمها الروحية ودفعها دفاعًا إلى إعمار الكون واستكشاف كنوزه والإفادة بها.

وفي ذلك يقول الحق جل وعلا: {قُلْ سِيرُوا فِي الأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ثُمَّ اللَّهُ يُنْشِئُ النَّشْأَةَ الآخِرَةَ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}[العنكبوت:20].

=============

#د. زينب عبد العزيز: التنصير عالم خطير لا نرى منه إلا القليل

الخميس24 من ذو القعدة1427هـ 14-12-2006م الساعة 02:11 م مكة المكرمة 11:11 ص جرينتش

الصفحة الرئيسة > حوارات

... ...

- ذبحوني لأنني قلت كلمة الحق في مؤتمر السكان وفي مؤتمر المرأة.

- الفاتيكان يتحالف مع المخابرات الغربية لضرب الإسلام.

- فرنسا تتحمل ثلثي ميزانية التنصير ثمن ريادتها للعلمانية.

- العولمة والكوكبية والقرية الواحدة أكاذيب لفرض النموذج الغربي علينا.

- المستشرقون عقبة أمام انتشار الإسلام في أوروبا وأمريكا.

- قضية المرأة لعبة يلعبها الغرب ونحن ننساق وراءها.

حاورتها/ د. ليلى بيومي

رغم أن مجال تخصصها هو اللغة الفرنسية كأستاذة لها وللحضارة بجامعة المنوفية، إلا أنها وجهت اهتمامها بشكل كبير منذ ربع قرن لموضوع محدد وهو موقف الغرب من الإسلام، وذلك بعدما توفر لديها معلومات وترجمات تؤكد التواطؤ الغربي بين المستشرقين على تزييف الحقائق المتعلقة بالإسلام.

وفوق هذا قدمت د. زينب عبد العزيز ترجمة شديدة الأهمية لمعاني القرآن الكريم باللغة الفرنسية. وعن هذه الاهتمامات المتعددة التقينا بها وحاورناها.

* مؤتمرات وخطط التبشير، يتحدث عنها البعض على أنها مبالغة، وقد يضخم البعض الآخر من وجودها .. لكن ماذا عن الحجم الحقيقي لها؟ وكيف تعمل؟ ومن الذي يمولها؟

** الواقع المعاش يؤكد أننا حيال خطة خطيرة، نحن لا نتحدث عنها من خيالنا ولكن القوم نشروها وأعلنوها ويتحدثون عنها صراحة فكيف نقول إنها مبالغ فيها؟.

إننا بالتحديد أمام خط خمسية وهذا عنوان موجود في الخطاب الرسولي أو الإرشادي الذي يصدره الباب وهو ملزم لكل الحكام والرؤساء والملوك المسيحيين ولكل الكنائس على اختلافها.

ومنذ بداية التسعينات أصدر البابا خطابًا يقول فيه إنه يريد أن ينصر العالم في الفترة من 1995 حتى عام 2000 وحدد هذا التاريخ بدقة فقال إن الفترة من 1995 حتى 1997 عامان تمهيديان، ثم يتبعهما عام الاحتفال بالسيد المسيح ثم في الاحتفال الآخر عام 2000 يقام قربان كبير احتفالاً بتنصير العالم كله.

وفي هذا الخطاب أشار البابا إلى أنه يريد إحياء خط سير العائلة المقدسة وللأسف نرى أن هذا تم تنفيذه، حيث قامت وزارة السياحة في مصر مثلاً بإعداد مثل هذه الخرائط بغفلة لأننا لا نعلم ما يراد لنا. إن القوم يريدون أن ننفذ مخططهم بأيدينا، وهذا هو الذي قالوه في مؤتمر تنصير العالم الذي عقد في كلورادو عام 1987 والذي قالوا فيه إن الإسلام لابد أن يضرب بأيدي أبنائه وأن يضرب من الداخل. وإحياء مسيرة العائلة المقدسة يأتي ضمن خطط البابا لتنصير المسلمين، فهو يريد أن يصبح هذا الخط جزءًا من الواقع المسيحي.

ففي عام 1965 عقد المجمع الفاتيكاني الثاني وهو الذي برءوا فيه اليهود من قتل المسيح، وفي هذا المجمع خططوا لثلاثة أشياء رئيسية والتنفيذ يتم الآن، وهذه الأشياء الثلاثة هي: اقتلاع اليسار واقتلاع الإسلام وتنصير العالم.

وفي هذا المجمع قرر المجتمعون توصيل الإنجيل لكل البشر وهي عبارة المقصود بها تنصير العالم، وقد أعلنها البابا صراحة في سنتياجو عام 1982 وقد خطط القوم لاقتلاع اليسار لأنه البديل عن الرأسمالية من الناحية السياسية فكانت كل الأنظمة التي تكفر بالرأسمالية تتجه ناحية اليسار .. لكنهم لا يريدون بدائل.

إن الكنيسة خططت ليكون العقد الأخير من القرن العشرين لاقتلاع الإسلام وتنصير العالم، ونحن اليوم نقرأ عن المليارات الكثيرة التي أنفقت من أجل اقتلاع اليسار وتفكيك الاتحاد السوفيتي، والمأساة أن الفاتيكان تواطأ مع المخابرات الأمريكية لأن مصلحتهم واحدة، فكان هناك تنسيق، ولأول مرة تتحد السلطة الدينية (الكنيسة) مع السلطة المدنية في سبيل تحقيق مصلحة مشتركة وهي اقتلاع اليسار واقتلاع الإسلام. إن عالم التبشير عالم خطير لا نكاد نرى منه إلا أقل القليل، والمساهمات فيه معروفة بل إن على فرنسا أن تمول ثلثي هذه الميزانية وحدها، وإسهام الولايات المتحدة والمؤسسات الأمريكية والغربية متعدد والأرقام فلكية، وبالتالي فمؤسسات التبشير شبكة معقدة للغاية وحقيقية وليس فيها مبالغة، بل هي أكبر مما يعلنون عنه وهي تقصد العالم الإسلامي كله وتتحايل لتنصيره بمختلف الوسائل الممكنة.

* الخطاب الديني الرسمي لدينا يركز على ضرورة التعاون والتوحد مع الكنائس الغربية في سبيل المحبة، بينما نلاحظ أن هذه الكنائس ما زالت مستمرة في التنصير في العالم الإسلامي .. كيف ترين هذا التناقض؟

** من خلال أبحاث المتخصصين لديهم ثبت لهم أن القرآن حق، وقد ألف الطبيب الفرنسي بوريس بوكاي كتابًا عن "التوراة والإنجيل والقرآن والعلم" أثبت فيه أن كافة المعطيات الواردة في العهدين القديم والحديث تتعارض كلها مع العلم، ولا يوجد فيها معطى واحد يصمد أمام التحليل العلمي، في حين أن القرآن يصمد كل حرف فيه أمام التحليل العلمي بل وردت فيه أشياء لم يكن العلم قد توصل إليها.

وثبت أن الكنيسة تحارب الإسلام ومستمرة في هذه الحرب، وهي حرب صليبية بشعة وقد سبوا الإسلام كثيرًا ولكنهم وجدوا أنهم لم يستطيعوا أن يفعلوا شيئًا بهذا السباب. ورغم الترجمات المحرفة للقرآن وجدوا أن الناس يسلمون عندهم حينما تصل إليهم الأجزاء غير المحرفة، وبالتالي لم يفلح التزييف والتحريف.

والعالم الغربي الذي كان قسيسًا وهو بونت مان، وهو ضليع في اللغة، أثبت بالتحليل اللغوي الظاهري لنصوص الكتاب المقدس وجود تعارض بين النصوص يثبت التحريف ويثبت أن هذه الأشياء التي ورد ذكرها في الأناجيل لم تكن موجودة عند كتابة الأناجيل.

أما في القرآن فالكلمة والمعنى والجوهر سليم ولم يمسسه أي عبث، وبالتالي فإن استمرار الكنائس في التنصير لكي يستطيعوا أن يفعلوا شيئًا يوقف هذا التدهور، أما المسئولون لدينا فلديهم نقص في الوعي والإدراك.

* نلاحظ في هذه الفترة شيوع دعوات تحمل سمات البراءة والتعاون بين الشعوب مثل العولمة والكوكبية والقرية الواحدة .. الخ، لكنها في نهاية الأمر تخفي نوعًا من سيطرة الاتجاه الواحد والثقافة الواحدة والدين الواحد.. ما هي رؤيتكم لهذه القضية؟

** إنهم يلعبون بنقطة خطيرة وهي الحوار بين الأديان، فالحوار بالنسبة لهم يعني فرض الارتداد والدخول في سر المسيح، وليس المقصود من الحوار هو الوصول إلى الحق. إننا لو ناقشنا القوم فلن نجد عندهم شيئًا، وهم يعلمون ذلك ومن أجله يحاولون أن يوهمونا بأننا قرية واحدة، ونحن جيران، ولابد أن نعيش في حب وأمان، ولابد من التسامح والتآخي. والغريب أن المثقفين عندنا يرددون نفس الكلام الذي يردده الغرب إما عن جهل وغفلة وعدم مبالاة أو عن تعتيم فرض علينا جميعًا ويشارك مثقفونا في تدعيمه.

إن العولمة والكوكبية المقصود بهما إلحاقنا بالغرب، فحينما نصبح قرية واحدة ستكون اللغة لغتهم والدين دينهم والثقافة ثقافتهم والمصلحة مصلحتهم ونحن مجرد رعاع لا قيمة لنا وإنما نساق كالقطيع فقط.

* هناك محاولة لتبرئة المستشرقين وإظهارهم كأصحاب علم وفكر، بينما هاجمهم كثير من المصنفين وقالوا إن الاستشراق خادم للكنيسة وأهدافها وليس بريئًا... ما هو رأيك في هذه القضية ؟

** لم أجد مستشرقًا واحدًا خلا كلامه من الدس والتشويش، ولقد تتبعت المستشرق جاك بيرك الفرنسي وأظهرت عيوب وخطايا ترجمته للقرآن، وفي رأيي أن نفس الشيء فعله روجيه جارودي فقد اسلم ليهدم الإسلام من الداخل.

وصحيح أنهم قدما خدمات لتراثنا بلا شك، لكن ضررهم أكبر من نفعهم لأن كل ضررهم في تشويه الحقائق يبنى عليه ويؤخذ على أنه حقائق مع مرور الوقت.

إن المستشرقين كلهم يعملون ضمن برنامج واحد لضرب الإسلام، والإنسان الأوروبي الذي يدخل الإسلام وهو لا يعرف اللغة العربية تقام بينه وبين معرفة الحق حواجز كبيرة جدًا حينما يعتمد على كتب المستشرقين التي تشوه كل شيء في الإسلام. بل إن هذه الكتب تقف حاجزًا دون إسلام أعداد هائلة من الأوروبيين. ويبقى علينا أن نقتحم هذه الحواجز ونقدم الإسلام لكل دول العالم بلغاتها ومن خلالنا نحن.

* ما رأيك في الترجمات الفرنسية لمعاني القرآن الكريم؟ وما تقييمك للذين كتبوها؟

** قلت قبل ذلك إن كل المستشرقين يعملون تحت هدف واحد وهو ضرب الإسلام بالإضافة إلى ما يواجهونه من مشكلات اللغة العربية.

فلغة القرآن صعبة حتى على أهلها فما بالنا بصعوبتها على المستشرقين. فالمستشرق لكي يقدم عملاً جيدًا وخاصة في ترجمة معاني القرآن لابد أن يكون قارئًا جيدًا للتفاسير وعنده النية لأن يفهم، وليست النية لأن يخطئ.

إن جذر الكلمة العربية يمكن أن يحتوي على 11 معنى ليس لهم علاقة ببعضهم، وقد يكون المستشرق لديه معرفة ببعضها لكنه لا يعرف الباقي، كما أن هناك تراكيب القرآن، فمثلاً [ضاقت عليهم الأرض مما رحبت] كل المستشرقين فسروها تفسيرًا حرفيًا وليس تفسيرًا للتركيب اللغوي ككل، ففعلوا مثل الذي ترجم القول الشهير "فلان واخذ قلم في نفسه" He Took a Pencil on himself ولم يترجمها بأنه مغرور مثلاً. والمستشرقون لا يفهمون تراكيب القرآن لعدم تمكنهم من اللغة العربية، وهناك ترجمات عديدة لمعاني القرآن بالفرنسية ولدى منها 17 ترجمة كلها ترجمات بالتحريف والتشويه والأخطاء، وأشهرها ترجمة جاك بيرك المستشرق الفرنسي وقد ذاع صيته في العالم العربي على أنه صديق العرب وهذا غير حقيقي. وخطورة ترجمة جاك بيرك في الستة ملايين مسلم فرنسي الذين لا يعرفون العربية ويقرءون هذه الترجمة المشوهة.

* هل فكرت في ترجمة معاني القرآن الكريم إلى الفرنسية لتقدمي ترجمة دقيقة وغير مشوهة؟ وما هي المشكلات التي تواجهك في ذلك ؟

** فكرت بجدية في الموضوع وهو موضوع صعب ودرست الترجمات الموجودة ، وراودتني الخواطر لأبدأ في إعداد هذا العمل خالياً من الأخطاء، والمشكلات كانت كثيرة، منها الاختلافات بين المفسرين في تفسير كثير من الآيات، فكيف سيتم حسم هذه المشكلة؟ بالإضافة إلى عدم وجو المعنى الدقيق المرادف للمعنى العربي في كثير من الأحيان، فنقل المعنى هنا مثل الذي ينقل بحر في بحيرة، كما أن هناك منهجاً معيناً للتعامل مع الآيات التي فيها إشارات علمية، بالإضافة إلى المشكلات التي ذكرناها قبل ذلك مثل مشكلة تراكيب القرآن وحروف القرآن وتعدد المعنى للجذر الواحد .. الخ.

ولكن بعد أن انتهت أعمال اللجنة الخاصة بدراسة ترجمة "جاك بيرك " ولإحساسي بمدى خطورة الترجمات المقدمة لمعاني القرآن من غير المسلمين قررت التفرغ لإعداد ترجمة إلى الفرنسية، ووفقني الله سبحانه وتعالى، وانتهيت منها، واستغرقت مني ثماني سنوات بواقع خمس عشرة ساعة عمل يوميا، واستعنت فيها بأستاذ أصول فقه من جامعة الأزهر ليشرح لي كل أسبوع حوالي 5 صفحات، حتى تأتي ترجمتي لمعاني القرآن الكريم إلى الفرنسية على وجه الدقة والأمانة، ولتكون نقطة فارقة في تاريخ هذه التراجم, وتأتي سليمة لغويا ونزيهة علميا وموضوعية. تنقل المعنى الكريم في ثوبه الحقيقي، وحاولت في هذه الترجمة التعريف بالقرآن وبالإسلام لغير المسلمين، وأن تكون خطوة للتصدي لمحاولات تشويه الإسلام، وتصويب صورته لدى الغرب والدفاع عن نسيج الأمة الإسلامية.

* عرفنا فرنسا تاريخيًا على أنها تركز على الجانب الثقافي في علاقتها بالأمم، فلماذا هذا التركيز؟ وهل هذا الاهتمام الثقافي اهتمام بريء؟.

** هذا الاهتمام الثقافي ليس اهتمامًا لوجه الله وإنما هو اهتمام لتفرض من خلاله فرنسا حضارتها وسيطرتها.

إن فرنسا تعلن أنها دولة علمانية فصلت الدين عن الدولة ومقابل إعلانها هذا تتحمل ثلثي تكاليف وميزانية عملية التنصير، وهذا كلام ثابت وموجود ومنشور، وفرنسا حينما تهتم بالثقافة في علاقتها مع الشعوب إنما تدخل الدين في هذه العلاقة ولكن بطريقة غير مباشرة وغير محسوسة، وهذا نوع من أنواع الذكاء الاستعماري.

إن كل دول العالم تعرف أن الاستعمار المباشر انتهى لذلك يلجئون كلهم إلى الاستعمار الثقافي وفرض التغريب لدرجة أن كثيرًا من الأمناء في الغرب يرفضون التغريب ويقولون بالتكامل بدلاً من السيطرة.

* تحاول فرنسا أن تقوم بدور الدولة المستقلة عن الفلك الأمريكي وتحاول قيادة أوروبا وتتحدث عن القضايا العربية. هل هذا حقيقي أم مجرد مناورات لإيهامنا والضحك علينا؟

** فرنسا لا تدعم مصالحنا بل تدعم مصالحها هي، فتاريخيًا فرنسا احتلت حوالي نصف العالم العربي، وقبل ذلك كانت حملة نابليون، وساندت إسرائيل منذ إنشائها عام 1948 ، بل اشتركت بشكل مباشر في ضرب مصر عام 1956، وتدعم بشكل رئيسي إسرائيل. إننا سمعنا مؤخرًا عن بعثة فرنسية لانتشال آثارنا الغارقة في مياهنا الإقليمية أمام الإسكندرية، والملاحظ أن هذه الآثار لم تكن مبان وانهارت في المياه، بل هي آثار منقولة وغرقت على مسافة كبيرة عن الإسكندرية.

إن أحدًا لم يفتح فمه ويعلن الحقيقة، والحقيقة أن نابليون كان قد سرق هذه الآثار وأعد لنقلها إلى باريس لتنضم إلى ما نهبه من كنوز من كل أنحاء العالم التي هي الآن في متحف اللوفر، لكن الأسطول الإنجليزي دمر الأسطول الفرنسي وأغرقه وغرقت الآثار.

* الدعوة إلى ثقافة البحر الأبيض المتوسط ما تلبث أن تهدأ حتى يروج لها من جديد، فهي تأخذ شكل الحوار بين الشمال والجنوب حينًا، وحينًا آخر شكل الشراكة الأوروبية العربية، وحينًا ثالثًا تأخذ شكل الحوار العربي الأوروبي... فهل هذه الدعوات بديلة عن التجمع على أساس عربي أو إسلامي؟

** بالتأكيد هي دعوات غير بريئة، والمقصود بها الالتفاف حول أي دعوة لتلاقي البلاد العربية على أرضية عربية أو إسلامية.

إن أوروبا وأمريكا نفذوا في عقد التسعينات قرارات مجمع الفاتيكان عام 1965 في الشق الخاص باقتلاع الإسلام وتنصير العالم، وقد قال البابا في أحد اجتماعاته مع الكرادلة: لقد نجحت في أن أجعلهم يجلسون معنا والدور عليكم لتنصرونهم.

هم يدعون للحوار ويقولون فلنجلس معًا لنصلي كل حسب دينه ثم تكون الخطوة اللاحقة فلنصل بنص واحد.

إنهم يتفننون في موضوع الحوار ويريدون استدراجنا بكل الطرق وإجراء عمليات غسيل المخ لنا حتى نؤمن بكل المفاهيم الغربية، وهم يغلفون الدعوة للحوار ببعض الأغلفة الاقتصادية التي تعطي للقضية بعدًا اقتصاديًا، لذلك تفشل كل هذه الدعوات لأنهم لا يريدون مساعدتنا أو حتى الدخول في شراكة عادلة، وإنما يريدون أن يكونوا هم الطرف المسيطر الآمر الذي يحتفظ بكل الخيوط في يديه. إنهم رغم ما فعلته تركيا من بعد عن الإسلام ونبذ للغة العربية لا يوافقون على انضمامها للسوق الأوروبية فهم لا ينسون أنها مسلمة.

* جامعة سنجور التي أنشئت في مصر واتخذت من الإسكندرية مقرًا لها، أثارت العديد من علامات الاستفهام، فهل اختيار الإسكندرية هو لإحياء مقولة الشرق أوسطية؟ ولماذا مصر رغم أنها لا تتكلم الفرنسية؟ أم أن هذه الجامعة أنشئت لضرب الجامعة الأمريكية في مصر في إطار الصراع القائم والمشتعل بين الثقافة الأمريكية والثقافة الفرنسية؟

** لسنا في حاجة للتأكيد على أن مصر هي ملتقى حضارات وشعوب وقارات، وذات موقع استراتيجي، والفرنسيون يهمهم وضع أرجلهم في مصر.

والفرنسيون احتفلوا بذكرى مرور مائتي عام على خروج الحملة الفرنسية من مصر عام 1898. إننا لا ننسى أن نابليون كان آتيًا لضرب الإسلام ولاحتلال مصر، ومن يومها والمعركة موجودة . إنهم يريدون إيهامنا بأشياء شكلية غير حقيقية وهي أنهم أحضروا إلينا المطبعة ووضعوا أقدامنا على سلم الحضارة، إنما في الحقيقة كان قدومهم هو عملية كبرى للسلب والنهب والاحتلال.

وهم يريدون رد الاعتبار لأنفسهم ويريدون أن يقولوا لنا لقد احتفلنا بأننا استطعنا رغم مرور 200 سنة أن نجعلكم متخلفين حضاريًا.

* هل تعتقدين أن المرأة المصرية والعربية لها قضية ومشكلات تستدعي أن يكون لها جمعيات تدافع عنها؟ وما رأيك في الذين يرفعون شعارات حرية المرأة وقضايا المرأة في بلادنا؟

** لعبة المرأة لعبة يلعبها الغرب وللأسف أكبر سلبية في بلادنا أننا ننساق وراء الغرب، ومأساتنا الحقيقية هي أننا لا نختار طريقًا واضحًا.

ولقد شاركت في مؤتمر الأمم المتحدة للسكان الذي عقد في القاهرة ثم في مؤتمر المرأة في بكين ضمن وفد مصر وقدمت أبحاثًا وكتبت عن المؤتمرين ولكن للأسف الشديد ذبحت من أجل الذي قلته وكتبته، إنهم يريدون أن نردد ما نسمع كالببغاوات.

إن المرأة المصرية لو عندها مشكلات فهي من نوعية المشكلات العادية ولكن ليست لها قضية، فليست قضية أن أجعل المرأة تحكم أو لا تحكم.

إنهم في الغرب يشوهون الأمور ويقولون الإسلام أباح التعدد وفي رأيي أن الإسلام قنن التعدد بل منعه. لأن القرآن حينما قال [وإن خفتم ألا تعدلوا فواحدة] والغالب الأعظم لن يستطيع أن يعدل، والإسلام أباح التعدد لأصحاب الأعذار مثل الذي مرضت زوجته أو الذي اختلف مع زوجته اختلافًا شديداً.. الخ. ويشوهون الحقائق ويقولون إن الإسلام يهين المرأة والحقيقة أن المرأة لم يكرمها دين مثلما كرمها الإسلام، ويطالبون بمساواتها في الميراث بالرجل.

وأنا أقول بل النصف كثير على المرأة لأنها ليست ملزمة بأي إنفاق، الرجل هو الملزم بالإنفاق على زوجته وابنته وأمه وأخته، والمرأة تأخذ نصف الرجل لزينتها جاهزًا.

إن عيب رموز تحرير المرأة في بلادنا أنهم وضعوا أنفسهم في مواجهة الإسلام، إنهم في مؤتمر السكان في القاهرة وفي مؤتمر المرأة في بكين يريدون أن ينشروا الفواحش وأن يقولوا من أراد أن يصبح رجلاً فله ذلك ومن أراد أن يصبح امرأة فله ذلك وضرورة إباحة العلاقات الجنسية .. الخ. كل هذا ونحن نصفق ونؤيد ونشيد بالمؤتمرات، ومن ينطق بكلمة الحق يذبح كما فعلوا معي.

=============

#مالك بن نبي و ابن خلدون.. مواقف و أفكار مشتركة

السبت 19 من ذو القعدة1427هـ 9-12-2006م الساعة 01:07 م مكة المكرمة 10:07 ص جرينتش

الصفحة الرئيسة > نافذة ثقافية > كتب

... ابن خلدون ...

صدر بالجزائر كتاب بعنوان مالك بن نبي و ابن خلدون-مواقف و أفكار مشتركة- للكاتب بن إبراهيم الطيب أوضح المؤلف في مقدمته بأن الكتاب جاء ليطرح التساؤل مجددا عن الفكر الحضاري الذي أرق المفكرين منذ القدم في تقديم إجابة شافية عن ماهية الحضارة، و عن وجود أسرارها، و ضعفها وقوتها، و علاقتها بالدين والعام …فظلت أفها مهم- مع ما قدم –قاصرة، ومن المفكرين البارزين الذين استوقفوه في هذا المجال ببحوثهم المتميزة المفكرالاسلامي مالك بن نبي ـ يرحمه الله ـ

ومع المطالعة المستمرة لكتبه تولد لديه الإحساس بأن هناك رابط قوي وصلة وطيدة تجمع بين ابن نبي، والعلامة ابن خلدون وقد قاده هذا الإحساس إلى اكتشاف مجموع علاقات تربط بين المفكرين،فبغض،النظر عن الاحتفاء والإعجاب الذي نلمسه في كتب مالك بن نبي تجاه ابن خلدون،بل ربما التأثر الشديد،نجد هناك قواسم مشتركة تجمع بينهما :

- المكان الجغرافي الذي نشأ وترعرع فيه كل منهما)الشمال الإفريقي والذي يعد مصدر اعتزاز وفخر لهما ( - كثرة الاستفسار والترحال

- المجال المعرفي الذي بحث فيه كل منهما )الفكر الاجتماعي والحضاري الميدان الخصب الذي لمعا فيه( - ثم أخيرا الإحساس بأن ابن نبي هو الوريث الفكري و التاريخي لابن خلدون.

تلك هي الدواعي التي دفعته إلى إجراء نوعا من المقارنة بينهما خاصة على صعيد المباحث التي شغلت كلا منهما،وإيجاد نوع من المقاربة ـ من التقريب ـ في العناصر التي عالجها والتي امتدت عبر صفحات هذا الكتاب لتتسع لسبعة فصول نوجزها فيما يأتي :

الفصل الأول : التعريف بابن خلدون،مولده،نسبه،تعلمه،حياته السياسية والعلمية،مؤلفاته.

الفصل الثاني : التعريف بمالك بن نبي،مولده،نشأته،تعلمه،البحث عن العمل،الإقامة بفرنسا،مؤلفاته.

الفصل الثالث : تعريف الحضارة-نظريات الحضارة البيئية،الدينية،المادية،الجنس،التحدي والاستجابة،رأي آخر.

الفصل الرابع : الحضارة عند ابن خلدون،الحضارة بين الماضي والحاضر،نظرية ابن خلدون،أطوار الحضارة،أعمار الحضارة،أسباب التدهور و الانحطاط،مكانة ابن خلدون في الفكر الحضاري.

الفصل الخامس : الحضارة عند ابن نبي –تعريفه للحضارة-الحضارة لا تتجزأ- الأزمة الحضارية-البناء الحضاري-عناصر الحضارة –الدين وعناصر الحضارة –الدورة الحضارية.

الفصل السادس : - تأثر مالك بن نبي بابن خلدون – التأثير الفكري لابن خلدون – بداية مالك مع ابن خلدون – كتب مالك وابن خلدون .

الفصل السابع : مواقف مشتركة بين مالك وابن خلدون – وحدتهما الجغرافية – المكانة الفكرية – وحدة الحقل الفكري – إسلامية الفكر- الذيوع والشهرة في غير التخصص- تشابه الظروف التاريخية - الترجمة الذاتية

ثم يختم المؤلف دراسته بخاتمة أجمل فيها ما توصل إليه من نتائج حول المفكرين،وضرورة الأخذ بآرائهما في إصلاح وضع الأمة وترشيدها،ومع ما قد يسجل حول هذه الدراسة فإنها تشكل إضافة قيمة ومتميزة تفتح الباب على مصراعيه لإجراء العمل المقارن بين بن نبي والانتلجنسيا-النخب- العربية والإسلامية،وهي فوق ذلك لبنة تضاف لصرح المكتبة العربية الإسلامية

=============

#الأطلس التاريخي للعالم الإسلامي.. كتاب جديد

السبت 19 من ذو القعدة1427هـ 9-12-2006م الساعة 08:52 ص مكة المكرمة 05:52 ص جرينتش

الصفحة الرئيسة > نافذة ثقافية > كتب

صدرت مؤخرا الترجمة العربية لكتاب الأطلس التاريخي للعالم الإسلامي لماليز روثتن. والكتاب يضمُّ التطورات التاريخية من جهة، وإرفاق ذلك بالخرائط الدقيقة والمضيئة للحدث وللتاريخ وللواقع. هذا فضلاً عن الموضوعات والملفات التي يُسارع المؤلف إلى عرضها استيفاءً للحالة الراهنة ، وإيضاحا لما يشغل بال المسلمين والعالم، أو المسلمين من خلال العيش في هذا العالم.

يبدأ الأطلس بمقدمة عامة مرفقة بخريطة للعالم صنعها الإدريسي في القرن الثاني عشر الميلادي. في المقدمة أراد المؤلّف نقض الأوهام التي تدور أو تزدهر فيما يتصلُ بالإسلام. إذ هناك أشكالٌ صراعيةٌ من الوعي بالإسلام في الغرب اليوم. وهي قد ظهرت في الأغلب بعد 11 سبتمبر 2001، والصبغة العنيفة التي أضفتها تلك الأحداث على الإسلام.

أما الفصل الأول فيعرضُ الجغرافية الطبيعية للعالم الإسلامي. وهو يقصدُ بالجغرافية الطبيعية المناطق التاريخية لانتشار الإسلام، ومآلاتها ومآلاته من الناحية الجيوسياسية اليوم. وبعد أن يقصُّ القصة الجغرافية التوسعية للإسلام ديناً وثقافةً وشعوباً، يعود وبسرعة لمناقشة ما عُرف بطبائع الإسلام:» وهل يفضّل الحياة الحضرية أو البدوية؟ وأي البلاد انتشر فيها وسيطر، الساحلية أم الجبلية أم الصحراوية، ولماذا في قارتي آسيا وأفريقيا، وبدرجة رئيسة؟

وبحسب الخرائط فقد قسّم المؤلّف عهود انتشار الإسلام وامتداده إلى أربعة: الفتوحات الأولى (بلاد الشام ومصر)، فالعصر الذهبي (من القرن التاسع الميلادي إلى آخر القرن الحادي عشر)، فالعصر العربي بدأ التآكل فيه، ثم العصر الحاضر. وقد طال «العصر الحاضر» من مطالع القرن التاسع عشر، إلى أواسط القرن العشرين باعتبار أنه كان وما يزال عصر الاستعمار والهيمنة.

أما الفصل الثاني يتضمن الكلام المُصاحب للخرائط سيرةً موجزةً للرسول، ومعنى الهجرة وأهميتها، وبناء دولة المدينة، والمعارك الحربية التي يسميها كُتّاب «السيرة مغازي أو غزوات.

وجاء الفصل الثالث تحت عنوان: توسع الإسلام حتى العام 750م. وهو يقصد بذلك التاريخ اكتمال فتح الأندلس من جهة، والمعركة التي جرت مع الصينيين في أقصى المشرق، وتعلموا فيها من الصينيين صناعة الورق. وينقلنا المؤلِّف بعد ذلك نقلةً واسعةً حينما يدرس انتشار الإسلام بين 751 و 1700م. ففي ذلك العام (1700) كان المسلمون قد انحسروا عن بعض المناطق مثل الأندلس وبعض أنحاء أوروبا، وبعض البحار لصالح البرتغاليين والهولنديين. لكنهم كانوا بالإضافة الى آسيا وأفريقيا، كانوا قد أخذوا بواسطة العثمانيين البلقان وأجزاء من وسط أوروبا وشرقها. وفي العام 1683م حاولوا للمرة الأخيرة الاستيلاء على فيينا. لكن منذ العام 1700 والى أواسط القرن العشرين حدث ذلك الافتراق الكبير بين انحسار السيطرة السياسية الإسلامية لمصلحة الاستعمار الأوروبي في مناطق كثيرة، في حين ما انحسر المسلمون أو ما انحسر امتدادُ الإسلام بالقدر نفسه.

بينما جاءت الفصول التالية لقراءة التطورات داخل الإسلام: الانقسامات الإسلامية: الشيعة والسنّة والخوارج، محدّداً القسمات العقدية، ومناطق الانتشار حتى العام 1000م

وفصل آخر وتعرض للمذاهب الفقهية الإسلامية من جهة، وللغة العربية من جهةٍ ثانية. فالمذاهب تمثّل تطوراً اجتماعياً وثقافياً. أما اللغة فتمتد امتداد الحضارة فحتى انحسار السيطرة العربية داخل دار الإسلام، ما أدّى إلى تراجع العربية لغةً للثقافة وللإدارة. ومع ذلك، فإنه عندما كانت العربية تبلغ الذروة في الانتشار والتأثير، كانت الشعوب التركية بأمرائها وسلاطينها تمد سيطرتها على سائر ديار الإسلام تقريباً. وبقي الأمر على هذا النحو إلى مطلع القرن العشرين

=============

#من يمسح دموع ميندناو؟..(2)

الثلاثاء15 من ذو القعدة1427هـ 5-12-2006م الساعة 11:06 ص مكة المكرمة 08:06 ص جرينتش

الصفحة الرئيسة > المسلمون في الغرب

نعلم أن المسلمون عاشوا في الأندلس حياة رغدة ومنعمة, الأمر الذي أضعف همتهم وأرخى نفوسهم وأوهن من عزمهم فمالوا إلى الراحة وأضاعوا الجهاد، والأصل في المسلمون أنهم في جهاد دائم حتى يزول الظلم عن العالم كله وينتشر السلام والإسلام, والأمة المجاهدة لا تعرف إلا حياة الجد, فلما مال مسلمو الأندلس إلى الرفاهية تخاذلوا, وكانت أوروبا تتحين الفرص للإجهاز عليهم حتى تمكنت منهم في النهاية.

وبعد أن نقلت ساحة المعركة أكثر من مرة من المشرق إلى المغرب, شعرت أوروبا بنشوة النصر وانطلقت وراء المسلمين, وكان رأس حربتها الأسبان والبرتغاليون, وقد توجه الأسبان غرباً بعد أن اعتقدوا بإمكانية الوصول إلى شرقي بلاد المسلمين في سبيل حصار المسلمين من كل جهة والتضييق عليهم.

وقد اقتنع بهذه الفكرة الملاح البرتغالي ماجلان - الذي كان في حقيقة أمره كبيراً للمنصرين- فعرض فكرته على ملك أسبانيا, فشجعه بدوره للقيام بهذه المؤامرة الخبيثة, بل وقدم له كل ما يلزم لتسهيلها.

غادر ماجلان وسار بمراكبه على سواحل أمريكا الجنوبية الشرقية, ثم أبحر إلى المحيط الهادي, حتى وصل إلى تلك الجزر التي عرفت فيما بعد باسم "الفلبين" وكان ذلك عام 927هـ, ولقد استمرت رحلته عاماً وسبعة أشهر, واستسلم في نهايتها لليأس وظن أنه قد وصل إلى جزر التوابل, وهي جزر الملوك في إندونيسيا ولكنه سرعان ما تبين أن الأرض التي رست سفنه عل شواطئها ليست التي قصد.

قبل قدوم الأسبان إلى جزر الفلبين كان أهلها منقسمين إلى كيانات صغيرة على رأس كل منها حاكم, وعندما أتى ماجلان إليها اتفق مع حاكم جزيرة "سيبو" على أن يدخل في النصرانية الكاثوليكية مقابل أن يكون ملكاً على جميع الجزر تحت التاج الأسباني, وأخذ ماجلان يعمل على تمكين صديقه من السيطرة على بقية الجزر.

ثم انتقل الأسبان إلى جزيرة أخرى بالقرب منها عليها سلطان مسلم يدعى "لابولابو" ولما علم الأسبان بإسلام حاكم الجزيرة طاردوا أهلها, وسطوا على طعام أهلها فقاومهم الأهالي, فأضرم الأسبان النار في أكواخ السكان وفروا هاربين.

إلا أن الحاكم المسلم "لابولابو" لم يستسلم وحرض سكان الجزر الأخرى على ماجلان, وأخيراً هجم بنفسه على ماجلان وقتله بيده وشتت شمل فرقته, ورفض تسليم جثته للأسبان, ولا يزال قبره شاهداً على ذلك هناك.

انسحب الأسبان من تلك الجزر بعد هزيمتهم ومقتل قائدهم, تابع "دل كانو" نائب ماجلان الطريق, فوصل إلى أسبانيا عام 928هـ.

بعد ذلك بعثت أسبانيا 4 حملات متتابعة, ومن سوء حظ هذه الحملات أنها رست على شواطئ "جزيرة ميندناو" حيث المسلمين كُثر فقتلوا أفراد الحملات جميعاً وقد كان ذلك بين عامي 949-950هـ.

بعد الإبادة المتكررة للحملات الأسبانية, بدأ الغزو الأسباني الحقيقي عام 973هـ, وقد أعلنوا صراحة بأن هدفهم توسعة رقعة الممتلكات الأسبانية, وتنصير سكان البلاد التي يحتلونها.

وصلت الحملة الأسبانية الكبيرة إلى تلك الجزر واستولوا عليها وأقيمت محاكم التفتيش, وكانت تابعة لمحكمة مكسيكو بالمكسيك, حيث أخذت تتبع المسلمين وتقضي عليهم.

وفي نفس العام حصل قائد الحملة على إذن من فيليب الثاني باسترقاق المسلمين لأنهم ينتمون لعقيدة محمد - صلى الله عليه وسلم-, كما أُذن للكابتن "استبان رودر" بهديم المساجد ومنع إعادة بنائها في "ميندناو" و "صولو".

حاول الأسبان السيطرة على الجزر كاملة, فتم لهم ذلك في الجزر الشمالية، ولكنهم عجزوا عن إخضاع الجزر الجنوبية التي استعصت عليهم حيث صمد المسلمون من سكان هذه الجزر صموداً قوياً جعل معه الأسبان ييأسون نهائياً من السيطرة على المناطق الإسلامية هناك, لذلك انصرفوا إلى المناطق الأخرى يوطدون بها سلطانهم و يدعون فيها إلى النصرانية الكاثوليكية.

وظلت الحرب سجالاً بين الأسبان ومسلمي المورو - كما أطلق عليهم الأسبان هذا الاسم- ثلاثة أو أربعة قرون, وكانت سفن المسلمين المسلحة تقوم بمهاجمة السفن الأسبانية وتأسر الآلاف من الأسبان وتبيعهم في سوق الرقيق كرد فعل لما ارتكبه الأسبان من استعباد المسلمين ومحاولة تنصيرهم، وقد استطاع المورو المسلمون - رغم كل ما تعرضوا له- من الحفاظ على عقيدتهم وملامح الحضارة الإسلامية خلال تلك الفترة الحرجة العصيبة الطويلة من الاستعمار.

ولكن ماذا بعد...؟، هذا ما سنعرفه في لقاءنا القادم إن شاء الله تعالى، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

=============

#الفردوس المستعار والفردوس المستعاد.. كتاب جديد

الاثنين14 من ذو القعدة1427هـ 4-12-2006م الساعة 10:12 ص مكة المكرمة 07:12 ص جرينتش

الصفحة الرئيسة > نافذة ثقافية > كتب

صدر مؤخرا في دمشق كتاب بعنوان الفردوس المستعار والفردوس المستعاد للكاتب والطبيب العراقي الدكتور أحمد خيري العمري .والكتاب ينقد أسس الحضارة الأميركية ودراسة سيرتها الذاتية ويقارنها بثوابت الإسلام، منطلقا من موقع المعايش لحضارة أميركا والمتابع لثقافتها.

يرى الكاتب أن حضارة أميركا قامت على «دين أميركي» ابهر مبشروه المهاجرين بمعجزات وخوارق مثل ناطحات السحاب وتمثال الحرية والشاطئ الممتع في كاليفورينا والوصول إلى القمر ومجموعة من الإنجازات المعمارية مثل «اكبر متاجر في العالم» واكبر كاتدرائية في العام وأطول جسر في العالم وأمتع مدن لهو مثل «ديزني لاند»، ومدينة صناعة الأفلام هوليوود..

لتصنع بكل هذا الحلم الأميركي القائم على الاستثناء وهاجس (الأول) و(الفردوس المستعار). تأتي قوة الحلم الأميركي من كونه حقيقيا مشخصا، فالجنة (هنا الآن). قامت أميركا على (وصايا عشر) أميركية هي وصفة الفوز بالفردوس الأرضي حسب تعبير سابق للكاتب المصري المعروف عبد الوهاب المسيري:

عش دع غيرك يعيش ـ الوقت يطير عندما تمرح ـ تسوق حتى الموت ـ فقط اعملها ـ لا ربح بلا عناء ـ لا تطل الصبر على حقوقك ـ الوقت مال ـ وجدت القواعد لتخرق ـ الله يساعد من يساعدون أنفسهم. فلسفة الحلم الأميركي تشكلت بأفكار آدم سميث وايمرسون ووالت ويتمان . المادة هي حجر الحضارة الأميركي الأسود الذي يحجون إليه. المادية ـ ركن الفردوس الأميركي الأول- موجودة غريزيا لكنها تحولت في أميركا إلى عقيدة وايديولوجيا.

البراغماتية والتي تأسست على يد ويليام جيمس وتشارلز ساندرز بيرس الذين أوليا الأهمية لنفعية النظريات والفلسفات آنيا. شكلت البراغماتية مع (الداروينية الاجتماعية) التي أسسها البريطاني هربرت سبنسر والتي نقلت نظرية دارون من تطور الكائنات الحية إلى تطور الطبقات والمجتمعات دستورا غابيا للحياة الأميركية يجعل البقاء للأنفع لا الأصلح كما شاعت الترجمة.

الركن الثاني هو الفردية التي حددها الكس دي توكفيل بأنها الحد الفاصل بين العالم القديم والعالم الجديد. الفردية تأتي قبل المواطنة، وهي لا ترى معيارا للمبادئ والأخلاق إلا من خلال المصلحة الفردية الشخصية مما يجعلها (نرجسية) مغلقة وابدة للذات، وهي تختلف عن الفردية الإنسانية في الحضارة الإسلامية العابدة لله .

في ظل هذه الفردية ظهر مفهوم (معبود الجماهير) و(الوثن الأميركي التلفزيوني الهوليوودي ـ idol ـ وهي ذات الكلمة التي ترد في الوصايا العشر التوراتية في صوف الوثنية المنبوذة) والفوز بالثراء والنجومية. الركن الثالث هو اقتصاد حر عبر العرض والطلب والذي بشر به ادم سميث نبي الرأسمالية الاسكتلندي صاحب كتاب ثروة الأمم والذي كان أساسا عالم أخلاقيات!.

الاقتصاد الحر يقوم على ثلاثة ثوابت هي الربح وعدم التدخل والفردانية. لكن (فردوس عالم النمو) تحول إلى عالم (الواحد بالمئة)، فأميركا هي أكثر بلدان العالم فجوة بين الأغنياء والفقراء(1% طبقة الأغنى الذين يملكون 40 إلى 60% من الدخل القومي، ولو حذفت قيمة الممتلكات الشخصية لوصلت النسبة إلى 90 - 59% من الدخل القومي).

قائمة فوربس تقول إن 43% من الأغنياء ولدوا أغنياء بالوراثة. الثابت الرابع من ثوابت الفردوس الأميركي هو الاستهلاك بلا حدود وتكريس قيم ( الجديد هو الجيد وتأبيد الاحتفالات ..)إلى حد أن الرئيس الأميركي دعا الأميركيين بعد أحداث سبتمبر إلى العودة إلى «التسوق» والحياة الطبيعة، تحض على التسوق ماكينة إعلامية تروج للإعلانات إلى حد أن السيارة تحولت إلى «هوية».

ويستشهد الكاتب بمسلسل آل جونز الألداء (1913) الذي تابع صدوره ونجاحه عبر ثمانية وثلاثين عاما غارسا قيم التسوق ورياضة «الشوبينغ» عبر حيل «شرعية»مثل التقسيط «المريح» إلى أن جاء التلفزيون الذي حول الأميركي إلى (حيوان متسوق شعاره أنا أتسوق إذا أنا موجود) .

الأميركي يتعرض إلى حوالي 1000 إعلان يوميا عبر وسائل الأعلام المختلفة! الثابت الخامس وراء الفردوس الأميركي انها بلا تاريخ، انطلقت من النقطة صفر، التاريخية فلسفة إن «الآن» أفضل من الأمس. تجسدت التاريخية بأفكار فلاسفة مثل تورغوت وكونودركوت ولاحقا هيغل ثم أتى فرانسيس فوكوياما الذي بشر بنهاية التاريخ وقال بأن الليبرالية تضع نقطة النهاية لدياليكتيكية الايدولوجيات التي نظّر لها هيغل. وقد أثارت ظاهرة انعدام الحس التاريخي وعبادة اللحظة الحاضرة عند الأميركيين مثقفين أميركيين نقديين مثل تشومسكي وستيفن برتمان..

ويلفت الباحث إلى أن التحلل والإباحية والسعي إلى اللذة ظاهرة رافقت انهيار مختلف الحضارات لكنها في الحالة الأميركية غدت جزءا من أسسها وصعودها وعيشها إلى درجة أن أميركا غدت بلد اللذة) hedonism (ساهم في ذلك نظرية طبيب الأعصاب النمساوي فرويد(1856- 1939) في الليبيدو واختزالها في أميركا على يد ابن أخته ادوارد بيرنز (1891- 1995)إلى حقيقة علمية.

زادت نظريات الفرد كينزي (1894- 1956) من الإباحية، ورسخت قوة الأرقام في التشريع ( ما يسمى بالرأي العام والديمقراطية) وتحولت نتائج الإحصاء الذي قام به على مساجين عممت على الأميركيين إلى شعارات مقدسة:

( الشيء الوحيد غير الطبيعي هو ما لا تستطيع فعله- مجرد حصول الفعل يجعله طبيعيا) ومقولة (خطيئة الجميع ليست خطيئة) و(الإنسان مزدوج الميل الجنسي ) فلم يعد الجنس عيبا حسب الأعراف الجديدة، ساهم في شيوع الزنا حبة منع الحمل التي أجازتها منظمة الغذاء والدواء في عام 1960

كما اسقط الشذوذ الجنسي من قائمة أمراض جمعية الأطباء النفسانيين الأميركيين في عام 1968 وأجيز تصوير الأفلام الإباحية وفي عام 1973. رغم هذا «الفردوس» تظهر أعلى نسبة اغتصاب وولادات غير شرعية إلى درجة أن الطفل الأميركي لم يعد يعرف ماذا تعني كلمة (الأب).

من مقلب آخر يقوم الكاتب بمقارنة ثوابت «الجحيم» الأميركي مع أركان الدين الإسلامي فيحلل الركن الأول وهو كلمة الشهادة التي تجعل عبودية الإنسان لله وحده وتعني الأيمان بالغيب( الجزء غير المرئي من جبل الجليد) ضد ثابت المادية أو الجزء الظاهر من الجبل. والى الركن الثاني:

الصلاة التي تذوّب الفرد في الجماعة وتجعل المجتمع شركة في خدمة الأفراد، والى الركن الثالث: الصيام الذي يحارب الجشع والنهم مقابل الاستهلاك بلا حدود والركن الرابع: الزكاة الذي يعني تدخل الدولة في اخذ( الحق المعلوم) لإحداث توازن بين الفقراء والأغنياء مقابل رأسمالية تقدس الفردانية. والى الحج، الركن الخامس، الذي يركز الكاتب عليه في استعادة الفردوس المفقود الأول، والإيمان بحضارة الإيمان باليوم الآخر، مقابل حضارة (الآن هنا) اللّذية الصرفة.

==============

#الغرب يعادينا لأننا نمتلك منظومة قيم تهدده

الخميس10 من ذو القعدة1427هـ 30-11-2006م الساعة 01:43 م مكة المكرمة 10:43 ص جرينتش

الصفحة الرئيسة > حوارات

... شعار منظمة المؤتمر الإسلامي ...

شعار منظمة المؤتمر الإسلامي

ـ علماء السياسة المسلمون يهربون إلى التاريخ ولا يواجهون الواقع.

ـ العالم يسير نحو التكتل والوحدة ونحن نسير نحو التفكك والتجزئة.

ـ على النخبة السياسية أن تعمل لصالح الأمة ككل لا لصالح قضايا قطرية ضيقة.

ـ الأحزاب تعمل على تفتيت الأمة ولا مجال لها في نظام إسلامي.

ـ اليهود يخططون ونحن ننفذ ما يخططون.

حاوره / أحمد وهدان

مفكرة الإسلام : رغم الريادة العلمية والحضارية الثابتة تاريخيا للعرب والمسلمين ورغم أن هناك علوما إنسانية تكاد تكون إسلامية خالصة مثل علم النفس وعلم التربية وعلم الاجتماع، إلا أن علم السياسة الإسلامي مازال يحبو باحثاً عن علماء يؤصلونه ويخرجونه إلى الوجود. والدكتور غازي رماح أستاذ العلوم السياسية بالجامعة الماليزية من المهتمين بعلم السياسة الإسلامي ومن المحللين لأوضاع العرب والمسلمين من خلال منظور إسلامي، وعن هموم المسلمين السياسية كان لنا معه هذا الحوار أثناء زيارته الأخيرة للقاهرة لحضور أحد المؤتمرات الإسلامية المهمة.

* هل نستطيع أن نقول إن العلماء المسلمين تتلمذوا على علم السياسة الغربي وأصبحوا أسرى لمفاهيمه، وغفلوا عن تراثنا وهويتنا ولم يفكروا في تأصيل علم سياسة إسلامي؟

** إحدى الإشكاليات التي تواجهها الأمة أن النخبة السياسية فيها إما أنها درست في الغرب أو أنها تخرجت من المؤسسات العسكرية، وبالتالي فلم تستق علم السياسة من واقعها. والسياسة لا تدرس إلا في بيئة الوطن وينبغي أن تستمد الحياة من جذور تاريخها ومن تراثها. وهذا لا يمنع أن ننفتح على معطيات السياسة الدولية، ولكن يكون ذلك عن طريق رصد المعلومات للاستفادة منها في مواجهة ما يحدث حولنا، ولا تكون هي الزاد الذي نستقي منه لندرس الأمور التي تتعلق بدول أخرى ونبتعد عن بيئة الوطن. ومن أهم الأمور الخطيرة أن أغلبية العلماء يهربون إلى التاريخ ولا يواجهون الواقع.. والسياسة هي التاريخ المعاصر.. وإذا لم نتعامل مع هذه القضايا بما تستحقه من تحليل ودراسة عبر مراكز بحث علمي فسوف نبقى في ملجأ للتاريخ، أو نذهب للغرب لنتحدث فيما يتحدث، وننظر إلى الأمور بمنظوره الخاص. وبالتالي فنحن في حاجة إلى أن نصوغ علم سياسة ونعمل لإيجاد موسوعة سياسية إسلامية تكون مرجعا علميا للباحثين وعلماء السياسة في بلادنا.

وعلينا أن نطور الدراسات العليا للعلوم السياسية في الوطن العربي بحيث نخرج نخبة تكون قادرة على التعامل مع القضايا المحلية والإقليمية والدولية على أسس إسلامية. إن الطبيب قد يتسبب في موت مريض والمهندس قد يتسبب في هدم بناء أما السياسي فقد يتسبب في هدم أمة بكاملها. وهنا أقول إن الموروثات التي ورثناها في تربيتنا الاجتماعية تمنع الحديث في السياسة أو الاقتراب منها. ولعل حالة التعسف والاضطهاد الفكري في الوطن العربي وضرب الحركات الفكرية في الحقبة الماضية قد أدى إلى إيجاد حالة من الإحباط بحيث يبتعد الناس. وباتت السياسة كما لو كانت نوعاً من الترف الفكري، أو هي حكر على الذين يمارسون السلطة. إن السياسة ثلاثة دوائر: دائرة تمثل الرأي الواعي المستنير، ودائرة تمثل النخبة المتعلمة القادرة على أن تنير الطريق للعامة ولصانع القرار، ثم دائرة تمثل الأمة كلها. ودائرة النخبة ينبغي أن تتحدد في العلماء الأتقياء.. ومأساة الأمة أن شريحة عريضة من علمائها تتلمذوا في المدارس الغربية والشرقية ثم عادوا بفكر يخالف مصالح الأمة.

* العالم الإسلامي يعيش عصر انكسار وتراجع، والأوضاع العالمية الجديدة تؤثر عليه سلبيا. كيف ترى قضايا العالم العربي والإسلامي من منظور عالم السياسة المهموم بهموم أمته؟

** إن سلاح الغرب في المرحلة المقبلة هو العولمة الناعمة التي تكتسح الحدود وتدمر التاريخ والجغرافيا والتراث وصولاً إلى النهب الاقتصادي مستغلة في ذلك ثورة المعلومات التي من خلالها يحدث الاختراق الثقافي للأمة. وفي مواجهة ذلك ينبغي أولاً أن نعد بيلوغرافيا للنخبة السياسية في الوطن العربي ونجسر الاتصال بينها ونعمل جهدنا ألا تسير هذه النخبة لصالح السياسيين الذين يحركونها خدمة لأهدافهم، بل نريد نخبة سياسية تعمل لقضايا الأمة ككل لا أن تعيش قضايا قطرية، وكلما اهتمت الأمة بقضاياها العامة كلما كانت حية، وكلما انصرفت إلى القضايا الفردية والمحلية الضيقة فإن هذا يعني تفسخها وتفككها، ونحن في مرحلة تتطلب توحد الأمة وتكتلها في مواجهة التكتلات العالمية.

فهذه أوروبا قد توحدت، وهذه أمريكا الشمالية تتوحد فيما بينها وتحاول التوحد مع أمريكا الجنوبية، ودول آسيا تدخل في تكتلات مع بعضها، أما نحن فنعمل في الإطار المعاكس، والدليل على ذلك أننا أنزلنا القضية الفلسطينية من إطارها الإسلامي الكبير إلى الإطار العربي ثم أنزلناها مرة أخرى من الإطار العربي إلى الإطار الفلسطيني ثم أنزلناها من الإطار الفلسطيني العام بكل فصائلة إلى إطار منظمة التحرير فقط. هذا أمر والأمر الآخر أننا في الوقت الذي ننهمك فيه في مصالحة عربية إسرائيلية نسينا المصالحة العربية العربية، وأنهكنا أنفسنا في الحديث عن السوق الشرق أوسطية التي تم تصميمها لاستيعاب إسرائيل دون أن نبذل الجهد الكافي لإقامة السوق العربية المشتركة.

إن أحد الخبراء الفرنسيين يقول إن لم يدخل الوطن العربي عصر التوحد الاقتصادي بسرعة فإنه سيدخل القرن القادم بالمجاعة والفاقة. ومشكلتنا ليست مادية كما يتصور البعض، فالخليج العربي قبل النفط نقل المد الإسلامي إلى العالم. ومصر قبل الغنى الاقتصادي كانت تقدم المساعدات لكثير من الدول العربية. ولذلك فإن التجربة التي يجب أن نأخذها من انهيار الاتحاد السوفيتي والنظم الشمولية هي أن من يملك القيم هو الذي يبقى على قيد الحياة.

ولو كانت التكنولوجيا هي العنصر الوحيد لقوة الأمم لما انهار الاتحاد السوفيتي الذي كان يملك 30 ألف رأسا نووياً ومليون و 700 ألف جنديا ويمتلك أكبر مساحة من الأرض، لكنه تهاوى ليصبح جزءً من التاريخ. إن الحضارة تقف على رجلين رجل مادية وأخرى معنوية وهي القيم. ولذلك أدرك الغرب والشرق أن من يملك القيم يملك النصر، وهذا هو سر الهجمة على المسلمين، فالمسلمون لا يملكون المال فميزانية شركة جنرال موتورز الأمريكية تعادل ميزانية دول مجلس التعاون الخليجي، وميزانية دولة فقيرة مثل إيطاليا تعادل ميزانية الدول العربية كلها. والعرب في مجال التكنولوجيا يقفون في آخر الطابور، ومع هذا يصنفهم الغرب العدو رقم واحد لأنهم يدركون أن الإسلام والإيمان والقيم هي التي تحفظ للأمة وزنها.

* إذا كانت الأمور على هذا القدر من التعقيد والتراجع، أليس هناك أمل في أن يتخطى المسلمون هذه الحواجز؟

** إن الأمة المسلمة تمتاز بأنها تنهض بعد كل كبوة وتفيق بعد كل غفلة وتتعافى بعد كل وعكة، وهي أمة وإن تجبر على الانحناء فإنها لا تعرف الفناء، وقد محيت شعوب كثيرة وانهارت حضارات وأصبحنا نزور آثار حضارات الفراعنة والآشوريين والفينيقيين والرومان واليونان والأقباط والفرس، وانتهت الإمبراطورية البريطانية، أما هذه الأمة فقد كانت قادرة دائما على النهوض، ولذلك ففي مرحلة جلد الذات ينبغي أن نقول إن هناك عملاً، فقد جاء المد الصليبي من الغرب في عشر حملات خلال قرابة 200 عام، وجاء الغزو التتري من الشرق فعاث فساداً في بلاد المسلمين، لكن الأمة أخذت بأسباب النصر ولم تيأس وتحركت فيها روح الجهاد واستطاعت أن تقف من جديد شامخة وتهزم عدوها شر هزيمة. وفي هذا المقام أدعو إلى مصالحة عربية عربية، ثم مصالحة عربية إسلامية، ففي وقت ينظر لنا أعداء الأمة على أننا العدو رقم واحد فإنهم ينظرون إلينا مجتمعين لا فرادي، ولذلك يجب فعلاً أن نواجههم بالتوحد الذي يخيفهم ويردعهم.

* من ثقافة العولمة إقامة النظم الديمقراطية بما فيها من أحزاب وتعددية وتداول للسلطة.. فماذا تعني هذه الأمور في المنظور الإسلامي؟

** الاختلاف في الرأي يولد الحقائق بشرط أن يكون هذا الخلاف ضمن مظلة الإسلام، ونحن لا نريد للأمة أن تعتنق نوعا من الأنسجة الفكرية التي تباعد بينها، فكلما كان النسيج الفكري موحداً كلما كانت الأمة أكثر التقاء. إن التعددية الحزبية تأتي نتيجة اختلاف الأقليات، فإسرائيل مثلاً بها 22 حزبا سياسيا وذلك لأن المجتمع الإسرائيلي يتكون من 90 جنسية ويتكلم مائة لغة، وكذلك الحال بالنسبة لأمريكا وأوروبا، لكننا والحمد لله لا نعاني من هذه الانقسامات، فلماذا نحاول جاهدين أن نقسم أنفسنا؟ ولا يجب أن نعتقد أن النموذج الغربي نموذج سليم، لكن إذا قلنا بأحزاب إسلامية تحت مظلة إسلامية في نظام يطبق الإسلام فهو أمر مشروع، لأنه يعني مدارس فكرية تجتهد داخل الإطار الإسلامي. أما بالنسبة للديمقراطية فلا توجد ديمقراطية إلا في الإسلام. فحينما كان يختلف الخليفة عمر مع المرأة كانت المرجعية هي القرآن. أما حين تختلف أي سلطة مع مواطن فإنها تكون هي الخصم والحكم في آن واحد. إن المرجعية في الإسلام مرجعية إلهية فإذا غابت فإن الحاكم يحكم بمرجعيته هو وهي التسلط.

* ما هو رأيك فيما يجري الآن بين العرب واليهود؟ وما هي رؤيتك لمستقبل عملية السلام؟

** لن يكون بيننا وبين اليهود إلا حوار واحد هو حوار السلاح، وما هو قائم من سلام الآن ليس إلا هدنة مؤقتة تستفيد منها إسرائيل، وإسرائيل تسعى في استراتيجيتها المستقبلة أن تضرب الإسلام . وشيمون بيريز يقول في كتابة "الشرق الأوسط الجديد": إن حربنا إنما هي مع الدشداشة البيضاء والقلسنوة السوداء.. يقصد أن الحرب إنما هي مع الإسلام بفصيليه السنة والشيعة.. وهذا ما قرره القرآن في قوله [لتجدن أشد الناس عداوة للذين آمنوا اليهود والذين أشركوا].. اليهود ليسوا أشد الناس عداوة لرواد الملاهي الليلية، ولكنهم أشد الناس عداوة لأولئك الذين يصلون في الحرم الإبراهيمي. ولذلك فإسرائيل مشتبكة الآن فقط مع الفصائل الإسلامية المجاهدة. وللأسف فإن أمريكا تساعد إسرائيل في ذلك، فهي تحاول التضييق على أي من يقترب من الإسلام في أي بلد كان، حتى إذا تم القضاء على المقاومة الإسلامية تأتي الجرافات الصهيونية فتتكفل بالباقي.

* يتحدث الكثيرون عن الجوانب الإيجابية للعولمة، لكن هل لها آثار سلبية على العالم الإسلامي؟

** من أسباب العولمة أن هناك 258 شخصا في العالم يملكون نصف ثروة العالم و 90% من رأس المال في الولايات المتحدة والذي يسيطر عليه اليهود غير مستغل. ومن أجل توظيفه خارج الولايات المتحدة لا بد من تحطيم الأديان والقوميات والتاريخ والقيم الحضارية والثقافية التي تقف سداً منيعاً في وجه تدفق هذا المال. ولذا جاءت الخصخصة واتفاقيات التجارة الحرة من أجل تحقيق هذه الغايات وتدمير الاقتصاديات الوطنية للشعوب المغلوبة فضلاً عن قهرها. إن الثورة الصناعية في الغرب قضت على الصناعات الحرفية في الوطن العربي، ومن المنتظر أن تقضي الخصخصة على الصناعة العربية. إن مدير البنك الدولي يقول في أحد المؤتمرات الاقتصادية في إحدى الدول العربية: إننا نقدم القروض للدول العربية بثلاثة شروط: الأول القفز فوق التاريخ (أي ألا تدرس الثقافة الإسلامية والقضية الفلسطينية لأن الذي يقاوم اليهود هم المتدينون.. والجامعات الخاصة التي أنشئت في عصر الخصخصة تدرس الكمبيوتر واللغات ولا تدرس الثقافة والتاريخ. والشرط الثاني خصخصة التعليم الجامعي (حتى تفقد الدولة سيطرتها على عملية التنشئة). والشرط الثالث أن تكون إسرائيل جزء من أي مشروع في المنطقة.

* ما هو تقييمك لأداء الحركة الإسلامية في العالم العربي على المستوى السياسي؟

** لقد واجهت الحركة الإسلامية ثلاثة تحديات رئيسية هي القمع السياسي والأمني من الحكومات، ثم الاختراق من الداخل من جهات أخرى بغرض إفساد الحركة الإسلامية من الداخل، ثم ضعف مستوى القيادة داخل الحركة الإسلامية لأن العلماء لا يملكون مصادر رزق مستقلة كما يملك علماء الشيعة مثلاً. إن العلماء السابقين كان أحدهم عالما وله حرفة فإذا ضاق عليه الأمر كان يقتات من حرفته، أما هذه الأيام فإن العلماء أصبحوا موظفين وأي قطع لأرزاقهم معناه الضياع. ثم إن تشجيع الحركات الصوفية قد يؤدي إلى الاختراق لأن غياب الوعي السياسي فيها يجعل الآخرين يوظفونها كما يريدون رغم جهودها في التربية الدينية. فما ينقصنا هو الوعي، فحينما يزج بالقيادات في السجون فإن الشعوب تكون ليس لها جسور. إن العلماء المخلصين قادرون على صنع الكثير وتغيير الأمم، والأمة تصلح بصلاح علمائها وأمرائها، والأمراء يصلحون بصلاح العلماء، فالعلماء ملح الأمة وإذا فسد الملح فمن يصلحه؟

ومأساة الأمة أن علماءها، بسبب الاضطهاد الفكري والتضييق عليهم والظروف الاقتصادية الصعبة، هربوا إلى الغرب، ففي الولايات المتحدة وحدها هناك 75 ألف عالم مسلم. ولذلك كان عمر بن الخطاب يحرص ألا يخرج الصحابة من المدينة لأنهم يمثلون الذخيرة الفكرية للأمة، وظل الأمر كذلك إلى ما بعد مجيء عثمان بن عفان. أما الآن فصارت الأمة تعلي من شأن الفنانين والرياضيين وترفعهم فوق العلماء، وأنا أقول إن أمة بغير علماء عربة لا يجرها حصان.

* ما هو في رأيك الفرق بين الإعلام العربي والإعلام الصهيوني؟

** أجريت مؤخرا بحثا عن تحليل المضمون لبرامج التليفزيون الإسرائيلي أثبت فيه أنه من خلال هذه البرامج يمكن أن نتوقع السياسات العربية المستقبلية، فقد وصل الأمر إلى أن اليهود يخططون لنا ونحن ننفذ تخطيطهم بالضبط، وهم ينحتون المصطلحات ويكررونها ثم نستخدمها نحن بمدلولاتها التي صممت ضد مصالحنا. ففي اتفاقيات أوسلو أصبح اليهود يستخدمون مصطلح إعادة الانتشار بدلاً من الانسحاب، وسرنا وراءهم نردد ما اخترعوه من مصطلحات. إن الأكاديميين اليهود الذي اجتمعوا عام 1968 قالوا إنه قبل عام 2000 سوف توقع جميع الدول العربية معاهدات السلام مع إسرائيل وهو ما حدث. إنني هنا أفهم لماذا كان رسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم يحرص على أن نخالف اليهود والنصارى في كل أمورهم وأن يكون لنا تميزنا في الزي وفي التقويم وفي الأعياد، وفي المصطلحات وفي المنهج وفي المرجعية، وحينما افتقدنا المنهج والمرجعية أصبحنا نسير كالعميان بدون قائد، بل أصبحنا كالأعمى الذي يتكئ على يد عدوه، وهو لا يدري أن عدوه يسير به نحو هوة سحيقة حتى لا يخرج منها أبداً

===============

#ليس بيننا وبين الغرب أسس تؤدي لحوار ناجح

الخميس3 من ذو القعدة1427هـ 23-11-2006م الساعة 11:13 ص مكة المكرمة 08:13 ص جرينتش

الصفحة الرئيسة > حوارات

... د. محمد الجليند ...

د. محمد الجليند

ـ الغرب يدعو إلى الحوار شفويا ولكنه يمارس الهيمنة والعنف عملياً.

ـ الحوار بين الأديان كلمة حق يراد بها باطل.

ـ المسلمون مارسوا الحوار مع الآخر وفق قواعد تحترم غير المسلمين.

حاوره/ أحمد وهدان

د. محمد الجليند، أستاذ الفلسفة الإسلامية بكلية دار العلوم من العلماء المتميزين في مجال الفلسفة والثقافة والتراث الإسلامي ومن المهتمين بقضايا تطوير الفكر الفلسفي الإسلامي والحوار مع الآخر. ونحن في هذه السطور نثير معه عدد من القضايا الثقافية والفكرية لنسترشد بعلمه.. ونسلط الأضواء على القضايا التي يجب أن يركز عليها الفكر الإسلامي في المرحلة الراهنة.

* كثر الكلام في هذه الأيام على الحوار مع الآخر الديني والثقافي والعرقي.. والتواصل بدلاً من القطيعة… ما هي الرؤية الإسلامية للحوار مع الآخر؟

** مبدأ الحوار مع الآخر مبدأ قرآني أمر به القرآن وطبقه رسول الله صلى الله عليه وسلم في حياته العملية وهذا المبدأ قد يصل إلى الواجب أحياناً من باب مالا يتم الواجب إلا به فهو واجب، وهذا يدفع عن المسلمين تهمة الانغلاق ورفض الحوار مع الآخر. فالقرآن الكريم يقول [يا أهل الكتاب لم تحاجون في إبراهيم وما أنزلت التوراة والإنجيل إلا من بعده أفلا تعقلون. ها أنتم هؤلاء حاججتم فيما لكم به علم فلم تحاجون فيما ليس لكم به علم والله يعلم وأنت لا تعلمون] وعلى مستوى التطبيق العملي لهذا المبدأ لم تكن أول هجرة للمسلمين إلى مسلم بل كانت إلى النجاشي النصراني وذلك لمبدأ عام يبحث عنه المسلمون وهو العدل وأن هذا الرجل لا يظلم عنده أحد. وحينما هاجر الرسول إلى المدينة اتخذ ابن أريقط دليلاً له.. ولم ينجب رسول الله ولداً إلا من مارية القبطية. ومات رسول الله صلى الله عليه وسلم ودرعه مرهونة عند يهودي. والحوار لما كان بأيدي المسلمين وهم أصحاب القوة والحضارة كان له منهج ومقاصد وقواعد.. فكان يقوم على أن الحكمة ضالة المؤمن أينما وجدها فهو أحق بها. فالمسلم أحرص الناس على الحكمة حتى ولو كانت على لسان كافر بدينه لأن الحكمة في حد ذاتها حقيقة.

والمسلم في حواره مع الآخر مأمور بأن يقول الحق لقوله تعالى:[وقل الحق من ربكم فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر] فلا يفرق المسلم بين الناس على أساس ديني. ويحكم المسلم كذلك في حواره مع الآخر أنه لا يعرف الحق بالرجال وإنما يعرف الحق أولا ثم يعرف أهله ثانياً. ثم إنه ليس من وظيفة المحاور أن يضمن ولاء الذي يحاوره أو إيمانه بقضيته وإنما وظيفته أن يبين الحق ويوضحه ويبين ما أحاط به من شكوك ثم بعد ذلك [فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر].

والحوار في الإسلام أساساً يتم بالكلمة والموعظة الحسنة وحينما يكون الحوار بغير الكلمة فإننا ننتقل إلى موضوع الجهاد وهو محكوم بضوابط ومقيد بقيود تحكمه فلا يتم قتال إلا من يحمل السلاح ضد المسلمين فلا يقتل شيخ كبير ولا امرأة ولا طفل ولا تحرق أو تهدم أماكن العبادة ولا تحرق أو تهدم أو تنهب البيوت ولا تقطع الأشجار.. فلم يعرف عن المسلمين عبر التاريخ أنهم ارتكبوا مجازر ضد المدنيين. أما غير المسلمين فقد فعلوا ذلك مراراً وتكراراً ومازالوا يفعلونه في البوسنة وفلسطين والشيشان وكوسوفا ولبنان وأفغانستان وغيرها.

* المستشرقون في الغرب، ومن هم على شاكلتهم من المسلمين المهزومين، يقولون إن الإسلام ليس فيه حوار وإنما هو غزو واستعمار وقتل وفرض للآراء بالقوة. كيف نرد على هؤلاء؟

** هذا تزييف وتزوير.. لكن الصحيح هو أن الحروب الصليبية الاستعمارية الحاقدة التي شنها الغرب المتعصب ضد العالم الإسلامي تمخضت عن حركة صليبية فكرية مخالفة للدين المسيحي الذي هو دين ود وإخاء.. بينما الحركة الصليبية استكبار وحقد وطغيان ورفض للآخر. وهذه الحركة الفكرية استطاعت أن تعمل عملها خلال القرون الثلاثة الماضية حيث وقعت مشروع نهاية العالم الإسلامي.. حيث تم وضع نحو مائة مشروع أوروبي لإسقاط الخلافة العثمانية وكان لإنجلترا وفرنسا وألمانيا وإيطاليا نصيب الأسد في وضعها وانتهت بوضع هرتزل في رأس السهم الذي اتخذ من يهود الدونمة مؤسسة لإسقاط الخلافة. وهكذا نعرف الفرق الشاسع بين لغة الحوار لما كان الأمر بأيدي المسلمين حيث قام الحوار على أساس احترام دين الآخر وعقيدته وخصوصيته.. إلا أن الآخر لم يعرف تجاهنا إلا الاحتلال والحروب الصليبية والاستعمار الحديث وزرع إسرائيل في جسدنا. ولغة الحوار التي يجيدها هذا الآخر هي الاستكبار والعنف والفرض والإذعان وينطلق في علاقته بالآخر ليس من أرضية الندية والتكافؤ والمساواة ولكن من أرضية الاستعلاء وإملاء الآراء. وحينما احتل الغرب ديار المسلمين كانت تصرفاته المتعلقة بالأمور الثقافية والتعليمية تنم عن منهجه في الحوار مع هذا الآخر. لقد عمل بكل طاقته على تغيير المناهج الدراسية وتفريغها من أي محتوى يركز على خصوصيتنا الإسلامية وعقيدتنا.. وعمل على تفريخ أجيال تابعة له تتحدث باسمه ومنهزمة فكرياً ونفسياً ومبهورة به.

وهناك مثال حديث لهذا الحوار وهو ما سمي بالحوار بين الشمال والجنوب الذي فشل فشل ذريعا لسبب بسيط وهو أن الغرب لا يريد أن يسمع إلا نفسه ولا يريد أن يدفع ثمن امتصاصه لثروات العالم. وفي أثناء مؤتمر قمة الأرض في ريودي جانيرو بالبرازيل منذ سنوات طلبت دول العالم الثالث مبلغ 125 ميار دولار كمساعدات.. إلا أن الغرب لم يقدم إلا 7 مليار فقط، ثم تهرب بعد ذلك.

* يحاول الغرب أن يصور الإسلام بأنه دين الجهل والدجل والخرافة.. ولذلك يصدر لنا مفاهيم مثل التنوير والتقدمية. أما العلمانيون في بلادنا فيقولون إن المسلمين لم يهتموا قديماً بنقل الفلسفة الأوروبية التي كان يمكن أن تكون سبباً في العقلانية والحداثة.. كيف نرد على هذا الكلام؟

** حينما بدأ المسلمون في ترجمة حضارات العالم وعلومهم ومنها: العلوم اليونانية الغربية كان لهم موقف متميز من هذا النقل فتحفظوا في نقل العلوم التي تتصل بالحكمة والفلسفة لأن هذه العلوم تتصل بهوية الأمة وخصوصيتها وعقيدتها أي تصورها عن الله وعن الأنبياء وعن الإنسان وعن العلاقة بين الله والإنسان. أما العلوم الطبيعية كالطب والفلك والرياضيات فلم نجد عالماً مسلماً تحفظ في نقلها. إن المسلمين كانوا أذكياء فمقياس تقدم الأمم الآن لا يقاس بطول باعهم في الأدب أو الفلسفة وإنما يقاس بمدى تقدمهم في العلوم الطبيعية. وهكذا ميز المسلمون بين العلوم الطبيعية وهي علوم الحضارة وبين العلوم الخاصة بخصوصية الأمة. وعدم اهتمام المسلمين بالعلوم الفلسفية التي تضئ العقل كما يقولون ليس عملاً سلبياً يحسب عليهم ، وإنما هم ردوا هذه العلوم لا لأنها تضئ العقل ولكن لأنها تسلب الأمة ذاتيتها وعقيدتها وخصوصيتها. والغرب بخبثه يريد أن يصدر لنا الصراع الذي كان عندهم ولا يزال بين العلم والدين.. فهم يتصورون أن هذا الصراع الذي كان عندهم بين العلم وبين الكنيسة وانتهى إلى إزاحة الكنيسة تماماً عن الحياة يمكن أن يطبق على الإسلام أيضا ولهذا يصدرون لنا مفاهيم التنوير والتقدمية التي يجب كي تتحقق أن تزيح الإسلام عن كل أمور الحياة.

وهذا خطأ واضح لأن الإسلام لا يصادم العلوم على الإطلاق بل إنه هو الذي احتضنها ونمت هذه العلوم في كنفه. ثم إن المعركة في أوروبا كانت بين جهابذة العلماء من أمثال نيوتن وجاليليو وكوبر نيقس الذين جاءوا بعلم غير مجرى حياة العالم وكانوا على حق فيما ذهبوا إليه ولكنهم واجهوا الاضطهاد والإعدام من الكنيسة. أما عندنا فإن الذين يثيرون الصدام مع الإسلام هم مجموعة من أدعياء العلم والمسوخ المشوهة الذين لا صلة لهم بعلم ولا بأدب.

* هل تعتقد أننا نعاني من أزمة في الثقافة والفكر؟

** هناك أزمة على مستويات عديدة فهناك أزمة في القراءة فلم يعد الناس يقرءون كالماضي وإنما استهوتهم وسائل الإعلام المختلفة. وهناك أزمة في الإبداع الفني في الكتابة والقصة والشعر.. الخ. فلم نعد نجد نفس الكم من الإنتاج الجيد كما كان الحال في الماضي.. والإنتاج الموجود حالياً نسبة كبيرة منه رديئة والمضمون هزيل. إن القضايا الكبرى التي تشغلنا الآن هي نفس القضايا التي كانت تشغلنا من مائة عام وعلى رأسها قضية التنوير أو بالأصح التغريب والعلمنة لدرجة أن العلمانيين لدينا أصبحوا سلفيين.. فهم يطرحون أفكارا قديمة ويعودون إلى الطهطاوي وقاسم أمين وطه حسين بل يرجعون إلى القرن الثامن عشر لاستيراد أفكار عصر التنوير.

* هناك صراع علماني إسلامي يسود مجتمعاتنا ويصيب الفكر لدينا بالانقسام والضعف.. كيف يمكن لنا أن نوقف هذا الصراع؟

** هذا صراع شبه حتمي ومن الصعب إيقافه.. فالمجتمع بعقله وقلبه وتاريخه وفكره إسلامي لا خلاف في ذلك.. وإنما بدأ الانحراف منذ الاستعمار الأجنبي الذي زرع بذور العلمانية والصراع مع الدين وتصدير مصطلحات الرجعية (قاصداً المفاهيم الإسلامية) والتنوير (ضد الظلامية الإسلامية أيضا).. وغير مناهج التعليم وأرسل البعثات من بلادنا الإسلامية إلى أوروبا فنتج عن ذلك مجموعات كبيرة من الكتاب والمثقفين الذين انحازوا لهذه الأفكار الاستعمارية الأصل ضد الهوية والثقافة الإسلامية.. وبمساعدة أطراف عديدة ووسائل أعلام كثيرة أصبح هؤلاء هم قادة الفكر والتوجيه من أمثال سلامة موسى وقاسم أمين وعلي عبد الرازق وطه حسين .. الخ. هؤلاء دخل معهم الفكر الإسلامي في صراع مازال مستمراً حتى اليوم. وهذا الصراع شطر الأمة إلى شطرين.. شطر إسلامي وشطر علماني.. وهو صراع خطير يستنزف طاقة الأمة ووحدتها.. والحل فيه هو تقوية المفاهيم الإسلامية الأصيلة وجعلها هي الأساس الفكري واعتبار الشريعة الإسلامية هي مصدر الفكر والثقافة والتشريع وهي الحكم بيننا.. فالذي ضل الطريق عليه أن يعود مرة أخرى إلى حظيرة الإسلام.. وليس المتمسك بالإسلام هو الذي يجب عليه أن يلحق بمن فرط في تاريخه وأصالته وثقافته.

* نسمع كثيرا عن مؤتمرات الحوار بين الأديان.. ما هو تقييمكم لها.. وما هي الضمانات التي يجب أن توضع لنجاحها؟

** نحن تحدثنا من قبل عن أمور كثيرة وتفاصيل حول الحوار عموماً مع الغرب وقلنا إنه كلمة حق يزاد بها باطل.. أما الحديث عن الحوار بين الأديان من خلال ما نسمع عنه من مؤتمرات فيجب أن نسأل عدة أسئلة مثل ما هو السياق الذي يجري فيه هذا الحوار؟ ومن هي الأطراف الداخلة فيه؟ ومن هم ممثلوها؟ وما هي القنوات والأشكال التي سوف يتخذها هذا الحوار؟ وما هي أهدافه وغاياته وثمرته؟

إننا لا يكاد يوجد بيننا وبين الغرب قيم مشتركة.. فهم لا يعترفون بديننا فكيف نتحاور مع من لا يعترفون بنا.. وحسب وثائقهم يعترفون بأن هذه المؤتمرات تحدث لتصدير المفاهيم النصرانية إلينا. إن المادة قيمة أساسية وحاكمة في الغرب والإسلام ليس فيه ذلك.. والحضارة الغربية بها قيم الهيمنة والسيطرة والتسلط.. والإسلام ليس فيه ذلك. ثم كيف يكون هناك عمل مشترك والكنائس تمارس التنصير على أشده في البلاد الإسلامية

==============

#الضربات التي وجهت للانقضاض على الأمة الإسلامية

الاثنين29 من شوال 1427هـ 20-11-2006م الساعة 12:36 م مكة المكرمة 09:36 ص جرينتش

الصفحة الرئيسة

محمد بركة : صدر عن دار الاعتصام في القاهرة كتاب: الضربات التي وجهت للانقضاض على الأمة الإسلامية .. خمس مؤامرات كبرى على الإسلام من فجر الإسلام وحتى الآن، " للكاتب والمفكر الإسلامي أنور الجندي، الذي وافته المنية في أوائل عام 2002 بعد رحلة طويلة من الجهاد والعمل الفكري.

يعد هذا الكتاب أخر ماكتبه الجندي حيث يحلل فيه المؤامرات الكبرى على الإسلام من فجره وحتى الآن ..فقد جاء الإسلام ليكون حدا فاصلا في التاريخ الإنساني بين عصر الأديان وعصر الدين العالمي الخاتم برسالة القرآن وقيادة محمد صلى الله عليه وسلم ، حاملا رسالة التوحيد الخالص ليخرج البشرية من الظلمات إلى النور .

وقد جاء كتاب "أنور الجندي" في تسعة أبواب كان عنوان الباب الأول : من جبهة بيزنطية إلى نهاية الحروب الصليبية . وأشاد فيه إلى أن أول أعمال الغرب المسيحي في مواجهة الفتح الإسلامي الزاحف هو العمل على صده ووقفه وتحطيم خطته التي كانت تتمثل في تحويل البحر الأبيض المتوسط إلى بحيرة إسلامية ، وكانت هناك جبهتان : الأولى هي بيزنطة ، والثانية : هي الأندلس .

وتحدث المؤلف عن الأحداث الكبرى فتحدث عن معركة ملاذكرد ( 463 هـ – 1071 م ) والحملة الصليبية الأولى ( 494 هـ – 1096 م ) ومعركة حطين ( 583 هـ – 1187 م ) ومعركة عين جالوت (658 هـ – 1259م)وآخر الحروب الصليبية (690 هـ – 1291م) .

أما الباب الثاني فتناول: الزحف المغولي التتري على أرض الإسلام من سقوط بغداد إلى نصر "عين جالوت" إلى إسلام "بركة خان" . وقام بتحليل الأحداث الكبرى مثل دخول قوات المغول إلى بغداد (656 هـ – 1257 م ) وانتصار جيش مصر على جحافل التتار ( 658 هـ – 1260 م ) وحملة التتار على حلب في نفس العام ثم الاستيلاء على أنطاكية (666 هـ – 1268 م ) .

كما تناول الباب الثالث : "جهاد المماليك في مواجهة خطر الصليبيين والتتار" وبين فيه أن هذه المرحلة العاصفة التي تفجرت فيها المؤامرات على الإسلام كشفت عن عناصر جديدة من المسلمين حملت لواء الدفاع عن الإسلام والجهاد في سبيله والاستشهاد من أجله تتمثل في: السلاجقة والأكراد والمماليك ، فمن السلاجقة ظهر "عماد الدين زنكي" و"نور الدين محمود" وكان دورهما في مواجهة الحروب الصليبية قويا وبارزا ، ومن الأكراد ظهر "صلاح الدين الأيوبي" الذي استرد بيت المقدس من أيدي الصليبيين ، ومن المماليك "قطز" و"الظاهر بيبرس" و"قلاوون" و"الأشرف بن قلاوون" وكان دور المماليك قويا وممتدا وحاسما فقد استطاعوا بعزيمة جبارة تصفية نفوذ التتار والصليبيين وتحقيق أكبر نصر في هذا المجال .

يعد كثير من المؤرخين عصر المماليك بأنه عصر الإنقاذ فهم الذين أنقذوا الحضارة الإسلامية من الدمار العام على أيدي المغول والتتار حين حطموا قواتهم في عين جالوت ، وأنهم أنهوا الحكم الصليبي في بلاد الشام وأحيوا الخلافة الإسلامية وجعلوا مركزها القاهرة .

وكذلك كان الظاهر بيبرس أبرز هؤلاء الأبطال فقد قاد معركة عين جالوت مع قطز ثم انتزع صفد ويافا والشقيف وأنطاكية من "الإفرنج" ثم أقام منهج الإصلاح الاجتماعي على شرعة القرآن .

كما تميز عصر المماليك بظهور الموسوعات الكبرى في الأدب والنحو وعلم الحديث والفقه والتاريخ ففي عهدهم ظهرت الموسوعات : " صبح الأعش للقلقشندي ، ولسان العرب لابن منظور ، والفتاوى لابن تيميه ، ووفيات الأعيان لابن خلكان ، والبداية والنهاية لابن كثير ، وسير أعلام النبلاء للذهبي ، والنجوم الزاهرة لابن تفرى بردى ".

في الباب الرابع : "من الأندلس إلى قلب أوروبا" ، تناول المؤلف الأحداث الكبرى ومنها عبور طارق بن زياد نهر الزقاق ( 92 هـ – 711 م ) وسير عبد الرحمن الغافقي في جيش إلى فرنسا ( 110 هـ – 732 م ) ، كما تناول الغزوة لروما من مسلمي الأندلس وشمال إفريقيا وكريت بقيادة "يوسف بن تاشفين" ( 479 هـ 1088 م ) وتأكيده على إسلامية الأندلس إلى عام ( 897 هـ – 1492 م ) .

في الباب الخامس : "تطويق عالم الإسلام" يؤكد الجندي – رحمه الله - على مقاومة المسلمين عمليات التنصير والصمود في وجه الاجتياح، وغدر الحكام الجدد، واستمرار المقاومة من عام 1492 إلى عام 1608 م عندما قام الأسبانيون بطردهم نهائيا حين جمعوا مئات الألوف منهم في عملية تهجير بشعة وقذف بهم إلى الشاطئ الآخر (تطوان والجزائر وتونس) وحيل بين الأبناء والآباء والأمهات في ذلك العصر، كوسيلة من وسائل مطاردة المسلمين ومحاولة حصارهم للقضاء على الإسلام نفسه .

في الباب السادس : " من فتح القسطنطينية إلى سقوط الخلافة" تحدث المؤلف عن ولادة الدولة العثمانية ( 687 هـ – 1288 م ) والهجرة إلى سواحل المغرب ودخول الأتراك أوروبا ومحاصرة العثمانيون لفيينا ، كما تحدث عن عزل السلطان عبد الحميد عام 1908 م .

ولا شك أن الدولة العثمانية في التاريخ الإسلامي دولة مفترى عليها ، كما أطلق عليها الدكتور عبد العزيز الشناوي في مؤلف يحمل هذا العنوان . فقد شكلت الدولة العثمانية منذ ظهورها خطرا متزايدا على أوروبا وتصدت للوجود البرتغالي في الخليج وفي المياه الشرقية وساندت مسلمي الأندلس الذين تعرضوا للاضطهاد الأسباني وحررت طرابلس الغرب وتونس والجزائر من الاحتلال، وسيطرت بعض الوقت على الملاحة في البحر المتوسط ، كما ساندت "مارتن لوثر" بوصف مذهبه أقرب إلى التوحيد الإسلامي من المذهب الكاثوليكي .

وفي الباب السابع : "الآن انتهت الحروب الصليبية" ، انتهت الحروب الصليبية بهزيمة قوى الغرب عام 1291 م وانسحابهم إلى بلادهم مدحورين ، ولكن الاستعمار ظهر بشكل آخر منذ قيام الحملة الفرنسية إلى مصر وبداية مرحلة النفوذ الأجنبي والسيطرة على العالم الإسلامي .

أما الباب الثامن : تناول سقوط القدس في أيدي الصهيونية ، ثم تحدث في الباب التاسع : عن أبعاد المؤامرة على الإسلام فتحدث عن الحملة الفرنسية على مصر 1798 م، ودخول الإنجليز القدس 1917 م، وإحراق المسجد الأقصى 1969 م، ولا تزال المؤامرة على الإسلام وبيت المقدس مستمرة .

كتاب أنور الجندي كتاب قيم يستحق القراءة والتأمل خاصة وأن صاحبه كاتب كبير له دور رائد في إيقاظ الوعي لدى شباب الصحوة الإسلامية في نهاية السبعينات وبداية الثمانينات من القرن الميلادي، ومؤلفاته دورها جلي في تصحيح العديد من المفاهيم المغلوطة والمنتشرة.

==============

#العنصرية تجاه المسلمين في الغرب...هل من جديد؟!

الخميس25 من شوال 1427هـ 16-11-2006م الساعة 07:02 م مكة المكرمة 04:02 م جرينتش

الصفحة الرئيسة

... حريق مسجد فى فرنسا ...

مفكرة الإسلام: باشرت الشرطة البريطانية التحقيقات في ملابسات الحريق الذي تعرض له أحد المساجد وأدى إلى انهيار جزء كبير منه جنوب ويلز, وقال مدير مسجد المدينة: إن المجتمع المسلم في المنطقة صدم حيال الحادث. حريق متعمد في مسجد بمدينة سينود - فرنسا

الخبر:

مفكرة الإسلام: باشرت الشرطة البريطانية التحقيقات في ملابسات الحريق الذي تعرض له أحد المساجد وأدى إلى انهيار جزء كبير منه جنوب ويلز, وقال مدير مسجد المدينة: إن المجتمع المسلم في المنطقة صدم حيال الحادث.

التعليق:

تأتي هذه الحادثة لتؤكد ما جاء على لسان رئيس بلدية لندن "كين لفنجستون" بمناسبة نشر تقرير حول مسلمي لندن بأن مسلمي المدينة يعانون من مستوى خطير من التمييز والأحكام المسبقة.

حيث يعيش المسلمون في الغرب حالة من الاضطهاد والعنصرية, وتتزايد هذه الحالة كلما اشتد الصراع داخل البلدان الإسلامية المحتلة مثل العراق وأفغانستان وفلسطين, وينسى الغرب أو يتناسى أنه هو الذي أقدم على تفجير هذا الصراع عندما احتل الأراضي الإسلامية في القرون الماضية ناهبًا خيراتها مسميًا ذلك "استعمارًا" بل ورفض الاعتذار عن جرائمه التي يندى لها الجبين مثلما فعلت فرنسا تجاه ممارساتها في الجزائر التي ظلت تفترس أبناءها أكثر من قرن من الزمن, كما يتناسى الغرب أنه الذي سلّم فلسطين إلى اليهود ليتخلص منهم ومن مؤمراتهم وأعطاهم وعد بلفور, كما يتناسى أنه الذي لفق الاتهامات للنظام العراقي السابق, مرة بزعم إنتاجه أسلحة نووية ومرة بزعم أن له علاقة بالقاعدة؛ ليتذرع بذلك لاحتلاله والاستيلاء على نفطه وخيره, وفي كل هذه المرات وقفت أكثرية الشعوب الغربية موافقة أو صامتة ولم تتزايد معارضتها إلا بعد أن دفعت الثمن غاليًا من أرواح أبنائها, وإذا نظرنا إلى الاحتلال الغربي لأفغانستان بدعوى الرد على هجمات سبتمبر لوجدناها مغامرة همجية راح ضحيتها أضعاف أضعاف من راح في هجمات سبتمبر والتي كانت – بحسب من قاموا بها- ردًا على أفعال الغرب الغاشمة في العالم الإسلامي.

إن البعض يعتقد أن العنصرية تجاه المسلمين الذين يعيشون في الغرب وليدة اليوم أو وليدة أحداث سبتمبر, إلا أن هذا غير صحيح, قد تكون زادت في هذا الوقت عن ذي قبل إلا أن جذورها موجودة منذ زمن بعيد, فالنظرة المتعالية للغربيين تجاه أبناء الحضارات الأخرى خصوصًا الحضارة العربية والإسلامية قديمة, وتظهر في كتابات المثقفين وفي فنونهم المختلفة من رواية وسينما ومسرح ورسم, فدائمًا ما يصورون العرب على أنهم مجموعة من الهمج الرعاع الذين يعشقون سفك الدماء, وكانوا ينظرون ذات النظرة للمهاجرين الذين اختاروا البقاء في بلدانهم, ولا يغيرونها تدريجيًا إلا بعد أن يذوب هؤلاء المهاجرون تمامًا في الحياة الغربية ويتخلون عن تعاليم دينهم, ويظل التمسك بالإسلام سيفًا مسلطًا على رقاب المهاجرين.

والذي ينظر لحال المهاجرين المغاربة في فرنسا منذ عشرات السنين وكيف يعاملون وأين يعيشون والوظائف المتاحة لهم يتأكد أن العنصرية تجاه العرب والمسلمين ليست وليدة اللحظة.

كما أن وجود الأحزاب اليمينية المتطرفة - والتي تدعو إلى طرد العرب والمسلمين- منذ وقت طويل في أوروبا يؤكد أن العنصرية متجذرة في الغرب تجاه المسلمين وأن قبول الغرب بالآخر المختلف معه حضاريًا وثقافيًا مقولة للاستهلاك الإعلامي ولا تنطبق إلا إذا كان الآخر يدور في فلك الحضارة "المسيحية" أما إذا كان الآخر عنده مشروعه المستقل وحضارته المغايرة فعندئذ تنطلق الأحقاد من النفوس خصوصًا ممن يخافون من جاذبية الحضارة الإسلامية وقدرتها على التغلغل في النفوس.

إن الصراعات التي تدور بين القوى الغربية والمقاومة على الأراضي الإسلامية في العراق وأفغانستان وفلسطين أظهرت ما في نوايا الغرب تجاه المسلمين بشكل كان يبدو خافيًا على الكثيرين في وقت ما, ولعل تصريحات "بابا" الفاتيكان ضد الإسلام أثبتت لمن يسمون أنفسهم "بالمعتدلين" داخل العالم الإسلامي, أن الحروب التي يشنها الغرب ضد البلاد الإسلامية ليست فقط حروب مصالح ولكنها حروب عقائد أيضًا.

============

#فلسفة التنوير بين المشروع الإسلامي والمشروع الغربي

الاثنين22 من شوال 1427هـ 13-11-2006م الساعة 04:32 م مكة المكرمة 01:32 م جرينتش

الصفحة الرئيسة

... التنوير ...

فلسفة التنوير

- التنوير في بلادنا بدأ مع ظهور الإسلام وليس بمجيء الحملة الفرنسية.

- التنوير كان مطلبا أوروبيا للتحرر من قهر الكنيسة ورجال الدين.

- مصطلح التنوير خاص بأوروبا ولا مكان له في بلادنا التي أنارها الإسلام.

- الادعاء بأن أوروبا تخلصت من الدين فتقدمت باطل والواقع يناهضه.

ممدوح عثمان

مفكرة الإسلام: يتعرض جيل الشباب العربي الحالي لحرب من نوع خاص، وهي حرب المصطلحات التي يلتبس معناها عليه. ومن هذه المصطلحات مصطلح "التنوير" وما يصاحبه من مصطلحات أخرى مثل التقدمية والرجعية والظلامية. وللأسف فقد انبهر نفر كثير من المشتغلين بالإعلام والثقافة في بلادنا بهذه المصطلحات ووقعوا ضحية لما وراءها. ولقد عاشت أوروبا عصورا تسمى عصور الظلام وكان السبب وراء هذا الظلام الكنيسة ورجال الدين والآراء والمعتقدات التي أراد رجال الدين أن يطرحوها على العقلية الأوروبية ويجبروها على اعتقاد صحتها، ومن يتمرد عليها أو يرفضها كان جزاؤه الحرمان من رحمة الكنيسة والطرد والحرمان من صكوك الغفران. وفي مرحلة تاريخية معينة حدث نوع من التحالف غير المشروع بين السلطة السياسية والسلطة الدينية في أوروبا، فلا يرقى الإمبراطور إلى كرسي العرش إلا بقرار من الكنيسة.. ولكي يرد الإمبراطور الجميل للكنيسة فمن يتمرد على رأى الكنيسة فجزاؤه إما اقتل أو الحرمان من رحمة الله بقرار سياسي.

وسيطر هذا الفكر المظلم على أوروبا فترة طويلة من الزمن ثم حدث أن ظهر بريق من النور الإسلامي الإلهي من خلال منافذ الحضارة الإسلامية إلى أوروبا. وبدأ علماء أوروبا يتعرفون على الوافد الجديد الذي أطلقت عليه الكنيسة اسم "العلم الشيطاني". وهذا العلم الشيطاني كان هو العلم الإسلامي الذي أضاء ظلمات أوروبا من خلال أسبانيا وصقلية والاحتكاك المباشر في الحروب الصليبية.

خلفيات مصطلح التنوير في الثقافة الأوروبية

وبالتالي فمصطلح التنوير في الثقافة الأوروبية أفرزته طبيعة الصراع.. فلما وفد العالم الإسلامي إلى أوروبا احتضنه مجموعة من العلماء في العلوم الطبيعية فقارنوا بين ما تدعو إليه الكنيسة وبين الوافد الجديد فوجدوا أن حقائق العلم الجديد على النقيض تماما مما تدعوهم إليه الكنيسة من آراء تقول إنها نزلت من السماء وتدعي لها العصمة. فظهر كوبرنيق ورأيه في مركز الكون، وهل هو الأرض أم الشمس، فقد كان هذا أول لقاء مباشر بين الموقف العلمي والموقف الكنسي، والموقف هنا كنسي وليس دينيا لأن المسيحية الصحيحة مظلومة في هذا الموقف بين الكنيسة ورجال العلم. وتساءل علماء أوروبا كيف تكون الآراء التي تدعوهم إليها الكنيسة وحياً نزل على عيسى من السماء بينما العلم ينقضها. فقالوا إلى من نحتكم؟ إلى العلم الذي اختبرته عقولنا فوجدته صحيحا أم إلى ما يدعونا إليه رجال الكنيسة؟.. وهنا بدأ الرفض لآراء الكنيسة ورجال الدين واستمرت هذه الظاهرة قرابة نصف قرن من الزمان ثم انسحبت كلمة الكنيسة من الصراع وحل محلها كلمة الدين وأصبحت القضية هي الصراع بين العلم والدين وليست الصراع بين العلم والكنيسة. وأصبحت كلمتا العلم والعلماء رمزا للنور الجديد ورمزا لتنوير ضد الجهل وضد الخرافة وضد الرجعية. وقد لاقى كثير من العلماء القتل والحرق والطرد من الأوطان ومن رحمة الكنيسة نتيجة اعتقادهم بحقائق العلم ورفضهم لخرافات الكنيسة. ثم جاءت الثورة الفرنسية وكان لها دور كبير في إزكاء الصراع بين العلم والدين كما انضمت الطبقات الكادحة إلى الثورة ضد رجال الدين.

وفي بحث الثورة الفرنسية عن التنوير ضد ظلام الكنيسة ظهرت مفاهيم جديدة مثل الحرية – الديمقراطية – الدستور.. ونظرت الثورة الفرنسية إلى كتاب جان جاك روسو "العقد الاجتماعي" فجعلته إنجيلا لها لأنها لم تجد في تراث وفكر الكنيسة في ذلك الوقت ما يعيد للإنسان كرامته ويعطيه حقوقه الاجتماعية والدينية والسياسية.. وبدأت كلمة التنوير تشيع على الألسنة تدريجيا.

هل بدأ التنوير في بلادنا بمجيء الحملة الفرنسية؟

إنني أعيب على المثقفين العرب والمسلمين الذين يربطون بين الحملة الفرنسية على مصر وبدء التنوير في بلادنا العربية والإسلامية على اعتبار أن الحملة جاءت بكثير من العلماء الفرنسيين الذين تولوا نشر الثقافة والتنوير في مصر، ثم عملوا بالتدريس في الجامعة المصرية أول ما أنشئت حيث كانت هيئة التدريس كلها من المستشرقين.

ويقول هؤلاء المثقفون المهزومون إن الحملة الفرنسية أخرجتنا من بداوة الدولة العثمانية إلى نور المدنية الأوروبية المعاصرة. وهكذا بدأ هؤلاء المثقفون المهزومون ينقلون مصطلح التنوير الذي نشأ في بيئة غير بيئتنا ليزرعوه عندنا ولينقلوا المعركة التي وقعت في أوروبا بين الكنيسة ورجال الدين من جانب وبين العلم والعلماء من جانب آخر.. وشيئا فشيئا وجدنا من ينادي من مثقفينا ويقول إما العلم وإما الدين لأن أوروبا لم تنهض إلا بعد أن نفضت يدها تماما من الدين.

ثم صار الذي يتحدث عن الدين في بلادنا العربية ضد التنوير، وهكذا صارت المشكلات التي طرحت في أوروبا تطرح عندنا بالنص مثل حرية المرأة وعمل المرأة وميراث المرأة وتعدد الزوجات.. الخ. واستخدم هؤلاء كلمات مثل (الغيبيون - الظلاميون – الرجعيون) ليرموا بها الملتزمين بالإسلام كمشروع وعقيدة.

نشأة المشروع التغريبي في بلادنا العربية

ومع بداية هذا القرن تبنت بعض الأقلام في بلادنا المشروع التغريبي التنويري وظهرت كتب تحرير المرأة لقاسم أمين، وما هي النهضة لسلامة موسى، وابن رشد لشبلي شميل، ومستقبل الثقافة في مصر لطه حسين، والإسلام وأصول الحكم لعلي عبد الرازق .. الخ. وعند تصفح هذه الكتب نجد أن مشروع النهضة الأوروبية أو مشروع التنوير الغربي تم نقله بأكمله إلينا وحتى بدون تنقيح. فعلي عبد الرازق ينادي بفصل الدين عن الدولة، ويقول إن القرآن كتاب أخلاق وليس كتاب سياسة.

وطه حسين يطرح مشروع التعليم في بلادنا من وجهة نظر أوروبية مائة في المائة. وسلامة موسى يقول إننا لكي نتقدم لا بد أن نرفض الدين وأن الإيمان بالغيب هو سبب تأخر المسلمين.. الخ. وبعض هؤلاء رجعوا عن آرائهم في أخريات أيامهم ولكن حدث ذلك بعد أن انتشرت كتبهم وتتلمذ عليها الشباب وراجت في مؤسسات الثقافة والإعلام في بلادنا.

هل فعلا تخلصت أوروبا من الدين فتقدمت؟

إن هذه المقولة تحمل ألوانا من التضليل لا نظير لها لأن أوروبا التي أقنعتنا بأنها نفضت يدها من الدين هي في نفس الوقت شديدة الحرص على ديانتها. والذي يطلع على تاريخ التبشير في العالم العربي والإسلامي وعلى الميزانيات المرصودة لذلك من الدول الأوروبية يدرك مدى كذب هذه الفرية. إن كل دول أوروبا بلا استثناء ينص دستورها على أن الثقافة الإنجيلية هي الثقافة الرسمية للدولة.

إن التقدم والتأخر مرتبط بالأخذ بالسنن الكونية ومنها سنة العلم فللتقدم أسبابه وللتأخر أسبابه وهذه الأسباب لا علاقة لها بالدين ولكنها سنة من سنن الله في الكون من أخذ بها تقدم ولو كان كافرا ومن أهملها تأخر ولو كان من أتقى عباد الله.

وهكذا فقد تقدمت أوروبا لأنها لم تنفض يدها من الدين ولكن لأنها اعتصمت بمنطق العلم وجعلته سلما لرقيها المدني ولتقدمها التكنولوجي في حين أهمل المسلمون الأخذ بسنة العلم فتخلفوا.

المشروع الإسلامي في التنوير

إن الإسلام يظلم حين يقارن بالأديان الأخرى ويكون مصدر المقارنة هو واقع المسلمين، لأن الإسلام مصدر لتنوير القلب والعقل والمجتمع، ففي المجال الثقافي نجد أن القرآن يضع مصدرين أساسيين لتثقيف الشعوب، وهما العلم والعقل، فهو يدعو إلى العلم والأخذ به واعتماد نتائجه وأن من يتركه فقد ترك حظه من الدين. كما جعل القرآن أحكام العقل في عالم الشهادة أحكاما قاطعة في الوقت الذي تكون فيه الأحكام في عالم الغيب مصدرها الوحي. لكن هناك فارق كبير بين العلم في الفلسفة الإسلامية والعلم في الفلسفة الأوروبية. فالفلسفة الأوروبية تعتمد العلم وتحصره في عالم المحسوسات وترى المادة هي الفاعلة أولا وثانيا. أما في المشروع الإسلامي فنحن نؤمن بأن الأسباب فاعلة ونؤمن في نفس الوقت أن الذي جعل الأسباب فاعلة هو الله الذي لو شاء لنزع الأسباب خاصية الفعل فتتعطل السنة الكونية لتقع المعجزة على أيدي الأنبياء أو الكرامة على أيدي الأولياء. وهكذا ظهرت في أوروبا نزعة الإلحاد بل ظهر عصر بكامله سمي بعصر الإلحاد، وذلك نتيجة كفر العلماء بالكنيسة وبالدين الذي مثلته هذه الكنيسة.

وللأسف فقد أراد المشروع التغريبي في التنوير أن ينقل القضية إلى العالم الإسلامي وأن يجعل الإسلام بديلا عن الكنيسة دون أن يفرق بين موقف الإسلام من العلم ومن العقل وبين موقف الكنيسة منهما. وعلى المستوى الاجتماعي فإن أوروبا تتهم الإسلام بأنه دين الرق والعبودية وهذا افتراء، فبينما كان الرق استثناء في الجزيرة العربية وجاء الإسلام ليلغيه فجعل عتق الرقبة عبادة لله، كان الرق أصلا في تاريخ أوروبا. إن الإسلام على المستوى الاجتماعي أكد مبدأين هامين هما الحرية والمساواة.. ومن أهمل في واحد منهما فقد فاته حظه من الدين. فالحرية في الإسلام حق مكتسب للشعوب وليست منحة من حاكم.. حتى أن الهجرة في الإسلام كانت مدخلا للهروب من الظلم، وكذلك كانت المساواة من المبادئ الهامة التي طبقها الإسلام فلا فضل لعربي على أعجمي ولا لأبيض على أسود إلا بالتقوى.

وعلى المستوى السياسي أكد الإسلام مبدأين هامين أيضا هما العدل والشورى.

وبعد ذلك نقول هل أخذت أمة من الأمم بهذه المبادئ الستة وهي العقل والعلم والحرية والمساواة والعدل والشورى وتأخرت؟

إن من الظلم أن نقارن الإسلام بواقع المسلمين.. فهذه المبادئ الستة تكاد تكون غائبة الآن عن واقعهم، والغرب ينظر إلى هذا الواقع ولا ينظر إلى الأصول الإسلامية وهي القرآن والسنة وما فيهما من مبادئ وقواعد وأحكام

=============

#أهل السنة.. نبض الماضي وجمود الحاضر

الأحد 21 من شوال 1427هـ 12-11-2006م الساعة 03:26 م مكة المكرمة 12:26 م جرينتش

الصفحة الرئيسة

ربيع الحافظ - معهد المشرق العربي

alhafidh@hotmail.com

مفكرة الإسلام: على إثر الأزمة السياسية المبكرة(*) التي واجهتها دولة الحضارة العربية الإسلامية، التي أخبر عن ملامحها الرسول صلى الله عليه وسلم، وامتزج فيها الصدق بالشطط الفكري، برز مسمى أهل السنة والجماعة كعنوان لمفاهيم عقدية ورؤى سياسية شخّصت الأزمة وانطبقت على ملامحها.

العنوان الذي أطلقه الصحابي الجليل عبد الله بن عباس رضي الله عنه من وسط ميدان الأزمة وغمرتها لحل أزمة سياسية، جاءت ولادته سياسية من اللحظة الأولى. العنوان تنامى بشكل متسارع، من لافتة ميدانية إلى اسم لمدرسة واضحة المعالم، ثم إلى تعريف للطيف السياسي الأوسط والأكبر في الأمة، الذي أنقذ الدولة من أزمة سياسية حادة، وأقال عثرة كبرى عن طريق انطلاقتها.

رفعت الدولة الخارجة من الأزمة راية الطيف فوق مؤسساتها، لتتحول الراية إلى شعار للوسطية السياسية والفقهية والعقدية التي اختطتها الدولة لنفسها، ومكنتها من لعب دور "الكبير" الذي يتسع ويجتمع عليه الجميع. وسطية الدولة امتدت إلى علاقاتها الأممية، وكان أمرًا طبيعيًا أن تتحول دولة الحضارة العربية الإسلامية إلى ملاذ للأقليات المضطهدة لدى الأمم الأخرى، فكان تجسيدًا لحقوق الإنسان قبل أن تولد وتدور مفرداتها على ألسنة المعاصرين.

المدرسة وأصحابها الذين تصدوا للأزمة، تحولوا إلى خلية نحل، يشيّدون صرح دولتهم، يستحدثون الفنون، ويقيمون المؤسسات، ويقتبسون التجارب، ويؤطرون المفاهيم قطعًا للطريق أمام أزمات المستقبل.

كان هناك إبداع وابتكار وتطوير عند كل أزمة جديدة، وكان افتضاح مؤامرة تزوير مصدر التشريع ممثلة بالحديث الشريف، بداية عهد المؤسسات في الدولة، فأعلنت حالة الطوارئ، وأقيمت نقاط التفتيش الثقافية، ودققت الهويات الشخصية [ما كنا نسأل عن الإسناد، فلما ظهرت الفتنة قلنا: سموا لنا رجالكم.. التابعي الجليل ابن سيرين]، وجرى مسح المجتمع، وشهد العالم ولادة أول قاعدة معلومات للأحوال الشخصية، والتحقيق في أمر كل زاعم لنقل الحديث. عرفت القاعدة باسم "الجرح والتعديل".

ثم شهد العالم ولادة علم آخر هو "طبقات الرجال"، عُدّ من روائع العلوم، وهو يدون سير أعلام الرجال كاملة من المهد إلى اللحد، مرورًا بالحالة العلمية والاجتماعية والمعيشية، وهو فن انفرد به أهل السنة بين المذاهب، وانفردت به حضارتهم العربية الإسلامية بين الحضارات.

وبعد أن اتسعت رقعة الدولة وترامت أطرافها، وشقت إدارة شئونها بالطرق التقليدية، اقتبست نظام الدواوين من المدنيات المجاورة، الروم والفرس.

تسارعت التطورات، ومع تمدد الفارق الزمني بين الدولة وحقبة "عمل أهل المدينة" التي كانت مصدرًا للفقه الميداني على الشاكلة النبوية، أنشئت مؤسسة "أصول الفقه" التي وضعت قواعد الأحكام الفقهية، ونقلت الأجواء الفقهية "المدنية" إلى القرون اللاحقة بالصوت والصورة.

استمر الرواد في بناء مقومات دولتهم، فوضع علم البلاغة ليصون اللغة العربية التي هي مادة الإسلام، وكثرت رحلات طلب العلم والاستكشاف عبر القارات.

لعل أدق وصف لتلك الصروح، هو أنها المقاطع المتصلة التي كونت السياج الأمني الدائري الخارجي لأنظمة الدولة الواقي لها، وقشرتها الخارجية الصلبة لباطنها الرخو.

بكلمات قليلة: مناخ مفعم بالحياة، ورؤية ثاقبة.

انطلق ذلك الزخم في الحقبة الراشدة من دولة الحضارة العربية الإسلامية، وامتد طوال الحقبة الأموية، وحيزًا من الحقبة العباسية، ووصل ذروته في أواسط القرن الثالث الهجري.

يمكن القول: لقد شهدت تلك الحقبة تماهي مدرسة أهل السنة مع النظام السياسي للدولة، الذي أوجدته هي وأوجدها. أجواء التماهي هذه شكلت نقلة نفسية عريضة من بيئة الانطلاق المكية وظروف الأقلية والحرص والحذر والتأهب، إلى حقبة التمكن والاستقرار السياسي والاسترخاء، التي دانت لهم فيها شعوب الأرض، ونطقت بلسانهم، وتتلمذت في معاهدهم، وهو ما يمكن إدراجه تحت مقومات شخصية الأغلبية والتمكن، التي التصقت بالشخصية السنية وباتت حقيقة تاريخية ثابتة.

مناخ الحقبة الجديدة مثّل جوًا طبيعيًا لتآكل تدريجي لمقومات الشخصية المبكرة، ومع دخول دولة الحضارة العربية الإسلامية قرنها الرابع، كان الفتور قد نال من روح التنافس، والاسترخاء من التأهب.

لم تعد الأجواء خلية نحل، ودخل أهل السنة بشكل فعلي "أيديولوجية التواكل"، الفردي والجماعي، على الدولة ومؤسساتها، وهو طور لا يختلف فيه أهل السنة عن غيرهم من الأغلبيات، ما دام نسيجهم الفكري هو مادة الدولة بشكل عام، لتصبح هذه السمة ملازمة للشخصية السنية، ويظهر أثرها السلبي على الأداء السياسي فيما بعد، وتحديدًا بعد أن أبدلت الدولة نسيجها.

السمة الأخرى، هي في التكوين الفكري للأغلبية، فنجد مفهوم أهل السنة لرسالة الإسلام منصبًا على أصل الرسالة، الذي هو العلاقة بين الإنسان وخالقه، التي من أجلها خلق، ثم على نظام الحياة الذي أتت به الرسالة، واللذان يقتضيان وجود نظام سياسي يصون منظومة الرسالة ويوسع رقعتها ويذود عنها.

أي أن النظام السياسي خادم للمنظومة، وسيلة لا غاية، وما فعله أهل السنة المؤسسون في صدر دولتهم كان ممارسة سياسية لتصويب مسار عقدي وفقهي منحرف، والعودة بالمجتمع إلى الطيف الأوسط.

على هذا الأساس حددت الأولويات الفكرية في هذه المدرسة، وكان انشغال المؤسسة العلمية هو في أصل الرسالة، وهي الحالة الطبيعية التي عليها الحضارات في حقب الاستقرار، التي تتفوق فيها المؤسسات العلمية حجمًا وإنفاقًا على ما سواها، وتستقطب الطاقات والعقول، وتضمر فيها المؤسسات الأمنية. لكن هذه النسب تبقى عرضة للتغيير، وقد تنقلب في أوقات الخطر.

هذا المفهوم يوجد مقلوبًا أساسًا عند الأقليات، وفي هذه الأمة نراه مجسدًا عند الأقليات الباطنية (الشيعة)، حيث تقويض النظام السياسي للدولة هو الأصل، والمذهب هو احتجاج سياسي، ألحق به على عجالة نظام عقدي وآخر فقهي يسبغان عليه الصبغة الدينية، وينقلانه إلى الحياة اليومية للإنسان البسيط، حيث تتداخل السياسة بطقوس الاستغاثة والأدعية التي يمارسها الإنسان الشيعي البسيط، وتبقى روح الثأر والاستنفار النفسي قائمة تجاه محيط الأغلبية، فهما (أي العقيدة والفقه) وسيلتان لغاية.

العجالة في تأسيس المذهب تظهر بجلاء في التناقضات الكثيرة التي يحملها النظامان الفقهي والعقدي، ويصبح من الطبيعي أن تتصدر الغاية (الاحتجاج السياسي) اهتمامات المذهب الأخرى.

هذا الفارق في الأداء والاستنفار الفكري والسياسي بين الأغلبية والأقليات، كانت قد سدت مسده دولة الحضارة العربية الإسلامية بالنسبة لأهل السنة. لكن تلك الدولة زالت، وبزوالها ارتدت المهام السياسية التي كانت تحملها - بتخصصاتها وتعقيداتها - دفعة واحدة على المؤسسة الدينية المثقلة أصلاً بالأزمات، مسببة اختلالاً في معادلة الحكم في الدولة، واختلالاً خطيرًا في الأداء السياسي.

التداعيات الكارثية لزوال الدولة - التي نشهدها اليوم - كانت قد حدّت منها أو أرجأتها الحقبة الانتقالية الهشة التي شكلتها الدولة المدنية المعاصرة، إلى اللحظة التي سقطت فيها هذه الدولة - كما في العراق - ودخول المجتمع حقبة دولة الطوائف التي تلقي بظلالها الكثيفة على المنطقة.

يمكن القول: إن الشخصية السنية والدولة مكونان لسبيكة فاعلة ثنائية المعدن، انفصامها لا يعني تفريق خصائصها بالتساوي على المعدنين، وإنما ردهما عناصر أولية خاملة.

هذه الشخصية لا يمكن أن تبدع أو تنافس في أجواء الشللية والطائفية والكانتونات أو الفيدراليات التي تزدهر فيها الأقليات.

المسار الذي سلكه المؤسسون الأوائل، والشخصية الوسطية التي أسبغوها على أنفسهم وعلى نظامهم السياسي كانت أسباب حياة لدولة ثم حضارة، ولم يكن مصادفة أن أَخرجت هذه المدرسة - رغمًا عن نظريات الاجتماع - من عقم الفسيفسائيات العرقية حضارة متعددة الأعراق، هي على الجملة من أعظم ما قام على وجه الأرض، ومن الهشاشة الاجتماعية لمجتمع الأقليات سبيكة متماسكة فاعلة.

الجمع بين التقدم العلمي والتماسك السياسي والحذر الأمني الذي سارت عليه دولة الحضارة العربية الإسلامية، هو خلاصة ما توصلت إليه أمم القرن الواحد والعشرين وتنكب عليه ولكن بصيغ مختلفة، بدءًا برصد الهوية الثقافية والسياسية للفرد بطرق غاية في الدهاء، وانتهاءً بتتبع هواياته العامة، وحفظها بتقنية رقمية تلاحق صاحبها أينما حل وارتحل.

مازالت مؤسسات المؤسسون الأوائل تُدرس خارج إطار الأسباب الأيديولوجية التي دفعت باتجاهها، وبعيدًا كل البعد عن الأجواء النابضة التي نفذتها، ومازالت - هذه المؤسسات - عند الشاب المسلم البسيط وسيلة قربى إلى الله - وهي إن شاء الله كذلك - يغوص في فنونها، وهو أمر يعني المتخصصين، عوضًا عن أن يوجه هذا الشاب نحو دراسات عليا تضع تلك الصروح في قوالب معاصرة لخدمة ذات الغايات التي تتكرر اليوم.

أهل السنة اليوم أمام حقبة جديدة، فلا الدولة التاريخية عادت موجودة وحامية لهم، ولا الشللية الطائفية آوية لهم، ولا أجواؤها مناخًا لإبداعاتهم، ولا تراخي الأغلبية الموروثة يخدم واقعهم.

واهم من يظن أن بمقدور أهل السنة العيش بأجندات الغير، فهم وبخلاف الغير أمام مسئولية مزدوجة، خاصة وعامة، فهم وعاء الفسيفساء الكبير، وفي تعافيهم السياسي تعافٍ للأقليات التي عاشت في كنفهم قرونًا طويلة ومنجاة لهم وللجميع، وفي سقمهم السياسي، التشظي، وسيناريوهات الشللية والطائفية وحماماتها الدموية، والواقع شاهد على ذلك.

أما على الصعيد العالمي، فأهل السنة أمام مسئولية أممية، وهذا العالم لن يعرف الاستقرار والفراغ السياسي يضرب سدس سكانه الذين يعيشون على رقعة جغرافية اسمها العالم الإسلامي.

أهل السنة اليوم جسد من دون رأس، يتعاملون مع تركتهم الحضارية الضخمة التي أدخلتهم نادي الأمم، كأدوات فقهية أو أكاديمية ليس إلا، خارج مناخها الأيديولوجي، فضلاً عن أن يضيفوا إليها، ولا عجب بعد ذلك ألا يستحثهم مناخهم الراهن، بكل محفزاته، إلى نفرة كنفرتهم الأولى، وجولة جديدة من الإعمار السياسي.

النخب الثقافية والعلمية والسياسية لأهل السنة مدعوة أمام التاريخ للنزول من أبراجها، وتبوء دور يليق بقدراتها الفكرية، يتناسب مع طبيعة الأزمة، يصوب المفاهيم، ويعدل البنية الفكرية بما يلائم الواقع جديد.

في البداية انتفضت الأمة لمواجهة خصم مشتط لكنه صدوق، واليوم تواجه خصمًا كذوبًا وإن صدق (الصفويون الجدد)، ولا يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها.

(*) أزمة الخوارج في تكفير فاعل الكبيرة، والانطلاق منها لتغيير النظام السياسي

==============

#عبد الرحمن الثالث.. كتاب بالانجليزية عن خليفة قرطبة الأول

الأحد 21 من شوال 1427هـ 12-11-2006م الساعة 11:12 ص مكة المكرمة 08:12 ص جرينتش

الصفحة الرئيسة

صدر حديثا بالانجليزية عن دار منشورات العالم الواحد في لندن للكاتبة ماربيل فييرو كتاب بعنوان عبد الرحمن الثالث: خليفة قرطبة الأول والكاتبة باحثة متخصصة بتاريخ الأندلس وحضارتها ومن مؤلفاتها تشكيل الأندلس: اللغة ، الدين ، الثقافة والعلوم واشتراكها مع كتّاب آخرين في كتاب بعنوان الإسلام..

تقدّم الكاتبة تأريخاً شاملاً لواحدة من أبرز الشخصيات التي صنعت الحضارة والحكم العربيين في الأندلس. أشارت فييرو إلى أن الحضارة الأندلسية وصلت إلى أوجها في عهد عبد الرحمن الثالث الذي أحال مدينة قرطبة - عاصمة الأندلس في عهده - منافساً رئيسياً للحواضر الإسلامية الكبرى كبغداد والقاهرة في الثقافة والعلوم وتجاوزت في مناح عديدة مدن الشرق الإسلامي.

ووضعت فييرو توطئة لازمة عن عبد الرحمن الأول وعبد الرحمن الثاني معتبرة أن عبد الرحمن الثالث قد استطاع أن يتفوق عليهما بانجازاته ومساهمته البارزة في الحضارة الأندلسية ، رغم أن الأول وصل للأندلس هارباً من الحكم العباسي وأصبح أميراً للبلاد مواصلاً حكم الدولة الأموية الذي انتهى في دمشق ، فيما الثاني جعل من قرطبة دمشق ثانية عمارةً ونمط حياة.

وترجمت فييرو سيرة عبد الرحمن الذي ولد في قرطبة عام 890 وفيها توفي عام 961 ، ولقب بالناصر بسبب انتصاره على الأعداء وتحقيقه العديد من المشاريع التي خطط لها ، كما حقق الوحدة الداخلية للأندلس بعد حروب وفتن طاحنة ، فقضى على فتنة ابن حفصون وأنهى التوغل المسيحي لأراضي الأندلس ، وأن ملوك المغرب قد بايعوه أميراً للمؤمنين.

تطرقت فييرو إلى مسألة هامة تتعلق في الجرأة التي تمتع بها عبد الرحمن الثالث حيث قام عام 929 باتخاذ لقب الخليفة نداً ومنافساً للخليفة العباسي في بغداد ، وهو أول حاكم أندلسي يقوم بذلك في تحد صارخ للدولة العباسية. تناولت فييرو نموذج الأندلس المتسامح وهو ما أشارت إليه بالتفصيل في كتابها السابق "تشكيل الأندلس" ، موردة أمثلة كثيرة دالة على مشاركة الطوائف والأعراق المختلفة في الحكم والسياسة والحياة العامة ، حيث كان اليهودي أبو يوسف هاسدي ابن سبروت أكبر مستشار لدى عبد الرحمن الثالث كما كان القائم على التجارة الخارجية والتفاوض مع سفراء الدول الأجنبية ، إضافة إلى آخرين من المسيحيين العرب والقوط أو البربر وغيرهم.

وتابعت فييرو مشيرة على مشاركتهم في الحياة الثقافية والاجتماعية مقبولين تماماً داخل المجتمع العربي الأندلسي ، فقد كان الفيلسوف الأندلسي اليهودي ابن ميمون أحد مشاهير عصره ، والذي طوّر واستفاد من العالم والقاضي أستاذه ابن رشد.

أكدت الكاتبة في كتابها على تطور الحضارة العربية الإسلامية في الأندلس وباعتبارها النموذج الأوحد في أوروبا في ذلك الوقت ، واستمر هذا الحال فترة طويلة امتدت حوالي خمسمائة سنة ، منوهة إلى النهضة التي قامت في أوربا منذ بدايات القرن الثالث عشر اتكأت على الترجمات العربية في قرطبة وطليطلة وغيرهما. واستعرضت فييرو حال المدن الأندلسية الأخرى إبان حكم الخليفة عبد الرحمن الثالث مثل: إشبيلية ، طليطلة ، غرناطة ، بالنسيا وملقا ، حيث قامت فيها حواضر هامة وكانت جزءاً أصيلاً من نسيج الحياة العلمية والثقافية الأندلسية مقيماً فيها الكثير من العلماء مثلها مثل قرطبة العاصمة.

وأوضحت فييرو أن عدد سكان قرطبة وصل إلى المليون نسمة ، فيما عدّت مدن أندلسية أخرى عشرات الآلاف من السكان ، فيما كان عدد سكان باريس وقتها لا يتجاوز الألفي نسمة ، وهو حال مدن أوروبية كثيرة.

وتوصلت فييرو إلى قضية خطيرة وهي في التشجيع الكبير من قبل عبد الرحمن الثالث إلى ترجمة علوم وفلسفة الإغريق ، في رؤية أصيلة لتوارث العلم على اعتبار قرطبة المدينة الإسلامية وريثة أثينا ، كما اهتم كثيراً بالتأليف حيث تشير المراجع إلى أن مكتبة الخليفة الأندلسي احتوت 300 ألف كتاب.

=============

#علوم الأرض في الحضارة الإسلامية .. كتاب صدر مؤخرا

الخميس18 من شوال 1427هـ 9-11-2006م الساعة 10:16 ص مكة المكرمة 07:16 ص جرينتش

الصفحة الرئيسة

صدر حديثاً عن الدار المصرية اللبنانية بالقاهرة كتاب بعنوان علوم الأرض في الحضارة الإسلامية للدكتور زغلول النجار رئيس لجنة الأبحاث العلمية للقرآن الكريم بالمجلس الأعلى للشئون الإسلامية المصري .

ويذكر الكتاب أن المعرفة الإنسانية عند المسلمين تنبع من مصدرين رئيسيين الأول الوحي السماوي المنزل من الخالق سبحانه وتعالى، الثاني العلوم المكتسبة في مختلف مجالات المعرفة التي تجلت عبر الأجيال المتعاقبة من السلالة البشرية إلى اليوم وحتى قيام الساعة ويبين الكتاب أن للمسلمين في قضية المعرفة الإنسانية موقفاً خاصاً يختلف بجلاء عن مواقف غيرهم من أصحاب المعتقدات الأخرى ومن غير أصحاب المعتقدات لان المسلمين يؤمنون بأن الإنسان بدأ عالماً عابداً بينما يؤمن غير المسلمين بأن الإنسان بدأ جاهلاً كافراً وتدرج في عبادة الوثنية حتى وصل إلى القناعة بعبادة خالق تلك الأكوان فعبد الله وتدرج في التعرف على الظواهر والسنن الكونية وأخذ في توظيفها في عمارة الحياة على الأرض فتعلم العلم وتطبيقاته التقنية ومن هنا كان من أسس المعرفة الإنسانية عند المسلمين ذلك العلم الوهبي الذي وهبه الله تعالى لآدم أبو البشر وعلم آدم الأسماء كلها.. وعلى أساس من ذلك العلم الوهبي جاء تفسير الحضارات الموغلة في القدم مثل الحضارة المصرية القديمة والبابلية والآشورية والفارسية والإغريقية.. الخ.

ومما يؤسف له أن كتابة تاريخ العلوم قد تركت في معظمها لإقدام غير المسلمين فأهملوا دور المسلمين في نهضة البشرية وأنكروا أن حضارتهم في مختلف مجالات المعرفة الإنسانية بصفة عامة وفي مجال العلوم البحتة بصفة خاصة والذي استمر بغير انقطاع منذ مطلع القرن السابع الميلادي إلى نهاية القرن الثامن عشر الميلادي حين تنازل الباب العالي التركي عن شبه جزيرة القرم لروسيا في سنة 1207هـ الموافق 1792 ودخول نابليون مصر وتم ذلك بإسقاط دولة الخلافة الفرنسية عام 1924 .

وانطلاقاً من ذلك فإن الغالبية العظمى من كتب تاريخ العلوم عادة ما تبدأ بالحضارة اليونانية القديمة بالإضافة إلى تحريف أسماء مشاهير علماء المسلمين لتفقد جذورها العربية وصلتها بالعالمين العربي والإسلامي مثل ابن رشد حرف إلى أفيروس والرازي إلى رازبيس والفارابي إلى الفارابيوس وابن سينا إلى افيسينا.. الخ.

كما يذكر الكتاب أصوات قلة من المستشرقين الغربيين وسط تقصير المسلمين في حق تراثهم مثل المؤرخ الانجليزي بيكر وجوستاف والمستشرقة الألمانية سيجريد هونكة وجوستاف لوبون الذين قالوا إن العرب هم الذين مدنوا أوروبا في المادة العقل والقلب.. ويقع الكتاب في خمسة أبواب الأول بعنوان الكتابات السابقة عن علوم الأرض في الحضارة الإسلامية والثاني بعنوان علوم الأرض كما نعرفها اليوم والثالث الأرض في الحضارات القديمة والرابع علوم الأرض في الحضارة الإسلامية والخامس دور المسلمين الأوائل في تطور علوم الأرض.

================

#هل من أمل في حوار إسلامي غربي؟

الثلاثاء16 من شوال 1427هـ 7-11-2006م الساعة 07:11 م بتوقيت مكة المكرمة 04:11 م بتوقيت جرينتش

الصفحة الرئيسة

... الإسلام والغرب ...

الحوار الإسلامي الغربي

د. علي عبد الباقي

مفكرة الإسلام: رغم أن الاختلافات بيننا وبين الغرب النصراني جذرية ويصعب حلها والتغلب عليها والالتقاء مع هذا الغرب على كلمة سواء، فإننا لا يمكن أن نرفض الحوار، بل نحبذه وندعو إليه. وقد أمر الله سبحانه وتعالى نبيه محمداً صلى الله عليه وآله أن يدعو أهل الكتاب إلى الحوار الإيجابي الذي يبرز نقاط الاتفاق، ويغضي عن نقاط الاختلاف، ليجعل من تلك النقاط المتفق عليها مرتكزاً للائتلاف، ومتكأً للوفاق، ومنطلقاً للتعاون البناء الجاد لخير البشرية كلها، فيقول الله تعالى: [ قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بينا وبينكم، ألا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئاً ولا يتخذ بعضنا بعضاً أرباباً من دون الله]. ونهاه عن الحوار السلبي، الذي يبرز نقاط الاختلاف ويهمل نقاط الائتلاف، لأن ذلك الحوار لن يكون في مصلحة البشرية، ولن يتكشف إلا عن أسباب الصراع: [ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن، إلا الذين ظلموا منهم].

وإذا كنا، نحن المسلمين، نؤمن بالحوار وندعو إليه عن قناعة وصدق، فإن القوم في الغرب يصدعون رءوسنا بالحديث عن الحوار، ولكنهم يفرغون دعوى الحوار من مضمونها، ويريدونه حواراً لفرض الشروط والإملاءات.

إنهم يرفضون الحوار

في الغرب قطاع كبير جداً، ربما كان هو القطاع الرئيسي الذي يتشكل من غالبية المؤسسات الدينية، وعلى رأسها الفاتيكان، ومؤسسات التنصير، والمخابرات، وغالبية مراكز الأبحاث والجامعات، ووسائل الإعلام، وهو يرى أن الغرب والإسلام لن يلتقيا، وأنه لا داعي للحوار، وأن الأسلوب الأمثل للتعامل بين الطرفين هو الأسلوب القائم حالياً، ولو بطريقة كالتي تمارسها الولايات المتحدة الأمريكية تحت رئاسة بوش الابن.

وهناك قطاع آخر قليل من بعض الساسة والمثقفين والأكاديميين يطالب بالحوار مع المسلمين، المعتدلين منهم والمتطرفين على حدٍّ سواء. وهذا القطاع يدعو إلى إجراء حوار شامل ومنفتح، ويحذِّر من حصول أيِّ حوار "انتقائي"، إذ يرى فيه تضليلاً للآخر وتضليلاً للذات معًا.

وما يدفع هذا القطاع إلى التشدد في مواقفه هو أن المسلمين أقلية تنمو في المجتمعات الغربية نفسها، وأن المسيحيين أكثرية تتضاءل؛ ثم إن المسلمين أكثر شبابًا والمسيحيين الغربيين أكثر شيخوخة. كما يكمن جوهر المشكلة في أن المسلمين أشد تدينًا والمسيحيين أشد عَلمانية: ففي فرنسا، مثلاً، حيث يُقدَّر عددُ المسلمين بحوالي خمسة ملايين، كان يوجد 992 مسجدًا ومصلًّى في العام 2003، فارتفع العدد هذا عام 2005 إلى 1230.

حينما نطق هنتنجتون بالصدق!

وقبل أن نتحدث عن الحوار والالتقاء سنركز على أسباب الخلاف ودواعيه وحجمه. وفي هذا الإطار فإنه رغم أن الكثيرين اعتبروا صموئيل هنتنجتون متجاوزاً وعنصرياً حينما قال بحتمية صدام الحضارات، إلا أن الأحداث التي وقعت خلال الأعوام القليلة الماضية أكدت أن الصدام آت لا ريب فيه ، وأن هنتنجتون لم يكن متجاوزاً ولا مغالياً. فمنذ أحداث 11 سبتمبر 2001, وحبل المشنقة يضيق تدريجياً حول العنق الإسلامي والعربي . ورغم ترجيحنا لكفة الحوار ودعاوي التداخل الحضاري إلا أن دوائر الشك تتسع يوما بعد يوم في العالمين العربي والإسلامي , بحيث بات راسخا في أذهان الغربيين أن هذه المنطقة في العالم هي ـ بالفعل ـ معمل لتفريخ الإرهابيين .

عشرات المؤلفات الغربية التي صدرت حديثا في قضايا السياسة والشرق الأوسط لا تري غير ذلك، خصوصا إذا كان مؤلفوها من أولئك الصحفيين الغربيين الذين أتيح لهم أن يعملوا كمراسلين لصحف أوروبية في البلدان الإسلامية فنقلوا عن الإسلام كل ما هو غريب ودخيل , ومشكوك فيه . فالإسلام الذي يتحدثون عنه ويقدمونه للجماهير الغربية هو أن الإسلام دين يحض علي العنف والكراهية , ويقف حجر عثرة في طريق الحرية الفردية والمجتمعية وتتعارض مبادئه مع أسباب التقدم .

لقد وقف العقل السياسي الغربي موقفا مناوئا للإسلام والمسلمين فأفسح المجال رحبا أمام أشخاص من نوع سليمان رشدي , وتسليما نسرين ودافع عنهما دفاعا مستميتا بعد أن صورهما على أنهما ضحايا للتعسف الإسلامي , ولم يدخر وسعا في إلصاق تهمة التخلف والرجعية بالإسلام والمسلمين !

وسائل الإعلام الغربية كرست هذه المفاهيم المغلوطة عن الإسلام بعد أن وضع الغرب الإسلام في مكان الشيوعية , وبات يردد في أدبياته أن خطرا أخضر سيدهمهم كما كان يدهمهم في السابق الخطر الأحمر، وتولدت عن هذا التصور المريض أوهام منها أن المسلمين يخططون لإدخال الغرب في الإسلام , وأن المسلمين ينشرون في مساجد هم أفكاراً تحرض علي كراهية الآخر.

كيف ينظر الطرفان لبعضهما؟

وبينما يرى الكثير من الغربيين أن المسلمين متعصبون ويتسمون بالعنف وقلة التسامح, ينظر المسلمون للغرب عامة على أنهم أناس يتصفون بالأنانية وانعدام الأخلاق والطمع, بالإضافة إلى العنف والتعصب، والشعوب الإسلامية ترى أنها مضطهدة من قبل الغرب, وتعتبر أن السياسات الغربية هي المسئولة عن تدهور أوضاعها الاقتصادية. ولكن الشعوب الغربية, من جهتها, ترى أن أكبر العقبات التي تقف حائلاً دون ازدهار الدول الإسلامية هي الفساد الحكومي وقلة التعليم والأصولية الإسلامية.

وبينما يلفي معظم المسلمين باللوم على ازدراء الشعوب الغربية للدين الإسلامي، يعتقد الغرب أن تعصب المسلمين وعدم تقبلهم للاختلاف في وجهات النظر هو الذي ينبغي أن يٌلقى عليه باللوم.

وتتضح الهوة بين المسلمين والغرب أيضًا من خلال الأحكام التي يصدرها كل من الجانبين حول كيفية معاملة الحضارة الأخرى للمرأة. فالشعوب الغربية ترى أن المسلمين لا يحترمون المرأة، في حين أن معظم الشعوب الإسلامية يقولون نفس الشيء عن الغرب.

ولدى الطرف الإسلامي عوائق تحول دون فهمه للآخر الغربي، وتعود هذه العوائق في جانب منها إلى طبيعة سياسة الغرب تجاه عالم الإسلام منذ بدأت أوروبا تبدي نزعة توسعية مع بداية القرن الخامس عشر. كما أنها تعود إلى طبيعة الصورة التي يحملها المسلمون عن أنفسهم والتي يحددون من خلالها طبيعة فهمهم للآخر.

لقد تأثر المسلمون بهذا الفصل الجديد من المواجهة العسكرية الذي قلب ميزان القوى لتنتهي أغلب المواجهات بهزيمة بلاد الإسلام. بدأ ذلك مع صعود القوى الأوروبية الاستعمارية بداية من البرتغاليين والإسبان والهولنديين، ثم بأكثر حدة مع الفرنسيين والإنجليز إلى حدود أواسط الخمسينيات في فترة الاستعمار المباشر.

تجربة الاستقلال التي أعقبت هذه المرحلة عمقت الإحساس بمرارة الهزيمة لدى المسلمين وقد مثلت القضية الفلسطينية أبرز تجسيد لهذه الهزيمة.

كما رسخت مأساة الشعب الفلسطيني الشعور بالإحباط ودفعت إلى استبطان معطى الهزيمة العسكرية لاستحضاره في كل مناسبة للتعامل مع الآخر. هذا ما أدى إلى اختزال صورة ذلك الغرب في مستوى العلاقة السياسية وإلى إفراز عقدة المؤامرة التي من خلالها نحاول أن يفهم المسلم مختلف التحديات.

أسباب النظرة الغربية غير المنصفة للإسلام

والغرب من ناحيته لا يقدر الإسلام حق قدره، بل يتهم حركة الإسلام بأنها حركة صماء لا تقيم للحوار مع الغرب أية أهمية، ويربط قادة الغرب وسياسيوه ومفكروه بين الإسلام والأصولية، على أساس أن الإسلام هو الأصولية، وأن الأصولية هي الإسلام، وأنهما الخطر الأول على الغرب والعالم الحر.

والغربيون يعنون بالحوار أن يجلس المسلم إلى الغربي كما يجلس التلميذ إلى أستاذه فيتلقى منه دون نقاش أو جدال ما يلقنه إياه من مفاهيم الحرية والثقافة، والديمقراطية، وأصول التعامل مع الغرب المتحضر، وطريقة دخول معبد العالم الحر، وبهذا يكون محاوراً بارعاً، وإلا فهو أصولي إرهابي متطرف.

و كذلك فإنهم يلبسون مصطلح الأصولية معاني ليست حسنة في ذاكرة شعوبهم، تلك الذاكرة التي تختزن في أعماقها حركات غربية راديكالية شوفينية، عرقية قومية، أو دينية طائفية، أو خيالية ميتافيزيقية، وتحاول أن تلفت أنظار شعوبها إلى الإسلام وحركة الإسلام بوصفها أصولية لا تختلف عن تلك الأصوليات الغربية المتحجرة والمتطرفة في معتقداتها وأفكارها وعنفها وإرهابها، لتشويه صورة الإسلام في منظار الشعوب الغربية، وتنفيرهم منه ومن حركته، بهذا الشكل الملتوي الظالم المجحف، وبالتالي استنفار شعوب الغرب للتكتل والوقوف في وجه هذا الإسلام المخيف الذي رسموا صورته بطريقة مشوهة عن عمد وقصد.

منطلق الاستكبار الغربي

إن الحداثة الغربية تشكل الإطار الذي يدور داخله الإنسان الغربي، وهي تقدم رؤية مادية ترى العالم باعتباره مادة. وقد عرَّفت هذه الرؤية الهدف من وجود الإنسان في الكون بأنه تعظيم المنفعة واللذة، وعرَّفت التقدم بأنه تصاعد معدلات الإنتاج والاستهلاك، مما ولد شراهة استهلاكية عند الإنسان الغربي ليس لها نظير في التاريخ. وهذه الحداثة المادية لا تعني مجرد استخدام العقل والعلم والتكنولوجيا، بل هي استخدام العقل والعلم والتكنولوجيا المنفصلة عن القيمة.

وفي عالم متجرد من القيمة تصبح كل الأمور متساوية، ومن ثم نسبية، وعندئذ يصعب الحكم على أي شيء، ويصبح من المستحيل التمييز بين الخير والشر وبين العدل والظلم، بل بين الجوهري والعرضي، وأخيراً بين الإنسان والطبيعة أو بين الإنسان والمادة.

وفي غياب قيم مطلقة يمكن الاحتكام إليها، تظهر آلية مادية واحدة ووحيدة لحل النزاعات والخلافات -التي هي من صميم الوجود الإنساني- ألا وهي القوة والإرادة.

وفي هذا الإطار تمركز الغرب حول ذاته، وجعل من نفسه مرجعية نهائية ومعياراً يحكم به على كل الظواهر والحضارات، ونظر إلى العالم لا باعتباره كيانات مستقلة لكل منها طموحاته المشروعة وأهدافه المختلفة، وإنما باعتباره أشياء من حقه أن يوظفها لحسابه باعتباره الأقوى.

وفي هذا الإطار تحركت جيوش أوروبا وقسمت العالم فيما بينها، ونهبت ثرواته وحولته إلى مصادر للمواد الخام والعمالة الرخيصة وأسواق لسلعها. وبالفعل جاءت الجيوش الغربية إلى العالم العربي والإسلامي وأخضعت شعوبه لكل أنماط الاستعمار: استعمار عسكري في مصر وسوريا ولبنان والمغرب والسودان والعراق وليبيا، واستعمار استيطاني في الجزائر، واستعمار استيطاني إحلالي في فلسطين.

الحوار المنتظر

إن الحوار الحقيقي والبناء والهادف بين الغرب والإسلام لا بد له من أسس وهي الحق والعدل دون اختزالهما في قيم حضارية ضيقة لا تمثل إلا نفسها.

وسيكون الحوار بالفعل عندما يجلس قادة الغرب المعتدلين مع نظرائهم من العرب والمسلمين، فيكون أولا الاعتراف بالوجود ثم الحوار بالحسنى، وتجنب إستراتيجية تسجيل النقاط على طريقة حوار الملاكمة، والإصغاء بدلاً من التجاهل، والكلام بقدر الإنصات، والتفكير في نتيجة منطقية تعطي لكل طرف وتنزع من كل طرف بقدر ما أخذ، لأن العدالة لا تكون إلا كذلك، ولا يتم الرضا بها إلا إذا كانت كذلك.

إن الحوار لم يكن متعذراً في ساعة من الساعات، ولكنه ربما أضحى صعباً وشاقاً.

الشعوب الغربية ـ دون الحكومات والحركات ـ لا تزال تقبل الحوار معنا، وهذا ما يلمسه المختصون عبر الجاليات الإسلامية والعربية المقيمة في ديار الغرب.

ونحن نطالب أن يكون المحاور من الطرفين على أعلى المستويات علماً وثقافة وأخلاقاً ونبلاً وتحملاً وتمثلاً علمياً لمبادئ دينه وحضارته وثقافته الذي يحاور من أجلهم، وعلينا أن نفهم أن الحوار لا يعني إلا الاجتهاد في إصابة الحق في كل أمر والسعي إلى تقديم هذا الحق المجتهد في الوصول إليه بالحكمة والموعظة الحسنة والأساليب الإنسانية الواعية الواقية العالمة.

والتقنيات الحديثة الجديدة وسيلة من وسائل الحوار العلمية فلنحسن استعمالها واستخدامها، وهي التي مهدت الطريق إلى حوارات على جانب كبير من الأهمية.

كما أننا يجب أن نفرّق بين الغرب السياسي والغرب الثقافي والمعرفي، وفي حين نصف الغرب السياسي بالإجرام والعنصرية، فإننا يمكننا أن نصف الغرب الثقافي والمعرفي بالتطور الإنساني الفعال. ولا بد أن نفرق بين الغرب السياسي والغرب الاجتماعي، لأن للغرب السياسي ثقافته ومعرفته، وللغرب الاجتماعي الشعبي ثقافته ومعرفته، إننا معنيون الآن بمخاطبة الغرب الاجتماعي أو الشعوب الغربية لأنها ربما كانت في بعض الأحيان إحدى ضحايا الغرب السياسي المستعدي من خلال وسائله الإعلامية وثقافته التي تنطبق عليها سمة التبرير.

والمنظومة الفكرية الغربية هي منظومة أو مرجعية المصلحة، وليس بالضرورة على الإطلاق أن تكون مصلحة السياسي هي ذاتها مصلحة الشعب بل كثيراً ما نرى تظاهرات تعلنها الشعوب الغربية ضد حكوماتها بسبب اختلاف المصلحة

=============

#خفايا حرب المصطلحات ضد العرب والمسلمين!!

الخميس 21 شعبان 1427هـ – 14 سبتمبر 2006م

الصفحة الرئيسة

- الغرب يستخدم المصطلحات لحسم صراعه الحضاري معنا.

- لكل حضارة خصوصية في استعمال مصطلحاتها.

- يجب أن ننحت مصطلحاتنا التي تعبر عن ذاتيتنا وثقافتنا وعقيدتنا.

د. ليلى بيومي

مفكرة الإسلام: 'المصطلحات' .. من القضايا الهامة والخطيرة في عصرنا الحديث الذي يتميز بالتشابك والتداخل .. ولأن المصطلح يعني تلخيص فكرة واضعيه حول قضية معينة فإن الأمر إذن على درجة كبيرة من الخطورة تحتم علينا الحيطة والحذر في التعامل مع المصطلحات.

فالغرب كطرف أقوى حضاريًا وثقافياً وإعلامياً يطلق المصطلحات التي تعبر عن رؤيته لقضية معينة ،ثم يسوّق هذه المصطلحات إلى العالم عبر أجهزة إعلامه المسيطرة، فتنتشر هذه المصطلحات وتسود حتى لو كانت خاطئة ومتحيزة وأنانية.

يقول المفكر الراحل د. أحمد صدقي الدجاني: إن قضية المصطلحات تبرز في كل صراع وتحتل أهمية خاصة في الإعلام عنه .. وأي غفلة عن أهميتها وأي خطأ في التعامل معها قد يكون له نتائج وخيمة. فقد تساهلنا في كثير من المصطلحات التي نحتها الغير من وجهة نظره وكان لها نتائج سلبية في مقدمتها التبعية الفكرية. وهذه المصطلحات – في إطار صراعنا الحضاري مع الغرب – نجدها قد صممت لخدمة الغرب وانحازت لفكرته ورؤيته وعقيدته.

فمثلاً مصطلح مثل 'العالمية' ورد في إطار الحديث عن الأدب العالمي والمكتبة العالمية .. وقد دأب الغرب على احتكار هذا اللفظ بحيث أصبح مصطلح العالمية ينصرف إليه وحده .. فكل ما هو غربي عالمي وكأن العالم مقتصر عليه .. وقد قبلنا هذا المصطلح الخاطئ وأصبحنا من ضحاياه .. فأصبحنا ضحايا تبعية فكرية خطيرة واتجهت أنظار أدبائنا إلى جائزة نوبل وهي جائزة غربية .. ويتحدث البعض عن لغات عالمية وأخرى ليست كذلك.

ومصطلح 'التقدم' يجب أن نحدد مفهومنا عنه .. فقد ظهر هذا المصطلح في الغرب مع تقدمه التقني في جو سادت فيه فكرة أن تقدم العلم التقني مرادف للتقدم الإنساني .. وعبرت فكرة التقدم هذه عن مفهوم اجتماعي تاريخي وكانت وثيقة الصلة بمفهوم التطور الذي جاء به داروين وبمفهوم التغير الذي ينصب على عالم الظاهر .. وكلا المفهومين عار عن أي مضمون أ خلاقي .. فبينما التقدم وهو مظهر من مظاهر التغير مرتبط أشد الارتباط بالمعيار الأخلاقي .. فهو مفهوم ذاتي يعني ما هو مرغوب فيه أو ما هو الأفضل والأصلح أو ما هو مثالي يرجى تحقيقه وهو من ثم مفهوم نسبي يمكن أن يكون اجتماعياً أو أخلاقياً أو دينياً أو اقتصادياً.

ورواج مفهوم التقدم الغربي بمفهومه التقني فقط وإهماله الجوانب الأخرى ساهم في الإغراق في التوسع في استغلال مصادر الطبيعة وتحقيق أكبر قدر من اللذات الدنيوية.

أما مصطلح 'الإرهاب' فإنه حسب المفهوم الغربي يستخدم لوصف أي مقاومة مسلحة للعدوان المسلح الغاشم الذي يقوم به المستعمر الغربي .. فهو يستخدم لوصف أية مقاومة للظلم واغتصاب الحقوق. وبديهي أن أصحاب هذا الفكر الاستعماري لا يصفون ما يقوم به الغرب بأنه إرهاب ،بل يضفون عليه صفة تمدينية أو دفاعية وأمنية .. وهم يعبرون عن فرحهم بنجاح هذا العدوان بأشكال مختلفة .. فإذا مارس الشعب المعتدي عليه حق المقاومة واستخدام السلاح دفاعاً عن نفسه انطلق هذا الفكر الاستعماري يصف هذه المقاومة بأنها إرهاب. وما أكثر الأمثلة على ذلك بدءً من الغزو الفرنسي لمصر مروراً بحملات الغزو الأوروبي إلى الثورة الفلسطينية وهي تقاوم الغزوة الصهيونية.

ويستخدم الفكر الغربي مصطلح 'التفاوض' ليطرح بديلاً للمقاومة المسلحة التي يسميها إرهاباً .. ولذلك فهو يضع شرطًا له وهو الإقلاع عن المقاومة المسلحة أو أشكال العنف . كما يشترط أن يكون له في هذا التفاوض اليد العليا .. ويضع شرطاً آخر وهو ألا يطلب المفاوض الآخر المعتدي عليه شيئًا لأن ذلك يعني تفاوضًا بشروط وهو لا يقبله .. وهكذا يصبح مفهوم التفاوض في الفكر الغربي عملية إذعان كامل للطرف الآخر واستسلامه.

الخصوصية الحضارية للمصطلحات

أما د. محمد عمارة فيقول: إن من المصطلحات الشائعة عند جمهور المثقفين والمفكرين 'لا مشاحة في الاصطلاح' أي أنه لا حرج على أي باحث في استخدام المصطلح بصرف النظر عن البيئة الحضارية والإطار الفكري أو الملابسات المعرفية أو الفلسفية والعقائدية التي شاع فيها. ونحن إذا نظرنا إلى المصطلحات من زاوية المضامين التي توضع في أوعيتها .. ومن حيث الرسائل الفكرية التي حملتها الأدوات والمصطلحات فسوف تتغير الرؤية .. فهناك أوعية وأدوات مشتركة بين الحضارات والأنساق الفكرية والعقائدية والمذهبية .. وفي ذات الوقت هناك مضامين خاصة تختلف فيها وتتميز هذه الأوعية العامة والأدوات المشتركة لدى كل حضارة من الحضارات.

فمثلاً مصطلح 'السنة' قد شاع استخدامه لدى مذاهب إسلامية مختلفة وفي علوم إسلامية متعددة .. لكن السنة عند اللغوي لها معنى وعند عالم الحديث لها معنى آخر وعند عالم الملل والمذاهب لها معنى ثالث.

فإذا كانت هذه المشاحة واردة في مضامين المصطلح ومعانيه وفي إطار مذاهب الحضارة الواحدة، فالأحرى بها أن تتأكد في مضامين المصطلحات في الحضارات المختلفة ، وهذا التمايز الحضاري يجعل من القاموس المعرب أداة تزييف لوعي أبناء الحضارة المتلقية لهذا القاموس، وأداة تبعية في نفس الوقت.

فمصطلح 'الشارع' مثلاً من المصطلحات في ميدان التشريع القانوني يوصف به من يشّرع القانون .. وواضع القانون شارع .. والشارع هنا هو الإنسان .. فهل حقاً لا مشاحة في استخدام هذا المصطلح الشائع ومضمونه؟.

إن الإجابة على ذلك سوف تكون مختلفة .. فابن الحضارة الغربية الذي لا يؤمن بوجود شريعة إلهية تنظم الجانب المدني والاجتماعي والاقتصادي والسياسي للدولة يؤمن بأن الإنسان هو المصدر الأول والأخير للتشريع .. أما في الحضارة الإسلامية فالشارع هو الوحي الإلهي.

ما أن مصطلح 'الإقطاع' يختلف مضمونه من حضارة لأخرى .. فالحضارة الغريبة تجعل فلسفتها هي الملكية المطلقة في الثروات والأموال للأفراد في النموذج الليبرالي أو لطبقة الإجراء في النموذج الشمولي.

أما في الحضارة الإسلامية فهذه الملكية المطلقة هي لله سبحانه وتعالى مع تقرير هذه الحقوق للإنسان الحائز للمال باعتباره مستخلفاً في حيازته واستثماره والانتفاع به عن الله سبحانه وتعالى.

ومضمون مصطلح الإقطاع في النموذج الإسلامي هو تملك للمنفعة لا للرقبة، ولقد كان في التطبيقات الإسلامية وسيلة لإحياء الأرض الموات والانتفاع بها.

ماذا يحدث عندما لا يدل الدال على المدلول؟

وللدكتور عبد الوهاب المسيري رؤية في هذا الموضوع: فهو يرى أن النص الذي يكتبه إنسان بيده هو مجموعة من الدوال التي تشير من خلال علاقتها الداخلية إلى مجموعة من المدلولات والعلاقات الخارجية .. ولابد أن ثمة أفكاراً كوّنها هذا الإنسان في عقله وقلبه عن مجموعة من الظواهر والعلاقات في الواقع .. وهو يتصور عن عمد.

إذًا فثمة ثغرة قد تضيق أو تتسع تفصل بين الدال والمدلول ، فإذا قلت هذه تفاحة حمراء وأشرت إليها بإصبعي وكان يقف بجواري شخص آخر فإن الثغرة بين الدال والمدلول تكون ضيقة لأنه لا توجد سوى تفاحة واحدة وإصبع واحد يشير إليها. ولكن الأمر يختلف تماماً والثغرة تتسع في حالة تلك التفاحة التي أخبرتني عنها أمي في طفولتي فهي تفاحة حمراء تتدلى من أغصان شجرة خضراء في الجنة ويدور في خاطري أنني أريدها فتتدلى في يدي ثم آكلها. ولكن أمي لم تخبرني هل سآكها أم أنها ستدخل في جوفي من خلال وجداني .. وأين هذه التفاحة من التفاحة الأخرى؟.

ويضيف د. المسيري: إننا قد أدمنا عملية نقل المصطلحات دون إعمال فكر أو اجتهاد ودون فحص أو تمحيص ،فأصبحت العلوم الإنسانية العربية عقلها في أذنيها .. ولهذا فقد الإنسان العربي الحديث القدرة على تسمية الأشياء .. ومن لا يسمي الأشياء يفقد السيطرة على الواقع والمقدرة على التعامل معه بكفاءة. ونقل المصطلحات في العلوم الإنسانية عملية محفوفة بالمخاطر لأن كل مصطلح متجذر في تشكيل حضاري فريد له لغته المعجمية والحضارية الخاصة. كما أن الدال لا يشير إلى مدلول خارجي فحسب وإنما يحتوي على وجهة نظر من صكوه .. ويزيد الأمر تعقيداً إذا كانت الدوال ذات طابع عقائدي.

وأول أشكال التحيز هو التحيز الناجم عن ارتباط الدال بسياقه الحضاري الذي نشأ فيه، ومن ثم محدودية حقله الدلالي وقصوره في الإخبار عن مدلوله إذا نقل إلى سياق حضاري جديد.

فكلمة 'أسرة' في سياق غربي علماني يختلف مدلولها عن نفس الكلمة في سياق عربي إسلامي .. فدرجة التماسك بين أعضاء الأسرة والتضامن والتراحم والتناصر ومسؤولية الأبوين تختلف في السياق الأول عن الثاني.

وكلمة 'ماسونية' وهي حركة ظهرت في بلاد أوربا البروتستانتية واكتسبت مضموناً محدداً فيها ثم انتقلت إلى البلاد الكاثوليكية واكتسبت فيها مضمونًا مختلفاً تماماً عن الأول ومع هذا سميت ماسونية أيضًا .. وحينما نقلت إلى العالم الثالث أخذت مضموناً آخر.

ومن مصادر التحيز أيضًا أن المصطلح المستورد يحمل وجهة نظر صاحبة .. فمصطلح 'عصر الاكتشافات' يعني أن شخصًا اكتشف أرضًا جديدة وأطلق عليها العالم الجديد .. ولكن هناك وجهة نظر مغايرة هي رؤية سكان هذه الأماكن .. فالأمر لم يكن اكتشافاً بالنسبة لهم فقد كانوا يصنعون تاريخهم ويبنون حضارتهم منذ آلاف السنين.

ويتضح التحيز أيضًا في مصطلحي 'الحرب العالمية الأولى والثانية'.. فالإنسان الغربي ظن أن أوروبا هي العالم وما عدا ذلك فأسواق ومستعمرات .. كذلك استخدام مصطلح 'الرأي العام العالمي'.. والمقصود به بالطبع الرأي العالم الغربي. ويحدث التحيز حينما ننقل كلمة مختلطة الدلالة من لغتها فمثلاً ظهر مصطلح عندهم ترجمناه إلى 'حركة تحرير المرأة' ثم ظهر مصطلح آخر هو 'Feminist' ترجمناه أيضًا تحرير المرأة وحل محل الأول. وفي الحقيقة فإن المصطلح الأخير يشير إلى مدلولين مختلفين تماماً فقد يعني تحرير المرأة ولكن دلالته أقوى على التمركز حول الأنثى. وحينما يبلغ التردي منتهاه لا نترجم المصطلحات بل نعربها فنقول كلاسيكية ورومانتيكية وبرجمانية والباروك – الخ. وهي كلمات لا معنى لها بالعربية رغم أنها تعني الكثير في سياق معجمها الحضاري. بل هناك من يشتق أفعالاً وأسماء من المصطلحات المعربة فيأخذ ون مصطلح 'الإيدولوجية' ويشتقون منه أن فلاناً 'يؤدلج' ويشيرون إلى 'التأدلج' – الخ.

الخروج من المأزق

يطرح الحل د. عبد الوهاب المسيري بقوله: إن القاعدة الأساسية ألا نترجم على الإطلاق وإنما ننظر للظاهرة ذاتها سواء في بلادهم أم بلادنا ، فندرس المصطلح الغربي في سياقه الأصلي ونعرف مدلولاته ،ثم نحاول توليد مصطلحات من داخل المعجم العربي .. لا يكون ترجمة حرفية ونقلاً بدون اجتهاد ولكننا سنولد مصطلحاً يصف ما نراه نحن، وتفسير من وجهة نظرنا نحن، وهذا لا يعني انغلاقاً عن الذات وإنما يعني انفتاحاً حقيقيًا على الآخر بدلاً من الخضوع له تماماً أو رفضه تماماً.

وهذا ما فعله الفلاحون الفلسطينيون حينما رأوا المستوطنين الصهاينة فلم ينخدعوا بكلام هؤلاء الرواد عن أنفسهم وتطويرهم للزراعة وإنما سموهم 'المسكوب' نسبة إلى موسكو .. أي الذين أتوا من موسكو أي الأجانب الدخلاء وهي تسمية أكثر دقة مما نتداوله حالياً وهي 'المستوطنون'.

==============

#قراءات جزائرية لإشكالية النهوض في الفكر الإسلامي المعاصر

الأربعاء 20 شعبان 1427هـ – 13 سبتمبر 2006م

الصفحة الرئيسة

مفكرة الإسلام: صدر حديثا عن دار في الجزائر للدكتورة شافية صديق كتابان ضمن سلسلة مراجعات فكرية تعالج فيهما إشكالية النهوض في الفكر الإسلامي المعاصر• وذلك من خلال الاجتهادات الموضوعية لكبار الكتاب والمفكرين في عالمنا المعاصر الذين أسهموا في اقتراح تصورات للنهوض بالأمة الإسلامية وتجاوز الانتكاسات التي ما تزال قائمة عقبة في وجه أي مشروع للتقدم•

وتعود الباحثة في كتاب فكر الحركة وحركة الفكر إلى ثلاثة شخصيات نموذجية في الفكر الإسلامي المعاصر هي حسن البنا وأبو الأعلى المودودي وسيد قطب• وتشكل الشخصيات الثلاث، حسب الباحثة محاور رئيسة في الفكر الإسلامي المعاصر في وجهه الحركي وما يجمع بينهم خصوصا هو المصير الذي لقيته أفكارهم في مخابر الفكر للدول الاستعمارية• فتقول الدكتورة شافية صديق أن أفكار الثلاثة تحولت إلى دستور عملي لحركات تغييرية حاولت تجسيد الاجتهادات السياسية•

وفي الكتاب الثاني 'الجهاد الفكري الفردي تتناول شافية صديق جهود شخصيات اجتهدت لاقتراح طريق للنهضة بعد الاجتهاد في تشخيص المرض وأسبابه الحقيقية، والنماذج المدروسة في هذا الكتاب هي علي شريعتي، ومحمد إقبال، مالك بن نبي• أما المفكر الشاعر محمد إقبال فحمل كل إنتاجه هم إنهاض الأمة الإسلامية•كما تناولت الباحثة المفكر الجزائري مالك بن نبي الذي فهم منذ بداية كتاباته أن شروط النهضة هو الموضوع الذي يجب أن تتركز حوله وفيه الجهود، وتؤكد على أن الشخصيات الثلاث خبرت الحضارة الغربية وفكرها من الداخل• لذلك جاء تحديها لسطوتها تحديا فكريا وإصرار يا

==============

#الخطايا الأمريكية في الرد على هجمات 11 سبتمبر

الأربعاء 20 شعبان 1427هـ – 13 سبتمبر 2006م

الصفحة الرئيسة

عامر حسين

مفكرة الإسلام: أصبح معروفاً بين قطاع واسع من المثقفين والعرب والغربيين، أن إدارة الرئيس الأمريكي بوش الابن استغلت هجمات 11 سبتمبر 2001 , لإطلاق الحرب العالمية الثالثة , التي أسمتها هي 'الحرب العالمية ضد الإرهاب' , ولم يأت ذلك بطريقة عابرة , بل جاء نتيجة قرار مسبق وتخطيط مدروس جري علي مدي سنوات سابقة , بما يشير إلي أن هجمات سبتمبر لم تكن إلا استغلالا جيدا لظرف معين لتنفيذ مخطط مسبق وجاهز. وبالتالي فإن واشنطن أشعلت الحرب وهي تدرك هدفها وتعد وسائلها , وتتطلع إلي نتائجها .

وكانت نقطة البدء في تنفيذ هذا المخطط الأمريكي، بعد إقناع العالم بشرعية الرد الأمريكي على من دمروا رمز الحضارة وقتلوا المدنيين وعرضوا أمن بلادهم للخطر، هو ترويج مقولة أن الشرق الأوسط هو معمل تفريخ الإرهاب في العالم، وأن العراق هو البلد الأكثر إثارة للقلق والمشاكل، وبالتالي فإنه للتخلص من ذلك كله لا بد من إعادة صياغة لدول المنطقة العربية كلها واستبدال الأنظمة القائمة بأنظمة ديمقراطية، والبدء بإقامة نظام ديمقراطي في العراق مؤيد للغرب، يمكنه أن يحدث موجة من عمليات التحول الديمقراطي من شأنها أن تغير أو تزعزع الأنظمة الاستبدادية القائمة، بدون الحاجة إلى جلب مزيد من القوات الأميركية إلى المنطقة، هذه المقولة هي مقدمة خاطئة وقادت بالتالي إلى نتائج خاطئة.

ونحن في هذه السطور نحاول رصد جملة من الأخطاء التي وقعت فيها الإدارة الأمريكية، سواء منها ما يتعلق بالفلسفة والتصور والمنهج، أو ما يتعلق التصرف والسلوك والعلاقة مع الدول والبشر.

وأول هذه الأخطاء هو إرسال القوات الأمريكية لاحتلال بلداناً عربية وإسلامية، وإسقاط نظمها السياسية وإعادة بناء نظم سياسية أخرى موالية لأمريكا، وقد كان ذلك خطأ كبيراً، لأن ذلك لم يؤد إلى القضاء على تنظيم القاعدة والقضاء على قادته، فالقاعدة ليست منظمة محددة بأرض أو بلد ولا تعتمد على دعم دولة، بل هو تنظيم منتشر في أنحاء العالم.

والخطأ الثاني أن الحرب العشوائية التي بدأتها الولايات المتحدة، زادت من التوترات في الشرق الأوسط، وعززت مواقع الاتجاهات الدينية والقومية، ودفعت بإيران لكي تكون الدولة الرئيسية في المنطقة، بعد القضاء على أعدائها [صدام حسين وطالبان]، والإتيان بحلفائها الشيعة ليحكموا العراق، وليكونوا مع إيران الهلال الشيعي، المسلح نووياً، والذي ربما تعارضت مصالحه مع الأمريكان في يوم من الأيام، وبالتالي يكون الأمريكان قد صنعوا عدوهم وساعدوه بأيديهم.

والخطأ الثالث أن عملية التحول الديمقراطي في العالم العربي فشلت فشلا ذريعاً، لأنها لا يبنيها نظام سياسي مصنوع من الخارج، وإنما يبنيها مجتمع يتطور ذاتياً حسب ثقافته وتقاليده. ولكي تنجح الديمقراطية في العالم العربي فإنها يجب ألا تكون عبر بناء نظم سياسية هشة تابعة لأمريكا، وإنما يجب أن تكون متجذرة في العنصرين اللذين يمكن أن يمنحا الشرعية السياسية للعملية كلها وهما: الإسلام والقومية. كما أن الإدارة الأمريكية استمعت إلى نصائح الحكام العرب من أن الديمقراطية معناها صعود الإسلاميين إلى الحكم في معظم أنحاء العالم العربي.

بل إن من عجائب السياسة الأمريكية في حربها على الإرهاب أنها تقف في وجه القوى السياسية الحقيقية في العالم العربي، بل وتشن حرباً شرسة ضد حكومة حماس المنتخبة ديمقراطياً، وفي نفس الوقت تدعم الاستبداد والمستبدين.

حينما غاص بوش في وحل العراق

والخطأ الرابع أن العراق نفسه لم يتم تحويله إلى الديمقراطية، فالدستور تمت صياغته بأيدي الأمريكان، وتم فرضه على العراقيين، في استفتاء مشكوك فيه. كما أن العملية السياسية الدائرة فيه هي مجرد تمثيليات ومخططات لتقسيم العراق ونهب ثرواته، أدت إلى حرب أهلية أكلت وتأكل الأخضر واليابس في هذا البلد الغني. وفوق ذلك لم تحقق هذه السياسات للمواطن العراقي أي شيء على صعيد ضمان الأمن، والخدمات وأبسطها المياه والكهرباء، وإنما أصبح المواطن العراقي أتعس إنسان في العالم. والعجيب أن القوم يتبجحون ويقولون إن العراق أصبح مثالاً يحتذى.

ومن الأخطاء الفرعية في الملف العراقي، أن الإدارة الأمريكية لم تمتلك إستراتيجية واضحة للتعامل مع كل الأطياف العراقية بعد سقوط نظام صدام، وانحازت لأصدقائها السابقين من الشيعة والأكراد، مما دفع بقطاعات واسعة من السنة لحمل السلاح ضد الوجود الأمريكي، وللتعبير عما أصابهم من ظلم وتهميش.

ومن الأحلام التي كانت مسيطرة على عقول جنرالات الحرب الأمريكيين، الاعتقاد بأنه ما أن يسقط نظام صدام حتى يتحول العراق في فترة قصيرة إلى الديمقراطية، ويتم حل كل مشاكل بلاد الرافدين المعقدة. وقد علم الجميع بعد ذلك مدى سذاجة هذا التفكير الذي قاد إلى تدمير العراق وتفكيكه.

وقد ارتكب الأمريكان خطيئة حرمان العراق من قياداته عندما أبعدوا معظم المسئولين البعثتين، وركزوا على الانتخابات وكتابة الدستور، ولم يوفروا خبرات قوية للوزارات الأساسية مثل الدفاع والداخلية، كما اعتمدوا على خبرات ضعيفة تنظيماً على مستوى المحافظات.

استفزاز العنف الإسلامي

أما الخطأ الخامس فقد كان من النتائج المباشرة لهذه الحرب، وهو اتجاه طلاب وشبان مسلمين يعيشون في الغرب نفسه نحو التطرف . فقد أجريت دراسة علي طلاب وشبان مسلمين في الجامعات السويدية وبعض الجامعات الأوروبية , وأشرف عليها ماجنوس رانستورب الأستاذ في كلية الدفاع السويدية، وخلصت الدراسة إلى أن الطلاب المسلمين المقيمين في أوروبا يتجهون إلى التطرف كرد فعل على الاستهداف الأمريكي الغربي للبلاد العربية والإسلامية.

لكن عيب هذه الدراسة هو عزل العينة التي أجريت عليها الدراسة عن المؤثرات الأكثر أهمية عليها , مثل تعرض شعوب عربية وإسلامية لظلم شديد يثير غضبا قد يشتد ويصل إلي مستوي الاندفاع صوب الانتقام ممن يحملهم الغاضبون المسئولية عن هذا الظلم وتجلياته اليومية في فلسطين والعراق وأفغانستان...الخ .

إلا أن الدراسة تشير إلى نقطة هامة وهي أن السياسات الأمريكية التي تدعي تخليص العالم من التطرف الإسلامي، سوف تكون هي السبب الرئيسي الذي يدفع قطاعات متزايدة من الشباب المسلم لممارسة العنف ضد المصالح والأهداف الغربية، كرد فعل مباشر للتطرف الأمريكي ضد العرب والمسلمين.

وهناك الآن قطاع متزايد من المثقفين الأمريكيين يعتقدون أن التفكير والمنهج والفلسفة التي قاد بها المحافظون الجدد حربهم ضد ما يسمي بـ'الإرهاب' كان خطأ كبيراً جعل تلك المأساة بداية لمآسي أخري لا نهاية تلوح في الأفق لها بدلاً من أن تكون بداية لمرحلة جديدة من النظر في لب المشكلة والبحث عن حلول لها. فأصل المشكلة نتج عن التدخل الأمريكي المباشر في شؤون الدول الإسلامية، وهو أمر لا يعالج بمزيد من التدخل السافر في عدوانيته وتبجحه.

ولقد كان استمرار العدوان الأميركي على العرب والمسلمين وزيادة حدة العمليات العسكرية والجرائم الإنسانية والأخلاقية التي ارتكبت بحقهم في العراق وفلسطين ولبنان سببا في تصاعد موجة العداء لأميركا، سياسة وثقافة ومصالح.

وكان السبب أيضاً قي تنامي كراهية العرب والمسلمين عامة للسياسة الأميركية، ورفضهم لخططها وأطماعها في المنطقة العربية. وعلى الرغم من قيام إدارة الرئيس بوش بحملة إعلامية ودبلوماسية مكثفة ومكلفة لتحسين صورة أميركا في البلاد العربية والإسلامية، إلا أن الجهود الأميركية باءت بالفشل، بل وساهمت أيضا في تعميق الشكوك في مصداقية بوش وعقلانية سياساته.

ومن العوامل التي ساهمت في تعميق تلك الشكوك، اتجاه الرئيس بوش إلى استخدام عبارات عدائية تفتقر إلى الذكاء والحساسية مثل عباراتي الحرب الصليبية والإسلام الفاشي، وتناقض أقواله مع أفعاله، وعدم التزامه بما يصدر عن إدارته ورجاله من تصريحات، خاصة فيما يتعلق بقضية فلسطين وحقوق شعبها المحتل.

وسادساً، فإنه من أخطاء حرب المحافظين الجدد التي ليس لها سقف ولا زمان ولا مكان، تلك الخسائر الاقتصادية الكبيرة للاقتصاد الأمريكي، فقد تصاعد الإنفاق العسكري الأمريكي بمعدل خمسين مليار دولار سنوياً [من 265 مليار في عام 2002 إلي 535 مليار في العام الماضي]، وحسب المصادر الأمريكية نفسها فإن ما تم إنفاقه علي الحرب علي الإرهاب خلال الأعوام الخمس الماضية بلغ 437 مليار دولار. أما الخسائر البشرية فقد بلغت في العراق وحده أكثر من 2600 جندي قتلوا وأكثر من 62000 أصيبوا بعاهات جسدية أو نفسية من جراء الحرب.

وسابعاً، فإن إدارة بوش الابن أيضاً في حربها البائسة هذه، ارتكبت أسوأ أنواع احتلال وقهر الأمم والشعوب، وهذا من شأنه على المدى الطويل الإساءة للإنسان الأمريكي. فهذا النوع من التدخل أسوأ من الاستعمار القديم، لأن الاستعمار القديم كان يهتم بالاستيلاء علي الأرض والموارد بينما يدع الناس وشأنهم، خاصة فيما يتعلق بدينهم وثقافتهم. ولكن الاستعمار الأمريكي الجديد جاء بأجندة محددة لتغيير البنية السياسية والثقافية للبلاد المحتلة.

ترويج المفاهيم والمصطلحات المطاطة

والخطأ الثامن أن الولايات المتحدة، ومعها الغرب كله، لم تحاول تحديد مفهوم واضح للإرهاب يجعل بالإمكان التفرقة بين العمليات الإرهابية غير المشروعة ضد الأبرياء وعمليات المقاومة الوطنية المشروعة ضد قوى الاحتلال والطغيان الأجنبية. وجاءت أحداث الحادي عشر من سبتمبر لتظهر أن الدول الغربية عامة، وأميركا خاصة، لم تكن معنية كثيرا بحق الشعوب المضطهدة في الحرية والتحرير ومقاومة قوى الاحتلال الأجنبية. ولذلك اتجهت تلك الدول بقيادة أميركا إلى الخلط المتعمد بين مفهومي الإرهاب والمقاومة، وذلك من أجل تجريم وتحريم كل عمليات المقاومة المشروعة باعتبارها عمليات إرهابية.

ففي بداية الحملة العسكرية في الحرب على الإرهاب قامت أميركا بتوجيه التهم للعرب والمسلمين عامة بكراهية الغرب والعمل على تدمير حضارته وطريقة حياته، من أجل ضمان تأييد الرأي العام الغربي للحرب الأميركية.

وهذه كلها أخطاء في الثقافة والسياسة والمنهج ستدفع ثمنها الولايات المتحدة، ومعها الغرب كله، على المدى الطويل، وسوف يتسبب ذلك في تأكد الضمير العالمي من عدم حيدة وموضوعية الغرب.

والخطأ التاسع أن بوش الابن قام بتدمير جسور الثقة مع العرب والمسلمين، مما ساهم في زيادة تعاطف الجماهير الإسلامية عامة والعربية خاصة مع المنظمات التي تعمل على نشر ثقافة مقاومة الهيمنة الأميركية، وسياسة الاحتلال والاستيطان الإسرائيلية، ومفاهيم العولمة الاقتصادية والثقافية.

والخطأ العاشر الذي لن يستطيع الأمريكان، حتى بعد انتهاء ولاية بوش الابن، محوه، هو تورطه في صك مصطلح 'الفاشية الإسلامي'، بعد أن تورط قبل ذلك في أنه سيواجه العالم الإسلامي بحرب صليبية جديدة. فهذه المصطلحات بقدر ما تفصح عن حال من الانحطاط الفكري لدى النخبة السياسية الأميركية، في عهد المحافظين الجدد، ومن الأصولية المسيحية الرجعية التي ضخها نفوذ الجماعات الإنجيلية والصهيونية في المجتمع الأميركي، بقدر ما يُدخل إلى مجال السياسة عقيدة القوة العمياء بصفتها الطريقة الوحيدة لمخاطبة العالم وحماية التفوق الأميركي، ليُدخل معها منظومة قيم دينية ترفع فعل القتل والإبادة للعدو إلى مرتبة القداسة والواجب الديني تأكيداً لرفعة مقام شعب في الأرض على مقامات شعوب أخرى.

ولقد أنتجت هذه القناعات الأيديولوجية والفكرية الخرقاء في السنوات الأخيرة حروباً ظالمة مات فيها مئات الآلاف من البشر وتشوّه فيها أضعاف أضعافهم، ودُمّرت فيها أوطان وتمّ محوها أو تمزيقها، وعنصرية كريهة تجاه قسم من العالم لمجرّد اختلافه الديني والثقافي وعدم تسليمه بأحادية المعايير الثقافية والاجتماعية الغربية [الأمريكية على نحو خاص]، واحتقاناً لا سابق له في الحدة في العلاقات الدولية بما في ذلك علاقات أميركا بحلفائها، وجموحاً مجنوناً إلى إلقاء القبض على مصير العالم والانفراد بتقرير شؤونه.

وهكذا فإن الإدارة الأمريكية الحالية تعتبر أن هناك ظاهرة مسيطرة في العالمين العربي والإسلامي، وبين الجاليات الإسلامية والغرب عنوانها 'الفاشية الإسلامية'، وأنها خليفة النازية والفاشية والشيوعية، التي كافحها العالم الغربي كله خلال الحرب العالمية الثانية وبعدها إلى حين انتهاء الاتحاد السوفيتي وسقوطه.

الفرق بين بوش الابن وهنتنجتون صاحب فكرة 'صِدام الحضارات أن هنتنجتون ذكر حضارات أخرى غير الإسلام مثل الكونفوشيوسية والبوذية، وإن رجّح انفراد الإسلام وحضارته بمواجهة الغرب، بينما ذكر بوش ست مرات خلال ثلاثة أسابيع الفاشية الإسلامية بمفردها في مواجهة كل العالم.

أخطاء في حق الأمريكيين أنفسهم

والخطأ الحادي عشر الذي لا يغتفر للإدارة الأمريكية المتعصبة، أنها قادت الإعلام الأمريكي والعالمي، ومعه جمهور السياسيين والكتاب الغربيين، إلى التأكيد على أن الإسلام كدين بجوانبه العقدية والتشريعية والتاريخية، وكذلك المجتمعات الإسلامية بكل مكوناتها المركبة المتداخلة والحركات الإسلامية على تعددها واختلافاتها البينة، الجميع متطرفون وإرهابيون. وهكذا تم استفزاز أسوأ ما أفرزه الغرب الأوروبي والأمريكي من تيارات محافظة سياسياً ومتطرفة دينياً لكي توغل في عدائها للإسلام والمسلمين والحركات الإسلامية، وتملأ العالم دعاية سوداء مضادة لهم أجمعين بينما أشعلت الحكومات المعبرة عنها نار الغزو والحرب في عديد من بلدان المسلمين.

والخطأ الثاني عشر هو خطأ في حق الشعب الأمريكي نفسه الذي تم انتهاك حقوقه المدنية والسياسية على يد إدارة بوش الابن , باسم مكافحة الإرهاب ومطاردة وإجهاض محاولاته . وقد قد أرهقت هذه الانتهاكات الأمريكيين , وأفقدتهم الثقة في إدارة الرئيس بوش الابن وسياساته ومغامراته العسكرية , دون أن يحقق هدفا واحداً من الأهداف الثلاثة , التي وعد الأمريكيين قبل سنوات بتحقيقها , وهي القضاء علي الإرهاب , ومحاصرة انتشار أسلحة الدمار الشامل , وفرض الديمقراطية علي العرب والمسلمين .

الخطأ الثالث عشر هو أن إدارة بوش الابن المتطرفة جعلت أمريكا الدولة الإرهابية الأولي في العالم , فشعوب العالم كله، بما فيها الشعوب الأوروبية، أصبحت تعتبر بوش الابن إنساناً خطراً على السلم والأمن العالمي

===============

#أسس المنهج العلمي في القرآن والسنة في ندوة علمية

الخميس14 شعبان 1427هـ – 7 سبتمبر 2006م

الصفحة الرئيسة

- القرآن اهتم بإقامة البرهان العلمي ونهى عن الظن والتقليد.

- الرسول علم المسلمين منهج التجربة في قضية تأبير النخل.

- الإسلام حث على تعلم اللغات الأجنبية.

- الإحصاء والتخطيط من أصول المنهج العلمي الإسلامي.

منى محروس

مفكرة الإسلام: كثيرا ما تعرض الإسلام لهجوم حاد من خصومه وخاصة المستشرقين من أنه خال من أي منهج علمي، بل ادعوا أن الإسلام هو السبب في تخلف المسلمين وبالتالي فلا مجال أمام المسلمين للتقدم إلا بالتخلي عن الإسلام واتباع الأنماط العلمانية الغربية.

ومن هنا جاءت أهمية الندوة العلمية التي نظمتها جامعة عين شمس، وتحدث فيها د. عامر النجار أستاذ الفلسفة ووكيل كلية التربية جامعة قناة السويس عن المنهج العلمي في القرآن والسنة.

وأول شيء في أسس هذا المنهج العلمي هو أن الإسلام جعل للعلم والعلماء مكانة عظيمة وفضل العلماء بعلمهم وحث الناس على التعلم وتحصيل العلم فقال تعالى:[يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات]. والرسول الكريم يقول: [من سلك طريقا يلتمس فيه علما سهل الله له به طريقا إلى الجنة].. ويقول أيضا: [إن الملائكة لتضع أجنحتها لطالب العلم رضا بما يصنع].

والقرآن الكريم يهتم بالحجة العلمية والبرهان، فهو يطالب الكفار بالبرهان على اتخاذهم آلهة من دون الله وهذه المطالبة كما يقول العلماء مطالبة تعجيز فيقول لهم: [أمن يبدأ الخلق ثم يعيده ومن يرزقكم من السماء والأرض أإله مع الله قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين].

كما أن القرآن الكريم يعتمد على العلم اليقيني لا على الظن والوهم.. فيقول [بل اتبع الذين ظلموا أهواءهم بغير علم]. وينهى القرآن الكريم من التقليد بغير علم ولا عقل ولا هداية فيقول: [وإذا قيل لهم اتبعوا ما أنزل الله قالوا بل نتبع ما ألفينا عليه آباءنا أو لو كان آباؤهم لا يعقلون شيئا ولا يهتدون]. ويقول أيضا: [ومثل الذين كفروا كمثل الذي ينعق بما لا يسمع إلا دعاء ونداء صم بكم عمي فهم لا يعقلون].

وهكذا يعيب الله على الذين لا يستخدمون عقولهم ولا يستخدمون العلم والعقل ويصفهم بأنهم كالدواب. كما أننا نجد أصول المنهج العلمي القائم على الملاحظة والتجربة واستخدام النظر مع العقل فيقول تعالى: [قل سيروا في الأرض فانظرا كيف بدأ الخلق]. ويبين الله تعالى أن ما يكسبه الإنسان من علم ومعارف بعد مولده إنما يحصله عن طريق السمع والبصر والعقل.

فيقول تعالى: [والله أخرجكم من بطون أمهاتكم لا تعلمون شيئا وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة لعلكم تشكرون].

المنهج العلمي في قضية تأبير النخل

ومنهج السنة النبوية في التجربة واضح جلي في قضية تأبير النخل المشهورة ففي الحديث الصحيح عن طلحة قال [مررت مع النبي في نخل من المدينة فرأى أقواما في رؤوس النخل فقال ما يصنع هؤلاء قلت يأخذون من الذكر فيضعون في الأنثى يلقحون به.. قال ما أظن ذلك يغني شيئا فتركوه ونزلوا عنها فلم تحمل تلك السنة شيئا فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال إنما هو ظن ظننته إن كان يغني شيئا فاصنعوا فإنما أنا بشر مثلكم والظن يخطئ ويصيب ولكن ما قلت لكم قال الله عز وجل فلن أكذب على الله].

فالرسول في هذه القضية أراد أن يعلم أصحابه التجربة، ففي العام الذي تركوا فيه تأبير النخل أي تلقيحه لم يثمر شيئا.. وبالتالي يثبت بالتجربة أن التلقيح سبب رئيسي في الإثمار.

ومن هذه التوجيهات الراشدة عرف المسلمون الأوائل خصائص التفكير العلمي ووضح ذلك في أبحاثهم فرأينا تحريراتهم العلمية الرائعة ووجدنا تميز تفكيرهم بالنباهة والموضوعية، كما وجدنا عندهم دقة في صياغة المفاهيم العلمية وتفسيرهم الواضح للظواهر التي يلاحظونها وفروضهم العلمية الدقيقة.

وكانوا يحاولون الوصول إلى تعميمات أكثر دقة من خلال اختبارها عن طريق أساليب الضبط بالملاحظة والتجربة العلمية. وقد عرفوا تماماً خاصية من أهم خصائص التفكير العلمي وهي التراكمية فاستفادوا من الدراسات السابقة وبدءوا من حيث انتهى الآخرون.

فالبحث العلمي حلقاته متراكمة متصلة، والمنهج العلمي عمل نقدي شاق ودقيق يهدف إلى الكشف عن معلومات جديدة، أو معرفة علاقات جديدة، أو محاولة الكشف عن حلول المشكلات العلمية الكبرى التي تشغل بال الباحثين.

وقد كان علماء المسلمين على معرفة تامة بخطوات المنهج العلمي، من حيث تحديد المشكلة، واقتراح الفروض التي تكشف سبب حدوث المشكلة، واختبار الفرض المقترح واستنباط نتائجه، فقدموا للإنسانية منهجا علميا متكاملاً فحققوا بذلك مقاصد العلم ودعوة الإسلام إلى التعلم.

ويشهد لهم أحد علماء الغرب وهو 'جون كايوا' فيقول: 'لقد اكتشف العرب في القرن الثالث الهجري طرقا جديدة للبحث العلمي وأثروا الحضارة الإسلامية بمعارف علمية شتى'.

دعوة الإسلام إلى تعلم اللغات

ومن أصول المنهج العلمي الإسلامي معرفة لغات الآخرين لكي يتم الاطلاع على علومهم وحضاراتهم ولكي يتم إقامة حوار معهم، ولهذا دعا الرسول المسلمين إلى الاقتباس من الأجناس الأخرى وتعلم لغاتهم. وأخذ صلى الله عليه وسلم بفكرة حفر خندق حول المدينة في غزوة الأحزاب وهي من أساليب الفرس التي أشار بها سلمان الفارسي.. كما استفاد من أسرى المشركين في محو أمية عدد من الصحابة، فزيد بن ثابت أحد كتاب الوحي كان ممن علمه أسرى قريش.

ولأن دعوة الإسلام للناس عامة وليست للعرب خاصة، فكانت الدعوة على تعلم اللغات دعوة أساسية.. وكان هناك من المسلمين من يعرف الفارسية والرومية والحبشية، ولكن لم يكن منهم أحد يعرف السريانية التي يكتب بها اليهود، فأمر رسول الله كاتب وحيه زيد بن ثابت ليتعلمها وقد علل رسول الله ذلك بقوله [إني والله لا آمن يهود على كتابي] أي لا آمنهم على أن يقرءوا ويكتبوا لي باللغة السريانية. فيتعلمها زيد بن ثابت في أسبوعين ببركة دعاء رسول الله له. صحيح أن زيدا كما يقول البعض كان قد عاش فترة مع اليهود ويعرف القليل عن السريانية لكنه لم يكن يتقنها ولم يحسن تعلمها إلا حينما أمره رسول الله صلى الله عليه وسلم.

والعلم الحديث والعصر الحديث يثبتان أن تعلم اللغات الأجنبية شرط أساسي من شروط النهضة العلمية، وهذا إعجاز إسلامي في حد ذاته.

وضمن أسس المنهج العلمي الذي استخدمه رسول الله صلى الله عليه وسلم كان اعتماده على الوسائل التربوية المعينة على الشرح مما يساعد على إيضاح الموضوع.

فعن عبد الله بن مسعود قال [خط رسول الله صلى الله عليه وسلم خطا بيده وقال هذا سبيل الله مستقيما وخط عن يمنيه وشماله وقال هذه السبل ليس منها سبيل إلا عليه شيطان يدعو إليه ثم قرأ.. [وإن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه، ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله]].

فرسول الله صلى الله عليه وسلم أراد أن يبين للمسلمين بوسيلة بسيطة وذلك برسم خط مستقيم ثم خطوط متعرجة عن اليمين والشمال لتوضح لهم معنى الآية الكريمة، وكثيرا ما كان يستخدم أسلوب الإشارة الحسية لتعليم الغافل ففي الحديث [التقوى هاهنا وأشار إلى صدره ثلاث مرات].

وكان يعني بذلك القلب وهو محل التقوى.. وقوله لمعاذ بن جبل حين أوصاه بعدة وصايا ثم قال له: [ألا أدلك على ملاك ذلك كله قال بلى قال أمسك عليك هذا فأشار إلى لسانه الشريف].

وعن جابر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مر بالسوق والناس على جانبيه، فمر بجدي صغير الأذن ميت فقال من منكم يريد أن يشتري هذا بدرهم فقالوا ما نحب أن يكون لنا وهو حي لأنه صغير الأذن فكيف وهو ميت فقال فو الله للدنيا أهون على الله تعالى من هذا عليكم].

الأمانة العلمية في المنهج العلمي الإسلامي

إن رسول الله يشير إلى منهج هام وهو الأمانة العلمية.. هذه الأمانة التي يفقدها حتى العلماء في هذا العصر، فكثير منا يأخذ صفحات من كتاب ولا ينسبها إلى صاحبها الأصلي، وهناك الكثير الذين يأخذون الفكرة من غيرهم وينسبونها لأنفسهم.

والرسول صلى الله عليه وسلم يقول في الحديث الصحيح: [تناصحوا في العلم فإن خيانة أحدكم في علمه أشد من خيانته في ماله، وإن الله سائلكم يوم القيامة].

وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلم أن هناك من سيأتي وينقل عن الآخرين ولا ينسب إليهم عملهم.. وهذا الحديث أساس من الأسس الهامة للبحث العلمي، فهو يعتبر أن نقل الأفكار وعدم نسبها إلى صاحبها خيانة وتعتبر أشد من سرقة المال، فنتاج العقل له حرمة يجب أن تصان، ومن أمانة العلم أن يقول العالم لا أعلم. وكثير منا يصعب عليه أن يقول لا أعلم، فالنفس الإنسانية في طبعها الكبر، وكثير من أهل العلم إذا سئلوا يفتون فورا خوفا من أن يقال عن أحد منهم إنه جاهل.

ففي الحديث: [قال رجل لرسول الله أي البلدان أحب إلى الله وأيها أبغض إلى الله فقال لا أدري حتى أسأل جبريل، فأتاه جبريل فأخبره أن أحب البقاع إلى الله المساجد وأبغضها إلى الله الأسواق]. ومما ورثه الفقه الإسلامي: 'من سئل فقال لا أعلم فقد أفتى'.

الإحصاء والتخطيط من أسس المنهج العلمي في الإسلام

إن من الوسائل العلمية الحديثة منهج الإحصاء والتخطيط العلمي، وعن حذيفة قال: [ كنا مع رسول الله فقال أحصوا لي كم يلفظ الإسلام من الناس قال حذيفة فقلنا ألف وخمسمائة من الناس].

وهكذا كان رسول الله يحصي ويعد أمته وهذا منهج علمي عظيم.. وما عرف أن نبيا من الأنبياء استخدم منهج الإحصاء إلا رسول الله، وفي هذا إشارة إلى أهمية الإحصاء في حياة الأمة الإسلامية فيما بعد.

كما أن التخطيط أيضا منهج إسلامي، قال الإمام الطبري يرد على من زعم أن تعاطي الأسباب يؤثر في كمال التوكل على الله : 'الحق أن من وثق بالله وأيقن أن قضاءه عليه ماض لم يقدح في توكله تعاطيه الأسباب اتباعا لسنة رسول الله، فقد كان عليه الصلاة والسلام يلبس على رأسه المغفر ليحمي رأسه، وأقعد الرماة على فم الشعب لحماية الأماكن، وخندق حول المدينة، وأذن في الهجرة على الحبشة والمدينة، وهاجر، وتعاطى أسباب الأكل والشرب، وادخر لأهله قوتهم ولم ينتظر أن ينزل عيه من السماء وكان أحق الخلق أن يحدث له ذلك'.

وهكذا استخدم رسول الله منهج التخطيط وإعداد الخطة وكان يعد العدة لكل شيء.. فلم يختر الحبشة مكانا لهجرة المسلمين الأوائل إلا بعد تمحيص وتخطيط عظيمين، ولم يختر بلاد فارس ولا الروم، وإنما اختار الحبشة لوجود ملك عادل لا يظلم أحداً.

كذلك خطط صلى الله عليه وسلم إلى الهجرة إلى المدينة فاختار الرفيق والدليل وأخذ بالأسباب، وكان صلى الله عليه وسلم يقول: [تداووا فإن الله لم يجعل داءً إلا جعل له دواء إلا داءً واحداً قالوا ما هو يا رسول الله قال الهرم ، أي العجز والكبر والكهولة].

وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحارب الجهل والخرافات ويؤكد أنه ليس هناك كهانة وخرافات في الإسلام فقال: [من أتى عرافاً أو ساحراً أو كاهناً فصدقه بما يقول فقد كفر بما أنزل على محمد].

وقال: [ليس منا من تطير أو تطير له، أو تكهن أو تكهن له، أو سحر أو سحر له].

وهذا يدل على أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حارب الأوهام التي كانت منتشرة من أيام الجاهلية. وقد روى البخاري: [كسفت الشمس يوم مات إبراهيم، فقال رسول الله إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله لا ينكسفان لموت أحد ولا لحياته] ..أي أنهما يجريان على السنن الكونية التي خلقها الله تعالى.

=============

# اليابان عرضت نفسها على الإسلام ونحن خذلناها

الجمعة 8 شعبان 1427هـ – 1سبتمبر 2006م

الصفحة الرئيسة

د. ليلى بيومي

مفكرة الإسلام: الدكتور عبد الودود شلبي الأمين العام المساعد لمجمع البحوث الإسلامية سابقا، وأحد قيادات الأزهر يتمتع برؤية إسلامية ثاقبة، وعاطفة إسلامية جياشة، يلاحظها بسهولة كل من استمع إليه يتحدث عن الإسلام وهموم المسلمين، ويكتشفها بسهولة أيضا كل من قرأ له كتابا من كتبه العديدة.

والدكتور عبد الودود شلبي مهتم بصفة خاصة بالأقليات الإسلامية، وهو متخصص في هذا الأمر، وقد زار هذه الأقليات مرات عديدة في أفريقيا وآسيا وأوروبا.. لذا فهو موسوعي في علاقة الإسلام خارج حدوده، والتحاور معه في شأن وهموم المسلمين المتأثرين في هذا العالم له أهمية كبيرة.

* سافرتم إلى معظم البلاد الإسلامية، واطلعتم على أحوالها وأحوال الأقليات المسلمة.. ما هي أهم المشاكل التي تواجه هذه الأقليات؟ وهل ترى أن الأزهر يقوم بدوره في هذا المجال؟

** الأقليات الإسلامية تعاني من مشكلات كثيرة أهمها ضعف المستوى الثقافي، والتربية الدينية، وخاصة في مواجهة الحضارة الغربية، مما يجعل المسلم الذي يعيش في هذه البلاد سهل الاصطياد، ومما ساعد على ذلك غياب المؤسسات الدينية التي تتولى توعية ورعاية وتربية هذه الأقليات.

وللأسف لا توجد دولة إسلامية تتبنى هذه الأقليات بالصورة المثلى التي يمكن أن تحقق الهدف من الحفاظ على شخصية هؤلاء وهويتهم ودينهم. بل إن الطامة الكبرى تأتي من بعض الدول الإسلامية التي تحاول أن تعرض فكرا معينا تحت ضغط العوز والحاجة مما يؤدي إلى حدوث خلافات وانقسامات رهيبة تنعكس على العالم الإسلامي كله.

وقد أفسد هذا التدخل العمل الإسلامي وأظهر المسلمين في صورة سيئة.. ولكن أستطيع أن أقول للإنصاف إن بعض الجمعيات الخيرية تقدم عملا إسلامياً متميزاً، وتقدم مساعدات خالصة لوجه الله لكثير من الأقليات المسلمة.

أما عن دور الأزهر فمحدود للغاية وضعيف.. والأزهر في بلده مصر ضعيف ويعاني من كثير من الأمراض وفاقد الشيء لا يعطيه.

* ولكن لماذا تدهور مستوى الأزهر في أكثر من مجال إلى الحد الذي أشرتم إليه؟

** الأزهر لم يعد يعبأ بحفظ القرآن حفظا كاملا، وقد كان هذا في الماضي هو الطريق الأساسي لدخول الأزهر، كما أن اختزال المناهج اختزالا مخلاً ساعد في هذا التدهور حتى إن الطالب في الأزهر لا يكاد ينطق عبارة أو آية صحيحة. والأجيال القديمة التي تربت في الأزهر القديم انتهت، وأصبح معظم العاملين الآن من الأجيال التي قلت بضاعتها في أمور الدين واللغة مما أدى إلى فقدان الأزهر لمكانته في مصر وبالتالي في العالم الإسلامي.

والذين يقولون غير ذلك كالذين يضعون رؤوسهم في الرمال.. والدليل على ذلك ما يراه الناس ويسمعونه من أئمة المساجد الذين لا يقدمون فكراً، ولا فقها، ويخطئون في القرآن، وفي اللغة العربية. هذا الانهيار أدى إلى ظهور ما يسمونه بالتطرف، لأن الشباب فقد الثقة في الأزهر وعلمائه الذين يفتون اليوم بخلاف ما أفتوا بالأمس، فلجأ هؤلاء الشباب إلى الدين وحدهم وهم لا يملكون الأداة العلمية الصحيحة في البحث واستنباط الأحكام فضلوا وأضلوا، واختلط الحابل بالنابل في مجال العلم الديني، ولو كان للأزهر حضور حقيقي لما سمعنا عن هذه التيارات وهذا التطرف الذي يؤدي بالشباب إلى متاهات تقوده إلى الهلاك.

في الماضي كان في كل مركز من محافظات مصر واعظ يمتاز بعلمه وشخصيته ومظهره، فكانت كلمته مسموعة قبل مأمور المركز لأنه كان جديراً بالاحترام.. أما الآن فهناك أكثر من مائة واعظ في كل مركز.. ولكن لا يشعر بهم أحد، ولا يسمعهم أحد.. وللأمانة هناك بعض العناصر الممتازة التي علمت نفسها لأنها حريصة على أن تقوم برسالتها.

وأبو حامد الغزالي يقول: إن التبعة الكبرى في هذا الفساد الشامل والضعف وانحلال والأخلاق تقع على عاتق العلماء.. فهم السبب الأول في فساد هذه الأوضاع، لأنهم ملح الأمة، وإذا فسد الملح فما الذي يصلحه؟ ولهذا صار الداء عضالا، والمرض مزمناً، واندرس العلم، وأقبل العلماء على حب الدنيا، وعلى أعمال ظاهرها عبادات وباطنها مراءاة.. ولقد قيدت الأطماع العلماء فسكتوا.. إن تكلموا لم تساعد أقوالهم أعمالهم فلم ينجحوا ولو صدقوا ما فسدوا.. فإنما تفسد الرعية بفساد الملوك، ويفسد الملوك بفساد العلماء.

* البعض يقول: إن المستقبل في عالمنا العربي للجماعات الإسلامية والتيار الإسلامي بعد سقوط خصومهم العلمانيين والشيوعيين.. والبعض الآخر يقول: ولكن انقسام وتشرذم الجماعات الإسلامية لن يمكنها من ذلك .. هل توافق على هذا الطرح؟ وما هو المظلم والمضيء في واقع الحركة الإسلامية المعاصرة؟

** بعيدا عن هذا التصنيف أو هذه المسميات فإن الإسلام مستقبله في ذاته لأنه رسالة الله الأخيرة، وكلمته الوحيدة الباقية، وبعد سقوط كل النظريات والأيديولوجيات في العالم، وهم الذين يقولون ذلك بألسنتهم في الغرب، ومن ثم يحاربون الإسلام بلا هوادة.

إن حكام الغرب ومفكريه يقولون: إن المستقبل للإسلام، وبرغم المحن والمذابح التي يتعرض لها المسلمون في العالم فالله متم نوره. أما من هم الذين سيحملون راية الإسلام يوم النصر، فإن الله سيأتي بقوم يحبهم ويحبونه.. أنا لا يهمني الأسماء والجماعات.. وإنما يهمني الإخلاص والتجرد من الشهوات.

* هل ترى أن النظام الدولي الجديد قد اتضحت معالمه بشأن تعامله مع العالم العربي والإسلامي؟

** النظام الدولي ليس جديدا مطلقا.. القضية قديمة وواضحة بين معسكر الحق ومعسكر الباطل.. وسيظل هذا الصراع .. أما أن تنفرد أمريكا فهذا لن يغير من الأمر شيئا، فكل الأطراف العالمية تختلف فيما بينها لكنها تتفق ضد المسلمين.. والمشكلة ليست في النظام الدولي.. بل في المسلمين أنفسهم الذين يجب أن يراجعوا أنفسهم حكاما وعلماء ومحكومين.. إن كانوا على حق سيأتيهم نصر الله .. وإن كانوا على غير ذلك فليصححوا أوضاعهم حتى يغير الله حالهم.

* الطائفية في مصر بين المسلمين والنصارى..هي قضية حقيقية أم مفتعلة؟

** هي أمر غريب علينا تماماً، ومزروع في مجتمعنا، ومفتعل من ألفه إلى يائه.. مفتعل لضرب الإسلام وإحداث شلل داخل المجتمع المصري، لأن مصر هي المؤهلة للريادة إسلامياً.. فلا بد من شغلها بقضايا مفتعلة.. وعلينا أن نكون أذكى ممن يريد لنا ذلك، فألاعيب الغرب أصبحت مكشوفة، لذلك – حتى لو كان هناك تجاوزات من النصارى –علينا احتواؤها وامتصاصها، ومن يرد عليها فهو أحمق غبي عميل.. إن الغرب يثير المشكلة ويتمنى أن تكبر حتى يصطاد في الماء العكر.. ولكن للأسف لدينا قلة حمقاء تساعده في مخططه.

* باعتباركم متخصصون في موضوع الأقليات المسلمة.. ما هي البؤر المرشحة للاشتعال بعد البوسنة وكسوفا والشيشان؟

** إذا ظل تخاذل المسلمين على ما هو عليه.. وإذا ظل خوف المسلمين وخنوعهم كما نرى.. فإن النار سوف تشتغل في جسد العالم الإسلامي كله في كوسوفا.. ومقدونيا.. وقبرص.. والهند.. وأفريقيا.. وبورما.. وكشمير.. والصين.. إن ما حدث في البوسنة كان اختبارا للأمة هل ما زال فيها عرق ينبض؟ هل بقي فيها من الإخاء شيء .

* البعض يقول: إن الإسلام ليس فيه ديمقراطية.. وإن الشورى الإسلامية ليست ملزمة، وليست لها مؤسسات تحميها، لذلك كان حكام المسلمين جبابرة.. ما هو تعليقكم على هذا الاتهام؟

** نظام الشورى في الإسلام هو النظام الديمقراطي الموجود في بريطانيا، واختيار الحاكم ومحاسبته إنما هو من صميم الإسلام وهدف الفقه الإسلامي الدستوري.. والأغبياء الذين يقفون أمام الألفاظ بعيداً عن مضمونها وعن روحها يسيئون للإسلام.. فالإسلام هو الحرية والكرامة بمعناهما المطلق، فإن كان الإسلام يجرم من يسيء إلى حيوان أو طير أو نبات فهل يقف أمام حرية الإنسان وحقوقه؟ إن ديننا به الخطوط العريضة، والمبادئ العامة، واعتبرنا أناسا نفهم، وترك لنا كل التفصيلات، فبدلا من أن نقيم عليها أنظمة حكم تحمي الإنسان، وتحافظ على دينه وكرامته فعلنا العكس.

* ما هو رأيكم في الصورة المشوهة التي يتصور الإسلام بها في الغرب؟

** إنهم يصورون الإسلام تصويراً يتنافى مع أبسط قواعد الفهم والمنطق والعدل، ولقد كان هذا الجهل مقبولا في العصور الوسطى حيث التخلف وسيطرة الكنيسة على الضمير واللسان والأذن والعقل.

أما في عصر الليزر، والأقمار الصناعية فلا يوجد مبرر واحد لتشويه الإسلام وتقديمه إلى الناس بهذه الصورة التي تنم عن الكراهية والحقد، وعن التطرف والتعصب، فلا يكاد يخلو بلد أوروبي من الملايين أو الألوف من المسلمين الذين يمارسون شعائرهم علانية أمام وسائل الإعلام، لكن الإصرار على تشويه الإسلام أصبح جزءً من التكوين النفسي والعقلي لأي مسيحي أوروبي. فهل يتصور مسلم أنهم في ألمانيا يقولون: إن المسلمين يعبدون 99 إلهاً، أي يعبدون أسماء الله الحسنى؟

ويقولون أيضا إن المسلمين يعبدون الجمل، لقد سافرت إحدى المذيعات المصريات إلى فرنسا في مهمة رسمية وفوجئت بمن يسألها هل أنت مسلمة أم محمدية؟ فقالت وما الفرق بين الاثنين؟ قالوا لها: المسلم هو الذي يعبد الشمس، أما المحمدي فهو الذي يعبد محمداً.

لقد ظهر في الغرب مؤخرا كتاب اسمه 'الغرب والإسلام' لمؤلفه بيتر مانسفيلد أحد المعلقين في هيئة الإذاعة البريطانية يقول فيه: إن كثيرا من الأمريكيين يقولون عن النبي محمد إنه قس أمريكي زنجي.. ويقولون عن الإسلام إنه حركة ماسونية أمريكية.

واستمع مسلم إلى إحدى المدرسات الأمريكيات وهي تشرح لتلاميذها السبب الذي من أجله حرم الإسلام أكل الخنزير وشرب الخمر فتقول: 'إن محمداً حرمهما لأنه ذات ليلة سكر سكراً شديداً وبينما هو عائد إلى بيته نطحه خنزير فأوقعه أرضاً، ومنذ ذلك اليوم حرم محمد الخنزير والخمر'، فقال لها المسلم: هذه خرافة، فردت قائلة: إنهم يطلبون منا أن نقول ذلك وأنا موظفة أتعيش بمثل هذا الكلام.

* لكن لماذا هذه الحملة وهذا التشويه؟

** لقد أجاب على هذا السؤال كثير من مفكري وعلماء الغرب المنصفين.. إنهم يرون أن الإسلام هو المستقبل الحقيقي بعد سقوط كل الأيديولوجيات.. وكلما تقدم كلما تراجعت عقائد الكنيسة.. وقد انتشرت في الغرب أخيرا الديانات القادمة من أقصى الشرق كالهندوكية، والبوذية، ففوجئ الناس بأن المسيحية القائمة عندهم ما هي إلا نسخة مكررة من هذه العقائد الوثنية القديمة، وأخذوا يفكرون في أصل هذه الديانات كلها وكان هو الإسلام.. الدين الوحيد المؤهل للقيادة، لذلك خرجت كل المؤسسات القديمة من جحورها، واستخرجت أسوأ ما في مخازنها من أسلحة..إلا أن الناس أصبحت لا تتأثر بها.. وهذه المؤسسات لا تقتصر على الكنيسة..إنها مؤسسات ثقافية وسياسية واجتماعية.. ولكن الله متم نوره.

وبالرغم من واقع المسلمين المزري في بلادهم وتخلفهم وتفرقهم فالليل آخره نهار يشرق.. والظلام يعقبه فجر مضيء.

* لكن ألا ترى أن الواقع الإسلامي المحزن في بلاد المسلمين يصرف غير المسلمين عن الإسلام في بلاد الغرب؟

** بالتأكيد.. ولولا هذا التناقض بين الإسلام والواقع لاعتنقت معظم شعوب العالم الإسلام.. لقد عرضت اليابان نفسها على الإسلام في أوائل هذا القرن.. ولكن للأسف لم يكن هناك علماء ولا دعاة ولا حكام يدركون أهمية هذا العرض.. ولقد طلبت كوريا الجنوبية دعاة من الأزهر ومن غيره من المؤسسات الإسلامية.. ولكن للأسف [احتفظ برأيي في هذا الموضوع]. إن المسئولين في العالم الإسلامي يعيشون في غيبوبة، ولا اقصد بذلك العلماء فقط، ولا الحكام فقط، بل أقصد كل مسلم قادر على الإسهام في مجال الدعوة.

إننا أمة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.. أي أننا أمة من أهم خصائصها الدعوة .. ولكن للأسف لا توجد خطة موحدة، ولا إستراتيجية بعيدة المدى، ولا دعاة أكفاء

=============

#مسيرة حقوق المرأة عبر التاريخ

الخميس 7 شعبان 1427هـ – 31 أغسطس 2006م

الصفحة الرئيسة

عبد الهادي صالح التويجري

مفكرة الإسلام: إن الباحث في مسيرة حقوق وشئون المرأة عبر التاريخ يرى أن سبب الاندفاع الغربي المعاصر للمطالبة بحقوق المرأة إنما هو ردة فعل متشنجة لإرث تراكمي عبر القرون [وإلى زمن قريب] من العادات والتقاليد الاجتماعية والدينية سلب فيها الرجل المرأة حقوقها ووضعها في مرتبة دونية في جميع المدنيات والمجتمعات البشرية التي حكمت بشرائع وضعية من صنع البشر سادت فيها مفاهيم اجتماعية خاطئة بنيت على مبادئ اجتماعية خاطئة مثل تمايز البشر و انقسام المجتمع إلى طبقات اجتماعية متباينة استعبدت فيها كل طبقة الطبقات الأخرى التي تحتها، أو على هرطقات وأساطير دينية كان العامل الديني [المنحرف] محركًا للحياة الاجتماعية فيها، ولم يكن مبنيًا على عامل الثواب والعقاب من الله تعالى ــ كما في الإسلام ــ بل على مصالح دنيوية ومنافع شخصية لطبقة رجال الدين ومن دان بدينهم، وفي هذا كله أقصى الرجل ـ كونه المخلوق الأقوى ـ المرأة ـ كونها المخلوق الأضعف ـ عن مكانها الطبيعي في المجتمع وأوقع الظلم عليها بسلبها حقوقها التي منحها الله تعالى في كل العصور.

أما في المجتمعات الغربية المعاصرة والتي 'ادعت وصلاً بليلى' وأنها المدافعة عن حقوق الإنسان [وخصوصًا المرأة] فإن واقع حال المرأة يحكي قصة مخالفة تثبت أن مفهوم الديموقراطية في الغرب ليس مفهومًا متأصلاً له شواهد، وليس له كبير رصيد على أرض واقع القوم. وإنما هو لبناء هالة مزيفة فوق جبين الحضارة الغربية.

وفي هذه الدراسة سنبين مكانة المرأة في المجتمعات القديمة والحديثة والصراع الذي خاضته المرأة للحصول على حقوقها.

1ـ المرأة في الهلال الخصيب و فارس:

كانت السيادة في الدولة السومرية الأولى [2400 ق.م.] للرجل، وكان للمرأة بعض الحقوق المالية مثل حق التملك والأجر من العمل، وكذلك حق الميراث إذا لم يوجد ذكور في الأسرة،وكان للمرأة في هذا المجتمع حق الزواج بأكثر من رجل في آن واحد [تعدد الأزواج] وأُبطل هذا القانون في الدولة السومرية الثانية.

أما في بابل ــ وحسب شريعة حمورابي ــ فكان للزوج حق إهمال وتطليق زوجته متى شاء وليس للمرأة ذلك، كما عرف تعدد الزوجات، كما ساد نظام عاهرات المعابد خدمة لزوار المعابد والكهنة وإرضاء للآلهة.

وعانت المرأة في فارس من تدني منزلتها دون الرجل وكان لها بعض الحقوق مثل حق الميراث والتملك إذا كانت من طبقة عالية. وساد في المجتمع الفارسي الزواج بالأخوات والأمهات.

2ـ في الهند:

الديانة الهندوسية وضعت المرأة في مفهوم دوني أُلبس فلسفة دينية وهو أن الإله 'تواشتري'خلق المرأة من بقايا خلق الرجل فهي بذلك دونه في المنزلة.

والمرأة لدى الهندوس رمز الغواية والشر للرجل وهي ــ حسب عقيدة مانو ــ 'خلقت للزينة والفراش والتجرد من الشرف وهي مخلوق دنس كالباطل ذاته ومصدر الرذائل'. وحُرمت المرأة الهندوسية حق الملكية والإرث [أسوة بالعبيد] واستمر هذا الوضع حتى منتصف الخمسينات من القرن الماضي عندما عدل قانون الأحوال الشخصية في الهند عندما رأى بعض مثقفي الهند أن الإسلام قد أعطى المرأة حقوقًا كاملة قبل 1400 عام.

وسادت في الهندوكية القديمة عقيدة 'ساتي' وهي 'حرق الأرملة بعد وفاة زوجها وفاء منها له' حتى منعها الإمبراطور أكبر شاه إذا كانت ضد رغبة المرأة، وعند أولئك الذين لا يحرقون المرأة كان على الأرملة عمل كل ما يحبه زوجها أثناء حياته، وأن لا تنظر إلى الرجال بقية عمرها وتقتات على الفواكه والأزهار ليضمر جسمها.

وساد الزنى من خلال نظام 'خادمات المعابد' حيث كان من العرف والواجب على المرأة الهندوكية قضاء جزء من حياتها كمومس في المعابد لإسعاد الزوار والكهنة وجلب المال للمعابد إرضاء للآلهة، كما ساد نظام اتخاذ الخليلات، وفي بعض القبائل الجبلية في الهند كانت الزوجة مشاعًا بين الأخوة.

3ـ في اليونان القديمة:

مع أن المجتمع الإغريقي كان متقدمًا فكريًا؛ لأنه قام على أنقاض حضارات سابقة مثل حضارة بلاد ما بين النهرين وحضارة وادي النيل، إلا أن وضع المرأة لم يكن بأفضل مما هو عليه في الحضارات الأخرى، ففي أثينا بقيت المرأة تحت وصاية والدها حتى زواجها وهي وصاية سلطوية كان للأب فيها كامل الحق في تزويج ابنته من شاء ومتى شاء، وكذلك التصرف المطلق في أموالها، وبعد الزواج تنتقل السلطة إلى الزوج.

وكانت المرأة محرومة من التعليم إلا الموسيقى والرقص وما يتصل بعملها كزوجة وأم في المستقبل كالطبخ والحياكة.

وقسمت النساء إلى أربع مراتب:

ـ الطبقة الأولى: ربات البيوت [الزوجات] ولهن حظ من الاحترام لأنهن كن لا يخرجن ويتفرغن للاهتمام بالبيت والأسرة، وكان خروجهن للاحتفالات الدينية فقط.

ـ الطبقة الثانية: طبقة المحظيات [العشيقات] وهن مومسات لأشخاص معينين ولكن ليس لجميع الرجال. وكان لهن حظ من التعليم والثقافة وكذلك الرقص والغناء، ولكن لم يكن لهن احترام في المجتمع.

ـ الطبقة الثالثة: طبقة المومسات من الأرامل والإماء واللقيطات ولم يكن لهن حقوق البتة0

ـ الطبقة الرابعة: الإماء وهن النساء اللائي أسرن في الحرب، وعملن في خدمة الأسر في البيوت في مهن الطبخ والتمريض وحياكة الملابس وغيرها ولم يكن لهن أي حقوق.

أما في أسبرطة فكان الوضع مختلفًا قليلاً،فكانت المرأة الأسبرطية تحضر الألعاب الرياضية التي يظهر فيها الرجال عراة، والتي حرمت منها أختها في أثينا، وكان للمرأة الأسبرطية حق التملك. وكان من العرف أن المرأة تعيش مع أهلها عشر سنين قبل أن تنتقل إلى بيت الزوج.

4ـ المرأة لدى الرومان:

تأثر الرومان بالإغريق في حضارتهم، فأبقوا المرأة في مرتبة دون الرجل نظرًا 'لخفة عقلها وطيشها' حسب اعتقادهم فكانت تحت وصاية الأب أو الأخ، وبعد الزواج تنتقل الوصاية إلى الزوج حيث كانت المرأة تمنح صفة 'ابنة الزوج'، إمعانًا في إذلالها لأنها فاقدة الأهلية للاهتمام بنفسها، فتتسمى باسم الزوج [وهذا التقليد موجود إلى اليوم في الغرب وبعض الدول الإسلامية]، وتقطع بذلك صلتها بعائلتها، وكما تقول دائرة المعارف البريطانية: 'كان وضع المرأة في روما القديمة هو وضع المحكومية الكاملة للرجل' واستثنى من ذلك الراهبات.

وكان للزوج الروماني ــ بحكم القانون ــ حق قتل زوجته الزانية ولكن القانون لا يعاقب الذكور على الزنى.

أما من الناحية المالية فلم يكن للمرأة حق الميراث وتكون ممتلكاتها قبل الزواج تحت وصاية الأب أو الأقرب من عصبته، وبعد الزواج تكون تحت وصاية الزوج الذي له الحق في تطليقها أو طردها وأخذ ممتلكاتها.

وانتشر البغاء في الدولة الرومانية بمرور الزمن حتى أصبح حرفة لها قوانينها وانفرط عقد الحياة الأسرية. حتى أن فيلسوفهم 'جوفنان' قال على لسان زوجة فاجأها زوجها وهي تزني: ألم نتفق على أن يفعل كل منا ما يحلو له؟

ولعل هذا الموروث الأخلاقي هو السائد في الحضارة الغربية اليوم.

5ـ المرأة العربية في ا لجاهلية:

عرب الجاهلية ـ أي عرب ما قبل الإسلام ـ لم يحكمهم قانون ولا سلطان موحد وعاشوا كقبائل متناحرة [حتى جاء الإسلام فوحدهم] وانعكست أوضاعهم وتقاليدهم الاجتماعية سلبًا على مكانة المرأة عندهم، فكراهية المرأة في المجتمع العربي الجاهلي كانت الصفة السائدة،كما هو الحال عند بقية الشعوب التي عاصروها، وأدى ذلك إلى ظاهرة وأد البنات وهن أحياء خوف الفقر أو السبي والعار.

وعانت المرأة العربية من الظلم في مجتمعاتها نتيجة عدم وجود قانون أو نظام يحميها، فحرمت من الميراث بل وصل الأمر عند بعض القبائل إلى أن الابن الأكبر يرث نساء أبيه ـ عدا أمه ـ وكان تعدد الزوجات بلا حد معين يقف عنده.

ولم تكن الحياة الزوجية قائمة على أية حقوق أو مشاركة، ولعل في حديث السيدة عائشة ـ رضى الله عنها ـ ما يبين مكانة المرأة في ذلك الوقت، قالت: 'إن النكاح في الجاهلية كان على أربعة أنحاء: فنكاح منها نكاح الناس اليوم، يخطب الرجل إلى رجل وليته فيصدقها ثم ينكحها، ونكاح آخر: كان الرجل يقول لزوجته إذا طهرت من طمثها، أرسلي إلى فلان فاستبضعي منه [أي احملي منه] ويعتزلها زوجها ولا يمسها حتى يتبين حملها من ذلك الرجل ثم يصيبها، يفعل ذلك رغبة في نجابة الولد، وهذا نكاح الاستبضاع، ونكاح آخر يجتمع الرهط من الرجال فيدخلون على امرأة كلهم يصيبها فإذا حملت ووضعت ومر عليها ليال أرسلت إليهم، ولا يستطيع رجل منهم أن يمتنع، حتى يجتمعوا عندها فتنسب المولود إلى من شاءت منهم. ونكاح رابع: يجتمع الرجال فيدخلون على المرأة فإذا حملت ووضعت اجتمع عندها الرجال من الحي وألحقوا ولدها بالذي يرون ولا يستطيع الامتناع وهذا زواج البغايا'

6ـ المرأة اليهودية:

الديانة اليهودية في أصلها ديانة سماوية نزلت تعاليمها على النبي موسى ـ عليه السلام ــ وقد حرفت بعده كثيرًا مما أدى إلى تشويه وتحريف حقوق المرأة التي جاءت بها.

فاليهودية الأصلية كرمت المرأة كأم تحمل الأولاد وتربيهم، ورأت أن الزوجة الصالحة سعادة للرجل، وفصلت بين الجنسين في المعابد والحياة العامة درءًا للفتن والمفاسد [ولا تزال بعض هذه التعاليم موجودة إلى اليوم حيث يفصل الرجال عن النساء في المعابد]، كما حرمت النظر إلى المرأة الأجنبية والزنى.

إلا أن التحريف في اليهودية وضع المرأة في مقام من الذل والهوان لا تحسد عليه، فالمرأة في اليهودية المحرفة سبب الإثم والخطيئة التي يقع فيها الرجل بإغوائها له. وكانت البنت غير ذات قيمة وعبء ثقيل على الأب.

واعتبر الربانيون [علماؤهم] في تعاليمهم 'أن المرأة وعاء مليء بالأقذار، طماعة، كسولة حسودة'، وحرم التلمود دعاء المرأة لزوجها لأنها لعنة عليه، وحرم قراءة المشناة [الكتاب المقدس] والتوراة على المرأة والطفل والعبيد، ومنعت المرأة من الشهادة وأداء القسم. واعتبر المرأة البالغة دون الطفل الرضيع في المنزلة، وحرم عليها الكلام مع الرجال الأجانب إلا أقارب الزوج.

وحرمت اليهودية لمس أو مجامعة أو الأكل مع المرأة الحائض، ورأت أن المرأة الحائض إذا مرت بين رجلين فهي لعنة وشؤم عليهما. واعتبرت المرأة في اليهودية ملكًا لأبيها ثم لزوجها ولذلك منعت من حق التملك. [وهذا كان سائدًا في الغرب إلى وقت قريب كما سنرى].

سمحت اليهودية بتعدد الزوجات دون ضوابط أو تحديد للعدد وكان السن الأمثل للزواج هو 12سنة، وكان على الأخ الأكبر تزوج أرملة أخيه المتوفى. وشجع الربانيون الطلاق كحل سريع لمشاكل الزوجة سيئة الخلق لأنها ــ في نظرهم ــ طاعون أسود.

ومن الأٍسباب التي تبيح للزوج طلاق زوجته:

ــ مرور عشر سنوات دون حمل.

ــ الخروج حاسرة الرأس.

ــ ممارسة الجنس مع زوجها وهي حائض.

ــ إذا كان صوتها جهوريًا.

ــ إذا لم تفِ بنذر نذرته.

ــ إذا كان بها عيب خلقي.

ــ الأكل والشرب ورضاعة الطفل في الشارع.

وزنى الرجل المتزوج في الديانة اليهودية ليس جريمة ولا يعاقبه القانون لأن المرأة لا تملك الرجل بل هو يملكها، ولكن إذا كانت المرأة التي زنى بها عذراء فلا بد أن يتزوجها، وإذا زنى بامرأة متزوجة فالإثنان يرجمان، وكذلك ترجم المرأة التي لا يجدها زوجها عذراء إلاّ إذا أثبتت أن عذريتها فضت من زواج سابق.

7ـ المرأة في التعاليم النصرانية:

تقول 'جوليا هرنانديز' داعية حقوق المرأة في أمريكا في أواخر القرن التاسع عشر: 'إن النظرة الدونية للمرأة لدى اليهود ثم المسيحيين هي بسبب التعاليم التي أتت بها الكتب المقدسة كالتوراة والإنجيل، وأن الإنجيل وضع المرأة في مرتبة دون الرجل لقرون طويلة وكان عليها الحمل والولادة والإذعان لزوجها'.

يقول الرب: 'سأزيد آلامك بالحمل والولادة ورغباتك يجب أن تكون لزوجك وهو له اليد الطولى عليك' [16: 3]

وكذلك: 'على المرأة الصمت والإذعان للزوج وهو له اليد الطولى عليها لأن آدم خلق قبل حواء وهي أوقعته في الخطيئة ' [11: 2]

وكذلك: 'إن يسوع المسيح يقود الرجل، وإن الرجل يقود المرأة ' [11: 3]

ويقول القديس 'أكيناس': 'إن المرأة لديها خلل وجديرة بالازدراء لأنها نتاج بذرة معطوبة'.

أما المصلح 'مارتن لوثر كنج' فيقول: 'إن آدم خُلق سيدًا للكائنات ولكن حواء أفسدت هذه الميزة، ولذا عليها البقاء في البيت للحمل والقيام بأعباء البيت'.

أما القس 'جيري فالويل' فيقول: 'إننا ضد قانون الحقوق المتساوية للمرأة مع الرجل؛ لأن المسيح يقود الرجل، والرجل يقود المرأة، والمطالبات بهذه المساواة مريضات نفسيًا'.

وظلت الكنيسة النصرانية تعارض تعميد المرأة إلى رتبة 'كاهن' وكان البابا 'يوحنا بولس الثاني' يأمر المرأة بالإذعان للزوج.

وقد عانت المرأة في أوروبا النصرانية في القرون الوسطى الجور والظلم في أبشع صورهما، فكان للرجل حق بيع زوجته، وشاعت حوادث إحراق النساء وهن أحياء.

وحتى بعد الثورة الصناعية لم تتغير النظرة الدونية للمرأة في أوروبا، فالثورة الفرنسية ــ والتي كانت مبادئها مبنية على الإخاء والحرية والمساواة ــ مَنعت تصرف المرأة المتزوجة في أملاكها دون إشراك الزوج في ذلك، وبقي هذا التقليد معمولاً به في بريطانيا حتى الثلاثينات من القرن الماضي حيث لم يكن للمرأة الإنجليزية حق التصرف في ممتلكاتها، كما منعت المرأة في بريطانيا من قراءة الإنجيل في عهد الملك هنري الثامن.

وحُرمت المرأة في أوروبا من التعليم رسميًا حتى أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين.

ففي فرنسا سمح للمرأة بالتعليم الثانوي في عام 1924، وفي عام 1890 كانت نسبة الطبيبات الإناث في الولايات المتحدة فقط 5% من مجموع الأطباء، ومُنعت من الانتخاب حتى القرن العشرين [سمح للمرأة بالانتخاب في سويسرا عام 1971] وتقول داعية حقوق المرأة في أمريكا في القرن التاسع عشر: 'حضارتنا اليوم أكثر جورًا واستبدادًا من الكنيسة، إن الكنيسة استخدمت الجور والاستبداد والكذب لإخضاع المرأة، إن المرأة إذا أرادت الحصول على حقوقها عليها أن تنظر إلى الإنجيل على أنه هرطقات قديمة مليء بالخرافات، وأن الرحمة والعقل الراشد هما سبب تقدم الإنسانية وليس الدين ولذا يجب الفصل بين الدين والحياة'.

8ـ حركة حقوق المرأة الحديثة:

بدأت في الولايات المتحدة في عام 1848 على يد 'إليزابيث ستانتون' ومجموعة من زميلاتها من منطلق أن وثيقة الاستقلال الأمريكية والتي كتبت قبل سبعين عامًا من هذا التاريخ نصت على 'أن الله خلق الرجل والمرأة مساويين في الحقوق والواجبات، وأن الله منحهما حق الحياة والحرية والسعادة'.

وبينت السيدة ستانتون وزميلاتها الغبن والمظالم اللذين أحاطا بالمرأة الأمريكية في ذلك الوقت في النقاط التالية:

1ـ القانون يعتبر المرأة المتزوجة 'ميتة شرعًا' وليس لها وزن اجتماعي.

2ـ ليس للمرأة المتزوجة حق الملكية أو حق مقاضاة زوجها في المحاكم.

3ـ للزوج حق الضرب المبرح وحبس الزوجة دون أن يطاله عقاب.

4ـ للزوج حق الطلاق وحضانة الأطفال دون الزوجة.

5ـ المرأة دائمًا تحت طائلة القانون لأنها لا تستطيع الدفاع عن نفسها.

6ـ كان على المرأة دفع ضريبة الملكية التي كانت واجبة على الرجال فقط.

7ـ كثير من أبواب العمل كانت مغلقة أمام المرأة، وإن اشتغلت فأجرها يقل كثيًرا عن الرجل في نفس المهنة.

8ـ ليس للمرأة حق العمل في مهن رفيعة تنافس فيها الرجل كالطب والمحاماة والتمريض، ومعظم مهن النساء كانت إدارة نزل المسافرين والخياطة.

9ـ ليس للمرأة حق التعليم الجامعي.

10ـ ليس للمرأة المشاركة في إدارة شئون الكنيسة [عدا بعض استثناءات].

11ـ استلب الرجل كامل كيان المرأة واحترامها وأصبحت تابعة له.

وكان هذا بعد سبعين عامًا من الثورة الأمريكية التي وضعت حقوق الإنسان والديموقراطية في أولويات اعتباراتها.

ووضعت هذه المطالب في وثيقة سميت 'وثيقة المطالب الوجدانية '. ولكن جوبهت الوثيقة بسخرية واستهجان المجتمع الرجالي والصحافة إلا أنها زادت الوعي الشعبي بمشاكل المرأة وما تريده في المجتمع الأمريكي وبالتالي إلى زيادة التعاطف والتأييد لهذه القضية، ففي نهاية القرن التاسع عشر زاد إقبال المرأة الأمريكية [والغربية بصورة عامة] على التعليم فوصلت النسبة في بداية القرن العشرين إلى 19% في الجامعات وفي عام 1985 وصلت النسبة إلى 53% وأعطت كثير من الولايات المرأة حق إقامة الدعوى القضائية ضد الزوج، وشرعت القوانين التي حددت ساعات العمل للمرأة بثماني ساعات، ولكن منعت المرأة من العمل ليلاً أو تولي مناصب إشرافية تستدعي وقتًا إضافيًا، كما بقيت نقطة حق المرأة في التصويت هي المحور الرئيس حتى عام 1920حيث أُعطيت المرأة حق التصويت ففتح بذلك الباب أمام المرأة الأمريكية لتغيير القوانين حسب مصلحتها، فقد ثبتت الحكومة الأمريكية قوانين تحمي المرأة العاملة، ففي عام 1963 شكل الرئيس جورج كيندي لجنة نسائية لبحث مشاكل المرأة الأمريكية في العمل، وفي عام 1964صدر مرسوم الحقوق المدنية ونصت المادة السابعة فيه على 'منع التمييز في العمل الجنس أو العرق أو الدين أو الأصل' وواجه هذا القانون معارضة في تطبيقه من قبل الرجال، ومع ذلك بقيت المرأة الأمريكية تعاني من التمييز ضدها فمثلا:

1ـ المرأة التي تقتل زوجها تعتبر جانية في نظر القانون.

2ـ لم يكن بإمكان المرأة المطلقة أو غير المتزوجة الحصول على قرض من البنوك لشراء بيت أو سيارة.

3ـ كانت الأمهات اللاتي يستلمن معونة اجتماعية من الدولة عرضة في أي وقت للمساءلة في أوجه صرف هذه المعونة.

4ـ البغاء النسائي جريمة في نظر القانون بينما زنى الرجل أمر طبيعي لا عقاب عليه.

5ـ رفض كثير من المتاجر وبعض البنوك فتح حسابات للنساء المتزوجات.

وفي عام1972 تبنت الحكومة المادة [9] من نظام التعليم والذي رسمياً أعطى المرأة الأمريكية حق التعليم الجامعي والمتخصص والذي حُرمت منه مدة طويلة حتى الثلاثينات من القرن الماضي، وكذلك سمح بدخول ميادين جديدة كانت مُحرمة عليها اجتماعيًا فأصبح بإمكانها قيادة السيارات والطائرات واقتحمت ميادين الرياضة.

قانون الحقوق المتساوية: E.R.A.

بدأ وضع هذا القانون في عام 1923وتزامن مع إعطاء المرأة حق التصويت ويقضي 'بمساواة الرجل والمرأة في جميع الحقوق الممنوحة دون النظر للجنس' ولكن هذا القانون بقي مهملاً لخمسين عامًا تلت حتى عام 1972حين صوت الكونجرس لصالحه، ولكن لكي يصبح قانونًا نافذًا كان لابد من موافقة 39 ولاية عليه في نهاية فترة تجريبية مدتها سبع سنين، ولكن في نهاية المدة وافقت عليه 35ولاية فقط وعارضته ثلاث ولايات وامتنعت اثنتا عشرة ولاية عن التصويت.

وتعود معارضة هذا القانون لأنه حين يصبح دستوريًا فإن تطبيقه سيؤدي إلى محاذير كثيرة ـ كونه لا يميز بين الجنسين ـ مثل:

1ـ إجبار المرأة على الخدمة العسكرية ودخول الحرب.

2ـ يعطي المرأة حق الإجهاض وعلى نفقة الدولة.

3ـ يبيح زواج المثليين [الرجل بالرجل والمرأة بالمرأة]، وكذلك حق الالتحاق بالجيش والكشافة.

4ـ للبنت القاصر حق الإجهاض دون علم والديها وبحماية القانون.

5ـ تفقد المدارس أُحادية الجنس العون الحكومي لأنها ستصبح غير دستورية.

6ـ يمنح القانون ـ حال طبق ـ الحكومة سلطة واسعة للتدخل في حياة الأسرة الأمريكية تحت مظلة 'حماية المرأة من العنف'.

7ـ يفقد المحاربون القدامى ـ وكلهم من الرجال ـ حق رعاية الدولة لهم لأن هذا سيكون تمييزًا لهم عن النساء.

8ـ في حال عدم قدرة رحم الزوجة على الحمل الطبيعي، يصبح بالإمكان استئجار 'رحم امرأة' غير الزوجة لينمو الجنين فيه [وهو ما يعرف بالأم المستأجرة serrogate mother] وهذا غير قانوني.

10ـ سيعطي القانون الأطفال غير الشرعيين لأب أمريكي وأم أجنبية، والذين ولدوا خارج الولايات المتحدة حق الحصول على المواطنة الأمريكية.

ولكن ما حصلت عليه المرأة الأمريكية بفضل 'وثيقة الوجدان' كان يعد إنجازًا كبيرًا في مجال العمل الحكومي والتجاري، وكذلك في الحياة السياسية حيث دخلت المرأة الأمريكية المجالس البلدية للولايات وكذلك الكونجرس بمجلسيه [الشيوخ والنواب] ومع ذلك فالنساء يشكلن فقط 17% من مجموع الأعضاء.

وبيت القصيد أن وضع المرأة الغربية لم يتحسن كثيرًا، فمثلاً في مجال التعليم والعمل كانت نسبة المحاميات في أمريكا 2% في عام 1930 وارتفعت النسبة إلى 22% في عام 1989، وكانت نسبة المهندسات صفرًا % في عام 1930 وبلغت 8% في عام 1989وكانت نسبة الطبيبات في فرنسا 20% وفي ألمانيا 19% لنفس العام.

أما على صعيد الأجور ففي عام 1970 كانت المرأة الأمريكية تتقاضى أجرًا يقل 45% عن الرجل في نفس المهنة وفي عام 1989تقاضت أجرًا يقل 32% عن الرجل كما لم تتمتع بحق اتخاذ القرار أسوة بالرجال في نفس المهنة والمنصب.

ومع ذلك يصر الغرب أنه أعطى المرأة ما لم تحلم به في تاريخها، وعلى الجانب الآخر نجد أن مسيرة حقوق المرأة بدأت بمطالب طبيعية لا تتعارض مع فطرة المرأة، ولكن الانحراف بدأ فيما بعد حين تمردت المرأة الغربية على الفطرة البشرية تحت مسمى التحرر، وساهم في إذكاء هذا الاتجاه إنحسار دور الدين في المجتمع؛ لأنه أصلاً كان المحرك وراء النظرة الدونية للمرأة ولأنه [من ناحية أخرى] كان عاجزًا عن مواكبة التطور وتقديم الحلول لمشاكل المجتمع, وهذه سمة من سمات المجتمع الغربي السلبية، يريد أن ينقلها للمجتمعات الإسلامية باسم 'الديموقراطية والتطور'.

ــــــــــــــــــــــــــــــ

المراجع:

[1] ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين، أبو الحسن الندوي

[2] حقوق المرأة في الشريعة الإسلامية، رسالة دكتوراه ـ د. إبراهيم النجار

[3] قصة الحضارة، وول ديورانت

[4] مواقع تهتم بالمرأة:

[a] The Liberation of Women In Religious Sources by Nelia Scovill

[b]The history behind equal rights amendment by Roberta Francis

[c] A short history of E.R.A., The Phillis Shalfly report

[d] Women in judaism by Leonard Swidler

[e] Women’ s lives in ancient Persia by Massoume Price

[f] Women' s life in Greece and Rome by M. Lefkowits & M. Fant

============

# الصحوة الإسلامية أهم أحداث القرن العشرين

الأربعاء 29 رجب 1427هـ – 23 أغسطس 2006م

الصفحة الرئيسة

... gamal-soltan.jpg ...

- الصحوة جعلت الإسلام القاسم المشترك في أمورنا كلها.

- يغيب عن الحركات الإسلامية مناهج فقه الحركة.

- نعم نحن نعيش أزمة فكرية سببها المشروع العلماني.

- عيب الحركات النسائية في بلادنا أنها وضعت نفسها في مواجهة مع الإسلام.

حاورته/ د. ليلى بيومي

مفكرة الإسلام: جمال سلطان.. كاتب ومثقف إسلامي لمع نجمه في أوساط الصحوة الإسلامية من خلال كتاباته العديدة ومؤلفاته، وقد وقف في المنطقة الثقافية للصحوة الإسلامية مدافعا عن الهوية الإسلامية منتقدا الفكر الدخيل ومقوماً له، وداعما للرؤى الفكرية الأصيلة.

وقد تتلمذ جمال سلطان على يد الجيل الأول من الرواد أمثال المستشار طارق البشري، والكاتب الكبير الراحل أنور الجندي.

وهذه دعوة للتجول داخل هذه العقلية ومعرفة أسلوب تفكيرها، من خلال طرح العديد من الأسئلة التي تلخص الواقع الفكري والثقافي في الواقع العربي المعاصر.

* نلاحظ أن فصائل الصحوة الإسلامية تلتزم مناهج مختلفة وقد تكون متناقصة في الفتوى وفي الحكم على الأشياء والتعامل معها، ما هي خطورة هذه الظاهرة؟ وكيف يمكن القضاء عليها؟

** يحدث ذلك فعلا والسبب فيه هو غياب فقه الحركة أي السلوك السياسي والاجتماعي لحركة الإسلام في مواجهة خصومه، وهو حالة أكثر خصوصية من فقه المعاملات، فإذا كان فقه المعاملات يتعامل مع واقع معرض للتحول والحركة، فإن فقه الحركة يواجه واقعاً متحركاً بطبيعته.. والسكون فيه هو العارض.. وإذا كان فقه المعاملات يتأثر بتبدل الأعراف فإن فقه الحركة يواجه حالة يمكن تسميتها باللاعرف، حيث انعدام العرف هو نفسه عرف المواجهة. وإذا كان فقه المعاملات يتعرض واقعه أحيانا لبعض الحيل التي يبتدعها ضعاف النفوس، فإن فقه الحركة يتعامل مع واقع الحيل فيه هي الأصل، والمباشرة فيه تسمى سذاجة، والمناورة فيه هي طبيعته والوضوح فيه يسمى غفلة.

ونحن بحاجة شديدة إلى فقه الحركة لأن المعوقات الداخلية والتحديات الخارجية التي تواجهها هذه الحركة كبيرة ومتعددة. فالحركة الإسلامية لم يستطع خصومها إحراز نصر عليها إلا عن طريق النفاذ إلى داخلها واستثمار حالة القلق السياسي والمنهجي الذي يمثل الداء الأكبر في كافة فصائل هذه الحركة. وعن طريق هذا القلق تمكنت بعض القوى من اختراق الحركة واحتواء بعض فصائلها وقولبة بعض فصائلها واتجاهاتها وفق منهجية حركية معينة.

وبقدر ما يمثله هذا الشعور من آثار سلبية آنية على نفسية الحركة فإنه يمثل دلالة صحية على تبلور الوعي الحركي. إن القطب الأكبر الذي يدور حوله هذا المأزق النفسي والمنهجي الذي تقع فيه الحركة الإسلامية اليوم فما يتمثل في أزمة 'فقه الحركة' أي ضبط المواقف الشرعية العملية التي يتوجب على العاملين اتخاذها تجاه خصوم الإسلام في مختلف المواقف والحالات.. وأيضا في العلاقة مع الداخل الإسلامي. ومن الملاحظ أن هناك تردداً واسعاً أمام هذا الباب الفقهي الهام في حركتنا الإسلامية المعاصرة، ويرتبط هذا التردد العلمي بحالة نفسية سيئة تتمثل في ظاهرة التميع المنهجي والحركي لدى عديد من الفصائل وحالة التميع تفتت الإرادة الإسلامية نحو حسم بعض القضايا العملية.

ومن جانب آخر فإن هذا التردد العلمي هو الآخر يعمق من حالة التميع النفسي المنعكس على صعيد المنهج والحركة. وقد حكى لنا التاريخ موقفين واضحين في فقه الحركة.. كان ضبط هذا الفقه الحركي والحسم السريع فيه أحد العوامل الهامة التي حفظت البناء الإسلامي في بواكيره الأولى من أخطر حادث ارتداد في تاريخ الإسلام كله.. ففي حادث الردة كان موقف أبي بكر حاسما وقاطعا في قتال المرتدين رغم عدم موافقة عمر.. ولو كان موقف أبي بكر هو الآخر بعدم القتال لكانت مصيبة وكارثة. لكن بالحسم والسرعة والحزم تمت السيطرة على الموقف، وعلى جانب آخر فقد أدى التميع أو التردد في مثل هذه المواقف إلى انهيار صرح الخلافة الراشدة بالخروج على عثمان رضى الله عنه ثم قتله.

والمتأمل في الحالين يجد مرده إلى التمحك في النصوص أمام قضايا حركية تشكلها خصوصيات واقعية تجعلها خارجة عن ضبط النص المباشر.

* البعض يرى أن الصحوة الإسلامية كانت عبئا على مجتمعاتنا وضررا عليها بما جرته من آثار سلبية كثيرة، هل توافق على هذا الطرح ؟

** الصحوة الإسلامية هي أهم وأعظم حركة اجتماعية فكرية سياسية شهدتها المنطقة الإسلامية على مدار القرن الماضي كله بالنظر إلى الفكرة التي قامت عليها هذه الحركة ومحورها الإسلامي.. والذي يمتاز بالأصالة والتجديد والإحياء والنهوض وهي المعاني التي سرقتها طوائف علمانية أخرى وحاولت نسبتها إلى ذاتها ورفعها شعارا تتجمل به وتخدع به المسلمين. وأيضا بالنظر إلى البعد الجماهيري واسع النطاق لهذه الحركة رغم أنها بعيدة عن الإغراءات ومضطهدة من خصومها. والصحوة الإسلامية حدث فذ وفريد من جانب الهبة الإلهية في أن تمتد هذه الحركة وتياراتها لتخترق الحدود المصطنعة بين أقطار الإسلام لتصبح الحدث الاجتماعي الأكبر في بلاد المسلمين كافة، بل والحدث البارز والمثير للانتباه والبحث في العالم أجمع.

والصحوة الإسلامية حدث فذ من حيث إنها أول تيار فكري سياسي واجتماعي في العالم الإسلامي الحديث يقوم وينتشر متخلصا من عقدتي الغرب والتخلف. وهذا ما أفزع الغرب لأنها أول مرة تقوم حركة جماهيرية متجاهلة الإبهار الغربي وتصرح في جرأة وثقة أنها تقبل التقنيات والعلوم البحتة وترفض المناهج والنظريات والقيم الغربية لأن في ديننا منها ما يكفينا. ومن جانب آخر كانت الصحوة الإسلامية متجاوزة لعقدة التخلف والتي أثارت الخلل المنهجي والعقلي والسلوكي في أجيال عدة من المسلمين ولا سيما المثقفين، فمنهم من رأى التخلف قدرنا ومنهم من جعله نتائج تراثنا ومنهم من جعله بسبب ترددنا في الالتحاق بالغرب. ثم إن هذه الصحوة وصلت إلى تحديد سبل النهوض بالتأكيد على أن سبب تخلفنا هو بعدنا عن الإسلام وخور العزائم في الدفاع عنه، ومن ثم فإن سبيلنا هو إحياء الدين في النفس وفي الواقع والدفاع عن السنة.

والصحوة الإسلامية عندما تقدمت إلى الواقع لم تتقدم إليه بصفتها جمعية دينية بالمفهوم الضيق لمعنى الدين، وإنما بوصفها مشروعا للنهوض والتجديد ينطلق من الإسلام وحده. وبالتالي لم يمكن ذلك العلمانيين من خوض معاركهم مع الصحوة الإسلامية على أساس التقسيم الأوروبي التاريخي بين الحكم الثيوقراطي والحكم المدني، لأن الإسلاميين كانوا رجال نهضة وتجديد والصحوة الإسلامية كانت حركة نهضة وتجديد. كما نجحت الصحوة الإسلامية في أن تحيي في الناس معالم الدين الحق بعد أن كادت تتلاشى وتضيع. لقد كان الناس قد أوشكوا أن ينسوا أن الإسلام دين شامل بفعل حركة التغريب الواسعة التي نشطت في معظم ديار الإسلام على مدى ما يزيد عن قرن، ولأول مرة تصبح سنة النبي الكريم حاضرة بكل قوة في الفكر والسلوك في البيوت والشوارع والمنتديات.. ولأول مرة تشييع علوم السنة في المجتمع حتى تصل إلى البسطاء.

* هل كان للصحوة الإسلامية دور في حياتنا الثقافية والأدبية والفنية؟

** الصحوة الإسلامية - بشهادة الواقع والخصوم – هي صانعة الموجة الثقافية الحالية في دار الإسلام كافة. ونستطيع أن نلمس ذلك من خلال الاطلاع على مختلف النشاطات الثقافية – فكرية وأدبية وفنية –نجد أن قضية الإسلام والصحوة الإسلامية هي القاسم المشترك الأعظم في النتاجات الثقافية المتصلة بهذه الجهود كافة سواء كان ذلك بالسلب أو الإيجاب. ففي كل هذه الأحداث تبرز الحقيقية وهي أن الحركة الثقافية الآن في ديار الإسلام تدور حول قطب واحد هو الإسلام. والذي يراجع حركة الثقافة العربية خلال العقود السبعة التي مضت من القرن العشرين – أي قبل انتشار الصحوة الإسلامية – يدرك على الفور حجم التغريب الذي أصاب الحياة الثقافية في معظم ديار الإسلام وذلك أن هذه الحركة الثقافية كانت تدور حول قطبين أساسيين.. الأول هو الترجمة المباشرة من الثقافة الغربية سواء كان ذلك في مسائل الفكر وقضايا التنظير العقائدي الأيدلوجي أو كان ذلك في مجال الأدب. وفي هذه العقود ظهرت سلاسل من المطبوعات عن الفكر العالمي والأدب العالمي والمسرح العالمي وروايات عالمية ونحو ذلك.. وغني عن البيان هنا أن مصطلح عالمي المضاف إلى هذه الأفكار والمسرحيات والروايات يعني الأوروبي. القطب الآخر من الحركة الثقافية العربية في ذلك الحين كان هو الحوار والمتابعة والتعليق على المذاهب والتيارات الفكرية والأدبية الغربية ومحاولة تقسيم صورة محلية من المذهب الاجتماعي الغربي أو الفكرة الغربية أو الأدب الغربي. وكان أبرز هذه الاجتهادات الثقافية تلك التي دارت حول الاشتراكية بدرجاتها المتعددة من الماركسية اللينينية إلى اليسار الإسلامي.. وأيضا الفكر القومي العربي بدرجاته المتنوعة من العلمانيين اللادينيين الخلص إلى القوميين الإسلاميين الذين حاولوا المزج بين الفكرة القومية وبين الإسلام فكانت الثقافة العربية تتمحور حول قطب إنساني واحد هو الغرب والفكر الغربي، لدرجة أن الكتاب الإسلاميين في ذلك الوقت كانوا إذا أرادوا المزاحمة في الساحة الثقافية فإنهم كانوا يحاولون الربط بين الإسلام وبين تيارات الفكر والأدب الأوروبي الجديدة والإسلام.

* ما هو رأيك في الحركة النسائية في مصر والعالم العربي؟ وما هو موقف الحركة الإسلامية منها ؟ وهل الصحوة الإسلامية أنصفت المرأة؟

** تعتبر حركات تحرير المرأة من أقوى الحركات الاجتماعية التي نشطت في الغرب طوال القرن الماضي وقد أراد بعض المنهزمين أمام الغرب في ديار الإسلام أن يصدروا هذه الظاهرة إلى العالم الإسلامي دونما مراعاة لخصوصية نشأتها والطبيعة الاجتماعية والاقتصادية والدينية التي ولدت فيها والتي لا يشبهها في شيء الطبيعة الاجتماعية والاقتصادية والدينية في ديار الإسلام. وإنما كان المقصود هو التخريب في الواقع الاجتماعي وجعل المرأة المسلمة بمثابة بوابة هذا التخريب الاجتماعي وتنميط البناء الاجتماعي كله وفق القالب الغربي ومفاهيمه وقيمه. وعلى الرغم من وجود الأصوات المعارضة لتلك الحركات على مدار القرن الماضي ومنذ بدأت القصة على يد قاسم أمين بكتابه 'تحرير المرأة' عام 1900.. والحركة تتقدم في الواقع الاجتماعي مدعومة ببعض الجهات الرسمية والأجنبية. ولقد بدا على مدار السنوات أن حركة تحرير المرأة وضعت نفسها في مواجهة الإسلام وعقيدته وشريعته وصارت تكسب كل يوم أرضا جديدة، وضعفت الأصوات التي تصوت لها إما يأسا وإما خوفا من بطش الصحافة والإرهاب العلماني. وظل الحال هكذا حتى ظهرت الصحوة الإسلامية وانتشرت في الواقع وحملها الجيل الجديد من الشباب والشابات وإذا بالمرأة المسلمة والفتاة المسلمة يتصدين بأنفسهن لداعيات تحرير المرأة وينقدن مقولاتهن، وهكذا سحب البساط من تحت أقدام هذه الحركات. إذ أن المرأة المسلمة التي زعمت هذه الحركات أنها إنما قامت لنصرتها وتحريرها والدفاع عنها هي ذاتها التي تقول لها أنت ضالة مضلة وزعيمة فتنة وذيل للغرب وجسر يمر من فوقه طوفان التدمير الأخلاقي والتفسخ الأسري.

إن المعركة المزعومة التي افتعلوها بين المرأة والرجل أو بين النساء والرجال إنما هي محاولة لتضليل المجتمع كله عن معاركه الأساسية للنهوض والتحرر ومقاومة التخلف ومقاومة اتباع الاستعمار في الفكر والأدب والاقتصاد والسياسة. ولقد كان الأمر رائعا عندما اجتمعت العشرات من النساء الجزائريات المتفرنسات وتظاهرن ضد الصحوة الإسلامية بدعوى أنها تضطهد النساء وتعتدي على حقوقهن، فإذا بتظاهرة تخرج في شوارع الجزائر قوامها مليون امرأة مسلمة تعلن للعالم أجمع نعم للإسلام ولا للتغريب.

* يردد البعض أننا في العالم العربي أمام أزمة في الفكر.. هل توافق على هذه المقولة؟

** عندما نصف أمة من الأمم بأنها تعيش في حالة أزمة فكرية فإنما نعني بذلك أن المبادئ والمعايير التي ينطلق منها العمل الفكري الإبداعي قد اهتزت وأن المناهج التي تطرح من خلالها الأفكار وتعالج قد اضطربت، وأن الرؤى الفكرية والتصورية للأمة قد تشوشت فينتج عن هذا كله ضحالة أو انعدام في الإبداع الفكري الخلاق والأصيل في هذه الأمة. هذا في ماهية الأزمة، أما لماذا تنشأ الأزمة فلذلك أسباب عديدة، فقد يكون مرجعها هو مرور الأمة في حالة ركود أو تراجع حضاري بوجه عام مما ينعكس بدوره على الفكر، وقد يكون لوقوع الأمة تحت سيطرة أمة أخرى قوية وهيمنتها فيحدث التسلط الفكري والثقافي للغالب مع الاستعداد النفسي لدى المغلوب لمحاكاة الغالب اعتقادا منه أن الغالب والمسيطر هو الأقوى في نحلته وكافة عوائده فيؤدي هذا التقليد إلى اختلال بنية الأمة عامة والفكر فيها بالدرجة الأولى. وقد يكون مرد هذه الأزمة عائدا لعمليات اختراق فكري وثقافي وعلمي واسعة النطاق لأمة من الأمم مصحوبا بالتأثير النفسي والوجداني عن طريق إيجاد كوادر ثقافية مبرمجة وزرعها في مناطق الفاعلية والتوجيه.

ولقد شهد مجتمعنا العربي في تاريخه الحديث معظم هذه الأسباب وعاش الفكر العربي دهرا في حالة أزمة حقيقية حيث اهتزت المعايير واضطربت المناهج وتشوهت الرؤى فأفرزت لنا هذه الوضعية نتاجا أدبيا وفكريا عميق الدلالة على معالم هذه الأزمة. ومن اليسير على الباحث أن يضع يده على ملامح هذه الأزمة من خلال تتبعه لكتابات رموز الحركة الفكرية العربية في النصف الأول من القرن العشرين. وأيضا من خلال تتبع الاعترافات الجريئة التي أدلى بها نفر من قادة الفكر والثقافة في لحظات صدق مع النفس ومع الأمة، مثلما فعل د. محمد حسين هيكل الذي اعترف بأن الفكر العربي الحديث قد انزلق عن طريق خداعه في اتباع مسارات التاريخ الفكري الأوروبي الحديث إلى معارك وهمية لا وجود لها أصلا في الواقع العربي. ولسوف يقف الباحث العربي اليوم مندهشا أمام الدعوة إلى الفرعونية المصرية وقوميتها وكيف سيطرت هذه النزعة على عقل رجل مثل أحمد لطفي السيد، ويعجب أيضا للدعوة إلى الانتماء المصري لحضارة البحر الأبيض المتوسط وليس الحضارة العربية الإسلامية بحيث تكون مصر اقرب إلى فرنسا منها إلى مكة والمدينة وكيف تحكمت هذه النزعة في تفكير رجل مثل طه حسين. ويقف أكثر اندهاشا عند الدعوة إلى إغريقية الشخصية الحضارية المصرية ومن ثم أوربتها بحكم أن أوروبا هي وارثة تراث الإغريق، ومن ثم ازدراء كل ما يأتينا من الشرق الآسيوي، وكيف سيطرت هذه النزعة على عقل وضمير رجل مثل سلامة موسى، ومن بعده تلميذه النجيب لويس عوض.

وقد يقف مندهشا أيضا أمام العديد من الدعوات الأخرى التي شاعت في تراث فكر الأزمة مثل الدعوة إلى إحلال العامية محل الفصحى، ومثل الدعوة إلى كتابة اللغة العربية بالحرف اللاتيني ومثل الدعوة إلى فصل الإسلام عن المجتمع الإسلامي.. الخ. ثم تمخض هذا التراث عن تيارات فكرية وأدبية عاملة في الحياة الفكرية العربية المعاصرة تبلورت في ثلاثة اتجاهات هي تيار العلمانية الليبرالية، وتيار العلمانية الاشتراكية، والتيار الوجودي اللامنتمي. وهذه التيارات الفكرية الثلاثة تمثل تراث فكر الأزمة الذي نتج عنه حالة الهزيمة السياسية والنفسية أمام الغزو الأوروبي الحديث للمجتمعات العربية وما أورثه ذلك فيها من مركب نقص وسوء ظن بالنفس وبكل ما يشكل خصوصية حضارية عربية إسلامية.

ولكن هناك نماذج عديدة استطاعت أن تتغلب على عناد النفس وهواجس الحال فانطلقت تنفض عن كواهلها أثقال فكر الأزمة وإفرازاته المرضية، وتحاول جهدها أن تعيد تأسيس البناء مثلما رأينا ذلك مع محمود شاكر ومحمد محمد حسين وعائشة عبد الرحمن ثم أنور الجندي ومنير شفيق وطارق البشري وغيرهم.

=============

#الحرب بالوكالة ومشاريع ملء الفراغ في العالم العربي

الخميس 23رجب 1427هـ – 17 أغسطس 2006م

الصفحة الرئيسة

عامر حسين

مفكرة الإسلام: الحرب التي وضعت أوزارها بين الكيان الصهيوني والدولة اللبنانية لم تخضها أطرافها بشكل أصيل تعبيراً عن أنفسهم، وإنما خاضتها أطرافها بالوكالة عن أطراف أخرى خارجية. فالكيان الصهيوني خاض هذه الحرب بالوكالة عن الولايات المتحدة وبأهداف أمريكية وأسلحة أمريكية وغطاء سياسي أمريكي.

وحزب الله خاض هذه الحرب بأجندة إيرانية ووفق أهداف إيران ومصلحتها الإستراتيجية، وبأسلحة إيرانية، وبغطاء سياسي إيراني.

وهذه الحرب بالوكالة هي امتهان كامل للعالم العربي، وإعلان بأن العرب أصبحوا غير قادرين عن خوض حروبهم بأنفسهم، وأصبحوا غير قادرين على الدفاع عن أنفسهم، مما جعل الأمر يتطلب استدعاء أطراف أخرى لتقوم بذات الدور الذي فشل العرب فرادى ومجتمعين في القيام به.

حالة الضعف هذه التي يعيشها العالم العربي لا تخفى على أحد، وكانت أبرز تجلياتها في الاحتلال الأمريكي البريطاني للعراق وإسقاط بغداد عاصمة الخلافة العباسية وحاضرة الحضارة الإسلامية، وهي ليست وليدة اللحظة الراهنة ولا هي من تجليات حرب الخليج الثانية وحصار العراق وكذلك حصار ليبيا والسودان وسوريا، إنما هذه الحالة موجودة منذ انهيار الخلافة العثمانية التي ظلت تملأ هذا الفراغ وتدافع عن العالم العربي والإسلامي لفترة زادت عن الخمسة قرون ضد الاستعمار الأوروبي، في بداية مرحلة الضعف هذه ومع الحرب العالمية الأولى ظهر وعد بلفور والنوايا الصهيونية الخبيثة في فلسطين ثم جاء عصر الانتداب وكان معه وقبله الاحتلال البريطاني الفرنسي للدول العربية.

وهكذا انكشف الوطن العربي استراتيجيًا أمام القوى الدولية ذات النفوذ بدءً من العهد الاستعماري وحتى الآن.

وحتى بعد أن حصلت الدول العربية على استقلالها فقد ظل هذا الفراغ موجودًا، وتمثل في الاستقطاب الأمريكي لبعض الدول العربية والاستقطاب السوفيتي لبعضها الآخر حتى جاءت قارعة أحد 11 سبتمبر 2001 لتتحول أمريكا من التدخل غير المباشر في المنطقة إلى التدخل المباشر والكامل وممارستها العدوان العسكري وإزالة نظام سياسي عربي مستقر.

إن عددًا من المحللين العرب يرجع هذه الحالة إلى الكساح الاقتصادي والسياسي والأمني الذي يعيشه العرب والذي جعلهم مطمعًا لقوى النفوذ الدولي.

فحالة التخلف السياسي العربي وعدم وجود نظام ديمقراطي أدى إلى تكوين حالة خاصة من الاغتراب السياسي نتيجة للتسلط والدكتاتورية التي مارستها الدولة في عالمنا العربي لعقود طويلة.

حلف بغداد وبواكير الأطماع الأمريكية

وقد حاولت الولايات المتحدة الأمريكية التدخل في المنطقة في خمسينات القرن الماضي بعد حرب السويس بإطلاق الرئيس الأمريكي أيزنهاور إستراتيجية 'ملء الفراغ' مرة تحت عنوان 'حلف الدفاع عن الشرق الأوسط' ومرة أخرى تحت عنوان 'حلف بغداد'، ولكن هذه المحاولات فشلت في ظل وجود الاتحاد السوفيتي وفي ظل الممانعات العربية القوية التي كانت موجودة في هذه الفترة.

ففي عام 1955 تم تأسيس حلف بغداد على يد بريطانيا، وضم إلى جانب بريطانيا [الدولة المستعمرة للعراق] العراق وتركيا وباكستان، ويهدف هذا الحلف الذي لعب الأمريكيون دوراً كبيراً في تأسيسه في الكواليس إلى تقوية الدفاع الإقليمي والحيلولة دون تغلغل الاتحاد السوفيتي إلى منطقة الشرق الأوسط. وقد رفضت كل من سوريا ولبنان والأردن ومصر الانضمام إلى هذا الحلف الذي اصطدم بمعارضة شعبية عربية قوية، وقد مثل هذا الرفض العربي فشلاً ذريعاً للولايات المتحدة الأمريكية حيث أعطى قوة أكبر للحركة القومية العربية لمجابهة القوى الاستعمارية ومخططاتها في المنطقة، وقد غادر هذا الحلف بغداد بعد أن تولى عبد الكريم قاسم مقاليد الحكم في العراق عام 1959م الذي قرر الانضمام إلى صف سوريا ومصر ولبنان فيما يتعلق بموقفهم من الصراع مع الكيان الصهيوني. وهكذا مات هذا الحلف المشبوه وفشل في تحقيق أهدافه، وفشلت السياسة الأمريكية في أولى خطواتها للسيطرة على العالم العربي.

أمريكا ومحاولة تعميم النموذج التركي

وعلى الصعيد الإقليمي نشطت تركيا وطرحت مشروعاتها ذات الطابع الاقتصادي وتحالفت استراتيجيًا مع إسرائيل.

واللافت هنا أن الولايات المتحدة حينما أطلقت 'مبادرة الشرق الأوسط الكبير' اعتبرت تركيا إحدى الدول القائدة في المنطقة، واعتبرت أن نظامها الإسلامي الحاكم الآن عبر حزب العدالة والتنمية هو نموذج مثالي يجب أن يسود العالم العربي والإسلامي. وخططت واشنطن لكي يخرج من تركيا عشرات ومئات الدعاة والوعاظ ليدعوا إلى النموذج الإسلامي التركي ومزاياه، وأن يساهموا في محو الأفكار المتطرفة السائدة في الذهنية العربية والإسلامية، ويستبدلوها بأفكار تركيةٍ متصالحةٍ مع العلمانية.

وغير خاف أن واشنطن كانت دائما داعمة ومؤيدة لوجود تركيا في حلف شمال الأطلنطي؛ كي تعمل كعازلٍ بين الاتحاد السوفييتي [سابقاً] وبين أوروبا والخليج العربي في عهد الحرب الباردة.

ونظرت واشنطن بعد ذلك لأنقرة على أنها يمكن أن تلعب دور الموصل داخل الاتحاد الأوروبي للمصالح الأمريكية. والولايات المتحدة تعلن في كثيرٍ من المناسبات أنها تؤيد انضمام تركيا لعضوية الاتحاد الأوروبي؛ لأنها تعتبر النموذج الإسلامي في تركيا الأفضل والأمثل في العالم الإسلامي، وترغب في تقوية ودفع هذا النموذج العلماني لكي يهيمن على المنطقة والعالم العربي والعالم الإسلامي.

الولايات المتحدة تريد أن يمارس المسلمون دينهم، وأن يذهبوا إلى مساجدهم ويعبدوا الله بشرطٍ واحدٍ: هو الفصل بين الدين والدولة، وهو النمط القائم في الولايات المتحدة نفسها، ولكنه غير قائم في العالم الإسلامي سوى في تركيا، وواشنطن ترى أنه لو نجحت التجربة الإسلامية التركية، وانتشرت في العالم الإسلامي؛ فإن مستقبل الأحزاب الإسلامية سوف يصبح كمستقبل الأحزاب المسيحية في ألمانيا ودول أوربية أخرى؛ فهذه الأحزاب بدأت كأحزابٍ دينيةٍ، وانتهى بها الأمر إلى أن أصبحت أحزابًا معتدلةً لا يكاد الدين يصيغ توجهاتِها.

كما ترغب واشنطن أن تكون تركيا غطاءً لإسرائيل ليقوم الطرفان بقيادة التغيير في العالم العربي والإسلامي؛ حتى تختفي الحساسية ضد الصهاينة لو دخلوا هذا المعترك وحدَهم.

مشاريع أمريكية مشبوهة

كما شهدت المنطقة العربية دعوات لما يسمى 'مشروع نظام البحر المتوسط'، فظهرت توجهات فكرية وسياسية وثقافية لتوثيق العلاقات بين جانبي البحر المتوسط تجسدت في 'مؤتمر الأمن والتضامن في البحر المتوسط' واقترح الاتحاد الأوروبي عقد الاجتماع التمهيدي له عام 1995 ويشمل منطقة تجارة حرة لأربعين دولة ويعالج شؤون الأمن المتبادل والهجرة إلى أوروبا والإرهاب وانتشار أسلحة الدمار الشامل، وينظم شؤون التجارة ومشاريع النفط والغاز، ويدعم الديمقراطية وحقوق الإنسان، ويختص بشؤون الأمن والاستقرار في الشرق الأوسط، وينتظم ذلك كله في ميثاق ومؤسسات.

ولكن يواجه هذا المشروع مشكلات كثيرة مثل: تحديد إطاره الجغرافي؛ فهناك دعوات لأن يضم دول المغرب العربي الخمسة فقط بالإضافة إلى البرتغال وفرنسا وإسبانيا وإيطاليا ومالطا، وهناك دعوات لإطار أوسع ودعوات لنظام أكثر سعة مما أدى لإرباك الدعوة وعدم نجاحها.

وهناك مشروع الشرق الأوسط الذي تم تطويره إلى 'الشرق الأوسط الكبير'، ثم إلى 'الشرق الأوسط الجديد'، وهو المشروع الذي يعد له الفكر الصهيوني منذ إنشاء دولة إسرائيل في الأربعينيات، ويعد شيمون بيريز أبرز منظريه والمشرفين عليه في الوقت الراهن.

وترى أمريكا وإسرائيل أن جميع الظروف مهيأة الآن لانطلاق هذا المشروع والذي تكون فيه إسرائيل هي القائدة حيث سيعتمد على التكنولوجيا الصهيونية والأيدي العاملة والسوق العربية ورغم أن هناك إلحاحًا أمريكيًّا لتمرير هذا المشروع إلا أن الوجود الإسرائيلي سيفسده والأمة تواجهه بكل عنف وخاصة على مستوى الفصائل الإسلامية، ولن ينجح إلا مشروع ينبت من داخل العالم العربي تقوده مصر والسعودية وسوريا ويحظى بإجماع الدول العربية أو غالبيتها ليعالج ويصحح مكامن الضعف في النظام الحالي.

المخاوف من المشروع الإيراني مبررة

الضعف العربي أعطى نفوذًا للدولة الإيرانية في المنطقة بشكل كبير، فإيران بما تقدمه لحزب لله من دعم أوجدت لها دورًا في المنطقة العربية حيث أصبح الكلام الآن أن حزب الله هو امتداد طبيعي لإيران. وما حدث في الجنوب اللبناني من انتكاسة 'إسرائيلية' مؤخراً سيعطي إيران دفعة معنوية وإستراتيجية على المستوى العربي والإقليمي. وإذا شنت واشنطن حربًا ضد إيران فإن الخاسر الوحيد في هذه الحرب هي الدول العربية التي ستصطلي بتفوق أحد المشروعين، إما المشروع الأمريكي ـ الصهيوني أو مشروع النفوذ الإيراني في المنطقة.

إننا نستطيع أن نؤكد وجود مشروع إيراني فارسي إقليمي لا يمكن إغفاله، استطاع جرّ أمريكا ومساعدتها إلى ساحتي أفغانستان والعراق، ونجح في وضع الجيش الأمريكي بين فكي الكماشة في العراق، ثم استغل هذا الوضع وحرك أوراق ملفاته، ومنها ملفه النووي، ونجح أيضاً في استقطاب محاور أخرى للاصطفاف معه عربياً، مثلما أمكنه صياغة علاقات إستراتيجية مع سوريا، واللعب بحرية تامة في الميدان العراقي مستفيداً من حالة التشرذم العربية وحالة الفراغ، كما استطاع توظيف ورقة حزب الله ووضعه في خاصرة إسرائيل ليستطيع بها ملاعبة الأمريكان والضغط عليهم في الملفات الأخرى.

وهكذا فإن المشروع الإيراني لملء الفراغ العربي موجود، والذي ينكر ذلك إنسان غير موضوعي ولا يرى الواقع. وركائز هذا المشروع هي التحالف الاستراتيجي مع سوريا وحزب الله، وتطوير هذا التحالف ليشمل منظمات المقاومة الإسلامية في فلسطين، ناهيك عن ركيزة أساسية وهي اختراق العراق تماماً والسعي لفصل الجنوب عن الشمال والوسط، ثم بعد ذلك يتم اللعب بورقة الأقليات الشيعية في الخليج.

المحاولة العربية الوحيدة فشلت

بعد حرب الخليج الثانية ظهر 'إعلان دمشق' الذي تنادت فيه دول مجلس التعاون الخليجي الست بالإضافة إلى مصر وسوريا إلى الاجتماع في دمشق، وانتهى الاجتماع بإصدار 'إعلان دمشق' الذي أعلن بناء نظام عربي جديد، ولكن هذه الصيغة لم تستطع الصمود أمام تطورات الوضع في المنطقة.

إعلان دمشق كان آخر محاولة من جانب الأمة لملء هذا الفراغ العربي , أو علي الأقل المشاركة في ملء هذا الفراغ ، وجعل مهمة حفظ التوازن الاستراتيجي في المنطقة , خاصة في الخليج، مهمة ومسئولية عربية قومية , بعد أن أظهرت كل من مصر وسوريا الإرادة والقدرة علي أداء ذلك الدور بالمشاركة الكبيرة في حرب تحرير الكويت عسكريا وسياسيا .

ونحن نتذكر اليوم إعلان دمشق لأن فشل هذه المحاولة هو الذي أدي إلى ظهور البديل الحالي , الذي لا يستسيغه كثيرون , والذي يحمله الكثيرون أيضا في المنطقة وفي العالم مسئولية الاضطرابات في العراق ولبنان وفلسطين , والمقصود طبعا هو التحالف الاستراتيجي بين كل من إيران وسوريا وحزب الله.

لقد قال دبلوماسي مصري كبير في أعقاب فشل إعلان دمشق: إن من قتلوا الإعلان سيندمون أشد الندم ولكن بعد أن يكون الأوان قد فات , فسوريا لن تجد أمامها سوي التحالف مع إيران , أما مصر فلن تضيع وقتها في الاعتماد علي غيرها فيما يختص بأمنها القومي , ولن تكون قادرة علي مساعدة الآخرين ماداموا لا يريدون مساعدة أنفسهم أولا .

والذين أفشلوا إعلان دمشق ليسوا فقط الشركاء المباشرين , ولكن الولايات المتحدة لعبت دورا أساسيا في إجهاض هذه المحاولة العربية لملء الفراغ الاستراتيجي , حتى تحتكر لنفسها مسئولية الأمن في الخليج , وحتى لا يتطور ذلك التكتل الاستراتيجي العربي الذي كان يؤسس له إعلان دمشق ليكون مدخلا لتوازن استراتيجي يؤثر علي بقية القضايا والخطط في الإقليم ككل , وهنا التقت المصلحة الأمريكية مع المصلحة الإسرائيلية الدائمة والمتمثلة في مقاومة أية تحالفات إستراتيجية عربية ـ عربية حتى ولم تكن مواجهة إسرائيل من بين أولوياتها , بما أن أي تحسن في الأوضاع الإستراتيجية العربية سيؤثر علي مجريات الصراع العربي ـ الإسرائيلي وطرق إدارته وأساليب تسويته لصالح الأطراف العربية .

==========

#أزمة الفكر العربي كتاب في تجليات الغزو الثقافي

السبت 18 رجب 1427هـ –12 أغسطس 2006م

الصفحة الرئيسة

مفكرة الإسلام: صدر حديثا للباحث السوري فضل عبد الكريم المحمد كتاب بعنوان أزمة الفكر العربي .. وتجليات الغزو الثقافي

في هذا الكتاب يعتبر الباحث إن من أهم الأسباب التي تشكل أزمة في البنية الثقافية في المنطقة العربية بُعد المثقّف العربي عن السلطة ، حيث نجد تناقضاً في موقف المثقّف من نظام السلطة ، إذ يتأرجح الموقف بين التأييد والمعارضة ، وبين الاقتراب من السلطة والابتعاد عنها ، وبين التبرير لسياسة النخبة والدعم الفكري لسياسات أخرى مغايرة ، وكذلك بُعده عن القضية الاجتماعية التي يتأرجح فيها موقف المثقّف العربي تجاه قضايا المجتمع العربي مثل التبعية والاستغلال ، التجزئة والتخلّف والأمّية في المجتمع العربي ، إضافة إلى البُعد عن الثقافة ذات المضمون التقدمي المتطور المقاوم لكل ثقافات الهيمنة .

يتألف الكتاب من مقدمة وعدة عناوين .عن مستقبل الثقافة العربية يتساءل الباحث عن هذا المستقبل في عصر النظام العالمي الجديد ، والعولمة في عصر الضغوطات السياسية والعسكرية والاقتصادية في عصر اشتدت فيه درجة التنافس والصراع بين الثقافات ، وهو تنافس يهدف إلى التفوّق والسيطرة ، هذا التفوّق إما أن يكون عن طريق التفوق العسكري أو الحربي أو العلم والثقافة وهما من أهم عناصر القوة .

لذلك فالثقافة العربية تتعرض لغزو ثقافي جديد يرتدي أثواباً متعددة ولا يتعلّق بهذا البلد العربي أو ذاك ، ولا بهذه المنطقة الإقليمية أو تلك ، وإنما يشمل العالم أجمع ، وهو من متفرعات النظام الأمريكي الجديد ، وهذا يعني أننا نشهد في وقتنا الحاضر محاولة أمريكية لتعميم ما يُسمى جزافاً بالثقافة أو الحضارة الأمريكية في بلادنا العربية من منطلق زعامتها للعالم الغربي ، وهنا لا يستبعد الباحث أن تكون الأصابع الصهيونية وراء الخطة الأمريكية للتحكّم بالعالم ، لأن مصلحتها تتجلّى في تفكيك الدول والمجتمعات .... وتحويلها إلى مجرد كانتونات ضمن الحكومة اليهودية العالمية ...

وعن مظاهر الغزو الثقافي في البلاد العربية يحدّد الباحث بعضاً منها : كلما طرأ أي تغيير في جيل الشباب تجد مظهره وانعكاساته لدينا مباشرة خلافاً للتقاليد العربية المعروفة . نموذج الفيديو كليب بالنسبة للأغاني المتلفزة والمصورة على الطريقة الأمريكية تحديداً . تسمية المحلات التجارية الكبيرة والصغيرة بالأسماء الغربية . الانقلاب الأخلاقي الذي نشهده من الجنسين قياساً على ما يجري في الغرب.

وعن الحلول المناسبة للحدّ من ظاهرة الغزو الثقافي يطالب الباحث بحلول ليست مستحيلة للحدّ من هذه الظاهرة ، على سبيل المثال : العمل على زيادة المؤسسات الثقافية القومية وتنشيط القائم منها على الصعيد الحكومي وغير الحكومي . العمل على نشر الثقافة القومية والوعي القومي على أساس وحدة الأرض ، وحدة اللغة ، وحدة المشيئة المشتركة ، وحدة التاريخ والعقيدة والآمال والآلام التي تشكل بمجموعها وحدة المصير والهدف للشعب العربي .

وعن الثقافة والبُعد الاستراتيجي يؤكد الباحث: بأنه لاستعادة الدور الريادي في المنطقة العربية لا بد من التحرك نحو مزيد من حرية التعبير ، وحماية حقوق المبدعين ، وتقديم كل الدعم المادي لتنمية مجتمعية معاصرة ، إذ أن السياسة الثقافية هي مكوّن أساس من مكونات السياسة الإنمائية ، أو ما يُطلق عليه / استراتيجية التنمية / ويجب تطوير السياسة الثقافية بصورة متزامنة مع المبادئ المرتبطة بكل الأصعدة ، سواء المحلية أو القومية أو الإقليمية أو العالمية ، من أجل توثيق عرى الصداقات بين شعوب العالم للتواصل وقطع الطريق أمام مناصري التعصّب بكل أشكاله وصولاً إلى مجتمع السلام والأمن العالميين .

وعن أهداف الحوار الثقافي بين الحضارات يضع الباحث هذا الحوار ضمن أهداف محددة : هدف عقائدي : تصحيح البطاقة الذاتية عند الغرب ، والصورة التي رُوجت عن الإسلام عقيدة ومذهباً وحضارة ، حيث أن حقوق الإنسان وقيم العدالة والمساواة والديمقراطية والنظُم والقوانين هي قواسم مشتركة بين الحضارتين الغربية والإسلامية ، لا كما ينسبها الغربيون لأنفسهم فقط .

هدف سياسي : لا يمكن للحوار أن يكون إلا بين حضارات متكافئة اقتصادياً وعسكرياً ، وهذا الحوار غير ممكن مادامت الحضارة الغربية هي الوحيدة على المسرح العالمي ، حيث يصبح للحضارة الإسلامية مشاركة في صنع القرار ، والحصول على مقعد دائم للدول الإسلامية في مجلس الأمن .

هدف اقتصادي : علينا ـ نحن العرب ـ أن نبني اقتصاداً متيناً متكاملاً ، يساعد على التطور الاقتصادي حتى نشارك في صنع القرار بالنسبة لأسعار المواد الأولية التي تنتجها البلاد العربية والإسلامية ، كما يجب الاعتماد على الاكتفاء الذاتي بالنسبة للمواد الغذائية ، وتحديد الأولىات في ميدان البحث العلمي والتقني في الزراعة والصناعة والطاقة الذرية .

هدف خلقي : إن القانون الحقيقي للحضارة الغربية هو النماء المادي ، الذي ولَّد ثقافة يأس وفلسفة وفكراً ديماغوجياً بعيداً عن المنطق والمعقولية . بينما الحضارة الإسلامية تتميز وتمتاز بخاصية التفتّح على الكون ومن فيه وما فيه ، ومرجعها الأول هو القرآن الكريم الذي يأمر المسلمين بالسير في الأرض والتعرّف على الآخر والاحتكاك به ، والاطلاع على ما أنجز ماضياً وحاضراً، والتقاط الحكمة أينما وجدت والتعاون مع هذا الآخر .

===============

#المسلمون خلف الأسوار...في أسبانيا[4]

الاثنبن 12رجب 1427هـ – 7 أغسطس 2006م

الصفحة الرئيسة

مفكرة الإسلام : اليوم نطرق أبواب أحد معاقل الإسلام في عصوره الزاهرة في الماضي؛ لندخل ونتفقد أحوال المسلمين المعتقلين خلف الأسوار هناك بالقرب من قصر الحمراء وقرطبة و غرناطة في الأندلس سابقًا, وأسبانيا حاليًا.

• مملكة أسبانيا.

• رئيس الدولة: الملك خوان كارلوس دي بوربون.

• رئيس الحكومة: خوسيه رودريجيز ثاباتيرو.

• العاصمة: مدريد

• عدد السكان: 39.9 مليون نسمة.

• اللغات الرسمية: الأسبانية القشتالية، الكتالانية، الباسكية والغالسية.

• الديانة: حوالي 94% من السكان هم مسيحيون كاثوليك ويشكل البروتستانت والمسلمين أقلية دينية في إسبانيا.

• عقوبة الإعدام: ملغاة بالنسبة لجميع الجرائم.

أسبانيا ماضٍ عريقٍ وحاضر ينتظر المزيد، فهي والبرتغال كانتا أرض الأندلس وشريان الإسلام في قلب القارة الأوربية على امتداد ثمانية قرون، حضارة نهلت من قطوفها البشرية، ولا تزال إسهاماتها واضحة في نهضة أوروبا، وآثارها الإسلامية لم تزل شاهدة على الحضارة الإسلامية، التي عمرت تلك البلاد لقرون عديدة.

والمفردات والأسماء العربية لا تخطئها الأذن في كافة المدن الأسبانية، فهي من أنكى الجراح في قلب تاريخ الأمة الإسلامية، ولهذا فرغم حسرات المسلمين على الفقدان والخسران وزفرات الضياع ولوعة الحرمان من تلك البقعة، التي طالما أضاءت بنور الإسلام، إلا أن هذا الفردوس ظلّ حيًّا باقيًا؛ لأنه شعَّ ولا يزال على العالم في كثير من الأصعدة من علم و فنًّ و فكر.

ولكن الوجه الآخر من الحقيقة الأندلسية أن الوجود البشري الإسلامي قد انعدم من أرض الأندلس بسبب سياسة الاستئصال الإسبانية المتعصبة، التي بلغت ذروتها بالطرد الجائر للمسلمين فيما بين سنتي 1609م إلى1614م.

هكذا وطبقًا للتاريخ الرسمي لم يبق بالأراضي الأسبانية مسلم واحد بعد سنة 1614م، باستثناء الرعايا المغاربة المسلمين سكان مدينتي سبتة و مليلة، اللتين دخلتا تحت الاحتلال الأسباني منذ حوالي أربعة قرون، الأولى في سنة1580م والثانية في1556م.

كما كان لخروج المسلمين من الأندلس تاريخ، فإن للعودة أيضًا تاريخها، ففي منتصف السبعينيات من القرن العشرين كانت أزمة البترول العالمية، والتي كان من نتائجها بطء النمو الاقتصادي لدول شمال ووسط أوربا، مما أجبر حكومات هذه الدول مثل ألمانيا وهولندا وفرنسا على غلق حدودها أمام تيار الهجرة الاقتصادية القادم من العالم الثالث والعالم الإسلامي، و مع ذلك لم تتوقف الهجرة، وأنّى لها أن تتوقف؟ فثمة أزمة اقتصادية طاحنة كانت تعصف بدول العالم الثالث منذ أوائل السبعينيات وطوال حقبة الثمانينيات، بالإضافة إلى زيادة سكانية كانت تضغط على الشباب العاطل أو المحبط للبحث عن الرزق في أراضي أخرى, وكذلك فهناك أيضًا هجرة سياسية من جراء الحروب و الاضطرابات والنزاعات السياسية؛ مثل الثورة الإسلامية في إبران عام1979، وأحداث لبنان في الثمانينيات، وحربي الخليج الأولى والثانية، وأحداث الجزائر في التسعينيات.

بيد أن الجديد أن تيار الهجرة في مجمله غيَّر وجهته إلى بلدان أوربية أخرى، كانت حتى منتصف السبعينيات مناطق طرد، بالتحديد إلى جنوب أوروبا، وعلى وجه الدقة إلى إيطاليا وأسبانيا؛ لأن هاتين الدولتين منذ منتصف السبعينيات وخلال الثمانينيات شهدتا نموًا اقتصاديًا مرتفعًا، مما حوَّلهما إلى دولتين جاذبتين للمهاجرين، وخاصة من الدول الإسلامية المجاورة، لاسيما من بلاد المغرب العربي، و يشكِّل المغاربة الغالبية العظمى من المسلمين المهاجرين في أسبانيا، وإلى جانبهم توجد أعداد أخرى من شمال إفريقيا والشرق الأوسط ومناطق أخرى, وهؤلاء المسلمون -خاصة المغاربة- موزَّعون في غالبية الولايات الأسبانية، ولكنهم يتركزون أكثر في مقاطعات مدريد و قطاَلونيا و أندلوثيَّا.

وقد وقعت حوادث عنصرية متفرقة هنا وهناك في بعض المدن الأسبانية أنَّى وجدت الجالية الإسلامية بكثافة، وتمثلت في الاعتداء على بعض المسلمين من النساء المحجبات، والمحلات التجارية الإسلامية [محلات اللحوم الشرعية، المخابز، المطاعم العربية، وبعض محلات بيع الأغذية]، والمساجد، والمراكز الإسلامية، وزادت شدتها بعد أحداث سبتمبر 2001م، وتنامي التيار النازي الشبابي الذي يمثله جماعات 'السكين هايد'، وكانت الحجة التي ترفعها هذه الأقلية المناوئة للوجود الإسلامي في أسبانيا أنهم لا يفضِّلون إقامة علاقة مع الأجانب وخاصة المسلمين منهم، حتى لا تمتزج الدماء العربية والإسلامية بدمائهم الأسبانية المسيحية الخالصة، وحتى لا يتكرر مسلسل أو سيناريو فتح الأندلس على أيدي أحفاد طارق بن زياد وموسى بن نصير، ويعتقدون أن على الأقليات الإسلامية أن تتكيف مع العادات والقيم النصرانية الأسبانية المتوارثة منذ قرون.

وقد عملت الحكومة الأسبانية على التقليل من هذه الحوادث 'المتفرقة'، وحاولت طمأنة الجالية الإسلامية ببعض المبادرات الميدانية التي تخدم الهدوء والسكينة، فعقدت وزارة الداخلية اجتماعات مع المؤسسات الإسلامية لتفادي آثار هذه الحوادث، والعمل سويًا للحفاظ على التماسك الاجتماعي بين جميع أبناء هذا الوطن، وقد أخذت هذه الحوادث حيزًا مهمًا في الإعلام الأسباني، الذي غالبًا ما يندد بهذه التجاوزات.

و هكذا يعيش الكثير من أفراد الجالية المسلمة في ظروف غير طبيعية بسبب افتقار الكثير منهم لوثائق الإقامة القانونية في البلاد، وخوف صليبي أسبانيا من وجودهم مما يشعرهم بعدم الأمان والاستقرار.

وقد سجلت التقارير الصحفية اعتمادًا على إحصاءات الشرطة والهيئات الاجتماعية البلدية أن نسبة الإجرام في الوسط الإسلامي المهاجر في تصاعد خطير، وأن السجون والإحداثيات الأسبانية بدأت تسجل مستويات عالية من المتورطين في قضايا الإجرام، وخاصة تجارة المخدرات واستهلاكها، والسرقات الموصوفة، وتكوين جمعيات الأشرار، إضافة إلى تزوير الوثائق والجوازات وتصاريح الدخول والتأشيرات، وتفكيك الخلايا المتورطة في قضايا ما يسمى بمكافحة الإرهاب، هذا بحسب زعمهم والله أعلم.

وحسب آخر التقارير الذي أصدرته لجنة الشئون الدينية بوزارة العدل الأسبانية عام 2004م، فإن عدد المسلمين في أسبانيا يتراوح بين 600 ألف إلى قرابة المليون شخص, يقبع منهم خلف القضبان الأسبانية نحو 8 آلاف سجين، يشكلون أكثر من 70% من المجموع العام للسجناء الأجانب في أسبانيا بحسب الإحصاءات الرسمية، وهم من نعنى بالحديث عن أحوالهم في موضوعنا اليوم.

وقد انتقدت 'المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان' إسبانيا لعدم إجراء تحقيقات وافية على وجه السرعة في شكاوى التعذيب وسوء المعاملة، حيث كان هناك عدد كبير من ادعاءات التعذيب وسوء المعاملة في أقسام الشرطة وكذلك في المعتقلات، والتي يعود كثير منها لأسباب عنصرية، وترددت أنباء عن زيادة ملحوظة في سوء المعاملة ووقوع هجمات لأسباب عنصرية في حق الأقليات ومنها المسلمة، وتعرض الكثير من المسلمين للإيذاء بوصفهم 'إرهابيين'.

وشهد عدد المسلمين في السجون الأسبانية ارتفاعًا كبيرًا خلال العقد الماضي، وغالبيتهم من المهاجرين غير الشرعيين، الذين اعتقلوا بالإضافة إلى عشرات المسلمين الذين اعتقلوا عقب تفجيرات قطارات مدريد في مارس 2004م، والتي اتهمت السلطات خلية تابعة 'للقاعدة' بتدبيرها.

وقد أفادت التقارير الواردة في هذا الشأن أنه على مدار العام أُلقي القبض على أكثر من 100 مسلم، فيما يتصل بعديد من التحقيقات القضائية في التفجيرات، وما زُعم عن الإعداد لجرائم أخرى.

وقد وردت أنباء عن حدوث وفيات ناجمة عن العنف وأعمال تعذيب وإساءة معاملة في عديد من السجون، التي يعاني كثير منها من الاكتظاظ الشديد وخاصة بين المسلمين، فقد تصل نسبة الاكتظاظ في هذه السجون إلى نحو 200%، وأُجريت تحقيقات قضائية في عدة شكاوى بخصوص ضلوع موظفين بالسجون في ارتكاب أعمال وحشية ضد السجناء، وقد تعرض أكثر من 70 سجينًا بإقليم قطالونيا ذو الغالبية المسلمة لمعاملة سيئة على أيدي الحراس.

وورد أن اثنين من الضباط ضربا مواطنا مغربيًا إلى أن فقد الوعي، ثم ضربه الطبيب ثانية وقال ممثل الادعاء: إن هذا المواطن تعرض للتبول عليه ووُجهت إليه شتائم عنصرية ووُصف بأنه 'إرهابي'.

و أثبتت المحكمة الإقليمية في غيرونا أن مواطنًا مغربيًا أيضا يدعى 'إدريس الزريدي' قد تعرض 'بلا أدنى شك' للتعذيب ولإيذاء عنصري في مركز شرطة روسيس بقطالونيا, ولكن ما يدعو للعجب أن المحكمة برأت 14 من ضباط شرطة قطالونيا لأنها لم تستطع تحديد هوية الضباط الضالعين في الأمر، كما قررت أن التعذيب الذي وقع عليه كان على الأرجح تعذيبًا 'خفيف الشدة'، اتخذ شكل الدفع والهز بعنف بعد ساعات من إصابة إدريس بكسور في الضلوع، وأفادت الأنباء بأن وزير الداخلية في قطالونيا أبدى دهشته من الحكم، وطلب من المحكمة العليا إعادة النظر فيه.

وقدم 'مقرر الأمم المتحدة الخاص المعني بالتعذيب' تقريرًا عن زيارة قام بها لأسبانيا في عام 2003م لدراسة ضمانات حماية المعتقلين في سياق إجراءات 'مكافحة الإرهاب', ومن التفاصيل الواقعية الدقيقة التي حصل عليها بخصوص عدد من الادعاءات أوصى بأنه يجب على الحكومة وضع خطة شاملة لمنع التعذيب والتصدي له، ووضع حد لممارسة الاحتجاز بمعزل عن العالم الخارجي, وظلت الحكومة السابقة التي أنكرت بقوة ما خلُص إليه التقرير ترفض وضع ضمانات للمحتجزين بمعزل عن العالم الخارجي حتى وقت قريب.

وبما أننا بصدد الحديث عن السجناء المسلمين فقد بدأت السلطات الأسبانية منذ أوائل عام 2005م بتطبيق قانون جديد أعدته وزارتا الداخلية والعدل، يقضي بمنح الأقليات داخل السجون نفس الحقوق التي يتمتع بها الكاثوليك الذين يمثلون الغالبية العظمى من السكان وتصل نسبتهم إلى حوالي 94%, ومن هذه الحقوق المساواة في المعاملة, والسماح لهم بإنشاء زوايا ودور عبادة للمسلمين داخل السجون، كما يسمح للكاثوليك بأن تقيم لهم الكنيسة قداس صلاة كل يوم أحد، إضافة إلى أيام الأعياد.

إلا أن وسائل الإعلام الأسبانية نشرت في حينها أن القانون يشترط لإنشاء مراكز العبادة داخل السجون أن يطلب 10 سجناء على الأقل ذلك, كما أعلنت عزم السلطات فرض رقابة مشددة على هذه الزوايا والقائمين عليها من الأئمة والوعاظ، بدعوى منع انتشار أي أفكار متطرفة فيها.

وبالفعل فإن الهيئة القضائية الأسبانية التي أبدت تخوفها من سيطرة من وصفتهم بالمتطرفين على تلك الزوايا ومراكز العبادة، دعت في مذكرة أرسلتها لإدارة السجون إلى 'الحذر الشديد' في اختيار الأشخاص الذين سيصبحون مسؤولين عن إمامة الصلاة وتقديم الدروس والنصائح الدينية والأخلاقية للسجناء، متعللة بمنع انتشار أي أفكار متطرفة, كما قامت السلطات الأسبانية بتحديد مهام وأنشطة مراكز العبادة داخل السجون بالتفصيل، وقالت إنها: 'تتمثل في إقامة الشعائر الدينية والتثقيف والتوعية والتكوين والاستشارة الدينية والأخلاقية'، إضافة إلى مهام أخرى في حالة حدوث وفيات بين السجناء أو طوارئ أخرى، وشددت على أن الأئمة الذين سيقيمون الشعائر في هذه الزوايا سيخضعون 'لرقابة مشددة'.

ولكن رغم كل التشديدات السابقة فإنه يحسب لهذا القانون -الذي جاء ثمرة تعاون بين جمعيات وهيئات إسلامية والحكومة الأسبانية- أنه سمح للمسلمين في السجون الأسبانية بأداء شعائرهم الدينية في ظروف أفضل، إضافة إلى سجناء من أصحاب معتقدات أخرى، مثل البوذيين واليهود على الرغم من قلتهم في السجون الأسبانية,كما قامت إدارات عدد من السجون الأسبانية التي تضم عدد كبير من المعتقلين المسلمين بتعديل أوقات تقديم الأكل وتخصيص أماكن استثنائية للصلاة وقراءة القرآن خلال شهر رمضان، وكان هذا لأول مرة عام 1425هـ,حيث أن أوائل هذا العام شهدت مشاحنات و اشتباكات وقعت بين السجناء المسلمين وبين عدد من السجناء الآخرين، بسبب عدم وجود أماكن خاصة للصلاة، وخاصة خلال شهر رمضان بسبب عدم احترام بعض السجناء لفترة الصيام.

وقد أبدت الهيئة الإسلامية المتحدث الرسمي باسم المسلمين أمام الحكومة الأسبانية ترحيبًا مشوبًا ببعض التحفظات على الجزء المنوط بفرض رقابة مشددة على الأئمة الذين سيتولون مهمة الإرشاد داخل السجون, ورغم ذلك اعتبرت هذا القانون إيجابيًا وضروريًا، ويحفظ للأقلية المسلمة في أسبانيا حقوقها, كما اعتبرته إحدى خطوات الاتفاق الذي أبرمته الهيئة مع الحكومة الأسبانية عام 1992م، والذي يقضي بمنح حقوق للمسلمين داخل السجون.

وهكذا استطاع المسلمين في أسبانيا تسجيل أحد الأهداف الهامة في سجل الحقوق، التي يحاولون جاهدين استعادتها في تلك الديار الغالية، وفقهم الله وسائر المستضعفين من أمة الإسلام في شتى بقاع الأرض إلى ما فيه خيري الدنيا والآخرة، وإلى اللقاء في قضية أخرى إن شاء الله.

==============

#تخلفنا حينما فصلنا بين علوم الدين وعلوم الدنيا

الأربعاء 23 جمادى الآخرة 1427هـ –19 يوليو 2006م

الصفحة الرئيسة

- فصل الدين عن العلم جعل شبابنا ينبهر بعلوم الغرب ويشك في الإسلام.

- المسلمون يعانون الآن من تخلف في العلوم وتخلف في فهم الدين.

- ما ورد في السنة عن فتنة الدجال ينطبق على فتنة الحضارة الغربية.

- المسلمون نسوا علم الأسماء الذي هو مناط الخلافة في الأرض.

حاوره/ أحمد وهدان

مفكرة الإسلام : محمد شهاب الدين الندوي أمين عام الأكاديمية الفرقانية ببنجلور بالهند.. أحد المثقفين المسلمين المهتمين بقضية النهضة العلمية والتكنولوجية المنتظرة في العالم الإسلامي. ولذلك جاءت كل إسهاماته الفكرية وكتبه لتدور في هذا الفلك. فله من الكتب: بين علم آدم والعلم الحديث – الأدلة العلمية الحديثة على المعاد الجسدي – التجليات الربانية في عالم الطبيعة – نهضة العالم الإسلامي في ظلال القرآن – الاستنساخ الجيني يصدق المعاد الجسدي – أهمية علم الكيمياء والفيزياء – التقدم في العلم والتكنولوجيا – القرآن الكريم والكيمياء الحيوية – القرآن الحكيم ودنيا النبات.

وأثناء زيارته للقاهرة التقينا به لنتجول معه في هذا العالم الذي نذر نفسه له.

* يعيش العالم الإسلامي منذ عدة قرون حالة من الانحطاط والتخلف. ..ما هو تفسيرك لهذه الحالة؟ وما نتائجها على المسلمين؟ وكيف نستطيع تجاوزها؟

** العامل الرئيسي في هذا الأمر هو هبوط الدول المسلمة في العصور الوسطى عسكرياً وسياسياً، فأدى ذلك إلى انقطاع الاتصال بينهم وبين العلوم الطبيعية، لأن التقدم فيها يحتاج إلى إشراف الحكومات إشرافاً كلياً، وقد خسر الإسلام من هذه الظاهرة المريرة خسرانا مبينا، وهذا التخلف والتقهقر لم يكن من الناحية العلمية والتقنية فقط بل كان تخلفاً من الوجهة الشرعية أيضا. فأي أمة تقهقرت في العلوم المادية تأخرت في حقول المدنية والاجتماع والاقتصاد والعسكرية والسياسة، لأن هذه العلوم أحاطت بعالم البشر بالكامل، والأمم المتسلحة بهذه العلوم ترهب الأمم الضعيفة كل يوم وتهددها في كل آن. وأما اعتبار التخلف العلمي تخلفا شرعيا أيضا فإن الانفصال بين العلم والدين ينتهي إلى تضعيف الدين نفسه من عدة جهات... من جهة الانحلال الفكري, ومن جهة فشل الدين في مجال الحجة والاستدلال... ومن جهة القنوط واليأس من التقدم حتى وإن كان مرتكزا على الدين.. الخ.

والإسلام كما أنه دين كامل من الوجهة الشرعية والروحية، فهو دين مكتمل أيضا من الوجهة المدنية والحضارية: يرشد في جميع القضايا التي يحتاجها البشر. لكن المسلمين رفضوا اليوم تعاليمه المدنية والحضارية معتنقين تعاليمه الفقهية، بدون الاجتهاد في مدلولاتها العلمية والحضارية فانكمش الإسلام وانحصر في عبادات وطقوس وعادات.

وخلاصة القول أن من أسباب تخلف المسلمين أنهم نسوا بالجملة العلم الذي عليه مناط الخلافة الأرضية، وهو علم الأشياء أو بالمصطلح القرآني 'علم الأسماء' وهو الذي يحافظ على الدين والشريعة من زوايا كثيرة ويحفظ التوازن للمجتمع. ...فلا يستحكم الدين إلا بعد الحذق فيه، وهذا هو السر الذي لأجله كرم الله آدم، فأعطاه هذا العلم بعد خلقه على الفور[وعلم آدم الأسماء كلها] أي أطلعه على جميع الأشياء الكونية والمخلوقات الإلهية وأخبره بمسمياتها وخواصها وتأثيراتها ومنافعها الدينية والدنيوية، وهذه الأشياء وخواصها هي موضوع العلم التجريبي الحديث.

وهكذا فلا بعد بين علم آدم والعلم الحديث لأن عليه مدار الخلافة في الأرض، ولذلك قدم الله تعالى تعليم آدم على الملائكة.

* هل نفهم من ذلك أن من أسباب تخلفنا العلمي أننا فصلنا بين علوم الدين وعلوم الدنيا؟

** نعم هذا واقع وحقيقي، فالإسلام لعب دورا تاريخيا باتخاذ الأيدلوجية الصحيحة التي تجمع بين الدين والدنيا… كما قام المسلمون ببطولة كبيرة في قرونهم الذهبية بأن استخدموا الناحيتين الدينية والدنيوية معا، فأدى ذلك إلى المطابقة الكاملة بين الفطرة والشريعة. ولم يعرف تاريخ الإسلام الصراع بين الدين والعلم مثلما كان الحال في تاريخ المسيحية، حيث كان الصراع مستفحلا بينها وبين العلم مما أدى إلى نمو وازدهار الإلحاد واللادينية، وللأسف وصلت هذه الظاهرة إلى حياة المسلمين بسبب تقصير علماء الدين الذين انفصلوا عن العلوم الحديثة تماما ولم يعتبروا بتأثيراتها، بل جحدوا أن يكون لها أي اتصال مع الدين، فكان لهذا الموقف تأثير كبير على شباب المسلمين فآمنوا بعلوم الغرب وشكوا في الإسلام.

ولو أن علماء الدين تثبتوا من كمال الإسلام وتأثيره وبينوا الحدود بين الفطرة والشريعة، أو بين الدين والعلم لكان ذلك مرتكزا للدول الإسلامية للتقدم في العلم والتكنولوجيا من ناحية، وحافزا للشباب المسلم حتى لا يتيه في أودية الفكر الغربي ويرفض دينه من ناحية أخرى.

* نهضة الغرب العلمية وتخلف المسلمين فيها، هل تؤثر بالسلب في مجال الدعوة إلى الإسلام كدين خاتم، خاصة مع الذين يعيشون وسط هذه الحضارة الغربية ومباهجها؟

** إن حضارة الغرب عارية من الروح وهي ظاهرة حديثة لحضارات اليونان والروم المادية، وهي لامعة في الظاهر لكنها جوفاء من الباطن.

هذه الحضارة الغربية تؤمن بحب الذات والخداع والإرهاب والعدوان والإغارة والتدمير والقتل وإبادة الجنس البشري والفواحش وتخريب الأخلاق. ..هذه هي عناصرها الأساسية. والمجتمع الغربي اليوم غرق في بحر المادية تماما ونسى خالقه وغايته.. فهياكل هذه الحضارة الغربية هي المصانع الكبيرة ودور السينما والمختبرات الكيماوية، وباحات الرقص، وأماكن توليد الكهرباء. وأما كهنة هذه الديانة فهم الصيارفة والمهندسون ونجوم السينما.

والأمم الغربية تعيش اليوم في الترف والتنعم والطرب وليس عندها هدف أعلى وغرض سام إلا رغد العيش وإرواء البطن والفرج، وكأن هذه الدنيا بالنسبة لهم هي جنة المأوى التي ليس بعدها عيشة مرضية. هذه هي النار الإفرنجية التي يحترق فيها العالم كله ويتقدم مسرعا إلى وادي الموت. وما ورد في الأحاديث النبوية عن الدجال وفتنته ينطبق على هذه الحضارة الكاذبة الفتانة، وقد ظهرت علامات كثيرة لهذه الفتنة العمياء وإن صرحت الأحاديث بأن الدجال هو شخص، لكنني أظن أن الوصف النبوي ينطبق على هذه الحضارة.

إن من العلامات الواضحة أن الدجال مكتوب على جبهته الكفر وهو أعور بعينه اليمنى، وليس فيها نور، كأنه ينظر إلى الأشياء بعين واحدة ويغمض الأخرى، وهذه الظاهرة تنطبق على هذه الحضارة الدجالية كليا، فهي تنكر جميع القيم الروحية بكل مكر وخداع، ولا تعترف بأية قيمة إلا من الناحية المادية.

وهي أيضاً تدخل الرعب إلى قلوب الناس بوسائل من العلم والفلسفات، وهذه هي الفتنة العوراء الصماء البكماء التي حذر منها جميع الأنبياء، وبالتالي فيجب ألا تغرنا هذه الحضارة المادية ويجب أن ننقدها ونقول للآخرين إن حضارتكم ستفني وإن أردتم إطالة عمرها فعليكم بالإسلام.

* تحدثتم عن أسباب ونتائج تخلف العالم الإسلامي في مجال العلوم المختلفة والتكنولوجيا ، ولكنكم لم تتحدثوا عن طريقة عملية لكسر قيد التخلف.

** الطريقة الوحيدة لكسر قيود وأغلال التخلف والعجز هي الجهاد، وقد شاع فهم خاطئ بين المسلمين بأن الجهاد هو حرب الكفار فقط، لكن الصحيح أن للجهاد مفهوم واسع في الدين، والجهاد في الإسلام نوعان: نوع يتعلق بالعلم والاستدلال بالبراهين، ونوع يتعلق بالجهد في ميدان العمل، وكلا النوعين مطلوب لإعلاء كلمة الله.

فأما الجهاد بالعلم والاستدلال فهو إثبات أصول الدين وتعاليمه بالأدلة العقلية والعلمية الحديثة في ضوء القرآن الكريم وهذا هو الجهاد الكبير بتعبير القرآن [ولو شئنا لبعثنا من كل قرية نذيرا، فلا تطع الكافرين وجاهدهم به جهادً كبيراً].

فالله سبحانه وتعالى أمر النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمين أن يجاهدوا الكفار ومنكري الحق، بالقرآن الكريم، الذي فيه من الحقائق والأدلة العلمية ما يصلح لأن يكون حجة ناصعة في كل عصر، وهي اليوم الحقائق الكونية التي تنكشف بالاكتشافات الحديثة، وهذا العلم هو الذي يجدر أن يسمى بعلم الكلام لما له من تأثير كبير في محاجة الكفار والجاحدين لله في عصرنا هذا.

والحاجة ماسة إلى تدوين هذا العلم ومبادئه في ضوء القرآن العظيم والعلوم الحديثة، وفرض على العلماء أن يتفكروا في الظواهر الكونية ثم يتدبروا في كتاب الله العظيم فيستنبطوا منه الأدلة العلمية التي تنكشف بمقابلة الاكتشافات الحديثة والحقائق القرآنية والتي تكون حجة قاطعة على البشر، فلا يكون لديهم مجال للإنكار.

وأما الجهاد العملي فهو الجهد المتواصل في مجال النشاطات المختلفة التي تساعد الإسلام والمجتمع الإسلامي في إقامة صرح التقدم وغلبة الأمم والأديان كلها لتكون كلمة الله هي العليا. ولا يتم هذا الجهاد في العصر الراهن إلا بالنبوغ والتفوق والسبق في مجال العلوم والتكنولوجيا. ثم إن لهذا الجهاد العملي مفهوم عام ومفهوم خاص، فالمفهوم العام هو النشاط العملي في جميع الأعمال المدنية والاجتماعية من منظور إسلامي، والتي تساعد المجتمع لمواجهة أعدائه في الساحة العسكرية، وهذا هو الجهاد الدائم المتواصل في حالة الأمن والخوف وفي حالة العسرة والراحة، وأما المفهوم الخاص للجهاد العملي فهو القتال ومواجهة أعداء الدين.

* المجتمعات الغربية كلما تقدمت في مجالات المادة والعلوم التطبيقية كلما انتشر فيها الإلحاد والاتجاهات الفلسفية المادية.. كيف يمكننا ونحن نبتغي تقدما في مجالات العلوم المادية أن نتجنب هذه السلبيات؟

** يجب أن نتذكر أن العلوم قد نمت وازدهرت قبل ذلك في ظلال الإسلام وقامت حضارة ملأت العالم، ولم يحدث الإلحاد والفلسفات المادية لأن القرآن هو الحصن الذي يمنع ذلك. والإسلام يدعو إلى امتلاك ناصية العلوم التطبيقية لينشأ التفكير العلمي في المجتمع وتتأصل الواقعية والجدية ويقضي على عبادة المظاهر، والتبعية الفكرية، والتفكير المظلم. وأيضا لكي تنكشف آيات الله وهي الأدلة العلمية الكونية الكامنة في الكون والتي تظهرها الاكتشافات العلمية، وبذلك يتبين صدق الدين، ونقضي على الأفكار المنحرفة والفلسفات المادية الزائفة، ويظهر التوافق بين الدين والعلم، وبين الشريعة والفطرة، ليستقيم التوازن في المجتمع، وتتكون الحضارة بالمصالحة بين الروح والمادة، لتكون حضارة مثالية خالية من الإفراط أو التفريط.

ومما يؤسف له أن الفلسفات المادية الملحدة قد استغلت النظريات العلمية ولوت عنقها وكستها أزياء المادية قهرا لتخدم أهواءها وأهدافها الشريرة، لكن والحمد الله كان القرن العشرون، بفضل الاكتشافات العلمية الحديثة، وخاصة في علم الفيزياء ، قرن انهزام وانكشاف وفضح هذه الفلسفات المادية والنظريات المنحرفة، سواء في الفلسفة أو علم الاجتماع أو علم النفس أو في السياسة، وباتت الأرض مهيأة الآن لانتشار الدين الذي لا يتناقض مع العلم، بل يتوافق معه أشد التوافق وهو الإسلام [والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون].

* ما هي أهم التحديات التي تواجه المسلمين في الهند؟

** المسلمون في الهند أقلية رغم أن عددهم يبلغ 150 مليون نسمة، وهذه الأقلية تواجه عدة مشاكل وتحديات، فمن الناحية الاجتماعية والسياسية والاقتصادية، يواجهون الاضطهاد العنصري من الهندوس المتطرفين، وكذلك القمع السياسي، والتحديات الداخلية مثل التخلف العلمي والاقتصادي، والفقر المدقع.

وتفاصيل ذلك أن هناك عدة فصائل هندوسية متطرفة لا شغل لهم إلا إثارة المشاكل العدائية ضد المسلمين، واستفزازهم، ويطالبون بمغادرة المسلمين للهند، إلى دولتهم ويقصدون بها باكستان، كما يطالبون بمنع القرآن لأنه يحرض على قتال غير المسلمين كما يدعون.

هذه النفسية تدفعهم إلى إثارة الاضطرابات الطائفية، التي لا يوجد لها مثيل إلا عند الصهيونية والنازية، وهم يدعون أن ثلاثة آلاف مسجد كانت عبارة عن معابد هندوسية، وهم بذلك يطالبون بهدمها ويسعون نحو ذلك، ويساندهم للأسف الحزب الهندوسي الحاكم المتطرف 'بارديا جاناتا'.

أما بالنسبة للتحديات الداخلية فأهمها أن أكثر هذه الأقلية المسلمة لا يعرفون القراءة والكتابة؛ الأمر الذي جعلهم متخلفين في جميع المجالات، ونخص بالذكر مجال الاقتصاد، حيث أن 70% من المسلمين فقراء، كما لا تتوفر وظائف حكومية لكثير من المسلمين، وغير ذلك من المشكلات.

وفي الهند اتجاهان؛ اتجاه يمثله الهندوسية المتطرفة، والاتجاه الثاني يمثله العلمانيون، وأكثر الأحزاب السياسية هم من العلمانيين.

إلا أن الحزب الهندوسي المتطرف استطاع استقطاب بعض هذه الأحزاب العلمانية، حتى يتمكن من الوصول إلى السلطة والحصول على إغراءاتها، مع أن الأحزاب العلمانية الخالصة تتصدى لمواقف الحزب الهندوسي، وتدعو إلى مبادئ العدالة والمساواة والالتزام بمبادئ الدستور الهندي؛ حيث إن الدستور يتضمن مبادئ المساواة والإنصاف والعدل بين جميع الأديان.

والمسلمون الهنود يسعون إلى التنسيق مع العلمانية المنصفة لهم ضد الهندوسية المتطرفة، وهم بهذا يقبلون بمبدأ أخف الضررين.

=============

الأقليات المسلمة في الدول الأوروبية أمل وألم [1]

الخميس 10جمادى الآخرة 1427هـ –6 يوليو 2006م

الصفحة الرئيسة

مفكرة الإسلام: منذ أن أشرق العالم بنور الإسلام, في ذلك العهد الزاهر المبارك؛ كان المسلمون في مجدهم وعزهم يتعايشون مع أبناء الأديان الأخرى, وكان تصريف أمور الأقلية غير المسلمة يتم عن طريق رؤوسائهم المدنيين؛ فيجدون حقوقهم لدى المسؤولين المسلمين مستقرة مشروعة.

ثم دارت الأيام، فصار جزء من المسلمين يمثلون أقليات تعيش في وسط غير إسلامي, إلا أننا هنا نرى صورة أخرى للتعامل مع الأقليات، نتج عنها إشكاليات لكل مهاجر، فضلًا عن الذين اعتنقوا الإسلام في البلدان الغير إسلامية, وعلى سبيل المثال الذي سنتناول الحديث عنه اليوم: المسلمون في أوروبا.

أوروبا:هي إحدى قارات العالم السبع، وتعد أوروبا جغرافيا شبه قارة أو شبه جزيرة كبيرة، وتعتبر قارة صغيرة نسبيًا مقارنة ببقية القارات، لكن قارة استراليا أصغر منها, ويعتقد البعض أن اسم القارة مشتق من اسم الأميرة الفينيقية يوروبا التي كانت قد خطفت من قبل زيوس -إله السماء عند اليونان- على ظهر ثور، وأخذت لجزيرة كريت حسب الأساطير اليونانية، ومن بعد حادثة الخطف سميت اليونان باسم يوروبا، وبحلول العام 500ق.م؛ امتد المقصود من الكلمة ليشمل الأراضي الواقعة شمال اليونان.

المساحة : حوالي 10.79 مليون كم2 [7.1 % من مساحة الأرض].

عدد السكان : ثالث قارة في العالم من حيث عدد السكان إذ يزيد عدد سكانها عن 700 مليون نسمة [11 % من سكان الأرض].

اللغة: تنتشر في قارة أوروبا عدة لغات منها: الجرمانية, الرومانسية, و السلافية ,الأورالية, الألطية, البلطية, والكلتية و لغات أخرى.

الأديان المنتشرة في القارة: المسيحية، وتمثل الديانة الأولى, ويليها الإسلام، وهناك دول ومناطق ذات نسبة كبيرة من المسلمين في القارة مثل: ألبانيا والبوسنة والهرسك وبلغاريا ومقدونيا وقبرص وكازاخستان وتركيا وأذربيجان وجورجيا, و على مستوى القارة بشكل عام فإن 5 % من مواطني دول الاتحاد الأوروبي يدينون بالإسلام، يتركز العديد من المسلمين في ألمانيا 3.878 %، وفرنسا 5 إلى 10 %، والمملكة المتحدة 2.7 %, وهناك ديانات أخرى كاليهودية والهندوسية و السيخية.

لأوروبا تاريخ طويل حافل بالأحداث والتغيرات الاجتماعية والثقافية و الصراعات طويلة الأمد، و قدر تاريخها لحوالي 800 ألف سنة خلت، هي أول فترة في تاريخ تلك القارة العريقة.

و تنسب الحضارة الأوروبية الحديثة والتقدم الثقافي لبعض أجزاء تلك القارة لقدامى اليونان بشكل رئيس، كما أن للمسيحية تأثيرًا كبيرًا أيضًا, وقد كان لدخول المسلمين الأندلس، وتأسيسهم فيها دولة اهتمت بالعلم والعلماء في الوقت الذي كانت تعيش أوروبا في العصور المظلمة؛ تأثيرًا بالغًا على الأوروبيين أنفسهم، وأدى تأثرهم هذا -على المدى البعيد- لنقلهم إلى عصور النهضة والتقدم والديمقراطية، التي تم الوصول إليها في القرن العشرين.

قامت الإمبراطورية الرومانية على أجزاء واسعة من القارة الأوروبية، وكان سقوطها في القرن الخامس الميلادي بوابة لكثير من التغيرات في القارة، وقد عانت أوروبا كثيرًا من الظروف المعيشية في العصور المظلمة، حتى انتقلت لعصر النهضة الأوروبية، ثم تبع ذلك الفتح الإسلامي العثماني لمدينة استامبول البيزنطية في القرن الخامس عشر الميلادي، وأسقطوا بذلك تلك الإمبراطورية، وقاموا بالتوغل في قلب القارة الأوروبية حتى وصلوا لحدود إيطاليا والنمسا، وشكلوا القوة الأبرز في القارة في تلك الفترة.

وبعد ذلك جاء عصر النهضة الأوروبية، وقد كان شغل أوروبا الشاغل بعد ذلك العصر هو بث أفكار الديمقراطية وكيفية تطبيقها, ثم بدأت الشعوب الأوروبية بالمناداة بالحرية والمساواة الفردية، وكان أبرز حدث توج تلك الأفكار والتوجهات هو الثورة الفرنسية التي أدت لشيوع وانتشار أفكار الثورة على الإقطاعيين أو الكنيسة في مختلف مناطق القارة، و قد أدى نشوء القوميات -بمعناها الحديث- إلى تعزيز الصراع الدائر بين القوى العظمى في أوروبا على دول العالم الحديث، وكان أشهر تلك الصراعات استيلاء نابليون بونابرت على السلطة في فرنسا، حيث أنشأ ما عرف باسم الإمبراطورية التي سرعان ما انهارت، وبعد سقوط نابليون هدأت القارة الأوروبية نسبيًا، وبدأ في تلك الفترة انهيار الممالك ونظم الحكم القديمة.

ونحن هنا بصدد محاولة تسليط الضوء على الإسلام والمسلمين في القارة الأوربية، حتى نستطيع التعرف على واقع قرابة 52 مليون مسلم يعيشون هناك.

وتؤكد المعلومات التاريخية بدء دخول الإسلام إلى القارة الأوربية من جنوبها إلى بلاد القوقاز، في وقت مبكر مع جيوش الفتح الإسلامي في عهد عمر بن الخطاب في عام 22هـ, ودخل حوض نهر الفولجا في بداية القرن الرابع الهجري عن طريق التجار المسلمين, وفي القرن السابع الهجري عندما دخلت القبائل التتارية في هذه المنطقة,ثم امتد إلى غرب أوروبا في العقد الأخير من القرن الأول الهجري في عام 91هـ تقريبًا، عندما فتحت الأندلس عل يد طارق بن زياد وموسى بن نصير, ثم واصل الإسلام انتشاره في القرن ال12 الهجري في عهد الدولة العثمانية.

و لقد طرق الإسلام أبواب أوروبا من الشرق بمحاولته فتح القسطنطينية، ومن الجنوب بفتحه لصقلية وجنوب إيطاليا, ومن الغرب بفتح الأندلس والتوغل في بلاد الغال –فرنسا اليوم- حتى مدينة' بواتيه', ثم كر الإسلام ليدق أبواب أوروبا الشرقية ثم الوسطى في زمن السلطان محمد الفاتح وخلفائه الأقوياء، حيث سيطر العثمانيون على شرق أوروبا, وقد استفادت أوروبا كثيرًا من سماحة الحكم العثماني، وكذلك سماحة الأتراك والتنظيم الدقيق للعسكرية

و اليوم يشكل المسلمون في أوروبا وجودًا حقيقيًا ذا فاعلية على المستوى الاجتماعي والاقتصادي والسياسي، ورغم عدم وجود إحصاء رسمي يبين حجم الأقلية المسلمة في دول أوروبا، فإن بعض المصادر الإسلامية تقدر عدد المسلمين هناك بـ 52 مليونًا من أصل 705 مليون نسمة هم عدد سكان القارة الأوروبية، ويعيش في فرنسا وحدها 6 مليون مسلم.

وتختلف أوضاع الأقليات الإسلامية في أوروبا من دولة إلى أخرى، حسب الوضع القانوني السائد في تلك الدولة، وتبعًا للشعور العام السائد داخل المؤسسات الحكومية الأوروبية تجاه الإسلام؛ فبعض الدول تنظر إليه نظرة توجس وريبة مثل فرنسا وألمانيا، مما ينعكس على التسهيلات الممنوحة لتلك الأقلية، وخاصة فيما يتعلق باستخراج تصريحات بناء المساجد، في حين يتضاءل هذا الشعور في دول أخرى، كما هو الحال في بريطانيا على سبيل المثال.

والمسلمون في أوروبا موزعون في أقليات، يختلف حجمها بين الآلاف والملايين، ومن أمثلة الدول الأوربية التي يبلغ عدد المسلمين فيها الملايين بعض دول أوروبا الشرقية، وهناك دولة واحدة يشكل المسلمون فيها أغلبية وهي ألبانيا، أما المسلمون في أوروبا الغربية فأحوالهم مختلفة، ذلك أن عددهم في هذه البلاد يبدأ من المئات في البعض منها، ويرتفع العدد تدريجيًا حتى يقارب بضعة ملايين في بعضها الآخر مثل فرنسا.

وتتركز الجاليات الإسلامية الكبيرة في غرب أوروبا في كل من فرنسا من 5-6 مليون, وألمانيا من 2-3 مليون نسمة, وبريطانيا من 1.5-2 مليون نسمة, وفي إيطاليا 0.7مليون نسمة، وفي هولندا 0،4 مليون نسمة، وبلجيكا 0.75مليون نسمة، واليونان 0.25 مليون نسمة، وفي قبرص 0.16 مليون نسمة، أما في إسبانيا 0.12 مليون نسمة، ومالطة 0.1 مليون نسمة ومثلها سويسرا، وفي الدانمارك 0.05 مليون نسمة, أما في السويد والبرتغال و النرويج و فنلندا وجبل طارق و لكسمبورج وأيرلندا؛ فعدد المسلمين يقل في كل منها عن 50 ألف مسلم.

ومن المعلوم أن الغالبية العظمى من المسلمين في هذه البلاد وفدوا إليها بحكم الصلات السياسية التي كانت تربط بلدانهم بالبلدان الأوروبية التي يعيشون فيها، وقد وفدوا إلى تلك البلاد بحثًا وراء فرص أفضل في الحياة لم تتيسر لهم في بلادهم الأصلية, وهناك أعداد كبيرة منهم دخلوا في الإسلام نتيجة مخالطة المسلمين عن قرب.

وتواجه المسلمين في تلك البلاد مشكلات كثيرة، وتعتبر مشكلة التردد بين العزلة والاندماج أهم ما يؤرق الأقليات المسلمة في الغرب، حيث أنهم يعانون من صعوبة الحفاظ على الخصوصيات الثقافية الدينية؛ فالدساتير تضمن حرية التعبير إجمالًا، لكن التطبيق يتفاوت بين دولة وأخرى وبين ظرف وآخر، وقد جاءت قوانين الرقابة في ألمانيا مثلًا لتضع كل مسلم بين العشرين والأربعين من عمره في دائرة الاتهام، مما يعني ذلك خوف وقلق .

و تشكل الهوية الإسلامية والخوف عليها من الذوبان في ثقافة الآخر؛ التحدي الأول لها، خاصة لدى الأبناء من الجيلين الثاني والثالث، الذين حصلوا على جنسية البلدان المقيمين فيها، وأصبح لهم حقوق مواطنة كاملة.

وتحاول تلك الأقليات الحفاظ على هويتها الإسلامية، لكن ضعف الإمكانيات والموارد، وندرة الدعاة المتخصصين؛ يقف عائقًا دون تحقيق ما تصبو إليه، مما ينعكس سلبًا على أوضاعها الاجتماعية والثقافية؛ فالكثير من المسلمين يعيشون في ظروف صعبة، فهم إما في أحزمة البؤس التي تحيط بالمدن الأوروبية الكبرى، أو في تجمعات سكانية مكتظة، وفي حالة تهميش وتقوقع ثقافيين، ويزيد من حدة هذه المشكلة عدم وجود تنظيم عربي وإسلامي قوي، يدافع أمام الحكومات الأوروبية عن حقوق تلك الأقليات، وسرعة تنفيذ مطالبها.

هكذا تناولنا في هذه الحلقة حقائق حول تاريخ المسلمون والأقليات في القارة الأوربية، وفي الحلقة القادمة نستكمل الحديث حول مستقبل المسلمين، والدعوة للإسلام في الغرب, كما نتحدث إن شاء الله عن التحديات التي تواجه المسلمين هناك، فإلى لقاء قادم إن أحيانا الله عز وجل.

==============

#الأقليات المسلمة في الدول الأوروبية أمل وألم [2]

الأحد 20جمادى الآخرة 1427هـ –16 يوليو 2006م

الصفحة الرئيسة

مفكرة الإسلام : تحدثنا في الجزء الأول من هذا الموضوع عن تاريخ الأقليات المسلمة في القارة الأوربية، وكيف انتشر الإسلام فيها، واليوم نبدأ من حيث انتهينا.

وقد أوضحنا كيف أن تلك الأقليات تحاول الحفاظ على هويتها الإسلامية، لكن ضعف الإمكانيات والموارد، وندرة الدعاة المتخصصين يقف عائقًا دون تحقيق ما تصبو إليه، مما ينعكس سلبًا على أوضاعها الاجتماعية والثقافية؛ فالكثير من المسلمين يعيشون في ظروف صعبة، فهم إما في أحزمة البؤس التي تحيط بالمدن الأوروبية الكبرى، أو في تجمعات سكانية مكتظة، وفي حالة تهميش وتقوقع ثقافيين، ويزيد من حدة هذه المشكلة عدم وجود تنظيم عربي وإسلامي قوي، يدافع أمام الحكومات الأوروبية عن حقوق تلك الأقليات، وسرعة تنفيذ مطالبها.

ونحن اليوم نتناول بشيء من التفصيل مستقبل المسلمين والدعوة للإسلام في الغرب, وكذلك أهم التحديات التي تواجه المسلمين هناك.

منذ العقد السادس من القرن العشرين، وأوروبا تشهد موجات متعاقبة من الهجرة من الدول الإسلامية، كانت الموجة الأولى في الخمسينيات والستينيات، وكانت مع حركات التحرر الوطني واستقلال الدول الإسلامية، مثل تركيا وباكستان -التي كانت شرقية أو غربية في هذا الوقت- ومعظم الدول العربية وإندونيسيا، وكان معظم المهاجرين من الفقراء، الذين يبحثون عن فرصة عمل في الدول المستعمرة الغنية، وشكلت تلك الموجة ما عرف باسم الجيل الأول.

ثم شهدت السبعينيات والثمانينيات حركة الصحوة الإسلامية في الدول الإسلامية، وشهدت أيضًا في أوروبا ظهور الجيل الثاني، وكذلك ازدياد عدد المساجد كنتيجة لاهتمام الحكومات الأوروبية والإسلامية بالتعاون في هذا المجال، واحتواء هذا العدد المتزايد, ولكن مع بداية الاتحاد الأوروبي، وزيادة الضغوط الاقتصادية، وتقلص فرص العمل؛ ازداد التمييز العنصري، وصارت الأحياء ذات الأغلبية المسلمة مأوى للجريمة والفقر، وتشير الإحصاءات الأخيرة إلى أن نسبة عدد المسجونين من المسلمين في الاتحاد الأوروبي قد تضاعفت مرتين في السنوات العشر الأخيرة.

الجيل الثاني وجد نفسه منصهرًا بصورة أكبر في المجتمع الأوروبي الذي عمل وتعلم فيه، ولا يعرف له أرضًا أو وطنًا غيره، ولكنه وجد نفسه أيضًا معزولًا من خلال آليات الرفض الاقتصادي، وظهور ظاهرة الخوف من الأجانب، أو بمعنى أكثر صراحة 'الخوف من الإسلام والمسلمين'؛ وذلك بسبب ازدياد عدد النشطاء المسلمين في أوروبا كنتيجة لاضطهادهم في بلادهم الأصلية، مما شكَّل ما عُرف بالموجة الثانية للهجرة، والتي تميزت بأنها موجة سياسية لا اقتصادية، وأنها وجدت أرضية خصبة في الشباب المسلم الأوروبي من الجيل الثاني، حيث أصبح الإسلام جزءًا أساسيًّا من هويته، ومن خلال هؤلاء النشطاء؛ تعرف الجيل الثاني على شكل جديد من الإسلام: ثوري، وإيجابي، ورافض لطمس هويته، وازدادت المساجد والمراكز الإسلامية، وظهرت الجمعيات النشطة في مختلف التجمعات.

وفي التسعينيات حدث الكثير من التغيرات الإقليمية والجغرافية في أوروبا، وواكب هذه التغيرات تغيرات اقتصادية وسياسية، وقد كان لهذه المتغيرات تأثيرًا كبيرًا على أحوال المسلمين، مما دفع المسلمين في أوروبا من أقصى شرقها حتى أقصى غربها إلى التوحد حول إحساس واحد، وهو الإسلام كهوية.

ويتأجج هذا الإحساس الآن بالنسبة لبعض المسلمين في غرب أوروبا مع إحساسهم بالاضطهاد للمسلمين عامة، أو للحرب الصليبية التي يشنها الغرب على الإسلام، أو لأي سبب آخر يرتبط بالدين، الذي أصبح المظهر الوحيد للهوية، والسبيل الوحيد للخلاص من كافة المشكلات، وكذلك الحال عند مسلمي أوروبا الشرقية، الذين عانوا طويلًا من فرض طغيان الشيوعية عليهم، ثم إحساسهم بأنهم أقلية وسط المجتمع المسيحي، سواء الأرثوذكسي أو الكاثوليكي، وفقًا للبلد الذي ينتمون إليه.

لكن الحكومات الأوروبية تحاول إدماج المسلمين داخل المنظومة السياسية، إلا أننا نجدها تأخذ خطوة للأمام ثم عدة خطوات للخلف، وذلك بسبب تخوفها من الآراء التي ينشرها بعض المحللين السياسيين والمستشرقين والتي دائمًا ما تضع الإسلام والمسلمين مع الإرهاب في قفص واحد, إلا أن هذه الصورة التي يحاول بعض الغربيين الغير منصفين جعلها الصورة السائدة في الغرب ليست الصورة الكاملة للحاضر المسلم في تلك القارة, فهناك صورة أخرى أكثر إشراقًا تتمثل الدور المتنامي للجانب الاقتصادي، الذي يلعب دورًا كبيرًا في عملية دمج المسلمين في أوروبا، وأيضًا في إقناع أوروبا بدور المسلمين الحيوي, حيث نرى تزايدًا في عدد البنوك الإسلامية التي أصبح حجم تعاملاتها ما يقارب 300 بليون دولار.

إلا أننا ننظر بحذر إلى هذا الاندماج، وذلك لما لهذا المفهوم من أوجه متعددة, فهو من وجهة النظر الأوروبية يعني أن يصير المواطن المهاجر أو المسلم أوروبيًّا أولًا ثم مسلمًا ثانيًا، أو ما يسمَّى أحيانًا بالاعتدال، ويعتبر هذا الرأي خلطًا وتعدٍّ على حق المواطن والفرد في اختيار أولويات انتماءاته، بمعنى أن الفهم الأوروبي لمفهوم الاندماج يؤدي إلى تعنت وقسر، ومن ثَمَّ ضغط واضطهاد.

وعلى الجانب الآخر نجد أن الاندماج في الفهم المسلم -أحيانًا- هو حقوق دون واجبات، والتزامات من قِبَل الدولة دون التزامات بالمقابل من جهة الفرد، وأحيانًا -وهي الصورة السائدة الآن- يمثل فاعلية المواطن المسلم من خلال مؤسساته المتعددة, ومن ثَمَّ فالاندماج الإسلامي في أوروبا هو أمر واقع، ولكن ينقصه تجاوز إشكالية ضد الآخر، أو نحن ضد الآخرين؛ حتى لا يكون المواطن المسلم الأوروبي مطالبًا باتخاذ قرار ضد دينه ليكون أوروبيًّا أو العكس، وهذا سيحدث عندما يدرك المواطن أنه لا تعارض بين انتمائه الديني وانتمائه الأوروبي، ومن ثَمَّ يتخلص من فكرة الاضطهاد.

وللتخلص من هذه الفكرة على الحكومات الأوروبية أن تدرك أن الإسلام لا يشكل خطرًا عليها، والأهم أن الإسلام ما زال أحد مكونات الحضارة الأوروبية منذ فجر الدعوة الإسلامية وحتى الآن، وأن أوروبا ليست بالنادي المسيحي المغلق على غيره من البشر، بمعنى أن على أوروبا أن تتوحد بمعنى الكلمة، وتتجاوز الرؤية المنغلقة للدولة القومية، ومن ثَمَّ يصبح الاندماج الأوروبي أمرًا واقعًا, وحدثًا فعليًّا.

ولكن هذا أمل -وليس واقعًا في حقيقة الأمر- قد أدى إلى تعرض الأقلية المسلمة في أوروبا لمواجهة الكثير من المشاكل و التحديات, وهي ليست واحدة عند عموم المسلمين، فهي تختلف بين بلد وآخر، وذلك باختلاف قوانينه، وباختلاف نظرة سكانه إلى الإسلام والمسلمين, ونستطيع تقسيم هذه المشاكل والتحديات إلى أربعة أقسام:

• تحديات مصدرها أوروبا نفسها.

• وتحديات مصدرها الأقلية المسلمة ذاتها.

• وتحديات مصدرها العالم الإسلامي.

• وأخرى فكرية وثقافية.

أما التحديات ذات المصدر الأوروبي فالدول الأوربية تعتبر الأقلية المسلمة هي المسؤول الأول عن كل ما يحدث من تخريب و إرهاب, وترى أنها تشكل تهديدًا خطيرًا على المجتمع الغربي، وذلك بمحاولتها تسليط الأضواء على بعض التصرفات الشاذة والغير مسؤولة من أفراد مسلمين، وقد تكون تصرفاتهم الغير مسؤولة نتجت عن عدم وجود مرجعية واحدة تستطيع أن توجه هؤلاء الأفراد- الذين يمثلون غالب الجالية المسلمة- فكل فئة جاءت من بلادها جاءت بثقافتها، وجاءت كذلك بمشاكلها.

فهناك مجموعة من القيم التي يستهجنها المجتمع الغربي هي ليست من الإسلام، إنما هي عبارة عن عادات موروثة ليست من التعاليم الإسلامية، وللأسف الشديد أن الغرب يظن أن هذه تعاليم إسلامية، وهي ليست إلا موروثات وتقاليد قبلية ليس لها علاقة بالإسلام, وللأسف فإن الغربيين يروا الإسلام من خلال هذه الفئة, لذلك يجب على تلك الجالية أن يوحدوا جهودهم، ويتخلصوا من العادات التي ليست من الإسلام، ويركزوا على النقاط الإيجابية في المجتمع الذي يعيشون فيه، ومن ثمة دمج ثقافتهم الإسلامية بهذا المجتمع؛ ليقدموا صيغة طيبة ونموذجًا حضاريًا عن الإسلام، فهم رسل للإسلام في هذه البلاد.

وهناك أسباب أخرى متعلقة بالتحديات ذات المصدر الأوروبي، منها النقص الفادح في معلوماتهم عن الإسلام الصحيح, حيث أن ما يكتبه المسلمون باللغة العربية لا يصل إليهم، كما أن التاريخ العربي والإسلامي الموجود بين أيدي الأوروبيين تاريخ مشوه إلى حد كبير، مما يستدعي تصحيح هذا المنظور من خلال وقائع تاريخية سليمة.

هذا إلى جانب التأثير السلبي لوسائل الإعلام الغربي، التي تقف مؤسساتها ذات الأغراض المشبوهة -التي لا تخفى على أحد- وراء تشويه صورة الإسلام والمسلمين، والتركيز على الجوانب السلبية التي تسخر من الإسلام، وتقلل من شأنه، مما يسهم في إيجاد بيئة عدائية ضد الأقليات المسلمة في الغرب.

ولا شك أن الربط بين الإسلام والإرهاب، وصعوبة ذوبان الأقلية المسلمة في المجتمعات الأوربية؛ أدى إلى عدم اعتراف العديد من الدول الغربية بحقوق الأقليات الإسلامية، وفرض القيود عليها من كافة الاتجاهات سياسية واقتصادية واجتماعية، مما أدى إلى الحد من تأثيرها، وعدم السماح لها في بعض الدول بأي مظهر إسلامي بزعم مخالفته لعادات وتقاليد الدولة, وهناك أيضًا التحفظ على الدراسات الإسلامية في مراحل التعليم الأولى.

أضف إلى ذلك فرض تعليم قواعد الدين النصراني على أبناء المسلمين, وملاحقتهم في مصادر أرزاقهم، وقلة أماكن العبادة، وما تفرضه بعض الدول من معوقات أمام إنشائها, ووضع العراقيل أمام تعليم اللغة العربية لأبناء المهاجرين, وهناك الزواج المختلط وما يترتب عليه من مشكلات اجتماعية, وما يواجهه المسلمون من عمليات التنصير التي تتولى كبرها الهيئات الصليبية وبعثات التنصير، وقد كنا تحدثنا عنها بالتفصيل من قبل في موضوع سابق.

نكتفي بهذا القدر في حديثنا اليوم، على وعد بمواصلة الإبحار في هذه القضية الهامة في الحلقة القادمة إن شاء الله.

=============

#المسلمون والغرب.. كيف ينظر كل منها للآخر؟

السبت 19 جمادى الآخرة 1427هـ –15 يوليو 2006م

الصفحة الرئيسة

استطلاع أجراه مركز أبحاث 'بيو'

ترجمة: زينب كمال

مفكرة الإسلام : بعد عام مليء بالأحداث الصاخبة والاضطرابات بسبب أزمة الرسوم المسيئة للنبي محمد [صلى الله عليه وسلم] والهجوم الذي تعرضت له العاصمة البريطانية لندن بالإضافة إلى الحروب المتواصلة في كل من العراق وأفغانستان, صارت لدى معظم الغربيين والمسلمين قناعة أن العلاقات بينهم في الوقت الحالي قد ساءت بشكل عام. وبينما يرى الكثير من الغربيين أن المسلمين متعصبون ويتسمون بالعنف وقلة التسامح, ينظر المسلمون في الشرق الأوسط وآسيا للغرب عامة على أنهم يتصفون بالأنانية وانعدام الأخلاق والطمع, بالإضافة إلى العنف والتعصب.

ومع ذلك, فإن أحد نقاط الاتفاق النادرة بين الغربيين والمسلمين هي أن كليهما يعتقد أن الشعوب الإسلامية يجب أن تكون أكثر ازدهارًا من الناحية الاقتصادية مما هي عليه الآن. ولكن كل منهما يقيس الأمر بطريقة مختلفة تمامًا. فالشعوب الإسلامية ترى أنها مضطهدة من قبل الغرب, وتعتبر أن السياسات الغربية هي المسئولة عن تدهور أوضاعها الاقتصادية. ولكن الشعوب الغربية, من جهتها, ترى أن أكبر العقبات التي تقف حائلاً دون ازدهار الدول الإسلامية هي الفساد الحكومي وقلة التعليم والأصولية الإسلامية.

لا شيء يمكن أن يبرز الفجوة بين المسلمين والغرب بصورة أكثر وضوحًا من ردودهم بخصوص الثورة التي اجتاحت العالم الشتاء الماضي بسبب أزمة الرسوم الكرتونية المسيئة للنبي محمد [صلى الله عليه وسلم]. فقد ألقى معظم المسلمين في كل من الأردن ومصر وإندونيسيا وتركيا باللوم على ازدراء الشعوب الغربية للدين الإسلامي. في حين أن غالبية الأمريكيين وشعوب غرب أوروبا ممن سمعوا عن هذا الخلاف يرون ـ على النقيض من ذلك ـ أن تعصب المسلمين وعدم تقبلهم للاختلاف في وجهات النظر هو الذي ينبغي أن يٌلقى عليه باللوم.

وتتضح الهوة بين المسلمين والغرب أيضًا من خلال الأحكام التي يصدرها كل من الجانبين حول كيفية معاملة الحضارة الأخرى للمرأة. فالشعوب الغربية ترى أن المسلمين لا يحترمون المرأة. في حين أن النصف أو أكثر ممن تم إجراء الاستطلاع عليهم في أربع من إجمالي خمس شعوب إسلامية يقولون نفس الشيء عن الغرب.

ولكن على الرغم من عمق الانقسامات في العلاقات بين الشعوب الغربية والإسلامية, كشف الاستطلاع الذي أجرته مؤسسة Pew Global Attitudes أن نظرة كل طرف للآخر ليست جميعها سلبية. على سبيل المثال, في أعقاب الأحداث الصاخبة التي حدثت العام الماضي, لازالت الأغلبية العظمى في فرنسا وبريطانيا العظمى والولايات المتحدة تحتفظ عامة بآراء إيجابية عن المسلمين, على الرغم من أن دولة إسبانيا شهدت العام الماضي هبوطًا حادًا في نظرة شعبها الإيجابية تجاه المسلمين حيث انخفضت إلى 29% بعد أن كانت 46%, وكان معدل الهبوط أكثر اعتدالاً في بريطانيا العظمى, حيث انخفض من 73% إلى 63%.

إن الشعور بالمرارة الذي تكنه الشعوب الإسلامية عامة تجاه الغرب أشد مما يكنه الغرب تجاه المسلمين. فقد ساءت آراء المسلمين عن الغرب وعن الشعوب الغربية بصورة كبيرة على مدار العام الماضي. ويحمل المسلمون الغرب مسئولية توتر العلاقات بين الجانبين. ومع ذلك فإن هناك أيضًا بعض المؤشرات الإيجابية, من بينها حقيقة انخفاض معدلات دعم 'الإرهاب' في معظم البلدان الإسلامية التي تم إجراء الاستطلاع عليها.

لقد قامت مؤسسة Pew Global Attitudes بإجراء هذا الاستطلاع في 31 دولة, من بينها الولايات المتحدة, في الفترة من 31 مارس- 14 مايو 2006. وقد تضََّمن استطلاع آراء عينات إضافية من الأقليات المسلمة في كل من بريطانيا وفرنسا وألمانيا وإسبانيا. وتمثل آراء مسلمي أوروبا, بصورة أو بأخرى, وضعًا وسطًا بين الغرب ومسلمي الشرق الأوسط من حيث نظرة كل منهما للآخر.

وعلى الرغم من أن الأقليات المسلمة في أوروبا تعتبر أن العلاقات بين الغربيين والمسلمين سيئة بشكل عام, مثلهم في ذلك مثل المسلمين في أي مكان آخر, إلا أنهم يرون أن الغرب يتصف بصفات إيجابية مثل التسامح والكرم واحترام المرأة. ويُعتبر مسلمو أوروبا أقل ميلاً لرؤية ِصدام بين الحضارات من بعض العناصر التي تم إجراء الاستبيان عليها في أوروبا. ومن الجدير بالذكر أنهم ـ في الغالب ـ لا يعتقدون, بخلاف غير المسلمين في أوروبا, أن هناك تعارضًا بين أن يكون المسلم ملتزمًا بدينه وبين معيشته في مجتمع معاصر.

ويرى شعبا ألمانيا وإسبانيا أن هناك تعارضًا طبيعيًا بين أن يكون المسلم ملتزمًا بدينه وبين أن يعيش في مجتمع معاصر. ولكن غالبية المسلمين في كل من الدولتين لا يوافقون على هذا. في حين أنه في فرنسا التي شهدت مؤخرًا أحداث شغب في المناطق التي يتمركز بها المسلمون, تشعر نسب كبيرة سواء من عامة الشعب الفرنسي أو من الأقليات المسلمة التي تعيش هناك أنه ليس هناك أي تعارض بين التزام المسلم بدينه وبين معيشته في مجتمع معاصر.

ويوضح الاستطلاع أن هناك مؤشرات باعثة على التفاؤل ومؤشرات باعثة على القلق في ذات الوقت فيما يتعلق بالدعم الإسلامي لـ'الإرهاب' وإمكانية تحقيق الديمقراطية في الدول الإسلامية. ففي كل من الأردن وباكستان وإندونيسيا, كان هناك انخفاض ملموس في نسبة من يرون أن التفجيرات 'الانتحارية' وغيرها من أشكال العنف ضد الأهداف المدنية يمكن تبريرها بالدفاع عن الإسلام ضد أعدائه. وقد بلغ هذا الانخفاض درجة هائلة في الأردن, ربما بسبب الهجوم 'الإرهابي' المدمر الذي حدث في عمان العام الماضي, فقد انخفضت نسبة الأردنيين الذين يرون أن الهجمات 'الانتحارية' مبررة في بعض الأحيان أو في كثير من الأحيان من 57% في مايو 2005 إلى 29%. كما انخفضت الثقة في أسامة بن لادن في معظم الدول الإسلامية في الأعوام الأخيرة. فقد أعرب 24 % عن أنهم يحتفظون بقدر على الأقل من الثقة في ابن لادن في الوقت الحالي, في مقابل نسبة 60% العام الماضي.

ومع ذلك فإنه لا يزال هناك عدد كبير من الباكستانيين [38%] الذين يقولون إنهم لديهم قدر على الأقل من الثقة بأن زعيم القاعدة يتصرف بشكل صائب فيما يتعلق بالشئون العالمية, ولكن هذه النسبة انخفضت كثيرًا عنها في مايو 2005[51%]. ومع ذلك, فإن مسلمي نيجيريا يمثلون استثناء واضحًا لهذا الاتجاه, حيث يقول 61% من مسلمي نيجيريا إنهم لديهم قدر على الأقل من الثقة في ابن لادن, فيما يعد ارتفاعًا في الثقة بزعيم القاعدة عن نسبة عام 2003 التي بلغت 44%.

ولا يزال هناك الكثير من الناس الذين يرون أن 'الإرهاب' له ما يبرره وهو الدفاع عن الإسلام, على الرغم من أن نسبتهم انخفضت عنها في الاستطلاعات السابقة. فما يقارب نصف السكان المسلمين بنيجيريا [46%] يشعرون أن التفجيرات 'الانتحارية' قد يكون لها ما يبررها في بعض أو في أغلب الأحيان للدفاع عن الإسلام. حتى بين الأقليات المسلمة في أوروبا في كل من فرنسا وإسبانيا وبريطانيا, يشعر واحد من بين كل سبعة أن التفجيرات 'الانتحارية' ضد الأهداف المدنية يمكن أن تكون على الأقل مبررة في بعض الأحيان بالدفاع عن الإسلام.

هذا بالإضافة إلى أن الشعور بمعاداة اليهود يظل هو الشعور السائد في البلاد ذات الأغلبية المسلمة. وهناك أيضًا تأييد كبير لحزب حماس الذي فاز مؤخرًا في الانتخابات الفلسطينية. وترى أغلبية الشعوب في الدول الإسلامية أن فوز حماس في الانتخابات سوف يفيد في تحقيق تسوية عادلة بين الفلسطينيين والإسرائيليين, وهي الفكرة التي ترفضها تمامًا الشعوب الغربية.

وفي أكثر الاكتشافات التي توصل إليها الاستطلاع إثارة, يقول غالبية الإندونيسيين والأتراك والمصريين والأردنيين إنهم لا يعتقدون أن جماعات عربية هي التي قامت بهجمات الحادي عشر من سبتمبر عام 2001. فقد ارتفعت نسبة الأتراك الذين يقولون بعدم تصديقهم لمزاعم مسئولية العرب عن هجمات الحادي عشر من سبتمبر من 43% في استطلاع جالوب لعام 2002 إلى 59% في العام الحالي. وهذا الاتجاه ليس مقصورًا على المسلمين في البلدان الإسلامية, حيث أعرب 56% من المسلمين البريطانيين عن عدم تصديقهم أن العرب هم من قاموا بشن تلك الهجمات 'الإرهابية' على الولايات المتحدة, وهذا في مقابل 17 فقط ممن يعتقدون في تورط العرب في هذه الهجمات.

ولكن رأي المسلمين في معظم القضايا ليس رأيًا موحدًا, فهناك بعض الاستثناءات في نظرة المسلمين للغرب. فبينما ترى نسب كبيرة من المسلمين في جميع الدول الإسلامية تقريبًا أن الغرب يتصفون بالعديد من الصفات السلبية مثل العنف وعدم الالتزام بالقيم الأخلاقية والأنانية, ينظر أغلبية الشعب في إندونيسيا والأردن ونيجيريا نظرة إيجابية إلى النصارى.

وعلاوة على ذلك, فإن الشعوب الإسلامية لديها اعتقاد راسخ في إمكانية تحقيق الديمقراطية, وهي العقيدة التي تتعارض بشكل صارخ مع مشاعر الغرب التي تشكك في إمكانية ترسيخ الديمقراطية في العالم الإسلامي. إن الأغلبية في كل الدول الإسلامية ممن تم استطلاع آراؤهم يقولون: إن الديمقراطية ليست حكرًا على الغرب وأنه يمكن أن تطبق في العالم الإسلامي. ولكن الشعوب الغربية منقسمة على نفسها, فالأغلبية في ألمانيا وإسبانيا يقولون: إن الديمقراطية نظامًا غربًيا لعمل الأشياء وأنها لن تكون صالحة للتطبيق في معظم الدول والبلدان الإسلامية. في حين أن معظم الفرنسيين والبريطانيين ونصف الأمريكيين تقريبًا يرون أنه يمكن تطبيق الديمقراطية في الدول الإسلامية.

وبشكل عام, تعد آراء الألمان والإسبان تجاه المسلمين والعرب أكثر سلبية من نظرة الفرنسيين والبريطانيين والأمريكيين للمسلمين. فهناك 36% فقط من الألمان, و29% من الإسبان ممن لهم آراء إيجابية عن المسلمين, في مقابل [ 39%, و33%, على التوالي ] ممن لديهم انطباعات إيجابية عن العرب. في حين أن الأغلبية في فرنسا وبريطانيا والولايات المتحدة لديهم انطباعات إيجابية عن المسلمين, ونفس النسب تقريبًا لديها انطباعات جيدة عن العرب.

وهناك أيضًا اختلافات في الآراء حول الصفات السلبية التي يربطها الغرب بالمسلمين. فهناك ثمانية من بين كل عشرة إسبان [83%]، و78 % من الألمان يرون أن المسلمين متعصبون. ولكن هذه النظرة ليست سائدة بهذه الدرجة في فرنسا [50%], وبريطانيا العظمى [48%] والولايات المتحدة [43%].

وتختلف نظرة المسلمين الأوروبيين, بصورة أو بأخرى, عن نظرة الشعوب الغربية وعن نظرة المسلمين في الشرق الأوسط وآسيا. فمعظم المسلمين الأوروبيين لديهم انطباعات إيجابية عن النصارى, وعلى الرغم من أن نظرتهم لليهود أقل إيجابية من الشعوب الغربية, إلا أن نظرتهم لليهود تعد أكثر إيجابية بكثير من شعوب الدول الإسلامية. وفي فرنسا, تقول الأغلبية العظمى من المسلمين [71%] أن لديها انطباعات إيجابية عن اليهود.

هذا بالإضافة إلى أنه على الرغم من أن شعوب الدول الإسلامية ينظرون عامة إلى الغرب على أنهم يتسمون بالعنف وانعدام الأخلاق, إلا أن هذه النظرة ليست سائدة تقريبًا بهذه الدرجة في كل من فرنسا وأسبانيا وألمانيا. ومع ذلك يعتبر المسلمون البريطانيون أشد الأقليات المسلمة انتقادًا للغرب من بين الأربع الأقليات التي تم استطلاع آراؤها, حيث إن هناك تقاربًا بين نظرتهم وبين نظرة المسلمين في أنحاء العالم لشعوب الغرب.

اكتشافات جوهرية أخرى

• تشترك الشعوب الغربية والإسلامية على حد سواء في مخاوفها من 'التطرف' الإسلامي. ولكن الصين تعد حالة استثنائية, حيث يقول 59% من الصينيين إن 'التطرف' الإسلامي لا يسبب لهم قلقًا كبيرًا أو لا يسبب لهم قلقًا على الإطلاق.

• يختلف المسلمون حول ما إذا كان هناك صراع في بلادهم بين الأصوليين الإسلاميين والجماعات التي تسعى لعصرنة وتحديث المجتمع. ولكن الأغلبية منهم ممن يلمسون هذا الصراع يأخذون جانب المجددين.

• يقول 41% من الشعب في إسبانيا: إن معظم المسلمين أو الكثير منهم يدعمون 'المتطرفين' الإسلاميين في بلادهم. في حين أن 12% فقط من مسلمي إسبانيا يرون أن معظم أو الكثير من مسلمي إسبانيا يؤيدون الجماعات 'المتطرفة' مثل القاعدة.

• يقول أربعة من بين كل عشرة تقريبًا من الألمان [37%], و29% من الأمريكيين أن هناك تعارضًا بديهيًا بين كون المرء نصراني مخلص وبين معيشته في مجتمع معاصر.

===============

#الغرب يعيش فراغاً فكريا لن يملأه إلا الإسلام

الأربعاء 2 جمادى الآخرة 1427هـ – 28يونيو 2006م

الصفحة الرئيسة

- الغرب لا يستطيع الحياة بمعزل عن الحضارات الأخرى.

- نستطيع أن نتفوق في مجالات تنقية وتكنولوجية كثيرة.

- الترجمة مطلوبة وتدريس العلوم باللغات الأجنبية يكرس التبعية والتخلف.

- الحضارة الغربية الآن في فراغ فكري لن يملأه إلا الإسلام.

حاوره/ أحمد وهدان

مفكرة الإسلام: د. أحمد فؤاد باشا العميد السبق لكلية العلوم بجامعة القاهرة وأستاذ الفيزياء، قلما نجد موضوعا يتحدث عن الجوانب الإسلامية في العلوم إلا وكان له فيه باع، فهو مشغول بقضايا إسهام المسلمين في التراث العلمي، وضرورة تطوير مناهج البحث عند المسلمين لتمكينهم من اللحاق بالتطورات المتسارعة في مجال العلوم المختلفة. له عدة مؤلفات في هذا المجال يدرس اثنان منها في جامعة صنعاء هما [التراث العلمي للحضارة الإسلامية – فلسفة العلوم بنظرة إسلامية]. وله أيضا [العلوم الكونية في التراث الإسلامي، وإسلامية المعرفة]، إلى جانب العشرات من البحوث المنشورة، وإسهامه في مركز الترجمة العلمية بمؤسسة الأهرام في ترجمة الكتب العالمية العلمية الهامة وتبسيطها، وهي تترجم من الإنجليزية والروسية إلى العربية. التقينا به وكان لنا معه هذا الحوار.

* لاحظنا أن البعض يتحدث الآن عن التوجيه الإسلامي للمعرفة .. وكان الموضوع يطرح قبل ذلك على أنه أسلمة العلوم.. ما الفرق بين الأمرين؟

** أود أن أحذر من قضية الاختلاف حول المصطلحات لأن هذه القضية دخيلة على الفكر الإسلامي من الجهات التي تحاول أن تشغل المفكرين بالشكليات على حساب الجوهر والمضمون.. وهذه نزعة معروفة في الفكر الغربي باسم النزعة اللفظية أي الغرق في التيه اللفظي فلا يجب أن نستسلم لها.. فالهدف هو إيجاد حالة من التناسق والتناغم بين حياة الفرد والمجتمع وبين الثوابت الإيمانية الإسلامية.. والأسلمة في هذا الصدد مقصود بها وضع إطار فكري قابل للتنفيذ العملي ومستمد من التعاليم الإسلامية.. ونحن نريد أن نحذو حذو أسلافنا عندما اطلعوا على الحضارات الأخرى فأخذوا منها ما يناسبهم واحتفظوا بخصوصيتهم الإسلامية فحققوا التواصل الحضاري، والتفاعل بين الثقافات.

* هل يمكن أن نقول إن هناك علوم مسلمة وعلوم غير مسلمة؟

** للإجابة على هذا السؤال لا بد من إيضاح أمرين: الأول أن ما يكتشف من علوم هي قوانين موجودة في الكون منذ خلقه الله تعالى.. واكتشاف هذه القوانين يجعله الله على أيدي من يشاء من عباده [كلاً نمد هؤلاء وهؤلاء من عطاء ربك وما كان عطاء ربك محظورا] فإن كان الاكتشاف على يد كافر فهو حجة عليه وإن كان على يد مؤمن زاده الله إيماناً.. الأمر الثاني أن التعريف العلمي للعلم لا يقتصر على اكتشاف القوانين العلمية.. فالقوانين موجودة قبل وجود الإنسان ولكن العلم لا تكتمل رسالته إلى بعد الاستفادة من تطبيقات هذه القوانين العلمية وتوظيفها لفهم العلاقة بين الله والكون والإنسان.. وهنا يأتي دور التوجيه الإسلامي للعلوم أو أسلمة العلوم.. فقد أراد الله للعلم أن يكون نافعا لخير البشرية ولإعمار الأرض ، فإذا حاد العلم عن هذا الطريق فإنه يحيد عن رسالته ومن ثم يجب أن نعود به إلى طريقه السوي.

* علومنا كلها تأتينا من الغرب ونحن مستهلكون لها فقط.. فهل تستقيم دعوى توجيه العلوم إسلاميا مع هذا الواقع المتخلف الذي نعيشه؟

** حقائق التاريخ تؤكد أن العلم ميراث مشترك للإنسانية كلها.. ساهمت في صنعه جميع الأمم على مر الأجيال والعصور وشاءت إرادة الله أن تنتقل مقاليد الحضارة من أمة إلى أخرى.. والتواصل والتفاعل الحضاري شرط أساسي لاستمرار الحضارة.. حتى الحضارة المادية المعاصرة لا يمكن أن تضمن لنفسها الاستمرار بمعزل عن حضارات الأمم المجاورة.. والحكمة ضالة المؤمن أينما وجدها فهو أحق بها والتفاعل والتكامل مع الحضارات الأخرى لا يقلل من رسالة إسلامية المعرفة بل هو من أهدافها.

* هل نستطيع أن نتبنى خططا تكنولوجية فعالة ومؤثرة في ظل إمكاناتنا الهزيلة وأحوالنا العلمية المتردية؟

** نحن بإمكاناتنا يمكن أن نتفوق في تقنيات كثيرة مثل تقنية الزراعة واستصلاح الأراضي ومقاومة التصحر، والأدوية، وإعادة دراسة الأعشاب الطبية، والسياحة، مع استفادتنا من التفوق الغربي في هذه المجالات.. وهذا أمل ممكن تحقيقه.. المهم في مراكز التدريب والتعليم الفني عالي المستوى.

* ونحن نتحدث عن تخلفنا العلمي.. ما هي - من وجهة نظرك- مقومات التقدم العلمي والتكنولوجي؟ وكيف نستطيع أن نمتلك ما نفتقده من تلك المقومات؟

** لحسن الحظ أن أمتنا الإسلامية مرت بتجربة حضارية رائدة قامت فيها النهضة العلمية على عوامل معروفة يأتي في مقدمتها تعاليم الإسلام الحنيف، واستخدام اللغة العربية، ونهضة حركة الترجمة، وتهيئة بيئة علمية صالحة للابتكار العلمي، سواء من حيث تكوين العقلية الإسلامية الرشيدة التي استطاعت أن تصطنع لأول مرة في تاريخ العلم منهجا علميا سليما تطورت بفضله كل العلوم الكونية التي نجني ثمارها اليوم، أو من حيث رعاية الحكام والمسئولين لقضية النهضة العلمية والتعويل عليها في تحقيق التقدم الحضاري. وفي إطار ما سبق يمكن صياغة نظرية علمية جديدة قادرة على تطوير الواقع الإسلامي في إطار الضوابط الإسلامية.

* تعريب العلوم.. هل يؤدي إلى خدمة البحث العلمي وازدهار العلوم، أم العكس؟

** ذكرنا أن الترجمة مقدمة ضرورية لأية نهضة حضارية.. هكذا فعل أسلافنا في عصر الحضارة الإسلامية، وهكذا فعل الأوروبيون في عصر النهضة الحديثة، وهكذا تفعل أية أمة تحاول النهوض من كبوتها، على نحو ما نجد في روسيا التي تدرس بالروسية، واليابان التي تدرس باللغة اليابانية، و'إسرائيل' التي تدرس بالعبرية.. هذه القضية مفروغ منها. كما أن اللغة العربية ترقى برقي أصحابها وتنحط بانحطاطهم.. لكن لغة القرآن صالحة لأن تكون لغة العالمية مثلما أن الإسلام دين العالمية. وأية دعوة لإسقاط اللغة العربية كمقوم حضاري من شأنها أن تساعد على إبقاء الأمة زمناً أطول في مستنقع التبعية والتخلف.. ثم ما هي اللغة التي ندرس بها اليوم.. الدارس العائد من فرنسا يتحدث بعض الفرنسية والعائد من أمريكا يتحدث بعض الإنجليزية.. وتتوه اللغة في هذا الخضم.

* هل ترى أن أوضاع المسلمين السياسية لها تأثير على وضعهم العلمي؟

** هنا أعود مرة أخرى إلى عصر الحضارة الإسلامية عندما كان العلماء ينتقلون من بلد إلى آخر بحرية تامة دون أي تدخل من جانب السلطات السياسية، التي لم يكن الخلاف بين كياناتها في ذلك الوقت بأقل مما هو الآن، ثم لا بد أن نعترف أن العلم والتقدم العلمي لا يحظى بالاهتمام الأول في عالمنا الإسلامي.. وكلما تحدث كارثة نحاول استحضار العلم لبعض الوقت ثم ننساه بعد ذلك.. إن خطة قومية جريئة ومدعومة بالسلطة ومدروسة سيكون لها أثر كبير، حبذا لو كان هناك صحوة علمية في العالم العربي والإسلامي ككل وتنافس في هذا المجال الشريف. فالتخطيط العلمي لن تنفذه إلا سلطة سياسية، ولن تموله إلا سلطة سياسية، ولن تحميه وتدافع عن مكتسباته إلا سلطة سياسية.

* نحن كمجتمعات إسلامية لدينا مؤسسات شعبية وخيرية ولدينا أدوات خاصة مثل الزكاة والصدقة والوقف والهبة.. كيف يمكن توظيف هذه الأمور لإحداث نهضة علمية وتكنولوجية؟

** الأمة التي تنتظر لقمة العيش والملابس وكل شيء من الآخر، أمة غير جديرة بالحياة على هذه الأرض.. فما بالنا إذا كانت هذه الأمة هي الأمة الإسلامية.. وإذا سلمنا أن العلم والتقنية هما لحمة التقدم وسداه، فإن كل ما يصرف لدعم هذا العلم وتقدمه يأتي من قبيل إعزاز الدولة الإسلامية كما أرادها الله .. وهكذا يمكن أن ننفق على هذه المجالات من الزكاة والصدقات والوقف .. فبدلاً من أن يوقف الناس أراضيهم وعقاراتهم للسكن.. يمكن إقامة مشروعات لتنمية الابتكارات لرعاية الموهوبين وتدريب الشباب على أنماط تقنية عالية.

* في هذا الإطار هل توافق على أن علماءنا فضلوا المال والراحة والهجرة وتركوا بلادهم؟ وكيف يمكن توظيف هذه العقول لخدمة ما نتطلع إليه من تقدم علمي؟

** تفهم الجذور التاريخية لأية مشكلة يساعد على تشخيصها السليم ويمكننا من حلها على نحو أمثل.. فقضية العقول الإسلامية وقدرتها على الإبداع والابتكار كانت ولا تزال محل إنكار من جانب المستشرقين الذين اتهموها بأنها عقلية صحراوية لا تستطيع أن تكتشف أو تؤلف قوانين علمية، واجتهدوا في أسانيد مختلفة حسبوها علمية لاستنادها على ما يسمى بعلم الإنسان حتى يصدقها الناس.. لكن حقائق التاريخ تثبت عكس ذلك تماماً.. بدليل تهافت الدول المتقدمة على إغراء العقول الإسلامية والإفادة منها في مواقع حساسة جداً قد تكون مغلقة على أهل البلاد أنفسهم.. وإذا كان الرباط بين هذه العقول وعقيدتها وبلادها ضعيف فإنها تستسلم لإغراءات الطرف الآخر المادية وتعيش في كنفه.. لكن مسئولية الإفادة من هذه العقول المهاجرة تقع أساسا على عاتق الهيئات المسئولة عن رعايتهم في بلادهم.

* مستوى الخريجين لدينا.. وأحوال جامعاتنا ومدارسنا.. ومستوى المدرس ومشاكله هل له صلة بقضية التخلف التي نعاني منها؟

** التخلف لا يتجزأ.. والإصلاح لا بد أن يبدأ من التعليم.. ولا يمكن أن يأتي التعليم ثماره إلا إذا حدث انسجام كامل بين عقيدة الفرد وما يقدم له من معارف.. ولا يمكن في ظل الازدواج التعليمي الذي يغلب على معظم الدول الإسلامية أن يتحقق هذا الانسجام الذي تأخذ به كل الدول المتقدمة، ولا يمكن ترك النظام التعليمي الحالي ليجد مخرجاً بنفسه دون رعاية وتوجيه من أولي الأمر.

* أين الأمل والمخرج لما نعانيه من مشكلات وتخلف؟

* * من حسن الحظ أن الواقع العلمي المعاصر يشهد تطوراً هائلاً لصالح الفكرة الإسلامية فالنظريات العلمية من جهة تشهد تحولاً خطيرا.

فبميلاد نظريات تبحث في عالم المتناهيات في الصغر، كالذرة ونواتها، والخلية ودقائقها، وعالم المتناهيات في الكبر، كالمجرات وما وراءها.. أصبح العلم التجريبي يبحث في أمور كانت تعتبر من الميتافيزيقا، وهنا أصبحت العقلية المادية الغربية التي عاشت طوال القرنين الماضيين فريسة فلسفات وضعية وتأخذها على أنها دين اجتماعي يلهث وراء النظريات العلمية، أصبحت الآن في فراغ فكري لدخول الفكر الإسلامي بجناحيه المادي والإيماني للإجابة على كل تساؤلات العقليات المعاصرة. وإذا وصل الفكر الإسلامي إلى عقلاء الغرب ومفكريه سيكونون أول من يتبنى الدعوة إلى أسلمة العلوم لإنقاذ الحضارة المادية المعاصرة من القبر الذي تحفره لنفسها، وهذا من شأنه أن يلقي مزيدا من العبء والمسئولية على حملة التنوير في عصرنا.

=========

#التأديب بالضرب بين الإسلام والفكر الغربي

الأربعاء 25جمادى الأولى 1427هـ – 21يونيو 2006م

الصفحة الرئيسة

- في أمريكا: زوج يضرب زوجته كل 15 ثانية.

- اللجوء إلى الضرب جزء بسيط من فلسفة الإسلام في التأديب.

- الحفاظ على هيبة الأب والزوج ضرورة.

- العلمانيون في بلادنا يخوضون المعركة على أسس غربية.

منى محروس

مفكرة الإسلام: سافر الشاب المسلم الحريص على دينه إلى الولايات المتحدة واستقر به المقام هناك وتزوج أمريكية وأنجب منها .. وكبر الأبناء وأصبح أحدهم في المرحلة الإعدادية. ذات يوم تغيب عن المنزل فقلق عليه أبوه قلقاً شديداً .. وجاء الابن في اليوم التالي وأخبر أباه أنه كان في رحلة مع أصدقائه .. الأب رغم أنه أصبح أمريكي الجنسية إلا أن الإسلام مازال يسيطر على فكره وشخصيته .. فلم يعجبه هذا العوج من ابنه فوبخه وضربه ليقومه.

وفي اليوم التالي ذهب الابن للمدرسة وعليه آثار الإرهاق وحينما سألته المعلمة عن سبب ذلك عرفت منه أن أباه ضربه فارتعدت فرائسها وقالت له لقد انتهى عهد العبودية وأبلغت الشرطة التي استدعت بدورها الأب لتنذره أنه إذا تكرر منه ذلك فسوف تدفع بالابن إلى مدرسة داخلية وتنهي العلاقة بينه وبين أبيه.

فالمجتمع الأمريكي والغربي عموماً –كما يزعمون- يرفض الضرب الذي يذكرهم بالعبودية، لكن هل قضت القوانين والحريات المتاحة حقاً على ظاهرة الضرب هذه؟.

تقول الإحصاءات إن في أمريكا كل 15 ثانية يضرب أحد الأزواج زوجته ضرباً مبرحاً، وفي فرنسا توجد وزارة لشئون المرأة تطالب بتشريعات جديدة وبتكوين شرطة خاصة لإبلاغها بضرب الزوجات والأولاد ويطالبون أيضاً بمحاكم أسرية خاصة.

أما في إنجلترا فأصبحت ظاهرة الضرب [ضرب الأزواج للزوجات] محلاً للشكوى ، وفي وروسيا انتشرت الظاهرة على نطاق واسع .. لكثرة عدد الأزواج العاطلين ونتيجة للحياة الاقتصادية الصعبة وأصبح الأزواج ينفثون عن أنفسهم بضرب زوجاتهم. وهكذا فرغم النفور الشديد من الضرب سواء ضرب الزوج لزوجته أو ضرب الأب لأبنائه في الغرب ورغم القوانين التي تمنع ذلك لم تتوقف الظاهرة بل تزداد انتشاراً.

وطبعاً استوردت الجمعيات النسائية في مجتمعاتنا الأفكار الغربية .. باعتبار الزوج الذي يؤدب زوجته بالضرب غير آدمي .. ويطالبون المرأة أن ترفع عليه قضية طلاق .. وكذلك يطالبون بألا يضرب الأب ابنه .. بل لابد في عرفهم أن يعتذر ويتأسف الأب لابنه إذا أخطأ في حقه.

الغيظ يملأ قلوب الغرب ضدنا

تقول د. زينب منصور أستاذ مناهج التربية: إن الشريعة الإسلامية فيها التوسعة حسب الأحوال فالبشر بطبعهم مختلفون ما يصلح لأحدهم لا يصلح للآخر .. فلو قلنا بعدم الضرب نهائياً يمكن أن يظل قطاع عريض من النساء على نشوزهن وتمردهن.

إن القرآن يتدرج حسب كل حالة فهناك من تتأثر بمجرد نظرة العين وربما يؤثر فيها الكلام الزائد تأثيراً عكسياً، وهناك من تتأذى بالهجر وبالتالي يكون فيه تأديب لها وتخويف وإصلاح لاعوجاج حالها، ومن النساء وكما هو مجرب في دنيا الناس من لا تتأثر إلا بالضرب .. ولا يناسب جرمها واعوجاجها الكبير إلا الضرب لأنها استهانت بالعظة والهجر .. وبالتالي فإن الآية حجة للإسلام وليست حجة عليه، فبها توسعة وفيها تفصيل وفيها تدرج.

وترى د. أسماء زايد الخبيرة الاجتماعية: إن الحفاظ على شخصية الأب ضروري جداً .. فالابن لابد أن يشعر بل ويتأكد بأن هناك سلطة أبوية لا يمكنه تجاوزها.

وأن علاقته مع والديه لها حدود وضوابط لا يتعداها .. ودعوى صداقة الابن لأبيه أفسدت كثيراً من الأسر بسبب إضاعتها لهيبة وشخصية الأب.

فهناك أخطاء للأطفال لا يمكن علاجها إلا بالتخويف والضرب الخفيف .. بشرط ألا يتكرر الضرب باستمرار حتى لا يتعود عليه الطفل وبالتالي يفقد قيمته كعامل مؤثر في التقويم.

وتضيف د.أسماء زايد: إننا ينبغي أن نؤمن بكل ما جاء في القرآن .. ولا ننهزم أمام الغرب وأمام دعاوى الاستنارة وحقوق الإنسان والحرية فنلغي ديننا تدريجياً.

الضرب ورد في القرآن كمرحلة أخيرة في التأديب ينبغي أن تسبقها مراحل أخرى .. فلا يجوز أن نبدأ التأديب بالضرب.

والعجيب أن المجتمعات الغربية التي تعيب علينا وتقول إن ديننا يحض على الضرب نجد أن أسرهم مفككة محطمة .. والغيظ يملأ قلوبهم من ترابط أسرنا وهم يعلمون أن سبب ذلك هو ديننا .. فيصدرون إلينا أفكارهم لتفكك هذه الروابط.

والغريب أن العلمانيين والمتغربين الذين آمنوا بهذا الفكر الغربي هم أكثر القطاعات في مجتمعنا تعاني التفكك الأسري .. فلو لم يكن الزوج عندهم يضرب زوجته باستمرار .. نجد أن الزوجة هي التي تضرب زوجها. نحن المسلمين يجب ألا ندافع أبداً وننكمش وننهزم فنحن نؤمن بقرآننا وبمصطلحاتنا من عند السميع العليم الأعلم بكيفية إصلاح أحوال عبيده.

المفرطون في دينهم هم الذين يضربون زوجاتهم

يرى د. محمد همام الفلسفة الإسلامية أن موضوع التأديب عموماً يستخدم من أجهزة الدعاية المعادية للإسلام في غير موضعه. فالغرب من حيث المبدأ لا يرتب حقوقاً للزوج على الزوجة فنظام الزواج عندهم سواء كان دينياً يتم في الكنيسة أو مدنياً يتم في الشهر العقاري لا يرتب للزوج حقوقاً من قبل زوجته كما في الإسلام. والتأديب في الإسلام يتم في إطار حقوق الزوج من ناحية وفي إطار مسئولياته من ناحية أخرى. والإسلام لا ينظر للتأديب على أنه حق للزوج على الزوجة ولكن على أساس مسئوليته، فالزوج مسئول عن نظام الأسرة ومراعاة شئونها وتأديب أفرادها وضبط سلوكهم. في الغرب تنحصر مسئولية الزوج في الرعاية .. وهذه الرعاية عندهم مفهومها مبهم وغير محدد. ونتيجة لهذا الاختلاف الأساسي في المفاهيم يعتبر الغرب التأديب في حد ذاته امتهان للحقوق الإنسانية.

وإذا قال الغرب إن ضرب المرأة يسبب لها ضرراً فهل يتساوى هذا الضرر مع إباحة الشذوذ الجنسي للمرأة والذي يسبب لها ضرراً فعلياً حيث إنها لن تتزوج ولن تنجب أطفالاً ولن تروي أمومتها.

ويضيف د. محمد همام إن الفتاة لو تربت على خلق قويم وبأسلوب تربوي جيد فهذا سيجعلها تشعر بالمسئولية وسيبني شخصيتها على رجاحة العقل وبالتالي فحينما تتزوج فسوف يكون بينها وبين زوجها أرضية مشتركة ولن يحتاج الزوج في تقويمها إلى التوبيخ أو الضرب. أما إذا لم تحظ الفتاة بهذا القدر من التربية الإسلامية والخلق الإسلامي وكانت على قدر من المشاكسة والشراسة والنفور فإن التشاور والنصح الهادئ سوف يكون غير مجد، وبالتالي يضطر الزوج إلى الاختيار من البدائل الأخرى. والزوج العاقل لا يستخدم البدائل العنيفة أولاً بل يبدأ كما نصحه القرآن بالتدرج التصاعدي وينظر لطبيعة الزوجة وسلوكها وإلى أنجع الطرق للتعامل معها.

وينبه د. محمد همام إلى نقطة هامة وهي أن هناك فئة من الآباء والأزواج لا تلتزم بالفرائض والقيم الإسلامية فهم لا يصلون ولا يصومون ويشربون الخمر والمخدرات ويأتون السلوك الفاحش، وهؤلاء يضربون زوجاتهم وأولادهم ويحتجون بحقهم الشرعي. وبالتالي فنحن يجب أن نفرق بين رجل مسلم واع يلجأ إلى الرخصة الإسلامية بقدرها وفي وقتها وبشروطها وبين شخص آخر غير ملتزم بالإسلام ولكنه يستخدم الإسلام في تبرير سلوكه العدواني ضد زوجته وأولاده. فالضرب حالة استثنائية أي أنه يستخدم في حالات معينة ويمارس بقدره وبغرض الإصلاح. أما هؤلاء الفاشلون فيمارسون الضرب في كل وقت وبأسلوب عنيف وشرس ويهدفون إلى الإيذاء والإذلال والحط من كرامة الزوجة وليس بهدف الإصلاح.

انتقادات الغرب لنا يجب أن تزيدنا اعتزازاً بديننا

أما د. أحمد المحجوب أستاذ علم الاجتماع فيقول: إن للغرب أن يعتقد ما يشاء من العقائد وأن يتصرف بأي نوع من أنواع السلوك وأن يقيم مجتمعاته ونظمه كما يريد. فإذا شاء أن يجعل الأسرة عبارة عن امرأة تتزوج امرأة أو رجل يتزوج رجلاً أو رجل يتزوج امرأة ويعيش معه رجل آخر في المنزل فله ذلك. وإذا أراد أن يعطي الفتاة مطلق الحرية الجنسية بعد الزواج وقبله وكذلك الفتى وأن يجعل كما يحدث الآن للزوجة يوماً تترك فيه بيت زوجها لتذهب لصديقها وأن يجعل للزوج يوماً مثله فله ما يريد.

لكن المشكلة أن الغرب يريد أن يصدر إلينا هذه الأنماط المشوهة من العلاقات الاجتماعية ويجعلنا نؤمن بها وننفذها في بلادنا. إن الغرب في غيظ شديد من تماسك الأسرة المسلمة .. ويعلمون أنها أقوى الأسر تماسكاً في العالم، وهذا التماسك ناتج عن فلسفة إسلامية معينة في بنائها، ومنها حق الزوج في تأديب زوجته وأولاده.

وهذا الحق استثنائي ومشروط بشروط، فمن الأخطاء ما لا ينفع معها إلا الضرب.

إن الغرب وأتباعه في بلادنا كثيراً ما يتهجمون على الإسلام ونحن ينبغي ألا نهتز من ذلك بل يزيد اقتناعنا بالإسلام الذي حفظ أسرنا ومجتمعاتنا هذه المئات من السنين، ولا ننتظر من غرب الحملات الصليبية والاستعمار الحديث وراعي الصهيونية أن يفعل غير هذا.

ويضيف د. أحمد المجدوب: إن أسلوب بناء الأسرة في الغرب سيكون هو نهاية الحضارة الغربية كلها، فحالات الطلاق وعدم الزواج وعدم الإنجاب والانصراف عن تكوين الأسرة والشذوذ. الخ. كل ذلك هو السوس الذي ينخر في عظم الحضارة الغربية وسوف يقوضها بأسرع مما نظن.

إن المرأة عندما تجد الضرب مشوبا ومصحوبا بحنان الضارب فهي حينئذ ستطيعه من نفسها، لأنها ستدرك بذلك أن المسألة ليست استذلالا إنما إصلاح.

هذا هو الفهم الإسلامي الصحيح لقضية الضرب بأنه التأديب المصحوب بعاطفة المؤدب المربي وهو الزجر وليس بمعنى الإيلام والإهانة، لذا فلتنكس سهام كل أولئك الذين هاجموا الإسلام واتهموه بأن علاجه للمشاكل الزوجية علاج صحراوي جاف لا يتفق مع طبيعة التحضر الذي يعمل على تكريم الزوجة وإعزازها. وقد جاراهم في ذلك بعض من أبناء الإسلام الذين طاروا وراء أفكار الغرب، وما علموا أن الإسلام لم يأت لجيل معين ولا لجماعة خاصة أو إقليم خاص أو بيئة محددة إنما هو إرشاد وتشريع عام لكل جيل وبيئة وعصر.

الموقف الشرعي

ويوضح د. عثمان مشهور الأستاذ في جامعة الأزهر هذه القضية بقوله: لقد استغل أعداء الإسلام مصطلح [الضرب] كما ورد في حق الزوج بتأديب زوجته، ليشيعوا بأن الزوجة في الإسلام مخلوق يتوجب على الزوج ضربه باستمرار وبسبب وبدون سبب، وأن الزوجة وسيلة تنفيث عن غضب الزوج، وتمتلئ كتب المستشرقين بالكتابات الحاقدة التي تصور الرجل المسلم لا يتوانى عن سلخ جلد زوجته بدون أي سبب في حين يعطف على ناقته، أي أن المرأة في الإسلام أقل قيمة من الناقة !!

وبالطبع لسنا هنا في صدد الرد على كتابات الحاقدين على الإسلام والمسلمين، بقدر ما نحن أمام توضيح حقيقة مفهوم الضرب التأديبي ضمن العلاقة الزوجية، فقد أباح الشرع للزوج أن يضرب زوجته لتأديبها، ولكن هذه الإباحة لا تصبح حقاً للزوج إلا بعد أن يستنفذ أسلوبي التأديب، وهما: الوعظ أولاً، ثم الهجر في المضجع ثانياً، وبعد أن يستنفذ الزوج هاتين الوسيلتين ويتأكد من عدم نجاحهما في تأديب زوجته، وبالتالي فللقاضي الذي تعرض عليه حالة ضرب زوج لزوجته أن يتأكد إن كان الزوج قد لجأ أولاً إلى الوعظ ثم إلى الهجر، فإن ثبت لديه أنه لم يلجأ إليهما وبدأ بوسيلة الضرب أولاً فله أن يحكم لصالح الزوجة ويعاقب الزوج. وقد وضع الشرع قيوداً كثيرة على حق الزوج في استعمال الضرب لزوجته كأسلوب تأديب.

وأولها: القيد النفسي؛ وهو: أن الزوج إذا قدّر بأن تأديب زوجته لا يكون إلا بالضرب الشديد المؤلم فلا يجوز له الضرب، كما لا يجوز له الضرب إذا كان غاضباً أو في حالة عصبية أو نفسية شديدة، بل يجب أن يستعمل حق الضرب وهو بحالة نفسية واعية وهادئة وبتقدير مسبق أنه لا يضرب زوجته بهدف إهانتها أو إيذائها، بل بهدف تقويمها وتأديبها وإعادتها إلى جادة الصواب وبما يقوي الحياة الزوجية والأسرية.

القيد الثاني هو: ألا يكون الضربُ مبرّحاً، وهو ما أمر به الرسول صلى الله عليه وسلم بقوله: 'فاضربوهن إذا عصينكم في المعروف ضرباً غير مبرح'، وهو تأكيدٌ على أنه لا يجوز للزوج أن يضرب زوجته ضرباً عند نشوزها ضرباً مبرحاً، حتى لو كانت لا يمكن أن تترك نشوزها إلا بالضرب المبرح، وبالتالي يجب أن يكون ضربه لها ضرباً بسيطاً لا يُغير لوناً أو يسبب كسراً أو جُرحاً ولا يسيل دماً.

ثم يأتي قيد وسيلة الضرب، وقد ذهب كثير من الفقهاء إلى أن الضرب يجب أن يكون باليد أو بمنديل لا غير، وذهب آخرون إلى جواز استعمال السوط أو العصا شرط أن يكون الضرب خفيفاً، أي على مبدأ التلويح بالعصا أكثر من الضرب بها.

وهناك قيدٌ يتعلق بمكان الضرب، إذْ يجب ألا يكون على الوجه لقوله صلى الله عليه وسلم: 'ولا تضرب الوجه ولا تُقَبِّح..'، ونهى عليه الصلاة والسلام عن ضرب المواقع الحساسة كالرأس والصدر والثديين والقلب والبطن والفرج، لما في الضرب على هذه الأماكن من خطر الإيذاء، وذهب عدد من الفقهاء إلى أن الضرب يجب ألا يزيد على عشر لقول الرسول صلى الله عليه وسلم: 'لا يجلد أحد فوق عشر جلدات إلا في حد من حدود الله'؛ وهناك من يرى ألا يتجاوز الضرب ثلاثاً.

وهكذا نجد أن الشرع قد وضع قيوداً كثيرة على الضرب، كوسيلة تأديب للزوجة، فجعله بعد الوعظ والهجر، وجعله في إطار أن يكون الرجل حسن النية في تأديب زوجته وإصلاحها، بما يُرضي الله ويحافظ على العلاقة الأسرية والزوجية في إطارها الصحيح والمتين، وهو ما يعني أن الزوج لو استهدف من وعظه أو هجره لزوجته الانتقام أو الإهانة، أو حملها على معصية معينة، أو إنفاق مالها في وجه لا ترضاه، فإن فعله في هذه الحالة لا يُعدّ تأديباً وللقاضي أن يعتبر فعله جنائياً يستوجب العقوبة الجنائية، كما أن الضرب لو أدى إلى أذية جسدية أو عاهة مؤقتة أو مستديمة فإن الزوج يعتبر قد تجاوز حقه المقرر له في الشرع ويستوجب العقاب.

==============

#لماذا الخوف من الإسلام في الغرب؟

الأربعاء 11جمادى الأولى1427هـ – 7 يونيو 2006م

الصفحة الرئيسة

مفكرة الإسلام: بين أيدينا اليوم موضوع أحسب أن له أهمية كبيرة وظاهرة إن جاز لنا أن نسميها هكذا, تلك الظاهرة تدعو إلى التعجب.. ألا وهي ظاهرة تخوف المجتمع الغربي من الإسلام, ترى لماذا يخشى الغرب من الإسلام؟! ثم هل لذلك الخوف أسس في الواقع؟! أو بمعنى آخر هل المجتمع الغربي محق في خوفه؟! ثم هل لذلك الخوف أثر على المسلمين عامة وعلى من يعيشون في الغرب خاصة؟! أسئلة كثيرة نطرحها ونحاول وضع إجابات من واقع هؤلاء القوم.

إن التخوف من الإسلام حقيقة ما هو إلا توجهات ومواقف لمعارضة معتقدات المسلمين وممارستهم لشعائرهم والتزامهم بشريعتهم والتحامل عليهم, إلا أننا - وحتى نكون منصفين - لابد لنا من أن نستمع لوجهة نظر الطرف الآخر لتفسيره لذلك الخوف.

إن المتخوفين من الإسلام في الغرب يرفضون رفضًا قاطعًا انتقادات المسلمين للثقافات والمجتمعات الغربية ويعتبرون تخوفهم من الإسلام شيئًا طبيعيًا غير قابل للنقاش أو الجدل.

ويبدو أنه انطلاقًا من الاقتران المتكرر الذي يمكن ملاحظته في مسيرة التاريخ، الذي يوحي وكأن هناك نوعًا من العلاقة الحتمية بين صعود نجم الحضارة الإسلامية وانحدار نظيرتها الغربية السبب الرئيس في حالة الخوف التي تنتاب الغرب من الإسلام.

وعلى سبيل المثال فإن دحر جحافل الروم والفرس وامتداد التوسع والمد الإسلامي لقرون طويلة متلاحقة قد تسبب في العداء من ناحية الغرب؛ حيث إنه الوريث الأصلي للإمبراطورية الرومانية.

وكذلك مواقف المجابهة العنيفة بين الإسلام والغرب - والتي سجلها التاريخ متمثلة في فتح الأندلس والقسطنطينية وموقعة بلاط الشهداء, والتي لو انتصر المسلمون فيها لدخل الإسلام إلى باريس - كانت من الأسباب التي رسخت الخوف من الإسلام في نفوس أهل المجتمع الغربي.

ويرى الكثيرون من الغربيين أن القرآن ذلك الكتاب العظيم غذاء بلا فكر, كما أن المسلمين أي من يتخذون ذلك الكتاب الذي لا ريب فيه منهجًا ما هم إلا قوم متخلفون وأشرار ومتحجرون وغير قابلين للتغيير والتطور بخلاف الديانات والثقافات الأخرى, وأنهم يستخدمون الإسلام بشكل أساسي لتحقيق أغراض سياسية وعسكرية, وقد ساهم في ترسيخ هذه الأفكار المكذوبة اليهود الذين لعبوا دورًا خبيثًا في تقديم صورة مزيفة ومشوهة وسيئة عن الإسلام والمسلمين.

وقد كان لهذا الدور الخبيث أثر كبير في تخوف الغربيين من خطر إسلامي متصاعد، وخشيتهم من الحرب الإسلامية ـ الغربية القادمة, واعتبروا أن المسلمين يشكلون تهديدًا أكيدًا للغرب المسيحي, كما يعتبرون أن التطور الشديد السرعة للأصولية الإسلامية هو التهديد الأعظم للسلام والأمن العالميين بزعمهم.

ويعد الجهل بالإسلام وتعاليمه وأخلاقياته السبب الرئيس للخوف منه, فمن الطبيعي أن الإنسان دائمًا يخاف مما يجهله.

كما أن رفضهم التضحية بالمكاسب الرخيصة التي جنوها من استغلالهم الناس وإشاعتهم الفاحشة وانتشار الرذيلة وكذلك تعظيم الربح واللذة والمنفعة الخاصة, وعلى سبيل المثال حرية المقامرة، وتناول الكحول، والاشتغال بالربا وممارسة البغاء والعلاقات الجنسية المثلية، والسماح بالعلاقات الجنسية خارج إطار الزوجية, من الأسباب الرئيسة التي جعلتهم يخافون الإسلام؛ وذلك لأنهم يعتبرون الإسلام وتعاليمه تهديدًا لهذه السلوكيات التي يعتبرونها من أساسيات الحرية التي يدعون أنهم من أرسو قواعدها.

وهناك أيضًا الخلط بين الإسلام والواقع الذي يعيشه غالب المسلمين, فهناك دول إسلامية عديدة قد اجتاحها شبح المجاعات وافترس وحش الجوع مئات الآلاف من أبنائها, بل إن هناك أكثر من نصف مليار مسلم يعيشون تحت خط الفقر؛ وذلك بسبب انتشار الفساد وسوء الإدارة واختلال العدالة في توزيع الموارد والثروات, وعلى الرغم من أن تلك الأخلاقيات مرتبطة بالممارسات التي ينتهجها من يحسبون على الإسلام وهو من سلوكياتهم براء, إلا أنها أصبحت تهمة في حق الإسلام نفسه كدين من جهة الغرب.

مما سبق يتضح أن الخوف من الإسلام أمر واقع في المجتمع الغربي من وجهة نظرهم التي دائمًا وأبدًا على مدى التاريخ تأبى إلا أن تضع الإسلام والمسلمين في قفص الاتهام بهتانًا وزورًا.

وللأسف فإن لهذه الفرية التي هي خوف الغرب من الإسلام آثار سلبية كثيرة على المسلمين عامة وعلى من يستوطنون تلك المجتمعات من المسلمين خاصة, ومن هذه الآثار على سبيل الحصر لا التفصيل:

الحيلولة دون تحقيق التعاون الحقيقي بين المسلمين وغيرهم من الديانات الأخرى, هذا التعاون الذي يمكن أن يساعد على توفير حل مشترك لقضايا المجتمع الإسلامي المستعصية, كما أن من شأن التخوف من الإسلام أن يحطم العلاقات الدولية والدبلوماسية والتجارية وغيرها بين دول العالم الإسلامي وغيرها من دول الغرب.

كما أنه يمثل بالنسبة للمسلمين في الغرب تهديدًا خطيرًا وارتفاعًا في نسبة البطالة, وإنكارًا للحقوق المتساوية في مدارسهم, والتفرقة على أسس دينية وعنصرية, والمضايقات والعنف والقيود على الحرية الشخصية والإحساس بالانتماء الذي يتعرض له المسلمون في الغرب لا لجريرة ارتكبوها, بل فقط لأنهم مسلمون ينتمون للدين الإسلامي, كما يحرمهم من القيام بدورهم البارز في السياسة الوطنية لتلك البلاد.

ووصل الأمر بسبب فرية التخوف من الإسلام إلى التحريض وإثارة الأحقاد الدينية, والذي يمكن أن يشمل إهانة وتدنيس المقدسات الإسلامية وانتهاك الحرمات الدينية, والتي تمثلت أخيرًا في انتهاك حرمة نبينا الكريم عليه أفضل الصلاة وأزكى السلام حسدًا من عند أنفسهم.

وهكذا أصبحت ما تسمى بمشكلة الخوف من الإسلام الذريعة التي يتخذها الغرب الصليبي أساسًا في سياساته الحقودة ضد المسلمين في كل مكان, رد الله كيد الكافرين إلى نحورهم, وأبطل مزاعمهم ونصرنا عليهم بقوته وحوله, إنه على ما يشاء قدير.. وإلى اللقاء إن أحيانا الله على طاعته وفي سبيل إعلاء كلمته.

==============

#حوار الحضارات.. نظرة عبر التاريخ

الثلاثاء 3 جمادى الأولى1427هـ – 30 مايو 2006م

الصفحة الرئيسة

مفكرة الإسلام: وبعد أن تعرفنا معًا في المرة السابقة على مصطلح حوار الأديان، وفرّقنا بينه وبين حوار الحضارات، وقبل ذلك تكلمنا عن شرعية الحوار ومقاصده.

نتكلم في هذا المقال عن حوار الحضارات من منظور آخر، ومن زاوية مختلفة, فنتناول الموضوع ليس من زاوية الثوابت والمرتكزات, ولكن من جانب النظرة العامة والتاريخية لمفهوم الحضارة, وكيف كان تفاعل الحضارات فيما بينها في الماضي.. ونبدأ كلامنا بسؤال منطقي بحت...

هل حوار الحضارات ممكن؟!

هل يمكن أن يجتمع ممثلو حضارة معينة، ويتحاوروا مع ذويهم من ممثلي الحضارات الأخرى، ويتحاوروا في النتاجات الثقافية، والفكرية، والاقتصادية، والاجتماعية، والدينية... وغيرها من الإفرازات الحضارية؟!

هل يمكن أن يتجنب العالم ويلات الاكتواء بنيران الحروب والصراعات بين القوى العالمية من خلال الحوار الحضاري والتعايش السلمي بين الحضارات.

الظاهر أن هذا غير ممكن لعدة أسباب رئيسة:

* الأول: أن الحضارات لا تتحاور, بل يستفيد بعضها من بعض، فالعالم كان في حقبة من أحقابه عبارة عن حضارة مركزية مزدهرة تسود العالم، وتتعايش مع حضارات أخرى أقدم, أو مستسلمة لضعفها، أو تحاول النهوض بالاستفادة والاقتباس من الحضارة الأقوى.

فأوروبا – على سبيل المثال - كانت في العصور المظلمة يأتي طلابها إلى المدارس الإسلامية ببغداد والأندلس, فيتعلمون منها, ثم أصبحت الحضارة الغربية هي الرائدة، وتخلفت الحضارة الإسلامية.

لذا فهذا يعد صراعًا حضاريًا - أو بعبارة أخرى - تنافسًا حضاريًا، بين قوي، وضعيف يحاول النهوض.

* الثاني: فإذا كان الحال غير ذلك، وكانت هناك حضارتان قويتان؛ فكل منهما يسعى إلى الهيمنة والريادة، فالكل ينظر إلى نفسه أنه هو المستحق لقيادة العالم؛ بما وصل إليه من تقدم وقوة، لذا فغالبًا ما يحدث الصدام وتتبادل الحضارتان الحروب كما كان الحال بين الفرس والروم, أو بين إنجلترا وفرنسا, أو بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي.

* الثالث: إن الأحداث التاريخية تجري على نسق ما نقول، فالعالم في أحلك الظروف، وفي أشد أوقات الصراع؛ لم يسبق أن حدث فيه يومًا حوار بين الحضارات المتلاحمة، حتى يتعايش الجميع على سطح الكوكب، وكل منهم يعترف بالآخر، ولا يسعى للهيمنة.

نعم.. قد تحدث هدنة، أو اتفاقيات سلام؛ ولكن ليس حوارًا لتقبل الآخر، والتعايش معه بلا هيمنة طرف على الآخر, لكنه فرصة لالتقاط الأنفاس وتجميع القوى.

فالحوار بين الحلفاء ودول المحور لم يحدث إلا بعد أن تم غزو برلين وسقطت النازية في أيدي الحلفاء, ولم يتم الدخول في مفاوضات إلا بعد أن تم إسقاط شعار النازية وانتحار هتلر.

واليوم نرى الولايات المتحدة، كيف تسعى للهيمنة العالمية؛ بالعولمة تارة، وبالقوة العسكرية تارة، وبالسيطرة الاقتصادية تارة أخرى, فهل يمكن أن يكون الحوار بين الحضارة الأمريكية وبين الحضارات الأخرى كبديل عن التنافس الحضاري؟! بالطبع كلا.

* الرابع: مفهوم الراديكالية عند أصحاب الحضارات, فالحضارة لها جسم وروح، وجسمها يتمثل في منجزاتها المادية: كالمخترعات والمصانع والطائرات والأسلحة والأبنية وغيرها، وروحها تتمثل في مجموعة العقائد والمفاهيم والقيم والآداب والتقاليد التي تتجسد في سلوك الأفراد والجماعات[[1]].

ومن أهم ما يميز أصحاب الحضارة 'العصبية', والتي ذكرها ابن خلدون في مقدمته وقال: إنها العامل الرئيس لقيام الدولة, والتي تتلخص في القوة الجماعية التي تمنح القدرة على المواجهة, سواء كانت المواجهة مطالبة أو دفاعًا.

كما أن قيام الحضارة لا يكون - كما يقول أرنولد توينبي – أنه يكون قائمًا على التحدي للظروف المعيشية والبيئية والمناخية.

لذا فأصحاب الحضارة لهم تمسك شديد بالمبادئ التي أقاموا عليها حضارتهم, بل على اعتقاد جازم أن تلك المبادئ يجب أن تعمم على الصعيد العالمي.

فإذا ما تتبعنا الحضارات على الصعيد التاريخي سنجد أن التفاني في الدفاع عن الثوابت والرغبة الجامحة في تعميم النموذج الحضاري هي الشغل الشاغل لكل أصحاب حضارة.

فإنجلترا وفرنسا والبرتغال والإسبان من قبلهم لما قويت شوكتهم ونمت حضارتهم لم يرتضوا إلا أن تسيطر حضارة كل منهم على الموارد وقوى العالمية.

فرأينا إنجلترا الإمبراطورية التي لا تغيب عنها الشمس من كثرة مستعمراتها على سطح الكوكب.

ورأينا فرنسا ومستعمراتها التي امتدت وتوغلت في إفريقيا ومازالت لها البقية حتى اليوم.

ورأينا الإسبان والبرتغال يعبرون المحيط الأطلسي ويستعمروا أمريكا الجنوبية وأجزاءً من أمريكا الوسطى حتى أصبحت اللغتان – الإسبانية والبرتغالية - هما اللغتين الرسميتين في القارة الجنوبية.

هكذا يفكر أصحاب كل حضارة, ولا مجال للانكماش والتعايش السلمي مع الآخر حال القوة

==============

#كيف عالج الإسلام المشكلات النفسية المعاصرة؟

الثلاثاء 3 جمادى الأولى1427هـ – 30 مايو 2006م

الصفحة الرئيسة

- الغرب أهمل الدين والأخلاق فهاجمته المشكلات النفسية.

- التمسك بالقيم الدينية هو الوسيلة الوحيدة للإشباع النفسي والروحي.

- الانحراف الفكري والذنوب من أهم أسباب الأمراض النفسية.

منى محروس

مفكرة الإسلام: تؤكد الإحصاءات العالمية أن نسبة الانتحار تزايدت في الآونة الأخيرة على مستوى العالم وخاصة العالم المتقدم .. وتزداد هذه النسبة في الدول الاسكندنافية التي يتمتع فيها الفرد بأعلى مستوى معيشة في العالم. لكن على الجانب الآخر زادت حالة التوتر والقلق والاكتئاب مع تزايد ضغوط وأعباء الحياة.. فهل للإسلام علاج لهذه المشكلات النفسية الكبيرة؟

يقول د. سيد صبحي أستاذ الصحة النفسية إن أكبر مشكلة يمكن أن تواجه علماء النفس وعلماء الصحة النفسية هي إقدام الإنسان على الانتحار والتخلص من حياته بصفة كلية .. وهناك عدة أسباب يمكن أن تدفع الإنسان لذلك منها أن يصل المرض النفسي لديه إلى درجة متقدمة ويصبح الشفاء ميئوساً منه، والعلاج غير مجد، ويضغط المرض في تصاعد على أعصاب ونفسية وقدرة هذا المريض وينهار إدراكه وتقييمه لدوره في الحياة فتحدث الأزمة العنيفة فيقدم على الانتحار.

وقد يقدم على الانتحار إنسان وقع في مشكلة كبيرة كأن يكون قد فشل في دراسته أو فشل في زواجه أو شاهد زوجته أو أمه في موقف لا تحتمله قدراته النفسية ولم يستطع التأقلم والاحتمال فتخلص من حياته، وربما أقدم على ذلك تاجر أفلس بعد أن كان ملء السمع والبصر. ولكن الانتحار في أحيان كثيرة يحدث عندما يحقق الإنسان كل أحلامه وطموحاته ولم يعد لديه الأمل والحلم فيحدث لديه إشباع لكل رغباته وهنا يحدث الملل والفراغ فتقع جريمة الانتحار.

وللإسلام علاج هام لهذه المشكلة فقد حرم قتل الإنسان لنفسه وجعل ذلك كبيرة ربما تكون مساوية للكفر، وأن من يقدم عليها فإنه يختم حياته بالكفر، وبالتالي استحق العذاب الأليم. والمسلم الذي يتوضأ في اليوم خمس مرات ويصلي خمس مرات على الأقل ويسمع الوعظ الديني يحسن إدراكه لفلسفة الوجود ودوره في هذا الكون وأنه مخلوق لرسالة معينة وهي عبادة الله وأنه يجب أن يسلم بقضاء الله ويتأقلم معه، ويستغفر الله ويطلب عفوه، ويندم على ذنوبه، وهنا يكون لديه الأمل المتواصل في عفو الله .. وبالتالي لن يقدم على الانتحار لأنه أكبر الكبائر والمسلم لا يرضى لنفسه أن يموت عل الكفر وأن يعير أبناؤه بعد ذلك بأبيهم الذي مات منتحراً، ومن فضل الله أن نسبة الانتحار في الدول الإسلامية أقل ما يمكن وذلك بفعل العقيدة الإسلامية التي يؤمن بها المسلم.

الغرب أهمل التربية الدينية فكثرت فيه الأمراض النفسية

أما د. سعيدة أبو سوسو رئيس قسم علم النفس بكلية الدراسات الإنسانية بجامعة الأزهر فتقول إن القلق والاكتئاب والتوتر من سمات العصر الحديث .. والنساء أكثر تأثراً بهذه الأمراض حسب ما تؤكده الإحصاءات .. لأن المرأة عاطفتها عالية وقدرتها الانفعالية عالية إلى جانب أنها ضعيفة بتكوينها الفطري، ومن ثم فهي أكثر تأثراً بالظروف المحيطة بها .. ولكننا يجب أن ندرك أن التمسك بالقيم الدينية على مستوى الأفراد والجماعات هو الوسيلة الوحيدة والحل للإشباع الروحي والنفسي .. ويجب أن ندعم ذلك حتى لا تقع مجتمعاتنا فيما وقعت فيه الحضارة الغربية، حيث انساقت في تيار التقدم والرفاهية لإشباع الرغبات الحسية وأغفلت التربية الخلقية والدينية، وبالتالي فهي تعاني من انتشار الفساد الأخلاقي وانفراط عقد الأسرة، وانهيار الروابط الأسرية، وكان من نتائج ذلك زيادة نسبة الانتحار والأمراض النفسية وعقوق الوالدين ووضعهم في دور المسنين وإبعادهم عن الجو الأسري والعلاقات الأسرية، كما ظهرت لديهم العديد من الأمراض الخلقية والاجتماعية.

ولوقاية الأسرة من الانهيار يجب أن يكون هناك أرضية صلبة من الأخلاق والدين لأن هذا هو السبيل الوحيد حتى يشعر الناس بالسعادة والرضا والقناعة والإيمان بالقضاء والقدر خيره وشره، وهذا بدوره يؤدي إلى التخفيف من التوتر والقلق والخوف، فالاعتماد على الله يشعر الإنسان بالأمان وعدم الاضطراب والخوف.

وللقيم الدينية دور في تنمية ضمائر البشر والارتقاء بمستواهم الأخلاقي والسلوكي. واتباع المنهج القرآني والسنة النبوية يقضي على أي قلق أو مرض نفسي، لأن الإسلام دين الفطرة والالتزام به يشفي النفس من كل الأمراض، إن الإسلام علاج ناجح وفعال لأمراض الترف والرفاهية من خلال زكاة المال والتكافل لأن ذلك يريح النفس ويدخل البركة في الحياة.

الذنوب والمعاصي من أهم أسباب الاضطراب النفسي

أما د. حامد زهران أستاذ الصحة النفسية بجامعة عين شمس فيقول: إن أهم أسباب الاضطراب النفسي من المنظور الإسلامي ارتكاب الذنوب والآثام .. فالذي يرتكب ذنباً يكون مضطرباً قلقاً متوتراً يؤنب نفسه ويحاكم نفسه .. ومعظم حالات الاكتئاب تأتي حينما يفيق الإنسان بعد ارتكاب الذنب فهو يحاكم نفسه وقد يسجن نفسه بالانطواء داخلها وقد يصدر على نفسه حكماً بالإعدام وينفذه .. ومن أهم أسباب الاضطراب النفسي أيضًا الضلال .. فالصراع بين الخير والشر أمر مستمر داخل الإنسان، وهناك النفس اللوامة وهي منتهى الضمير واليقظة، وهناك النفس الأمارة بالسوء وهي موجودة في الإنسان الذي تتحكم فيه غرائزه فيكون مثل الحيوان أو الشيطان .. وانغماس الإنسان في الضلال يزيد من أعبائه النفسية .. وكذلك من أسباب الاضطراب النفسي ضعف الضمير وما نراه في مجتمعنا من حولنا يؤكد ذلك .. ولذلك فحينما يأتينا مريض إلى العيادة النفسية فلابد أن نتأكد من أن التدين بكل متطلباته قد أسس الشخصية التي أمامي من حيث عبادة الله والإخلاص لله والبعد عن الحرام والاستقامة وإصلاح النفس ومعارضة هواها والصدق والتواضع ومعاشرة الأخيار والكلام الحسن وحسن الظن بالله –الخ.

ولنطمئن أولاً إلى أن هذه الأمور مترجمة سلوكياً وليست محفوظة فقط .. وأول شيء في معالجة المريض النفسي هو دعوته إلى التوبة والإقرار بالذنب والندم عليه .. فهناك من يقول إنني ارتكبت ذنوباً لا يمكن أن يغفرها الله لي .. ولهؤلاء نقول إن من الأنبياء من أذنب وتاب مثل موسى وآدم، ونقول لهؤلاء القانطين إن الله يقول [إن الله يحب التوابين ويحب المتطهرين] .. كما يقول [هو الذي يقبل التوبة عن عباده ويعفو عن السيئات] والرسول الكريم يقول [كل ابن آدم خطاء وخير الخطاءين التوابون] .. وعلى المعالج النفسي أن يعلّم المريض كيف يدرك نفسه على حقيقتها فلا يضللها ولا يضحك عليها.

فحينما يفعل الصواب يعلم أنه على صواب وحينما يفعل الخطأ يعلم أنه على الخطأ فيرى طريقه واضحاً .. وبعد ذلك على المريض الدعاء فهو سلاحه لأن الله يقول [وقال ربكم ادعوني استجب لكم] .. وبعد الاستغفار عليه بذكر الله فبذكر الله تطمئن القلوب الحيرى حيث يقول الله تعالى [إن الذين اتقوا إذا مسهم طائف من الشيطان تذكروا فإذا هم مبصرون] ومع ذلك كله لابد من الصبر .. وصدق الله القائل [وبشر الصابرين الذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا إنا لله وإنا إليه راجعون أولئك عليهم صلوات من ربهم ورحمة وأولئك هم المهتدون].

علم النفس علم إسلامي خالص

أما د. محمد عثمان نجاتي أستاذ علم النفس فيقول: إنه من المعلوم الواضح أن المسلمين هم الذين أسسوا علم النفس ووضعوا أصوله وقواعده ومناهجه لأن هذه الأصول والقواعد والمناهج موجودة في القرآن الكريم والسنة النبوية .. والأعلام المسلمون العظام مثل الغزالي وابن القيم والماوردي وغيرهم لهم إسهامات في مجال السلوك والتربية .. لأن الالتزام على المنهج الإلهي في أمور الاعتقاد والعبادة والسلوك والمعاملات كفيل بأن يغسل الإنسان من أدرانه ومشاكله ويبعده تماماً عن الهواجس والظنون والاكتئاب والقلق –الخ.

فوضوح الرؤية الاعتقادية، وهي تعني تصور الإنسان عن نفسه وعن خالقه وعن الكون الذي يعيش فيه وعلاقته بالله وبالكون وبالبشر الآخرين، كل هذه الأمور إذا صيغت صياغة غير إسلامية صحيحة فإنها تورث الأرق الفكري والاضطراب وعدم الاطمئنان والضلال، وهذا يؤدي بدوره إلى المرض النفسي.

لذلك وجدنا أن الفلاسفة الذين تحدثوا في هذه الأمور بضلال وبعيداً عن المنهج الرباني كانوا يعانون من مشاكل نفسية، أما المسلم فإنه إذا فهم عقيدته فهماً سليماً ترتاح نفسه ويستقر فؤاده .. كذلك إذا قام بالعبادات التي يأمر بها الشرع يطمئن قلبه بالصلاة والصيام والزكاة والحج والصدقات، فيشعر أنه مصدر خير للآخرين وسعادة لهم فيسعد بذلك ويتمنى أن يطول عمره ليحسن عمله لا أن ينتحر مثلما يفعل غير المسلمين.

والإسلام يأمر المسلم بأن يصفح ويتسامح ويعفو فتصفو نفسه ولا يحمل الغل والضغينة للناس ، والإسلام يأمر المسلم بالتوكل على الله وتفويض الأمر إليه والتوكل عليه وأنه هو الرازق فيطمئن على رزقه وعلى مصيره وأن الله لا ينام بل يرعاه وينصره .. فتستقر نفسه وتهدأ .. وبهذا يعتبر الإيمان غسلاً للنفس من كل أمراضها.

العلاج النفسي عند المسلمين

د. محمد عبد العليم سالم أستاذ الطب النفسي يقول: إن التاريخ يشهد أن الأطباء والمفكرين المسلمين كانوا أول من استحدث مفهوم الأمراض العقلية وأبعدوها عن معتقدات الأرواح الشريرة وتناولوها بالعلاج الإنساني بينما كان العالم الأوربي المسيحي لا يزال يحرق المسحورين وينبذ المجانين. لكن المؤسف أنه في القرون الأخيرة أهمل المسلمون هذا المجال واتجهوا للتقليد الأعمى لمفاهيم الغرب بنظرياته المنبثقة أساسا من الثقافة المسيحية اليهودية والقائمة حديثا على بيئة لا دينية.

إن العلماء المسلمين ناقشوا في ضوء القرآن والحديث النبوي أسباب نشوء وتكوين الأمراض العقلية والصحة النفسية وجذور المشاكل العاطفية، في محاولة لإثبات أن تعاليم الله سبحانه وتعالي وقيم الإسلام لو انتهجت بروح صادقة، فإنها المصدر الصحيح للراحة من كافة الأمراض والعلل النفسية والعقلية كبيرة كانت أو صغيرة، فمجتمع قائم على تعاليم الإسلام مجتمع آمن خال من الشعور بالذنب وعدم الاستقرار العاطفي.

وباستعراض تاريخ الأمراض العقلية نجد أن الحضارات القديمة وهي المصرية واليونانية والرومانية والفارسية والهندية والصينية كانت تسيطر عليها النظريات التي تقوم على معتقدات الجن والشياطين، أما الفترة الواقعة بين هذه الحضارات القديمة و حتى عصر النهضة الأوربية فإنها تمثل هوة وفراغا عرف بالعصور المظلمة.

ولكن العلماء والأطباء المسلمين في ذلك الوقت كانوا متحررين من أي معتقدات ونظريات عن الأرواح الشريرة كتلك التي كانت تسود العالم المسيحي. ولهذا فلقد نجح هؤلاء المسلمون في الوصول بطريقة مباشرة وبملاحظات إكلينيكية إلى الإمراض النفسية والعقلية. لقد كان في مقدورهم كتابة التقرير وتقرير الملاحظات الموضوعية على الأعراض، وبهذا كانوا أول من توصل إلى التشخيص الموضوعي بلا تحيز. وبهذا فقد قدم الأطباء المسلمون الرعاية والعلاج للمرضى النفسيين بطريقة إنسانية مخالفة تماماً لم كان يجري في الغرب.

إن المستشفيات والعيادات المعالجة للأمراض العقلية في العالم الغربي الآن مملوءة بمرضي مشاكلهم نتاج لمجتمع مريض ينتشر فيه التحلل الاجتماعي والمعنوي والديني، وتتفكك فيه أواصر الحياة الأسرية، مما ترك الفرد غربيا مهموماً، بينما نجد الإسلام يشعر الفرد بهويته الإسلامية واضحة وصريحة، وبإحساسه بذاته كإنسان وليس عددا أم كماً زائداً، فالمجتمع الإسلامي يوفر الوقاية والعلاج للأمراض الاجتماعية، فالإسلام مصدر للصحة النفسية والعقلية وليس مصدراً للأمراض العقلية والنفسية.

تصحيح الأفكار والعقائد

يقول الداعية الإسلامي الشيخ عطية صقر: إن غالب الأمراض النفسيّة يأتي من أفكار تتأثر بها أعصاب الإنسان وتتغيّر بها نظرته إلى الحياة، ويضطرب سلوكه بالتالي بوجه عام، وعلاج أي مرض يكون بعلاج أسبابه، وذلك بتصحيح الأفكار والعقائد، وقد صحّ في الحديث المتّفق عليه:[ألا وإنّ في الجَسد مُضغة إذا صلحت صلح الجسد كلّه، وإذا فسَدتْ فسد الجَسد كلُّه، ألا وهى القلب].

فالقلب مستقر العقائد ومبعث الوجدان، والدين بعقائده وعباداته وأخلاقِه علاج لكل الأمراض العقليّة والنفسيّة بل والأمراض الجسدية، فهو يُزيل الشكَّ ويثبِّت اليقين، والتفقه فيه وممارسة مبادئه بصدق يمنع العُقَد النفسيّة، ويشفيها ويعالجها كما قال تعالى: [ونُنَزِّلُ مِنَ القُرْآنَ مَا هُوَ شِفاءٌ ورَحْمةٌ لِلْمُؤمِنينَ] [سورة الإسراء : 82] وقال: [ يا أيُّهَا النّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وشِفاءٌ لِمَا فِي الصُّدورِ][سورة يونس : 57].

والعِبادات وقراءة القرآن وذكر الله والدعاء من أنفع أنواع العلاج للأمراض النفسيّة إن لم تكن أنفعها على الإطلاق، فهي دواء الله العليم بأحوال النفوس، والرسول صلّى الله عليه وسلم كان إذا حزّبه ـ أو حزنه ـ أمر فزع إلى الصلاة. وهو القائل [وجُعلت قرّة عَيني في الصلاة].

وقد ورد في السنة النبويّة أدعية لتفريج الهَمِّ والكرب وإزالة الخوف والقلق وغيره من أمراض النفوس، مذكور كثير منها في كتاب' زاد المعاد 'لابن القيم، وكتاب' الأذكار للنووي'.

وكل ذلك مع الإيمان بأن الله حكيم في قوله وفعله، وأن قضاءه نافذ لا رادّ له والواجب هو الرّضا والصبر، وفي ذلك راحة نفسيّة وانتظار للفرج وتكفير للسيئات أو رفع للدرجات: [يا أيُّها الذِينَ آمَنوا استَعِينُوا بالصَّبْرِ والصّلاةِ إنّ اللهَ مَعَ الصّابِرينَ][سورة البقرة : 153] [وبَشِّرِ الصّابِرِينَ الذِينَ إذَا أَصَابَتْهُمْ مُصيبَةٌ قَالُوا إنّا للهِ وإنّا إِلَيْهِ رَاجِعونَ أُولئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَواتٌ مِن رَبِّهِمْ ورَحْمةٌ وأُولئِكَ هُمُ المُهْتدونَ][سورة البقرة: 155 ـ 157].

الإيمان بالله ودوره في تقوية النفس

وتقول د. ليلى أحمد إن العلماء يعرفون الصحة النفسية بأنها: 'القدرة على مواجهة الأزمات النفسية العادية التي تطرأ على الإنسان، ويرافقها الإحساس الإيجابي بالسعادة والكفاية، ويكون ذلك عادة بإشباع أكبر قدر من حاجاته الأساسية للأمن والحب وإثبات الذات والإنجاز والنجاح'. وأهم عرضين طارئين على الصحة النفسية هما القلق والاكتئاب؛ فالقلق هو الشعور بالخوف من شر متوقع وعدم القدرة على دفعه، أما الاكتئاب فهو الشعور بعدم الاهتمام أو بالقيمة الشخصية وقيمة الأشياء وافتقاد السرور، وفي حالات شديدة منه يترافق باليأس، وقد يؤدي إلى الانتحار.

وتحقيق التوازن بين الجانبين الروحي والمادي في التصور الإسلامي يُكسب الإنسان الشخصية السوية التي هي أساس الصحة النفسية.

ويعتمد الأسلوب التربوي في الإسلام على ثلاثة أمور هي: هو تقوية الجانب الروحي في الإنسان عن طريق الإيمان بالله وتقواه، ثم أداء العبادات المختلفة لتعزيز الجانب الروحي والصفاء النفسي، وأخيراً السيطرة على الدوافع الغريزية في الإنسان والتحكم في أهواء النفس التي تؤدي إلى المعاصي.

فالإيمان بالله فإنه يقي من حدوث الاضطرابات النفسية؛ فالإنسان يتعرض لضغوط مختلفة تسبب له الإجهاد والقلق، وإذا زاد القلق عن حده الطبيعي فإنه يؤدي إلى حالات نفسية مرضية. إن المؤمن ضعيف بنفسه قوي بربه سبحانه، وعندما يلجأ إليه ليستمد منه القوة فإنه يحول نقاط الضغط هذه لصالحه. كذلك فإن ما يفرضه هذا الإيمان على العبد من شعور بالعبودية للرب الخالق الرازق المعطي المانع الضار النافع الرحمن الرحيم العزيز الحكيم يجعل الإنسان في منأى من الخوف أو القلق، والمؤمن لا يخاف فوات رزقه، ولا يخاف غير الله. وبالإيمان بالقضاء والقدر يرتفع الإنسان فوق مخاوفه وهمومه أكثر فأكثر، وبالإيمان بالقضاء يتحقق التوكل على الله والتفويض إليه بعد الأخذ بالأسباب والاعتراف بأن ناصية الإنسان في يد الله يصرّفه كيف يشاء، وأنه ماض فيه حكمه، عدل فيه قضاؤه.

ثم إن الرضا بقضاء الله سبحانه وتعالى يسكب في النفس يقينا وسكينة وطمأنينة؛ فلا يبالغ المؤمن في حزنه ولا في فرحه.

كما أن القيام بالعبادات المختلفة من صلاة وصيام وزكاة وحج يربي شخصية الإنسان ويزكي نفسه، ويجعله يتحلى بكثير من الصفات التي تعينه على تحمل أعباء الحياة، ونجد في بعض الآيات القرآنية ارتباط الصبر مع الصلاة؛ فالصبر على تقلبات الحياة يساعد في تكوين الشخصية السوية التي تتمتع بالصحة النفسية. وكذلك الصوم والحج يعلمان الإنسان الصبر وتحمل المشاق، ومجاهدة النفس والتحكم في أهوائها، ويزيدان من قوة الإرادة وصلابة العزيمة، والزكاة تنمي حب الناس والإحسان إليهم والتعاون معهم.

ولابد أن يرافق ما سبق الابتعاد عن المعصية، والإسلام ينهى عن الكبائر والذنوب لأن المعصية نفسها تحطم النفس البشرية، فبسببها يضيق صدر المؤمن، وإذا ضاق الصدر ساءت الأخلاق، وإذا لم يلجأ الإنسان إلى ربه ليساعده أن يجبر كسره في معصيته، فإن قلقه يكون مضاعفا.

===================

الفهرس العام

 

الباب السابع   1

الحضارة الإسلامية  وأسباب سقوطها وعوامل النهوض بها (3) 1

#القراءة منهج حياة 1

#أسلمة المعرفة  24

#الأمة الإسلامية من جديد وليس الشرق الأوسط الجديد 91

#الدعوة إلى الله بالمجادلة 151

مقدمة : 151

الفصل الأول : مفهوم الجدل وتاريخه :    154

الفصل الثاني : مشروعية المجادلة في مجال الدعوة وأهميتها:    167

المبحث الثالث : أهمية المجادلة في مجال الدعوة :    175

الفصل الثالث : ضوابط الدعوة بالمجادلة :    180

#أطفالنا وحب الإسلام  201

#دراسة لسقوط ثلاثين دولة إسلامية  246

#تعَرَّف على الإسلام    340

#التصور السياسي للحركة الإسلامية 434

#شخصية الرسول وأثره  533

#التربية الإسلامية و تحديات العصر  562

#حقوق الإنسان محور مقاصد الشريعة    643

# الإسلام بين كينز وماركس وحقوق الإنسان في الإسلام 743

#الشيعة هم العدو فاحذرهم   867

#ونطقت الرويبضة!!(منصور النقيدان أنموذجا)   933

#نهاية التاريخ أم نهاية الإنسان أم سقوط حضارة  970

#الحضارة الإسلامية سمات وخصائص    982

#الأسر العلمية ظاهرة فريدة في الحضارة الإسلامية   989

#حضارة على وشك الانتحار… ألمانيا تسعى لتقنين البغاء بوصفه مهنة لـ 400 ألف امرأة!!!!   992

#العالم الإسلامي في مهب التحولات الحضارية كتاب جديد   994

#رؤية لآليات الصراع وموقع الأمة منه في فكر تنظيم القاعدة    997

#قرطبة.. "مكة أوروبا" بين عبق الماضي واضطهاد الحاضر   1003

#ماذا ينتظرنا من العلمانيين ؟   1007

#د. محمد عمارة: الليبراليون العرب أكثر استبداداً من غيرهم  1015

#د.سيد دسوقي: التنمية التي يفرضها الغرب علينا تزيدنا تخلفاً 1031

#تاريخ السلوك التنظيمي  1041

#مسلمي صقلية..كتاب عن حضارة المسلمين في الجزيرة 1047

#ندوة علمية: واقعنا رغم قسوته به إيجابيات تبعث على الأمل  1049

#حلم إسلامي بـ"تحرير" إسبانيا؟ 1055

#الفلسفة.... التاريخ والنشأة[1]    1059

#حينما نكتفي بالاستهلاك والبذخ بينما الآخرون ينتجون ويبدعون! 1061

#الشك العلمي عند المسلمين تفوق على الغرب   1068

#د. صوفي أبو طالب يواصل تفنيد حجج المعترضين على تطبيق الشريعة    1075

#الحرب العالمية الرابعة ..كتاب عن حروب المستقبل    1083

#عصرنة الدين أم تديين العصر 1087

#د. زينب عبد العزيز: التنصير عالم خطير لا نرى منه إلا القليل   1090

#مالك بن نبي و ابن خلدون.. مواقف و أفكار مشتركة 1099

#الأطلس التاريخي للعالم الإسلامي.. كتاب جديد 1101

#من يمسح دموع ميندناو؟..(2)   1103

#الفردوس المستعار والفردوس المستعاد.. كتاب جديد  1105

#الغرب يعادينا لأننا نمتلك منظومة قيم تهدده    1109

#ليس بيننا وبين الغرب أسس تؤدي لحوار ناجح 1116

#الضربات التي وجهت للانقضاض على الأمة الإسلامية   1121

#العنصرية تجاه المسلمين في الغرب...هل من جديد؟! 1124

#فلسفة التنوير بين المشروع الإسلامي والمشروع الغربي   1127

#أهل السنة.. نبض الماضي وجمود الحاضر    1132

#عبد الرحمن الثالث.. كتاب بالانجليزية عن خليفة قرطبة الأول  1137

#علوم الأرض في الحضارة الإسلامية .. كتاب صدر مؤخرا   1139

#هل من أمل في حوار إسلامي غربي؟    1141

#خفايا حرب المصطلحات ضد العرب والمسلمين!!  1147

#قراءات جزائرية لإشكالية النهوض في الفكر الإسلامي المعاصر   1153

#الخطايا الأمريكية في الرد على هجمات 11 سبتمبر  1154

#أسس المنهج العلمي في القرآن والسنة في ندوة علمية 1161

# اليابان عرضت نفسها على الإسلام ونحن خذلناها  1167

#مسيرة حقوق المرأة عبر التاريخ 1173

# الصحوة الإسلامية أهم أحداث القرن العشرين 1185

#الحرب بالوكالة ومشاريع ملء الفراغ في العالم العربي  1192

#أزمة الفكر العربي كتاب في تجليات الغزو الثقافي  1199

#المسلمون خلف الأسوار...في أسبانيا[4]    1201

#تخلفنا حينما فصلنا بين علوم الدين وعلوم الدنيا 1208

#الأقليات المسلمة في الدول الأوروبية أمل وألم [2] 1219

#المسلمون والغرب.. كيف ينظر كل منها للآخر؟  1223

#الغرب يعيش فراغاً فكريا لن يملأه إلا الإسلام  1230

#التأديب بالضرب بين الإسلام والفكر الغربي    1235

#لماذا الخوف من الإسلام في الغرب؟ 1242

#حوار الحضارات.. نظرة عبر التاريخ    1245

#كيف عالج الإسلام المشكلات النفسية المعاصرة؟ 1248 .

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

حمل القران بصغتيه

 حمل القران الكريم وورد وPDF.