حمل القران

 حمل القران وورد وPDF.

القرآن الكريم وورد word doc icon تحميل سورة العاديات مكتوبة pdf

السبت، 1 أكتوبر 2022

ج3.وج4.قصة الحضارة ول ديورانت وحمل الموسوعة

  

ج3.وج4.قصة الحضارة ول ديورانت

 

ج3. قصة الحضارة
ول ديورانت

والحق أنه كلما كشف لنا البحث العلمي عن شخصيات لم تكن في المنزلة العليا من احترام الناس، ممن اشتغلوا بالفلسفة الهندية قبل بوذا، ارتسمت لنا صورة تبين لنا إلى جانب القديسين السابحين في تأملاتهم عن إلههم "براهما"، طائفة من الأشخاص احتقرت الكهنة وشكت في الآلهة، وسميت- دون أن ترتاع لهذا الاسم- سميت بطائفة "اللا أدريين" و "العدميين"؛ فمثلاً رفض "سانجايا" اللا أدري أن يثبت أو أن ينفي الحياة بعد الموت، وتشكك في إمكان حصول الإنسان على العلم اليقيني، وحصر الفلسفة في محاولة استتباب السلام؛ كذلك أبى "بورانا كاشيابا" أن يعترف بالفوارق الخلقية، وعلم الناس أن الروح عبد للمصادفة لا يملك لها دفعاً؛ وذهب "ماسكارين جوسالا" إلى أن القدر قد خط في لوحه كل شئ يصيبه الإنسان بغض النظر عما هو جدير به حقاً؛ ورد "أجيتا كاسا كامبالين" الإنسان إلى عناصر هي التراب والماء والنار والهواء، وقال : "إن الحمقى وأرباب الحكمة يتشابهون إذا ما تحلل الجسد، فكلاهما يزول وينعدم ولا يكون له وجود بعد الموت"(4)، ولقد صور لنا مؤلف "رامايانا" صورة نموذجية للمتشكك حين صور لنا "جابالي" الذي جعل يسخر من راما" لأنه رفض مملكة ليفي بوعد تعهد بالوفاء به :
"جابالي وهو برهمي عالم وسوفسطائي مهر في الكلام، تشكك في الإيمان وفي القانون والواجب، وراح يحدث سيد أيوذيا الشاب قائلاً :
صفحة رقم : 706
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الهند وجيرانها -> بوذا -> الزنادقة

أنى لك يا "راما" هذه الحكم السخيفة التي ترين على قلبك وتكتنف عقلك.
هذه الحكم التي تضلل السذج ومن لا يتعمقون التفكير من بني الإنسان ...؟
أواه، إني لأبكي من أجل هؤلاء الفانين من الناس حين يخطئون فيكبون على واجب باطل.
ويضحون بهذه المتعة الحبيبة إلى النفس حتى تنقضي حياتهم القاحلة.
وما ينفكون يقدمون العطايا للآلهة وللأسلاف؛ ياله من ضياع للطعام!

لأنه لا الإله ولا السلف يأخذ منا هذا الذي نقدمه إليه في ولاء وتقوى!
وهل إذا أكل الطعام آكل، تغذى به ناس آخرون؟
فهذا الطعام تقدمونه لبرهمي، هل يمكن له إذن أن يشبع الآباء السالفين؛ إن الكهنة بخبثهم قد صاغوا هذه الحكم، وهم يقولون إذ هم ينظرون إلي أغراض أنانية:
"قدم قربانك وتب إلى الله؛ واترك مالك الدنيوي وأخلص للصلاة!"
كلا، يا "راما" ليس هناك حياة آخره، وكلها أباطيل
هذه الآمال وهذه العقائد عند الإنسان
فابحث عن لذائذ الحاضر، واطرد عن نفسك هذه الأوهام العابثة الواهية(5)
ولما شب بوذا رجلاً، وجد القيعان والشوارع بل وجد الغابات في شمال الهند، تتجاوب كلها بأصداء نزاع فلسفي، كان في جملته ينحو نحواً إلحاديا مادياً. وإنك لترى الأسفار الأخيرة من "يوبانشاد"، كما ترى أقدم الأسفار البوذية ملئاً بالإشارات إلى هؤلاء الزنادقة(6)؛ فقد كان هناك طائفة كبيرة من السوفسطائيين الجوالين- ويسمونهم باريباجاكا أو المتجولين- تنفق أحسن أيام السنة في الرحلة من مكان إلى مكان، باحثة لها عن تلاميذ أو معارضين في البحث الفلسفي؛ وبعضهم كان يعلم المنطق على أنه الفن الذي تستطيع به أن
صفحة رقم : 707
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الهند وجيرانها -> بوذا -> الزنادقة

تبرهن على أي شئ ، ولذلك أطلق عليهم بحق اسم "من يشققون الشعرة" أو "من يتلون تلوي ثعابين الماء"؛ وآخرون طفقوا يبرهنون على عدم وجود الله وعدم ضرورة اصطناع الفضيلة؛ وكانت جموع كبيرة من الناس تحتشد لتسمع أمثال هذه المحاضرات والمناقشات، وبنيت قاعات لهم خاصة، وكان الأمراء أحيانا يكافئون الظافرين في أمثال هذه الحلبات الفكرية(7)؛ حقاً لقد كان عصراً يدهشك بحرية فكره، وبألوان التجارب التي أجراها أهله في عالم الفلسفة.

ولم يبق لنا كثير مما قاله هؤلاء المتشككة، والفضل في خلود ذكراهم يرجع كله تقريباً إلى ما هاجمهم به أعداؤهم(8)، وأقدم اسم بين تلك الطائفة هو "بريهاسباتي"، لكن أقواله الهدامة قد فنيت كلها، بحيث لم يبق لنا منها إلا قصيدة واحدة تحط من شأن الكهنة في لغة لا يشوبها غموض الميتافيزيقا:
ليس للجنة وجود، وليس هناك خلاص أخير؛
فلا روح، ولا آخرة، ولا طقوس للطبقات ...
إن فيدا ذات الوجوه الثلاثة، وأمر الإنسان لنفسه بلغات ثلاث؛
وهذه التوبة بكل ما فيها من تراب ورماد.
كل هذه وسائل عيش لقوم
خلوا من الذكاء والرجولة ...
كيف يمكن لهذا الجسد إذا ما أصبح تراباً
أن يعود إلى الظهور على الأرض؟ وإذا كان في وسع الشبح أن يمضي
إلى عوالم أخرى، فلماذا لا يجذبه الحب الشديد
لمن يخلفهم وراءه ، فيرجعه إليهم؟
إن هذه الطقوس الغالية التي تقام لمن يموتون
ليست إلا وسائل عيش دبّرها
صفحة رقم : 708
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الهند وجيرانها -> بوذا -> الزنادقة

دهاء الكهنة- لا أكثر من ذلك ...
فما دمت حياً، أنفق حياتك مطمئن البال
مرح النفس؛ ليقترض الإنسان مالا
من أصدقائه جميعاً، ويطعم نفسه بالزبد المذاب.

وعلى أساس القواعد التي أذاعها "بريهاسباتي" هذا، نشأت مدرسة هندوسية مادية بأسرها، أطلق عليها اسم واحد من رجالها، وهو "شارفاكا" وكان أتباع هذه المدرسة يضحكون من سخف الرأي القائل : أن أسفار الفيدا قد احتوت على الحق كما أوحى به الله، وقالوا في حجاجهم إن الحق يستحيل معرفته إلا عن طريق الحواس؛ وحتى العقل لا يجوز الركون إليه والثقة به، لأن كل استدلال عقلي لا يعتمد في صوابه على الملاحظة الدقيقة والتدليل الصحيح فحسب، بل يعتمد كذلك على افتراض أن المستقبل سيجيء على غرار الماضي؛ واليقين في مثل هذا الافتراض مستحيل، كما كان "هيوم" ليقول في الموضوع عندئذ(10)؛ قال فريق "الشارفاكا" إن ما لا تدركه الحواس ليس له وجود، وإذن فالروح وهم من الأوهام والإله "أتمان" أبطولة من الأباطيل؛ أننا لا نصادف في تجاربنا ولا في تجارب السالفين، إذ نستبطن أنفسنا، أية علامة تدل على وجود قوى خارقة للطبيعة في العالم؛ كل الظواهر طبيعية، ولا يردها إلى الشياطين أو الآلهة إلا السذج(11)؛ والمادة هي وحدها الحقيقة التي لا حقيقة سواها؛ والجسم مجموعة من ذرات اجتمع بعضها ببعض(12) وما العقل إلا مادة تفكر؛ والجسم- لا الروح- هو الذي يشعر ويرى ويسمع ويفكر(13) "من ذا الذي رأى روحاً موجودة في استقلال عن الجسم؟" فليس هناك خلود ولا عودة إلى الحياة؛ والدين كله تخليط وهذيان وسفسطة خادعة؛ وافتراض وجود الله لا ينفع شيئاً في شرح العالم أو فهمه، وإذا اعتقد الناس بضرورة الدين، فما ذاك إلا لأنهم تعوّدوه، ولذا فهم يحسون كأنما ضاع منهم ضائع، ويشعرون كأنهم في خلاء لا تطمئن
صفحة رقم : 709
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الهند وجيرانها -> بوذا -> الزنادقة

له النفوس، حين تنمو معارفهم نمواً يهدم العقيدة الدينية(14)؛ وكذلك الأخلاق أمر طبيعي؛ فهي عرف اجتماعي ووسيلة لراحة العيش في المجتمع، وليست بالأمر الصادر من الله؛ والطبيعة لا تأبه لخير أو لشر، لفضيلة أو رذيلة، وهي تشرق بشمسها في غير تفرقة بين الأوغاد والقديسين؛ فلو كان للطبيعة صفة أخلاقية إطلاقاً، فهي منافاتها للأخلاق كما تعرفها حدود البشر؛ ولا حاجة بالإنسان إلى إلجام غرائزه وشهواته، لأن هذه هي الإرشادات التي رسمتها الطبيعة للناس؛ الفضيلة غلطة من الغلطات، وغاية الحياة هي أن تعيش، والحكمة الوحيدة هي أن تعيش سعيداً(15).
كانت الفلسفة الثائرة التي أخذ بها فريق "الشارفاكا" ختاماً لأسفار الفيدا وأسفار اليوبانشاد؛ وزعزعت سلطة البراهمة على العقل الهندي، وتركت في المجتمع الهندوسي فراغاً كاد يضطر الناس اضطراراً أن يصطنعوا لأنفسهم ديناً جديداً؛ لكن أنصار المذهب المادي هؤلاء كانوا قد أجادوا أداء مهمتهم إجادة جعلت الديانتين اللتين نشأتا لتحلا محل العقيدة الفيدية، ديانتين ملحدتين، أو عقيدتين تعبديتين بغير إله- ولو أن هذا القول قد يبدو للقارئ تناقضاً- فكلتا الديانتين الجديدتين كانتا شعبتين من الحركة الهدامة؛ وكلتاهما لم تكونا من إنشاء الكهنة البراهمة، بل ابتدعهما فريق من "الكشاترية" أي طبقة المقاتلين، ليردوا بهما فعل اللاهوت والطقوس الكهنوتية؛ وبظهور هاتين الديانتين، وهما الجانتية والبوذية، بدأ التاريخ الهندي عصراً جديداً.

صفحة رقم : 710
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الهند وجيرانها -> بوذا -> ماهافيرا والجانتيون

الفصل الثاني
ماهافيرا والجانتيوُّن
البطل العظيم - العقيدة الجانتية - تعدد
الآلهة والشرك بالله - التقشف - الخلاص
بالانتحار - تاريخ الجانتية في مراحلها الأخيرة

حول منتصف القرن السادس قبل الميلاد، ولد صبي لرجل ثري من أشراف قبيلة "لِشَّافي" في ضاحية من ضواحي مدينة "فابشالي" في الإقليم الذي يسمى الآن بالإقليم "بهار" . وكان أبواه على ثرائهما ينتميان إلى عقيدة تنظر إلى العودة إلى الحياة على أنها لعنة نزلت بمن يعود، وتنظر إلى الانتحار على أنه ميزة ينعم بها المنتحر؛ فلما أن بلغ وليدهما عامه الحادي والثلاثين، أزهقا روحيهما بجوع متعمد؛ فتأثر ابنهما الشاب تأثراً بلغ منه سويداء نفسه، فأطرح العالم كله وأساليب العيش فيه، وخلع عن جسده كل ثيابه، وضرب في أرجاء الإقليم الغربي من البنغال زاهداً متقشفاً، ينشد تطهير نفسه من أدرانها كما يقصد أن يزداد بسر الوجود فهماً وعلماً، وبعد أن قضى في إنكار ذاته على هذا النحو ثلاثة عشر عاماً، أعلنت جماعة من أتباعه أنه "جنا" (أي قاهر)؛ ومعنى ذلك أنه معلم من عظماء المعلمين الذين يكتب لهم القدر- هكذا كانوا يعتقدون- أن يظهروا على فترات دورية ليهدوا شعب الهند سواء السبيل.
واختار هؤلاء الأتباع لزعيمهم اسماً جديداً هو "ماهافيرا" أو "البطل العظيم"، واتخذوا لأنفسهم اسماً اشتقوه من اسم عقيدتهم، فأطلقوا على أنفسهم اسم "الجانتيين" ؛ ونظم "ماهافيرا" طائفة من رجاله يكونون
صفحة رقم : 711
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الهند وجيرانها -> بوذا -> ماهافيرا والجانتيون

رهباناً عزاباً، وطائفة من النساء يكن راهبات عانسات؛ فلما أن جاءته منيته وهو في الثانية والسبعين من عمره، ترك وراءه أربعة عشر ألفاً من أشياع مذهبه.

وأخذت هذه العقيدة شيئاً فشيئاً تخرج من جوفها مذهباً من أعجب ما شهده تاريخ الديانات من مذاهب؛ فقد بدأ هؤلاء الأتباع بمنطق واقعي، إذ وصفوا المعرفة بأنها لا تتجاوز حدود النسبي الذي يقع في الزمان؛ فكانوا يعلمون الناس أن ليس ثمة حق إلا من وجهة نظر معينة، ولو نظر إلى هذا الحق من وجهات نظر أخرى لكان الأرجح أن يكون باطلاً؛ وكان يلذ لهم دائماً أن يرووا قصة العميان الستة الذين وضعوا أيديهم على أجزاء مختلفة من جسم الفيل، فمن وضع يده على أذنه ظن على أن الفيل مروحة ضخمة لذر الغلال، ومن وضع يده على ساقه قال أن الفيل عمود مستدير كبير(17)، فالأحكام كلها- إذن- محدود بحدود ومشروطة بشروط، وأما الحقيقة المطلقة فلا تتكشف إلا لهؤلاء المخلصين للبشر الذي يظهرون على فترات منتظمة، أو طائفة "الجنا" كما كانوا يسمونهم؛ وليست تنفع أسفار الفيدا لسد هذا النقص، لأنها لم تهبط من إله، وأقل ما يقال في التدليل على ذلك أن ليس هنالك إله؛ وقد قال الجانتيون أنه ليس من الضروري أن نفرض وجود خالق أو سبب أول، فكل طفل يستطيع أن يفند مثل هذا الفرض بقوله إن الخالق الذي لم ُيخْلَق أو السبب الذي لم يسبقه سبب، لا يقل صعوبة على الفهم عن افتراض عالم لم تسبقه أسباب ولم يخلقه خالق؛ وإنه لأقرب إلى المنطق السليم أن نعتقد أن الكون كان موجوداً منذ الأزل، وأن تغيراته وأطواره التي لانهاية لها ترجع إلى قوى كامنة في الطبيعة، من أن تعزو هذا كله إلى صناعة إله(18).
لكن مناخ الهند لا يساعد على عقيدة طبيعية تقوم بين الناس وتثبت، فلما أفرغ الجانتيون السماء من إلهها، لم يلبثوا أن عمروها من جديد بطائفة من القديسين المؤلهين ممن روى أخبارهم تاريخ الجانتين وأساطيرهم، وراحوا
صفحة رقم : 712
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الهند وجيرانها -> بوذا -> ماهافيرا والجانتيون

يعبدونهم مخلصين لهم العبادة مقيمين لهم الشعائر؛ لكنهم اعتبروا هؤلاء المؤلهين أنفسهم خاضعين للتناسخ والتحلل، ولم يعدوهم خالقين للعالم أو سادة عليه يحكمونه بأي معنى من المعاني(19)، وليس معنى ذلك أن الجانتين كانوا يعتنقون مذهباً مادياً خالصاً، لأنهم فرقوا بين العقل والمادة في كل الكائنات، ففي كل شئ ، حتى الأحجار والمعادن، أرواح كامنة، وكل روح تحيا حياتها بغير شائبة تلام عليها، تصبح "بارماتمان"- أو روحاً سامية- وكانت تنجو بذلك من التقمص في جسد آخر، مدى حين، على أنها تتقمص جسدها الجديد إذا ما نالت من الجزاء حقها الموفور، ولا ينعم "بالخلاص" الكامل إلا أعلى الأرواح وأكملها؛ ومن هؤلاء تتكون طائفة "الأرْهات"- أي السادة المعظمين- الذين كانوا يعيشون، مثل آلهة أبيقور، في مملكة بعيدة ظليلة، وهم عاجزون عن التأثير في شئون الناس، لكنهم ينعمون بارتفاعهم عن كل احتمال يؤدي إلى عودتهم إلى الحياة(20).
والطريق المؤدية إلى الخلاص في رأي الجانتيين، هي توبة تقشفية، واصطناع "أهْمِساَ" موفورة كاملة، و"أهمسا" معناها الامتناع عن إيذاء أي كائن حي؛ ولزام على كل متقشف جانتي أن يأخذ على نفسه عهوداً خمسة؛ ألا يقتل كائناً حياً، وألا يكذب، وألا يأخذ ما لم يعطه، وأن يصون عفته، وأن ينبذ استمتاعه بالأشياء الخارجية كلها؛ وفي رأيهم أن اللذة الحسية خطيئة دائماً؛ والمثل الأعلى هو ألا تأبه للذة أو ألم وأن تستغني استغناءً تاماً عن الأشياء الخارجية كلها؛ فالزراعة حرام على الجانتي لأنها تمزق التربة وتسحق الحشرات والديدان؛ والجانتي الصالح يرفض أكل العسل لأنه حياة النحل، ويصفى الماء قبل شرابه خشية أن يقتل ما عساه أن يكون كامناً فيه من كائنات؛ ويغطى فمه حتى لا يستنشق مع الهواء أحياء عالقة في الهواء فيقتلها، ويحيط مصباحه بستار حتى يقي الحشرات لذع النار، ويكنس الأرض أمامه وهو يمشي خوفاً من
صفحة رقم : 713

قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الهند وجيرانها -> بوذا -> ماهافيرا والجانتيون

أن تدوس قدمه الحافية على كائن حي فترديه؛ ولا يجوز للجانتي أبداً أن يذبح حيواناً أو يضحي به؛ ولو كان "جانتياً" صميماً أقام المستشفيات والمصحات- كما ترى في احمد أباد- للحيوانات إن هرمت أو أصابها أذى؛ والحياة التي يجوز له أن يزهقها هي حياته دون غيرها؛ فالعقيدة الجانتية تجيز الانتحار ولا تقيم في سبيله العقبات، خصوصاً إذا تم بوسيلة الجوع، لأن ذلك أبلغ انتصار تظفر به الروح على إرادة الحياة العمياء؛ ولقد مات جانتيون كثيرون على هذا النحو، وقادة المذهب يبارحون هذه الدنيا- حتى في عصرنا هذا- بتجويع أنفسهم حتى الموت(21).

إن عقيدة دينية كهذه، قائمة على أساس من الشك العميق في قيمة الحياة والإنكار الشديد لها، كان يمكن أن تجد في الناس شيوعاً في بلد ما فتئت الحياة فيه عسيرة شاقة؛ لكن هذا التطرف في الزهد قد حال دون إقبال الناس عليها حتى في الهند؛ فمنذ ظهور المذهب الجانتي، والجانتيون صفوة مختارة؛ و على الرغم من أن "يوان شوانج" وجدهم عديدي النفر أقوياء الأثر في القرن السابع(22). فإنهم كانوا عندئذ في أوج حياتهم التي سلخت سيرتها في هدوء؛ وحدث سنة 79م أن انشقوا فريقين تفصلهما هوة سحيقة من اختلاف الرأي على موضوع العري؛ ومنذ ذلك الحين، كان الجانتي إما إن يكون منتسباً إلى طائفة "شويتامْبَارا"- أي طائفة ذوي الأردية البيض- وأما أن يكون منتسباً إلى طائفة "ديجامبارا"- أي المتزملين بالسماء، أو ذوي الأجساد العارية؛ وكلتا الطائفتين تلبس الثياب العادية كما يقضي المكان والزمان، وقدّيسوهم وحدهم هم الذين يجوبون الطرقات عراة الأجسام؛ وهذان المذهبان الفرعيان لهما فروع، فطائفة "ديجامبارا" لها أربعة فروع، وطائفة "شويتامبارا" لها أربعة وثمانون فرعاً(23)، ويبلغ عدد أتباع الطائفتين معاً مليوناً وثلاثمائة ألف نسمة من عدد السكان الذين يبلغون ثلاثمائة وعشرين
صفحة رقم : 714
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الهند وجيرانها -> بوذا -> ماهافيرا والجانتيون

مليوناً(24)، ولقد كان غاندي شديد التأثر بالمذهب الجانتي، واصطنع " أهمسا "- ومعناها الامتناع عن إيذاء الكائنات الحية على اختلافها- أساساً لسياسته وحياته، ورضي من الثياب بقطعة صغيرة من القماش تستر ردفيه، ولم يكن يستحيل عليه أن يزهق نفسه جوعاً؛ ومن يدري؟ فلعل الجانتيين يسلكونه في طائفة "الجنا" ، فيعدونه تجسّداً جديداً للروح العظمى التي تتقمص جسداً من لحم على فترات منتظمة من الدهر لتخلص العالم.

صفحة رقم : 715
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الهند وجيرانها -> بوذا -> أسطورة بوذا

الفصل الثالث
أسطورة بوذا
بطانة بوذية - الولادة المعجزة - النشأة - أحزان
الحياة - الهرب - أعوام التقشف - الهداية -
رؤية النرفانا
إنه لمن العسير على أبصارنا أن نرى عبر ألفين وخمسمائة عام ماذا كانت الظروف الاقتصادية والسياسية والخلقية التي استدعت ظهور ديانتين تدعوان إلى مثل ما تدعوا إليه الجانتية والبوذية من تقشف وتشاؤم؛ فمما لا شك فيه أن الهند كانت قد خطت خطوات فسيحة في سبيلها إلى الرقي المادي منذ استقر بها الحكم الآري؛ فبنيت مدائن عظيمة مثل "باتاليبُترا" و "فايشالي" ؛ وزادت الصناعة والتجارة من ثروة البلاد؛ والثروة بدورها خلقت لطائفة من الناس فراغاً، ثم طَوَّر الفراغ العلم والثقافة؛ ومن الجائز أن تكون الثروة في الهند هي التي أشاعت فيها النزعة الأبيقورية المادية خلال القرنين السابع والسادس قبل الميلاد؛ ذلك لأن الدين لا يزدهر في حياة تزدهر بالثراء، إذ الحواس في ظل الثراء تحرر نفسها من قيود الورع وتخلق من الفلسفات ما يبرر هذا التحرر؛ وكما حدث في الصين أيام كونفوشيوس، وفي اليونان أيام بروتاجوراس- ولن نذكر في الهند أيام بوذا- أن أدى الانحلال العقلي للديانة القديمة إلى شك وفوضى في الأخلاق؛ فالجانتية والبوذية، ولو أنهما مترعتان في ثناياهما بلون من الإلحاد الكئيب، الذي ساد ذلك العصر بعد أن زالت عن عينيه غشاوة الأحلام وأوهامها؛ إلا أنهما في الوقت نفسه كانتا بمثابة رد الفعل من جانب الدين في مقاومته لمذاهب اللذة التي أخذت بها طبقة من الناس
صفحة رقم : 716
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الهند وجيرانها -> بوذا -> أسطورة بوذا

حررت نفسها ونعمت في حياتها بالفراغ .

وتصف الرواية الهندوسية والد بوذا- شُدْ ذُوذانا- بأنه رجل غمس نفسه في الحياة ، وهو من أبناء عشيرة "جواتاما" التي تنتسب إلى قبيلة "شاكيا" المُدِلَّة بنفسها؛ كان أميراً أو ملكاً على "كابيلافاستو" عند سفح الهمالايا(25)؛ ولكننا في حقيقة الأمر لا نعرف شيئاً عن بوذا معرفة اليقين؛ فلو رأيتنا قد قصصنا عليك هاهنا القصص التي تجمعت حول اسمه، فليس ذلك لأنها تاريخ نريد إثباته، ولكننا نرويها لأنها جزء ضروري من الأدب الهندي والديانة الآسيوية، ويحدد العلماء مولد بوذا بعام يقرب من سنة 563 ق.م. ثم لا يستطيعون أن يضيفوا إلى ذلك شيئاً، فتتناول الأساطير بقية قصته، وتكشف لنا عن الغرائب التي قد تحدث حين تحمل الأمهات بأعلام الرجال، فيذكر لنا سفر من أسفار "جاتاكا" . أنه في ذلك الوقت:
"في مدينة كابيلافاستو" أعلن عن الاحتفال بالبدر؛ وبدأت الملكة "مايا" قبل موعد البدر بسبعة أيام تقيم حفلاتها بالعيد دون أن تقدم فيها المسكرات، مكتفية بما أغرقت به ولائمها من أكاليل الزهور والعطور؛ وفي اليوم السابع- يوم اكتمال البدر- استيقظت مبكرة واستحمت في ماء عبق بالعطر،
صفحة رقم : 717
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الهند وجيرانها -> بوذا -> أسطورة بوذا

وأحسنت للفقراء بأربعمائة ألف قطعة من النقد؛ ولما أخذت زخرفها وازينت، جلست تأكل طعامها من أطيب الطعام، وقطعت على نفسها عهود "أبوساذا" ثم دخلت مخدعها الرسمي المزدان، واستلقت على سريرها، فأخذها النعاس ورأت هذا الحلم:

رأت أربعة ملوك عظماء يرفعونها في سريرها ويأخذونها إلى جبال الهمالايا ويضعونها على هضبة مانوسيلا... ثم رأت ملكات هؤلاء الملوك الأربعة، يأتين إليها فيأخذنها إلى بحيرة أنوتانا، ويغمسنها في الماء ليزلن عنها الصبغة البشرية، ويلبسنها أردية سماوية ويعطرنها بالعطور ويزينها بالزهور القدسية؛ ولم يكن على مبعدة منها أن رأت جبلاً من فضة وعليه قصر من ذهب؛ وهنالك أعددن لها سريراً إلهياً رأسه إلى الشرق، وأرقدنها عليه؛ وهاهنا انقلب "بوذيساتاوا" فيلاً أبيض؛ وكان على مقربة من المكان جبل من ذهب، فلما أن بلغه هبط منه إلى جبل الفضة آتياً إليه من جهة الشمال؛ وفي جعبته التي أشبهت حبلاً من فضة، كان يحمل زهراً أبيض من زهور اللوتس؛ وبعدئذ نفخ في الصور ودخل قصر الذهب ودار تجاه اليمين دورات ثلاثاً حول سرير أمه، ثم ضرب جنبها الأيمن وظهر لها كأنه يدخل رحمها؛ وبهذا تلقى... حياة جديدة.
واستيقظت الملكة في اليوم التالي وروت حلمها للملك؛ فدعا الملك إلى حضرته أربعة وستين من أعلام البراهمة، وخلع عليهم خلع التكريم وأشبعهم طعاماً فاخراً وقدم إليهم الهدايا؛ فلما أن رضيت نفوسهم بهذه اللذائذ كلها،
صفحة رقم : 718
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الهند وجيرانها -> بوذا -> أسطورة بوذا

أمر بالحلم أن تقص عليهم قصته، واستفسرهم ما يكنه الغيب، فقال البراهمة : لا يأخذنك الهم أيها الملك، فقد حملت الملكة، حملت ذكراً لا أنثى، وسيكون لك ابن؛ ولو سكن ذلك الولد بيتاً فسيكون ملكاً، سيكون ملكاً على الدنيا بأسرها، وأما إن ترك داره وخرج من أحضان العالم، فسيصبح بوذا، وسيكون في هذا العالم رافع الغشاوة عن أعين الناس (غشاوة الجهل)...

وحملت الملكة "مايا" "بوذيساتاوا" عشرة أشهر كأنه الزيت في القدح، ولما أن جاءها أو أنها رغبت في الذهاب إلى بيت أهلها، ووجهت الخطاب إلى الملك "شدذوذانا" قائلة: "أريد أيها الملك أن أذهب إلى "ديفاداذا" مدينة أسرتي" فوافق الملك وأمر بالطريق من "كابيلا فاستو" إلى "ديفاداذا" أن يمهد وأن يزين بأصص النبات، وبالرايات والأعلام، وأجلسها في هودج من ذهب يحمله ألف من رجال البلاط، وأرسلها إلى بيت أهلها في حاشية كبيرة؛ وبين البلدين حرج يملكه أهل المدينتين جميعاً، هو حرج يمرح فيه الناس يتألف من أشجار "الملح" ويسمى "حرج لمبيني" ، وكان الحرج إذ ذاك كتلة واحدة من الزهر الذي يغطي الأشجار من جذورها إلى رؤوسها... فلما رأته الملكة رغبت في أن تمرح في الحرج، وذهبت إلى جذع شجرة كبيرة من أشجار "الملح" وأرادت أن تمسك بغصن من غصونها، فانحنى الغصن حتى بات في متناول يدها كأنه الطرف الأعلى من قصبة لينة، ومدت يدها وتناولته، وفي هذه اللحظة عينها اهتزت بالمخاض، فأقامت لها الحاشية ستاراً يسترها، وأبعدت عنها، فوضعت وليدها وهي لم تزل واقفة ممسكة بغصن الشجرة في يدها؛ ولم ينزل "بوذيساتاوا"- كما ينزل سائر الأطفال من أجواق أمهاتهم- ملوثاً بالشوائب؛ بل نزل "بوذيساتاوا" كما ينزل الواعظ من منبر وعظه، نزل كأنه الرجل ينزل السلم، ومد يديه وقدميه، ووقف لا يلوثه القذر ولا تدنسه شائبة من الشوائب، وقف مشرقاً بالضوء كأنه جوهرة موضوعة على ثوب بنارسي، هكذا هبط من جوف أمه"(28).
صفحة رقم : 719
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الهند وجيرانها -> بوذا -> أسطورة بوذا

وفوق ذلك ينبغي أن تعلم أن عند مولد بوذا ظهر في السماء ضوء لامع، وسمع الأصم، ونطق الأبكم، واستقام الأعرج على ساقيه، وانحنت الآلهة من علياء سمائها لتمد له أيدي المعونة، وأقبل الملوك من نائي البلاد يرحبون بمقدمه، وتصور لنا الأساطير صورة زاهية لما أحاط نشأته من أسباب العز والترف؛ وعاش عيش الأمير الهانئ في ثلاثة قصور "كأنه إله" ، وكان أبوه يقيه، مدفوعاً بحبه الأبوي، شر الاتصال بما تعانيه الحياة البشرية من آلام وأحزان؛ وكان يقوم على تسليته أربع آلاف راقصة، ولما بلغ الرشد، عرضت عليه خمسمائة سيدة ليختار إحداهن زوجة له؛ ولما كان ينتمي إلى طبقة "الكشاترية"- أي المقاتلين- أحسن تدريبه في الفنون العسكرية، ولكنه إلى جانب ذلك جلس عند أقدام الحكماء حتى أتقن دراسة النظريات الفلسفية كلها التي كانت شائعة في عصره(29)؛ وتزوج وأصبح والداً سعيداً بحياته، وعاش في ثراء ودعة وطيب أحدوثة.
ويروى الرواة الصالحون أنه خرج من قصره ذات يوم إلى الطرقات حيث عامة الناس، وهنالك رأى شيخاً كهلاً؛ وخرج يوماً ثانياً فرأى رجلاً مريضاً؛ وخرج يوماً ثالثاً فرأى ميتاً... فاسمع له يروي القصة بنفسه- كما نقلها عنه أتباعه في الكتب المقدسة- يرويها فيحرك في نفسك كامن الشعور:
"وبعدئذ أيها الرهبان جرت خواطري على النحو الآتي- فيما كنت فيه من جلال عيش ورفاهية بالغة- قلت لنفسي: "إن رجلاً جاهلاً من سواد الناس، ستنال منه الكهولة كما نالت من ذلك الشيخ، وليس هو بالبعيد عن نطاق الشيخوخة، يضطرب ويستحي وتعاف نفسه حين يبصر بشيخ كهل، لأنه يتصور نفسه في مثل حالته؛ إنني كذلك قابل للشيخوخة، ولست بعيداً عن نطاقها؛ أفينبغي لي- وأنا القابل للشيخوخة- إذا ما رأيت شيخاً كهلاً، أن أضطرب وأن أستحي وأن تعاف نفسي؟ " لم أر ذلك مما يليق؛ ولما طاف برأسي هذا الخاطر، ذهب عني بغتة كل تيه بشبابي ...
صفحة رقم : 720

قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الهند وجيرانها -> بوذا -> أسطورة بوذا

وهكذا أيها الرهبان، قبل أن أهتدي سواء السبيل، لما وجدتني ممن تجوز عليهم الولادة، بحثت في طبيعة هذه الولادة ماذا تكون؛ ولما وجدتني ممن تجوز عليهم الشيخوخة بحثت في طبيعة هذه الشيخوخة ماذا تكون، وكذلك المرض، وكذلك الحزن، وكذلك الدنس؛ ثم فكرت لنفسي: "مادمت أنا نفسي ممن تجوز عليهم الولادة، فماذا لو بحثت في طبيعتها ... فلما رأيت ما في طبيعة الولادة من تعس، جعلت أبحث عمن لا يولد، أبحث عن السكينة العليا، سكينة النرفانا"(30).
إن الموت هو أصل الديانات كلها؛ ويجوز أنه لم يكن هناك موت لما كان للآلهة عندنا وجود؛ هذه النظرات كانت بداية "التنوير" عند بوذا؛ وكما يرتد الإنسان عن دينه في لحظة، كذلك حدث لبوذا أن صمم فجأة أن يترك أباه وزوجته وابنه الرضيع، ليضرب في الصحراء زاهداً؛ ولما أسدل الليل ستاره، تسلل إلى غرفة زوجته، ونظر إلى ابنه "راهولا" نظرة أخيرة؛ وتقول الأسفار المقدسة البوذية، ففي فقرة يقدسها اتباع "جوتاما" جميعاً، أنه في هذه اللحظة عينها:
"كان مصباح يضيء بزيت عبق، وكانت أم "راهولا" نائمة على سرير مليء بأكداس الياسمين وغيره من ألوان الزهور، واضعة راحتها على رأس ابنها؛ فنظر "بوذيساتاوا"- بوذا المنتظر- وقدماه عند الباب، وقال لنفسه:
"لو أزحت يد الملكة لآخذ ابني، فستستيقظ الملكة، وسيكون ذلك حائلاً دون فراري؛ إنني إذا ما أصبحت بوذا سأعود لأراه" ونزل من القصر (31).
وفي ظلمة الصباح الباكر خلف المدينة على ظهر جواده "كانثاكا" يصحبه سائق عربته "شونا" وقد تعلق يائساً بذيل الجواد؛ وعندئذ تبدى له "مارا" أمير الشر، وأغواه بمُلك عريض، لكن بوذا أبى عليه غوايته، وظل راكباً جواده حتى صادفه نهر عريض فوثب من شاطئه إلى شاطئه بوثبة
صفحة رقم : 721
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الهند وجيرانها -> بوذا -> أسطورة بوذا

واحدة جبارة وطافت بنفسه رغبة أن ينظر إلى بلده لكنه أبى على نفسه اللفتة ليرى؛ ثم استدارت الأرض العظيمة حتى لا تصبح أمامه سبيل إلى النظر إلى وراء(32).
ووقف عند مكان اسمه "يوروفيلا" يقول: "قلت لنفسي إن هذا المكان رائع، وإن هذه لغابة جميلة؛ فالنهر ينساب صافياً، وأماكن الاستحمام تبعث في النفس السرور، وكل ما حولي مروج وقرى". وهاهنا في هذا الموضوع أخضع نفسه لأشق أنواع التقشف؛ ولبث ستة أعوام يحاول أساليب "اليوجا"- رياض النفس- التي كانت قد ظهرت قبل ذاك في ربوع الهند؛ وعاش على الحبوب والكلأ، ومضى عليه عهد اقتات فيه بالروث، وانتهى به التدرج إلى أن جعل طعامه حبة من الأرز كل يوم، ولبس ثياباً من الوبر وانتزع شعر رأسه ولحيته لينزل بنفسه العذاب لذات العذاب؛ وكان ينفق الساعات الطوال واقفاً أو راقداً على الشوك، وكان يترك التراب والقذر يتجمع على جسده حتى يشبه في منظره شجرة عجوزاً؛ وكثيراً ما كان يرتاد مكاناً تلقى فيه جثث الموتى مكشوفة ليأكلها الطير والوحش، فينام بين هذه الجثث العفنة. ثم اسمع له مرة أخرى يروي لك قصته:
"قلت لنفسي: ماذا لو زممت الآن أسناني، وضغطت لساني إلى لهاتي، وألجمت عقلي وسحقته وأحرقته بعقلي (وهكذا فعلت) ونضح العرق من إبطي... ثم قلت لنفسي: ماذا لو اصطنعت الآن غيبوبة شعورية يقف فيها التنفس؟ وهكذا أوقفت النفس شهيقاً وزفيراً من أنفي وفمي؛ ولما فعلت ذلك سمعت صوتاً عنيفاً للهواء يخرج من أذني... وكما يحدث للرجل إذا ما أراد أن يهشم لإنسان رأسه بسن سيفه، فكذلك رجت الرياح العنيفة رأسي ... ثم قلت لنفسي: ماذا لو قللت من طعامي، فلا آكل اكثر مما تسع راحتي من عصير الفول أو العدس أو البسلة أو الحمص... فضمر جسدي ضموراً شديداً، وكان من أثر تقليل الطعام أن أصبحت العلامة التي أتركها على الأرض إذا ما جلست، في هيئة أثر الخف يتركه البعير على الرمال؛ وكان من أثر
صفحة رقم : 722

قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الهند وجيرانها -> بوذا -> أسطورة بوذا

تقليل الطعام أن برزت عظام فقراتي إذا ما حنيتها أو فردتها حتى أشبهت صفاً من رؤوس المغازل؛ وكان من أثر تقليل الطعام أن أصبحت عيني تبرقان عميقتين وطيئتين في محجريهما، كما يبرق الماء عميقاً وطيئاً في بئر عميقة؛ وكان من أثر تقليل الطعام أن ذبل جلد رأسي كما تتشقق وتذوي القرعة المرة المفصولة عن فرعها وهي فجة، بفعل الشمس والمطر؛ ولما كنت أمد يدي لأمس جلدة بطني، كنت أجدني في حقيقة الأمر أمسك بفقرات ظهري؛ وكان من أثر تقليل الطعام أني إذا ما أردت برازاً وجدتني انبطح على الأرض سطيحاً، وكان من أثر تقليل الطعام أني إذا أردت راحة لجسمي وأخذت أدلكه بكفي، كانت الشعرات الذاوية تساقط منه"(33).
لكن فكرة أشرقت على بوذا ذات يوم وهي أن تعذيب النفس ليس هو السبيل لما يريد؛ وربما كان في ذلك اليوم أشد جوعاً منه في سائر الأيام، أو ربما ثارت في نفسه إذ ذاك ذكرى من ذكريات الجمال؛ ذلك أنه لم يلحظ تنويراً جديداً يأتيه من هذه الحياة القاسية بزهدها؛ "إنني بمثل هذه القسوة لا أراني أبلغ العلم والبصيرة الساميتين على مستوى البشر، وهما العلم والمعرفة اللتان تتصفان بالرفعة الحقيقية"؛ بل الأمر على نقيض ذلك، إن تعذيبه لنفسه قد ولد فيه شعور الزهو بنفسه مما يفسد أي نوع من أنواع التقديس التي كان من الجائز أن تفيض من نفسه؛ فأقلع عن زهده وذهب ليجلس تحت شجرة وارفة الظل وجلس هناك جلسة مستقيمة لا حركة فيها، مصمماً ألا يبرح ذاك المكان حتى يأتيه التنوير؛ وسأل نفسه: ما مصدر ما يعانيه الإنسان من أحزان وآلام وأمراض وشيخوخة وموت؟ وهنا أشرقت عليه فجأة صورة للموت والولادة يتعاقبان في مجرى الحياة تعاقباً لا ينتهي؛ ورأى أن كل موت يزول أثره بولادة جديدة؛ وكل سكينة وغبطة تقابلها شهوة جديدة وقلق جديد وخيبة أمل جديدة وحزن جديد وألم جديد. "وهكذا
صفحة رقم : 723

قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الهند وجيرانها -> بوذا -> أسطورة بوذا

ركزت عقلي في حالة من نقاء وصفاء... ركزته في فناء الكائنات وعودتها إلى الحياة في ولادة جديدة؛ وبنظرة قدسية مطهرة إلهية، رأيت الكائنات الحية تمضي ثم تعود فتولد دنية أو سنية، خيرة أو شريرة، سعيدة أو شقية، حسب ما يكون لها من "كارما" وفق ذلك القانون الشامل الذي بمقتضاه سيتلقى كل فعل خير ثوابه، وكل فعل شرير عقابه، في هذه الحياة، أو في حياة تالية تتقمص فيها الروح جسداً آخر.

إن رؤيته لهذا التعاقب السخيف سخفاً لا يخفي على الرائي، هذا التعاقب بين الموت والولادة، هي التي جعلته يزدري الحياة البشرية ازدراء؛ فقال لنفسه: إن الولادة أم الشرور جميعاً، ومع ذلك فالولادة ماضية في طريقها لا تقف فيه عند حد، أنها ماضية إلى الأبد في طريقها تعيد إلى مجرى الأحزان البشرية فيضه إن فرغ مما يملؤه؛ فلو استطعنا وقف هذه الولادة ... لماذا لا نقفها؟ لأن قانون "كارما" يتطلب حالات جديدة من التقمص للروح، لكي يتاح لها أن تكفر عما اقترفت من شرور في حيواتها الماضيات؛ وإذن فإن استطاع الإنسان أن يعيش حياة يسودها عدل كامل، حياة يسودها صبر وشفقة لا يمتنعان إزاء الناس جميعاً، لو استطاع أن يحوم بفكره حول ما هو أبدي خالد، ولا يربط هواه بما يبدأ وينتهي- عندئذ يجوز أن يجنب نفسه العودة إلى الحياة، وسيغيض معين الشر بالنسبة إليه؛ لو استطاع الإنسان أن يخمد شهوات نفسه، ساعياً وراء فعل الخير دون سواه، عندئذ يجوز أن يمحو هذه الفردية التي هي أولى أوهام الإنسانية وأسوأها آثراً، وتتحد النفس آخر الأمر باللانهاية اللاواعية؛ فيالها من سكينة تحل بقلب طهر نفسه من شهواته الذاتية تطهيراً تاماً !- وهل ترى قلباً، لم يطهر نفسه على هذا النحو، قد عرف إلى السكينة سبيلاً ؟ إن السعادة مستحيلة، فلا هي ممكنة في هذه الحياة الدنيا كما يظن الوثنيون، ولا هي ممكنة في الحياة الآخرة كما يتوهم
صفحة رقم : 724
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الهند وجيرانها -> بوذا -> أسطورة بوذا

أنصار كثير من الديانات، أما ما يمكن أن نظفر به فهو السكينة، هو الهمود البارد الذي نصيبه إذا ما نفضنا عنا كل شهواتنا، هو النرفانا.
وهكذا بعد سنوات سبع قضاها متأملاً، أدرك "النبي المستنير" سبب ما يعانيه الناس من آلام فأخذ سمته نحو "المدينة المقدسة" مدينة بنارس، وهناك في روضة الغزلان عند "سارنات" طفق يبشر الناس بالنرفانا.

صفحة رقم : 725

قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الهند وجيرانها -> بوذا -> تعاليم بوذا

الفصل الرابع
تعاليم بوذا
صورة الزعيم - أساليبه - الحقائق السامية الأربع - الطريق ذو
الخمس شعب - قواعد الأخلاق الخمس - بوذا والمسيح - لا أدرية
بوذا ومناهضته لرجال الدين - إلحاده - علم النفس بغير نفس- معنى النرفانا
كانت وسيلة بوذا في نشر تعاليمه- شأنه في ذلك شأن سائر المعلمين في عصره- هي المحاورة والمحاضرة وضرب المثل؛ ولما لم يدر في خلده قط- كما لم يدر في خلد سقراط أو المسيح- أن يدون مذهبه، فقد لخصه في "عبارات مركزة" أريد بها أن يسهل وعيه على الذاكرة؛ وهذه المحادثات- على الصورة التي احتفظ لنا بها الرواة من أتباعه- تصور تصويراً لاشعورياً أول شخصية واضحة الحدود والمعالم في التاريخ الهندي: رجل قوى الإرادة، صادق الرواية، مزهو بنفسه، وديع المعاملة، رقيق الكلام، محسن إحساناً
صفحة رقم : 726
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الهند وجيرانها -> بوذا -> تعاليم بوذا

لا ينتهي عند حد معلوم؛ ولقد زعم لنفسه "الاستنارة" لكنه لم يدّعِ الوحي، فما زعم قط للناس أن إلهاً كان يتكلم بلسانه؛ وهو في جدله مع خصومه أكثر صبراً ومجاملة من أي معلم آخر ممن شهدت الإنسانية من أعلام المعلمين؛ ويصوره لنا أتباعه- وربما كانوا يضيفون إليه ما ليس فيه لتكمل صورته- يصورنه لنا مصطنعاً لـ "أهمسا" على أتم درجاتها (والأهمسا هي الامتناع عن قتل الكائنات الحية على اختلافها)؛ فيقولون عنه : "أن جوتاما الذي اعتزل الناس قد رفع نفسه عن الفتك بالحياة، بأن كف عن قتل الأحياء؛ لقد خلع عن نفسه الهراوة والسيف (مع أنه كان يوماً من طبقة الكشاترية- أي طبقة المقاتلين) وهو يزورُّ عن غلظة المعاملة ازوراراً، ويمتلئ قلبه بالرحمة، فهو رحيم شفوق بكل كائن تدب فيه بالحياة... وترفع عن النميمة، أو رفع نفسه عن دناءة الغيبة... هكذا كان يعيش رابطاً لما انحلت عراه، مشجعاً لدوام الصداقة بين الأصدقاء، مصلحاً ذات البين عند الخصوم، محباً للسلام، متحمساً للسلام، متحدثاً بكلمات تهيئ للسلام" (36)؛ لقد كان مثل "لاوتسي" ومثل "المسيح" يود أن يرد السيئة بالحسنة، والكراهية بالحب؛ وإذا أسيء إليه في النقاش أو أسيء التفاهم بينه وبين من يحاوره، آثر الصمت: "إذا أساء إلي إنسان عن حمق، فسأرد عليه بوقاية من حبي إياه حباً مخلصاً، وكلما زادني شراً، زدته خيراً" ؛ فإذا جاءه غر وإهانة، استمع إليه بوذا وهو صامت، حتى إذا ما فرغ الرجل من حديثه، سأله بوذا: "إذا رفض إنسان يا بني أن يقبل منحة تقدم إليه فمن يكون صاحبها؟" فيجيبه الرجل : "إن صاحبها عندئذ هو من قدمها"؛ فيقول له بوذا: "إني أرفض يا بني قبول إهانتك، والتمس منك أن تحفظها لنفسك"(37). إن بوذا- على خلاف الكثرة الغالبة من القديسين- كانت له روح الفكاهة، لأنه أدرك أن البحث الميتافيزيقي بغير ضحك يصاحبه، من ضروب الكبرياء.
صفحة رقم : 727

قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الهند وجيرانها -> بوذا -> تعاليم بوذا

كانت طريقته في التعليم فريدة لا يماثلها نظير، ولو أنها مدينة بشيء "للجوالين" أو السوفسطائيين المتنقلين الذي عاصروه في بلده؛ فكان ينتقل من بلد إلى بلد، وفي صحبته تلاميذه المقربون، وفي أثره ما يقرب من ألف ومائتين من أتباعه المخلصين؛ ولم يكن أبداً يهتم لغده، فكان يكتفي بالزاد يقدمه له أحد المعجبين من سكان البلد الذي يحل فيه؛ ولقد وصم ذات يوم أتباعه بالعار، لأنه أكل في منزل امرأة فاجرة(38)؛ كانت طريقته دائماً أن يقف السير عند مدخل قرية من القرى، ويضرب خيامه في حديقة أو غابة أو على ضفة نهر؛ وكان يخصص ساعات العصر لتأملاته، وساعات المساء للتعليم؛ وكانت محادثاته تجري في صورة سقراطية من الأسئلة وضرب الأمثلة الخلقية والتلطف في الحوار، أو كان يسوق تعاليمه في عبارات مقتضبة يرمي بها إلى تركيز آرائه تركيزاً يجعلها في صورة من الإيجاز والترتيب بحيث تقر في الأذهان؛ وأحب "عباراته التعليمية المقتضبة" إلى نفسه هي "الحقائق السامية الأربع" التي بسط فيها رأيه بأن الحياة ضرب من الألم، وأن الألم يرجع إلى الشهوة، وأن الحكمة أساسها قمع الشهوات جميعاً:
1- تلك- أيها الرهبان- هي الحقيقة السامية عن الألم : الولادة مؤلمة، والمرض مؤلم، والشيخوخة مؤلمة، والحزن والبكاء والخيبة واليأس كلها مؤلم...
2- وتلك أيها الرهبان- هي الحقيقة السامية عن سبب الألم : سببه الشهوة، الشهوة التي تؤدي إلى الولادة من جديد، الشهوة التي تمازجها اللذة والانغماس فيها، الشهوة التي تسعى وراء اللذائذ تتسقطها هنا وهناك، شهوة العاطفة، وشهوة الحياة، وشهوة العدم.
3- وتلك- أيها الرهبان هي الحقيقة السامية عن وقف الألم :
صفحة رقم : 728
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الهند وجيرانها -> بوذا -> تعاليم بوذا

أن نجتث هذه الشهوة من أصولها فلا تبقى لها بقية في نفوسنا، السبيل هي الانقطاع والعزلة والخلاص وفكاك أنفسنا مما يشغلها من شئون العيش.
4- وتلك- أيها الرهبان- هي الحقيقة السامية عن السبيل المؤدية إلى وقف الألم : إنها السبيل السامية ذات الشعب الثماني، ألا وهي: سلامة الرأي، وسلامة النية، وسلامة القول، وسلامة الفعل، وسلامة العيش، وسلامة الجهد، وسلامة ما نعني به، وسلامة التركيز(39).
كانت عقيدة بوذا التي يؤمن بصدقها، هي أن الألم أرجح كفة من اللذة في الحياة الإنسانية، وإذن فخير للإنسان ألا يولد؛ وهو في ذلك يقول أن ما سفح الناس من دموع لأغزر من كل ما تحتوي المحيطات العظيمة الأربعة من مياه(40)؛ فعنده إن كل لذة تحمل سمها في طيها، لمجرد أنها لذة عابرة قصيرة: "أذلك الذي يزول ولا يقيم هو الحزن أم السرور؟ "ألقى هذا السؤال على أحد تلاميذه، فأجابه هذا بقوله: "إنه الحزن يا مولاي"(41)؛ إذن فأس الشرور هو "تامبا"- وليس معناها الشهوة كائنة ما كانت، بل الشهوة الأنانية؛ الشهوة التي يوجهها صاحبها إلى صالح الجزء أكثر مما يريد بها صالح الكل؛ وفوق الشهوات كلها الشهوة الجنسية، لأنها تؤدي إلى التناسل الذي يطيل من سلسلة الحياة إلى ألم جديد بغير غاية مقصودة؛ وقد استنتج أحد تلاميذه من ذلك أنه- أي بوذا- بهذا الرأي يجيز الانتحار، لكن بوذا عنفه على استنتاجه ذاك، قائلاً: إن الانتحار لا خير فيه، لأن روح المنتحر- بسبب ما يشوبها من أدران- ستعود فتولد من جديد في أدوار أخرى من التقمص، حتى يتسنى لها نسيان نفسها نسياناً تاماً.
ولما طلب تلاميذه منه أن يحدد معنى الحياة السليمة في رأيه لكي يزيد الرأي وضوحاً، صاغ لهم "قواعد خلقية خمسة" يهتدون بها- وهي بمثابة
صفحة رقم : 729
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الهند وجيرانها -> بوذا -> تعاليم بوذا

الوصايا لكنها بسيطة مختصرة، غير أنها قد تكون "أشمل نطاقاً وأعسر التزاماً، مما تقتضيه الوصايا العشر" :
وأما وصاياه الخمس فهي :
1- لا يقتلن أحد كائناً حياً.
2- لا يأخذن أحد ما لم يعطه.
3- لا يقولن أحد كذباً.
4- لا يشربن أحد مسكراً.
5- لا يقمن أحد على دنس.
وترى بوذا في مواضع أخرى يضيف إلى تعاليمه عناصر يتسلف بها تعاليم المسيح على نحو يدعو إلى العجب: "على الإنسان أن يتغلب على غضبه بالشفقة، وأن يزيل الشر بالخير... إن النصر يولد المقت لأن المهزوم في شقاء... إن الكراهية يستحيل عليها في هذه الدنيا أن تزول بكراهية مثلها، إنما تزول الكراهية بالحب"(44). وهو كالمسيح لم يكن يطمئن نفساً في حضرة النساء، وتردد كثيراً قبل أن يسمح لهن بالانضمام إلى الطائفة البوذية؛ ولقد سأله تلميذه المقرب "أناندا" ذات يوم:
"كيف ينبغي لنا يا مولاي أن نسلك إزاء النساء؟".
"كما لو لم تكن قد رأيتهن يا أناندا".
"لكن ماذا نصنع لو تحتمت علينا رؤيتهن؟".
"لا تتحدث إليهن يا أناندا"
"لكن إذا ما تحدثن إلينا يا مولاي فماذا نصنع؟"
"كن منهن على حذر تام يا أناندا"
صفحة رقم : 730
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الهند وجيرانها -> بوذا -> تعاليم بوذا

كانت فكرته عن الدين خلقية خالصة؛ فكان كل ما يعنيه سلوك الناس، وأما الطقوس وأما شعائر العبادة، وما وراء الطبيعة واللاهوت، فكلها عنده لا تستحق النظر؛ وحدث ذات يوم أن هم برهمي بتطهير نفسه من خطاياها باستحمامه في "جايا" ، فقال له بوذا: "استحم هنا، نعم هاهنا ولا حاجة بك إلى السفر إلى جايا أيها البرهمي؛ كن رحيماً بالكائنات جميعاً؛ فإذا أنت لم تنطق كذباً، وإذا أنت لم تقتل روحاً، وإذا أنت لم تأخذ ما لم يعط لك، ولبثت آمناً في حدود إنكارك لذاتك- فماذا تجني من الذهاب إلى "جايا"؟ إن كل ماء يكون لك عندئذ كأنه جايا"(46)، إنك لن تجد في تاريخ الديانات ما هو أغرب من بوذا يؤسس ديانة عالمية، ومع ذلك يأبى أن يدخل في نقاش عن الأبدية والخلود والله؛ فاللانهائي أسطورة- كما يقول- وخرافة من خرافة الفلاسفة، الذين ليس لديهم من التواضع ما يعترفون به بأن الذرة يستحيل عليها أن تفهم الكون؛ وإنه ليبتسم(47) ساخراً من المحاورة في موضوع نهائية الكون أو لا نهائيته؛ كأنما هو قد تسلف بنظره إذ ذاك ما يدور بين علماء الطبيعة والرياضيات اليوم من مناقشة حول الموضوع مناقشة ما أقربها من حديث الأساطير؛ لقد رفض أن يبدي رأياً عما إذا كان للعالم بداية أو نهاية، أو إذا كانت النفس هي هي البدن أو شيئاً متميزاً منه، أو إذا كان في الجنة ثواب للناس حتى أقدس القديسين من بينهم؛ وهو يسمي هذه المشكلات "غاية التأمل النظري وصحراءه وبهلوانه والتواءه وتعقيده"(48) ويعتزم ألا يكون له شأن بأمثال هذه المسائل، فهي لا تؤدي بالباحثين فيها إلا إلى الخصومة الحادة، والكراهية الشخصية والحزن؛ ويستحيل أن تؤدي بهم إلى حكمة أو سلام؛ إن القدسية والرضى لا يكونان في معرفة الكون والله، وإنما يكونان في العيش الذي ينكر فيه الإنسان ذاته، ويبسط كفه للناس إحسانا(49)؛ ثم يضيف إلى ذلك تهكماً بشعاً فيقول أن الآلهة أنفسهم، لو كان
صفحة رقم : 731

قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الهند وجيرانها -> بوذا -> تعاليم بوذا

لهم وجود، لما كان في وسعهم أن يجيبوا عن أمثال هذه المسائل.
حدث ذات مرة يا "كفاذا" أن طاف الشك بزميل من طائفة الزملاء هذه، حول النقطة الآتية : "أين تمضي هذه العناصر الأربعة الكبرى : التراب والماء والنار والهواء، بحيث لا تترك وراءها أثرا؟" وجعل ذلك الزميل يقدح زناد عقله حتى أخذته حالة من الوجد اتضحت له معها السبيل المؤدية إلى الله.
وعندئذ يا "كفاذا" صعد هذا الزميل إلى مملكة الملوك الأربعة الكبار، وخاطب آلهتهم قائلاً : "أين يا أصدقائي تذهب العناصر الأربعة
صفحة رقم : 732
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الهند وجيرانها -> بوذا -> تعاليم بوذا

الكبرى- التراب والماء والنار والهواء- بحيث لا تترك وراءها أثرا؟"
فلما أن فرغ من سؤاله هذا، أجابه آلهة في سماء الملوك الأربعة الكبار: "إننا يا أخانا لا ندري من ذلك شيئاً، لكن هنالك الملوك الأربعة الكبار، هم أقوى منا وأعظم، سلهم يجيبوك".
وعندئذ يا "كفاذا" ذهب ذلك الزميل إلى الملوك الأربعة وسأل نفس السؤال فأحيل بمثل ذلك الجواب إلى "الثلاثة والثلاثين" الذي أحالوه بدورهم إلى ملكهم "ساكا" الذي أحاله إلى آلهة "ياما" ، وهؤلاء أحالوه إلى ملكهم "سوياما" الذي أحاله إلى آلهة "توسيتا" ، وهؤلاء أحالوه إلى ملكهم "سانتوسيتا" ، الذي أحاله إلى آلهة "نمانا- رتى" ، وهؤلاء أحالوه إلى ملكهم "سوني ميتا" الذي أحاله إلى آلهة "بارانيميتا فاسافاتى" ، وهؤلاء أحالوه إلى ملكهم "فاسافاتى" الذي أحاله إلى آلهة العالم البرهمي).

وبعدئذ يا "كفاذا" جعل ذلك الزميل يركز تفكيره في نفسه تركيزاً استنفذ كل ذرة من انتباهه، وانتهى به ذلك التفكير المركز إلى شهوده بعقله الذي أمسك هكذا بزمامه، طريق العالم البرهمي واضحاً؛ فدنا من الآلهة التي تتألف منها حاشية براهما، وقال : "أين يا أصدقائي تذهب العناصر الأربعة الكبرى- التراب والماء والنار والهواء- بحيث لا تترك وراءها أثرا؟".
"فلما فرغ من سؤاله أجابته الآلهة التي تؤلف حاشية براهما قائلاً: "إننا يا أخانا لا ندري من ذلك شيئاً، لكن هنالك براهما، براهما العظيم، الواحد العلي، الواحد القدير، الواحد البصير، من بيده الأمر وله التدبير في جميع الشئون، فهو ضابط كل شئ وخالق كل شئ وسيد كل شئ ... هو السابق للزمان، وهو والد كل ما هو كائن وكل ما سيكون! إنه أقوى منا وأعظم، سله يجبك".
"أين إذن هذا البراهما العظيم؟".
"إننا يا أخانا لا ندري أين يكون براهما، ولا لماذا كان ولا من أين جاء؛ ولكن يا أخانا إذا ما بدت لنا بوادر مجيئه، إذا ما أشرق الضوء وسطع المجد، عندئذ سيبتدي للناظرين، لأن بادرة ظهور براهما هي إشراق الضوء وسطوح المجد".
ولم يمض طويل وقت بعد ذاك يا "كفاذا" حتى تبدى براهما العظيم، فدنا منه أخونا ذاك وسأله: "أين يا صديقي تذهب العناصر الأربعة الكبرى- التراب والماء والنار والهواء- بحيث لا تترك وراءها أثرا؟".
فما فرغ من سؤاله أجابه براهما العظيم: "أنا يا أخي براهما العظيم العلي القوي البصير، بيدي الأمر والتدبير في كل شئ، وأنا ضابط كل شئ وخالق كل شئ وسيد كل شئ، أعين لكل شئ مكانه، أنا السابق للزمان ووالد كل ما هو كائن وكل ما سيكون!".
عندئذ أجاب الأخ براهما قائلاً: "أنا لم أسألك يا صديقي هل أنت حقاً كل هذا الذي ذكرت من صفات، لكني سألتك أين تذهب العناصر الأربعة الكبرى- التراب والماء والنار والهواء- بحيث لا تترك وراءها أثراً؟".
صفحة رقم : 733

قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الهند وجيرانها -> بوذا -> تعاليم بوذا

فأجابه براهما نفس الجواب مرة أخرى يا "كفاذا".
وأعاد أخونا سؤاله للمرة الثالثة إلى براهما.
فأخذ براهما العظيم- يا "كفاذا"- أخانا ذاك ونحاه جانباً وقال:
"إن هذه الآلهة التي منها تتألف حاشية براهما، تعتقد أني- يا أخي- أرى كل شئ وأعلم كل شئ وأتبين حقيقة كل شئ؛ ولهذا لم أجبك في حضرتهم؛ ولكنني، أيها الأخ، لست أدري أين تذهب هذه العناصر الأربعة الكبرى- التراب والماء والنار والهواء- بحيث لا تترك وراءها أثراً(50).
فإذا ما قال لبوذا بعض تلاميذه، إن البراهمة يزعمون الإلمام بحلول هذه المسائل، أجابهم بوذا ساخراً: "هنالك يا إخواني بعض الرهبان وبعض البراهمة يتلوون مثل ثعابين الماء، فإذا ما ألقيت عليهم سؤالاً في هذا الموضوع أو ذاك، عمدوا إلى غموض القول، وإلى تلوي الثعابين"(51)؛ ولو بدت من بوذا حدة إزاء أحد إطلاقاً، فإنما كان حاداً تجاه كهنة عصره، فهو يهزأ بدعواهم أن أسفار الفيدا من وحي الإله(52)، ويفضح البراهمة المعتزين بطبقتهم بقبوله في طائفته أعضاء الطوائف جميعاً بغير تفريق؛ إنه لا يهاجم نظام الطبقات مهاجمة صريحة، لكنه يقول لتلاميذه في وضوح وجلاء: "انتشروا في الأرض كلها وانشروا هذه العقيدة؛ قولوا للناس إن الفقراء والمساكين، والأغنياء والأعيان، كلهم سواء، وكل الطبقات في رأي هذه العقيدة الدينية تتحد لتفعل فعل الأنهار تصب كلها في البحر"(53)، وهو يرفض الأخذ بفكرة التضحية في سبيل الآلهة، ويفزع أشد الفزع لرؤية الحيوان يذبحونه ليقيموا أمثال هذه الطقوس(54)؛ ويرفض كل اعتقاد وكل عبادة لكائنات أعلى من هذه الطبيعة، ويربأ بنفسه عن التعزيم والرقى والتقشف والدعاء(55)، ويقدم للناس في هدوء وبغير محاجة ولجاج ديناً حراً أكمل الحرية من جمود الفكر ومن صناعة الكهنوت، ويفتتح طريقاً للخلاص، للكافرين والمؤمنين أن يسلكوه على السواء.

صفحة رقم : 734
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الهند وجيرانها -> بوذا -> تعاليم بوذا

وقد يتحول هذا القديس أحياناً، الذي هو أشهر من عرف الدهر من قديسي الهندوس، قد يتحول من اللا أدرية إلى إلحاد صريح ؛ إنه لا ينحرف عن جادته لينكر وجود الله، بل إنه حيناً بعد حين يذكر براهما كأنما هو حقيقة واقعة أكثر منه مثلاً أعلى(58) ثم هو لا يحرم عبادة الآلهة الشائعة بين الناس(59) لكنه يسخر من فكرة إرسال الدعوات إلى "المجهول" ، وفي ذلك يقول "إنه لمن الحمق أن تظن أن سواك يستطيع أن يكون سبباً في سعادتك أو شقائك(60) لأن السعادة والشقاء دائماً نتيجة سلوكنا نحن وشهواتنا نحن؛ وهو يأبى أن يبني تشريعه الخلقي على عقوبات تفرضها قوة وراء الطبيعة، كائنة ما كانت تلك العقوبات، ولا يجعل جزءاً من عقيدته جنة ولا مطهراً ولا جحيماً(61)؛ وهو أرهف حساسية للألم والقتل الذي ينزل بالكائنات الحية بحكم العملية البيولوجية في الحياة، من أن يفرض أن هذا القتل وذاك الألم قد أرادهما إله مشخص إرادة عن عمد وتدبير، وهو يرى أن هذه الأغلاط في نظام الكون ترجح ما فيه من آيات تدل على تدبير وتنسيق(62)؛ إنه لا يرى على هذا المسرح الذي تمتزج فيه الفوضى والنظام، والخير والشر، مبدأ ينم عن الدوام، ولا مركزاً لحقيقة أبدية خالدة(63)، وكل ما يراه في الحياة دوامة تدور وحركة ما تنفك في تغير؛ إن الحقيقة الميتافيزيقية النهائية في هذه الحياة هي التغير.
وكما أنه يقترح لاهوتاً بغير إله، فكذلك يقدم لنا علم النفس بغير النفس؛ فهو يرفض الروحانية في شتى صورها حتى في حالة الإنسان؛ وهو يوافق هرقليطس وبرجسن في رأيهما عن العالم، كما يوافق هيوم في رأيه عن العقل، فكل ما نعرفه هو إحساساتنا، وإذن، فإلى الحد الذي نستطيع أن نبلغه بعلمنا، لا نرى سوى أن المادة كلها ضرب من القوة، والعناصر كلها نوع من الحركة،
صفحة رقم : 735

قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الهند وجيرانها -> بوذا -> تعاليم بوذا

الحياة تغير، هي مجرى دافق محايد من صيرورة وفناء؛ إن "الروح" أسطورة من الأساطير، فرضناها بغير مبرر يؤديها، لنريح بهذا الفرض أذهاننا الضعيفة، فرضناها قائمة وراء سلسلة الحالات الشعورية المتعاقبة(64) إن هذا "الرابط الذي يربط المدركات دون أن يكون واحداً منها" ، هذا "العقل" الذي ينسج خيوط إحساساتنا وإدراكاتنا في نسيج من الفكر، إن هو إلا شبح توهمناه؛ وكل ما هو موجود حقاً هو الإحساسات نفسها والإدراكات نفسها، تتكون بصورة آلية في هيئة تذكرات وأفكار(65)؛ حتى هذه "الذات" النفسية ليست كائناً قائماً بذاته متميزاً من سلسلة الحالات العقلية؛ ليست الذات سوى استمرار هذه الحالات، وتذكر الحالات اللاحقة للحالات السابقة، مضافاً إلى ذلك ما يتعوده الجسم العضوي من عادات عقلية وسلوكية، وما يتكون لديه من ميول واتجاهات(66)؛ إن تعاقب هذه الحالات لا تسببه "إرادة" أسطورية تضاف إليها من أعلى، بل تقررها الوراثة والعادة والبيئة والظروف(67) فهذا العقل السائل الذي لا يعدو أن يكون مجموعة من حالات عقلية، هذه النفس أو هذه الذات التي ليست إلا ميلاً نحو سلوك معين أو هوى إلى اتجاه بذاته، كونته الوراثة التي لا حول لها ولا قوة، كما كونته كذلك الخبرة العابرة خلال تجارب الحياة، أقول إن هذه النفس أو هذه الذات أو هذا العقل يستحيل أن ينطبق عليه معنى الخلود، إذا فهمنا من هذا المعنى استمرار الفرد في وجوده(68) فليس القديس، بل ليس بوذا نفسه بخالد بعد موته خلوداً يحفظه بشخصه(69).

ولكن إن كان ذلك كذلك، فكيف يمكن أن يعود الحي إلى الحياة من جديد في ولادة ثانية؟ إذا لم يكن هناك روح، فما الذي يتقمص أجساداً أخرى في ولادات تالية، ليلقي عذابه على خطاياه إذ هو حال في صورة الجسد؟ تلك هي أضعف الجوانب في فلسفة بوذا، فهو لا يحاول أبدا أن يزيل التناقص الكائن بين علم نفسه العقلي وبين قبوله لمذهب التقمص قبولاً
صفحة رقم : 736
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الهند وجيرانها -> بوذا -> تعاليم بوذا

أعمى؛ إن هذا الإيمان بحقيقة التناسخ أو تقمص الروح في أجساد متتالية، له في الهند قوة وشمول بحيث يعتنقه كل هندوسي على أنه بديهية أو فرض لا بد من التسليم بصحته، ولا يكاد يكلف نفسه عناء التدليل عليه؛ فتعاقب الأجيال هناك تعاقباً سريعاً متلاحقاً بسبب قصر الأعمار وكثرة النسل، يوحي إلى الإنسان إيحاء لا يستطيع أن يفر منه، بأن القوة الحيوية تنتقل من جسد إلى جسد- أو بأن الروح تحل بدناً بعد بدن، إذا عبرنا عن الأمر بعبارة لاهوتيه -؛ ولقد طافت الفكرة برأس بوذا مع مر الهواء في أنفاسه؛ فهذا الهواء يدخل شهيقاً ويخرج زفيراً هو الحقيقة الواحدة التي لم يشك فيها قط على ما يبدو(70)؛ إنه سلم تسليماً بعجلة التناسخ في دورانها وبقانون "كارما" وتفكيره كله إنما يدور حول سبيل الفرار من هذه العجلة الدوارة، كيف يمكن للإنسان أن يحقق لنفسه النرفانا في هذه الحياة الدنيا، والفناء التام في الحياة الآخرة.

ولكن ما "النرفانا"؟ أنه من العسير أن تجد لهذا السؤال جواباً خاطئاً، لأن الزعيم قد ترك الموضوع غامضاً، فجاء أتباعه وفسروا الكلمة بكل ما يستطيع أن يقع تحت الشمس من ضروب التفسير؛ فالكلمة في السنسكريتية بصفة إجمالية معناها " منطفئ "كما ينطفئ المصباح أو تنطفئ النار؛ أما الكتب البوذية المقدسة فتستعملها بمعان : (1) حالة من السعادة يبلغها الإنسان في هذه الحياة باقتلاعه لكل شهواته الجسدية اقتلاعاً تاماً؛ (2) تحرير الفرد من عودته إلى الحياة؛ (3) انعدام شعور الفرد بفرديته؛ (4) اتحاد الفرد بإلهه؛ (5) فردوس من السعادة بعد الموت؛ أما الكلمة في تعاليم بوذا فمعناها فيما يظهر إخماد شهوات الفرد كلها، وما يترتب على ذلك الإنكار للذات من ثواب وأعني به الفرار من العودة إلى الحياة(71)؛ وأما في الأدب البوذي، فكثيراً ما تتخذ الكلمة معنى دنيوياً، إذ يوصف القديس في هذا الأدب مراراً بأنه اصطنع النرفانا في حياته الدنيا، بجمعه لمقوماتها السبعة وهي: السيطرة على
صفحة رقم : 737
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الهند وجيرانها -> بوذا -> تعاليم بوذا

النفس، والبحث عن الحقيقة، والنشاط، والهدوء، والغبطة، والتركيز، وعلو النفس(73)؛ تلك هي مكنونات النرفاثا، لكنها تكاد لا تكون عواملها التي تسبب وجودها، أما العامل المسبب لوجودها، والمصدر الذي تنبثق عنه النرفانا، فهو إخماد الشهوة الجسدية؛ وعلى ذلك تتخذ كلمة "نرفانا" في معظم النصوص معنى السكينة التي لا يشوبها ألم، والتي يثاب بها المرء على إعدام نفسه إعداماً خلقياً(74)؛ يقول بوذا : "والآن فهذه هي الحقيقة السامية عن زوال الألم ؛ إنه في الحق فناء المرء حتى لا تعود له عاطفة تشتهي، إنه إطّراح هذا الظمأ اللاهث، والتخلص منه والتحرر من ربقته، ونبذه من نفوسنا نبذاً لا عودة له"(75) وأعني به هذه الحمى التي تنتابنا من شهوتنا في البحث عن أنفسنا؛ إن كلمة "نرفانا" في تعاليم الأستاذ الزعيم تكاد دائماً ترادف في معناها كلمة نعيم (76) وهو رضى النفس رضى هادئاً بحيث لا يعنيها بعدئذ أمر نفسها؛ لكن النرفاثا الكاملة تقتضي العدم : وإذن فثواب التقوى في أسمى منازلها هو ألا يعود التقي إلى الحياة(77).
ويقول بوذا إننا في نهاية الأمر ندرك ما في الفردية النفسية والخلقية من سخف؛ إن نفوسنا المضطرمة ليست في حقيقة الأمر كائنات وقوى مستقلاً بعضها عن بعض، لكنها موجات عابرة على مجرى الحياة الدافق؛ إنها عقد صغيرة تتكون وتتكشف في شبكة القدر حين تنشرها الريح؛ فإذا ما نظرنا إلى أنفسنا نظرتنا إلى أجزاء من كل، وإذا ما أصلحنا أنفسنا وشهواتنا إصلاحاً يقتضيه الكل، عندئذ لا تعود أشخاصنا بما ينتابها من خيبة أمل أو هزيمة، وما يعتورها من مختلف الآلام من موت لا مهرب منه ولا مفر، لا تعود هذه الأشخاص تحزننا حزناً مريراً كما كانت تفعل بنا من قبل؛ عندئذ تفنى هذه الأشخاص في خضم اللانهاية؛ إننا إذا ما تعلمنا أن نستبدل بحبنا لأنفسنا حباً للناس جميعاً وللأحياء جميعاً، عندئذ ننعم آخر الأمر بما ننشد من هدوء.

صفحة رقم : 738

قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الهند وجيرانها -> بوذا -> بوذا في أيامه الأخيرة

الفصل الخامس
بوذا في أيامه الأخيرة
معجزاته - زيارته لبيت أبيه - الرهبان البوذيون - موته
ننتقل من هذه الفلسفة العالية إلى الأساطير الساذجة التي هي كل ما لدينا عن بوذا في حياته الأخيرة وفي موته؛ فعلى الرغم من ازدرائه للمعجزات، انتحل تلاميذه ألف حكاية عن الأعاجيب التي تمت على يديه؛ فقد سار عبر نهر الكنج في لمحة بفعل السحر؛ وأسقط من يده شظية من الخشب كان يزيل بها ما بين أسنانه من فضلات الطعام، فنبتت الشظية شجرة؛ وعندما اختتم وعظه ذات يوم "اهتز العالم كله من أقصاه إلى أقصاه"(80)؛ ولما أطلق عليه عدوه "ديفانداتا" فيلاً مفترساً، "غلبه بوذا بالحب" حتى خضع الفيل له خضوعاً كاملاً(81)؛ وقد انتهى "سِنْارت" وآخرون إلى نتيجة من أمثال هذه المُلَح، وهي أن أسطورة "بوذا" قد تكونت على أساس من أساطير الشمس القديمة(82) ومهما يكن من أمر، فبوذا معناه عندنا الأفكار التي تنسب إليه في الأدب البوذي، ولاشك في أن "بوذا" صاحب هذه الأفكار كان حقيقة تاريخية.
إن الكتب البوذية المقدسة تصور لنا بوذا في صورة تشرح الصدور؛ فقد التف حوله أتباع كثيرون، وذاعت شهرته في مدائن الجزء الشمالي من الهند؛ ولما سمع أبوه أنه على مقربة من "كابيلافاستوا" أرسل إليه رسولاً يدعوه لقضاء يوم في مَدْرَج طفولته؛ وذهب بوذا إلى أبيه الذي كان قد حزن على أميره المفقود، فسُّرَ أبوه لعودة القديس ساعة من الزمن؛ وجاءته زوجته التي أخلصت له طوال غيابه عنها، فجثت أمامه وأمسكت بعقبيه، ووضعت قدميه حول رأسها، وقدسته كما تقدس الله؛ وقص عليه الملك "شدذوذانا" قصة حبها له حباً شديداً : "مولاي، إن زوجتك حين علمت أنك تلبس رداء
صفحة رقم : 739
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الهند وجيرانها -> بوذا -> بوذا في أيامه الأخيرة

أصفر (وهو ثوب الزاهدين) لبست هي الأخرى رداء أصفر؛ ولما علمت أنك تأكل وجبة واحدة كل يوم، أكلت هي الأخرى وجبة واحدة؛ ولما علمت أنك أبيت النوم على سرير كبير، نامت هي الأخرى على كنبة ضيقة؛ ولما علمت أنك رفضت أكاليل الزهور ورفضت العطور، رفضتها هي الأخرى" فباركها بوذا ومضى إلى سبيله(83).
ثم جاءه ابنه "راهولا" وعبر له عن حبه قائلاً : "إن ظلك أيها الزاهد ليسر النفس" ؛ وضمه بوذا إلى طائفته الدينية، ولو أن أم "راهولا" كانت تأمل أن ترى ابنها ملكاً؛ لهذا نصبوا أميراً آخر، وهو "ناندا" ولياً للعهد يتولى العرش حين يحين الحين؛ لكن "ناندا" ترك حفلة التنصيب- كأنه في غيبوبة -، تركها قبل ختامها وغادر المملكة وقصد إلى بوذا، طالباً إليه أن يضمه هو أيضاً إلى طائفته الدينية؛ فلما سمع بذلك الملك "شدذوذانا" حزن والتمس عند بوذا مكرمة، قائلاً له: "لما طلق مولانا هذه الدنيا، لم يكن ذلك هين الوقع على نفسي، وكذلك حين غادرنا "ناندا" وقل ما هو أكثر من هذا عن فراق "راهولا" ؛ إن حب الوالد لولده يحز الجلد واللحم والمفاصل والنخاع؛ فرجائي إليك يا مولاي ألا تدع أتباعك الأشراف يضمون إلى طائفتكم ابناً إلا باستئذان أبيه وأمه" فوافق "بوذا" وجعل استئذان الوالدين شرطاً لازماً لانضمام العضو الجديد إلى طائفته(84).
ويظهر أن هذه العقيدة الدينية التي أرادت أن تستغني عن الكهنوت، كانت بالفعل قد كونت لنفسها طائفة من النساك الرهبان لا تقل خطراً عن كهنة الهندوس؛ ولن يطول الأمد بعد موت بوذا حتى يحيطوا أنفسهم بكل أسباب المجد التي كان البراهمة يحيطون أنفسهم بها؛ ولا عجب، فأول المتحولين من البرهمية إلى البوذية، إنما جاءوا من صفوف البراهمة أنفسهم، ثم تحول إلى البوذية بعدئذ جماعة من أغنى الشباب في بنارس والمدن المجاورة لها؛ واصطنع
صفحة رقم : 740
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الهند وجيرانها -> بوذا -> بوذا في أيامه الأخيرة

هؤلاء الرهبان في حياة بوذا قاعدة بسيطة، فكانوا يحيون بعضهم بعضاً، كما يحيون كل من يتحدثون إليهم بعبارة جميلة هي : "السلام على الكائنات جميعاً" فلم يكن يجوز لهم أن يقتلوا كائناً حياً؛ ولم يكن يجوز لهم أن يأخذوا شيئاً لم يعطوه؛ وكان واجباً عليهم أن يجتنبوا الكذب والنميمة، وأن يصلحوا ما بين الناس من خصومة ويشجعوهم على الوفاق؛ وكان حتماً عليهم أن يظهروا الرحمة دائماً بالناس جميعاً والحيوان جميعاً، وأن يجتنبوا كل لذائذ الحس والجسد، فيجتنبوا الموسيقى ورقصات "ناوتش" والملاهي والألعاب وأسباب الترف واللغو في الحديث والنقاش والتنبؤ بالغيب؛ ولم يكن يجوز لهم أن يؤدوا شيئاً من التجارة بكل صنوف البيع والشراء، وفوق هذا كله، كان لا بد لهم أن يصونوا عفتهم، وأن يجانبوا النساء ويعيشوا في طهر كامل(85)، ولقد توجهت إلى بوذا التماسات كثيرة ناعمة، فاستجاب لها وأذن للنساء أن يدخلن طائفته راهبات، لكنه لم يوافق أبداً من صميم نفسه على هذا القرار، وفي ذلك قال: " إذا لم نأذن يا "أناندا" للنساء بالدخول في طائفتنا، دامت العقيدة الخالصة حيناً أطول، فالتشريع الصالح كان ليقاوم الفناء- بغير دخول النساء- ألف عام؛ أما وقد أذن لهن بالانضمام إلينا، فلن يدوم تشريعنا أكثر من خمسمائة عام"(86)، وكان في ذلك على صواب فعلى الرغم من أن الطائفة العظيمة قد لبثت حتى عهدنا هذا؛ إلا أنها قد أفسدت تعاليم الأستاذ منذ زمن طويل، بما أدخلته عليها من سحر وتعدد للآلهة وخرافات لا تقع تحت الحصر.
ولما دنت حياته الطويلة من ختامها، راح أتباعه يؤلهونه، لم ينتظروا في ذلك موته، على الرغم من أنه كان دائماً يحفزهم على الشك في صحة ما يقوله لهم، حتى يفسح كل منهم مجال التفكير الحر أمام نفسه؛ وورد في محاورة من أواخر محاوراته:
صفحة رقم : 741
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الهند وجيرانها -> بوذا -> بوذا في أيامه الأخيرة

وجاء "ساريبوتا" الوقور إلى حيث كان النبي المعظم، وحياه وجلس إلى جانبه في احترام وقال:
"مولاي، إن إيماني بالنبي العظيم ليبلغ من القوة بحيث لا أظن أن أحداً فيما مضى أو فيما هو آت، أو أن أحداً فيمن يعاصروننا، سواء أكان من طائفة المتجولين أو طائفة البراهمة، أعظم وأحكم من النبي العظيم .... فيما يخص الحكمة العليا".
فأجابه الأستاذ : "كلماتك عظيمة جريئة يا "ساريبوتا" الحق أنك بعبارتك هذه قد رحت تنشد أغنية كما ينشد النشوان أغانيه! وكأني بك- إذن- قد عرفت كل الأنبياء المعظمين فيما مضى ... وفهمت آراءهم بعقلك، فعلمت كيف كانوا يسلكون وفيم كانوا يفكرون ... وأي ضروب التحرر قد بلغوا؟"
"لا يا سيدي، لم أبلغ من الأمر كل هذا".
"إذن فلا أقل يا "ساريبوتا" من أن تكون قد عرفتني ... وأن تكون قد تغلغلت في ضمير عقلي؟"...
"حتى ولا هذا يا مولاي".
"إذن فها أنت ذا ترى يا "ساريبوتا" إنك لا تعلم أفئدة الأنبياء القادرين المتيقظين الذين ظهروا فيما مضى، والذين سيظهرون في المستقبل؛ لماذا إذن تقول مثل هذه الكلمات العظيمة الجريئة؟ لماذا تنطلق منشداً لأغنية النشوان؟"(87)
وكذلك لقن "أناندا" أعظم دروسه وأشرفها:
"إن كل من صار لنفسه- يا أناندا- مصباحاً يهدي، وكل من صار لنفسه ملاذاً يؤوي، سواء في حياتي أو بعد موتي، فلن يلتمس لنفسه من غير
صفحة رقم : 742
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الهند وجيرانها -> بوذا -> بوذا في أيامه الأخيرة

نفسه مأوى، وسيستمسك بالحق مصباحاً... فلا يطلب من غير نفسه ملاذاً- أمثال هؤلاء ... هم الذين سيبلغون أعلى الذرى! لكن ينبغي أن يكون بهم شغف بالمعرفة"(88).
ومات بوذا عام 483 ق.م، وهو في عامه الثمانين، وكانت آخر كلماته لرهبانه: "والآن أيها الرهبان، هاأنذا أوجه إليكم الخطاب؛ إن كل ما هو مركب مصيره إلى الفساد، فجاهدوا جهاد المخلص الجاد".

صفحة رقم : 743

قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الهند وجيرانها -> من الإسكندر إلى أورانجزيب -> تشاندرا جوبتا

الباب السادس عشر
من الإسكندر إلى أورانجزيب
الفصل الأول
تشاندرا جوبتا
الإسكندر في الهند - تشاندرا جوبتا محرر بلاده - الشعب - جامعة
تاكسيلا - القصر الملكي - يوم في حياة ملك - مكيافلي أسبق عهداً من مكيافلي
الحديث - الإدارة - القانون - الصحة العامة - النقل والطرق - الحكومة البلدية
في سنة 327 ق.م، عبر اسكندر الأكبر جبال هندوكوش آتياً في طريقه من فارس، وهبط على بلاد الهند؛ ولبث عاماً يجول بحملته بين دول الشمال الغربي من الهند، التي كانت جزءاً من أغنى أجزاء الإمبراطورية الفارسية وأخذ يجمع منها المؤن لجنوده والذهب لخزائنه؛ وعبر نهر السند في الجزء الأول من سنة 326 ق.م. وشق طريقه بالقتال بطيئاً، متخللا "تاكْسِلا" و "روالبندي" متجهاً نحو الجنوب والشرق، والتقى بجيش الملك بورس حيث هزم من جيش المشاة ثلاثين ألفاً، ومن الفرسان أربعة آلاف، ومن العربات الحربية ثلاثمائة، ومن الفيلة مائتين، وقتل اثني عشر ألف رجل، فلما أن أسلم "بورس" بعد أن قاتل حتى استنفذ جهده، أمره الإسكندر أن يقول على أي نحو يريده أن يعامله، ذلك لأنه أعجب بشجاعته وقوامه وجمال قسماته؛ فأجابه "بورس": "عاملني يا اسكندر معاملة تليق بالملوك" فقال الإسكندر: "سأعاملك معاملة الملوك بالنسبة إلى نفسي، وأما بالنسبة إليك أنت، فمر بما تريد" ، لكن "بورس" أجاب بأن كل شئ يريده
صفحة رقم : 744
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الهند وجيرانها -> من الإسكندر إلى أورانجزيب -> تشاندرا جوبتا

متضمن فيما طلب أولاً؛ وأعجب الإسكندر بهذا الجواب إعجاباً شديداً، ونصب "بورس" ملكاً على الهند المفتوحة كلها، باعتباره تابعاً خاضعاً لمقدونيا، ولقد وجده بعدئذ حليفاً نشيطاً أميناً(1)؛ وأراد الإسكندر أن يتقدم بجيوشه حتى يبلغ البحر من ناحية الشرق، لكن جنوده احتجوا على ما أراد؛ وكثر في ذلك بينهم القول وازداد التجهم، فخضع الإسكندر لمشيئتهم وقادهم- خلال قبائل معادية له إشفاقا على أوطانهم من اعتدائه، مما اضطر جنود الإسكندر أن يحاربوا في سيرهم عند كل قدم من الطريق، أو كادوا- قادهم حذاء "هِداسب" وإلى جوار الساحل؛ حتى اخترق بهم "جدروسيا" إلى بلوخستان؛ فلما وصل "سوزا" بعد عشرين شهراً من عودته بعد فتوحه لم يعد جيشه أكثر من فلول منهوكة من الجيش الذي كان قد دخل به الهند قبل ذلك بثلاثة أعوام.
وبعد ذلك بسبعة أعوام كان كل أثر للسلطان المقدوني قد زال عن الهند زوالاً تاماً(2)، وكان العامل الأول في زوال ذلك السلطان، رجل هو من أروع من يثير الخيال في تاريخ الهند من رجال؛ فهو وإن يكن أقل منزلة في صفاته العسكرية من الإسكندر، الا أنه أعظم منه حاكماً؛ ذلك هو "تشاندرا جوبتا" الشريف الشاب الذي ينتمي إلى طبقة الكشاترية المقاتلة، وقد نفته من "مجاذا" أسرة "ناندا" الحاكمة التي كان هو من أبنائها؛ وكان إلى جانبه ناصح مكيافلي ماكر، هو "كوتيلا تشاناكيا" الذي أعانه على تنظيم جيش صغير اكتسح به الحاميات المقدونية، وأعلن الهند حرة من الغازي؛ ثم تقدم إلى "باتاليبوترا" عاصمة مملكة "مجاذا" التي حكمت الهندستان وأفغانستان مدى مائة وسبعة ثلاثين عاماً؛ ولما استلم "تشاندرا جوبتا" بشجاعته لحكمه "كوتيلا" التي لم يكبح جماحها ضمير، سرعان ما أصبحت
صفحة رقم : 745
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الهند وجيرانها -> من الإسكندر إلى أورانجزيب -> تشاندرا جوبتا

حكومته أقوى حكومة كان يعرفها العالم عندئذ؛ حتى إنه لما جاء المجسطي سفيراً في "باتاليبوترا" عن "سلوكس نكتار" ملك سوريا، أدهشه أن يرى هناك مدنية وصفها اليونان المدققين المتشككين الذي كانوا عندئذ لم يزالوا في موضع قريب من أوج حضارتهم، فقال إنها مدنية مساوية للمدنية اليونانية مساواة تامة(3).
وصف لنا هذا الإغريقي الحياة الهندية في عصره وصفاً ممتعاً، ربما مال فيه نحو التهاون في الدقة ليكون في صالح الهنود؛ وأول ما استوقف نظره هناك هو ألاّ ِرَّق في الهند على خلاف ما عهده في أمته، وهو اختلاف يجعل الأولى أعلى من الثانية منزلة في هذه الناحية، وإنه على الرغم من انقسام السكان إلى طبقات حسب ما يؤدونه من أعمال، فقد قبل الناس هذه الأقسام على أنها طبيعة ومقبولة؛ يقول السفير عنهم في تقريره أنهم كانوا "يعيشون عيشاً سعيداً" لأنهم:
"في سلوكهم يتصفون بالبساطة، وهم كذلك مقتصدون فهم لا يشربون الخمر قط إلا في الاحتفال بتقديم القرابين... والدليل على بساطة قوانينهم ومواثيقهم هو أنهم قلما يلجئون إلي القانون؛ فهم لا يتقدمون إلى محاكمهم بقضايا عن خرق العهود أو نهب الودائع، بل هم لا يحتاجون إلى أختام أو شهود، لكنهم يودعون أشياءهم على ثقة بعضهم ببعض... إنهم يقدرون الحق والفضيلة قدراً عظيماً... والجزء الأعظم من أرضهم يزرع بالري، ولذلك ينتج محصولين في العام... ولهذا كان من الثابت أن الهند لم تعرف المجاعة قط، ولم يكن بها قحط عام في موارد الطعام اللازم للتغذية" (5).
وأقدم المدائن الألفين التي كانت في الهند الشمالية في عهد "تشاندرا جوبتا" هي مدينة "تاكسيلا" التي تبعد عشرين ميلاً- جهة الشمال الغربي- عن
صفحة رقم : 746
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الهند وجيرانها -> من الإسكندر إلى أورانجزيب -> تشاندرا جوبتا

مدينة "روالبندي" الحديثة؛ ويصفها "أريان" بأنها: "مدينة عظيمة مزدهرة" ؛ ويقول "سترابو": "إنها كبيرة وبها أرقى القوانين" ، فقد كانت مدينة عسكرية ومدينة جامعية في آن معاً، إذ تقع من الوجهة العسكرية على الطريق الرئيسية المؤدية إلى آسيا الغربية، وكان بها أشهر الجامعات الكثيرة التي كانت في الهند إذ ذاك، فكان يحج إليها الطلاب زرافات، كما كانوا يحجون زرافات إلى باريس في العصور الوسطى؛ ففي وسع الطلاب أن يدرسوا بها ما شاءوا من فنون وعلوم على أيدي أساتذة أعلام، وخصوصاً مدرستها للطب، فقد ذاع اسمها في العالم الشرقي كله مقروناً بالتقدير العظيم .
ويصف المجسطى مدينة "باتاليبوترا" عاصمة الملك "تشاندرا جوبتا" فيقول أنها تسعة أميال في طولها وميلان تقريباً في عرضها(10) وكان القصر الملكي بها من خشب، لكن السفير الإغريقي وضعه في منزلة أعلى من منزلة المساكن الملكية في "سوزا" و "إكياتانا" ولا يفوقه إلا قصور "برسوبوليس" (أي مدينة الفرس)؛ فأعمدته مطلية بالذهب ومزخرفة بنقوش من حياة الطير ومن ورق الشجر، وهو من الداخل مؤثث تأثيثاً فاخراً ومزدان بالأحجار الكريمة والمعادن النفسية(11)؛ وقد كان في هذه الثقافة قسط من حب الشرقيين للتظاهر، فمثلاً ترى ذلك واضحاً في استخدامهم لآنية من الذهب قطر الواحدة منها ست أقدام(12)؛ لكن مؤرخاً إنجليزياً يبحث الآثار المادية والأدبية والتصويرية لتلك المدينة فيصل إلى نتيجة، هي أنه "في القرنين الرابع والثالث قبل المسيح لم يكن ما يتمتع به ملك موريا من أسباب الترف بكل
صفحة رقم : 747
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الهند وجيرانها -> من الإسكندر إلى أورانجزيب -> تشاندرا جوبتا

ضروبها، والصناعات اليدوية الماهرة بكل أنواعها، أقل مما كان يتمتع به أباطرة المغول بعد ذلك بثمانية عشر قرناً"(13).

أقام "تشاندرا جوبتا" في هذا القصر، بعد أن استولى على العرش بالقوة، مدى أربعة وعشرين عاماً، فكان كأنما يعيش منه في سجن مطلي بالذهب؛ وكان يظهر للشعب حيناً بعد حين، مرتدياً ثوباً من الموصلي الموشى بالأرجوان والذهب، محمولاً في محفة ذهبية، أو على فيل مطهم بأفخر الطهم؛ وكان وقته مليئاً بأعمال مملكته المتزايدة، إلا ساعات كان يقضيها في الصيد أو في غيره من أنواع التسلية؛ فيومه ينقسم ستة عشر جزءاً طول الجزء منها تسعون دقيقة، فكان يستيقظ في الجزء الأول من يومه فيعد نفسه بشيء من التأمل؛ وفي الثاني يقرأ التقارير التي يرفعها إليه موظفوه، ويصدر فيها تعليمات سرية؛ وفي الثالث يجتمع بمستشاريه في قاعة المقابلات الخاصة؛ وفي الرابع يبحث في أمور المالية والدفاع القومي؛ وفي الخامس يصغي إلى شكاوي رعيته وقضاياها؛ وفي السادس يستحم ويتناول غداؤه ويقرأ شيئاً من كتب الدين؛ وفي السابع يتقبل الضرائب والجزية ويضرب المواعيد الرسمية؛ وفي الثامن يلتقي بمستشاريه مرة ثانية ويستمع إلى ما يقرره له الجواسيس الذين كان يرصدهم، وبين هؤلاء عاهرات استخدمن لهذه الغاية(14)؛ وخصص الجزء التاسع من يومه للاستحمام والصلاة، والعاشر والحادي عشر للشئون العسكرية؛ والثاني عشر للتقارير السرية مرة أخرى؛ والثالث لحمام المساء ووجبته؛ والرابع عشر والخامس عشر والسادس عشر للنوم(15)؛ ويجوز أن يكون المؤرخ قد صور لنا بهذه الصورة ما كان يمكن أن تجري عليه حياة "تشاندرا جوبتا" من نظام؛ أو هو يصور لنا بها ما أراد "كوتيلا" أن يتصوره الناس عن مليكه، أكثر مما يصور لنا حقيقة ذلك الملك في حياته، فالحقيقة قلما تفلت من أجواق القصور.
كان زمام الحكم الحقيقي في يد وزيره الماكر "كوتيلا" و "كوتيلا"
صفحة رقم : 748
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الهند وجيرانها -> من الإسكندر إلى أورانجزيب -> تشاندرا جوبتا

برهمي عرف القيمة السياسية للدين، لكنه لم يتخذ من الدين هداية خلقية؛ فهو شبيه بدكتاتوريي هذا العصر، في إيمانه بأن كل الوسائل لها مبررات ما دامت تنتهي إلى صالح الدولة؛ وكان غادراً لا يزجره من نفسه ضمير، إلا إزاء مليكه؛ فقد خدم "تشاندرا جوبتا" في منفاه وفي هزيمته وفي مغامراته وفي دسائسه وفي اغتياله للناس وفي نصره؛ واستطاع بفضل حكمته ودهائه أن يجعل ُملك سيده أعظم ما عرفته الهند في تاريخها كله؛ ولقد رأى "كوتيلا"- كما رأى الأمير من بعده مؤلف "الأمير" - أنه من المفيد أن يدون للأجيال القادمة آراءه التي عالج بها الأمور العسكرية والسياسية؛ وأن الرواية لتنسب إليه كتاب "أرذاشاسترا" وهو أقدم كتاب مما بقي لنا من الأدب السنسكريتي(16)؛ ولكي نسوق لك مثلاً من واقعيته الدقيقة، نذكر لك ما ذكره من الوسائل التي تتبع في الاستيلاء على أحد الحصون، وهي: "الدسائس والجواسيس واستمالة شعب الأعداء، والحصار والهجوم"(17)- وفي هذه الدسائس اقتصاد حكيم للمجهود البدني.
لم تزعم الحكومة لنفسها اصطناع الأساليب الديمقراطية؛ والأرجح أنها كانت حكومة لم تشهد الهند طوال تاريخها حكومة أكفأ منها(18)؛ فلم يكن لدى "أكبر"- وهو أعظم المغول- "ما يماثلها كفاءة، ومما يدعوا إلى الشك أن يكون بين المدن اليونانية القديمة ما يفوقها نظاماً"(19)؛ كانت تقوم صراحة على القوة العسكرية؛ فكان "لشاندرا جوبتا" جيش قوامه- إذا أخذنا برأي المجسطي (الذي يجب أن يكون موضع ريبه كأي مراسل أجنبي آخر)- ستمائة ألف من المشاة، وثلاثون ألفا من الركبان، وتسعة آلاف من الفيلة، وعدد لم يحدد من العربات الحربية(20)؛ وكان البراهمة والفلاحون يعفون من الخدمة العسكرية، فيصف لنا "سترابو" هؤلاء الفلاحين و هم
صفحة رقم : 749
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الهند وجيرانها -> من الإسكندر إلى أورانجزيب -> تشاندرا جوبتا

يحرثون الأرض في هدوء وآمن وسط حومات تضطرب بالقتال(21).
وكانت سلطة الملك مطلقة من الوجهة النظرية، أما من الوجهة العملية فكان يحدها مجلس للشورى كان من شأنه التشريع- أحيانا في حضور الملك وأحيانا في غيابه- وتنظيم المالية القومية والشئون الخارجية، وهو الذي كان يعين لكل المناصب الهامة في الدولة رجالها؛ ويشهد المجسطي بما كان لأعضاء ذلك المجلس من "خلق سام وحكمة عالية" كما يذكر ما كان لهم من نفوذ فعال(22).

كانت الحكومة مقسمة أقساماً لكل منها واجبات واضحة الحدود، وموظفون يتدرجون في درجاتهم تدرجاً أحسن تدبيره؛ فتقوم هذه الأقسام بالإشراف على الدخل، والجمارك، والحدود، وجوازات السفر، والمواصلات، والضرائب، والمناجم، والزراعة، والماشية، والتجارة، والمخازن، والملاحة، والغابات، والألعاب العامة، والدعارة، وسك النقود- لكل من هذه قسم خاص؛ وكان للمشرف على قسم ضريبة الإنتاج حق رقابة بيع العقاقير والمسكرات، وكان يقيد عدد الخانات ومواضعها، وكمية الخمور التي يجوز لها أن تبيعها؛ وللمشرف على المناجم أن يؤجر مواقع الاستنجام لأفراد يدفعون للحكومة أجراً معلوماً وجزءاً معيناً من الربح؛ وللإشراف على الزراعة نظام كهذا، لأن الأرض كلها كانت ملكاً للدولة؛ وللمشرف على الألعاب العامة الرقابة على قاعات القمار، وأن يقدم الزهر (زهر اللعب) للاعبين ويتقاضاهم رسماً على استخدامه، كما كان يقتطع لخزانة الدولة خمسة في كل مائة مما يدفعه اللاعبون؛ وأما المشرف على الدعارة، فكان من شأنه أن يراقب العاهرات، ويضبط أجورهن ومصروفهن، وكان يحدد لأعمالهن يومين من كل شهر، ويأخذ منهن اثنتين للقصر الملكي، تقومان هناك للمتعة من جهة وللجاسوسية من جهة أخرى؛ وفرضت الضرائب على كل مهنة وكل عمل وكل صناعة؛ أضف إلى ذلك ما كان الأغنياء يحملون على دفعه من "تبرعات" للملك؛ وكانت الحكومة تراقب الأسعار، وتراجع الموازين والمقاييس حيناً بعد حين؛ ثم كان للدولة مصانع خاصة بها تقوم
صفحة رقم : 750
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الهند وجيرانها -> من الإسكندر إلى أورانجزيب -> تشاندرا جوبتا

فيها الحكومة بصناعة بعض الأشياء، كما كانت تبيع الخضر وتحتكر المناجم والملح والخشب والمنسوجات الدقيقة والجياد والفيلة(23).

وكان يقوم على القانون في الريف رؤساء محليون في القرى، أو مجالس قروية قوام الواحد منها خمسة رجال؛ وأما في المدن والأقاليم والمناطق فيعهد بأمره إلى محاكم دنيا ومحاكم عليا، وفي العاصمة يتولاه المجلس الملكي باعتباره محكمة عليا، ويتولاه الملك نفسه على أنه محكمة استئناف، لا نقض ولا إبرام لحكمها؛ وكانت العقوبات صارمة، منها بتر الأعضاء والتعذيب والموت، وهي تقوم عادة على مبدأ " العين بالعين والسن بالسن " أي مبدأ القصاص المتعادل؛ لكن الحكومة لم تكن مجرد أداة للضغط على الشعب، بل كانت كذلك تعني بالصحة العامة، فأقامت المستشفيات وملاجئ الفقراء، وكانت توزع في السنين العجاف ما قد يكون في مخازن الدولة استعداداً لأمثال هذه الطوارئ ؛ وتضطر الأغنياء إلى المشاركة في معاونة المعوزين، وتنظم مشروعات عامة كبرى للعناية بالمتعطلين في سني الأزمات (24).
وأما قسم الملاحة فكان اختصاصه تنظيم النقل المائي ووقاية المسافرين في الأنهار والبحار؛ وكانت كذلك ترعى الجسور والمواني، وتهيئ "معدّيات" حكومية تعمل جنباً إلى جنب مع "المعدّيات" الخاصة التي يملكها ويديرها أفراد(25)- وهو نظام جميل يمكن الحكومة بدخولها في المنافسة من الحد من إسراف الأفراد في استغلال الجمهور، كما تمكن المنافسة الحرة من الحد من إسراف الحكومة بذبحها؛ وكان من واجب قسم المواصلات أن يشق الطرق ويعبدها ثم يقوم على صيانتها في أرجاء الإمبراطورية، من المدقات الضيقة التي تعد للعربات في الريف، إلى الطرق التجارية التي يبلغ عرض الواحد منها اثنين وثلاثين قدماً، ثم إلى الطرق الملكية التي يبلغ عرضها أربعاً وستين قدماً؛
صفحة رقم : 751
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الهند وجيرانها -> من الإسكندر إلى أورانجزيب -> تشاندرا جوبتا

وكان طريق من هذه الطرق الملكية يمتد ألفاً ومائتين من الأميال، من "باتاليبترا" إلى الحدود الشمالية الغربية(26)- وهي مسافة تساوي نصف الطريق من هاتيك الطرق الرئيسية التي تعبر الولايات المتحدة من شرقها إلى غربها؛ وعند كل ميل تقريباً من هذه الطرق- فيما يقول المجسطي- كانت تقوم أعمدة تشير إلي الاتجاهات وتبين المسافات إلى مختلف البلدان(27)، وكنت تجد على طول الطريق أشجاراً ظليلة وآباراً ومراكز للشرطة وفنادق، أعدوها على مسافات دورية من الطريق(28)؛ وكانت وسائل النقل هي العربات والمحفات والعربات تجرها الثيران، ثم الجياد والجمال والفيلة والحمير والناس؛ وكانت الفيلة من ألوان الترف التي تقتصر عادة على الملك وكبار رجال الدولة، وكانت من غلو القيمة عندهم بحيث عدُّوا عفة المرأة ثمناً متواضعاً للواحد منها .
وكان يتبع في حكومات المدن مثل هذا النظام بعينه من حيث تقسيم الإدارة إلى أقسام، فالعاصمة " باتاليبترا " كان يحكمها مجلس مؤلف من ثلاثين عضواً، ينقسمون ستة أقسام، يقوم قسم منها على تنظيم الصناعة، وآخر يراقب الأجانب فيعد لهم المساكن ويعين لهم من يقوم بخدمتهم ويراقب حركاتهم، وقسم ثالث يسجل المواليد والوفيات، ورابع يرخص للتجار مباشرة تجارتهم، وينظم بيع المحصول، ويراجع المقاييس والموازين، وخامس يراقب بيع المصنوعات، وقسم سادس يجمع ضريبة قدرها عشرة في كل مائة عن المبيعات كلها؛ وفي ذلك يقول "هافِلْ" : "وصفوة القول أن باتاليبترا في القرن الرابع قبل الميلاد، فيما يظهر، قد كانت مدينة على أتم ما تكون المدن نظاماً، وتقوم عليها إدارة تتمشى مع أحسن المبادئ في علم الاجتماع"(28)؛ وكذلك يقول "فنست سْمِث" : "إن الكمال الذي بلغته هذه النظم التي
صفحة رقم : 752
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الهند وجيرانها -> من الإسكندر إلى أورانجزيب -> تشاندرا جوبتا

أشرنا إليها، ليثير العجب حتى إن اقتصرت في ذكره على موجز مقتضب؛ ثم تزداد عجباً- إذا ألممت بتفصيلات الإدارة- كيف أمكن لمثل هذا النظام أن تدبَّر قواعده، وأن ينفذ تنفيذاً دقيقاً في الهند في سنة 300 ق.م"(28ب).
والنقص الوحيد في هذه الحكومة هو استبدادها، وبالتالي اعتمادها اعتماداً متصلاً على القوة وعلى الجواسيس؛ فحاكمها "تشاندرا جوبتا" شأنه شأن كل حاكم مستبد آخر- كان قلقاً على عرشه، لا ينقطع خوفه من الثورة والاغتيال؛ فكان ينام كل ليلة في مخدع يختلف عن مخدع الليلة السابقة، ولم يخل قط من حراسة الحراس؛ وتروي الراوية الهندية، ويؤيدها المؤرخون الأوربيون، أنه لما أطبقت مجاعة طويلة على مملكة "تشاندرا جوبتا" (راجع المجسطي) حمله اليأس على النزول عن عرشه؛ وعاش بعدئذ اثني عشر عاماً زاهداً جانتياً، ثم انتهى به الأمر أن فرض على نفسه الجوع حتى مات به؛ يقول فولتير: "إنك لو وضعت كل الظروف موضع الاعتبار، ألفيت حياة النوتي في "جندوله" خيراً من حياة حاكم المدينة، لكني أعتقد أن الفرق بين حياتيهما أتفه من أن يستحق منا التدقيق في أمره"(29).

صفحة رقم : 753
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الهند وجيرانها -> من الإسكندر إلى أورانجزيب -> الملك الفيلسوف

الفصل الثاني
الملك الفيلسوف
أشوكا - مرسوم التسامح - أشوكا يرسل بعوثاً دينية - فشله - نجاحه
كان الذي خلف "تشاندرا جوبتا" في الحكم هو "بندوسارا" وهو رجل ذو نزعات عقلية لا تخفى؛ فيقال إنه طلب إلى "أنتيخوس" ملك سوريا أن يبعث إليه بفيلسوف إغريقي، وكتب إليه قائلاً إنه على استعداد أن يدفع ثمناً عالياً لفيلسوف إغريقي من الطراز الصحيح(30) ولكن "أنتيخوس" لم يستطيع إلى إجابة الطلب سبيلاً، لأنه لم يجد فيلسوفاً يونانياً معروضاً للبيع؛ ثم شاءت المصادفة أن تعوض "بندوسارا" خيراً، فجعلت له من ابنه فيلسوفاً.

وتولى "أشوكا فارذانا" العرش سنة 273 ق.م فوجد أنه يشمل بسلطانه إمبراطورية أوسع رقعة من أي قطر حكمه في الهند حاكم من قبله : فهو يشمل أفغانستان وبلوخستان، وكل الهند الحديثة إلا طرفها الجنوبي- وهي ما يسمى "بأرض تامِلْ" ؛ ولبث حيناً من الدهر يحكم على غرار جده "تشاندرا جوبتا" ، أي لبث يحكم بلاده في قسوة، لكنه يحكمها حكماً جيداً؛ فيحدثنا "يوان تشوانج" الرحالة الصيني الذي أنفق أعواماً طوالاً في الهند إبان القرن السابع الميلادي، بأن السجن الذي كان قائماً في عهد "أشوكا" شمالي العاصمة، لم يزل يذكره الناس في الهند جيلاً عن جيل باسم "جحيم أشوكا" ؛ إذ أنبأه المنبئون أن كل أنواع العذاب والتعذيب التي تشتمل عليها الجحيم الحقيقية، قد استعملت فعلاً في ذلك السجن عقاباً للمجرمين، بل إن الملك قد أضاف إلى تلك الأنواع التقليدية من عذاب الجحيم، مرسوماً بأن كل من يدخل ذلك الجب المخيف، لا يجوز له قط أن يخرج منه حياً؛ ولكن حدث ذات يوم أن ألقي في ذلك
صفحة رقم : 754
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الهند وجيرانها -> من الإسكندر إلى أورانجزيب -> الملك الفيلسوف

السجن قديس بوذي بغير أن يكون هناك ما يبرر ذلك السجن، فقذفوا به في إناء كبير فيه ماء ساخن، فأبى الماء أن يغلي بما فيه؛ فأرسل السجان بالنبأ إلى "أشوكا" ، وجاء "أشوكا" ورأى وأخذه العجب؛ ولما استدار الملك ليأخذ طريقه إلى خارج السجن، ذكره السجان بأمره، قائلاً إنه لا يجوز له أن يغادر السجن حياً؛ فحزت هذه الملاحظة في نفس الملك بقوتها، وأمر بالسجان أن يقذف في إناء الماء الساخن.

ويقال أن "أشوكا" لما وصل إلى قصره، نال من نفسه انقلاب عجيب؛ وأمر من فوره أن يهدم السجن وأن يخفف قانون العقوبات؛ وفي نفس الوقت جاءه النبأ بأن جنوده قد ظفروا بانتصار باهر على قبيلة "كالنجا" الثائرة، وأنهم قد فتكوا بآلاف من الثائرين، وأسروا منهم عدداً كبيراً؛ فجعل "أشوكا" عندئذ يعاني لذعات ضميره كلما طاف برأسه كل هذا "العنف والتقتيل وإبعاد الأسرى عن ذويهم "فأمر أن يطلق سراح الأسرى، ورّد إلى قبيلة "كالنجا" أرضها، وأرسل إلى أهلها اعتذار لم يسبق له في التاريخ مثيل، ولم يقلده من بعده إلا القليل؛ وبعدئذ التحق بالطائفة البوذية، ولبس مسوح الرهبان حيناً، وأبطل الصيد وأكل اللحم، واصطنع "السبيل الشريفة ذات الإرشادات الثمانية"(31).
وإنه ليستحيل علينا الآن أن نقول كم من هذه الأنباء قد اختلقه الخيال اختلاقاً؛ وكم منها تاريخ صحيح، كما يستحيل علينا- والشقة بيننا وبين ذلك العهد بهذا البعد- أن نرى الدوافع التي حفزت الملك إلى ما فعل؛ فيجوز أنه رأى البوذية تتسع انتشاراً، وظن أن تعاليمها من تسامح وهدوء تصلح تشريعاً مفيداً لشعبه، فتوفر على الدولة عدداً لا يحصى من رجال الشرطة؛ وفي العام الحادي عشر من حكمه، أخذ يصدر مرسومات هي أعجب ما عرفناه في تاريخ الحكومات؛ وأمر أن تنقش هذه المرسومات على الصخور وعلى الأعمدة
صفحة رقم : 755
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الهند وجيرانها -> من الإسكندر إلى أورانجزيب -> الملك الفيلسوف

في عبارة بسيطة وباللهجات التي يفهمها الناس، حتى يتسنى لكل هندي يعرف القراءة أن يفهم فحواها؛ ولقد عثرنا على "مرسومات الصخور" في كل جزء من أجزاء الهند تقريباً؛ ولا تزال عشرة أعمدة باقية في مكانها، وعرفنا أماكن عشرين أخرى؛ وتقرأ هذه المرسومات فتجد أن الإمبراطور يوافق على العقيدة البوذية بحذافيرها، ويطبقها في شأن من شئون الناس هو آخر ما تتوقع لها أن تطبق فيه وأعني السياسة؛ وشبيه بهذا أن تعلن إمبراطورية حديثة فجأة أنها صممت منذ الآن فصاعداً أن تتبع المسيحية في سياستها.
وعلى الرغم من أن هذه المرسومات بوذية العقيدة، فهي لا تبدو لنا دينية خالصة؛ فهي تفرض وجود حياة آخرة، وبهذا ترى كيف أنه لم يلبث تشكك بوذا أن زال ليحل محله عند أتباعه إيمان، لكنها إلى جانب ذلك لا تورد في نصوصها عبارة تدل على العقيدة بإله مشخص، بل لا تذكر الله في نصوصها إطلاقاً(32)، كلا، ولا هي تذكر كلمة واحد عن بوذا؛ فهذه المرسومات لا تعنى باللاهوت؛ فمرسوم "سارنات" يطالب الناس بالسير على مقتضى قواعد الدين، ويضع عقوبات لمن يشقون عليها عصا الطاعة(33)، أما سائر المرسومات فهي لا تنى تذكر مرة بعد مرة ضرورة التسامح الديني؛ فعلى المرء أن يحسن إلى كهنة البراهمة كما يحسن إلى كهنة البوذيين سواء بسواء؛ ولا ينبغي لأحد أن يسيء بالقول إلى عقيدة من العقائد؛ ويعلن الملك أن كل أفراد شعبه هم بمثابة أبنائه الذين يحنو عليهم، فهو لن يفرق بينهم بسبب اختلافهم في العقيدة(34)، فهذا هو "مرسوم الصخر" رقم 12 يتحدث بما يكاد أن يكون معاصراً لنا من حيث سداد رأيه:
"إن جلالة الملك المقدس الرحيم يقدم إجلاله للناس من شتى المذاهب، سواء في ذلك الزاهدون أو أصحاب الأسر، وهو يقدم إجلاله هذا بالهدايا وغيرها من مختلف ألوان التوقير.
صفحة رقم : 756
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الهند وجيرانها -> من الإسكندر إلى أورانجزيب -> الملك الفيلسوف

على أن جلالة الملك المقدس لا تعنيه كثيراً هذه الهدايا وهذا التوقير الظاهر، بقدر ما يعنيه أن ينمو في كل هذه العقائد لبها وجوهرها؛ ونمو هذا الجوهر وذلك اللب إنما يكون بطرائق شتى، لكن أساسها جميعاً هو ضبط اللسان عن الكلام، وأعني بذلك ألا يبجل المرء عقيدته وألا يحط من شأن عقيدة غير عقيدته إلا بما يمليه العقل؛ إن الحط من شأن العقائد الأخرى لا ينبغي أن يكون إلا لأسباب عقلية معينة، ذلك لأن عقائد الناس على اختلافها جديرة بالاحترام لهذا السبب أو ذاك.
وبمثل هذا التصرف، يرفع المرء من عقيدته، وينفع في الوقت نفسه سائر العقائد؛ وبالتصرف المضاد لهذا، يؤذي المرء عقيدته ويضر عقائد الناس... إن انسجام الأفراد أمر عظيم".
هذا إلى أن "مرسوم العمود الثاني" يلقى لنا ضوءاً أكثر على المقصود من "جوهر الموضوع"- وهي العبارة التي وردت في المرسوم الذي ذكرناه الآن- إذ يقول: "إن قانون التقوى شيء جميل، لكن مم يتكون قانون التقوى؟ يتكون من هذه الأشياء: قليل من عدم التقوى، وكثير من الأفعال الخيرة، والرحمة، والإحسان، والصدق، والصفاء" ؛ ولكي يضرب "أشوكا" المثال لما يريد، أمر موظفيه في كل مكان أن ينظروا إلى الناس نظرتهم إلى أبنائه، وأن يعاملوهم بالصبر والحسنى، فلا يعذبوهم ولا يسجنوهم بغير مبرر معقول؛ وأمر موظفيه أن يقرءوا هذه الإرشادات قراءة دورية على الشعب (35).
فهل كان لهذه المرسومات الخلقية أثر كائناً ما كان في إصلاح سلوك الناس؟ يجوز أنها ساعدت على نشر فكرة "الأَهِمْسا"- وهي عدم قتل الحيوان- كما شجعت على الامتناع عن أكل اللحم وشرب المسكرات بين الطبقات العليا من أهل الهند (36)؛ ويعتقد "أشوكا" اعتقاداً جازماً- شأنه في ذلك شأن المصلحين- أن لوعظه المنقوش على الحجر أبلغ الأثر؛ وهو يعلن في "مرسوم الصخر" رقم 4، أنه لمس بالفعل نتائج طيبة لمرسوماته، وربما أعان ملخصه على توضيح أساس مذهبه:
صفحة رقم : 757

قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الهند وجيرانها -> من الإسكندر إلى أورانجزيب -> الملك الفيلسوف

أما وقد اصطنع صاحب الجلالة المقدسة الرحيمة الملك أسباب التقوى في حياته، فقد سكتت أصداء طبول الحروب ليهتز الهواء بأصداء القانون ... لقد امتنع الناس اليوم، بفضل قانون التقوى الذي سنه صاحب الجلالة المقدسة الرحيمة الملك، عن ذبح الكائنات الحية ليقدموها في قرابينهم، أكثر من امتناعهم عن ذلك من قبل؛ امتنعوا عن قتل الأحياء، وسلكوا إزاء أقربائهم سلوكاً فاضلاً، وكذلك إزاء البراهمة، وأصبحوا يستمعون لما يأمرهم به آباؤهم وأمهاتهم ومن هم أكبر منهم سناً؛ على هذا النحو- وعلى غيره من الأنحاء الكثيرة- ازداد إقبال الناس فوق هذه الزيادة.
إن أبناء صاحب الجلالة المقدسة الرحيمة الملك، وأحفاده وأحفاد أحفاده، سيعملون على زيادة اصطناع الناس لقانون التقوى، زيادة تضطرد إلى يوم الدين ".
لكن الملك الصالح قد بالغ في تقوى شعبه وولاء أبنائه؛ أما هو نفسه فقد بذل مجهوداً عظيماً في سبيل الديانة الجديدة، فجعل من نفسه رئيساً للطائفة البوذية، وأجزل لها العطايا، وشيد لها ثمانية وأربعين ألفاً من الأديرة لرجالها(37) وبنى باسمها في أرجاء مملكته كلها مستشفيات للإنسان والحيوان(38) وأرسل مبشرين بالعقيدة البوذية إلى أجزاء الهند جميعاً وإلى جزيرة سيلان، بل أرسل هاتيك البعوث إلى سوريا ومصر واليونان(39) حيث يحتمل أن تكون قد هيأت الطريق هناك للأخلاق المسيحية(40) ولم يمض بعد وفاته إلا زمن قصير حتى غادرت بعوث المبشرين بلاد الهند ليعظ رجالها الناس بالتعاليم البوذية في التبت والصين ومنغوليا واليابان، وبالإضافة إلى هذا النشاط الديني، توجه "أشوكا" بحماسة نحو إدارة بلاده في شئونها الدنيوية؛ فكان يطيل من ساعات العمل في يومه، ولم تكن الحوائل لتحول بينه وبين معاونيه، فلهؤلاء أن يتصلوا
صفحة رقم : 758

قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الهند وجيرانها -> من الإسكندر إلى أورانجزيب -> الملك الفيلسوف

به في شئون الدولة في أي ساعة شاءوا(41).
ونقيصته البارزة هي الأنانية؛ فمن العسير أن تكون متواضعاً ومصلحاً في آن معاً؛ إن احترامه لنفسه يسطع في كل مرسوم من مراسيمه، مما يجعله أخاً "لمرقس أورليوس" في شتى الوجوه؛ ولم يستطع أن يدرك أن البراهمة كانوا يمقتونه، ويتربصون به الدوائر ليفتكوا به، كما فتك كهنة طيبة بإخناتون قبل ذلك بألف عام؛ ولم يقتصر مقته على البراهمة الذي اعتادوا ذبح الحيوان من أجل أنفسهم ومن أجل آلهتهم، بل جاوزهم إلى ألوف مؤلفة من الصيادين والسماكين الذين كرهوا المراسيم التي فرضت كل هذه القيود القاسية على قتل الحيوان؛ حتى الفلاحون أخذوا يجأرون بالشكوى من الأمر الصادر "بألا يحرق قش الغلال خشية أن تحترق معه الكائنات الحية الكامنة فيه"(42)، فنصف الشعب في الإمبراطورية كان ينتظر موت "أشوكا" كما يرقب الإنسان تحقيق الأمل.
ويروي لنا "يوان تشوانج" أن رواة البوذيين يتناقلون النبأ بأن " أشوكا " في أخريات أعوامه، أكره على النزول عن عرشه، على يدي حفيده الذي فعل ما فعله بمعونة رجال البلاط؛ وحرم الملك كل سلطانه شيئاً فشيئاً، ووقف تيار الهدايا التي كان يمنحها للطائفة البوذية؛ بل إن ما كان يسمح به "لأشوكا" من أشياء، حتى الطعام، نقص مقداره، حتى بلغت به الحال أن أصبح نصيبه من الطعام في اليوم نصف ثمرة من ثمار "الأمالاكا"؛ ونظر الملك إلى نصف الثمرة نظرة حزينة، ثم أرسلها إلى إخوانه البوذيين قائلاً إنها كل ما يملك مما يستطيع تقديمه إليهم(43)؛ لكن حقيقة الأمر هي أننا لا ندري شيئاً عن أعوامه الأخيرة، بل لا ندري في أي سنة وافته منيته؛ ولم يمض بعد موته إلا مدى جيل واحد، حتى كانت إمبراطوريته- كإمبراطورية إخناتون- قد تقوض بنيانها؛ ذلك أنه لما تبين أن نفوذ العرش في مملكة "مجاذا" كانت تسنده

صفحة رقم : 759
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الهند وجيرانها -> من الإسكندر إلى أورانجزيب -> الملك الفيلسوف

قوة الدفع القديمة أكثر مما تدعمه إدارة قائمة على قوة الحاكم، فقد أخذت الدول التابعة له تعلن انسلاخها، دولة في إثر دولة، عن ملك الملوك في "باتاليبترا"؛ نعم إن سلالة "أشوكا" لبثت تحكم "مجاذا" حتى القرن السابع الميلادي، لكن أسرة "موريا" الحاكمة التي أنشأها "تشاندرا جوبتا" بلغت ختامها حين قتل الملك "برهادراذا"، وأن ذلك لدليل على أن الدول لا تبقي على المثل العليا، إنما ينهض بنيانها على طبائع الناس.
مني "أشوكا" بالفشل السياسي، ولو أنه من ناحية أخرى قد أدى مهمة من أعظم المهام في التاريخ؛ ففي القرنين التاليين لموته، انتشرت البوذية في أرجاء الهند، وبدأت غزوها لآسيا غزواً لا تراق فيه الدماء؛ فإذا رأيت إلى يومنا هذا، وجه "جوتاما" الهادئ يأمر الناس من "كاندي" في سيلان إلى "كاماكورا" في اليابان، أن يعامل بعضهم بعضاً بالحسنى، وأن يحبوا السلام، فاعلم أنه مما أدى إلى ذلك أن حاكماً، وإن شئت فقل قديساً، كتب له يوماً أن يتربع على عرش الهند.

صفحة رقم : 760
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الهند وجيرانها -> من الإسكندر إلى أورانجزيب -> العصر الذهبي في الهند

الفصل الثالث
العصر الذهبي في الهند
عصر غزوات - ملوك كوشان - إمبراطورية جوبتا - رحلات
"فا - هين" - نهضة الأدب - قبائل الهون في الهند - هرشا
الكريم - رحلات يوانج تشوانج

منذ وفاة "أشوكا" إلى قيام إمبراطورية "جوبتا"- وهي مدة تكاد تبلغ ستمائة سنة- تقل النقوش والوثائق الهندية قلة تجعل تاريخ هذه الحقبة يضطرب بالغموض(44)؛ وليس هو بالضرورة عصراً مظلماً لقلة علمنا بتاريخه، فقد ظلت به جامعات عظيمة مثل جامعات "تاكسيلا" قائمة تنشر العرفان؛ كما أنه حدث في الجزء الشمالي الغربي من الهند إبان تلك الفترة أن ازدهرت حضارة في إثر غزوة الإسكندر، بتأثير الفرس في فن العمارة، واليونان في فن النحت؛ ففي القرنين الأول والثاني قبل المسيح، نزحت جموع من السوريين واليونان والسُّكيسْت إلى البنجاب، ففتحوه وأقاموا فيه هذه الثقافة "اليونانية البكترية" التي ظلت هناك ما يقرب من ثلاثمائة عام : وفي القرن الأول مما تواضعنا فيما بيننا نحن الغربيين أن نسميه بالعصر المسيحي، استولت قبيلة كوشان من قبائل أواسط آسيا، وهي قبيلة تصلها وشائج القربى بالأتراك، استولت هذه القبيلة على "كابل" ، واتخذتها عاصمة نشرت منها نفوذها في أرجاء الجزء الشمالي الغربي من الهند ومعظم آسيا الوسطى؛ فتقدمت الفنون والعلوم في عهد أعظم ملوكها "كانشكا" ، فها هنا أنتج النحت "اليوناني البوذي" مجموعة من أروع آياته؛ كما أقيمت مبان جميلة في "بشاور" و "تاكسيلا" و "ماثورة" وكذلك تقدم "تشاراكا" بفن الطب؛ ووضع "ناجارجونا" و "أشفاغوشا" الأسس التي قام عليها أحد المذاهب البوذية- هو مذهب
صفحة رقم : 761
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الهند وجيرانها -> من الإسكندر إلى أورانجزيب -> العصر الذهبي في الهند

ماهايانا، ومعناها، العربة الكبرى- الذي ساعد "جوتاما" على كسب الصين واليابان في صف مذهبه؛ وكان "كانشكا" متسامحاً مع كثير من الديانات، وجرب بنفسه كثيراً من الآلهة يعبدها، حتى انتهى به الأمر أخيرا إلى اختيار البوذية الجديدة الأسطورية التي جعلت من بوذا إلهاً، والتي ملأت أجواز السماء ببوذوات منتظرة وقديسين من أشباه بوذا؛ ودعا إلى انعقاد مجلس عظيم من رجال اللاهوت البوذي، ليصوغوا هذه العقيدة فيتسنى نشرها في بلاده، وأوشك أن يكون "أشوكا" آخر في عمله على نشر العقيدة البوذية، ودون هذا المجلس قواعد بلغ عددها ثلاثمائة ألفاً، وهبط بالفلسفة البوذية إلى حاجات العاطفة عند النفس العادية، ورفع بوذا نفسه إلى منزلة الآلهة.
وكان "تشاندرا جوبتا الأول" (وهو غير تشاندرا جوبتا موريا على الرغم من اتفاقهما في الاسم والعدد الترتيبي) قد أنشأ حينئذ أسرة "جوبتا الحاكمة في مجاذا التي قوامها ملوك من أهل البلد أنفسهم؛ وأتيح لخلفه في الحكم، وهو "سامدرا جوبتا" أن يحكم خمسين عاماً فيجعل من نفسه ملكاً في طليعة ملوك الهند في تاريخها الطويل؛ وكان مما فعله أن نقل عاصمة الحكم من "باتاليبترا" إلى "أبوذيا"- التي هي الموطن القديم لـ " راما " ، ذلك الشخص الأسطوري- ثم بعث بجيوشه الفاتحة ومحصلي ضرائبه إلى بلاد البنغال وأسام ونيبال والهند الجنوبية؛ وأنفق ما تدفق عليه من أموال تلك الأقطار التابعة له، في النهوض بالأدب والعلم والدين والفنون؛ بل برع هو نفسه، فيما تخلل الحروب من فترات السلم، في الشعر والموسيقى؛ وجاء بعده ابنه "فِكرامادتيا" (ومعناها شمس القوة) فوسع من رقعة هذه الفتوحات الحربية والغزوات العقلية، وأيد أديب المسرحية "كالداسا" وجمع حوله في عاصمته "يوجين" طائفة ممتازة من الشعراء والفلاسفة والفنانين والعلماء والباحثين
صفحة رقم : 762

قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الهند وجيرانها -> من الإسكندر إلى أورانجزيب -> العصر الذهبي في الهند

حتى لقد بلغت الهند من التقدم في عهد هذين الملكين ذروة لم تكن قد جاوزتها منذ بوذا، كما بلغت في وحدتها السياسية مبلغاً لم تبلغ مثيله إلا في عهد "أشوكا" وعهد "أكبر".
ونستطيع أن نتتبع الخطوط الرئيسية في مدنية "جوبتا" من الوصف الذي قدمه "فارهين" عن زيارته للهند في مستهل القرن الخامس الميلادي؛ وهو أحد البوذيين الكثيرين الذين جاءوا من الصين إلى الهند إبان هذا العهد الذهبي من تاريخها؛ بل إن هؤلاء الحجاج الدينيين كانوا على الأرجح أقل عدداً من التجار والسفراء الذين طفقوا حينئذ- رغم ما يحيط بالهند من حواجز الجبال- يفدون إليها وقد اشتملها السلام، يفدون إليها من الشرق والغرب، بل يفدون إليها من روما النائية؛ وكانوا في وفودهم إليها يجتلبون معهم عاداتهم وأفكارهم، فسرعان ما تكون هذه الأفكار وتلك العادات الواردة من خارج حافزاً للبلاد على التغيير في أوضاعها؛ جاءها "فا- هين" فألفى نفسه، بعد أن تعرضت حياته للخطر أثناء مروره في الجزء الغربي من الصين، آمناً في الهند أمناً لا يأتيه الخطر من أية ناحية من نواحيه، فجعل ينتقل في طول البلاد وعرضها، دون أن يصادفه من يعتدي عليه بالإيذاء أو بالسرقة(45)؛ وهو يحدثنا في يومياته كيف استغرق في طريقه إلى الهند ستة أعوام، وأنفق في ربوع الهند ستة أعوام، ثم عاد إلى وطنه في الصين عن طريق سيلان وجاوه في ثلاثة أعوام(46).
وإنه ليصف لنا وصفاً يعبر به عن إعجابه بما كان للشعب الهندي من ثروة وازدهار وفضيلة وسعادة، ومن حرية دينية واجتماعية؛ ولقد أدهشته المدن الكبرى بكثرتها وحجمها وعدد سكانها، كما أدهشته المستشفيات المجانية وغيرها من مؤسسات الإحسان التي امتلأت بها أرجاء البلاد ؛ وعجب
صفحة رقم : 763

قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الهند وجيرانها -> من الإسكندر إلى أورانجزيب -> العصر الذهبي في الهند

لعدد الطلاب الذين يختلفون إلى الجامعات والأديرة، وللقصور الملكية الهائلة بعظمتها وفخامتها(48)؛ وإنك لتقرأ وصفه فلا تجد فيه إلا مدينة فاضلة (يوتوبيا)، إذا استثنيت عادتهم في قطع الأيدي لبعض الآثمين:
"الناس كثيرون وسعداء، فليس ثمة ما يلزمهم بتسجيل أفراد أسرهم، ولا ما يضطرهم إلى المثول بين أيدي القضاة أو الاستماع إلى ما يسنون من قوانين؛ ولم يكن بينهم من يدفع شيئاً سوى زراع الأرض الملكية، فهؤلاء يدفعون جزءاً من غلة الأرض؛ ولمن شاء أن يسافر أو يقيم حيث شاء؛ والملك يحكمهم لا يقتل منهم أحداً ولا ينزل بأحد منهم عقاباً، ولا يطالب المجرمون بأكثر من غرامة... وحتى في الحالات التي يتهم فيها الآثم بالثورة المتكررة التي يشق بها عصا الطاعة، لم يكن يحكم عليه بأكثر من قطع يده اليمنى... واذهب حيث شئت من أرجاء البلاد جميعاً فلن تجد أحداً يقتل كائناً حياً، أو يأكل البصل أو الثوم، إذا استثنيت قبيلة "شاندالا"... إنهم في تلك البلاد لا يربون الخنازير والطيور الداجنة ولا يبيعون الماشية حية، فلست ترى في أسواقهم دكاناً لقصاب ولا حانوتاً لبيع المسكرات"(49).

ولم يكد "فا- هين" يلحظ أن البراهمة، الذين كانوا من المغضوب عليهم لدى أسرة موريا الحاكمة منذ عهد "أشوكا" قد أخذوا يزدادون من جديد في ثرائهم ونفوذهم، في ظل التسامح الذي أبداه ملوك أسرة "جوبتا" ، فأحيوا تقاليدهم الدينية والأدبية التي كانت قائمة قبل العهد البوذي، وإنهم كانوا يطورون اللغة السنسكريتية بحيث تصبح هي لغة التفاهم المشتركة بين العلماء في أنحاء الهند كلها: فقد كتبت الملحمتان الهنديتان العظيمتان، "ماهابهاراتا" و "رامايانا" في صورتهما الحاضرة(50) في ظل هؤلاء الملوك وبرعايتهم؛ وكذلك بلغ الفن البوذي في عهد أسرتهم ذروة مجده في النقوش الموجودة بكهوف "أجانتا" ، وفي رأي عالم هندي معاصر أن "مجرد هذه الأسماء: "كاليداسا" و "فاراهاميهيرا" و "جنافارمان" و "فاشوباندو" و "أريابهاتا"
صفحة رقم : 764
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الهند وجيرانها -> من الإسكندر إلى أورانجزيب -> العصر الذهبي في الهند

و "براهما جوبتا" يكفي ليجعل عصرهم ذاك أوج الثقافة الهندية"(51) ويقول "هَافِل": "في وسع المؤرخ المحايد أن يقول في غير إجحاف أن أعظم فوز ظفرت به الإدارة البريطانية للهند هو أن تعيد لتلك البلاد كل ما كانت قد بلغته في القرن الخامس الميلادي"(52)

لكن هذا العصر الزاهر للثقافة القومية قد اعترضته موجة من غزوات الهون التي كانوا يجتاحون بها إذ ذاك آسيا وأوربا، فيدمرون حضارة الهند وحضارة روما على السواء حيناً من الدهر؛ ففي الوقت الذي كان يجتاح فيه "أتلا" ربوع أوربا، كان "تورامانا" يستولي على "مالْوَا" كما كان "ميهيراجولا" الفظيع يطوح بملوك أسرة "جوبتا" من فوق عرشهم؛ وهكذا لبثت الهند قرناً كاملاً تتدهور إلى عبودية وفوضى؛ وبعدئذ جاء فرع من سلالة أسرة "جوبتا" ، وهو فرع "هارشا- فارذانا" ، وعاد فاستولى من جديد على الهند الشمالية، وابتنى عاصمة له في "كانوج" فأتاح لتلك المملكة الفسيحة سلاماً وأمنا مدى اثنين وأربعين عاماً، ازدهرت فيها مرة أخرى فنون البلاد وآدابها؛ وتستطيع أن تصور لنفسك عاصمتهم تلك "كانوج" من حيث اتساعها وفخامتها وازدهارها، إذا علمت هذه الحقيقة الآتية التي تعز على التصديق، وهي أن المسلمين حين أتوا عليها بالتخريب (سنة 1018 م) دمروا عشرة آلاف معبد(53)، ولم تكن حدائقها العامة الجميلة وأحواض السباحة المجانية فيها، إلا جزءاً ضئيلاً من حسنات الأسرة الجديدة؛ وكان "هارشا" نفسه أحد هؤلاء الملوك القلائل الذين يخلعون على الملكية مظهراً- ولو إلى حين- بحيث تبدو أفضل ألوان الحكم على اختلافها؛ فقد كان رجلاً له سحره وله جوانب كثيرة من الثقافة، فقرض شعراً وأنشأ مسرحيات لا تزال تقرأ في الهند حتى يومنا هذا، على أنه لم يسمح لهذه الصغائر أن تتدخل في إداراته الحازمة لمملكته، وفي ذلك يقول "يوان تشوانج": "كان لا يعرف الشعب، ويرى اليوم أقصر من أن يسد له مطالبه، حتى لقد نسي النوم في إخلاصه لأعمال الخير التي كان يقوم بإنشائها"(54) ولقد بدأ في ديانته عابداً
صفحة رقم : 765
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الهند وجيرانها -> من الإسكندر إلى أورانجزيب -> العصر الذهبي في الهند

لـ "شيفا" لكنه تحول بعدئذ إلى العقيدة البوذية، وأصبح شبيهاً بـ "أشوكا" في حسناته التي صدر فيها عن تقواه؛ فحرم أكل الحيوان، وأقام محطات ينزل بها المسافرون في أرجاء ملكه جميعاً، وأنشأ ألوف الأضرحة البوذية على ضفاف الكنج.
ويروى لنا "يوان تشوانج"- وهو أشهر البوذيين من أهل الصين- وقد زار الهند، أن "هارشا" كان يعلن كل خمسة أعوام عن حفل عظيم لأعمال البر، كان يدعو إليه كل رجال الديانات على اختلافها، كما يدعو إليه كل الفقراء والمعوزين في مملكته، وكانت عادته في هذا الاجتماع أن يحسن على ملأ من الناس بكل الفائض عن حاجته في خزانة الدولة منذ الاحتفال الخمسي الماضي؛ ولكم دهش "يوانج" لما رأى مقداراً كبيراً من الذهب والفضة والنقود والجواهر والأثواب الدقيقة النسج والغلالات الموشاة، مكدساً أكواما في ميدان مكشوف يحيط به عشرات من الأروقة يضم كل منها ألف شخص؛ وكانت الأيام الثلاثة الأولى تخصص للطقوس الدينية، ثم يبدأ توزيع الصدقات في اليوم الرابع (لو أخذنا بما يقوله هذا الحاج وإنه لقول من العسير تصديقه)؛ وكانوا في ذلك الحفل يطعمون عشرة آلاف من الرهبان البوذيين، ويقدمون لكل منهم لؤلؤة وثياباً وأزهاراً وعطوراً ومائة قطعة من الذهب؛ وبعدئذ يعطون البراهمة من الصدقات ما يكاد يبلغ هذا المقدار، ثم يعطون الجانتيين صدقاتهم، ثم يعقبون على ذلك بسائر العقائد الدينية وبعد ذلك يحسنون على الفقراء واليتامى الذين جاءوا من كل ركن من أركان المملكة من غير رجال الدين؛ وكان التوزيع أحياناً يستغرق ثلاثة شهور أو أربعة؛ وفي ختام الحفل يخلع "هارشا" عن نفسه أرديته الثمينة ومجوهراته، ليضيفها إلى الصدقات(55).
صفحة رقم : 766
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الهند وجيرانها -> من الإسكندر إلى أورانجزيب -> العصر الذهبي في الهند

وتدلنا مذكرات "يوان تشوانج" على أن الروح العقلي الذي ساد ذلك العصر كان روحاً من نشوة دينية؛ وهو يرسم لنا بمذكراته صورة رائعة تنم عن شهرة الهند إذ ذاك في سائر الأقطار؛ فهذا الصيني الأرستقراطي يغادر حياته المترفة الهينة في بلده النائي "تشانجان" ليعبر الصين الغربية التي لم تبلغ من الحضارة إلا مبلغاً ضئيلاً، ويمر بطشقند وسمرقند (التي كانت مدينة زاهرة إذ ذاك)، ثم يتسلق الهمالايا ليدخل الهند، يقيم ثلاثة أعوام يدرس دراسة المتحمس في جامعة الدير بمدينة "نالاندا" ؛ ولما كان "يوان تشوانج" ذائع الصيت باعتباره عالماً وباعتباره إنساناً له مكانته الاجتماعية، فقد توجه إليه أمراء الهند بالدعوات؛ وسمع "هارشا" أن "يوان" كان في بلاط "كومارا" ملك أسام، فدعا "كومارا" إلى زيادة " كانوج " مستصحباً "يوان" ، فرفض "كومارا" دعوته قائلاً أن "هارشا" يستطيع أن يفصل رأسه لكنه لا يستطيع أن يأخذ منه ضيفه؛ فأجابه "هارشا" قائلاً: "إنني لا أقلقك إلا ساعياً في سبيل رأسك" وجاءه "كومارا" وعندئذ أعجب "هارشا" بعلم "يوان" وأدبه، وأمر بأعيان البوذيين فعقدوا اجتماعاً أنصتوا فيه إلى "يوان" وهو يعرض عليهم مذهب "ماهايانا" ؛ وعلق "يوان" قائمة بآرائه على باب الرواق الذي أعد للاجتماع والنقاش، وأضاف إلى تلك الآراء حاشية على طريقة ذلك العصر، يقول فيها: "إذا وجد أحد من الحاضرين هنا غلطة في تسلسل آرائي، واستطاع تفنيد قول من أقوالي، فله أن يبتر رأسي عن جسدي" ؛ ودامت المناقشة ثمانية عشر يوماً، استطاع خلالها "يوان" (هكذا يقول يوان نفسه) أن يرد كل اعتراض، وأن يصد كل الزنادقة (وهناك رواية أخرى تقول أن معارضيه ختموا الاجتماع بإشعال النار في الرواق(56)؛ وبعد مغامرات كثيرة التمس "يوان" طريقه عائداً إلى بلده "تشانجان" حيث عمل إمبراطورها المستنير على صيانة الآثار البوذية في معبد فاخر، تلك الآثار البوذية التي أحضرها معه هذا الرحالة

الورع،
صفحة رقم : 767
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الهند وجيرانها -> من الإسكندر إلى أورانجزيب -> العصر الذهبي في الهند

الذي يشبه "ماركوبولو" في رحلاته؛ ثم عين له طائفة من العلماء يعاونونه على ترجمة المخطوطات التي اشتراها من الهند(57).
ومع ذلك كله، فقد كان هذا المجد الذي ازدهر به حكم "هارشا" مصطنعاً زائلاً، لأنه كان يعتمد على ملك واحد بما له من قدرة وسخاء، والملك يموت كما يموت البشر؛ فلما مات، اغتصب عرشه مغتصب وأبدى من الملكية وجهها الأقتم، وجاءت في أثره الفوضى، ثم دامت ما يقرب من ألف عام عانت الهند خلالها عصورها الوسطى- كما حدث لأوروبا- واجتاحها البرابرة، كما غزاها الغزاة ومزقوها وخربوها، فما عرفت للسلم والاتحاد طعماً إلا حين أدركها "أكبر" العظيم.

صفحة رقم : 768
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الهند وجيرانها -> من الإسكندر إلى أورانجزيب -> أبناء راجيوتانا

الفصل الرابع
أبناء راجبوتانا
ساموراي الهند - عصر الفروسية - سقوط شيتور

كانت ملحمة راجبوتانا بمثابة السراج الذي أضاء "العصر المظلم" أمداً قصيراً؛ ففي ذاك العهد قام في دويلات "موار" و "ماروار" و "عنبر" و "بيكانر" وكثير غيرها مما يرنّ بأسماء كهذه رنين النغمات، قام في هذه الدويلات شعب خليط، هو نتيجة تزاوج الوطنيين بالسُّكيَّت والهون الغزاة، وأقام مدينة إقطاعية تحت سلطان طائفة من الأمراء المقاتلين الذين جعلوا همهم فن الحياة أكثر مما جعلوه حياة الفن، وقد بدءوا بالاعتراف بسلطة الأسرتين الحاكمتين "موريا" و "جوبتا" ، ثم انتهوا بعدئذ إلى الدفاع عن استقلالهم، ثم الدفاع عن الهند بأسرها في وجه الجموع المحتشدة من المسلمين الذين جاءوها زاحفين؛ وكانت قبائل هؤلاء الأمراء تتميز بشهامة عسكرية وشجاعة لا نعهدهما عادة في أهل الهند ؛ فلو جاز لنا أن نأخذ بما يقوله عنهم مؤرخهم "تود" المعجب بهم، فكل رجل من رجالهم كان " كشاتريَّاً " جريئاً (الكشاترية هي طبقة المقاتلين) وكل امرأة من نسائهم كانت بطلة مقدامة؛ بل إن اسم هذه القبائل، وهو "أهل راجبوت" معناه "أبناء الملوك" ، فإن رأيتهم أحياناً يطلقون على بلادهم اسم "راجستان" فما ذاك إلا ليصفوها بأنها "مقر العنصر الملكي".
ولو نظرت إلى أنباء هذه الدويلات الباسلة لرأيت فيها كل ما جرينا على نسبته إلى "عصر الفروسية" من صفات الشجاعة والولاء والجمال والخصومات
صفحة رقم : 769
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الهند وجيرانها -> من الإسكندر إلى أورانجزيب -> أبناء راجيوتانا

وقتل بعضهم بعضاً بالسم والاغتيال والحروب وخضوع المرأة وما إلى ذلك كله من عبث القول وتفخيم الوصف؛ فيقول "تود" : "إن رؤساء راجبوت كانوا يتحلون بكل الفضائل التي عرف بها الرجل من فرسان الغرب، ثم هم يفوقونه بكثير من قدراتهم العقلية " (59) وكان لهم نساء جميلات لم يترددوا في الموت من أجلهن، وكانت المجاملة وحدها تحمل هؤلاء النساء على أن يصحبن أزواجهن إلى القبر مصطنعات طقوس قومهم في هذا الشأن؛ ومن هؤلاء النسوة فريق كان له حظ من التربية والتهذيب، كما كان بين الراجات شعراء وعلماء، حتى لقد شاع بينهم حيناً من الدهر ضرب رقيق من ضروب التصوير بألوان الماء على النمط الفارسي الوسيط، ولبثوا قروناً أربعة يزدادون في ثرائهم حتى بلغوا منه حداً استطاعوا معه أن ينفقوا عشرين مليوناً من الريالات على تتويج ملك المواريين(60).
وكان موضع فخرهم هو نفسه مأساتهم، وذلك أنهم يمارسون القتال على أنه أعلى ما تسمو إليه الفنون، لأنه الفن الوحيد الذي يليق بالسيد من أهل راجبوت ولقد مكنتهم هذه الروح الحربية من الصمود للمسلمين في بسالة يسجلها التاريخ ، لكن هذه الروح الحربية نفسها جعلت دويلاتهم الصغيرة على حال من الانقسام والضعف الناشئ عن مقاتلة بعضهم بعضاً، بحيث لم تعد شجاعتهم كلها قادرة على صيانة كيانهم في نهاية الأمر؛ وتقرأ ما يقوله "تود" في وصف سقوط شيتور- وهي إحدى عواصم الراجبوت- فتقرأ وصفاً لا يقل في خياله الشعري عن أية أسطورة من أساطير "أرثر" أو "شرلمان". ولما كان هذا الوصف مستمداً من مصدر واحد، وهو ما قاله المؤرخون الوطنيون الذين دفعهم إخلاصهم لوطنهم أن يحيدوا عن الصدق
صفحة رقم : 770
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الهند وجيرانها -> من الإسكندر إلى أورانجزيب -> أبناء راجيوتانا

فيما رووا، فلا شك أن هذه الأنباء العجيبة، "أنباء راجستان" ، يجوز أن تكون ذات نزعة أسطورية تقرّبها من "موت أرثر" أو "أنشودة رولان"، وفي رواية هؤلاء المؤرخين أن الفاتح المسلم علاء الدين لم يطلب شيتور لذاتها، بل سعياً للحصول على الأميرة "بودميني" - "وهذا لقب تلقب به من كانت فاتنة بجمالها فتنة ليس بعدها مزيد"- وقد عرض الرئيس المسلم أن يرفع الحصار عن شيتور إذا قبل القائم بالحكم فيها نيابة عن الملك أن يسلم له الأميرة، فلما رفض طلبه هذا، عاد علاء الدين فعرض أن ينسحب إذا أتيح له أن يرى "بودميني" ، وأخيراً وافق على الرحيل إذا مكّن له من رؤية "بودميني" في مرآة، لكنهم أبوا عليه حتى هذا، وبدل أن يجيبوا له رجاءه تضافرت نساء شيتور وانضممن إلى صفوف الدفاع عن مدينتهن، فلما رأى أهل راجبوت زوجاتهم وبناتهم يمتن إلى جوارهم، لبثوا يقاتلون حتى فني آخر رجل من رجالهم، حتى إذا ما دخل علاء الدين المدينة، لم يجد داخل أبوابها أثراً واحداً من آثار الحياة البشرية، فقد مات رجالها جميعاً في ميدان القتال، وأحرق زوجاتهم أنفسهن مصطنعات تلك الطقوس المخيفة التي كانت تعرف عندهم باسم "جوهور"(62).

صفحة رقم : 771
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الهند وجيرانها -> من الإسكندر إلى أورانجزيب -> الجنوب في أوجه

الفصل الخامس
الجنوب في أوجه
ممالك الدكن - فيجايا ماجار - كرشنا رايا - مدينة عظمى
في العصر الوسيط - القوانين - الفنون - الدين - مأساة

كلما تقدم المسلمون في الهند تراجعت الحضارة الهندية نحو الجنوب خطوة بعد خطوة، حتى إذا ما دنت هذه العصور الوسطى من ختامها، كانت الدكن قد باتت بين أرجاء الهند تنتج أسمى ما تنتجه الحضارة الهندية؛ وكانت قبيلة "شاليوكا" قد استطاعت أن تكوّن نفسها مملكة مستقلة لبثت قائمة حيناً من الدهر، تمتد عبر الهند الوسطى، وكان لها من القوة والمجد في عهد "بولاكشين الثاني" ما تمكنت به من أن تهزم "هارشا" وأن تجذب إليها "يوان تشوانج" وأن تظفر من "خسرو الثاني" ملك الفرس بسفارة محترمة؛ وكذلك تمت في عهد "بولاكشين" وفي أرض مملكته أعظم التصاوير الهندية، وأعني بها نقوش أجانتا؛ ثم أسقط "بولاكشين" عن عرشه ملك الفلاويين الذي لبث حيناً قصيراً أعظم قوة في الهند الوسطى؛ وأما في أقصى الجنوب فقد أقام "البانداويون" ملكاً في عهد مبكر يقع في القرن الأول الميلادي، ويشتمل "مِدْراس" و "تِنِفلي" وبعض أجزاء" ترافانكور" ؛ وقد جعلوا من مدينة "مادورا" بلداً من أجمل بلدان الهند في العصر الوسيط وزينوها بمعبد شامخ وبمئات من الآثار المعمارية الفنية الصغرى؛ ودار الزمن دورته فإذا هم كذلك يُشَّل عرشهم على أيدي "الكوليين" أولا ثم على أيدي المسلمين بعد ذلك؛ فأما "الكوليّون" فقد بسطوا سلطانهم على الجزء الواقع بين "مادورا" و "مِدْراس" ومن ثم مدوا أرجاءه تجاه الغرب إلى "ميسور" ؛ ويمتد تاريخهم
صفحة رقم : 772
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الهند وجيرانها -> من الإسكندر إلى أورانجزيب -> الجنوب في أوجه

إلى عهد بعيد في القِدَم، إذ ترى اسمهم مذكوراً في مراسيم "أشوكا" ، لكننا لا ندري عنهم شيئاً حتى القرن التاسع حين بدءوا شوطاً طويلاً تملؤه الغزوات التي جاءتهم بأموال الجزية من الهند الجنوبية كلها بما في ذلك جزيرة سيلان؛ ثم اضمحل سلطانهم وانطووا تحت حكم أعظم الدويلات الجنوبية، وهي دولة "فيجاياناجار" .

أن "فيجاياناجار"- وهو اسم يطلق على مملكة وعلى عاصمتها معاً- مَثلٌ حزين يساق للمجد الذي يعفى عليه النسيان؛ وقد كانت في أيام عزها تشتمل على الدويلات التي يحكمها الأهلون اليوم في جنوبي شبه الجزيرة، كما تشتمل على ميسور وعلى اتحاد مِدْراس بكل أجزائه؛ وحسبك إذا أردت أن تتصور ما كان لها من سلطان وثراء، أن تتذكر أن ملكها "كرشنارايا" زحف إلى موقعة تاليكونا بجيش قوامه 000ر703 من المشاة، و 600ر32 من الفرسان، و 551 فيلاً، يصحبهم ما يقرب من مائة ألف من التجار والبغايا وغير هؤلاء وأولئك ممن كانوا يصحبون معسكرات الجند في ذلك العصر إذا ما زحف الجيش في غزواته(63) ولقد حد من أوتوقراطية الملك قدر من الاستقلال الذاتي تمتعت به القرى، كما حد منها كذلك ملوك كانوا يظهرون آناً بعد آن، يتميزون عن سواهم بعقولهم المستنيرة وقلوبهم الرحيمة.
ولك أن تقارن "كرشنارايا" الذي حكم "فيجاياناجار" بمعاصرة هنري
صفحة رقم : 773
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الهند وجيرانها -> من الإسكندر إلى أورانجزيب -> الجنوب في أوجه

الثامن مقارنة ستكشف لك عن تفوقه على هنري الثامن الذي ما فتئ محباً للنساء لأنك سترى فيه ملكاً أنفق حياته في العدل والرحمة، وبسط كفه بالإحسان الغزير. وتسامح إزاء الديانات الهندية، وكان له شغف بالآداب والفنون فأيدها، وكان كريماً مع من سقط في يديه من أعدائه فعفا عنهم ولم يمس مدنهم بسوء، وانصرف بجهده كله حتى الإفراط، إلى شئون الحكم، ولقد كتب مبشر برتغالي- هو دومنجوزبيز سنة 1522م- فوصفه بقوله:

"إنه بلغ أقصى ما يمكن لملك أن يبلغه من الهيبة والكمال وهو ذو مزاج بهيج وشديد المرح، ومن صفاته أنه لا يألو جهداً في تكريم الأجانب وفي الحفاوة بهم ... إنه حاكم عظيم ورجل يغلب على أخلاقه العدل، ولكنه يثور بالغضب فجأة حيناً بعد حين ... وهو بحكم منزلته أسمي منزلة من سائر الحاكمين، لما له من جيوش وسعة سلطان، لكنه فيما يبدو لم يكن في واقع الأمر يحظى بما كان ينبغي لرجل في مثل مكانته أن يحظى به؛ فهو من الشهامة والكمال في كل شئ بمكان" .
وربما كانت العاصمة التي تأسست سنة 1336م أغنى مدينة عرفتها الهند حتى ذلك الزمان؛ زارها "نيكولوكونتي" حول سنة 1420م فقدر محيطها بستين ميلاً، ووصفها "بيز" فقال إنها "في اتساع روما وتراها العين فترى جمالاً خلاباً" ثم أضاف إلى ذلك قوله: "إن بها أحراشاً كثيرة من الشجر وقنوات مائية عدة" ذلك لأن مهندسيها قد أقاموا سداً ضخماً على نهر تنجابادرا وأنشئوا بذلك خزاناً ينتقل الماء منه إلى المدينة بقناة طولها خمسة عشر ميلاً، وقد كان الخزان منحوتاً في صخر أصم مدى عدة أميال؛ وقال "عبد الرزاق" الذي شهد المدينة سنة 1443م أن فيها "ما لم تر مثيله في أي جزء من أجزاء العالم عين ولا سمعت بمثيله أذن" واعتبرها "بيز" "أوفر بلاد الدنيا مؤونة... ففيها من كل شئ وفرة" ويروى لنا أن عدد دورها قد أربى على مائة ألف،
صفحة رقم : 774
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الهند وجيرانها -> من الإسكندر إلى أورانجزيب -> الجنوب في أوجه

يسكنها نصف مليون من البشر، وتراه يدهش لقصر من قصورها كانت فيه غرفة بنيت كلها من العاج؛ "إنها من الثراء والجمال بحيث يكاد يستحيل أن تجد لها ضريباً في أي مكان آخر"(66).

ولما تزوج "فيروز شاه" سلطان دلهي من ابنة ملك "فيجاياناجار" في عاصمة هذا الأخير، فرشت الطرقات لمسافة ستة أميال بالمخمل والحرير ورقائق الذهب وغير ذلك من المواد النفيسة(67)، لكن أذكر مع ذلك أن كل رحالة كذاب.
وإذا ما نفذت ببصرك وراء هذا الستار من الغنى، وجدت شعباً من عبيد وفعلة يعيشون في مسبغة وخرافة، ويخضعون لتشريع اصطنع القسوة الوحشية ليصون بين الناس ضرباً منشوداً من ضروب الأخلاق التجارية، فكان العقاب يتراوح بين قطع الأيدي أو الأقدام وقذف المذنب إلى الفيلة وجذ رأسه ووضعه حياً على قضيب مدبب ينفذ خلال معدته، أو تعليقه على مشبك من أسفل ذقنه وتركه هكذا حتى يموت(68)، وهذه العقوبة الأخيرة كانت تنزل بالمغتصب أو بالسارق الذي يمعن في سرقته؛ وكان البغاء مسموحاً به، تنظمه القوانين بحيث تجعل منه مورداً من موارد العرش، ويقول (عبد الرزاق) إنه رأى "أمام دار السكة ديوان عميد المدينة الذي قيل عنه أنه يهيمن على اثني عشر ألفاً من رجال الشرطة، الذين تدفع لهم رواتبهم ... مما يجبى من مواخير البغاء، وإنه لمما يعز على الوصف تصوير فخامة هذه الدور وجمال آهلاتها من الفاتكات بالقلوب، وما لهن من فتنة الحديث وحلاوة الغزل"(69) ، وقد كان للمرأة عندهم منزلة دنيا، وكان عليها أن تقتل نفسها عند وفاة زوجها، فكانوا يتركونها أحياناً تلقي بنفسها حية في القبر(70).
وازدهر الأدب في عصر "ملوك الرايا"- أي ملوك فيجاياناجار-
صفحة رقم : 775
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الهند وجيرانها -> من الإسكندر إلى أورانجزيب -> الجنوب في أوجه

ازدهر مكتوباً بالسنسكريتية القديمة وبلهجة "تلوجو" التي ينطق بها أهل الجنوب؛ وكان "كرشنارايا" نفسه شاعراً كما كان راعياً سخياً للآداب، وإنهم ليضعون أمير شعرائه "آلاساني بدانا" في الرعيل الأول من شعراء الهند كلها؛ وكذلك ازدهر التصوير وفن العمارة، فشيدت المعابد الضخمة، وزينت في كل جزء من أجزائها تقريباً بالتماثيل والنقوش البارزة؛ وكانت البوذية قد فقدت سلطانها على الناس، وحل محلها ضرب من البراهمية التي تقدس " فشنو " قبل تقديسها لغيره من الآلهة، وكانت البقرة عندهم مقدسة فلا تمتد إليها أيديهم بالذبح، ولهم أن يقدموا للآلهة قرابين من ضروب الماشية الأخرى ومن الطيور الداجنة، كما كان لهم أن يأكلوا لحوم هذه الصنوف؛ وبالجملة كان الدين قاسي الأحكام على حين كانت أخلاق التعامل بين الناس على شئ من التهذيب.

لكن هذا السلطان كله وهذا الترف كله قد انمحى بين عشية وضحاها، وأخذ المسلمون الغزاة يشقون طريقهم رويداً رويداً بين الجنوب، وتحالف سلاطين "بيجابور" و "احمد ناجار" و "جولكوندا" و "بدار" فركزوا قواهم جميعاً ليخضعوا هذا المعقل الأخير الذي تحصن فيه ملوك الهند الوطنيون، والتقت جيوشهم المتحالفة بجيش "راماراجا" الذي يبلغ عدده نصف المليون في موقعة "تاليكوتا" وكان الغلب للمغيرين بسبب كثرة عددهم، ووقع "راماراجا" في الأسر وقطع رأسه على مرأى من أتباعه، فدب الرعب في أنفس هؤلاء الأتباع ولاذوا بالفرار، لكن عدداً يقرب من مائة ألف منهم قتل في طريق الفرار حتى اصطبغت بدمائهم مجاري الماء؛ وراح الجنود الفاتحون ينهبون العاصمة الغنية، وكانت الغنائم من الكثرة بحيث "أصبح كل جندي بسيط من جنود الجيوش المتحالفة غنياً بما ظفر به من ذهب ومجوهرات ومتاع وخيام وسلاح وجياد ورقيق"(71) ودام النهب خمسة أشهر، جعل الظافرون خلالها يفتكون بمن لا حول لهم من الأهالي في وحشية لا تفرق بين إنسان وإنسان، وراحوا يفرغون المخازن والدكاكين، ويقوضون المعابد
صفحة رقم : 776
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الهند وجيرانها -> من الإسكندر إلى أورانجزيب -> الجنوب في أوجه

والقصور، وبذلوا ما استطاعوا من جهد لإتلاف كل ما تحويه المدينة من تماثيل وتصاوير؛ وبعدئذ جاسوا خلال الشوارع يحملون المشاعل الموقدة فيشعلوا النار في كل ما يصلح وقوداً للنار، حتى إذا ما غادروا المدينة آخر الأمر، كانت " فيجاياناجار " قد باتت خراباً بلقعاً كأنما زلزل زلزلها فما أبقي منها حجراً على حجر؛ وهكذا كان الدمار فضيعاً لم يُبْق على شئ، يصوّر أدق تصوير غزو المسلمين للهند، ذلك الغزو الشنيع الذي كان قد بدأ قبل ذلك بألف عام، وبلغ حينئذ ختام مراحله .

صفحة رقم : 777
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الهند وجيرانها -> من الإسكندر إلى أورانجزيب -> الفتح الإسلامي

الفصل السادس
الفتح الإسلامي
إضعاف الهند - محمود الغزنوي - سلطنة دلهي - انحرافاتها
الثقافية - سياستها الوحشية - عبرة التاريخ الهندي
لعل الفتح الإسلامي للهند أن يكون أكثر قصص التاريخ تلطخاً بالدماء ؛ وإن حكاية الفتح لمما يبعث اليأس في النفوس لأن مغزاها الواضح هو أن المدنية مضطربة الخطى، وأن مُركبَّها الرقيق الذي قوامه النظام والحرية، والثقافة والسلام، قد يتحطم في لحظة على أيدي جماعة من الهمج تأتي من الخارج غازية ، أو تتكاثر في الداخل متوالدة؛ فهؤلاء هم الهندوسيون قد تركوا أنفسهم للانقسام والقتال الداخليين يفتان في عضدهم، واتخذوا لأنفسهم البوذية والجانتية ديناً، فأخمد مثل هذا الدين جذوة الحياة في قلوبهم بحيث عجزوا عن الصمود لمشاقها؛ ولم يستطيعوا تنظيم قواهم لحماية حدودهم وعواصمهم وثروتهم وحريتهم من طوائف السُّكيَّت والهون والأفغان والأتراك الذين ما فتئوا يجوبون حول حدود البلاد يرقبون ضعف أهلها لينفذوا إلى جوفها، فكأنما لبثت الهند أربعة قرون (من 600 إلى 1000م) تغري الفاتحين بفتحها، حتى جاءهم هذا الفتح حقيقة واقعة آخر الأمر.
وكانت أول هجمة للمسلمين إغارة عابرة منهم على "ملطان" التي تقع في الجزء الغربي من البنجاب (سنة 664م)، ثم وقعت من المسلمين إغارات أخرى شبيهة بهذه كان فيها النجاح حليفهم مدى الثلاثة القرون التالية، حتى انتهى بهم الأمر إلى توطيد سلطانهم في وادي نهر السند في نحو الوقت الذي
صفحة رقم : 778
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الهند وجيرانها -> من الإسكندر إلى أورانجزيب -> الفتح الإسلامي

كان زملاؤهم في الدين يقاتلون في الغرب موقعة "تور" (732م) ليخلصوا منها إلى فرض سيادتهم على أوربا، على أن الفتح الإسلامي الحقيقي للهند لم يقع إلا بعد نهاية الألف عام الأولى من التاريخ الميلادي.

ففي سنة 997 م تولى شيخ من الشيوخ الأتراك يسمى محمود سلطنة دولة صغيرة؛ تقع في الجزء الشرقي من أفغانستان، وهي دولة غزنة؛ وأدرك محمود أن ملكه ناشئ وفقير، ورأى الهند عبر الحدود بلداً قديماً غنياً، ونتيجة هاتين المقدمتين واضحة؛ فزعم لنفسه حماسة دينية تدفعه إلى تحطيم الوثنية الهندوسية، واجتاح الحدود بقوة من رجاله تشتعل حماسة بالتقوى التي تطمع في الغنيمة، والتقى بالهندوسيين آخذاً إياهم على غرة في "بهمناجار" ، فقتلهم ونهب مدائنهم وحطم معابدهم وحمل معه كنوزاً تراكمت هناك على مر القرون؛ حتى إذا ما عاد إلى غزنة، أدهش سفراء الدول الأجنبية بما أطلعهم عليه من "الجواهر واللآلئ غير المثقوبة والياقوت الذي يتلألأ كأنه الشرر، أو كأنه النبيذ جمده الثلج، والزمرد الذي أشبه غصون الريحان اليانعة، والماس الذي ماثل حب الرمان حجماً ووزناً"(72)؛ وكان محمود كلما أقبل شتاء هبط على الهند وملأ خزائنه بالغنائم، وأمتع رجاله بما أطلق لهم من حرية النهب والقتل، حتى إذا ما جاء الربيع عاد إلى عاصمة بلاده أغنى مما كان؛ وفي "ماثورة" (على جمنه) أخذ من المعبد تماثيله الذهبية التي كانت تزدان بالأحجار الكريمة؛ وأفرغ خزائنه من مكنونها الذي كان يتألف من مقادير كبيرة من الذهب والفضة والجواهر؛ وأعجبه فن العمارة في ذلك الضريح العظيم، ثم قدر أن بناء مثله يكلف مائة مليون دينار وعملاً متصلاً مدى قرنين، فأمر به أن يغمس في النفط، وأن يترك طعاماً للنار حتى أتت عليه(73)، وبعد ذلك بستة أعوام، أغار على مدينة غنية أخرى تقع في شمال الهند، وهي مدينة "سمنة" فقتل سكانها جميعاً وعددهم خمسون ألف نسمة، وحمل كنوزها إلى غزنة؛ ولعله في نهاية أمره قد أصبح أغنى ملك عرفه التاريخ؛ وكان أحياناً يبقي على سكان المدن المنهوبة ليأخذهم معه إلى وطنه فيبيعهم هناك رقيقاً، لكن هؤلاء
صفحة رقم : 779

قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الهند وجيرانها -> من الإسكندر إلى أورانجزيب -> الفتح الإسلامي

الأسرى بلغوا من الكثرة حداً أدي بهم إلى البوار بعد بضعة أعوام، بحيث يتعذر أن تجد من يدفع أكثر من شلنات قليلة ثمناً للعبد من هؤلاء؛ وكان محمود كلما هم بعمل حربي هام، جثا على ركبتيه مصلياً يدعو الله أن يبارك له في جيشه؛ وظل يحكم ثلث قرن، فلما جاءته منيته، كان قد أثقلته السنون ودواعي الفخار، فوصفه المؤرخون المسلمون بأنه أعظم ملوك عصره، ومن أعظم الملوك في كل العصور(74).
فلما رأى سائر الحكام المسلمين ما خلعه التوفيق من جلال على هذا اللص العظيم، حذوا حذوه، ولم يستطيع أحد منهم أن يبزه في خطته؛ ففي عام 1186م قامت قبيلة تركية من الأفغانستان، وهي قبيلة الغوريين، بغزو الهند والاستيلاء على دلهي، وخربوا معابدها وصادروا أموالها ونزلوا بقصورها ليؤسسوا لأنفسهم بذلك سلطنة دلهي - وهي سلطنة استبدادية وفدت إلى البلاد من خارج، وجثمت على شمالي الهند ثلاثة قرون، لم يخفف من عبئها إلا حوادث الاغتيال والثورة؛ وكان أول هؤلاء السلاطين الأشرار هو "قطب الدين أيبك" الذي يعد نموذجاً سوياً لنوعه - فهو متهوس في تعصبه غليظ القلب لا يعرف الرحمة؛ ويروي لنا عنه المؤرخ المسلم فيقول أن عطاياه "كانت توهب بمئات الألوف، وقتلاه كانوا كذلك يعدون بمئات الألوف ففي قصر واحد ظفر به هذا المحارب "الذي كان قد بيع عبدا "وضع في أغلال الرق 50 ألف رجل واسودت بطاح الأرض بالهنود"(75)؛ وكان "بَلْبان"- وهو سلطان آخر- يعاقب الثائرين وقطاع الطرق برميهم تحت أقدام الفيلة، أو ينزع عنهم جلودهم، ثم يحشو هذه الجلود بالقش ويعلقها على أبواب دلهي؛ ولما حاول بعض السكان المنغوليين الذين كانوا قد استوطنوا دلهي واعتنقوا الإسلام، أن يقوموا بثورة، أمر السلطان علاء الدين (فاتح شيتور) بالذكور جميعاً- ويقع عددهم بين خمسة عشر ألفاً وثلاثين ألفاً-

صفحة رقم : 780
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الهند وجيرانها -> من الإسكندر إلى أورانجزيب -> الفتح الإسلامي

فقتلوا في يوم واحد؛ وجاء السلطان محمود بن طغلق فقتل أباه وتولى العرش من بعده، وقد أصبح في عداد العلماء الأعلام والأدباء أصحاب الأسلوب الرشيق، فدرس الرياضة والطبيعة والفلسفة اليونانية، ولكنه مع ذلك بز أسلافه في سفك الدماء وارتكاب الفظائع، من ذلك أنه جعل من ابن أخ له ثار عليه طعاماً أرغم زوجة القتيل وأبناءه على أكله؛ وأحدث في البلاد تضخماً مالياً باستهتاره فجلب الدمار إلى البلاد، وتركها خراباً بما أجراه فيها من نهب وقتل، حتى لقد لاذ سكانها بالفرار إلى الغابات، ولقد أوغل في قتل الهنود حتى قال عنه مؤرخ مسلم: "إن أمام رواقه الملكي وأمام محكمته المدينة لم يخل المكان قط من أكداس الجثث، حتى لقد مل الكناسون والجلادون، وأتعبهم جر الأجساد - أجساد الضحايا- لأعمال القتل فيهم زرافات"(76)؛ ولما أراد أن ينشئ عاصمة جديدة في "دولة أباد" أخرج سكان دلهي من بلدهم لم يبق منهم أحداً، وخلف المدينة قفراً يباباً؛ وسمع أن رجلاً أعمى قد ظل مقيماً في دلهي، فأمر به أن يجر على الأرض من العاصمة القديمة إلى العاصمة الجديدة، ولما بلغوا بالمسكين آخر رحلته لم يكن قد بقى من جسده إلا ساق واحدة(77) وشكا السلطان من نفور الشعب منه وعدم اعترافهم بعدله الذي لم ينحرف عن جادة السبيل.
وظل يحكم الهند ربع قرن ثم وافته منيته وهو في فراشه؛ وتبعه "فيروز شاه" فغزا البنغال، ووعد أن يكافئ كل من جاءه برأس هندي، حتى لقد دفع في ذلك مكافآت عن مائة وثمانين ألفاً من الرؤوس، وأغار على القرى الهندية طلباً للرقيق، ومات وهو شيخ معمر، بلغ من العمر ثمانين عاماً؛ وجاء السلطان احمد شاه، فكان يقيم الحفلات ثلاثة أيام متوالية كلما بلغ القتلى في حدود ملكه من الهنود العزل عشرين ألفاً في يوم واحد(78).

وكثيراً ما كان هؤلاء الحكام رجالاً ذوي قدرة، كما كان أتباعهم يمتلئون بسالة جريئة ونشاطاً؛ وبغير هذا الفرض فيهم لا نستطيع أن نفهم كيف أتيح
صفحة رقم : 781
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الهند وجيرانها -> من الإسكندر إلى أورانجزيب -> الفتح الإسلامي

لهم أن يصونوا ملكهم وسط شعب معاد لهم ويفوقهم عدداً بنسبة كبيرة؛ وكانوا جميعاً مسلحين بعقيدة دينية حربية النزعة لكنها أسمى بكثير في توحيدها الجاد من كل المذاهب الدينية الشائعة إذ ذاك في الهند؛ ولقد عملوا على طمس ما لعقيدتهم تلك من ظاهر جذاب، بأن أرغموا الهنود على عدم القيام بشعائر دينهم علناً، وبهذا مهدوا للهنود طريق الانغماس في صميم الروح الهندية إلى أعماقها؛ وكان لبعض هؤلاء الحكام المستبدين العطشى للطغيان ثقافة إلى جانب ما كان لهم من قدرة، فرعوا الفنون وهيئوا سبل العيش لرجال الفن والصناعة- وهؤلاء عادة من أصل هندي- بأن استخدموهم في بناء المساجد والأضرحة الفخمة؛ وكذلك كان بعضهم علماء يمتعهم أن يحاوروا المؤرخين والشعراء ورجال العلوم؛ ولقد صحب محموداً الغزنوي إلى الهند عالم من أعظم علماء آسيا، وهو البيروني وهناك كتب استعراضاً علمياً عن الهند قريب الشبه بكتاب "التاريخ الطبيعي" لمؤلفه "بِلْني" و كتاب "الكون" "الهمبولت" وكان للمسلمين مؤرخون يكادون يبلغون عدد ما كان لهم من قادة الجيش، ولم يقلوا عنهم في حبهم لسفك الدماء والحرب؛ وأما السلاطين فقد ابتزوا من الشعب كل ما في مستطاع الناس أن يدفعوه من مال على سبيل الجزية، واصطنعوا في ذلك الوسائل العتيقة في فرض الضرائب، كما لجاءوا أيضا إلى السرقة الصريحة، لكنهم كانوا يقيمون في الهند وينفقون غنائمهم تلك في الهند، فأعادوا إلى الحياة الاقتصادية في الهند ما استلبوه منها؛ ومهما يكن من أمر فقد كانت وسائلهم الإرهابية واستغلالهم للناس مما زاد من إضعاف البنية الهندية وإضعاف الروح المعنوية بين الهنود،

وهو إضعاف عمل عليه قبل ذلك مناخ البلاد المنهك للقوى وقلة ما يأكلونه من طعام، وتمزق البلاد من الوجهة السياسية والنظرة المتشائمة التي توحي بها دياناتهم.
وقد رسم علاء الدين تخطيطاً واضحاً للسياسة التي جرى عليها السلاطين في
صفحة رقم : 782
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الهند وجيرانها -> من الإسكندر إلى أورانجزيب -> الفتح الإسلامي

معظم الأحيان، وذلك أنه طلب إلى مستشاريه أن يسنوا "قواعد وقوانين يكون من شأنها أن تسحق الهنود سحقاً، وأن تسلبهم تلك الثروة وهاتيك الكنوز التي كانت تولد في نفوسهم البغضاء والثورة"(80)؛ فكانت الحكومة تستولي على نصف مجموع المحصول الزراعي، بعد أن كان الحكام الوطنيون قبل ذلك يستولون من ذلك المحصول على سدسه فقط؛ يقول مؤرخ مسلم: "لم يستطيع هندي أن يرفع رأسه، ولم تكن لترى في دورهم أثراً لذهب أو فضة ... بل لم تكن لترى هناك شيئاً مما يزيد عن ضرورات الحياة ... وكانوا يجبرون على دفع الضريبة باللطمات وتقييد الأقدام والشد بالأغلال والزج في السجن" ، وكان علاء الدين إذا ما احتج مستشاريه على سياسته هذه، أجابه بقوله: "أيها الفقيه، إنك متبحر في العلم لكنك خلو من الخبرة، أما أنا فلا علم عندي لكني رجل محنك؛ فكن على يقين أن الهنود لن يذلوا أو يطيعوا حتى ننزل بهم الفقر، ولهذا أصدرت أمري بألا يترك في أيديهم إلا الضروري لحفظ الحياة مما يجمعونه عاماً بعد عام من محصول الغلال واللبن والجبن، وألا يسمح لهم قط بادخار الأموال والأملاك"(81).

وفي هذا سر التاريخ السياسي للهند الحديثة؛ فقد مزقها الانقسام حتى جثت أمام الغزاة ثم أفقرها هؤلاء الغزاة فأفقدوها قوة المقاومة، فاستجارت من هذا البلاء بعزاء في الحياة الآخرة، ومن هنا راحوا يؤمنون بأن السيادة والعبودية كلاهما وهم زائل، ويعتقدون بأن حرية البدن أو حرية الأمة لا تكادان تستحقان الجهاد في مثل هذه الحياة القصيرة؛ والعبرة المرة التي نستخلصها من هذه المأساة هي أن اليقظة الساهرة أبداً هي ضمان دوام المدنية؛ فالأمة ينبغي أن تحب السلام، لكنها يجب أن تكون دوماً على أهبة الاستعداد للقتال .

صفحة رقم : 783
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الهند وجيرانها -> من الإسكندر إلى أورانجزيب -> أكبر العظيم

الفصل السابع
أكبر العظيم
تيمورلنك ، بابور - هميون ، أكبر ، حكومته - شخصيته -
رعايته للفنون - تحمسه للفلسفة - حسن علاقته بالهندوسية
والمسيحية - ديانته الجديدة - أكبر في أخريات أيامه
إن من طبيعة الحكومات أن يصيبها الانحلال، لأن القوة- كما قال شلي- تسمم كل يد تمسها(82) فقد أدي إسراف سلاطين دلهي إلى فقدانهم تأييد الهنود لهم، بل فقدانهم تأييد أتباعهم من المسلمين كذلك؛ حتى إذا ما أغارت على البلاد جيوش مغيرة جديدة من الشمال، مني هؤلاء السلاطين بالهزيمة بغير عناء كما كانوا هم أنفسهم قد كسبوا الهند بغير عناء.

وأول من انتصر عليهم في ذلك هو "تيمورلنك" الذي كان قد اعتنق الإسلام ليتخذ منه سلاحاً ماضياً، كما قد أعد لنفسه قائمة أنساب ترده إلى "جنكيز خان" لكي يعينه ذلك على كسب طائفة المغول إلى جانبه؛ فلما أن فرغ من استيلائه على عرش سمرقند، ولم يزل يحس الرغبة في مزيد من الذهب، أشرقت عليه فكرة مؤداها أن الهند لم تزل حينئذ مليئة بالكفار، لكن قواده كانوا يعلمون بسالة المسلمين، فلم يذهبوا معه في الرأي، موضحين له أن الكفار الذين يمكن الوصول إليهم من سمرقند، كانوا بالفعل تحت الحكم الإسلامي، ثم أفتى له الفقهاء العلماء بالقرآن بآية تبعث الحماسة في الصدور وهي: "يأيها النبي جاهد الكفار والمنافقين واغلظ عليهم"(83) فما هو إلا أن عبر تيمور نهر السند (1398م) وقتل أو استعبد كل من وقعت عليهم يداه من السكان فلم يستطيعوا الفرار منه، وهزم جيوش السلطان محمود طغلق
صفحة رقم : 784
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الهند وجيرانها -> من الإسكندر إلى أورانجزيب -> أكبر العظيم

واحتل دلهي، وذبح مائة ألف من الأسرى ذبحاً متعمداً، وسلب من المدينة كل أموالها التي كانت الأسرة الأفغانية المالكة قد كدستها هناك، وحملها معه إلى سمرقند، مستصحباً كذلك عدداً كبيراً من النساء والعبيد، تاركاً وراءه الفوضى والمجاعة والوباء(84).

وعاد سلاطين دلهي فاعتلوا عرشهم، واستغلوا الهند قرناً آخر من الزمان، حتى جاءهم الفاتح الحقيقي، وهو "بابور" الذي أسس أسرة المغول العظيمة وهو يشبه الإسكندر كل الشبه في شجاعته وجاذبيته، ولما كان سليل تيمور وجنكيز خان معاً، فقد ورث كل ما اتصف به هذان الحاكمان- اللذان ألهبا آسيا- من قدرة، دون أن يرث ما كان لهما من غلظة القلب؛ وكان يعاني من فيض نشاط في جسده وعقله، فطفق يقاتل ويخرج للصيد وللرحلة دون أن يروى بذلك غلته، ولم يكن عليه عسيراً أن يقتل بمفرده خمسة أعداء في خمس دقائق(87)، وحدث أن قطع في يومين مائة وستين ميلاً وهو راكب على ظهر جواده، ثم واصل مجهوده ذاك فسبح نهر الكنج مرتين كأن الرحلة لم تكفه دليلاً على نشاطه؛ ولقد قال وهو في أواخر سنيه أنه منذ عامه الحادي عشر لم يصم رمضان مرتين في مكان واحد(88).
وله "ذكريات" يستهلها بقوله: "لما بلغت من العمر اثني عشر عاماً أصبحت حاكماً على فرغانة"(89) ولما بلغ الخامسة عشرة حاصر سمرقند واستولى عليها، ثم ضاعت من يده لعجزه عن دفع رواتب جنده، واعتلّت صحته حتى أوشك على الموت، واعتصم بالجبال حيناً، ثم عاد إلى المدينة فاستولى عليها بقوة قوامها مائتان وأربعون رجلاً، وعاد من جديد ففقدها بخيانة غادر؛ فاختبأ في غمرة من الفقر عامين، حتى لقد فكر في نفض يده
صفحة رقم : 785
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الهند وجيرانها -> من الإسكندر إلى أورانجزيب -> أكبر العظيم

من حياة الجهاد مكتفياً بحياة الفلاحة في حقول الصين؛ لكنه عاود نفسه فنظم جيشاً جديداً وأبدى من الشجاعة ما ألهب الشجاعة في نفوس جنده واستولى على كابل وهو في عامه الثاني والعشرين من عمره، بعد أن أنزل الهزيمة الساحقة بجيش السلطان إبراهيم في موقعة بانبات، وقوامه مائة ألف جندي، مع أن جيشه لم يزد على اثني عشر ألفاً، ومعهم عدد من حر الجياد؛ وقتل الأسرى ألوفاً ألوفاً، واستولى على دلهي، وأسس بها أعظم وأكرم أسرة أجنبية مما حكم الهند من أجانب؛ وأخيراً نعم بحياة وادعة أربعة أعوام، كان يقرض فيها الشعر ويكتب ذكرياته، ومات في سن السابعة والأربعين بعد أن عاش قرناً كاملاً إذا عدت السنون بما فيها من نشاط وتجربة.
وكان ابنه "هميون" من الضعف والتردد والإدمان في الأفيون بحيث لم يستطع أن يتابع السير في طريق أبيه "بابور" ، فهزمه "شرشاه" وهو من شيوخ الأفغان، في موقعتين دمويتين، واستعاد حيناً من الدهر سلطة الأفغان في الهند؛ ولئن كان "شرشاه" قديراً على القتل في أحسن صوره الإسلامية، إلا أنه كذلك أعاد بناء دلهي في ذوق معماري جميل، وأقام في إدارة الحكم إصلاحات مهدت السبيل للحكم المستنير الذي تم على يدي "أكبر" ؛ وبعد أن تولى الملك شاهان قليلاً الشأن مدى عشرة أعوام، نظم "هميون" قوة في فارس، بعد اثني عشر عاماً قضاها في صعاب وتجواب، ثم عاد إلى الهند واستعاد العرش، لكنه لم يلبث بعد ذلك إلا ثمانية أشهر، إذ سقط من شرفة مكتبته فقضى نحبه.

وكانت زوجته قد أنجبت له أثناء نفيه وفقره ولداً أسماه (محمداً) تبركاً بهذا الاسم، لكن الهند أطلقت عليه "أكبر"- ومعناها "البالغ في عظمته حداً بعيداً"- ولم يدخروا من وسعهم شيئاً لتنشئته رجلاً عظيماً، بل إن أسلافه قد تعاونوا على اتخاذ التدابير كلها ليبلغوا به قمة العظمة، ففي عروقه تجري دماء "بابور" و "تيمور" و"جنكيز خان" وأعد له المُربّون في كثرة، لكنه رفضهم جميعاً وأبى أن يتعلم القراءة؛ وأخذ يعد نفسه بدل ذلك لتولي
صفحة رقم : 786
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الهند وجيرانها -> من الإسكندر إلى أورانجزيب -> أكبر العظيم

المُلك بالرياضة الخطرة التي ما فتئ يرتاضها، فأصبح فارساً يتقن ركوب الخيل إلى حد الكمال، وكان يلعب بالكرة والصولجان لعب الملوك، ومهر في فن سياسة الفيلة مهما بلغت من حدة الافتراس، ولم يتردد قط في ارتياد الغابة لصيد الأُسْد والنمور وفي تحمل المشاق مهما بلغ عناؤها، وفي مواجهة المخاطر كلها بشخصه؛ ولكي يكون تركياً أصيلاً، لم يضعف ضعف الإناث فيمج طعم الدماء البشرية؛ من ذلك أنه لما كان في عامه الرابع عشر، دعي ليظفر بلقب "غازي"- ومعناها قاتل الكفار- بأن قدموا له أسيراً هندياً ليقتله فبتر رأس الرجل بتراً في لمحة سريعة وبضربة واحدة من حسامه؛ تلك كانت البدايات الوحشية لرجل كتب له أن يكون من أحكم وأرحم وأعلم من عرفهم تاريخ الدنيا من ملوك .

لما بلغ الثامنة عشرة من عمره تسلم مقاليد الأمور من يد الوصي على عرشه، وكانت رقعة ملكه تمتد حينئذ فتشمل أكثر من ُثمن مساحة الهند كلها- فهي شريط من الأرض يبلغ عرضه نحو ثلاثمائة ميل، ويمتد من الحدود الشمالية الغربية عند ملطان إلى بنارس في الجانب الشرقي؛ وامتلأ بما كان يمتلئ به جده من حماسة وجشع، فشرع يوسع هذه الحدود، واستطاع بسلسلة من الحروب التي لم تعرف الرحمة أن يبسط سلطانه على الهندستان كلها، ماعدا مملكة راجبوت التي تخضع لأسرة موار؛ فلما عاد إلى دلهي نزع عن نفسه السلاح، وكرس جهده لإعادة تنظيم حكومة ملكه؛ وكان سلطانه مطلقاً فهو الذي يعين الرجال للمناصب الهامة كلها، حتى ما يقع منها في الأقاليم النائية؛ وكان معاونوه الأساسيون أربعة: رئيس الوزراء ويسمى "فقيراً"، ووزير المالية ويسمى "وزيراً" ، وأحياناً يسمى "ديواناً"،
صفحة رقم : 787
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الهند وجيرانها -> من الإسكندر إلى أورانجزيب -> أكبر العظيم

ورئيس للقضاء ويسمى "بخشي" ورئيس للديانة الإسلامية ويسمى "صدراً" ؛ وكان كلما ازداد حكمه استقراراً ورسوخاً في القلوب، قل اعتماده على القوة الحربية، مكتفياً بجيش دائم من خمسة وعشرين ألفاً، فإذا ما نشبت حرب، زادت هذه القوة المتواضعة بمن يجندهم الحكام العسكريون في الأقاليم- وهو نظام متصدع الأساس كان من عوامل سقوط الإمبراطورية المغولية في حكم "أورنجزيب" وفشت الرشوة والاختلاس بين هؤلاء الحكام ومعاونيهم، حتى لقد انفق "أكبر" كثيراً من وقته في مقاومة هذا الفساد؛ واصطنع الاقتصاد الدقيق في ضبط نفقات حاشيته وأهل أسرته، فحدد أسعار الطعام وسائر الأشياء التي كانت تشترى لهم، كما حدد الأجور التي تدفع لمن تستخدمهم الدولة في شئونها؛ ولما مات، ترك في خزينة الدولة ما يعادل بليون ريال، وكانت إمبراطوريته أقوى دولة على وجه الأرض طرًّا(90).

كانت القوانين والضرائب كلاهما قاسياً، لكنهما كانا مع ذلك أقل قسوة منهما قبل ذلك العهد، فقد كان مفروضاً على الفلاحين أن يعطوا الحكومة مقداراً من مجموع المحصول يتراوح بين السدس والثلث، حتى لقد بلغت ضريبة الأراضي في العام ما يساوي مائة مليون ريال؛ وكان الإمبراطور يجمع في شخصه السلطات التشريعية والتنفيذية والقضائية؛ وكان إذا ما جلس في كرسي القضاء الأعلى، أنفق الساعات الطوال ينصت إلى أقوال المتخاصمين في القضايا الهامة؛ وكان من قوانينه تحريم زواج الأطفال وتحريم إرغام الزوجة على قتل نفسها عند موت زوجها، وأجاز زواج الأرامل، ومنع استرقاق الأسرى وذبح الحيوان للقرابين، وأطلق حرية العقيدة للديانات كلها، وفتح المناصب
صفحة رقم : 788
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الهند وجيرانها -> من الإسكندر إلى أورانجزيب -> أكبر العظيم

لذوي الكفاءة مهما يكن من أمر عقيدتهم أو جنسهم، ومنع ضريبة الرءوس التي كان الحكام الأفغان يفرضونها على الهندوسيين الذين يأبون الدخول في الإسلام(91)، وكان تشريعه في بداية حكمه يبيح عقوبات من قبيل بتر الأعضاء، أما في نهاية عهده فربما بلغ التشريع في بلاده من الرقي ما لم تبلغه أية حكومة أخرى في القرن السادس عشر؛ إن كل دولة تبدأ بالعنف ثم تأخذ في طريق الملاينة الذي ينتهي إلى الحرية (ذلك إن أمنت على نفسها الخطر).

لكن قوة الحاكم كثيراً ما تكون ضعفاً في حكومته، فقد كان بناء الحكم قائماً إلى حد كبير على "أكبر" بما كان له من صفات عقلية وخلقية ممتازة، ولذلك كان من البديهي أن يتعرض كل ذلك للانهيار بعد موته؛ وبالطبع قد تحلى بمعظم الفضائل ما دام قد استأجر معظم أقلام المؤرخين: فكان خير رياضي وخير فارس وخير محارب بالسيف، ومن خيرة المهندسين في فن العمارة، وكان كذلك أجمل رجل في البلاد كلها، أما الواقع فإنه كان طويل الذراعين، مقوس الساقين، ضيق العينين كسائر المنغوليين، رأسه يميل نحو اليسار، وفي أنفه ثؤلول (زائدة جلدية)(93)، لكنه كان يكتسب شكلاً محترماً بنظافته ووقاره وهدوئه وعينيه اللامعتين اللتين كانتا تتلألآن (كما يقول أحد معاصريه): "تلألأ البحر في ضوء الشمس" أو كانتا تشتعلان على نحو ترتعد له فرائص المعتدي كما حدث لفاندام أمام نابليون،كان ساذج الثياب، يغطي رأسه بغطاء مزركش، ويرتدي صدراً وسراويل، ويرصع نفسه بالجواهر، ويترك قدميه عاريتين؛ وكان لا يميل كثيراً إلى أكل اللحم، ثم امتنع عنه امتناعاً تاماً تقريباً في أواخر سنيه قائلاً "إنه لا يجمل بالإنسان أن يجعل من معدته مقبرة للحيوان" ومع ذلك فقد كان قوي الجسد قوي الإرادة، وبرع في كثير من أنواع الرياضة التي تحتاج إلى حركة ونشاط، واستخف بستة وثلاثين ميلاً يمشيها في يوم واحد، وكان يحب اللعب بالكرة والصولجان
صفحة رقم : 789
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الهند وجيرانها -> من الإسكندر إلى أورانجزيب -> أكبر العظيم

حباً حدا به أن يخترع كرة منيرة ليتمكن اللاعبون من القيام بلعبتهم هذه في ظلمة الليل؛ وورث من أسلافه في أسرته ميولها الاندفاعية القوية، وكان في شبابه (مثله في ذلك مثل معاصريه من المسيحيين) قادراً على حل مشكلاته بالاغتيال؛ لكنه راضَ نفسه شيئاً فشيئاً على أن يجلس على بركان نفسه- على حد تعبير وودرو ولسن- وامتاز من عصره امتيازاً بعيد المدى في ميله إلى العدل، وهو صفة لا يتميز بها حكام الشرق دائماً؛ يقول "فرِشْتا" : "إن رحمته لم تعرف حدوداً، بل إنه كثيراً ما ذهب في هذه الفضيلة حتى جاوز بها حدود الحكمة"(93) وكان كريماً ينفق الأموال الطائلة إحساناً، أحبه الناس جميعاً، وخصوصاً الطبقات الدنيا، فيقول عنه مبشّرٌ جوويتيّ: "إنه كان يتقبل من أهل الطبقات الدنيا عطاياهم الحقيرة بوجه باسم، فيتناولها بيديه ويضمها إلى صدره، مع إنه لم يكن يفعل مثل ذلك مع أفخر الهدايا التي كان يقدمها له الأشراف، وقال عنه أحد معاصريه إنه كان مصاباً بالصرع ؛ وروى عنه كثيرون أن داء السوداء كثيراً ما كان يستولي عليه إلى درجة تسود معها نظرته إلى الحياة اسوداداً مخيفاً، وكان يشرب الخمر ويأكل الأفيون في اعتدال، ولعله فعل ذلك ليكسب واقع حياته المظلم شيئاً من البريق، ولقد كان أبوه كما كان أبناؤه يشربون الخمر كما شربها ويأكلون الأفيون كما فعل، لكنهم لم يكونوا يشبهونه في ضبطه لنفسه وكان له حريم يتناسب مع سعة ملكه، فيروي لنا أحد الرواة " أن الملك له في "أجرا" وفي "فتحبور- سِكْرى"- هكذا يروون بصيغة الصدق- ألف فيل وثلاثون حصاناً وألف وأربعمائة غزال وثمانمائة خليلة" لكنه لم يكن له فيما يظهر شهوات حسية ولا ميول تدفعه إلى الانغماس فيها؛ نعم إنه أكثرَ من زوجاته، لكنه كان زواجاً سياسياً، فكان يتودد إلى أمراء الراجبوت بزواج بناتهم، وبهذا كسبهم في تعضيد عرشه،
صفحة رقم : 790

قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الهند وجيرانها -> من الإسكندر إلى أورانجزيب -> أكبر العظيم

وأصبحت الأسرة الحاكمة المغولية منذ ذلك الحين نصف وطنية فيما يجري في عروقها من دماء؛ ولقد أعلى رجلاً من أسرة راجبوت حتى نصبه قائداً أعلى لجيشه، كما رفع أحد الراجات إلى منصب كبير وزرائه؛ وكانت أمنيته التي يحلم بها أن يوحد الهند(94).
لم يكن ذا عقل واقعي دقيق له برودة المنطق كما كان قيصر أو نابليون، بل كان ينزع بعاطفته نحو دراسة الميتافيزيقا، ولو أنه خلع عن عرشه لكان من الجائز أن يصبح صوفياً معتزلاً؛ كان لا يكف عن التفكير ولا ينقطع عن اختراع الجديد واقتراح الإصلاح لما هو قائم(95)؛ وكان من عادته مثل هارون الرشيد أن يعس بالليل متنكراً، ثم يعود إلى مأواه وهو جياش الصدر برغبة الإصلاح؛ واستطاع وسط هذه المناشط الكثيرة أن يفسح بعض الوقت لجمع مكتبة عظيمة تتألف كلها من مخطوطات جميلة الخط والنقش، دبجها له نساخون بارعون كانت لهم عنده منزلة الفنانين، فهم في عينه لا يقلون مكانة عن المصورين والمهندسين المعماريين الذين كانوا يزينون ملكه؛ وكان يزدري الطباعة باعتبارها آلية لا تتجلى فيها شخصية الكاتب، ولم يلبث أن استغنى عن العينات المختارة من الرسوم الأوربية المطبوعة التي قدمها له أصدقاؤه من الجزويت؛ ولم تزد مكتبته على أربعة وعشرين ألف كتاب، لكن قيمتها بلغت ما يساوي ثلاثة ملايين وخمسمائة ألف ريال(97) عند أولئك الذين حسبوا أن أمثال هذه الكنوز الروحية يمكن تقديرها بأرقام مادية؛ وأجزل العطاء للشعراء بغير حساب، وقرب أحدهم من نفسه- هو بربال الهندي- تقريباً جعله ذا حظوة كبرى في حاشية قصره، وأخيراً نصبه في الجيش قائداً، فكان من نتيجة ذلك أن قام " بربال " بحملة حربية أظهر فيها عجزاً شديداً، وقتل في جو أبعد ما يكون الجو عن خيال الشعراء
صفحة رقم : 791

قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الهند وجيرانها -> من الإسكندر إلى أورانجزيب -> أكبر العظيم

وأمر "أكبر" أعوانه من الأدباء أن يترجموا إلى الفارسية- وقد كانت لغة قصره- آيات الأدب والتاريخ والعلم في الهند، وراجع بنفسه ترجمة الملحمة الخالدة "ماهابهاراتا"(100) وازدهرت الفنون كلها في ظله وبتشجيعه، فشهدت الموسيقى الهندية والشعر الهندي في عهده عصراً من أعظم عصورهما، وبلغ التصوير- الفارسي منه والهندي- مرتبة تالية في ارتفاعها للأوج بفضل تشجيعه(101)وأشرف في "أجرا" على بناء "الحصن" المشهور، وأمر أن يبنى بداخله خمسمائة بناء، عدها معاصروه من أجمل ما تراه العين في العالم كله؛ لكن هذه المباني قد تحطمت تحطيماً على يدي "شاه جهان" الأرعن، وليس في مقدورنا أن نحكم عليها إلا استنتاجاً من آثار العمارة الباقية من عهد "أكبر" مثل مقبرة "هميون" في دلهي، والآثار الباقية في "فتحبور- سكرى" حيث أقيم ضريح لصديق "أكبر" المحبوب، الزاهد الشيخ سليم شستي، وهو بناء من أجمل ما في الهند من بناء.
ثم كان له اتجاه آخر أعمق من هذه الاتجاهات كلها، وهو ميله إلى التأمل، فهذا الإمبراطور الذي أوشك أن يكون قادراً على كل شئ، تحَرَّق فؤاده شوقاً إلى أن يكون فيلسوفاً- كما يشتهي الفلاسفة أن يكونوا أباطرة، ولا يستطيعون أن يسيغوا حمق القدر في حرمانه إياهم ما هم جديرون به من عروش، فبعد أن فتح "أكبر" العالم، أحس شقاء نفسه لأنه لم يستطع فهماً لهذا العالم الذي فتحه وقد قال: "على الرغم من أني أسود مثل هذا المُلك الفسيح، وزمام الحكومة كلها في يدي، فلست مطمئن الفؤاد لهذه العقائد الكثيرة والمذاهب المختلفة من حولي، مادامت العظمة الحقيقية كائنة في تنفيذ إرادة الله، فدع عنك هذه الأبهة الظاهرة المحيطة بي، وقل لي كيف أطيب بالاً، في مثل هذا اليأس، إذا
صفحة رقم : 792

قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الهند وجيرانها -> من الإسكندر إلى أورانجزيب -> أكبر العظيم

ما حملت عبء الإمبراطورية؟ إني لأرقب ظهور رجل حصيف ذي مبدأ ليزيح عن ضميري هذه المشكلات التي يتعذر عليّ حلها...إن الحديث في الفلسفة يفتنني فتنة تصرفني عن كل ما عداها، وإني لأنصرف عن سماعها رغم أنفي حتى لا أهمل واجباتي التي تقتضيها أمور الساعة"(102) ويقول باودني: "كان يحج إلى قصره طوائف العلماء من كل أمة، والحكماء من كل ملة ومذهب، وكانوا يظفرون لديه بشرف استماعه إليهم؛ وإذا ما فرغوا من بحثهم وتقصيهم اللذين كانا شغلهم الشاغل ومهمتهم الأولى ليلاً ونهاراً، تحدثوا في مسائل عميقة في العلم، ونقط دقيقة في الوحي، وأعاجيب التاريخ وغرائب الطبيعة"(103)؛ ويقول "أكبر" : "إن سيادة الإنسان تعتمد على جوهرة العقل"(104).

ولما كان فيلسوفاً فلا عجب أن يأخذه شغف شديد بالدين؛ فقد أغرته قراءته الدقيقة لملحمة "ماهابهاراتا" ودراسته الوثيقة لشعراء الهنود وحكمائهم، بدراسة العقائد الهندية؛ ولبث حيناً- على الأقل- يؤمن بمذهب التناسخ، وخيب فيه ظن أتباعه من المسلمين حين ظهر على الملأ بعلامات دينية هندية على جبهته؛ فقد كان له شغف بملاطفة أصحاب العقائد كلها، لذلك تودد إلى الزرادشتيين بأن لبس ما يلبسوه من قميص ومنطقة مقدسين تحت ثيابه؛ وانصاع للجانتيين حين طلبوا إليه أن يمتنع عن الصيد، وأن يحرم قتل الحيوان في أيام معلومة، ولما سمع بالديانة الجديدة المسماة بالمسيحية، التي جاءت إلى الهند مع بعثة "جوا" البرتغالية، أرسل خطاباً إلى هؤلاء المبشرين التابعين لمذهب بولس، يدعوهم أن يبعثوا له باثنين من علمائهم؛ وحدث بعد ذلك أن قَدِم جماعة من الجزويت مدينة دلهي، وحببوه في المسيح حتى أمر كتابة أن يترجموا له العهد الجديد(105) وأباح لهؤلاء الجزويت كل حرية في أن ينصروا من شاءوا بل عهد إليهم بتربية أحد أبنائه؛ وفي الوقت الذي كان الكاثوليك يفتكون بالبروتستنت في فرنسا، والبروتستنت- في عهد اليصابات- يفتكون بالكاثوليك في إنجلترا، ومحاكم التفتيش تقتل اليهود في أسبانيا
صفحة رقم : 793
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الهند وجيرانها -> من الإسكندر إلى أورانجزيب -> أكبر العظيم

وتسلبهم أملاكهم و "برونو" يقذف به في النار في إيطاليا، كان "أكبر" يوجه الدعوة إلى ممثلي الديانات كلها في إمبراطوريته ليعقدوا مؤتمراً، وتعهد لهم بحفظ السلام بينهم وأصدر المراسيم بوجوب التسامح مع المذاهب كلها والعقائد كلها، ولكي يقيم الدليل على حياده، تزوج من نساء البراهمة، ومن نساء البوذية، ومن نساء المسلمين جميعاً.

وكان ألذ ما يمتعه بعد أن بردت في نفسه جذوة الشباب المضطرمة، المناقشات الحرة في العقائد الدينية؛ ولقد ترك تعاليم الإسلام الجامدة تركاً تاماً حتى أغضب بحياده هذا في الحكم رعيته من المسلمين؛ يقول عنه "سانت فرانسس زافير" في شئ من المغالاة : "لقد حطم هذا الملك مذهب محمد الفاسد، وهاجمه هجوماً بحيث لم يبق له فضيلة واحدة، ولم يعد في هذه المدينة مسجد أو قرآن- هو كتاب شريعتهم- وأما ما كان هناك من مساجد فقد اتخذوا منها حظائر للخيل أو مخازن"؛ ولم يؤمن الملك أقل إيمان بالوحي، ولم يكن ليصدق شيئاً لا يقوم على صحته برهان من العلم والفلسفة؛ وكثيراً ما كان يجمع طائفة من أصدقائه ومن رجال العقائد الدينية المختلفة ثم يأخذ في مناقشة الدين معهم من مساء الخميس إلى ظهر الجمعة، فإذا ما اعترك فقهاء المسلمين مع قساوسة المسيحيين، زجرهم قائلاً إن الله ينبغي أن يعبد بالعقل لا بالتمسك الأعمى بوحي مزعوم؛ وكان مما قاله، فجاء شبيهاً بروح كتاب "اليوبانشاد"، بل ربما كان في قوله هذا متأثراً "باليوبانشاد" و "كابر" : "كل إنسان يسمى الكائن الأسمى باسم يلائم وجهة نظره، والواقع أن تسميتنا لما يستحيل علينا إدراكه ضرب من العبث" واقترح بعض المسلمين أن تخبر المسيحية إزاء الإسلام بمحنة النار، وذلك أن يمسك شيخ من شيوخ المسلمين بالقرآن، وأن يمسك قسيس بالإنجيل، ثم يخوضان معاً في النار، فمن خرج منهما سالماً من الأذى، اعترف له منادياً في الأرض بصوت الحق،
صفحة رقم : 794
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الهند وجيرانها -> من الإسكندر إلى أورانجزيب -> أكبر العظيم

وتصادف أن "أكبر" لم يكن يحب الشيخ المسلم الذي اقترحوه لهذه التجربة، فتحسس للاقتراح، لكن الجزويت رفضوه لأنه إفك وخروج على الدين، لا لأنه خطر على حياة من تقع عليه التجربة؛ وجعل اللاهوتيون المتنافسون يجتنبون أمثال هذه الاجتماعات شيئاً فشيئاً، حتى لم يعد يحضرها إلا "أكبر" نفسه مع أصدقائه من أصحاب النظرة العقلية(106).
وضاق "أكبر" ذرعاً بالانقسامات الدينية في مملكته، وأفزعه الاحتمال بأن تؤدي هذه الديانات المتنافسة إلى تمزيق المملكة بعد موته، فاستقر رأيه آخر الأمر على أن يكون منها ديانة جديدة، تضم أهم تعاليم العقائد المختلفة في صورة بسيطة ويحكي لنا المبشر الجزويتي هذا النبأ كما يأتي:
"عقد اجتماعاً عاماً دعا إليه كل رجال العلم البارزين والقواد العسكريين في المدن المجاورة، لم يستثن أحداً إلا الأب "رِدُلفو" الذي كان من العبث أن ترجو منه شيئاً غير مناصبة هذه الدعوة الدينية العداء؛ فلما أن اجتمعوا جميعاً أمامه، خطبهم بأسلوب سياسي ماهر ماكر قائلاً:
"إنه لمن الشر في إمبراطورية يحكمها رأس واحد أن ينقسم الأعضاء بعضهم على بعض وأن يتباينوا في الرأي...ومن ثم نشأ في البلاد أحزاب بمقدار ما فيها من عقائد دينية؛ وإذن فلزام علينا أن ندمج هذه العقائد كلها في دين واحد، على نحو يجعلها كلها ممثلة في هذا الواحد، وتكون الفائدة الكبرى التي يجنيها كل من هذه الديانات، أنه لن يخسر شيئاً من جوانبه الحسنة. ثم يكسب كل ما هو حسن في سائر الديانات؛ وبهذا وحده نمجد الله ونهيئ للناس سلاماً وللإمبراطورية أمناً"(107).
ووافق المجلس مرغماً، فأصدر "أكبر" مرسوماً يعلن نفسه رئيساً دينياً لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، وهذه الرئاسة الدينية هي أهم ما أثرت به المسيحية على الديانة الجديدة؛ وكانت هذه العقيدة الجديدة توحيداً يمثل التقاليد الهندية في التوحيد خير تمثيل، مضافاً إليه قبس من عبادة
صفحة رقم : 795

قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الهند وجيرانها -> من الإسكندر إلى أورانجزيب -> أكبر العظيم

الشمس والنار مأخوذاً من العقيدة الزرادشتية، وفيه عنصر شبيه بالمذهب الجانتي في إيثاره للامتناع عن أكل اللحوم، وعد ذبح الأبقار كبيرة من الكبائر، فما أشد ما اغتبط لذلك الهندوس، وما أقل ما اغتبط له المسلمون؛ وصدر بعدئذ مرسوم يجعل الاقتصار على أكل النبات إلزاماً على الناس جميعاً مدى مائة يوم على الأقل كل عام، ثم سار مع ميول الوطنيين خطوة أخرى فحرم الثوم والبصل، وحرم تشييد المساجد وصيام رمضان والحج إلى مكة وغير ذلك من شعائر المسلمين؛ ولما أراد المسلمون مناهضة هذه المراسيم، نفي كثيراً منهم(108)؛ وأقيم وسط "محكمة السلام" في "فتحبور- سكرى" معبد للديانة المتحدة الجديدة (ولا يزال هذا المعبد قائماً)رمزاً للأمل الذي كان يضطرم في صدر الإمبراطور، وهو أن يكون أهل البلاد جميعاً- بفضل العقيدة الجديدة- إخواناً يعبدون إلهاً لا يختلف من طائفة إلى طائفة.

ولم يكن النجاح حليف "الدين الإلهي باعتباره ديناً، ووجد "أكبر" أن التقاليد أقوى من أن يهدمها بقوله أن يجل عن الخطأ؛ نعم إن بضعة آلاف من الناس التفوا حول الدين الجديد، كان معظمهم ممن يريدون من وراء ذلك اكتساب حظوة عند الدولة، لكن الأغلبية العظمى مازالت مستمسكة بآلهتها الموروثة؛ وأما من الوجهة السياسية فقد كان لخطته الدينية بعض النتائج المعينة؛ فلئن كان "أكبر" بوحيه الديني الجديد قد أبدى شيئاً من الأنانية ومن الإسراف، فقد عوض عن ذلك خير العوض بإلغائه لضريبة الرؤوس وضريبة الحج المفروضتين على الهندوس، وبإطلاقه الحرية للعقائد الدينية كلها ، وبإضعافه لروح التعصب الديني والجنسي وما يتبع ذلك من جمود الرأي وانقسام الطوائف؛ ولقد كسب إلى جانبه بفضل دينه الجديد ولاء الهندوس، حتى أولئك لم يعتنقوا منهم تلك العقيدة الجديدة، فاستطاع بذلك أن يحقق غايته الرئيسية إلى حد بعيد، وأعني بها الوحدة السياسية للبلاد.
صفحة رقم : 796
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الهند وجيرانها -> من الإسكندر إلى أورانجزيب -> أكبر العظيم

لكن هذا "الدين الإلهي" كان مصدر كراهية شديدة له في نفوس إخوانه في الإسلام،حتى لقد انتهى الأمر بهم مرة إلى شق عصا الطاعة علناً، وإثارة الأمير "جهان كير" على أبيه بحيث أخذ بحيث يدبر له المكائد ُخفْية؛ وكان مما أثار القلق في نفس الأمير أن "أكبر" قد ظل يحكم البلاد أربعين عاماً، وأن بنيته لم تزل من القوة بحيث لا أمل في موت قريب يصيبه؛ لهذا حشد "جهان كير" جيشاً من ثلاثين ألف فارس، وقتل "أبا الفضل" مؤرخ القصر وأحب الأصدقاء إلى نفس الملك، ثم أعلن نفسه إمبراطوراً؛ لكن "أكبر" حمل الأمير الشاب على التسليم، وعفا عنه بعد يوم واحد، غير أن خيانة الابن لأبيه عملت على قتل أمه وقتل صديقه، وحطمت قوته النفسية، وتركته فريسة هينة "للعدو الأعظم" حتى لقد تنكر له أبناؤه في أواخر أيامه وبذلوا جهدهم كله في النزاع على العرش، ومات "أكبر" فلم يكن إلى جانبه إلا طائفة قليلة من أصدقائه المقربين- مات بمرض الديسنتاريا، أو مات مسموماً بتدبير "جهان كير" على اختلاف الآراء في ذلك، وجاء الشيوخ الدينيون إلى فراش الموت يحاولون أن يردوه إلى الإسلام، لكنهم منوا الفشل؛ وهكذا "قضى الملك دون أن يجد من يصلي على روحه بين أنصار أية عقيدة أو مذهب"(109) ولم يشيع جنازته عدد كبير من الناس، فكانت جنازة متواضعة، ولبس أبناؤه ورجال حاشيته ثياب الحداد بمناسبة موته، لكنهم خلعوها في مساء اليوم نفسه، فرحين بوراثتهم للملك من بعده فكان موته موتاً مريراً، مع أنه أعدل وأحكم حاكم شهدته آسيا في كل عصورها.

صفحة رقم : 797
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الهند وجيرانها -> من الإسكندر إلى أورانجزيب -> تدهور المغول

الفصل الثامن
تدهور المغول
بناء العظماء - جهان كير - شاه جهان - عظمته - سقوطه -
أورنجزيب - تعصبه - موته - قدوم البريطانيين

عَزَّ على الأبناء الذين ظلوا يرقبون موته في صبر نافذ أن يبقوا للإمبراطورية على وحدتها، تلك الإمبراطورية التي خلقها نبوغه خلقاً، فلماذا يحدث غالباً أن ينسل عظماء الرجال سلالة متوسطة القدرات والمواهب؟ أيكون ذلك لأن البذور التي كانت قد أنتجت هؤلاء العظماء- أعني امتزاج عناصر الأسلاف وممكنات البيئة الحيوية- إنما سارت مدفوعة بالمصادفة وحدها، فمن الشطط أن نتوقع لها عودة إلى الظهور من جديد؟ أم يكون ذلك لأن العبقري يستنفذ في تفكيره وفي جهوده قوة كان يمكن أن يوجهها نحو رعاية أبنائه، وبذلك لا يبقى لورثته من بعده من دمه إلا أضعفه؟ أم يكون ذلك لأن الأبناء ينحلون في ظل النعمة واليسار، فتحرمهم بحبوحة العيش في سنّهم الباكر الحوافز نحو الطموح والرقي؟
على أن "جهان كير" لم يكن متوسط القدرات والمواهب بقدر ما كان منحلاً قادراً؛ فقد ولد لأب تركي وأميرة هندية، وانفتحت أمامه الفرص كلها التي تسنح لولي العهد، فانغمس في الخمر والدعارة، وأطلق لنفسه العنان في التمتع السادي بالقسوة على الآخرين، وقد كان هذا الميل مجبولاً في فطرة أسلافه "بابور" و "هميون" و "أكبر "لكنهم دسوه دساً في دمائهم التترية، فكان يمتعه أن يرى الناس يسلخون أحياء، أو تنفذ فيهم "الخوازيق" أو يقذفون إلى الفيلة تمزقهم تمزيقاً: وهو يروي لنا في "مذكراته" أن سائسه
صفحة رقم : 798
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الهند وجيرانها -> من الإسكندر إلى أورانجزيب -> تدهور المغول

وطائفة من الخدم قدموا ذات يوم إلى ساحة صيده، وكانوا من عدم الحذر بحيث أدى ظهورهم هناك إلى فزع الطرائد التي كان يتربص لها في صيده، حتى أفلتت منه تلك الطرائد، فأمر بالسائس أن يقتل، وبخدم السائس أن تخلخل ركبهم فيعيشوا أعمارهم كساحاً؛ وهو يقول إنه بعد أن أشرف على تنفيذ أمره هذا "مضى في صيده"(110)؛ ولما تآمر عليه ابنه "خسرو" جاء بسبعمائة من أنصار الثائر وأنفذ فيهم "الخوازيق" وصفهم صفاً على امتداد الشوارع في لاهور، وهو يذكر لنا في نشوة من السرور كم انقضى على هؤلاء الرجال من زمن حتى فاضت أرواحهم(111)، وكان له حريم من ستة آلاف امرأة يرعين له حياته الجنسية(112) لكنه فيما بعد انصرف إلى زوجة مفضلة، هي "نورجهان" ، التي ظفر بها بقتل زوجها؛ وكان يسود حكومته عدل محايد لكنه قاسٍ؛ غير أنه إلى جانب ذلك قد أسرف في نفقاته إسرافاً أبهظ أمة كانت قد أصبحت أغنى أمم الأرض طرا بفضل ما أبداه "أكبر" في سياسته لها من حكمة، وما أسداه عليها أمْنٌ طال أمده أعواماً كثيرة.
ولما دنا عهد "جهان كير" من ختامه، زاد الرجل انغماساً في خمره، وأهمل واجباته الرسمية في الحكومة، فكان من الطبيعي أن تنشأ المؤامرات لملء مكانه، وحدث فعلاً سنة 1622م أن حاول ابنه "جهان" أن يعتلي العرش، ثم لما فاضت روح "جهان كير" جاء "جهان" هذا مسرعاً من الدكن حيث كان مختفياً، وأعلن نفسه إمبراطوراً، وقتل كل إخوته ليضمن لنفسه راحة البال؛ وقد ورث عن أبيه صفات الإسراف وضيق الصدر والقسوة؛ فأخذت نفقات قصره والرواتب العالية التي كان يتقاضاها موظفوه الكثيرون، تزداد نسبتها بالقياس إلى دخل الأمة الذي كانت تنتجه لها صناعة مزدهرة وتجارة نافقة؛ وبعد التسامح الديني الذي أبداه "أكبر" وعدم المبالاة التي
صفحة رقم : 799
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الهند وجيرانها -> من الإسكندر إلى أورانجزيب -> تدهور المغول

أظهرها "جهان كير" جاء "جهان" فعاد إلى العقيدة الإسلامية، واضطهد المسيحيين، وراح يحطم أضرحة الهندوس تحطيماً واسع النطاق لا يعرف إلى الرحمة سبيلاً.
وعوَّض شاه جهان بعض نقائصه بسخائه لأصدقائه، وكرمه للفقراء، وبذوقه وتحمسه للفن مما حفزه إلى تزيين الهند بأجمل فن معماري شهدته في تاريخها السابق كله، ثم بإخلاصه لزوجته "ممتاز محل"- ومعناها "زينة القصر"- ولقد تزوج منها وهو في سن الحادية والعشرين ، بعد أن أنجب طفلين من خليلة أخرى ، وأنجبت "ممتاز" لزوجها الذي لم يعرف الكلل، أربعة عشر طفلاً في ثمانية عشر عاماً، ثم قضت نحبها في سن التاسعة والثلاثين، وهي تلد آخر هؤلاء الأبناء، فأقام "شاه جهان" "تاج محل" وهو آية بلغت حد الكمال، أقامه تخليداً لذكراها وذكرى خصوبتها، ثم انتكس بعدئذ إلى دعارة مخجلة(113)، وهذا القبر الذي هو أجمل قبور الدنيا جميعاً، إن هو إلا واحد من مائة آية فنية شيدها "جهان" ، خصوصاً ما شيده منها في "أجرا" وفي "دلهي الجديدة" التي نمت تحت إشرافه؛ وأن ما كلفته هذه القصور من مال، وما غرقت فيه حاشية القصر من بذخ، وما استنفذه "عرش الطاووس" من أحجار كريمة ليدل بعض الدلالة على ما فرض على الناس في سبيل ذلك من ضريبة جاءت على الهند خراباً؛ ومع ذلك كله، ورغم ما شهدته الهند إبان عهد "شاه جهان" من مجاعة هي من أسوأ ما مر بها في تاريخها من مجاعات، فقد كانت أعوامه الثلاثون التي قضاها في الحكم بمثابة الأوج
صفحة رقم : 800
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الهند وجيرانها -> من الإسكندر إلى أورانجزيب -> تدهور المغول

في ازدهار الهند وعلو مكانتها؛ لقد كان هذا الملك الشامخ بأنفه حاكماً قديراً، ولئن أهلك أنفساً كثيرة في حروبه الخارجية، فقد هيأ لبلاده جيلاً كاملاً من السلام؛ كتب حاكم بريطاني عظيم لبمباي، هو "مونت ستيوارت إلْفِنْستون" يقول:

إن من ينظر إلى الهند في حالتها الراهنة قد يميل إلى الظن بأن الكتاب الوطنيين إنما يسرفون في وصف ثراء البلاد قديماً؛ لكن المدن المهجورة والقصور الحاوية والقنوات المسدودة التي لا نزال نراها، بما هناك من خزانات كبرى وجسور في وسط الغابات، والطرق المتهدمة والآبار ومحطات القوافل التي كانت على امتداد الطرق الملكية، كل ذلك يؤيد شهادة الرحالة المعاصرين بحيث يميل بنا إلى العقيدة بأن هؤلاء المؤرخين كانوا يقيمون أقوالهم على سند صحيح"(115).
كان "جهان" قد بدأ حكمه بقتل إخوته، لكن فاته أن يقتل أبناءه كذلك فَكُتِب لأحد هؤلاء الأبناء أن يخلعه عن العرش، وذلك هو "أورنجزيب" الذي أثار ثورة سنة 1657م وجاء زاحفاً من الدكن؛ فأمر الشاه- شأنه في هذا شأن داود- أمر قواده أن يهزموا الجيش الثائر، على ألا يقتلوا ابنه إن وجدوا إلى إنقاذ حياته من سبيل؛ لكن "أورنجزيب" غلب جميع الجيوش التي أرسلت لمحاربته، وألقى القبض على أبيه وسجنه في "حصن أجرا" حيث لبث الملك المخلوع تسعة أعوام يعاني مُرَّ العذاب، لم يزره ابنه في سجنه قط، ولم يكن إلى جواره من يرعاه سوى ابنته المخلصة "جهانارا" ؛ وكان ينفق أيامه جالساً في "برج الياسمين" مرسلاً بصره عبر "جمنة" إلى حيث ترقد زوجته الحبيبة "ممتاز" في قبرها المزدان بالجواهر.
على أن هذا الابن الذي خلع أباه على هذا النحو القاسي، كان من أعظم القديسين في تاريخ الإسلام، بل ربما كان أميز الأباطرة المغول جميعاً بما كاد يتفرد به من صفات؛ فشيوخ الدين الذين تولوا تنشئته صبغوه بالدين صبغاً حتى لقد فكر هذا الأمير الشاب يوماً في أن ينفض يده من الإمبراطورية
صفحة رقم : 801
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الهند وجيرانها -> من الإسكندر إلى أورانجزيب -> تدهور المغول

بل من العالم كله، ليعتزل الدنيا راهباً متعبداً؛ ولبث حياته كلها- رغم طغيانه ودهاء سياسته وتوهمه بأن أخلاق لا تكون إلا في مذهبه الديني- لبث حياته كلها رغم ذلك مسلماً ورعاً، يقيم الصلاة وينفق فيها وقتاً طويلاً، ويحفظ القرآن كله، ويجاهد في قتال الكفار؛ وما أكثر ما قضى من ساعات يومه في عبادته، وما قضى من أيام حياته صائماً؛ وكان في معظم الأحيان يخلص في أداء شعائر دينه إخلاصه في الدعوة إليها؛ نعم لقد كان في السياسة بارداً يقدر عواقب الأمور تقديراً دقيقاً، وله قدرة على الكذب الماهر في سبيل بلاده وربه؛ لكنه مع ذلك كله كان أقل المغول قسوة وألطفهم مزاجاً؛ قل القتل في عهده، وكاد يستغني عن اصطناع العقاب في محاكمة المجرمين؛ وكانت شخصيته متسقة الجوانب فتواضع في عزة، وصبر في وجه المعتدي، وهدوء نفس في أوقات المحنة؛ وامتنع عن كل ما يحرمه دينه من ألوان الطعام والشراب وأسباب الترف امتناعاً كان يرقبه فيه ضميره؛ وعلى الرغم من براعته في عزف الموسيقى، أقلع عنها لأنها ضرب من اللذة الحسية والظاهر أنه نفذ ما صمم عليه وهو ألا ينفق على نفسه إلا ما كسبت يداه بالعمل(116) فكأنه كان بمثابة القديس أوغسطين أجلس على العرش.

كان "شاه جهان" قد خصص نصف دخله لترقية العمارة وغيرها من الفنون، أما "أورنجزيب" فلم يعبأ بالفنون، وهدم ما فيها من آثار "الكفر" مدفوعاً بتعصب ديني ساذج، وظل خلال نصف القرن الذي حكم البلاد فيه، يحارب في سبيل محو الديانات كلها من الهند إلا ديانته؛ وأمر عماله في الأقاليم وغيرهم من أتباعه أن يقوضوا كل المعابد التي تتبع الهندوس أو المسيحيين، وأن يحطموا الأصنام جميعاً، وأن يغلقوا مدارس الهندوس بغير استثناء؛ فكان من جرّاء ذلك أنه في عام واحد (1679- 1680م) هدم ستة وستين معبداً في "عنبر" وحدها، وثلاثة وستين معبداً في "شيتور" ، ومائة وثلاثة وعشرين معبداً في "أودايبور"(117)، وأقام مسجداً إسلامياً(118) في مكان
صفحة رقم : 802
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الهند وجيرانها -> من الإسكندر إلى أورانجزيب -> تدهور المغول

معبد كان قائماً بنارس وكان موضع قدسية خاصة عند الهندوس، بغية الإساءة المتعمدة إليهم؛ وحرم إقامة الشعائر الهندوسية علناً، وفرض ضريبة فادحة على كل هندي لم يعتنق الإسلام(119)، فكان من نتيجة هذا التعصب الديني أن خربت ألوف المعابد التي كان يتمثل في بنائها؛ أو تحتوي داخل جدرانها فنون الهند مدى ألف عام، فيستحيل علينا اليوم إذا ما أرسلنا الأبصار في جنبات الهند، أن نعلم شيئاً مما كان لها من جلال وجمال.

استطاع "أورنجزيب" أن يحول حفنة من جبناء الهندوسيين إلى الإسلام لكنه حطم أسرته وبلاده معاً، ولئن عده بعض المسلمين على أنه من القديسين، فقد عده ملايين الشعب الهندي الذين أخرست ألسنتهم وأرعبت قلوبهم، شيطاناً رجيماً، وفروا من جباة ضرائبه وتضرعوا إلى الله داعين له بالموت؛ نعم بلغت الإمبراطورية المغولية في الهند أثناء حكمه أوج رفعتها، إذ امتدت رقعتها إلى بطاح الدكن، لكنها كانت قوة لا تقيم أساسها على حب الشعب، وكان لا بد لها أن تنهار عند أول لمسة معادية قوية، حتى لقد بدأ الإمبراطور نفسه في أواخر سنيه يتبين أنه قد جلب الدمار إلى تراث آبائه بورعه الضيق الأفق، وأن ما كتبه في فراش موته من خطابات، ليعد وثائق تساق لمأساتها، يقول فيها:
"لست أدري من أنا، ولا إلى أين يكون مصيري ولا أعلم ماذا عساه أن يصيب هذا الآثم المليء بالذنوب...لقد انقضت أعوامي بغير غناء؛ كان الله ماثلاً في قلبي، لكن عيني المظلمتين لم يشهدا نوره... ليس لي في المستقبل رجاء؛ لقد ذهبت عني الحمى، لكن لم يعد لي من الجسد إلا إهابه، لقد كنت كبير الإثم ولست أدري أي عذاب أنا ملاقيه...وعليك سلام الله"(120).
وأمر قبل موته أن تكون جنازته بسيطة إلى حد الزهد، وألا ينفق في كفنه إلا الروبيات الأربع التي كسبها بحياكة الطواقي؛ وأن يغطى نعشه بقطعة
صفحة رقم : 803
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الهند وجيرانها -> من الإسكندر إلى أورانجزيب -> تدهور المغول

من "الخيش" الساذج؛ وترك للفقراء ثلاثمائة روبية كسبها بنسخه صورة من القرآن(121)، ومات وعمره تسعة وثمانون عاماً،بعد أن عمر على الأرض أمداً أكثر جداً مما أراد له أهل الأرض أن يعيش.

ولم تمض بعد موته سبعة عشر عاماً حتى تحطمت إمبراطوريته إرباً إرباً؛ وكان ما كسبه "أكبر" بحكمته من مناصرة الناس للحكومة، قد أضاعه "جهان كير" بقسوته، و "جهان" بإسرافه، و "أورنجزيب" بتعصبه؛ وكانت الأقلية المسلمة قد انهدمت قواها بحرارة الهند، وفقدت النخوة العسكرية والقوة الجسدية التي كانت لها أيام شبابها، ولم تأت إليها حملات جديدة من الشمال تشد أزر قواها المنهارة؛ ثم حدث في الوقت نفسه أن بعثت جزيرة صغيرة نائية في الغرب بطائفة من تجارها لتحصد في الهند من كنوز، ولم تلبث بعدئذ أن أرسلت مدافعها لتستولي على هذه الإمبراطورية الفسيحة الأرجاء، التي تعاون فيها الهندوس والمسلمون على بنيان حضارة من حضارات التاريخ الكبرى.

صفحة رقم : 804
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الهند وجيرانها -> حياة الشعب -> منتجو الثروة

الباب السابع عشر
حياة الشعب
الفصل الأول
منتجو الثروة
البداية في الغابة - الزراعة - التعدين - الصناعات
اليدوية - التجارة - المال - الضرائب - المجاعات - الفقر والغنى

لم تتلق تربة الهند بذور المدنية عن رضى، فقد كان شطر عظيم منها تغطيه الغابات تسكنها وتذود عنها سباع ونمور وفيلة وثعابين وغيرها من الكائنات الفردية غير الاجتماعية التي تزدري المدنية على مذهب روسو؛ فقام صراع حيوي لانتزاع الأرض من هذه الأعداء، ودام الصراع متخفياً وراء ستار الحركات الاقتصادية والسياسية جميعاً؛ فقد كان "أكبر" يصيد النمور بالقرب من "مأثورة" ويمسك بالفيلة المتوحشة في أماكن كثيرة تخلو منها اليوم خلواً تاماً؛ وقد كنت تصادف الأُسْد إبان العصور الفيدية أينما سرت في الشمال الغربي من الهند أو في أجزائها الوسطى، أما اليوم فلا يكاد يوجد في شبه الجزيرة كلها؛ لكن الثعبان وصنوف الحشرات لا تزال هناك ماضية في حربها؛ ففي سنة 1926م فتكت الحيوانات المفترسة من الهنود بما يقرب من ألفين (من بين هؤلاء 875 قتلتهم النمور الضارية في أرجاء البلاد)، أما سم الأفاعي فقد أودى بعشرين ألفاً من الهنود ذلك العام(1).
صفحة رقم : 805
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الهند وجيرانها -> حياة الشعب -> منتجو الثروة

ولما خلصت الأرض على مر الزمن من الكواسر، تحولت إلى حقول يزرع فيها الأرز والقطاني والذرة والخضر والفواكه؛ فلقد رضيت الكثرة الغالبة من السكان خلال الشطر الأعظم من تاريخ الهند بعيش متواضع قوامه هذه الأغذية الطبيعية، وكانوا يجففون اللحم والسمك والطيور لطائفتي المنبوذين والأغنياء ، ولكي يجعلوا طعامهم أشهى- أو ربما أرادوا معونة أفروديت(4)- زرعوا وأكلوا مقداراً غير مألوف في سائر البلاد من التوابل، مثل البهار الهندي والزنجبيل والقرنفل والقرفة؛ ولقد صادفت هذه التوابل تقديراً عظيماً عند الأوربيين حتى لقد انطلقوا في البحار سعياً وراءها فوقعوا على نصف الكرة الأرضية الذي كان مجهولاً؛ مع أننا جميعاً نظن أن أمريكا قد كشفت لتكون للحب مسرحاً؛ كانت الأرض في العصور الفيدية ملكاً للشعب في الهند(5) ومنذ أيام "تشاندرا جوبتا موريا" أصبح العرف بين المُلاَّك أن يطالبوا لأنفسهم بملكية الأرض كلها، ثم يؤجرونها للزراع مقابل أجر وضريبة يدفعان كل عام(6)وكان الري في العادة من واجبات الحكومة، ولقد ظل أحد السدود التي شيدها "تشاندرا جوبتا" حتى سنة 150م ، ولا نزال نشاهد آثار القنوات القديمة في شتى أرجاء الهند، كما نشاهد آثار البحيرة التي احتفرها احتفاراً "راج سنج"- راجبوت رانا في موار- لتكون خزاناً لمياه الري (1661م) وأحاطها بحائط من المرمر طوله اثنا عشر ميلاً(7).
والظاهر أن قد كان الهنود أول شعب استنجم الذهب(8) فيحدثنا هيرودوت(9)والمجسطي(10) عن "النمل الكبير الذي يحفر الأرض طلباً للذهب، وهو أصغر قليلاً في حجمه من الكلاب، لكنه أكبر من الثعالب" وقد عاون هذا النمل عمال المناجم في إخراجهم للذهب، وذلك حين يخدش
صفحة رقم : 806
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الهند وجيرانها -> حياة الشعب -> منتجو الثروة

الرمل فيظهر الذهب الدفين ولقد كانت الهند مصدراً لكثير من الذهب الذي استخدم في امبراطورية فارس في القرن الخامس قبل الميلاد؛ كذلك استنجمت هناك الفضة والنحاس والرصاص والقصدير والزنك والحديد- وكان استنجام الحديد في وقت باكر من التاريخ إذ كان في سنة 1500 ق.م(11)؛ وارتقت صناعة طرق الحديد وصبه في الهند قبل ظهورها المعروف لنا في أوربا بزمن طويل، فمثلاً أقام "فكرامادتيا" (حوالي سنة 380م) في دلهي عموداً من حديد لا يزال محتفظاً ببريقه حتى اليوم، بعد أن انقضى عليه خمسة عشر قرناً؛ ولا يزال سر احتفاظه ببريقه من عوامل الصدأ والتآكل، الذي يرجع إلى نوع المعدن ذاته أو إلى طريقة طرقه وصبه، لا يزال سر ذلك لغزاً يحير علم المعادن الحديث(12)؛ وقد كان صهر الحديد في أفران صغيرة توقد بالفحم من كبرى صناعات الهند قبل الغزو الأوربي لتلك البلاد(13) لكن هذه الصناعة الهندية لم تصمد لمقاومة مثيلتها في أوربا، لأن الثورة الصناعية في أوربا علمتها كيف تؤدي هذه الصناعة بنفقات قليلة وعلى نطاق واسع؛ ولم يعد الناس من جديد إلى استغلال الموارد المعدنية الغنية في الهند واستكشافها إلا في يومنا هذا(14).
وظهرت زراعة القطن في الهند في عصر سابق لظهوره في أي بلد آخر، والأرجح أنه كان ينسج قماشاً في "موهنجو دارو"(15) يقول هيرودوت في نص هو أقدم ما بين أيدينا من مراجع عن القطن، يقول في جهل ممتع: "وهناك أشجار حوشية تثمر الصوف بدل الفاكهة، وصوفها يفوق صوف الأغنام جودة وجمالاً؛ ويصنع الهنود ثيابهم من هذه الأشجار"(16) ؛فلما شن الرومان حروبهم في الشرق الأدنى، عرفوا هذا "الصوف" الذي تثمره الأشجار(17)؛ وروى لنا الرحالة العرب الذين زاروا الهند في القرن التاسع بأنه "في هذه البلاد يصنع الناس أثواباً يبلغون بها درجة من الكمال لا تصادف
صفحة رقم : 807
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الهند وجيرانها -> حياة الشعب -> منتجو الثروة

لها مثيلاً في أي مكان آخر- فهي من الحياكة والغزل على درجة من الرقة تسمح لك أن تنفذ الثوب من خاتم متوسط الحجم"(18)، ونقل العرب في العصر الوسيط هذا الفن عن الهند، ومن الكلمة العربية "قطن" أخذنا نحن كلمتنا الانجليزية(19) وكلمة "موسلين" أطلقت بادئ ذي بدء على الغزل الرقيق الذي كان يصنع في الموصل على غرار النماذج الهندية؛ وكذلك كلمة "كالكو" (أي البفتة) أطلقت على مسماهما لأن هذا الصنف من القماش جاءنا لأول مرة (1631م) من مدينة كلكتا الواقعة على الشواطئ الجنوبية الغربية؛ ويحدثنا "ماركوبولو" عن "جوجارات" في سنة 1293م فيقول: "إنهم هنا يطرزون بالوشي على نحو من الدقة لا يبلغه أي بلد من بلاد العالم" (20)، وما تزال "شيلان" كشمير، و"سجاجيد" الهند شاهدة حتى اليوم على براعة النسج الهندي من حيث حبك الديباجة وتصميم الزخارف ، على أن النسج لا يعدو أن يكون واحداً من صناعات يدوية كثيرة في الهند، والنساجون إن هم إلا فئة واحدة من فئات الصناعة والتجارة التي أشرفت على تنظيم الصناعة في الهند وإخضاعها لقواعد وأصول، ونظرت أوربا إلى الهنود نظرتها إلى الخبراء في كل ضروب الصناعة اليدوية تقريباً- صناعة الخشب وصناعة العاج وصناعة المعادن وتبييض القماش والصباغة والدبغ وصناعة الصابون ونفخ الزجاج والبارود والصواريخ النارية والإسمنت وغيرها(21)، واستوردت الصين من الهند مناظير سنة 1260م ؛ ويصف لنا "برتييه" الرحالة الذي جاب الهند في القرن السابع عشر يصف لنا الهند بأنها تطنّ بأصوات الصناعة طنيناً؛ وكذلك رأى "فتشي" سنة 1585م أسطولاً من مائة وثمانين مركباً تحمل متنوعات شتى من السلع على نهر جمنة.
صفحة رقم : 808
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الهند وجيرانها -> حياة الشعب -> منتجو الثروة

وازدهرت التجارة الداخلية، حتى لقد كانت جوانب الطرقات- وما تزال- أسواقا للبيع والشراء؛ وأما تجارة الهند الخارجية فهي من القدم مثل تاريخها(22) فهناك آثار وجدناها في سومر وفي مصر تدل على تبادل تجاري بين هذين القطرين والهند، وفي عهد ليس أحدث تاريخاً من سنة 3000 ق.م(23)؛ وازدهرت التجارة بين بابل والهند عن طريق الخليج الفارسي بين عامي 700 و 480 ق.م؛ ومن يدري فلعل "العاج والقردة والطواويس" التي جاء بها سليمان، إنما جاءت من المورد نفسه وعن نفس الطريق؛ وأخذت سفن الهند تشق البحار إلى بورما والصين في عهد "تشاندرا جوبتا" ؛ وازدحمت أسواق الهند "الدرافيدية" بالتجار اليونان الذين أطلق عليهم الهنود اسم "يافنا" (الآيونيين)، وكان ذلك في القرون التي سبقت والتي لحقت مولد المسيح(24)؛ وكذلك اعتمدت روما في أيام ترفها المادي، على الهند في استيراد التوابل والعطور والدهون، ودفعت أثماناً عالية فيما ابتاعته من الهند من حرير ووشي وموصلي وأثواب الذهب، حتى لقد اتهم "بلني" روما بالإسراف لأنها كانت تنفق كل عام خمسة ملايين دولار على ما تستورده من الهند من أسباب الترف؛ وكانت روما تستعين كذلك بالفهود والنمور والفيلة التي تأتي بها من الهند، على إقامة ألعابها في المصارعة، وتأدية طقوس القرابين عند الكولوسيوم(25)؛ وما حاربت روما الحروب البارئية إلا ليظل لها طريق التجارة إلى الهند مفتوحاً؛ ثم حدث في القرن السابع أن استولى العرب على فارس ومصر، ومنذ ذلك الحين، أخذت التجارة بين أوربا وآسيا تمر خلال أيدي المسلمين، ومن ثم قامت الحروب الصليبية، وظهر كولمبس؛ وانتعشت التجارة الخارجية من جديد في ظل المغول؛ ولهذا ازدهرت بالغنى مدينة البندقية ومدينة جنوا وغيرهما من المدن الإيطالية، بسبب قيامها بما تقوم به الموانئ للتجارة الأوربية مع الهند والشرق؛ وإن النهضة الأوربية لتدين للثروة التي جاءت بها هذه التجارة، أكثر مما تدين

للمخطوطات التي جاء بها اليونان إلى إيطاليا؛ وكان
صفحة رقم : 809
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الهند وجيرانها -> حياة الشعب -> منتجو الثروة

"لأكبر" إدارة بحرية تشرف على بناء السفن وتنظم حركة الملاحة في المحيطات، فاشتهرت موانئ البنغال والسند ببناء السفن، وبلغت تلك الموانئ بهذه الصناعة حداً من الاتقان حدا بسلطان القسطنطينية أن يصنع سفنه هناك بدل صناعتها في الإسكندرية، لقلة النفقات هناك؛ بل إن "شركة الهند الشرقية" ذاتها بنت كثيراً من سفنها في موانئ البنغال(26).
واستغرق تطور النقد الضروري لتيسير هذه التجارة عدة قرون؛ ففي أيام بوذا كانت قطع النقد مستطيلة الشكل غليظة الصنعة، وكانت تصدرها سلطات اقتصادية وسياسية مختلفة، ولم تصل الهند إلى مرحلة النقد الذي تضمن الحكومة قيمته إلا في القرن الرابع قبل الميلاد، بتأثير فارس واليونان(27)؛ فأصدر "شرشاه" قطعاً نقدية جميلة الشكل من النحاس والفضة والذهب، وجعل الروبية العملة الأساسية في أرجاء المملكة(28).
وفي عهد "أكبر" و "جهان كير" كانت قطع النقود في الهند أرقى من مثيلاتها في أية دولة أوربية حديثة من حيث تصميم شكلها من الوجهة الفنية، وصفاء معدنها(29)، وكما كانت الحال في أوربا في العصور الوسطى، كذلك كانت في الهند في تلك العصور، مع أن نمو الصناعة والتجارة قد عاقته هنا وهناك كراهة دينية للربا.
يقول المجسطي: "إن الهنود لا يقرضون مالهم بالربا ولاهم يعرفون كيف يقترضون؛ وإنه لمما يجافي الأوضاع المقررة عند الهندي أن يقترف الخطأ في حق غيره أو أن يحتمل الإيذاء من غيره، ولهذا تراهم لا يبرمون عقوداً ولا يطلبون الضمانات"(30).

فإذا ما عجز الهندي عن استغلال ما ادخره في مشروعاته التي يقوم بها بنفسه آثر أن يخفيه أو أن يشتري به جواهر لكونها ثروة يسهل إخفاؤها(31)، ولعل عجزهم هذا عن اصطناع نظام ييسر القروض كان مما عاون "الثورة الصناعية" أن تمهد سبيل السيطرة الأوربية على آسيا؛ ومع ذلك فعلى الرغم
صفحة رقم : 810
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الهند وجيرانها -> حياة الشعب -> منتجو الثروة

من كراهة البراهمة للاقتراض، أخذت عمليات الاقتراض تزداد شيئاً فشيئاً، وكانت نسبة الربح تختلف باختلاف الطبقة الاجتماعية التي ينتمي اليها المقترض، من اثني عشرة إلى ستين في المائة، وكان المتوسط في جملته عشرين في المائة(32)، ولم يكن الإفلاس يتخذ وسيلة لتصفية الديون، وإذا مات مدين عن دين، كان على أبنائه وأبناء أبنائه إلى الجيل السادس أن ينوبوا في الوفاء بذلك الدين(33).
وفرضت ضرائب باهظة على الزراعة والتجارة تدعيماً لأركان الحكومة، وكان على الفلاح أن يتنازل من محصوله عن مقدار يتراوح بين سدسه ونصفه، وكذلك فرضت ضرائب كثيرة على تبادل السلع وإنتاجها كما كانت الحال في أوربا في عصورها الوسطى، وفي أوربا في عصرنا القائم(34)؛ جاء "أكبر" فرفع ضريبة الأراضي إلى ثلث المحصول، لكنه لقاء ذلك ألغى كل صنوف الضرائب الأخرى(35)؛ ولئن كانت هذه الضريبة على الأرض باهظة، إلا أن من حسناتها أنها كانت ترتفع مع ازدهار المحصول وتهبط مع الأزمات؛ وإذا ما أصيبت البلاد بمجاعة، فقد كان الفقراء- على الأقل- يموتون دون أن تفرض عليهم الضرائب؛ ولم تخل البلاد من سني المجاعة حتى في أيام "أكبر" ذات الرخاء (1595- 1608)، والظاهر أن مجاعة سنة 1556م أدت بالناس إلى أكل اللحوم البشرية وإلى الخراب الشامل؛ إذ كانت الطرق رديئة والمواصلات بطيئة الحركة، فلم يكن يسيراً على فائض منطقة من المناطق أن يطعم أخرى مما أصيب بالقحط.

وكما هي الحال في كل أرجاء العالم، كان في الهند إذ ذاك تفاوت واسع بين الفقر والغنى، ولكنه لم يبلغ اليوم في الهند أو أمريكا؛ ففي أسفل السُّلَّم كانت هناك أقلية صغيرة من العبيد، ويتلوهم صعوداً فئة "الشودرا" الذين لم يكونوا عبيداً بقدر ما كانوا مأجورين على عملهم، ولو أن منزلتهم الاجتماعية كإجراء كانت تُوَرَّث، كما هو الحال في سائر المنازل الاجتماعية
صفحة رقم : 811
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الهند وجيرانها -> حياة الشعب -> منتجو الثروة

بين الهنود؛ وكان الفقر الذي وصفه "الأب دِبْوَا" (1820م)(36) نتيجة الخمسين عاماً من الفوضى السياسية، ولو أن حالة الشعب في ظل المغول كانت مزدهرة نسبياً (37)، فلئن كانت الأجور متواضعة تتراوح بين ما يساوي ثلاث سنتات (السنت عملة أمريكية تساوي مليمين) وتسعاً كل يوم في عهد "أكبر" إلا أن الأثمان كانت بخسة بما يقابل تلك الأجور القليلة؛ ففي سنة 1600م كانت الروبية (وهي تساوي في المتوسط 5ر32 سنت) تشتري 194 رطلاً من القمح أو 287 رطلاً من الشعير؛ وأما في سنة 1901م فلم تكن الروبية تشتري إلا 29 رطلاً من القمح أو 44 رطلاً من الشعير(38)؛ ولقد وصف الحالة إنجليزي سكن الهند في سنة 1616م فوصف "وفرة المواد كلها "بأنها" وفرة عظيمة جداً في طول البلاد وعرضها".
ثم أضاف إلى ذلك قوله: "إن كان إنسان هناك في مستطاعه أن يجد زاده من الخبز في وفرة لا تعرف قحطاً"(39). وقال إنجليزي آخر طاف بالهند في القرن السابع عشر: "إن نفقاته كانت تبلغ في المتوسط أربع سنتات كل يوم"(40).

بلغت ثروة البلاد ذروتها في عهد "تشاندرا جوبتا موريا" و "شاه جهان" فقد ضربت الأمثال في أرجاء العالم كله بثروة الهند في ظل ملوك "جوبتا" ؛ وصور "يوان شوانج" مدينة هندية بقوله إنها جميلة تزينها الحدائق وأحواض الماء، ومعاهد الآداب والفنون، "وسكانها من ذوي اليسار وبينهم أسر على ثراء عظيم؛ وتكثر بالمدينة الفاكهة والأزهار... وللناس مظهر رقيق يلبسون أردية الحرير اللامعة؛ وحديثهم...واضح يوحي بالمعاني، وهم منقسمون نصفين متعادلين، نصف يتبع الأرثوذكسية في الدين، ونصف آخر يمقت هذه الرجعية الدينية"(41)، ويقول "إلْفِنْستون" : "إن الممالك الهندية التي ثل المسلمون عروشها كانت من الثراء بحيث كَلَّ المؤرخون عن ذكر ما غنمه الغزاة هناك من جواهر هائلة المقدار ونقود كثيرة"(42)، ووصف "نِكُولو كونتي" ضفاف الكنج (حوالي سنة 1420م) فقال إنها تمتلئ بصف من
صفحة رقم : 812
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الهند وجيرانها -> حياة الشعب -> منتجو الثروة

المدن الزاهرة واحدة في إثر أخرى، وكلها حسن التخطيط غني بالحدائق والبساتين والفضة والذهب والتجارة والصناعة(43)؛ وكانت خزينة "شاه جهان" مفعمة بما فيها حتى لقد احتفر تحت الأرض غرفتين قويتين، سعة كل منهما 000ر150 قدماً مكعبة، وتكاد تمتلئ بالفضة والذهب(44) ويقول "فنسنت سمث" : "إن الشواهد المعاصرة لذلك الزمن لتقطع باليقين الذي لا يعرف الشك أن سكان الحضر الذين كانوا يسكنون أهم المدن، كانوا من ذوي اليسار"(45)، ووصف الرحالة مدينتي "أجرا" و"فتحبور سكرى" بأن كلاً منهما أعظم من لندن وأعرض منها ثراء(46)؛ ولقد ألفى "أنكتيل دوبرون" نفسه حين طاف بأقاليم "الماهاراتا" سنة 1760م "وسط العصر الذهبي ببساطته وسعادته.. فقد كان الناس باسمين أقوياء وفي صحة جيدة"(47)، وزار "كلايف" مرشد أباد سنة 1759م فقال إن تلك العاصمة القديمة للبنغال تساوي لندن التي عرفها في عصره مساحة وعدد سكان وثراء، وفيها من القصور ما لا تقاس إليه قصور أوربا، ومن الأغنياء رجال لا يدنو منهم غنيٌّ في لندن(48)، ويقول "كلايف": "كانت الهند قطراً لا ينفد ثراؤه"(49)، ولقد حاكمه مجلس النواب على الإسراف في الأموال التي اغتصبها لنفسه، فدافع كلايف عن نفسه في براعة، إذ جعل يصف الغنى الذي وجد نفسه محاطاً به في الهند- فمدنٌ غنية تعرض عليه أي مبلغ أراد ليجنيها من فوضى النهب، وأغنياء يفتحون له أسراباً تكدس فيها الذهب والجواهر أكداساً أكداساً ليأخذ منها ما أراد، ثم ختم دفاعه قائلاً: "إنني في هذه اللحظة أقف هاهنا دهشاً كيف قنعت بالقليل الذي أخذت"(50)

صفحة رقم : 813
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الهند وجيرانها -> حياة الشعب -> تنظيم المجتمع

الفصل الثاني
تنظيم المجتمع
الملكية - القانون - تشريع مانو - تطور نظام الطبقات - نشأة
البراهمة - امتيازاتهم ونفوذهم - واجباتهم - دفاع عن نظام الطبقات

لما كانت الطرق رديئة والمواصلات عسيرة، كان غزو الهند أيسر من حكمها؛ فلقد حتمت طبيعة سطحها أن تظل هذه البلاد الشبيهة بأن تكون قارة بأسرها، خليطاً من دويلات مستقل بعضها عن بعض، حتى جاءتها السكك الحديدية فوصلت ما تفرق من أجزائها؛ وفي مثل هذه الظروف لا يمكن لحكومة أن تضمن لنفسها البقاء إلا بجيش قوي؛ ولما كان الجيش بحاجة إلى قائد مستبد الرأي ليحكمه بكلمة منه دون التأثر بفصاحة الكلام يقوله غيره في شئون السياسة، فإن صورة الحكومة التي تكونت في الهند هي الملكية بطبيعة الحال؛ ولقد تمتع الناس بقدر كبير من الحرية في ظل الأسرات الحاكمة الوطنية، وذلك من جهة يرجع إلى الاستقلال الذاتي الذي كانت تتمتع به القرى في الريف ونقابات العمال في المدن، كما يرجع من جهة أخرى إلى القيود التي فرضتها الطبقة الأرستقراطية البرهمية على سلطة الملك(51)؛ وإنك لتجد في قوانين "مانو" تعبيراً عن الأفكار الرئيسية في الهند عن الملكية، على الرغم من أن تلك القوانين أقرب إلى التشريع الخلقي منها إلى التشريع القانوني لأوضاع الحياة الجارية؛ فعندهم إن الملكية ينبغي أن تكون قوية الشكيمة في حياد، وأن ترعى مصالح الناس رعاية الوالد لولده(52)؛ غير أن الحكام المسلمين كانوا أقل مبالاة من أسلافهم الهنود بهذه المثل العليا وهذه القيود؛ لأنهم كانوا أقلية فاتحة، فأقامت حكمها صراحة على تفوقها العسكري؛ فيقول مؤرخ مسلم في وضوح جميل: "إن
صفحة رقم : 814
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الهند وجيرانها -> حياة الشعب -> تنظيم المجتمع

الجيش هو عدة الحكومة وعتادها"(53)، وقد كان أكبر شذوذاً في هؤلاء الحكام المسلمين، لأنه اعتمد قبل كل شئ على رضى الشعب لازدهاره تحت حكومته المستبدة في اعتدال ورحمة؛ ولعل حكومته في ظروفها كانت خير حكومة يمكن قيامها، وأهم عيوبها - كما أسلفنا - هو اعتمادها على شخصية الملك، لأن السلطة العليا المتركزة في يد الحاكم كانت خيراً في عهد "أكبر" لكنها كانت شراً مستطيراً في عهد "أورنجزيب"؛ ولما كان الحكام الأفغان والمغول قد ارتفعوا إلى سلطانهم بالعنف، فقد كانوا دائماً عرضة إلى الهبوط عن سلطانهم بالاغتيال، وكادت الحروب التي تشن ليحل ملك مكان آخر، تكلف من النفقات ما تكلفه الانتخابات في عصرنا الحديث، ولو أن تلك الحروب لم تكن عقبة في سبيل اضطراد الحياة الاقتصادية كما هي الحال مع انتخاباتنا اليوم .
لم يكن القانون في ظل الحكام المسلمين إلا إرادة الإمبراطور أو السلطان؛ وأما في ظل الملوك الهنود فقد كان مزيجاً مضطرباً من الأوامر الملكية ومن تقاليد القرى وقواعد الطبقات وكان الذي يتولى القضاء رئيس
صفحة رقم : 815
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الهند وجيرانها -> حياة الشعب -> تنظيم المجتمع

الأسرة، أو رئيس القرية، أو شيوخ الطبقة، أو محكمة النقابة، أو مدير الإقليم أو زير الملك أو الملك نفسه(55) على أن المحاكمة كانت سريعة الإجراء سريعة الحكم، ولم تعرف البلاد نظام المحاماة في القضايا على أيدي رجال القانون إلا بعد قدوم البريطانيين(56) وكان التعذيب مألوفاً في عهود الأسرات الحاكمة كلها حتى ألغاه "فيروزشاه"(57) والموت هو العقوبة في عدد كبير جداً من الجرائم، فقد كانوا يعاقبون به سرقة المنازل وإتلاف أملاك الملك خاصة، أو السرقة على النطاق الذي نراه اليوم يجعل من السارق عموداً من عمدان المجتمع؛ وكانت سائر ألوان العقاب قاسية تشمل بين أنواعها بتر الأيدي والأقدام والأنوف والآذان وفقء الأعين وصب الرصاص المصهور في الحلوق وتهشيم عظام الأيدي والأقدام بمطرقة خشبية وإحراق الجسم بالنار وإنفاذ المسامير في الكفوف والأقدام والصدور، وقطع أعصاب المفاصل ونشر الناس بمناشير الخشب ثم قطع جسومهم أجزاء وإنفاذ القضبان المسنونة فيهم وشويهم على النار أحياء وقذفهم تحت أقدام الفيلة لتدقهم دقاً حتى يموتوا أو رميهم فريسة للكلاب المتوحشة الجائعة .
ولم يكن هناك تشريع قانوني واحد يشتمل الهند بأسرها، فكان يحل محل القانون في شئون الحياة اليومية ما يسمونه "ذارماشاسترا" أي النصوص العرفية التي تفصل ما للطبقات من نظم وواجبات، والذي كتب هذه النصوص رجال من البراهمة،كتبوها من وجهة نظر برهمية خالصة؛ وأقدم هذه النصوص ما يسمى "بتشريع مانو" ؛ ومانو هذا هو السلف الأسطوري الذي تسلسلت عنه جماعة المانوية (أو مدرستها الفكرية) المؤلفة من براهمة بالقرب من دلهي؛ وقد صورته هذه النصوص ابناً لله يتلقى القوانين من براهما نفسه(59) وهذا التشريع مؤلف من 2685 بيتاً من الشعر، كانوا يرجعونه إلى سنة 1200 ق.م، لكن الباحثين اليوم يردونه إلى القرون الأولى بعد ميلاد المسيح(60)
صفحة رقم : 816

قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الهند وجيرانها -> حياة الشعب -> تنظيم المجتمع

ولقد أريد بهذا التشريع بادئ الأمر أن يكون بمثابة الدليل أو الكتاب الصغير الذي يرشد براهمة المانوية هؤلاء إلى أوضاع السلوك الصحيح، لكنه أخذ على التدريج يتطور فيصبح تشريعاً يحدد قواعد السلوك للمجتمع الهندي كله، وعلى الرغم من أن ملوك المسلمين لم يعترفوا به قط، إلا أنه اكتسب كل ما للقانون من قوة داخل حدود نظام الطبقات، وستتبين خصائص هذا التشريع إلى حد ما خلال الصفحات الآتية بما أوردناه فيها من تحليل للمجتمع الهندي وأخلاقه، لكنه على وجه العموم كان يتسم بمظهر خرافي من حيث قبوله لمبدأ المحاكمة بالمحنة وتطبيقه تطبيقاً متزمتاً لقانون العين بالعين والسن بالسن، وإشادته مرة بعد مرة بطبقة البراهمة في فضائلها وحقوقها ونفوذها(62)، وكان من تأثير هذا الكتاب أن زاد زيادة عظيمة من سيطرة نظام الطبقات على المجتمع الهندي.
كان هذا النظام الطبقي قد ازداد تزمتاً وتعقيداً منذ العصر الفيدي، لأن طبيعة النظم الاجتماعية من شأنها أن تزيد تلك النظم صلابة على مر الزمن، ولأن اجتياح الهند- من جهة أخرى- بالشعوب الأجنبية والعقائد الخارجية قد زاد من صلابة نظام الطبقات ليقوم سداً قوياً يحول دون امتزاج دم المسلمين بدم الهنود، فقد كان أساس الطبقات في العصر الفيدي هو اللون، ثم أصبح الأساس في العصور الوسطى الهندية هو المولد، وكان معنى التقسيم الطبقي شيئين،
صفحة رقم : 817
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الهند وجيرانها -> حياة الشعب -> تنظيم المجتمع

معناه من جهة وراثة الوضع الاجتماعي، ومعناه من جهة أخرى قبول كتاب "ذارما"- أي قبول ما تفرضه التقاليد على أفراد كل طبقة من التزامات وصنوف أعمال.

وعلى رأس الطبقات وأكبر المستفيدين من نظامها، وهم الثمانية ملايين من ذكور طبقة البراهمة(63)؛ وكانت طبقة البراهمة هذه قد أصابها الضعف حيناً من الزمن بسبب نهضة البوذية في عهد "أشوكا" لكن البراهمة بما كان لهم من دأب وصبر يتصف بهما الكهنة على اختلاف أوطانهم، مالوا للحوادث، ثم استعادوا نفوذهم وسيادتهم في ظل ملوك "جوبتا" ؛ وما نزال نرى وثائق منذ القرن الثاني بعد الميلاد بمنح عظيمة - خصوصاً إقطاعيات من الأرض - توهب لطبقة البراهمة وكانت هذه المنح - شأنها شأن أملاك البراهمة كلها - معفاة من الضرائب حتى جاء البريطانيون(66) فتشريع مانو يحذر الملك من فرض ضريبة على برهمي، حتى إن نضبت كل موارد المال الأخرى، لأن البرهمي إذا ما أثار غضبه يستطيع أن يسحق الملك وجيشه جميعاً بتلاوة لعنات ونصوص سحرية(67)؛ ولم يكن من عادة الهنود أن يوصوا بشيء قبل موتهم فيما يختص بميراثهم، لأن من تقاليدهم أن أملاك الأسرة لا بد أن تظل ملكاً مشاعاً للأسرة كلها، وهي تنتقل انتقالاً آلياً من موتى الذكور في الأسرة إلى أحيائهم لكن الأوربيين بما يسودهم من نزعة نحو الفردية، لم يكادوا يدخلون في الهند نظام الوصايا، حتى رحب به البراهمة ترحيباً عظيماً، ليتخذوا منه حيناً بعد حين وسيلة للاستيلاء على الأراضي لأغراض كهنوتية(70) وكان أهم عنصر في تقديم القرابين للآلهة هو الرسوم التي تدفع للكاهن المشرف على إقامة الطقوس الخاصة بذلك، ورأس التقوى كلها هو السخاء في دفع تلك الرسوم(71) وكذلك كان من موارد الكهنة الخصبة الإتيان بالمعجزات
صفحة رقم : 818
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الهند وجيرانها -> حياة الشعب -> تنظيم المجتمع

وغير ذلك من ألوف الخرافات، فلقاء رسم معين يستطيع البراهمي أن يجعل من العاقر ولوداً، ونظير أجر معلوم ينبئ البرهمي بما خط في لوح القدر؛ وكان البراهمة يستخدمون رجالاً يطلبون إليهم أن يتظاهروا بالجنون وأن يعترفوا بأن هذا المس الذي أصابهم إنما جاءهم جزاء وفاقاً لما قتروا في العطاء للكهنة؛ وكان الرجل من البراهمة يقصد في كل حالات المرض أو المحاكمات أو حالات التشاؤم ببعض النذر السيئة أو الأحلام المزعجة أو البدء في مشروع جديد، كان الرجل من البراهمة يقصد في كل تلك الحالات طلباً لمشورته، وللمشير أجر مشورته(72).
وكان البراهمة يستمدون نفوذهم من احتكارهم للعلم، فهم القائمون على صيانة التقاليد وهم الذين يدخلون على تلك التقاليد ما شاءوا من تعديل؛ وهم الذين يتولون تربية النشء، ويكتبون الأدب أو يقومون على نشر المكتوب منه، وهم الخبراء بكتب الفيدا التي هبط بها الوحي ولا يأتيها الباطل؛ ولو أنصت رجل من طبقة "الشودرا" إلى تلاوة الكتب المقدسة، امتلأت أذناه بالرصاص المصهور (هكذا تقول كتب القانون البرهمية)، وإن تلاها هو انشق لسانه، ولو حفظ شيئاً منها قطع جسده نصفين(73)، هذه النذر وأمثالها - التي لم توقع فعلاً إلا في حالات نادرة - هي التي كان يلجاً إليها الكهنة ليصونوا لأنفسهم العلم فلا يشاركهم فيه معتد؛ وهكذا أصبحت البرهمية مذهباً خاصاً بفئة معينة تحيط نفسها بسياج، لا تأذن لأحد من غير أفرادها أن يسهم في العلم به(74) وينص تشريع مانو على أن يكون من حق البرهمي سيادته على سائر الكائنات(75) على أن الفرد منهم لم يكن ليتمتع بكل ما للبراهمة من نفوذ وامتيازات حتى ينفق في مرحلة الاستعداد أعواماً كثيرة، وبعدئذ "يولد ولادة جديدة" وتجري له طقوس الخيط الثلاثي(76)، فإذا ما تم له ذلك، أصبح منذ هذه اللحظة كائناً مقدساً، وأصبح شخصه وملكه مما لا يجوز عليه الاعتداء؛ بل يذهب "مانو" في ذلك بعيداً فيقرر أن "كل

صفحة رقم : 819
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الهند وجيرانها -> حياة الشعب -> تنظيم المجتمع

ما هو كائن في الوجود ملك للبراهمة"(77)؛ وكان لا بد لصيانة الطبقة البراهمية من منح عامة وخاصة - وهي لا توهب لهم على سبيل الإحسان، بل من باب الواجب المقدس(78) وكان السخاء في العطاء للبرهمي من أسمى الواجبات الدينية؛ ويستطيع البرهمي الذي لا يجد ترحيباً كريماً في أحد المنازل أن يُذهِبَ عن صاحب البيت كل ما كان استحقه من جزاء عن حسناته السابقة جميعاً ولو اقترف البرهمي كل جريمة ممكنة، لما حَقَّ عليه القتل، فللملك أن ينفيه، لكن لا بد له أن يأذن بالاحتفاظ بملكه(82) ومن حاول أن يضرب برهمياً، كان لزاماً عليه أن يصلى عذاب النار مائة عام، وأما من ضرب برهمياً بالفعل، فقد حقت عليه الجحيم ألف عام(83) وإذا اعتدى رجل من الشودرا على عفاف زوجة رجل من البراهمة، صودرت أملاكه وحكم عليه بالخصي(84) وإذا قتل رجل من الشودرا زميلاً له من الشودرا، كان له أن يكفر عن جريمته بعشر بقرات يهبها للبراهمة، فإذا قتل أحداً من "الفيزيا" كانت كفارته للبراهمة مائة بقرة، وإذا قتل أحداً من "الكشاترية" ارتفعت كفارته إلى ألف بقرة يعطيها للبراهمة، أما إذا قتل برهمياً فلا بد من قتله، ذلك لأن جريمته القتل عندهم لم تكن إلا بقتل برهمي(85).
وكان على البرهمي في مقابل هذه الامتيازات أعمال والتزامات كثيرة وفادحة؛ فلم يكن يقوم بواجبات الكاهن العملية وكفى ، لكنه كان إلى جانب ذلك يعد نفسه للمهن الكتابية والتربوية والأدبية، وكان ينتظر منه
صفحة رقم : 820
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الهند وجيرانها -> حياة الشعب -> تنظيم المجتمع

أن يدرس القانون وأن يحفظ كتب الفيدا وكل واجب آخر من واجباته، إنما يأتي بعد ذلك في الأهمية(86)، ولو لم يستطع البرهمي سوى إن يتلو كتب الفيدا، فإنه بذلك وحده يصبح جديراً بطمأنينة النفس بغض النظر عما قام به غير ذلك من طقوس أو إنتاج(87)، أما إن حفظ عن ظهر قلب كتاب "رج فيدا" ، فإنه يستطيع بعد ذلك أن يحطم العالم تحطيماً دون أن يعد ذلك منه اقترافاً لجريمة(88)، وليس من حقه أن يتزوج خارج طبقته، فإن تزوج امرأة من طبقة الشودرا، عد أبناؤه من الطبقة الدنيا، طبقة "الباريا" ، وفي ذلك جاء في كتاب مانو : "إن الرجل الطيب العنصر بمولده إنما يفسد عنصره بصحبة الأَدْنين، أما من كان دنياً بمولده فيستحيل أن يسمو بصحبة الأعلين"(89)، كان على البرهمي أن يستحم كل يوم، وأن يعود فيستحم مرة أخرى إذا حلق له حلاق من الطبقة الدنيا؛ وعليه أن يطهر المكان الذي أعده لنومه بروث البقر، ولا بد له أن يراعي طقوساً صحية دقيقة في مباشرته لضرورات طبيعته(90)، ومحتوم عليه أن يمتنع عن أكل البصل والثوم ونبات الفطر ونبات الكرات؛ ولم يكن يجوز له أي ضرب من ضروب الشراب غير الماء، ويشترط أن يستخرجها وأن يحملها برهمي(91)، وتحرم عليه صنوف الدهون والعطور واللذة الحسية والجشع والغضب(92)، وإذا مس شيئاً نجساً، أو لمس أجنبياً (حتى إن كان ذلك الأجنبي هو الحاكم العام للهند) كان لا بد له من أن يطهر نفسه بالوضوء الذي تحدده الطقوس، ولو اقترف إثما، كان لزاماً عليه أن يتقبل عقاباً أعنف مما يقع على مرتكب الإثم نفسه من طبقة دنيا؛ فمثلاً لو سرق رجل من طبقة الشودرا شيئاً، حكم عليه أن يدفع غرامة
صفحة رقم : 821
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الهند وجيرانها -> حياة الشعب -> تنظيم المجتمع

قدرها ثمانية أمثال قيمة الشيء المسروق، وإذا سرق رجل من طبقة " الفيزيا " شيئاً دفع غرامة تساوي ستة عشر مثلاً، والرجل من "الكشاترية" يدفع اثنين وثلاثين مثلاً، وأما البرهمي فيدفع غرامة قدرها أربعة وستين مثلاً؛ وكان يستحيل على البرهمي أن يؤذي كائناً حياً(93).
وأخذت قوة الكهنة تزداد من جيل إلى جيل حتى أصبحوا أطول ما عرفه التاريخ من طبقات الأرستقراطية بقاء على وجه الدهر، وذلك لاعتدالهم في مراعاة هذه القواعد من ناحية، ومن ناحية أخرى لأنهم وجدوا شعباً أثقلته فلاحة الأرض فأخضعته لتقلبات الجو التي بدت لهم كأنها تقلبات أهواء شخصية، فشغلهم ذلك كله عن النهوض بأنفسهم من الخرافة إلى نور العرفان؛ فيستحيل أن تجد هذه الظاهرة العجيبة في أي مكان آخر غير الهند - وهي ظاهرة نموذجية تمثل بطء التغير في الهند - وأعني بها أن تظل طبقة عليا محتفظة بامتيازاتها وعلو مكانتها على مر العصور بكل ما شهدته من غزوات وأسر حاكمة وحكومات مدى 2500عام؛ ولا ينافسهم طول البقاء إلا "الشاندالا" طريدة الطبقات؛ أما فئة "الكشاترية" القديمة التي كان لها السلطان على الميدان الفكري والسياسي في عهد بوذا، فقد توارت بعد عصر جوبتا؛ وعلى الرغم من أن البراهمة اعترفوا بمحاربي "راجبوت" واعتبروهم بمثابة تطور طرأ على الطبقة المحاربة القديمة، إلا أن الكشاترية - بعد سقوط راجبوتانا- لم يلبثوا أن زالت دولتهم، وأخيراً لم يبق إلا طائفتان كبيرتان، وهما طائفة البراهمة التي كانت طبقة الحكام في الهند من الناحية الاجتماعية والفكرية، ثم يأتي تحتهم ثلاث آلاف طبقة هي في حقيقة الأمر عبارة عن النقابات الصناعية .

ولو استثنيت نظام الزوجة الواحدة من حيث إساءة تطبيقه، لجاز لك أن تقول إن نظام الطبقات أكثر النظم الاجتماعية سوء تطبيق، ولولا ذلك لوجدت ما تقوله في الدفاع عن هذا النظام، فله حسنة التصفية الاجتماعية التي تصون ما نزعم أنه دم نقي من الشوائب ومن الانقراض اللذين ينتجان حتماً عن فك
صفحة رقم : 822
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الهند وجيرانها -> حياة الشعب -> تنظيم المجتمع

قيود الامتزاج بالزواج؛ وكذلك لنظام الطبقات حسنة أخرى، وهي تدعيمه لطائفة من عادات الطعام والنظافة التي كان يتحتم على كل إنسان أن يراعيها وأن يسمو إليها صوناً لكرامته؛ وكذلك خلع ثوب النظام على ما بين الناس من تفاوت وفروق، لولاه لأصبحت فوضى بغير ضابط، ووفّر على الناس هذه الحمى التي تطغى عليهم في عصرنا الحديث، حمى الصعود في سلم المجتمع والزيادة من كسب المال؛ ونظم الحياة لكل إنسان بأن حدد له تشريعاً معيناً للسلوك في طبقته، كما أعطى أفراد الطبقة الواحدة وسائل تعينهم على الاتحاد في العمل ضد كل استغلال أو استبداد؛ ثم هيأ نظام الطبقات أيضاً مهرباً من الطغيان أو الدكتاتورية العسكرية اللذين لا محيص عن أحدهما بديلاً للأرستقراطية، وأتاح لبلد حرم الاستقرار السياسي بسبب ما قاساه من مئات الغزوات والثورات أتاح له نظاماً واستقراراً في شؤونه الاجتماعية والخلقية والثقافية، لم ينافسه فيهما بلد آخر إلا الصين؛ ولقد طرأ على الدولة مئات التغيرات الفوضوية، لكن البراهمة احتفظوا باستقرار المجتمع بفضل نظام الطبقات، وبهذا احتفظوا بالمدنية وزادوا منها ونقلوها إلى الخلَف، واحتملتهم الأمة صابرة، بل احتملتهم فخورة بهم، لأنه لم يغب عن إنسان واحد أنهم في النهاية هم القوة الحاكمة التي ليس للهند عنها محيص.

صفحة رقم : 823
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الهند وجيرانها -> حياة الشعب -> الأخلاق والزواج

الفصل الثالث
الأخلاق والزواج

"ذارما" - الأطفال - زواج الأطفال - فن الحب - الزنا - الحب
الشعري - الزواج - الأسرة - المرأة - حياتها العقلية - حقوقها -
"البردة" - السوتي (أي موت الزوجة لموت زوجها) - الأرملة
إذا ما انقرض من الهند نظام الطبقات، تحتم أن يطرأ على الحياة الخلقية فيها طور طويل الأمد تسوده الفوضى، لأن التشريع الخلقي في هذه البلاد قد ارتبط بنظام الطبقات ارتباطاً يكاد لا يكون له انفصام، والأخلاق عندهم هي "ذارما"- أي أنها هي قواعد السلوك في الحياة لكل إنسان كما تحددها له طبقته؛ فلأن تكون هندوسي المذهب، فليس معنى ذلك اعتناقك لعقيدة بقدر ما هو اتخاذك مكاناً معيناً في نظام الطبقات، وقبولك "الذارما" أي الواجبات التي تترتب على مكانك ذاك، وفق ما تقضي به التقاليد والقوانين؛ ولكل مكان من ذلك النظام التزاماته وقيوده وحقوقه، ولا مندوحة للهندوسي الورع أن يسلك حياته ملتزماً تلك الالتزامات والقيود والحقوق، واجداً فيها قناعة الراضي بالطريق الذي مهد له لكي يسير فيه، ولا يطوف بباله قط أن يجاوز حدود طبقته إلى طبقة أخرى؛ جاء في كتاب "بهاجافادجيتا"(98): "خير لك أن تؤدي عملك المقسوم لك أداء سيئاً من أن تؤدي عملاً مقسوماً لغيرك أداء حسناً"؛ إن "ذارما" للفرد من الناس هي بمثابة النمو الطبيعي للبذرة- تحقيق مرسوم الطريق لطبيعة كامنة فيها وقضاء مكتوب عليها(99)، ولقد بلغ هذا التصور للأخلاق من الرسوخ في القدم مبلغاً جعل من المتعذر على الهندوس جميعاً ومن المستحيل على الكثرة الغالبة منهم أن ينظروا إلى أنفسهم نظرة لا تجعلهم أعضاء طبقة معينة، تهديهم وتقيدهم وقوانينها؛ وفي ذلك يقول
صفحة رقم : 824
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الهند وجيرانها -> حياة الشعب -> الأخلاق والزواج

مؤرخ إنجليزي : "يستحيل تصور المجتمع الهندي بغير نظام الطبقات"(100).

وإلى جانب "ذارما" الخاصة بكل طبقة على حدة؛ نرى الهندوسيين يعترفون "بذارما" عامة، أي التزامات تلتزم بها جميع الطبقات، وتتضمن قبل كل شئ احتراماً للبراهمة وتقديساً للبقر(101)؛ ويأتي بعد ذلك في الأهمية واجب النسل، ففي تشريع "مانو" ما يلي(102): "النسل وحده يكمل الرجل، فهو يكمل إذا ما أصبح ثلاثة- شخصه وزوجه وابنه"؛ فليس الأبناء حسنة اقتصادية لآبائهم فحسب، يعولونهم في شيخوختهم بغير أدنى تردد في هذا الواجب؛ بل هم إلى جانب ذلك سيمضون في عبادة الأسرة لأسلافها، ويقدمون لأرواح هؤلاء الأسلاف طعاماً آناً بعد آن، حتى لا تفنى أرواحهم إذا امتنع عنها الطعام(103)، وبناء على ذلك لم يعرف الهنود ضبط النسل، وعد الإجهاض جريمة تساوي في فداحتها جريمة قتل برهمي(104)، نعم كان يحدث أحيانا أن تقضي الأمهات على الأجنة(105)، لكن ذلك كان نادر الوقوع، لأن الوالد كان يسره أن ينسل الأبناء، ويفخر إذا كان له منهم عدد كبير؛ وإن حنان الشيوخ على الصغار بين الهنود لمن أجمل ظواهر المدنية الهندية(106).
ولم يكد الطفل عندهم يشهد النور حتى كان يأخذ أبواه في التفكير في زواجه، لأن الزواج- في النظام الهندي- إجباري للجميع، والرجل الأعزب طريد الطبقات، ليس له في المجتمع مكانه ولا اعتبار، وكذلك بالنسبة للفتاة إن طال بها الأمد عذراء بغير زواج، فذلك عار أي عار(107) على أن الزواج لم يكن يترك لأهواء الفرد يختار من يشاء، أو لدفعة الحب تدفع العاشق إلى زواج من يهوى، بل كان الزواج عندهم أمراً حيوياً تهتم له الجماعة كلها والجنس كله، فيستحيل أن يوكل أمره إلى العاطفة بما لها من قصر بعواقب الأمور، أو إلى المصادفة تجمع من شاءت بمن شاءت(108) فلا بد أن يتولى الوالدان أمر زواج الوليد قبل أن تستولي عليه حمى الرغبة
صفحة رقم : 825
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الهند وجيرانها -> حياة الشعب -> الأخلاق والزواج

الجنسية فتقذف به إلى زواج مصيره في نظر الهنود- إلى خيبة الرجاء واليأس المرير: ولقد أطلق "مانو" اسم "زواج الجانذارفا" على الزيجات التي تتم باتفاق الزوجين، ووصف أمثال هؤلاء وصفاً شائناً إذ وصفهم بأنهم وليدو الشهوة؛ نعم إن التشريع يبيح مثل هذا الزواج، لكن الزوجين عندئذ يوشكان ألا يجدا عند الناس شيئاً من الاحترام .
ولقد أدى النضوج المبكر بين الهنود، الذي يجعل البنت في سن الثانية عشرة مساوية لزميلتها في أمريكا في سن الرابعة عشرة أو الخامسة عشرة، إلى خلق مشكلة عويصة في النظام الاجتماعي والخلقي فهل الأفضل أن يدبر الزواج بحيث يطابق سن النضوج الجنسي، أم الأفضل أن يرجأ- كما في أمريكا- حتى يبلغ الرجل نضوجه الاقتصادي؟ والظاهر أن الحل الأول للمشكلة يؤدي إلى ضعف البنية في أبناء الأمة(110) ويزيد من عدد السكان زيادة سريعة لا تتمشى مع مقتضيات الظروف، ويضحي بالمرأة تضحية تكاد تكون تامة في سبيل النسل؛ وأما الحل الثاني فيؤدي إلى مشكلة أخرى وهي التأخير الذي تأباه الطبيعة، وإلى كبح الرغبة الجنسية كبحاً يؤدي إلى حبوطها، كما يؤدي إلى الدعارة والأمراض السرية؛ ولقد آثر الهنود لأنفسهم زواج الأطفال على اعتبار أنه أهون الشرين، وحاولوا أن يخففوا من أخطاره بأن يجعلوا بين الزواج وبين إثماره فترة تبقى فيها العروس مع والديها حتى يتم نضجها (111)؛ هذا عندهم نظام اجتماعي قديم، ومن قدمه جاءت قداسته، وإنما نبتت جذوره بادئ ذي بدء في رغبة الناس في منع التزاوج بين الطبقات تزاوجاً قد تسببه مجرد الجاذبية الجنسية العابرة(112) ثم ازداد في نفوس الناس
صفحة رقم : 826
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الهند وجيرانها -> حياة الشعب -> الأخلاق والزواج

قوة فيما بعد، بسبب أن المسلمين الغزاة، الذين لا تعرف الرحمة إلى قلوبهم سبيلاً حتى لو لم يكونوا غزاة فاتحين، كانت ديانتهم لا تحرم عليهم أن يسبوا النساء المتزوجات ليكن لهم إماء(113)؛ وأخيراً اتخذ النظام شكله الجامد الذي جعله تصميماً عند الأبوين على وقاية ابنتهما من استثارة الذكور لحساسيتها الجنسية.
والدليل على أن هذه الحساسية عند البنت كانت مرهفة إلى حد ما، وعلى أن الذكر قد يعهد إليه أداء وظيفته البيولوجية لأقل مثير يثير شهوته، ظاهر في أدب العشق عن الهنود؛ فكتاب "كاما سوترا" ومعناها "مذهب الشهوة" هو أشهر كتاب من بين مجموعة كبرى كلها تعبر عن اشتغال عقولهم إلى حد ملحوظ بفنون العلاقة الجنسية في صورتيها الجسدية والعقلية؛ ويؤكد لنا مؤلف الكتاب أنه كتبه "وفق المبادئ التي جاءت في الكتاب المقدس لفائدة العالم؛ وكاتبه هو فاتسيابانا، كتبه عندما كان يحيا حياة طالب ديني في بنارس، ولا يعينه شئ في الدنيا سوى التأمل في ذات الله"(114) ويقول هذا الناسك : "إن من يهمل فتاة، ظناً منه أنها أكثر حياء من أن تكون موضع صلة جنسية، تزدريه هذه الفتاة نفسها وتعده حيواناً يجهل طبيعة ما يدور في عقل المرأة"(115) ويصور لنا "فاتسيابانا" صورة جميلة لفتاة عاشقة(116) لكنه يتجه بمعظم حكمته إلى تصوير فن الأبوين في التخلص منها بالزواج، وفن الزواج في إشباع رغبات جسدها.
ولا يجوز لنا أن نفرض بأن الحساسية الجنسية عند الهنود وقد انتهت بهم إلى إباحية أكثر من الحد المألوف عند غيرهم؛ فقد أقام زواج الأطفال سداً في وجه العلاقات الجنسية السابقة للزواج؛ والعقوبات الدينية الصارمة التي كانوا ينذرون بوقوعها ليحملوا الزوجة على الوفاء لزوجها، جعلت الزنا أصعب جداً وأندر جداً مما هو عليه في أوربا أو أمريكا؛ وكان الزنا في الأعم الأغلب مقصوراً على المعابد؛ ففي الأصقاع الجنوبية كانت رغبات الرجل الشهواني
صفحة رقم : 827

قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الهند وجيرانها -> حياة الشعب -> الأخلاق والزواج

تشبعها له من كن يطلق عليهن "خادمات الله" طائعات في ذلك أوامر السماء، وما خادمات الله- أو "دفاداس" كما يسمونهن- إلا العاهرات؛ وفي كل معبد في "تامل" مجموعة من "النساء المقدسات" اللائي يستخدمن المعبد أول الأمر في الرقص والغناء أمام الأوثان، ثم من الجائز أن يستخدمن بعد ذلك في إمتاع الكهنة البراهمة؛ وبعض هؤلاء النسوة- فيما يظهر- قد قصرن حياتهن على عزلة المعابد وكهانها، وبعضهن الآخر قد وسع من نطاق خدماته بحيث يشمل كل من يدفع أجراً لمتعته، على شريطة أن يدفعن لرجال الدين جزءاً من كسبهن عن هذا الطريق، وكان كثير من زانيات المعابد- أو فتيات الرقص- يقمن بالرقص والغناء في الحفلات العامة والاجتماعات الخاصة، على نحو ما يفعل فتيات "الجيشا" في اليابان؛ وكان بعضهن يتعلمن القراءة، فيكن وسيلة أحاديث ثقافة في المنازل حيث لا تجد الزوجة ما يشجعها على القراءة، ولا يسمح لها بمخالطة الأضياف، وهؤلاء الفتيات القارئات شبيهات بمن كن يسمين
hetairai عند اليونان؛ ويحدثنا نص مقدس أنه في سنة 1004 م كان في معبد الملك الكولي "راجا راجا" في تانجور أربعمائة امرأة من "خادمات الله" ؛ وأكسب الزمان هذه العادة صبغة الجلال، فلم ير فيها أحد ما يتنافى مع الأخلاق؛ حتى إن السيدات المحترمات كن آناً بعد آن يهبن ابنة إلى مهنة العهر في المعابد، بنفس الروح التي يوهب بها الابن إلى الكهنوت(117)، ويصف "ديبوا"- في أول القرن التاسع عشر- معابد الجنوب بأنها في بعض الحالات كانت "تتحول إلى بيوت للدعارة ولا شئ غير هذا" ، وكانت عامة الناس تطلق على "خادمات الله"- بغض النظر عن مهمتهن في بداية الأمر- اسم الزانيات، ويستخدمونهن على هذا الأساس؛ ولو أخذنا بقول هذا "الأب" الكهل، الذي لم يكن أمامه ما يبرر أن يتعصب للهند فيما يكتب، علمنا أن :
صفحة رقم : 828

قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الهند وجيرانها -> حياة الشعب -> الأخلاق والزواج

"واجباتهن الرسمية تتألف من الرقص والغناء داخل المعابد مرتين كل يوم ... وكذلك في الاحتفالات العامة كلها؛ وهن يؤدين الرقص أداء رشيقاً إلى درجة مرضية، على الرغم من أن طريقة الرقص تثير الشهوة وليس في إشارتهن شئ من الوقار؛ وأما غناؤهن فيكاد كله يتألف من أشعار فاحشة تصف ما مر في تاريخ آلهتهم من حوادث الإباحية الجنسية"(118).
في هذه الظروف التي يسودها عهر المعابد وزواج الأطفال، لم يبق أمام ما نسميه "بالحب الشعري" إلا أضيق الفرص؛ نعم إن التفاني المثالي الذي يبديه أحد الجنسين تجاه الآخر، له آثاره الظاهرة في الأدب الهندي- مثال ذلك ما نراه في أشعار "شاندي داس" و "جاياديفا"- لكنه في الأغلب يتخذ رمزاً للروح تسلم زمامها لله؛ أما في الحياة الواقعة، فأكثر ما تظهر فيه هذه الروح هو تفاني الزوجة في زواجها تفانياً كاملاً؛ وأحيانا ترى شعرهم الغزلي من الطراز الخيالي السامي كالذي يصوره شعراؤنا المحافظون على تقاليد الأخلاق المتزمتة من أمثال "تنسن" و "لنجلفو" ، وأحياناً أخرى تراه من الطراز الجسدي الحسي كالذي نعرفه في عصر اليصابات(119)؛ فهذا أديب منهم يوحد بين الدين والحب، ويرى الجانبين معاً متمثلين في نشوة الدين ونشوة الحب؛ وهذا أديب آخر يذكر قائمة من ثلاثمائة وستين عاطفة مختلفة تملأ قلب المحب، ويعد الأشكال المختلفة التي رسمتها أسنانه على جسد حبيبته، أو يصف كيف أخذ يزين نهدي حبيبته برسوم أزهار من معجون الصندل العبق؛ وكذلك يصف لنا مؤلف قصتي "نالا" و "داما يانتي" في ملحمة "ماهابهاراتا" آهات المحبين الحزينة وشحوبهم كأحسن ما تراه عند الشعراء الجوالين في فرنسا(120).

لكن أمثال هذه الأهواء المتقلبة لم يركن إليها نادراً في تقرير الزواج في الهند؛ ولقد أباح "مانو" ثمانية صنوف من الزواج، كان أدناها في القيمة الخلقية هو الزواج بالاغتصاب والزواج "بالحب" ؛ وأما الزواج بالشراء فهو
صفحة رقم : 829
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الهند وجيرانها -> حياة الشعب -> الأخلاق والزواج

الصورة المقبولة على أنها الطريقة المعقولة لتدبير الزواج بين رجل وامرأة؛ فالمشرع الهندي من رأيه أن صور الزواج التي تنبني على أسس اقتصادية هي في نهاية الأمر أسلم الصنوف عاقبة(121)، وفي أيام "دبوا" كانت العبارة الهندية التي تعنى "يتزوج" ، والعبارة التي تعني "يشتري زوجة" "عبارتين مترادفتين" .
وأحكم الزواج زواج يدبره الوالدين مراعين فيه كل قواعد الزواج من داخل أو من خارج، فالشاب ينبغي أن يتزوج داخل طبقته الاجتماعية، لكنه يختار زوجته من خارج مجموعته العائلية(123)؛ وله أن يتزوج من زوجات كثيرات لكن واحدة منهن فقط يكون لها السيادة على الأخريات، ويشترط فيها أن تكون من طبقته الاجتماعية؛ على أن الأفضل- في رأي مانو- أن يقتصر الزوج على زوجة واحدة وكان على الزوجة أن تحب زوجها في تفان ُيصبّره على المكاره، وأما الزوج فلم يكن ينتظر منه أن يبدي لزوجته حباً شعرياً، بل حماية أبوية(126).
كانت الأسرة الهندية من الطراز الأبوي الصميم، فالوالد هو السيد الكامل السيادة على الزوجة والأبناء والعبيد(127) وكانت المرأة مخلوقاً جميلاً يحب،
صفحة رقم : 830
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الهند وجيرانها -> حياة الشعب -> الأخلاق والزواج

لكنها أحط منزلة من الرجل؛ تقول أسطورة هندية: أن "تواشتري" المبدع الإلهي، حين أراد في البداية أن يخلق المرأة وجد أن مواد الخلق قد نفذت كلها في صياغة الرجل، ولم يبق لديه من العناصر الصلبة بقية، فإزاء هذه المشكلة طفق يصوغ المرأة من القصاصات والجذاذات التي تناثرت من عمليات الخلق السابقة، يختار قصاصة من هنا وجذاذة من هناك:
"فأخذ استدارة القمر، وتثنى الزواحف وتعلق المحلاق وارتعاش الكلأ ودقة قصبة الغاب وازدهار الزهور وخفة أوراق الشجر وانخراط خرطوم الفيل ونظرات الغزال وتجمع النخل وخلاياه، وبهجة أشعة الشمس المرحة وبكاء السحاب وتقلب الريح وجبن الأرنب وزهو الطاووس وطراوة صدر الببغاء، وصلابة جلمود الصخر، وحلاوة العسل، وقسوة النمر، ووهج النار الدافئ وبرودة الثلج وثرثرة أبي زريق، وهديل الحمام، ونفاق الكركي ووفاء الشكرافاكا، ومزج كل هذه العناصر مزجاً صنع منه المرأة ثم وهبها للرجل"(129) لكن على الرغم من هذه العدة كلها، لم يكن للمرأة في الهند ألا أسوأ الحظوظ؛ فمكانتها العالية التي بلغتها في العصور الفيدية، زالت عنها بتأثير نفوذ الكهنة وبفعل المثل الذي رسمه المسلمون؛ فترى الروح العامة في "تشريع مانو" موجهة ضدها في عبارات تذكرنا بمرحلة أولى من مراحل اللاهوت المسيحي: "إن مصدر العار هو المرأة، ومصدر العناء في الجهاد هو المرأة، ومصدر الوجود الدنيوي هو المرأة، وإذاً فإياك والمرأة "(130) وفي فقرة أخرى تقرأ : "إن المرأة لا تقتصر قدرتها على تضليل الأحمق عن جادة السبيل في هذه الحياة، بل هي كذلك قادرة على تضليل الحكيم؛ فهي تستطيع أن تمسك بزمامه وأن تخضعه لشهوته أو لغضبته" (131) ولقد نص التشريع على أن المرأة طوال حياتها ينبغي أن تكون تحت إشراف الرجل، فأبوها أولاً وزوجها ثانياً وابنها ثالثاً(132)، وكانت الزوجة تخاطب زوجها في خشوع قائلة له: "يا مولاي" و "يا سيدي" بل "يا إلهي" وهي تمشي خلفه

صفحة رقم : 831
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الهند وجيرانها -> حياة الشعب -> الأخلاق والزواج

بمسافة إن مشيا على مرأى من الناس، وقلما يوجه إليها هو كلمة واحدة (133) وينتظر من المرأة أن تبدي إخلاصها بخدماتها في كل المواقف، بإعدادها للطعام، وبأكلها لما يتبقى بعد أكل زوجها وأولادها، وبضمها لقدمي زوجها إذا حانت ساعة النوم(124) يقول مانو: "إن الزوجة الوفية ينبغي أن تخدم ... سيدها كما لو كان إلهاً، وألا تأتي شيئاً من شأنه أن يؤلمه، مهما تكن حالته، حتى إن خلا من كل الفضائل"(135) أما الزوجة التي تعصي زوجها فمآلها أن تتقمص روحها جسد ابن آوى في خلقها التالي(136).
ولم يكن نساء الهند يتلقين تعليماً -كأخواتهن في أوربا وأمريكا قبل عصرنا هذا الحديث- إلا إن كن من سيدات الطبقة الراقية أو من زانيات المعبد(137)، ففن القراءة كان في عرفهم لا يليق بامرأة؛ ذلك لأن سلطانها على الرجال لا يقوى به، ثم هو يؤدي إلى نقص فتنتها؛ فيقول "طاغور" على لسان "شترا" في إحدى مسرحياته: "إن المرأة يسعدها أن تكون امرأة فقط- أن تلف نفسها حول قلوب الرجال بابتسامتها وتنهداتها وخدماتها وملاطفاتها؛ فماذا يجدي عليها العلم وجليل الأعمال؟"(138) وليس من حقها أن تلم بكتب الفيدا(139)، ففي الماهابهاراتا: "إذا درست المرأة كتب الفيدا كانت هذه علامة الفساد في المملكة" ، ويروي المجسطي عن أيام "تشاندرا جوبتا": "إن البراهمة يحولون بين زوجاتهم- ولهم زوجات كثيرات- وبين دراسة الفلسفة، لأن النساء إن عرفن كيف ينظرن إلى اللذة والألم، والحياة والموت نظرة فلسفية، أصابهن مس من جنون، أو أبين بعد ذلك أن يظللن على خضوعهن"(141).
صفحة رقم : 832
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الهند وجيرانها -> حياة الشعب -> الأخلاق والزواج

ثلاثة أشخاص في تشريع مانو لا يجوز لهم أن يملكوا شيئاً : الزوجة والابن والعبد، فكل ما يكسبه هؤلاء يصبح ملكاً لسيد الأسرة(142)؛ على أنه يجوز للزوجة أن تحتفظ بملكية المهر والهدايا التي جاءتها عند زواجها، وكذلك يجوز لأم الأمير أن تحكم البلاد في مكان ابنها حتى يبلغ الرشد(143)؛ ومن حق الرجل أن يطلق الزوجة لخيانتها الزوجية، لكن الزوجة لا تستطيع أن تطلق زوجها لأي سبب من الأسباب(144)، وفي مقدور الزوج إذا ما شربت زوجته الخمر أو إذا مرضت أو إذا شقت عليه عصا الطاعة أو كانت مسرفة أو شكسة، أن يتزوج من غيرها في أي وقت شاء (لا أن يطلقها)؛ على أن في "التشريع" فقرات توحي بالرفق المستنير في معاملة المرأة: فلا يجوز ضربهن "حتى بزهرة" ولا يجوز مراقبتهن مراقبة تجاوز الحدود في صرامتها، لأن دهاء مكرهن عندئذ يجد سبيلاً للشر، وإذا أحببن جميل الثياب فمن الحكمة أن تشبع فيهن ما أحببن "لأن الزوجة إذا حرمت أنيق الثياب فلن تثير في صدر زوجها ميلاً إليها" على حين أنه "إذا زينت الزوجة زينة بهيجة، اكتسب المنزل كله مسحة الجمال"(145) ، ويجب أن تخلى الطريق للمرأة كما تخليه للكهول والكهنة، والواجب أن يطعم "الحاملات والعرائس والكواعب قبل سائر الأضياف"(146) ولئن فات المرأة عندهم أن تحكم باعتبارها زوجة، فلها أن تحكم بوصفها أما، وإن كانت المرأة أما لأطفال كثيرين، استحقت عند الناس أعظم العطف والتقدير؛ فحتى تشريع مانو الذي يؤيد سيطرة الوالد في الأسرة، ينص على أن "الأم أولى بالتوقير من ألف والد"(147).
ولاشك أن دخول الأفكار الإسلامية كان عاملاً على تدهور مكانة المرأة في الهند بعد العصر الفيدي، فقد جاءت إليها عادة "البردة" (أي الستار)- وهي عزل النساء المتزوجات- مع الفرس والمسلمين، ولذلك فهي أقوى جذوراً في شمال البلاد منها في الجنوب؛ ولكي يحمي الأزواج الهنود
صفحة رقم : 833

قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الهند وجيرانها -> حياة الشعب -> الأخلاق والزواج

زوجاتهم من المسلمين- وهذا عامل من عدة عوامل- فقد اصطنعوا نظام "البردة" وتمسكوا به في تزمت بلغ من شدته أن المرأة المحترمة لا تستطيع أن تبدي نفسها لغير زوجها وأبنائها، ولا يمكنها الانتقال خارج دارها إلا مستورة بقناع سميك؛ حتى الطبيب الذي يعالجها ويجس نبضها، لا مندوحة له عن أداء واجبه خلال ستار(148)؛ وإنه لمن الخروج على القواعد الخلقية في بعض الأوساط أن تسأل عن زوجة غيرك أو أن تتحدث وأنت ضيف إلى سيدات البيت الذي يضيفك(149).
كذلك عادة إحراق الأرامل على الكومة التي احترق فيها أزواجهن جاءت إلى الهند من خارج، ويقول عنها "هيرودوت" أنها كانت عادة جارية بين السُّكَّيت القدماء وأهل تراقيا؛ ولو كان لنا أن نصدقه في روايته، إذن لعلمنا أن زوجات الرجل من أهل تراقيا كن يقتتلن تسابقاً على امتياز القتل على قبر الزوج(150)، ولعل هذه الشعيرة قد هبطت إلى الهنود من عادة قديمة كادت تشمل شعوب العالم البدائية كلها، وهي التضحية بواحدة أو اكثر من زوجات الأمير أو الغني، أو من خليلاته، والتضحية معها بطائفة من عبيده، وغير ذلك مما لابد من تقديمه قرباناً إثر وفاته، وذلك ليعنى هؤلاء بالميت في الحياة الآخرة(151)؛ ويذكرها كتاب "إتارفا فيدا" على أنها عادة قديمة؛ أما "رج فيدا" فيذكر لنا أن هذه العادة في العصر الفيدي كانت قد خف شأنها حتى أصبحت محصورة في مطالبة الأرملة بالرقاد على كومة الحطب التي أعدت لزوجها لحظة قبل إحراق جثته(152).
ثم تعود قصيدة "ماهابهاراتا" فتصف هذه العادة الاجتماعية وصفاً يدل على عودتها كاملة بغير شعور من الناس بفداحة ما يفعلون، وهي تذكر أمثلة
صفحة رقم : 834
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الهند وجيرانها -> حياة الشعب -> الأخلاق والزواج

كثيرة لهذه العادة ثم تضع للناس قاعدة عامة مؤداها أن الأرملة الطاهرة لا تحب أن تحيى بعد زوجها، بل تراها تدخل النار فخورة بصنيعها(153)، وكانوا في هذه المناسبات يحرقون جسد الزوجة في حفرة من الأرض، أو يدفنونها حية، كما كان يحدث بين قبيلة "تلوج" في الجنوب(154)؛ ويروي لنا سترابو أن عادة قتل الزوجة بعد موت زوجها كانت شائعة في الهند أيام الإسكندر، وأن قبيلة "كاثي"- وهي قبيلة تسكن البنجاب- اتخذت من هذه العادة قانوناً حتى لا تدس زوجة لزوجها السم فتقتله(155) ولا يذكر "مانو" عن هذه العادة شيئاً؛ ولقد عارضها البراهمة أول الأمر، لكنهم عادوا فقبلوها، وأخيراً خلعوا عليها قداسة دينية تحميها من العبث، وذلك بأن جعلوها مرتبطة بأبدية الرابطة الزوجية: فالمرأة إذا ما تزوجت رجلا كان عليها أن تظل زوجته إلى الأبد، وستعود إلى الارتباط الزوجي به في حياته المقبلة(156)؛ وهذه الملكية المطلقة من الزوج لزوجته، اتخذت في "راجستان" صورة ما يسمونه "جوهور" وهي عادة تقضي على الرجل من أهل راجبوت، إذا ما أصابه نوع معين من الهزيمة، أن يضحي بزوجاته قبل أن يتقدم هو إلى الموت في ساحة القتال(157)؛ وانتشرت العادة في حكم المغول انتشارا واسعاً على الرغم من كراهية المسلمين لها، ولقد فشل ملوك المسلمين، حتى "أكبر" بكل نفوذه، في زحزحة هذه العادة من النفوس، وحاول "أكبر" ذات مرة أن يثني عروساً هندية عن تقديم نفسها طعاماً للنار على كومة الحطب التي أحرقت خطيبها الميت، وتوسل إليها البراهمة بما يؤيد رجاء الملك، لكن العروس أصرت على التضحية فلما دنت منها السنة اللهب، وكان "دانيال"- ابن "أكبر"- عندئذ ماضيا في إقناعها بالعدول، إجابته قائلة: "كفى، كفى"؛ وحدث كذلك لأرملة أخرى أن رفضت مثل هذه التوسلات بالإقلاع عن التضحية بنفسها، ووضعت إصبعها في شعلة مصباح حتى التهمتها النار،
صفحة رقم : 835

قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الهند وجيرانها -> حياة الشعب -> الأخلاق والزواج

ولكونها أمسكت عن إظهار ألمها بأية علامة من علاماته، فقد عبرت عن ازدرائها لأولئك الذين نصحوها بالإقلاع عن إحراق نفسها جرياً مع الطقوس(158)؛ وفي "فيجاياناجار" كان قتل الزوجة هذا يتخذ صورة جمعية، فلا يكتفي فيه بقتل زوجة واحدة أو عدد قليل من زوجات الأمير أو القائد بعد موته، بل كان لابد لكل زوجاته أن يتبعنه إلى الموت؛ ويروى لنا "كونتي" أن "الرايا" أو الملك قد اختار ثلاثة آلاف من زوجاته البالغ عددهن اثني عشر ألفاً، ليكن مقربات له "على شرط أن يحرقن أنفسهن مختارات عند موته، وأن ذلك ليعد شرفاً عظيماً لهن"159) وأنه من العسير علينا أن نحكم إلى أي حد كانت الأرملة الهندية في عصور الهند الوسطى راضية النفس عن هذه العادة بقوة التأثير الديني والعقيدة، وبقوة الرجاء في أن تعود إلى الاتحاد بزوجها في الحياة الآخرة.

وأخذت "السوتي"- قتل الزوجة بعد موت زوجها- تقل شيئاً فشيئاً كلما ازدادت الهند اتصالاً بأوربا، ولو أن الأرملة لم تزل تعاني صعاباً كثيرة، فما دام الزواج قد ربط المرأة بزوجها رباطاً أبدياً، فإن زواجها مرة ثانية بعد موت زوجها كان يعد جريمة فادحة، ومن نتائجه المحتومة أن يحدث للزواج اضطراباً في حياته المقبلة، وعلى ذلك كان لابد للأرملة وفق قانون البرهمي أن تظل بغير زواج وأن تحلق شعرها وتحيى حياتها (إذا لم تؤثر لنفسها القتل في نار زوجها) معنية بأطفالها ومشتغلة بأعمال البر والإحسان(160) ولم يكن يحكم على الأرملة بالفقر، بل الأمر على عكس ذلك، إذ كان لها الحق الأول في أملاك زوجها(161) غير أن هذه القواعد لم تجد قبولاً إلا عند النساء المحافظات على التقاليد من نساء الطبقتين العليا والوسطى- وهؤلاء نسبتهن ثلاثون في المائة من مجموع السكان- وأما المسلمون والسيخ والطبقات الدنيا فقد أهملوا تلك القواعد إهمالاً تاماً(162) والرأي عند الهنود هو أن هذه العذرية الثانية التي تصطنعها الأرملة عندهم شبيهة بامتناع الراهبات في المسيحية عن الزواج
صفحة رقم : 836
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الهند وجيرانها -> حياة الشعب -> الأخلاق والزواج

ففي كلتا الحالين ترى طائفة من النساء يرفضن الزواج ويكرسن حياتهن لأعمال الإحسان
صفحة رقم : 837
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الهند وجيرانها -> حياة الشعب -> آداب السلوك والعادات والأخلاق

الفصل الرابع
آداب السلوك والعادات والأخلاق
الاحتشام الجنسي - الصحة - الملبس - المظهر - رقة الفن
عند الهنود- سيئات وحسنات - الألعاب - الأعياد - الموت

إن العقل الساذج قد يصعب عليه التصوير بأن هؤلاء الناس الذين قبلوا نظماً اجتماعية مثل زواج الأطفال وعهر المعابد وقتل الزوجة بعد موت زوجها، هم كذلك غاية في رقة الحاشية والاحتشام والمجاملة؛ فلو غضضت النظر عن عدد قليل هن زانيات المعابد، لوجدت البغاء نادراً في الهند، وألفيت العفة الجنسية مصونة إلى حد يستوقف النظر؛ يقول "دبوا" الذي لا يعطف على الهنود في كتابته: "لابد من الاعتراف بأن آداب السلوك واحترام المعاملة الاجتماعية أوضح في قواعدها وأكثر اتباعاً لدى طبقات الهنود كلها، حتى أدنى هذه الطبقات منزلة، منها عند أي شعب أوربي له ما للهنود من مكانة اجتماعية"(164)؛ فالدور الرئيسي الذي يلعبه الجنس في الحديث وفي النكات عند الغربيين، لا تعرفه آداب السلوك بين الهنود، فهذه الآداب تحرم تحريماً قاطعاً كل علاقة علنية بين الرجال والنساء من شأنها أن تعبر عما بينهم من ارتفاع الكلفة، وهي تعتبر التلاصق البدني بين الجنسين في الرقص شيئاً مرذولاً قبيحاً(165)؛ وتستطيع المرأة الهندية أن تذهب خارج دارها أنى شاءت دون أن تخشى من أحد اعتداء أو إساءة(166)؛ بل إن الوضع في عين الشرقي على عكس ذلك؛ إذ يرى الخطر في ذلك واقعا كله على الجنس الآخر، فترى "مانو" يحذر الرجال: "إن المرأة نزاعة بطبعها دائماً أن تغري الرجل، ومن ثم كان واجباً على الرجل ألا يجلس في عزلة مع امرأة حتى إن كانت من أقرب ذوات قرباه" ولا ينبغي لرجل أن ينظر إلى أعلى من عقبي فتاة عابرة(167).
صفحة رقم : 838
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الهند وجيرانها -> حياة الشعب -> آداب السلوك والعادات والأخلاق

وتأتي النظافة في منزلة بعد العبادة مباشرة؛ فليست القواعد الصحية "بالخلق الأوحد" كما ظن أناتول فرانس، بل هي عندهم جزء حيوي من العبادة؛ ولقد سن "مانو" من عدة قرون تشريعاً يستلزم تهذيب البدن، ففي تعليماته مثلاً: "يجب على البرهمي أن يستحم في الصباح الباكر وأن يزن جسده وينظف أسنانه، ويغسل عينيه ويعبد الآلهة"(168) والمدارس الأهلية تجعل أولى المواد في برامجها آداب السلوك الطيب والنظافة الشخصية؛ فعلى الهندي ذي المكانة المحترمة أن يغسل جسده كل يوم وأن يغسل ثوبه الذي سيرتديه، وإنه ليقشعر تقززاً إذا ما لبس الثوب- بغير غسل- أكثر من يوم واحد(169) ويقول "سير وليم هيوبر": "إن الهنود يضربون المثل لنظافة الأجسام بين القبائل الأسيوية كلها، بل لعلهم يضربونه بين أجناس العالم بأسره ولقد أصبح وضوء الهنود يجري مجرى الأمثال"%= @قال هندي كبير- هو لاجبات راي- مخاطباً أوربا: "قبل أن تعرف الشعوب الأوربية شيئاً من قواعد الصحة بزمن طويل، وقبل أن تتبين فوائد فرجون الأسنان والاستحمام اليومي بزمن طويل، كان الهنود بصفة عامة يتبعون العادتين، فلم يكن في منازل لندن أحواض الاستحمام حتى عشرين سنة مضت، وكان فرجون الأسنان من أسباب الترف الكمالي"(171).@
وفيما يلي وصف عادات الأكل عند الهنود كما وصفها يوان شوانج منذ ألف وثلاثمائة عام:
"إنهم يندفعون إلى التطهر بدافع من أنفسهم، لا يجبرهم عليه أحد، فحتم عندهم أن يغتسل الآكل قبل وجبته، ويستحيل أن تقدم الفتات والبقايا لوجبة أخرى؛ ولا تستعمل أوعية الطعام لأكثر من أكلة واحدة، فما كان منها مصنوعاً من الخزف أو من الخشب يجب رميه بعد استعماله، وأما ما كان منها مصنوعاً من ذهب أو فضة أو نحاس أو حديد، وجب إعادة صقله؛ ولا يلبث الهنود بعد فراغهم من طعامهم أن يلوكوا مساويكهم لتنظيف أسنانهم، ولا يلمس أحد منهم أحداً إلا إذا اغتسلوا متوضئين"(172).
صفحة رقم : 839

قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الهند وجيرانها -> حياة الشعب -> آداب السلوك والعادات والأخلاق

فمن عادة البرهمي أن يغسل يديه وقدميه وأسنانه قبل كل وجبة وبعدها؛ وهو يأكل بأصابعه من الطعام الذي يقدم على ورقة من أوراق الشجر، اعتقاداً منه مما يتنافى وقواعد النظافة أن يأكل مرتين من طبق واحد، بسكين واحدة أو شوكة واحدة، حتى إذا ما فرغ من طعامه، غسل أسنانه سبع مرات(173) وفرجون أسنانه دائماً، لأنها غصن شجرة يقطعه لتوه لأن الهندي يعتقد أنه مما يسئ إلى سمعته أن ينظف أسنانه بفرجون من شعر الحيوان، أو أن يستعمل الفرجون الواحد مرتين(174)، فما أكثر السبل التي يستطيع بها الناس أن يحتقروا بعضهم بعضاً؛ ولا ينفك الهندي يمضغ ورقة من أوراق نبات الفلفل التي تصبغ الأسنان صبغة قاتمة لا يرضاها لنفسه الأوربي؛ بل لا يرضاها الهندي لنفسه، لكن هذه المضغة مضافة إلى الأفيون الذي يأكله حيناً بعد حين، يعوضانه عن امتناعه المألوف عن تدخين التبغ واحتساء المسكرات.
في كتب القانون الهندي نصوص صريحة على ما ينبغي اتباعه من القواعد الصحية في حيض المرأة(175)، وفي تلبية نداء الطبيعة؛ فلن تجد من القوانين ما هو أدق في ذكر التفصيلات وأرصن في طريقة التعبير، من تلك التي تذكر طقوس التبرز عند البراهمة(176) فالبرهمي إذا ما انخرط في سلك الكهنوت وجب ألا يستعمل في هذه الطقوس إلا يده اليسرى، ويجب أن يستخدم الماء في تنظيف هذه الأجزاء، وإنه ليعد بيته نجساً إذا دخله الأوربيون، لأنهم يكتفون في هذه العملية بالورق(177)؛ وأما المنبوذون وكثيرون من طبقة الشودرا فهم أقل من ذلك مراعاة للدقة، وقد يزيلون هذه الضرورة الطبيعية في أي مكان من جانب الطريق(178)، ولذا فإن الأحياء التي تسكنها هذه الطوائف يكتفي فيها من أجل الصحة العامة "بمجرور" مفتوح يشق في وسط الطريق(179).

وفي مناخ حار كمناخ تلك البلاد، تكون الثياب نافلة، فكنت ترى السائلين والأولياء الصالحين عراة الأجسام، وبذلك العرى أكملوا درجات
صفحة رقم : 840
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الهند وجيرانها -> حياة الشعب -> آداب السلوك والعادات والأخلاق

السلم الاجتماعي؛ ولقد تهددت إحدى طوائف الجنوب- كما فعلت قبيلة دوخوبور في كندا- بالهجرة إلى مكان آخر لو اضطر أفرادها إلى لبس الثياب(180)، وكانت العادة حتى أواخر القرن الثامن عشر- على الأرجح- أن يسير الجنسان في الهند الجنوبية (ولا يزال الناس على هذه الحال في بالي) عراة فيما يعلو أوساطهم(181)، وكان الأطفال يكتسون في الأغلب بخرزات وحلقات؛ ومعظم الناس يمشون حفاة الأقدام؛ وإن لبس الهندي الأصيل حذاء اتخذه من القماش، لأنه لا يجوز تحت أي ظرف أن ينتعل حذاء من الجلد؛ وعدد كبير من الرجال كان يكفيه من الثياب خرقة على ردفيه، فإذا أرادوا الزيادة من الغطاء لفوا أوساطهم بثوب، وطرحوا طرفه المرسل على الكتف اليسرى؛ وأما أهل راجبوت فكانوا يلبسون السراويل من كل لون وشكل، وصداراً مخروماً بمنطقة في أسفله، ولفاعاً حول الرقبة، وخفاً أو حذاء في القدم، وعمامة على الرأس؛ جاءتهم هذه العمامة مع المسلمين، ثم أخذها الهنود، وجعلوا من عاداتهم أن يلفوها لفاً متقناً حول رءوسهم في أشكال مختلفة تدل على طبقة لابسيها، لكنها في جميع الحالات تتألف من قماش حريري لا ينتهي طوله، تظل تفكه بغير نهاية كأنه مسحور، فقد يبلغ طول القماش في العمامة الواحدة إذا ما نشرته- سبعين قدماً(182)؛ ونساؤهم يلبسن أثواباً فضفاضة من حرير يسمونها "ساري" أو يلبسن "خداراً" من نسيج البلاد، يتلفعن به على أكتافهن، ويربطنه عند الوسط ربطاً وثيقاً، ثم يرسلنه على القدمين، وهن يتركن أحيانا جزءاً من أجسادهن البرونزية عارياً تحت الثديين؛ ومن عاداتهم كذلك أن يطلوا شعورهم بالزيت فيقيهم حرارة الشمس اللافحة؛ أما الرجال

فيفرقون شعورهم في الوسط، ثم يجمعون أطرافه في حزمة خلف الأذن اليسرى، وأما النساء فيضفرن بعض شعرهن حوية فوق الرأس، ثم يرسلن بقية الشعر إرسالاً، وكثيراً ما يزينه بالزهور، أو يغطينه بلفاع؛ فكان لرجالهم هندام لطيف، ولفتياتهم جمال، وجميعهم
صفحة رقم : 841
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الهند وجيرانها -> حياة الشعب -> آداب السلوك والعادات والأخلاق

ذوو قوام رائع(183)، وكثيراً ما يكون الهندي من عامة الناس بقماشة ثوبه على ردفيه أكثر في طلعته جلالا من دبلوماسي أوربي كامل الثياب الرسمية.
ومن رأى "بييرلوتي": "أنه مما لا يحتمل جدالا أن جمال الجنس الآري يبلغ ذروة كماله ورقته في الطبقة العليا في الهند"(184) وكلا الجنسين ماهر في استخدام الدهون للتجمل. ونساؤهم يشعرن كأنما هن عراة إذا كن بغير حلى، وعندهم أن خاتماً يوضع في جانب الأنف الأيسر يدل على الزواج، وفي معظم الحالات، تراهم يرسمون على الجبهة رمزاً يدل على العقيدة الدينية.

وإنه لمن العسير أن تنفذ خلال هذه الظواهر الخارجية لتصف أخلاق الهنود، لأن كل شعب فيه خليط من فضائل ورذائل، وترى الزائرين يختارون من هذه ما يروقهم بحيث يؤيدون وجهة نظرهم أو يزينون روايتهم بما يمتع. يقول "الأب دبو": "أظن أن أبشع رذائلهم هي الخيانة والخداع والغش... وهي صفات شائعة بين الهنود جميعاً... ويقيناً إنك لن تجد على الأرض شعباً يستخف بحلف اليمين أو شهادة الزور كما يستخفون(185). ويقول "وستر مارك": "لقد قيل أن الكذب هو الرذيلة القومية عند الهنود"(186). ويقول ماكولي: "الهنود مخادعون متلونون"(187) فالكذب إذا اقترف بنية حسنة كان مغتفراً في رأي "مانو" وفي مواضعات الحياة العملية؛ فمثلاً إن كان قول الصدق سيؤدي إلى موت كاهن، فالكذب عندئذ له ما يبرره(188) لكن "يوان شوانج" يروى لنا فيقول: "إنهم لا يعرفون الخدع ويرعون التزاماتهم التي أقسموا عليها... وهم لا يعتدون على ما ليس لهم متعمدين، ويتنازلون عن حقوقهم أكثر مما تقتضي العدالة"(189). ويقول "أبو الفضل" الذي لا يذهب بهواه من الهنود، يقول عن هنود القرن السادس عشر: "إنهم متدينون، محببون إلى النفوس، مرحون، محبون للعدل، زاهدون في الحياة، قادرون في التجارة، يدعون للصدق، ويعترفون بالجميل، ويتصفون بالوفاء
صفحة رقم : 842
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الهند وجيرانها -> حياة الشعب -> آداب السلوك والعادات والأخلاق

الذي لا حد له"(190).ويقول عنهم "كير هاردي" الأمين: "إن أمانتهم مضرب الأمثال، فهم يقترضون ويقرضون، لا تلزمهم في ذلك إلا كلمة غير مكتوبة، ويكادون لا يعرفون عدم الوفاء للدين" (191). ويقول قاض بريطاني في الهند: "لقد عرضت أمامي مئات القضايا التي كانت أملاك الفرد منهم وحريته وحياته متوقفة كلها على كذبة يقولها، ومع ذلك يأبى على نفسه الكذب"(192). فكيف لنا أن نوفق بين هذه الشهادات المتضاربة؟ يجوز أن يكون التوفيق بينها غاية في البساطة، وهو أن بعض الهنود أمين وبعضهم خائن.
وكذلك قل إن الهنود غاية في القسوة وغاية في الرقة في آن معاً؛ فلقد استحدثت اللغة الإنجليزية لفظة قصيرة قبيحة، استعارتها من تلك الجمعية السرية العجيبة- التي تكاد تكون طبقة اجتماعية- جمعية "الغادرين" التي ارتكبت في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر آلاف الجرائم الشنيعة، وذلك- كما قالوا- بغية تقديم هؤلاء الضحايا قرابين للإلهة "كالي"(193)، وأما الكلمة التي استحدثتها اللغة الإنجليزية لتدل على هؤلاء الغادرين فهي
Jhugs وقد كتب عنهم "فنسنت سمث" بلغة ليست غربية عن عصرنا هذا، فقال:
"هذه العصابات توشك ألا تخشى أحداً، وتكاد تتمتع بحصانة تامة... فلها دائماً حماة أقوياء؛ ولقد هبط الشعور الخلقي عند الناس هبوطاً بحيث لا تشهد فيهم أثراً للجزع من هذه الجرائم المدبرة التي يقترفها هؤلاء "الغادرون" ، وذلك أن هذه الفئة المجرمة قد انخرطت في مجرى أمور الحياة جزءاً منها لا يتجزأ؛ وقبل أن يفتضح سر هذه الجمعية، ... كان يستحيل عادة أن تظفر بدليل يثبت الجريمة على هؤلاء الغادرين، حتى الذين اشتهروا منهم بين الناس"(193أ).
ورغم ذلك فالجرائم في الهند قليلة نسبياً، وحوادث الاعتداء نادرة، فالعالم كله مجمع على أن الهنود من الوداعة بما أوشك أن يكون جبناً وضعفاً(194)
صفحة رقم : 843

قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الهند وجيرانها -> حياة الشعب -> آداب السلوك والعادات والأخلاق

فهم يجاوزون الحدود في التزلف وحسن الطوية، وقد طحنتهم رحى الغزو والحكومات المستبدة الأجنبية زمناً امتد وطال إلى حد افقدهم القدرة على أن يكونوا من المقاتلين الأشداء، إلا إذا فهمنا القتال بمعنى احتمال الألم، عندئذ ترى لديهم من الشجاعة ما لا يشق لهم فيه غيار(195) ولعل أبشع سيئاتهم عدم المبالاة والكسل، ولو أن هاتين الصفتين في أعين الهنود ليستا من السيئات، بل هما ضرورتان للمناخ ومواءمة أنفسهم لجو بلادهم، مثل حلاوة الطبع، التي تتصف بها الشعوب اللاتينية؛ والحمى الاقتصادية التي جن بها الأمريكيون؛ والهنود حساسون، عاطفيون، ذوو أهواء وأصحاب خيال؛ ولذلك تراهم أبرع في الفن والشعر منهم في الحكم والتنفيذ، فلئن وجدتهم يستغلون بعضهم بعضاً استغلالاً فيه من الشدة والعنف ما تلمسه في المستغلين بسواهم في أي بلد من بلاد العالم، فقد كانوا كذلك يتصفون بسخاء لا يقف عند حد، وهم أكرم أهل الأرض للضيف، إذا ما غضضت النظر عن الشعوب الهمجية الأولى(196) فحتى أعداؤهم لا يسعهم إلا الاعتراف بحسن مجاملتهم(197)؛ وهذا هو إنجليزي سمح الأخلاق يلخص لنا تجاربه الطويلة فيعزو للطبقات العليا من أهل كلكتا "آداب السلوك المهذبة ووضوح التفكير وكماله وشعور التسامح والتمسك بالمبدأ، مما يطبعهم بطابع السادة المهذبين في أي بلد من بلاد العالم"(198).

والعبقرية الهندية في عين الغريب عن البلاد تبدو حزينة سوداء، ولاشك في أن الهنود لم يصادفهم في الحياة كثير مما يبرر لهم المرح؛ وتشير محاورات بوذا إلى أنواع كثيرة مختلفة من اللعب، بينها لعبة شديدة الشبه جداً بلعبة الشطرنج%=@الشطرنج من القدم بحيث ترى نصف الشعوب القديمة تدعيه لنفسها، لكن الرأي السائد بين الباحثين في منشأ هذه اللعبة هو أنها نشأت في الهند، ويقيناً أننا نجد هناك أقدم شبيه لها مما لا يحتمل الجدل (حوالي سنة 750 م)، وكلمة شطرنج بالإنجليزية chess جاءت اشتقاقاً من الكلمة الفارسية شاه ومعناها ملك، وكلمة "كش الملك" بالإنجليزية Checkmate هي في الأصل "شاه مات" أي "مات الملك" ويسميه الفرس "شطرنج" ولقد أخذوا الكلمة واللعبة كليهما من الهند عن طريق العرب، وكانت اللعبة في الهند يطلق عليها اسم "شاطورنجا" ومعناها "الزوايا الأربع"- الفيلة والجياد والعربات الحربية والمشاة؛ ولا يزال العرب يسمون القطعة التي هي بالإنجليزية "Bishop" بالفيل(200).

ويروى لنا الهنود أسطورة ممتعة يعللون بها نشأة اللعبة، فتقول هذه الأسطورة أنه في بداية القرن الخامس من التاريخ الميلادي، أساء ملك هندي إلى أعوانه المعجبين به من طبقتي البراهمة والكشاترية، وذلك بأن أهمل مشورتهم ناسيا أن حب الشعب له هو أرسخ دعامة لعرشه، فأخذ برهمي- يدعى سيسا- على نفسه أن يفتح عيني الملك الشاب باختراعه لعبة تكون فيها القطعة التي تمثل الملك- رغم سموها عما عداها في الجلال والقيمة (كما هي الحال في حروب الشرق)- إن تركت وحدها تكاد تتجرد من كل حول وقوة، ومن ثم جاءت لعبة الشطرنج؛ ولقد أعجب الملك باللعبة إعجابا دعاه إلى أن يطلب إلى سيسا أن يحدد لنفسه ما شاء من جزاء، فطلب سيسا في تواضع حفنة من أرز، وإنما يحدد مقدارها بأن توضع حبة واحدة من الأرز في المربع الأول من مربعات رقعة الشطرنج، وعددها أربعة وستون، ثم يضاعف في كل مربع لاحق عدد حبات الأرز في المربع السابق، فوافق الملك من فوره، لكنه سرعان ما دهش إذ رأى أن وعده ذاك يقتضي أن يدفع كل ما في ملكه، فانتهز "سيسا" هذه الفرصة السانحة، وأشار إلى مولاه كيف يمكن الملك أن يضل عن جادة السبيل إذا ازدرى رأي مستشاريه.@ ، لكن لا هذه الألعاب التي أعقبتها تدل على فرح
صفحة رقم : 844
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الهند وجيرانها -> حياة الشعب -> آداب السلوك والعادات والأخلاق

ومرح كاللذين تراهما في ألعاب الغربيين؛ وأدخل "أكبر" لعبة "البولو" في الهند في القرن السادس عشر، التي جاءت على الأرجح من بلاد فارس ثم شقت طريقها عبر التبت إلى الصين واليابان(202) وكان يمتعه أن يلعب بلعبة "باشيسي" (وهي التي تسمى اليوم بارشيسي) في مربعات تحفر في أرض فناء القصر في "أجرا" وكان يتخذ اللعبة قطعاً حية من الإماء الجميلات(203).

وكانت الأعياد الدينية الكثيرة تخلع لوناً زاهياً على حياة الشعب، وأعظم هذه الأعياد "دورجا- بوجا" الذي يقام تكريماً للإلهة الكبرى أم الإلهات "كالي"، فيأخذ الهنود في الاحتفال والغناء عدة أسابيع قبل قدوم ذلك العيد؛ ثم يأتي يوم الحفل العظيم، فيسير موكب تحمل فيه كل أسرة تمثالاً للإلهة، ويتجه صوب الكنج حيث يلقون في النهر بتلك التماثيل الصغيرة، ثم يعود الجميع إلى ديارهم ليس على وجوههم شئ من علائم المسرح السابق(204).
صفحة رقم : 845
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الهند وجيرانها -> حياة الشعب -> آداب السلوك والعادات والأخلاق

وأما الاحتفال "المقدس" الذي كانوا يقيمونه تكريماً للإلهة "فاسانتي" فقد كان يصطبغ بشيء من المجون، إذ يحملون- وهم مشاة في صف- رموزاً للعلاقة الجنسية يهزونها هزات تمثل حركات العملية الجنسية(205) وكان وقت الحصاد في "شوتاناجبور" إيذاناً بإباحية خلقية "حيث يطّرح الرجال جانباً كل أوضاع التقاليد، ويخلع النساء عن أنفسهن كل حياء، ويترك للفتيات الحبل على الغارب يفعلن ما شئن بغير قيود" ؛ وهناك قبيلة تدعى "بارجاني"- وهي طبقة من الفلاحين تسكن تلال "راج محل"- تقيم احتفالاً زراعياً كل عام، يباح فيه لغير المتزوجات أن ينغمسن في علاقات جنسية حرة من كل ضابط أو نظام(206).
ولاشك أن في هذه الحفلات آثاراً من السحر الزراعي القديم، الذي كان مراده أن يزيد الأسر والحقول خصوبة؛ وأما حفلات الزواج التي تتمثل فيها أكبر حادثة في حياة الهندي، فقد كانت أكثر احتشاماً؛ وكم من أب جلب على نفسه الخراب في إعداد وليمة فاخرة بمناسبة زواج ابنته أو ابنه(207).

وفي ختام الحياة يقام حفل ختامي- هو الاحتفال بإحراق جثمان الميت، فقد كانت الطريقة المألوفة في أيام بوذا هي الطريقة الزرادشتية في تعريض الجثة لسباع الطير؛ إلا إن كان الميت علماً من الأعلام البارزين، فعندئذ تحرق جثته بعد موته، على كومة من الحطب، ثم يدفن رماده في ضريح يحفظ ذكراه(208) لكن هذه الطريقة في إحراق الجثة عمت الناس جميعاً فيما بعد، حتى لترى كل ليلة حطباً يجمع ويكوم لإحراق الموتى؛ وفي عصر "يوان شوانج" لم يكن من الحوادث النادرة أن يقبل الكهول المتقدمون في السن على الموت راضين، فيطلبوا إلى أبنائهم أن يسبحوا بهم في زورق على نهر الكنج إلى منتصفه حيث يقذفون بأنفسهم في نهر الخلاص(209) ومثل هذا الانتحار في ظروف معينة قد صادف في الشرق قبولاً أكثر مما صادف في الغرب؛ فكان مباحاً في عهد "أكبر" للكهول وللمرضى الذين لا رجاء
صفحة رقم : 846
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الهند وجيرانها -> حياة الشعب -> آداب السلوك والعادات والأخلاق

في شفائهم، ولأولئك الذين ابتغوا تقديم أنفسهم قرباناً للإلهة؛ وأن بين الهنود آلافاً كان آخر عبادتهم أن يجيعوا أنفسهم حتى الفناء، أو أن يدفنوا أنفسهم في الثلج، أو يهيلوا على أنفسهم روث البقر ثم يشعلوا فيه النار، أو أن يتركوا أنفسهم للتماسيح تلتهمهم عند مصب الكنج؛ ولقد نشأ بين البراهمة نوع من "الهاراكيري" (وهو اسم للانتحار عند اليابانيين يأتونه تخلصاً من عار) فينتحر المنتحر ليرد عن نفسه أذى أو يحتج على إهانة؛ وحدث أن فرض أحد ملوك راجبوت ضريبة على طبقة الكهنة، فطعن عدد كبير من أغنى البراهمة أنفسهم انتحاراً بين يديه، وهم يستنزلون عليه لعنة هي في زعمهم أبشع اللعنات وأشدها أثراً- ألا وهي لعنة يستنزلها كاهن وهو يلفظ الأنفاس الأخيرة؛ وتنص كتب التشريع البرهمي على أن من أراد أن ينتزع روحه بيده، عليه صيام ثلاثة أيام، وأما من حاول الانتحار وفشل في إنجازه فعليه أن يؤدي أقسى ما عرفوه من كفارة وتوبة(210)، إلا أن الحياة مسرح له مدخل واحد ومخارج عدة.

صفحة رقم : 847
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الهند وجيرانها -> فردوس الآلهة -> مقدمة

الباب الثامن عشر
فردوس الآلهة

لم تبلغ العقيدة الدينية من القوة أو الأهمية في أي قطر من أقطار الأرض ما بلغته في الهند؛ فلئن أباح الهنود لحكومات أجنبية أن تقوم عليهم مرة بعد مرة، فبعض السبب في ذلك هو أنهم لم يأبهوا كثيراً من ذا عسى أن يحكمهم أو أن يستغلهم- فسواء أكان هؤلاء من بني وطنهم أم من الأجانب- ذلك لأن الأمر الخطير في رأيهم هو الدين، لا السياسة؛ الروح لا البدن، هو الحيوات الآتية التي لا نهاية لعددها، لا هذه الحياة العابرة؛ وأن قوة الدين وتمكنها من أقوى الرجال بأساً لتظهر جلية في اصطناع "أشوكا" حياة القديسين، وفي إقبال " أكبر" على الديانة الهندية إقبالاً كاد يكون تاماً؛ وهانحن أولاء في عصرنا هذا نرى أن من وحد أجزاء الهند أمة واحدة رجل أقرب إلى القديسين منه إلى رجال السياسة.
صفحة رقم : 848
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الهند وجيرانها -> فردوس الآلهة -> الشطر الثاني من تاريخ البوذية

الفصل الأول
الشطر الثاني من تاريخ البوذية
البوذية في أوجها- البلاغان - "ماهايانا" - البوذية
والرواقية والمسيحية - تدهور البوذية - انتشارها في
سيلان، وبورما، وتركستان، وتبت، وكمبوديا، والصين، واليابان
بلغت البوذية أوج رفعتها في الهند بعد موت "أشوكا" بمائتي عام؛ وقد كانت الفترة التي ارتفعت فيها البوذية من "أشوكا" إلى "هارشا" فترة صعود بمعان كثيرة، صعود في الدين والتعليم والفن؛ غير أن البوذية التي سادت لم تكن بوذية بوذا؛ والأقرب إلى الصواب أن نقول في وصفها أنها بوذية تلميذه الثائر "صَجاذا" الذي قال للرهبان عند سماعه بموت أستاذه : "كفى يا سادة! كفوا عن البكاء وعن الرثاء! فلقد تخلصنا من "سامانا" العظيم، لقد أسأمنا أن يقال لنا: هذا يجدر بكم وهذا لا يجدر، أما الآن ففي مقدورنا أن نصنع ما شاء لنا هوانا، وأما ما لا يصادف من نفوسنا هوى، فلن يلزمنا أحد على أدائه"(1).

وأول ما أوحت لهم حريتهم أن يصنعوه هو أن ينشقوا أحزاباً؛ فلم يمض على موت بوذا قرنان من الزمان، حتى انقسم تراثه ثمانية عشر مذهباً متبايناً فأما أتباع البوذية في جنوب الهند وجزيرة سيلان، فقد استمسكوا حيناً بمذهب صاحب العقيدة في بساطته وصفائه؛ وقد أطلق على هذه الشعبة من مذهبه فيما بعد اسم "هنايانا" ومعناها "البلاغ الأصغر" ؛ فقد عبدوا بوذا باعتباره معلماً عظيماً، لا إلهاً؛ وكان كتابهم المقدس هو النصوص المكتوبة باللغة "الباليّة" التي تبسط العقيدة في صورتها القديمة ؛ وأما في الأرجاء الشمالية من الهند والتبت ومنغوليا والصين واليابان،فالبوذية التي سادت هي التي يطلق عليها اسم "ماهايانا" ومعناها "البلاغ الأكبر" الذي رسم حدوده ونشر
صفحة رقم : 849
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الهند وجيرانها -> فردوس الآلهة -> الشطر الثاني من تاريخ البوذية

دعوته "مجلس كانِشْكا" ؛ فأعضاء هذا المجلس، وهم من اللاهوتيون الموهوبين (من الوجهة السياسية) قد أعلنوا ألوهية بوذا وأحاطوه بالملائكة والقديسين، واصطنعوا تقشف "اليوجا" الذي عرف في "باتانجالي" وأصدروا باللغة السنسكريتية مجموعة جديدة من المراسيم المقدسة التي على الرغم من قبولها بعد حين قصير للشقشقة الميتافيزيقية والاسكولاتية إلا أنها قد أعلنت وأيدت عقيدة دينية أقرب إلى نفوس الناس من الصورة السوداء المتشائمة المتزمتة التي عرفت في "شاكيا موني".

كان مذهب "ماهايانا" بوذية خففت من حدتها آلهة وطقوس وأساطير برهمية، ولاءمت بين نفسها وبين حاجات قبائل التتار في "كوش" والمنغول في التبت، الذين بسط عليهم "كاتشكا" سلطانه؛ فقد صور ذلك المذهب جنة فيها بوذيون كثيرون، كان أحبهم إلى عامة الناس "أميدا بوذا" المخلص؛ وهذه الجنة وجهنم التي تقابلها كانتا ثواباً أو عقاباً لما يأتيه الناس على هذه الأرض من خير أو شر؛ وهذان العاملان الرادعان كان لهما أثر في تحويل بعض جنود الملك من رقابة سلوك الناس إلى خدمات أخرى؛ وأعظم القديسين في هذا اللاهوت الجديد هم فئة "بوذا بساتوا" ومعناها "بوذا المستقبل" الذين امتنعوا باختيارهم عن القيام بالنرفانا (ومعناها هنا التخلص من العودة إلى ولادة جديدة) التي كانت من حقهم وفي مقدورهم، وذلك لكي يولدوا في حياة بعد حياة، فيساعدوا غيرهم من الناس في هذه الدنيا والاهتداء إلى سواء السبيل وهؤلاء القديسون (مثلهم مثل نظائرهم في مسيحية البحر الأبيض المتوسط- سرعان ما ظفروا بحب الناس لهم حتى كاد عبادهم والمعجبون بهم من رجال الفن يزحمون بهم وبتماثيلهم مدافن العظماء؛ وازدهرت في البوذية كما ازدهرت في مسيحية العصور الوسطى- بل لعلها ظهرت في
صفحة رقم : 850
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الهند وجيرانها -> فردوس الآلهة -> الشطر الثاني من تاريخ البوذية

البوذية في تاريخ أسبق - قدسية الآثار الباقية من السلف، واستخدم الماء المقدس، والشموع، والبخور، والمسبحة، والثياب الكهنوتية، ولغة الكهنوت الميتة، والرهبان والراهبات وقص الشعر والفردية مما تقتضيه حياة الأديرة والاعتراف والصيام أياماً معينة، وتدشين القديسين والتطهير والصلاة والدعاء للموتى؛ ولقد أصبح كتاب "ماهايانا" بالقياس إلى "هنايانا" أي البوذية الأولى ما كانت الكاثوليكية بالنسبة إلى الرواقية والمسيحية الأولى؛ فقد أخطأ بوذا- كما أخطأ لوثر- في ظنه أن شعائر الطقوس الدينية العلمية يمكن أن تحل محلها المواعظ والدروس الأخلاقية؛ وما أقرب الشبه بين نجاح البوذية حين امتلأت بالأساطير والمعجزات والاحتفالات والقديسين الذين يتوسطون بين الأرض والسماء بالنجاح الذي لقيته الكاثوليكية قديماً وحاضراً، لما فيها من زخرف وتمثيل، وانتصارها على المسيحية الأولى والبروتستنتية الحديثة في بساطتها الخالية من كل زخرف.
وإيثار عامة الناس لتعدد الآلهة والمعجزات والأساطير، هذا الإيثار نفسه الذي قضى على بوذية بوذا، قضى كذلك في نهاية الأمر على بوذية " البلاغ الأكبر " نفسها في الهند؛ ذلك لأن البوذية- ودعنا هاهنا نتحدث بحكمة المؤرخ التي تشرق بعد فوات الحوادث- إذا كانت لا تأخذ كل هذا الذي أخذته من الديانة الهندية ومن أساطيرها وطقوسها وآلهتها، فما كان ليمضى وقت طويل قبل أن تنمحي الفوارق بين الديانتين ولا يبقى من مميزات الواحدة من الأخرى إلا قليل جد قليل؛ وإذن تمتص إحداهما الأخرى شيئاً فشيئاً، والتي يتاح لها أن تطغي على الأخرى هي التي تكون أعمق الديانتين جذوراً
صفحة رقم : 851
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الهند وجيرانها -> فردوس الآلهة -> الشطر الثاني من تاريخ البوذية

وأقربها إلى نفوس الناس وأكثرها مالاً وأعزها سنداً سياسياً؛ لهذا أخذت الخرافة- ولعلها أن تكون من جنسنا البشري بمثابة دماء الحياة- أخذت تتدفق من العقيدة الأقدم إلى العقيدة الأحدث تدفقاً سريعاً، حتى رأينا الظواهر الجنسية الانفعالية نفسها التي كانت من طقوس العقائد "الشاكتية" تلتمس لنفسها مكاناً في طقوس البوذية واستعاد البراهمة في صبر ودأب نفوذهم ورعاية السلطان لهم شيئاً فشيئاً؛ وأخيراً جاء نجاح الفيلسوف الشاب "شانكارا" في استعادة الكلمة العليا لكتب الفيدا، وجعلها أساسا للتفكير الهندي، بمثابة الخاتمة لزعامة البوذيين العقلية في الهند.
وجاءت الضربة القاضية من الخارج، وكانت البوذية نفسها هي التي هيأت لهذه الضربة سبيلها، على وجه من الوجوه؛ ذلك أن حسن السمعة التي كان يتمتع بها أتباع بوذا، واسمهم "سانفا" قد اجتذب إلى تلك الفئة- بعد عهد أشوكا- صفوة أهل "مجازا" وبهذا قضى على خير دماء القوم أن تفنى في طائفة من رجال الدين لا تتزوج ولا تجاهد في الحياة، فشكا بعض المحبين لوطنهم، حتى في أيام بوذا نفسه، من أن الراهب "جوتاما" لا يسمح للآباء أن ينسلوا الأبناء، ويؤدي بالأسر إلى الانقراض(5)؛ وكان من نتائج انتشار البوذية ونظام الأديرة في السنة الأولى من التاريخ المسيحي، أن امتصت من الهند عصارة الرجولة، وتآمر ذلك العامل مع عامل الانقسام السياسي، فأدى العاملان إلى فتح أبواب الهند للغزو الخارجي بغير عناء؛ ولما جاء العرب وأخذوا على أنفسهم أن ينشروا وحدانية بسيطة رواقية النزعة، نظروا في ازدراء إلى الرهبان البوذيين الكسالى الذي يفتحون أيديهم للرشوة ويتجرون بالمعجزات؛ وحطموا الأديرة وقتلوا ألوف الرهبان، ونفروا كل حريص على حياته من نظام الرهبنة في الدير، فأما من أفلتوا من يد القتل من هؤلاء الرهبان، فقد عادوا واندمجوا في الديانة الهندية التي كانت الأرومة الأولى
صفحة رقم : 852

قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الهند وجيرانها -> فردوس الآلهة -> الشطر الثاني من تاريخ البوذية

لهم؛ وفتحت هذه الديانة القديمة الأصلية صدرها تستقبل هؤلاء الزنادقة التائبين، وهكذا "قتلت البرهمية البوذية بضمة أخوية"(6).
ولا عجب فقد كانت البرهمية دائماً متسامحة، تجادل البوذية وغيرها من مئات المذاهب إبان ارتفاعها وسقوطها، بل قد تطيل معها الجدال، لكنك لن تجد في تاريخها كله مثلاً واحداً للاضطهاد، بل الأمر على نقيض ذلك، إذ ترى البرهمية قد يسرت سبيل العودة لهؤلاء الخارجين عليها أن اعترفت ببوذا إلهاً (اعتبرته مجسداً للإله فشنو) وأقلعت عن التضحية بالحيوان، وقبلت في صميم طقوسها مذهب البوذيين في تقديس حياة الحيوان بأسره؛ وهكذا أخذت البوذية تختفي في هدوء وسلام من الهند، إبان خمسة قرون كانت خلالها نهباً لعوامل التدهور البطيء .
لكنها في ذلك الوقت نفسه كانت تكسب لنفسها كل ماعدا الهند من العالم الآسيوي تقريباً؛ فانتشرت أفكارها وأدبها وفنها في سيلان وشبه جزيرة الملايو في الجنوب، وفي التبت وتركستان في الشمال، وفي بورما وسيام وكمبوديا والصين وكوريا واليابان في الشرق؛ وعلى هذا النحو امتصت كل هذه الأصقاع- ماعدا الشرق الأقصى- ما استطاعت امتصاصه وهضمه من المدنية؛ بنفس الطريقة التي امتصت بها أوربا وروسيا الحضارة من الرهبان الرومانيين والبيزنطيين في العصور الوسطى؛ فمعظم هذه الأمم قد بلغ ذروة ثقافته بحافز من البوذية؛ ولقد لبثت "أنورا ذابورا" في سيلان من منذ عهد أشوكا حتى انحلال البوذية في القرن التاسع، إحدى المدن الكبرى في العالم الشرقي، وظل الناس هناك ألفي عام يعبدون شجرة التين المقدسة عند
صفحة رقم : 853
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الهند وجيرانها -> فردوس الآلهة -> الشطر الثاني من تاريخ البوذية

البوذيين، وكان المعبد القائم على قمة جبال كاندي كعبة يحج إليها مائة وخمسون مليوناً من البوذيين في آسيا .
ولعل البوذية في بورما أخلص ما بقي من ألوان البوذية من الشوائب الدخيلة، وكثيراً ما يدنوا رهبانها من المثل الأعلى الذي ضربه بوذا؛ واستطاع أهل بورما البالغ عددهم ثلاثة عشر مليوناً من الأنفس أن يبلغوا بفضل تعاليم أولئك الرهبان مستوى من العيش أعلى مما في الهند بدرجة ملحوظة(7)؛ وكشف "سفن هيدن" و "أورل شتاين" و "بليوت" من جوف الرمال في بلاد التركستان مئات من المحفوظات البوذية وغيرها من شواهد الثقافة التي ازدهرت هناك منذ عهد "كانشكا" حتى القرن الثالث عشر الميلادي.
وحدث في القرن السابع من تاريخنا المسيحي أن أقام المحارب المتنور "سترونج- تسانجامبو" حكومة قادرة في التبت وضم إليها ينبال، وبنى مدينة "لهاسا" لتكون عاصمة لها، وهيأ لها طريق الغنى بجعلها محطاً وسطاً في التجارة بين الصين والهند، ودعا طائفة من الرهبان البوذيين من الهند لينشروا البوذية والتعليم في شعبه، وعندئذ ترك الحكم أربعة أعوام أنفقها في تعلم القراءة والكتابة؛ فكأنما كان فاتحة عهد ذهبي في بلاد التبت؛ فأقيمت آلاف الأديرة في الجبال وعلى النجد الفسيح، ونشر كتاب تشريعي يضم الكتب البوذية، ويقع في ثلاثة وثلاثين وثمانمائة مجلد، حفظت للعلم الحديث كثيراً من أحوال هذه الكتب التي كانت قد ضاعت أصولها الهندية منذ زمن طويل(8)، وهاهنا، في هذه الصومعة التي أغلقت أبوابها دون العالم بأسره، راحت البوذية تتطور في شبكة معقدة من الخرافات والرهبنة والكهنوت، لا ينافسها في ذلك سوى
صفحة رقم : 854
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الهند وجيرانها -> فردوس الآلهة -> الشطر الثاني من تاريخ البوذية

أوربا في أوائل عصورها الوسطى؛ ولا يزال "دالاي لاما" (أي الكاهن الشامل لكل شيء) الذي اختفى في دير بوتالا العظيم الذي يطل على مدينة لهاسا، موضع عقيدة عند أهل التبت، بما تنطوي عليه نفوسهم من السذاجة الطيبة، بأنه تجسيد حي "لبوذا المستقبل" (بوذا المنتظر)(9)؛ وفي كمبوديا والهند الصينية تعاونت البوذية مع الديانة الهندية في تخطيط الإطار الذي قامت عليه روائع الفن في عصر هو من أغنى العصور في تاريخ الفن الشرقي؛ وهكذا ترى البوذية- مثل المسيحية- قد ظفرت بأعظم انتصاراتها خارج الأرض التي أنبتتها، وإنما ظفرت بتلك الانتصارات دون أن تريق نقطة واحدة من دماء.

صفحة رقم : 855
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الهند وجيرانها -> فردوس الآلهة -> الآلهة الجديدة

الفصل الثاني
الآلهة الجديدة
الديانة الهندية - براهما، فشنو، شيفا - كرشنا - كالي
الآلهة الحيوانية - البقرة المقدسة - تعدد الآلهة والوحدانية
لم تكن الديانة الهندية التي حلت محل البوذية ديانة واحدة، كلا ولا كانت مقتصرة على كونها عقيدة دينية؛ بل كانت خليطاً من عقائد وطقوس لا يشترك القائمون بها في أكثر من أربع صفات؛ فهم يعترفون بنظام الطبقات وبزعامة البراهمة، وهم يقدسون البقرة باعتبارها تمثل الألوهية على نحو تمتاز به من سواها، وهم يقبلون قانون "كارما" وتناسخ الأرواح، وهم يضيفون إلى آلهتهم الجديدة آلهة الفيدات؛ ولقد كان بعض هذه العقائد أسبق من عبادة الطبيعة التي جاءت بها الفيدا، كما ظلت قائمة بعد زوال تلك العبادة، وأما بعضها الآخر فقد نشأ من أن البراهمة كانوا يغضون أبصارهم عن ضروب من الطقوس والآلهة والعقائد لم ينص عليها كتابهم المقدس، بل تناقضه روح الفيدا مناقضة ليست باليسيرة؛ فأتيحت الفرصة لتلك العقائد أن تنضج في وعاء الفكر الديني عند الهنود، ومضت في نضجها ذاك حتى في الفترة العابرة التي ارتفعت فيها البوذية إلى مكان السيادة العقلية في البلاد.

كان آلهة العقيدة الهندية يتميزون بكثرة أعضائهم الجسدية التي يمثلون بها على نحو غامض قدرتهم الخارقة في العلم والنشاط والقوة؛ "فبراهما" الجديد كان له أربعة وجوه، وكان لـ "كارتكيا" ستة وجوه، ولـ "شيفا" ثلاثة أعين، ولـ "هندرا" ألف عين؛ وكل إله عندهم تقريباً كان له أربع أذرعة(10) وعلى رأس هذه المجموعة الجديدة من الآلهة "براهما" الذي كان له من الشهامة ما أبعده عن الميل مع الهوى، وهو سيد الآلهة المعترف له بتلك السيادة، على الرغم
صفحة رقم : 856
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الهند وجيرانها -> فردوس الآلهة -> الآلهة الجديدة

من أنه مهمل في شعائر العبادة الفعلية إهمال الملك الدستوري في أوربا الحديثة؛ و"براهما" و"شيفا" و"فشنو" هم الثلاثة الآلهة (لا الثالوث) الذي يسيطرون على الكون، وأما "فشنو" فهو إله الحب الذي كثيراً ما انقلب إنسانا ليتقدم بالعون إلى بني الإنسان؛ وأعظم من يتجسد فيه "فشنو" هو "كرشنا" ، وهو في صورته "الكرشنية" هذه، قد ولد في سجن وأتى بكثير من أعاجيب البطولة والغرام، وشفى الصم والعمي، وعاون المصابين بداء البرص، وذاد عن الفقراء، وبعث الموتى من قبورهم؛ وكان له تلميذ محبب إلى نفسه، وهو "أرجونا" ، وأمام "أرجونا" تبدلت خلقة "فشنو" حالاً بعد حال؛ ويزعم بعض الرواة أنه مات مطعوناً بسهم، ويزعم آخرون أنه قتل مصلوباً على شجرة؛ وهبط إلى جهنم ثم صعد إلى السماء، على أن يعود في اليوم الآخر ليحاسب الناس أحياءهم وأمواتهم(11).

الحياة، بل الكون كله، لها في رأي الهندي ثلاثة وجوه رئيسية: الخلق، والاحتفاظ بالمخلوق، ثم الفناء؛ ومن ثم كان للألوهية عنده ثلاث صور: براهما الخالق، وفشنو الحافظ، وشيفا المدمر؛ تلك هي "الأشكال الثلاثة" التي يقدسها الهنود أجمعين ماعدا الجانتيين منهم ؛ والناس منقسمون بحبهم طائفتين: إحداهما تميل إلى ديانة فشنو، والأخرى إلى ديانة شيفا؛ وكلتا العقيدتين بمثابة الجارتين المسالمتين، بل قد تتقدم كلتاهما بالقرابين في معبد واحد(13)، والحكماء من البراهمة- تتبعهم الأكثرية العظمى من سواد الناس- تكرم الإلهين معاً بغير تمييز لأحدهما؛ أما الفشنيون الأتقياء فيرسمون
صفحة رقم : 857
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الهند وجيرانها -> فردوس الآلهة -> الآلهة الجديدة

على جباههم كل صباح بالطين الأحمر علامة فشنو، وهي شوكة ذات أسنان ثلاث؛ وأما الشيفيون المخلصون لعقيدتهم فيرسمون ثلاثة خطوط أفقية على جباههم برماد من روث البقر، أو يلبسون "اللنجا"- رمز عضو الذكورة- ويربطونه على أذرعتهم أو يعلقونه حول أعناقهم(14).
وعبادة "شيفا" هي من أقدم وأعمق وأبشع العناصر التي منها تتألف الديانة الهندية؛ فيقدم لنا "سير جون مارشل" "دليلاً لا يأتيه الباطل" على أن عقيدة "شيفا" كانت موجودة في "موهنجو- دارو"، متخذة أحياناً صورة شيفا ذي الرءوس الثلاثة، وأحياناً أخرى صورة أعمدة حجرية صغيرة، يزعم لنا أنها ترمز لعضو الذكورة على نحو ما ترمز له عندهم بدائلها في العصر الحديث؛ وهو يخلص من ذلك إلى نتيجة هي أن "العقيدة الشيفية أقدم عقيدة حية في العالم كله" .

واسم الإله- أعني كلمة شيفا- لفظة أريد بها التخفيف من بشاعة هذا الإله، فالكلمة شيفا معناها الحرفي "العطوف" مع أن شيفا في حقيقة الأمر إله القسوة والتدمير قبل كل شئ آخر؛ هو تجسيد لتلك القوة الكونية التي تعمل واحدة بعد أخرى، على تخريب جميع الصور التي تتبدى فيها حقيقة الكون- جميع الخلايا الحية وجميع الكائنات العضوية، وكل الأنواع، وكل الأفكار وكل ما أبدعته يد الإنسان، وكل الكواكب، وكل شيء؛ ولم يسبق الهنود شعب قط في شجاعتهم في مواجهة الحقيقة التي هي عدم ثبات الأشياء على صورها ووقوف الطبيعة من كل شئ موقف الحياد، مواجهة صريحة ؛ولم يسبقهم شعب قط في اعترافهم اعترافاً واضحاً بأن الشر يتوازن مع الخير، والهدم
صفحة رقم : 858
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الهند وجيرانها -> فردوس الآلهة -> الآلهة الجديدة

يساير الخلق خطوة خطوة، وأن ولادة الأحياء بأسرها جريمة كبرى عقابها الموت؛ فالهندي الذي تعذبه آلاف العوامل من عثرة الحظ والآلام، يرى في تلك الألوان من التعذيب أثراً ينم عن قوة نشيطة يمتعها- فيما يظهر- أن تحطم كل ما أنتجه براهما، وهو القوة الخالقة في الطبيعة؛ إن "شيفا" ليطرب راقصاً إذا ما سمع نغمة العالم فأدرك منها عالماً لا يني يتكون وينحل ويعود إلى التكون من جديد.

ولكن كما أن الموت عقوبة الولادة، فكذلك الولادة تخييب لرجاء الموت؛ فالإله نفسه الذي يرمز للتدمير، يمثل كذلك للعقل الهندي تلك الدفعة الجارفة نحو التناسل الذي يتغلب على موت الفرد باستمرار الجنس؛ وهذه الحيوية الخلاقة الناسلة (شاكتي) التي يبديها شيفا- أو الطبيعة- تتمثل في بعض جهات الهند، وخصوصاً في البنغال، في صورة زوجة شيفا، واسمها "كالي" (بارفاتي، أو أوما أو درجا) وهي موضع عبادة في عقيدة من العقائد الكثيرة التي تأخذ بمذهب "الشاكتي" هذا؛ ولقد كانت هذه العبادة- حتى القرن الماضي- وحشية الطقوس كثيراً ما تتضمن في شعائرها تضحية بشرية، لكن الآلهة اكتفت بعدئذ بضحايا الماعز(17)؛ وهذه الآلهة صورتها عند عامة الناس شبح أسود بفم مفغور ولسان متدل، تزدان بالأفاعي وترقص على جثة ميتة؛ وأقراطها رجال موتى، وعقدها سلسلة من جماجم، ووجهها وثدياها تلطخها الدماء(18) ومن أيديها الأربعة يدان تحملان سيفاً ورأساً مبتوراً، وأما اليدان الأخريان فممدودتان رحمة وحماية؛ لأن "كالي- بارفالي" هي كذلك الإله الأمومة كما أنها عروس الدمار والموت؛ وفي وسعها أن تكون رقيقة الحاشية كما في وسعها أن تكون قاسية، وفي مقدورها أن تبتسم كما في مقدورها أن تقتل؛ ولعلها كانت ذات يوم إلهة أماً في سومر، ومن ثم جاءت إلى الهند قبل أن تتخذ هذا الجانب البشع من جانبيها(19) ولاشك أنها هي وزوجها قد اتخذا أبشع صورة ممكنة لكي يلقيا الرعب في نفوس الرعاديد من
صفحة رقم : 859
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الهند وجيرانها -> فردوس الآلهة -> الآلهة الجديدة

عبادها فيحتشموا، أو قد تكون هذه البشاعة كلها قد أريد بها أن يلقي الرعب في نفوس العباد فيجودوا بالعطاء للكهنة .

تلك هي أعظم آلهة الهندوسيين، لكنا لم نذكر إلا خمسة من ثلاثين مليوناً من الآلهة تزدحم بها مقبرة العظماء في الهند؛ ولو أحصينا أسماء هاتيك الآلهة لاقتضى ذلك مائة مجلد؛ وبعضها أقرب في طبيعته إلى الملائكة، وبعضها هو ما قد نسميه نحن بالشياطين، وطائفة منها أجرام سماوية مثل الشمس، وطائفة منها تمائم مثل "لاكشمي" (إلهة الحظ الحسن)، وكثير منها هي حيوانات الحقل أو طيور السماء؛ فالهندي لا يرى فارقاً بعيداً بين الحيوان والإنسان، فالحيوان روح كما للإنسان، والأرواح تمضي دواماً متنقلة من بني الإنسان إلى بني الحيوان، ثم تعود إلى بني الإنسان مرة أخرى؛ وكل هذه الصنوف الإلهية قد نسجت خيوطها في شبكة واحدة لا نهاية لحدودها، هي "كارما" وتناسخ الأرواح؛ فالفيل مثلاً قد أصبح الإله "جانيشا" واعتبروه ابن شيفا(21)، وفيه تتجسد طبيعة الإنسان الحيوانية، وكانت صورته في الوقت نفسه تتخذ طلسماً يقي حامله من الحظ السيئ؛ كذلك كانت القردة والأفاعي مصدر رعب، فكانت لذلك من طبيعة الآلهة؛ فالأفعى التي تؤدي عضة واحدة منها إلى موت سريع، واسمها "ناجا" كان لها عندهم قدسية خاصة؛ وترى الناس في كثير من أجزاء الهند يقيمون كل عام حفلاً دينياً تكريماً للأفاعي، ويقدمون العطايا من اللبن والموز لأفاعي "الناجا" عند مداخل جحورها(22)؛ كذلك أقيمت المعابد تمجيداً للأفاعي كما هي الحال في شرقي ميسور، وهناك في هذه المعابد تسكن جموع زاخرة من الزواحف، ويقوم
صفحة رقم : 860
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الهند وجيرانها -> فردوس الآلهة -> الآلهة الجديدة

الكهنة على إطعامها والعناية بها(23)؛ وللتماسيح والنمور والطواويس والببغاوات، بل والفئران حقها من العبادة(24).

وأكثر الحيوان قدسية عند الهندي هي البقرة، فنرى تماثيل الثيرة مصنوعة من كل مادة وفي شتى الأحجام تراها في المعابد والمنازل وميادين المدن؛ وأما البقرة نفسها فأحب الكائنات الحية جميعاً إلى الهنود، ولها مطلق الحرية في ارتياد الطرقات كيف شاءت، وروثها يستخدم وقوداً أو مادة مقدسة يتبركون بها، وبولها خمر مقدس يطهر كل ما في الجسم من نجاسة في الظاهر والباطن؛ ولا يجوز للهندي تحت أي ظرف أن يأكل لحمها أو أن يصطنع من جلدها لباساً يرتديه- فلا يصنع منه غطاء للرأس ولا قفازاً ولا حذاء؛ وإذا ماتت البقرة وجب دفنها بجلال الطقوس الدينية(25)، ولعل السياسة الحكيمة هي التي رسمت فيما مضى هذا التحريم احتفاظاً للزراعة بحيوان الجر حتى يسد حاجة السكان الذين يتكاثرون(26)، وقد بلغ عدد البقر اليوم ربع عدد السكان(27) ووجهة نظر الهندي في ذلك هي أنه ليس أبعد عن المعقول أن تشعر بالحب العميق للبقرة والمقت الشديد لفكرة أكلها، من أن تكن أمثال هذه المشاعر للحيوانات المستأنسة من قطط وكلاب، لكن الذي يبعث على السخرية المرة في الأمر هو عقيدة البراهمة بأن الأبقار لا يجوز ذبحها قط، وأن الحشرات لا يحل إيذاؤها قط، وأن الأرامل من النساء ينبغي أن يحرقن أحياء؛ فحقيقة الأمر هي أن عبادة الحيوان قد ظهرت في تاريخ الشعوب كلها، فإن جاز للإنسان أن يؤلمه الحيوان اطلاقاً، فالبقرة الرحيمة الهادئة حقها في هذا التقديس؛ ولا يجوز لنا أن نغلو في كبريائنا حين تأخذنا الدهشة لهذه المعارض الحيوانية من آلهة الهنود، فلنا كذلك إبليس عدن في صورة حية، والثور الذهبي في العهد القديم من الإنجيل، والسمك المقدس في سراديب الموتى، وحمل الله الوديع.
إن سر تعدد الآلهة هو عجز العقل الساذج عن التفكير فيما ليس
صفحة رقم : 861
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الهند وجيرانها -> فردوس الآلهة -> الآلهة الجديدة

مشخصاً؛ فأيسر عليه أن يفهم الأشخاص من أن يعقل القوى، وأن يفهم الإرادات من أن يتصور القوانين(28)، والظن عند الهندي هو أن حواسنا البشرية لا ترى من الحوادث التي تدركها سوى ظاهرها، ويعتقد أن وراء هذه الظواهر كائنات روحية لا حصر لعددها، يمكن إدراكها بالعقل لا بالحواس- على حد تعبير "كانت"؛ ولقد أدى تسامح البراهمة ذو المسحة الفلسفية، إلى الزيادة من ذخيرة آلهتهم حتى ازدادت كثرة على كثرة، وذلك أن الآلهة المحليين وآلهة القبائل المختلفة قد صادفت عند الهندي سهلاً ومرحباً، فقبلها وفسرها بأنها جميعاً تصور جوانب من آلهته الأصلية؛ فكل عقيدة يسمح لها بالدخول عندهم إن كان في مستطاعها أن تدفع الضريبة على ذلك؛ حتى كاد كل إله آخر الأمر أن يكون صورة أو صفة أو تجسيداً لإله آخر، ثم تناول العقل الهندي الرشيد كل هذه الآلهة فدمجها في إله واحد؛ هكذا تحول تعدد الآلهة إلى عقيدة بوحدة الوجود، أوشكت عندهم أن تكون توحيداً، والتوحيد بدوره أوشك أن يكون عندهم واحدية فلسفية؛ فكما يتوجه المسيحي الورع بالدعاء إلى العذراء، أو إلى قديس من آلاف القديسين ومع ذلك لا يتحول عن توحيده لله، بمعنى أنه لا يعترف إلا بإله واحد على أنه ذو الجلال الأسمى، فكذلك الهندي يتوجه بالدعاء إلى "كالي" أو "راما" أو "كرشنا" أو "جانيشا" دون أن يتطرق إلى ذهنه لحظة واحدة أن هذه آلهة لها السيادة العليا فترى بعض الهنود يتخذ من "فشنو" إلهاً أعلى، وبعضهم يتخذ من "شيفا" إلهاً أعلى، ويجعل فشنو أحد ملائكته؛ وإذا وجدت بين الهنود أقلية تعبد "براهما" فما ذلك إلا لأنه مجرد عن التشخص، ممتنع على الحواس، بعيد عن البشر، ولهذا السبب عينه ترى معظم الكنائس في البلاد المسيحية قد أقيمت تكريماً لمارية أو لأحد القديسين، وكان على المسيحية أن تنتظر حتى يجيئها فولتير فيقيم معبداً لله.

صفحة رقم : 862

قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الهند وجيرانها -> فردوس الآلهة -> العقائد

الفصل الثالث
العقائد
كتب "بيورانا" - عودة الكون بالتناسخ مرة بعد مرة
تقمص الروح في عدة أجساد - "كارما" - جوانبها
الفلسفية - الحياة باعتبارها شراً - الخلاص
ويمتزج بهذا اللاهوت المعقد، مجموعة معقدة من الأساطير فيها التخريب وفيها عمق الفكرة في آن معاً؛ فلما كانت كتب الفيدا قد دفنت في اللغة التي كتبت بها، ثم لما كانت فلسفة البراهمة الميتافيزيقية تجاوز حدود أفهام الناس، فقد نهض "فياسا" وآخرون في مدة تطاولت إلى ألف عام (من 500 ق.م إلى 500 م) وأنشئوا كتب "بيورانا"- ومعناها القصص القديمة- أنشئوها شعراً في أربعمائة ألف دوبيت (الدوبيت بيتان من الشعر) يعرضون فيها لعامة الناس حقيقة خلق العالم بصورتها الدقيقة، وما يطرأ عليه من مراحل الكون والفساد المتعاقبة على فترات دورية، ونسب الآلهة، وتاريخ عصر البطولة؛ وليست تدعي هذه الكتب لنفسها قالباً أدبياً ولا نظاماً منطقياً، ولا اعتدالاً في تقدير الأشياء بالأعداد، من ذلك مثلاً أنها تذكر عن الحبيبين "إرفاشي" و "بورورافاس" أنهما قضيا واحداً وستين ألف عام في سرور وغبطة (30)؛ لكنها مع ذلك أصبحت للديانة الهندية إنجيلاً ثانياً لوضوح لغتها وروعة قصصها وسلامة العقيدة التي تشرحها، كما أصبحت تلك الكتب للديانة الهندية مستودعاً عظيماً لخرافاتها وأساطيرها، بل وفلسفتها؛ فهناك على سبيل المثال قطعة من "فشنوبورانا" تعبر عن أقدم فكرة جالت برأس الهندي وما فتئت تعاوده على طول الزمن- وأعني بها الفكرة القائلة بأن استقلال الأفراد في ذوات منفصل بعضها عن بعض، وهم، وأن الحياة كلها حقيقة واحدة :
صفحة رقم : 863
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الهند وجيرانها -> فردوس الآلهة -> العقائد

"جاء "ربهو" بعد ألف عام.
إلى "نداغا" في مدينته ليزيده علماً.
فرآه خارج المدينة.

في نفس اللحظة التي كان الملك فيها على وشك الدخول بحشد كبير من الأتباع،
رآه واقفاً على معبده، معتزلاً بنفسه عن الزحام،
ذاوي العنق من أثر الصيام، وكان في طريقه عائداً من الغابة ومعه بعض الوقود والكلأ
لما رآه "ربهو" قصد إليه وحياه قائلاً:
"أيها البرهمي! فيم وقوفك هاهنا وحيداً؟"
فقال "نداغا" : "انظر إلى الحشد محيطاً بالملك
الذي يوشك أن يدخل المدينة؛ هذا هو علة وقوفي وحيداً"
فقال "ربهو" : "أي هؤلاء يكون الملك؟
ومن عسى أن يكون الآخرون؟
أنبئني فيبدو عليك أنك بالأمر عليم"
فقال "نداغا" : "إن من يركب الفيل الأحمر،عالياً برأسه كأنه قمة الجبل
هذا هو الملك، والآخرون هم تابعوه".
فقال "ربهو" : "إنك تشير إلى هذين، إلى الملك والفيل
دون أن تميز بينهما بفاصل
قل لي أين أجد الفاصل بين هذا وذاك؟
أريد أن أعلم أي هذين هو الملك، وأيهما يكون الفيل؟"
فقال "نداغا" : "الفيل أسفل، والملك من فوقه،
صفحة رقم : 864
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الهند وجيرانها -> فردوس الآلهة -> العقائد

من ذا الذي لا يعلم علاقة الحامل بالمحمول؟"
فقال "ربهو" : "علمني ذلك فقد أستطيع تعلمه"،
ما هذا الذي تشير إليه بقولك "أسفل" وبقولك "فوقه"؟
فوثب نداغا من فوره على المعلم وخاطبه قائلاً:
"هاأنذا أعلمك ما أردت أن تتعلمه مني،
أنا "أعلى" مثل الملك وأنت "أسفل" مثل الفيل،
وإنما أسوق لك هذا المثل لأعلمك"
فقال ربهو: "إذا كنت في موضع الملك، وأنا في موضع الفيل
فما أزال أطلب منك أن تنبئني: أينُّا أنت أينُّا أنا؟"
فما لبث نداغ أن جثا أمامه وأمسك بقدميه وقال:
"حقاً إنك "ربهو" أستاذي ...
بجوابك هذا عرفت أنك أنت شيخي قد أتى "
فقال "ربهو": "نعم، جئت لأعلمك
لأنك فيما سبق أبديت استعداداً لخدمتي،
أنا هو "ربهو" قد جئت إليك
وهذا الذي علمتك إياه اختصاراً-
وهو صميم الحقيقة العليا- يتلخص في نفي الثنائية من الوجود"

وبعد أن فرغ الشيخ "ربهو" من حديثه هذا مع نداغا، مضى لسبيله
ومن ثم أدار نداغا فكره- مهتدياً بهذا الدرس الرمزي الذي تعلمه- فركزه كله في اللاثنائية
صفحة رقم : 865
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الهند وجيرانها -> فردوس الآلهة -> العقائد

ومن ذلك الحين أخذ ينظر في الكائنات كلها فلا يجد فيها ما يفرق شيئاً منها عن نفسه
وبهذا شاهد براهما، وحقق الخلاص الأعظم.
في كتب "بيورانا" هذه، وفي أمثالها من آثار الهند في عصورها الوسطى، تقرأ نظرية عن الكون بعينها النظرية التي يقول بها العصر الحديث؛ فليس هناك خلق بمعنى التكوين بعد العدم، إنما هو كون يعقبه فساد أبد الدهر، هو نماء يعقبه ذبول، دورة بعد دورة؛ كهذا الذي تراه متمثلاً في كل نبات في العالم وكل حيوان؛ والذي يحفظ مراحل هذه السيرة فلا تقف دورتها، هو براهما- أو إن شئت فقل براجاباتي كما يسمى الخالق في هذه الكتب التي نحن الآن بصددها- براهما هو القوة الروحية التي تفعل ذلك، ولسنا ندري كيف بدأ العالم، إن كانت للعالم بداية؛ يجوز أن يكون براهما- كما تذهب كتب بيورانا- قد جعل بداية العالم بيضة ثم احتضنها حتى أفرخت؛ ويجوز أن يكون هذا العالم غلطة عابرة من الصانع، أو فكاهة رأى فيها قليلاً من تسلية(32)؛ وكل دورة- أو كالبا كما يسمونها- في تاريخ الكون منقسمة إلى عصور كبرى- ويسمون كل عصر منها ماهايوجا- طول الواحد منها 000ر320ر4 عام؛ ثم ينقسم كل "ماهايوجا" إلى أربعة "يوجات"- أي عصور "يطرأ على الجنس البشري خلالها تدهور تدريجي؛ ولقد مضت ثلاثة أعصر من "الماهايوجا"- أي العصر الأعظم- الحاضر، بلغ مداها 888ر888ر3 عام، ونحن الآن نعيش في العصر الرابع- ويسمونه "اليوجا الكالي" ومعناها عصر الشقاء؛ ومن هذه المرحلة الرابعة انسلخ 035ر5 عام، وبقى منها 965ر426عام، وعندئذ يصيب العالم موت من ميتاته الدورية، بعدها يبدأ براهما يوماً آخر من "أيام براهما" وما يومه إلا "كالبا" أي

دورة طولها 000ر000ر320ر4عام؛ وفي كل دورة "كالبية" من هذه الدورات يتطور الكون بفعل العوامل الطبيعية ماراً بالخطوات الطبيعية، وبفعل العوامل
صفحة رقم : 866
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الهند وجيرانها -> فردوس الآلهة -> العقائد

الطبيعية ماراً بالخطوات الطبيعية يعود إلى الانحلال، وفناء العالم كله لا يقل في يقينه عن موت فأر؛ وليس هناك غاية نهائية يتحرك كله في نظر الفيلسوف بأخطر من موت الفأر؛ وليس هناك غاية نهائية يتحرك نحوها الكون، أي ليس هناك "تقدم" بل كل ما هناك تكرار لا ينتهي(33).

وحدث إبان هذه العصور صغراها أن تحولت بلايين الأنفس من نوع إلى نوع ومن جسم إلى جسم ومن حياة إلى حياة في دورات من التناسخ تبعث الملل لتكرارها؛ فليس الفرد فرداً في حقيقة أمره، وإنما هو حلقة في سلسلة الحياة، وصفحة واحدة من تاريخ نفس من الأنفس؛ والنوع من الأحياء ليس في حقيقة أمره نوعاً قائماً بذاته، لأن الأنفس الحالّة في هذه الزهور أو هذه البراغيث ربما كانت أمس، أو ربما تكون غداً، أرواحاً من أرواح البشر؛ فالحياة كلها واحدة؛ وإذن فالإنسان إن هو إلا إنسان إلى حد ما؛ لأنه كذلك حيوان ، ولا تزال عالقة به نتف وأصداء من حيواته الدنيا الماضية، مما يجعله أقرب صلة بالحيوان منه إلى الحكيم من الناس؛ إن الإنسان جزء من طبيعة لا أكثر ، فليس هو من هذه الطبيعة مركزها ولا سيدها(34)، والحياة الواحدة في الفرد ليست إلا فصلاً واحداً من سيرة نفس واحدة، وليست هي كل ما تتألف منه هذه النفس؛ فكل صورة من صور الأحياء مصيرها التغير، وأما الحقيقة فدائمة وواحدة؛ والأبدان الكثيرة التي تحل فيها النفس واحداً بعد واحد، شبيه بالأعوام أو بالأيام في حياة الفرد الواحد، وقد تعلو بالنفس نحو النماء حيناً أو قد تهبط بها نحو الذبول حيناً آخر؛ فكيف يمكن لحياة الفرد الواحد، وهي على هذه الحالة من القصر في تيار الأجيال المتعاقبة العنيف الجارف، فكيف يمكن أن تشتمل على كل ما للنفس الفردة من تاريخ، أو أن تهيئ لها ما هي جديرة به من
صفحة رقم : 867
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الهند وجيرانها -> فردوس الآلهة -> العقائد

عقاب أو ثواب على شرها أو خيرها؟ وإذا فرضنا للنفس خلوداً، فكيف يجوز لحياة واحدة قصيرة أن تقرر مصيرها إلى الأبد؟

يقول الهندي إن الحياة لا يمكن فهمها إلا على افتراض أن كل مرحلة من مراحل وجود النفس تعاني العذاب أو تتمتع بالثواب، جزاء وفاقاً لما وقع من النفس في حياة ماضية من رذيلة أو فضيلة؛ إذ يستحيل على فعل صغير أو كبير، خير أو شرير، أن يمضى بغير أثر؛ إن كل شئ لا بد له من أثر يظهر ذات يوم، ذلك هو قانون "كارما"- ومعناه قانون الفعل- أو قانون السببية في دنيا الروح، وهو أسمى قوانين العالم وأبشعها؛ فإذا أقام إنسان العدل، وكان رحيماً دون أن يقترف خطيئة، فيستحيل أن يجيء جزاؤه في مرحلة واحدة فانية من مراحل الحياة، بل يمتد نطاقه إلى حيوات أخرى يولد فيها ليكون ذا مكانة أعلى وحظ أوفر، لو ظل على فضيلته الأولى؛ أما إن عاش حياته عيش الرذيلة، أعيدت ولادته في حياة تالية منبوذاً أو ابن عِرْس أو كلباً ، وقانون "كارما" هذا- مثل قانون القَدَر عند اليونان- هو فوق الآلهة والبشر معاً لأن الآلهة أنفسهم لا يستطيعون تغيير سننه التي يطّرد فعلها؛ أو إن شئت فقل ما قاله رجال اللاهوت، وهو أن "كارما" وإرادة الآلهة أو فعلها، شيء واحد بذاته(38)، لكن ليس "كارما" و "القدر" بشيء واحد، لأن "القدر" يتضمن عجز الإنسان عن تقرير مصير نفسه، أما "كارما" فتجعل الإنسان (إذا أخذنا كل حيواته جملة واحدة) خالق مصير نفسه؛ وليست الجنة والجحيم بخاتمة ينتهي عندها فعل "كارما" ، وهو سلسلة الولادات والميتات؛ نعم إن الروح بعد موت جسدها، يجوز
صفحة رقم : 868
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الهند وجيرانها -> فردوس الآلهة -> العقائد

أن ترسل إلى الجحيم لتلقى عذابها على جرم بعينه، أو أن ترسل إلى الجنة لتنعم بجزاء سريع على فشيلة بذاتها لكن يستحيل على روح أن تقيم في الجحيم، وقليل من الأرواح هي التي يسمح لها بالإقامة في الجنة إلى الأبد؛ ذلك لأن الروح لا بد لها بعد فترة تقضيها في الجنة أو الجحيم، أن تعود إلى الأرض من جديد، لتنفذ بحياة جديدة ما يقضي به عليها "كارما"
كان هذا المذهب صادقاً من الوجهة البيولوجية إلى حد كبير، فلا ريب في أننا حقاً تجسيد جديد لأسلافنا، وسنعود بدورنا فنتجسد من جديد في أبنائنا، وعيوب الآباء تهبط على الأبناء إلى حد ما(ولو أنها لا تهبط بالمقدار الذي يفرضه الجامدون الخيرون) حتى ولو بعد أجيال كثيرة؛ فقد كان "كارما" أسطورة بارعة في صرف الحيوان البشري عن القتل والسرقة والمماطلة والتقتير في العطايا، فضلاً عن أنها وسعت من نطاق الوحدة الخلقية والشعور بالواجب حتى شمل ذلك النطاق مراحل الحياة كلها، ومهدت أمام التشريع الخلقي سبيل التطبيق على نطاق أوسع رقعة وأكثر منطقاً مما وجده في أية حضارة
صفحة رقم : 869
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الهند وجيرانها -> فردوس الآلهة -> العقائد

أخرى، فالهنود الأخيار لا يقتلون الحشرات إذ وسعهم ذلك، " وحتى أولئك الذين يتواضعون منهم في طموحهم الخلقي يعاملون الحيوان معاملتهم لأخوة لهم أدنى شأناً، لا معاملتهم لكائنات أحط نوعاً سلطهم الله عليهم"(41)، وقد فسرت "كارما" للهنود- من الوجهة الفلسفية- كثيراً من الحقائق التي كانت تكون بغيرها غامضة المعنى أو مجحفة إجحافاً يوغر الصدور؛ فهذه الفوارق الأزلية التي تفرق بين أقدار الناس والتي تخيب آمال الناس منذ الأزل في المساواة والعدل؛ وهذه الشرور في صورها المختلفات التي تسود وجه الأرض وتصبغ بحمرة الدماء مجرى للتاريخ؛ وهذه الآلام التي تدخل حياة الإنسان مع ولادته ثم يصاحبه حتى وفاته؛ كل هذه وهذه وتلك بدت معقولة للهندي إذا ما انعقد في "كارما" ؛ ذلك لأن هذه الشرور وهذا الظلم وهذه الفوارق المتدرجة من الخبل العقلي إلى النبوغ، وهذه الدرجات من الفقر والغني، كل هذه نتيجة للحيوات الماضية وهي نتيجة لازمة تترتب على فعل قانون، إن رأيته ظالماً مدى حياة واحدة أو لحظة واحدة، فستراه أعدل ما تكون القوانين في نهاية الأمر كله ، فكارما إحدى الوسائل الكثيرة التي ابتكرها الإنسان لنفسه لتعينه على تحمل الشر صابراً، وعلى مواجهة الحياة متفائلاً؛ فالمهمة التي اضطلعت بها معظم الديانات وحاولت أداءها هي أن تفسر الشر وأن تشرح للناس نظاماً كونياً يبرر لهم أن يقبلوا الشر جزءاً منه، قبولاً إلا يكن مليئاً بالبِشْر، فحسبه أن يكون مصحوباً بسكينة الفؤاد، ولما كانت مشكلة الحياة الحقيقية ليست هي آلامها، لكنها الآلام التي تصادف من لا يستحقونها، فإن ديانة الهند تخفف من هذه المأساة البشرية بأن تخلع
صفحة رقم : 870
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الهند وجيرانها -> فردوس الآلهة -> العقائد

على الحزن والألم شيئاً من المعنى وقدراً من القيمة؛ فللروح- بناء على اللاهوت الهندي- هذا العزاء على الأقل، وهو أنها لا بد لها أن تتحمل نتائج فعلها وحدها دون أفعال سواها؛ فما لم تضجر الروح من الوجود كله جملة واحدة ، فستجد نفسها راضية عن الشر باعتباره عقاباً عابراً مؤقتاً، وسترقب تحقيق آمالها في ثوابها على ما أتت من فضيلة.
لكن الهنود في حقيقة الأمر يرتابون في قيمة الوجود كله جملة واحدة؛ ذلك أنه لما كانت البيئة ترهق قواهم إرهاقا، ولما كان الحاكم يذل قوميتهم إذلالاً، ويستغل مواردهم استغلالاً، فقد مالوا إلى النظر إلى الحياة على أنها عقوبة مُرة أكثر منها فرصة سانحة أو ثواباً يرتجى؛ فكتب الفيدا التي كتبها القوم وهم أشداء عند قومهم من الشمال، كانت في تفاؤلها لا تقل عما يكتبه اليوم أديبنا "وتمن"؛ ومضت خمسمائة عام، وظهر بوذا من هؤلاء القوم أنفسهم، لكنه أنكر قيمة الحياة؛ ثم مضت خمسة قرون أخرى، وظهرت كتب " بيورانا " فعبرت عن نظرة بلغت في تشاؤمهما حداً لم يبلغه متشائم في الغرب، إذا استثنينا لحظات شرودا من الشك الفلسفي ؛ لقد تعذر على الشرق- حتى تناوله أطراف الثورة الصناعية- أن يفهم هذه الحماسة التي يقبل بها الغرب على الحياة ، ولم يجد إلا سذاجة وطفولة في مشاغلنا التي لا تعرف الرحمة، ومطامعنا التي لا تقنع، ورسائلنا التي تحطم الأعصاب وتوفر العمل،
صفحة رقم : 871
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الهند وجيرانها -> فردوس الآلهة -> العقائد

وتقدمنا وسرعة سيرنا؛ لم يفهم الشرق من الغرب هذا الانغماس العميق في سطوح دون لبابها ، ولا هذا الرفض الماكر منه أن يواجه حقائق الوجود مواجهة صريحة؛ لكن الغرب في الوقت نفسه لم يستطع أن يسبر في الشرق التقليدي أغوار هذا السكون الهامد، ولا هذا "الركود" و "اليأس" ؛ إلا أن الحرارة لا تفهم البرودة.

"ياما" يوجه السؤال إلى "يودشتيرا" قائلاً: "ما أعجب شئ في العالم؟" فيجيبه "يودشتيرا": "أن يموت الإنسان في أثر الإنسان، وأن يرى الناس ذلك ثم ينطلق في سعيهم كأنهم من الخالدين"(44) وجاء في "الماهابهاراتا": "العالم مصاب بكارثة الموت، ومقيد في نشاطه بالشيخوخة، والليالي متتابعات، تأتي ثم تمضي، لا تتخلف أبداً؛ فإذا ما أيقنت أن الموت يستحيل عليه الوقوف، فماذا أرتجي من السير تحت غطاء من الحكمة"(45)؛ وتدعو "سيتا" في "رامايانا" لما رأت أن ثوابها على وفائها رغم ما يصادفها من إغراء ومحنة هو الموت ولا شئ غير الموت، تدعو قائلة:
لو كنت بوفائي لزوجي قد برهنت على أني زوجة أمينة.
فيا أمنا الأرض أريحي ابنتك "سيتا" من أعباء هذه الحياة(46).
وهكذا ترى الكلمة الأخيرة في التفكير الديني عند الهنود هي ما يسمونه "فكشا" ومعناها الخلاص- الخلاص أولاً من الشهوة، ثم الخلاص من الحياة؛ والنرفانا هي هذا الخلاص أو ذاك، لكنها لا تبلغ غاية أمدها إلا إذا تحقق الخلاصان معاً؛ ولقد عبر الحكيم "بهارتري- هاري" عن الخلاص الأول فقال:
"إن كل شئ على الأرض يبرر الخوف، والطريق الوحيدة للخلاص من الخوف هي في إنكار الشهوات إنكاراً تاماً ... لقد مضى على عهد كانت تطول فيه أيامي حين كان سؤال الحسنة من الأغنياء يثخن في قلبي أليم الجراح؛ ثم بدت أيامي قصيرة كل القصر حين جعلت أسعى نحو تحقيق كل رغباتي وغاياتي
صفحة رقم : 872
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الهند وجيرانها -> فردوس الآلهة -> العقائد

الدنيوية؛ أما الآن فقد تفلسفت وجلست على حجر صلب في كهف على سفح الجبل، وتراني لا أنفك عن الضحك كلما فكرت في حياتي الماضية"(47).
ويعبر غاندي عن الصورة الثانية من صورتي الخلاص فيقول:

"لست أريد عودة إلى ولادة جديدة"(48) إن أسمي وآخر ما يتمانه الهندي هو أن ينجو من العودة إلى الحياة في جسد آخر، وأن تزول عنه هذه الحمى التي تلتهب بها الذات كلما عاودتها الحياة في بدن جديد وولادة جديدة؛ وليس طريق الخلاص إيماناً، كلا ولا نتاجاً، إنما طريق الخلاص إنكار للذات إنكاراً متصلاً، ونفاذ بالبصيرة إلى الكل الذي يبتلع في جوفه الأجزاء، حتى ينتهي الأمر بالنفس إلى الموت الذي يفنيها ولا يبقي منها ما يولد مرة أخرى؛ وهكذا يتحول جحيم الفردية إلى سكينة الاتحاد مع سائر الوجود وفردوسه المقيم؛ هكذا تتحول الفردية إلى فناء تام في "براهما" الذي هو من العالم روحه أو قوته.

صفحة رقم : 873
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الهند وجيرانها -> فردوس الآلهة -> غرائب الدين

الفصل الرابع
غرائب الدين
الخرافات - التنجيم - عبادة العلاقة الجنسية -
الطقوس - الضحية - التطهير - المياه المقدسة

في هذا الجو اللاهوتي المفعم بالخوف والألم، ازدهرت الخرافة- وهي أول معونة ترسلها القوة الكامنة فوق الطبيعة لتعالج بها الأدواء الصغرى في الحياة- ازدهاراً خصيباً، حتى أصبحت القرابين، والتمائم، وإخراج الشياطين الحالّة في الأبدان، والتنجيم، والنبوءة بالغيب، والتعزيم، والنذور ، وقراءة الكف، والعرافة، وطائفة الكهان التي بلغت 812ر728ر2، و "فاتحو البخت" الذين يبلغون المليون، ومروضو الثعابين بالسحر وعددهم مائة ألف ، و "الفقراء" وهم مليون، ومن يمارسون "اليوجا" وغيرهم من الأولياء- أصبح ذلك كله جانباً واحداً من الصورة التاريخية التي تمثل الهند؛ فقد كان للهنود منذ ألف ومائتي عام عدد كبير من الكتب التي تشرح أصول التصوف والسحر والعرافة وتذكر الصيغ السحرية التي تهيئ السبيل لتحقيق أية غاية شئت؛ وأما البراهمة فقد نظروا نظرة ازدراء صامت إلى هذه الديانة التي يملؤها السحر، واحتملوا وجودها لأنهم من جهة خشوا أن تكون الخرافة بين عامة الناس عاملاً ضرورياً لصيانة قوة البراهمة أنفسهم، لأنهم من جهة أخرى ربما ظنوا أن لا خرافة يستحيل فناؤها، فإن ماتت في إحدى صورها، فما ذاك إلا لكي تعود إلى الوجود في صورة أخرى، وأحس البراهمة أن أقل الحكمة يقتضي ألا تقاوم مثل هذه القوة التي في وسعها أن تجسد نفسها في كل هذه الصور.
اعتقد الهندي الساذج- كما يعتقد كثيرون من الأمريكان المثقفين- في
صفحة رقم : 874
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الهند وجيرانها -> فردوس الآلهة -> غرائب الدين

التنجيم، وسلموا تسليماً بأن كل نجمة لها تأثير خاص على أولئك الذين ولدوا وهي في أوجها(50)؛ فالنساء إبان الحيض كن- مثل أوفيليا- يتقين ضوء الشمس، فذلك قد يسبب لهن الحمل(51)؛ وجاء في كتاب "كاوشيتاكي يوبانشاد" أن سر النجاح المادي هو تقديس الهلال كما ظهر؛ وكان العرافون والسحرة والمنبئون بالغيب، إذا ما أجريتهم أجراً زهيداً، يعلنون لك ماضي الحوادث ومستقبلها بدراستهم للأكف أو للبراز، أو للأحلام، أو لعلامات في السماء، أو للخروق التي أحدثتها الفئران في الثياب؛ ويزعمون بترتيلهم لعبارات السحر التي لم يكن ترتيلها في مقدور أحد سواهم، أنهم يخدمون الشياطين ويسحرون الثعابين، ويستعبدون الطيور، ويلزمون الآلهة أنفسهم بمعاونة من دفع لهم أجر ما يصنعون؛ كذلك كان السحرة نظير أجر معلوم يسلطون الشيطان على العدو، أو يطردونه من هذا الذي يؤجرهم، كانوا ينزلون الموت المفاجئ على العدو أو يلحقون به علة ليس لها شفاء؛ حتى البرهمي إذا ما تثاءب، جعل يفرقع بأصابعه ذات اليمين وذات الشمال حتى يطرد الأرواح الشريرة فلا يسمح لها بالدخول من فمه المفتوح ؛ وكان الهندي في شتى عصوره- مثل كثيرين من الفلاحين الأوربيين- يتحوط من عين الحسد؛ فأعداؤه قد يستخدمون السحر في أية لحظة شاءوا لينزلوا به تعاسة الحظ أو ليقضوا على حياته؛ ويستطيع الساحر فوق هذا كله أن يجدد الحيوية الجنسية أو أن يخلق الحب في أي إنسان لأي إنسان، أو أن يهيئ سبيل الولادة للعاقرات من النساء(53).
لم يكن يعدل رغبة الهنود في الأطفال شيء حتى النرفانا، ومن ثم إلى حد ما كانت رغبة الهندي الشديدة في القوة الجنسية، وكان تقديسه الديني للرموز التي تشير إلى النسل والخصوبة؛ فعبادة العلاقة الجنسية التي سادت
صفحة رقم : 875
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الهند وجيرانها -> فردوس الآلهة -> غرائب الدين

معظم الأقطار في هذا العصر أو ذاك، قد لبثت قائمة في الهند من العصور القديمة إلى القرن العشرين؛ وكان إلههاً هو شيفا، ورمزها هو عضو التذكير، وكتابها المقدس هو "أجزاء من التانترا" (ومعناها كتب للنصوص)؛ و "شاكتي" (ومعناها القوة التي تبعث النشاط) بالنسبة إلى شيفا هي- كما كانوا يتصورونها أحياناً- زوجته كالي، وأحيانا أخرى يتصورون تلك القوة الباعثة شيفا على نشاطه الجنسي، عنصراً نسوياً في طبيعة شيفا نفسه، وبهذا تكون طبيعته مشتملة على قوتي الذكورة والأنوثة في آن معاً؛ وهاتان القوتان يمثلها الهنود بأوثان يطلقون عليها اسم "لنجا" أو "يوني" ، وهي تصور عضوي التناسل عند الرجل والمرأة(53) وأينما سرت في الهند ألفيت آثاراً لهذه العبادة للعلاقة الجنسية: تراها في التماثيل الرمزية لأعضاء التناسل في معبد نياليز، وغيره من المعابد في بنارس، وتراها في أوثان "اللنجا" الهائلة التي تزين أو تحيط بمعابد شيفا في الجنوب، وتراها في المواكب والاحتفالات التي يرمزون بها إلى العملية الجنسية، ثم تراها قي تمائم ترمز إلى تلك العلاقة الجنسية أيضا، ويلبسونها على الذراع أو حول العنق؛ بل قد تصادف أحجار " اللنجا " ملقاة في عرض الطريق، ومن عادة الهنود أن يكسروا على هاتيك الأحجار جوز الهند الذي ينوون تقديمه في قرابينهم(54)، وهم يغسلون حجر "اللنجا" في معبد "رامشفرام" كل يوم بماء الكنج، ثم يباع ذلك الماء فيما بعد للمتدينين(55) كما كان يباع الماء المقدس في أوربا؛ وطقوس هذه العبادة الجنسية في العادة تكون بسيطة وملتزمة حدود الاحتشام، فقوامها أن يصب على الحجر ماء مقدس أو زيت مقدس ويزين بأوراق الشجر(56).
ولا ريب في أن الطبقات الدنيا من الهنود تستمد بعض المتعة الداعرة من مواكب العلاقة الجنسية(57)، لكن الكثرة الغالبة من الناس- فيما يظهر- لا يجدون حافزاً إلى الفاحشة في "اللنجا" أو "اليوري" أكثر مما يجد المسيحيون
صفحة رقم : 876

قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الهند وجيرانها -> فردوس الآلهة -> غرائب الدين

من هذا الحافز في تأملهم للعذراء وهي ترضع طفلها؛ إن العادة تزيل الفحش عن أي شيء، والزمن يخلع القداسة على أي شئ؛ ويظهر أن الناس قد نسوا الرمزية الجنسية في هذه الأشياء منذ زمن طويل، ولم تعد هذه الأوثان الآن إلا وسائل تقليدية مقدسة تمثل لهم قوة شيفا(58)؛ ولعل الفرق بين تصور الأوربي وتصور الهندي للأمر منشؤه الفارق بين سن الزواج في أوربا وسن الزواج في الهند؛ فالزواج المبكر ينفس عن تلك الدوافع الطبيعية التي إن طال أمد كبحها، دارت على نفسها وأنتجت إما دعارة وأما حباً عذرياً؛ وعلى وجه الجملة تجد الأخلاق والعادات الخاصة بالعلاقات الجنسية في الهند أعلى منها في أوربا وأمريكا، وهي هناك أكثر منها هنا احتشاماً وعفة بدرجة كبيرة، وعبادة شيفا هي من أكثر العبادات في الهند تزمتاً وتقشفاً، وأخلص عُبَّاد "اللنجا" عقيدةٌ هم "اللنجايات" ، وهم يمثلون أشد مذاهب الهند تزمتاً وطهراً(59)، يقول غاندي : "جاءنا أضيافنا الغربيون آخر الأمر يفتحون أعيننا لجوانب الفحش التي في طقوسنا، بعد أن كنا نمارسها حتى عهدهم ممارسة بريئة؛ لقد عرفت لأول مرة أن "شيفا لنجام" ترمز إلى فاحشة، من كتاب لمبشر مسيحي"(60).

إن استخدام الهنود "للنجا" و "اليوني" ليس إلا صورة واحدة من ألوف الصور في طقوسهم التي تبدو للعين العابرة الغربية عن البلاد، لا مجرد صورة للديانة الهندية، بل جزءاً أساسياً من صميم لبابها؛ ذلك لأن كل فعل من أفعال الحياة، حتى الغسل ولبس الثياب ، له عندهم طقوسه الدينية؛ وفي كل دار يسكنها متدينون ترى آلهة خاصة بأهل تلك الدار، تمثل لهم أشياء معينة، كما ترى أسلافاً يضعونها موضع التكريم كل يوم؛ والواقع أن الديانة للهندي واجب يؤدى في الدار أكثر مما يؤدى في مراسم المعابد التي يحتفظون بها لأيام الأعياد؛ ومع ذلك فالناس يمرحون مرحاً عظيماً في الأعياد الدينية الكثيرة التي تملأ السنة الكهنوتية، فكانوا يسيرون مواكب عظيمة أو أفواجاً من
صفحة رقم : 877
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الهند وجيرانها -> فردوس الآلهة -> غرائب الدين

الحجاج، قاصدين إلى الأضرحة القديمة؛ ولم يكونوا ليفهموا ما يقال من عبارات الصلاة في تلك المعابد، لأنها كانت تقال بالسنسكريتية، لكنهم كانوا يفهمون الأوثان، فيزينونها بالحلي ويطلونها بالطلاء ويرصعونها بكريم الأحجار؛ وكانوا أحياناً يعاملونها كأنها كائنات بشرية فيقضونها ويغسلونها ويلبسونها الثياب، ويطعمونها ويؤنبونها وينيمونها في مخادعها عند خاتمة النهار(61).

وأعظم الطقوس الجماعية هي تقديم القرابين، وأعظم الطقوس الخاصة الفردية هي التطهير؛ فالقربان عند الهندي ليس مجرد صورة خاوية، لأنه يعتقد أنه إذا لم يعقد الآلهة طعاماً فإنها تموت جوعاً(62) ولما كان الإنسان في مرحلة أكل اللحوم البشرية، كانت القرابين في الهند كما في غيرها من بلاد العالم ضحية بشرية؛ وكانت "كالي" تحب أن يكون قربانها رجالاً، ثم فسر البراهمة هذا بأنها إنما تحب أن تأكل رجالاً من أهل طبقات الدنيا وحدها فلما تقدمت الأخلاق، أخذ الآلهة يكتفون بالحيوان قرباناً؛ فكان الناس يضحون لهم بكثير منه؛ على أن الماعز كان ذا منزلة خاصة في هذه الاحتفالات؛ ثم جاءت البوذية والجانتية و "أهمسا" فحرمت التضحية بالحيوان في بلاد الهندستان(67) ثم عادت العادة إلى مجراها القديم حين حلت الديانة الهندية محل البوذية؛ ولبثت قائمة على نطاق يثير الدهشة باتساعه، حتى يومنا هذا؛ وإنه لمن حسنات البراهمة أنهم رفضوا أن يسهموا بنصيب في أية تضحية فيها إراقة للدماء(68).
وأما طقوس التطهير فقد كانت تستغرق من حياة الهندي ساعات كثيرة، لأن مخاوف النجاسة كانت من الكثرة في الديانة الهندية كما هي في قواعد
صفحة رقم : 878
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الهند وجيرانها -> فردوس الآلهة -> غرائب الدين

الصحة الحديثة؛ فما أكثر ما قد يصاب الهندي بما يرده نجساً- إن أكل طعاماً حراماً، وإن لمس قمامة أو مس إنساناً من طبقة الشودرا، أو منبوذاً أو جثة أو امرأة في فترة حيضها، وغير ذلك مئات الحالات؛ وبالطبع كانت المرأة نفسها ينجسها حيضها أو وضعها وليداً؛ ولذا تطلب القانون البرهمي عزل المرأة في مثل هذه الحالات، واشترط تحوطات صحية معقدة(69)؛ وبعد كل هذه النجاسات- أو احتمال العدوى على حد تعبيرنا الحديث- كان من واجب الهندي أن يؤدي طقوساً تطهيرية معينة؛ فأما الحالات الصغرى فتكفيها طقوس بسيطة كأن يرش من إصابته النجاسة بالماء المقدس(70) وأما الحالات الكبرى فلا بد لهما من طرائق معقدة تبلغ أقصى مداها في بشاعة ما يسمونه "بانشاجافيا" وهو ضرب من التطهير كان يحكم به عقاباً لمن انتهك قوانين الطبقات على خطورتها (مثال ذلك أن يغادر الهند) ويتألف ذلك التطهير من شرب مزيج فيه "خمسة عناصر" من البقرة المقدسة : اللبن، والخثارة، والسمن، والبول، والروث .
وأقرب من ذلك قليلاً إلى ذوقنا ما يوجبه عليهم دينهم من استحمام كل يوم؛ فهاهنا كذلك ترى تدبيراً صحياً تمس إليه الحاجة مساً شديداً في مناخ شبه استوائي؛ وترى هذا التدبير الصحي مصبوباً في قالب من الدين حتى يكون أقوى تأثيراً في النفوس؛ ولهذا بنيت برك وأحواض "مقدسة" ، وجعلت أنهار كثيرة أنهاراً مقدسة وقيل للقوم إنهم إذا استحموا في هذه الأماكن تطهروا جسماً وروحاً؛ وقد كان ملايين الناس في أيام الرحالة "يوان شوانج" يستحمون في نهر الكنج كل صباح(73)؛ ومنذ ذلك العهد إلى يومنا لم تشهد تلك الأمواج شروقاً للشمس دون أن تسمع صلوات المستحمين الذين جاءوها
صفحة رقم : 879
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الهند وجيرانها -> فردوس الآلهة -> غرائب الدين

سعياً وراء الطهر والخلاص، يرفعون أذرعهم نحو السماء المقدسة، ويصيحون في نغمة الصابرين: "أوم، أوم، أوم" وأصبحت بنارس هي المدينة المقدسة للهند، إذ باتت كعبة لملايين الحجاج، يؤمها الشيوخ من الرجال والعجائز من النساء، جاءوا من كل أرجاء البلاد ليستحموا في النهر. حتى يستقبلوا الموتى برآء من كل إثم أطهاراً من كل رجس؛ إن الإنسان ليأخذه الخشوع، بل يأخذه الفزع، حين يتذكر أن أمثال هؤلاء الناس قد حجموا إلى بنارس مدى ألفي عام، وغمسوا أنفسهم في مياهها وهم يرتعشون من لذعة البرد في فجر الشتاء؛ وشموا بنفس متقززة لحم الموتى وهو يحترق، فعلوا كل ذلك وهم يفوهون بنفس الدعوات التي كان يقينهم أن تجاب، فعلوا كل ذلك قرناً بعد قرن، توجهوا بالدعاء إلى نفس الآلهة التي لبثت على صمتها؛ لكن عد استجابة إله من الآلهة لا يحول دون تعلق القلوب به، فلا تزال الهند تعتقد اليوم بنفس القوة التي كانت تعتقد بها في أي عصر مضى، في الآلهة الذي لبثوا كل هذا الزمن ينظرون إلى فقرها وبؤسها فلا تأخذهم من أجلها الرحمة.

صفحة رقم : 880
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الهند وجيرانها -> فردوس الآلهة -> القديسون والزاهدون

الفصل الخامس
القديسون والزاهدون
أساليب التقديس - الزنادقة - السامح - نظرة عامة في ديانة الهنود

يظهر أن القديسين في الهند أكثر منهم في أي بلد آخر، حتى ليشعر الزائر في تلك البلاد أنهم نتاج طبيعي لها كالخشخاش والثعبان، وللقداسة في رأي المتدين الهندي ثلاث وسائل : الأولى طريق "جنانا- يوجا" أي طريق التأمل، والثانية "كارما- يوجا" أي طريق العمل؛ الثالثة "بهاكتي- يوجا" أي طريق الحب؛ ولا يمانع البرهمي في أي من هذه الطرق الثلاث، بما يقضي به قانون " الأَشْرامات " الأربع، أي مراحل القداسة، فعلى البرهمي الناشئ أن يبدأ الطريق بأن يكون "براهما شاري" يقسم على صيانته لعفته قبل زواجه، وعلى أن يلتزم التقوى ويواصل الدرس، وأن يكون صادقاً، خدوماً "لشيخه" أي لأستاذه الذي يعلمه؛ فإذا ما تزوج- ولا ينبغي أن يتأخر زواجه عن الثامنة عشرة من عمرة- كان عليه أن يدخل المرحلة الثانية من الحياة البرهمية، وهي مرحلة "جريها ستا" أي رب الأسرة، التي ينسل فيها الأبناء ليعبدوه ويعنوا به وبأسلافه؛ وفي المرحلة الثالثة (وقلما يمارسها الآن واحد) ينسحب الطامع في القداسة مع زوجته ليعيش كـ "فانا براستا" أي ساكن الغابات، فيتقبل عسر الحياة مطمئناً راضياً، ويحصر العلاقة الزوجية في نسل الأطفال، وأخيراً إن أراد فيصبح "ساناياسي" أي "الهاجر" للعالم، مستغنياً عن كل أملاكه وكل أمواله وكل ما يربطه بغيره من علاقات، فلا يحتفظ إلا بجلد وعل يغطي به جسده، وعكازة يتوكأ عليها، وقرعة ماء لظمئه؛ ويجب عليه أن يلطخ جسده بالرماد كله يوم، وأن يشرب "العناصر
صفحة رقم : 881
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الهند وجيرانها -> فردوس الآلهة -> القديسون والزاهدون

الخمسة" مراراً متقاربة، وأن يعيش معتمداً على صدقات المحسنين؛ وتنص القاعدة البرهمية على أنه "لا بد أن ينظر إلى الناس على أنهم سواسية، فلا يتأثر بأي شيء مما يحدث، وأن تكون له القدرة على النظر إلى الأشياء نظرة هادئة لا يعرف هدوءها معنى الاضطراب، حتى إن بلغ الأمر حد الثورات التي تثل العروش؛ وغايته الوحيدة ينبغي أن تكون حصوله على ذلك القدر من الحكمة ومن الروحانية الذي يمكّنه في نهاية الأمر من الاتحاد بالربوبية العليا، تلك الربوبية التي تفصلنا عنها شهواتنا العاطفية وبيئاتنا المادية" .
وإنك لتصادف أحياناً وسط هذا التدين صوتاً شكاكاً يرتفع كصرير النشاز في نغمات الحياة الهندية التي تسودها استكانة التسليم؛ لا شك أن الشُكّاك كانوا كثيرين حينما كانت الهند غنية، لأن الإنسانية تزداد تشككاً في آلهتها ازدياداً يبلغ أقصاه في حالات ازدهارها المادي، وتزداد لها تعبداً ازدياداً يبلغ غاية مداه حين يعمها البؤس؛ ولقد أسلفنا القول في فئة "شارفاكا" وغيرهم من زنادقة العصر البوذي؛ وهنالك مؤلف يكاد يساوي في قدمه ذلك العصر، وهو يسمى - على طريقة الهنود في تطويل الأسماء- "شواسا مْفِديُوبانشاد" الذي يبسّط اللاهوت في أربع قضايا:
(1) أن ليس هناك عودة للروح إلى تجسيد جديد، ولا إله ولا جنة ولا نار ولا عالم.
(2) وأن كل الكتب الدينية التقليدية من تأليف جماعة من الحمقى المغرورين.
صفحة رقم : 882
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الهند وجيرانها -> فردوس الآلهة -> القديسون والزاهدون

(3) وأن ما يحكم الأشياء كلها هو "الطبيعة" التي تبدع، و "الزمان" الذي يهدم؛ وهما لا يأبهان بفضيلة أو برذيلة حين يقسمون بين الناس أنصبتهم من السعادة والشقاء.
(4) وأن الناس تخدعهم حلاوة الكلام فيعتنقون الاعتقاد في الآلهة والمعابد والكهنة، مع أنه من الواقع لا فرق بين فشنو وكلب(76).

وهناك قانون بوذي مكتوب باللغة الباليّة، تراه يضم المتناقضات، شأنه في ذلك شأن أي كتاب مقدس يحمي مصالح الكهنوت، وفي هذا القانون رسالة تستوقف النظر لعلها قديمة قدم المسيحية، وتسمى "أسئلة الملك مِلِنْدا" وفيها المعلم البوذي "نجاسينا" يجيب إجابات جد مثيرة للأسئلة الدينية التي يوجهها إليه "الملك مناندر" الإغريقي الباكتريّ الذي حكم شمالي الهند في مستهل القرن الأول قبل المسيح؛ يقول "نجاسينا" إن الدين لا ينبغي أن يتخذ مجرد وسيلة فرار يلوذ بها المعذبون ، بل يجب أن يكون سعي الزاهد حتى يبلغ مرحلة القداسة والحكمة دون أن يزعم وجود جنة أو إله، لأن هذا القديس يؤكد لنا أنه لا وجود لجنة أو إله(77).
وتهاجم ملحمة "الماهابهاراتا" هؤلاء الشكاك والملاحدة الذين- كما تزعم لنا- ينكرون حقيقة الأرواح ويحتقرون الخلود، وهي تقول أن أمثال هؤلاء الناس "يضربون في فجاج الأرض كلها" ؛ وهي تنذرهم بعقابهم المقبل، ضاربة لهم مثلاً ابن آوى الذي يعلل وجوده ووجود نوعه بقوله إنه كان في حياته الماضية "باحثاً عقلياً،وناقداً لكتب فيدا...مهيناً للكهنة معارضاً لهم... كافراً بكل شيء شكاكاً في كل شئ"(78)؛ ويشير "بهاجافاد- جيتا" إلى الزنادقة الذين ينكرون وجود الله ويصفون الدنيا بأنها "لا تزيد عن كونها منزلاً للشهوات"(79) وكثيراً ما كان البراهمة أنفسهم شكاكين لكنهم كانوا يذهبون في الشك إلى غاية مداه بحيث لا يسمحون لأنفسهم أن يهاجموا عقيدة الناس؛ وعلى الرغم من أن شعراء الهند بصفة عامة يتميزون بالورع الشديد
صفحة رقم : 883
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الهند وجيرانها -> فردوس الآلهة -> القديسون والزاهدون

ترى بعضهم، مثل "كابر" و "فيمانا" يدافعون عن نوع من العقيدة في الله متحلل من كثير جداً من القيود، فقد كتب "فيمانا"- وهو شاعر ظهر في جنوبي الهند في القرن السابع عشر- بروح السخرية من الرهبان الزاهدين ومن حجاج المعابد، ونظام الطبقات؛ يقول:
"عزلة الكلب،‍‍‍ تأمل الكركيّ، ترتيل الحمار، استحمام الضفدعة" ... كيف تكون أحسن حالاً إذا لطخت جسمك بالرماد؟ إنه ينبغي أن تركز فكرك في الله وحده، أما عن بقية ما تصنعه، فالحمار في وسعه أن يتمرغ في الوسخ كما تفعل... إن كتب "الفيدا" أشبه ما تكون بالفاجرات اللائي يخدعن الرجال وليس لهن أغوار تسبر ؛ وأما علم الله الخبئ فهو شبيه بالزوجة الشريفة... أيمكن لتلطيخ الجسم بالرماد الأبيض أن يذهب برائحة وعاء الخمر؟ أيمكن؟ لحبل تلفه حول عنقك أن يجعل منك إنساناً آخر؟... لماذا نرى واجباً علينا أن نسيء إلى طبقة الباريا إساءة لا تنقطع؟ أليس المنبوذ مثلنا في لحمه ودمه؟ ومن أي طبقة عسى أن يكون الإله الذي يحل جسد البراريا؟ ... إن من يقول "إني لا أعلم شيئاً" هو أبلغ الناس حكمه(80).
وإنه لمما يجدر ملاحظته في هذا الصدد أن تذاع أقوال كهذه بغير مؤاخذة قائليها، في مجتمع تتحكم في عقوله طبقة من الكهان؛ فلوا استثنينا كبح الحكم الأجنبي للهنود (بل ربما جاز أن نقول أنه بسبب وجود الحكام الأجانب الذين لم يكونوا يأبهون للعقائد الدينية الأهلية) فقد تمتعت الهند بقدر من حرية الفكر أعظم جداً مما تمتعت به أوربا في عصورها الوسطى، وهي الفترة التي تقابلها مدنية الهند؛ ولقد باشر البراهمة نفوذهم في تدبر ورفق؛ وكان اعتمادهم في صيانة العقيدة الأصلية على الفقراء وما يتصفون به من جمود على القديم؛ وكان هؤلاء الفقراء في ذلك عند حسن ظن البراهمة بهم؛ فإذا ما شاعت في الناس ضروب في الزندقة أو الآلهة الغريبة شيوعاً يعد خطراً على العقيدة، تسامح البراهمة إزاءها حتى يمتصوها امتصاصاً في ذلك الغور

صفحة رقم : 884
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الهند وجيرانها -> فردوس الآلهة -> القديسون والزاهدون

الفسيح الأبعاد الذي منه تتكون العقيدة الهندية، فإذا أضفت إلى تلك العقيدة إلهاً أو حذفت منها إلهاً، فلا يكون لهذا أثر كبير؛ ومن ثم قلت الحزازات المذهبية قلة نسبية في المجتمع الهندي، ولم تشتد إلا بين الهندوس والمسلمين؛ كذلك لم تسفح على أرض الهند دماء من أجل الدين، اللهم إلا دماء سفحها الفاتحون(81)؛ وجاء التعصب الديني إلى البلاد مع الإسلام والمسيحية، أما المسلمون فقد كانوا يبغون شراء الجنة بدم "الكفار" وأما البرتغاليون حين استولوا على "جوا" فقد أدخلوا فيها محاكم التفتيش(82).

وإذا بحثنا في هذا الخليط من العقائد عن عناصر مشتركة تعرف بها ديانة الهنود فسنجدها فيما يوشك أن يكون إجماعاً بين الهندوس على عبادة فشنو وشيفا معاً، وعلى تبجيل الفيدات والبراهمة والبقرة، وعلى اعتبار ملحمتي "ماهابهاراتا" و "رامايانا" لا مجرد ملحمتين أدبيتين، بل اعتبارها آيات مُنَزَّلة تأتي في التقديس بعد الفيدات(83) وإنه لمما ينم عن مغزى: أن نرى آلهة الهند وتقاليدها الدينية اليوم مختلفة عما قررته كتب الفيدا؛ فإلى حد ما يمكن القول بأن الديانة الهندية تمثل انتصار الهند الدرافيدية الأصلية على آريي العصر الفيدي؛ فقد كان من نتائج الغزو والنهب والفقر، أن أوذيت الهند جسماً وروحاً، والتمست ملاذاً من الهزيمة الأرضية النكراء، في انتصارات سهلة ظفرت بها الأساطير والخيال؛ فالبوذية رغم ما فيها من عناصر الشمم، هي- كالرواقية- فلسفة للعبيد، ولا يغير الموقف أن ينطق بها أمير؛ لأنها ترمي إلى وجوب الزهد في كل شهوة وفي كل كفاح حتى لو كانت الشهوة وكان الكفاح من أجل الحرية الفردية أو الحرية القومية؛ ومثلها الأعلى هو حالة جمود لا يعرف الرغبات؛ وواضح أن حرارة الهند التي تنهك الأجسام، هي التي نطقت بهذا اللسان الذي يعبر عن التعب تعبيراً يلتمس سنداً من العقل؛ إن الديانة الهندية ما انفكت تفت في عضد الهند، بأن غلّت نفسها عن طريق
صفحة رقم : 885
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الهند وجيرانها -> فردوس الآلهة -> القديسون والزاهدون

نظام الطبقات بأغلال العبودية الدائمة للكهنوت؛ وتصورت آلهتها تصوراً لا تراعي فيه حدود الأخلاق، واحتفظت خلال القرون بعادات وحشية مثل التضحية بأفراد من الإنسان وإحراق الأرملة عند وفاة زوجها؛ تلك العادات التي كان كثير من الأمم قد نبذها منذ زمن طويل؛ وصورت الحياة على أنها شر لا مفر منه، وعملت على تثبيط الهمة عند اتباعها وإشاعة الكآبة في نفوسهم؛ واستحالت الظواهر الدنيوية على يديها أوهاماً، فمحت بذلك الفوارق بين الحرية والعبودية، بين الخير والشر، بين الإفساد والإصلاح؛ ولقد قال في ذلك هندي جرئ "إن الديانة الهندية... قد استحالت الآن إلى عبادة أوثان وطقوس تقليدية، تعتبر الظواهر الشكلية كل يء، واللباب لا شيء"(84) ولما كانت الأمة يمسك الكهنة بزمامها، وينخر القديسون عظامها، فإن الهند لترقب في شغف لم يجد اللسان المعبر به:" ترقب النهوض والإصلاح الديني وحركة التنوير.
ومع ذلك فلا ينبغي أن نفكر في الهند بغير أن تكون صورتنا التاريخية ماثلة أمام أعيننا؛ فقد كان لنا كذلك فترة كانت لنا عصورنا الوسطى، حيث آثرنا التصوف على العلم وحكومة الكهنة على حكومة الأغنياء- ولعلنا نعود إلى ذلك مرة أخرى، إننا لا نستطيع أن نحكم على هؤلاء المتصوفة، لان أحكامنا في الغرب مبنية على خبرة جسدية ونتائج مادية، وهي فيما يظهر أمور لا تمس الموضوع الذي تحكم عليه ولا تتعمق الأشياء في رأي القديس الهندي؛ فماذا لو تبين أن الثروة والقوة والحرب والفتح كلها أوهام تجري على السطح لا أكثر، وليست جديرة بالتفكير عند العقل الناضج؟ ماذا لو كان هذا العلم الذي يقيم نفسه على ذرات وعوامل وراثة كلها فروض، وعلى كهارب وخلايا، وغازات يتولد منها عباقرة مثل شكسبير، وعناصر كيماوية يتمخض عنها المسيح، ماذا لو كان كل هذا لا يزيد على عقيدة لا أكثر، سبقتها عقائد، بل إنها لعقيدة من أغرب العقائد، وأبعدها عن التصديق
صفحة رقم : 886

قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الهند وجيرانها -> فردوس الآلهة -> القديسون والزاهدون

وأكثرها ميلاً نحو التغير والزوال؟ إن الشرق في مقاومته لما هو فيه من ذل ومرض، قد يغمس نفسه في العلم والصناعة في نفس اللحظة التي ينظر فيها أبناء الغرب إلى آلاتهم التي أفقرتهم وإلى علومهم التي أزالت عن أعينهم غلالة الخيال، فينزلوا بمدائنهم وآلاتهم الخراب بما يثيرونه من ثورات فوضوية أو حروب؛ ثم هم قد يعودون بعد ذلك مهزومين مكدودين جائعين، إلى الزراعة حيث يصوغون لأنفسهم إيماناً صوفياً جديداً يبث فيهم الشجاعة في وجه الجوع والقسوة والظلم والموت؛ فإنك لن تجد بين المتفكهين من يتفكه كما يتفكه التاريخ.

صفحة رقم : 887
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الهند وجيرانها -> الحياة العقلية -> العلم الهندي

الباب التاسع عشر
الحياة العقلية
الفصل الأول
العلم الهندي
أصوله الدينية - الفلكيون - التفكير الرياضي - الأعداد "العربية" -
النظام العشري - الجبر - الهندسة - الطبيعة - الكيمياء -علم وظائف
الأعضاء - الطب الفيدي - الأطباء الجراحون - البنج - التطعيم - التنويم
جهود الهند في العلم قديمة جداً وحديثة جداً في آن معاً؛ فهي حديثة إذا نظرنا إلى العلم باعتباره بحثاً مستقلاً دنيوياً، وهي قديمة إذا نظرنا إليه باعتباره مشغلة فرعية من مشاغل الكهنة؛ ولما كان الدين هو لب الحياة الهندية وصميمها، فإن العلوم التي كان من شأنها أن تعاون الدين هي التي سبقت غيرها بالرعاية والنمو: فالفلك قد نشأ من عبادة الأجرام السماوية ومشاهدة حركاتها لتحديد أيام الأعياد والقرابين؛ ونشأ النحو وعلم اللغة عن الرغبة الملحة بأن تكون كل صلاة وكل صيغة دينية، صحيحة في تركيبها وفي مخارج أصواتها، على الرغم من أنها تقال أو تكتب بلغة ميتة(1) فقد كان علماء الهند - كما كانت الحال في عصورنا الوسطى - هم كهنتها، بكل ما في ذلك من خير ومن شر.

نشأ علم الفلك عن التنجيم نشأة غير مقصودة، ثم أخذ رويداً رويداً ينفض عن نفسه الأغلال في ظل اليونان؛ وأقدم الرسائل الفلكية - وهي السِدْ ذانتا حوالي 425 ق.م - كانت قائمة على أساس العلم اليوناني(2) حتى لقد اعترف "فارهاميرا" الذي أطلق على مؤلفه الموسوعي اسماً له مغزاه إذ أطلق
صفحة رقم : 888
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الهند وجيرانها -> الحياة العقلية -> العلم الهندي

عليه "مجموعة كاملة للتنجيم الطبيعي" - اعترف صراحة باعتماده على اليونان، وحث "آريا بهاتا"- وهو أعظم الفلكيين والرياضيين الهنود - في قصائد منظومة موضوعات مثل المعادلات الرباعية والجيب (في حساب المثلثات) وقيمة النسبة التقريبية المستعملة في استخراج مساحة الدائرة. كما علل الكسوف والخسوف والاعتدالين والانقلابين (في حركة الأرض حول الشمس) وأعلن عن كروية الأرض ودورتها اليومية حول محورها، وجاء ما يأتي فيما كتبه سابقاً لعلم النهضة الأوربية سبقاً جريئاً : "إن عالم النجوم ثابت، والأرض في دورانها هي التي تحدث كل يوم ظهور الكواكب والنجوم من الشرق واختفاءها في الغرب"(4) وجاء بعده خلفه المشهور "براهما جوبتا" فنسق المعلومات الفلكية في الهند، ولو أنه أعاق تقدم الفلك هناك برفضه لنظرية "آريا بهاتا" الخاصة بدوران الأرض، هؤلاء الرجال وأتباعهم هم الذين لاءموا بين حاجات الهنود والتقسيم البابلي للسماء إلى أبراج، وهم الذين قسموا العام اثني عشر شهراً، كل شهر منها ثلاثون يوماً، وكل يوم ثلاثون ساعة، وكانوا يضيفون شهراً زائداً كل خمسة أعوام، وحسبوا بدقة تستوقف النظر قطر القمر وخسوف الشمس، وموضع القطبين ومواضع النجوم الرئيسية ودورانها(5)، وشرحوا نظرية الجاذبية- ولو أنهم لم يصلوا إلى قانونها- عندما كتبوا في "سِدْ ذانت" : "إن الأرض تجذب إليها كل شيء بما لها من قوة جاذبة"(6)

ولكي يحسبوا هذه العمليات المعقدة ، فكر الهنود في حساب رياضي يفوق ما كان لليونان في كل شيء إلا الهندسة(7)، ولذا فان من أهم ما ورثناه عن الشرق الأعداد "العربية" والنظام العشري، وقد جاءنا كلاهما من الهند على أيدي العرب؛ فإن ما يسمى خطأ بالأعداد "العربية" نراها منقوشة على "صخرة المراسيم" التي خلفها "أشوكا" (256 ق.م)، أي قبل استخدامها
صفحة رقم : 889
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الهند وجيرانها -> الحياة العقلية -> العلم الهندي

في الكتابات العربية بألف عام؛ يقول "لابلاس" العظيم النابغ :
"إنها الهندية هي التي علمتنا الطريقة العبقرية في التعبير عن كافة الأعداد برموز عشرة، لكل منها قيمة تستمد من مكانة في العدد فضلاً عن قيمته الذاتية المطلقة، وإنها لفكرة عميقة هامة تبدو لنا اليوم من البساطة بحيث ننسى ما هي جديرة به من خطر؛ لكن بساطتها هذه، والسهولة العظيمة التي أدخلتها في العمليات الحسابية كلها، قد جعلتا من علم الحساب عندنا مخترعاً لعظمة هذا الابتكار إذا ما تذكرنا أنه غاب عن عبقرية أرشميديس وأبولونيوس، وهما من أعظم من أنجبت العصور القديمة من رجال"(8).
وعرف "آريا بهاتا" و "براهما جوبتا" النظام العشري قبل ظهوره في كتابات العرب والسوريين بزمن طويل؛ وأخذته الصين عن المبشرين البوذيين ويظهر أن محمداً بن موسى الخوارزمي- وهو أعظم رياضي في عصره (مات حوالي 850 م)- قد أدخله في بغداد؛ أما الصفر فأقدم استخدام له معروف لنا في آسيا وأوربا هو في وثيقة عربية تاريخها 873 م. أي قبل أول ظهور له- فيما نعلم- في الهند بثلاثة أعوام؛ لكن الرأي مجمع على أن العرب قد استعاروا الصفر أيضاً من الهند(9)؛ هكذا ترى أكثر الأعداد تواضعاً وأكبرها نفعاً كان هدية من الهدايا الرقيقة التي قدمتها الهند لسائر البشر.

وتقدم الجبر عند الهنود وعند اليونان دون أن يأخذ فريق عن فريق فيما يظهر لكن احتفاظنا باسمه العربي (الجبر كلمة عربية معناها ملاءمة
صفحة رقم : 890
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الهند وجيرانها -> الحياة العقلية -> العلم الهندي

التركيب) يدل على أن العلم به قد أتى إلى أوربا الغربية من العرب- وهذا معناه أنه جاء إليها من الهند لا من اليونان(11)، وأبطال هذا الميدان من الهنود هم- كما في علم الفلك- آريا بهاتا وبراهما جوبتا وبهاسكارا؛ ويظهر أن أخيرهم (ولد سنة 1114 م) قد ابتكر العلامة الجذرية وكثيراً غيرها من الرموز الجبرية(12)، وهؤلاء الرجال هم الذين ابتكروا فكرة الكمية السلبية التي كان يستحيل الجبر بغيرها(13)، وصاغوا القواعد التي يمكن بها إيجاد التباديل والتوافيق، وحسبوا الجذر التربيعي للعدد 2، وحلوا في القرن الثامن الميلادي معادلات غير متعينة من الدرجة الثانية، كانت تجهلها أوربا حتى أيام "يولر" بعد ذلك بألف عام(14)، ولقد صاغوا علمهم هذا في قالب شعري، وخلعوا على مسائل الرياضة رشاقة تميز العصر الذهبي في تاريخ الهند، وهناك مثلين يوضحان الجبر في صوره البسيطة عند الهنود:
"هناك خلية من النحل، استقر خمسها على زهرة كادامبا، وهبط ثلثها على زهرة سلنذرة، وطار ثلاثة أمثال الفرق بين هذين العددين إلى زهر الكوتاجا، وظلت نحلة واحدة- وهي كل ما تبقى- حائمة في الهواء فأنبئيني أيتها المرأة الفاتنة عدد النحل كله... لقد اشتريت لك يا حبيبتي هذه الياقوتات الثماني، والزمردات العشر، واللؤلؤات المائة، التي ترينها في قرطك، واشتريتها بأثمان متساوية، وكان مجموع أثمان الأنواع الثلاثة من الأحجار الكريمة أقل من نصف المائة بثلاثة، فأنبئيني ثمن كل منها أيتها المرأة المجدودة"(15).

غير أن الهنود لم يكونوا على هذه الدرجة من التوفيق في الهندسة؛ ولو أن الكهنة استطاعوا في قياس مذابح القرابين وبنائها أن يصوغوا النظرية الفيثاغورسية (التي مؤداها أن المربع المنشأ على وتر المثلث القائم الزاوية يساوي مجموع المربعين المنشأين على الضلعين الآخرين) قبل ميلاد المسيح ببضع مئات من السنين(16) وكذلك استطاع "آريا بهاتا"- وقد يكون متأثراً باليونان في ذلك-
صفحة رقم : 891
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الهند وجيرانها -> الحياة العقلية -> العلم الهندي

أن يحسب مساحة المثلث والمعَّين والدائرة وأن يقدر قيمة النسبة التقريبية ( في حساب النسبة بين طول قطر الدائرة ومحيطها) بـ 1416ر3- وهو رقم لم يعادله في دقة الحساب رقم آخر حتى عهد "بير باخ" (1423-61) في أوربا(17)؛ وكان "بهاسكارا" سباقاً إلى حساب التفاضل، إذ فكر فيه على نحو تقريبي، وأعد "آريا بهاتا" قائمة بحساب الجيب، وجاء في كتاب "سوريا سِدْ ذانتا" مجموعة منسقة في حساب المثلثات، كانت أرفع مستوى من كل ما عرفه اليونان في هذا الباب(18).

ولدى الهنود مدرستان فكريتان لكل منهما نظرية فيزيائية شبيهة بما كان لليونان في ذلك شبهاً يوحي بما كان بين البلدين من اتصال؛ مذهب "كانادا" مؤسس الفلسفة الفايشيشيكية، إلى أن العالم مؤلف من ذرات يبلغ عدد أنواعها عدد العناصر المختلفة؛ وأما الجانتيون فقد ازدادوا شبهاً بديمقريطس في مذهبهم بأن كافة الذرات من نوع واحد، تحدث آثاراً مختلفة بسبب الاختلاف في طريقة تركيبها(19)؛ ويرى "كانادا" أن الضوء والحرارة ظاهرتان مختلفتان لعنصر واحد؛ ويذهب "يودايانا" إلى أن جميع الحرارة مصدرها الشمس؛ ويفسر "فاشاسباتي"- مثل نيوتن- الضوء بأنه مؤلف من ذرات صغيرة تنبعث من الأشياء وتطرق العين(20)؛ وتجد في رسائل الهنود التي ألفوها في الموسيقى تحليلاً وحساباً رياضياً للنغمات الموسيقية وأطوال موجاتها، وكذلك ارتفاع النغمة، يتناسب عكسياً مع طول الوتر فيما بين نقطة اتصاله ونقطة لمسه؛ وهنالك ما يدل على أن البحارة الهنود في القرون الأولى
صفحة رقم : 892
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الهند وجيرانها -> الحياة العقلية -> العلم الهندي

بعد الميلاد، قد استعملوا بوصلة صنعوها من سمكة جديدة تسبح في إناء من الزيت وتشير إلى الشمال(21).

وتقدمت الكيمياء بادئة طريقها من مصدرين: الطب والصناعة؛ فقد أسلفنا بعض القول في براعتهم الكيماوية في صب الحديد في الهند القديمة، وفي الرقي الصناعي العظيم في عصور "جوبتا" ، حينما كان ُينظر إلى الهند- حتى من روما القيصرية- على أنها أمهر الأمم جميعاً في صناعات كيماوية مثل الصباغة والدبغ وصناعة الصابون والزجاج والأسمنت؛ وفي تاريخ بلغ من القدم القرن الثاني قبل الميلاد، خصص "ناجارجونا" كتاباً بأكمله للبحث في الزئبق؛ فلما أن كان القرن السادس كان الهنود أسبق بشوط طويل من أوربا في الكيمياء الصناعية، فكانوا أساتذة في التكليس والتقطير والتصفية والتبخير واللحام وإنتاج الضوء بغير حرارة، وخلط المساحيق المنومة والمخدرة، وتحضير الأملاح المعدنية، والمركبات والمخلوطات من مختلف المعادن؛ وبلغ طرق الصلب في الهند القديمة حداً من الكمال لم تعرفه أوربا إلا في أيامنا هذه، ويقال أن الملك يورس ، قد اختار هدية نفسية نادرة يقدمها للإسكندر ثلاثين رطلاً من الصلب(22)، إذا آثرها على هدية من الذهب أو الفضة؛ ونقل المسلمون كثيراً مما كان للهنود من علم الكيمياء والصناعة الكيماوية إلى الشرق الأدنى وأوربا؛ فمثلاً نقل العرب عن الفرس، وكان الفرس قد نقلوا بدروهم عن الهند سر صناعة السيوف "الدمشقية"(22أ).
وكان التشريح وعلم الوظائف الأعضاء- مثل بعض الجوانب الكيمياء- نتيجتين عرضيتين للطب الهندي؛ ففي القرن السادس قبل الميلاد- رغم أنه عهد يغوص في القدم، كان الأطباء الهنود يعرفون خصائص الأربطة العضلية ورتق العظام والجهاز اللمفاوي، والضفائر العصبية واللفائف والأنسجة
صفحة رقم : 893
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الهند وجيرانها -> الحياة العقلية -> العلم الهندي

الدهنية والأوعية الدموية والأغشية المخاطية والمفصلية وأنواع من العضلات أكثر مما نستطيع أن نتبينه من جثة حديثة(23).

وقد زلَّ أطباء الهند في العصر السابق لميلاد المسيح في نفس الخطأ الذي وقع فيه أرسطو حين تصور القلب مركز الشعور وأداته، وظنوا أن الأعصاب تصعد من القلب وتهبط إليه، لكنهم فهموا عمليات الهضم فهماً يستوقف النظر بدقته- أعني الوظائف المختلفة للعصارات المعدية، وتحول الكيموس إلى كيلوس، ثم تحول الكيلوس إلى دم(24)، وسبق "أتريا" ، "وايزمان" بألفين وأربعمائة عام حين ذهب (حوالي 500 ق.م) إلى أن نطفة الوالد مستقلة وكانوا يحبذون فحص الرجال للتحقق من توافر عناصر الرجولة فيهم قبل إقدامهم على الزواج؛ وجاء في تشريع "مانو" تحذير من عقد الزواج بين أشخاص مصابين بالسل أو الصرع أو سوء الهضم المزمن أو البواسير أو شقشقة اللسان(26) وكان مما فكرت فيه مدارس الطب الهندية سنة 500 ق.م، ضبط النسل على آخر طراز يأخذ به رجال اللاهوت، وهو يقوم على نظرية هي أن الحمل مستحيل في مدى اثني عشر يوماً من موعد الحيض(27)؛ ووصفوا تطور الجنين وصفاً فيه كثيراً جداً من الدقة ، وكان مما لوحظ في هذا الصدد أن جنس الجنين لا يتعين إلا بعد مدة، وزعموا أن جنس الجنين في بعض الحالات يمكن التأثير فيه بفعل الطعام أو العقاقير(28).
وتبدأ مدونات الطب الهندي بكتاب "أترافا- فيدا" ، ففي هذا الكتاب تجد قائمة بأمراض مقرونة بأعراضها، لكنك تجدها محاطة بكثير جداً من السحر والتعزيم؛ فقد نشأ الطب ذيلاً للسحر؛ فالقائم بالعلاج كان يدرس ويستخدم وسائل جثمانية لشفاء المريض، على أساس أن هذه تساعد على نجاح ما يكتبه له من صيغ روحانية؛ ثم أخذ على مر الزمن يزيد من اعتماده على
صفحة رقم : 894
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الهند وجيرانها -> الحياة العقلية -> العلم الهندي

الوسائل الدنيوية، ماضياً إلى جواز ذلك في تعاويذه السحرية لتكون هذه معينة لتلك من الوجهة النفسية، كما نفعل اليوم بتشجيعنا للمريض.

وفي ذيل كتاب "أترافا- فيدا" ملحق يسمى "أجو- فيدا" (ومعناها علم إطالة العمر)؛ ويذهب هذا الطب الهندي القديم إلى أن المرض يسببه اضطراب في وحد من العناصر الأربعة (الهواء والماء والبلغم والدم) وطرائق العلاج هي الأعشاب والتمائم السحرية؛ ولا يزال كثير من طرائق الطب القديم في وصف الأمراض وعلاجها مأخوذاً به في الهند اليوم، وإن ذلك ليصيب من النجاح أحياناً ما يثير الغيرة في صدور الأطباء الغربيين؛ وتجد في كتاب "رجْ- فيدا" نحو ألف اسم من أسماء هذه الأعشاب، وهو يحبذ الماء على أنه خير علاج لمعظم الأمراض؛ على أن الأطباء والجراحين حتى في العهد الفيدي كانوا يتميزون بما يفرق بينهم وبين المعالجين بالسحر؛ وكانوا يسكنون منازل تحيط بها حدائق يستنبتون فيها الأعشاب الطبية(29).
وأعظم اسمين في الطب الهندي هما "سوشروتا" في القرن الخامس قبل الميلاد و "شاراكا" في القرن الثاني بعد الميلاد؛ فقد كتب "سوشروتا"- وكان أستاذا للطب في جامعة بنارس، باللغة السنسكريتية مجموعة من أوصاف الأمراض وطرائق علاجها، وكان قد ورث العلم بها من معمله "ذانوانتاري" ؛ فبحث في كتابه بإطناب في الجراحة والتوليد والطعام الصحي والاستحمام والعقاقير وتغذية الرضع والعناية بهم والتربية الطبية(30)، وأما "شاركا" فقد أنشأ "سامهيتا" (ومعناها موسوعة) تشمل علم الطب، وهي لا تزال مأخوذاً بها في الهند(31)؛ وبث في أتباعه فكرة عن مهنتهم كادت تقرب من فكرة أبقراط : "لا ينبغي أن تعالجوا مرضاكم ابتغاء منفعة لأنفسكم، ولا إشباعاً لشهوة كافة ما كانت من شهوات الكسب الدنيوية، بل عالجوهم من أجل غاية واحدة هي التخفيف عن الإنسانية المعذبة، بهذا تفقدون سائر الناس"(32) ويتلو هذين الاسمين التماعاً في تاريخ الطب الهندي اسم "فاجبهاتا"
صفحة رقم : 895
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الهند وجيرانها -> الحياة العقلية -> العلم الهندي

(625 م) الذي أعد موسوعة طبية نثراً ونظماً، ثم اسم "بهافامِسْراً" (1550 م) الذي جاء في كتابة الضخم عن التشريح ووظائف الأعضاء والطب، ذكر الدورة الدموية قبل أن يذكرها "هارفي" بمائة عام، ووصف الزئبق علاجاً لذلك المرض الجديد- مرض الزهري- الذي كان من عهد قريب مع البرتغاليين، جزءاً من التراث الذي خلّفته أوربا للهند(33).
وصف "سوشوترا" كثيراً من العمليات الجراحية- الماء في العين، والفتق وإخراج الحصاة من المثانة، وبقْر الأمهات عن الأجنة وغير ذلك، كما ذكر إحدى وعشرين ومائة أداة من أدوات الجراحة منها المشارط والمسابير والملاقط والقثاطير ومناظير القُبُل والدُّبرُ(34)، وعلى الرغم من تحريم البراهمة لتشريح جثث الموتى، جعل يدافع عن ضرورة ذلك في تدريب الجراحين؛ وكان أول من رقع أذناً جريحة بقطع من الجلد اقتطعها من أجزاء أخرى من الجسم، وعنه وعن أتباعه من الهنود أخذ الطب الحديث عملية تقويم الأنف(35)؛ ويقول "جارِسُنْ": "لقد أجرى قدماء الهنود كل العمليات الجراحية الكبرى تقريباً، ما عدا عملية ربط الشرايين"(36)؛ فقد بتروا الأطراف، وأجروا الجراحات في البطن، وجبروا كسور العظام، وأزالوا البواسير؛ وقَعَّد "سوشوترا" القواعد الدقيقة لإجراء الجراحة، ويعد اقتراحه بتعقيم الجرح بالتبخير أول ما نعرفه من جهود في وسائل التطهير أثناء الجراحة(37)؛ ويذكر لنا "سوشوترا" و "شاراكا" كلاهما فوائد أنواع من الشراب الطبي في تخدير الجسم عند الألم، وحدث في سنة 927 م أن قام جراحان بتربنة الجمجمة لملك هندي، فخدره عن الجراحة بفعل عقار يسمى "ساموهيني" .

وأوصى "سوشوترا" بأن تتبع في تشخيص الأمراض التي أحصى منها ألفاً ومائة وعشرين، طريقة النظر بالمنظار وطريقتا جس النظر والتسمع بالأذن(40) وقد جاء وصف لجسّ النبض في رسالة تاريخها 1300م(41)؛ وكان تحليل البول طريقة مستحسنة في تشخيص الأمراض؛ حتى لقد اشتهر أطباء التبت بقدرتهم على شفاء أي مريض دون النظر في أي شئ يتعلق به ما عدا بوله(42)؛ وكان العلاج الطبي في الهند في عهد يوان شوانج، يبدأ بصيام مداه سبعة أيام، وكثيراً ما كان يشفى المريض في هذه الفترة ، فإذا بقى المريض لجئوا بعدئذ إلى استخدام العقاقير(43) لكنهم لم يكونوا يسرفون في استخدام العقاقير حتى في أمثال هذه الحالات، إذ كان معظم اعتمادهم على تدبير الطعام الملائم والاستحمام والحقن الشرجية والاستنشاق والحقن في مجاري البول وإخراج الدم بدود العلق أو بالكؤوس(44)، وكان لأطباء الهنود شهرة خاصة في تكوين ترياقات السموم، ويزالون يفوقون الأطباء الأوربيين في علاج عضة الثعبان(45)؛ ولقد عرفت الهند التطعيم منذ سنة 550 م ، مع أن أوربا لم تعرفه إلا في القرن الثامن عشر، ذلك لو حكمنا من نص يعزى إلى "ذانوانتاري" وهو طبيب من أقدم أطباء الهنود، وهذا هو: "خذ السائل من البثور التي تراها على ضرع البقرة ... خذه على سنان المشرط، ثم طعم به الأذرعة بين الأكتاف والمرافق، حتى يظهر الدم؛ عندئذ يختلط السائل بالدم فتنشأ عن اختلاطه حمى الجدري"(46) ويعتقد الأطباء الأوربيون المحدثون أن التفرقة بين الطبقات تفرقه تعزل بعضها عن بعض، منشؤها إيمان عند البراهمة بوجود عوامل خفية في نقل الأمراض؛ وكثير من قوانين الصحة التي أوصى بها "سوشوترا" و "مانو" تسلم تسليماً- فيما يظهر- بما نسميه نحن المحدثون الذين نحب الأسماء الجديدة نطلقها على ما هو قديم، أقول إنها تسلم بما نسميه نحن المحدثون بنظرية المرض عن طريق الجراثيم(47)؛ ويبدو لنا أن التنويم كوسيلة للعلاج قد نشأ عند

صفحة رقم : 896
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الهند وجيرانها -> الحياة العقلية -> العلم الهندي

الهنود الذين كثيراً ما كونا ينقلون مرضاهم إلى المعابد لمعالجتهم بالإيحاء التنويمي أو "نعاس المعبد" كما كان يحدث في مصر واليونان(48) والأطباء الإنجليز الذين أدخلوا طريقة العلاج بالتنويم في إنجلترا- وهم "بريد" و"ازديل" و"إِليوتسُن" "ولاشك في أن ما أوحى لهم بآرائهم تلك، وببعض خبرتهم، هو اتصالهم بالهند"(49).

فالطب الهندي بصفة عامة قد تطور تطوراً سريعاً في العهدين الفيدي والبوذي، ثم أعقب ذلك قرون سار فيه التقدم بخطوات الوئيد الحذر؛ ولسنا ندري كم يدين "أتريا" و "ذانوانتاري" و "سوشوترا" لليونان، وكم تدين اليونان لهم؛ يقول "جارسن" إنه في أيام الإسكندر "كان لأطباء الهنود وجراحيهم شهرة- هم جديرون بها- بما يتميزون به من تفوق في العلم والمهارة في العمل" ، وحتى أرسطو نفسه- في رأي طائفة من الباحثين- مدين لهم(50) وكذلك قل في الفرس والعرب، فمن العسير أن تقطع برأي في مدى ما أخذه الطب الهندي من بغداد، ومن الطب البابلي في الشرق الأدنى عن طريق بغداد؛ فمن جهة ترى بعض طرائق العلاج مثل الأفيون والزئبق، وبعض وسائل الكشف عن حقيقة المرض مثل جس النبض، قد جاءت إلى الهند من فارس فيما يظهر؛ لكنك من جهة أخرى ترى الفرس والعرب قد ترجموا إلى لغتيهما في القرن الثامن الميلادي موسوعتي "سوشوترا" و "شراكا" اللتين كانتا قد مضى عليهما ألف عام(51) ولقد اعترف الخليفة هارون الرشيد بالتفوق العلمي والطبي للهنود، واستدعى الأطباء الهنود لتنظيم المستشفيات ومدارس الطب في بغداد(52) ؛ وينتهي "لورد آمِتهِل" إلى نتيجة هي أن أوربا الوسيطة والحديثة مدينة بعلمها الطبي للعرب بطريق مباشر، وللهند عن طريق العرب(53)؛ ولعل هذا العلم الذي هو أشرف العلوم وأبعدها عن اليقين، قد نشأ في بلاد مختلفة في وقت واحد تقريباً، ثم جعل يتطور بما كان بين الأمم المتعاصرة في سومر ومصر والهند من صلات وتبادل فكري.

صفحة رقم : 897
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الهند وجيرانها -> الحياة العقلية -> الفلسفة البرهمية ومذاهبها الستة -> مقدمة

الفصل الثاني
الفلسفة البرهمية ومذاهبها الستة
قِدَمْ الفلسفة الهندية - أهميتها - أعلامها -
ألوانها - مذهب القدماء - مزاعم الفلسفة الهندية

إن تفوق الهند أوضح في الفلسفة منه في الطب؛ ولو أن أصول الأشياء هاهنا أيضا، ينسدل عليها ستار يخفيها وكل نتيجة نصل إليها إن هي إلا ضرب من الفروض؛ فبعض كتب "يوبانشاد" أقدم من كل ما بقي لنا من الفلسفة اليونانية، ويظهر أن فيثاغورس وبارمنيدس وأفلاطون قد تأثروا بالميتافيزيقا الهندية؛ أما آراء طاليس وأنكسمندر وأنكسمينس، وهرقليطس، وأناكسجوراس وأمباذقليس، فهي لا تسبق فلسفة الهنود الدنيوية فحسب، بل يطبعها طابع من الشك ومن البحث في الطبيعة المادية، يميل بنا إلى ردها إلى ما شئت من أصول ما عدا الهنود؛ ويعتقد " فكتور كوزان "أننا" مضطرون اضطراراً أن نلتمس في هذا الميدان الذي درجت فيه الإنسانية، منشأ الفلسفة العليا"(54) والأرجح عندنا أنه ليس بين المدنيات المعروفة لنا جميعاً، مدنية واحدة كانت أصلاً لكل عناصر المدنية.
لكنك لن تجد بين بلاد العالمين بلداً اشتدت فيه الرغبة في الفلسفة شدتها في الهند؛ فهي عند الهنود لا تقتصر على كونها حلية للإنسان أو تفكهة يسرّي بها عن نفسه، بل هي جانب هام لا غني لنا عنه في تعليقنا بالحياة نفسها وفي معيشتنا لتلك الحياة؛ وإنك لتجد حكماء الهند يتلقون من إمارات التكريم ما يتلقاه في الغرب رجال المال والأعمال؛ فأي أمة سوى الأمة الهندية قد فكرت في الاحتفال بأعيادها بمناظرات ينازل فيها زعماء المدارس الفلسفية المتنافسة بعضهم بعضاً؟ فتقرأ في اليوبانشاد كيف خصص ملك الفيديهيين يوماً
صفحة رقم : 898
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الهند وجيرانها -> الحياة العقلية -> الفلسفة البرهمية ومذاهبها الستة -> مقدمة

لمناقشة فلسفية باعتبارها جزءاً من الاحتفال الديني، بين "ياجنافالكيا" و "أسفالا" و "أرتابهاجا" و "جارجي" ؛ ووعد الملك أن يثيب الظافر منهم- وكان عند وعده- بمكافأة قدرها ألف بقرة ومائة قطعة من الذهب(56)، وكان المألوف للمعلم الفيلسوف في الهند أن يتحدث أكثر مما يكتب؛ فبدل أن يهاجم معارضيه عن طريق المطبعة المأمون الجانب، كانوا يطالبونه بملاقاتهم في مناظرة حية، وبالذهاب إلى مقارّ المدارس الأخرى ليضع نفسه هناك تحت تصرف أتباعها في جداله وسؤاله؛ ولقد أنفق أعلام الفلاسفة، مثل "شانكارا" شطراً عظيماً من أعوامهم في أمثال تلك الرحلات الفكرية(57)؛ وكان الملوك أحياناً يسهمون في هذه المجادلات، في تواضع يليق بالملك وهو في حضرة الفيلسوف- ذلك إن أخذنا بما يرويه لنا الفلاسفة أنفسهم عن ذلك؛ وينزل الظافر في مناظرة هامة من تلك المناظرات، منزلة عالية من البطولة في أعين الناس، كهذه المنزلة التي يحتلها قائد عسكري عاد من انتصاراته الدامية في ميادين الحروب(58).
وترى في صورة راجبوتية من القرن الثامن عشر(59) نموذجاًً "لمدرسة فلسفية" هندية- فالمعلم جالس على حصير تحت شجرة، وتلاميذه جالسون القرفصاء أمامه على نجيل الأرض؛ وكنت تستطيع أن ترى مثل هذا المنظر أينما سرت في الهند، لأن معلمي الفلسفة هناك كانوا في كثرة التجار في بابل، ولن تجد في بلد أخر غير الهند عدداً من المدارس الفكرية بمقدار ما تجده منها هناك؛ ففي إحدى محاورات بوذا ما يدلنا على أنه قد كان في الهند في عصره اثنان وستون رأياً في النفس يأخذ بها الفلاسفة المختلفون(60)؛ يقول "الكونت كسرلنج" : "إن هذه الأمة الفلسفية قبل كل شيء، لديها من الألفاظ السنسكريتية التي تعبر بها عن الفكر الفلسفي والديني أكثر مما في اليونانية واللاتينية والجرمانية مجتمعة"(61).
صفحة رقم : 899

قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الهند وجيرانها -> الحياة العقلية -> الفلسفة البرهمية ومذاهبها الستة -> مقدمة

لما كان الفكر الهندي قد انتقل بالحديث الشفوي أكثر منه بالكتابة، فأقدم صورة هبطت إلينا عن مذاهب المدارس المختلفة، هي الحِكَم ويسمونها "سُترات"- ومعناها "خيوط" - يكتبها المعلم أو الطالب، لا لتكون وسيلة لشرح رأيه لغيره بل لتعينه على وعيها في ذاكرته؛ وهذه السُترات ترجع إلى عصور مختلفة فبعضها قديم يرجع تاريخه إلى سنة 200 م ، وبعضها حديث يرجع إلى سنة 1400م؛ وهي جميعاً على كل حال أحدث جداً من التراث الفكري الذي تلخصه، والذي تناقلته العصور بالشفاه، ذلك لأن نشأة هذه المدارس الفلسفية قديمة قدم بوذا، بل لعل بعضها- مثل السانخْيا- كان قد ثبت أساسه عندما ولد بوذا(62).
يبوِّب الهنود مذاهبهم الفلسفية كلها في صنفين: المذاهب الأستيكية التي تُثبت، والمذاهب الناستيكية التي تنفي .
وقد فرغنا فيما مضى من دراسة المذاهب الناستيكية التي أخذ بها على وجه التخصيص أتباع (شارفاكا) وأنصار بوذا والجانتيون؛ والعجيب أن هذه المذاهب إنما سميت (ناستيكا) أي الكافرة الهدامة، لا لأنها شكت أو أنكرت وجود الله (ولو أنهم فعلوا ذلك) بل لأنها شكت وأنكرت أو تجاهلت أحكام الفيدات؛ وكثير من مذاهب (آستيكا) شكت في وجود الله كذلك أو أنكرت وجوده، لكنها مع ذلك سميت بالمذاهب المؤمنة بأصول الدين، لأنها سلمت بصواب الكتب المقدسة صواباً لا يأتيه الباطل، كما قبلت نظام الطبقات؛ ولم يفكر أحد في تقييد الحرية الفكرية، مهما بلغت من الإلحاد، عند تلك المذاهب التي اعترفت بهذه الأسس الجوهرية التي تقوم عليها الجماعة الهندية الأصلية؛ ولما كان تفسير الكتب المقدسة يفتح مجالاً واسعاً لاختلاف الرأي، بحيث استطاع مهرة المفسرين أن يجدوا في الفيدات أي مذهب شاءوا، فقد
صفحة رقم : 900

قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الهند وجيرانها -> الحياة العقلية -> الفلسفة البرهمية ومذاهبها الستة -> مقدمة

أصبح الشرط الوحيد في واقع الأمر، الذي لا بد من تحققه إذا ما أراد الإنسان أن يكون ذا مكانة عقلية في نفوس الناس، هي أن يعترف بالطبقات؛ حتى لقد أصبح هذا النظام هو مصدر السلطان الحقيقي في البلاد؛ معارضته تعدّ خيانة كبرى، وقبوله يغفر عن كثير من السيئات؛ وإذن فالواقع هو أن فلاسفة الهند تمتعوا بحرية أكبر جداً مما أتيح لزملائهم في أوربا الوسيطة حين سادت الفلسفة الاسكولائية (أي المدرسية)، لكن ربما كان هؤلاء الهنود الفلاسفة أقل حرية من مفكري الدولة المسيحية في ظل البابوات المتنورين الذين سادوا أيام النهضة الأوربية.
وآلت السيادة لستة من المذاهب "الأصيلة"- المؤمنة بأصول الفيدات- أو "الدارشانات" (ومعناها البراهين)، حتى لقد أصبح لزاماً على كل مفكر هندي ممن يعترفون بسلطان البراهمة، أن يعتنق هذا المذهب أو ذاك من تلك المذاهب الستة؛ وهي كلها مجمعة على طائفة معينة من الآراء تعتبر ركائز التفكير الهندي: وهي أن الفيدات قد هبط بها الوحي، وأن التدليل العقلي أقل جدارة بالركون إليه في هدايتنا إلى الحقيقة والصواب، من إدراك الفرد وشعوره المباشرين إذا ما أعد الفرد إعداداً صحيحاً لاستقبال العوامل الروحية وأرهفت نفسه إرهافاً باصطناع الزهد والتزام الطاعة مدى أعوام لمن يقومون على تهذيب نفسه؛ وأن الغاية من المعرفة ومن الفلسفة ليست هي السيطرة على العالم بقدر ما هي الخلاص منه؛ وأن هدف الفكر هو التماس الحرية من الألم المصاحب لخيبة الشهوات في أن تجد إشباعها، وذلك بالتحرر من الشهوات نفسها؛ تلك هي الفلسفات التي ينتهي إليها الناس إذا ما أتعب نفوسهم الطموح والكفاح والثراء و "التقدم" و "النجاح".

صفحة رقم : 901

قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الهند وجيرانها -> الحياة العقلية -> الفلسفة البرهمية ومذاهبها الستة -> مذهب نيابا

1- مذهب نيايا
منطق هندي
أول المذاهب "البرهمية" بالترتيب المنطقي للتفكير الهندي (لأننا لا ندري في يقين ترتيبه الزمني، وكل المذاهب في أجزائها الجوهرية متعاصرة) مجموعة من النظريات المنطقية تمتد إلى ألفي عام؛ فكلمة (نيايا) معناها تدليل، أو طريقة لهداية العقل حتى ينتهي إلى نتيجة، وأهم نصوصه هو النص المسمى (سوترا نيايا) الذي يعزى في غير تأكيد الواثق إلى رجل يسمى (جوتاما) عاش في زمن يختلف فيه المؤرخون، وتتراوح تقديراتهم بين القرن الثالث قبل المسيح والقرن الأول بعده(63)، ويفصح جوتاما عن الغاية من مؤلفه فيقول - كما يقول كل مفكري الهنود - إنها تحقيق النرفانا، أو الخلاص من طغيان الشهوات، وإنما تتحقق هذه الغاية في مجال المنطق بالتفكير الواضح المتسق؛ لكنا نشك في أن غايته المباشرة كانت هداية الحائرين في الصراع الذي كان يقوم به المتناظرين من فلاسفة الهنود؛ فهو يصوغ لهم مبادئ الحِجَاج، ويعرض عليهم أحابيل النقاش، ويحصر المغالطات الشائعة في التفكير؛ وتراه - كأنما هو أرسطو آخر - يلتمس بناء التدليل العقلي في طريقة القياس، ويجد عقدة كل تدليل في الحد الأوسط من حدود القياس وكذلك تراه - كأنما هو جيمس آخر أو ديوى آخر، يعتبر المعرفة والفكر أداتين عمليتين ووسيلتين فعالتين يستخدمها الإنسان في إشباع حاجاته وقضاء إرادته، ومقياس صحتهما هو قدرتهما على الوصول إلى فعل ناجح(64) فهو
صفحة رقم : 902
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الهند وجيرانها -> الحياة العقلية -> الفلسفة البرهمية ومذاهبها الستة -> مذهب نيابا

واقعي، ولا شأن له قط بالفكرة السامية التي تزعم أن العالم ينعدم وجوده إذا لم يعد هناك من يدركه، والظاهر أن أسلاف جوتاما في مذهب نيايا كانوا ملاحدة، وأما أتباعه فقد شغلوا أنفسهم بنظرية المعرفة(65) وكانت مهمته أن يقدم للهند دستوراً جديداً للبحث والتفكير، وقاموساً غنياً بالألفاظ الفلسفية.
صفحة رقم : 903
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الهند وجيرانها -> الحياة العقلية -> الفلسفة البرهمية ومذاهبها الستة -> مذهب فايشيشيكا

2- مذهب فايشيشيكا
ديمقريطس في الهند
وكما أن جوتاما هو في الهند بمثابة أرسطو، فكذلك "كانادا" هناك بمثابة ديمقريطس؛ وأن اسمه الذي معناه "آكل الذرات" ليدل بعض الدلالة على احتمال أن يكون شخصاً أسطورياً خلقه خيال المؤرخين؛ ولم يتحدد بالدقة تاريخ صياغة هذا المذهب الفايشيشيكي، فيقال أنه لم تتم صياغته قبل سنة 300 ق.م ولا بعد سنة 800 م ، واسمه مشتق من كلمة "فيشيشا" ومعناها "الجزئية": فالعالم في مذهب "كانادا" مليء بطائفة من الأشياء، لكنها جميعاً لا تزيد على كونها تركيبات مختلفة من الذرات، صيغت في هذا القالب أو ذاك، وتتغير القوالب، لكن الذرات يستحيل عليها الفناء؛ ويذهب "كانادا"- على أتم شبه بديمقريطس فيما يذهب إليه- يذهب إلى أنه ليس في العالم إلا "ذرات وفراغ" وأن الذرات لا تتحرك وفق إرادة إلهية عاقلة، بل بدافع من قوة غير مشخصة، هي القانون- أو "أدرشتا" ومعناها "الخفي" ولما كان الثائر في تفكيره لا ينسل إلا خَلفَاً جامداً، فكذلك كان الأنصار المتأخرون لمذهب فايشيشيكا يعجبون كيف يمكن لقوة عمياء أن تخلع على الكون نظاماً ووحدة، فوضعوا عالماً من أنفس دقيقة جنباً إلى جنب مع عالم الذرات، ثم جعلوا فوق العالمين إله عاقل(66) وهكذا ترى نظرية ليبنتز في "التناسق الأزلي" موغلة في القدم.
صفحة رقم : 904

قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الهند وجيرانها -> الحياة العقلية -> الفلسفة البرهمية ومذاهبها الستة -> مذهب سانخيا

3- مذهب سانخيا
شهرته الذائعة - الميتافيزيقا - التطور - الإلحاد - المثالية -
الروح - الجسد والعقل والنفس - غاية الفلسفة - تأثير سانخيا
يقول مؤرخ هندي عن هذا المذهب "إنه أبعد المذاهب الفلسفية التي أنتجتها الهند دلالة"(67) ولقد وجد الأستاذ "جارْب" الذي كرّس شطراً كبيراً من حياته لدراسة سانخيا، عزاء لنفسه إذ وجد أن "مذهب كابيلا قد اشتمل لأول مرة في تاريخ العالم استقلال العقل الإنساني وحريته الكاملتين، وثقته التامة بقدراته"(68) وهو أقدم المذاهب الستة(69) ولعله أقدم مذهب فلسفي ولسنا ندري شيئاً عن "كابيلا" نفسه، سوى أن الرواية الهندية تزعم - في استهتار بدقة التواريخ كالذي تراه عند التلميذ الناشئ - تمجيداً له، أنه مؤسس فلسفة سانخيا في القرن السادس قبل الميلاد(71).
يجمع "كابيلا" في شخصه الواقعية والاسكلائية، وهو يبدأ كلامه بما يكاد يشبه أقوال الأطباء، إذ يضع قاعدة في أول حكمه يسوقها، وهي "أن انعدام الألم انعداماً تاماً ... هو أكمل غاية ينشدها الإنسان" ، وهو يرفض الاكتفاء بمحاولة الإنسان اجتناب الألم بوسائل جسمانية، ويدحض بشعوذة منطقية آراء الباحثين في الموضوع واحداً واحداً؛ ثم يأخذ بعد ذلك في تكوين مذهبه الميتافيزيقي الخاص به، في سلسلة من "السوترات" المقتضبة الغامضة؛ وهو يسرد في سانخيا أنواع الحقائق وهي خمس وعشرون، ومن هذا السرد للأنواع جاءت كلمة سانخيا (لأن معناها السرد) وهويسمي هذه الحقائق
صفحة رقم : 905
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الهند وجيرانها -> الحياة العقلية -> الفلسفة البرهمية ومذاهبها الستة -> مذهب سانخيا

"تاتوات" (أي الذلكات جمع ذلك) ومنها يتألف العالم في رأي "كابيلا" ؛ وهو يرتب هذه الحقائق في علاقة مركبة تربط بعضها ببعض، ويمكن توضيحها بالقائمة التالية:
(1) أ - العنصر (برا كريتي، أي المنتج) وهو مبدأ فيزيقي عام ينتج بما له من قُوىً تطورية (واسمها جونات).
(2) أ- الذكاء (بوذي) وهو قوة الإدراك الحسي، وهذا بدوره ينتج بما له من قُوىً تطورية.
(3) أ- العناصر الخمسة الدقاق، أو القوى الحاسة للعالم الداخلي، وهي:
(4) 1- البصر
(5) 2- السمع
(6) 3- الشم
(7) 4- الذوق
(8) 5- اللمس
والحقائق المرقومة من (1) إلى (8) تتعاون على إنتاج الحقائق المرقومة (10) إلى (24)
(9) ب - العقل (واسمه ماناس) وهو الإدراك الفكري.
جـ - أعضاء الحس الخمسة، وهي التي تقابل الحقائق المرقومة (4) إلى (8)
(10) 1- العين
(11) 2- الأذن
(12) 3- الأنف
(13) 4- اللسان
(14) 5- الجلد
د- أعضاء الفعل الخمسة
صفحة رقم : 906
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الهند وجيرانها -> الحياة العقلية -> الفلسفة البرهمية ومذاهبها الستة -> مذهب سانخيا

(15) 1- الحنجرة
(16) 2- اليدان
(17) 3- القدمان
(18) 4- أعضاء الإفراز
(19) 5- أعضاء النسل
هـ- عناصر العالم الخارجي الخمسة الغلاظ.
(20) 1- الأثير
(21) 2- الهواء
(22) 3- النار والضوء
(23) 4- الماء
(24) 5- التراب
(25) ب - الروح (بوروشا أي "الشخص") وهو مبدأ نفسي عام وهو الذي يحرك ويحيي "براكريتي" على الرغم من أنه عاجز عن فعل شئ بذاته، وهو يستثير كل ما في "براكريتي" من قوى تطورية لتباشر أوجه نشاطها .

وإن هذا ليبدو في أوله مذهباً مادياً خالصاً، فعالم العقل والنفس، مثل عالم الجسم والمادة، عبارة - فيما يظهر - عن حركة تطورية تتأثر بالعوامل الطبيعية، ومعنى ذلك أنه يسير في حركة مستمرة التكوين والفساد، بادئاً من أدنى الدرجات ومنتهياً إلى أعلاها، ثم يعود إلى أدناها من جديد، كل ذلك والعالم هو هو من حيث عناصره في وحدتها واستمرارها؛ فكأنما كان "كابيلا" يشق الطريق أمام "لامارك" حين يقول إن حاجة الكائن العضوي (النفس) تولد الوظيفة (البصر والسمع والشم والذوق واللمس) ثم تنتج الوظيفة عضوها (العين والأذن والأنف واللسان والجلد)؛ وليس في هذا
صفحة رقم : 907
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الهند وجيرانها -> الحياة العقلية -> الفلسفة البرهمية ومذاهبها الستة -> مذهب سانخيا

المذهب فجوة، بل ليس في أية فلسفة هندية تمييز بين اللاعضوي والعضوي من الكائنات، أو بين عالم النبات وعالم الحيوان، أو بين الحيوان وبين الإنسان؛ فهذه كلها حلقات من سلسلة الحياة الواحدة، أو قل إنها قضبان عجلة التطور والانحلال، أي عجلة الولادة والموت ثم الولادة من جديد؛ وإنما يتحدد مجرى التطور اعتباطاً بتأثير الخصائص أو القوى (الجونات) الثلاث الفاعلة في "العنصر": ألا وهي الطهر والفاعلية والجهل الأعمى، وليست هذه القوى بذات هوى نحو التقدم مناهضة للانحلال، بل إنها تنتج الواحد في إثر الآخر على دورات لا تنتهي، مثلها مثل ساحر عابث يظل يخرج أشياء لا تنتهي صنوفها من قبعة، ثم يعيد وضعها في القبعة، ماضياً في هذه العملية إلى الأبد؛ كما يقول هربرت سبنسر في عصر متأخر هو أن كل مرحلة من مراحل التطور تحتوي في ذاته ميلاً إلى الانحلال باعتباره مكملاً لها ونهاية لا محيص عنها.

وكان "كابيلا" شبيها بلابلاس حين لم يجد ضرورة لفرض قوة إلهية يقسر بها الخلق أو التطور(72)؛ وليس من الغرابة في شئ أن تجد ديانات أو فلسفات بغير إله في هذه الأمة التي هي أكثر الأمم إمعاناً في الدين والفلسفة؛ وإنك لتجد في كثير من نصوص "سانخيا" إنكاراً صريحاً لوجود خالق مشخص، والخلق عندهم شئ لا يمكن للعقل أن يتصوره لأن "الشيء لا يخرج من لا شئ"(73) والخالق والمخلوق جانبان لشيء واحد(74)، وترى "كابيلا" يكفيه اطمئنانا أن يكتب (كأنه "عمانوئيل كانت" على وجه الدقة) بأن الخالق المشخص يستحيل أن يقيم عليه الدليل عقل بشري، لأن كل ما هو موجود - في رأي هذا الشكاك الدقيق - لا يخرج على أحد فرضيتين، فإما أن يكون مقيداً أو حراً، ولا يمكن لله أن يكون هذا أو ذاك ولو كان الله كاملاً لما مست به الحاجة إلى خلق العالم، ثم لو كان ناقصاً لما كان إلهاً؛ ولو كان الله خيراً وله قدرات إلهية، لما أمكن قط أن يخلق عالماً على هذا النقص الذي نراه في العالم
صفحة رقم : 908
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الهند وجيرانها -> الحياة العقلية -> الفلسفة البرهمية ومذاهبها الستة -> مذهب سانخيا

القائم، الذي يغص بكثرة ما فيه من آلام، ولا يأخذه التردد في الموت(75)؛ وإنه لمما يفيدنا أن نرى كيف يناقش مفكرو الهنود هذه المسائل في هدوء، وقل أن يلجئوا فيها إلى اضطهاد أو إهانة، فقد كانوا يرتفعون بالنقاش إلى مستوى لا يسمو إليه في عصرنا الحاضر إلا ما يدور بين أنضج العلماء من جدل؛ وإنما ضمن "كابيلا" الوقاية لنفسه من الأذى باعترافه بصحة الفيدات، وهو يقول "إن الفيدات مرجع صحيح ما دام مؤلفها كان يعرف الحقيقة الثابتة"(76) وبعد أن أرسل هذا القول إرسالاً راح يفكر كما يشاء دون أن يأبه بالفيدات في شيء.

لكنه ليس بالفيلسوف المادي، بل عكس ذلك هو الصحيح، لأنه مثالي وروحي على طريقته الخاصة به، فهو يجعل إدراكنا الحسي مصدراً للعالم الواقع كله، فما لدينا من أعضاء الحس ومن تفكير يخلع على العالم حقيقته وصورته ومغزاه، ويستحيل عليه أن تكون له حقيقة أو صورة أو مغزى بالنسبة لنا إلا هذه؛ أما ماذا يمكن للعالم أن يكون في حقيقته بغض النظر عن حواسنا وأفكارنا فسؤال أخرق ليس له معنى ولا يمكن أن يكون له جواب(77)؛ ثم هو بعد أن يسرد قائمة بأربعة وعشرين عنصراً (تاتوات) تنطوي - في مذهبه الفلسفي - تحت حركة التطور الفيزيقي، قَلَبَ ماديته هذه التي بدأ بها، وأضاف جانباً جديداً على أنه الحقيقة النهائية، وهو أغرب العناصر كلها، بل لعله أهمها، وأعني به "بوروشا" (أي الشخص) أو النفس؛ وليست النفس على غرار ثلاثة وعشرين من العناصر الأخرى، تأتي نتيجة للمادة (براكريتي) أو نتيجة للقوة الفيزيقية، بل هي مبدأ نفسي قائم بذاته، موجود في كل الوجود، أزلي أبدي، عاجز عن الفعل بذاته لكنه رغم ذلك لا يُستغنى عنه في أي فعل؛ لأن "براكريتي" (المادة) يستحيل أن تتغير في سيرها نحو الترقي، والقوى (وتسمى الجونات) يستحيل أن تفعل فعلها، إلا عن طريق الوحي يأتيها من "بوروشا" ؛ وهكذا ترى ما هو فيزيقي تدب فيه الحركة والحياة والفاعلية بحيث يتطور، بدافع من المبدأ النفسي أينما وجهت للنظر
صفحة رقم : 909
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الهند وجيرانها -> الحياة العقلية -> الفلسفة البرهمية ومذاهبها الستة -> مذهب سانخيا

في جنبات الوجود(78) وهاهنا يتحدث "كابيلا" على غرار أرسطو فيقول : " هنالك في الروح تأثير فعال (على براكريتي أي العالم المتطور) سببه ما بينهما من تجاور، على نحو ما يفعل الحجر الممغنط (يجذب الحديد إليه) أعني أن تجاور "بوروشا" و "براكريتي" يجبر هذه الأخيرة على السير في خطوات معلومة للإنتاج؛ وهذا اللون من التجاذب بين الجانبين يؤدي إلى الخلق؛ وبغير هذا المعنى لا تكون الروح عاملاً فعالاً ولا يكون لها شأن بالخلق إطلاقاً" .
والروح متعددة بمعنى أنها موجودة في كل كائن عضوي، لكنها متشابهة في هذه الكائنات جميعاً، ولذا فهي لا تكون عنصراً في تكوين الشخصية الفردية، فالفردية فيزيقية، ونحن ما نحن لا بسبب ما فينا من روح، بل بسبب الأصل الذي عنه نشأنا، أعني التطور والخبرة التي تطرأ على أجسامنا وعقولنا، وفي "سانخيا" يعتبر العقل جزءاً من الجسم كأي عضو آخر؛ فلئن كانت هذه الروح المعتزلة بنفسها البعيدة عن التأثر بغيرها، والتي تكمن فينا، لئن كانت هذه الروح حرة، فإن العقل والجسم مقيدان بقوانين و "جونات" (أي خصائص) العالم الفيزيقي(81) وإذن فليست الروح هي الفاعلة وهي المجبرة، بل الفاعل المجبر هو اتحاد الجسم والعقل؛ كلا ولا هي تتعرض للانحلال والتحول اللذين يصيبان الجسد والشخصية، بل هي محصنة عن تيار الولادة والموت؛ يقول "كابيلا": "العقل يجوز عليه الفساد، أما الروح فلا"(82) والنفس الجزئية التي ترتبط بالمادة وبالجسم هي وحدها التي تولد وتموت وتعود إلى الولادة من جديد، في هذه الذبذبات التي لا تنتهي
صفحة رقم : 910
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الهند وجيرانها -> الحياة العقلية -> الفلسفة البرهمية ومذاهبها الستة -> مذهب سانخيا

ولا تنفك تتناول بالتغيير صور المادة التي منها يتألف تاريخ العالم الخارجي(83)؛ وإذا استطاع "كابيلا" أن يشك في كل شئ، فإنه لم يشك قط في انتقال الروح من جسد إلى جسد.

وهو كسائر المفكرين الهنود ينظر إلى الحياة على أنها خير مشكوك فيه إلى حد كبير، إن كانت خيراً على الإطلاق؛ فقليلة هي أيام المرح، وقليلة هي أيام الأسى؛ والثروة شبيهة بنهر طافح بالماء، والشباب شبيه بجسر متهدم لذلك النهر الطافح بمائه، والحياة شبيهة بشجرة على ذلك الجسر المتهدم"(84)؛ والألم نتيجة لكون النفس والعقل الفرديين مقيدين بالمادة، وفريستين لقوى التطور العمياء، فأين المفر من هذا الألم؟ يجيب فيلسوفنا ألا فرار إلا بالفلسفة؛ لا فرار إلا بإدراكنا أن كل هذه الآلام والأحزان، وكل هذا الانقسام وهذا الفوران بين الأنفس المكافحة، إن هو إلا "مايا" أي وهمُ، هو زينة خادعة تصفُّها أمام عيوننا الحياة والزمن؛ "والعبودية تنشأ من غلطة عدم التمييز"(85) - بين النفس التي تعاني الآلام وبين الروح المحصنة، بين السطح المضطرب وبين الأعماق التي تظل ممتنعة على كل اضطراب وتغير؛ فلكي تسمو على هذه الآلام، لا يقتضيك إلا أن تتبين أن جوهر الإنسان، وهو روحه، يجاوز حدود الخير والشر والسرور والألم والولادة والموت؛ هذه الضروب من النشاط والكفاح، وهذه الألوان من النجاح والهزيمة، لا تغمنا إلا بمقدار ما يفوتنا أن ندرك أنها لا تؤثر في الروح ولا تصدر عنها؛ والإنسان المستنير إنما ينظر إليها كأنما يبصرها من خارج حدودها فكأنه متفرج على الحياد ينظر إلى مسرحية ُتمَثل؛ فلتتبين الروح استقلالها عن الأشياء، وستظفر بالحرية من فورها؛ فعملية إدراكها لهذه الحقيقة كافية في حد ذاتها أن تهيئ لها الفرار من سجن المكان والزمان والألم والعودة إلى التجسد من جديد(86)؛ يقول كابيلا: "إن التحرر الذي يظفر به الإنسان من إلمامه بالحقائق الخمسة والعشرين، يعلمه العلم الذي لا علم سواه - وهو وأنني لست موجوداً، ولا شئ يتعلق بي"(87) ومعنى ذلك أن انفصال
صفحة رقم : 911

قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الهند وجيرانها -> الحياة العقلية -> الفلسفة البرهمية ومذاهبها الستة -> مذهب سانخيا

الأفراد وهمٌ، وكل الموجود هو هذا الزبَّد المتطور المتحلل من مادة وعقل، وأجسام ونفوس، هذا من جهة ومن جهة أخرى هنالك الروح التي لا تتغير ولا تضطرب في خلودها الساكن.
مثل هذه الفلسفة لا يجدي في إراحة الإنسان إذا ما وجد عسراً في فصل نفسه عن بدنه المتألم وذكرياته المعذبة، لكنها فلسفة - فيما يظهر - قد عبرت تعبيراً صادقاً عن الحالة النفسية التي سادت الهند في تأملها الفلسفي؛ وليس هناك من المذاهب الفلسفية الأخرى - إذا استثنينا فيدانتا - ما أثر في العقل الهندي بمثل الأثر العميق الذي كان لهذه الفلسفة فيه؛ وإنا لنلمس أثر "كابيلا" في مثالية بوذا المصطبغة بالإلحاد وبالبحث عن كيفية وصول الإنسان إلى معرفته بالعالم، كما نلمس أثره في فكرة بوذا عن النرفانا، وكذلك نلمس أثر "كابيلا" الماهابهاراتا وفي تشريع مانو، وفي أشعار "البوراتا" وفي "التانترات" - وهي التي تُحَوّر "بوروشا" و "براكريتي" فتجعلهما مبدأي الذكورة والأنوثة اللذين جاءا بالخلق(88)، ثم نلمس فوق هذا كله في مذهب "اليوجا" الذي لا يزيد على كونه تفريغاً لسانخيا من الناحية العملية، فهو يقوم على ما في سانخيا من آراء، ويستخدم ما فيها من عبارات؛ وليس لكابيلا أتباع مباشرون اليوم لأن العقل الهندي قد أسره "شانكارا" و "الفيدانتا" ؛ لكن حكمة قديمة ما تزال ترفع صوتها في الهند حيناً بعد حين، ألا وهي : "ليس في ضروب العلم ما يوازي سانخيا من آراء، وليس في صنوف القوة ما يساوي اليوجا"(89).

صفحة رقم : 912
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الهند وجيرانها -> الحياة العقلية -> الفلسفة البرهمية ومذاهبها الستة -> مذهب اليوجا

4- مذهب اليوجا
القديسون - قدم عهد "اليوجا" - معناها -
مراحل الرياضة الروحية الثماني - غاية "اليوجا" -

معجزات الآخذين "باليوجا" - إخلاص "اليوجا"
في مكان ساكن جميل
ألقى عصاه ليستقر، ولم يكن المكان موغلاً في الارتفاع
ولا مكان موغلاً في الانخفاض؛ وهناك فليسكن؛ متاعه
قماشةٌ وجلد غزال وحشيشة "الكوشا" ؛
هناك ركّز فكره تركيزاً في "الواحد"
ممسكاً بزمام قلبه وحواسه، صامتاً، هادئاً،
هناك فليمارس "اليوجا" ليخلص إلى طهارة الروح،
ويضبط جسمه فلا يتحرك
منه عنق ولا رأس؛ ونظرته مستغرقة كلها
في طرف أنفه، محجوباً عن كل ما حوله،
هادئاً في روحه، خالياً من الخوف،
مفكراً في نذر (البراهما كاريا) الذي نذره على نفسه،
مخلصاً، مفكراً "فيّ" تائهاً في تفكيره "عني" .
على سُلَّم المستحمين، ترى "القديسين" جالسين هنا وهناك، يحيط بهم هنود ينظرون إليهم نظرة الإجلال، ومسلمون ينظرون في عدم اكتراث، وسائحون يحدقون بالأبصار؛ ويسمى هؤلاء القديسون باليوجيين؛ وهم بمثابة
صفحة رقم : 913
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الهند وجيرانها -> الحياة العقلية -> الفلسفة البرهمية ومذاهبها الستة -> مذهب اليوجا

المعبّر عن الديانة الهندية والفلسفة الهندية تعبيراً ليس بعد وضوحه وغرابته وضوح أو غرابة؛ ثم تراهم كذلك في عدد أقل، في الغابات وعلى جنبات الطرق، لا يتحركون ويستغرقون في تفكيرهم؛ منهم الكهول ومنهم الشباب، منهم من يلبس خرقة بالية على كتفيه ومنهم من يضع قماشاً على ردفيه، ومنهم من لا يستره إلا تراب الرماد ينثره على جسده وخلال شعره المزركش؛ تراهم جالسين القرفصاء وقد لفوا ساقاً على ساق، لا يتحركون، ويركزون أبصارهم في أنوفهم أو سُرَرِهم، بعضهم يحدقون في الشمس ساعات متواليات بل أياماً متعاقبة، فيفقدوا إبصارهم شيئاً فشيئاً، وبعضهم يحيطون أنفسهم بألسنة حامية من اللهب في قيظ النهار، وبعضهم يمشون حفاة على جمرات النار، أو يصبون الجمرات على رؤوسهم؛ وبعضهم يرقدون عرايا الأجساد مدى خمسة وثلاثين عاماً على أسرّة من حراب الحديد وبعضهم يدحرجون أجسامهم على الأرض آلاف الأميال حتى يصلون مكاناً يحجون إليه وبعضهم يصفدون أنفسهم بالأغلال في جذوع الشجر، أو يزجون بأنفسهم في أقفاص مغلقة حتى يأتيهم الموت، وبعضهم يدفنون أنفسهم في الأرض حتى الأعناق ويظلون على هذا النحو أعواماً طوالاً، أو طول الحياة، وبعضهم يُنْفِذون سلكاً خلال الأصداغ، حتى يمر من الصدغين؛ فيستحيل عليهم فتح الفكين، وبهذا يحكمون على أنفسهم بالعيش على السوائل وحدها، وبعضهم يحتفظون بأيديهم مقبوضة حتى تنفذ أظفارهم من ظهور أكفهم وبعضهم يرفعون ذراعاً أو ساقاً حتى تذبل وتموت؛ وكثير منهم يجلسون صامتين في وضع واحد، وربما ظلوا في وضعهم أعواماً، يأكلون أوراق الشجر وأنواع البندق التي يأتيهم بها الناس؛ وهم في ذلك كله يتعمدون قتل إحساسهم ويركزون كل تفكيرهم بغية أن يزدادوا علماً؛ وأغلبهم يجتنبون هذه الطرائق التي تستوقف الأنظار، ويبحثون عن الحقيقة في سكينة ديارهم .
صفحة رقم : 914

قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الهند وجيرانها -> الحياة العقلية -> الفلسفة البرهمية ومذاهبها الستة -> مذهب اليوجا

لقد كان لنا رجال كهؤلاء في عصورنا الوسطى، أما اليوم فإذا أردت أن تصادف أشباههم في أوربا وأمريكا فعليك أن تبحث في زوايا البلاد وأركانها؛ لكن الهند عرفت هؤلاء الناس مدى ألفين وخمسمائة عام - ويجوز أن يرجع عهدهم إلى ما قبل التاريخ حين كانوا للقبائل الهمجية - فيما نظن - بمثابة الأولياء وهذه الطريقة في التأمل الزاهد التي تعرف باسم "يوجا" كانت موجودة أيام "الفيدات"(90) ؛ و"يوبانشاد" و "الماهابهاراتا" كلاهما اعترفتا بهذه الطريقة التي ازدهرت في عصر بوذا(91)؛ حتى الإسكندر قد استوقف انتباهه قدرة هؤلاء الناس على رياضة أنفسهم في تحمل الألم صامتين، فوقف يفكر في أمرهم، ثم دعا أحدهم أن يصحبه ليعيش معه، لكن (اليوجي) رفض في عزم وثبات - كما رفض "ديوجنيس" - قائلاً إنه لا يريد شيئاً من الإسكندر، مقتنعاً بخلاء وفاضه؛ وكذلك ضحكت جماعة الزاهدين بأسرها سخرية من الرغبة الصبيانية التي جاشت في صدر ذلك المقدوني أن يفتح العالم، على حين أن مساحة لا تتجاوز أقدام قليلة من الأرض - كما قالوا له - تكفي الإنسان كائناً من كان، حياً أو ميتاً؛ وحكيم آخر صحب الإسكندر إلى فارس، وهو (كالاَنسْ) (سنة 326 ق . م) فمرض هناك، واستأذن الإسكندر في أن يموت، قائلاً إنه يؤثر الموت على المرض؛ وصعد على كومة من حطب مشتعل، هادئاً، واحترق لم يبعث صوتاً، فأدهش اليونان الذين لم يكونوا قد رأوا قط هذا الضرب من الشجاعة التي تقذف بالنفس في الموت دون أن يكون في الأمر عنصر الاغتيال الإجرامي(92)؛ ومضى بعد ذلك قرنان (حوالي 150 ق.م) وعندئذ جمع "باتانجالي" أجزاء المذهب من أقوال وأفعال في كتابه المشهور "قواعد اليوجا" الذي لا يزال يتخذ مرجعاً في جماعات اليوجيين من بنارس إلى لوس أنجلس(93)؛ وقد ذكر يوان شوانج الذي زار البلاد في

القرن السابع الميلادي، أن هذا المذهب كان عندئذ كثير
صفحة رقم : 915
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الهند وجيرانها -> الحياة العقلية -> الفلسفة البرهمية ومذاهبها الستة -> مذهب اليوجا

الأتباع(94) ووصفه (ماركوبولو) حوالي سنة 1296م وصفاً حياً(95)، وبعد كل هذه القرون، لا نزال اليوم نرى المتطرفين من أتباعه وعددهم يتراوح من مليون إلى ثلاثة ملايين في الهند(96) يعذبون أنفسهم بغية أن يظفروا بسكينة المعرفة؛ إن (اليوجا) لتعد من أقوى الظواهر تأثيراً وأوقعها في النفس في تاريخ الإنسان بشتى ظواهره.
وبعد، فما هي "يوجا" ؟ معنى الكلمة الحرفي هو النير، وليس المقصود أن يخضع الإنسان نفسه؛ أي يدمجها في الكائن الأسمى(97)، بمقدار ما يقصدون بالكلمة إخضاع الإنسان لنير النظام التقشفي المتزهد الذي يلتزمه الطالب ليبلغ ما يريده لنفسه من طهارة الروح من كل أدران المادة وقيودها، ويحقق ما يسمو على الطبيعة من ذكاء وقوة(98)؛ إن المادة هي أس الآلام والجهل؛ ومن ثم كانت غاية اليوجا أن تتحرر النفس من كل ظواهر الحس وكل ارتباطات الجسد بشهواته؛ فهي محاولة أن يبلغ الإنسان التنوير الأعلى والخلاص الأسمى في حياة واحدة، بأن يكفر في وجود واحد عن كل الخطايا التي اقترفها في تجسدات روحه الماضية كلها(99).
ومثل هذا التنوير لا يأتي بضربة واحدة، بل يجب على المريد أن يخطو إلى غايته خطوة خطوة؛ وليس في الطريق مرحلة واحدة يمكن فهمها لأي إنسان إذا لم يكن قد مر على المراحل السابقة كلها، فلا سبيل إلى بلوغ اليوجا إلا بعد درس ورياضة للنفس طويلين صابرين، ومراحل اليوجا ثمان:
1- "ياما" أو موت الشهوة، وهاهنا ترضى النفس بقيود "أشما" و "براهما كاريا" وتمتنع عن كل سعي وراء مصالحها وتحرر نفسها من كل رغباتها وجهادها الماديين، وتتمنى الخير للكائنات جميعاً(100).

2- "نياما" وهي اتبّاع أمين لبعض القواعد المبدئية للوصول إلى اليوجا، كالنظافة والقناعة والتطهر والدراسة والتقوى .
3- "أسانا" ومعناها وضع معين للجسد، والغرض منه إيقاف كل
صفحة رقم : 916
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الهند وجيرانها -> الحياة العقلية -> الفلسفة البرهمية ومذاهبها الستة -> مذهب اليوجا

إحساس؛ وأفضل "أسانا" لهذه الغاية هي أن تضع القدم اليمنى على الفخذ اليسرى، والقدم اليسرى على الفخذ اليمنى، وأن يتصالب الذراعان وأن تمسك بالإصبعين الكبريين في القدمين، وأن تحني الذقن على الصدر وتوجه النظر إلى طرف الأنف(101).
4- "براناياما" ومعناها تنظيم التنفس، فهذه الرياضة قد تعين صاحبها على نسيان كل شئ ما عدا حركة التنفس، وبهذا يفرغ عقله من شواغله استعداداً للخلاء القابل الذي يجب أن يسبق استغراق تفكيره في تأملاته؛ وفي الوقت نفسه قد يتعلم الإنسان بهذه الرياضة طريقة الحياة على الحد الأدنى من الهواء فيستطيع أن يدفن نفسه في التراب أيام كثيرة دون أن يختنق.
5- "براتياكارا" ومعناها التجريد، وهاهنا يسيطر العقل على جميع الحواس ويباعد بين نفسه وبين كل المُحَسَّات .
6- "ذارانا" أو التركيز، وهو أن يملأ العقل والحواس بفكرة واحدة أو موضوع واحد بحيث يصرف النظر عن كل ما عداه فتركيز الانتباه في موضوع واحد كائناً ما كان مدة كافية من شأنه أن يحرر النفس من كل إحساس، وكل تفكير في موضوع معين وكل شهوة أنانية، ما دام العقل قد تجرد عن الأشياء فقد يصبح حراً بحيث يحس الجوهر الروحي للوجود على حقيقته .
صفحة رقم : 917
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الهند وجيرانها -> الحياة العقلية -> الفلسفة البرهمية ومذاهبها الستة -> مذهب اليوجا

7- "ذيانا" أو التأمل، وهي حالة تكاد تكون تنويماً مغناطيسياً تنتج عن "ذارانا" ، ويقول "باتانجالي" إنها يمكن استحداثها من الدأب على تكرار المقطع المقدس "أوم" ؛ وأخيراً يصل الزاهد إلى المرحلة التالية التي تعد خاتمة المطاف في سبيل اليوجا.
8- "ساماذي" أو تأمل الغيبوبة؛ فهاهنا يمحى من الذهن كل تفكير، فإذا ما فرغ العقل من مكنونه، فقد الشعور بنفسه على أنه كائن مستقل بذاته(103) وينغمس في مجموعة الوجود، ويجمع كل الأشياء في كائن واحد، وهو تصوّرٌ إلهيّ مبارك؛ ويستحيل وصف هذه الحالة بكلمات لمن لم يمارسها، وليس في وسع الذكاء الإنساني أو التدليل المنطقي أن يجد لها صيغة تعبر عنها " فلا سبيل إلى معرفة اليوجا إلا عن طريق اليوجا"(104).
ومع ذلك فليس ما ينشده "اليوجيُّ" هو الله أو الاتحاد بالله؛ ففي فلسفة اليوجا ليس الله "واسمه إشفارا" هو خالق الكون أو حافظه، وليس هو من يثيب الناس أو يعاقبهم؛ بل هو لا يزيد على كونه فكرة من فكرات كثيرة مما يجوز لنفس أن تركز فيها تأملها وتتخذها وسيلة لمعرفة الحقيقة؛ الغاية المنشودة في صراحة هي فصل العقل عن الجسد، هي إزاحة كل العوائق المادية عن الروح، حتى يتسنى لها - في مذهب اليوجا - أن تكسب إدراكاً وقدرة خارقتين للطبيعة(105) لأنه إذا نفضت عن الروح كل أثار خضوعه للجسد واشتباكها فيه، فإنها لا تتحد مع براهما وكفى، بل تصبح براهما نفسه؛ إذ أن براهما ليس إلا ذلك الأساس الروحي الخبئ، ذلك الروح اللامادي الذي لا يتفرد بنفس، والذي يبقى بعد أن تطرد بالرياضة كل أعلاق الحواس؛ فإذا الحد الذي تستطيع عنده الروح أن تحرر نفسها من بيئتها وسجنها الماديين، إلى هذا الحد تستطيع أن تكون براهما بحيث تمارس ذكاء برهمياً وقوة برهمية؛ وهنا يظهر الأساس السحري للدين من جديد، حتى ليكاد يتهدد الدين نفسه بالخطر - هو عبادة القوى التي هي أسمى من الإنسان.
صفحة رقم : 918

قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الهند وجيرانها -> الحياة العقلية -> الفلسفة البرهمية ومذاهبها الستة -> مذهب اليوجا

كانت "اليوجا" في أيام "اليوبانشاد" صوفية خالصة - أعني محاولة تحقيق اتحاد الروح بالله؛ وتروي الأساطير الهندية أنه في سالف الأيام قد أتيح "لحكماء" سبعة (واسمهم أرشاء) أن يظفروا بالتوبة والتأمل بمعرفة تامة بكافة الأشياء(106)؛ ثم اختلطت "اليوجا" بالسحر حتى أفسدها في العهود المتأخرة من تاريخ الهند؛ وأخذت تشغل نفسها بالتفكير بالمعجزات أكثر مما تفكر في سكينة المعرفة؛ ويعتقد "اليوجي" أنه بوساطة "اليوجا" يستطيع أن يخدر أي جزء من أجزاء جسده بتركيز فكري فيه وبذلك يجعله تحت سلطانه(107) فيمكنه إن أراد أن يخفى عن الأبصار، أو أن يحول بين جسده وبين الحركة مهما كان الدافع إليها أو أن يمر في أية لحظة شاء أو من أي جزء شاء من أجزاء الأرض جميعاً، أو أن يحيى من العمر ما شاء أن يحيا، أو أن يعرف الماضي أو المستقبل كما يعرف أبعد النجوم(108).
ولزاماً على المتشكك أن يعترف بأنه ليس في هذه الأشياء كلها ما هو مستحيل؛ ففي وسع الجانبين أن يبتكروا من الفروض ما يستحيل على الفلاسفة أن يدحضوه؛ وكثيراً ما يشترك الفلاسفة وإياهم في مثل هذا الابتكار للفروض الغريبة؛ فشدة النشوة والتخليط الذهني يمكن إحداثهما بالصوم وتعذيب النفس؛ والتركيز يمكن أن يميت شعور الإنسان بالألم في موضع معين، أو بصفة عامة، وليس في وسعنا أن نجزم بألوان الطاقة الكامنة والقدرات المدخرة في العقل المجهول؛ ومع ذلك فكثير من "اليوجيين" لا يزيدون على كونهم سائلين الناس مالاً، يتحملون هاتيك الكفارات الأليمة طمعاً في الذهب، الذي ُيتهَّم الغربيون وحدهم بالطمع فيه، أو هم يتحملونها سعياً وراء ما يسعى إليه الإنسان مدفوعاً بطريقته الفطرية، من لفت الأنظار واستثارة الإعجاب ؛ إن الزهد هو ما يقابل الانغماس في شهوات الحس، أو هو
صفحة رقم : 919

قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الهند وجيرانها -> الحياة العقلية -> الفلسفة البرهمية ومذاهبها الستة -> مذهب اليوجا

على أحسن تقدير محاولة التحكم في زمام تلك الشهوات؛ ولكن هذه المحاولة نفسها تدنو من شهوة أخرى هي رغبة إيقاع الأذى، مما يجعل الزاهد يكاد ينتشي من الغبطة كلما أنزل بنفسه الألم؛ ولقد كان البراهمة من الحكمة بحيث حرموا على أنفسهم مثل هذه الرياضات، ووعظوا أتباعهم بأن ينشدوا القداسة في أداء الواجبات المألوفة في شؤون الحياة، أداءً يرضي ضمائرهم(110).

صفحة رقم : 920
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الهند وجيرانها -> الحياة العقلية -> الفلسفة البرهمية ومذاهبها الستة -> بيرفا ميمامسا

5- بيرفا- ميمانسا
انتقالنا من "اليوجا" إلى "بيرفا- ميمانسا" هو انتقال من أشهر المذاهب الستة للفلسفة البرهمية إلى أقلها شهرة وأهمية؛ وكما أن "اليوجا" أدخلت في السحر والتصوف منها في الفلسفة، فكذلك هذا المذهب أقرب إلى الدين منه إلى الفلسفة، بل هو بمثابة رد الفعل من جانب المتمسكين بأصل الدين لينهضوا به مذاهب الزندقة التي قال بها الفلاسفة؛ فصاحب هذا المذهب، وهو "جيميني" يحتج على "كابيلا" و"كانادا" في إنكارهما لحجة الفيدات، مع اعترافهما بهذه الكتب المقدسة، ويقول "جيميني" إن العقل الإنساني أضعف من أن يحل مشكلات الميتافيزيقا واللاهوت فالعقل مستهتر يقدم نفسه لخدمة الأهواء كائنة ما كانت فهولا يعطينا "علماً" و"حقيقة" بل يكتفي بصبغ ميولنا الحسية وزهونا بصبغة المنطق؛ إن الطريق إلى الحكمة والسلام لا يمتد في المنطق والتواءاته الفارغة، بل تراه في التسليم المتواضع بما جاء عن طريق الوحي ونقله الخلف عن السلف، وفي الأداء المتواضع للشعائر كما فصّلتها الكتب المقدسة، وهذه وجهة من النظر لا تعدم وجهاً للدفاع.
صفحة رقم : 921

قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الهند وجيرانها -> الحياة العقلية -> الفلسفة البرهمية ومذاهبها الستة -> مذهب الأفيدانتا

6- مذهب الأفيدانتا
أصله - شانكارا - المنطق - نظرية المعرفة -
"مايا" - علم النفس - اللاهوت - الله - الأخلاق -
مشكلات المذهب - موت شانكارا
كلمة "فيدانتا" معناها في الأصل ختام الفيدات- أعني اليوبانشاد؛ أما اليوم فيطلقها الهنود على المذهب الفلسفي الذي حاول أن يدعم بالمنطق بناء الفكرة الأساسية التي وردت في كتب اليوبانشاد- تلك الفكرة التي تسود نغمتها جوانب الفكر الهندي بأسره- وهي أن الله (براهما) والروح (أتمان) شيء واحد؛ وأقدم صورة وصلتنا لهذه الفلسفة التي هي أوسع الفلسفات الهندية شيوعاً، هي كتاب "براهما- سوترا" لصاحبه "بدارايانا" (حوالي 200 ق.م) وقوام الكتاب خمسمائة وخمسة وخمسون حكمة، تعلن أولاها الغاية من الكتاب كله، وهي: "لنفرغ الآن إلى الرغبة في معرفة براهما" ؛ وكادت تمضي بعد ذلك ألف عام، حين كتب "جودايادا" تعليقا على هذه "السوترات" (أي الحكم) ثم علم "جوفندا" أسرار المذهب، وهذا بدوره لقَّنها لشانكارا، الذي ألف أشهر ما كتب عن الفيدانتا من شروح، وكان بما ألف أعظم الفلاسفة الهنود جميعاً .
استطاع "شانكارا" في حياته القصيرة البالغة اثنين وثلاثين عاماً، أن يحقق الاتحاد بين شخصيتي الحكيم والقديس، بين صفتي الحكمة والرحمة، وهو اتحاد يتصف به أسمى ما أنجبته الهند من صنوف الإنسان؛ ولد بين جماعة نشيطة في البحث العقلي من براهمة ملبار، وهم المعروفون باسم البراهمة النمبرديين، وزهد في ترف الدنيا، وانخرط في سلك "الساميناسيين" وهو لم يزل يافعاً، يعبد الآلهة الهندية على اختلافها دون أن يزعم لنفسه القدرة على فهمها على الرغم من أنه كان مغموراً في موجة من التصوف تكشف له عن فكرة "براهما" الواحد الذي يضم الآلهة جميعاً؛ وخُيّل إليه أنه ما ورد في
صفحة رقم : 922

قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الهند وجيرانها -> الحياة العقلية -> الفلسفة البرهمية ومذاهبها الستة -> مذهب الأفيدانتا

كتب اليوبانشاد، هو أعمق الدين واعمق الفلسفة في آن معاً؛ فهو يستطيع أن يعفوا عن عامة الناس في عبادتهم لآلهة متعددة، لكنه لا يجد ما يغفر به عن الإلحاد في "سانخيا" أو عن لا أدرية "بوذا" ؛ سافر إلى الشمال ليمثل الجنوب فيه فاكتسب هناك شهرة في جامعة بنارس، حدت بالجامعة أن تخلع عليه أسمى ما عندها من أسباب التكريم، وبعثت به مصحوباً بطائفة كبيرة من الأتباع، ليذود عن البرهمية في كل ساحات المناظرة في الهند؛ ولعله كتب وهو في بنارس شرحه المشهور لليوبانشاد، وألف "بهاجافاد- جيتا" الذي هاجم فيه بحماسة دينية ودقة اسكولائية طوائف الزنادقة في الهند، وأعاد للبرهمية زعامتها الفكرية التي سلبها إياها "بوذا" و "كابيلا".

يشيع في هذه الأبحاث الجدلية كثير من الميتافيزيقا، وفيها أقفار يباب من نصوص معروضة، لكننا نغفر ذلك كله لرجل استطاع وهو في سن الثلاثين أن يكون في الهند "أكويناس" و "كانت" معاً؛ فهو مثل "أكويناس" يسلم بكل ما في الكتب المقدسة في بلده من حجة على أنها وحي سماوي ثم يطوف باحثاً عن أدلة من خبرته ومن منطق العقل، يؤيد بها كل تعاليم تلك الكتب المنزلة؛ لكنه مع ذلك يختلف عن "أكويناس" في أنه ينكر على العقل وحده قدرته على القيام بهذه المهمة؛ بل هو على عكس ذلك، يتساءل قائلاً ألم نبالغ في قوة العقل وما يقوم به، وفي وضوحه وجدارته بالركون إليه؟(111) فقد أصاب "جيميني" حين قال إن العقل محام مستعد للبرهنة على كل ما نريد البرهنة عليه؛ لأن العقل يستطيع أن يجد لكل حجة حجة تدحضها وتكون مساوية لها؛ والنتيجة التي ينتهي إليها هي شك يزعزع كل ما في أخلاقنا من قوة، ويزلزل كل ما في حياتنا من قيم؛ ويقول "شانكارا": ليس المنطق هو الذي يعوزنا إنما تعوزنا البصيرة النافذة؛ وهي ملكة (شبيهة بملكة الفنون) ندرك بها دفعة واحدة ما هو حيوي في الأمر الذي نحن بصدده، فنميزه مما ليس
صفحة رقم : 923
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الهند وجيرانها -> الحياة العقلية -> الفلسفة البرهمية ومذاهبها الستة -> مذهب الأفيدانتا

بذي خطر، ونفرق بها بين ما هو أبدي وما هو زمني عابر، ونخرج بها الكل من الجزء؛ تلك هي أول ما يلزم للفلسفة من شروط؛ والشرط الثاني هو أن نقبل إقبالاً عن طواعية على الملاحظة والبحث والتفكير، لا نبتغي من ذلك كله غاية وراء المعرفة لذاتها، لا نريد من ورائه اختراعاً أو ثراء أو قوة؛ إنه بمثابة انسحاب الروح حتى لا تتعرض لكل ما يصاحب العمل من استثارة وميل مع الهوى واستمتاع بالثمرة؛ وثالث الشروط هو أن يكتسب الفيلسوف ضبطاً لنفسه وصبراً وهدوءاً، ولابد له أن يروض نفسه على الحياة المترفعة عن الإغراء الجسدي والمشاغل المادية وأخيراً يجب أن تشتعل في أعماق نفسه رغبة في "الموكشا" ومعناها التحرر من الجهل، والقضاء على كل الشعور بنفسه الفردية المنفصلة عن سواها، والاندماج السعيد في براهما الذي هو المعرفة الكاملة والاتحاد اللانهائي(112) واختصاراً، ليس الطالب بحاجة إلى منطق العقل بقدر ما هو بحاجة إلى تطهير الروح ورياضتها رياضة تزيد أغوارها عمقاً؛ ولعل في ذلك سر التربية الحقيقية في شتى صورها.
أقام "شانكارا" أساس فلسفته عند نقطة عميقة دقيقة، لم يستطع أحد بعده أن يدركها إدراكاً واضحاً، حتى قيض الله لها بعد ألف عام (عمانوئيل كانت) فكتب كتابه (نقد العقل الخالص)؛ ذلك أنه ألقى على نفسه سؤالاً هو: كيف تمكن المعرفة؟ إن كل علمنا فيما يبدو آت من الحواس، فهو لا يكشف عن الواقع الخارجي كما هو في ذاته، بل يكشف عن طريقة تشكيلنا لذلك الواقع بحواسنا- وربما بلغ التشكيل حد التغيير من الصورة الأصلية تغييراً أساسياً- وإذن فبالحس وحده يستحيل أن نعرف "الحقيقي" معرفة تامة؛ وكل ما قد نعرفه عنه هو العلم به وهو في ثوب المكان والزمان والسببية، وقد يكون ذلك الثوب نسيجاً خلقته حواسنا وعقولنا، فصَوَّرته أو طوَّرته على نحو يتيح له أن يتصيد ثباتاً من هذا الواقع السيال المفلات، وأن يمسك بهذه الصور الثابتة عنه، مع أننا إن استطعنا

صفحة رقم : 924
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الهند وجيرانها -> الحياة العقلية -> الفلسفة البرهمية ومذاهبها الستة -> مذهب الأفيدانتا

أن نحدس بوجود ذلك الواقع الخارجي، فيستحيل علينا أبداً أن نصف خصائصه الموضوعية كما تقع في ذاتها؛ ذلك لأن أسلوبنا في الإدراك سيظل إلى الأبد ممتزجاً بالشيء المدرك امتزاجاً لا سبيل إلى عزل الواحد عن الآخر.
وليس هذا بالذاتية الجوفاء، التي يقول بها من يريد أن يغلق على طويته دون أن يجد سبيلاً لاتصاله بالعالم الخارجي، والذي يظن أنه مستطيع أن يحطم العالم تحطيماً إذا تركه واسترسل في النعاس؛ إن العالم موجود، لكنه "مايا" وليس معنى الكلمة أنه وهم بل هو ظواهر، هو مظهر اشترك عقل الإنسان في تكوينه؛ وعجزنا عن إدراك الأشياء إلا في صورها التي تعرض علينا وهي في الزمان والمكان، ثم عجزنا عن التفكير فيها إلا على أساس السببية والتغير، إن هو إلا قصور فطري في طبائعنا، هو "أفيديا" أو جهل مرتبط ارتباطاً شديداً بطريقة إدراكنا نفسها، وعلى ذلك فهو جهل كتب على الجسد أن يصاب به؛ إن "مايا" و "أفيديا" هما الجانبان الذاتي والموضوعي للوهم الأعظم الذي يحمل العقل على الظن بأنه يعرف حقيقة العالم؛ إننا نرى كثرة في الأشياء وتياراً من التغير، بسبب "مايا وأفيديا" أعني بسبب ما ورثناه منذ الولادة من جهل محتوم؛ وحقيقة الأمر هي أن ثمة كائناً واحداً، وما التغيير إلا "مجرد اسم" نطلقه على تغير صور الأشياء في سطوحها الظاهرة؛ ووراء "المايا" أي النقاب الذي يحجب عنا الحقيقة، والذي قوامه تغير الأشياء، تستطيع أن تنفذ إلى الحقيقة الكلية الواحدة، براهما، لا بطريق الحواس ولا بقوة العقل، بل بالبصيرة النافذة والإدراك الفطري المباشر من روح مرنت على ذلك الضرب من الإدراك.

هذا القصور الطبيعي للحس والعقل، الذي تسببه لهما أعضاء الحس وصور التفكير العقلي، يحول كذلك بيننا وبين إدراك الروح الواحد الصمد الذي يكمن وراء الأرواح والعقول الجزئية الفردية، فنفوسنا المنعزل بعضها عن بعض، والتي نراها بالإدراك الحسي والتفكير العقلي، لا تقل بطلاناً عن خيالات الزمان والمكان؛ إن الفروق بين الأفراد، والتمييز بين الشخصيات
صفحة رقم : 925
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الهند وجيرانها -> الحياة العقلية -> الفلسفة البرهمية ومذاهبها الستة -> مذهب الأفيدانتا

مرتبطان بالجسم والمادة، وهما من خصائص عالم التغير الذي يشبه في تغيره تصاوير الكاليدوسكوب وهذه النفوس التي لا تزيد على مجرد ظواهر زائلة، ستمضي بانقضاء الظروف المادية التي هي جزء منها، أما الحياة الكامنة وراءها والتي نحسها في دخائلنا حين ننسى المكان والزمان والسببية والتغير، هي جوهرنا الصميم وحقيقتنا الأصيلة؛ تلك هي "أتمان" التي نشترك فيها مع سائر النفوس والأشياء، والتي لا تتجزأ ولا يخلو منها مكان، وهي وبراهما، أي الله، شيء واحد بعينه(113).

ولكن ما الله ؟ إنه كما في النفس نفسان : الذات و "أتمان" ، والعالم عالمان: عالم الظواهر وعالم الحقائق فكذلك الرب ربان : إشفارا، أي الخالق، وهو الذي تعبده عامة الناس لما يتبدى لهم من مكان وزمان وسببية وتغير، وبراهما أي الكائن الخالص، وهو الذي يعبده المتدينون المتفلسفون الذين يبحثون- ويجدون- حقيقة واحدة عامة وراء الأشياء والنفوس المستقل بعضها عن بعض؛ وتلك الحقيقة الواحدة لا تتغير وسط هذه التغيرات كلها، ولا تتجزأ رغم هذه الانقسامات كلها. أبدية رغم تغير الأشياء في صورها ورغم كل ما نشاهده من ولادة وموت؛ فتعدد الآلهة- بل العقيدة في وجود الله نفسها- نتيجة تتفرع عن عالم "المايا" و "الأفيديا" ؛ وهي صور تعبدية تقابل صور الإدراك الحسي والتفكير؛ وهي ضرورية لحياتنا الخلقية على نحو ما يكون المكان والزمان والسببية عناصر ضرورية لحياتنا الفكرية، لكن حقيقتها ليست مطلقة، وليس لها صدق موضوعي في واقع الوجود(114).
وليس وجود الله معضلة في رأي شانكارا، لأنه يعرّف الله بالوجود، ويجعل الكون الحقيقي كله والله شيئاً واحداً بعينه؛ أما عن وجود إله مشخص، يكون خالقاً ومُخَلّصاً، فقد يكون هناك- في رأيه- موضع للشك؛ مثل هذا الإله في مذهب هذا المفكر الذي سبق "كانت" في تفكيره، لا تمكن البرهنة عليه بالعقل، وكل ما نستطيعه إزاءه هو أن نفرض وجوده فرضاً باعتباره ضرورة عملية(115) يهب الطمأنينة لعقولنا القاصرة والتشجيع
صفحة رقم : 926
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الهند وجيرانها -> الحياة العقلية -> الفلسفة البرهمية ومذاهبها الستة -> مذهب الأفيدانتا

لأخلاقنا المتهافتة؛ قد يجوز للفيلسوف أن يعبد الله في أي معبد شاء، ويركع أمام أي إله بغير تفريق، لكنه سيجاوز هذه الصور العامية في العقيدة الدينية، التي ُتغْتفَر للعوام، وسيشعر بما في هذا التعدد من وهم خادع، مدركاً ما بين الأشياء كلها من وحدة لا تعرف التعدد ، إنه سيقدس الكون نفسه على أنه الكائن الأعلى- هذا الكائن الذي يعز على الوصف، لا تحده الحدود، ولا يحصره المكان ولا الزمان ولا يخضع للسببية، ولا يطرأ عليه التغير؛ إنه مصدر الحقيقة كلها ومادتها ، ويجوز لنا أن نصف براهما بأنه "شاعر بذاته" و "عاقل" بل و "سعيد" ما دام براهما يشتمل على النفوس كلها، ويمكن أن تتصف النفوس بأمثال هذه الصفات(116) لكن إلى جانب ذلك أيضاً يمكن أن نصف براهما بسائر الصفات جميعاً، مادام مشتملاً على خصائص الأشياء كلها؛ وبراهما في جوهره محايد يرتفع عن كونه مشخصاً أو مذكراً أو مؤنثاً، وهو يسمو على الخير والشر، وهو فوق كل الفوارق الخلقية، وكل أوجه الاختلاف بين الأشياء وكل الخصائص والصفات وكل الشهوات والغايات؛ إن براهما هو السبب والمسبب معاً وهو جوهر العالم الخفي الذي لا تحدده قيود الزمان.
وهدف الفلسفة هو أن تجد ذلك السر بحيث يذوب الواجد فيما وجد من سرّ ؛ ففي رأي شانكارا أن اندماج الإنسان بالله معناه أن يسمو على- أو يغوص إلى ما دون- انفصال النفس عن سائر النفوس، وقِصَر أمدها في الحياة، وكل ما لها من مصالح وأغراض توافه؛ وأن يصبح على غير شعور بالأجزاء
صفحة رقم : 927
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الهند وجيرانها -> الحياة العقلية -> الفلسفة البرهمية ومذاهبها الستة -> مذهب الأفيدانتا

والأقسام والأشياء جميعاً، وأن يكون مندمجاً في سكينة، وفي اتحاد نرفاني خال من كل شهوة، بذلك المحيط الكوني العظيم الذي لا تصطرع فيه الغايات ولا تتنافس النفوس، وليس فيه أجزاء ولا تغير ولا مكان ولا زمان ؛ ولكي يظفر الإنسان بهذه السكينة السعيدة (التي تسمى أناندا) فلا يكفي الإنسان أن ينكر العالم، بل يجب إلى جانب ذلك أن ينكر ذاته؛ لا ينبغي أن يأبه لأملاك أو أدوات للمتاع، بل لا ينبغي أن يأبه حتى بخير أو شر؛ يجب أن ينظر إلى الألم والموت نظرته إلى "مايا" ، أي حوادث تقع على سطح الجسم والمادة والزمان والتغير؛ ولا يجوز له أن يفكر فيما يصيب شخص من قضاء أو أن يفكر فيما له من خصائص؛ فلحظة واحدة يعني فيها بمصلحة ذاته أو يزهى فيها بنفسه كافية لهدم طريق الخلاص الذي يرجوه(119)؛ إن أعمال الخير لا تهيئ للإنسان خلاصاً، لأن أعمال الخير إنما تكون ذات قيمة أو معنى في عالم " المايا " وحده، أي عالم المكان والزمان؛ ولا يأتي بإخلاص إلى معرفة القديس، وما الخلاص إلا في إدراك الاتحاد بين النفس والكون، "أتمان"
صفحة رقم : 928
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الهند وجيرانها -> الحياة العقلية -> الفلسفة البرهمية ومذاهبها الستة -> مذهب الأفيدانتا

و "براهما" ، أي الروح والله، وامتصاص الجزء في الكل(120)؛ ويستحيل أن تقف دورة حلول الروح في أجساد جديدة إلا إذا تم هذا الامتصاص عندئذ سيتبين أن الروح الجزئية والشخصية المفردة، التي تصيبها عودة التجسد، وَهْمٌ ليس له وجود(121) وأن الذي يعيد الولادة للنفس على صعيد العقاب أو الثواب هو "إشفارا" أي إله "مايا" ؛ ويقول شانكارا "إنه إذا ما عرفت وحدة أتمان وبراهما، اختفت على الفور الروح الجزئية واختفى براهما باعتباره خالقاً (أي باعتباره إشفارا"(122) وتنتمي "إشفارا" و "كارما"- كما تنتمي الأشياء والأنفس- إلى مذهب فيدانتا المعروف، في صورته المحورة تحويراً يناسب حاجات الرجل من عامة الناس؛ أما الجانب الخفي السري من المذهب، فيعتبر الروح وبراهما شيئاً واحداً، لا يتجزأ ولا يموت ولا يتغير(123). وإنها لحكمة من شانكارا أن يحصر الجانب الخفي من مذهبه في الفلاسفة وحدهم؛ لأنه- كما رأى فولتير- كما أنه لا يمكن لمجتمع أن يعيش بغير قانون إلا مجتمع من فلاسفة، فكذلك لا يستطيع أن يعيش فوق الخير والشر إلا مجتمع من الإنسان الأعلى؛ ولقد توجه الناقدون بنقد، هو أنه إذا كان الخير والشر جانبين من "مايا" أي من العالم الزائف إذن فلا يعود للفوارق الخلقية وجود، وتصبح الشياطين والقديسون في منزلة واحدة؛ وهاهنا يجيب شانكارا في ذكاء، بأن هذه الفوارق الخلقية حقيقية داخل عالم الزمان والمكان، وهي ملزمة لهؤلاء الذين يعيشون في هذه الدنيا، وليس فيها إلزام على الروح التي دمجت نفسها في براهما؛ فمثل هذه الروح لا تقترف الإثم، لأن الإثم يتضمن الشهوة وتحقيقها بالعمل، والروح التي تحررت- بحكم تعريفها- لا تتحرك في دنيا الشهوات والعمل (الذي يحقق لها شهواتها)، إن ما يُنْزل الأذى بغيره عامداً، يعيش في مستوى "مايا" ، ويخضع لما فيها من فوارق ومن أخلاق وقوانين، فلا حرّ إلا الفيلسوف، ولا حرية إلا الحكمة .
صفحة رقم : 929

قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الهند وجيرانها -> الحياة العقلية -> الفلسفة البرهمية ومذاهبها الستة -> مذهب الأفيدانتا

لقد كانت هذه الفلسفة أدق وأعمق مما ينتظر من صبي في العقد الثالث من عمره؛ ولم يكْف شانكارا أن يفصل أجزاءها فيما كتب، وأن يوفق في الدفاع عنها في نقاشه مع الناس، لكنه كذلك عبّر عن أجزاء منها في شعر هو من أرهف الشعر الهندي الديني إحساساً؛ ولما أن فرغ شانكارا من رد كل اعتراض وُجّه إليه، انتبذ صومعة في الهمالايا، وتقول الرواية الهندية إنه مات في سن الثانية والثلاثين(124)، ونشأت عشر جماعات دينية تحمل اسمه، واعتنق فلسفته كثير من الأتباع، ثم ارتقوا بها؛ وقد كتب أحد هؤلاء الأتباع- وبعضهم يقول : إن شانكارا نفسه هو الذي كتب- عرضاً شعبياً للفيدانتا، واسماه "موهامودجارا" ومعناها "مطرقة الحماقة"- عرض أسس المذهب عرضاً موجزاً في وضوح وقوة:
"أيها الأحمق! امح من نفسك هذا الظمأ للمال، واقتلع من قلبك كل الشهوات، واقنع نفساً بما تكسبه لك من "كارما" ...لا يأخذنك زهو بمال أو أصدقاء أو شباب؛ إن الزمن يقضي عليها جميعاً في لحظة واحدة؛ فإذا ما أسرعت وتركت كل هذا- وإنه لملئ بالأوهام- فادخل حيث براهما ... إن الحياة رجراجة مثل قطرة الماء على ورقة اللوتس ... إن الزمن لاه والحياة زائلة- ومع ذلك فأنفاس الأمل لا تنقطع؛ إن الجسد قد أصابه التجعيد والشعر قد شاب، والفم قد خلا من أسنانه، والعصا ترتعش في قبضة اليد، ومع ذلك فالإنسان لا يني متشبثاً بمواضع الرجاء ...احتفظ باتزانك دائماً ...إن فشنو وحده يسكن فيك وفيّ الآخرين؛ ومن العبث أن تغضب أو تثور؛ انظر إلى نفس جزئية في النفس الكلية الشاملة، ولا تعد تفكر فيما بيننا من فوارق(125).

صفحة رقم : 930
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الهند وجيرانها -> الحياة العقلية -> نتائج الفلسفة الهندية

الفصل الثالث
نتائج الفلسفة الهندية

الانهيار - ملخص - نقد - أثرها
جاءت الفتوح الإسلامية فختمت على عصر الفلسفة الهندية؛ وأدت هجمات المسلمين- ثم هجمات المسيحيين فيما بعد- على الديانة القومية إلى انكماش هذه العقيدة القومية نفسها دفاعاً عن نفسها، فوحّدت أجزاءها، وحرّمت كل جدل في الدين، وألجمت حركة الزندقة مع أنها مصدر التجديد، بحيث لم يبق إلا اطراداً راكداً في التفكير؛ ولما جاء القرن الثاني عشر، وجد مذهب "الفيدانتا"- الذي حاول على يدي شانكارا أن يكون ديناً للفلاسفة- من يفسره من القديسين، مثل "رامانوجا" (حوالي 1050م)- تفسيراً لا يجعل فرقاً بينه وبين العبادة الأصلية القديمة لفشنو، وراما، وكرشْنا؛ ولما حرم على الفلسفة أن تفكر فكراً جديداً، لم يكفْها أن تنحدر إلى اسكولائية، بل باتت عقيماً، وجعلت تتلقى العقائد من الكهنوت، وراحت تتعب نفسها في البرهنة عليها، بحيث تبين ما بينها من مميزات للواحدة عن الأخرى دون أن تدل تلك المميزات على فروق حقيقية، مصطنعة في ذلك منطقاً بغير عقل(126).
ومع ذلك فالبراهمة قد استطاعوا في عزلتهم التي أووا إليها وتحت درع واقية اتخذوها من إلغاز عباراتهم إلغازاً لا يفهمه أحد سواهم، استطاعوا أن يصونوا المذاهب القديمة من العبث، بأن صبوها في (سُوترات) (أي حِكَم أو عبارات موجزة) غامضة، وتعليقات ملغزة؛ وبهذا نقلوا نتائج الفلسفة الهندية عبر الأجيال والقرون؛ وقد كانت كل هاتيك المذاهب، برهمية كانت أو غير برهمية، تعتبر ملكات العقل ضعيفة لا حول لها، أو خادعة إزاء
صفحة رقم : 931
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الهند وجيرانها -> الحياة العقلية -> نتائج الفلسفة الهندية

حقيقة الكون التي يراها الإنسان أو يحسها رؤية وإحساساً مباشرين .

وكل اتجاهاتنا العقلية التي ظهرت في القرن الثامن عشر، إن هي في رأي الميتافيزيقي الهندي إلا محاولة سطحية عابثة لإخضاع الكون الذي يستحيل حساب دقائقه، لتصورات سيدة رقيقة ممن يرتدن "الصالونات الأدبية" ؛ "في ظلام دامس يمضي أولئك الذين يعبدون الجهل، و في ظلام أشد دماسة يتخبط أولئك الذين يطمئنون نفساً بما لهم من علم"(129)؛ إن الفلسفة الهندية تبدأ حيث تنتهي الفلسفة الأوربية- وهو البحث في طبيعة المعرفة وفي حدود العقل؛ فهي لا تبدأ بمثل فيزيقياً "طاليس" و "ديمقريطس" و لكن بمثل نظرية المعرفة عن "لُكْ" و "كانْت" ؛ والعقل عندها هو ذلك الذي ندركه إدراكا مباشراً، ولذا فهي تأبى أن تحلله إلى معلوم عرفناه بطريق غير مباشر، أي عرفناه بالعقل، وهي تسلّم بالعالم الخارجي، لأنها لا تؤمن بأن حواسنا في مقدورها أن تعرفه على حقيقته الواقعة؛ إن العلوم كلها جهل "رسميٌّ" وهو ينتمي إلى دنيا الظواهر "مايا" فهي تصوغ في ألفاظ وعبارات لا تنفك متغيرة، الجانب العقلي من عالم ليس العقل فيه إلا جزءًا يسيراً- إن العقل في هذا العالم تيار واحد متنقل في بحر ليس له حدود؛ بل إن الشخص نفسه الذي يقوم بالتدليل العقلي لا يزيد على ظاهرة "مايا" أي أنه وهم من الأوهام؛ فماذا عسى أن يكون سوى التقاء مؤقت لطائفة من حوادث، أو سوى عُقدة عابرة في مسارات المادة والعقل خلال المكان والزمان؟- وماذا عسى أن تكون أفعاله و أفكاره سوى نتيجة لطائفة من القُوى التي سبقت بوجودها وجوده بعهد بعيد؟ ليس ثمة من حقيقة إلا براهما، ذلك المحيط الكوني الفسيح الذي
صفحة رقم : 932
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الهند وجيرانها -> الحياة العقلية -> نتائج الفلسفة الهندية

لا تكون صورة أي شئ إلا بمثابة موجة عابرة فيه، أو إن شئت فقل لا تكون صورة الشيء إلا نقطة زَبَدِ على موجة من موجاته؛ فليست الفضيلة هي ما في أعمال الخير من بطولة صامتة، كلا ولا هي نشوة من التقوى ينتشيها من يوصف بها؛ بل هي مجرد الاعتراف بوحدة النفي مع كل نفس أخرى في حقيقة واحدة هي براهما؛ و الحياة الخلقية إن هي إلا ضرب من الحياة يكون أساسه الشعور بما بين الأشياء كلها من اتحاد ، "إن من يدرك كل الكائنات في نفسه، ويدرك نفسه في كل الكائنات، لن يصيبه شئ من القلق بعدئذ، إذ كيف يمكن أن يصاحبه بعد ذلك وهم أو أسى؟"(130).
إن ما حال دون أن توسع هذه الفلسفة نطاقها بحيث تؤثر في المدنيات الأخرى، هو بعض الخصائص المميزة لها، التي لا يرى الهندي من وجهة نظرة شيئاً يعاب؛ فمنهجها، واصطلاحاتها الاسكولائية ومزاعمها الفيدية تحول بينها وبين أن تجد إقبالاً في أمم لها مزاعم أخرى، أو تثقفت بثقافات أكثر اتصالاً بهذا العالم الذي تعيش فيه؛ فمذهبها الخاص "بالمايا"- أي الظواهر- لا يبعث إلا قليلاً على الحياة الخلقية وفعل الفضيلة، وتشاؤمها هو بمثابة الاعتراف منها بأنها لم تفسر الشر، على الرغم من نظرية "الكارما" التي تحتوي عليها؛ وقد كان بعض تأثير هذه المذاهب الفلسفية، أن تزيد في حمل الناس على السكينة الهامدة في وجه الشرور التي كان يمكن عقلاً أن تصحح، أو إزاء عمل كان كأنما يصيح منادياً لعله يجد من يؤديه؛ ومع ذلك ففي هذه التأملات عمق، إذا ما قارنته بالفلسفات التي تحض على النشاط، والتي نشأت في مناطق أبعث على الفاعلية، أقول إن في هذه الفلسفات عمقاً يصبغ الفلسفات الأخرى الباعثة على النشاط، بلون التفاهة؛ فيجوز أن تكون
صفحة رقم : 933
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الهند وجيرانها -> الحياة العقلية -> نتائج الفلسفة الهندية

مذاهبنا الغربية التي وثقت وثوقاً شديداً بأن "المعرفة قوة" بمثابة أصوات شباب مضى، كان فيه شهوة تضخم له الطبيعة قدرة الإنسان ومستطاعه حتى إذا ما أنهكت قوانا في كفاحنا اليومي ضد الطبيعة التي لا تعبأ بنا، والزمن الذي يناصبنا العداء، ازددنا عندئذ رحابة صدر حين ننظر إلى الفلسفات الشرقية التي توصي بالاستسلام والسلام؛ ومن ثم كان أثر الفكر الهندي على الثقافات الأخرى أشد ما يكون، في العهود التي تتعرض فيها تلك الثقافات لعوامل الضعف والانهيار؛ فلما كانت اليونان تحرز نصراً بعد نصر، لم تصرف إلا قليلاً من سمعها لما يقوله فيثاغورس أو بارمنيدس؛ ثم لما أخذت اليونان في التدهور، ذهب أفلاطون وذهب معه الكهنة الأورفيون مذهب تناسخ الأرواح، وطفق زينون الشرقي يبشر بما أوشك أن يكون استسلاماً للقضاء والقدر، وتسليماً للدهر وصروفه؛ ولما كانت اليونان تحتضر، ارتاد أنصار الأفلاطونية الجديدة والغنوسطيون (الذين يأخذون بإمكان معرفة الله) حياض الهند يعبون من أعماقها؛ والظاهر أن ما أصاب أوروبا من فقر بسقوط روما وفتوح المسلمين للطرق الموصلة بين أوروبا والهند، قد كان حجر عثرة مدى ألف عام، يعرقل تبادل الأفكار بين الشرق والغرب تبادلاً مباشراً؛ لكن لم يكد البريطانيون يثبتون أقدامهم في الهند حتى جعلت كتب اليوبانشاد تحرك الفكر الغربي بإعادة نشرها، أو بترجمتها؛ فتصور فخته مذهباً مثالياً على شبه شديد بمثالية شانكارا(132) وأوشك شوبنهور أن يدخل في فلسفته مذاهب البوذية واليوبانشاد والفيدانتا، إدخالاً يجعلها جزءاً من فلسفته لا يتجزأ؛ وكانت اليوبانشاد في رأي شلنج وهو في شيخوخته أنضج ما وصل إليه الإنسان من حكمة؛ أما نيتشه فقد خالط بسمارك واليونان أمداً أطول من أن يتيح له الفرصة للعناية بثقافة الهند، ومع ذلك فقد اعتنق آخر الأمر فكرة آثرها على كل فكرة سواها، وهي فكرة ظلت متشبثة بعقله لا تبرحه إلا وهي فكرة دورة الحياة دورة

أبدية تظل فيها تعيد ما مضى من مراحل- وما تلك
صفحة رقم : 934
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الهند وجيرانها -> الحياة العقلية -> نتائج الفلسفة الهندية

الفكرة إلا صورة من مذهب عودة الروح إلى التقمص في أجساد كثيرة.
إن أوروبا في عصرنا هذا تزداد أخذاً من فلسفة الشرق كما يزداد الشرق أخذاً من علوم الغرب؛ ويجوز أن تنشأ حرب عالمية أخرى فتفتح أبواب أوروبا (كما انفتحت اليونان عند تحطم إمبراطورية الإسكندر، وكما انفتحت روما عند سقوط الجمهورية الرومانية) بحيث تتدفق فيها فلسفات الشرق وعقائده؛ فثورة الشرق على الغرب ثورة متزايدة، وفقدان الأسواق الآسيوية التي كان من شأنها أن تقيم صناعة الغرب وازدهاره، وضعف أوروبا لما يصيبها من فقر وانقسام وثورة، كل ذلك قد يجعل من هذه القارة المنقسمة على بعضها غنيمة سهلة لديانة جديدة تجعل الناس يعقدون رجاءهم في السماء، و يفقدون الأمل في الأرض؛ و يجوز جداً أن يكون الهوى وحده هو الذي يجعل مثل هذا المصير مستحيلاً في رأي الناس في أمريكا، لأن السكينة و الاستسلام لا تتلاءم مع الجو الكهربائي الذي نعيش فيه، أو مع الحيوية التي تنشئ عن مصادر الثروة الغزيرة و الأرض الفسيحة الأرجاء؛ و لا شك في أن مناخنا سيكون لنا في نهاية الأمر درعاً واقية.

صفحة رقم : 935
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الهند وجيرانها -> أدب الهند -> لغات الهند

الباب العشرون
أدب الهند
الفصل الأول
لغات الهند
السنسكريتية - اللهجات القومية - النحو
كما أن الفلسفة وكثيراً من الأدب في أوربا الوسيطة كانا يكتبان بلغة ميتة لا يفهمها الشعب، فكذلك كانت الفلسفة والأدب الكلاسيكي في الهند يكتبان بسنسكريتية كانت قد أهملت بين الناس كأداة للتفاهم منذ زمن طويل، لكنها عاشت لتكون لغة للعلماء الذين لا تربطهم لغة مشتركة أخرى، كأنها في ذلك لغة "الإسبرنتو" (التي يحاولون صناعتها لتكون أداة تفاهم بين الشعوب المختلفة الآن).

ولما كانت هذه اللغة الأدبية بعيدة عن الاتصال بحياة الأمة؛ فقد أصبحت نموذجاً يحتذيه من أراد أن يكون اسكولائيَّ التفكير أو مهذب اللسان؛ وكانت الكلمات الجديدة تصاغ - لا بخلق تلقائي يصدر من عامة الناس - بل تبعاً لحاجة المدارس في بحوثها الفنية؛ حتى انتهى الأمر بالسنسكريتية التي كتبت بها الفلسفة إلى فقدانها للبساطة القوية التي تلمسها في الترانيم الفيدية، وأصبحت أفعواناً صناعياً تزحف كلماتها على الصفحات زحفاً كأنها شرائط الدود .
صفحة رقم : 936
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الهند وجيرانها -> أدب الهند -> لغات الهند

ولكن عامة الناس في الوقت نفسه كانوا - في شمال الهند حول القرن الخامس قبل الميلاد - قد حوروا السنسكريتية إلى براكريتية، وما أشبه ذلك بإيطاليا حين غيرت اللاتينية إلى الإيطالية فأصبحت اللغة البراكريتية حيناً من الدهر لغة البوذية والجانتية، ولبثت كذلك حتى تطورت بدورها إلى الباليّة - وهي اللغة التي كتب بها أقدم ما هبط إلينا من الأدب البوذي(2)؛ فلما أن كان ختام القرن العاشر من تاريخنا المسيحي، كان قد تولد عن هذه اللغات التي شهدتها "الهند الوسيطة" لهجات مختلفة كان أهمها اللغة "الهندية" ثم ولّدت هذه بدورها في القرن الثاني عشر اللغة الهندستانية التي باتت لغة النصف الشمالي من الهند؛ وأخيراً جاء الغزاة المسلمون وملئوا الهندستانية بألفاظ فارسية فكوّنوا بذلك لهجة جديدة هي الأردية؛ وهذه كلها لغات "هندية جرمانية" انحصرت في الهندستان؛ أما الدكن فقد احتفظت بلغتها الدرافيدية القديمة وهي: لغات "تامِلْ" و "تلوجو" و "كاناريس" و "وملايالام" وأصبحت لغة "تامِل" من بينها هي الأداة الأدبية الرئيسية في الجنوب؛ ولما كان القرن التاسع عشر حلّت الباليّة محل السنسكريتية لغة أدبية في البنغال،و كان الكاتب القصصي ( "شاترجي" لهذه اللغة بمثابة "بوكاتشو" للإيطالية الحديثة) كما كان لها الشاعر طاغور بمثابة "بترارك" ؛ و إنك لترى مائة لغة في الهند حتى في يومنا هذا على أن أدب الحركة الاستقلالية يستخدم لغة الفاتحين أداة للتعبير.
ولقد أخذت الهند منذ تاريخ عريق في القدم تتعقب جذور الألفاظ وتاريخها وعلاقاتها وتركيبها، ولم يظللها القرن الرابع قبل الميلاد حتى كانت قد اصطنعت لنفسها علم النحو، وأنجبت من يجوز أن يكون أعظم النحاة جميعاً ممن نعرف وهو بانيني؛ وكانت دراسات بانيني، و باتايخالي (حوالي 150 م) وبهارْتريهاري (حوالي 650م) هي الأسس التي قام عليها علم اللغات؛
صفحة رقم : 937

قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الهند وجيرانها -> أدب الهند -> لغات الهند

كما أن هذا العلم الشائق الذي يبحث في ولادة الألفاظ اللغوية، مدين بكل حياته تقريباً في العصور الحديثة لإعادة كشف الغطاء عن السنسكريتية.
ولم تكن الكتابة - كما رأينا - شائعة في الهند الفيدية، فحوالي القرن الخامس قبل الميلاد، اقتبست الكتابة الخاروسثية من أصول سامية، وبدأنا نسمع عن كاتبين في أدب الملاحم وفي الأدب البوذي (3)، وكانت أوراق النخيل ولحاء الشجر يستخدمان أداة للكتابة كما كان القلم شبيه بمسمار من الحديد؛ وكانوا يدبغون لحاء الشجر دبغاً يجعله أصلب ديباجه، ثم يحفرون عليه الأحرف بالقلم، ويلطخون اللحاء بالحبر فيبقى في فجوات الحروف المحفورة ثم تمحى بقيته(4) ولما جاء المسلمون أدخلوا معهم الورق (حوالي 1000م) لكن الورق لم يحل محل اللحاء تماماً إلا في القرن السابع عشر، وكانوا ينفذون خيطاً سميكاً في صفحات اللحاء لتربطها معاً على الترتيب المطلوب، على أن تجمع الكتب المكونة من أمثال هذه الصفحات في مكتبات أطلق الهنود عليها اسم "خزائن إلهة الكلام" وقد بقيت لنا مجموعات ضخمة من هذا الأدب الخشبي على الرغم مما تعاورها من تدميرات الزمن والحروب .

صفحة رقم : 938
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الهند وجيرانها -> أدب الهند -> التعليم

الفصل الثاني
التعليم
المدارس - الطرق - الجامعات - التعليم
الإسلامي - إمبراطور يتحكم في التعليم

لبثت الكتابة ضئيلة القدر جداً في التعليم الهندي حتى القرن التاسع عشر ويجوز أن يكون مرجع ذلك إلى أن الكهنة لم يكن في صالحهم أن يجعلوا النصوص المقدسة أو الاسكولائية سرًّا مكشوفاً للجميع(6)؛ أما التعليم فقد كان له نظام قائم تراه في تاريخهم مهما أوغلت في ماضيه(7)، وكان يتولاه رجال الدين ويفسحون مجاله في أول الأمر لأبناء البراهمة وحدهم، ثم أخذوا على مرّ الزمن يوسّعون من نطاقه بحيث يشمل طبقة بعد طبقة، حتى نراه اليوم لا يستثني من الناس أحداً فيما عدا طبقة المنبوذين؛ ولكل قرية هندية معلمها يُنْفَق عليه من الرصيد العام وكان في البنغال وحدها - قبل مجيء البريطانيين - حوالي ثمانين ألفاً من المدارس الأهلية - مدرسة لكل أربعمائة نفس من السكان(8) وربما كانت نسبة التعليم في ظل "أشوكا" أعلى منه اليوم في الهند(9).
كان الأطفال يذهبون إلى مدرسة القرية من سبتمبر إلى فبراير، ويدخلونها في سن الخامسة ليتمُّوها في سن الثامنة(10) وكان التعليم ذا صبغة دينية غالبة كائناً ما كان موضوع الدراسة، وكانت الطريقة المألوفة هي الحفظ على ظهر القلب، ولم يكن لأحد مفرٌّ من حفظ نصوص الفيدات، ويشتمل منهج التعليم على القراءة والكتابة والحساب، لكنها لم تكن الهدف الأساسي للتعليم؛ وكان الخلق أجدر عندهم بالاعتبار من الذكاء، والنظام هو جوهر التعليم في المدارس؛ نعم إننا لا نسمع في تاريخهم شيئاً عن ضرب التلاميذ أو ما شابه ذلك من صارم الوسائل التأديبية، لكننا نجد أكثر اهتمامهم منصباً قبل كل
صفحة رقم : 939
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الهند وجيرانها -> أدب الهند -> التعليم

شئ على تكوين عادات للسلوك في الحياة بحيث تكون سليمة من المآخذ والشوائب(11)، وفي سن الثامنة ينتقل التلميذ إلى "شيخ" يتولاه بعناية أكثر مراعاة للقواعد، و "الشيخ" هو معلم خاص أو رائد يعيش معه التلميذ، ويحسن أن يظل في صحبته تلك حتى سن العشرين؛ و كان يطلب إلى التلميذ أن يؤدي له بعض الخدمات، منها أحياناً ما كان حقيراً؛ كما يطالب بالتزام العفة والتواضع والنظافة والامتناع عن أكل اللحم في وجباته(12)، وقوام التعليم "الشاسْترات الخمس" أي العلوم الخمسة وهي: النحو، والفنون والصناعات، والطب، والمنطق، والفلسفة؛ وبعدئذ يطلق في الحياة مزوداً بنصح حكيم هو أن التعليم يأتي ربعه فقط من المعلم، وربعه من الدراسة الخاصة، وربعه من الزملاء، وربعه من الحياة(13).
وللطالب في نحو السادسة عشرة أن ينتقل من "شيخ" إلى إحدى الجامعات الكبرى التي كانت مفخرة الهند القديمة والوسيطة : بنارس وتاكسيلا وفداربها وأجانتا ويوجين ونالاندا؛ وكانت جامعة بنارس حصناً حصيناً للتعاليم البرهمية الأصيلة في أيام بوذا، كما لا تزال كذلك إلى يومنا هذا؛ وكانت جامعة تاكسيلا في عهد غزوة الإسكندر معروفة في آسيا كلها على أنها مقر الزعامة في البحث العلمي في الهند، وأشهر ما اشتهرت به مدرسة الطب فيها؛ واحتلت جامعة "يوجين" مكانة عالية في أسماع الناس بما فيها من علماء الفلك، كما اشتهرت جامعة أجانتا بتعليم الفنون؛ وإن واجهة أحد المباني المخربة في أجانتا لتدل بعض الدلالة على فخامة هذه الجامعات القديمة(14) وأنشئت جامعة "نالاندا" - وهي أشهر الجامعات بالمعاهد البوذية العالية - بعد موت منشئ العقيدة البوذية بزمن قصير وخصصت لها الدولة دخل مائة قرية لينفق عليها منه، وكان بها عشرة آلاف طالب، ومائة قاعة للمحاضرات، ومكتبات ضخمة، وست بناءات كبيرة للسكنى، وارتفاعها أربعة طوابق
صفحة رقم : 940

قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الهند وجيرانها -> أدب الهند -> التعليم

يقول يوان شوانج أن مراصدها "كانت تنبهم معالمها في ضباب الصباح، وتعلو غرفاتها العليا على السحاب"(15)، وقد أحب هذا الحاج الصيني الكهل رهبان "نالاندا" العلماء وأحراشها الظليلة حباً جعله يقيم هناك خمسة أعوام؛ وهو يروي لنا أن الكثرة الغالبة من أولئك الذين أرادوا الدخول في حلقات المناقشة من النزلاء الأجانب " في نالادا " كانت تنسحب أمام ما تلاقيه من صعوبة المشكلات؛ وكان يسمح بالدخول لأولئك الذين تعمقوا العلوم القديمة والحديثة، لكن لم ينجح من كل عشرة أكثر من اثنين أو ثلاثة " (16).
وكان الطلاب الذين يساعدهم الحظ في الدخول يتعلمون مجاناً بما في ذلك أيضاً المسكن والغذاء، لكنهم لقاء ذلك كانوا يخضعون لنظام أوشك أن يكون كنظام الأديرة؛ ولم يكن الطالب يسمح له بالتحدث إلى امرأة، أو برؤية امرأة بل إن مجرد الرغبة في النظر إلى امرأة كان يعد عندهم خطيئة كبرى، على نحو ما جاء في العهد الجديد من قول هو أشد ما فيه من أقوال؛ وإذا اقترف طالب إثماً جنسياً، كان عليه أن يلبس جلد حمار مدة عام كامل، على أن يظل الذيل مرفوعاً إلى أعلى، وأن يجوب الآثم الطرقات، يطلب الصدقات ويعلن عن خطيئته؛ وكان الطلبة جميعاً يطالبون كل صباح بالاستحمام في أحواض السباحة العشرة الكبرى التابعة للجامعة؛ ومدة الدراسة اثنا عشر عاماً، ولو أن بعض الطلبة كان يقيم بالجامعة ثلاثين عاماً، وبعضهم يقيم بها حتى الممات(17).

وجاء المسلمون فهدموا الأديرة (في شمال الهند) كلها تقريباً، بوذيّها وبرهميّها على السواء، وأحرقت جامعة "نالاندا" إحراقاً أتى عليها سنة 1197م وقتل كل رهبانها، وإنه ليستحيل علينا أبد الدهر أن نقدر ما كان في حياة الهند القديمة من خصوبة مسترشدين بما أبقى عليه هؤلاء المسلمون المتعصبون؛ ومع ذلك فلم يكن هؤلاء المخربون من الهمج، بل كان لهم ذوق في الجمال كما كان لهم براعة تشبه براعة العصر الحديث في استخدام التقوى لتحقيق ما يشاءون من
صفحة رقم : 941
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الهند وجيرانها -> أدب الهند -> التعليم

نهب وسلب؛ فلما اعتلى المغول عرش الحكم، جاءوا معهم بمستوى عال - ولو أنه ضيق الأفق - من الثقافة، فقد أحبوا الأدب حبهم للسيف، وعرفوا كيف يمزجون حصاراً ظافراً بقصائد الشعر؛ وكان التعليم عند المسلمين فردياً في أغلبه، فيستخدم أغنياء الآباء لأبنائهم المعلمين الخواصّ؛ وكانت نظرتهم إلى التعليم نظرة أرستقراطية تجعله شيئاً للزينة - وقليلاً ما اتخذوا التعليم وسيلة لغاية - يزدان به رجل الأعمال أو صاحب السلطان، كما تجعله عنصراً من عناصر الثورة والخطر العام إذا ما لُقّن لرجل قضي عليه بالفقر وضعة المنزلة؛ ويمكننا أن نتبين طرائق المعلمين من خطاب هو من رسائل التاريخ العظمى - وهو ما أجاب به أورنجزيب - وهو ملك - على معلمه السابق، وقد طلب إليه ذلك المعلم أن يخلع عليه منصباً وراتباً:

"ماذا تريد مني أيها المعلم ؟ أيمكن في حدود العقل أن تطلب مني أن أجعلك أحد كبراء الأمراء في حاشيتي؟ دعني أقلها لك قولة صريحة، لو أنك علمتني كما كان أن ينبغي لك أن تفعل، لما كان ثمة أعدل من مثل هذا الطلب؛ لأنني أعتقد بأن الناشئ الذي أحسنت تربيته وتعليمه، مدين لأستاذه على الأقل بمقدار ما هو مدين لأبيه؛ ولكن أين عساي أن أجد مثل هذا التعليم الجيد مما لقّنتني؛ فقد علمتني أولاً أن الفرنجة جميعاً (هكذا يسمون الأوربيين فيما يظهر) لم يكونوا إلا جزيرة صغيرة، الله أعلم بضآلة قدرها، وأن ملك البرتغال هو أعظم ملوكها ثم يتلوه ملك هولندة، فملك إنجلترا، أما عن الملوك الآخرين كملك فرنسا وملك الأندلس، فقد صورتهم لي مثل صغار الراجات عندنا، قائلاً لي إن ملوك الهندستان يبزونهم جميعاً، وأنهم (ملوك الهندستان) ... هم الأعلون بين الملوك وهم غزاة العالم وحاكموه؛ وأن ملوك فارس وأزبك وكشغر والتتر وكاني وبيجو والصين وماشينا يرتعشون خوفاً عند ذكر أسماء ملوك الهندستان؛ ألا ما أجمل ذلك من علم بأقطار العالمين! لقد كان واجب عليك أن تعلمني علماً دقيقاً بهذه الدول كلها، بحيث أميز
صفحة رقم : 942
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الهند وجيرانها -> أدب الهند -> التعليم

بعضها من بعض، وأفهم جيد الفهم ما هي عليه من قوة وأساليب حرب وعادات وديانات وحكومات ومصالح؛ وكان أوجب عليك أن تطلعني على صحيح التاريخ حتى أعلم نشأة تلك الدول وتقدمها وانهيارها، ومن ثم كنت أعلم كيف وبأي سبب من الأحداث والأخطاء حدثت تلك التطورات الكبرى والثورات العظمى في الإمبراطوريات والممالك؛ لقد كدت لا أعلم منك أسماء أجدادي، بناة هذه الإمبراطورية الأعلام، بَلْهَ أن تعلمني تاريخ حياتهم وما صنعوه حتى تم لهم مثل هذا الفتح العظيم؛ كنت منكباً على تعليمي اللغة العربية قراءة وكتابة؛ والحق أني شاكر لك ما سببته لي من مضيعة لوقتي في لغة تتطلب عشرة أعوام أو اثني عشر عاماً لكي يجيدها الطالب، كأنما ابن الملك يرى شرفاً له أن يكون عالماً نحوياً أو متضلعاً في القانون وأن يتعلم لغات غير لغات جيرانه، مع أنه يستطيع أن يحيا بغيرها خير حياة، ذلك الذي يحرص على وقته الثمين لكثير من مهام الأمور، هذه الأمور هي التي كان ينبغي أن يتعلمها؛ ودع عنك ابن الملك، وقل لي أين تلك الروح التي تستعبد نفسها - بغير شئ من النفور، بل بغير شئ من الشعور بالمهانة - في دراسة كئيبة جافة طويلة مملة، مثل هذه الدراسة لألفاظ اللغة"(18).
ويقول "بيرْنيَر" المعاصر: "هكذا كان أورنجزيب يمقت التحذلق في التعليم الذي كان يصطنعه معلموه؛ وبعض الدلائل في بلاطه تدل على أنه ... أضاف إلى قوله ذاك قولاً آخر وهو:
"ألا تعلم أن الطفولة إذا أُحْكِمَ الإشراف عليها، وهي كما نعلم حالة مصحوبة عادة بالذاكرة الجيدة، في مستطاعها أن تتلقى آلاف المبادئ السليمة
صفحة رقم : 943
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الهند وجيرانها -> أدب الهند -> التعليم

والتعاليم بحيث تنقش فيها نقشاً عميقاً ما بقي الإنسان حياً، وتحفز عقل الإنسان دائماً إلى جليل الأعمال؟ أليس يمكن تعلم القانون والصلاة والعلوم بلغتنا القومية كما نتعلمها بالعربية؟ لقد أنبأت أبي "شاه جهان" أنك ستعلمني الفلسفة؛ نعم إني أذكر جيداً أنك لبثت أعواماً طوالاً تسليني بمشكلات فارغة عن أشياء لا ترضي العقل في شيء على الإطلاق، وليست هي بذات نفع في المجتمع الإنساني، وهي أفكار خاوية ومجرد سبحات في الخيال، وليس فيها ما يميزها سوى أنها شديدة الصعوبة على الفهم، شديدة السهولة في النسيان ... إني لا أزال أذكر أنك بعد أن أمتعتني - ولست أذكر كم طال أمد تلك المتعة - بفلسفتك الدقيقة، كان كل ما وعيته منها طائفة كبيرة من ألفاظ حوشية معقدة، تصلح لإيقاع الربكة والحيرة والملل في أحسن العقول؛ ولعلها لم توجد إلا لتستر غرور أمثالك من الرجال وجهلهم، هؤلاء الذين يحاولون إيهامنا بأنهم يعلمون كل شيء، وأن وراء هذه الألفاظ الغامضة المبهمة تختفي أسرار عظيمة لا يستطيع فهمها سواهم؛ فلو أنك أنضجتني بتلك الفلسفة التي تهيئ العقل للاستدلال المنطقي، وتعدّه شيئاً فشيئاً، الإعداد الذي يجعله لا يرضى بشيء إلا الحجج القوية؛ لو أنك زودتني بتلك المبادئ السامية والمذاهب الرفيعة التي تعلو بالروح على نكبات الزمن، وتركّزها في حالة نفسية لا يزعزعها شيء ولا يثيرها مثير، وتجنّبها الغرور بالنجاح في الحياة والانهيار أمام المحن؛ لو أنك حرصت على أن تمدني بمعرفة أنفسنا ومعرفة المبادئ الأولى للأشياء، وساعدتني على تكوين فكرة طيبة في عقلي عن عظمة الكون، وعما فيه من نظام عجيب وحركة في أجزائه؛ أقول لو أنك غرست في نفسي هذا الضرب من الفلسفة، لرأيت نفسي مديناً لك أكثر مما كان الإسكندر مديناً لأرسطو كثرة لا تدع مجالاً للمقارنة بين الحالتين، ولأيقنت أن من واجبي أن أعوضك على نحو يختلف عما جزاه هو به؛ ألم يكن واجباً عليك - بدل ريائك

لي - أن تعلمني شيئاً
صفحة رقم : 944
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الهند وجيرانها -> أدب الهند -> التعليم

عن ذلك الموضوع البالغ الأهمية لملك، ألا وهو الواجبات المتبادلة بين الملك وشعبه، ماذا يجب على الملك إزاء الرعية، وماذا يجب على الرعية إزاء الملك؟ ألم يكن ينبغي عليك أن تذكر أنني لا بد يوماً مضطر إلى استخدام السيف في نزاعي مع أخوتي على حياتي وتاجي؟... هل عنيت قط بأن تعلمني كيف أحاصر مدينة أو أن أُجَيَّش جيشاً؟ إنني مدين بهذه الأشياء لغيرك لا لك، اذهب وعد إلى القرية التي منها أتيت ولا تدع أحداً يعلم من أنت، ولا ماذا صار من أمرك"(19).

صفحة رقم : 945
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الهند وجيرانها -> أدب الهند -> الملاحم

الفصل الثالث
الملاحم
"الماهابهاراتا" - قصتها - قالبها - "البهاجافاد - جيتا" -
ميتافيزيقا الحرب - ثمن الحرية - "الرامايانا" ترنيمة الغابة-
اغتصاب سيتا - الملاحم الهندية والملاحم اليونانية
لم تكن المدارس والجامعات إلا جزءاً من النظام التعليمي في الهند؛ فلما كانت الكتابة أقل قيمة هناك منها في سائر المدنيات، وكان التعليم الشفوي هو وسيلة الاحتفاظ بتاريخ الأمة وشعرها، ووسيلة نشرها في الناس، فقد نشرت الرواية الشفوية العلنية بين الناس أنفَس ما في تراثهم الثقافي من أجزاء؛ فكما قام رواة مجهولون بين اليونان بنقل الإلياذة والأوذيسية، وتوسيعها على مر الأجيال، كذلك فعل الرواة والخطباء في الهند بنقل الملاحم من جيل إلى جيل، ومن بلاط السلطان إلى عامة الشعب، تلك الملاحم التي ركز فيها البراهمة أساطيرهم الشعبية.

وفي رأي عالم هندي أن "الماهابهاراتا" هي (أعظم آية من آيات الخيال التي أنتجتها آسيا)(20) وقال عنها سير تشارلز إلْيَتْ إنها: (قصيدة أعظم من الإلياذة)(21) ولا ارتياب في صدق هذا الحكم الأخير بمعنى من معانيه؛ بدأت الماهابهاراتا (حوالي سنة 500 ق.م) قصيدة قصصية قصيرة، لا يتجاوز طولها حداً معقول، ثم أخذت تضيف إلى نفسها في كل قرن من القرون المتعاقبة حكايات ومقطوعات، وامتصت في جسمها قصيدة (بهاجافادجيتا) كما ضمت بعض أجزاء من قصة راما، حتى بلغ طولها في نهاية الأمر 000ر107زوج من أبيات الشعر الثمانية المقاطع - أي ما يساوي الإلياذة والأوذيسية مجتمعين سبع مرات واسم مؤلفها أسطوري، إذ ينسبها الرواة
صفحة رقم : 946
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الهند وجيرانها -> أدب الهند -> الملاحم

لمن يسمونه (فياسا) وهي كلمة معناها "المنظم"(22) فقد كتبها مائة شاعر، وصاغها ألف منشد، ثم جاء البراهمة في عهد ملوك جوبتا (حوالي 400 م) فصبوا أفكارهم الدينية والخلقية في هذا المؤلف الذي بدأ على أيدي أفراد من طبقة الكشاترية؛ وبهذا خلعوا على القصيدة تلك الصورة الجبارة التي نراها عليها اليوم.

لم يكن موضوع القصيدة الأساسي مقصوداً به الإرشاد الديني بمعنى الكلمة الدقيق، لأنها تقص قصة عنف ومقامرة وحروب، فيقدم الجزء الأول من القصيدة "شاكونتالا" الجميلة (التي أريد لها أن تكون بطلة في أشهر مسرحية هندية) وابنها القوي (بهارفا)؛ الذي من أصلابه جاءت قبائل (بهاراتا العظيم) (أي الماهابهاراتا) وقبائل كورو وباندافا التي تتألف من حروبها الدموية سلسلة الحكاية ولو أنه كثيراً ما تخرج الحكاية عن موضوعها لتعرج على موضوعات أخرى؛ فالملك "يوذسشيرا" - ملك البندافيين - يقامر بثروته حتى تضيع كلها، ثم بجيشه وبمملكته وبإخوته وأخيراً بزوجته "دراوبادي" وكان في هذه المقامرة يلاعب عدواً له من قبيلة كورو، كان يلعب بزهرات مغشوشة، وتم الاتفاق على أن يسترد الباندافيون مملكتهم بعد اثني عشر عاماً يتحملون فيها النفي من أرض وطنهم وتمضي الاثنا عشر عاماً، ويطالب الباندافيون أعداءهم الكوريين برد أرضهم، لكن لا جواب، فتعلن الحرب بين الفريقين ويضيف كل فريق إلى نفسه حلفاء حتى تشتبك الهند الشمالية كلها تقريباً في القتال وتظل الحرب ناشبة ثمانية عشر يوماً، وتملأ من الملحمة خمسة أجزاء، وفيها يلاقي الكوريون جميعا مناياهم، كما يقتل معظم الباندافيين فالبطل (بهشما) وحده يقتل مائة ألف رجل في عشرة أيام، ويروي لنا الشاعر الإحصائي أن عدد من سقط في القتال قد بلغ عدة مئات من ملايين الرجال(23)؛ وتسمع "جانذاري"-
صفحة رقم : 947
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الهند وجيرانها -> أدب الهند -> الملاحم

الملكة زوجة ملك كورو الأعمى واسمه "ذريتا راشترا" - تسمعها وسط هذا المشهد الدامي المترع بمناظر الموت، تصرخ جازعة عندما تبصر العقبان محومة في لهفة الشره فوق جثة ابنها الأمير "درْيوذان":
ملكة طاهرة وامرأةٌ طاهرة، فاضلة أبداً خيِّرةٌ أبداً
هي "جانذارا" التي وقفت وسط الميدان شامخة في حزنها العميق

والميدان مليء بالجماجم، وجدائل الشعر انعقدت عليها الدماء،
وقد اسود وجهه بأنهار من دم متجمد؛
والميدان الأحمر مليء بأطراف من لا يحصيهم العد من المقاتلين...
وعواء أبناء آوي الطويل المديد يرن فوق منبطح الأشلاء
والعُقاب والغراب الأسحم يرفرفان أجنحة كريهة سوداء
وسباع الطير تملأ السماء طاعمة من دماء المحاربين
وجماعات الوحش البغيضة تمزق الأجساد الملقاة شلوا شلوا
سيق الملك الكهل في هذه الساحة، ساحة الأشلاء والموت
ونساء كورو بخطوات مرتعشة خطون وسط أكداس القتلى
فدوت في أرجاء المكان صرخات عالية من جزع
عندما رأين القتلى أبنائهن وآبائهن وأخوتهن وأزواجهن
عندما رأين ذئاب الغابة تطعم بما هيأ لها القدر من فرائس
عندما رأين جوَّابات الليل السود ساعيات في ضوء النهار
ورنت أرجاء الميدان المخيف بصرخات الألم وولولة الجزع
فخارت منهن الأقدام الضعيفة، وسقطن على الأرض
وفقد أولئك الراثيات كلَّ حسٍّ وكل حياة، إذ هن في إغماءة من حزن مشترك.
صفحة رقم : 948
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الهند وجيرانها -> أدب الهند -> الملاحم

ألا إن الإغماءة الشبيهة بالموت، التي تعقب الحزن، فيها لحظة قصيرة من راحة للمحزون.
ثم انبعثت من صدر "جانذاري" آهةٌ عميقة من قلب مكروب ونظرت إلى بناتها المحزونات،
وخاطبت كرِشنا قائلة :
"انظري إلى بناتي اللائي ليس لهن عزاء، انظري إليهن وهن ملكاتٌ أرامل لبيت كورو.
انظري إليهن باكيات على أعزائهن الراحلين، كما تبكي إناث النسور ما فقدت من نسور
انظري كيف يثير في قلوبهن حب المرأة كلُّ قَسْمة من هاتيك القسمات الباردة الذاوية
انظري كيف يجبن بخطوات قلقة وسط أحساد المقاتلين وقد أخمدها الموت
وكيف تضم الأمهات قتلى أبنائهن إذ هم في نومهم لا يشعرون
وكيف تنثني الأرامل على أزواجهن فيبكين في حزن لا ينقطع ...
هكذا جاءت الملكة "جانذاري" لتبلّغ "كرِشْنا" حزين أفكارها؛

وعندئذ - واحسرتاه - وقع بصرها الحائر على ابنها "درْيوذان"
فأكل صدرها غمٌّ مفاجئ، وكما زاغت حواسُّها عن مقاصدها
كأنها شجرة هزتها العاصفة، فسقطت لا تحس الأرض التي سقطت عليها؛
ثم صحت في أساها من جديد، وأرسلت بصرها من جديد
إلى حيث رقد ابنها مخضباً بدمائه يلتحف السماء
صفحة رقم : 949
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الهند وجيرانها -> أدب الهند -> الملاحم

وضمت عزيزها درْيوذان، ضمته قريباً من صدرها
وإذ هي تضم جثمانه الهامد اهتز صدرها بنهنهة البكاء
وانهمرت دموعها كأنها مطر الصيف، فغسلت به رأس النبيل
الذي لم يزل مزدانا بأكاليله، لم يزل تكلله أزاهير المشكا ناصعة حمراء
"لقد قال لي ابني العزيز درْيوذان حين ذهب إلى القتال، قال:
"أماه ادْعي لي بالغبطة وبالنصر إذا ما اعتليت عجلة المعمعة"
فأجبت : عزيزي درْيوذان : "اللهم - يا بني - اصرف عنه الأذى ألا إن النصر آت دائماً في ذيل الفضيلة"
ثم انصرف بقلبه كله إلى المعركة، ومحا بشجاعته كلَّ خطاياه
وهو الآن يسكن أقطار السماء حيث ينتصر المحارب الأمين
ولست الآن أبكي دريوذان، فقد حارب أميراً ومات أميراً
إنما أبكي زوجي الذي هده الحزن، فمن يدري ماذا هو ملاقيه من نكبات؟
"اسمع الصيحة الكريهة يبعثها أبناء آوي، وأنظر كيف يرقب الذئاب الفريسة -
وأرادت العذارى الفاتنات بما لهن من غِناء وجمال أن يحرسنه في رقدته،
اسمع هاتيك العقبان البغيضة المخضبة مناقيرها بالدماء، تصفق بأجنحتها على أجسام الموتى -
والعذارى يلوحن بمراوح الريش حول درْيوذان في مخدعه الملكي
انظر إلى أرملة درْيوذان النبيلة، الأم الفخورة بابنها الباسل لاكشمان
إنها في جلال الملكة شباباً وجمالاً، كأنها قُدّتْ من ذهب خالص
انتزعوها من أحضان زوجها الحلوة، ومن ذراعي ابنها يطوقانها
كتب عليها أن تقضي حياتها كاسفة حزينة، رغم شبابها وفتنتها
صفحة رقم : 950

قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الهند وجيرانها -> أدب الهند -> الملاحم

ألا مزق اللهم قلبي الصلب المتحجر، واسحقه بهذا الألم المرير
هل تعيش "جانذاري" لتشهد ابنها وحفيدها النبيلين مقتولين؟
وانظر مرة أخرى إلى أرملة درْيوذان، كيف تحتضن رأسه الملطخ بدمه الخاثر
انظر كيف تمسك به على سريره في رفق بيدين رقيقتين رحيمتين
انظر كيف تدير بصرها من زوجها العزيز الراحل إلى ابنها الحبيب
فتختنق عبرات الأم فيها أنّةَ الأرملة وهي أنَّةٌ مريرة
وإن جسدها لذهبي رقيق كأنه من زهرة اللوتس
أواه يا زهرتي، أواه يا ابنتي، يا فخر "بهارات" ويا عز "كورو"
ألا إن صدقتْ كتب الفيدا، "فدريوذان" الباسل حي في السماء
ففيم بقاؤنا على هذا الحزن، لا ننعم بحبه العزيز؟
إن صدقت آيات "الشاسترا" فابني البطل مقيم في السماء
ففيم بقاؤنا في حزن مادام واجبهما الأرضي قد تأدَّى.
فالموضوع موضوع حب وحرب، لكن آلاف الإضافات زيدت عليه في شتى مواضعه؛ فالإله "كرشنا" يوقف مجرى القتال حيناً بقصيدة منه يتحدث فيها عن شرف الحرب و "كرِشنا" و "بهشْما" وهو يحتضر، يؤجل موته قليلاً حتى يدافع عن قوانين الطبقات والميراث والزواج والمِنَح وطقوس الجنائز، ويشرح فلسفة كتب "السانخيا" و "يوبانشاد" ويروي طائفة من الأساطير والأحاديث المنقولة والخرافات، ويلقي درساً مفصلاً على "يودشثيرا" في واجبات الملك؛ كذلك ترى أجزاء مُعْفَرَّة جدباء في سياق الملحمة تقص شيئاً عن الأنساب وعن جغرافية البلاد وعن اللاهوت والميتافيزيقا، فتفصل بين ما في الملحمة من رياض نضرة فيها أدب مسرحيٌّ وحركة، وفي ملحمة
صفحة رقم : 951
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الهند وجيرانها -> أدب الهند -> الملاحم

"الماهابهاراتا" حكاية جامحة الخيال، وقصص خرافية، وغرامية، وتراجم للقديسين، فيتعاون كل هذا على جعل الملحمة أقل قيمة في صورتها الفنية، وأخصب فكراً، من الإلياذة أو الأوذيسية؛ فهذه القصيدة التي كانت في بادئ أمرها معبرة عن طبقة الكشاترية (المحاربين) من حيث تبجيلها للحركة والنشاط والبطولة والقتال، قد أصبحت على أيدي البراهمة أداة لتعليم الناس قوانين "مانو" ومبادئ "اليوجا" وقواعد الأخلاق وجمال النرفانا؛ وترى "القاعدة الذهبية" معبَّراً عنها في صور كثيرة وتكثر في القصيدة الحِكَم الخلقية ذات الجمال وصدق النظر وفيها قصص جميلة عن الوفاء الزوجي ("نالا" و "دامايانتي" و "سافترْي") تصور للنساء اللائي يستمعن لها، المثل العليا البرهمية للزوجة الوفية الصابرة.
وفي غضون الرواية عن هذه المعركة الكبرى، بُثت قصيدة هي أسمى قصيدة فلسفية يعرفها الشعر العالمي جميعاً، وهي المسماة "بهاجافاد - جيتا" ومعناها (أنشودة المولى)، وهي بمثابة "العهد الجديد" في الهند، يبجلونها بعد كتب الفيدا نفسها، ثم يستعملونها لحلف الأيمان في المحاكم كما يستعمل الإنجيل أو القرآن(28)؛ ويقرر "ولهلم فون همبولت" أنها "أجمل أنشودة فلسفية موجودة في أي لغة من اللغات المعروفة، وربما كانت الأنشودة الوحيدة الصادقة في معناها ... ويجوز أن تكون أعمق وأسمى ما يستطيع العالم كله أن يبديه من آيات"(29)؛ وقد هبطت إلينا "الجيتا" بغير اسم ناظمها أو تاريخ
صفحة رقم : 952
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الهند وجيرانها -> أدب الهند -> الملاحم

نظمها، وهي في ذلك تشاطر سائر ما للهند من آيات الإبداع في الجهل بأصحابها، وعلة ذلك أن الهند لا تعنى بما هو فرديّ أو جزئيّ؛ وربما يرجع تاريخها إلى سنة 400 ق.م(30) أو ربما كانت أحدث من ذلك بحيث ترجع إلى سنة 200 م(31).

ومشهد القصيدة هو المعركة التي نشبت بين الكوريين والباندافيين؛ والموقف الذي قيلت فيه هو ما أبداه "أرجونا" المحارب الباندافي من رغبة عن قتال ذوي قرباه في صفوف الأعداء قتالاً مميتاً؛ فاسمع "أرجونا" وهو يوجّه الخطاب إلى "المولى كرشنا" الذي كان يحارب إلى جواره كأنه إله من آلهة هومر، لترى كيف يعبر بخطابه عن فلسفة غاندي والمسيح:
"إن الأمر كما أراه هو أن هذا الحشد من ذوي قربانا
قد تجمع هاهنا ليسفك دماً مشتركاً بيننا؛
ألا إن جسدي ليخور وَهَناً، ولساني يجف في فمي ...
ليس هذا من الخير يا "كِشاف"! يستحيل أن ينشأ خير
من فريقين يفتك كل منهما بالآخر! انظر،
إنني أمقت النصر والسيادة، وأكره الثروة والترف
إن كان كسبهما عن هذا الطريق المحزن! وا أسفاه،
أي نصر يسرّ يا "جوفندا" وأي الغنائم النفيسة ينفع،
و أي سيادة تعوض، وأي أمد من الحياة نفسها يحلو،
إن كان شيء من هذا كله قد اشتريناه بمثل هذه الدماء؟...
فإذا ما قتلنا
أقرباءنا وأصدقاءنا حباً في قوة دنيوية
فيالها من غلطة تنضح شراً!
إنه لخير في رأيي، إذا ما ضرب أهلي ضربتهم،
أن أواجههم أعزل من السلاح، وأن أعَرّي لهم صدري،
صفحة رقم : 953
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الهند وجيرانها -> أدب الهند -> الملاحم

فيتلقى منهم الرماح والسهام، ذلك في رأي خير من مبادلتهم ضربة بضربة).

و هاهنا يأخذ "كرشنا"- الذي تحمل ربوبيته على الحد من نشوته بالمعركة- في بسط وجهة نظره واثقاً من صحة ما يقول ثقة استمدها من كونه ابن فشنو، وهي أن الكتب المنزلة، والرأي عند خيرة الراسخين في العلم، هو أنه من الخير والعدل أن يقتل الإنسان ذوي قرباه في الحرب؛ وأن واجب "أرجونا" هو أن يتبع قواعد طبقته الكشاترية، وأن يقاتل ويقتل أعداءه بضمير خالص وإرادة طيبة، لأنه على كل حال لا يقتل إلا الجسد، وأما الروح فباقية؛ وهنا تراه يشرح ما جاء في "سانخيا" عن "بوروشا" التي لا يأتيها العطب، وما جاء في "يوبانشاد " عن "أتمان" التي لا تفنى :
"اعلم أن الحياة لا تفنى، فتظل تبثّ حياةً في الكون كله؛
يستحيل على الحياة في أي مكان، وبأية وسيلة،
أن يصيبها نقص بأي وجه من الوجوه، ولا أن يصيبها خمود أو تغير
أما هذه الهياكل الجسدية العابرة، التي تبث فيها الحياة
روحاً لا تموت ولا تنتهي ولا تحدها الحدود -
ففانية؛ فدعها- أيها الأمير- تَفْنَ، وامض في قتالك!
إن من يقول : "انظر، لقد قتلت إنساناً!"
وإن من يظن لنفسه : "هاأنذا قد قُتِلْت!"
فكلا هذين لا يعلم شيئاً؛ إن الحياة لا تَقْتل
وإن الحياة لا تُقْتل! إن الروح لم تولد قط، ولن تفنى
إن الزمان لم يشهد لحظة خلت من الروح، إن النهاية والبداية أحلام!
إن الروح باقية إلى الأبد بغير مولد وبغير موت وبلا تغير
صفحة رقم : 954
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الهند وجيرانها -> أدب الهند -> الملاحم

إن الموت لم يمسسها قط، وإن خيل لنا أن وعائها الجسدي قد مات"
ويمضي "كرشنا" في إرشاد "أرجونا" في الميتافيزيقا، مازجاً في تعليمه كتاب "سانخيا" بكتاب "فيدانتا" بحيث يحصل منهما على مركب فريد يقبله أنصار مذهب "فايشنافيت" ؛ فهو يقول عن الأشياء كلها، موحداً بين ذاته والكائن الأسمى، يقول عن الأشياء كلها إنها:
"تتعلق بي
كما تتعلق مجموعة من الخرزات على الخيط؛
أنا من الماء طعمه العذب

وأنا من القمر فضته ومن الشمس ذهبها؛
أنا موضع العبادة في الفيدا، والهزة التي
تشق أجواز الأثير، والقوة
التي تكمن في نطفة الرجل؛ أنا الرائحة الطيبة الحلوة
التي تعبق من الأرض البليلة؟ وأنا من النار وهجها الأحمر
وأنا الهواء باعث الحياة، يتحرك في كل ما هو متحرك
أنا القدسية فيما هو مقدس من الأرواح، أنا الجذر
الذي لا يذوي، والذي انبثق منه كل ما هو كائن،
أنا حكمة الحكيم، وذكاء
العليم، وعظمة العظيم،
وفخامة الفخيم ...
إن من يرى الأشياء رؤية الحكيم،
يرى أن براهما بما له من كتب وقداسة،
والبقرة، والفيل، والكلب النجس،
صفحة رقم : 955
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الهند وجيرانها -> أدب الهند -> الملاحم

والمنبوذ وهو يلتهم لحم الكلب، كلها كائن واحد"
هذه قصيدة زاخرة بألوانها المتباينة ومتناقضاتها الميتافيزيقية والخلقية التي تصور أضداد الحياة وتعقيدها؛ وإنه ليأخذنا شئ من الدهشة أن نرى الإنسان متمسكاً بما يبدو لنا موقفاً أسمى من الوجهة الخلقية، بينما الإله يدافع عن الحرب والقتل، معتمدا على أساس متهافت وهو أن الحياة غير قابلة للقتل، والفردية وَهْم لا حقيقة فيه؛ ولعل ما أراد المؤلف أن يحققه بقصيدته هو أن ينقذ الروح الهندية من الهمود المميت الذي فرضته العقيدة البوذية، وأن يوقظها لتحارب من أجل الهند؛ فهي بمثابة ثورة رجل من الكشاترية أحسّ أن الدين يوهن أمته، وارتأى في زهو أن هنالك أشياء كثيرة أنفَس من السلام؛ وقبل كل شئ كانت هذه القصيدة درساً لو حفظته الهند لجاز أن يصون لها حريتها.

وأما ثانية الملاحم الهندية فهي أشهر الأسفار الهندية وأحبها إلى النفوس(35) وهي أقرب إلى أفهام الغربيين من "الماهابهاراتا" ؛ وأعني بها "رامايانا" ، وهي أقصر من زميلتها الأولى، إذ لا يزيد طولها على ألف صفحة قوام الصفحة منها ثمانية وأربعون سطراً؛ وعلى الرغم من أنها كذلك أخذت تزداد بالإضافات من القرن الثالث قبل الميلاد إلى القرن الثاني بعد الميلاد، فإن تلك الإضافات فيها أقل عدداً مما في زميلتها، ولا تهوش الموضوع الأصلي كثيراً؛ ويعزو الرواة هذه القصيدة إلى رجل يسمى "فالميكي" ، وهو كنظيره المؤلف المزعوم للملحمة الأخرى الأكبر منها، يظهر في الحكاية شخصية من شخصياتها ولكن الأرجح أن القصيدة من إنشاء عدد كبير من المنشدين العابرين، أمثال أولئك الذين لا يزالون ينشدون هاتين الملحمتين، وقد يظلون يتابعون إنشادهما تسعين ليلة متعاقبة، على مستمعين مأخوذين بما فيها من سحر(36).
وكما أن "الماهابهاراتا" تشبه "الإلياذة" في كونها قصة حرب عظيمة
صفحة رقم : 956
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الهند وجيرانها -> أدب الهند -> الملاحم

أنشبتها الآلهة والناس، وكان بعض أسبابها استلاب أمة لامرأة جميلة من أمة أخرى؛ فكذلك تشبه "رامايانا" "الأوذيسية" وتقصّ عما لاقاه أحد الأبطال من صعاب وأسفار، وعن انتظار زوجته صابرة حتى يعود إليها فيلتئم شملها من جديد(37)، وترى في فاتحة الملحمة صورة لعصر ذهبي، كان فيه "دازا- راذا" يحكم مملكته "كوسالا" (وهي ما يسمى الآن أوذا) من عاصمته "أيوذيا":
مزداناً بما تزدان به الملوك من كرامة وبسالة، وزاخراً بترانيم الفيدا المقدسة
أخذ (دازا- راذا) يحكم ملكه في أيام الماضي السعيد...
إذ عاش الشعب التقيُّ مسالماً، كثير المال رفيع المقام
لا يأكل الحسد قلوبهم؛ ولا يعرفون الكذب فيما ينطقون؛
فالآباء بأسْراتهم السعيدة يملكون ما لديهم من ماشية وغلة وذهب

و لم يكن للفقر المدقع والمجاعة في (أيوذيا) مقام.
وكان على مقربة من تلك البلاد مملكة أخرى سعيدة هي "فيديها" التي كان يحكمها الملك "جاناك" ، وقد كان هذا الملك "يسوق المحراث ويحرث الأرض" بنفسه، فهو في ذلك شبيه ببطل اسمه "سِنْسِناتَسْ" ؛ وحدث ذات يوم أنه لم يكد يلمس المحراث بيده، حتى انبثقت من مجرى المحراث في الأرض ابنة جميلة، هي " سيتا " ، وما أسرع ما حان حين زواجها، فعقد "جاناك" مباراة بين خطّابها، فمن استطاع منهم أن يقوم اعوجاج قوس "جاناك" الذي يقاتل به، كانت العروس نصيبه؛ وجاء إلى المباراة أكبر أبناء "دازا- راذا" وهو "راما": "صدره كصدر الليث، وذراعاه قويتان، وعيناه ذهبيتان، مهيب كفيل الغابة، وقد عقد على ناصيته من شَعْره تاجاً"(39) ولم يستطع أن يلوي القوس إلا "راما" فقدم إليه "جاناك" ابنته بالصيغة المعروفة في مراسم الزواج في الهند:
صفحة رقم : 957
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الهند وجيرانها -> أدب الهند -> الملاحم

هذه سيتا ابنة جاناك وهي أعز عليه من الحياة
فلتقاسمك منذ الآن فضيلتك، ولتكن أيها الأمير زوجتك الوفية
هي لك في كل بلد، تشاركك عزاً وبؤساً
فأعِزَّها في سرّائك وضرّائك ، واقبض على يدها بيدك
والزوجة الوفية لمولاها كالظل يتبع الجسد
وابنتي سيتا- زين النساء- تابعتك في الموت والحياة

وهكذا يعود "راما" إلى بلده "أيوذيا" بعروسه الأميرة- : "جبين من عاج، وشفة من المرجان، وأسنان تسطع بلمعة اللآلئ"- وقد كسب حب أهل كوسالا بتقواه ووداعته وسخائه؛ وما هو إلا أن دخل الشر هذه الفردوس حين دخلتها الزوجة الثانية "لدازا- راذا" وهي "كايكيي" ؛ وقد وعدها "دازا- راذا" أن يجيبها إلى طلبها كائناً ما كان؛ فحملتها الغيرة من الزوجة الأولى التي أنجبت "راما" ولياً للعهد، أن تطلب من "دازا- راذا" نفي "راما" من المملكة أربعة عشر عاماً؛ فلم يسع "دازا- راذا" إلا أن يكون عند وعده، مدفوعاً إلى ذلك بشرف لا يفهم معناه إلا شاعر لم يعرف شيئاً من السياسة؛ ونفى ابنه الحبيب، بقلب كسير؛ ويعفو "راما" عن أبيه عفو الكريم، ويأخذ الأهبة للرحيل إلى الغابة حيث يقيم وحيداً؛ لكن "سيتا" تصر على الذهاب معه، وكلامها في هذا الموقف تكاد تحفظه عن ظهر قلب كل عروس هندية، إذ قالت:
"العربة والخيل المطهمة والقصر المذهّب، كلها عبث في حياة المرأة
فالزوجة الحبيبة المحبة تؤثر على كل هذا ظلّ زوجها...
إن "سيتا" ستهيم في الغابة، فذلك عندها أسعدُ مقاماً من قصور أبيها
إنها لن تفكر لحظة في بيتها أو في أهلها، ما دامت ناعمة في حب زوجها...
صفحة رقم : 958
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الهند وجيرانها -> أدب الهند -> الملاحم

وستجمع الثمار الحوشية من الغابة اليانعة العبقة
فطعام (يذوقه "راما" هو أحب طعام عند "سيتا")
حتى أخوه "لاكشمان" يستأذن في الرحيل ليصحب "راما" فيقول :
"ستسلك طريقك المظلم وحيداً مع "سيتا" الوديعة،
هلاّ أذنت لأخيك الوفيّ "لاكشمان" بحمايتها ليلاً ونهاراً،
هلاّ أذنت "للاكشمان" بقوسه ورمحه أن يجوب الغابات جميعاً
فيسقط بفأسه أشجارها، ويبني لك الدار بيديه؟".

وعند هذا الموضع تصبح الملحمة نشيداً من أنشاد الغابات، إذ تقصّ كيف ارتحل "راما" و "سيتا" و "لاكشمان" إلى الغابات، وكيف سافر معهم عامر "أيوذيا" جميعاً طوال اليوم الأول، حزناً عليهم؛ وكيف يتسلل المنفيّون من أصحابهم الودودين خلسة في ظلمة الليل، مخلّفين وراءهم كل نفائسهم وثيابهم الفاخرة، وارتدوا لحاء الشجر ونسيجاً من كلأ، وأخذوا يشقوا لأنفسهم طريقاً في أشجار الغابة بسيوفهم، ويقتاتون بثمار الشجر وبندقها
"وطالما التفتت إلى "راما" حليلته، في غبطة وتساؤل تزدادان على مرّ الأيام
وتسأل ما اسم هذه الشجرة وهذا الزاحف وتلك الزهرة وهاتيك الثمرة مما لم تره من قبل...
والطواويس ترفّ حولهم مرحة، والقردة تقفز على محنيّ الغصون...
كان "راما" يثب في النهر تظلله أشعة الصبح القرمزية
وأما "سيتا" فكانت تسعى إلى النهر في رفق كما تسعى السوسنة إلى الجدول)
ويبنون كوخاً إلى جانب النهر، ويروضون أنفسهم على حب حياتهم في
صفحة رقم : 959
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الهند وجيرانها -> أدب الهند -> الملاحم

الغابة لكن حدث أن كانت أميرة من الجنوب، وهي "سوربا- ناخا" تجوب الغابة، فتلتقي "براما" وتغرم به، وتضيق صدراً بالفضيلة التي يبديها لها، وتستثير أخاها "رافان" على المجيء ليختطف "سيتا" ، وينجح أخوها في خطفها والفرار بها إلى قلعته البعيدة، ويحاول عبثاً أن يغويها بالضلال، ولما لم يكن ثمة مستحيل على الآلهة والمؤلفين، فقد حشد جيشاً جراراً، فتح به مملكة "رافان" وهزمه في القتال، وأنقذ "سيتا" وبعدئذ (وكانت أعوام نفيه قد كملت) فرّ معه قافلاّ بها إلى بلده "أريوذا" حيث وجد أخاً آخر له وفياً، فتنازل له عن عرش كوسالا.

وللملحمة ذيل يرجح أنه أضيف إليها متأخراً، وفيه يروى أن "راما" آمن آخر الأمر بأقوال المتشككين الذين لم يصدقوا أن تكون "سيتا" قد أقامت تلك المدة كلها في قصر رافان بغير أن تقع في أحضانه آنا بعد آن؛ وعلى الرغم من أنها اجتازت "محنة النار" لتدل على براءتها، فقد بعث بها إلى غاية بعيدة حيث تقيم في صومعة هناك، مزوّدة بألعوبة الوراثة المرّة التي تقضي على كل جيل من الناس أن يورّث خلفه تلك الخطايا والأغلاط التي ورثها هو من شيوخه في شبابه؛ وتلتقي "سيتا" في الغابة بفالميكي، وتلد طفلين "لراما" ؛ وتمضي السنون، ويصبح الولدان منشدين جوّالين، يغنيان أمام "راما" المنكود الملحمة التي أنشأها عليه "فالميكي" مستمداً إيّاها من ذكريات "سيتا" ، فيدرك أن الولدين ابناه، ويبعث برسالة إلى "سيتا" يرجوها الرجوع؛ لكن "سيتا" كانت قد تحطم قلبها بما أثير حولها من ريب، فغاصت في الأرض التي كانت في بادئ الأمر أمها؛ ويظل "راما" يحكم أعوام طوالاً في وحشة وأسى، وتبلغ "أريوذا" في عهده الرحيم عصرها الذهبي من جديد، ذلك الذي ذاقت طعمه في عهد "دازا- راذا":
يروي شيوخ الحكماء إبان عهد راما السعيد
صفحة رقم : 960
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الهند وجيرانها -> أدب الهند -> الملاحم

أن رعيته لم تعرف الموت قبل أوانه ولا الأمراض الفاتكة.
ولم تبك الأرامل حزناً على أزواجهن لأن هؤلاء لم يموتوا عن زوجاتهم قبل اكتمال العمر
ولم تبك الأمهات هلعاً على الرضّع ففقدنهم في نعومة الأظفار.
ولم يحاول اللصوص والغشاشون والخادعون المرحون بالكذب سرقة أو غشاً أو خداعاً
وكل جار أحب جاره التقيّ، وأحب الشعب مولاه
وآتت الأشجار أكلها كاملة كلما حانت فصولها
ولم تتوان الأرض عاماً عن إخراج غلّتها في غبطة المعترف بالجميل
وأمطرت السماء في أوان المطر، ولم تعصف قط بالبلاد عاصفة تأتي على زرعها.
فكان كل واد يانع باسمٍ غنياً بمحصوله غنياً بمرعاه

وأخرج المِنْسَجُ السّندان صناعتهما، كما أخرجت الأرض الخصيبة المحروثة نبتها
وعاشت الأمة فرحة بعمل أجدادها الأولين
ألا ما أمتعها من قصة، يستطيع حتى المتشائم في عصرنا الحديث أن يستمتع بها، إذا كان من الحكمة بحيث يترك زمام نفسه آنا بعد آن لروعة الخيال ونغمة الغناء؛ فهذه الأشعار التي ربما كانت أحط قدراً من ملحمتي هومر من الوجهة الأدبية- في بنائها المنطقي وفخامة اللغة وعمق التصوير، والصدق في وصف الأشياء على حقائقها- تمتاز بدقة الشعور، وبإعلائها من شأن المرأة والرجل إعلاء مثالياً، وبتصوير الحياة تصويراً قوياً- وهو تصوير واقعي أحياناً؛ فلئن كان "راما" و "سيتا" أسمى خلقاً من أن يكونا شخصين حقيقيين، فغيرهما من الأشخاص مثل "دروبادي" و "يوذشثيرا" و "ذريتا- راشترا" و "جانذاري" يكادون يكونون في قوة الحياة التي تراها
صفحة رقم : 961
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الهند وجيرانها -> أدب الهند -> الملاحم

في "أخيل" و "هيلانة" و "يوليسيز" و "بنلوب" ؛ ويستطيع الهندي أن يحتج في حق قائلاً إن الأجنبي لا يمكنه قط أن يحكم على هاتين الملحمتين، بل لا يمكنه قط أن يفهمهما؛ فهما للهندي ليستا مجرد قصتين بل هما في رأيه بهو من أبهاء الصور، يشاهد فيه أشخاصاً مثاليين يمكنه أن ينسج في سلوكه على غرارهم، هما مستودع تستقر فيه التقاليد، كما تستقر فلسفة أمته ولاهوتها، فهما- بوجه من الوجوه- كتب مقدسة يقرأها الهندي على نحو ما يقرأ المسيحي "محاكاة المسيح" أو "تراجم القديسين" ؛ إذ يعتقد الهندي الورع أن "كرِشْنا" و "راما" صورتان مجسدتان للألوهية، ولا يزال يتوجه إليهما بالصلاة، ؛ وهو حين يقرأ أخبارهما في هاتين الملحمتين، يشعر بأنه يستمد من قراءته سمواً دينياً، كما يستمد متعة أدبية وارتفاعاً خلقياً؛ وهو يؤمن أن قراءته "لرامايانا" يطهره من أوزاره جميعاً ويجعله ينجب ولداً(45)، كما أنه يقبل النتيجة المزهوَّة التي تنتهي إليها "الماهابهاراتا" قبول الإيمان الساذج، وهي:
"إذا قرأ المرء "الماهابهاراتا" وآمن بتعاليمها، تطهر من كل خطاياه، وصعد إلى السماء بعد موته ... فالبراهمة بالقياس إلى سائر الناس، والزبد بالقياس إلى سائر ألوان الطعام ... والمحيط بالقياس إلى بركة الماء، والبقرة بالقياس إلى سائر ذوات الأربع- كل ذلك يصور "الماهابهاراتا" بالقياس إلى سائر كتب التاريخ ... إن من يصغي في انتباه إلى أشعار "الماهابهاراتا" المزدوجة الأبيات ويؤمن بما فيها، يتمتع بحياة طويلة وسمعة طيبة في هذه الحياة الدنيا، كما يتمتع في الآخرة بمقام أبدي في السماء"(46).

صفحة رقم : 962
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الهند وجيرانها -> أدب الهند -> المسرحية

الفصل الرابع
المسرحية
الأصول - "عربة الطين" - خصائص المسرحية الهندية -
كاليداسا - قصة "شاكنتالا" - تقدير المسرحية الهندية

المسرحية في الهند قديمة قدم الفيدات، بوجه من الوجوه، ذلك لأن بذورها الأولى على الأقل موجودة في كتب "يوبانشاد" ولا شك في أن للمسرحية بداية أقدم من هذه الكتب المقدسة، بداية أكثر فاعلية من تلك- وأعني بها الاحتفالات والمواكب الدينية التي كانت تقام للقرابين وأعياد الطقوس؛ وكان للمسرحية مصدر ثالث غير هذين، وهو الرقص- فلم يكن الرقص مجرد وسيلة لإخراج الطاقة المدخرة، وأبعد من ذلك عن الحقيقي أن نقول أنه كان بديلاً للعملية الجنسية، لكنه كان شعيرة جدية يقصد بها أن يحاكي ويوحي بالأعمال والحوادث الحيوية بالنسبة للقبيلة؛ وربما التمسنا مصدراً رابعاً للمسرحية، وهو تلاوة شعر الملاحم تلاوة علنية تدبّ فيها الحياة؛ فهذه العوامل كلها تعاونت على تكوين المسرح الهندي، وطبعته بطابع ديني ظل عالقاً به خلال العصر القديم كله من حيث بناء المسرحية ذاتها، ومصادر موضوعاتها الفيدية والملحمية، والمقدمة التي كانت تتلى دائماً قبل البدء في التمثيل استنزالاً للبركة.
وربما كان آخر البواعث التي حفزتهم على إنشاء المسرحية، هو اتصال الهند باليونان اتصالاً جاء نتيجة لغزو الإسكندر فليس لدينا شاهد يدل على وجود المسرحية قبل "أشوكا" ، كما أنه ليس بين أيدينا إلا دليل مشكوك في قوته، على أنها وجدت في عهده؛ وأقدم ما بقي لنا من المسرحيات الهندية
صفحة رقم : 963
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الهند وجيرانها -> أدب الهند -> المسرحية

مخطوطات أوراق النخيل التي كشف عنها حديثاً في التركستان الصينية، وبينها ثلاث مسرحيات، تذكر إحداها أن اسم مؤلفها هو "أشفاغوشا" العالم اللاهوتي في بلاط "كانِشْكا" ؛ لكن القالب الفني لهذه المسرحية، والشبه الذي بين شخصية "المضحك" فيها وبين النمط الذي عرفناه لمثل هذه الشخصيات في المسرح الهندي على مر العصور، قد يدلان على أن المسرحية كانت قائمة بالفعل في الهند قبل مولد "أشفاغوشا"(47)، وحدث في سنة 1910م أن وجدت في "ترافانكور" ثلاث عشرة مسرحية سنسكريتية، تُنسَبْ في شئ من الشك إلى "بهازا" (حوالي سنة 350م) وهو في الأدب المسرحي سلفٌ ظفر بكثير من التكريم من "كاليداسا" ففي مقدمة روايته "مالافيكا" توضيح جيد لنسبية الزمن والصفات، أثبته (أي كاليداسا) في تلك المقدمة عن غير وعي منه، فتراه يسأل: هل يليق بنا أن نهمل مؤلفات رجال مشهورين مثل "بهازا" و "ساوميلا" و "كافيبوترا"؟ هل يمكن للنظارة أن يحسُّوا بأقل احترام لما ينشئه شاعر حديث يسمى كاليداسا؟"(48).
وإلى عهد قريب كانت أقدم مسرحية هندية معروفة للباحثين العلميين هي "عربة الطين" ، وفي النص- الذي ليس تصديقه حتماً علينا- ذكر لاسم مؤلفها، وهو رجل مغمور يعرف باسم "الملك شودراكا" يوصف بأنه خبير بكتب الفيدا وبالرياضة وترويض الفيلة وفن الحب(49) ومهما يكن من أمر فقد كان خبيراً بالمسرح، ومسرحيته هذه أمتع ما جاءنا من الهند، وليس في ذلك سبيل إلى الشك- فهي مزيج- يدل على براعة- من الغناء والفكاهة، وفيها فقرات رائعة لها ما للشعر من حرارة وخصائص.
ولعل خلاصة موجزة لحوادثها أنفع في توضيح مميزات المسرحية الهندية من مجلد بأسره يكتب في شرحها والتعليق عليها؛ ففي الفصل الأول نلتقي بـ "شارو- داتا" الذي كان ذات يوم من الأغنياء، ثم أصابه الفقر لجوده
صفحة رقم : 964
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الهند وجيرانها -> أدب الهند -> المسرحية

وسوء حظه؛ ويلعب صديقه "مايتريا"- وهو برهميّ فدْم- دور المضحك في المسرحية؛ ويطلب "شارو" من "مايتريا" أن يهب الآلهة قرباناً، ولكن البرهمي يرفض الطلب قائلاً: "ما غناء القربان للآلهة التي عبدتها ما دامت لم تصنع لك شيئاً؟" وفجأة دخلت امرأة هندية شابة، من أسرة رفيعة ولها ثراء عريض، دخلت مندفعة في فناء دار "شارو" تلتمس فيه ملاذاً من رجل يتعقبها؛ وإذا بهذا المتعقب أخو الملك، واسمه "سامزثاناكا" وهو شرير إلى درجة بلغت غاية لم تدع فيه أدنى مجال للخير، حتى ليتعذر على الإنسان أن يصدق وجود مثل هذا الشر الخالص، على نحو ما كان" "شارو" خيّراً خالصاً لا سبيل إلى دخول الشر في نفسه؛ فيحمي "شارو" الفتاة اللائذة بداره، ويطرد " سامزثاناكا " الذي يتوعده بالانتقام، فيزدري منه هذا الوعيد وتطلب الفتاة- واسمها "فاسانتا- سينا"- من "شارو" أن يحفظ لها وعاء فيه جواهر كريمة تحت حراسته الآمنة، خشية أن يسرقه منها الأعداء، وخشية ألا تجد عذراً تتذرع به للعودة إلى زيارة منقذها؛ فيجيبها إلى ما طلبت، ويحفظ لها الوعاء، ويحرسها حتى يبلغ بها دارها الفخمة.
ويأتي الفصل الثاني بمثابة فاصل هزلي، فهذا مقامر هارب من مقامرين آخرين، يلوذ بأحد المعابد، فلما دخل هذان، وتخلص منهما بأن وقف وقفة التمثال كأنه وثن الضريح، ويقرصه المتعقبان ليريا إن كان حقيقة وثناً من الحجر، فلا يتحرك؛ فيتخليان عن البحث، ويتسليان بلعبة يلعبانها بالزهر "زهر القمار" بجوار المذبح؛ ويبلغ اللعب من إثارته للنفس مبلغاً تعذر معه على التمثال أن يضبط زمام نفسه، فوثب من على قاعدته، واستأذن ليشترك في اللعب؛ ويهزمه اللاعبان الآخران، فيجد في ساقيه السريعتين وسيلة للفرار مرة أخرى، وتنجيه "فاسانتا- سينا" التي عرفت فيه رجلاً كان فيما مضى خادماً عند "شارو- داتا".
ونرى في الفصل الثالث "شارو" و "مايتريا" عائدين من حفلة موسيقية
صفحة رقم : 965

قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الهند وجيرانها -> أدب الهند -> المسرحية

ويسطو على الدار لص فيسرق وعاء الجواهر الكريمة، فلما كشف "شارو" عن السرقة، أحسّ بالعار، وبعث إلى "فاسانتا- سينا" آخر ما يملكه من عقود اللؤلؤ، عوضاً لها.
ونرى في الفصل الرابع "شارفيلاكا" يقدم الوعاء المسروق إلى خادمة "فاسنتا- سينا" ابتغاء حبها؛ فلما عرفت أنه وعاء سيدتها، ازدرت "شارفيلاكا" لأنه لص، فيجيبها في مرارة نعرفها في شوبنهور، قائلاً :
إن المرأة- إذا ما بذلتَ لها المال- ابتسمت أو بكتْ
ما أردتَ لها الابتسام أو البكاء؛ إنها تحمل الرجل
على الثقة فيها، لكنها هي لا تثق فيه،
إن النساء متقلبات الأهواء كموج
المحيط؛ إنّ حبهن مفلات هروب
كأنه شعاع من ضوء الشمس الغاربة فوق السحاب،
إنهن يرتمين بميل شديد على الرجل
الذي يعطيهن مالاً، وما زلن يعتصرن ماله
اعتصارهن لعصارة النبات المليء، ثم ينبذونه نبذاً
لكن الخادمة تدحض كلامه هذا بعفوها عنه كما تدحضه "فاسانتا- سينا" بالإذن لهما بالزواج.
وفي فاتحة الفصل الخامس تأتي "فاسانتا- سينا" إلى بيت "شارو" لكي تعيد له جواهره، وتعيد كذلك وعاءها؛ وبينما هي هناك، عصفت عاصفة تصفها بالسنسكريتية وصفا رائعاً ؛ وتتفضّل عليها العاصفة بالزيادة من ثورة غضبها، إذ اضطرتها بذلك- اضطراراً جاء وفق ما تشاء وتهوى- أن تبيت ليلتها تحت سقف شارو.
صفحة رقم : 966
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الهند وجيرانها -> أدب الهند -> المسرحية

ونرى في الفصل السادس "فاسانتا" وهي تغادر بيت "شارو" في الصباح التالي؛ وبدل أن تدخل العربة التي أعدها لها، أخطأت فدخلت عربة يملكها "سامزثاناكا" الشرير؛ وفي الفصل السابع حبكة فرعية ليست بذات أثر كبير على موضوع المسرحية؛ ونرى "فاسانتا" في الفصل الثامن ملقاة- لا في قصرها كما توقعت- بل في بيت عدوها، بل توشك أن تكون في أحضان ذلك العدو؛ فلما عاودته بازدراء حبّه إياها، خنقها ودفنها؛ ثم ذهب إلى المحكمة واتهم شارو بقتل "فاسانتا" بغية الوصول على أحجارها الكريمة.
وفي الفصل التاسع وصف للمحاكمة، حيث يخون "مايتريا" سيده خيانة غير مقصودة، وذلك بأن أسقط من جيبه جواهر "فاسانتا" ؛ فحكم على "شارو" بالموت؛ ونراه في الفصل العاشر في طريقه إلى حيث ينفذ فيه الإعدام؛ ويلتمس ابنه من الجلادين أن يضعوه مكان أبيه، لكنهم يرفضون؛ ثم تظهر "فاسانتا" في اللحظة الأخيرة؛ فقد شاهد "شارفيلاكا" "سامزثاناكا" وهو يدفنها، فأسرع إلى إخراج جسدها قبل فوات الأوان، وأعادها إلى الحياة؛ وانقلب الوضع، فقد أنقذت "فاسانتا" "شارو" من الموت؛ واتهم "شارفيلاكا" أخا الملك بتهمة القتل؛ لكن "شارو" أبى أن يؤيد الاتهام، فأطلق سراح "سامزثاناكا" وعاش الجميع عيشاً سعيداً(50).
لما كان الوقت في الشرق، حيث يكاد العمل كله يتم أداؤه بأيد بشرية، أوسع منه في الغرب، حيث وسائل توفير الوقت كثيرة جداً، كانت المسرحيات الهندية ضعف المسرحيات الأوروبية في عصرنا هذا؛ فيتراوح عدد الفصول من خمسة إلى عشرة، وكل فصل منها ينقسم في غير إزعاج للنظارة إلى مناظر، بحيث يكون أساس الانقسام خروج شخصية ودخول أخرى؛ وليس في المسرحية الهندية وحدة للمكان ووحدة للزمان، وليس فيها ما يحد سرحات الخيال؛ والمناظر على المسرح قليلة، لكن الثياب زاهية الألوان، وأحياناً
صفحة رقم : 967
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الهند وجيرانها -> أدب الهند -> المسرحية

يدخلون على المسرح حيوانات حية فتزيد من حركة المسرحية نشاطاً(51) وتبث روحاً فيما هو صناعي بما هو طبيعي فترة من الزمن؛ ويبدأ التمثيل بمقدمة يناقش فيها أحد الممثلين أو مدير المسرح موضوع الرواية، والظاهر أن "جيته" أخذ عن "كاليداسا" فكرة المقدمة لرواية "فاوست" ؛ ثم تخدم المقدمة بتقديم أول شخصية من الممثلين، فيأتي هذا ويخوض في قلب الموضوع؛ والمصادفات لا عدد لها، وكثيراً ما ترسم العوامل الخارقة للطبيعة خط السير للحوادث؛ ولا تخلو مسرحية من قصة غرامية، كما لابد لها من "مضحك" ؛ وليس في الأدب المسرحي الهندي مأساة، إذ لا مندوحة لهم عن اختتام الحوادث بخاتمة سعيدة؛ وحتم في المسرحية أن ينتصر الحب الوفيّ دائماً، وأن تكافأ الفضيلة دائماً، وأقل ما يدعوهم إلى فعل ذلك أن يجئ بمثابة الموازنة مع الواقع؛ وتخلو المسرحية الهندية من المناقشات الفلسفية التي كثيراً جداً ما تعترض مجرى الشعر الهندي؛ فالمسرحية مثل الحياة، لا بد أن تعلّم بالفعل وحده، وألا تلجأ أبداً في ذلك إلى مجرد الكلام ، ويتعاقب في سياق المسرحية الشعر الغنائي والنثر، حسب جلال الموضوع والشخصية والفعل؛ والسنسكريتية هي لغة الحديث لأفراد الطبقات العالية في الرواية، والبراكريتية هي لغة النساء والطبقات الدنيا؛ والفقرات الوصفية في تلك المسرحيات بارعة، وأما تصوير الشخصيات فضعيف؛ والممثلون- وفيهم نساء- يجيدون أداء التمثيل، فلا هم يتسرعون كما هي الحال في الغرب، ولا هم يسرفون في البطء كما يفعل أهل الشرق الأقصى؛ وتنتهي الرواية بخاتمة يتوجّه فيها بالدعاء إلى الإله المحبب عند المؤلف أو عند أهل الإقليم المحلي، ليهيئ أسباب السعادة للبلاد.
صفحة رقم : 968
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الهند وجيرانها -> أدب الهند -> المسرحية

وأشهر المسرحيات الهندية هي "شاكونتالا" لـ "كاليداسا" لم يزاحمها في ذلك مزاحم منذ ترجمها "سير وليم جونز" وامتدحها "جيته" ؛ ومع ذلك فكل ما تعرفه لكاليداسا ثلاث مسرحيات، مضافاً إليها الأساطير التي أدارتها حول اسمه ذاكرات المعجبين؛ والظاهر أن قد كان أحد "الجواهر التسع"- من الشعراء والفنانين والفلاسفة- الذين قرّبهم الملك "فكراماديتيا" إليه (380- 413 م) في عاصمة جوبتا، وهي "يوجين".
تقع "شاكونتالا" في سبعة فصول، بعضها نثر، وبعضها شعر ينبض بالحياة؛ فبعد مقدمة يدعو فيها مدير المسرح النظارة أن يتأملوا روائع الطبيعة، تبدأ الرواية بمنظر طريق في غابة، حيث يقيم راهب مع ابنة تبنّاها، تسمى "شاكونتالا" وما هو إلا أن يضطرب سكون المكان بصوت عربة حربية، يخرج منها راكبها وهو الملك "دشيانتا" فيغرم "بشاكونتالا" في سرعة نعهدها في خيال الأدباء، ويتزوج منها في الفصل الأول، لكنه يستدعى فجأة للعودة إلى عاصمته؛ فيتركها واعداً إياها أن يعود إليها في أقرب فرصة ممكنة، كما هو مألوف في مثل هذا الموقف؛ وينبئ رجل زاهد فتاتنا الحزينة بأن الملك سيظل يذكرها ما دامت محتفظة بالخاتم الذي أعطاه لها، لكنها تفقد الخاتم وهي تستحم؛ ولما كانت على وشك أن تكون أماً، فقد ارتحلت إلى قصر الملك، لتعلم هناك أن الملك قد نسيها على غرار ما هو معهود في الرجال الذين تسخو معهم النساء، وتحاول أن تذكّره بنفسها.
شاكونتالا: ألا تذكر في عريشة الياسمين
ذات يوم حين صَبَبْتُ ماء المطر
الذي تجمع في كأس زهرة اللوتس
في تجويفة راحتك؟
الملك: امضي في قصتك إني أسمع.
صفحة رقم : 969
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الهند وجيرانها -> أدب الهند -> المسرحية

شاكونتالا: وعندئذ في تلك اللحظة عينها،
جاء نحونا يعدو طفلي الذي تبنيته، أعني الغزال الصغير،
جاء بعينيه الطويلتين الناعستين؛ فقبل أن تطفئ ظمأك.
مددت يدك بالماء لذلك المخلوق الصغير، قائلاً :

"اشرب أنت أولاً أيها الغزال الوديع"
لكن الغزال لم يشرب من أيد لم يألفها
وأسرعت أنا فمددت إليه ماء في راحتي فشرب
في ثقة لا يشوبها فزع، فقلت أنت مبتسماً:
"إن كل مخلوق يثق في بني جنسه
كلاكما وليد غابة حوشية واحدة
وكلاكما يثق في زميله، ويعرف أين يجد أمانة"
الملك : ما أحلاك وما ألطفك وما أكذبك!
أمثال هؤلاء النساء يخدعن الحمقى...
إنك لتلحظ دهاء الإناث
في شتّى أنواع المخلوقات، لكنها في النساء أكثر منها في غيرهن
إن أنثى الوقوق تترك بيضها للأقدام تفقسها لها
وتطير هي آمنة ظافرة(53)
هكذا لقيت "شاكونتالا" الهون، وتحطم رجاؤها، فرفعتها معجزة إلى أجواز الفضاء حيث طارت إلى غابة أخرى فولدت هناك طفلها، وهو "بهاراتا" العظيم الذي كتب على أبنائه من بعده أن يخوضوا معارك "الماهابهاراتا"؛ و في ذلك الحين، وجد سمّاك خاتمها المفقود، ورأى عليه اسم الملك، فأحضره إلى "دشيانتا" (الملك)، وعندئذ عادت إليه ذاكرته "بشاكونتالا" ، وأخذ يبحث عنها في كل مكان، وطار بطائرة فوق قمم الهمالايا، وهبط بتوفيق من
صفحة رقم : 970
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الهند وجيرانها -> أدب الهند -> المسرحية

السماء عجيب على الصومعة التي كانت "شاكونتالا" تذوي في جوفها، ورأى الصبيّ "بهاراتا" يلعب أمام الكوخ، فحسد والديه قائلاً:
"آه، ما أسعده من أب وما أسعدها من أم
يحملان وليدهما، فيصيبهما القذر
من جسده المعفّر؛ إنه يكنّ آمناً مطمئناً
في حجريهما، وهو الملاذ الذي يرنو إليه-
إن براعم أسنانه البيضاء تتبدّى صغيرة
حين يفتح فمه باسماً لغير ما سبب؛
وهو يلغو بأصوات حلوة لم تتشكل بعد كلاماً...
لكنها تذيب الفؤاد أكثر مما تذيبه الألفاظ كائنة ما كانت"(54)
وتخرج "شاكونتالا" من كوخها، فيلتمس الملك عفوها، وتعفو عنه، فيتخذها ملكة له، وتنتهي المسرحية بدعاء غريب لكنه يمثل النمط الهندي المألوف:
"ألا فليعش الملوك لسعادة رعاياهم دون سواها،

اللهم أكرم "سارسفاتي" المقدسة- منبع
الكلام وإلهة الفن المسرحي،
أكرمها دوماً بما هو عظيم وحكيم!
اللهم يا إلهنا الأرجواني الموجود بذاتك
يا من يملأ المكان كله بنشاط حيويته،
أنقذ روحي من عودة مقبلة إلى جسد!"(55)
لم تتدهور المسرحية بعد "كاليداسا" لكنها لم تستطع بعدئذ أن تنتج رواية في قوة "شاكونتالا" أو "عربة الطين" ؛ فقد كتب الملك "هارشا" ثلاث مسرحيات شغلت المسرح قروناً- ذلك لو أخذنا رواية تقليدية ربما
صفحة رقم : 971
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الهند وجيرانها -> أدب الهند -> المسرحية

أوحى بها أول أمرها إيحاء؛ وبعده بمائة عام، كتب "بهافابهوتي"- وهو برهميٌّ من برار- ثلاث مسرحيات غرامية، لا يفوقها جودة إلا مسرحيات "كاليداسا" في تاريخ المسرح الهندي؛ وكان أسلوبه- رغم ذلك- مزخرفاً غامضاً، فكان لزاماً عليه أن يقنع بنظّارة محدودة العدد، وبالطبع قد ادّعى أن تلك النظارة القليلة ترضيه؛ وقد كتب يقول :
"ألا ما أقل ما يدريه أولئك الذين يقرعوننا باللوم؛ إن مسرحياتي لم تكتب لتسليتهم، فليس بعيداً أن يكون بين الناس شخص، أو ربما يوجد شخص في مقبل الأيام، له ذوق شبيه بذوقي، لأن الزمان مديد والعالم فسيح الأرجاء"(56).

يستحيل علينا أن نضع الأدب المسرحي في الهند، في منزلة واحدة مع مثيله في اليونان أو في إنجلترا أيام اليصابات؛ لكنه يقارن مع المسرح في الصين أو اليابان فيكون له التفوق؛ كلا لا يجوز لنا أن نبحث في أدب الهند عما يطبع المسرح الحديث من ألوان الفن الدقيق، فهذه الألوان عرض من أعراض الزمن، أكثر منها حقيقة أبدية، وربما زالت، بل ربما تحولت إلى ضدها؛ إن الكائنات الخوارق للطبيعة، في المسرحية الهندية غريبة على أذواقنا، مثل "القدر" في أدب "يوربيديز" المتنور؛ لكن هذا الجانب أيضاً عرض من أعراض التاريخ؛ أما أوجه الضعف في المسرحية الهندية (إذا جاز لأجنبي أن يذكرها في تردد) فهي التكلف في الصيغة اللفظية التي يشوهها تكرار الحرف الواحد ليمثل الصوت المعبَّر عنه وتفسدها الألاعيب اللفظية، وتصوير الأشخاص بلون واحد للشخص الواحد، فإما أن يكون الشخص خيراً صرفاً، أو أن يكون شراً صرفاً، وحبكة الحوادث حبكة لا يقبلها العقل، مستندة إلى مصادفات لا يمكن تصديقها؛ وإسراف في الوصف وفي النقاش حول الفعل الذي يكاد يكون بحكم التعريف الوسيلة الفريدة التي تتميز بها المسرحية في نقل ما تريد أن تنقله؛ وأما حسنات المسرحية الهندية فما فيها من خيال
صفحة رقم : 972
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الهند وجيرانها -> أدب الهند -> المسرحية

بديع، وعاطفة رقيقة، وشعر مرهف، ونداء عاطفي لما في الطبيعة من ألوان الجمال والفزع؛ إنه لا سبيل إلى النزاع حول صور الفن القومية، ذلك لأننا لا نستطيع أن نحكم عليها إلا من وجهة نظرنا بما لها من لون خاص، ثم لا نستطيع أن نراها غالباً إلا خلال منظار الترجمة؛ ويكفينا أن نقول إن " جيته " وهو أقدر الأوربيين على التسامي فوق حدود الإقليم وحواجز القومية، قد عَدَّ قراءة "شاكونتالا" بين ما صادفه في حياته من عميق التجارب، وكتب عنها معترفاً بفضلها :
"أتريدني أن أجمع لك في اسم واحد زهرات العام وهو في ربيعه ناشئ،

وثماره وهو في خريفه ينحدر إلى فناء
وأن أجمع كل ما عساه أن يسحر الروح ويهزها ويغذوها ويطعمها
بل أن أجمع الأرض والسماء نفسيهما في اسم واحد ؟
إذن لذكرت اسمك يا "شاكونتالا" وبذكره أذكر كل شئ دفعة واحدة"(57).

صفحة رقم : 973
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الهند وجيرانها -> أدب الهند -> النثر والشعر

الفصل الخامس
النثر والشعر
اتحادهما في الهند - الحكايات الخرافية - التاريخ - الحكايات - صغار الشعراء - نهضة
الأدب بالغة الدارجة في الحديث - شاندي داس - تولسي داس - شعراء الجنوب - كابر
النثر ظاهرة مستحدثة في الأدب الهندي إلى حد كبير، ويمكن اعتباره ضرباً من الفساد جاءه من الخارج بفعل الاتصال مع الأوربيين؛ فروح الهندي الشاعرة بطبعها ترى أنه لابد لكل شئ جدير بالكتابة عنه أن يكون شعري المضمون، يستثير في الكاتب رغبة في أن يخلع عليه صورة شعرية؛ فمادام الهندي قد احس بأن الأدب تنبغي قراءته بصوت مرتفع، وأدرك أن نتاجه الأدبي سينتشر في الناس ويدوم بقاؤه - ذلك إن انتشر ودام - بالرواية الشفوية لا بالكتابة فقد آثر أن يصب إنشاءه في قالب موزون أو مضغوط في صورة الحكمة، بحيث تسهل تلاوته ويسهل حفظه في الذاكرة؛ ولهذا كان الأدب في الهند كله تقريبا أدبا منظوماً؛ فالبحوث العلمية والطبية والقانونية والفنية أغلبها مكتوب بالوزن والقافية أو بكليهما، حتى قواعد النحو ومعاني القاموس قد صيغت في قالب الشعر، والحكايات الخرافية والتاريخ، وهما في الغرب يكتفيان بالنثر، تراهما في الهند قد اتخذا قالباً شعرياً منغماً.
الأدب الهندي خصيب بالحكايات الخرافية بصفة خاصة؛ والأرجح أن تكون الهند مصدراً لمعظم الحكايات الخرافية التي عبرت الحدود بين أقطار العالم كأنها عملة دولية فالبوذية لقيت أوسع انتشار لها حين كانت أساطير
صفحة رقم : 974
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الهند وجيرانها -> أدب الهند -> النثر والشعر

"جاتاكا" عن مولد بوذا ونشأته شائعة في الناس؛ وأشهر كتاب في الهند هو المعروف باسم "بان كاتانترا" أي "العنوانات الخمسة" )حوالي 500 ميلادية( وهو مصدر كثير من الحكايات الخرافية التي أمتعت أوروبا كما أمتعت آسيا؛ وكتاب "هيتو باديشا" أو "النصيحة الطيبة" فيه مختارات ومقتبسات من الحكايات الموجودة في "بان كاتانترا"، والعجيب أن كلا الكتابين ينزلان عند الهنود- إذا ما صنّفوا كتبهم- في قسم "نيتي شاسترا" ومعناها إرشادات في السياسة والأخلاق، فكل حكاية تروى لكي تبرز عبرة خلقية، ومبدأ من مبادئ السلوك أو الحكم، وفي معظم الحالات يقال في هذه القصص إنها من إنشاء برهمي ابتكرها ليعلم بها أبناء ملك من الملوك، وكثيراً ما تستخدم هذه الحكايات أحط الحيوانات للتعبير عن ألطف معاني الفلسفة؛ فحكايات القرد الذي حاول أن يدفئ نفسه بيراعة )وهي حشرة تضئ بالليل( وقتل الطائر الذي بصره بخطئه في ذلك، تصوير بديع رقيق لما يصيب العالم الذي يتصدى لإرشادات الناس إلى مواضع الخطأ في عقائدهم .
ولم تنجح كتابة التاريخ هناك في أن ترتفع عن مستوى سرد الحقائق عارية، أو مستوى الخيال المزخرف، ويجوز أن يكون الهنود قد أهملوا العناية بكتابة التاريخ بحيث ينافسون بها هيرودوت، أو ثيوسيديد، أو فلوطرخس، أو تاسِتَسْ أو جُبن، أو فولتير، إما لازدرائهم لحوادث المكان والزمان المتغيرة )و هو ما يسمونه مايا( وإما لإيثارهم النقل بالرواية الشفوية على المدوّنات المكتوبة، فالتفصيلات الخاصة بتحديد الزمان أو المكان قليلة
صفحة رقم : 975
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الهند وجيرانها -> أدب الهند -> النثر والشعر

جداً في وثائقهم، حتى في حالة كتابهم عن رجالهم المشهورين، لدرجة أن علماء الهنود قد تفاوتوا في تحديد تاريخ أعظم شعرائهم "كاليداسا" تفاوتا تراوح بين طرفي فترة طولها ألف عام؛ إن الهنود يعيشون- ومازالوا كذلك إلى يومنا هذا- في عالم لا يكاد يتغير فيه شئ من عادات وأخلاق وعقائد، حتى ليوشك الهندي ألا يفكر قط في تقدم، ويستحيل عليه أن يعنى بالآثار القديمة؛ فقد كانت تكفيه الملاحم تاريخاً صحيح الرواية، كما تكفيه الأساطير في تراجم الأسلاف؛ فلما كتب "أشفاغوشا" كتابه عن حياة بوذا "بوذا- شارِتا" كان أقرب إلى الأساطير منه إلى التاريخ، وكذلك لما كتب "بانا" بعد ذلك بخمسمائة عام كتابه من حياة "هارشا" )هارشا- شارِتا( كان أقرب إلى رسم صورة مثالية للملك العظيم منه إلى تقديم صورة يعتمد على صدقها وتواريخ "راجيوتانا" القومية ليست فيما يظهر إلا تمرينات في الوطنية والظاهر أنه لم يكن بين الهنود إلا كاتب واحد هو الذي أدرك عمل المؤرخ بمعناه الصحيح وهو "كالهانا" مؤلف كتاب "راجات آرانجيني" ومعناه "تيار الملوك" ولقد عبر عن نفسه بقوله: "ليس جديرً بالاحترام إلا الشاعر الشريف العقل الذي يجعل الكلمة منه كحكم القاضي- خالية من الحب والكراهية في تسجيل الماضي" ويسميه "وِنْتَرْنِتْز": "المؤرخ العظيم الوحيد الذي أنتجته الهند".
أما المسلمون فقد كانوا أدق شعوراً بكتابة التاريخ، وخلَّفوا لنا مدوَّنات نثرية تدعو إلى الإعجاب لما صنعوه في الهند، وقد أسلفنا ذكر "البيروني" ودراسته البشرية وذكْر "مذكرات" "بابور"، وكان يعاصر "أكبر" مؤرخ ممتاز هو "محمد قاسم فِرِشْتا" وكتابه "تاريخ الهند" هو أصح دليل تستدل به على حوادث الفترة الإسلامية؛ وأقل منه حياداً "أبو الفضل" كبير وزراء "أكبر" أو الرجل الذي كان يؤدي كل شئون السياسة في البلاد؛ وقد خَلَّف
صفحة رقم : 976

قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الهند وجيرانها -> أدب الهند -> النثر والشعر

لأجيال المستقبل وصفاً لأساليب مولاه في إدارة البلاد، وذلك في كتابه "عين أكبر" أو "مؤسسات أكبر الاجتماعية". وروى لنا حياة مولاه رواية تدل على حبه له حباً نغفر له، وأطلق على كتابه هذا أسم "أكبر ناما" وقد رد له الإمبراطور حبَّه هذا حبّا مثله، ولما جاءت الأخبار بأن "جهان كير" قد قتل الوزير، أخذ "أكبر" حزنٌ عميق وصاح قائلا:
"إذا أراد سالم (جهان كير) أن يكون حاكماً، فقد كان يجوز له أن يقتلني ويُبقي على أبي الفضل".
وبين الحكايات الخرافية والتاريخ تقع مجموعة كبيرة في منتصف الطريق من حكايات شعرية جمعها ناظمون دءوبون، وأرادوا بها أن تكون متاعاً للروح الهندية المحبة للخيال؛ ففي القرن الأول الميلادي، نظم ناظم يدعى "جناذيا" مائة ألف زوج من الشعر أطلق عليه "برهاتكاذا" أي "مسرح الخيال العظيم" ثم أنشأ "سوماديفا" بعد ذلك بألف عام "كاذا سارتزا جارا" أي "المحيط الجامع لأنهار القصص"، وهي قصيدة تتدفق حتى يبلغ طولها 21.500 زوج من الشعر؛ وفي هذا القرن الحادي عشر نفسه ظهر قصاص بارع مجهول الإسم، وأبتكر هيكلا يبنى على أعواده قصيدته "فتالا بانكا فنكاتيكا" ومعناها "القصص الخمس والعشرون عن الخفاش الجارح"، وذلك بأن صور الملك "فكرا ماديتيا" يتلقى كل عام ثمرة من أحد الزاهدين في جوفها حجر نفيس، ويسأل الملك كيف يمكنه أن يعبّر عن عرفانه بالجميل فيُطلب إليه أن يحضر "لليوجيّ" "الزاهد" جثة رجل يتدلى من المشنقة، مع إنذاره بألا يتكلم إذا ما توجهت إليه الجثة بالخطاب؛ لكن الجثة كان يسكنها خفاشٌ جارح أخذ يقص على الملك قصة ذهبت بلبِّ الملك فلم يشعر بنفسه وهو يتعثر في طريقه. وفي نهاية القصة توجه الخفاش بسؤال، فأجابه الملك ناسيا ما أُنذر به من التزام الصمت؛ وحاول الملك خمساً وعشرين مرة أن يحضر الجثة للزاهد مع التزامه
صفحة رقم : 977

قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الهند وجيرانها -> أدب الهند -> النثر والشعر

الصمت إزاء ما يصدر له منها من حديث، ومن هذه المرات أربع وعشرون مرة كان الملك فيها مأخوذاً بالقصة التي يرويها له الخفاش الجارح حتى ليسهو ويجيب عن السؤال الذي يوجَّه إليه في الختام؛ فيالها من مشنقة بارعة أنزل منها الماتب أكثر من عشرين قصة.
لكنا في الوقت نفسه لا نقول لأن الهند قد عَدِمَتْ الشعراء الذين يقرضون الشعر بمعنى الكلمة التي نفهمها نحن؛ فأبو الفضل يصف لنا "آلاف الشعراء" في بلاط "أكبر"؛ وكان منهم مئات في صغرى العواصم، ولا شك أن كل بيت كان يحتوي منهم على عشرات . ومن أقدم الشعراء وأعظمهم "بهارتريهاري" وهو راهب ونحويٌّ وعاشق، غذَّى نفسه بألوان الغزل قبل أن يرتمي في أحضان الدين، ولقد خلَّف لنا مُدوَّناً بها من كتابه المسمى "قرن من الحب"- وهو سلسلة من مائة قصيدة تتابع على نحو ما تتابع القصائد عند "هيني"، ومما كتبه لإحدى معشوقاته: "ظنَنَّا معاً قبل اليوم أنكِ كنتِ إياي، وكنتُ أنا إياكِ؛ فكيف حدث الآن أن أصبحت أنتِ، هو أنتِ وأنا هو أنا"؛ ولم يكن يأبه لرجال النقد قائلاً لهم: "إنه من العسير أن تُقْنع خبيراً، لكن "الخالق نفسه" لا يستطيع أن يرضي رجلاً ليس له من المعرفة إلا نزر يسير"؛ وفي كتاب "جيتا- جوفندا" لصاحبه "جاياديفا"،- وعنوان الكتاب معناه "أنشودة قطيع البقر المقدس"- يتحول غَزَل الهندي إلى دين، ويصبغ ذلك الغزل بصبغته الحب الجسدي
صفحة رقم : 978
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الهند وجيرانها -> أدب الهند -> النثر والشعر

لـ "راذا" و "كرِشْنا" وهي قصيدة مليئة بالعاطفة الحية الجسدية، لكن الهند تؤوِّلهل تأويلا مدفوعة فيه بالشعور الديني: إذ تفسرها بأنها قصيدة صوفية رمزية تعبر عن عشق الروح لله- وهو تأويل يفهمه أولئك القديسون الذين لا يهتزون للعواطف البشرية، والذين أنشأوا من عندهم مثل هذه العنوانات التقية لـ "نشيد الأنشاد".
وفي القرن الحادي عشر تسللت لهجات الحديث حتى احتلَّتْ مكانها بدل اللغة الميتة، لتكون أداة للتعبير الأدبي، كما فعلت في اوروبا بعد ذلك بقرن؛ وأول شاعر عظيم استخدم اللغة الحية التي يتحدث بها الناس في نظمه هو "شاند بارداي" الذي نظم بالغة الهندية )الجارية في الحديث( قصيدة تاريخية طويلة تتألف من ستين جزءاً" ولم يمنعه من متابعة عمله هذا إلا نداء الموت، ونظم "سور داس" شاعر "أجرا" الضرير، 60.000 بيت من الشعر في حياة "كرِشنا" ومغامراته، وقد قيل إن هذا الإله نفسه قد عاونه على نظمها. بل أصبح له كاتباً يكتب ما يمليه عليه الشاعر، لكنه كان اسرع في كتابته من الشاعر في إملائه، وفي ذلك الوقت عينه كا "شاندي داس"- وهو كائن فقير- يهز البنغال هزّاً بما ينشد لها من أغان شبيهة بما أنشده دانتي. يخاطب بها معشوقة ريفية على نحو ما خاطب دانتي فتاته "بياترس" يصورها تصويرا مثاليا بعاطفه خياليه، ويعلو بها حتى يجعلها رمزا للالوهيه. ويجعل حبه تمثيلا لرغبته في الاندماج في الله؛ وهو في الوقت نفسه كان الشاعر الذي شق الطريق لاول مره للغه البنغاليه فكانت بعدئذ اداه التعبير الادبي "لقد لذت بمامن عند قدميك يا حبيبتي، واذا لم أرك، ظل عقلي في قلق... وليس في وسعي نسيان رشاقتك وفتنتك- ومع ذلك ليس في نفسي شهوة إليك"؛ ولقد حكم عليه زملاؤه البراهمه بالطرد من طائفة الكهنوت على أساس انه كان يجلب العار لعامه الناس. فقبل ان ينكر حبه لـ "رامي"
صفحة رقم : 979

قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الهند وجيرانها -> أدب الهند -> النثر والشعر

في احتفال علني؛ لكنه وهو يباشر الطقوس الخاصة بذلك الإنكار، رأى "رامي" بين الحشد المجتمع فعاد إلى نقض إنكاره ذاك وسار نحوهما وركع أمامها مشبك اليدين إعجاباً.
وأنبغ شعراء الأدب المكتوب باللهجة الهندية )المتداولة في الحديث( هو "تولسي" الذي يوشك ان يكون معاصراً لشكسبير وقد ألقاه أبواه في العراء لأنه ولد لهم تحت نجمة منحوسة؛ فتبناه متصوف في الغابة وعلمه أغاني "راما" الأسطورية، وتزوج، ومات ابنه، فأنسحب إلى الغابات حيث عاش عيش التوبة والتأمل، وهناك وكذلك في بنارس كتب ملحمته الدينية "راما شارتا - ماناسا" ومعناه )بحيرة من أعمال "راما" أخذ فيها يقص قصة "راما" مرة أخرى، وقدمه للهند باعتباره الإله الاسمى الذي لا إله إلا هو، يقول "تولسي داس": "ثمت إله واحد وهو راما خالق السماء والأرض ومخلص الإنسانية... - ومن أجل عباده المخلصين جسد الله نفسه في إنسان فبعد إن كان "راما" إلهاً صار ملكاً من البشر، ثم من أجل تطهيرنا عاش بيننا عيش رجل من عامة الناس".
ولم يستطع إلا قليل من الأوربيين قراءة ملحمته في أصلها الهندي )المقصود هو الهندية التي كانت جاريه في الحديث( لأنه بات اليوم قديما مهجوراً، ولكن أحد هؤلاء القليلين الذين استطاعوا قراءة الأصل، من رأيه إن تلك الملحمة تجعل "تولسي داس" )أهم شخصيه في الأدب الهندي كله؛ ( وهذه القصيدة لأهل الهندستان بمثابة إنجيل شعبي فيه ما يرجع اليه الناس من لاهوت وأخلاق؛ ويقول غاندي: "إنني أعد "راما يانا" التي نظمها "تولسي داس" اعظم كتاب في الأدب الديني كله"؛
وكانت بلاد الدكن في ذلك الوقت نفسه تنتج كذلك شعرا فنظم "توكارام"
صفحة رقم : 980
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الهند وجيرانها -> أدب الهند -> النثر والشعر

باللغة الماهراثيه 600 نشيد ديني تراها متداوله على الالسن في الهند اليوم تداول مزامير "داود" في اليهوديه أو المسيحية؛ ولما ماتت زوجته الأولى تزوج ثانيه من امرأة سليطة فاصبح فيلسوفا، وكتب يقول:
"ليس من العسير أن تظفر بالخلاص، لأنك تجد الخلاص قريبا منك في الحزمة التي تحملها على ظهرك"؛ وفي القرن الثاني الميلادي أصبحت "مادورا" عاصمة الأدب "التأملية" وأقيمت بها "سانجام" أي جمعية قوامها الشعراء والنقاد تحت رعاية ملوك "بانديا" فاستطاعت - مثل المجمع العلمي الفرنسي - أن تضبط تطور اللغة، وأن تخلع الألقاب وتمنح الهدايا.
وأنشأ "تيروفا لافار"- وهو نساج من المنبوذين- أثراً أدبيا أفكاره دينية وفلسفية، أنشأه في بحر من اعسر البحور "التأملية" وأطلق عليه اسم "كورال" فضمنه مُثُلا عليا أخلاقية وسياسية، ويؤكد لنا الرواة أنه لما رأى أعضاء مجلس "سانجام"- وكلهم من البراهمة- مدى توفيق هذا المنبوذ في قرض الشعر أغرقوا أنفسهم عن آخرهم، لكنا لا نصدق هذه الرواية إن قيلت من أي مجمع علمي مهما يكن أمره.
وقد أرجأنا الحديث عن "كابر" - أعظم شاعر غنائي في الهند الوسيطة، أرجأناه لنختم به الحديث، ولو أن مكانه الزمني يأتي قبل ذلك، و "كابر" نساج ساذج من بنارس، أعدته الطبيعة للمهمة التي أراد القيام بها، وهي توحيد الإسلام والهندوسية، وذلك لأنه كما يقال من أب مسلم وأم من عذارى البراهمة؛ فلما أخذ عليه لبه "راماناندا" الواعظ؛ أخلص العبادة لـ "راما" ووسع من نطاق "راما" )كما كان تولسي داس ليفعل( حتى جعله إلها عالمياً، وطفق يقرض شعراً بلغة الحديث الهندية، بلغ غاية في الجمال، ليشرح به عقيدة دينية لا يكون فيها معابد، ولا مساجد، ولا أوثان،
صفحة رقم : 981
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الهند وجيرانها -> أدب الهند -> النثر والشعر

ولا طبقات، ولا ختان، ثم لا يكون فيها من الآلهة إلا إله واحد ، يقول عن نفسه إن كابر:

"ابن "رام" و "الله" ويقبل ما يقوله الشيوخ جميعاً... يا إلهي، سواء كنت "رام" أو "الله" )المقصود إله المسلمين( فأنا أحيا بقوة اسمك... إن أوثان الآلهة كلها لا خير فيها، أنها لا تنطق، لست في ذلك على شك، لأني ناديتها بصوت عال... ماذا يجدي عليك أن تمضمض فاك، أو أن تسبح بمسبحتك، أو أن تستحم في مجاري المياه المقدسة، وأن تركع في المعابد، إذا كنت تملأ قلبك بنية الخداع وأنت تتمتم بصلاتك، أو تسير في طريقك إلى أماكن الحج".
جاء هذا القول منه صدمة قوية للبراهمة، فلكي يدحضوه )هكذا تقول الرواية( أرسلوا إليه زانية تغويه، لكنها حولها إلى عقيدته، ولم يكن ذلك عسيرا عليه، لأن عقيدته لم تكن مجموعة من قواعد جامدة، بل كانت شعوراً دينياً عميقاً فحسب:
هنالك يا أخي عالم لا تحده الحدود
وهنالك "كائن" لا أسم له ولا يوصف بوصف،
ولا يعلم عنه شيئا إلا من استطاع أن يصل إلى سمائه؛
وإنه لعلم يختلف عن كل ما يسمع وما يقال؛
هنالك لا ترى صورة، ولا جسداً، ولا طولاً، ولا عرضاً
فكيف لي أن أنبئك من هو؟
إن كابر يقول:
)يستحيل أن نعبر عنه بألفاظ الشفاه،
ويستحيل أن يكتب وصفه على الورق
صفحة رقم : 982
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الهند وجيرانها -> أدب الهند -> النثر والشعر

إن الأمر هنا كالأخرس الذي يذوق طعماً حلواً- كيف يصف لك حلاوته.
واعتنق "كابر" نظرية التناسخ الذي ملأت الجو من حوله، ولذلك أخذ يدعو إلى الله- كما يفعل الهندوسي- ليخلصه من أغلال العودة إلى الولادة والعودة إلى الموت، وكانت مبادئه الخلقية أبسط ما يمكن أن تصادف في هذه الدنيا من مبادئ:
عش عيشة العدل وابحث عن السعادة عند مرفقك
إني ليضحكني أن أسمع أن السمك في الماء ظمآن
إنكم لا ترون "الحق" في دياركم فتضربون من غابة إلى غابة هائمين على وجوهكم!
هاكم الحقيقة! اذهبوا أين شئتم، إلى بنارس أو إلى مأثورة
فإذا لم تجدوا أرواحكم، فالعالم زائف في أعينكم...

إلى أي الشطئان أنت سابح يا قلبي؟ ليس قبلك مسافر، كلا بل ليس أمامك طريق...
ليس هنالك جسم ولا عقل، فاين المكان الذي سيطفئ غله روحك؟
انك لن تجد شيئا في الخلاء
تذرع بالقوة وادخل إلى باطن جسدك أنت،
فقدمك هناك تكون على موطئ ثابت
فكر في الأمر مليا يا قلبي! لا تغادر هذا الجسد إلى مكان آخر
إن "كابر" يقول:
اطرد كل صنوف الخيال من نفسك،
وثبت قدميك فيما هو أنت.
ويقول الرواة انه بعد موته اعترك الهندوس والمسلمون على جسده، وتنازعوا الرأي، أيدفن ذلك الجسد أم يحرق؛ وبينما هم في تنازعهم ذاك، رفع أحد الحاضرين الغطاء عن الجثة، فإذا بهم لا يرون تحته إلا كومه من
صفحة رقم : 983
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الهند وجيرانها -> أدب الهند -> النثر والشعر

الزهر، فاحرق الهندوس بعض ذلك الزهر في بنارس، ودفن المسلمون بقيته، وأخذت أناشيده تتناقلها الأفواه بين عامه الناس بعد موته، ولقد أوحت تلك الأناشيد إلى "ناناك" - وهو من طبقة السيخ - فأنشأ مذهبه القوي، ورفع آخرون "كابر" إلى مصاف الآلهة، وانك لتجد اليوم طائفتين صغيرتين متنافستين تتبعان مذهب هذا الشاعر وتعبد اسمه؛ هذا الشاعر الذي حاول ان يوحد المسلمين والهندوس، والطائفتان إحداهما من الهندوس والأخرى من المسلمين.

صفحة رقم : 984
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الهند وجيرانها -> الفن الهندي -> الفنون الصغرى

الباب الحادي والعشرون
الفن الهندي
الفصل الأول
الفنون الصغرى
الفن الهندي في عصره الزاهر - مميزاته الفذة -
اتصاله بالصناعة - صناعه الخزف - المعادن -
الخشب - العاج - الأحجار الكريمة - النسيج

إنا نقف إزاء الفن الهندي، كما نقف إزاء كل جانب من جوانب المدنية الهندية، وقفة الدهشة المتواضعة لما نرى من رسوخ في القِدَم واستمرار بين المراحل المتعاقبة؛ فليست كل الآثار التي وجدناها في "موهنجو - دارو" مما ينفع في الحياة العملية، فبينها تماثيل من حجر الجير لرجال ذوي لُحىَ (تشبه التماثيل السومرية شبهاً له دلالته) وتماثيل من الطين لنساء وحيوان، وكذلك بينها خرزات وغيرها من أدوات الزينة المصنوعة من عقيق، وحُليّ من ذهب رقيق الصناعة مصقولها(1)؛ وبين تلك الآثار أيضا ختم(2) نقش فيه بالبارز ثور، رسم رسماً قوياً ثابت الحفر؛ على نحو يغري الرائي بالوثوب إلى نتيجة يؤمن بها، وهي أن الفن لا يتقدم، لكنه يُغير صورته وكفى.
ومنذ ذلك الحين إلى يومنا هذا، جعلت الهند خلال الخمسة آلاف عام التي توسطت العهدين بما فيها من تغيرات، جعلت تبرز مثلها الأعلى في الجَمال كما تتصوره تصوراً يطبعها بميسم خاص، في عشرات الفنون المختلفة؛ لكن ما خلّفته لنا من تلك الفنون، لا يقدم لنا صورة كاملة، إذ ترى فيها جانباً
صفحة رقم : 985
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الهند وجيرانها -> الفن الهندي -> الفنون الصغرى

منقوصاً، لا لأن الهند قد تراخت عن الإبداع الفني في أي عهد من عهودها، بل لأن الحروب ونزوات المسلمين في تحطيم الأوثان، قد عملت على تحطيم ما ليس يقع تحت الحصر من آيات الفن في العمارة والنحت؛ ثم عمل الفقر على إهمال البقية الباقية من تلك الآيات؛ وسنجد الأمر عسيراً علينا بادئ ذي بدء، إذا ما أردنا أن نقدر هذا الفن، فموسيقاهم غريبة على أسماعنا، وسيبدو تصويرهم لأعيننا غامضاً وفنهم في العمارة مضطرباً، ونحتهم للتماثيل خشناً غليظاً؛ فعلينا في كل خطوه نخطوها أن نُذكّر أنفسنا بأن أذواقنا معرضة للخطأ في أحكامها، إذ هي نتيجة لتقاليدنا وبيئتنا المحلية المحدودة؛ وإنا لنظلم أنفسنا ونظلم الأمم الأخرى، إذا ما حكمنا عليهم أو على فنونهم بمعايير وغايات تتفق وطبيعة حياتنا، لكنها غريبة بالقياس إلى الحياة عندهم.
فالفنان في الهند لم يكن بعد قد تميز من الصانع، إذا كان الفن صناعة والعمل اليدوي مهانة؛ فكما كان الحال في عصورنا الوسطى، كذلك كانت في الهند التي انقضى عهدها في موقعة "بلاسي"، وهي أن كل صانع مهر في صناعته كان فناناً في تلك الصناعة، يخلع على نتاج مهارته وذوقه قالباً خاصاً وشخصية متميزة؛ وحتى اليوم، حيث حلّت المصانع محل الصناعات اليدويه، وانحدر الصنّاع اليدويون إلى "أيدٍ عاملة" ، لا تزال ترى في المتاجر والدكاكين في كل مدينة هندية، صناعاً متربعين في جلستهم على الأرض، يطرقون المعادن أو يصوغون الحُليّ، أو يرسمون الرسوم الزخرفية، أو ينسجون الشيلان الدقيقة أو يوّشون الوشي الرقيق، أو ينحتون في العاج أو الخشب، ومن الراجح ألا تكون بين الأمم كلها أمة أخرى كان لها ما للهند من تنّوع خصيب في ألوان الفنون(3).
ومن العجب أن صناعة الخزف لم تستطع أن ترتفع من مستوى الصناعة إلى مستوى الفنون في الهند؛ فقد فرضت قواعد الطبقات كثيراً من القيود على
صفحة رقم : 986

قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الهند وجيرانها -> الفن الهندي -> الفنون الصغرى

إمكان استخدام الطبق الواحد عدة مرات حتى لقد ضعف الحافز إلى تجميل هذه الآنية الفخارية الهزيلة المؤقتة، التي كانت يد الخزّاف تسرع إلى إنتاجها(4)؛ أما إن كان الإناء لُيصنع من معدن نفيس، عندئذ ينصرف إليه الفن بمجهوده بغير ندم على ذلك المجهود مهما بلغ، فانظر إلى الإناء الفضي الذي يُنسب إلى "تانجور" في معهد فكتوريا في مِدْرَاس، أو انظر إلى صفحة "بِتلْ" الذهبية التي تنسب إلى "كاندي"(5)؛ أما النحاس الأصفر فقد صنعوا منه مجموعة منوعة لا تنتهي أصنافها من المصابيح والأوعية والأواني؛ وكانوا يحصلون على مزيج أسود من الزنك (يسمونه بدري) ويستخدمونه عادة في صناعة الصناديق والأحواض و "الصواني" ؛ كذلك كانوا يطعّمون معدناً بمعدن آخر، تطعيماً بارزاً أو محفوراً، أو كانوا يطلون معدناً ما بطلاء من الفضة والذهب(6).
وكان الخشب ينقش بحفر صور كثيرة جداً من النبات والحيوان، وأما العاج فيصوغونه ليمثل أي شيء بادئين بالآلهة فهابطين إلى زهرات اللعب، كما كانوا يطعّمون به الأبواب وغيرها من مصنوعات الخشب، ويصنعون منه آنية صغيرة لطيفة لحفظ الدهون والعطور؛ وكثرت عندهم أدوات الزينة، يلبسها الأغنياء والفقراء إما للتزين أو للادخار؛ وامتازت "جايبور" في طلي مسطحات الذهب بألوان الميناء؛ وعرف صائغوها بحسن الذوق في صناعة المشابك والخرزات والعقود والمدى والأمشاط، فكانوا يزخرفونها بصور الأزهار أو الحيوان أو موضوعات الدين؛ فهنالك عقد برهمي نقشت في واسطته الصغيرة خمسون صورة من صور الآلهة(7)؛ ونسجوا الأقمشة ببراعة فنية لم يبزهم فيها أحد من اللاحقين؛ فمنذ عهد قيصر إلى يومنا هذا، امتدح العالم كله دقة الصناعة في المنسوجات الهندية فقد كانوا أحياناً يصبغون
صفحة رقم : 987
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الهند وجيرانها -> الفن الهندي -> الفنون الصغرى

كل خيط من خيوط اللُّحمة أو السُّدى قبل وضعها في المنسج، فكان يقتضيهم ذلك مقاييس دقيقة متعبة قبل البدء في العمل؛ وكان الزخرف المرسوم يتبدَّى شيئاً فشيئاً كلما مضى النسَّاج في نسجه، بحيث يكون هذا الزخرف واحداً في جانبي القماشة المنسوجة(9)؛ إن كل ثوب تم نسجه في الهند- من "الخدَّار" المنسوج من الغزل البلدي إلى الوشي المعقد الذي يتلألأ بالذهب، ومن السراويل الآخذة بالعين إلى الشيلان الكشميرية التي تخاط أجزاؤها على نحو يخفي مواضع الحياكة- أقول إن كل ثوب نسجته الهند له جمال لا يصدر إلا عن فن بالغ في القِدم، وكاد اليوم أن يكون غريزة في فطرتهم.

صفحة رقم : 988
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الهند وجيرانها -> الفن الهندي -> الموسيقى

الفصل الثاني
الموسيقى
حفله موسيقية في الهند - الموسيقى والرقص- الموسيقيون -
السلم والصور الموسيقية - الموضوعات - الموسيقى والفلسفة

أتيح لسائح أمريكي أن يحضر حفلة موسيقية في "مدراس" فوجد حشد السامعين يبلغ نحو مائتي هندوسي، يظهر أن قد كانوا جميعاً من البراهمة، يجلس بعضهم على مقاعد خشبية، ويجلس بعضهم الآخر على الأرض المفروشة بالبُسط، وكانوا يسمعون في إصغاء شديد لجوقة صغيرة لو قيست إليها حشود جوقاتنا لخيّل إليك أن جوقاتنا هذه المعربدة إنما أريد بها أن تُسْمع سكان القمر؛ ولم تكن الآلات الموسيقية مألوفة لذلك السائح الأمريكي، بحيث أشبهت في عينه التي تنظر إلى الأشياء من وجهة نظر إقليمية، نباتاً غريباً شاذاً في حديقة مهجورة؛ فقد كان لديهم طبول كثيرة ذات أشكال وأحجام مختلفة؛ ومزامير مزخرفة وأبواق ملتوية كأنها الثعابين، ومجموعة منوعة من ذوات الأوتار؛ وكانت علامات الإتقان في الصناعة بادية في معظم تلك الآلات ، كما كان بعضها مرصعاً بالجواهر؛ وكانت إحدى الطبول- وهي ما تسمى مريدانجا- شبيهة ببرميل صغير، في كل من طرفيها غشاء جلدي رقيق يمكن تغيير درجة صوته المبعوث بجذبه أو بإرخائه بواسطة مفاتيح صغيرة من الجلد؛ وبين غشاوات الطبول أضافوا إليه شيئاً من مسحوق المنغنيز ومرق الأرز وعصير التمر الهندي لكي يحدث نغمة فذة غريبة في نوعها؛ ولم يستعمل الطبال إلا يديه- فأحياناً يخبط براحته، وأحياناً بأصابعه، وأحياناً ينقر بأطراف أنامله؛ وكان عازف آخر يحمل "تمبورة" أو قيثارة لها أوتار أربعة طويلة جعلت تبعث نغماتها موصولة بغير انقطاع، فكانت بمثابة البطانة
صفحة رقم : 989
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الهند وجيرانها -> الفن الهندي -> الموسيقى

العميقة الهادئة لموضوع القطعة الموسيقية؛ وبين الآلات آلة- اسمها فينا- كانت مرهفة الحساسية لدرجه تميزها من سواها في ذلك، كما كانت محددة الأصوات تحديداً واضحاً؛ وكانت أوتارها مشدودة فوق عارضة رقيقة من المعدن، في إحدى طرفيها طبلة خشبية يغطيها غشاء من الذبذبة بواسطة مضراب في يمين العازف، بينما جعلت يسراه تغير في النغمات بأصابع تتحرك في براعة من وَتر إلى وَتر؛ ولبث زائرنا ينصت في خشوع، ولم يفهم من كل ذلك شيئاً.
للموسيقى في الهند تاريخ يمتد ثلاثة آلات عام على أقل تقدير؛ فالترانيم الفيدية- مثلها مثل الشعر الهندي كله- إنما نظمت لتنشد؛ ولم يكن في الطقوس القديمة فرق بين الشعر والغناء، والموسيقى والرقص، فكل هذه عندها فن واحد؛ وإن الرقص الهندي ليبدو لعين الغربيّ اللامعة بالشهوة، شهوانياً فاجراً، كما يبدو الرقص الغربي للهنود شهوانياً فاجراً؛ كان هذا الرقص الهندي خلال الشطر الأعظم من التاريخ الهندي، لوناً من ألوان العبادة، وعرضاً لجمال الحركة والتوقيع تكريماً وإجلالاً للآلهة؛ ولم يحدث لراقصات المعبد أن يغادرن معابدهن زرافات ليمتعن أصحاب الدنيا وطلاب الشهوة الجسدية إلا في العصور الحديثة؛ لم تكن هذه الراقصات مجرد عرض للجسد، بل كانت في وجه من وجوهها محاكاة للكون في دوراته التوقيعية ومجرى التغير في ظواهره، وقد كان "شيفا" نفسه إله الرقص، ورقصة "شيفا" كانت ترمز لحركه العالم نفسها .
صفحة رقم : 990
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الهند وجيرانها -> الفن الهندي -> الموسيقى

وينتمي الموسيقيون والمنشدون والراقصون- كسائر أصحاب الفن في الهند- إلى أحط الطبقات؛ فقد يحلو للبرهمي أن يغني في خلوته، وأن يسّري عن نفسه بنغمات يعزفها على "الفينا" أو غيرها من ذوات الأوتار؛ بل قد يعلّم غيره التمثيل أو الغناء أو الرقص، لكنه يستحيل أن يفكر في التمثيل مأجوراً، أو في النفخ في آلة موسيقية، وكانت الحفلات الموسيقية العلنية - إلى عهد قريب- نادرة في الهند فكانت الموسيقى العلمانية إما غناء تلقائياً أو نشيداً جمعياً يقوم به الناس، وإما عزفاً أمام جماعات صغيرة في بيوت العِلْية، كما هي الحال فيما يعرف في أوروبا بموسيقى الحجرات؛ وكان لـ "أكبر"- الذي كان هو نفسه ماهراً في العزف الموسيقي- عدد كبير من الموسيقيين في بلاطه، وأصاب أحد مُغنيه- واسمه تانسِنْ- شهرة وثروة، ومات بالشراب وسنّه أربعة وثلاثون عاماً(11)؛ ولم يكن ثمة هواة، بل كان كل المشتغلين بالعزف محترفين لفنهم، ولم تكن الموسيقى تُعلّم على أنها لون من ألوان التهذيب الاجتماعي، كلا ولا أرغم الأطفال على عزف بيتهوفن، فمهمة الشعب لم تكن أن يعزف الناس عزفاً رديئاً، بل أن يعرفوا كيف ينصتون إنصاتاً جيداً(12).
ذلك لأن الاستماع للموسيقى في الهند فن في ذاته ويتطلب تدريباً طويلاً للأذن والروح؛ وقد لا تكون الألفاظ نفسها مفهومة المعنى للغربي أكثر من ألفاظ المسرحيات الغنائية التي يشعر أن من واجبه الذي تمليه عليه طبقته الاجتماعية، أن يستمتع بها؛ وهي تدور - كشأنها في سائر أنحاء العالم - حول موضوعيّ الدين والحب؛ لكن الألفاظ قليلة الأهمية في الموسيقى الهندية، وكثيراً ما يستبدل بها المنشد - كما يفعل الأديب عندنا في أرقى ألوان الأدب- مقاطع لا تعني شيئاً؛ والسّلم الموسيقي عندهم ألطف مما هو عندنا وأدق، إذ يضيف إلى سُلّمنا ذي الاثنتي عشرة نغمة، عشر نغمات أخرى غاية في الدقة، وبذلك يصبح سُلّمهم مؤلفاً من اثنتين وعشرين "من أرباع النغمات" ؛ وعلى

صفحة رقم : 991
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الهند وجيرانها -> الفن الهندي -> الموسيقى

الرغم من أن الموسيقى الهندية يمكن كتابتها بترقيم مأخوذ من الأحرف السنسكريتية إلا أن الأغلب ألا تُكتب ولا تُقرأ، بل تنتقل من جيل إلى جيل أو من المنشئ الموسيقي إلى من يأخذ عنه "بالأذن" وحدها؛ وليست موسيقاهم مقسمة إلى أجزاء توقيعية تفصل الضربات بينها، بل ترى النغم فيها ينساب انسياباً متصلاً يؤذى أذن السامع الذي تعود سماع ضربات دورية في الموسيقى وليس لموسيقاهم إيقاع ولا تناغم بل كل ما تُعنى به هو النغم الواحد وربما جعلوا وراءه بطانة من نغمات صغيرة ولذا كانت في هذه الناحية أبسط وأقل في رقيها من الموسيقى الأوربية، ولو أنها أكثر منها تركيباً في السلم والدورات التوقيعية؛ وأنغامها محدودة في آن واحد، فهي من جهة مضطرة اضطراراً أن تستمد من هذا اللون أو ذاك في معين تقليدي قوامه ستة وثلاثون لوناً، لكن العازفين- في الوقت نفسه- يستطيعون أن ينسجوا حول هذا الهيكل التقليدي نسيجاً لا نهاية لخيوطه ولا صلات تصل أجزاءه المنوعة تنوعاً شديداً، وفي كل موضوع موسيقي- أو "راجا" موسيقية كما يسمونه- خمس نغمات أو ست أو سبع، يرجع الموسيقِي إلى إحداها- يختارها ولا يغيرها- من حين إلى حين؛ ولكل "راجا" اسم مشتق من الحالة النفسية التي تريد الإيحاء بها- "الفجر"، "الربيع" ، "جمال المساء" ، "السُّكر" الخ- وكل "راجا" مرتبطة بزمن معين من اليوم أو من العام وتذهب الأساطير الهندية إلى أن لهذه الراجات قوة روحانية حتى ليقال إن راقصة بنغالية أزالت قحطاً بغنائها إحدى الراجات وهي المسماة "منع مالار"- أي نغمة استنزال المطر(13).
ولقد خلع الأسلاف على "الراجات" صبغة مقدسة فمن يعزفها وجب عليه أن يراعي حُرُماتِها، لأنها صور من الغناء أداها "شيفا" نفسه، ويحكى أن
صفحة رقم : 992

قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الهند وجيرانها -> الفن الهندي -> الموسيقى

عازفاً اسمه "نارادا" أنشد تلك الراجات في إهمال لشأنها، فزجّ به "فشنو" في نار الجحيم حيث شاهد رجالاً ونساء يبكون على ما تكسر من جوارحهم وقال له الإله إن هؤلاء الرجال والنساء هم الراجات والراجينات التي شوهها ومزقها عزفه المستهتر فلما شاهد "نارادا" ذلك- هكذا تروى الأسطورة- حاول أن يكون في فنه أكثر إتقاناً إذ أخذته بعدئذ خشية الخاشع(14).
والعازف الهندي لا يلتزم "الراجا" التي اختارها لبرنامجه الموسيقي التزاماً يضيّق من حريته تضييقاً خطيراً، أكثر مما يلتزم المنشئ الموسيقي في الغرب، إذا ما أنشأ "سوناتا" أو "سيمفونية"، موضوعَه الموسيقيَّ التزاماً يعرقله؛ ففي كلتا الحالتين، ما يفقده العازف من حرية، يعوضه بما يتاح له من تماسك البناء واتزان الصورة؛ فالموسيقي الهندي شبيه بالفيلسوف الهندي، كلاهما يبدأ بالجزئي المحدود "ويرسل روحه إلى اللامحدود"؛ إنه يظل يمعن في وَشْي موضوعه وشياً دقيق الأجزاء، حتى يتمكن في نهاية المر بفعل تيار متموج من دورات التوقيع وتكرار النغمة، بل بفعل اطراد الأنغام اطراداً رتيباً مملاً، أن يخلق نوعاً من "اليوجا" الموسيقية، أعني ضرباً من الذهول الذي يشل الإرادة ويطمس الفردية اللتين ننسبهما للمادة والمكان والزمان، وبهذا ترتفع الروح إلى ما يوشك أن يكون اتحاداً صوفياً بشيء "عميق الاتصال في نفوسنا بجذوره" أو قُلْ "بكائن" عميق عظيم ساكن، أو بحقيقة سابقة لهذا العالم ومنبثة في كل أجزائه، تبتسم ساخرة من كافة الإرادات المكافحة ومن التغير والموت بشتى ما لهما من صور.

والأرجح أننا لن نستسيغ الموسيقى الهندية، ولن نفهمها، إلا إذا استبدلنا بالكفاح كينونة ساكنة، وبالترقي ثباتاً، وبالشهوة استسلاماً، وبالحركة استقراراً؛ وربما اصطنعنا لأنفسنا هذه الحالة إذا عادت من جديد خاضعة، وعادت آسيا مرة أخرى للسيادة، لكن آسيا عندئذ ستمل السكينة والثبات والاستسلام والقرار.

صفحة رقم : 993
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الهند وجيرانها -> الفن الهندي -> التصوير

الفصل الثالث
التصوير
ما قبل التاريخ - نقوش أجانتا - مصغرات راجبوت
مدرسة المغول - المصورون - أصحاب النظريات
إننا نسمي الرجل إقليمياً، إذا حكم على العالم على أساس الأنظمة السائدة في الإقليم الذي يعيش فيه، واعتبر كل ما لم يألفه من أوضاع ضرباً من الجاهلية، فيقال عن الإمبراطور "جهان كير" وهو رجل ذوّاقة علاّمة في الفنون - إنه حين أطْلِع على صورة أوربية امتعض لها من فوره، و "لم يستسغها لأنها مرسومة بالزيت"(15)، وإنه ليسرنا أن نعلم أنه حتى الإمبراطور يجوز عليه أن يكون إقليمي النظرة، وأنه كان من العسير على "جهان كير" أن يستمتع بالتصوير الزيتي الذي ترسمه أوربا كما أنه من العسير علينا أن نتذوّق دقائق التحف في الهند.

ويتبين من الرسوم الحمراء التي نراها لبعض الحيوان ولمطاردة وحيد القرن، على جدران الكهوف في "سنجانبور" و "مرزابور" أن قد كان للتصوير الهندي تاريخ طال أمده على عدة آلاف من السنين، وتكثر لوحات المصورين (التي يضعون عليها ألوانهم) بين آثار العهد الحجري الجديد في الهند، مستعدة للاستعمال بما لا يزال عليها من بقايا الألوان (16)؛ وإننا نلحظ فجوات واسعة في تسلسل تاريخ الفن في الهند، لأن معظم الآثار الفنية الأولى قد أتت عليها عوامل المناخ، ثم فسد كثير مما تبقى بعد ذلك على أيدي المسلمين "محطمي الأوثان" من محمود إلى أورنجزيب(17)، ويشير الـ "فنايابتاكا" (حوالي 300 ق.م) إلى قصر الملك "بازنادا" فيقول عنه إنه كان يحتوي على أبهاء للصور الفنية؛ وكذلك يصف "فا - هين" و "يوان شوانج" أبنية
صفحة رقم : 994
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الهند وجيرانها -> الفن الهندي -> التصوير

كثيرة فيقولان عنها بأنها اشتهرت بروعة ما عرض على جدرانها(18)، لكنه لم يبق لنا أثر واحد من هذه الأبنية وتبين صورة من أقدم الصور في التبت فناناً وهو يصور بوذا(19) فلم يشك المصورون فيما بعد ذلك التاريخ في أن فن التصوير كان ثابت الأساس في عهد بوذا.

وأقدم صورة هندية يمكن تحقيق تاريخها، مجموعة من الزخارف الجدارية البوذية (حوالي 100 ق.م) وجدت على جدران كهف في "سرجيا" في المقاطعات الوسطى، ومنذ ذلك الحين، جعل فن التصوير الجداري- وأعني به تصويراً يرسم على معجون طري قبل أن يجف - يتقدم خطوة فخطوة، حتى بلغ على جدار كهف "أجانتا" درجة من الكمال لم يجاوزها أحد بعد، حتى "جيوتو" و "ليوناردو"؛ وكانت تلك المعابد تنحت في واجهة صخرية من سفح الجبل؛ وحدث ذلك في فترات مختلفة تقع بين القرن الأول الميلادي والقرن السابع؛ ولبثت قروناً لا يعرفها التاريخ ولا تعيها ذاكرة الإنسان بعد انهيار البوذية، فاكتنفتها أشجار الغابة حتى كادت تخفيها، وسكنتها الخفافيش والأفاعي وغيرهما من صنوف الحيوان، وأتلفت صنوف الطير والحشرات التي تعد بالمئات، تلك التصاوير بفضلاتها؛ ثم حدث سنة 1819م أن عثر الأوربيون على الآثار، وأدهشهم أن يروا على الجدران تلك الصور التي تعد الآن بين آيات الفن في العالم كله(20).
وأطلق على المعابد اسم الكهوف؛ لأنها في معظم الحالات منحوتة في الجبال فمثلاً كهف نمرة 16 عبارة عن حفرة طول كل جهة من جهاتها خمس وستون قدماً، يدعمها عشرون عموداً، وترى على طول القاعة الوسطى ستة عشرة مقصورة من مقاصير الدير، ولها شرفة ذات فتحة للباب تزخرف واجهتها، وفي مؤخرتها جلود مقدسة، وكل الحيطان مزدانة بالتصاوير الجدارية؛ ومن
صفحة رقم : 995
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الهند وجيرانها -> الفن الهندي -> التصوير

المعابد التسعة والعشرين، ستة عشر كانت في سنة 1879م تحتوي على تصاوير، فلما أن كانت سنة 1910م أتلف التعرض للجو تصاوير عشرة معابد منها، ثم أصيبت الستة الباقية بخدوش بفعل محاولات غشوم في سبيل تجديدها(21)، وقد
صفحة رقم : 996
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الهند وجيرانها -> الفن الهندي -> التصوير

كانت هذه التصاوير يوماً متلألئة بالأحمر والأخضر والأزرق والأرجواني؛ ولم يبق اليوم من هذه الألوان شيء ما عدا الأجزاء ذات الألوان الخافتة أو القاتمة؛ وإن بعض الصور التي أفسدها الزمن والجهل ليبدو غليظاً خشناً في أعيننا، نحن الذين لا يستطيعون قراءة الأساطير البوذية بقلوب بوذية، وبعضها الآخر فيه قوة ورشاقة في آن معاً،تنبئان عن مهارة الصناع الذين ضاعت أسماؤهم قبل أن تفنى آثارهم بزمن طويل.
وعلى الرغم من كل هذه النائبات، لا يزال كهف رقم (1) غنياً بآياته الفنية فهاهنا ترى على أحد الجدران (ما يرجح أن يكون) صورة "بوذيساتاوا"، أي قديس بوذي يستحق النرفانا، لكنه آثر على النرفانا التي هو جدير بها أن يعاد إلى الحياة في ولادات جديدة لكي يصلح الناس؛ ولن تجد صورة تصور حزن التفكير البصير أعمق مما تصوره هذه الصورة(22)، وإن الإنسان لتأخذه الحيرة أي الصورتين ألطف وأعمق - هذه الصورة أو صورة ليوناردو التي رسمها يدرس بها موضوعاً شبيهاً بموضوع هذه الصورة، وهو رأس المسيح وعلى جدار آخر من نفس المعبد صوره لـ "شيفا" وزوجته "بارفاتي" وقد ازَّينت بالحليّ(23)، وعلى مقربة منها صورة لأربعة غزلان، أشاع فيها الحساسية الرقيقة ذلك العطف البوذيُّ على الحيوان؛ وعلى السقف زخرف لا يزال ناصع الألوان بما فيه من زهور وطيور دقيقة الرسم(24) وعلى أحد جدران الكهف رقم(17) تصوير رشيق - قد تلف الآن بعض التلف - للإله فشنو مصحوباً بحاشيته، وهو هابط من السماء إلى الأرض ليتعهد شيئاً ما مما وقع في حياة بوذا(25)؛ وعلى جدار آخر صورة تخطيطية، لكنها زاهية الألوان، لأميرة مع وصيفتها(26)؛ وترى مختلطاً بهذه الآيات الفنية حشداً متداخلاً من التصاوير الجدارية يظهر فيها ضعف الصناعة وفيها وصف لنشأة بوذا وفراره وإغرائه(27).
صفحة رقم : 997
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الهند وجيرانها -> الفن الهندي -> التصوير

لكننا لا نستطيع أن نحكم على هذه الآثار الفنية في صورتها الأصلية بما بقى منها اليوم، ولاشك أن هناك مفاتيح طرائق تقدير قيمتها الفنية، لا يمكن الكشف عنها لمن لا يحمل بين جنبيه روحاً بوذية؛ ومع ذلك فحتى الغربي في مستطاعه أن يعجب بفخامة الموضوع، وعظمة المدى الذي صممت الصورة على أساسه، ووحدة التأليف، ووضح الخطوط وبساطتها وثباتها، وبتفصيلات كثيرة بينها هذا الكمال العجيب الذي بلغوه في رسم الأيدي التي هي آفة المصورين جميعاً؛ وإن الخيال ليصور لنا هؤلاء الفنانين الكهنة الذين كانوا يؤدون الصلاة في هذه المقصورات وربما زينوا هذه الجدران والسقوف بفن التقيّ والورع، بينما أوربا دفينة في ظلام أوائل عصورها الوسطى؛ فهاهنا في " أجانتا " أدمج الدين مختلف الفنون: فن العمارة والنحت والتصوير، في وحدة منسقة، فأنتج أثراً من أعظم آثار الفن الهندي.
فلما أغلقت معابدهم أو خربت على أيدي الهون والمسلمين، أدار الهنود مهارتهم التصويرية تجاه الفنون الصغرى؛ فنشأت بين "الراجبوت" مدرسة من المصورين سجلوا في تماثيل صغيرة قصص "الماهابهاراتا" و "رامايانا" وأعمال البطولة التي قام بها رؤساء "الراجبوتانا"؛ وكثيراً ما كانت تكتفي تلك الآثار الفنية بمجرد تخطيط أولي للموضوع، لكنها كانت دائماً تنبض بالحياة وتبلغ من جمال الزخرف حد الكمال؛ وإنك لترى في متحف الفنون الجميلة في "بوستن"، مثلاً جميلاً لهذا الأسلوب الفني، إذ تراه يرمز إلى إحدى "راجات" الموسيقى بنساء رشيقات وبرج شامخ وسماء دانية(29)، وكذلك ترى مثلاً آخر في معهد الفنون في "دِترْوا" يمثل برشاقة فريدة في بابها منظراً مأخوذا من "جيتا جوفندا"(30)، وصور النساء في هذه التصاوير الهندية وغيرها لم تكن ترسم من نماذج بشرية إلا نادراً، فكان على الفنان أن يتصورها بخياله ويستمدها من ذاكرته، والأغلب أن يصور المصور بألوان
صفحة رقم : 998

قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الهند وجيرانها -> الفن الهندي -> التصوير

زاهية على سطح من ورق ويستخدم في الرسم فراجين مصنوعة من أرق
صفحة رقم : 999
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الهند وجيرانها -> الفن الهندي -> التصوير

الشعر، يأخذونه من السنجاب أو الحجل أو الماعز أو النمس(31)، واستطاع رسّامهم أن يبلغ من رقة خطوطه وزخارفه حداً يمتع العين، حتى إن كان المشاهد أجنبياً لم يمهر في تقدير الفنون.
وقد أبدعت أجزاء أخرى من الهند آثار فنية شبيهة بهذه الآثار، وبخاصة في دولة "كانجرا"(32)، وتطوّر فرع من فروع هذه الدوحة الفنية عينها في ظل المغول بمدينة دلهي، ولما كان هذا الفن المتفرع ناشئاً عن فن الخط الفارسي وفن زخرفة المخطوطات، فقد آل أمره إلى أن يكون تصويراً أرستقراطياً يقابل من حيث رقته وانحصاره في دائرة ضيقة، موسيقى الحجرات التي ازدهرت في قصور الملوك؛ ولقد جاهدت هذه المدرسة المغولية - كما جاهدت مدرسة راجبوت - لتحقق لنفسها رشاقة التخطيط، كان المصورون أحياناً يستخدمون فرجوناً مؤلفاً من شعرة واحدة، وتنافس مصورو هذه المدرسة أيضاً في إجادة تصوير اليدين، لكنهم بالقياس إلى المدرسة الفنية السالفة أكثروا من الألوان وقللوا من جوّ الألغاز والغموض، وقلما مَسُّوا بفنهم الدين أو الأساطير بل حصروا أنفسهم في حدود هذه الدنيا، فكانوا واقعيين بمقدار ما سمح لهم الحذر به من الواقعية؛ وقد اتخذوا موضوعات لرسومهم رجالاً ونساء من الأحياء ذوي المنزلة الرفيعة والمزاج الشامخ بأنفه، فلم يكن أشخاصهم ممن يُعرفون في الناس بضِعة نفوسهم، وأخذ هؤلاء الأشراف يجلسون واحداً في إثر واحد أمام المصور، حتى امتلأت أبهاء الصور عند "جهان كير" - ذلك الملك الأنيق - بصور أعلام الحكام ورجال البلاط جميعاً منذ اعتلاء "أكبر" عرش البلاد، وكان "أكبر" أول حاكم من أفراد أسرته المالكة شجع التصوير، ولو أخذنا بما يقوله "أبو الفضل" فقد كان

في دلهي في أواخر حكمه، مائة أستاذ من محترفي هذا الفن، وألف من هواته(33).
صفحة رقم : 1000
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الهند وجيرانها -> الفن الهندي -> التصوير

وكان من أثر رعاية "جهان كير" لفن التصوير أن تطور هذا الفن واتسع نطاقه من تصوير الأشخاص فحسب إلى تمثيل مناظر الصيد وغيرها من البطانات التي تؤخذ من الطبيعة لتكون مجالاً لتصوير أشخاص من الناس على أساسها - على أن هذه الأشخاص مازالت لها السيادة في الصورة؛ فهنالك صورة صغيرة تمثل الإمبراطور نفسه وقد أوشك أن تنال منه مخالب أسد واثب على مؤخرة الفيل الذي كان يركبه، محاولاً أن يمسك بجسده، بينما ترى تابعاً من الأتباع يفر هارباً كما تقتضي النظرة الواقعية لحقيقة ما يحدث في الحياة(34)، وبلغ الفن في حكم " جهان " أعلى ذروته؛ ثم أخذ بعدئذ في التدهور؛ وكما حدث في التصوير الياباني حدث في الهند، وهو أن شيوع القالب الفني في دائرة واسعة من الناس، كان له نتيجتان في وقت واحد، فقد زاد من عدد المهتمين بالفن من جهة، وقلل من دقة الذوق من جهة أخرى(35)، وأخيراً تمت مراحل التدهور حين جاء " أورنجزيب " فأعاد حكم الإسلام في مقاومة التصوير بغير هوادة.

وقد لقي المصورون في دلهي من الازدهار ما لم يعرفوا له مثيلاًً خلال عدة قرون، وذلك بفضل الرعاية الكريمة التي أسداها إليهم ملوك المغول؛ فجددت طائفة المصورين عندئذ شبابها، وهي تلك الطائفة التي احتفظت بنفسها حية منذ العصر البوذي؛ ونفض بعض أعضائها عن نفسه ذلك التخفي الذي كان يدعوهم إلى نكران أسمائهم، والذي يسود الكثرة الغالبة من آثار الفن الهندي، بفعل الزمان الذي يبتلع الأسماء في جوف النسيان من جهة، وإنكار الهنود لذاتيات الأفراد من جهة أخرى، وكان من السبعة عشر فناناً الذين يعدون أعلاماً في حكم "أكبر" ثلاثة عشر هندوسياً(36)، وكان أقرب المصورين إلى الحظوة في بلاد المغولي العظيم هو "دازفانت" الذي لم يؤثر أصله الوضيع - إذ كان ابن حامل المحفَّات التي تنقل الراكبين - في نظرة الإمبراطور إليه أقل تأثير؛ وكان هذا الشاب شاذ الأطوار، فكنت تراه
صفحة رقم : 1001
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الهند وجيرانها -> الفن الهندي -> التصوير

مصراً أينما حل على رسم صورة يرسمها على أية مادة أتيحت له؛ واعترف "أكبر" بعبقريته، وطلب إلى الأستاذ الذي يتلقى عنه هو نفسه فن الرسم، أن يتعهد تعليمه، حتى إذا ما شبّ الغلام، أصبح أعظم رجال الفن في عصره، لكنه وهو في أوج شهرته طعن نفسه طعنة قاضية(37).

إنه حيثما وجدت ناساً يصنعون هذا الشيء أو ذاك، وجدت إلى جانبهم ناساً آخرين يأخذون أنفسهم بشرح الطريقة التي يجب أن يتبعها أولئك في صناعة ما يصنعون؛ فالهنود الذين لم تكن فلسفتهم تعلي من شأن المنطق، قد أحبوا المنطق مع ذلك، وأغرموا بصياغة قواعد دقيقة لكل فن من الفنون، كأدق ما تكون القواعد دقة، وأشد ما تكون انطباقاً على حكم العقل؛ ومن ثم وضعوا في أوائل تاريخنا المسيحي "الساندانجا" أي "الأطراف الستة للتصوير الهندي" وهي شبيهة بما وضعه صينيّ بعد ذلك، وربما كان الصينيّ في ذلك مقلداً، وهو ستة قوانين لإتقان فن التصوير: ( (1معرفة ظواهر الأشياء ((2 صحة الإدراك الحسي والقياس البنّاء ( (3فعل المشاعل في القوالب الفنية ( (4إدخال عنصر الرشاقة، أو التمثيل الفني ( (5مشابهة الطبيعة ( (6استخدام الفرجون والألوان استخداماً فنيا؛ وظهر بعد ذلك تشريع جمالي مفصل، واسمه "شلبا- شاسترا"؛ صيغت فيه قواعد كل فن وتقاليده صياغة تصلح مع مرّ الزمان، وهم يزعمون لنا أن الفنان لا بد له من دراسة الفيدات دراسة متقنة "وأن يغتبط بعبادة الله، ويخلص لزوجته ويجتنب غيرها من النساء ويحصّل معرفة بمختلف العلوم تحصيلاً تحدوه التقوى"(38).
ويسهل علينا بعض الشيء فهم التصوير الشرقي؛ لو وضعنا نصب أعيننا
صفحة رقم : 1002
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الهند وجيرانها -> الفن الهندي -> التصوير

أولاً، أنه لا يحاول تصوير الأشياء بل تصوير العواطف، وأنه لا يحاول مطابقة الأصل بل يكتفي بالإيحاء به، وأنه لا يعتمد على اللون بل على التخطيط، وأن غايته أقرب إلى أن تكون إثارة عاطفة جمالية ودينية منها إلى أن تكون محاكاة للواقع، وأنه مهتم بما في الناس والأشياء من "أنفس" أو "أرواح" أكثر من اهتمامه بصورتها المادية، ومع ذلك فمهما حاولنا، فنوشك ألا نجد في التصوير الهندي ذلك الرقي الفني، أو ذلك البعد في المدى والعمق في المعنى، الذي يميز فن التصوير في الصين أو في اليابان، وترى بعض الهنود يعللون ذلك تعليلاً مغالياً في شطحته مع الخيال، فيزعمون أن التصوير قد تدهور عندهم لأنه أيسر من أن يتقدم به المتقرب إلى الآلهة، إذ ليس في إخراجه من العناء ما يشرف ذلك المتقرب(39)؛ ويجوز ألا تكون الصور بما تتصف به من سرعة التعرض للزوال والفناء مما يشبع في نفس الهندي ذلك التعطش الذي يحسه نحو تجسيد إلهه المختار تجسيداً يبقى على وجه الزمان؛ فلما لاءمت البوذية بين نفسها وبين التصوير الفني للأشياء، ولما كثرت وازدادت الأضرحة البرهمية، أخذ النحت يحل محل التصوير شيئاً فشيئاً ليأخذ الحجر الدائم مكان اللون والتخطيط.

صفحة رقم : 1003
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الهند وجيرانها -> الفن الهندي -> النحت

الفصل الرابع
النحت
النحت البدائي - النحت البوذي - جاندهارا -
جوبتا - تأثره بالمستعمرين - تقدير

ليس في مقدورنا أن نتعقب مراحل النحت التاريخية في الهند بادئين بالتماثيل الصغرى التي وجدت في "موهنجو- دارو" ومنتهين بعصر "أشوكا" لكن يجوز لنا أن نشك في أن هذه الفجوة التي تعترض تطور تلك المراحل، ليست فجوة في تقدم الفن نفسه بمقدار ما هي فجوة في علمنا به؛ وربما أفقرت الغزوات الآرية الهند حيناً من الدهر، فانتكست بفعل الفقر من الحجر إلى الخشب في صناعة تماثيلها؛ أو ربما كان الآريون أكثر انصرافاً إلى الحروب من أن يجدوا الفرصة للعناية بالفنون، فأقدم التماثيل الحجرية التي بقيت لنا في الهند لا يرجع إلى عهد أقدم من "أشوكا" لكن هذه التماثيل تدل على مهارة بلغت من الرقي حداً رفيعاً لا يدع لنا مجالاً للشك في أن الفن كان قبل ذلك آخذاً في نموه عدة قرون(40)؛ وجاءت البوذية فوضعت حوائل معروفة تقوم في وجه التصوير والنحت معاً، وذلك بمقتها للأوثان وللتصاوير الدنيوية: إن بوذا يحرم "تصاوير الخيال في رسم أشخاص الرجال والنساء"(41) وبحكم هذا التحريم الذي يوشك أن يكون صادراً من موسى لقى التصوير والنحت من الحوائل في الهند مثل ما لقياه في عهد اليهود، ومثل ما سيلقيانه بعدئذ في ظل الإسلام، لكن هذا "التزمت"- فيما يظهر- أخذ يتراخى شيئاً فشيئاً كلما تهاونت البوذية في تشددها وازدادت مشاطرة للروح الدرافيدية التي تميل إلى الرمز والأساطير، فلما عاد فن النحت إلى الظهور من جديد (حوالي سنة 250 ق.م) في التماثيل الحجرية البارزة القائمة على "السور" الذي يحيط بأكمات
صفحة رقم : 1004
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الهند وجيرانها -> الفن الهندي -> النحت

المدافن البوذية في "بوذا- جايا" و "بهارهوت" كانت هذه التماثيل أقرب إلى
صفحة رقم : 1005
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الهند وجيرانها -> الفن الهندي -> النحت

أن تكون جزءاً لا يتجزأ من التصميم المعماري للبناء منها إلى أن تكون فناً مستقلاً مقصوداً لذاته؛ ولبث الجزء الأكبر من النحت الهندي حتى ختام مراحله التاريخية تابعاً لفن العمارة، وكان طوال الوقت يؤثر النحت البارز على الحفر ؛ وقد بلغ هذا النحت البارز ذروة رفيعة من الكمال في المعابد الجانتيه في "مأثورة"، وفي الأضرحة البوذية في "أمارافاتي" و "أجانتا"؛ ويقول أحد الثقات الراسخين في العلم أن السور المنحوت في "أمارافاتي": "أرق زهرة في النحت الهندي وأوغلها في أسباب الترف"(42).
صفحة رقم : 1006
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الهند وجيرانها -> الفن الهندي -> النحت

في ذلك الوقت عينه، كان نمط آخر من أنماط النحت في سبيله إلى الرقي في إقليم "جاندهارا" الواقع في شمال غربي الهند؛ وذلك في رعاية الملوك "الكوشيين"، وهم أبناء أسرة يحيط بها الغموض، انبثقت بغتةً من الشمال- ومن الجائز أن يكون في أصولها جذور هلينية- فظهر بظهورها ميل نحو إدخال القوالب الفنية اليونانية، وكانت بوذية "ماهايانا" التي استولت على مجلس "كانِشْكا" هي التي شقت الطريق إلى ذلك الفن اليوناني، بإلغائها تحريم التصوير والنحت، فاستطاع بعض المعلمين اليونان أن يوجهوا النحت الهندي وجهة اصطنع فيها لفترة من الزمن وجهاً "هلينيا" طليقاً، فتحول بوذا إلى ما يشبه أبولو، وأخذ يطمح إلى بلوغ الأولمب؛ وأصبحنا نرى الثياب تنساب أذيالها على آلهة الهندوس وقديسيهم على نحو ما ترى في نحت "فيدياس"
صفحة رقم : 1007
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الهند وجيرانها -> الفن الهندي -> النحت

كما نرى تماثيل تصور "بوذيساتوا" التقيّ وهو يصاحب "سيلبني" الطروب
صفحة رقم : 1008
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الهند وجيرانها -> الفن الهندي -> النحت

المخمور(43)، ومثلوا مولاهم بوذا وتلاميذه في تماثيل جَمَّلوا أجسادها وكادوا يجعلونها مخنثة الأجزاء، إذ أخرجوها على غرار نماذج يونانية بشعة تمثل اليونان وهم في مرحلة واقعية تميل بهم نحو الانهيار؛ ومن ذلك تمثال بوذا في لاهور، بوذا الذي يتضور جوعاً، ففي هذا التمثال ترى كل ضلع وكل عصب من أضلاع جسده وأعصابه، ثم تراهم ركّبوا على هذا الجسد وجه امرأة، ورُتب شعر الرأس على نحو ما يُرَتب الشعر في رؤوس السيدات، ولو أنهم جعلوا في ذلك الوجه لحية الرجال(44)؛ وقد تأثر "يوان شوانج" لهذا الفن الذي يمزج بين اليونانية والبوذية والذي انتقل إلى الصين وكوريا واليابان(45) بفضل "يوان شوانج" هذا وغيره ممن حجوا إلى الهند فيما بعد؛ لكن هذا الفن لم يكن له إلا قليل الأثر في قوالب النحت وطرائقه في الهند ذاتها؛ فلما انقضى عهد مدرسة جاندهارا بعد بضعة قرون قضتها في نشاط مزدهر، عاد الفن الهندي من جديد إلى الحياة في ظل حكام من الهندوس، واستأنف التقاليد التي خلفها الفنانون الوطنيون في "بهارهوت" و "أمارافاتي" و "مأثورة" ولم ينظر إلا بطرف عينه إلى آثار الفترة اليونانية القصيرة التي ظهرت في جاندهارا.
وازدهر النحت- كما ازدهر كل شيء تقريباً في الهند- تحت حكم أسرة جوبتا؛ وكانت البوذية عندئذ قد نسيت عداوتها لتصوير الأشخاص، ونهضت البرهمية وقد تجدد نشاطها، فشجعت الرمزية وزخرفة الدين بكل أنواع الفنون؛ فنرى في متحف "مأثورة" تمثالاً حجرياً لبوذا أتقنت صناعته، بعينين تنمان عن تأمل عميق، وشفتين حساستين، وجسد بولغ في رشاقته، وقدمين قبيحتين مستقيمتي الخطوط، وترى في متحف "سارنات" تمثالاً حجرياً آخر لبوذا في جلسة قرفصاء التي كتب لها أن تسود النحت البوذي، وفي هذا لتمثال تصوير بارع لآثار التأمل الهادئ والرقة القلبية الصادرة عن ورع؛ وفي "كاراتشي" تمثال برونزي صغير لبراهاما، يشبه صورة "فولتير" شبهاً واضحاً(46).
صفحة رقم : 1009

قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الهند وجيرانها -> الفن الهندي -> النحت

واذهب حيث شئت في أرجاء الهند، ترى فن النحت في الألف عام التي
صفحة رقم : 1010
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الهند وجيرانها -> الفن الهندي -> النحت

سبقت قدوم المسلمين، قد أنتج آيات روائع على الرغم من أن خضوعه لفن العمارة وللدين قد حدد خطاه، وإن يكن مصدر وحي له في الوقت عينه، فالتمثال الجميل الذي يصور "فشنو" والذي جاء من "سلطانبور"(47) وتمثال "بادماباني" الذي أجيدت صناعته بأزميل الفنان(48) وتمثال "شيفا" الضخم ذو الوجوه الثلاثة "الذي يسمى عادة تريمورتي" الذي نحت نحتاً عميقاً في كهوف "إلفانتا"(49) والتمثال الحجري الذي تكاد تحسبه من صنع "براكسيتي" والذي يعبده الناس في "نوكاس" باعتباره الإله "روكميني"(50) وشيفا الراقص الرشيق- أوناتاراجا- المصنوع من البرونز بأيدي الصناع الفنانين في تانجور(51) وتمثال الغزال الجميل المنحوت من الحجر، وفي "مامالابوارم"(52) و "شيفا" الوسيم في "برور"(53)- هذه كلها شواهد على انتشار فن النحت في كل إقليم من أقاليم الهند.

واجتازت هذه البواعث نفسها وهذه الأساليب نفسها، حدود الهند الأصلية حيث كان من أثرها أن أنتجت آيات فنية في تركستان وكمبوديا وجاوه وسيلان وغيرها؛ ويستطيع طالب الفن أن يجد أمثلة لذلك، هذا الرأس الحجري- ويظهر أنه رأس غلام- الذي احتفره من رمال خوتان "سير أورل شتاين" وصحبه(54) ورأس بوذا الذي جاء من سيام(55) وتمثال "هاريهارا" في كمبوديا الذي يتميز بدقة تشبه دقة المصريين في تماثيلهم(56) والتماثيل البرونزية الرائعة في جاوه(57) ورأس شيفا الذي جاء من "برامبانام" والذي يشبه الفن في جاندهارا(58)؛ وتمثال المرأة البالغ حداً بعيداً في جماله واسمه "براجناباراميتا" وهو الآن في متحف ليدن؛ وتمثال "بوذيساتاوا" الذي بلغ ذروة الكمال وهو في متحف "جلبتوثك" في "كوبنهاجن"(59) وتمثال بوذا الهادئ القوي(60) وتمثال "أفالوكتشفارا" (ومعناها السيد الذي يصوب نظره إلى الناس مستصغراً مشفقاً) وهو تمثال أجيدت صناعته بالأزميل(61) وكلا هذين الأخيرين من المعبد العظيم في جاوه الذي يسمى "بوروبودور"
صفحة رقم : 1011
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الهند وجيرانها -> الفن الهندي -> النحت

وكذلك تمثال بوذا الضخم الغليظ(62) والعتبة المرمرية البديعة(63) في بناء "آنورا ذابورا" في سيلان؛ هذه القائمة المملة، التي ذكرنا فيها آثاراً فنية لا بد أن تكون قد كلفت دماء كثير من الرجال في عدة قرون من الزمان، تدل بعض الدلالة على أثر العبقرية الهندية في مستعمرات الهند الثقافية.

إنه ليتعذر علينا للوهلة الأولى أن نقدر هذا النحت؛ فليس يستطيع أحد من الناس أن يطرح وراء ظهره بيئته الخاصة حين يرتحل في غير بلاده إلا ذو العقل العميق المتواضع؛ إنه لا مناص لنا من أن ننقلب هنوداً أو أبناء هذا البلد أو ذاك مما أخذ بزعامة الهند الثقافية، لنفهم الرمزية الكامنة في هذه التماثيل، وندرك ما تدل عليه هذه الأذرع والسيقان الكثيرة من وظائف وقوى خارقة، ونسيغ الواقعية البشعة التي تمثلها هذه التماثيل الشاطحة بخيالها، المعبرة عن رأي الهندوس في القوى الخارقة للحدود الطبيعية، التي تبدع في خلقها بما يجاوز حدود العقل، وتخصب إخصاباً يجاوز حدود العقل، وتخرب تخريباً يجاوز حدود العقل، إنه ليروعنا أن نرى كل شخص في قرى الهند نحيل الجسم، بينما نرى كل شخص في تماثيل الهند بديناً، لأننا ننسى أن التماثيل تصور الآلهة قبل كل شيء، والآلهة هم الذين يتلقون زبدة ما تثمره البلاد من خيرات؛ وإن أنفسنا لتطرب حين نعلم أن الهنود صبغوا تماثيلهم بالألوان، ومن ثم ينكشف لنا الغطاء عن حقيقة نسهو عن إدراكها، وهي أن اليونان فعلوا ذلك أيضاً، وأن الجلال الذي في آلهة فيديا يرجع بعضه إلى زوال الصبغة عن تماثيلهم زوالاً جاء عرضاً؛ وإنه كذلك ليسوءنا أن نرى قلة تماثيل النساء قلة نسبية في معارض الفن الهندي، ونرثى لإذلال النساء الذي قد تدل عليه هذه الظاهرة، ولا نذكر أبداً أن مذهب العرى في المرأة ليس أساساً لفن النحت يستحيل الاستغناء عن وجوده، وإن أعمق جمال للمرأة قد يتبدى في الأمومة أكثر مما يتبدى في الشباب، قد تدل عليه "ديميتر" أكثر
صفحة رقم : 1012
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الهند وجيرانها -> الفن الهندي -> النحت

مما تدل عليه "أفروديت"؛ أو قد ننسى أن النحات لم ينحت ما تتعلق به أحلامه بقدر ما نحت ما أذن به الكهنة، وأن كل فن في الهند كان يتبع الدين أكثر مما يتبع الفن نفسه، إذ كان خادماً للاهوت أو قد نفسر بالجد ما لم يقصد به النحات إلى الجد، وإنما قصد به تصويراً كاريكاتورياً أو فكاهة أو بشائع يخيف بها الأرواح الشريرة فيطردها، فإذا ما رأينا أنفسنا نزور عنها في امتعاض فقد أقمنا بذلك الدليل على تأديتها لما أريد لها أن تؤديه.
ومع ذلك فلم يبلغ فن النحت في الهند كل ما بلغه أدبها من رشاقة، أو ما بلغه فن العمارة فيها من فخامة، أو ما بلغته فلسفتها من عمق؛ فكان أول ما صوره النحت في الهند هو مكنون عقائدها الدينية على خلطه واضطرابه، ولئن بزَّت الهند بفن النحت فيها نظائره في الصين واليابان، إلا أنها لم تبلغ قط مستوى التماثيل المصرية في برود كمالها، ولا مستوى التماثيل المرمرية اليونانية في جمالها الحي المغري، وإذا أردنا أن نقف من فن النحت الهندي عند مجرد الفهم لما ينطوي عليه من مزاعم، كان لا مندوحة لنا عن استعادة الشعور بالتقوى في قلوبنا، ذلك الشعور الذي ساد في العصور الوسطى بجده وإيمانه، والحق أننا نسرف فيما نطالب به فن النحت أو فن التصوير في الهند، فترانا نحكم عليهما كما لو كان في تلك البلاد- كما هما في بلادنا- فنين مستقلاً أحدهما عن الآخر، مع أن حقيقة الأمر هي إننا فصلناهما لتسهل دراستهما حسب ما جرت به التقاليد في تقسيم الفنون أقساماً مختلفة الأسماء مختلفة المعايير، فلو استطعنا أن ننظر إليهما كما هما في رأي الهندي، أي على اعتبار أنهما جزآن من عدة أجزاء يتألف منها فن العمارة عندهم، الذي لا يفوقهم فيه شعب آخر، كان منا بمثابة البداية المتواضعة التي قد تؤدي بنا إلى فهم الفن الهندي.

صفحة رقم : 1013
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الهند وجيرانها -> الفن الهندي -> فن العمارة -> العمارة الهندوسية

الفصل الخامس
فن العمارة
1- العمارة الهندوسية
العهد السابق لأشوكا - العمارة في عهد أشوكا - العمارة
البوذية - العمارة الجانتية - آيات العمارة في الشمال - هدمها - النمط في
الجنوب - المعابد المقامة من حجر واحد - المعابد المقامة من أحجار عدة
لم يبق لنا شيء من العمارة الهندية قبل "أشوكا" فلدينا آثار من اللبِن في "موهنجو - دارو"، لكن أبنية في العهدين الفيدي والبوذي كانت فيما يظهر من الخشب، والأغلب أن "أشوكا" كان أول من استخدم الحجر لأغراض البناء(64) وإننا لنصادف في أدبهم ما يدل على أن قد كان لهم أبنية ذات سبعة طوابق (65) كما قد كان لهم قصور فخمة، لكن لم يبق من كل هذا أثر واحد، ويصف المجسطي قصور الملوك من أسرة "شاندراجوبتا" فيقول إنها أعظم من أي شيء مما عساك أن تراه في فارس ما عدا "فرسوبولس" (أي مدينة الفرس) التي اتخذت نموذجاً احتذاه هؤلاء الملوك الهنود فيما يظهر(66) ولبث هذا التأثير الفارسي حتى عهر "أشوكا" لأنك تراه ظاهراً في تصميم قصره، إذ تجد هذا القصر مطابقاً "للقاعة ذات الأعمدة المائة" في "فرسوبولس" (67) كما ترى تأثير الفرس أيضاً ظاهراً في عمود "أشوكا" البديع في "لوريا" متوجاً في قمته العليا بتمثال الأسد.
فلما تحول "أشوكا" إلى البوذية، أخذت العمارة الهندية تلقي عن كاهلها هذا التأثير الأجنبي وتستمد روحها ورموزها من الديانة الجديدة، ومرحلة الانتقال ظاهرة في رأس عمود كبير، هو كل ما بقي لنا الآن من عمود آخر
صفحة رقم : 1014
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الهند وجيرانها -> الفن الهندي -> فن العمارة -> العمارة الهندوسية

يرجع إلى عهد "أشوكا" في "سارنات"(68) فهاهنا نشهد أية بلغت من الكمال
صفحة رقم : 1015
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الهند وجيرانها -> الفن الهندي -> فن العمارة -> العمارة الهندوسية

حداً يستوقف النظر حتى لقد قال عنه "سير جون مارشال" إنه يضارع "أي شيء من نوعه في العالم القديم"(69) ، إذا ترى أربعة أسود قوية وقفت ظهراً لظهر حارسة، وهي فارسية خالصة من حيث الصورة والملامح. لكنك ترى أسفل هذه الأسود إفريزاً نحتت فيه بعض الشخوص نحتاً جيداً، من ذلك تمثال لحيوان قريب إلى نفوس الهنود وهو الفيل، ورمز مطبوع بطابعهم وهو
صفحة رقم : 1016
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الهند وجيرانها -> الفن الهندي -> فن العمارة -> العمارة الهندوسية

"العجلة البوذية التي ترمز للقانون"، ثم ترى تحت الإفريز صورة حجرية لزهرة كبيرة من زهرات اللوتس، أخطأ الباحثون من قبل فظنوها رأس عمود على صورة جرس مما يدل على تأثير الفرس، أما الآن فقد أجمع الرأي على أنها بين رموز الفن الهندي أقدمها وأوسعها انتشاراً وأخصها انطباعاً بالروح الهندية(70) والزهرة قائمة عمودية، وأوراقها منحنية إلى أسفل بحيث يظهر عضو التأنيث في الزهرة، الذي يحتوي على البذور، وهم يمثلون به رحم العالم، أو يصورون به عرش الله، باعتباره من أجمل ما تبديه من الطبيعة من ظواهر؛ وقد انتقلت زهرة اللوتس- أو سوسنة الماء- بما ترمز إليه، مع البوذية، حيث تغلغلت في ثنايا الفن الصيني والياباني، وقد اصطنعوا في عهد "أشوكا" صورة شبيهة بزهرة اللوتس في بناء النوافذ والأبواب، هي التي أصبحت "قوس حدوة الفرس الذي نشاهده في الأبهاء والقباب التي ترجع إلى "أشوكا"، وهو في بادئ أمره مستمد من تقويس السقوف المصنوعة من القش في منازل البنغال، والتي تشبه "العربة المُغَطَّاة" تلك السقوف التي كانت تسندها دعائم من قضبان الخيزران المثنى(71).

ولم تخلّف لنا العمارة الدينية في العصور البوذية إلا قليلاً من المعابد المخربة وعدداً كبيراً من "أكمات المقابر" وما يحيطها من "أسوار"، وقد كانت "أكمة المقابر" في الأيام الأولى مكاناً للدفن، ثم أصبحت في عهد البوذية ضريحاً كارياً يضم عادة آثار قديس بوذي؛ وتتخذ "أكمة المقابر" في معظم الأحيان صورة قبة من اللبن المجفف، في رأسها برج مدبب الطرف، وحولها سور حجري منحوت بالشخوص البارزة، ومن أقدم هذه "الأكمات" أكمة في "بهارهوت" غير أن الشخوص البارزة هناك غليظة الفن إلى درجة تجعلها بدائية الصناعة، وأرقى ما بقي لنا من هذه الأسوار في زُخرُفه هو السور الموجود
صفحة رقم : 1017
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الهند وجيرانها -> الفن الهندي -> فن العمارة -> العمارة الهندوسية

في "أمارافاتي"، ففيه ترى مسطحاً مساحته سبعة عشر ألفاً من الأقدام المربعة، تغطيها شخوص صغيرة بارزة، تدل على دقة في الصناعة بلغت من الروعة حداً جعل "فرجسون" يشهد لهذا السور بأنه "على الأرجح أبدع أثر في الهند كلها"؛ وأجمل ما نعرفه من "أكمات المقابر" أكمة "سانكي"، وهي واحدة من مجموعة في "بِهِلْسَا" من بلدان "بهوبال"؛ والظاهر أن البوابات الحجرية تحاكي نماذج خشبية قديمة، وهي التي رسمت الطريق للبوابات التي تراها عند مداخل المعابد في الشرق الأقصى؛ فكل قدم مربعة من الأعمدة أو تيجانها أو القطع المستعرضة أو الدعائم، محفورة بما لا يقع تحت الحصر من صور النبات والحيوان وأشخاص الإنسان وصور الأرباب؛ ونرى على عمود من أعمدة البوابة الشرقية نحتاً رقيقاً يمثل رمز البوذية الدائم- وهو "شجرة بوذى" أي المكان الذي أشرقت فيه على صاحب العقيدة أنوار الحقيقة؛ وعلى نفس البوابة كذلك تجد تمثالاً لإلهة على هيئة قوس رشيق،
صفحة رقم : 1018
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الهند وجيرانها -> الفن الهندي -> فن العمارة -> العمارة الهندوسية

وهي "ياكشي" ولها أطراف وشفاه بدينة وشفاه مليئة وخصر نحيل وثديان ممتلئان.
وبينما كان الموتى من القديسين يرقدون في "الأكمات" كان أحياء الرهبان يحتفرون لأنفسهم في صخور الجبل معابد يعتزلون فيها الدنيا ويعيشون في تراخ وسلام، بمنجاة من عوامل الجو ومن لفحة الشمس ووهجها؛ ونستطيع أن نتبين مدى قوة الحافز الديني في الهند إذا لحظنا أنه قد بقي لنا أكثر من ألف ومائتي معبد من هذه المعابد الكهفية، بقي هذا العدد لنا من عدة ألوف بنيت في القرون الأولى بعد ميلاد المسيح، بعضها للجانتيين والبراهمة، لكن معظمها للجماعات البوذية، وفي معظم الحالات ترى مداخل هذه الأديرة (أو الفهارات كما يسمونها) بوابة ساذجة على هيئة حدوة الفرس أو قوس زهرة اللوتس؛ وأحياناً - كما هي الحال في "ناسيك" - يكون المدخل واجهة مزخرفة، قوامها أعمدة قوية ورؤوس حيوان وعَتَبٌّ منحوت نحتاً يتطلب صبراً لا ينفد،
صفحة رقم : 1019
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الهند وجيرانها -> الفن الهندي -> فن العمارة -> العمارة الهندوسية

وكثيراً ما كانوا يزينون المدخل بأعمدة وأستار حجرية وبوابات غاية في جمال التصوير(74) ، وأما الداخل ففيه "شايتيا" أي قاعة للاجتماع بأعمدة تفصل الوسط عن الجانبين، وعلى كلا الجانبين حجيرات للرهبان، وفي الطرف
صفحة رقم : 1020
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الهند وجيرانها -> الفن الهندي -> فن العمارة -> العمارة الهندوسية

النائي من الداخل مذبح عليه بعض الآثار القديمة ومن أقدم هذه المعابد الكهفية، وقد يكون أجملها جميعاً، معبد في "كارل" الواقعة بين "بونا" و"بمباي"، ففي هذا المعبد أنتجت بوذية "هنايانا" أروع آياتها الفنية.

وأما كهوف "أجانتا" ففضلاً عن كونها مخابئ لأعظم الصور البوذية، فهي كذلك تضارع "كارل" في كونها أمثلة لذلك الفن المركب من جانبين: فنصفه عمارة ونصفه نحت، وهو ما يميز معابد الهند؛ ففي الكهفين رقم (1) ورقم (2) قاعات فسيحة للاجتماع، سقوفها - المنحوتة والمرسومة بزخارف رصينة لكنها رشيقة - قائمة على عمد منقوشة بخطوط محفورة، مربعة عند أسفلها مستديرة عند قمتها، مزخرفة برسوم من الزهر ومتوجة برؤوس لها فخامتها(75) ويتميز الكهف رقم (19) بواجهة أتقنت زخرفتها بتماثيل بدينة ورسوم بارزة مشتبكة الأجزاء(76) ، وفي الكهف رقم (26) تنهض أعمدة إلى إفريز متوج بتماثيل منحوتة في دقة تفصيلية يستحيل أن تتم إلا إن توفرت لها الحماسة الدينية والفنية في آن معاً(77) ؛ فلا تكاد تجد ما يبرر لك أن تسلب "أجانتا" الحق في أن تعدَّ واحدة من أعظم ما خلف تاريخ الفن من آثار.
وأفخم المعابد البوذية الأخرى التي لا تزال قائمة في الهند، البرج العظيم في "بوذ - جايا"، وقيمته في أقواسه المصطبغة بصبغة قوطية خالصة، ومع ذلك فتاريخها يرجع - فيما يظهر - إلى القرن الأول الميلادي(78).
وأهم ما تتميز به العمارة البوذية على وجه الجملة هو أنها مفككة، وجلالها في تمثيلها قبل أن يكون في بنائها؛ ويجوز أن تكون روح التزمت الديني العالقة بها هي التي جعلتها في ظاهرها منفرة للعين عارية عما يجذب النظر؛ وأما الجانتيون فقد توجهوا بعناية أكبر من عناية البوذيين، إلى فن العمارة، وكانت
صفحة رقم : 1021
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الهند وجيرانها -> الفن الهندي -> فن العمارة -> العمارة الهندوسية

معابدهم خلال القرنين الحادي عشر والثاني عشر أجمل معابد الهند على الإطلاق
صفحة رقم : 1022
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الهند وجيرانها -> الفن الهندي -> فن العمارة -> العمارة الهندوسية

وهم في بادئ أمرهم لم يخلقوا لأنفسهم نمطاً في العمارة خاصاً بهم، واكتفوا في البداية بمحاكاة الطريقة البوذية (مثال ذلك ما نراه في إكوار) التي تحتقر المعابد في صخور الجبل، ثم بمحاكاة معابد فشنو وشيفا، وهي على نمط يتميز بأنه يقوم على مجموعة من الجدر فوق نشز من الأرض؛ هذه المعابد كانت بسيطة الظاهر، لكنها كانت كثيرة التفصيلات غنية الفن من الباطن - ولعلها في ذلك أن تكون رمزاً موفقاً للحياة المتواضعة، وأخذ الناس يندفعون بروح التقوى فيضيفون إلى هذه المعابد تمثالاً في إثر تمثال مما يخلد أبطال الجانتية، حتى لقد بلغ عددها في "شاترونجايا" - حسب إحصاء فيرجسون - ستة آلاف وأربعمائة وتسعة وأربعين تمثالاً(79).
وأما المعبد الجانتي في "أيهول" فيكاد يكون إغريقي النمط، بصورته الرباعية الأضلاع، وأعمدته الخارجية، ومدخله، والغرفة الداخلية، أو إن شئت فقل الحجيرة التي تتوسطه من الداخل(80) ؛ وقد أقام الجانتيون والفشناويون والشيفاريون في "خاجوراهو" ما يقرب من ثمانية وعشرين معبداً قريباً بعضها إلى بعض؛ كأنما أرادوا بها أن يضربوا مثلاً لروح التسامح الديني في الهند؛ وبين تلك المعابد معبد "بارشوانات"(81) الذي يبلغ درجة الكمال، وهو ينهض مخروطاً فوق مخروط حتى يبلغ ارتفاعاً هائلاً، ويؤوي في جدرانه المحفورة مدينة حقيقية من القديسين الجانتيين؛ وقد أقام الجانتيون على جبل "أبو"، وارتفاعه فوق صدر الصحراء أربع آلاف قدم، معابد كثيرة منها اثنان باقيان، هما معبد "فيمالا" ومعبد "تجاه بالا"، يعدان أعظم ما أبدعته هذه الطائفة في مجال الفنون؛ فقبة الضريح "تجاه بالا" من الأشياء التي توقع في نفس الرائي أثراً عميقاً يتضاءل أمامه كل ما يكتب عن الفنون بحيث يصبح تافهاً عاجزاً(82)؛ وأما معبد "فيمالا" المبني كله من المرمر الأبيض فمؤلف من خليط من أعمدة لا يطرد فيها نظام، ترتبط بأقواس أبدعها الخيال
صفحة رقم : 1023

قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الهند وجيرانها -> الفن الهندي -> فن العمارة -> العمارة الهندوسية

العجيب بمصاطب منحوتة نحتاً أميل إلى البساطة، وفوق الأعمدة قبة من المرمر بولغ في حفرها بالتماثيل الكثيرة لكن حفرها بلغ من الرقة حداً يروعك جلاله وأنت تستعرضه؛ ويقول فيه "فيرجسون": "إن النحت قد أتقنت تفصيلاته وأجيدت زخرفته؛ حتى ليجوز لنا أن نقول إنه ليس في العالم كله ما يفوقه في ذلك؛ إذ النقوش التي زخرف بها المعماريون مُصَلَّى هنري السابع في وستمنستر أو في أكسفورد، تعتبر غليظة بغيضة إذا قورنت بنقوش ذلك المعبد(83).

ونستطيع أن نلحظ في هذه المعابد الجانتية ومعاصراتها، مرحلة الانتقال من صورة الضريح البوذي المستديرة إلى نمط البرج الذي ساد في عصور الهند الوسطى فقاعة الاجتماع المحاطة بأعمدة من الداخل جاءوا بها إلى الخارج حيث تحولت إلى ممشى عند المدخل، ثم تقع الحجيرة خلف هذا الممشى، ويرتفع فوقها البرج المعقد المنحوت في مستويات تقل مساحة كلما ازدادت ارتفاعاً، وعلى هذا التصميم بنيت معابد الهندوس في الشمال، وأوقع مجموعة من هذه المعابد في نفس الرائي، هي المجموعة المسماة (بهوفانشوارا) في إقليم "أوريسا"، وأجمل معبد في هذه المجموعة هو معبد "راجاراتي" الذي أقيم للإله "فشنو" في القرن الحادي عشر الميلادي، وهو عبارة عن برج شامخ يتألف من أعمدة نصف دائرية ملاصق بعضها لبعض، تغطيها التماثيل وتعلوها طبقات من الحجر تتناقص حجماً كلما ازددنا معها صعوداً، وبهذا يكون البرج منحنياً إلى الداخل ومنتهياً بتاج دائري كبير ومسلة؛ وبالقرب منه يقع معبد "لنجاراجا" وهو أكبر من معبد "راجاراني" لكنه لا يبلغ في الجمال مبلغه، ومع ذلك فكل نقطة من مسطح البناء قد مَرَّت عليها يد النحات بإزميلها، حتى لقد قدرت تكاليف النحت ثلاثة أمثال تكاليف البناء ذاته(84) فالهندوسي لم يعبّر عن تقواه بضخامة معابده الجبارة وحدها، بل أضاف إلى الضخامة تفصيلات فنية احتاجت في إخراجها إلى صبر طويل، فلم يكن عنده شيء يَضِنُّ به على الإله مهما بلغت نفاسته.
صفحة رقم : 1024
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الهند وجيرانها -> الفن الهندي -> فن العمارة -> العمارة الهندوسية

وإنه لمن البغيض إلى النفس أن نذكر قائمة آيات البناء الهندوسي في الشمال غير التي ذكرناها، دون أن نذكر أوصافها التي تتميز بها، وأن نمثلها بصورها الفوتوغرافية؛ ومع ذلك فيستحيل على من يسجِّل المدنيَّة الهندية أن يغض الطرف عن معابد "سوريا" في "كاناراك" و "موزيرا"، وعن برج "جاجانات بوري"، وعن البوابة الجميلة في "فادناجار"(85)والمعبدين الضخمين "ساس- باهو" و "تلى- كار- ماندير" في "جواليور"(86) وقصر "راجا مان سنج" وهي أيضاً في "جواليور"(87) "وبرج النصر" في شيتور(88)، ولا تستطيع العين أن تخطئ معابد الشيفاويين في "خاجوراهو"؛ وفي المدينة نفسها ترى القبة الكائنة عند دهليز المدخل في معبد "خانوارماث"؛ وهي تدل دلالة جديدة على قوة الفتوة السارية في العمارة الهندية، وعلى ما في النحت الهندي من غزارة تفصيلات وصبر في الصناعة(89) وعلى الرغم من أن معبد شيفا في "إلفانتا" لم يبق منه إلا أنقاض، فهو دليل بأعمدته الضخمة المحفورة، ورؤوس الأعمدة التي على شكل نبات الفُطْر، ونقوشه البارزة التي لا يفوقها شيء في بابها، وتماثيله القوية(90)، هو بهذا كله دليل على عصر قويت فيه الروح القومية، وازدادت المهارة الفنية على نحو لا يكاد يعلق منه بالذاكرة شيء.
إنه ليستحيل علينا إلى الأبد أن نقدر الفن الهندي حق قدره، لأن الجهل والتعصب قد قضيا على أعظم آثاره، ثم كادت تدمر البقية الباقية منه؛ ففي "إلفانتا" أثبت البرتغاليون تقواهم بتحطيم التماثيل والنقوش البارزة على نحو من الهمجية لم يعرف حدوداً يقف عندها؛ وتكاد لا تجد مكاناً في الشمال لم يقوض فيه المسلمون تلك الروائع الباهرة التي يجمع رأي الرواة على أنها كانت أرفع قدراً من آيات العهد الذي تلا عهدها، مع أن هذه الأخيرة تثير فينا اليوم شعور العجب والإعجاب؛ لقد أطاح المسلمون برؤوس التماثيل، ثم حطموها عضواً عضواً، وعدلوا من الأعمدة الرشيقة التي كانت في معابد الجانتيين(91)

صفحة رقم : 1025
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الهند وجيرانها -> الفن الهندي -> فن العمارة -> العمارة الهندوسية

بحيث تصلح لمساجدهم، ثم قلدوها إلى حد كبير فيما صنعوه لأنفسهم؛ لقد تعاون الزمن والتعصب على عملية الهدم، ذلك لأن الهندوس المتمسكين بأصول عقيدتهم هجروا وأهملوا المعابد التي دنستها أيدي الأجانب حين مسَّتها(92).
لكنه في مقدورنا أن نحدس كم بلغت العمارة الهندية في الشمال من عظمة مفقودة، وذلك استدلالاً من الأبنية القوية التي لا تزال قائمة في الجنوب، حيث الحكم الإسلامي لم يتوغل إلا إلى حد ضئيل، وحيث أدى إلف المسلمين للأوضاع في الهند إلى الحدِّ من كراهيتهم لأساليب الحياة عند الهندوس؛ زد على ذلك أن العصر الزاهر لعمارة المعابد في الجنوب، جاء في القرنين السادس عشر والسابع عشر، بعد أن راض "أكبر" المسلمين وعلمهم بعض الشيء كيف يقدرون الفن الهندي؛ فنتج عن ذلك أن أصبح الجنوب غنياً بمعابده، التي تسمو عادة على قريناتها التي ما زالت قائمة في الشمال، وتزيد عليها ضخامة وروعة؛ ولقد أحصى "فيرجسون" نحو ثلاثين معبداً "درافيديا" أي كائناً في الجنوب - كل معبد منها في رأيه لا بد أن يكون قد كلف ما تكلفه كاتدرائية إنجليزية من النفقات(93)؛ واصطنع الجنوب أنماط الشمال بأن جعلوا أمام الدهليز (ويسمونه ماندا بام) (بوابة واسمها جوبورام) ودعموا الدهليز بأعمدة أسرفوا في كثرتها، وراح هذا الجنوب يستخدم في غير تحفظ عشرات من الرموز، من الصليب المعقوف "السواستكتا" ورمز الشمس وعجلة الحياة، إلى شتى ضروب الحيوان المقدس؛ فالثعبان رمز لعودة الروح بالتناسخ لما له من قدرة على تبديل جلده؛ والثور هو المثل الأعلى المرموق باعتباره رمزاً للقوة التناسلية، وعضو الذكورة يمثل تفوق "شيفا" في التناسل، وكثيراً ما كانوا يخلعون صورته على المعبد كله.
صفحة رقم : 1026

قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الهند وجيرانها -> الفن الهندي -> فن العمارة -> العمارة الهندوسية

ويتألف تصميم البناء في هذه المعابد الجنوبية من ثلاثة عناصر هي : البوابة، والدهليز ذو الأعمدة والبرج (فيمانا) الذي يحتوي على قاعة الاجتماع السياسية أو الحجرة؛ ولو استثنينا حالات قليلة مثل قصر "تيرومالاناياك" في "مادورا" وجدنا كل العمارة في جنوب الهند كهنوتية، ذلك لأن الناس لم يُعنِهم كثيراً أن يبنوا دوراً فخمة لأنفسهم فتوجهوا بفنهم إلى الكهنة والآلهة؛ ولن نجد مثلاً أوضح من هذا نبين به إلا معابد من الأبنية الكثيرة التي أقامها الملوك الشالوكيون وشعبهم؛ ولا يستطيع أن يصف التناسق الجميل الذي تراه في ضريح "إتاجي" في حيدر أباد أو المعبد القائم في "سمناثبور" في إقليم "ميسور"(96) الذي نقشت في صخوره الضخمة الجبارة نقوش رقيقة كأنها الوشى، أو معبد "هويشا ليشوارا" في "هاليبيدا"(97) وهي أيضاً في إقليم وميسور" - أقول لا يستطيع أن يصف التناسق البديع في هذا كله، سوى هندوسي ورع طلق اللسان؛ ويقول "فيرجسون" عن هذا المعبد الأخير "إنه أحد الأبنية التي يتخذها المدافع عن العمارة الهندية حجة تؤيد دفاعه، ثم يضيف إلى ذلك قوله: إن في هذا المعبد "ترى الفن في مزج الخطوط الأفقية بالخطوط الرأسية، وترى تصرف الفنان في التخطيط وفي النور والظل، مما يفوق بكثير أي أثر من آثار الفن القوطي؛ فوقع هذا المعبد في نفس الرائي هو بالضبط ما كان يصبو إليه مهندسو العمارة في القرون الوسطى، لكنهم لم يبلغوا ما كان يصبو إليه مهندسو العمارة في القرون الوسطى، لكنهم لم يبلغوا منه قط هذه الدرجة من الكمال التي تراها في هاليبيدا"(98).
ولقد عجبنا لهذا الورع الدؤوب الذي في مستطاعه أن يحفر ألفاً وثمانمائة
صفحة رقم : 1027
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الهند وجيرانها -> الفن الهندي -> فن العمارة -> العمارة الهندوسية

قدم من إفريز في معبد "هاليبيدا" وأن يصور فيها ألفي فيل، كل فيل منها يختلف عن كل ما عداه(99) فماذا نقول في الصبر والشجاعة اللذين استطاعا أن يضطلعا بحفر معبد بأسره من الحجر الأصم؟ ومع ذلك فقد كان هذا عملاً شائعاً لدى صنّاع الهنود، فقد نحتوا في "ممالابورام" على الساحل الشرقي بالقرب من "مدراس" عدة معابد (مما يسمى بادوجا) أجملها معبد" ذارما- راجا- راذا" معناها دير لأسمى الطوائف الدينية، وفي "إلورا"- وهو مكان يحج إليه المتعبدون في حيدر أباد- تنافس البوذيون والجانتيون والهندوس المتمسكون بعقيدتهم الأصلية، في احتقار معابد كبيرة ذات حجر واحد،
صفحة رقم : 1028
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الهند وجيرانها -> الفن الهندي -> فن العمارة -> العمارة الهندوسية

من صخور الجبال؛ وأفخم هذه المعابد هو الضريح الهندوسي في "كايلاشا"(100) وقد أطلق عليه هذا الاسم نقلاً عن اسم الجنة الأسطورية التي تتبع "شيفا" في جبال الهمالايا؛ فها هنا ترى البناءين قد حفروا في غير كلل مائة قدم في جوف الصخر، ليفرغوا المكان حول الجلمود المطلوب - وكتلته مائتان وخمسون قدماً في الطول ومائة وستون قدماً في العرض - لتحويله إلي معبد، وبعدئذ حفروا الجدران فصيروها أعمدة قوية وتماثيل ونقشاً بارزاً، ثم نقروا جوف الحجر نقراً بالأزاميل حتى أفرغوه، وأسرفوا في زخرفة ذلك الداخل بأعجب ألوان الفنون، وليكن النقش الجداري الثابت الخطوط، والذي يطلق عليه اسم "المحبين"(101) مثلاً لها، وأخيراً عمدوا إلى حفر سلسلة من المُصلَّبات والأديرة عميقة في الصخر على ثلاثة من جوانب المعبد المحفور(102)، كأن ما صنعوه لم يكْف لاستنفاد كل ما يختلج في صدورهم من رغبة في البناء؛ وفي رأي بعض الهندوس(103) أن معبد "كايلاشا" يضارع أية آية من آيات الفن في تاريخه كله.

ومع ذلك فقد كان هذا البناء سخرة كما كانت الأهرامات من قبل، ولا بد أن يكون قد كلف طائفة كبيرة من الناس عرقهم ودماءهم، وأما الذي دأب بإرادته على هذه الأبنية دأباً لم يعرف الفتور، فالنقابات العمالية، أو أصحاب السلطان، لأنهم نثروا في كل إقليم من أقاليم الهند الجنوبية أضرحة جبارة بلغت من كثرة العدد حداً يوقع الحيرة في نفس الدارس أو السائح، حتى لينسى الخصائص القروية التي تميز كل معبد على حدة، إزاء كثرتها وقوتها؛ ففي "باتاداكال" أهدت "الملكة لوكاما هايفي" إحدى زوجات "الملك الشلوكيّ فكراماديتيا الثاني" - أهدت إلى "شيفا" "معبد ثيروباكشا" الذي يعد من أسمى المعابد العظيمة في الهند(104): وفي "تانجور" جنوبي "مدراس" اقتسم "الملك الكوليّ "راجا العظيم" - بعد أن فتح جنوبي الهند كله وجزيرة سيلان - اقتسم ما ظفر به من غنائم مع الإله "شيفا" بأن
صفحة رقم : 1029
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الهند وجيرانها -> الفن الهندي -> فن العمارة -> العمارة الهندوسية

أقام له معبداً جليلاً صُمِّمَ بناؤه على أساس أن يمثل الرمز التناسلي لذلك الإله ؛ وبالقرب من "تريكبنوبولي" إلى الغرب من تانجور - أقام عُبّاد "فشنو" معبد "شِرِى رانجام" على تل عال، أخص خصائصه المميزة "ماندابام" (قاعة ذات أعمدة كثيرة) على هيئة "قاعة من ذوات الألف عمود" وكل عمود منها كتلة واحدة من الجرانيت، حفر بالنقوش المعقدة؛ وكان الصناع الهندوس لا يزالون ماضين في عملهم ليتمموا بناء هذا المعبد، حين جاءت رصاصات الفرنسيين والإنجليز الذين كانوا يقاتلون في سبيل امتلاك الهند ففرقتهم، وانتهى بذلك عملهم(106)؛ وعلى مقربة من ذلك المكان - في مادورا - أقام الشقيقان "موتو" و "تيرومالا ناياك" ضريحاً فسيحاً لشيفا، فيه قاعة أخرى بألف عمود وحوض مقدس، وعشر بوابات، منها أربع ترتفع ارتفاعاً هائلاً، وقد نحتت بعدد كبير متشابك من التماثيل؛ وهذه الأجزاء مجتمعة تؤلف منظراً من أشد المناظر وقعاً في النفس مما عساك أن تصادفه في الهند؛ ويحق لنا أن نحكم استدلالاً من هذه النتف الباقية ما كانت عليه العمارة أيام ملوك "فيجاياناجار" من خصوبة فنية واتساع؛ وأخيراً ترى في "رامش فارام" وسط مجموعة الجزائر التي يتكون منها "جسر آدم" الواقع بين الهند وسيلان، أقام براهمة الجنوب خلال خمسة قرون (1200 - 1769 ميلادية) معبداً زُخْرِف محيطه بأروع ما قد تصادفه من أبهاء أو مماش - وطول هذا البهو أربعة آلاف قدم من العُمُد المزدوجة، نحتت نحتاً غاية في الجلال وأريد بها في تصميمها أن تفئ بظل بارد، وأن تمكن من مشاهدة مناظر رائعة للشمس والبحر، لملايين الحجاج الذين يلتمسون سبلهم إليها من مدن بعيدة حتى يومنا هذا لكي يتقدموا بآمالهم وآلامهم خُشَّعاً أمام آلهة لا تعبأ مما لهم من آمال وآلام.

صفحة رقم : 1030
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الهند وجيرانها -> الفن الهندي -> فن العمارة -> العمارة في المستعمرات

2- العمارة في "المستعمرات"

سيلان - جاوه - كمبوديا - الخمارسة - ديانتهم -
أنكور - سقوط الخمارسة - سيام - بورما
على أن الفن الهندي قد صحب الديانة الهندية في عبورها للمضايق والحدود، حتى بلغا معاً سيلان وجاوه وكمبوديا وسيام وبورما والتبت وحوتان وتركستان ومنغوليا والصين وكوريا واليابان؛ ففي آسيا تخرج الطرق كلها من الهند"(107) فقد استقرت جماعات هندوسية جاءت من وادي الكنج، في جزيرة سيلان في القرن الخامس قبل المسيح؛ وبعد ذلك التاريخ بمائتي عام أرسل أشوكا بابنه وابنته ليحولا أهل تلك الجزيرة إلى البوذية، وعلى الرغم من أن هذه الجزيرة الغاصَّة بسكانها اضطرت إلى مقاومة الغزوات "التامِليّة" خمسة عشر قرناً، فقد استطاعت أن تحتفظ بثقافة خصبة حتى جاء البريطانيون واستولوا عليها سنة 1815.
بدأ الفن السنغالي بما يسمى "داجوبات" - والداجوبا ضريح قديم ذو قبة يشبه "أكمة المدافن" عند بوذيي الشمال، ثم تطورت "الداجوبات" حتى أصبحت معابد عظيمة تميز بآثارها العاصمة القديمة "أنوراذابورا" وقد كان مما أنتجه ذلك الفن عدد من تماثيل بوذا تعدّ بين أجمل التماثيل البوذية(108) كما أنتج "تشكيلة" كبيرة من التحف الفنية، ثم بلغ ختامه مؤقتاً حين أقام آخر ملك عظيم حكم سيلان - وهو الملك "شِرِى راجا سِنْغا" - "معبد السِّنْ" في "كاندي"؛ وكان من أثر فقدان البلاد استقلالها أن دب الانحلال في الطبقات العليا، فاختفت من سيلان تلك الرعاية وذلك الذوق اللذان لا بد منهما ليكونا حافزين وضابطين للفنان في عمله (109).
والعجيب أن أعظم المعابد البوذية - وقد يزعم بعض الباحثين أنه أعظم
صفحة رقم : 1031
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الهند وجيرانها -> الفن الهندي -> فن العمارة -> العمارة في المستعمرات

المعابد إطلاقاً في العالم كله(110) - ليس في الهند بل تراه في جاوه؛ ففي القرن الثامن فتحت أسرة "شايلندرا" السومطرية جزيرة جاوه، وأقامت فيها البوذية ديانة رسمية، وأعدت المال اللازم لبناء المعبد الضخم في "بوروبودور" (ومعناها بوذون كثيرون)(111)، والمعبد في ذاته معتدل الحجم غريب التصميم فهو عبارة عن " أكمة للمدافن" صغيرة يعلوها ما يشبه القبة، وتحيط بها اثنتان وسبعون أكيمة رصت حولها في دوائر متحدة المراكز ؛ ولو كان هذا كل شيء لما كانت "بوروبودور" شيئاً مذكوراً؛ أما ما يخلع الجلال على البناء فقاعدته التي تبلغ مساحتها أربعمائة قدم مربعة، فهي مصطبة عظيمة تتألف من سبع درجات تتدرج صغراً كلما علوت معها، وفي كل درجة منها أركان للتماثيل، حتى لقط عَنّ لمن قاموا بنحت التماثيل في "بوروبودور" أن يقيموا تمثال بوذا في هذا الركن أو ذاك أربعمائة وستاً وثلاثين مرة، ولم يكْفِهم كل هذا، فنحتوا في جوانب الدّرَج ثلاثة أميال من النقوش البارزة يصورون بها ما ترويه الأساطير عن مولد صاحب القصيدة ونشأته وإشراق الحقيقة عليه، وأظهروا في كل ذلك مهارة جعلت هذه النقوش البارزة من أبدع مثيلاتها في آسيا(112)؛ وبلغت العمارة الجاوية أوجها في هذا الضريح البوذي الجبار، والمعابد البرهمية المجاورة في "برامبانام"، ثم انحدرت بعدئذ انحداراً سريعاً، فقد كانت جزيرة جاوه حيناً من الدهر قوة بحرية فارتفعت إلى الثروة والترف، ورعت في ظلها كثيراً من الشعراء؛ لكن ما جاءت سنة 1479 حتى أخذ المسلمون يعمرون هذا الفردوس الاستوائي، ومنذ ذلك الحين لم تنتج فناً ذا خطر، ثم وثب فيها الهولنديون سنة 1595، وجعلوا يستولون عليها إقليماً بعد إقليم مدى القرن التالي لذلك التاريخ، حتى بسطوا عليها سلطانهم كاملاً.
ولا يفوق معبد "بوروبودور" إلا معبد هندوسي واحد، وهو أيضاً ليس في الهند، ولو أن هذا المعبد قد طمسته الغابة البعيدة التي اكتنفته بأشجارها

صفحة رقم : 1032
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الهند وجيرانها -> الفن الهندي -> فن العمارة -> العمارة في المستعمرات

مدى قرون عدة، حتى جاء مستكشف فرنسي سنة 1858، وهو يشق لنفسه الطريق خلال الجزء الأعلى من وادي نهر ميكونج، وعندئذ وقع بصره خلال الأشجار والغصون، على منظر بدا له معجزة من المعجزات، إذ رأى معبداً ضخماً يبلغ في تصميم بنائه حداً من الجلال لا يكاد يصدقه العقل؛ رآه قائماً وسط الغابة، تلتف حوله: وتكاد تخفيه أغصان الشجر وأوراقه، وشهد في ذلك اليوم معابد كثيرة كان بعضها قد غطته الأشجار فعلا أو شَقَّته نصفين؛ فالظاهر أن هذا المستكشف قد وصل في أخر لحظة يمكن فيها أن يحول دون انتصار الأشجار الملتفة على هذه الآيات التي أبدعتها يد الإنسان، ولم يؤمن أحد بصدق ما رواه هذا الرحالة "هنري موهو" حتى ذهب إلى المكان غيره من الأوربيين وأيدوا روايته؛ وبعدئذ هبطت بعثة علمية على ذلك المكان الذي قد كان يوماً صومعة مسكونة، وقامت مدرسة بأسرها في باريس، هي "مدرسة الشرق الأقصى" كرست نفسها لرسم هذا البناء المستكشف ودراسته؛ هذا هو "أنجوروات" الذي يعد اليوم أعجوبة من أعاجيب العالم .
كان يسكن الهند الصينية، أو كمبوديا، في نهاية التاريخ المسيحي، قوم أغلبهم من الصينيين، ومنهم فريق من أهل التبت، وكان هؤلاء السكان في جملتهم يسمون بالخمارسة (أو الخمبوجيين)؛ فلما زار "تشيو - نا - خوان" - وكان يسفر لقبلاي خان - عاصمة "خامر" واسمها "انكورثوم"، وجد حكومة قوية تحكم أمة جمعت ثراءها من أرزها وعرقها، ويقول "تشيو " إن ملكهم كانت له خمس زوجات "إحداهن خاصة، والأربع الأخريات يقابلن الجهات الرئيسية الأربع" كما كان له نحو أربعة آلاف محظية يحددن أوضاع إبرة البوصلة على تفصيل أدق(114)؛ وكانت البلاد تزخر بذهبها
صفحة رقم : 1033

قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الهند وجيرانها -> الفن الهندي -> فن العمارة -> العمارة في المستعمرات

وحليها، والبحيرة مليئة بزوارق النزهة، وشوارع العاصمة غاصة بالعربات والهوادج ذات الستائر، والفيلة المطهمة، وكان سكانها يقربون من المليون، ومستشفياتهم كانت ملحقة بمعابدهم، ولكل منها جماعتها الخاصة من ممرضات وأطباء(115).
ولئن كان السكان صينيين، فقد كانت ثقافتهم هندية، تقوم دياناتهم على أساس بدائي هو عبادة الثعبان "ناجا" الذي ترى رأسه المروحية أينما وجهت النظر في الفن الكمبودي، وبعدئذ دخل آلهة الهندوسيين الكبار، الذين يكوّنون الثالوث الهندي وهم براهما: وفشنو، وشيفا, دخلوا تلك البلاد عن طريق بورما؛ وفي الوقت نفسه تقريباً جاء بوذا وارتبط عندهم بفشنو وشيفا، وأصبح إلهاً مقرباً عند الخمارسة، وتنبئنا النقوش عن الكميات الهائلة من الأرز والزبد والزيوت النادرة التي كان يقدمها الشعب كل يوم إلى القائمين بخدمة الآلهة(116).

وفي أواخر القرن التاسع, أهدى الخمارسة إلى الإله شيفا أقدم ما بقي لنا من معابدهم - معبد بايون - وهو الآن خراب منفر تكسوه إلى نصفه أنواع من النبات الذي يمسك بجذوره في الجدران فلا يزول عنها، وأما أحجاره التي وضعت بغير ملاط، فقد تباعدت في غضون الألف عام التي انقضت، حتى نتج عن تباعدها مَطٌّ في وجوه براهما وشيفا، على نحو جعلها تبدو مكشِّرة عن أنيابها في ابتسامة صفراء لا تليق بالآلهة، ومن تمثيل هذين الإلهين تكاد تتكوّن الأبراج كلها، وبعد ذلك بثلاثة قرون استخدم العبيد ومن جاء بهم الملوك من أسرى الحرب في بناء "أبحوروات"(117) وهي آية فنية تضارع أجمل الآثار المعمارية عند المصريين أو اليونان أو بناء الكاتدرائيات في أوربا، ويحيط بهذا المعبد فندق كبير طوله اثنا عشر ميلاً، ويَعْبُرُ الخندق جسرٌ مرصوف تحرسه ثعابين الناجا المخيفة نحتت من الحجر، وبعدئذ يجيء جدار مزخرف يحيط بالمعبد، تتلوه أبهاء فسيحة على جدرانها نقوش
صفحة رقم : 1034
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الهند وجيرانها -> الفن الهندي -> فن العمارة -> العمارة في المستعمرات

بارزة تقص من جديد حكايات "الماهابهاراتا" و"رامايانا" ثم بعدئذ يجيء البناء نفسه بما له من جلال، ينهض على رقعة فسيحة، درجة فوق درجة كأنه هرم مدرج، حتى يصل إلى حرم الإله الذي يرتفع مائتي قدم؛ وضخامة الحجم في هذا المعبد لا تقلل من روعة الجمال، بل تتعاون الضخامة مع الجمال فيتكون منهما جلال يروع النفس، ويهز عقل المشاهِد الغربّي هزّاً حتى يتبين في غموض ذلك المجد القديم الذي ظفرت به المدنية الشرقية يوماً؛ فقد يستطيع المشاهد أن يرى بعين الخيال تلك العاصمة وقد زخرت بساكنيها، وحشد العبيد وهم ينحتون ثقال الأحجار ويجرونها ويرفعونها، وطوائف الصناع وهم ينقشون النقوش البارزة وينحتون التماثيل في أناة كأنما يستحيل أن يفلت الزمن من أيديهم قبل أن يفرغوا من عملهم؛ وجماعة الكهنة وهم يخدعون الناس ويُسرّون عن نفوسهم و "زانيات المعبد" (وما زلن مرسومات على الجرانيت) وهن يغوين الناس ويسرِّين عن نفوس الكهنة؛ وهل الطبقة العالية وهم يبنون القصور شبيهة ببناء "فنيان آكا" بما له من "شرفة شرفية" فسيحة؛ ثم يرتفع فوق هؤلاء جميعاً، بمجهود الناس جميعاً، الملوك القساة الأقوياء.

كان الملوك بحاجة إلى كثرة من العبيد، فلم يجدوا بداً من إثارة الحروب الكثيرة، وكان النصر حليفهم غالباً، حتى اقترب القرن الثالث عشر من ختامه - وكان ذلك "في منتصف الطريق" من حياة دانتي - هزمت جيوش سيام هؤلاء الخمارسة، ونهبوا مدنهم، وتركوا معابدهم المتألقة وقصورهم الأنيقة خراباً بلقعاً؛ وترى اليوم قلة من الزائرين يتخللون الأحجار التي تخلخل بنيانها، ويشاهدون كيف دأبت الأشجار في صبر لا ينفد على الضرب بجذورها، أو النفاذ بغصونها في ثنايا الصخور، تنزعها بعضها عن بعض شيئاً فشيئاً، لأن الأحجار ليس فيها ما في الشجر من رغبة تعمل على تحقيقها فتنمو، ويحدثنا "تشيو - تا - خوان" عن الكتب الكثيرة التي كتبها الناس في "أنكور" لكنه لم يبق لنا من هذه المؤلفات صفحة واحدة؛ لأنهم صنعوا
صفحة رقم : 1035
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الهند وجيرانها -> الفن الهندي -> فن العمارة -> العمارة في المستعمرات

ما نصنعه نحن الآن، وهو أنهم كتبوا أفكاراً سريعة الزوال على نسيج سريع الفناء، ومات كل ما قد ظنوا به الخلود؛ إن النقوش البارزة الرائعة تصور الرجال والنساء وقد لبسوا غلالات وشباكاً ليتقوا البعوض والزواحف الثعبانية الملمس، أما الرجال والنساء فقد انحدروا إلى فناء، لا يخلدون إلا على الصخور وأما البعوض والضَّباب فما تزال باقية.

وعلى مقربة من تلك البلاد تقع سيام التي أخذ شعبها - ونصفه من التبت ونصفه الأخر من الصين - بطرد الخمارسة الفاتحين شيئاً فشيئاً وارتقى بمدينة قائمة على أساس من الديانة الهندية والفن الهندي، وبعد أن تغلبت سيام على "كمبوديا" بنى أهلها لأنفسهم عاصمة جديدة، هي "أيوذيا" على نفس الموقع الذي كانت تقوم عليه مدينة الخمارسة القديمة؛ ومن هذا المركز وسعوا من نطاق نفوذهم حتى إذا ما دنا التاريخ من عام 1600، كانت إمبراطوريتهم تشمل جنوبي بورما وكمبوديا وشبه جزيرة الملايو؛ ووصلت تجارتهم إلى الصين شرقاً وإلى أوربا غرباً، وقام فنانوهم بزخرفة المخطوطات، والرسم على الخشب بدهان "اللُّكْ" وإحراق الخزف على نحو ما يفعل الصينيون، والوشي على القماش الحريري الجميل، وكانوا أحياناً ينحتون تماثيل من الطراز الأول ؛ ودار التاريخ دورته التي لا يصدر فيها عن هوى، وإذا بأهل بورما يستولون على "أيوذيا" ويخربونها بكل ما فيها من فنون؛ فابتنى السياميون في عاصمتهم الجديدة "بنكوك" معبداً عظيماً، فيه إسراف في الزخرفة، لكنه على كل حال إسراف لا يخفي جمال تصميمه إخفاء تاماً.
كان أهل بورما من أعظم من شهدت آسيا من بناة للعمارة؛ فقد جاءوا
صفحة رقم : 1036
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الهند وجيرانها -> الفن الهندي -> فن العمارة -> العمارة في المستعمرات

هابطين على هذه الحقول الخصبة من منغوليا والتبت، فوقعوا تحت تأثير الهنود، وأخذوا منذ القرن الخامس ينتجون الفنون في كثرة غزيرة على الطرز البوذية والفشناوية والشيفاوية، فينحتون التماثيل على غرار هذه الأنماط، ويقيمون "أكمات المدافن" التي بلغوا بها ذروتهم في معبد "أناندا" العظيم - وهو أحد المعابد في عاصمتهم القديمة "باجان" التي بلغ عدد معابدها خمسة آلاف؛ لكن "باجان" هذه وقعت فريسة لقبلاي خان فسلبها سلباً، ولبثت الحكومة البورمية مدى خمسمائة عام تنتقل من عاصمة إلى عاصمة؛ فكانت "مندلاي" حيناً من الدهر هي المركز الزاهر للحياة في بورما، ومستقر رجال الفن الذين أنتجوا الآيات الروائع في نواح كثيرة؛ من الوشي وصياغة الحلي إلى بناء القصر الملكي الذي نهض دليلاً على مدى استطاعتهم الفنية في المادة الهزيلة التي كانت تحت أيديهم، وهي الخشب(119)؛ وجاء الإنجليز إذ ساءهم ما عومل به مبشّروهم وتجارهم، فضموا بورما إلى أملاكهم سنة 1886، ونقلوا العاصمة إلى "رانجون"، وهي مدينة تقع في متناول البحرية الإمبراطورية، لتؤدبها إذا وقع فيها شيء من العصيان؛ فشيد البورميون في "رانجون" ضريحاً يعدّ من أبدع ما لديهم من أضرحة، وهو "شوي داجون" المشهور، ذلك المعبد الذهبي الذي يحج إلى قمته الملايين في إثر الملايين من بوذيي بورما كل عام، ولم لا؟ أليس يشتمل هذا المعبد على الشعرات نفسها التي كانت تغطي "شاكيا موني"؟

صفحة رقم : 1037
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الهند وجيرانها -> الفن الهندي -> فن العمارة -> العمارة الإسلامية في الهند

3- العمارة الإسلامية في الهند
الطراز الأفغاني - الطراز المغولي - دلهي - أجرا - تاج محل
شهد الحكم المغولي آخر مراحل النصر التي بلغتها العمارة الهندية؛ إذ برهن أتباع محمد على أنهم أساتذة في فن البناء حيثما حلوا بقوة سلاحهم - غرناطة، والقاهرة، وأورشليم, وبغداد؛ فقد كان المنتظر من هؤلاء الرجال

صفحة رقم : 1038
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الهند وجيرانها -> الفن الهندي -> فن العمارة -> العمارة الإسلامية في الهند

الأشداء، بعد أن يوطدوا ملكهم في الهند على أركان ثابتة، أن يقيموا على هذه الأرض التي فتحوها مساجد في تأنق مسجد عمر في بيت المقدس، وفي ضخامة مسجد السلطان حسن في القاهرة، وفي رشاقة قصر الحمراء؛ نعم إن الأسرة المالكة "الأفغانية" استخدمت رجال الفن الهنود، واقتبست أسس الفن الهندوسي بل نقلت العمد من معابد الهنود وعدلت فيها بما يجعلها ملائمة لأغراضهم في العمارة، بحيث لم يكن كثير من المساجد سوى معابد هندية أعيد بناؤها لصلاة المسلمين(119)؛ لكن هذه المحاكاة الطبيعية سرعان
صفحة رقم : 1039
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الهند وجيرانها -> الفن الهندي -> فن العمارة -> العمارة الإسلامية في الهند

ما تحولت إلى طراز يمثل النزعة الإسلامية تمثيلاً يبلغ من الدقة حداً يثير فيك العجب أن ترى "تاج محل" في الهند، ولا تراه في فارس أو شمالي إفريقيا أو إسبانيا.

والبناء الذي يمثل مرحلة التطور هو "منار قطب" ؛ وهو جزء من مسجد بدئ في بنائه في دلهي القديمة بأمر من "قطب الدين أيبك" تخليداً لذكرى انتصارات هذا السلطان السفاك للدماء على الهنود، ولقد انتزعت أجزاء سبعة وعشرين معبداً هندياً لتتخذ مادة لبناء هذا المسجد ومنارته(120) ؛ وها قد صمدت المنارة العظيمة لعوامل الجو سبعة قرون - ويبلغ ارتفاعها مائتين وخمسين قدماً، وهي مبنية من الحجر الرملي الأحمر الجميل، والنسب بين أجزائها هي غاية الكمال، ويتوجها المرمر الأبيض في طبقاتها العليا - هاهي ذي بعد سبعة قرون من فعل عوامل الجو، لا تزال آية من آيات الهند في دقة الصناعة وروعة الفن؛ وعلى وجه الجملة كان سلاطين دلهي في شغل بالقتل بحيث لم يبق لهم من وقتهم فراغ طويل ينفقونه في فن العمارة؛ وأكثر الأبنية التي خلفوها لنا مقابر أنشأوها لأنفسهم في حياتهم تذكرهم بأنهم - رغم سلطانهم - ذائقوا الموت كسائر الناس؛ وخير مثال لهذه المقابر، مقبرة "شرشاه" في "ساسيرام" من بلدان "بهِار"(121) فبناؤها شامخ صلب متين، وهو يمثل آخر مراحل الفن الإسلامي القوي قبل أن تدب فيه الطراوة حين أصبحت العمارة حليّاً من الحجر على أيدي ملوك المغول.
وجاء "أكبر" بما له من قدرة على الحياد في مشاعره بحيث يختار من كل ثقافة ما يراه صالحاً، فشج الميل السائد نحو دمج الطرز الإسلامية والهندوسية، وقد تضافرت الأساليب الهندية والفارسية في الآيات الفنية التي شيدها له فنانوه، تضافراً جعل بينها اتساقاً رائعاً، يرمز إلى الامتزاج الضعيف بين عقائد الهندوس وعقائد المسلمين، كما أراد لها "أكبر" أن تمتزج، في
صفحة رقم : 1040
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الهند وجيرانها -> الفن الهندي -> فن العمارة -> العمارة الإسلامية في الهند

الديانة التي ركبها تركيباً من عناصر اختار بعضها من هذه وبعضها الآخر من تلك؛ وأول أثر فني بقي لنا من حكمه، هو القبر الذي شيده قريباً من دلهي لأبيه "هميون"، وفيه يتمثل طراز من الفن خاص به - هو بسيط التخطيط، معتدل الزخارف، لكنه مع ذلك ينبئ برشاقة بنائه عما ستنتهي إليه الطريق في أبنية "شاه جهان" التي تفوقه جمالاً؛ وفي "فتح بورسِكْري" أقام له فنانوه مدينة امتزجت فيها قوة المغول الأوائل كلها برقة الأباطرة المتأخرين فهناك سُلّم يؤدي صعوداً إلى بوابة رائعة بنيت من الحجر الرملي الأحمر، وخلال قوسها الفخم يدخل الداخل إلى قاعة ملئت بآيات الفن الروائع، والبناء الأساسي عبارة عن مسجد، لكن أجمل أجزاء البناء ثلاث مقصورات أعدت لزوجات الإمبراطور المقربات إليه، والقبر المرمري الذي دفن فيه صديقه "سليم شِستي" الحكيم؛ فها هنا بدأ رجال الفن في الهند يُظهرون تلك المهارة في وشي الحجر التي بلغت ذروتها في الستار الموجود في "تاج محل".
ولم يسهم "جهان كير" في تاريخ العمارة عند شعبه إلا بقسط ضئيل، أما ابنه "شاه جهان" فقد كاد يجعل من اسمه اسماً يضارع اسم "أكبر" في سطوعه لميله الشديد نحو البناء الجميل؛ فأخذ ينثر ماله نثراً بغير حساب على رجال الفن عنده، على نحو ما نثر "جهان كير" ماله بغير حساب على زوجاته؛ وقد صنع ما صنعه ملوك أوربا الشمالية، في استدعائه لرجال الفن الإيطاليين الذين فاضوا عن حاجة بلادهم، وجعلهم يعلَّمون رجال النحت في بلاده كيف يطعمون المرمر بفسيفساء من الأحجار الكريمة، ذلك الفن الذي أصبح أحد مميزات الزخرفة الهندية في عصره؛ ولم يكن "جهان" مسرفاً في تدينه، ومع ذلك فمسجدان من أجمل مساجد الهند بُنيا في ظل رعايته، وهما مسجد الجمعة في "دلهي" ومسجد اللؤلؤة في "أجرا".
وبنى "جهان" في "دلهي" وفي "أجرا" "حصونا" - وهي مجموعات
صفحة رقم : 1041

قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الهند وجيرانها -> الفن الهندي -> فن العمارة -> العمارة الإسلامية في الهند

من القصور الملكية يحيط بها حائط يحميها؛ فقد دفعته الكراهية الشديدة أن يحطم في دلهي القصور القرمزية التي كانت "لأكبر" وأحل محلها أبنية تراها - في أسوأ جوانبها - ضرباً من المرمر المزخرف كأنه قطع من الحلوى، لكنها - من أحسن جوانبها - أصفى جمال بلغته العمارة في أرجاء الأرض جميعاً؛ فها هي ذي "قاعة الاجتماعات العامة" بأسفل حيطانها وقد زخرفت بفسيفساء من الزهر على أرضية من المرمر الأسود، وأسقفها وعمدها وأقواسها المنحوتة في وشي حجري له جمال الشيء النحيل الهزيل، لكنه جمال يعز على التصديق، وهاهنا أيضاً "قاعة الاجتماعات الخاصة" التي صنع سقفها من الفضة والذهب وأعمدتها من مُخَرَّم المرمر، وأقواسها على هيئة نصف الدائرة مدبباً في وسطه، يتألف من أنصاف دوائر صغرى يتخذ كل منها صورة الزهرة، وعرشها المسمى "عرش الطاووس" الذي بات أسطورة يتحدث بها العالم أجمعين، وجداره الذي لا يزال يحمل في تطعيم بالحجر النفيس، بيت الشاعر المسلم المليئة ألفاظه بروح الزهو، ومعناه أن لو كان على الأرض فردوس فهي هاهنا.
ونعود فنستجمع في أذهاننا صورة خافتة "لكنوز الهند" في أيام المغول، حين نسمع أعظم مؤرخي فن العمارة يصف لنا مقر الملك في دلهي، فيقول إنه يشغل مساحة ضعف ما تشغله "الأسكوريال" الفسيحة بالقرب من مدريد، ولقد كان ذلك القصر في زمانه ذاك، وبالقياس إلى أضرابه "أفخم قصر في الشرق، بل ربما كان أجمل قصر في العالم كله" .
وحصن "أجرا" اليوم أنقاض ، وكل ما في وسعنا أن نحزر على سبيل
صفحة رقم : 1042
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الهند وجيرانها -> الفن الهندي -> فن العمارة -> العمارة الإسلامية في الهند

التخمين ما كان عليه بادئ أمره من جلال؛ فهنا وسط الحدائق الكثيرة كان مسجد اللؤلؤة ومسجد الجوهرة وقاعتا الاجتماعات العامة والخاصة وقصر العرش وحمامات الملك وقاعة المرايا وقصور "جهان كير" و "شاه جهان" وقصر الياسمينة لـ "نور جهان" وبرج الياسمينة الذي كان يطل منه "شاه جهان" وهو أسير، يطل منه عَبر "الجمنة" على القبر الذي كان ابتناه لزوجته الحبيبة "ممتاز محل".
ويعرف العالم كله ذلك القبر باسم تلك الزوجة المختصر وهو "تاج محل" وما أكثر مهندسي العمارة الذين يضعون هذا البناء في منزلة تجعله أكمل بناء قائم على وجه الأرض في يومنا هذا؛ وقد وضع تصميمه ثلاثة من رجال الفنون: فارسيّ يدعى "أستاذ عيسى"، وإيطالي يدعى "جيرونيمو فيرونيو" وفرنسي يسمى "أوستن دي بوردو"؛ ولم يُسْهم في فكرته هندي واحد، فهو بناء لا هندوسي من أوله إلى آخره، وهو إسلامي خالص؛ حتى مهرة الصناع جيء ببعضهم من بغداد والآستانة وغيرهما من مراكز المِلَّة الإسلامية(124).
وقد لبث اثنان وعشرون ألفاً من العمال اثنين وعشرين عاماً مسخّرين في بناء "التاج"، وعلى الرغم من أن المرمر جاء إلى "شاه جهان" هدية من "مهراجا جايبور" فقد كلَّف البناء وما حوله ما يساوي اليوم مائتين وثلاثين مليوناً من الريالات الأمريكية - وهو في ذلك العهد مبلغ ضخم من المال
صفحة رقم : 1043
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الهند وجيرانها -> الفن الهندي -> فن العمارة -> العمارة الإسلامية في الهند

والمدخل إلى البناء ملائم للغرض منه ملاءمة لا يضارعها إلا مدخل "القديس
صفحة رقم : 1044
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الهند وجيرانها -> الفن الهندي -> فن العمارة -> العمارة الإسلامية في الهند

بطرس"؛ فإذا ما دخل الداخل خلال سور عالٍ ذي أبراج صغيرة على قمته، التقى بغتة "بالتاج" - وهو قائم على مصطبة من المرمر، يحيط به على الجانبين إطار من المساجد الجميلة والمآذن الشامخة، وفي الجانب الأمامي حدائق فسيحة في وسطها بركة ينعكس القصر على مائها فيكون سحراً يرتعش مع رعشة الموج؛ وكل جزء من البناء مصنوع من المرمر الأبيض والمعادن النفيسة أو الأحجار الكريمة؛ وللبناء اثنا عشر ضلعاً، في أربعة منها بوابات، وعند كل ركن من أركانه مئذنة نحيلة، والسقف قوامه قبة ضخمة ذات برج مُدَبَّب؛ والمدخل الرئيسي الذي كانت تحرسه فيما مضى أبواب من الفضة الخالصة، متاهةٌ للخيال بما فيه من وشي مرمري؛ ونقشت على الجدران آيات من القرآن، كتبت بكريم الجواهر، منها آية تدعو "المتقين" أن يدخلوا "جنة الفردوس" وأما الداخل فبسيط، وربما تعاون اللصوص من أهل البلاد ومن الأوربيين على السواء، على سلب الجواهر التي كانت تزين القبر في كثرة مسرفة، والسور الذهبي المغطى بطبقة من الأحجار الكريمة الذي كان أول الأمر يحيط بالتابوتين الحجريين اللذين كان يرقد فيهما "جهان" وملكته؛ فوضع "أورنجزيب" مكان السور الذهبي ستاراً ثُمانيَّ الأضلاع من مرمر يكاد يشف عما وراءه، والستار منقوش بزخرفة رقيقة من "الرخام ذي العروق" نقشاً هو من المعجزات؛ حتى ليبدو لبعض الزائرين أن جمال هذا الستار لم يفُقْه جمال في كل ما أنتجه الإنسان من آثار فنية صغيرة.
وليس هذا البناء أفخم الأبنية، ولكنه أجملها جميعاً؛ فإذا ما بعدت عنه قليلاً بحيث تخفى عليك تفصيلاته الرقيقة، لم يبهرك بعظمته، لكنك تحس له في نفسك نشوة؛ ولا ينكشف لك كماله الذي لا يتناسب مع حجمه إلا إذا دنوت منه ونظرت إليه عن كثب، إننا إذ نرى في عصرنا هذا الذي يتميز بالسرعة، أبنية ضخمة من ذوات الطوابق المائة يكمل بناؤها في عام أو عامين،
صفحة رقم : 1045

قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الهند وجيرانها -> الفن الهندي -> فن العمارة -> العمارة الإسلامية في الهند

ثم نتذكر أن اثنين وعشرين ألفاً من العمال ظلوا يكدّون اثنين وعشرين عاماً في إقامة هذا القبر الصغير الذي لا يكاد يبلغ ارتفاعه مائة قدم، فإننا نحسّ عندئذ بعض الإحساس، الفرق بين الصناعة والفن؛ فربما كانت قوة العزيمة الكامنة في تصور إقامة بناء مثل "تاج محل" أعظم وأعمق من قوة العزيمة التي نصف بها أمجد الفاتحين؛ ولو كان الزمن بصيراً بما يفعل، لأبى على كل شيء قبل أن ينال من "التاج" ليبقيه شاهداً على سمو النفس الإنسانية سمواً تمازجه الشوائب، لعل هذا السمو فيها يكون عزاء لآخر من تشهد الأرض من بني الإنسان.

صفحة رقم : 1046
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الهند وجيرانها -> الفن الهندي -> فن العمارة -> العمارة الهندية والمدنية

4- العمارة الهندية والمدنية
انهيار الفن الهندي - الموازنة بين العمارة الهندوسية
والعمارة الإسلامية - نظرة عامة إلى المدنية الهندية
على الرغم من الستار الذي تم على يدي "أورنجزيب" فقد كان هذا الرجل عثرة نكداء في حظ المغول والفن الهندي، إذ حفزه التعصب الديني الضيق الأفق إلى أن ينصرف بكل نفسه إلى ديانة بعينها لا يسمح بغيرها إلى جانبها، ولذا فلم تر عيناه إلا وثنية وغروراً؛ وكان "شاه جهان" من قبل قد حرم إقامة المعابد الهندوسية(127)؛ ولم يكتف "أورنجزيب" باستمرار ذلك التحريم بل أضاف إلى ذلك شحاً في إعانة العمارة الإسلامية، حتى تضاءلت هي الأخرى تحت سلطانه؛ فلما مات، تبعه الفن الهندي إلى قبره فثوى معه.

إذا ما تأملنا العمارة الهندية باستعراضنا إياها استعراضاً موجزاً يعيد لنا سابق مراحلها، ألفيناها تنطوي على موضوعين، أحدهما فيه صلابة الرجولة والآخر فيه طراوة الأنوثة، أحدهما هندوسي والآخر إسلامي، وحول هذين المحورين تدور العمارة على اختلاف وجوهها كأنها السمفونية المختلفة النغمات؛ ولما كانت أشهر السمفونيات تبدأ بضربات قوية كضربات المطرقة تثير الانتباه اليقظ في
صفحة رقم : 1047
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الهند وجيرانها -> الفن الهندي -> فن العمارة -> العمارة الهندية والمدنية

الأسماع، ثم سرعان ما يتلوها سيل متدفق من نغمات تبلغ من الرقة حدها الأقصى، كذلك ترى في العمارة الهندية بداية مهيبة تجلت فيها العبقرية الهندسية، وهي آثار "بوذ- جايا" و "بهوفانشوارا" و "مادورا" و "تانجور" ثم يتبعها الطراز المغولي بما فيه من رشاقة ونغم، كالآثار التي في "فتح بورسِكْري" و"دلهي" و "أجرا"، ويظل هذان المحوران يمتزجان في اشتباك مخلوط حتى النهاية؛ لقد قيل عن المغول إنهم شيدوا كما تُشَيِّد العمالقة، ثم ختموا بناءهم بصناعة الصائغين الرقيقة، لكن هذا القول أصح انطباقاً على العمارة الهندية بصفة عامة؛ ذلك لأن الهندوس بنوا كما تبني العمالقة، ثم جاء المغول فختموا المطاف برقة الصائغين؛ فالعمارة الهندوسية تستوقف انتباهنا بضخامتها، والعمارة الإسلامية تستوقف أنظارنا بتفصيلاتها؛ فللأولى جلال القوة، وللثانية كمال الجمال؛ كان للهندوس عاطفة وخصوبة، وللمسلمين ذوق وكبح لجماح نفوسهم، ملأ الهندوسيُّ مبانيه بكثرة زاخرة من التماثيل حتى ليتردد الإنسان أيضع تلك المباني في باب العمارة أم في باب النحت، وكره المسلم تشخيص الأجسام، فحصر نفسه في الزخرفة الزهرية والهندسية، الهندوس هم للهند بمثابة رجال الفن في العصور الوسطى، الذين جمعوا في أنفسهم فني النحت والعمارة، والمسلمون بمثابة الدخيلين في عالم الفن الذين جاءوا في عصر النهضة فأفاضوا؛ وعلى وجه الجملة، كان الطراز الهندوسي أرفع سماكاً بمقدار ما يسمو الجلال على الجمال، وإذا ما عاودنا التفكير في الموازنة بين الفنين، بعد أن يزول عن أنفسنا وقع النظرة الأولى، تبين لنا أن "حصن دلهي" و "تاج محل" بالقياس إلى "أنكور" و "بوروبودور" هما كالقصائد الوجدانية الجميلة بالقياس إلى المسرحيات العميقة- مثل بترارك بالقياس إلى دانتى، أو كيتس بالقياس إلى شكسبير، أو سافو بالقياس إلى سوفوكليز، أحد الفنين تعبير
صفحة رقم : 1048

قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الهند وجيرانها -> الفن الهندي -> فن العمارة -> العمارة الهندية والمدنية

رشيق من وجهة نظر جزئية عن نفوس أفراد جادت حظوظهم، وأما الآخر فتعبير قوي كامل عن روح جنس بأسره.
ومن ثم وجب علينا أن نختم هذا العرض الموجز بما بدأناه به، وهو الاعتراف بأنه لا يستطيع أن يقدر فن الهند كل قدره، أو أن يكتب عنه كتابة تعفو عن نقائصه، إلا هندوسي؛ فهذا الفن المقرب إلى نفوسهم، الذي تملؤه الزخرفة إلى حد الإسراف؛ وتشتبك أجزاؤه إلى حد التعقيد، قد يبدو لعين الأوربي الذي نشأ على قواعد يونانية أرستقراطية من الاعتدال والبساطة، قريباً من الفن البدائي الهمجي؛ لكن هذه الكلمة الأخيرة هي نفسها الصفة التي استعملها "جوته" صاحب النزعة الكلاسيكية، حين ازورت نفسه عن كاتدرائية ستراسبورج، والطراز القوطي؛ فهي تعبر عن رد الفعل العقلي للوجدان، والتدليل المنطقي للدين؛ لا يستطيع أن يشعر بجلال المعابد الهندوسية إلا هندوسي مؤمن، لأن هذه المعابد لم تشيد لتكون صورة معبرة عن الجمال وكفى، بل شيدت لتكون حافزاً على التقوى، وأساساً للإيمان، ولا يستطيع أحد منا أن يفهم الهند إلا أهل عصورنا الوسطى- أمثال "جيوتو" و "دانتي".

على هذا الأساس وحده ينبغي أن ننظر إلى المدنية الهندية- أعني على أساس أنها تعبير عن نفوس شعب "وسيط" اعتبر الديانة أعمق من العلم، ويكفيها لتكون أعمق منه، أن سلم منذ البداية بالجهل البشري الذي لازم الإنسان منذ الأزل، وبغرور الإنسان قدرته؛ في هذه التقوى يكمن ضعف الهندوسي وتكمن قوته على السواء: فيه تكمن خرافته ووداعته، ويكمن ميله إلى الانطواء على نفسه ونفاذ بصيرته؛ ويكمن تأخره وعمقه، ويكمن ضعفه في القتال وبراعته في الفنون؛ ولا شك أن مناخ بلاده قد أثر في عقيدته الدينية وتعاون كلاهما على إضعافه؛ ولهذا استسلم في يأس المؤمن ببطش القضاء، للآريين والهون والمسلمين والأوربيين، ولقد عاقبه التاريخ على إهماله للعلم؛
صفحة رقم : 1049
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الهند وجيرانها -> الفن الهندي -> فن العمارة -> العمارة الهندية والمدنية

فلما أخذت مدافع "كلايف" المتفوقة على أسلحتهم، تطيح بالجيش الأهلي في موقعة "بلاسي" (1757) كان في قصفها إعلانٌ بالثورة الصناعية، وسنشهد في عصرنا تلك الثورة، وقد أصابت نجاحاً في الهند كما وُفِّقَتْ في تسجيل إرادتها وفرض طابعها على إنجلترا وأمريكا وألمانيا وروسيا واليابان، فسيكون للهند كذلك رأسماليتها واشتراكيتها، وسيكون فيها أصحاب الملايين وسكان الخرائب الوبيئة؛ لقد أُسدل ستار على المدنية الهندية القديمة، إذ أخذت تلفظ أنفاسها الأخيرة حين جاءها البريطانيون.

صفحة رقم : 1050
(يتبع)

منتدى حديث المطابع
موقع الساخر
www.alsakher.com

قصة الحضارة
ول ديورانت



الباب الثاني والعشرون
خاتمة مسيحية
الفصل الأول
قراصنة البحر في نشوتهم
وصول الأوربيين - الفتح البريطاني - ثورة
سيبوي - حسنات الحكم البريطاني وسيئاته
كانت تلك المدنية قد ماتت بالفعل من عدة وجوه، حين كشف "كلايف" و"هيستنجر" كنوز الهند؛ فحكم "أورنجزيب" الطويل الذي مزق أوصال البلاد، وما تبعه من فوضى وحروب داخلية، ترك الهند ثمرة دانية القطوف لمن أراد أن يغزوها من جديد؛ قد كان هذا "قضاءها المحتوم" ولم يكن أمام القدر إزاءها سوى أن يختار الدولة الأوربية من بين الدول العصرية الأساليب، لتكون أداة لذلك الغزو؛ فحاول الفرنسيون غزوها وأصيبوا بالفشل، وضاعت الهند من أيديهم كما ضاعت كندا، في موقعتي "رسباخ" و "ووترلو" ثم حاول الإنجليز ذلك وانتهت محاولتهم بالنجاح.
لقد كان "فاسكو دا جاما" أرسى فلكه عام 1498م في مياه "كلكتا" بعد مرحلة دامت أحد عشر شهراً بدأت من لشبونة؛ فأحسن لقاء حاكم ملبار الهندي وسلّمه رسالة ودية من ملك البرتغال: "لقد زار مملكتي فاسكو دا جاما، وهو شريف من أشراف أسرتكم، فسررت بزيارته سروراً عظيماً؛ وإن في مملكتي لوفرة من القرفة والقرنفل والفلفل والأحجار الكريمة، وما أريده من بلادكم هو الذهب والفضة والمرجان والنسيج القرمزي"،
صفحة رقم : 1051

فكان جواب صاحب الجلالة المسيحية مطالبة الهند مستعمرة برتغالية لأسباب لم يكن في مقدور الراجا أن يفهمها لجهله؛ فلكي يوضح له الأمر، أرسلت البرتغال أسطولا إلى الهند مزودا بتعليمات لنشر المسيحية وإثارة الحروب؛ وبعدئذ جاء الهولنديون في القرن السابع عشر، وطردوا البرتغاليين؛ ثم جاء الفرنسيون والإنجليز في القرن الثامن عشر، وطردوا الهولنديين، ونشبت بين الفريقين معارك حامية الوطيس لتقرر أي الفريقين يتولّى إدخال المدنية إلى الهند وفرض الضرائب على أهلها
وكانت "شركة الهند الشرقية" قد تأسست في لندن عام 1600م لتشتري منتجات الهند وجزر الهند الشرقية بأثمان بخسة وتبيعها بأثمان مرتفعة في أوروبا وقد أعلنت الشركة عام 1686م عزمها على "إقامة مستعمرة إنجليزية واسعة في الهند، بحيث تكون متينة الدعائم فتدوم إلى الأبد"(3)، وأنشأت مراكز تجارية في مدراس وكلكتا وبومباي، وحصنتها، وجاءت إليها بجنود وخاضت معارك القتال، ورشت وارتشت، ومارست غير ذلك من مهام الحكومة؛ ولم يتردد "كلايف" في قبول " الهدايا" التي بلغت قيمتها أحياناً مائة وسبعين ألفا من الريالات، قدمها له الحكام الهنود المعتمدون على نيران مدافعه، كما ظفر منهم - بالإضافة إلى تلك "الهدايا" - بجزية سنوية تعادل مائة وأربعين ألفا من الريالات؛ وعين الأمير جعفر حاكما على البنغال لقاء مبلغ يعادل ستة ملايين ريال؛ وراح يضرب كل أمير وطني بالآخر، ويضم أملاكهم إلى حظيرة "شركة الهند الشرقية" شيئا فشيئا؛ وأدمن في أكل الأفيون، واتهمه البرلمان وبرأه، وأزهق روحه بيده سنة 1774م(4)؛ وأما "وارن هيستنجز" - وهو شجاع علامة قدير - فقد جمع من الأمراء الوطنيين مبلغا كبيرا قدره ربع مليون ريال ضريبة عليهم دفعوها في خزانة الشركة؛
صفحة رقم : 1052

وقبل الرشاوي لقاء وعد بألا يفرض ضريبة أكثر مما فرضه، ثم عاد ففرض ضريبة، واستولى للشركة على الأراضي التي لم تستطع دفعها، واحتل "أوز" بجيشه، ثم باعها لأحد الأمراء بمليونين ونصف مليون من الريالات(5)؛ وتسابق الهازم والمهزوم في الرشوة؛ وفرضت على أجزاء الهند التي خضعت لسلطان الشركة ضريبة أراض بلغت خمسين في كل مائة وحدة من وحدات الإنتاج، بالإضافة إلى فروض أخرى كانت من الكثرة والقسوة بحيث فرّ ثلثا السكان، وباع آخرون أبنائهم ليسدوا ما كانوا يطالبون به من ضرائب متصاعدة(6)؛ ويقول ماكولي: "جمعت في كلكتا أموال طائلة في وقت قصير، ودفع بثلاثين مليونا من الأنفس البشرية إلى أقصى حدود الشقاء؛ نعم قد تعودوا من قبل أن يعيشوا في جو من الطغيان لم يبلغ بهم كل هذا المدى"(7).
فما جاءت سنة 1857م حتى كانت جرائم الشركة قد أفقرت الجزء الشمالي الشرقي من الهند إفقارا أوغر صدور الأهالي فشقوا عصى الطاعة في ثورة يائسة؛ عندئذ تدخلت الحكومة البريطانية، وقمعت "العصيان" وتولّت هي الحكم في الأراضي التي سيطرت عليها، واعتبرتها مستعمرة للتاج، ودفعت عن ذلك تعويضا سخيا للشركة، وأضافت ثمن الشراء هذا إلى الدين العام في الهند(8)؛ لقد كان هذا فتحا للبلاد صريحا غاشما، وقد لا يجوز لنا أن نحكم عليه بمعيار "الوصايا الخلقية" التي يحفظها الناس في غرب السويس، إذ ربما كان الأجدر أن نفهم الموقف على أساس "دارون" و"نيتشه": فشعب عجز عن حكم نفسه أو عجز عن استغلال موارده الطبيعية، لابد من وقوعه فريسة لأمم تعاني مما يستثيرها من دوافع الجشع وبسط النفوذ.
وعاد هذا الفتح ببعض المزايا على الهند؛ فرجال أمثال "بنتنك" و"كاننج" و"منرو" و "إلفنستون" و "ماكولي" أدخلوا في إدارة الأجزاء البريطانية من الهند شيئا من سخاء الحرية التي سادت إنجلترا عام 1832؛
صفحة رقم : 1053



فقد استطاع "لورد وليم بنتنك" بمساعدة المصلحين من أهل البلاد، وبحافز منهم، أمثال "رام موهون روي" ، استطاع أن يلغي عادة دفن الزوجة حيّة مع زوجها الميت وأن يحرّم ما كانت تقوم به طائفة من خنق الأغنياء إرضاء للإلهة "كالي"؛ ولئن حارب الإنجليز مائة وإحدى عشرة حرباً في الهند، مستخدمين فيها أموال الهند ورجالها(9) ليتمموا فتح الهند، فقد تمكنوا بعدئذ من نشر السلام على ربوع شبه الجزيرة كلها، ومدوا الطرق الحديدية، وأقاموا المصانع والمدارس، وفتحوا الجامعات في كلكتا ومدراس وبومباي ولاهور والله آباد، ونقلوا من إنجلترا علومها وفنونها الصناعية إلى الهند، وألهبت الشرق بروح الغرب الديمقراطية، ولعبوا دوراً هاماً في إطلاع العالم على ما شهدته الهند في ماضيها من ثروة ثقافية غزيرة؛ وكان ثمن هذه الخيرات كلها طغياناً مالياً مكن لطائفة من الحكام المتتابعين أن يبتزوا ثروة الهند عاما بعد عام قبل عودتهم إلى بلادهم الشمالية التي تثير في الإنسان عوامل الفاعلية والنشاط؛ وكان ثمن هذه الخيرات طغيانا اقتصاديا قضى على الصناعات الهندية، وقذف بملايين صناعها الفنيين إلى الأرض يزرعونها فلا تكفيهم طعاماً؛ وكان ثمن هذه الخيرات كذلك طغيانا سياسيا كان من أثره - وقد جاء بعد طغيان "أورنجزيب" الضيق الأفق بزمن قصير - أن يميت روح الشعب الهندي قرنا كاملا.

صفحة رقم : 1054


الفصل الثاني
قديسو العهد المتأخر
المسيحية في الهند - "براهما - سوماج" -
الإسلام - راما كرشنا - فيفيكاماندا

كان من الطبيعي الذي يلائم روح الهند، أن تلتمس تلك البلاد وهي في هذه الظروف عزاءها في الدين؛ ولقد رحبت بالمسيحية ترحيبا قلبيا خالصا حينا من الزمن، إذ وجدت فيها كثيرا من المثل الخلقية العليا التي لبثت آلاف السنين تضعها من أنفسها مواضع التقديس؛ وفي ذلك يقول "الأب دبوا" في غير ممالأة "لقد كان من الجائز - فيما تبين من الظواهر - أن تضرب المسيحية بجذورها في أهل الهند، لولا أن أدرك هؤلاء الناس صفات الأوربيين وأنواع سلوكهم"(10) فقد ظل المبشرون بالمسيحية في الهند طوال القرن التاسع عشر يحاولون في نفوس قلقة أن يسمعوا الناس صوت المسيح، فكان عليهم أن يرتفعوا به فوق أصوات المدافع التي كانت تزأر أثناء فتحها للبلاد؛ وراحوا يقيمون المدارس والمستشفيات ويعدونها بالأدوات اللازمة، وأخذوا يوزعون على الناس الدواء والصدقات، مع ما ينشرونه بينهم من تعاليم الدين، وكانوا أول من بذر في المنبوذين بذور الإحساس بآدميتهم؛ لكن التضاد الملحوظ بين تعاليم المسيحية ومسلك المسيحيين أثار في نفوس الهنود تشككا وسخرية؛ فقالوا إن بعث "العزير" من عالم الموتى لا يستثير العجب، لأن في ديانتهم من المعجزات ما هو أشد من هذا استثارة للدهشة وجدارة بالاهتمام؛ وكل رجل بينهم ممن يمارسون "اليوجا" يستطيع اليوم أن يفعل المعجزات، على حين معجزات المسيحية قد ذهب عهدها - فيما يظهر - وانقضى(11) وتمسك البراهمة بمبادئهم في اعتزاز بها،
صفحة رقم : 1055


إذ كانوا يقابلون عقائد الغرب بطائفة من أفكارهم، لها ما لتلك العقائد الغربية من دقة وعمق وبعد عن التصديق، ولهذا ترى "سير تشارلز أليوت" يقول: "إن المسيحية قد تقدمت في الهند تقدما لا قيمة له لضآلته"(12).

ومع ذلك فقد كان لشخصية المسيح الفاتنة من عمق الأثر في الهند أكثر جدا مما يمكن قياسه بكون المسيحية لم تشتمل على أكثر من ستة في كل مائة من السكان بعد زمن امتد ثلاثة قرون؛ وأولى علائم هذا التأثير تظهر في "بهاجافاد - جيتا"(13)، وأما آخر ما ظهر لهذا التأثير من علامات فتراه في غاندي وطاغور؛ وأوضح مثل يدل على هذا التأثير هو الجمعية الإصلاحية التي تسمى "براهما -سوماج" التي أسسها "رام موهون روي" سنة 1828م، ولن تجد أحدا تناول الدين بدراسة يحاسبه فيها ضميره أكثر مما فعل هذا الرجل؛ فقد درس "روي" اللغة السنسكريتية ليقرأ كتب الفيدا، وتعلم اللغة البالية ليقرأ كتاب البوذية "تربيتاكا" ، وعرف الفارسية والعربية ليدرس الإسلام ويقرأ القرآن، ودرس العبرية ليجيد فهم "العهد القديم" كما درس اليونانية ليفهم "العهد الجديد"(14) وبعد ذلك كله تعلم الإنجليزية وكتب بها كتابة بلغت من السلاسة والرشاقة حدا جعل "جرمي بنتام" يتمنى لو استفاد "جيمز مل" بنسجه على منواله؛ وفي سنة 1820م نشر "روي" كتابه تعاليم المسيح، وهو مرشد للسلام والسعادة، وقال فيه: "لقد وجدت تعاليم المسيح، أهدى لمبادئ الأخلاق، وأكثر ملائمة لما يتطلبه بنو الإنسان المتصفون بالعقل، من أية ديانة أخرى مما وقع في حدود علمي"(15) واقترح على بني وطنه الذين جللتهم دياناتهم المخجلات، اقترح عليهم ديانة جديدة تتخلص من تعدد الآلهة وتعدد الزوجات والطبقات وزواج الأطفال ودفن الزوجات مع أزواجهن وعبادة الأوثان وألا يعبدوا إلا ألها واحدا، هو براهما؛ ولقد تمنى كما تمنى
صفحة رقم : 1056

من قبله "أكبر" - أن تتحد الهند كلها في عقيدة دينية بسيطة، لكنه - مثل "أكبر" لم يحسب حساب الخرافة وتأصلها في قلوب الدهماء؛ ولهذا فقد أصبحت "براهما - سوماج" اليوم - بعد مائة عام قضتها في جهاد مفيد - بحيث لا ترى لها أثرا في الحياة الهندية .
والمسلمون هم أقوى الأقليات الدينية في الهند وأكثرها إثارة للاهتمام، وسنرجئ دراسة دينهم إلى جزء آخر من أجزاء هذا الكتاب؛ وليس العجيب أن يفشل الإسلام في اكتساب الهند إلى اعتناقه على الرغم من معاونة "أورنجزيب" له على ذلك معاونة متحمسة، إنما المعجزة هي ألا يخضع الإسلام في الهند للهندوسية؛ فبقاء هذه الديانة الموحدة على بساطتها وصلابتها، وسط ألوان متشابكة من الديانات التي تذهب إلى تعدد الآلهة، دليل يشهد على ما يتصف به العقل الإسلامي من رجولة، وحسبنا لكي نقدر عنف هذه المقاومة وجسامة هذا المجهود أن نذكر كيف تلاشت البوذية في البرهمية، فإله المسلمين له اليوم سبعون مليونا من عباده في الهند.
لم يطمئن الهندي إلا قليلا إلى أية عقيدة دينية مما جاءه من خارج بلاده، وأولئك الذين كان لهم أبلغ الأثر في شعوره الديني إبان القرن التاسع عشر هم
صفحة رقم : 1057

الذين بذروا بذور مذهبهم وعبادتهم في عقائد الشعب القديمة؛ فقد أصبح "راما كرشنا" - وهو برهمي فقير من البنغال - مسيحيا حينا من الزمن، وأحس جمال المسيحية واعتنق الإسلام حينا آخر، وأدى صلاة المسلمين بما تقتضيه من خشونة وعنف، لكن قلبه التقي سرعان ما عاد به إلى الهندوسية، بل عاد به إلى عبادة "كالي" الفظيعة، وجعل نفسه كاهنا من كهانها، وصورها في صورة الإلهة الأم التي تفيض نفسها فيضا بالرحمة والحب؛ ونبذ أساليب العقل وبشّر بمذهب "بهاكتي - يوجا" وهو مذهب يدعوا إلى الحب ورباطه؛ ومن أقواله "إن معرفة الله يمكن تشبيهها برجل، وأما حب الله فشبيه بامرأة؛ إن المعرفة لا تستطيع الدخول إلا في الحجرات الخارجية لله، وليس يستطيع الدخول في غوامض الله الباطنية إلا محب"(18).
ولم يرد "راما كرشنا" أن يعلم نفسه، على خلاف "رام موهون روي" ، فلم يتعلم شيئا من السنسكريتية أو الإنجليزية، ولم يكتب شيئا، واجتنب النقاش العقلي؛ ولما سأله منطقي منتفخ الأوداج بمنطقه: "ما المعرفة وما المعروف؟" أجابه قائلا: "إني يا صاح لا علم لي بهذه الدقائق من علم المتفقهين؛ إن كل ما أعرفه هو (إلهتي الوالدة، وإنني ابنها"(19) وكان يعلّم أتباعه أن كل الديانات خير، وكل منها طريق يؤدي إلى الله، أو مرحلة من مراحل الطريق إلى الله، تلائم عقل الباحث عن الله وقلبه؛ ومن الحمق أن تتحول من دين إلى دين، إذ كل ما يتطلبه الإنسان هو أن يمضي في طريقه الذي بدأه، وأن يتعمق عقيدته الخاصة إلى لبابها "إن كل الأنهار تتدفق في المحيط، فاندفق حتى تخلى الطريق لاندفاق الآخرين كذلك!"(20) وأفسح
صفحة رقم : 1058

صدره رحباً لعقيدة الناس في آلهة متعددة، واستسلم متواضعا لعقيدة الفلاسفة في إله واحد؛ أما عقيدته هو التي ينبض بها قلبه فهي أن الله روح تجسد في الناس جميعا، وعبادة الله الحقيقية التي لا عبادة سواها، هي خدمة الإنسانية خدمة صادرة عن حب.
ولقد اختاره كثيرون من رقاق النفوس "شيخا" لهم، منهم الأغنياء والفقراء، ومنهم البراهمة والمنبوذون، وألفوا جمعية باسمه وقاموا بحملة تبشيرية بمذهبه؛ وألمع هؤلاء الأتباع شخصية هو شاب معتد من طبقة الكشاترية واسمه "نارندرانات دوت" ، الذي تقدم إلى "راما كرشنا" بادئ ذي بدء - وكان عقله عندئذ قد أفعم بآراء "سبنسر" و "دارون" - على أنه ملحد لا يجد غير شقوة النفس في إلحاده، لكنه في الوقت نفسه مزدر للأساطير والخرافات التي لم يكن الدين في رأيه إلا إياها؛ فلما غلبته من " راما كرشنا " طيبته الصابرة، أصبح "نارن" بين أتباع "الشيخ" أشدهم تحمساً، وأعاد لنفسه تعريف الله بأنه "مجموعة الأرواح كلها"(21) وطالب الناس بأن يباشروا الدين، لا عن طريق التقشف والتأمل الفارغين، بل عن طريق خدمة الإنسانية خدمة تستنفد من أنفسهم كل تقواها.
"أرجئوا إلى الحياة الآخرة قراءة "الفيدانتا" واصطناع التأمل، وأصرفوا هذا البدن الذي يحيا هاهنا إلى خدمة الآخرين ... إن الحقيقة السامية التي لا حقيقة بعدها هي هذه: الله موجود في الكائنات جميعا، فهذه الكائنات صوره الكثيرة، وليس وراءها إله آخر يبحث الإنسان عنه، ليس هناك سبيل إلى خدمة الله سوى خدمة سائر الكائنات!"(22).
وغير اسمه وجعله "فيفي كاناندا" وغادر الهند ليجمع مالا يعين المبشرين بمذهب "راما كرشنا" على أداء رسالتهم، حتى إذا ما كان عام 1893م، وجد نفسه ضالا معدما في مدينة شيكاغو، فما هو إلا أن ظهر في "برلمان الديانات"
صفحة رقم : 1059

في "المهرجان العالمي" وخاطب الحاضرين على أنه يمثل العقيدة الهندوسية، فاستولى على قلوب السامعين جميعا بطلعته المهيبة، ومذهبه الذي يوحد العقائد الدينية جميعا، وشريعته الخلقية البسيطة التي تجعل خدمة الإنسانية خير عبادة يتوجه بها الإنسان لله؛ فأصبح الإلحاد ديانة شريفة بفعل السحر الذي نفثته بلاغته، ووجد الشيوخ المتزمتون من رجال الدين ألا مناص من احترام هذا "الوثني" الذي يعلن بألا إله غير أرواح الكائنات الحية؛ ولما عاد إلى الهند جعل يبشر بني وطنه بعقيدة دينية لم يشهد الهندوسيون ما يفوقها صلابة بين كل الديانات التي بشروا بها منذ العصر الفيدي:
"إن الديانة التي نريدها ديانة تقيم دعائم الإنسان ...فانفضوا عن أنفسكم هذه التصوفات التي تنهك قواكم، وكونوا أقوياء ... لنمح من أذهاننا خلال الخمسين عاما المقبلة ... كل الآلهة الذين لا طائل وراءهم بحيث لا نبقي أمام أعيننا إلا خدمة الإنسان؛ فجنسنا البشري هو الإله الوحيد اليقظان، فيداه في كل مكان، إنه يشمل كل شيء ... إن أولى العبادات كلها هي عبادة من يحيطون بنا ... هؤلاء هم آلهتنا الذين لا آلهة لنا سواهم - أعني أفراد الإنسان والحيوان؛ وأول ما ينبغي لنا أن نعبده من هؤلاء الآلهة هم بنو وطننا"(23).
لم يكن بين هذه التعاليم وبين غاندي إلا خطوة واحدة.

صفحة رقم : 1060
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الهند وجيرانها -> خاتمة مسيحية -> طاغور

الفصل الثالث
طاغور
العلم والفن - أسرة من النوابغ - نشأة
رابندرانات - شعره - سياسته - مدرسته

ما زالت الهند - رغم ما تعانيه من ظلم ومرارة عيش وفقر - تنتج العلم والأدب والفن؛ فقد طبقت شهرة الأستاذ "جاجادس شاندرا بوز" الخافقين لأبحاثه في الكهرباء وفسلجة النبات؛ وكانت جائزة نوبل تاجاً يكلل جهود الأستاذ "شاندرا سيخارا رامان" في فيزيقا الضوء؛ وقامت في عصرنا هذا مدرسة جديدة للتصوير في البنغال، تجمع بين خصوبة الألوان المتمثلة في نقوش "أجانتا" الجدارية، ورقة التخطيط البادية في تحف "راجبوت" ؛ و إنا لنلمح في صور "رابندرانات طاغور" شيئا يسيرا من ذلك التصوف العارم والفن الرقيق اللذين اشهرا شعر عمه في أمم الأرض جميعاً.
صفحة رقم : 1061
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الهند وجيرانها -> خاتمة مسيحية -> طاغور

إن أسرة طاغور لتعد بين أعظم ما شهد التاريخ من أسر؛ فقد كان "دافندرانات طاغور" "وبالبنغالية تاكور" أحد القائمين على تنظيم الجمعية الإصلاحية "براهما ـ سوماج" ثم أصبح فيما بعد رئيسا لها؛ وهو رجل ذو ثراء وثقافة ووقار، ولما بلغ شيخوخته، كان للبنغال بمثابة الراعي الذي يميل برعيته عن جادة الدين؛ ومن نسله "أبانندرانات" ، "جوجونندرانات" والفيلسوف "دويجندرانات" والشاعر "رابندرانات" وكل هؤلاء ينتسبون إلى طاغور، والأخيران منهما ابناه.

نشأ "رابندرانات" في جو من البحبوحة والتهذيب، فكانت الموسيقى والشعر والحوار الرفيع الهواء الذي يتنفسه؛ وكان روحا رقيقا منذ ولادته، شبيها بـ "شيلى" الذي أبى أن يموت صغيراً كما أبى أن يشيخ، وكان من الحنان بحيث تشجعت فئران السنجاب على ارتقاء ركبتيه، واطمأنت الأطيار إلي الوقوف على راحتيه(24)؛ وكان دقيق الملاحظة، متفتح النفس، يحس دوى ما تأتيه به تجارب الحياة بإحساس مرهف كإحساس المتصوفين ؛ فكان أحيانا يقف في شرفته ساعات، يلاحظ بنظرته الأدبية كل من يمر أمامه في الطريق: قوامه وقسماته وحركاته التي تميزه وطريقه مشيته، أحيانا يجلس على كنبة في غرفة داخلية، ويظل نصف يومه صامتاً، تمر في رأسه الذكريات والأحلام؛ وبدأ ينظم الشعر على لوح إردوازي، مغتبطا بكون الأخطاء يمكن محوها(25) وسرعان ما وجد نفسه ينشد الأغاني المترعة بحبه للهند ـ حبه لجمال منظرها، وفتنة نسائها، وعطفه على أهلها في آلامهم، وكان ينشئ لهذه الأناشيد موسيقاها بنفسه؛ فآخذت الهند كلها تتغنى بها وكان الشاعر الشاب يهتز كيانه كلما سمعها على شفاه أهل الريف السذج، إذ هو في طريقه مسافر خلال القرى النائية(25أ) وهاك أغنيه منها، ترجمها عن البنغالية مؤلفها نفسه، فمن سواه قد عبر تعبيرا يمازجه تشكك العطوف، عن لغو الغرام الذي لا يخلو من قدسية؟
صفحة رقم : 1062
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الهند وجيرانها -> خاتمة مسيحية -> طاغور

نبئني إن كان ذلك كله صدقا، يا حبيبي، نبئني إن كان ذلك كله صدقا،
أإذا لمعت هاتان العينان ببرقهما، استجابت لهما السحائب الدكناء في صدرك بالعواصف؟
أصحيح أن شفتي في حلاوة برعم الحب المتفتح، حين يكون الحب في أول وعيه؟
أترى ذكريات ما مضى من أشهر الربيع ما تزال عالقة في جوارح بدني؟
أصحيح أن الأرض ـ كأنها القيثارة ـ تهتز بالغناء كلما مستها قدماي؟

==ج4.==

ج4. قصة الحضارة
ول ديورانت

أصحيح ـ إذن ـ أن الليل تدمع عيناه بقطرات الندى كلما بدوت لناظريك، وأن ضوء الصبح ينتشي فرحا إذا ما لف بدني بأشعته؟
أصحيح، أصحيح، أن حبك لم يزل يخبط فريدا خلال العصور ويتنقل من عالم إلى عالم باحثا عنى؟
وأنك حين وجدتني أخر الأمر، وجدت رغبتك الأزلية سكينتها التامة في عذب حديثي
وفي عيني وشفتي وشعري المسدول؟
أصحيح ـ إذن ـ أن لغز اللانهاية مكتوب على جبيني هذا الصغير؟
نبئني ـ يا حبيبي ـ إن كان ذلك كله صدقا
في هذه الأشعار حسنات كثيرة - فيها وطنية حادة وهي رغم حدتها
صفحة رقم : 1063
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الهند وجيرانها -> خاتمة مسيحية -> طاغور

هادئة، وفيها فهم دقيق دقة التأنث للحب وللمرأة وللطبيعة وللرجل، وفيها نفاذ بالعاطفة الحادة إلى صميم الفلاسفة الهنود بما لهم من بصيرة نافذة، وفيها رقة عاطفة وعبارة تشبه رقه "تنسن" ولو كان في أشعاره عيب، فذلك جمالها الذي يطرد في كل أجزائها اطرادا جاوز الحد المطلوب، ورقتها ومثاليتها اللتان اطردتا كذلك اطرادا يحدث الملل؛ فكل امرأة في هذه الأشعار جميلة، وكل رجل فيها مفتون بامرأة أو بالموت أو بالله؛ والطبيعة فيها - وإن تكن بشعة أحيانا ـ فهي دائما خليلة، يستحيل عليها الكآبة والقحط والفظاعة ، ولعل قصة "شترا" هي قصة "طاغور" ؛ فحبيبها "أرجونا" قد ملها بعد عام لأنها جميلة جمالا كاملا لا يعتوره نقص؛ ولا يعود الله إلى حبها إلا بعد أن تفقد جمالها وتكتسب قوة تمكنها من مزاولة أعباء الحياة الطبيعية ـ وحب الله لها رمز عميق يشير إلى الزواج السعيد(28) ويعترف طاغور بأوجه النقص في شعره اعترافا يسحرك برقته:
إن شعرك يا حبيبتي قد دارت في رأسه يوما ملحمة عظيمة
وأسفاه، لم أحرص عليها، وصادفت خلخالك فتفرقت أجزاؤها
وتمزقت قصاصات من أغان، لبثت منثورة عند قدميك

وعلى ذلك فقد أخذ يتغنى بالقصائد الوجدانية حتى نهايته، واستمع له العالم كله بآذان طربه إلا النقاد؛ ودهشت الهند بعض الشيء حين أنعم على شاعرها بجائزة نوبل 1913)م) لأن رجال النقد في البنغال لم يكونوا قد رأوا فيه إلا أخطاءه، واتخذ الأساتذة في كلكتا من أشعاره أمثلة تساق للغة البنغالية في أسلوبها الركيك(30) وكرهه الشبان المتأججين بنار الوطنية لأن مهاجمته لما في حياة الهند الخلقية من عيوب، كانت أقوى دويا من صيحته في سبيل الحرية السياسية ، ولما أنعم عليه بلقب "سير" عدوا ذلك منه خيانة للهند؛ ومع ذلك
صفحة رقم : 1064
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الهند وجيرانها -> خاتمة مسيحية -> طاغور

فلم ينعم بشرف هذا اللقب طويلا، وذلك لأنه حين أطلق الجنود البريطانيون نيرانهم على اجتماع ديني في "أمرتسار" نتيجة لسوء تفاهم محزن (سنة1919 م) أعاد طاغور وسامه إلى نائب الملك مصحوبا بخطاب يوجه فيه استنكارا مرا لما حدث؛ واليوم تراه شخصية وحيدة نوعها، وقد يكون أعمق أهل الأرض جميعا - في يومنا هذا - وقعا في النفوس، وهو مصلح كانت له الشجاعة التي مكنته من مهاجمه الآراء الاجتماعية الأساسية في الهند، وأعنى بها نظام الطبقات والعقيدة في تناسخ الأرواح، والتي هي أعز عقائد الهنود على قلوبهم(31)؛ وهو وطني يتحرق شوقا إلى حرية الهند، لكنه وجد في نفيه الجرأة فاحتج على الإسراف في النعرة القومية والسعي وراء المصالح الخاصة التي تلعب دورها في الحركة القومية؛ وهو مرب مل الخطابة والسياسة، وانكمش في صومعته في " شانتينى كيتان " يعلم بعض أبناء الجيل الجديد مذهبه في تحرير الفرد لنفسه تحريرا خلقيا ؛ وهو شاعر كسر قلبه موت زوجته في شبابها، وأنقض ظهره ذل بلاده؛ وهو فيلسوف " منقوع " في تعاليم الفيدانتا(32)؛ وهو متصوف يتذبذب ـ مثل شابدى داس ـ بين المرأة والله ومع ذلك تراه قد تجرد من عقيدة آبائه بمدى ما وصل إليه من علم؛ وهو محب للطبيعة يقابل رسل الموت فيها بعزاء وحيد، هو موهبته التي لا تبلى في إنشاد الغناء:
"آه، آيها الشاعر، إنه الغروب يدنو، وشعرك يدب فيه المشيب
فهل تسمع ـ إذ أنت وحيد في تأملك ـ صوت الآخرة يناديك؟"
قال الشاعر:
"إنه الغروب وهاأنذا أصغي خشية أن يناديني من القرية مناد، رغم أننا في ساعة متأخرة
إني أراقب لعلني واجد قلبين ضالين يلتقيان، أو زوجين من أعين مشتاقة تحن إلى ألحان الموسيقى لتزيل الصمت وتتحدث نيابة عنها
صفحة رقم : 1065
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الهند وجيرانها -> خاتمة مسيحية -> طاغور

فمن ذا هناك ينسخ لهم أغاني عواطفهم، إذا أنا جلست على شاطئ الحياة وتأملت الموت والآخرة

إن من التوافه أن يدب في شعري المشيب
أنا أبدا في شباب أقوي الشباب، وفي شيخوخة أكبر الشيوخ من أهل هذه القرية ...
كلهم بحاجة إلي وليس لدي الفراغ أنفقه في التأمل فيما بعد الحياة
أنا مع كل إنسان أسايره في عمره، فماذا يضيرني إذا دب الشيب في رأسي؟"(33).
صفحة رقم : 1066
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الهند وجيرانها -> خاتمة مسيحية -> الشرق والغرب

الفصل الرابع
الشرق والغرب
الهند المتغيرة - التغيرات الاقتصادية
والاجتماعية - تدهور نضام الطبقات
والنقابات - المنبوذون - ظهور المرأة
إذا استطاع رجل "مثل طاغور" لم يعرف الإنجليزية حتى أوشك على الخمسين من عمره أن يكتب الإنجليزية بعدئذ في أسلوب جيد فتلك علامة تدل على السهولة التي يمكن بها مل الفجوات التي تفصل ذلك الشرق وذلك الغرب الذين حرم لقاءهما شاعر آخر؛ وهاهو ذا الغرب منذ مولد طاغور قد انتقل إلي الشرق بشتى الوسائل، وهو آخذ هناك في تغيير كل وجه الحياة الشرقية؛ فثلاثون ألف ميل من السكة الحديدية قد تشابكت فوق قفار الهند وجبالها, وحملت وجوها غربية إلى كل قرية من قراها؛ وأسلاك البرق والمطبعة قد جاءتا بأنباء العالم المتغير إلى كل من يريدها، فأوحت إليه بإمكان تغير بلاده؛ والمدارس الإنجليزية أخذت تعلم التاريخ البريطاني من وجهه نظر أرادت أن تخلق من الطلاب مواطنين بريطانيين، فغرست - غير عامدة - في النفوس الأفكار الإنكليزية عن الديمقراطية والحرية؛ فحتى الشرق ينهض اليوم برهانا على صدق هرقليطس .
فلما رأت الهند أنها قد غاصت في الفقر إبان القرن التاسع عشر بفعل تفوق المغازل الآلية البريطانية، وقوه المدافع البريطانية بالنسبة إلى ما عند أهل البلاد، فقد أخذت الآن توجه نظرها كارهة إلى تصنيع نفسها، ولذلك ترى
صفحة رقم : 1067
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الهند وجيرانها -> خاتمة مسيحية -> الشرق والغرب

الصناعات اليدوية في طريق الاندثار، بينما ترى المصانع الآلية في سبيل النمو والتكاثر؛ ففي "جامستبور" تستخدم "شركه تاتا للحديد والصلب" خمسة وأربعين ألفاً من العمال، وهي تهدد زعامة الشركات الأمريكية في إنتاج الصلب؛ ويزداد إنتاج الفحم في الهند ازديادا سريعا؛ وربما لا يمضي جيل واحد حتى تلحق الصين والهند بأوربا وأمريكا في إخراج مواد الوقود والصناعة الرئيسية من جوف الأرض؛ وقد لا تكتفي هذه الموارد الأهلية بسد حاجات الأهالي، بل تجاوز ذلك إلى منافسة الغرب على أسواق العالم، وعندئذ يهبط مستوى المعيشة عند أهل بلادهم هبوطا شديدا، بسبب منافسة العمال ذوي الأجور المنخفضة في البلاد التي كانت فيما مضى طبعة متأخرة "أعني بها البلاد الزراعية" ، ففي البنغال مصانع على نمط كان معروفا في أواسط العصر الفكتوري تدفع أجورا على الأسلوب العتيق، مما يستدر الدموع في أعين المحافظين في البلاد الغربية ، وقد حل أصحاب رؤوس الأموال الهنود محل نظائرهم البريطانيين في كثير من الصناعات، وهم يستغلون بني وطنهم بنفس الجشع الذي كان يستغلهم به الأوربيون الذين يحملون عبء الرجل الأبيض .
ولم يتغير الأساس الاقتصادي في المجتمع الهندي دون أن يترك ذلك التغير أثره في النظم الاجتماعية وعادات الناس الخلقية، فنظام الطبقات كان وليد
صفحة رقم : 1068
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الهند وجيرانها -> خاتمة مسيحية -> الشرق والغرب

مجتمع زراعي راكد لا يتغير؛ وهو إن ضمن النظام فلا يتيح طريق الصمود للعبقري إذا ظهر في طبقة دنيا، ولا يفسح من مجال الطموح والأمل، ولا يحفز الناس على الابتكار والمغامرة؛ ولذا فقد قضى عليه بالفناء حين بلغت الثورة الصناعية شواطئ الهند؛ فالآلات لا احترام عندها للأشخاص، ففي معظم المصانع يعمل الناس جنبا إلى جنب بغير تميز الطبقات؛ والقطارات وعربات الترام تهيئ مكانا للجلوس أو للوقوف لكل من يدفع الأجر المطلوب والجمعيات التعاونية والأحزاب السياسية تضم كل المراتب في صعيد واحد؛وفي زحمة المسرح أو الطريق في المدينة،تتدافع المناكب بين البرهمي والمنبوذ فتنشأ بينهما زمالة لم تكن متوقعة؛ وقد أعلن أحد الراجات أن كل الطبقات والعقائد ستفتح لها أبواب قصره؛ وأصبح رجل من فئة "الشودرا" حاكماً مستنيراً لإقليم "بارودا" واستنكرت جمعية "براهما - سوماج" نظام الطبقات؛ وأيد "مؤتمر بنغال الإقليمي" التابع "للمؤتمر القومي" إلغاء الفوارق الطبقية كلها فوراً(36)، وهكذا تعمل الآلات على رفع طبقة جديدة رويدا رويدا إلى الثراء والقوة وتسدل الستار على طبقة أرستقراطية هي أقدم الطبقات الأرستقراطية القائمة اليوم.
وبالفعل فقدت الألفاظ المستعملة في التمييز بين الطبقات معانيها؛ فكلمة "فاسيا" تراها في الكتب اليوم، لكنك لا ترى لها مدلولاً في الحياة الواقعة؛ حتى كلمة "شودرا" قد اختفت في الشمال، بينما ظلت في الجنوب قائمة لكنها باتت لفظة تدل دلالة غامضة على كلٌ من ليس ببرهمي(37)؛ والواقع أن الطبقات الدنيا في سالف الأيام قد حل محلها ما يزيد على ثلاثة آلاف "طبقة" هي في الحقيقة نقابات: ممولون وتجار وصناع ومزارعون ومعلمون ومهندسون وبائعون جوابون وجزارون وحلاقون وسماكون وممثلون ومستخرجو الفحم، وغسالات وبائعات وحوذية وماسحو أحذية - هؤلاء تنتظمهم طبقات مهنية
صفحة رقم : 1069

قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الهند وجيرانها -> خاتمة مسيحية -> الشرق والغرب

تختلف عن نقابات العمال في أنه من المفهوم على نحو غامض أن الأبناء سيحترفون مهن آبائهم.
إن ما ينطوي عليه نظام الطبقات من مأساة عظمى هو أنه قد ضاعف على مر الأجيال من "المنبوذين" الذين ينخرون بعددهم المتزايد وثورة نفوسهم في قوائم النظام الاجتماعي الذي هم صنيعته؛ ويضم هؤلاء المنبوذين في صفوفهم كل من فرض عليهم الرق بسبب الحرب أو عدم الوفاء بالدين، ومن ولدوا عن زواج بين البراهمة وشودرات، ومن تعست حظوظهم بحيث قضى القانون البرهمي على مهنهم بأنها مما يحط بقيمة الإنسان كالكناسين والجزارين، والبهلوانات والحواة والجلادين(38)؛ ثم تضخم عددهم بسبب كثرة التناسل كثرة حمقاء تراها عند من لا يملك شيئاً يخاف على فقده؛ وقد بلغ بهم فقرهم المدقع حداً جعل نظافة الجسد والملبس والطعام بمثابة الترف الذي يستحيل عليهم أن ينعموا به، فيجتنبهم بنو وطنهم اجتنابا يمليه كل عقل سليم ، ولذلك تقتضي قوانين الطبقات على "المنبوذ" ألا يقترب من عضو في طبقة "الشودرا" بحيث تقل المسافة بينهما عن أربعة وعشرين قدما(40)، وإذا وقع ظلُّ "منبوذٍ" "رجل من طبقة الباريا" على رجل ينتمي إلى الطبقات الأخرى، كان على هذا الأخير أن يزيل عن نفسه النجاسة بغسل طهور؛ فكل ما يمسه المنبوذ، يصيبه الدنس بمسه إياه ، وفي كثير من أجزاء الهند لا يجوز
صفحة رقم : 1070
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الهند وجيرانها -> خاتمة مسيحية -> الشرق والغرب

للمنبوذ أن يستقي ماء من الآبار العامة، أو أن يدخل معابد البراهمة، أو أن يرسل أولاده إلى المدارس الهندوسية(42)، ولئن عملت السياسة البريطانية إلى حد ما على إفقار طبقة المنبوذين، فقد جاءتهم على الأقل بالمساواة مع غيرهم أمام القانون، وبحق الدخول - على قدم المساواة مع سائر الطبقات - في المدارس والكليات التي يقوم البريطانيون على إدارتها؛ وكان للحركة القومية،بتأثير غاندي، فضل كبير في الحد من الحوائل التي كانت تسد الطريق أمام المنبوذين؛ ويجوز ألا يأتي الجيل المقبل إلا وهم أحرار في الظاهر حرية تمس القشور.
وكذلك عمل دخول الصناعة والأفكار الغربية على زعزعة الأفكار القديمة التي كان يتمتع بها الرجل في الهند، فالانقلاب الصناعي يعمل على تأجيل سن الزواج، ويتطلب "حرية" المرأة، وأعني بذلك أن المرأة لا يمكن إغراؤها بالعمل في المصنع إلا إذا اقتنعت بأن الدار سجن، وأجاز لها القانون أن تدخر كسبها لنفسها؛ ولقد ترتب على هذا التحرير كثير من الإصلاحات الحقيقية جاءت عرضا،فحرم زواج الأطفال رسميا "سنة 1929م" برفع سن الزواج قانونا إلى الرابعة عشرة للفتيات والثامنة عشرة للفتيان(43) واختفت ظاهرة "السوتي" "أي دفن الزوجة التي مات زوجها حية" ، ويزداد زواج الأرامل كل يوم وتعدد الزوجات جائز قانونا ولكن لا يمارسه إلا قليلون(45) وإن رجاء السائحين ليخيب حين يجدون أن راقصات المعبد أوشكن على الانقراض، فالتقدم الأخلاقي في الهند يسير بخطوات سريعة لا يضارعها في سرعتها بلد آخر؛ فالحياة الصناعية في المدينة تخرج النساء من "البردة" حتى توشك ألا تجد ستًّا في كل مائة امرأة في الهند يقبلن اليوم أن يعشن وراء حجاب(46)؛ وفي الهند عدد من الصحف الدورية النسوية النابضة بالحياة تناقش فيها
صفحة رقم : 1071
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الهند وجيرانها -> خاتمة مسيحية -> الشرق والغرب

أحدث المشكلات، بل تكونت هناك جمعية لضبط النسل(47) واجهت بشجاعة أعقد مشكلة من مشكلات الهند - ألا وهي التناسل المطلق من كل قيد؛ والنساء في كثير من الأقاليم لهن حق التصويت، ويتولين المناصب السياسية، حتى لقد تولت امرأة رئاسة "المؤتمر القومي الهندي" مرتين، وكثيرات منهن قد حصلن على درجات جامعية واشتغلن طبيبات أو محاميات أو معلمات(48)، ولا شك أنه لا يمضي طويل وقت حتى ينقلب الوضع ويصير زمام الحكم بيد النساء؛ألسنا على حق إذا زعمنا أن الإثم الذي تراه في النداء التالي الذي يشتعل بالحماسة، والذي أصدره تابع من أتباع غاندي موجها إياه إلى نساء الهند، أقول ألسنا على حق إذا زعمنا أن الإثم في هذا النداء يرجع إلى أحد المؤثرات الغربية الجامحة؟
"انبذن (البردة) العتيقة! اخرجن مسرعات من المطابخ! اقذفن بالقدور والأواني مجلجلات في الأركان! مزقن الغشاء الذي ينسدل على عيونكن، وانظرن إلى العالم الجديد! قُلنَ لأزواجكن واخوتكن يطهوا طعامهم لأنفسهم، إن واجبات كثيرة في انتظاركن لأدائها حتى تصبح الهند أمة بين الأمم!"(49).

صفحة رقم : 1072
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الهند وجيرانها -> خاتمة مسيحية -> الحركة القومية

الفصل الخامس
الحركة القومية
الطلبة المستغربون - تحويل الشئون
الدينية إلى أمور دنيوية - المؤتمر الهندي القومي

كان عدد الطلبة الهنود الذين يدرسون في إنجلترا سنة 1923 يزيد على ألف، وربما كان عدد من يدرسون في أمريكا عندئذ مساوياً لذلك العدد، بل ربما كان هذا العدد كذلك يدرس في البلدان الأخرى؛ فدهشوا للحقوق التي يتمتع بها أحط المواطنين في أوربا الغربية وأمريكا؛ ودرسوا الثورتين الفرنسية والأمريكية، وقرأوا أدب الإصلاح والثورة، وأمعنوا أنظارهم في "قانون الحقوق" و"إعلان حقوق الإنسان" و"إعلان الاستقلال" و "الدستور الأمريكي" فعادوا إلى أوطانهم ليكوّنوا مراكز إشعاع للآراء الديمقراطية وإنجيلاً يبشر بالحرية؛ وقد اكتسبت هذه الآراء قوة لا تغْلب بسبب ما ظفر به الغرب من تقدم صناعي وعلمي، ونصر الحلفاء في الحرب؛ فلم يلبث هؤلاء الطلاب أن أخذوا يصيحون بالدعوة إلى الحرية؛ فقد تعلم الهنود حقوقهم في الحرية في مدارس إنجلترا وأمريكا.
ولم يقتصر المشارقة الذين تعلموا في الغرب على التقاط المثل العليا السياسية إبان تعلمهم خارج بلادهم، بل نفضوا عن أنفسهم كذلك الأفكار الدينية؛ فهاتان العمليتان مرتبطتان معاً في تراجم الأشخاص وتاريخ الأمم، جاء هؤلاء الطلاب إلى أوربا يعمر الدين قلوبَهم الشابة، يعتقدون في "كرشْنا" و "شيفا" و"فشنو" و "كالي" و "راما"... ثم مسّوا العلم، فإذا بعقائدهم القديمة قد تحطمت أشلاء كأنما نزلت بها نازلة ساحقة، ولما تجرد هؤلاء الهنود المستغربون
صفحة رقم : 1073
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الهند وجيرانها -> خاتمة مسيحية -> الحركة القومية

عن عقيدتهم الدينية التي هي روح الهند ولبابها، عادوا إلى وطنهم وقد زالت عن أعينهم الغشاوة التي كانت تزين القبيح، وسادهم الحزن، وسقط ألف إله أمام أعينهم من سمائهم صرعى ، فلم يكن بد من أن يتخيلوا "مدينة فاضلة على الأرض لتملأ مكان الفردوس السماوي الذي تحطم وحلت الديمقراطية محل "النرفانا" وأخذت الحرية مكان الله، فما جرى في أوربا في النصف الثاني من القرن الثامن عشر أخذ يجرى شبيهه الآن في الشرق.
ومع ذلك فالأفكار الجديدة أخذت تسير مجراها في خطوٍ وئيد، ففي سنة 1855 اجتمعت طائفة قليلة من زعماء الهنود في بمباي وأسسوا "المؤتمر الهندي القومي" لكن الظاهر أنهم لم يحلموا عندئذ حتى بمجرد الحكم الذاتي، وبعدئذ حاول "لوردكيرزن" أن يقسم البنغال (ومعنى ذلك أن يصيب أقوى جماعة هندية وأشدها وعياً سياسياً بالتفكك والضعف) فأثارت محاولته تلك جماعة الوطنيين بحيث تقدموا خطوة نحو الثورة، وفي المؤتمر المنعقد سنة 1905 طالب "تيلاك" في صلابة لاتين بـ "سواراج" وهذه كلمة اشتقها هو(50) من أصول سنسكريتية، ومعناها الحكم الذاتي (والكلمة الهندية قريبة لفظاً من العبارة الإنجليزية
self - rule )؛ وحدث في نفس ذلك العام المليء بالحوادث أن هزمت اليابان روسيا، وبدأ الشرق الذي لبث قرناً كاملاً يخشى صولة الغرب، بدأ يضع الخطة لتحرير آسيا، وتزعَّم "سَنْ يات سِنْ" الصين فجمع هؤلاء سيوفهم وارتموا في أحضان اليابان، أما الهند العزلاء من سلاحها، فقد أسلمت قيادها لزعيم هو من أغرب من شهد التاريخ من رجال، فضربوا للعالم مثلاً لم يسبق له مثيل، لثورة يقودها قديس، تثور ثائرتها بغير مدفع.

صفحة رقم : 1074
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الهند وجيرانها -> خاتمة مسيحية -> مهاتما غاندي

الفصل السادس
مهاتما غاندي
صورة قديس - الزاهد - المسيحي - تعليم
غاندي في إفريقيا - ثورة 1921 - "أنا الرجل" - أعوام

السجن - "الهند الفتاة" - ثورة المغزل - أعمال غاندي
صَوِّر نفسك أقبح وأضأل وأضعف رجل في آسيا، له وجه وجسد كأنما صيغا من البرونز رأسه الأشيب حليق الشعر حتى الجذور، عظمتا صدغيه بارزتان وعيناه البنيِّتان تشعان طيبة قلب، وفمه واسع يوشك أن يخلو من الأسنان، وأكبر من فمه أذناه، وأنفه ضخم، نحيل الذراعين والساقين، ادَّثرَ بثوب على ردفيه، صَوِّر لنفسك هذا الرجل واقفاً أمام قاض إنجليزي في الهند، متهَماً بتحريض قومه على "عدم التعاون"؛ أو صَوِّرْه جالساً على بساط صغير في غرفة عارية في مقره المسمى "سايا جراها شرام" - ومعناها "مدرسة طلاب الحقيقة" - في أحمد أباد، وقد ربَّع ساقيه النحيلتين تحت جسمه على نحو ما يفعل "اليوجي" وبطن القدمين إلى أعلى، ويداه لا تنفكان تعملان في عجلة المغزل ووجهه تغضَّن بتقلصات تنمّ عن عبء التبعة الذي حمله، وعقله نشيط الحركة مستعد بالجواب عن كل من يسأل سؤالاً عن الحرية؛ هذا النسَّاج العريان كان هو الزعيم الروحي والزعيم السياسي في آن معاً لأمة من الهنود بلغ عددها ثلاثمائة وعشرين مليوناً من الأنفس، وامتدت زعامته من 1920 إلى 1935 ، فإذا ما ظهر للناس، التفت حوله جماعات حاشدة لتتبرك بلمس ثيابه أو تقبيل قدميه(51).
صفحة رقم : 1075
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الهند وجيرانها -> خاتمة مسيحية -> مهاتما غاندي

كان ينفق كل يوم أربع ساعات في غزل "الخضّار" الخشن راجياً أن يسوق بنفسه للناس مثلاً يحتذونه فيستخدمون هذا القماش الساذج المغزول في داخل البلاد، بدل شرائهم منتجات المغازل البريطانية التي جاءت خراباً على صناعة النسيج في الهند؛ كان كل ما يملك ثلاثة أثواب غلاظ، اثنان يتخذهما لباساً، والثالث يتخذه فراشاً، وقد كان بادئ أمره محامياً غنياً، لكنه تنازل عن كل أملاكه للفقراء، ثم تبعته في ذلك زوجته بعد شيء من التردد نعهده في الأمهات؛ كان ينام على أرضية الغرفة عارية، أو على تربة الأرض، يعيش على البندق والموز والليمون والبرتقال والبلح والأرز ولبن الماعز(52)، وكثيراً ما كان يقضي الشهور متتابعات لا يأكل إلا اللبن والفاكهة، ولم يذق طعم اللحم إلا مرة واحدة في حياته، وكان حيناً بعد حين يمتنع عن الطعام إطلاقاً بضعة أسابيع وهو يقول: "لو استطعت أن استغني عن عينيّ، استطعت كذلك أن أستغني عن صيامي، فما تفعله العينان للدنيا الخارجية يفعله الصوم للدنيا الباطنية"(53) فقد كان يعتقد أنه كلما رق الدم صفا العقل وسقطت عنه النوازع التي تنحرف به عن جادة الطريق، بحيث تبرز أمامه الجوانب الأساسية - بل قد تبرز أمامه روح العالم وصميمه - بعد أن تنفض عنها الأعراض (واسمها مايا) كما يبرر إفرست خلال السحاب.
وفي نفس الوقت الذي كان يصوم فيه عن الطعام ليشهد الروح الإلهية، لم يفُته أن يحتفظ بإصبع من أصابع قدمه على الأرض، وكان ينصح أتباعه أن يحقنوا أنفسهم في الشرج مرة كل يوم إبان الصوم، حتى لا تتسمم أبدانهم بالإفرازات الحمضية التي يفرزها الجسد وهو يستهلك بعضه، وقد يصاب الجسد بهذا السم في نفس اللحظة التي يتاح فيها للإنسان أن يشهد الله(54).
ولما اقتتل المسلمون والهندوس، وأخذوا يصرعون بعضهم بعضاً مدفوعين بحماسة دينية، ولم يصيخوا إلى دعوته إياهم للسلام، صام ثلاثة أسابيع رجاء أن
صفحة رقم : 1076

قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الهند وجيرانها -> خاتمة مسيحية -> مهاتما غاندي

يحرك العطف في نفوسهم، ولقد أدى به الصيام والحرمان الذي كان يفرضه على نفسه، إلى ضعف وهزال، بحيث لم يكن بد من اعتلائه مقعداً مرفوعاً كلما أراد توجيه الخطاب للحشود العظيمة التي كانت تجتمع لتسمعه؛ ومدَّ زهده حتى شمل به نطاق العلاقة الجنسية، وأراد - كما أراد تولستوي - أن يحصر عملية الجماع فلا يلجأ إليها إلا إذا قصد إلى التناسل، وكان هو كذلك قد أنفق شبابه منغمساً في شهوات بدنه، حتى لقد جاءه نبأ موت أبيه وهو يحتضن إحدى الغانيات، أما في رجولته فقد عاد - والندم الشديد يأكل قلبه - إلى "براهما شاريا" التي لُقِّنَها في صباه - وهي الامتناع التام عن كل شهوة جسدية؛ وأقنع زوجته أن تعيش معه كما تعيش الأخت مع أخيها، وهو يروي لنا أنه "منذ ذلك الوقت بطل بيننا كل نزاع"(55).
ولما تبين له أن حاجة الهند الأساسية هي ضبط النسل، لم يصطنع في سبيل ذلك وسائل الغرب، بل اتبع طرائق "مالتوس" و "تولستوي".
"أنكون على صواب إذا ما نسلنا الأطفال ونحن نعلم حقيقة الموقف؟ إننا لا نفعل سوى أن نضاعف عدد العبيد والمقعدين، إذا مضينا في التكاثر بغير أن نتخذ إزاءه شيئاً من الحيطة... لن يكون لنا حق النسل إلا إذا أصبحت الهند أمة حرة ... ليس إلى الشك عندي من سبيل في أن المتزوجين إذا أرادوا الخير بأمتهم وأرادوا للهند أن تصبح أمة من رجال ونساء أقوياء وسيمين ذوي أبدان جميلة التكوين، كان واجبهم أن يكبحوا جماح أنفسهم ويوقفوا النسل مؤقتاً(56).
وإلى جانب هذه العناصر في تكوين شخصيته، كان يتصف بخلال عجيبة الشبه بتلك الخلال التي يقال إنها كانت تميز "مؤسس المسيحية"؛ إنه لم يَفُه باسم المسيح، ولكنه مع ذلك كان يسلك في حياته كما لو كان يأخذ بكل كلمة مما جاء في "موعظة الجبل"؛ فلم يعرف التاريخ منذ القديس فرنسيس
صفحة رقم : 1077

قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الهند وجيرانها -> خاتمة مسيحية -> مهاتما غاندي

الأسيسي رجلاً اتصفت حياته بمثل ما اتصفت به حياة غاندي من وداعة وبُعْد عن الهوى وسذاجة وعفو عن الأعداء؛ وإنه لمما يذكر حسنةً لمعارضيه، لكنها حسنة أكبر بالنسبة له هو، أن حسن معاملته لهم- ولم يكن ذلك محل مقاومة منهم- قد استثار فيهم معاملة حسنة له من جانبهم؛ فلما أرسلته الحكومة إلى السجن، فعلت ذلك مصحوباً بفيض من الاعتذارات، ولم يبد هو قط شيئاً من حقد أو كراهية؛ وقد هجم الغوغاء عليه ثلاث مرات، وضربوه ضرباً كاد يودي بحياته لكنه لم يردَّ العدوان بعدوان مثله أبداً، ولما قبض على أحد المعتدين عليه، أبى أن يتوجه إليه بالاتهام.
ولم يلبث بعد ذلك أن نشبت بين المسلمين والهندوس أفظع ما نشب بينهم من فتن، وذلك حين ذبح مسلمو "موبلا" مئات من الهندوس العزَّل، وقدموا "غلفاتهم" لله قرباناً، ثم حدث لهؤلاء المسلمين أنفسهم أن أصابتهم المجاعة، فجمع لهم غاندي أموالاً من أرجاء الهند كلها، وقدم كل المال المجموع، بغير نظر إلى السوابق، وبغير أن يستقطع منه جزءاً لأحد ممن قاموا بجمعه، قَدَّمه للعدو الجائع(57).
ولد "موهانداس كارام شاند غاندي" سند 1869، وتنتمي أسرته إلى طبقة "فاسيا" وإلى المذهب الجانتي ومن مبادئها التي مارستها مبدأ "أهِمْسا" وهو ألا ينزل أحد الأذى بكائن حي، وكان أبوه أدرياً قادراً، لكنه كان من زنادقة الممولين، فقد فقدَ منصباً في إثر منصب بسبب أمانته، وأنفق ماله كله تقريباً في سبيل الإحسان، وترك ما تبقى منه لأسرته(58) ولما كان "موهانداس" في صباه أنكر الآلهة إذ أساء إلى نفسه أن يرى أعمال الدعارة ماثلة في بعض آلهة الهندوس، ولكي يعلن ازدراءه للدين ازدراء أبدياً، أكل اللحم، لكن أكل اللحم أضرَّ بصحته، فعاد إلى حظيرة الدين.
ولما بلغ الثامنة خطب عروسه، وفي الثانية عشرة تزوج منها وهي
صفحة رقم : 1078

قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الهند وجيرانها -> خاتمة مسيحية -> مهاتما غاندي

"كاستورباي" التي ظلت على وفائها له خلال مغامراته كلها وغناه وفقره وسجنه وما تعرض له من "براهما شاريا" (أي اعتزام العفة الجنسية)؛ وفي سن الثامنة عشرة نجح في امتحانات الدخول في الجامعة، وسافر إلى لندن ليدرس القانون، ولما كان في السنة الأولى هناك، قرأ ثمانين كتاباً عن المسيحية؛ وقال عن "موعظة الجبل" "إنها غاصت إلى سويداء قلبي عند قراءتها للمرة الأولى"(59) واعتبر مبدأها بأن يُرَدَّ الشر بالخير وأن يحب الإنسان كل الناس حتى الأعداء، أسمى ما يعبر عن المثل الأعلى الإنساني، وصمم على أن يؤثر الفشل بهذه المبادئ على النجاح بغيرها.
ولما عاد إلى الهند سنة 1891 مارس المحاماة حيناً في بمباي؛ فكان يرفض أن يتهم أحد من أجل دينه، ويحتفظ لنفسه دائماً بحق ترك القضية إذا ما وجد أنها تتنافى مع العدل؛ وقد أدت به إحدى القضايا إلى السفر إلى جنوبي أفريقيا، فوجد بني قومه هناك يلاقون من سوء المعاملة ما أنساه العودة إلى الهند، واتجه بجهده كله - بغير أجر - إلى قضية بني وطنه في أفريقيا ليزيل عنهم ما كان يصفدهم هناك من أغلال؛ ولبث عشرين عاماً يجاهد للوصول إلى هذه الغاية حتى سلمت له الحكومة بمطالبه، وعندئذ فقط عاد إلى أرض الوطن.
وكان طريق سفره بحيث يخترق الهند، فتبين للمرة الأولى فقر الناس فقراً مدقعاً، وأفزعته الهياكل العظمية التي شهدها تكدح في الحقول، والمنبوذون الوضيعون الذين كانوا يعملون أقذر الأعمال في المدن؛ وخيل أن ما يلاقيه بنو وطنه في الخارج من ازدراء، إن هو إلا إحدى نتائج فقرهم وذلهم في أرض وطنهم، ورغم ذلك فقد أخلص الولاء لإنجلترا بتأييدها إبان الحرب، بل دافع عن وجوب انخراط الهنود في سلك الجيش المحارب. إن كانوا ممن لم يقبلوا مبدأ الإقلاع عن العنف؛ ولم يوافق- عندئذ - أولئك الذين ينادون بالاستقلال
صفحة رقم : 1079

قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الهند وجيرانها -> خاتمة مسيحية -> مهاتما غاندي

وآمن بأن سوء الحكم البريطاني في الهند كان شذوذا ً في القاعدة، أما القاعدة فهي أن الحكم البريطاني بصفة عامة حكم جيد، وأن سوء الحكومة البريطانية في الهند لا يرجع إلا إلى عدم اتباعها لمبادئ الحكم السائدة في الحكومة البريطانية في بريطانيا نفسها، وأنه لو أفهم الشعب البريطاني قضية الهنود، تردد في قبولهم على أساس الإخاء التام في مجموعة الأجزاء الحرة من الإمبراطورية واعتقد أنه إذا ما وضعت الحرب أوزارها وحسبت بريطانيا ما ضحت به الهند(60) في سبيل الإمبراطورية من رجال ومال، لما ترددت في منحها حريتها.
لكن الحرب وضعت أوزارها، وتحرك الشعب مطالباً "بالحكم الذاتي"، فصدرت "قوانين رولَنْد" وقضت على حرية الكلام والنشر، بإنشائها تشريعاً عاجزاً للإصلاح يسمى "مونتاجو - شلمز فورد" ثم جاءت مذبحة "أمرِتْسار" فأجهزت على البقية الباقية؛ ونزلت الصدمة قوية على غاندي. فقرر من فوره عملاً حاسماً، من ذلك أنه أعاد لنائب الملك الأوسمة التي كان قد ظفر بها من الحكومات البريطانية في أوقات مختلفة، ووجه الدعوة إلى الهند لتقف من الحكومة الهندية موقف العصيان المدني، واستجاب الشعب لدعوته، لا بالمقاومة السلمية كما طلب إليهم، بل بالعنف وإراقة الدماء، ففي بمباي مثلاً قتلوا ثلاثة وخمسين من "الفارْسيين" المناهضين للحركة القومية(61)، ولما كان غاندي يعتنق مذهب "الأهِمْسا" - أي الامتناع عن قتل الكائنات الحية بكافة أنواعها - فقد بعث للناس برسالة أخرى دعاهم فيها إلى إرجاء حملة العصيان المدني، على أساس أنها تتدهور في طريقها إلى أن تكون حكم الغوغاء فقلما تجد في التاريخ رجلاً أبدى من الشجاعة أكثر مما أبداه غاندي في الاستمساك بالمبدأ في سلوكه، مزدرياً ما تمليه الضرورة العملية للوصول إلى الغايات، وغير آبه بحلوله من قلوب الناس منزلة عالية، فدهشت الأمة

صفحة رقم : 1080
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الهند وجيرانها -> خاتمة مسيحية -> مهاتما غاندي

لقراره، لأنها ظنت أنها كادت تبلغ غايتها، ولم توافق غاندي على أن الوسائل قد يكون لها من الأهمية ما للغاية المنشودة، ومن ثم هبطت سمعة المهاتما حتى بلغت أدنى درجات جَزْرها.
وفي هذه اللحظة نفسها (في مارس سنة 1922) قررت الحكومة القبض عليه، فلما توجه إليه النائب العام بتهمة إثارة الناس بمنشوراته، حتى اقترفوا ما اقترفوه من ألوان العنف في ثورة 1921، أجابه غاندي بعبارة رفعتْه فوراً إلى ذروة الشرف، إذ قال:
"أحب أن أؤيد ما ألقاه النائب العام العلاّمة على كتفي من لوم فيما يخص الحوادث التي وقعت في بمباي ومدراس وشاوري شاورا؛ لأنني إذا ما فكرت في هذه الحوادث تفكيراً عميقاً، وتدبرت أمرها ليلة بعد ليلة، تبين لي أنه من المستحيل علي أن أتخلى عن هذه الجرائم الشيطانية... إن النائب العام العلاَّمة على حق لا شبهة فيه حين يقول إنني باعتباري رجلاً مسئولاً، وباعتباري كذلك رجلاً قد ظفر بقسط من التعليم لا بأس به... كان ينبغي علي أن أعرف النتائج التي تترتب على كل فعل من أفعالي؛ لقد كنت أعلم أنني ألعب بالنار، وأقدمت على المغامرة، ولو أطلق سراحي لأعدتُ من جديد ما فعلته؛ إني أحسست هذا الصباح أنني أفشل في أداء واجبي إذا لم أقل ما أقوله هنا الآن.

أردت أن أجتنب العنف، وما زلت أريد اجتناب العنف، فاجتناب العنف هو المادة الأولى في قائمة إيماني، وهو كذلك المادة الأخيرة، من مواد عقيدتي؛ لكن لم يكن لي بد من الاختيار، فإما أن أخضع لنظام الحكم الذي هو في رأيي قد ألحق ببلادي ضرراً يستحيل إصلاحه، وإما أن أتعرض للخطر الناشئ عن ثورة بني وطني ثورة غاضبة هوجاء ينفجر بركانها إذا ما عرفوا حقيقة الأمر من بين شفتي، إني لأعلم أن بني وطني قد جاوزوا حدود المعقول أحياناً، وإني لآسف لهذا أسفاً شديداً، ولذلك فأنا واقف هاهنا لأتقبل، لا أخف ما تفرضونه من عقوبة، بل أقسى ما تنزلونه من عقاب؛ إنني
صفحة رقم : 1081
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الهند وجيرانها -> خاتمة مسيحية -> مهاتما غاندي

لا أطلب الرحمة، ولا أتوسل إليكم أن تخففوا عني العقاب، إنني هنا - إذن - لأرحب وأتقبل راضياً أقسى عقوبة يمكن معاقبتي بها على ما يعدّه القانون جريمة مقصودة، وما يبدو لي أنه أسمى ما يجب على المواطن أداؤه(62).
وعبر القاضي عن عميق أسفه لاضطراره أن يزج في السجن برجل يعدُّه الملايين من بني وطنه "وطنياً عظيماً وقائداً عظيماً" واعترف بأنه حتى أولئك الذين لا يأخذون بوجهة نظر غاندي، ينظرون إليه نظرتهم إلى "رجل ذي مثل عليا وحياة شريفة بل إن حياته لتتصف بما تتصف به حياة القديسين"(63) وحكم عليه بالسجن ست سنوات.

سُجنَ غاندي سجناً منفرداً لكنه لم يتألم، وكتب يقول "لست أرى أحداً من المسجونين الأخرين، ولو أنني في الحق لا أدري كيف يمكن أن يأتيهم الضرر من صحبتي لكني أشعر بالسعادة، إني أحب العزلة بطبيعتي، وأحب الهدوء، ولديّ الآن فرصة سانحة لأدرس موضوعات لم يكن لي بد من إهمالها في العالم الخارجي(64) وراح يعلم نفسه بما يزيد من ثورته في كتابات "بيكن" و "كارلايل" و "رسْكُن" و "إمرسن" و"ثورو" و "تولستوي، وسرّى عن نفسه كروبها مدى ساعات طوال بقراءته لـ "بن جونْسن" و "وولترسكُتْ" وقرأ "بها جافاد جيتا" مراراً، ودرس السنسكريتية والتامِليَّة والأردية، حتى لا يقتصر على الكتابة للعلماء، بل ليستطيع كذلك أن يتحدث إلى الجماهير، ولقد أعدَّ لنفسه برنامجاً مفصلاً لدراساته خلال الستة الأعوام التي سيقضيها في سجنه، وكان أميناً في تنفيذ ذلك البرنامج، حتى تدخلت الحوادث في تغيير مجراه، "لقد كنت أجلس إلى كتبي بنشوة الشاب وهو في الرابعة والعشرين، ناسياً أني قد بلغت من العمر أربعة وخمسين وأني عليل "(65).
صفحة رقم : 1082
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الهند وجيرانها -> خاتمة مسيحية -> مهاتما غاندي

كان مرضه "بالمصران الأعور" طريق خلاصه من السجن، كما كان الطب الغربي الذي طالما أنكره، طريق نجاته من المرض؛ وتجمع عند بوابات السجن حشد كبير لتحيته عند خروجه وقبَّل كثيرون منهم ثوبه الغليظ وهو ماضٍ في طريقه؛ لكنه اجتنب السياسة وتوارى عن أنظار الشعب، وعني بضعف بنيته ومرضه، وأوى إلى مدرسته في أحمد أباد حيث أنفق أعواماً طوالاً مع طلابه في عزلة هادئة؛ ومع ذلك فقد أخذ يرسل من مَكْمنه ذاك كل أسبوع بمقال افتتاحي تنشره له الجريدة التي كانت لسان حاله، وهي جريدة "الهند الفتاة" وجعل يبسط في تلك المقالات فلسفته عن الثورة والحياة؛ والتمس من أتباعه أن يجتنبوا أعمال العنف، لا لأن العنف بمثابة الانتحار للهند فقط، ما دامت الهند عزلاء من السلاح، بل لأنه كذلك سيضع استبداداً مكان استبداد آخر؛ وقال لهم: "إن التاريخ ليعلمنا أن أولئك الذين دفعتهم الدوافع الشريفة إلى اقتلاع أصحاب الجشع باستخدام القوة الغشوم، أصبحوا بدورهم فريسة لنفس المرض الذي كان يصيب أعداءهم المهزومين... إن اهتمامي بحرية الهند سيزول لو رأيتها تصطنع لحريتها وسائل العنف، لأن الثمرة التي تجنيها من تلك الوسائل لن تكون الحرية، بل ستكون هي الاستعباد"(66).

وثاني العناصر في عقيدته هو رفضه القاطع للصناعة الحديثة، ودعوته التي تشبه دعوة روسو في سبيل العودة إلى الحياة الساذجة، حياة الزراعة والصناعة المنزلية في القرى، فقد خيل لغاندي أن حبس الرجال والنساء في مصانع، يعملون - بآلات يملكها سواهم - أجزاء من مصنوعات لن يتاح لهم قط أن يروها وهي كاملة، طريقة ملتوية لشراء دمية الإنسان تحت هرم من سلع بالية، ففي رأيه أن معظم ما تنتجه الآلات لا ضرورة له. والعمل الذي يوفره استخدام الآلات في الصناعة يعود فيستهلك في صنعها وإصلاحها، أو إن كان هناك عمل قد ادخرته الآلات فعلاً، فليس هو من صالح العمل نفسه، بل من صالح رؤوس الأموال، فكأنما الأيدي العاملة تقذف بنفسها بسبب
صفحة رقم : 1083
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الهند وجيرانها -> خاتمة مسيحية -> مهاتما غاندي

إنتاجها في حياة يسودها الذعر لما يملؤها من "تعطل ناشئ عن الأساليب العلمية في الصناعة"(67) ولذلك عمل على إحياء حركة "سواديشي" التي حمل لواءها "تيلاك" سنة 1905، وأضيف مبدأ "الإنتاج الذاتي" إلى مبدأ "سواراج" أي "الحكم الذاتي"، وجعل غاندي استخدام "الشاركا" - أي عجلة الغزْل - مقياساً للتشيع المخلص للحركة القومية وطالب كل هندي، حتى أغناهم، بأن يلبس ثياباً من غزْل البلاد، وأن يقاطع المنسوجات البريطانية الآنية، حتى يتسنى للدور في الهند أن تطنَّ من جديد في فصل الشتاء الممل بصوت المغازل وهي تدور بعجلاتها(68).

لكن الناس لم يستجيبوا بأجمعهم لدعوته، لأنه من العسير أن توقف التاريخ عن مجراه، ومع ذلك فقد حاولت الهند على كل حال أن تستجيب لدعوته، فكنت ترى الطلبة الهنود في كل أرجاء الأرض كلها يرتدون "الخضَّار"؛ ولم تعد سيدات الطبقة العالية يلبسن "الساري" من الحرير الياباني، بل استبدلن به ثياباً خشنة من نسيج أيديهن وجعلت العاهرات في مواخيرهن والمجرمون في سجونهم يغزلون، وأقيمت المحافل الكبرى في المدن كثيرة كما كان يحدث في عهد "سافونا رولا" - حيث جاء الهنود الأغنياء والتجار بما كان في دورهم أو في مخازنهم من المنسوجات الواردة من الخارج، فألقوا بها في النار، ففي بمباي وحدها، أكلت ألسنة اللهب مائة وخمسين ألف ثوب من القماش(69).
ولئن فشلت هذه الحركة التي قصدت إلى نبذ الصناعة؛ فقد هيأت للهند مدى عشرة أعوام رمزاً للثورة، وعملت على تركيز ملايينها الصامتة في اتحاد جديد من الوعي السياسي، وارتابت الهند في قيمة الوسيلة لكنها أكبرت الغاية المنشودة؛ فإذا كانت قد تزعزعت ثقتها بغاندي السياسي فقد أحلت في سويداء قلبها غاندي القديس، وأصبحت الهند كلها لحظة من الزمن بمثابة الرجل الواحد وذلك باتحادها في إكباره، فكما يقول عنه طاغور:
"إنه وقف على أعتاب آلاف الأكواخ التي يسكنها الفقراء ولبس ثياباً
صفحة رقم : 1084
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الهند وجيرانها -> خاتمة مسيحية -> مهاتما غاندي

كثيابهم، وتحدث إليهم بلغتهم، ففيه تجسدت آخر الأمر حقيقة حية، ولم يعد الأمر اقتباساً يستخرج من بطون الكتب: ولهذا السبب كان اسم "مهاتما" - وهو الاسم الذي أطلقه عليه الشعب - هو اسمه الحق، فمن سواه قد شعر شعوره بأن الهند أجمعين هم لحمه ودمه؟.. فلما جاء الحب وطرق باب الهند، فتحت له الهند بابها على مصراعيه... لقد ازدهرت الهند لدعوة غاندي ازدهاراً يؤدي بها إلى عظمة جديدة، كما ازدهرت مرة سبقت في الأيام السوالف، حين أعلن بوذا صدق الإخاء والرحمة بين الكائنات الحية جميعاً(70).
لقد كانت رسالة غاندي أن يوحّد الهند وقد أدى رسالته؛ وهناك رسالات أخرى تنتظر رجالاً آخرين.

صفحة رقم : 1085
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الهند وجيرانها -> خاتمة مسيحية -> كلمة وداع للهند

الفصل السابع
كلمة وداع الهند

لسنا نستطيع أن نختم الحديث في تاريخ الهند على نحو ما نختمه في تاريخ مصر أو بابل أو أشور، لأن تاريخ الهند لا يزال في دور تكوينه، ومدنيتها لا تزال في طور إبداعها، لقد دبت الحياة من جديد في الهند من الوجهة الثقافية باتصالها بالغرب اتصالاً عقلياً، حتى لترى أدبها اليوم في خصوبة شتى الآداب في البلاد الأخرى، وأما من الوجهة الروحية، فهي ما تزال تكافح الخرافة والإسراف في بضاعتها اللاهوتية، ولكننا لا نستطيع التنبؤ بالسرعة التي تستطيع بها أحماض العلم الحديث أن تذيب آلهتهم التي تزيد عن حاجتهم، ومن الوجهة السياسية شهدت الهند في المائة سنة الأخيرة وحدة لم تشهد لها مثيلاً فيما مضى إلا نادراً، ويرجع ذلك إلى حد ما إلى توحيد الحكومة الأجنبية القائمة عليهم، وإلى حد ما إلى توحيد اللغة الأجنبية التي يتكلمونها، ولكنه يرجع فوق هذا وذلك إلى اتحادهم في الطموح إلى الحرية طموحاً صهرهم في وحدة متماسكة، ومن الوجهة الاقتصادية تنتقل الهند الآن من حياة العصور الوسطى إلى حياة الصناعة الحديثة بما في هذا الانتقال من حسنات وسيئات، وستنمو ثروتها وتزداد تجارتها، نمواً وازدياداً يؤهلانها بغير شك إلى أن تكون قبل نهاية هذا القرن بين دول العالم الكبرى.
وليس في وسعنا أن نزعم أن هذه المدنيَّة قد أفادت مدنيتنا إفادة مباشرة، كما استطعنا أن نتعقب بعض جوانب مدنيتنا إلى أصولها في مصر أو الشرق الأدنى، ذلك لأن مصر والشرق الأدنى كانا السَّلَفَيْن المباشرين لثقافتنا، بينما تدفن تاريخ الهند والصين واليابان في مجرى آخر، وهو آخذ لتوه اليوم في مس تيار
صفحة رقم : 1086
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الهند وجيرانها -> خاتمة مسيحية -> كلمة وداع للهند

الحياة العربية والتأثير فيه؛ إنه على الرغم من حيلولة حاجز الهملايا، قد استطاعت الهند أن تبعث إلينا عَبْرَ تلك الجبال طائفة من ألوان التراث المشكوك فيه، مثل النحو والمنطق والفلسفة والحكايات الخرافية والتنويم المغناطيسي والشطرنج، وفوق هذا كله، بعثت إلينا أرقامنا التي نستعملها في الحساب ونظامنا العشري؛ لكن هذه ليست صفوة روحها، وهي توافه إذا قيست إلى ما قد نتعلمه منها في مقبل الأيام؛ فبينما تعمل الاختراعات والصناعة والتجارة على ربط القارات بعضها ببعض، أو بينما تعمل هذه العوامل على بث روح الشقاق بيننا وبين آسيا، فسيتاح لنا في أي من الحالتين أن ندرس مدنيتها عن كثب أكثر من ذي قبل، وسنمتصُّ - حتى في حالة قيام الخصومة بيننا - بعض أساليبها وأفكارها؛ فربما علمتنا الهند مقابل ما لقيتْه على أيدينا من فتح وعنجهية واستغلال، التسامح والوداعة اللذين يتصف بهما العقل الناضج، والقناعة المطمئنة التي تتميز بها النفس إذا كفت عن الجشع في جمع المال، وهدوء الروح البصيرة بحقائق الوجود، وحب الكائنات الحية جميعاً، الذي من شأنه أن يبث في الناس اتحاداً وسلاماً.

صفحة رقم : 1087
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأقصى -> الصين -> عصر الفلاسفة -> نشأة الفلسفة -> قدر الصينيين

الكتاب الثالث
الشرق الأقصى
الصين
الباب الثالث والعشرون
عصر الفلاسفة
الفصل الأول
نشأة الفلسفة
1- قدر الصينيين

لقد كانت دراسة بلاد الصين عملاً من الأعمال المجيدة التي تمت في عصر الاستنارة وقد قال فيهم ديدرو: "أولئك قوم يفوقون كل من عداهم من الأسيويين في قدم عهدهم، وفي فنونهم، وعقليتهم، وحكمتهم وحسن سياستهم، وفي تذوقهم للفلسفة، بل إنهم في رأي بعض المؤلفين ليضارعون في هذه الأمور كلها أرقى الشعوب الأوربية وأعظمها استنارة". وقال فلتير Voltaire: "لقد دامت هذه الإمبراطورية أربعة آلاف عام دون أن يطرأ عليها تغير يذكر في القوانين، أو العادات، أو اللغة، أو في أزياء الأهلين... وإن نظام هذه الإمبراطورية لهو في الحق خير ما شهده العالم من نظم ". وهذا الإجلال الذي ينظر به علماء ذلك الوقت إلى بلاد الصين قد حققته دراستنا لتلك البلاد عن كثب، والذين خبروا تلك البلاد وعرفوها حق المعرفة قد بلغ اعجابهم بها غايته. انظر إلى ما قاله الكونت كيسرلنج Count Keyserling في خاتمة كتاب له يعد من أغزر الكتب علما وأعظمها نفعا وأبرعها تصويراً:
صفحة رقم : 1088
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأقصى -> الصين -> عصر الفلاسفة -> نشأة الفلسفة -> قدر الصينيين

"لقد أخرجت الصين القديمة أكمل صورة من صور الإنسانية. وكانت فيها صور مألوفة عادية... وأنشأت أعلى ثقافة عامة عرفت في العالم كله... وإن عظمة الصين لتتملكني وتؤثر قيّ كل يوم أكثر من الذي قبله... وإن عظماء تلك البلاد لأرقى ثقافة من عظماء بلادنا... وإن أولئك السادة لهم طراز سام من البشر... وسموهم هذا هو الذي يأخذ بلبي... إن تحية الصيني المثقف لتبلغ حد الكمال!. وليس ثمة من يجادل في تفوق الصين في كل شأن من شئون الحياة... ولعل الرجل الصيني أعمق رجال العالم على بكرة أبيهم".

والصينيون لا يهتمون كثيراً بإنكار هذه الأقوال، وقد ظلوا حتى هذا القرن )ماعدا نفراً قليلاً في الوقت الحاضر( مجمعين على أن أهل أوربا وأمريكا برابرة همج. وكان من عادة الصينيين قبل سنة 1860 أن يترجموا لفظ " أجنبي " في وثائقهم الرسمية باللفظ المقابل لهمجي أو بربري، وكان لا بد للبرابرة أن يشترطوا على الصينيين في معاهدة رسمية إصلاح هذه الترجمة . والصينيون كمعظم شعوب الارض "يرون أنهم أعظم الامم مدنية وأرقهم طباعاً". ولعلهم محقون في زعمهم هذا رغم ما في بلادهم من فساد وفوضى من الناحية السياسية، ورغم تأخرهم في العلوم، وكدحهم في المصانع، ومدنهم الكريهة الرائحة، وحقولهم الملأى بالاقذار، وفيضان أنهارهم، وما ينتاب بلادهم من القحط، ورغم جمودهم وقسوتهم وفقرهم وخرافاتهم، وقلة عنايتهم بتربية ابنائهم، وحروبهم
صفحة رقم : 1089
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأقصى -> الصين -> عصر الفلاسفة -> نشأة الفلسفة -> قدر الصينيين

المدمرة، ومذابحهم وهزائمهم المذلة. ذلك أن ما وراء هذا المظهر المظلم الذي يبدو الآن لعين الغريب عن بلادهم مدنية من أقدم المدنيات القائمة في العالم وأغناها: فمن ورائه تقاليد قديمة في الشعر، يرجع عهدها إلى عام 1700 ق. م، وسجل حافل بالفلسفة الواقعية المثالية العميقة غير المعجزة الدرك، ومن ورائه براعة في صناعة الخزف والنقش لا مثيل لها من نوعها، واتقان مع يسر لجميع الفنون الصغرى لا يضارعهم فيه الا اليابانيون، وأخلاق قويمة قوية لم نر لها نظيراً عند شعوب العالم في أي وقت من الأوقات، ونظام اجتماعي ضم عدداً من الخلائق أكثر مما ضمه أي نظام آخر عرف في التارخ كله ودام أحقابا لم يدمها غيره من النظم، ظل قائما حتى قضت عليه الثورة ويكاد ان يكون هو المثل الاعلى للنظم الحكومية التي يدعو اليها الفلاسفة؛ ومجتمع كان راقيا متمدنا حين كانت بلاد اليونان مسكن البرابرة؛ شهد قيام بابل وآشور؛ وبلاد الفرس واليهود، وأثينة ورومة والبندقية وأسبانيا، ثم شهد سقوطها كلها، وقد يبقى بعد أن تعود بلاد البلقان التي نسميها أوربا إلى ما كانت عليه من جهالة وهمجية. ترى أي سر عجيب أبقى هذا النظام الحكومي تلك القرون الطوال، وحرك هذه اليد الفنية الصناع، وأوحى إلى نفوس اولئك القوم ذينك العمق والاتزان؟

صفحة رقم : 1090
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأقصى -> الصين -> عصر الفلاسفة -> نشأة الفلسفة -> الدولة الوسطى الزاهرة

2- الدولة الوسطى الزاهرة
وصف البلاد الجغرافي - الجنس الصيني - ما قبل التاريخ

إذا عددنا الروسيا بلادا أسيوية- وقد كانت كذلك إلى أيام بطرس الأكبر وقد تعود أسيوية مرة أخرى- لم تكن أوربا الا أنفا مسننا في جسم آسية، وامتدادا يشتغل بالصناعة من خلفه قارة زراعية كبيرة، ومخالب أو نتوءات ممتدة من قارة جبارة مهولة. وتشرف الصين على تلك القارة المترامية الأطراف، وهي لا تقل عن أوربا في اتساع رقعتها وتعداد عامرها.
صفحة رقم : 1091
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأقصى -> الصين -> عصر الفلاسفة -> نشأة الفلسفة -> الدولة الوسطى الزاهرة

وقد كان يكتنفها في معظم مراحل تاريخها أكبر المحيطات وأعلى الجبال، وصحراء من أوسع صحارى العالم.

لذلك استمتعت بلاد الصين بعزلة كانت هي السبب في حظها النسبي من السلامة والدوام، والركود وعدم التغيير، وهو حظ كبير اذا قيس إلى حظ غيرها من الامم. ومن أجل هذا فان الصينيين لم يسموا بلادهم- الصين، بل سموها تيان- هوا- "تحت السماء " أو زهاي- "بين البحار الاربعة"-أو جونج- جوو "الدولة الوسطى"- أو جونج- هوا- جوو- "الدولة الوسطى الزاهرة" أو الاسم الذي سماها به مرسوم الثورة جونج- هوا- مين- جوو- "مملكة الشعب الوسطى الزاهرة". والحق ان الازهار اليانعة كثيرة فيها، كما ان فيها كل المناظر الطبيعية المختلفة التي يمكن ان تهبها اياها الشمس الساطعة، والسحب السابحة، وشعاب الجبال الوعرة، والانهار العظيمة، والاغوار العميقة، والشلالات الدافقة بين التلال العابسة. ويجري في قسمها الجنوبي الخصيب نهر يانج- دزه الذي يبلغ طوله ثلاثة آلاف ميل، وفي الشمال يتحدر الهوانج هو، أو النهر الأصفر من سلاسل الجبال الغربية مخترقا سهولا من اللويس، ويحمل معه الغرين ليصبه الآن في خليج بتشيلي، وكان من قبل يصبه في البحر الاصفر، ولعله سيعود في الغد فيصبه في هذا البحر مرة أخرى. على ضفاف هذين النهرين وعلى ضفتي نهر الواي وغيره من المجاري الواسعة، بدأت الحضارة الصينية تنتزع الارض من الوحوش والآجام، وتصد عنها الهمج المحيطين بها، وتنظف الارض من الحسك والعليق، وتطهرها من الحشرات المهلكة والرواسب الأكالة القارضة كأملاح البوتاسا وغيرها. وتجفف المناقع، وتقاوم الجفاف والفيضان، وما يطرأ على مجاري الأنهار
صفحة رقم : 1092
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأقصى -> الصين -> عصر الفلاسفة -> نشأة الفلسفة -> الدولة الوسطى الزاهرة

من تحول يعود على البلاد وسكانها بالخراب والهلاك، وتجري الماء في صبر وحذر من اولئك الاعداء الأوداء في آلاف القنوات، وتقيم يوما بعد يوم خلال القرون الطوال أكواخا وبيوتا ومعابد ومدارس وقرى ومدنا ودولا. ألا ما أطول الآجال التي يكد الناس خلالها ليشيدوا صرح الحضارة التي يدمرونها في سهولة وسرعة عجيبتين!
وليس في الناس من يعرف من أين جاء الصينيون، أو إلى أي جنس ينتسبون، أو متى بدأت حضارتهم في الزمن القديم. وكل ما نستطيع أن نقوله واثقين أن بقايا "انسان بيكين" توحي بأن القردة البشرية جد قديمة في بلاد الصين. وقد استنتج أندروز
Andrews من بحوثه في تلك البلاد أن منغوليا كان يعمرها من عشرين ألف سنة قبل الميلاد أجيال من الناس تشبه أدواتهم الأدوات "الأزيلية" التي كانت أوربا تستخدمها في العصر الحجري الأوسط، وأن خلفاء هذه الاجيال انتشروا في سيبيريا والصين حينما جفت منغوليا الجنوبية وأجدبت واستحالت إلى صحراء جوبي الحالية. وتدل كشوف أندرسن Anderson وغيره في هونان ومنشوريا الجنوبية على أن ثقافة تنتسب إلى العصر الحجري الحديث وجدت في تلك البلاد متأخرة بألفي عام من مثيلتها في عصر ما قبل التاريخ في مصر وسومر. ويشبه بعض ما وجد من الادوات في الرواسب الباقية من العصر الحجري الحديث، في شكله وتسنينه، المدى الحديدي التي يستخدمها سكان الصين الشمالية في هذه الايام لحصاد الذرة الصينية ، وهذه الحقيقة على ضآلة شأنها ترجح القول بأن الثقافة الصينية قد دامت سبعة آلاف عام متواصلة غير منقطعة، وهو عهد ما أطوله، وقل أن يوجد له في غير الصين نظير(15).
صفحة رقم : 1093
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأقصى -> الصين -> عصر الفلاسفة -> نشأة الفلسفة -> الدولة الوسطى الزاهرة

على أن طول هذه العهود يجب ألا يغشى أبصارنا فنبالغ في تجانس هذه الثقافة أو تجانس الشعب الصيني نفسه. فقد يلوح أن بعض فنونهم وصناعاتهم الأولى جاءتهم من بلاد النهرين والتركستان. من ذلك أن خزف هونان المنتمي إلى العصر الحجري الحديث لا يكاد يفترق في شيء عن خزف أنو والسوس.
والجنس "المغولي" الحاضر مزيج معقد اختلطت فيه السلالة البدائية مرارا وتكرارا بمئات السلالات الغازية أو المهاجرة من منغوليا وجنوب الروسيا )السكوذيين( ووسط آسية.
فالصين من هذه الناحية كالهند يجب ان نشبهها بأوربا بأكملها لا بأمة واحدة من أممها؛ فليست هي موطنا موحدا لأمة واحدة، بل هي خليط من أجناس مختلفة الاصول متباينة اللغات غير متجانسة في الاخلاق والفنون؛ وكثيرا ما يعادي بعضها بعضا في العادات والمبادئ الخلقية والنظم الحكومية.

صفحة رقم : 1094
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأقصى -> الصين -> عصر الفلاسفة -> نشأة الفلسفة -> القرون الغابرة المجهولة

3- القرون الغابرة المجهولة
قصة الخلق عند الصينيين - بداية الثقافة - الخمر
وعصى الأكل - الاباطرة الافاضل - ملك كافر
تسمى الصين "جنة المؤرخين"؛ ذلك أنها ظلت مئات وآلافا من السنين ذات مؤرخين رسميين يسجلون كل ما يقع فيها، وكثيرا مما لا يقع. على أننا لا نثق بأقوالهم عن العهود السابقة لعام 76 ق. م، ولكننا اذا استمعنا إلى هذه الاقوال رأيناهم يحدثوننا أحاديث مفصلة عن تاريخ الصين منذ 3000 ق. م، ورأينا أكثرهم تقى وصلاحا يصفون خلق العالم كما يفعل المطلعون على الغيب في هذه الايام. ومن أقوالهم في هذا أن "بان كو" أول الخلائق استطاع أن يشكل الأرض حوالي عام 2.229.000 ق. م بعد أن ظل يكدح في عمله هذا ثمانية عشر ألف عام. وتجمعت أنفاسه التي كان يخرجها في أثناء عمله فكانت رياحا
صفحة رقم : 1095

قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأقصى -> الصين -> عصر الفلاسفة -> نشأة الفلسفة -> القرون الغابرة المجهولة

وسحبا، وأضحى صوته رعدا، وصارت عروقه أنهارا، واستحال لحمه أرضا، وشعره نبتا وشجرا، وعظمه معادن، وعرقه مطرا؛ أما الحشرات التي كانت تعلق بجسمه فأصبحت آدميين. وليس لدينا من الادلة القاطعة ما ننقض به هذا العلم الكوني العجيب.
وتقول الاساطير الصينية ان الملوك الاولين حكم كل منهم ثمانية عشر ألف عام، وانهم جاهدوا أشق جهاد ليجعلوا من قمل "بان كو" خلائق متحضرين. وتقول لنا هذه الاساطير ان الناس "كانوا قبل هؤلاء الملوك السماويين كالوحوش الضارية يلبسون الجلود ويقتاتون باللحوم النيئة، ويعرفون أمهاتهم، ولكنهم لا يعرفون آباءهم"- ولا يرى استرندبرج
strendberg أن هذا الوصف الاخير مقصور على الأقدمين أو على الصينيين. ثم جاء من بعد هؤلاء الامبراطور فوشي في عام 852 ق. م بالتحديد، فعلم الناس بمعاونة زوجه المستنيرة الزواج، والموسيقى والكتابة والتصوير، وصيد السمك بالشباك، وتأنيس الحيوان، واطعام دود القز للحصول منها على الحرير. وأوصى وهو على فراش الموت أن يخلفه سن نونج، فأدخل هذا الامبراطور في البلاد الزراعة، واخترع المحراث الخشبي، وأقام الاسواق وأوجد التجارة، وأنشأ علم الطب بما عرفه من خواص النبات العلاجية، هذا ما تقوله الاساطير التي تعلي الاشخاص أكثر مما تعلي الافكار، وتعزو إلى عدد قليل من الافراد نتائج كدح الاجيال الطوال. ثم حكم امبراطور محارب قوى يدعى هوانج- دي لم يطل عهده أكثر من مائة عام، فجاء إلى الصين بالمغنطيس والعجلات، ووظف المؤرخين الرسميين، وشاد أول أبنية من الآجر في الصين؛ وأقام مرصدا لدراسة النجوم، وأصلح التقويم، وأعاد توزيع الأرض على الأهلين. وحكم "يَو" قرنا آخر، وبلغ من صلاح حكمه أن كنفوشيوس، حين كتب عنه بعد زمانه بثمانمائة وألف عام في عهد كان يبدو له بلا ريب عهدا "حديثا"

فاسدا، أخذ يندب ما طرأ على الصين من ضعف
صفحة رقم : 1096
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأقصى -> الصين -> عصر الفلاسفة -> نشأة الفلسفة -> القرون الغابرة المجهولة

وانحلال. ويحدثنا الحكيم القديم- الذي لم يستطع رغم حكمته التورع عن "الكذبة الصالحة" يضيفها إلى القصة ليجعل لها مغزى خلقيا- يحدثنا هذا الحكيم القديم أن الناس أصبحوا أفاضل أتقياء بمجرد النظر إلى "يو"، وكان أول ما قدمه "يو" من معونة للمصلحين أن وضع في خارج باب قصره طبلا يضربونه اذا أرادوا أن يدعوه لسماع شكواهم ولوحا يكتبون عليه ما يشيرون به على الحكومة ويقول كتاب التاريخ الذائع الصيت:
"أما يَوْ الصالح فيقولون عنه انه حكم جونج- جُوُو مائة عام لأنه عاش مائة عام وعشرة وستة؛ وكان رحيما خيرا كالسماء، حكيما بصيرا كالآلهة، وكان ضياؤه يبدو من بعيد كالسحابة اللامعة، فاذا اقتربت منه كان كأنه الشمس الساطعة. وكان غنيا في غير زهو، عظيما في غير ترف وكان يلبس قلنسوة صفراء، ومئزرا قاتم اللون، ويركب عربة حمراء تجرها جياد بيض. وكانت طنف أسقف بيته غير مشذبة، وألواحه غير مسحجة، ودعائمه الخشبية غير ذات أطراف مزينة.
وكان أغلب ما يقتات به الحساء أيا كان ما يصنع منه، لا يهتم باختيار الحبوب التي يصنع منها خبزه، وكان يشرب حساء العدس من صفحة مصنوعة من الطين، ويتناوله بملعقة من الخشب. ولم يكن يتحلى بالجواهر، ولم تكن ثيابه مطرزة، بل كانت بسيطة لا يختلف بعضها عن بعض. ولم يكن يعني بغير المألوف من الاشياء أو الغريب من الاحداث، ولم يكن يقيم وزنا للأشياء النادرة الغريبة، يستمع لأغاني الغزل، عربته الرسمية خالية من أسباب الزينة... يلبس في الصيف رداء بسيطا من القطن، ويلف جسمه في الشتاء بجلود الظباء. ومع هذا كله فقد كان أغنى من حكم جونج- جوو، طوال عهدها كله، وأرجحهم عقلا، وأطولهم عمرا، وأحبهم إلى قلوب الشعب(14).
صفحة رقم : 1097

قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأقصى -> الصين -> عصر الفلاسفة -> نشأة الفلسفة -> القرون الغابرة المجهولة

وكان شون آخر هؤلاء "الملوك الخمسة" مثالا في البر البنوي، كما كان هو البطل الذي جاهد لحماية البلاد من فيضانات نهر هوانج- هو، والذي أصلح التقويم، وضبط الموازين والمقاييس، وكسب محبة الاجيال التي جاءت بعده من تلاميذ المدارس بتقصير طول السوط الذي كانوا يربون به. وتقول الروايات الصينية إن شون في آخر أيامه رفع معه على العرش أقدر مساعديه، وهو المهندس العظيم يو، الذي تغلب على فيضان تسعة أنهار بشق تسعة جبال واحتفار تسع بحيرات، ويقول الصينيون "لولا يو، لكنا كلنا سمكا". وتقص الأساطير المقدسة ان خمر الأرز عصر في أيامه وقدم للامبراطور، ولكن "يو" صبه على الارض وقال متنبئا: "سيأتي اليوم الذي يخسر فيه أحد الناس بسبب هذا الشيء ملكا"، ثم نفي من كشف هذا الشرب من البلاد وحرم على الناس شربه. فلما فعل هذا جعل الناس خمر الأرز شرابهم القومي، فكان ذلك درسا علموه لمن جاء بعدهم من الخلائق.
وغيّر يو المبدأ الذي كان متبعا من قبله في وراثة الملك وهو أن يعين الامبراطور قبل وفاته من يخلفه على العرش، فجعل الملك وراثيا في أسرته، وأنشأ بذلك أسرة الشيتية (أي المتحضرة)، فكان ذلك سببا في أن يتعاقب على حكم الصين العباقرة والبلهاء وذوو المواهب الوسطى. وقضى على هذه الاسرة امبراطور ذو أطوار شاذة، يدعى جية أراد أن يسلي نفسه هو وزوجته فأمر ثلاثة آلاف من الصينيين أن يموتوا ميتة هنيئة بالقفز في بحيرة من النبيذ.

وليس لدينا ما يحقق لنا صدق ما ينقله إلينا المؤرخون الصينيون الأقدمون من أخبار هذه الاسرة. وكل ما نستطيع أن نقوله أن علماء الفلك في هذه الايام قد حققوا تاريخ الكسوف الشمسي الذي ورد ذكره في السجلات القديمة فقالوا انه قد حدث في عام 2165 ق. م، ولكن الثقاة الذين يعتد بآرائهم لا يؤمنون بحساب أولئك الفلكيين(16). وقد وجدت على بعض العظام التي كشفت في
صفحة رقم : 1098
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأقصى -> الصين -> عصر الفلاسفة -> نشأة الفلسفة -> القرون الغابرة المجهولة

هونان أسماء حكام تعزوهم الروايات الصينية إلى الاسرة الثانية أو أسرة شانج؛ ويحاول المؤرخون أن يعزوا بعض الاواني البرنزية الموغلة في القدم إلى أيام تلك الأسرة. أما فيما عدا هذا فمرجعنا الوحيد هو القصص الذي يحوي من الطرافة واللذة أكثر مما يحوي من الحقيقة. وتقول الروايات القديمة ان وو- يي أحد أباطرة أسرة شانج كان كافرا يتحدى الآلهة ويسب روح السماء، ويلعب الشطرنج مع ذلك الروح ويأمر احد افراد حاشيته بان يحرك القطع بدل الروح، فاذا أخطأ سخر منه. ثم أهدى اليه كيسا من الجلد وملأه دماً، وأخذ يسلي نفسه بأن يصوب اليه سهامه. ويؤكد لنا المؤرخون- وفيهم من الفضيلة أكثر مما في التاريخ نفسه- ان وو- يي أصابته صاعقة فأهلكته.

وكان جوسين آخر ملوك هذه الاسرة ومخترع عصى الطعام خبيثا آثما إلى حد لا يكاد يصدقه العقل، فقضى بإثمه على اسرته. ويحكى عنه أنه قال: "لقد سمعت أن لقلب الانسان سبع فتحات، وأحب أن أتثبت من صدق هذا القول في بي كان"- وزيره وكانت تاكي زوجة جو مضرب المثل في الفجور والقسوة، فكانت تعقد في بلاطها حفلات الرقص الخليع، وكان الرجال والنساء يسرحون ويمرحون عارين في حدائقها. فلما غضب الناس من هذه الفعال عمدت إلى كم أفواههم باختراع ضروب جديدة من التعذيب، فكانت ترغم المتذمرين على أن يمسكوا بأيديهم معادن محمية في النار أو يمشوا على قضبان مطلية بالشحم ممتدة فوق حفرة مملوءة بالفحم المشتعل، فإذا سقط الضحايا في الحفرة طربت الملكة حين تراهم تشوى أجسادهم في النار.
وقضت على عهد جوسين مؤامرة دبرها الثوار في داخل البلاد، وغارة من ولاية جو الغربية، ورفع المغيرون على العرش أسرة جو، وقد دام حكمها أطول من حكم أية أسرة مالكة أخرى في بلاد الصين. وكافأ الزعماء المنتصرون من أعانوهم من القواد والكبراء بأن جعلوهم حكاما يكادون أن يكونوا مستقلين في
صفحة رقم : 1099
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأقصى -> الصين -> عصر الفلاسفة -> نشأة الفلسفة -> القرون الغابرة المجهولة

الولايات الكثيرة التي قسمت اليها الدولة الجديدة. وعلى هذا النحو بدأ عهد الاقطاع الذي كان فيما بعد شديد الخطر على حكومة البلاد، والذي كان رغم هذا باعثا على النشاط الادبي والفلسفي في بلاد الصين. وتزاوج القادمون الجدد والسكان الأولون وامتزجوا جميعا، وكان امتزاجهم هذا تمهيدا بيولوجيا لأولى حضارات الشرق الأقصى في الازمنة التاريخية.

صفحة رقم : 1100
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأقصى -> الصين -> عصر الفلاسفة -> نشأة الفلسفة -> الحضارة الصينية الأولى

4- الحضارة الصينية الأولى
عصر الإقطاع في الصين - وزير قدير - النضال بين العادات

والقوانين - الثقافة والفوضى - أغاني الحب في "كتاب الأغاني"
لم تكن الولايات الإقطاعية، التي وهبت الصين بعدئذ ما استمتعت به من نظام سياسي قرابة ألف عام، من عمل الفاتحين، بل نشأت من المجتمعات الزراعية التي قامت في الأيام البدائية بامتصاص أقوياء الزراع ضعافهم، أو باندماج الجماعات تحت رياسة زعيم واحد حتى يستطيعوا أن يدفعوا عن حقولهم من يغيرون عليها من الهمج المحيطين بهم. وبلغ عدد هذه الإمارات في وقت من الأوقات سبع عشرة ولاية تتكون كل منها في العادة من بلدة مسورة تحيط بها أرض زراعية ومن ضواح مسورة أصغر منها يتألف من مجموعها محيط دفاعي واحد. ثم أخذت هذه الولايات يندمج بعضها في بعض على مهل حتى نقص عددها إلى خمس وخمسين ولاية تشمل الإقليم الذي يعرف الآن بإقليم هونان وما جاوره من أقاليم شانسي، وشنسى، وشانتونج. وكان أهم هذه الولايات الخمس والخمسين ولاية تشي التي وضعت أساس الحكومة الصينية، وولاية تشين التي أخضعت سائر الولايات لحكمها وأنشأت منها امبراطورية موحدة، وخلعت على بلاد الصين اسمها المعروفة به في جميع بلاد العالم إلاّ فيها هي نفسها.
وكان السياسي العبقري الذي وضع لولاية تشي نظامها هو جوان جونج
صفحة رقم : 1101
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأقصى -> الصين -> عصر الفلاسفة -> نشأة الفلسفة -> الحضارة الصينية الأولى

مستشار الدوق هوان. وقد بدأ جوان حياته السياسية بمساعدة أخى هوان عليه في نزاعهما من أجل السيطرة على تشي، وكاد يقتل هوان في إحدى الوقائع الحربية. ولكن هوان انتصر في آخر الأمر وأسر جوان وعينه رئيس وزراء دولته. وزاد جوان من قوة سيده باستبدال الأسلحة والأدوات الحديدية بنظائرها المصنوعة من البرنز، وباحتكار الحكومة للحديد والملح أو بالسيطرة عليهما، ثم فرض الضرائب على النقود والسمك والملح "لكي يساعد الفقراء ويكافئ الحكماء وذوي المواهب". وأصبحت تشي في أيام وزارته الطويلة الأجل دولة حسنة النظام ذات عملة مستقرة، ونظام اداري محكم، وثقافة زاهرة. وقد قال عنه كنفوشيوس- وهو الذي لم يكن يمتدح الساسة إلا بأوجز عبارة- "إن الناس لا يزالون حتى اليوم يستمتعون بالنعم التي أسبغها عليهم، ولولا جوان جونج لظللنا حتى اليوم ذوي شعر أشعث، ولظلت ملابسنا تزرر جهة الشمال" .
وفي بلاط نبلاء الاقطاع نشأت طريقة التحية التي امتاز بها الصينيون المهذبون، كما نشأت فيها شيئا فشيئا تقاليد من الاخلاق والاحتفالات ومراسم التكريم بلغت من الدقة حدا يكفيها لأن تحل محل الدين عند الطبقات العليا في المجتمع. ثم وضعت أسس الشرائع وبدأ نزاع شديد بين حكم العادات التي نمت عند عامة الشعب وبين حكم القانون الذي وضعته الدولة. وأصدرت دوقيتا جنج وتشين (في عامي 535 512 ق. م) كتبا في القانون ملأت قلوب الفلاحين رعبا، وتنبئوا بما سيحل بهما من عقاب سماوي شديد على هذه الجريمة الشنيعة. وحدث بالفعل أن دمرت النار عاصمة جنج بعد ذلك بقليل. وكان في هذه الشرائع محاباة للطبقات العليا، فقد أعفتها من كثير من الواجبات المفروضة على غيرها من الطبقات على شريطة أن يؤدب أفرادها أنفسهم. من ذلك أن القاتل منهم كان
صفحة رقم : 1102
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأقصى -> الصين -> عصر الفلاسفة -> نشأة الفلسفة -> الحضارة الصينية الأولى

يسمح له بأن ينتحر، وكان الكثيرون منهم ينتحرون بالفعل على النحو الذي أصبح فيما بعد عادة مألوفة بين طبقة السموراي في اليابان. واحتج عامة الشعب على هذه التفرقة، وقالوا أن في مقدورهم هم أيضا أن يؤدبوا أنفسهم، وتمنوا أن يقوم بينهم وطني مخلص شبيه بهرموديس أو أرستجيتون يحررهم من ظلم القوانين. ثم تراضت الفئتان آخر الأمر واتفقتا على حل سليم فضيقت دائرة القانون الوضعي حتى لم تعد تشمل الا المسائل الكبرى أو المسائل القومية، وظلت أحكام العرف والعادة هي الفيصل فيما دونها من الأمور. واذ كانت الكثرة الغالبة من شئون البشر من المسائل الصغرى فقد ظل حكم العادة هو السائد بين كافة الطبقات.
واستمر تنظيم الولايات يجري في مجراه، وجمعت قواعد هذا النظام في الجو- لي، أو "دستور جو" وهو مجموعة من الشرائع تعزوها الروايات إلى جو جونج عم دوق جو الثاني وكبير وزرائه، وهو بالطبع قول لا يقبله عقل لأن هذه الشرائع لا يمكن أن تكون من وضع رجل واحد.
والواقع إن الإنسان يلمح فيها روح كونفوشيوس ومنشيس، ولهذا فأكبر الظن أنها وضعت في آخر أيام أسرة جو لا في أيامها الاولى. وقد ظلت مدى ألفي عام تمثل فكرة الصينيين عن النظام الحكومي: وقوامه إمبراطور يحكم نيابة عن الخالق، وأنه "ابن السماء" يستمد سلطانه مما يتصف به من الفضيلة والصلاح؛ وأعيان، بعضهم بحكم مولدهم وبعضهم بحكم تربيتهم وتدريبهم، يصرفون أعمال الدولة؛ وشعب يرى أن واجبه فلح الارض يعيش في أسر أبوية ويتمتع بالحقوق المدنية ولكنه لا رأي له في تصريف الشؤون العامة؛ ومجلس من ستة وزراء كل واحد منهم على ناحية من النواحي الآتية وهي: "حياة الإمبراطور وأعماله، ورفاهية الشعب وزواج أفراده المبكر، والمراسيم والتنبؤات الدينية، والاستعداد للحرب والسير فيها، وتوزيع العدالة بين السكان وتنظيم
صفحة رقم : 1103

قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأقصى -> الصين -> عصر الفلاسفة -> نشأة الفلسفة -> الحضارة الصينية الأولى

الأشغال العامة". ويكاد هذا القانون يكون قانونا مثاليا، وأكبر الظن أنه نبت في عقل فيلسوف أفلاطوني مجهول لم يتحمل أعباء الحكم، لا من تجارب زعماء دنستهم السلطة الفعلية ويتعاملون مع خلائق حقيقيين.
ولما كان الشر المستطير قد يجد له مكانا حتى في أكمل الدساتير، فقد كان تاريخ الصين السياسي هو التاريخ المألوف الذي يتناوبه الفساد الطويل وفترات الإصلاح القصيرة. ذلك أن الثروة حين زادت أدت إلى الإسراف والترف فأفسدا الطبقة العليا، كما غصّ بلاد الأباطرة وغصت فيما بعد لويانج عاصمة الدولة بالموسيقيين والقتلة والسفاحين والسراري والفلاسفة. وقلما كانت تمضي عشر سنين دون أن يهاجم فيها الدولة الجديدة البرابرة الجياع الذين لم ينقطعوا يوما ما عن الضغط على حدودها، حتى أضحت الحرب أولا ضرورة لا بد منها للدفاع، ثم صارت بعد قليل حرب هجوم واعتداء، وتدرجت من ألعاب يتسلى بها الأعيان إلى مسابقات في التقتيل بين عامة الشعب، يطاح فيها بعشرات الآلاف من الرؤوس، فلم يمض إلاّ قرنان من الزمان أو أكثر منهما بقليل حتى قتل من الملوك ستة وثلاثون، وعمت البلاد الفوضى، ويئس الحكام من إصلاح الأمور.

وظلت الحياة تتعثر في طريقها متخطية هذه العقبات القديمة فكان الفلاّح يزرع ويحصد لنفسه في أحيان قليلة وللنبلاء الإقطاعيين في أكثر الاحيان، لأنه هو وأرضه كانا ملكا لهؤلاء النبلاء، ولم يبدأ الفلاحون في امتلاك الارض الاّ في أواخر أيام هذه الأسرة. وكانت الدولة- وهي مجتمع مهلهل من النبلاء الإقطاعيين يعترفون بعض الاعتراف بسيادة واحد منهم- تجند العمال للأشغال العامة، وتروى الحقول من قنوات كثيرة منبثة في أنحاء البلاد؛ وكان الموظفون العموميون يعلّمون الأهلين زرع الحقول وغرس الأشجار؛ ويشرفون على صناعة الحرير بكافة أجزائها. وكان صيد السمك واستخراج الملح من باطن الأرض احتكارا للحكومة في كثير من الولايات. وكانت التجارة الداخلية
صفحة رقم : 1104
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأقصى -> الصين -> عصر الفلاسفة -> نشأة الفلسفة -> الحضارة الصينية الأولى

رائجة في المدن فنشأت من رواجها طبقة وسطى صغيرة العدد تستمتع بنعم لا تكاد تفترق عن نعم الحياة الحديثة، وكان أفرادها ينتعلون أحذية من الجلد، ويرتدون ملابس من الحرير، أو من نسيج آخر يغزلونه بأيديهم، وينتقلون في عربات مختلفة الانواع، أو في قوارب تسير في الأنهار، ويسكنون بيوتا حسنة البناء، ويستخدمون الكراسي والنضد، ويتناولون طعامهم في صحاف وأواني من الخزف المنقوش. وأكبر الظن أن مستوى حياتهم كان أرقى من مستوى حياة معاصريهم في بلاد اليونان أيام صولون
Solon أو في روما أيام نوما Numa.

وسرت في الحياة الذهنية في الصين بين ظروف التفلك ومظاهر الفوضى السائدة في البلاد حيوية تنقض ما يضعه المؤرخون من نظريات وقواعد عامة يريدون أن يأخذ بها الناس؛ فقد وضعت في هذا العهد المضطرب قواعد اللغة الصينية والأدب والفلسفة والفن. ونشأ من ائتلاف الحياة التي أصبحت آمنة بفضل التنظيم الاقتصادي والادخار مع الثقافة التي لم تكن قد وحدت بعد أو قيدت بالقيود والأحكام التي تفرضها عليها التقاليد والحكومة الإمبراطورية القوية السلطان، نشأ من ائتلافهما ذلك الاطار الاجتماعي الذي احتوى أكثر العهود إبداعا وإنشاء في تاريخ الصين الذهني. فكان في كل قصر من قصور الأباطرة والأمراء وفي آلاف من المدن والقرى شعراء ينشدون القصائد، وصناع يديرون عجلة الفخار أو يصبون الآنية الفخمة الجميلة، وكتبة ينمقون على مهل حروف الكتابة الصينية وسفسطائيون يعلمون الطلبة المجدين أساليب الجدل والمحاجة الذهنية، وفلاسفة يتحسرون ويأسون لنقائص البشر وتدهور الدول.
وسندرس في الفصول التالية حال الفن واللغة في أكمل تطوراتهما وأخص خصائصهما، ولكن الشعر والفلسفة من نتاج هذا العصر الذي نتحدث عنه بنوع خاص، وهما يجعلانه أكثر عصور الفكر الصيني ازدهارا. ولقد ضاع معظم ما كتب من الشعر قبل كنفوشيوس، وأكثر ما بقي منه هو ما اختاره هذا
صفحة رقم : 1105
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأقصى -> الصين -> عصر الفلاسفة -> نشأة الفلسفة -> الحضارة الصينية الأولى

الفيلسوف من نماذج كلها جد وصرامة، جمعت في الشي- جنج، أي "كتاب الأغاني" وقيلت في فترة تزيد على ألف عام تمتد من أيام الشعر القديم الذي قيل في أيام أسرة شانج إلى الشعر ذي الصبغة الحديثة الذي قيل في زمن معاصر لفيثاغورس. وتبلغ عدة هذه القصائد الباقية خمس قصائد وثلثمائة قصيدة، وكلها موجزة إيجازا يجعلها مستعصية على الترجمة، ذات تصوير إيحائي، تتحدث عن الدين ومتاعب الحرب وهموم الحب.

والى القارئ أمثلة من نواح الجنود الذين انتزعوا من بيوتهم في غير الأوقات المناسبة؛ ليلقى بهم في مخالب المنايا لغير سبب تدركه عقولهم:
ألا ما أعظم حرية الإوز البري وهو يطير في الفضاء
ثم يتمتع بالراحة فوق أغصان شجر اليو الملتف الكثيف!
أما نحن الدائمو الكدح في خدمة الملك،
فإنا لا نجد من الوقت ما نزرع فيه الذرة والأرز
ترى على أي شيء يعتمد آباؤنا؟
حدثيني أيتها السماء النائية الزرقاء!
متى ينتهي هذا كله؟..
وهل في الاشجار أوراق لم تصبح بعد أرجوانية؟
وهل بقي في البلاد رجل لم ينتزع من بين ذراعي زوجته؟
رحمة بنا نحن الجنود:-
ألسنا نحن أيضا آدميين؟
وفي القصائد كثير من أغاني الحب المختلفة النغم التي تضرب على أوتار القلوب، وان كان ذلك العصر يبدو لنا لفرط جهلنا عصر الهمجية الصينية وبداية تاريخها. ونحن نستمع في احدى هذه القصائد إلى صوت الشباب المتمرد إلى أبد الدهر
صفحة رقم : 1106
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأقصى -> الصين -> عصر الفلاسفة -> نشأة الفلسفة -> الحضارة الصينية الأولى

يهمس في آذاننا من خلال القرون البائدة، التي كانت تبدو عهودا نموذجية لكنفوشيوس، وكأنما هي تقول أن لا شيء يماثل التمرد والعصيان في قدم العهد:
أتوسل إليك يا حبيبي
أن تغادر قريتي الصغيرة
وألاّ تهشم أغصان صفصافي؛
وليس ذلك لأن تهشيمها يحزنني
بل لأني أخشى أن يثير تهشيمها غضب أبي.
والحب يناديني بعواطفه المقهورة:-
"إن أوامر الأب يجب أن تطاع"
أتوسل إليك يا حبيبي
أو تحطم أغصان توتي
وليس ذلك لأني أخشى سقوطها
بل لأني أخشى أن يثير سقوطها غضب أخي.
والحب يناديني بعواطفه المقهورة:-
"إن كلام الأخ يجب أن يطاع"
أتوسل إليك يا حبيبي،
ألاّ تتسلل إلى الحديقة
ولا تحطم أشجار الصندل؛
وليس هذا لأني أعني بهذه أو تلك
بل لأني أرهب حديث المدينة،
وإذا ما سار المحبون على هواهم
صفحة رقم : 1107

قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأقصى -> الصين -> عصر الفلاسفة -> نشأة الفلسفة -> الحضارة الصينية الأولى

فماذا يقولون عنهم جيرانهم؟
وثمة قصيدة أخرى هي أقرب هذه القصائد إلى الكمال، أو أحسنها ترجمة، وهي تدل على أن العواطف البشرية قديمة موغلة في القدم:
جلال الصباح يعلو فوق هامتي
وتحيط بي الازهار الشاحبة بيضاء وأرجوانية وزرقاء وحمراء وأنا قلقة البال
وتحرك شيء بين الحشائش الذابلة
فظننت أن ما سمعته هو وقع أقدامه،
وإذا جندب يصر،
وتسلقت التل ساعة أن بزغ الهلال
فأبصرته مقبلا من الطريق الجنوبي
فاستراح قلبي وأطرح عنه حمله(29).
صفحة رقم : 1108
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأقصى -> الصين -> عصر الفلاسفة -> نشأة الفلسفة -> الفلاسفة قبل كونفوشيوس

5- الفلاسفة قبل كنفوشيوس
"كتاب التغيرات" - "اليانج والين" - عصر
الاستنارة الصينية - ننج شي سقراط الصين
يمتاز هذا العصر بفلسفته. وليس يعيب الجنس البشري أن تشوفه كان في كل عصر من العصور يسبق حكمته، وأن مثله العليا كانت تخطو بأسرع من خطى مسلكه. وها هو ذا يو- دزه في عام 1250 ق. م ينطق بتلك العبارة القصيرة التي تعد من جوامع الكلم، والتي طالما رددها الناس من قبله، ولكنها لم تبل جدتها بعد؛ اذ لا يزال الناس في حاجة إلى من يذكرهم بأن كل مجد مآله كرب وشقاء:
"من يطرح المجد ولا يعبأ به ينج من الاحزان"(30).
صفحة رقم : 1109
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأقصى -> الصين -> عصر الفلاسفة -> نشأة الفلسفة -> الفلاسفة قبل كونفوشيوس

ألا ما اسعد الانسان الذي لا تاريخ له! وقد ظلت بلاد الصين من ذلك العهد القديم إلى يومنا هذا تخرج فلاسفة.

فكما ان الهند أرقى بلاد العلم في الاديان، وعلم ما وراء الطبيعة، فكذلك الصين أرقاها في الفلسفة الانسانية غير الدينية، اذ لا يكاد يوجد في الادب الصيني كله كتاب ذو شأن في علم ما وراء الطبيعة غير تلك الوثيقة العجيبة التي يبدأ بها تاريخ التفكير الصيني المدون، وهي الوثيقة المعروفة بإسم إي- جنج، أو "كتاب التغيرات". وتقول الرواية المأثورة إن هذا الكتاب قد كتبه ون وانج، أحد مؤسسي أسرة جو في سجنه، وان أبسط مبادئه مستمدة من فوشي الذي عاش قبله بزمن طويل. وهم يقولون لنا ان هذا الامبراطور الاسطوري قد اخترع "الجوات" الثماني أو التثاليث الرمزية التي ترى علوم ما وراء الطبيعة عند الصينيين أنها تنطبق على قوانين الطبيعة وعناصرها. وهم يقولون أن كل واحد من هذه التثاليث يتألف من ثلاثة خطوط بعضها متصل ويمثل عنصر الذكورة أو اليانج وبعضها متقطع ويمثل عنصر الأنوثة أو الين.
وكذلك يمثل اليانج في هذه الثنائية الرمزية العنصر الايجابي الفعال، المنتج، السماوي عنصر الضوء والحرارة والحياة؛ على حين أن الين يمثل العنصر السلبي المنفعل، الأرضي، عنصر الظلمة والبرودة والموت وقد خلد ون يانج ذكره، وأتعب عقول آلاف الملايين من الصينيين بمضاعفة عدد الشرط في الخطوط المتصلة والمتقطعة، فرفع بذلك عدد تباديلها وتوافيقها إلى أربعة وستين كل منها يقابل قانونا من قوانين الطبيعة، ويحتوي على جميع العلوم والتاريخ. والحكمة جميعا تكمن في هذه الأربع والستين شَيْبَنْجَة- أو الآراء الممثلة تمثيلا رمزيا في التثليثات السالفة الذكر. والحقائق كلها يمكن ردها إلى تعارض واتحاد العاملين الأساسيين في الكون وهما عنصرا الذكورة والأنوثة أي اليانج والين.
صفحة رقم : 1110
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأقصى -> الصين -> عصر الفلاسفة -> نشأة الفلسفة -> الفلاسفة قبل كونفوشيوس

وكان الصينيون يتخذون كتاب التغيرات كتابا يدرسون فيه طرق التنبؤ بالغيب، ويعدونه أعظم تراثهم الأدبي، ويقولون أن كل من فهم ما فيه من توافيق يدرك جميع القوانين الطبيعية. وقد نشر كنفوشيوس هذا الكتاب بنفسه، وجمله بما علق عليه من الحواشي، وكان يفضله على كل ما عداه من كتب الصينيين، ويتمنى أن يخلو لنفسه خمسين عاما يقضيها في دراسته.
ولا يتفق هذا السفر العجيب مع روح الفلسفة الصينية، وهي الروح الايجابية العملية، وان كان يلائم غموض النفس الصينية ونحن نجد في الصين فلاسفة في أبعد الازمان التي وصل إلينا تاريخها، ولكن كل ما حفظه التاريخ لهم قبل أيام لو- دزه، لا يعدو أن يكون قطعة مبتورة من هنا وهناك، أو مجرد أسم من الاسماء، وقد شهد القرنان السادس والخامس في بلاد الصين، كما شهدا في الهند وفارس وبلاد اليهود واليونان، عاصفة قوية من العبقرية الفلسفية والأدبية، بدأت كما بدأت في بلاد اليونان بعصر من "الاستنارة" العقلية.
ولقد سبق هذه الاستنارة عهد من الحروب والفوضى فتح أمام المواهب غير ذات الانساب العريقة مسالك للرقي، وحفز أهل المدن على أن يطلبوا لأنفسهم معلمين يثقفون أذهانهم بالفنون العقلية. وسرعان ما كشف معلمو الشعب ما في علوم الدين من ابهام وغموض، وما في الأداة الحكومية من نقص، وعرفوا أن المقاييس الاخلاقية مقاييس نسبية، وشرعوا يبحثون عن المثل العليا والكمال المطلق. وقد أعدم الكثيرون من هؤلاء الباحثين على يد ولاة الامور الذين وجدوا أن قتلهم أسهل من محاججتهم. وتقول احدى الروايات الصينية ان كنفوشيوس نفسه، وهو وزير الجريمة في مقاطعة لو، حكم بالاعدام على موظف صيني متمرد بحجة أنه "كان في وسعه أن يجمع حوله طائفة كبيرة من الرجال؛ وأن آراءه كانت تجد بسهولة من يستجيب لها من العامة، وأن تجعل العناد صفة خليقة بالإكبار والإجلال؛ وأن سفسطته كان فيها من المعارضة والمعاندة
صفحة رقم : 1111

قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأقصى -> الصين -> عصر الفلاسفة -> نشأة الفلسفة -> الفلاسفة قبل كونفوشيوس

ما يمكنها من الوقوف في وجه الأحكام الحقة المعترف بها من الناس". ويصدق زوما- تشين هذه القصة ولكن بعض المؤرخين الصينيين يرفضونها؛ ونحن نرجو ألا تكون صحيحة.
وأشهر هؤلاء المتمردين العقليين هو تنج شي الذي أعدمه دوق جنج في شباب كنفوشيوس، ويقول كتاب ليه- دزه: ان تنج هذا كان "يعلم النظريات القائلة ان الحق والباطل أمران نسبيان، ويؤيد هذه الآراء بحجج لا آخر لها". واتهمه أعداؤه بأنه لم يكن يستنكف أن يثبت اليوم رأيا ويثبت عكسه في غد، إذا ما نال على عمله هذا ما يرتضيه من الاجر؛ وكان يعرض خدماته على من لهم قضايا في المحاكم، ولا يرى ما يعوقه عن تقديمها لمن يطلبها من الناس. ويروي عنه أحد أعدائه من المؤرخين الصينيين هذه القصة الطريفة:
غرق رجل موسر من الولاية التي كان يقيم فيها تنج في نهر واي، وأخرج رجل جثته من الماء، وطلب إلى أسرة القتيل مبلغا كبيرا من المال نظير إخراجها من النهر. وذهبت أسرة القتيل إلى تنج تستشيره في الأمر، فأجابها السفسطائي بقوله: "تريثوا فلن تؤدي المال المطلوب أسرة غير أسرتكم"، وعملت أسرة القتيل بهذه النصيحة. وقلق الرجل الذي كانت الجثة في حوزته فجاء هو أيضا إلى تنجشي يستنصحه. فنصحه السفسطائي بما نصح به أهل القتيل إذ قال له: "تريث؛ فإنهم لن يحصلوا على الجثة إلاّ منك".
ووضع تنج شي قانونا للعقوبات تبين أنه أرقى مما تطبقه حكومة جنج. ولما ضاق رئيس الوزراء ذرعا بالنشرات التي كان تنج يحمل فيها على سياسته حرم إلصاقها في الأماكن العامة، فما كان من تنج الا أن عمد إلى توزيعها على الناس بنفسه، فلما حرم الوزير توزيع النشرات أخذ تنج يهربها إلى القراء مخبوءة بين أشياء أخرى، فلما أعيت الحكومة الحيل أمرت بقطع رأسه(36).

صفحة رقم : 1112

قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأقصى -> الصين -> عصر الفلاسفة -> نشأة الفلسفة -> المعلم القديم

6- المعلم القديم
لو- دزه - "الدو" - رجال الفكر في الحكومة - سخف
القوانين - مدينة فاضلة على غرار مدينة روسو وقانون أخلاقي على غرار
القانون المسيحي - صورة الرجل الحكيم - التقاء لو- دزه وكنفوشيوس
كان لو- دزه، أعظم فلاسفة الصين قبل كنفوشيوس، أكثر حكمة من تنج شي؛ فقد كان يعرف حكمة الصمت، وما من شك أنه عمر طويلا وإن لم نكن واثقين من أنه عاش حقا. ويحدثنا المؤرخ الصيني زوماتشين أن لو- دزه عافت نفسه سفالة السياسيين، ومل عمله في أمانة مكتبة جو الملكية، فاعتزم أن يغادر الصين ليبحث له عن ملجأ بعيد منعزل في الريف. "فلما أن وصل إلى حدود البلاد قال له الحارس ين شي: إنك إذن تنشد العزلة، وأنا أرجوك أن تكتب لي كتابا. فكتب له لو- دزه كتابا من جزأين في الدو والدي يشتمل على خمسة آلاف كلمة. ولما أن أتمه اختفى ولم يعلم أحد أين مات".
لكن الروايات والاقاصيص، التي لا تخفى عليها خافية، تقول أنه عاش سبعة وثمانين عاما. ولم يبق لنا منه الا اسمه وكتابه وقد لا يكون هذا أو ذاك له.
فأما لو- دزه، فوصف معناه "المعلم القديم" وأما أسمه الحقيقي فهو، كما تقول الرواية، لي- أي البرقوقة.
والكتاب الذي يعزى إليه مشكوك فيه شكا أثار كثيرا من الجدل العلمي حول أصله ولكن الباحثين جميعا متفقون على أن الدو- ده- جنج- أي "كتاب الطريقة والفضيلة"- هو أهم النصوص الخاصة بالفلسفة الدوية التي
صفحة رقم : 1113
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأقصى -> الصين -> عصر الفلاسفة -> نشأة الفلسفة -> المعلم القديم

يقول العلماء الصينيون انها وجدت قبل لو- دزه بزمن طويل، والتي كان لها من بعده أنصار من الطراز الاول، والتي صارت فيما بعد دينا تعتنقه أقلية كبيرة من الصينيين من أيامه إلى وقتنا هذا، وجملة القول أن مؤلف الدو- ده- جنج مسألة ذات أهمية ثانوية، وأما الآراء التي احتواها الكتاب فمن أبدع ما كتب في تاريخ الفكر الانساني.
ومعنى لفظ الدَّو هو الطريقة: وهي أحيانا طريقة الطبيعة، وأحيانا الطريقة الدوية للحياة الحكيمة. أما المعنى الحرفي لهذا اللفظ فهو الطريق. وهو في الاصل طريقة للتفكير أو للامتناع عن التفكير، وذلك لأن الدويين يرون أن التفكير أمر عارض سطحي لاغير فيه الا للجدل والمحاجاة، يضر الحياة اكثر مما ينفعها. اما "الطريقة" فيمكن الوصول اليها بنبذ العقل وجميع مشاغله، وبالالتجاء إلى حياة العزلة والتقشف والتأمل الهادئ في الطبيعة. وليس العلم في رأي صاحب الكتاب فضيلة، بل ان السفلة قد زاد عددهم من يوم أن انتشر العلم. وليس العلم هو الحكمة، ذلك لأنه لا شيء أبعد عن الرجل الحكيم من "صاحب العقل". وشر أنواع الحكومات التي يمكن تصورها حكومة الفلاسفة؛ ذلك أنهم يقحمون النظريات في كل نظام طبيعي؛ وأكبر دليل على عجزهم عن العمل هو قدرتهم على إلقاء الخطب والإكثار من الاراء، وفي ذلك يقول الكتاب:
ان المهرة لا يجادلون؛ وأصحاب الجدل عطل من المهارة... واذا ما نبذنا المعارف نجونا من المتاعب... والحكيم يبقي الناس على الدوام بلا علم ولا شهوة، واذا وجد من لهم علم منعهم من الاقدام على العمل... وان الاقدمين الذين أظهروا براعتهم في العمل بما في الدو لم يفعلوا ما فعلوه لينيروا عقول الناس بل ليجعلوهم سذجا جهلاء... والصعوبة التي يواجهها الحكام انما تنشأ من كثرة ما عند الناس من العلم، ومن يحاول حكم دولة من الدول بعلمه وحكمته ينكل
صفحة رقم : 1114

قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأقصى -> الصين -> عصر الفلاسفة -> نشأة الفلسفة -> المعلم القديم

بها ويفسد شئونها، أما الذي لا يفعل هذا فهو نعمة لها وبركة.
وانما كان صاحب الفكر خطرا على الدولة لأنه لا يفكر الا في الانظمة والقوانين؛ فهو يرغب في اقامة مجتمع على قواعد هندسية، ولا يدرك أن أنظمته انما تقضي على ما يتمتع به المجتمع من حرية حيوية، وما في أجزائه من نشاط وقوة. أما الرجل البسيط الذي يعرف من تجاربه ما في العمل الذي يتصوره ويقوم به بكامل حريته من لذة، وما ينتجه من ثمرة، فهو أقل من العالم خطرا على الامة اذا تولى تدبير أمورها، لأنه لا يحتاج إلى من يدله على أن القانون شديد الخطر عليها، وأنه قد يضرها أكثر مما ينفعها. فهذا الرجل لا يضع للناس من الانظمة الا أقل قدر مستطاع، واذا تولى قيادة الامة ابتعد بها عن جميع أفانين الخداع والتعقيد، وقادها نحو البساطة العادية التي تسير فيها الحياة سيرا حكيما على النهج الطبيعي الحكيم الرتيب الخالي من التفكير، وحتى الكتابة نفسها يهمل أمرها في هذا النمط من الحكم لأنها أداة غير طبيعية تهدف إلى الشر. فإذا تحررت غرائز الناس الاقتصادية التلقائية التي تحركها شهوة الطعام والحب من القيود التي تفرضها الحكومات دفعت عجلة الحياة في مسيرها البسيط الصحيح. وفي هذه الحال تقل المخترعات التي لا تفيد الا في زيادة ثراء الاغنياء وقوة الاقوياء؛ وتنمحي الكتب والقوانين والصناعات ولا تبقى الا التجارة القروية.

"ان كثرة النواهي والمحرمات في المملكة تزيد من فقر الأهلين. وكلما زاد عدد الأدوات التي تضاعف من كسبهم زاد نظام الدولة والعشيرة اضطرابا، وكلما زاد ما يجيده الناس من أعمال الختل والحذق زاد عدد ما يلجئون إليه من حيل غريبة وكلما كثرت الشرائع والقوانين كثر عدد اللصوص وقطاع الطرق؛ ولهذا قال أحد الحكماء: " لن أفعل شيئا، فيتبدل الناس من تلقاء أنفسهم، وسأولع بأن أبقى ساكنا فينصلح الناس من تلقاء أنفسهم، ولن أشغل بالي بأمور الناس فيثرى الناس من تلقاء أنفسهم؛ ولن أظهر شيئا من المطامع فيصل الناس من
صفحة رقم : 1115
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأقصى -> الصين -> عصر الفلاسفة -> نشأة الفلسفة -> المعلم القديم

تلقاء أنفسهم إلى ما كانوا عليه من سذاجة بدائية...
وسأنظم الدولة الصغيرة القليلة السكان بحيث اذا وجد فيها أفراد للواحد منهم من الكفايات ما لعشرة رجال أو مائة رجل فلن يكون لهؤلاء الافراد عمل؛ وسأجعل الناس فيها، وان نظروا إلى الموت على أنه شيء محزن يؤسف له، لا يخرجون منها (لينجوا بأنفسهم منه)؛ ومع أن لهم سفنا وعربات فإنهم لا يرون ما يدعوا إلى ركوبها؛ ومع أن لهم ثيابا منتفخة وأسلحة حادة، فإنهم لا يجدون ما يدعوا إلى لبس الاولى أو استخدام الثانية، وسأجعل الناس يعودون إلى استخدام الحبال المعقودة .
وسيرون أن طعامهم (الخشن) وملابسهم (البسيطة) جميلة، ومساكنهم (الحقيرة) أمكنة للراحة، وأساليبهم العادية المألوفة مصادر للذة والمتعة، وإذا كانت هناك دولة مجاورة قريبة منا نراها بأعيننا وتصل إلى آذاننا منها نقنقة الدجاج ونباح الكلاب، فإني لن أجعل للناس وان طال عمرهم صلة بها إلى يوم مماتهم".

ترى ما هي هذه الطبيعة التي يرغب لَوْ- دزه، في أن يتخذها مرشدا له وهاديا؟ ان هذا المعلم القديم يفرق بين الطبيعة والحضارة تفريقا محددا واضح المعالم، كما فعل روسو من بعده في عباراته الطنانة الرنانة التي يطلق عليها الناس اسم "التفكير الحديث"؛ فالطبيعة في نظره هي النشاط التلقائي، وانسياب الحوادث العادية المألوفة، وهي النظام العظيم الذي تتبعه الفصول وتتبعه السماء؛ وهي الدو أو الطريقة الممثلة المجسمة في كل مجرى وكل صخرة وكل نجم؛ وهي قانون الاشياء العادل الذي لا يحفل بالاشخاص، ولكنه مع ذلك قانون معقول يجب أن يخضع له قانون السلوك اذا اراد الناس أن يعيشوا في حكمة وسلام. وقانون الاشياء هذا هو الدو أو طريقة الكون كما أن قانون السلوك هو الدو أو طريقة الحياة. ويرى
صفحة رقم : 1116
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأقصى -> الصين -> عصر الفلاسفة -> نشأة الفلسفة -> المعلم القديم

لو- دزه، أن الدوين في واقع الامر دو واحد وأن الحياة في تناغمها الاساسي السليم ليست الا جزءا من تناغم الكون. وفي هذا الدو الكوني تتوحد جميع قوانين الطبيعة وتكون مادة الحقائق كلها التي يقول بها اسبنوزا؛ وفيه تجد كل الصور الطبيعية على اختلاف أنواعها مكانها الصحيح، وتجتمع كل المظاهر التي تبدو للعين مختلفة متناقضة، وهو الحقيقة المطلقة التي تتجمع فيها كل الخصائص والمعضلات لتتكون منها وحدة هيجل
Hegel الشاملة".

ويقول لو إن طبيعة قد جعلت حياة الناس في الايام الخالية بسيطة آمنة، فكان العالم كله هنيئا سعيدا. ثم حصل الناس "المعرفة" فعقدوا الحياة بالمخترعات وخسروا كل طهارتهم الذهنية والخلقية، وانتقلوا من الحقول إلى المدن، وشرعوا يؤلفون الكتب، فنشأ من ذلك كل ما أصاب الناس من شقاء، وجرت من أجل ذلك دموع الفلاسفة. فالعاقل اذن من يبتعد عن هذا التعقيد الحضري وهذا التيه المفسد الموهن تيه القوانين والحضارة، ويختفي بين أحضان الطبيعة، بعيدا عن المدن والكتب، والموظفين المرتشين، والمصلحين المغترين. وسر الحكمة كلها وسر القناعة الهادئة، وهي وحدها التي يجد فيها الانسان السعادة الابدية، هو الطاعة العمياء لقوانين الطبيعة، ونبذ جميع أساليب الخداع وأفانين العقل، وقبول جميع أوامر الطبيعة الصادرة من الغرائز، والشعور في ثقة واطمئنان، والجري على سنن الطبيعة الصامتة وتقليدها في تواضع.
ولعلنا لا نجد في الأدب كله فقرة أكثر انطباقا على العقل والحكمة من الفقرة الآتية:
ان كل ما في الطبيعة من أشياء تعمل وهي صامتة، وهي توجد وليس في حوزتها شيء، تؤدي واجبها دون أن تكون لها مطالب، وكل الاشياء على السواء تعمل عملها ثم تراها تسكن وتخمد، واذا ما ترعرعت وازدهرت عاد كل منها
صفحة رقم : 1117
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأقصى -> الصين -> عصر الفلاسفة -> نشأة الفلسفة -> المعلم القديم

إلى أصله، وعودة الاشياء إلى أصولها معناها راحتها وأداؤها ما قدر لها أن تؤديه. وعودتها هذه قانون أزلي، ومعرفة هذا القانون هي الحكمة.

والخمود الذي هو نوع من التعطل الفلسفي وامتناع عن التدخل في سير الاشياء الطبيعي وهو ما يمتاز به الحكيم في جميع مناحي الحياة، فاذا كانت الدولة مضطربة مختلة النظام فخير ما يفعل بها ألا يحاول الانسان اصلاح أمورها، بل أن يجعل حياته نفسها أداء منظما لواجبه، واذا ما لاقى الانسان مقاومة فأحكم السبل ألا يكافح أو يقاتل أو يحارب بل أن يتروى في سكون، وأن يكسب ما يريد أن يكسبه، اذا كان لا بد من الكسب، بالخضوع والصبر؛ ذلك أن المرء ينال من النصر بالسكون أكثر مما يناله بالعمل، وفي هذا يحدثنا لو- دزه حديثا لا يكاد يختلف في لهجته عن حديث المسيح!
"اذا لم تقاتل الناس فان أحدا على ظهر الارض لن يستطيع أن يقاتلك.. قابل الاساءة بالإحسان. أنا خير للأخيار، وخير أيضا لغير الأخيار؛ وبذلك يصير )الناس جميعا( أخيارا؛ وأنا مخلص للمخلصين، ومخلص أيضا لغير المخلصين وبذلك يصير )الناس جميعا( مخلصين.. وألين الأشياء في العالم تصدم أصلبها وتتغلب عليها.. وليس في العالم شيء ألين أو أضعف من الماء، ولكن لا شيء أقوى من الماء في مغالبة الأشياء الصلبة القوية" .
وتبلغ هذه الآراء غايتها في الصورة التي يتخيلها "لو" للرجل الحكيم. وقبل أن نرسم للقارئ هذه الصورة نقول أن من أخص خصائص المفكرين الصينيين أنهم لا يتحدثون عن القديسين بل يتحدثون عن الحكماء، وأنهم
صفحة رقم : 1118
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأقصى -> الصين -> عصر الفلاسفة -> نشأة الفلسفة -> المعلم القديم

لا يتحدثون عن الصلاح بقدر ما يتحدثون عن الحكمة. فليس الرجل المثالي في نظر الصينيين هو التقي العابد، بل هو صاحب العقل الناضج الهادئ، الذي يعيش عيشة البساطة والسكون وان كان خليقا بأن يشغل مكانا ساميا في العالم. ذلك أن السكون هو بداية الحكمة، والحكيم لا يتكلم حتى على الدو والحكمة، لأن الحكمة لا تنقل الا بالقدوة والتجربة لا بالألفاظ؛ والذي يعرف )الطريقة( لا يتحدث عنها؛ والذي يتحدث عنها لا يعرفها؛ والذي )يعرفها( يقفل فاه ويسد أبواب خياشيمه"، والحكيم شيمته التواضع، لأن الانسان متى بلغ الخمسين من عمره فقد آن له أن يدرك أن المعرفة شيء نسبي، وأن الحكمة شيء ضعيف سهل العطب؛ واذا عرف الحكيم أكثر مما يعرف غيره من الناس حاول أن يخفي ما يعرفه "فهو يحاول أن يقلل من سناه ولألائه ويوائم بين سناه وقتام )غيره(؛ وهو يتفق مع السذج أكثر مما يتفق مع العلماء، ولا يألم من غريزة المعارضة التي هي غريزة طبيعية في الأحداث المبتدئين. وهو لا يعبأ بالثروة أو السلطان، بل يخضع شهواته إلى الحد الادنى الذي يكاد يتفق مع العقيدة البوذية:
"ليس لشيء عندي قيمة، وأشتهي أن يخضع قلبي خضوعا تاما، وأن يفرغ حتى لا يبقى فيه شيء قط.. يجب أن يبلغ الفراغ أقصى درجاته، وأن يحاط السكون بقوة لا تمل.. ومن كانت هذه صفاته لا يمكن أن يعامل بجفاء أو في غير كلفة. وهو أكبر من أن يتأثر بالمكاسب أو الاذى وبالنبل أو الانحطاط وهو أنبل انسان تحت قبة السماء"(50).
صفحة رقم : 1119
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأقصى -> الصين -> عصر الفلاسفة -> نشأة الفلسفة -> المعلم القديم

ولسنا نرى حاجة لبيان ما في هذه الآراء من اتفاق مع آراء جان جاك روسو وحسبنا أن نقول ان الرجلين قد صبا في قالب واحد مهما يكن بعد ما بينهما من الزمن، وان فلسفتهما من نوع الفلسفة التي تظهر وتختفي ثم تعود إلى الظهور في فترات دورية؛ ذلك بأن الناس في كل جيل يملون ما في حياة المدن من كفاح وقسوة وتعقيد وتسابق، فيكتبون عن مباهج الحياة الريفية الرتيبة كتابة تستند إلى الخيال أكثر مما تستند إلى العلم بحقائق الامور. وما من شك في أن المرء لا بد له من خبرة سابقة طويلة بحياة المدن اذا شاء أن يكتب شعرا عن الريف "والطبيعة" لفظ طيع سهل على لسان كل باحث في الاخلاق أو الدين؛ وهو لا يوائم علم دارون ولا أخلاقية نتشة أكثر مما يوائم فلسفة "لو- دزه" والمسيح المتعقلة الحلوة.
ذلك أن الانسان اذا ما سار على سنن الطبيعة أدى به هذا إلى قتل أعدائه وأكل لحومهم لا إلى ممارسة الفلسفة، وقلّ أن يكون وضيعا ذليلا، وأقل من هذا أن يكون هادئا ساكنا. بل ان فلح الارض- وهو العمل الشاق المؤلم- لا يوائم قط ذلك الجنس من الناس الذي اعتاد الصيد والقتل؛ ولهذا كانت الزراعة من الاعمال "غير الطبيعية" مثلها في هذا كمثل الصناعة سواء بسواء.
على أن في هذه الفلسفة رغم هذا كله شيئا من السلوى وراحة البال. وأكبر ظننا أننا نحن أيضا حين تبدأ نيران عواطفنا في الخمود سنرى فيها غير قليل من الحكمة؛ وسنرى فيها السلم المريح الذي ينبعث من الجبال غير المزدحمة ومن الحقول الرحبة. ان الحياة تتأرجح بين فلتير وروسو، وبين كنفوشيوس ولو- دزه، وبين سقراط والمسيح.
واذا ما استقرت كل فكرة زمنا ما في عقولنا، ودافعنا عنها دفاعا ليس فيه شئ من البسالة أو من الحكمة، مللنا نحن أيضا تلك المعركة وتركنا إلى الشباب ما كان قد تجمع لدينا من مثل عليا تناقص عديدها. فاذا ما حدث هذا لجأنا إلى
صفحة رقم : 1120

قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأقصى -> الصين -> عصر الفلاسفة -> نشأة الفلسفة -> المعلم القديم

الغابات مع جان جاك ومع لو- دزه وأمثالهما؛ وصادقنا الحيوان؛ وتحدثنا ونحن أكبر رضا وأطمئنانا من مكيفلي إلى عقول الزراع السذج، وتركنا العالم ينضح بالشرور، ولم نفكر قط في اصلاحه. ولعلنا وقتئذ نحرق وراءنا كل كتاب فيه الا كتابا واحدا، ولعلنا نجد خلاصة الحكمة كلها في الدو- دي- جنج.
وفي وسعنا أن نتصور ما كان لهذه الفلسفة في نفس كنفوشيوس من أثر مؤلم محنق. فقد جاء هذا الفيلسوف في سن الرابعة والثلاثين، وهي السن التي لا يكتمل فيها نضوج الذهن، إلى لويانج حاضرة جو ليستشير المعلم الكبير في بعض أمور دقيقة ذات صلة بالتاريخ ويقال ان لو- دزه أجابه إجابة فظة غامضة قصيرة:
"ان الذين تسأل عنهم قد استحالوا هم وعظامهم ترابا، ولم يبق إلا الفاظهم، واذا ما حانت ساعة الرجل العظيم قام من فوره وتولى القيادة، أما قبل أن تحين هذه الساعة فإن العقبات تقام في سبيل كل ما يحاوله. ولقد سمعت أن التاجر الموفق يحرص على اخفاء ثروته، ويعمل عمل من لا يملك شيئا من حطام الدنيا- وأن الرجل العظيم بسيط في أخلاقه ومظهره رغم ما يقوم به من جلائل الاعمال، فتخلص من كبريائك ومطامعك الكثيرة، وتصنعك وآمالك المفرطة البعيدة. ان هذه كلها لا ترفع قط من أخلاقك. وهذا ما أشير به عليك".
ويقول المؤرخ الصيني الذي يروي هذه القصة ان كونفوشيوس أحسّ من فوره بسداد هذه النصيحة، ولم ير في هذه الألفاظ ما يسيء إليه، بل أنه رأى فيها عكس هذا، وقال لتلاميذه بعد أن عاد من عند الفيلسوف المحتضر:
"إني أعرف كيف يطير الطير، ويسبح السمك، ويجري الحيوان؛
صفحة رقم : 1121
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأقصى -> الصين -> عصر الفلاسفة -> نشأة الفلسفة -> المعلم القديم

ولكن الذي يجري على الارض يمكن اقتناصه، والذي يسبح في الماء يمكن صيده، والذي يطير في الجو يمكن اصابته بالسهام. غير أن هناك تنينا مهولا- ولست أستطيع أن أقول كيف يركب الريح ويخترق به السحاب ويعلو في أجواز الفضاء. لقد قابلت اليوم لو- دزه، ولست أستطيع أن أجد له مثيلا غير التنين". ثم خرج المعلم الجديد ليؤدي رسالته، وليكون أعظم فلاسفة التاريخ أثراً.

صفحة رقم : 1122
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأقصى -> الصين -> عصر الفلاسفة -> كنفوشيوس -> الحكيم يبحث عن دولة

الفصل الثاني
كنفوشيوس
1- الحكيم يبحث عن دولة
مولده وشبابه - زواجه وطلاق زوجته - تلاميذه وطرائقه -
مظهره وأخلاقه - السيدة والنمر - تعريف الحكومة الصالحة
كنفوشيوس في منصبه - سنون التجوال - سلوى الشيخوخة
ولد كونج- فو- دزه أو كونج المعلم كما كان تلاميذ كونج- تشيو يسمونه في عام 551 ق.م في مدينة تشو- فو إحدى البلاد التي كانت تُكوّن وقتئذ مملكة لو، والتي تُكوّن الآن ولاية شان تونج.
وتصف الأقاصيص الصينية، وهي التي لا تضارعها أقاصيص أخرى في خصب خيالها، كيف أعلنت الأشباح إلى أمه الشابة مولده غير الشرعي(63)، وكيف كانت الهولات تحرسها والأرواح الإناث تعطي لها الهواء وهي تلده في أحد الكهوف. وتقول تلك الأقاصيص إنه كان له ظهر تنين، وشفتا ثور، وفم في سعة البحر(64)، وإنه ولد من أسرة هي أقدم الأسر الباقية على قيد الحياة إلى الآن لأنه (كما يؤكد علماء الأنساب الصينيون) من نسل الإمبراطور العظيم هوانج- دي، وإن له أحفاداً كثيرين، وإن نسله لم ينقطع إلى وقتنا هذا. ولقد بلغ عدد من تناسل منهم منذ مائة عام أحد عشر ألفاً من الذكور، ولا تزال البلدة التي ولد فيها حتى هذا اليوم لا يعمرها إلا نسله- أو بعبارة أدق إلا نسل ابنه الوحيد؛ ومن نسله وزير المالية في الحكومة الصينية القائمة للآن في نانكنج .
صفحة رقم : 1123

قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأقصى -> الصين -> عصر الفلاسفة -> كنفوشيوس -> الحكيم يبحث عن دولة

وكان والد كونج في السبعين من عمره حين ولد له ولده(66)، ومات حين بلغ ابنه سن الثالثة. وكان كنفوشيوس يعمل بعد الفراغ من المدرسة ليساعد على إعالة والدته، ولعله قد تعود في طفولته تلك الرزانة التي هي من خصائص كبار السن، والتي لازمته في كل خطوة خطاها طوال حياته. لكنه مع هذا وجد متسعاً من الوقت يحذق فيه الرماية والموسيقى؛ وبلغ من شدة ولعه بالموسيقى أنه كان يستمع مرة إلى لحن مطرب، فتأثر به تأثراً حمله على أن يمتنع عن أكل اللحوم، وظل بعدئذ ثلاثة أشهر لا يذوق فيها اللحم أبداً(67). ولم يكن يتفق اتفاقاً تاماً مع نيتشه في أن ثمة شيئاً من التناقض بين الفلسفة والزواج، ذلك أنه تزوج في التاسعة عشرة من عمره، ولكنه طلق زوجته وهو في الثالثة والعشرين، ويلوح أنه لم يتزوج بعدها أبداً.
ولما بلغ الثانية والعشرين من عمره بدأ يشتغل بالتعليم، واتخذ داره مدرسة له، وكان يتقاضى من تلاميذه ما يستطيعون أداءه من الرسوم مهما كانت قليلة. وكانت الموارد التي يشملها برنامجه ثلاثاً: التاريخ والشعر وآداب اللياقة. ومن أقواله: "إن أخلاق الرجل تكونها القصائد وتنميها المراسم" (أي آداب الحفلات والمجاملات) "وتعطرها الموسيقي"(68).

وكان تعليمه كتعليم سقراط شفهياً لا يلجأ فيه إلى الكتابة، ولهذا فإن أكثر ما نعرفه من أخباره قد وصل إلينا عن طريق أتباعه ومريديه، وذلك مصدر لا يوثق به. وقد ترك إلى الفلاسفة مثلاً قل أن يعبئوا به- وهو ألا يهاجموا قط غيرهم من المفكرين، وألا يضيعوا وقتهم في دحض حججهم. ولم يكن يعلم طريقة من طرائق المنطق الدقيق، ولكنه كان يشحذ عقول تلاميذه بأن يعرض بأخطائهم في رفق ويطلب إليهم شدة اليقظة العقلية. ومن أقواله في هذا المعنى: "إذا لم يكن من عادة الشخص أن يقول: ماذا أرى في هذا؟ فإني لا أستطيع أن أفعل له شيئاً"(69). وإني لا أفتح باب الحق لمن لا يحرص
صفحة رقم : 1124
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأقصى -> الصين -> عصر الفلاسفة -> كنفوشيوس -> الحكيم يبحث عن دولة

على معرفته، ولا أعين من لا يعنى بالإفصاح عما يكنه في صدره. وإذا ما عرضت ركناً من موضوع ما على إنسان، ولم يستطع مما عرضته عليه أن يعرف الثلاثة الأركان الباقية فإني لا أعيد عليه درسي"(70)، ولم يكن يشك في أن صنفين اثنين من الناس هما وحدهما اللذان لا يستطيعان أن يفيدا من تعاليمه وهما أحكم الحكماء وأغبى الأغبياء، وأن لا أحد يستطيع أن يدرس الفلسفة الإنسانية بأمانة وإخلاص دون أن تصلح دراستها من خلقه وعقله. "وليس من السهل أن نجد إنسانا واصل الدرس ثلاث سنين دون أن يصبح إنساناً صالحاً"(71).
ولم يكن له في بادئ الأمر إلا عدد قليل من التلاميذ، ولكن سرعان ما تواترت الإشاعات بأن وراء شفتي الثور والفم الواسع كالبحر قلباً رقيقاً وعقلاً يفيض بالعلم والحكمة، فألتف الناس حوله حتى استطاع في آخر أيام حياته أن يفخر بأنه قد تخرج على يديه ثلاثة آلاف شاب غادروا منزله ليشغلوا مراكز خطيرة في العالم.

وكان بعض الطلبة- وقد بلغ عددهم في وقت من الأوقات سبعين طالباً- يعيشون معه كما يعيش الطلبة الهنود المبتدئون مع مدرسيهم (الجورو)؛ ونشأت بين المدرس وتلاميذه صلات ود وثيقة دفعت هؤلاء التلاميذ في بعض الأحيان إلى الاحتجاج على أستاذهم حين رأوه يعرّض نفسه للخطر أو اسمه للمهانة. وكان رغم شدته عليهم يحب بعضهم أكثر مما يحب ابنه، ولما مات هُوِي بكى عليه حتى قرحت دموعه مآقيه. وسأله دوق جاي يوماً من الأيام أي تلاميذه أحبهم إلى المعلم فأجابه: "لقد كان أحبهم إلى العلم ين هُوِى، لقد كان يحب أن يتعلم.. ولم أسمع بعد عن إنسان يحب أن يتعلم (كما كان يحب هُوِي).. لم يقدم لي هُوِي معونة، ولم أقل قط شيئاً لم يبتهج له.. وكان إذا غضب كظم غيظه؛ وإذا أخطأ مرة لم يعد إلى خطئه. ومما يؤسف له أنه كان قصير الأجل فمات وليس له في هذا الوقت (نظير)(72). وكان الطلبة الكسالى يتحاشون
صفحة رقم : 1125
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأقصى -> الصين -> عصر الفلاسفة -> كنفوشيوس -> الحكيم يبحث عن دولة

لقاءه فإذا لقيهم قسا عليهم، وذلك لأنه لم يكن يتورع عن أن يعلم الكسول بضربة من عكازته ويطرده من حضرته دون أن تأخذه به رأفة. ومن أقواله: "ما أشقى الرجل الذي يملأ بطنه بالطعام طوال اليوم، دون أن يجهد عقله في شيء.. لا يتواضع في شبابه التواضع الخليق بالأحداث، ولا يفعل في رجولته شيئاً خليقاً بأن يأخذه عنه غيره، ثم يعيش إلى أرذل العمر- إن هذا الإنسان وباء"(73).

وما من شك في أنه كان يبدو غريب المنظر وهو واقف في حجرته أو في الطريق العام، يعلم مريديه التاريخ والشعر والآداب العامة والفلسفة، ولا يقل استعداده وهو في الطريق عن استعداده وهو في حجرته. وتمثله الصور التي رسمها له المصورون الصينيون في آخر سني حياته رجلاً ذا رأس أصلع لا تكاد تنمو عليه شعرة، قد تجعد وتعقد لكثرة ما مر به من التجارب، ووجه ينم عن الجد والرهبة ولا يشعر قط بما يصدر عن الرجل في بعض الأحيان من فكاهة، وما ينطوي عليه قلبه من رقة، وإحساس بالجمال مرهف يُذكّر المرء بأنه أمام إنسان من الآدميين رغم ما يتصف به من كمال لا يكاد يطاق، وقد وصفه في أيام كهولته الأولى مدرس له كان ممن يعلمونه الموسيقى فقال:
"لقد تبينت في جونج- تي كثيراً من دلائل الحكمة، فهو أجبه واسع العين، لا يكاد يفترق في هذين الوصفين عن هوانج- دي. وهو طويل الذراعين ذو ظهر شبيه بظهر السلحفاة، ويبلغ طول قامته تسع أقدام (صينية) وست بوصات.. وإذا تكلم أثنى على الملوك الأقدمين، وهو يسلك سبيل التواضع والمجاملة؛ وما من موضوع إلا سمع به، قوي الذاكرة لا ينسى ما يسمع؛ ذو علم بالأشياء لا يكاد ينفد. ألسنا نجد فيه حكيماً ناشئاً؟"(74).
وتعزو إليه الأقاصيص "تسعاً وأربعين صفة عجيبة من صفات الجسم يمتاز بها عن غيره من الناس". ولما فرّقت بعض الحوادث بينه وبين مريديه في أثناء
صفحة رقم : 1126
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأقصى -> الصين -> عصر الفلاسفة -> كنفوشيوس -> الحكيم يبحث عن دولة

تجواله، عرفوا مكانه على الفور من قصة قصها عليهم أحد المسافرين، قال إنه التقى برجل بشع الخلقة "ذي منظر كئيب شبيه بمنظر الكلب الضال". ولما أعاد هذا القول على مسامع كنفوشيوس ضحك منه كثيراً ولم يزد على أن قال: "عظيم!عظيم!"(75).

وكان كنفوشيوس معلماً من الطراز القديم يعتقد أن التنائي عن تلاميذه وعدم الاختلاط بهم ضروريان لنجاح التعليم. وكان شديد المراعاة للمراسم، وكانت قواعد الآداب والمجاملة طعامه وشرابه، وكان يبذل ما في وسعه للحد من قوة الغرائز والشهوات وكبح جماحها بعقيدته المتزمتة الصارمة. ويلوح أنه كان يزكي نفسه في بعض الأحيان. ويروى عنه أنه قال عن نفسه يوماً من الأيام مقالة فيها بعض التواضع- "قد يوجد في كفر من عشر أسر رجل في مثل نبلي وإخلاصي، ولكنه لن يكون مولعاً بالعلم مثلي"(76). وقال مرة أخرى "قد أكون في الأدب مساوياً لغيري من الناس، ولكن (خلق) الرجل الأعلى الذي لا يختلف قوله عن فعله هو ما لم أصل إليه بعد(77) "لو وجد من الأمراء من يوليني عملاً لقمت في اثني عشر شهراً بأعمال جليلة، ولبلغت (الحكومة) درجة الكمال في ثلاث سنين"(78). على أننا نستطيع أن نقول بوجه عام إنه كان متواضعا في عظمته. ويؤكد لنا تلاميذه أن "المعلم كان مبرأ من أربعة عيوب؛ كان لا يجادل وفي عقله حكم سابق مقرر، ولا يتحكم في الناس ويفرض عليهم عقائده، ولم يكن عنيداً ولا أنانياً"(79). وكان يصف نفسه بأنه "ناقل غير منشىء"(80). وكان يدعي أن كل ما يفعله هو أن ينقل إلى الناس ما تعلمه من الإمبراطورين العظيمين يو وشون. وكان شديد الرغبة في حسن السمعة والمناصب الرفيعة، ولكنه لم يكن يقبل أن يتراضى على شيء مشين ليحصل عليهما أو يستبقيهما. وكم من مرة رفض منصباً رفيعاً عرضه عليه رجال بدا له أن حكومتهم ظالمة. وكان مما نصح به تلاميذه أن من واجب الإنسان أن يقول:
صفحة رقم : 1127
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأقصى -> الصين -> عصر الفلاسفة -> كنفوشيوس -> الحكيم يبحث عن دولة

"لست أبالي مطلقاً إذا لم أشغل منصباً كبيراً، وإنما الذي أعنى به أن أجعل نفسي خليقاً بذلك المنصب الكبير. وليس يهمني قط أن الناس لا يعرفونني؛ ولكنني أعمل على أن أكون خليقاً بأن يعرفني الناس"(81).
وكان من بين تلاميذه أبناء هانج هِي، أحد وزراء دوق لو، وقد وصل كنفوشيوس عن طريقهم إلى بلاط ملوك جو في لو- يانج، ولكنه ظل بعيداً بعض البعد عن موظفي البلاط، وآثر على الاقتراب منهم زيارة الحكيم لو- دزه وهو على فراش الموت كما سبق القول. فلما عاد إلى لو وجدها مضطربة ممزقة الأوصال بما قام فيها من نزاع وشقاق، فانتقل منها إلى ولاية تشي المجاورة لها ومعه طائفة من تلاميذه مخترقين في طريقهم إليها مسالك جبلية وعرة مهجورة. ولشد ما كانت دهشتهم حين أبصروا في هذه القفار عجوزا تبكي بجوار أحد القبور. فأرسل إليها كنفوشيوس تسه- لو يسألها عن سبب بكائها وحزنها، فأجابته قائلة: "إن والد زوجي قد فتك به نمر في هذا المكان، ثم ثنى النمر بزوجي، وهاهو ذا ولدي قد لاقى هذا المصير نفسه". ولما سألها كنفوشيوس عن سبب إصرارها على الإقامة في هذا المكان الخطر، أجابته قائلة: "ليس في هذا المكان حكومة ظالمة". فالتفت كنفوشيوس إلى طلابه وقال لهم: "أي أبنائي اذكروا قولها هذا؛ إن الحكومة الظالمة أشد وحشية من النمر"(82).
ومثل كنفوشيوس بين يدي دوق تشي وسرّ الدوق من جوابه حين سأله عن ماهية الحكومة الصالحة: "توجد الحكومة الصالحة حيث يكون الأمير أميراً، والوزير وزيراً، والأب أباً والابن ابناً"، وعرض عليه الدوق نظير تأييده إياه خراج مدينة لن -شيو، ولكن كنفوشيوس رفض الهبة وأجابه بأنه لم يفعل شيئاً يستحق عليه هذا الجزاء. وأراد الدوق أن يحتفظ به في بلاطه وأن يجعله مستشاراً له، ولكن جان ينج كبير وزرائه أقنعه بالعدول عن رأيه وقال له: "إن هؤلاء العلماء رجال غير عمليين لا يستطاع تقليدهم؛ وهم متغطرسون مغرورون
صفحة رقم : 1128

قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأقصى -> الصين -> عصر الفلاسفة -> كنفوشيوس -> الحكيم يبحث عن دولة

بآرائهم، لا يقنعون بما يعطى لهم من مراكز متواضعة.. وللسيد كونج هذا من الخصائص ما يبلغ الألف عداً.. ولو أردنا أن نلم بكل ما يعرفه عن مراسم الصعود والنزول لتطلب منا ذلك أجيالاً طوالاً"(84). ولم يثمر هذا اللقاء ثمرة ما، وعاد كنفوشيوس على أثره إلى لو وظل يعلم تلاميذه فيها خمسة عشر عاماً أخرى قبل أن يستدعى ليتولى منصباً عاماً في الدولة.
وواتته الفرصة حين عُيّن في أواخر القرن السادس قبل الميلاد كبير القضاة في مدينة جونج- دو. وتقول الرواية الصينية إن المدينة في أيامه قد اجتاحتها موجة جارفة من الشرف والأمانة، فكان إذا سقط شيء في الطريق بقي حيث هو أو أعيد إلى صاحبه(85). ولما رقاه الدوق دنج دوق لو إلى منصب نائب وزير الأشغال العامة شرع في مسح أرض الدولة وأدخل إصلاحات جمة في الشئون الزراعية، ويقال أنه لما رقي بعدئذ وزير للجرائم كان مجرد وجوده في هذا المنصب كافياً لقطع دابر الجريمة. وفي ذلك تقول السجلات الصينية: "لقد استحت الخيانة واستحى الفساد أن يطلاّ برأسيهما واختفيا، وأصبح الوفاء والإخلاص شيمة الرجال، كما أصبح العفاف ودماثة الخلق شيمة النساء. وجاء الأجانب زرافات من الولايات الأخرى، وأصبح كنفوشيوس معبود الشعب"(86).

إن في هذا الإطراء من المبالغة ما يجعله موضع الشك؛ وسواء كان خليقاً به أو لم يكن فإنه كان أرقى من أن يعمر طويلاً. وما من شك في أن المجرمين قد أخذوا يأتمرون بالمعلم الكبير ويدبرون المكائد للإيقاع به. ويقول المؤرخ الصيني: إن الولايات القريبة من "لو" دب فيها دبيب الحسد وخشيت على نفسها من قوة "لو" الناهضة. ودبّر وزير ماكر من وزراء تشي مكيدة ليفرق بها بين دوق "لو" وكنفوشيوس، فأشار على دوق تشي بأن يبعث إلى تنج بسرب من حسان "الفتيات المغنيات" وبمائة وعشرين جواداً تفوق الفتيات جمالاً.
صفحة رقم : 1129
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأقصى -> الصين -> عصر الفلاسفة -> كنفوشيوس -> الحكيم يبحث عن دولة

وأسرت البنات والخيل قلب الدوق فغفل عن نصيحة كنفوشيوس (وكان قد علمه أن المبدأ الأول من مبادئ الحكم الصالح هو القدوة الصالحة)، فأعرض عن وزرائه وأهمل شئون الدولة إهمالاً معيباً. وقال دزه- لو لكنفوشيوس: "أيها المعلم لقد آن لك أن ترحل". واستقال كنفوشيوس من منصبه وهو كاره، وغادر لو، وبدأ عهد تجوال وتشرد دام ثلاثة عشر عاماً. وقال فيما بعد "إنه لم ير قط إنساناً يحب الفضيلة بقدر ما يحب الجمال"(87). والحق أن من أغلاط الطبيعة التي لا تغتفر لها أن الفضيلة والجمال كثيراً ما يأتيان منفصلين لا مجتمعين.
وأصبح المعلم وعدد قليل من مريديه المخلصين مغضوباً عليهم في وطنهم، فأخذوا يتنقلون من إقليم إلى إقليم، يلقون في بعضها مجاملة وترحاباً، ويتعرضون في بعضها الآخر لضروب من الحرمان والأذى. وهاجمهم الرعاع مرتين، وكادوا في يوم من الأيام يموتون جوعاً، وبرّح بهم ألم الجوع حتى شرع تْزَه- لو نفسه يتذمر ويقول إن حالهم لا تليق "بالإنسان الراقي". وعرض دوق وى على كنفوشيوس أن يوليه رياسة حكومته، ولكن كنفوشيوس رفض هذا العرض، لأنه لم تعجبه مبادئ الدوق(88).

وبينما كانت هذه الفئة الصغيرة في يوم من الأيام تجوس خلال تشي إذ التقت بشيخين عافت نفسهما مفاسد ذلك العهد، فاعتزلا الشئون العامة كما اعتزلها لو -دزه، وآثرا عليها الحياة الزراعية البعيدة عن جلبة الحياة العامة. وعرف أحد الشيخين كنفوشيوس، ولام تْزَه- لو، على سيره في ركابه، وقال له: "إن الاضطراب يجتاح البلاد اجتياح السيل الجارف، ومن ذا الذي يستطيع أن يبدل لكم هذه الحال؟ أليس خيراً لكم أن تتبعوا أولئك الذين يعتزلون العالم كله، بدل أن تتبعوا ذلك الذي يخرج من ولاية إلى ولاية؟"(89). وفكر كنفوشيوس في هذا اللوم طويلاً ولكنه لم يفقد رجاءه في أن تتيح له ولاية من الولايات فرصة يتزعم فيها حركة الإصلاح والسلم.
صفحة رقم : 1130
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأقصى -> الصين -> عصر الفلاسفة -> كنفوشيوس -> الحكيم يبحث عن دولة

ولما بلغ كنفوشيوس التاسعة والستين من عمره جلس دوق جيه آخر الأمر على عرش لو وأرسل ثلاثة من موظفيه إلى الفيلسوف يحملون إليه ما يليق من الهدايا بمقامه العظيم، ويدعونه أن يعود إلى موطنه. وقضى كنفوشيوس الأعوام الخمسة الباقية من حياته يعيش معيشة بسيطة معززاً مكرماً، وكثيرا ما كان يتردد عليه زعماء لو يستنصحونه، ولكنه أحسن كل الإحسان بأن قضى معظم وقته في عزلة أدبية منصرفاً إلى أنسب الأعمال وأحبها إليه وهو نشر روائع الكتب الصينية وكتابة تاريخ الصينيين. ولما سأل دوق شي تْزَه- لو عن أستاذه ولم يجبه هذا عن سؤاله، وبلغ ذلك الخبر مسامع كنفوشيوس، قال له: " لِمَ لم تجبه بأنه ليس إلا رجلاً ينسيه حرصه على طلب العلم الطعام والشراب، وتنسيه لذة (طلبه) أحزانه، وبأنه لا يدرك أن الشيخوخة مقبلة عليه"(90) وكان يسلي نفسه في وحدته بالشعر والفلسفة، ويسره أن غرائزه تتفق وقتئذ مع عقله، ومن أقواله في ذلك الوقت: "لقد كنت في الخامسة عشرة من عمري مكباً على العلم، وفي الثلاثين وقفت ثابتاً لا أتزعزع، وفي سن الأربعين زالت عني شكوكي، وفي الخمسين من عمري عرفت أوامر السماء، وفي الستين كانت أذني عضواً طيعاً لتلك الحقيقة، وفي السبعين كان في وسعي أن أطيع ما يهواه قلبي دون أن يؤدي بي ذلك إلى تنكب طريق الصواب والعدل(91).
ومات كنفوشيوس في الثانية والسبعين من عمره، وسمعه بعضهم يوماً من الأيام يغني في الصباح الباكر تلك الأغنية الحزينة:
سيدك الجبل الشاهق دكا،
وتتحطم الكتلة القوية،
ويذبل الرجل الحكيم كما يذبل النبات.
ولما أقبل عليه تلميذه تْزَه- كونج قال له: "لن يقوم في البلاد ملك
صفحة رقم : 1131
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأقصى -> الصين -> عصر الفلاسفة -> كنفوشيوس -> الحكيم يبحث عن دولة

ذكي أريب؛ وليس في الإمبراطورية رجل يستطيع أن يتخذني معلماً له. لقد تصرم أجلي وحان يومي"(92).

ثم آوى إلى فراشه ومات بعد سبعة أيام من ذلك اليوم. وواراه تلاميذه التراب باحتفال مهيب جدير بما تنطوي عليه قلوبهم من حب له وجلال، وأحاطوا قبره بأكواخ لهم أقاموا فيها ثلاث سنين يبكونه كما يبكي الأبناء آباءهم. وبعد أن مضت هذه المدة غادروا جميعا أكواخهم إلاّ تْزَه- كونج، وكان حبه إياه يفوق حبهم جميعاً، فبقي بجوار قبر أستاذه ثلاث سنين أخرى واجماً حزيناً تتشعبه الهموم(93).

صفحة رقم : 1132
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأقصى -> الصين -> عصر الفلاسفة -> كنفوشيوس -> الكتب التسعة

2- الكتب التسعة
وترك كنفوشيوس وراءه خمسة مجلدات يلوح أنه كتبها أو أعدها للنشر بيده هو نفسه، ولذلك أصبحت تعرف في الصين باسم "الجنحات الخمسة" أو "كتب القانون الخمسة". وكان أول ما كتبه منها هو اللي- جي أو سجل المراسم، لاعتقاده أن هذه القواعد القديمة من آداب اللياقة من الأسس الدقيقة التي لا بد منها لتكوين الأخلاق ونضجها، واستقرار النظام الاجتماعي والسلام.
ثم كتب بعدئذ ذيولاً وتعليقات على كتاب إلاي- جنج أو كتاب التغيرات، وكان يرى أن هذا الكتاب خير ما أهدته الصين إلى ذلك الميدان الغامض ميدان علم ما وراء الطبيعة الذي كان جد حريص على ألا يلج بابه في فلسفته. ثم اختار ورتب الشي- جنج أو كتاب الأناشيد ليشرح فيه كنه الحياة البشرية ومبادئ الأخلاق الفاضلة. وكتب بعد ذلك التشو- شيو أو حوليات الربيع والخريف، وقد سجل فيه تسجيلاً موجزاً خالياً من التنميق أهم ما وقع من الأحداث في "لو" موطنه الأصلي. وكان خامس أعماله
صفحة رقم : 1133
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأقصى -> الصين -> عصر الفلاسفة -> كنفوشيوس -> الكتب التسعة

الأدبية وأعظمها نفعا أنه أراد أن يوحي إلى تلاميذه أشرف العواطف وأنبل الصفات فجمع في الشو- جنج أي كتاب التاريخ أهم وأرقى ما وجده في حكم الملوك الأولين من الحوادث أو الأقاصيص التي تسمو بها الأخلاق وتشرف الطباع، وذلك حين كانت الصين إمبراطورية موحدة إلى حد ما وحين كان زعماؤها، كما يظن كنفوشيوس، أبطالاً يعملون في غير أنانية لتمدين الشعب ورفع مستواه.
ولم يكن وهو يعمل في هذه الكتب يرى أن وظيفته هي وظيفة المؤرخ بل كان فيها كلها معلماً ومهذباً للشباب، ومن أجل هذا اختار عن قصد من أحداث الماضي ما رآه ملهماً لتلاميذه لا موئساً لهم.
فإذا ما عمدنا إلى هذه المجلدات لنستقي منها تاريخاً علمياً نزيها لبلاد الصين فإنا بهذا العمل نظلم كنفوشيوس أشد الظلم. فقد أضاف إلى الحوادث الواقعية خطباً وقصصاً من عنده، صب فيها أكثر ما يستطيع من الحض على الأخلاق الكريمة والإعجاب بالحكمة. وإذا كان قد جعل ماضي بلاده مثلاً أعلى بين ماضي الشعوب، فإنه لم يفعل أكثر مما نفعله نحن%= يريد الأمريكيين. بماضينا الذي لا يعدل ماضي الصين في قدمه. وإذا كان رؤساء جمهوريتنا الأولون قد أضحوا حكماء وقديسين، ولما يمض عليهم أكثر من قرن أو قرنين من الزمان، فإنهم سيكونون بلا شك في نظر المؤرخ الذي يُحَدّث عنهم بعد ألف عام من هذه الأيام مثلاً علياً للفضيلة والكمال شأنهم في هذا شأن يو وشون.
ويضيف الصينيون إلى هذه الجنحات الخمسة أربع شوءات أو "كتب" (كتب الفلاسفة) يتكون منها كلها "التسعة الكتب القديمة". وأول هذه الكتب وأهمها جميعاً كتاب لوق بو أو الأحاديث والمحاورات المعروف عند
صفحة رقم : 1134
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأقصى -> الصين -> عصر الفلاسفة -> كنفوشيوس -> الكتب التسعة

قُرَّاء اللغة الإنجليزية باسم "مجموعة الشذرات" أي شذرات كنفوشيوس، كما سماه "لج Legge" في إحدى نزواته، وليست تلك الكتب مما خطه قلم المعلم الكبير، ولكنها تسجل في إيجاز ووضوح منقطعي النظير آراءه وأقواله كما يذكرها أتباعه. وقد جمعت كلها بعد بضع عشرات السنين من وفاته، ولعل الذين جمعوها هم مريدو مريديه(94)، وهي أقل ما يرتاب فيه من آرائه الفلسفية. وأكثر ما في الكتب الصينية القديمة طرافة وأعظمها تهذيباً ما جاء في الفقرتين الرابعة والخامسة من الشو الثاني، وهو المؤلف المعروف عند الصينيين باسم الداشوه أو التعليم الأكبر. ويعزو الفيلسوف والناشر الكنفوشي جوشي هاتين الفقرتين إلى كنفوشيوس نفسه كما يعزو باقي الرسالة إلى دزنج- تسان أحد أتباعه الصغار السن. أما كايا- كويه العالم الصيني الذي عاش في القرن الأول بعد الميلاد فيعزوهما إلى كونج جي حفيد كنفوشيوس؛ على حين أن علماء اليوم المتشككين يجمعون على أن مؤلفهما غير معروف(95). والعلماء كلهم متفقون على أن حفيده هذا هو مؤلف كتاب جونج يونج أو عقيدة الوسط وهو الكتاب الفلسفي الثالث من كتب الصين. وآخر هذه الشوءات هو كتاب منشيس الذي سنتحدث عنه توّاً. وهذا الكتاب هو خاتمة الآداب الصينية القديمة وإن لم يكن خاتمة العهد القديم للفكر الصيني. وسنرى فيما بعد أنه خرج على فلسفة كنفوشيوس التي تعد آية في الجمود والمحافظة على القديم متمردون عليها وكفرة بها ذوو مشارب وآراء متعددة متباينة.

صفحة رقم : 1135
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأقصى -> الصين -> عصر الفلاسفة -> كنفوشيوس -> لا أدرية كنفوشيوس

3- لا أدرية كنفوشيوس
هتامة في المنطق - الفلاسفة والصبيان - دستور للحكمة

فلنحاول أن نكون منصفين في حكمنا على هذه العقيدة. ولنقرّ بأنها ستكون نظرتنا إلى الحياة حين يجاوز الواحد منا الخمسين من عمره، ومبلغ علمنا أنها قد تكون أكثر انطباقاً على مقتضيات العقل والحكمة من شعر شبابنا. وإذا كنا نحن ضالين وشباناً فإنها هي الفلسفة التي يجب أن نقرن بها فلسفتنا نحن، لكي ينشأ مما لدينا من أنصاف الحقائق شئ يمكن فهمه وإدراكه.
ولا يظن القارئ أنه سيجد في لا أدرية كنفوشيوس نظاماً فلسفياً- أي بناء منسقاً من علوم المنطق وما وراء الطبيعة والأخلاق والسياسة تسري فيه كله فكرة واحدة شاملة (فتحيله أشبه بقصور نبوخذ ناصر (بختنصّر) التي نقش اسمه على كل حجر من حجارتها).
لقد كان كنفوشيوس يعلّم أتباعه فن الاستدلال، ولكنه لم يكن يعلمهم إياه بطريق القواعد أو القياس المنطقي، بل بتسليط عقله القوي تسليطاً دائماً على آراء تلاميذه؛ ولهذا فإنهم كانوا إذا غادروا مدرسته لا يعرفون شيئاً عن المنطق ولكن كان في وسعهم أن يفكروا تفكيراً واضحاً دقيقاً.
وكان أول الدروس، التي يلقيها عليهم المعلم، الوضوح والأمانة في التفكير والتعبير، وفي ذلك يقول: "كل ما يقصد من الكلام أن يكون مفهوما"(96)- وهو درس لا تذكره الفلسفة في جميع الأحوال. "فإذا عرفت شيئاً فتمسك بأنك تعرفه؛ وإذا لم تعرفه؛ فأقرّ بأنك لا تعرفه- وذلك في حد ذاته معرفة"(97). وكان يرى أن غموض الأفكار، وعدم الدقة في التعبير، وعدم الإخلاص فيه، من الكوارث الوطنية القومية. فإذا كان الأمير الذي ليس أميراً بحق والذي لا يستمتع بسلطان الإمارة لا يسميه الناس أميراً، وإذا كان
صفحة رقم : 1136
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأقصى -> الصين -> عصر الفلاسفة -> كنفوشيوس -> لا أدرية كنفوشيوس

الأب الذي لا يتصف بصفات الأبوة لا يسميه الناس أباً، وإذا كان الابن العاق لا يسميه الناس ابناً؛ إذا كان هذا كله فإن الناس قد يجدون في "تزه- لو" ما يحفزهم إلى إصلاح تلك العيوب التي طالما غطتها الألفاظ. ولهذا فإنه لما قال لكنفوشيوس: "إن أمير ويه في انتظارك لكي تشترك معه في حكم البلاد فما هو في رأيك أول شيء ينبغي عمله؟ فأجابه كنفوشيوس جوابا دهش له الأمير والتلميذ: "إن الذي لا بد منه أن تصحح الأسماء"(98).
ولما كانت النزعة المسيطرة على كنفوشيوس هي تطبيق مبادئ الفلسفة على السلوك وعلى الحكم فقد كان يتجنب البحث فيما وراء الطبيعة، ويحاول أن يصرف عقول أتباعه عن كل الأمور الغامضة أو الأمور السماوية. صحيح أن ذكر "السماء" والصلاة(99) كان َيرِدْ على لسانه أحياناً، وأنه كان ينصح أتباعه بألا يغفلوا عن الطقوس والمراسم التقليدية في عبادة الأسلاف والقرابين القومية(100)، ولكنه كان إذا وجه إليه سؤال في أمور الدين أجاب إجابة سلبية جعلت شرّاح آرائه المحدثين يجمعون على أن يضموه إلى طائفة اللا أدريين(101). فلما أن سأله تزه- كونج، مثلا: "هل لدى الأموات علم بشيء أو هل هم بغير علم؟" أبى أن يجيب جواباً صريحاً(102). ولما سأله كي -لو، عن "خدمة الأرواح" (أرواح الموتى) أجابه "إذا كنت عاجزاً عن خدمة الناس فكيف تستطيع أن تخدم أرواحهم؟". وسأله كي- لو: "هل أجرؤ على أن أسألك عن الموت؟" فأجابه: "إذا كنت لا تعرف الحياة، فكيف يتسنى لك أن تعرف شيئاً عن الموت"(103). ولما سأله فارشي عن "ماهية الحكمة" قال له: "إذا حرصت على أداء واجبك نحو الناس، وبعدت كل البعد عن الكائنات الروحية مع احترامك إياها أمكن أن تسمي هذه حكمة"(104).
ويقول لنا تلاميذه إن "الموضوعات التي لم يكن المعلم يخوض فيها هي الأشياء
صفحة رقم : 1137
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأقصى -> الصين -> عصر الفلاسفة -> كنفوشيوس -> لا أدرية كنفوشيوس

الغريبة غير المألوفة، وأعمال القوة، والاضطراب، والكائنات الروحية"(105). وكان هذا التواضع الفلسفي يقلق بالهم، وما من شك في أنهم كانوا يتمنون أن يحل لهم معلمهم مشاكل السموات ويطلعهم على أسرارها. ويقص علينا كتاب- لياتزه وهو مغتبط قصة غلمان الشوارع الذين أخذوا يسخرون من كنفوشيوس حين أقر لهم بعجزه عن هذا السؤال السهل وهو: "هل الشمس أقرب إلى الأرض في الصباح حين تبدو أكبر ما تكون، أو في منتصف النهار حين تشتد حرارتها"(106). وكل ما كان كنفوشيوس يرضى أن يقره من البحوث فيما وراء الطبيعة هو البحث عما بين الظواهر المختلفة جميعهاً من وحدة، وبذل الجهد لمعرفة ما يوجد من تناغم وانسجام بين قواعد السلوك الحسن واطراد النظم الطبيعية.
وقال مرة لأحد المقربين إليه: "أظنك يا تزه تعتقد أني من أولئك الذين يحفظون أشياء كثيرة ويستبقونها في ذاكرتهم؟" فأجابه تزه- كونج بقوله: "نعم أظن ذلك ولكني قد أكون مخطئاً في ظني؟" فرد عليه الفيلسوف قائلا "لا، إني أبحث عن الوحدة، الوحدة الشاملة"(107) وذلك بلا ريب هو جوهر الفلسفة.
وكانت الأخلاق مطلبه وهمه الأول، وكان يرى أن الفوضى التي تسود عصره فوضى خلقية، لعلها نشأت من ضعف الإيمان القديم وانتشار الشك السفسطائي في ماهية الصواب والخطأ. ولم يكن علاجها في رأيه هو العودة إلى العقائد القديمة، وإنما علاجها هو البحث الجدي عن معرفة أتم من المعرفة السابقة وتجديد أخلاقي قائم على تنظيم حياة الأسرة على أساس صالح قويم. والفقرتان الآتيتان المنقولتان عن كتاب التعليم الأكبر تعبران أصدق تعبير وأعمقه عن المنهج الفلسفي الكنفوشي.
"إن القدامى الذين أرادوا أن ينشروا أرقى الفضائل في أنحاء الإمبراطورية
صفحة رقم : 1138
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأقصى -> الصين -> عصر الفلاسفة -> كنفوشيوس -> لا أدرية كنفوشيوس

قد بدءوا بتنظيم ولاياتهم أحسن تنظيم، ولما أرادوا أن يحسنوا تنظيم ولاياتهم بدءوا بتنظيم أسرهم، ولما أرادوا تنظيم أسرهم بدءوا بتهذيب نفوسهم؛ ولما أرادوا أن يهذبوا نفوسهم بدءوا بتطهير قلوبهم، ولما أرادوا أن يطهروا قلوبهم عملوا أولاً على أن يكونوا مخلصين في تفكيرهم؛ ولما أرادوا أن يكونوا مخلصين في تفكيرهم بدءوا بتوسيع دائرة معارفهم إلى أبعد حد مستطاع، وهذا التوسع في المعارف لا يكون إلا بالبحث عن حقائق الأشياء.
فلما أن بحثوا عن حقائق الأشياء أصبح علمهم كاملاً، ولما كمل علمهم خلصت أفكارهم، فلما خلصت أفكارهم تطهرت قلوبهم، ولما تطهرت قلوبهم، تهذبت نفوسهم، ولما تهذبت نفوسهم انتظمت شئون أسرهم، ولما انتظمت شئون أسرهم صلح حكم ولاياتهم؛ ولما صلح حكم ولاياتهم أضحت الإمبراطورية كلها هادئة سعيدة(108).
تلك هي مادة الفلسفة الكنفوشية، وهذا هو طابعها، وفي وسع الإنسان أن ينسى كل ما عدا هذه الألفاظ من أقوال المعلم وأتباعه، وأن يحتفظ بهذه المعاني التي هي "جوهر الفلسفة وقوامها" وأكمل مرشد للحياة الإنسانية. ويقول كنفوشيوس "إن العالم في حرب لأن الدول التي يتألف منها فاسدة الحكم؛ والسبب في فساد حكمها أن الشرائع الوضعية مهما كثرت لا تستطيع أن تحل محل النظام الاجتماعي الطبيعي الذي تهيئه الأسرة. والأسرة مختلة عاجزة عن تهيئة هذا النظام الاجتماعي الطبيعي، لأن الناس ينسون أنهم لا يستطيعون تنظيم أسرهم من غير أن يُقوّموا نفوسهم وهم يعجزون عن أن يقوموا أنفسهم لأنهم لم يطهروا قلوبهم أي أنهم لم يطهروا نفوسهم من الشهوات الفاسدة الدنيئة؛ وقلوبهم غير طاهرة لأنهم غير مخلصين في تفكيرهم، لا يقدرون الحقائق قدرها ويخفون طبائعهم بدل أن يكشفوا عنها؛ وهم لا يخلصون في تفكيرهم لأن أهواءهم تشوه الحقائق وتحدد لهم النتائج بدل أن يعملوا على توسيع معارفهم إلى أقصى حد مستطاع
صفحة رقم : 1139

قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأقصى -> الصين -> عصر الفلاسفة -> كنفوشيوس -> لا أدرية كنفوشيوس

ببحث طبائع الأشياء بحثاً منزهاً عن الأهواء. فليسع الناس إلى المعارف المنزهة عن الهوى يخلصوا في تفكيرهم، وليخلصوا في تفكيرهم تتطهر قلوبهم من الشهوات الفاسدة؛ ولتطهر قلوبهم على هذه الصورة تصلح نفوسهم؛ ولتصلح نفوسهم تصلح من نفسها أحوال أسرهم؛ وليس الذي تصلح به هذه الأسر هو المواعظ التي تحث على الفضيلة أو العقاب الشديد الرادع، بل الذي يصلحها هو، ما للقدوة الحسنة من قوة صامتة؛ ولتنظم شئون الأسرة عن طريق المعرفة والإخلاص والقدوة الصالحة، يتهيأ للبلاد من تلقاء نفسه نظام اجتماعي يتيسر معه قيام حكم صالح.
ولتحافظ الدولة على الهدوء في أرضها والعدالة في جميع أرجائها يسد السلام العالم بأجمعه ويسعد جميع من فيه- تلك نصيحة تدعو إلى الكمال المطلق وتنسى أن الإنسان حيوان مفترس؛ ولكنها كالمسيحية تحدد لنا هدفاً نسعى لندركه وسلماً نرقاه لنصل به إلى هذا الهدف. وما من شك في أن في هذه النصوص قواعد فلسفية ذهبية.

صفحة رقم : 1140
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأقصى -> الصين -> عصر الفلاسفة -> كنفوشيوس -> طريقة الرجل الأعلى

4- طريقة الرجل الأعلى
صورة أخرى من صور الحكيم - عناصر الأخلاق - القاعدة الذهبية

وإذن فالحكمة تبدأ في البيت، وأساس المجتمع هو الفرد المنظم في الأسرة المنتظمة، وكان كنفوشيوس يتفق مع جوته في أن الرُقيّ الذاتي أساس الرُقيّ الاجتماعي؛ ولما سأله تزه- لو "ما الذي يكون الرجل الأعلى؟" أجابه بقوله "أن يثقف نفسه بعناية ممزوجة بالاحترام"(109). ونحن نراه في مواضع متفرقة من محاوراته يرسم صورة الرجل المثالي كما يراه هو جزءاً جزءاً- والرجل المثالي في اعتقاده هو الذي تجتمع فيه الفلسفة والقداسة فيتكون منهما الحكيم. والإنسان الكامل الأسمى في رأي كنفوشيوس يتكون من فضائل ثلاث كان كل من سقراط ونيتشه والمسيح يرى الكمال كل الكمال في كل واحدة منها بمفردها؛
صفحة رقم : 1141
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأقصى -> الصين -> عصر الفلاسفة -> كنفوشيوس -> طريقة الرجل الأعلى

وتلك هي الذكاء والشجاعة وحب الخير. وفي ذلك يقول: "الرجل الأعلى يخشى ألا يصل إلى الحقيقة، وهو لا يخشى أن يصيبه الفقر.. وهو واسع الفكر غير متشيع إلى فئة.. وهو يحرص على ألا يكون فيما يقوله شئ غير صحيح"(110).
ولكنه ليس رجلاً ذكياً وحسب، وليس طالب علم ومحباً للمعرفة وكفى، بل هو ذو خلق وذو ذكاء. "فإذا غلبت فيه الصفات الجسمية على ثقافته وتهذيبه كان جلفاً، وإذا غلبت فيه الثقافة والتهذيب على الصفات الجسمية تمثلت فيه أخلاق الكتبة؛ أما إذا تساوت فيه صفات الجسم والثقافة والتهذيب وامتزجت هذه بتلك كان لنا منه الرجل الكامل الفضيلة"(111). فالذكاء هو الذهن الذي يضع قدميه على الأرض.
وقوام الأخلاق الصالحة هو الإخلاص، "وليس الإخلاص الكامل وحده هو الذي يميز الرجل الأعلى"(112) "إنه يعمل قبل أن يتكلم، ثم يتكلم بعدئذ وفق ما عمل"(113) "ولدينا في فن الرماية ما يشبه طريقة الرجل الأعلى. ذلك أن الرامي إذا لم يصب مركز الهدف رجع إلى نفسه ليبحث فيها عن سبب عجزه"(114).

"إن الذي يبحث عنه الرجل الأعلى هو ما في نفسه؛ أما الرجل المنحط فيبحث عما في غيره.. والرجل الأعلى يحزنه نقص كفايته، ولا يحزنه.. ألا يعرفه الناس"، ولكنه مع ذلك "يكره أن يفكر في ألاّ يذكر اسمه بعد موته"(115) وهو متواضع في حديثه ولكنه متفوق في أعماله.. قل أن يتكلم، فإذا تكلم لم يشك قط في أنه سيصيب هدفه.. والشيء الوحيد الذي لا يدانى فيه الرجل الأعلى هو عمله الذي لا يستطيع غيره من الناس أن يراه"(116). وهو معتدل في قوله وفعله "والرجل الأعلى يلتزم الطريق الوسط"(117) في كل شيء؛ ذلك أن "الأشياء التي يتأثر بها الإنسان كثيرة لا حصر لها؛ وإذا لم يكن
صفحة رقم : 1142
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأقصى -> الصين -> عصر الفلاسفة -> كنفوشيوس -> طريقة الرجل الأعلى

ما يحب وما يكره خاضعين للسنن والقواعد تبدلت طبيعته إلى طبيعة الأشياء التي تعرض له" "والرجل الأعلى يتحرك بحيث تكون حركاته في جميع الأجيال طريقاً عاماً؛ ويكون سلوكه بحيث تتخذه جميع الأجيال قانوناً عاماً، ويتكلم بحيث تكون ألفاظه في جميع الأجيال مقاييس عامة لقيم الألفاظ" وهو يستمسك أشد الاستمساك بالقاعدة الذهبية التي نص عليها هنا صراحة قبل هِلِل بأربعة قرون وقبل المسيح بخمسة: "فقد سأل جونج- جونج المعلم عن الفضيلة الكاملة فكان جوابه.. الفضيلة الكاملة ألا تفعل بغيرك ما لا تحب أن يفعل بك"(122). وهذا المبدأ يتكرر مراراً وهو دائماً يتكرر في صيغة النفي، وقد ذكر مرة في كلمة واحدة. ذلك أن تزه- جونج سأله مرة: أليس ثمة كلمة واحدة يستطيع الإنسان أن يتخذها قاعدة يسير عليها طوال حياته؟ فأجابه المعلم: أليست هذه الكلمة هي المبادلة؟"(123)، ولكنه لم يكن يرغب فيما يرغب فيه لوَ دْزَه وهو أن يقابل الشر بالخير، فلما أن سأله أحد تلاميذه: "ما قولك في المبدأ القائل بأن الإساءة يجب أن تجزى بالإحسان؟" أجاب بحدة لم يألفها تلاميذه منه: "وبأي شيء إذن تجزي الإحسان؟ لتكن العدالة جزاء الإساءة، وليكن الإحسان جزاء الإحسان"(124).
وكان يرى أن القاعدة الأساسية التي تقوم عليها أخلاق الرجل الأعلى هي العطف الفياض على الناس جميعاً. والرجل الأعلى لا يغضبه أن يسمو غيره من الناس، فإذا رأى أفاضل الناس فكر في أن يكون مثلهم؛ وإذا رأى سفلة الناس عاد إلى نفسه يتقصى حقيقة أمره"(124أ)؟ ذلك أنه قلما توجد أخطاء لا نشترك
صفحة رقم : 1143
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأقصى -> الصين -> عصر الفلاسفة -> كنفوشيوس -> طريقة الرجل الأعلى

فيها مع جيراننا. وهو لا يبالي أن يفتري عليه الناس أو يسلقوه بألسنة حداد(124ب)، مجامل بشوش لجميع الناس، ولكنه لا يكيل المدح جزافاً(125)؛ لا يحقر من هم أقل منه، ولا يسعى لكسب رضاء من هم أعلى منه(126)، وهو جاد في سلوكه وتصرفاته، لأن الناس لا يوقّرون من لا يلتزم الوقار في تصرفاته معهم؛ متريث في أقواله، حازم في سلوكه، يصدر في أعماله عن قلبه؛ غير متعجل بلسانه ولا مولع بالإجابات البارعة السكاتة؛ وهو جاد لأن لديه عملاً يحرص على أدائه- وهذا هو سر مهابته غير المتكلفة(127)؛ وهو بشوش لطيف حتى مع أقرب الناس إليه وألصقهم به، ولكنه يصون نفسه عن التبذل مع الناس جميعاً حتى مع ابنه(128).ويجمع كنفوشيوس صفات رجله الأعلى الكثير الشبه "برجل أرسطو ذي العقل الكبير" في هذه العبارة.
"يضع الرجل الأعلى نصب عينيه تسعة أمور لا ينفك يقلبها في فكره. فأما من حيث عيناه فهو يحرص على أن يرى بوضوح..، وأما من حيث وجهه فهو يحرص على أن يكون بشوشاً ظريفاً؛ وأما من حيث سلوكه فهو يحرص على أن يكون وقوراً؛ وفي حديثه يحرص على أن يكون مخلصاً؛ وفي تصريف شئون عمله يحرص على أن يبذل فيه عنايته، وأن يبعث الاحترام فيمن معه؛ وفي الأمور التي يشك فيها يحرص على أن يسأل غيره من الناس؛ وإذا غضب فكر فيما قد يجره عليه غضبه من الصعاب؛ وإذا لاحت له المكاسب فكر في العدالة والاستقامة(129).

صفحة رقم : 1144
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأقصى -> الصين -> عصر الفلاسفة -> كنفوشيوس -> سياسة كنفوشيوس

5- سياسة كنفوشيوس
سيادة الشعب - الحكم بالقدوة - عدم تركز الثروة -
الموسيقى والأخلاق - الاشتراكية والثورة
ويعتقد كنفوشيوس أن هؤلاء وحدهم هم الذين يستطيعون أن يعيدوا بناء
صفحة رقم : 1145
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأقصى -> الصين -> عصر الفلاسفة -> كنفوشيوس -> سياسة كنفوشيوس

الأسرة وأن ينقذوا الدولة. فالمجتمع يقوم على إطاعة الأبناء آباءهم؛ والزوجة زوجها؛ فإذا ذهبت هذه الطاعة حلت محلها الفوضى(130).
وليس ثمة ما هو أسمى من قانون الطاعة هذا إلا شيء واحد وهو القانون الأخلاقي.
"في وسع (الابن) وهو في خدمة أبويه أن يجادلهما بلطف؛ فإذا رأى أنهما لا يميلان إلى اتباع (نصيحته) زاد احترامه لهما، من غير أن يتخلى عن (قصده)؛ فإذا أمر الوالد ابنه أمراً خطأ وجب عليه أن يقاومه، وعلى الوزير أن يقاوم أمر سيده الأعلى في مثل هذه الحال"(131). وفي هذا القول يضع كنفوشيوس مبدأ من مبادئ منشيس التي تقرر حق الناس المقدس في الثورة.
على أن كنفوشيوس لم يكن بالرجل الثوري النزعة؛ ولعله ما كان يظن أن من ترفعهم الثورة لم يخلقوا من طينة غير طينة من تطيح بهم. ولكنه رغم هذه الميول كان جريئاً فيما كتبه في كتاب الأغاني: "قبل أن تفقد ملوك (أسرة) شانج (قلوب) الشعب كانوا أحباء الله. فليكن فيما حل ببيت شانج نذير لكم؛ إن الأمر العظيم لا يسهل دائماً الاحتفاظ به"(132). والشعب هو المصدر الفعلي الحقيقي للسلطة السياسية، ذلك أن كل حكومة لا تحتفظ بثقة الشعب تسقط لا محالة عاجلاً كان ذلك أو آجلاً.
"وسأل تزه- كونج، عن الحكم فقال له المعلم: "(لا بد للحكومة) من أن تحقق أموراً ثلاثة، أن يكون لدى الناس كفايتهم من الطعام، وكفايتهم من العتاد الحربي، ومن الثقة بحكامهم". فقال تزه- كونج: "فإذا لم يكن بد من الاستغناء عن أحد هذه الشروط، فأي هذه الثلاثة يجب أن تتخلى عنه أولاً؟" فأجاب المعلم: "العتاد الحربي". وسأله تزه- كونج مرة أخرى: "وإذا كان لا بد من الاستغناء عن أحد الشرطين الباقيين فأيهما يجب أن تتخلى عنه؟".
صفحة رقم : 1146
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأقصى -> الصين -> عصر الفلاسفة -> كنفوشيوس -> سياسة كنفوشيوس

فأجاب المعلم: "فلنتخل عن الطعام؛ ذلك أن الموت كان منذ الأزل قضاء محتوماً على البشر، أما إذا لم يكن للناس ثقة (بحكامهم) فلا بقاء (للدولة)".
ويرى كنفوشيوس أن المبدأ الأول الذي يقوم عليه الحكم هو نفس المبدأ الأول الذي تقوم عليه الأخلاق- ألا وهو الإخلاص. ولهذا كانت أداة الحكم الأولى هي القدوة الصالحة؛ ومعنى هذا أن الحاكم يجب أن يكون هو المثل الأعلى في السلوك الحسن، حتى يحذو الناس حذوه، فيعم السلوك الطيب جميع أفراد شعبه.
وسأل كي كانج كنفوشيوس عن الحكومة قائلاً: "ما قولك في قتل من لا مبدأ لهم ولا ضمير لخير أصحاب المبادئ والضمائر؟"، فأجابه كنفوشيوس: "وما حاجتك يا سيدي إلى القتل في قيامك بأعباء الحكم؟ لتكن نيتك الصريحة البينة فعل الخير، فيكون الناس أخياراً. إن العلاقة القائمة بين الأعلى والأدنى لشبيهة بالعلاقة بين الريح والكلأ، فالكلأ يميل إذا هبت عليه الريح.. وما أشبه الذي ينهج في حكمه نهج الفضيلة بالنجم القطبي الذي لا يتحول عن مكانه والذي تطوف النجوم كلها حوله.."، وسأل كي كانج كيف ُيحمل الناس على أن يجلوا (حاكمهم)، وأن يخلصوا له، وأن يلتزموا جانب الفضيلة؟ فأجابه المعلم: "فليرأسهم في وقار- يحترموه، وليكن عطوفاً عليهم رحيماً بهم، يخلصوا له. وليقدم الصالحين ويعلّم العاجزين- يحرصوا على أن يكونوا فضلاء"(134).
وإذا كانت القدوة الحسنة أولى وسائل الحكم، فإن حسن الاختيار للمناصب وسيلته الثانية: "استمل الصالحين المستقيمين، وانبذ المعوجين، وبهذه الطريقة يستقيم المعوج"(135).
وتقول عقيدة الوسط: "إن تصريف شئون الحكم إنما يقوم على
صفحة رقم : 1147
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأقصى -> الصين -> عصر الفلاسفة -> كنفوشيوس -> سياسة كنفوشيوس

(استعمال من يصلح له من الناس). وما من سبيل إلى الحصول على هؤلاء الناس إلا أن تكون أخلاق (الحاكم) نفسه صالحة"(136).

وأي شيء لا تستطيع الوزارة المؤلفة من الرجال الأعلين أن تعمله في جيل واحد لتطهير الدولة والارتفاع بالشعب إلى مستوى عال من الحضارة؟(137)- إن أول ما يحرصون عليه ألا تكون لهم قدر المستطاع علاقات خارجية، وأن يعملوا على أن يكتفوا بغلاتهم عن غلات غيرهم، حتى لا تشن أمتهم الحرب على غيرها من الأمم للحصول على هذه الغلات، ثم يقللون من ترف بطانة الملوك ويعملون على توزيع الثروة في أوسع نطاق لأن "تركيز الثروة هو السبيل إلى تشتيت الشعب، وتوزيعها هو السبيل إلى جمع شتاته"(138)، ثم يخففون العقاب وينشرون التعليم العام لأن "التعليم إذا انتشر انعدمت الفروق بين الطبقات"(139).
ويشير كنفوشيوس بألا تدرس الموضوعات العليا لذوي المواهب الوسطى، أما الموسيقى فيجب أن تعلم للناس أجمعين.
ومن أقواله في هذا: "إذا أتقن الإنسان الموسيقى، وقوم عقله وقلبه بمقتضاها وعلى هديها، تطهر قلبه وصار قلباً طبيعياً، سليماً، رقيقاً، عامراً بالإخلاص والوفاء، يغمره السرور والبهجة.. وخير الوسائل لإصلاح الأخلاق والعادات.. أن توجه العناية إلى الموسيقى التي تعزف في البلاد .. والأخلاق الطيبة والموسيقى يجب ألاّ يهملهما الإنسان.. فالخير شديد الصلة بالموسيقى والاستقامة تلازم الأخلاق الطيبة على الدوام"(140).
وعلى الحكومة أن تُعنى أيضاً بغرس الأخلاق الطيبة، ذلك أن الأخلاق إذا فسدت فسدت الأمة معها . وآداب اللياقة هي التي تكون على الأقل
صفحة رقم : 1148
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأقصى -> الصين -> عصر الفلاسفة -> كنفوشيوس -> سياسة كنفوشيوس

المظهر الخارجي لأخلاق الأمة وإن لم يدرك الناس هذا(141)، وهي تضفي على الحكيم لطف الرجل المهذب؛ وما من شك في أن المرء ابن عادته. أما من الوجهة السياسية "فآداب اللياقة حواجز تقوم بين الناس وبين الانغماس في المفاسد"، و"من ظن أن الحواجز القديمة لا نفع فيها فهدّمها حلّت به الكوارث الناشئة من طغيان المياه الجارفة"(142).
ويكاد الإنسان أن يسمع هذا القول الصارم الذي نطق به المعلم الغاضب يتردد هذه الأيام في جنبات "بهو الآداب القديمة" التي نقشت ألفاظها على حجارته، والتي دنستها أوضار الثورة وحقرتها.
ومع هذا فقد كان لكنفوشيوس أيضا أحلامه ومثله العليا في الحكومات والدول. فقد كان يعطف بعض الأحيان على الذين إذا اقتنعوا بأن الأسرة الحاكمة فقدت "الأمر الأعلى" أي "أمر السماء"، قوضوا أركان نظام من نظم الحكم لكي يقيموا على أنقاضه نظاماً خيراً منه. وقد اعتنق في آخر الأمر المبادئ الاشتراكية وأطلق فيها لخياله العنان!
"إذا ساد المبدأ الأعظم (مبدأ التماثل الأعظم) أصبح العالم كله جمهورية واحدة؛ واختار الناس لحكمهم ذوي المواهب والفضائل والكفايات ؛ وأخذوا يتحدثون عن الحكومة المخلصة، ويعملون على نشر لواء السلم الشامل. وحينئذ لا يرى الناس أن آباءهم هم من ولدوهم دون غيرهم، أو أن أبناءهم هم من ولدوا لهم، بل تراهم يهيئون سبل العيش للمسنين حتى يستوفوا آجالهم، ويهيئون العمل للكهول، ووسائل النماء للصغار، ويكفلون الحياة للأرامل من الرجال والنساء واليتامى وعديمي الأبناء، ومن أقعدهم المرض عن العمل. هنالك يكون لكل إنسان حقه، وهنالك تصان شخصية المرأة فلا يتعدى عليها.
صفحة رقم : 1149
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأقصى -> الصين -> عصر الفلاسفة -> كنفوشيوس -> سياسة كنفوشيوس

وينتج الناس الثروة، لأنهم يكرهون أن تبدد وتضيع في الأرض، ولكنهم يكرهون أن يستمتعوا بها دون غيرهم من الناس، وهم يعملون لأنهم يكرهون البطالة، ولكنهم لا يهدفون في عملهم إلى منفعتهم الشخصية.
وبهذه الطريقة يقضى على الأنانية والمآرب الذاتية، فلا تجد سبيلاً إلى الظهور، ولا يرى أثر للصوص والنشالين والخونة المارقين، فتبقى الأبواب الخارجية مفتحة غير مغلقة. هذا هو الوضع الذي أسميه التماثل الأعظم .

صفحة رقم : 1150
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأقصى -> الصين -> عصر الفلاسفة -> كنفوشيوس -> أثر كنفوشيوس في الأمة الصينية

6- أثر كنفوشيوس في الأمة الصينية
العلماء الكنفوشيون - انتصارهم على القانونيين - عيوب
الفلسفة الكنفوشية - جدة مبادئ كنفوشيوس
كان نجاح كنفوشيوس بعد موته ولكنه كان نجاحاً كاملاً. لقد كان يضرب في فلسفته على نغمة سياسية عملية حببتها إلى قلوب الصينيين بعد أن زال بموته كل احتمال لإصراره على تحقيقها.
وإذ كان رجال الأدب في كل زمان لا يرتضون أن يكونوا أدباء فحسب، فإن أدباء القرون التي أعقبت موت كنفوشيوس استمسكوا أشد استمساك بمبادئه، واتخذوها سبيلاً إلى السلطان وتسلم المناصب العامة، وأوجدوا طبقة من العلماء الكنفوشيين أصبحت أقوى طائفة في الإمبراطورية بأجمعها. وانتشرت المدارس في أنحاء البلاد لتعلم الناس فلسفة كنفوشيوس التي تلقاها الأساتذة عن تلاميذ المعلم الأكبر، ونماها مِنْشِيس وهذبها آلاف مؤلفة من العلماء على مدى الأيام. وأضحت هذه المدارس المراكز الثقافية والعقلية في الصين فأبقت شعلة الحضارة متقدة خلال القرون الطوال التي تدهورت فيها البلاد من
صفحة رقم : 1151
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأقصى -> الصين -> عصر الفلاسفة -> كنفوشيوس -> أثر كنفوشيوس في الأمة الصينية

الوجهة السياسية، كما احتفظ رهبان العصور الوسطى بجذوة الثقافة القديمة وبقليل من النظام الاجتماعي في العصور المظلمة التي تلت سقوط رومة.
وكانت في البلاد طائفة أخرى هي طائفة "القانونيين" استطاعت أن تناهض وقتاً ما آراء كنفوشيوس في عالم السياسة، وأن تسير الدولة حسب مبادئها هي في بعض الأحيان.
ومن أقوالهم في الرد على كنفوشيوس أن نظام الحكم على المثل الذي يضربه الحاكمون، وعلى الصلاح الذي تنطوي عليه قلوب المحكومين، يعرّض الدولة لأشد الأخطار، إذ ليس في التاريخ أمثلة كثيرة تشهد بنجاح الحكومات التي تسترشد في أعمالها بهذه المبادئ المثالية. وهم يقولون أن الحكم يجب أن يستند إلى القوانين لا إلى الحكام، وإن الناس يجب أن يرغموا على إطاعة القوانين حتى تصبح إطاعتها طبيعة ثانية للمجتمع فيطيعوها راضين مختارين. ولم يبلغ الناس من الذكاء مبلغاً يمكنهم من أن يحسنوا حكم أنفسهم، ولهذا فإنهم لا يصيبون الرخاء إلا تحت حكم جماعة من الأشراف؛ وحتى التجار أنفسهم، وإن أثروا، لا يدل ثراؤهم على أنهم متفوقون في ذكائهم، فهم يسعون وراء مصالحهم الخاصة، وكثيرا ما يتعارض سعيهم هذا مع مصالح الدولة.
ويقول بعض القانونيين إنه قد يكون من الخير للدولة أن تجعل رؤوس الأموال ملكاً عاماً للمجتمع، وأن تحتكر هي التجارة، وأن تمنع التلاعب بالأثمان وتركيز الثروة في أيدي عدد قليل من الأفراد(144).
هذه آراء ظهرت ثم اختفت ثم عادت إلى الظهور مرة بعد مرة في تاريخ الحكومة الصينية.
ولكن فلسفة كنفوشيوس كتب لها النصر آخر الأمر. وسنرى فيما بعد كيف سعى شي هوانج- دي، صاحب الحول والطول، يعاونه رئيس وزراء من
صفحة رقم : 1152
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأقصى -> الصين -> عصر الفلاسفة -> كنفوشيوس -> أثر كنفوشيوس في الأمة الصينية

طائفة القانونيين، للقضاء على نفوذ كنفوشيوس، فأمر أن يحرق كل ما كان موجوداً وقتئذ من الكتابات الكنفوشية. ولكن تبين مرة أخرى أن قوة اللسان أعظم من قوة السنان.
ولم يكن لعداء "الإمبراطور الأول" من نتيجة إلاّ أن يجعل الكتب التي أراد أن يعدمها كتباً مقدسة قيمة، وأن يستشهد الناس في سبيل المحافظة عليها.حتى إذا انقضى عهد شي هوانج- دي، وعهد أسرته القصير الأجل، وجلس على العرش إمبراطور أحكم منه، أخرج الآداب الكنفوشية من مخابئها وعيّن العلماء الكنفوشيين في مناصب الدولة، وثبّت حكم أسرة هان، وقوى دعائمه، بأن أدخل آراء كنفوشيوس وأساليبه الحكيمة في برامج تعليم الشبان الصينيين وفي الحكومة. وقربت القرابين تكريماً لكنفوشيوس، وأمر الإمبراطور بأن تنقش نصوص الكتب القديمة على الحجارة، وأصبحت الكنفوشية دين الدولة الرسمي. وناهض الكنفوشية في بعض الأحيان نفوذ الدَّوية، كما طغى عليها أحياناً أخرى سلطان البوذية، حتى إذا كان عهد أسرة تانج أعادتها إلى مكانتها السابقة، وأعلت من شأنها.
ولما جلس على العرش تاي دزونج الأعظم أمر أن يشاد هيكل لكنفوشيوس في كل مدينة وقرية في جميع أنحاء الإمبراطورية، وأن يقرب له فيها القرابين العلماء والموظفون. وفي عهد أسرة زونج نشأت مدرسة قوية للكنفوشية الجديدة أضافت شروحاً وتعليقات لا حصر لها على الكتب الكنفوشية القديمة، وعملت على نشر فلسفة أستاذها الأكبر وما أضافته إليها من شروح مختلفة في بلاد الشرق الأقصى، وبعثت في اليابان نهضة فلسفية قوية. وظلت مبادئ كنفوشيوس من مبدأ قيام أسرة هان إلى سقوط أسرة منشو- أي ما يقرب من ألفي عام- تسيطر على العقلية الصينية وتصوغها في قالبها.
صفحة رقم : 1153
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأقصى -> الصين -> عصر الفلاسفة -> كنفوشيوس -> أثر كنفوشيوس في الأمة الصينية

والفلسفة الكنفوشية أهم ما يواجه المؤرخ لبلاد الصين؛ ذلك أن كفايات معلمها الأكبر ظلت جيلاً بعد جيل النصوص المقررة في مدارس الدولة الصينية، يكاد كل صبي يتخرج في تلك المدارس أن يحفظها عن ظهر قلب، وتغلغلت النزعة المتحفظة القوية التي يمتاز بها الحكيم القديم في قلوب الصينيين، وسرت في دمائهم، وأكسبت أفراد الأمة الصينية كرامة وعمقاً في التفكير لا نظير لهما في غير تاريخهم أو في غير بلادهم، واستطاعت الصين بفضل هذه الفلسفة أن تحيا حياة اجتماعية متناسقة متآلفة، وأن تبعث في نفوس أبنائها إعجاباً شديداً بالعلم والحكمة، وأن تنشر في بلادها ثقافة مستقرة هادئة أكسبت الحضارة الصينية قوة أمكنتها من أن تنهض من كبوتها وتسترد قواها بعد الغزوات المتكررة التي اجتاحت بلادها، وأن تشكل هي الغزاة على صورتها وتطبعهم بطابعها. ولسنا نجد في غير المسيحية والبوذية ما نجده في الكنفوشية من جهود جبارة لتحويل ما جبلت عليه الطبيعة البشرية من غلظة ووحشية إلى تأدب ورقّة.
ولسنا نجد في هذه الأيام- كما لم يجد الأقدمون في الأيام الخالية- دواء يوصف للذين يقاسون الأمرّين من جراء الاضطراب الناشئ من التربية التي تُعنى بالعقل وتهمل كل ما عداه، ومن انحطاط مستوى القانون الأخلاقي وتدهوره، ومن ضعف الأخلاق الفردية والقومية، لسنا نجد دواء لهذا كله خيراً من تلقين الشباب مبادئ الفلسفة الكنفوشية .
لكن تلك الفلسفة لا تستطيع وحدها أن تكون غذاء كاملاً للروح. لقد كانت فلسفة تصلح لأمة تكافح للخروج من غمرات الفوضى والضعف إلى النظام والقوة، ولكنها غل ثقيل يقيد البلد الذي ترغمه المنافسات الدولية على أن ينمو ويتطور.
صفحة رقم : 1154
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأقصى -> الصين -> عصر الفلاسفة -> كنفوشيوس -> أثر كنفوشيوس في الأمة الصينية

ذلك أن قواعد الأدب واللياقة التي شكلت أخلاق الصينيين ونظامهم الاجتماعي أضحت قوة جارفة تسير كل حركة حيوية في طريق مرسوم لا تتحول عنه، وكانت الفلسفة الكنفوشية تصطبغ بصبغة جامدة متزمتة، وتقف في سبيل الدوافع الطبيعية القوية المحركة للجنس البشري، وسمت فضائلها حتى بلغت حد العقم؛ ولم يكن فيها قط مجال للهو والمجازفة كما لم يكن فيها إلا القليل من الصداقة والحب، وقد أعانت على تحقير النساء وإذلالهن(145)، كما أعان ما فيها من كمال بارد على تجميد الأمة الصينية وجعلها أمة متحفظة لا يضارع عداءها للرقي إلا حبها للسلام.
وليس من حقنا أن نعزو هذا كله إلى كنفوشيوس، وأن نوجه إليه اللوم من أجله، إذ ليس في مقدور إنسان أياً كان شأنه أن يسيطر على تفكير عشرين قرناً من الزمان. بل كل ما يحق لنا أن نطلبه إلى المفكر أن يضيء لنا بطريقة ما، وبفضل تفكيره طوال حياته، سبيل الفهم الصحيح. وقَلَّ أن تجد في العالم من اضطلع بهذا الواجب كما اضطلع به كنفوشيوس. وإذا ما قرأنا تعاليمه، وتبينا ما يجب أن نمحوه من فلسفته بسبب تقدم المعارف في العالم وتبدل أحواله، وعرفنا قيمة ما يسديه إلينا من هداية في عالمنا الحاضر نفسه، إذا فعلنا هذا نسينا من فورنا ما يشوب فلسفته من تفاهة تارة ومن كمال لا تطيقه الطبيعة البشرية تارة أخرى، واشتركنا مع كونج جي حفيده الصالح التقي في هذا التسبيح الأعلى الذي كان بداية تأليه كنفوشيوس.
لقد نقل جونج- في عقائد يُو وشوِن كأنهما كانا من آبائه، ونشر نظم وُن و وُو واتخذهما مثلين يحتذيهما وينسج على منوالهما. وكان في صفاته الروحية قديساً أو ملاكاً يتناغم مع السماء، ولكنه لم ينس قط أنه مخلوق من طين وماء. وهو يشبه السماء والأرض في أنه كان عماداً لكل شيء وعائلاً لكل شيء، يحجب نوره كل شيء، وتغطي ظلاله كل شيء. وهو أشبه بالفصول الأربعة في تتابعها وانتظام سيرها، وأشبه بالشمس والقمر في تتابع ضيائهما..

صفحة رقم : 1155
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأقصى -> الصين -> عصر الفلاسفة -> كنفوشيوس -> أثر كنفوشيوس في الأمة الصينية

فهو في شموله واتساع آفاقه كالسماء، وفي عمق تفكيره ونشاطه كالهوة السحيقة والعين الجائشة الفوارة. إذا رآه الناس وقروه وعظموه، وإذا تكلم صدقوه، وإذا فعل أعجبوا بفعله وأحبوه.
ولهذا ذاع صيته في "المملكة الوسطى" وانتشر بين القبائل الهمجية، فحيثما وصلت السفائن والمركبات، وحيثما نفذت قوة الإنسان، وفي كل مكان امتد على سطح الأرض وأظلته السماء وأضاءته الشمس وأناره القمر، وفي كل بقعة مسها الصقيع وطلها الندى- يجله ويحبه كل من سرى فيه دم الحياة وترددت في صدره أنفاسها، حباً صادقاً لا تكلف فيه ولا رياء، ولهذا قيل عنه إنه: "هو والسماء صنوان"(146).

صفحة رقم : 1156
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأقصى -> الصين -> عصر الفلاسفة -> اشتراكيون وفوضويون -> مقدمة

الفصل الثالث
اشتراكيون وفوضويون

لقد كانت المائتا عام التي أعقبت عصر كنفوشيوس أعوام جدل شديد وردَّة عنيفة، ذلك أنه لما كشف العلماء عن لذة الفلسفة وبهجتها قام رجال من أمثال هْوِ ادزه، وجونج سون لويانج يتلاعبون بالمنطق ويخترعون القضايا المنطقية المتناقضة التي لا تقل في تباينها ودقتها عن قضايا زينون(147). واحتشد الفلاسفة من جميع أنحاء البلاد في مدينة لويانج، كما كانوا يحتشدون في نفس هذا القرن في مدينتي بنارس وأثينة، وكانوا يستمتعون في عاصمة الصين بحرية القول والتفكير التي جعلت أثينة وقتئذ العاصمة الفكرية لبلاد البحر الأبيض المتوسط. وغصت عاصمة البلاد بالفلاسفة المسمين تزونج- هنج- كيا أي "فلاسفة الجدل"، الذين جاءوا من كافة أنحاء البلاد ليعلموا الناس على اختلاف طبقاتهم فن إقناع أي إنسان بأي شيء أرادوا إقناعه به(148). فجاء إلى لويانج منشيس الذي خلف كنفوشيوس في منصبه، كما جاء إليها جَونْج- دْزَه أعظم أتباع لو- دْزَه، وشِون- دْزَه القائل بأن الإنسان شرير بطبعه، ومودي نبي الحب العالمي.
صفحة رقم : 1157
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأقصى -> الصين -> عصر الفلاسفة -> اشتراكيون وفوضويون -> مودي العيري

1- مودي العيري
منطق قديم - مسيحي - وداعية سلام
قال منشيس عدو مودي "لقد كان يحب الناس جميعاً، وكان يود لو يستطيع أن يبلى جسمه كله من قمة رأسه إلى أخمص قدمه إذا كان في هذا خير لبني الإنسان(149)؛ وقد نشأ مودي في بلدة لو التي نشأ فيها كنفوشيوس، وذاعت شهرته بعد وفاة الحكيم الأكبر بزمن قليل. وكان يعيب على كنفوشيوس أن تفكيره
صفحة رقم : 1158
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأقصى -> الصين -> عصر الفلاسفة -> اشتراكيون وفوضويون -> مودي العيري

خيالي غير عملي، وأراد أن يستبدل بهذا التفكير دعوة الناس جميعاً لأن يحب بعضهم بعضاً. وكان من أوائل المناطقة الصينيين ومن شر المجادلين المحاجين في الصين؛ وقد عرف القضية المنطقية تعريفاً غاية في البساطة فقال:
هذه هي التي أسميها قواعد الاستدلال الثلاث:
أين يجد الإنسان الأساس؟ ابحث عنه في دراسة تجارب أحكم الرجال الأقدمين.
كيف يلم الإنسان به إلماماً عاماً؟ افحص عما في تجارب الناس العقلية من حقائق واقعية.
كيف تطبقها؟ ضعها في قانون وسياسة حكومية، وانظر هل تؤدي إلى خير الدولة ورفاهية الشعب أو لا تؤدي إليهما(150).
وعلى هذا الأساس جَدَّ مودي في البرهنة على أن الأشباح والأرواح حقائق واقعية، لأن كثيرين من الناس قد شاهدوها، وكان من أشد المعارضين لآراء كنفوشيوس المجردة غير المجسمة عن الله، وكان من القائلين بشخصية الله. وكان يظن كما يظن بسكال أن الدين رهان مربح في كلتا الحالين: فإذا كان آباؤنا الذين نقرب لهم القرابين يستمعون إلينا فقد عقدنا بهذه القرابين صفقة رابحة، وإذا كانوا أمواتاً لا حياة لهم ولا يشعرون بما نقرب إليهم فإن القرابين تتيح لنا فرصة الاجتماع بأهلينا وجيرتنا، لنستمتع جميعاً بما نقدمه للموتى من طعام وشراب"(151).
وبهذه الطريقة عينها يثبت مودي أن الحب الشامل هو الحل الوحيد للمشكلة الاجتماعية؛ فإذا ما عم الحب العالم أوجد فيه بلا ريب الدولة الفاضلة والسعادة الشاملة التي بها "يحب الناس كلهم بعضهم بعضاً، ولا يفترس أقوياؤهم ضعفاءهم، ولا تنهب كثرتهم قلتهم، ولا يزدري أغنياؤهم فقراءهم، ولا يسفه عظماؤهم صغارهم، ولا يخدع الماكرون منهم السذج"(152). والأنانية في رأيه مصدر كل شر
صفحة رقم : 1159
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأقصى -> الصين -> عصر الفلاسفة -> اشتراكيون وفوضويون -> مودي العيري

سواء كان هذا الشر رغبة الطفل في التملك أو رغبة الإمبراطوريات في الفتح والاستعمار. ويعجب مودي كيف يدين الناس أجمعون من يسرق خنزيراً ويعاقبونه أشد العقاب، أما الذي يغزو مملكة ويغتصبها من أهلها، فإنه يعد في أعين أمته بطلاً من الأبطال ومثلاً أعلى للأجيال المقبلة(154). ثم ينتقل مودي من هذه المبادئ السلمية إلى توجيه أشد النقد إلى قيام الدولة حتى لتكاد عقيدته السياسية تقترب كل القرب من الفوضى، وحتى أزعجت هذه العقيدة ولاة الأمور في عصره(154). ويؤكد لنا كتاب سيرته أن مهندس الدولة في مملكة جو هَمَّ بغزو دولة سونج ليجرب في هذا الغزو سلماً جديداً من سلالم الحصار اخترعه في ذلك الوقت؛ فما كان من مودي إلا أن أخذ يعظه ويشرح له عقيدة الحب والسلم العالميين حتى أقنعه بالعدول عن رأيه، وحتى قال له المهندس: "لقد كنت قبل أن ألقاك معتزماً فتح بلاد سونج، ولكني بعد أن لقيتك لا أحب أن تكون لي ولو سلمت إلي من غير مقاومة ومن غير أن يكون ثمة سبب حق عادل يحملني على فتحها". فأجابه مودي بقوله: "إذا كان الأمر كذلك فكأني قد أعطيتك الآن دولة سونج. فاستمسك بهذه الخطة العادلة أعطك ملك العالم كله"(155).
وكان العلماء من أتباع كنفوشيوس والساسة أتباع لوينج يسخرون من هذه الأفكار السلمية؛ ولكن مودي رغم هذه السخرية كان له أتباع، وظلت آراؤه مدى قرنين كاملين عقيدة تدين بها شيعة تدعو إلى السلام، وقام اثنان من مريديه وهما سونج بنج، وجونج سون لونج بحملة قوية لنزع السلاح، وجاهدا في سبيل هذه الدعوة حق الجهاد(157). وعارض هان- في أعظم النقاد في عصره هذه الحركة، وكان ينظر إليها نظرة في وسعنا أن نسميها نظرة نيتشية، وكانت حجته في معارضته أن الحرب ستظل هي الحكم بين الأمم حتى تنبت للناس بالفعل أجنحة الحب العام.
ولما أصدر شين هوانج- دي أمره الشهير "بإحراق الكتب" ألقيت
صفحة رقم : 1160

قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأقصى -> الصين -> عصر الفلاسفة -> اشتراكيون وفوضويون -> مودي العيري

في النار جميع الآداب المودية كما ألقيت فيها جميع الكتب الكنفوشية؛ وقضى هذا الحريق على الدين الجديد وإن لم يقض على عقيدة المعلم الأكبر وكتاباته.

صفحة رقم : 1161
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأقصى -> الصين -> عصر الفلاسفة -> اشتراكيون وفوضويون -> يانج جو أناني

2- يانج ـ جو، أناني
جبري أبيقوري - الدفاع عن الشر
وكانت عقيدة أخرى، تختلف عن العقيدة السابقة كل الاختلاف، قد أخذت تنتشر وتشتد الدعوة إليها بين الصينيين، فقد قام رجل يدعى يانج- جو لا نعرف عنه شيئاً إلا ما قاله عنه شانئوه(159) وجهر بهذه الدعوة المتناقضة، وهي أن الحياة ملأى بالآلام وأن اللذة هدفها الأعلى، وكان ينكر وجود الله، كما ينكر البعث، ويقول إن الخلائق ليست إلا دمى لا حول لها ولا طول، تحركها القوى الطبيعية العمياء التي أوجدتها، والتي وهبتها أسلافها دون أن يكون لها في ذلك خيار، ورسمت لها أخلاقها، فلا تستطيع أن تتحول عنها أو أن تبدلها غيرَها(160).
فأما الحكيم العاقل فيرضى بما قسم له دون أن يشكوا أو يتذمر، ولكن لا يغتر بشيء من سخافات كنفوشيوس ومودي، وما يقولانه عن الفضيلة الفطرية والحب العالمي، والسمعة الطيبة. ومن أقواله أن المبادئ الخلقية شراك ينصبه الماكرون للسذج البسطاء، وأن الحب العالمي وهمُ يتوهمه الأطفال الذين لا يعرفون كنه البغضاء العالمية التي هي سُنَّة الحياة، وأن حسن الأحدوثة ألعوبة لا يستطيع الحمقى الذين ضحوا من أجلها أن يستمتعوا بعد وفاتهم بها، وأن الأخيار يقاسون في الحياة ما يقاسيه الأشرار، بل إنه ليبدو أن الأشرار أكثر استمتاعاً بالحياة من الأخيار(161). وأن أحكم الحكماء الأقدمين ليسوا هم رجال الأخلاق والحاكمين كما يقول كنفوشيوس بل هم عبدة الشهوات، الذين كان من حظهم
صفحة رقم : 1162

قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأقصى -> الصين -> عصر الفلاسفة -> اشتراكيون وفوضويون -> يانج جو أناني

أن استبقوا المشترعين والفلاسفة، فاستمتعوا بكل لذة دفعتهم إليها غرائزهم. نعم إن الأشرار قد يخلّفون وراءهم سمعة غير طيبة، ولكن ذلك أمر لا يقلق عظامهم. ثم يدعونا يانج- جو إلى أن نفكر في مصير الأخيار والأشرار، فيقول : إن الناس كلهم مجمعون على أن شون، ويو، وجو- جونج، وكنفوشيوس كانوا خير الناس وأحقهم بالإعجاب، وأن جياه، وجو، شرهم جميعاً.
ولكن شون قد اضطر إلى حرث الأرض في جنوب نهر هو، والى صنع آنية الفخار بجوار بحيرة لاي، ولم يكن في وسعه أن يستريح من عناء العمل لحظة قصيرة، بل إنه لم يكن يستطيع أن يجد شيئاً من الطعام الشهي والملابس المدفئة، ولم يكن في قلب أبويه شيء من الحب له، كما لم يكن يجد من أخوته وأخواته شيئاً من العطف عليه... فلما نزل له "ياو" آخر الأمر عن المُلك، كان قد تقدمت به السن، وانحطت قواه العقلية؛ وظهر أن ابنه شانج جو إنسان ناقص العقل عديم الكفاية؛ فلم يجد بداً من أن ينزل عن الملُك إلى يو. ومات بعدئذ ميتة محزنة. ولم يكن بين البشر كلهم إنسان قضى حياته كلها بائساً منغصاً، كما قضى هو حياته...
"وكان يو قد صرف كل جهوده في فلح الأرض، وولد له طفل ولكنه لم يستطيع أن يربيه؛ فكان يمر على باب داره ولا يدخلها، وانحنى جسمه وانضمر وغلظ جلد يديه وقدميه وتحجر. فلما أن نزل له شون آخر الأمر عن العرش عاش في بيت وطئ حقير، وإن كان يلبس ميدعة وقلنسوة ظريفتين. ثم مات ميتة محزنة، ولم يكن بين الآدميين كلهم من عاش معيشة نكدة حزينة كما عاش يو...
"وكان كنفوشيوس يفهم أساليب الملوك والحكام الأقدمين، ويستجيب
صفحة رقم : 1163
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأقصى -> الصين -> عصر الفلاسفة -> اشتراكيون وفوضويون -> يانج جو أناني

إلى دعوات أمراء عصره. ثم قطعت الشجرة التي يستظل بها في سونج، وأزيلت آثار أقدامه من ويه، وحل به الضنك في شانج وجو، وحوصر في شان وتشي؛... وأذله يانج هو وأهانه، ومات ميتة محزنة. ولم يكن بين بنى الإنسان كلهم من عاش عيشة مضطربة صاخبة كما عاش كنفوشيوس.
"ولم يستمتع هؤلاء الحكماء الأربعة بالسرور يوماً واحداً من أيام حياتهم، وذاعت شهرتهم بعد موتهم ذيوعاً سوف يدوم عشرات الآلاف من الأجيال، ولكن هذه الشهرة هي الشيء الذي لا يختاره قط من يعنى بالحقائق ويهتم بها. هل يحتفلون بذكراهم؟ هذا مالا يعرفونه. وهل يكافئونهم على أعمالهم؟ وهذا أيضاً لا يعرفونه وليست شهرتهم خيراً لهم مما هي لجذع شجرة أو مَدَرة.
أما (جياه) فقد ورث ثروة طائلة تجمعت مدى قرون طويلة؛ ونال شرف الجلوس على العرش الملكي؛ وأوتي من الحكمة ما يكفيه لأن يتحدى كل من هم دونه مقاماً؛ ومن القوة ما يكفي لأن يزعزع به أركان العالم كله. وكان يستمتع بكل ما تستطيع العين والأذن أن تستمتعا به من ضروب الملذات؛ ولم يحجم قط عن فعل كل ما سولت له نفسه أن يفعله. ومات ميتة هنيئة؛ ولم يكن بين الآدميين كلهم من عاش عيشة مترفة فاسدة كما عاش هو. وورث جو (شِنْ) ثروة طائلة تجمعت في مدى قرون طويلة، ونال شرف الجلوس على العرش الملكي، وكان له من القوة ما يستطيع به أن يفعل كل ما يريد؛... وأباح لنفسه في قصوره فعل كل ما يشتهيه، وأطلق لشهواته العنان خلال الليالي الطوال؛ ولم يكدر صفو سعادته قط بالتفكير في آداب اللياقة أو العدالة، حتى قضى نحبه كأبهج ما يقضى الناس نحبهم. ولم يكن في الآدميين كلهم من كانت حياته داعرة فاجرة كما كانت حياة جو.
وقد استمتع هذان الرجلان السافلان في حياتهما بما شاءا من الملذات وأطلقا لشهواتهم العنان، واشتهر بعد وفاتهما بأنهما كانا من أشد الناس حمقاً
صفحة رقم : 1164

قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأقصى -> الصين -> عصر الفلاسفة -> اشتراكيون وفوضويون -> يانج جو أناني

واستبداداً، ولكنهما استمتعا باللذة وهي حقيقة لا تستطيع أن تهبها حسن الأحدوثة. فإذا لامهم الناس فإنهم لا يعرفون، وإذا اثنوا عليهم ظلوا بهذا الثناء جاهلين، وسمعتهم (السيئة) لا تهمهم أكثر مما تهم جذع شجرة أو مَدَرة(162).
ألا ما أعظم الفرق بين هذه الفلسفة وبين فلسفة كنفوشيوس وهنا أيضاً نظن أن الزمان وهو رجعي كالرجعيين من الآدميين قد أبقى لنا آراء أجل المفكرين الصينيين وأعظمهم، ثم عدا على الباقين كلهم تقريباً فطواهم في غمرة الأرواح المنسية. ولعل الزمان محق في فعله هذا، ذلك أن الإنسانية نفسها ما كانت لتعمر طويلاً لو كان فيها كثيرون ممن يفكرون كما يفكر يان جو. وكل ما تستطيع أن ترد به عليه هو أن المجتمع لا يمكن أن يقوم إذا لم يتعاون الفرد مع زملائه أخذاً وعطاءاً؛ وإذا لم يتحملهم ويصبر على أذاهم، ويتقيد بما في المجتمع، من قيود أخلاقية، وإن الفرد الكامل العقل لا يمكن أن يوجد في غير مجتمع، وأن حياتنا نفسها إنما تعتمد على ما فيها من قيود. ومن المؤرخين من يرى في انتشار هذه الفلسفة الأنانية بعض الأسباب التي أدت إلى ما أصاب المجتمع الصيني من انحلال في القرنين الرابع والثالث قبل الميلاد(163). فلا عجب والحالة هذه أن يرفع منشيس، جنسن (
Dr. Johnson) زمانه، عقيرته بالاحتجاج الشديد وبالتشهير بأبيقورية ينج جو وبمثالية مودي فقال:

"إن أقوال ينج جو ومودي تملأ العالم؛ وإذا سمعت الناس يتحدثون وجدتهم قد اعتنقوا آراء هذا أو آراء ذاك. فأما المبدأ الذي يدعو إليه ينج فهو هذا. "كل إنسان وشأنه" وهو مبدأ لا يعترف بمطالب الملك. أما مبدأ مو فهو هذا: "أحب الناس جميعا بقدر واحد"- وهو مبدأ لا يعترف بما يحق للأب من حب خاص. ومن لا يعترف بحق الملك ولا بحق الأب كان في منزلة الحيوان الأعجم. فإذا لم يوضع لمبادئهما حد، وإذا لم تسد مبادئ
صفحة رقم : 1165
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأقصى -> الصين -> عصر الفلاسفة -> اشتراكيون وفوضويون -> يانج جو أناني

كنفوشيوس، فإنهما سيخدعان الناس بحديثهما المقلوب، ويسدان في وجوههم طريق الخير والصلاح.
"ولقد أزعجتني تلك الأشياء وأمرضت قلبي، فوقفت أدافع عن عقائد الحكماء والأقدمين، وأعارض ينج ومو، وأطارد أقوالهما المنحطة، حتى يتوارى هؤلاء المتحدثون الفاسدون فلا يجرءوا على الظهور. ولن يغير الحكماء من أقوالي هذه إذا ما عادوا إلى الظهور"(164).

صفحة رقم : 1166
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأقصى -> الصين -> عصر الفلاسفة -> اشتراكيون وفوضويون -> منشيس مستشار الأمراء

3- منشيس، مستشار الأمراء
أم نموذجية - فيلسوف بين الملوك - هل الناس أخيار بالسليقة - الضريبة
الفردية - منشيس والشيوعيون -باعث الكسب - حق الناس في أن يثوروا
لقد شاءت الأقدار أن يكون منشيس أنبه الفلاسفة الصينيين ذكراً بعد كنفوشيوس؛ وما أحفل تاريخ الصين بالفلاسفة.
وكان منشيس من سلالة أسرة مانج العريقة، وكان اسمه في بادئ الأمر مانج كو، ثم صدر مرسوم إمبراطوري بتغييره إلى مانج- دزه أي مانج المعلم أو الفيلسوف. وقد بدل علماء أوروبا الذين مرنوا على الأسماء اللاتينية هذا الاسم إلى منشيس كما بدلوا كونج- فو- دزه إلى كنفوشيوس.

ويكاد علمنا بأم منشيس يبلغ من الدقة علمنا به هو نفسه؛ ذلك بأن المؤرخين الصينيين قد خلدوا ذكرها وجعلوها نموذجاً للأمهات بما قصّوه عنها من القصص الكثيرة الممتعة. فهم يقولون إنها بدلت مسكنها ثلاث مرات من أجله؛ بدلته أول مرة لأنهما كانا يسكنان بجوار مقبرة فبدأ الصبي يسلك مسلك دافني الأموات؛ وبدلته في المرة الثانية لأنهما كانا يسكنان بجوار مذبح، ولذلك بدأ الغلام يجيد محاكاة أصوات الحيوانات المذبوحة؛ ثم بدلته في المرة الثالثة
صفحة رقم : 1167
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأقصى -> الصين -> عصر الفلاسفة -> اشتراكيون وفوضويون -> منشيس مستشار الأمراء

لأنهما كانا يسكنان بجوار سوق فشرع الصبي يسلك مسلك التجار ثم وجدت آخر الأمر داراً بقرب مدرسة فرضيت بها.
وكانت إذا أهمل الغلام دروسه تقطع خيط المُوم، فإذا سألها عن سبب هذا الإتلاف أجابت بأنها إنما تفعل ما يفعله هو نفسه بإهماله وعدم مثابرته على الدرس والتحصيل. وبذلك أصبح الصبي طالباً مجداً؛ ثم تزوج وقاوم في نفسه الميل إلى تطليق زوجته، وافتتح مدرسة لتعليم الفلسفة جمع فيها حوله طائفة من الطلاب ذاع صيتهم في الآفاق؛ وبعث إليه من كافة الأنحاء يدعونه ليناقشوه في نظرياته عن الحكم. ولم يشأ في أول الأمر أن يترك أمه المسنة، ولكنها أقنعته بالذهاب بخطبة حببتها إلى جميع رجال الصين، ولعل واحداً منهم هو الذي وضع هذه الخطبة:
"ليس من حق المرأة أن تفصل في أمر بنفسها، وذلك لأنها تخضع لقاعدة الطاعات الثلاث: فإذا كانت شابة وجب عليها أن تطيع أبويها، وإذا تزوجت كان عليها أن تطيع زوجها، وإذا ترملت وجب عليها أن تطيع ولدها. وأنت رجل كامل الرجولة، وأنا الآن عجوز، فافعل ما توحيه إليك عقيدتك بأنه حق واجب عليك أن تفعله، وسأفعل أنا ما يوجبه عليّ القانون الذي أأتمر بأمره. فلم إذن تشغل نفسك بي؟" (165).

وأجاب منشيس ما طلب إليه لأن اللهفة على التعليم جزء من اللهفة على الحكم، ترتبط كلتاهما أشد الارتباط بالأخرى. وكان منشيس كفلتير يفضل الملكية المطلقة على الديمقراطية، وحجته في هذا أن الديمقراطية تتطلب تعليم جميع الشعب كله إذا أريد نجاح الحكم، أما النظام الملكي المطلق فكل ما يطلب فيه أن يثقف الفيلسوف رجلاً واحداً هو الملك ويعلمه الحكمة لكي ينشئ الدولة الكاملة.
صفحة رقم : 1168
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأقصى -> الصين -> عصر الفلاسفة -> اشتراكيون وفوضويون -> منشيس مستشار الأمراء

ومن أقواله في هذا المعنى: "أصلح ما في عقل الأمير من خطأ. فإنك إن قومت الأمير استقرت شؤون الدولة" (166). وسافر أولاً إلى تشي وحاول أن يقوم أميرها شوان، ورضي أن يكون له فيها منصب فخري، ولكنه رفض مرتب هذا المنصب. وسرعان ما وجد أن الأمير لا يعنى بالفلسفة، فغادر تلك الإمارة إلى إمارة تانج الصغيرة، ووجد في حاكمها تلميذاً مخلصاً وإن يكن تلميذاً عاجزاً ضعيفاً. فعاد مرة أخرى إلى تشي، وأثبت أنه قد زاد حكمة وفهمهاً لحقائق الأمور بأن قبل منصباً ذا مرتب كبير عرضه عليه الأمير شوان. ولما توفيت أمه في هذه السنين الرغدة دفنها باحتفال عظيم وجه اللوم من أجله إلى تلاميذه، ولكنه برر لهم هذا العمل بقوله إن كل ما يرمى إليه هو أن يظهر إخلاصه ووفاءه لوالدته.

وبعد بضع سنين من ذلك الوقت تورط شوان في حرب للفتح والتملك، وساءه ما أشار به عليه منشيس من دعوة إلى السلام، رأى أنها جاءت في غير أوانها فأقاله من منصبه. وسمع منشيس أن أمير سونج يريد أن يحكم حكم الفلاسفة فسافر إلى عاصمته ولكنه وجد أن ما سمعه مبالغاً فيه كثيراً، وأن الأمراء الذين تردد عليهم كانت لهم أعذار كثيرة يبررون بها عدم استقامتهم واتباعهم النصح. فقد قال واحد منهم: "إن لدي ناحية من نواحي الضعف، وهي أني أحب البطولة والبسالة". وقال آخر: "إن لدي ناحية من نواحي الضعف وهي أني أحب الثروة" (167).
واضطر منشيس آخر الأمر إلى أن يعتزل الحياة العامة، وقضى أيام شيخوخته وضعفه في تعليم الطلاب وتأليف كتاب وصف فيه أحاديثه مع ملوك زمانه. وليس في وسعنا أن نقول إلى حد يمكن مقارنة هذه الأحاديث بأحاديث وولتر سفدج لاندر
Walter Savage Lander ؛ ولسنا واثقين من أن هذا
صفحة رقم : 1169
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأقصى -> الصين -> عصر الفلاسفة -> اشتراكيون وفوضويون -> منشيس مستشار الأمراء

الكتاب من تأليف منشيس نفسه أو من تأليف تلاميذه أو أنه هو وتلاميذه قد اشتركوا في وضعه، أو أنه مدسوس عليه وعليهم(168). وكل ما نستطيع أن نقوله واثقين أن كتاب منشيس من أعظم الكتب الفلسفية الصينية القديمة وأجلها قدراً.

وعقيدته عقيدة دنيوية خالصة لا تقل في هذا عن عقيدة كنفوشيوس، ولا يكاد يوجد فيها شيء عن المنطق أو فلسفة المعرفة أو ما وراء الطبيعة. لقد ترك الكنفوشيون هذا إلى أتباع لو- دزه، ووجهوا همهم إلى البحوث الأخلاقية والسياسية. وكان الذي يهم منشيس هو أن يرسم طريقة للحياة الصالحة وتولي خيار الناس مقاليد الحكم. وكان مبدؤه الأساسي أن الناس أخيار بطبيعتهم (169)، وأن ليس منشأ المشاكل الاجتماعية طبيعة الناس بل منشؤها فساد الحكومات؛ ومن ثم يجب أن يصبح الفلاسفة ملوكاً، أو أن يصبح ملوك هذا العالم فلاسفة. انظر إلى ما يقوله في هذا المعنى:
"والآن إذا أردتم جلالتكم أن تنشئوا حكومة أعمالها صالحة، فإن هذا سيبعث في جميع موظفي مملكتكم الرغبة في أن يكونوا في بلاط جلالتكم، وفي جميع الزراع الرغبة في أن يفلحوا أرض جلالتكم، وفي جميع التجار الرغبة في أن يخزنوا بضائعهم في أسواق جلالتكم، وفي جميع الرحالة الأغراب الرغبة في أن يسافروا في طرق جلالتكم، وفي جميع من يشعرون في أنحاء مملكتكم بأن ظلماً قد وقع عليهم من حكامهم الرغبة في أن يأتوا ويشكوا إلى جلالتكم. وإذا ما اعتزموا أن يفعلوا هذا فمن ذا الذي يستطيع أن يقف في سبيلهم؟" فقال الملك: "إنني غبي وليس في وسعي أن أرقى إلى هذا الحد" (170).
والحاكم الصالح في رأيه لا يشن الحرب على البلاد الخارجية بل يشنها على العدو المشترك وهو الفقر، لأن الفقر والجهل هما منشأ الجرائم واضطراب النظام، وعقاب الناس على ما يرتكبونه من الجرائم لأنهم لا تتاح لهم فرص
صفحة رقم : 1170
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأقصى -> الصين -> عصر الفلاسفة -> اشتراكيون وفوضويون -> منشيس مستشار الأمراء

لعمل شَرَك دنيء ينصب للإيقاع بالناس(171). وواجب الحكومة أن توفر أسباب الرفاهية لرعاياها، ولهذا ينبغي لها أن تضع الخطط الاقتصادية الكفيلة بتحقيق هذه الغاية(172). فعليها أن تفرض أكثر الضرائب على الأرض نفسها لا على ما تفعله أو ما يقام عليه من المنشآت(173)، وعليها أن تلغي كل العوائد الجمركية وأن تجعل التعليم عاماً وإجبارياً لأن هذا أصلح أساس لنشر الحضارة وتقدمها؛ "والقوانين الطيبة لا تعادل كسب الناس بالتعليم الطيب" (174). "وليس الذي يفرق بين الإنسان والحيوان الأعجم بالشيء الكثير، ولكن معظم الناس يطرحونه وراء ظهورهم، ولا يحتفظ به إلا عظماء الرجال"(175).
وفي وسعنا أن ندرك قدم المشاكل السياسية التي تواجه عصرنا المستنير، وموقفنا منها، وما نضعه لها من الحلول، إذا عرفنا أن منشيس قد نبذه الأمراء المتطرفون، وسخر منه الاشتراكيون والشيوعيون في عصره لمحافظته واستمساكه بالقديم. ولما قام شوشنج جزار الجنوب الهمجي ينادي بإنشاء دكتاتورية الصعاليك، ويطالب بأن يكون الصناع على رأس الدولة، "وأن يكون الفعلة هم الحكام" لما قام يدعو إلى هذا، واعتنق دعوته كثيرون من "المتعلمين"، كما اعتنق المتعلمون هذه الدعوة نفسها في أيامنا الحاضرة، وانضووا تحت لوائه، رفض منشيس هذه الفكرة بازدراء، وقال "إن الحكومة يجب أن يتولاها المتعلمون" (176). ولكنه ندد أيضاً بالفكرة القائلة إن الكسب يجب أن يكون هو الباعث على العمل في المجتمع الإنساني، وعاب على سونج كانج قوله إن الملوك يجب اكتسابهم لقضية السلام بإقناعهم في لغة هذه الأيام بأن الحرب عمل غير مربح. وفي هذا يقول:
"إن غرضك شريف، ولكن منطقك غير سليم. ذلك بأنك إذا اتخذت الكسب أساساً لحجتك، واستطعت أن تقنع بها ملوك تشين وتشي، وأعجب هؤلاء الملوك بفكرة الكسب فأمروا بوقف حركات جيوشهم، فإن كل المتصلين
صفحة رقم : 1171

قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأقصى -> الصين -> عصر الفلاسفة -> اشتراكيون وفوضويون -> منشيس مستشار الأمراء

بهؤلاء الجيوش سيفرحون بوقف (القتال)، وسيجدون أعظم السرور في (السعي وراء) الكسب. فنرى الوزراء يخدمون الملك جرياً وراء الكسب الذي حبب إليهم والأبناء يخدمون آباءهم، والأخوة الصغار يخدمون الكبار من أخوتهم، لهذا السبب عينه. ونتيجة هذا أن الملك والوزراء، والأب والابن، والأخ الأكبر والأصغر ينسون كلهم بواعث الخير والصلاح، ويوجهون أعمالهم كلها نحو الكسب المحبب إليهم العزيز عليهم. ولم يوجد قط (مجتمع) كهذا إلا كان مآله الخراب" (177).
وكان يعترف بحق الشعوب في الثورة وينادي بهذا المبدأ في حضرة الملوك. وكان يندد بالحرب ويراها جريمة، ولشد ما صدم عقائد عباد الأبطال في أيامه حين كتب يقول: "من الناس من يقول أني بارع في تنظيم الجند، وأني ماهر في إدارة المعارك. أولئك هم كبار المجرمين" (178).
وقال في موضع آخر: "ليس ثمة حرب عادلة"(179). وكان يندد بترف حاشية الملوك، ويوجه أشد اللوم للملك الذي يطعم كلابه وخنازيره ويترك الناس يموتون جوعاً"(180). ولما قال أحد الملوك إنه لا يستطيع منع المجاعة أجابه منشيس بأنه ينبغي له أن يعتزل المُلك(181). وكان يقول لتلاميذه: "إن الناس أهم عنصر (من عناصر الأمة)؛.. وإن الملك أقل هذه العناصر شأناً" (182). وإن من حق الناس أن يخلعوا حكامهم، بل إن من حقهم أن يقتلوهم في بعض الأحايين.
"وسأل الملك شوان عن الوزراء العظام... فأجابه منشيس: "إذا كان الملك يرتكب أغلاطاً شنيعة وجب عليهم أن يعارضوه، فإذا لم يستمع إليهم بعد أن يفعلوا هذا مرة بعد مرة، وجب عليهم أن يخلعوه...".
ثم واصل منشيس حديثه قائلا: "إذا فرض أن القاضي الأكبر الذي يحكم في الجرائم قد عجز عن السيطرة على الموظفين (الخاضعين له) فماذا تفعل به؟".
صفحة رقم : 1172

قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأقصى -> الصين -> عصر الفلاسفة -> اشتراكيون وفوضويون -> منشيس مستشار الأمراء

فأجابه الملك بقوله: "أفصله من منصبه". ثم قال له منشيس: "وإذا لم يكن في داخل حدود (مملكتك) الأربعة حكومة صالحة فماذا تفعل؟". فتلفت الملك يمنة ويسرة وأخذ يتحدث عن أمور أخرى...
وسأله الملك شوان: "وهل من أجل ذلك أمر تانج بنفي جياه وضرب الملك "وُو" حاكم جو (سن)؟ فأجاب منشيس: "هكذا تقول السجلات".
وسأله الملك: "وهل يحق للوزير أن يقتل مليكه؟" فأجابه منشيس: "إن الذي يخرج على ما أودع فيه من (طبيعة خيرة) يسمى لصاً؛ والذي يخرج على قواعد الاستقامة يسمى وغداً؛ وليس كل من اللص والوغد في عرفنا إلا شخصاً لا قيمة له؛ ولقد سمعت بتقطيع أوصال الشخص جو، ولكني لم أسمع بقتل ملك" (183).
تلك عقيدة ما أجرأها، ولقد كانت عاملاً كبيراً في تقرير المبدأ الذي يقره ملوك الصين وأهلها، وهو أن الحاكم الذي يستثير عداوة الشعب يفقد " حقه الإلهي " في الحكم، ومن حق الشعب أن يخلعه. فلا عجب والحالة هذه إذا غضب هونج وو، مؤسس أسرة منج، حين قرأ هذا الحديث الذي دار بين منشيس والملك شوان، وأمر أن يمحى اسم منشيس من مكانه في هيكل كنفوشيوس، وكانت لوحة تذكارية قد وضعت له في هذا المعبد بأمر ملكي في عام 1084م؛ ولكن اللوحة أعيدت إلى مكانها ولم يمض عام واحد على إزالتها، وظل منشيس من ذلك الوقت إلى ثورة عام 1911م يعد بطلاً من أبطال الصين وثاني اثنين ذاع صيتهما في جميع عهود تاريخها، وكان لهما أعظم الأثر في فلسفتها الصحيحة.وإليه وإلى جوشي يرجع الفضل في احتفاظ كنفوشيوس بزعامته الفكرية في الصين أكثر من ألفي عام.

صفحة رقم : 1173
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأقصى -> الصين -> عصر الفلاسفة -> اشتراكيون وفوضويون -> شوق دزه الواقعي

4- شون - دزه، واقعي
النفس البشرية أمارة بالسوء - ضرورة القوانين

كان في فلسفة منشيس كثير من نقط الضعف، وكان يسر معاصريه أن يشهروا بهذه النقط بأعظم ما يستطيعون من قوة. أحق أن الناس أخيار بطبيعتهم؛ وأنهم لا ينحدرون إلى الشر إلا إذا فسدت النظم التي يعيشون في كنفها؟ أم الصحيح أن الطبيعة هي السبب في شرور المجتمع؟ وقد كان هذان الرأيان المتعارضان مثاراً لجدل عنيف ظل قائماً آلاف السنين بين المصلحين والمحافظين. فهل تستطيع التربية أن تنقص الجرائم، وتزيد الفضائل، وتأخذ بيد الناس إلى المثل العليا وتمكنهم من إقامة الدولة الفاضلة المثالية؟ وهل يصلح الفلاسفة لحكم الدول أو أن فلسفتهم لا تؤدي إلا إلى زيادة ما يحاولون علاجه من فوضى واضطراب؟
وكان أشد الناس نقداً لمنشيس وأصعبهم مراساً أحد الموظفين العموميين، ويلوح أنه توفي في عام 235 ق.م وهو في سن السبعين. ذلك هو شون- دزه الذي سبقت الإشارة إليه في هذا الباب. وكما كان منشيس يعتقد أن الناس جميعهم أخيار بطبيعتهم، كان شون- دزه يرى أنهم جميعاً أشرار بفطرتهم، وحتى شون ويو كانا متوحشين حين ولدا(184). وقد وصلت إلينا قطعة من كتابات شون- دزه يبدو فيها أشبه الناس بالفيلسوف الإنجليزي هبز
Hobbes إذ يقول:
"النفس البشرية أمارة بالسوء، وما تعمله من خير متكلف مصطنع . فهي قد غرس فيها من ساعة مولدها حب الكسب؛ وإذا كانت أعمال الإنسان
صفحة رقم : 1174
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأقصى -> الصين -> عصر الفلاسفة -> اشتراكيون وفوضويون -> شوق دزه الواقعي

إنما تقوم على الحب فإن هذا يؤدي إلى انتشار المنازعات والسرقات. وليس إنكار الذات والاستسلام للغير من (طبيعة) الإنسان، بل إن من طبيعته التحاسد والتباغض، ولما كانت أعمال الناس لا بد أن تتفق مع طباعهم فإنهم لا يصدر عنهم إلا العنف والأذى، ولا نرى فيهم إخلاصاً أو وفاء.

ومن طبيعة الإنسان أيضاً إشباع الأذن والعين، وهذا يؤدي إلى حب الأصوات العذبة والمناظر الجميلة. ولما كانت أعمال الناس لا أن تتفق مع هذه وتلك كان لا بد أن توجد الدعارة وسوء النظام، وأن تنعدم الاستقامة والاحتشام ومظاهرهما المختلفة المتسقة. ومن هذا يتضح أن السير وفق الطبيعة البشرية وإطاعة أحاسيسها، يؤديان حتماً إلى الخصام واللصوصية، وإلى مخالفة الواجبات التي تتفق مع الوضع الذي وجد فيه كل إنسان، وإلى الخلط بين كل المراتب والمميزات حتى تعم الهمجية. ولهذا كان لا بد من قيام سلطان المعلمين وسلطان الشرائع، والاهتداء بقواعد الاستقامة والاحتشام التي ينشأ عنها إنكار الذات والخضوع للغير ومراعاة قواعد السلوك المنظمة، مما يؤدي إلى قيام الدولة، ذات الحكومة الصالحة... وقد أدرك الملوك الأقدمون الحكماء ما طبعت عليه النفس البشرية من شر، فوضعوا قواعد الاستقامة والآداب، وسنوا النظم والقوانين ليقوموا طبائع الناس ومشاعرهم ويصلحوهم... حتى يسلكوا جميعاً الحكم الصالح الذي يتفق مع العقل" (185).
ووصل شون- دزه في بحوثه إلى ما وصل إليه ترجنيف وهو أن الطبيعة ليست معبداً يضم الصالحين، بل هي مصنع يجتمع فيه الصالح والطالح؛ وهي تقدم المادة الغفل، التي يعمل فيها الذكاء فيصوغها ويشكلها. وكان يظن أن أولئك الناس الأشرار بطبعهم، إذا دربوا على الخير، قد يصلحون، بل إن في وسعهم إذا أريد لهم ذلك أن يكونوا قديسين(186).
صفحة رقم : 1175
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأقصى -> الصين -> عصر الفلاسفة -> اشتراكيون وفوضويون -> شوق دزه الواقعي

ولما كان شون- دزه شاعراً وحكيماً معاً فقد نظم فلسفة فرنسيس بيكن في هذا الشعر الركيك:
إنكم تمجدون الطبيعة وتتفكرون فيها،
فلم لا تسخرونها وتنظمونها؟
إنكم تطيعون الطبيعة وتسبحون بحمدها،
فلم لا تسيطرون على أساليبها وتستخدمونها،
إنكم تنظرون إلى الفصول نظرة الإجلال وتنتظرونها،

فلم لا تستجيبون إليها لبذل النشاط في أوانه؟
إنكم تعتمدون على الأشياء الخارجة عنكم وتعجبون بها،
فلم لا تكشفون عن كفاياتكم؟
وتوجهونها الوجهة الصالحة؟.
صفحة رقم : 1176
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأقصى -> الصين -> عصر الفلاسفة -> اشتراكيون وفوضويون -> جونج دزه المثالي

5- جونج - دزه، مثالي
الرجوع إلى الطبيعة - المجتمع اللاحكومي - طريقة الطبيعة - حدود
الذهن - تطور الإنسان - مشكل الأزرار - أثر الفلسفة الصينية في أوربا
على أن "الرجوع إلى الطبيعة" لم يكن من السهل أن يقاوم بهذه الطريقة؛ بل قام في ذلك العصر من يدعو إليه كما قام من يدعوا إليه في كل العصور. ومن المصادفات التي يمكننا أن نسميها مصادفات طبيعية إن كان الداعي إلى هذا الرجوع أبلغ كتاب عصره وأفصحهم لساناً. لقد كان جونج- دزه مولعاً بالطبيعة يرى أنها سيدته التي تتحفي به على الدوام مهما كان بغيه أو كانت سنه، ومن أجل هذا فاضت فلسفته بأحاسيس روسو الشعرية مضافاً إليها مُلَحُ فلتير الهجائية. ومن ذا الذي يستطيع أن يتصور أن منشيس ينسى نفسه بحيث يصف أحد الناس
صفحة رقم : 1177
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأقصى -> الصين -> عصر الفلاسفة -> اشتراكيون وفوضويون -> جونج دزه المثالي

بأن له: "جدرة كإبريق من الفخار" (188)، وقصارى القول أن جونج أديب وفيلسوف معاً.

ولد هذا الفيلسوف في ولاية سونج، وتقلد وقتاً ما منصباً صغيراً في مدينة خيان. وزار قصور الملوك التي زارها منشيس، ولكن كلا الرجلين لا يذكر فيما بقي لنا من كتاباته اسم الآخر. ولعل كليهما كان يحب صاحبه كما يحب المعاصرون بعضهم بعضاً. ويروى عنه أنه رفض منصباً كبيراً مرتين. ولما عرض عليه دوق- ويه رياسة الوزارة ردّ على رسول الملك رداً مقتبضاً يدل على ما يتراءى للكاتب من أحلام: "اذهب من هنا لساعتك ولا تدنسني بوجودك، لخير لي أن أسلي نفسي وأمتعها في حفرة قذرة من أن أخضع لقواعد في بلاط ملك من الملوك" (189).
وبينما كان يصطاد السمك في يوم من الأيام إذ أقبل عليه رجلان من كبار الموظفين يحملان إليه رسالة من ملك خو يقول فيها: "أريد أن أحملك عبء جميع ملكي"، فأجابه جونج، كما يقول هو نفسه، دون أن يرفع نظره عن صيده:
"لقد سمعت أن في خو صدفة سلحفاة كأنها روح من الأرواح، وقد ماتت سلحفاتها منذ ثلاثة آلاف عام، وأن الملك يحتفظ بهذه الصدفة في معبد أسلافه، وأنه يضعها في سلة مغطاة بالقماش. فهل كان خيراً للسلحفاة أن تموت وتترك صدفتها تعظم على هذا النحو؟ أو هل كان خيراً لها أن تظل حية تجر ذيلها من خلفها في الوحل؟" فأجاب الموظفان الكبيران: "لقد كان خيراً لها أن تعيش وتجر ذيلها من خلفها في الوحل" فقال لهما جونج: "اذهبا في سبيلكما، وسأظل أجر ذيلي ورائي في الوحل"(190).
صفحة رقم : 1178
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأقصى -> الصين -> عصر الفلاسفة -> اشتراكيون وفوضويون -> جونج دزه المثالي

وكان احترامه للحكومات يعدل احترام سلفه الروحي لو- دزه، فكان يسره أن يشير إلى عدد ما يتصف به الملوك والحكام من صفات اللصوص(191). ويقول إنه إذا أدى الإهمال بأحد الفلاسفة الحقيقيين، فرأى نفسه يتولى شؤون إحدى الدول، فإن الخطة المثلى التي يجب عليه أن يسلكها هي أن لا يفعل شيئاً، وأن يترك الناس أحراراً يضعون ما يشاءون من نظم حكمهم الذاتي. "لقد سمعت عن ترك العالم وشأنه والكف عن التدخل في أمره ولم أسمع عن حكم العالم" (192) ولم يكن ثمة حكومات في العصر الذهبي الذي سبق عهد أقدم الملوك.
ولم يكن يو وشون خليقين بما حبتهما الصين وحباهما كنفوشيوس من تشريف وتعظيم، بل كانا خليقين بأن يتهما بالقضاء على ما كانت الإنسانية تستمتع به من سعادة بدائية قبل إقامة نظم الحكم في الحكم في العالم: "لقد كان الناس في عهد الفضيلة الكاملة يعيشون مجتمعين كما يعيش الطير والحيوان، ولا يفترقون عنهما في شيء، تتألف منهم ومن جميع المخلوقات أسرة واحدة. وأنى لهم أن يعرفوا فيما بينهم ما يميز العظماء فيهم من غير العظماء؟" (193).
ويرى جونج أن من واجب الرجل العاقل أن يولي الأدبار حين يشاهد أولى معالم الحكومة، وأن يعيش أبعد ما يستطيع عن الفلاسفة والملوك، ينشد السلام والسكون في الغابات (وذلك موضوع جد آلاف من المصورين الصينيين في رسمه) وأن يترك كيانه كله يتبع الدَّو المقدس- قانون حياة الطبيعة ومجراها الذي لا تدركه العقول- من غير أن يعوقه في ذلك تفكير أو تدبير، لا يتكلم إلا قليلاً لأن الكلام يضل بقدر ما يهدى، ولأن الدَّو- طريقة الطبيعة وجوهرها- لا يمكن التعبير عنه بالألفاظ أو في أفكار، بل كل ما في الأمر أنه يمكن الشعور به في الدم. وهو يرفض أن يستعين بالآلات ويؤثر عليها الطرق القديمة المجهدة التي كان يجري عليها بسطاء الرجال، وذلك لأن الآلات تؤدي إلى التعقيد والفتنة وعدم المساواة بين الناس، وليس في مقدور أي إنسان

صفحة رقم : 1179
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأقصى -> الصين -> عصر الفلاسفة -> اشتراكيون وفوضويون -> جونج دزه المثالي

أن يعيش بين الآلات ويستمتع بالسلام(194). وهو يأبى أن يكون له ملك خاص ولا يجد للذهب نفعاً له في حياته؛ ويفعل ما فعله تيمن الأثيني فيترك الذهب مخبوء في جوف التلال واللآلىء في أعماق البحار. والذي يمتاز به من غيره أنه يفهم أن الأشياء جميعها تخص خزانة واحدة وأن الموت والحياة يجب أن ينظر إليهما نظرة واحدة" ، على أنهما نغمتان من أنغام الطبيعة المتناسقة أو موجتان في بحر واحد.
وكان الأساس الذي يقوم عليه تفكير جونج عين الأساس يقوم عليه تفكير لو- دزه شبه الأسطوري، وكان تفكير لو- دزه هذا يبدو لجونج أعمق كثيراً من تفكير كنفوشيوس، وكان في جوهره النظرة الصوفية لوحدة الكون غير الشخصية الشبيهة شبهاً عجيباً بنظرة بوذا وأتباع أبانيشاد، حتى ليكاد المرء يعتقد أن فلسفة ما وراء الطبيعة الهندية قد تسربت إلى الصين قبل أربعمائة عام من ظهور البوذية فيها حسبما يسجله المؤرخون. نعم إن جونج فيلسوف لا أدري، جبري، من القائلين بالحتمية ومن المتشائمين، ولكن هذا لا يمنعه أن يكون قديساً متشككاً، ورجلاً أسكرته الدَّرَّية؛ وهو يعبر عن تشككه هذا تعبيراً يميزه من غيره من أمثاله في القصة الآتية:
قال شبه الظل يوماً ما للظل" إنك تارة تتحرك وتارة تثبت في مكانكـ تارة تجلس وتارة تقوم. فلم هذا التذبذب في القصد وعدم الاستقرار فيه؟" فأجابه الظل بقوله: "إن شيئاً أعتمد عليه هو الذي يجعلني أفعل ما أفعله،
صفحة رقم : 1180
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأقصى -> الصين -> عصر الفلاسفة -> اشتراكيون وفوضويون -> جونج دزه المثالي

ولكن هذا الشيء نفسه يعتمد على شيء آخر يضطره إلى أن يفعل هو الآخر ما يفعله... وأنى لي أن أعرف لم أفعل هذا الشيء ولا أفعل ذاك؟... إن الجسم إذا بلى بلى العقل معه؛ ألا ينبغي لنا أن نقول إن هذه حال يرثى لها كثيراً؟... إن ما يحدث في الأشياء كلها من تغيير- وجود ثم عدم- يسير (بلا انقطاع)؛ ولكننا لا نعرف من ذا الذي يسير هذه الحركة في طريقها على الدوام: وأنى لنا أن نعرف متى يبدأ الواحد منا ؟ وأنى لنا أن نعرف متى ينتهي ؟ إن كل ما في وسعنا أن ننتظر هذه البداية والنهاية، لا أكثر من هذا ولا أقل"(196).
ويظن جونج أن هذه المشاكل إنما تنشأ من قصر تفكيرنا أكثر مما تنشأ من طبيعة الأشياء نفسها. فلا عجب والحالة هذه أن تنتهي الجهود التي تبذلها عقولنا الحبيسة لفهم العالم الأكبر الذي تكون هي جزيئات صغيرة منه، لا عجب أن تنتهي هذه الجهود بالمتناقضات والقوانين المتعارضة. ولقد كانت هذه المحاولة التي ترمي إلى تفسير الكل بإصلاحات الجزء إسرافاً في التطاول والاعتداد بالنفس، لا نجيزها إلا لما فيها من تسلية وفكاهة؛ لأن الفكاهة، كالفلسفة، هي النظر إلى الكل بمصطلحات الجزء ، وكلاهما لا يمكن وجوده بغير الآخر.
ويقول جونج- دزه إن العقل لا يفيد في فهم الأشياء الغائية أو أي شيء عميق كنمو الطفل مثلاً. "وليس الجدل إلا دليلاً على عدم وضوح الرؤيا"، وإذا أراد الإنسان أن يفهم الدَّو "فعليه أن يكبت علمه أشد الكبت"( 197 ) إن من واجبنا أن ننسى نظرياتنا ونشعر بالحقائق؛ وليس التعليم بنافع لنا في هذا الفهم، وأهم شيء في هذا أن نلقي بأنفسنا في غمرات الطبيعة.
وما هو الدَّو الذي يراه الصوفي المحظوظ النادر الوجود؟ إنه شيء لا يمكن التعبير عنه بالألفاظ؛ وكل ما نستطيع أن نصفه به في عبارات ضعيفة ملأى
صفحة رقم : 1181
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأقصى -> الصين -> عصر الفلاسفة -> اشتراكيون وفوضويون -> جونج دزه المثالي

بالمتناقضات هو قولنا إنه وحدة الأشياء كلها وانسيابها الهادىء من نشأتها إلى كمالها والقانون الذي يسيطر على هذا الانسياب.
"ولقد كان موجوداً ثابتاً منذ الأزل قبل أن توجد السماء والأرض"(198) وفي هذه الوحدة العالمية تتلاشى كل المتناقضات، وتزول كل الفروق، وتتلاقى كل الأشياء المتعارضة؛ وليس فيه ولا في نظرته إلى الأشياء طيب أو خبيث، ولا أبيض أو أسود، ولا جميل أو قبيح ، ولا عظيم أو حقير. "ولو عرف الإنسان أن العالم صغير كحبة الخردل، وأن طرف الشعرة لا يقل في الارتفاع عن قمة الجبل، أمكن أن يقال عنه أنه يعرف النسبة بين الأشياء(200). وفي هذا الكل المبهم الغامض لا يدوم شكل من الأشكال، وليس فيه صورة فذة لا تنتقل إلى صورة أخري في دورة التطور التي تسير على مهل:
"إن بذور (الأشياء) دقيقة ولا حصر لها. وهي تكون على سطح الماء نسيجاً غشائياً. فإذا وصلت إلى حيث تلتقي الأرض والمياه اجتمعت وكونت (الحزاز الذي يكون) كساء الضفادع والحيوانات الصوفية. فإذا دبت فيها الحياة على التلال والمرتفعات صارت هي الطلح؛ فإذا غذاها السماء أضحت نبات عش الغراب. ومن جذور عش الغراب ينشأ الدود ومن أوراقه ينشأ الفراش. ثم يستحيل الفراش حشرة- وتعيش تحت موقد. ثم تتخذ الحشرة صورة اليرقة، وبعد ألف عام تصبح اليرقة طائراً... ثم تتحد الينجشي مع خيزرانة فينشأ من اتحادهما الخنج- تنج؛ ومنه ينشأ النمر، ومن النمر ينشأ الحصان، ومن الحصان ينشأ الإنسان. فالإنسان جزء من آلة (التطور) العظيمة، التي تخرج منها جميع الأشياء، والتي تدخل فيها بعد موتها" (201).
لا ننكر أن هذه الأقوال ليس فيها من الوضوح ما في نظرية دارون
صفحة رقم : 1182
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأقصى -> الصين -> عصر الفلاسفة -> اشتراكيون وفوضويون -> جونج دزه المثالي

ولكنها أياً ما كان غموضها نظرية تطور.

"وفي هذه الدورة اللانهائية قد يستحيل الإنسان إلى صورة أخري غير صورته؛ ذلك أن صورته الحالية ليست إلا مرحلة عابرة من مراحل الانتقال، وقد لا تكون في سجل الخلود حقيقة إلا في ظاهر أمرها- أو جزءاً من الفوارق الخداعة التي تُغَشّي بها مايا جميع الكائنات(201) .
"رأيت أنا جونج- دزه مرة في منامي أني فراشة ترفرف بجناحيها في هذا المكان وذاك، أني فراشة حقاً من جميع الوجوه. ولم أكن أدرك شيئاً أكثر من تتبعي لخيالاتي التي تشعرني بأني فراشة. أما ذاتيتي الإنسانية فلم أكن أدركها قط. ثم استيقظت على حين غفلة وهاأنذا منطرح على الأرض رجلاً كما كنت، ولست أعرف الآن هل كنت في ذلك الوقت رجلاً يحلم بأنه فراشة، أو أنني الآن فراشة تحلم بأنها رجل" (202).
وليس الموت في رأيه إلا تغيراً في الصورة، وقد يكون تغيراً من حال إلى حال أحسن منها؛ أو أنه كما قال إبسن
Ibsen فيما بعد الصائغ الذي يصهرنا مرة أخرى في أتون التغير والتطور:
"مرض تزه- لاي حتى أصبح طريح الفراش يلفظ آخر أنفاسه، ووقف من حوله زوجه وأبناؤه يبكون. وذهب لي يسأل عنه فلما أقبل عليهم قال لهم: "اسكتوا وتنحوا عن الطريق! ولا تقلقوه في حركة تبدله"... ثم اتكأ على الباب وتحدث إلى (الرجل المحتضر). فقال له تزه- لاي: "إن صلة الإنسان بالين واليانج أقوى من صلته بأبويه. فإذا كانا يتعجلان موتي وأعصي أنا أمرهما فإني أعد حينئذ عاقاً شرساً. هنالك "كتلة (الطبيعة) العظمى" التي تجعلني أحمل هذا الجسم، وأكافح في هذه الحياة، وتهد قواي في سن الشيخوخة، ثم أستريح بالموت. وإذن فذلك الذي يعنى بمولدي هو الذي يعنى بوفاتي. فهاهو ذا صاهر يصب المعادن. فإذا كان المعدن الذي يتأرجح
صفحة رقم : 1183
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأقصى -> الصين -> عصر الفلاسفة -> اشتراكيون وفوضويون -> جونج دزه المثالي

أثناء صبه يناديه. "يجب أن أكون مويه (سيفاً قديماً مشهوراً) فإن الصاهر العظيم يعد هذا المعدن معدناً خبيثاً بلا ريب. وذلك أيضاً شأن الإنسان، فإذا ما أصر أن يكون إنساناً ولا شيء غير إنسان، لأنه في يوم من الأيام قد تشكل في صورة الإنسان، إذا فعل هذا فإن من بيده تصوير الأشياء وتشكيلها سيعده بلا ريب مخلوقاً خبيثاً. وإذن فلننظر إلى السماء والأرض نظرتنا إلى مصهر عظيم، ولننظر إلى مبدل الأشياء نظرتنا إلى صاهر عظيم؛ فهل لا نكون في مكاننا الحق أينما ذهبنا؟ إن السكون هو نومنا والهدوء هو يقظتنا" (203).
ولما تصرم أجل جونج نفسه أعد أتباعه له جنازة فخمة ولكنه نهاهم عن ذلك وقال لهم: "أليس موكب جنازتي معداً إذا كانت السماء والأرض تابوتي وغطائي، والشمس والقمر والنجوم شعائري، والخلائق كلها تشيعني إلى قبري؟" ولما عارض أتباعه في هذا، وقالوا إنه إن لم يدفن أكلت طيور الهواء الجارحة لحمه، رد عليهم جونج بقوله: "سأكون فوق الأرض طعاماً للحِدَأ، وسأكون تحتها طعاماً لصراصير الطين والنمل؛ فلم تحرمون بعضها طعامها لتقدموه للبعض الآخر؟" (204).
وإذا كنا قد أطنبنا في الكلام على فلاسفة الصين الأقدمين فإن بعض السبب في هذا يرجع إلى أن مشكلات الحياة الإنسانية المعقدة العسيرة الحل ومصائرها تستغرق تفكير العقل الباحث، وأن بعضه الآخر يرجع إلى أن علم فلاسفة الصين الأقدمين هو أثمن تراث خلفته تلك البلاد للعالم. ومن الدلائل القوية على قدر هذه الفلسفة أن ليبنتز
Leibbnitz صاحب العقل العالمي الواسع، قام من زمن بعيد (في عام 1697م)، بعد أن درس الفلسفة الصينية، ينادي بضرورة تطعيم فلسفة الشرق والغرب كلتيهما بالأخرى وعبر عن رأيه هذا بألفاظ ستظل محتفظة بقيمتها في كل عصر ولكل جيل:
"إن الأحوال السائدة بيننا وما استشرى في الأرض من فساد طويل
صفحة رقم : 1184

قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأقصى -> الصين -> عصر الفلاسفة -> اشتراكيون وفوضويون -> جونج دزه المثالي

العهد تكاد كلها تحملني على الاعتقاد بأن الواجب أن يرسل إلينا مبشرون صينيون ليعلمونا أساليب الأديان القومية وأهدافها... ذلك بأني أعتقد أنه لو عين رجل حكيم قاضياً... ليحكم أي الشعوب أفضل أخلاقاً من سواها، لما تردد في الحكم للصين بالأسبقية في هذا المضمار" (205). وقد طلب ليبنتز إلى بطرس الأكبر أن ينشأ طريقاً برياً للصين، ودعا إلى إنشاء جمعيات في موسكو و برلين "لارتياد الصين وتبادل المدينتين الصينية والأوربية" (206). وفي عام 1721م بذل كرستيان ولف
Christian Wolff مجهوداً آخر في هذا السبيل وذلك بما ألقاه من محاضرات في جامعة هالHalle "عن فلسفة الصينيين العملية"، واتهمه ولاة الأمور بالإلحاد وفصلوه من منصبه، فلما أن جلس فردرك الأكبر على عرش بروسيا دعاه إليها ورد إليه اعتباره (207).
وجاء عصر الاستنارة في فرنسا فعني بالفلسفة الصينية كما عني بتنسيق الحدائق الفرنسية على نمط الحدائق الصينية وتزيين المنازل بالنقوش والأدوات الصينية. ويلوح أن الفلاسفة الاقتصاديين الطبيعيين (الفزيوقراطيين) قد تأثروا بآراء لو- دزه، وجونج- دزه في نظرية "التخلي"
Laissez faire وترك الأمور تجري في مجراها، وهي النظرية الاقتصادية التي يقولون بها ويدعون إليها(208). ولقد كان روسو يتحدث في بغض الأحيان كما يتحدث المعلم القديم وإنا لنتبين صلة وثيقة بينه وبين لو- دزه وجونج، ولو أن كنفوشيوس
صفحة رقم : 1185
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأقصى -> الصين -> عصر الفلاسفة -> اشتراكيون وفوضويون -> جونج دزه المثالي

ومنشيس قد وهبا ملكة الفكاهة لكانت الصلة وثيقة بينهما وبين فلتير. وفي هذا يقول فلتير نفسه: "لقد قرأت كتب كنفوشيوس بعناية، واقتبست فقرات منها ولم أجد إلا أنقى المبادئ الخلقية التي لا تشوبها أقل شائبة من الشعوذة" (210). وقد كتب جيته في عام 1770م يقول إنه اعتزم أن يقرأ كتب الصين الفلسفية القديمة، ولما دوت مدافع نصف العالم في ليبزج Leipzig بعد ثلاثة وأربعين عاماً من ذلك الوقت لم يلتفت إليها الحكيم الشيخ لأنه كان منهمكاً في دراسة الآداب الصينية(211).
ولعل هذه المقدمة القصيرة غير العميقة تحفز القارىء إلى متابعة دراسة الفلاسفة الصينيين أنفسهم كما درسهم جيته وفلتير وتولستوي.

صفحة رقم : 1186
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأقصى -> الصين -> عصر الشعراء -> بسمرك الصين

الباب الرابع والعشرون
عصر الشعراء
الفصل الأول
بسمرك الصين
عهد الدول المتنازعة - انتحار تشوبنج - شي هونج - دي يوحد
الصين - السور الكبير - "إحراق الكتب" - إخفاق شي هونج - دي
أكبر الظن أن كنفوشيوس مات بائساً، لأن الفلاسفة يحبون توحيد البلاد، ولأن الأمة التي حاول أن يوحدها تحت حكم أسرة قوية ظلت سادرة في الفوضى والفساد والانقسام. ولما أن ظهر هذا الموحد العظيم في آخر الأمر واستطاع بعبقريته الحربية والإدارية أن يؤلف من دويلات الصين دولة واحدة أمر بأن يحرق كل ما كان باقياً من كتب كنفوشيوس.
وفي وسعنا أن نحكم على الجو الذي كان يسود "عهد الدول المتنازعة" من قصة تشوبنج، وهو رجل بدأ نجمه يلمع في سماء الشعر، حتى سما إلى مركز عظيم في وظائف الدولة، ثم ألفى نفسه وقد طرد من منصبه على حين غفلة، فاعتزل الحياة العامة ولجأ إلى الريف وأخذ يفكر في الحياة والموت إلى جانب غدير هادئ، وسأل متنبئاً من المتنبئين:

"هل ينبغي لي أن أواصل السير في طريق الحق والوفاء؟، أو أسير في ركاب جيل فاسد ضال؟ هل أعمل في الحقول بالفأس والمجرف أو أسعى للرقي في حاشية عظيم من العظماء؟ هل أعرّض نفسي للخطر بما أنطق به من صريح اللفظ أو أتذلل بالنغم الزائف للأثرياء والعظماء؟ وهل أظل قانعاً راضياً بنشر الفضيلة
صفحة رقم : 1187
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأقصى -> الصين -> عصر الشعراء -> بسمرك الصين

أو أمارس فن مصانعة النساء كي أنال النجاح؟ هل أكون نقي السريرة، طاهر اليد صالحاً مستقيماً، أو أكون معسول الكلام، مذبذباً، متزلفاً، نهازاً للفرص؟"(1).
وتخلص الرجل من هذه المشكلة العويصة بالانتحار غرقاً (حوالي 350 ق.م). ولا يزال الصينيون حتى يومنا هذا يحيون ذكراه في كل عام، ويحتفلون بهذه الذكرى في يوم عيد القارب الكبير وهو اليوم الذي ظلوا يبحثون فيه عن جثته في كل مجرى من المجاري المائية.
وكان الرجل الذي وحد الصين من أصل وضيع هو أدنأ الأصول التي استطاع المؤرخون الصينيون أن يخترعوها. فهم يقولون لنا أن شي هونج - دي كان ابناً غير شرعي لملكة تشين (لإحدى الولايات الغربية) من الوزير النبيل "لو"، وهو الوزير الذي اعتاد أن يعلق فوق باب داره ألف قطعة من الذهب جائزة لمن يستطيع أن يصلح كلمة واحدة من كتاباته(2) (ولم يرث ابنه عنه هذا الذوق الأدبي الممتاز).

ويقول زوماتشين إن شي اضطر والده إلى الانتحار واضطهد والدته، وجلس على كرسي الإمارة وهو في الثانية عشرة من عمره. ولما أن بلغ الخامسة والعشرين بدأ يفتح البلاد ويضم الدويلات التي كانت الصين منقسمة إليها من زمن بعيد؛ فاستولى على دولة هان في عام 230ق.م، وعلى جو في عام 228، وعلى ويه في عام 225، وعلى تشو في عام 223، وعلى ين في عام 222؛ واستولى أخيراً على دولة تشي المهمة في عام 221؛ وبهذا خضعت الصين لحكم رجل واحد لأول مرة منذ قرون طوال، أو لعل ذلك كان لأول مرة في التاريخ كله. ولقب الفاتح نفسه باسم شي هونج - دي، ثم وجه همه إلى وضع دستور ثابت دائم لإمبراطوريته الجديدة.
أما أوصاف هذا الرجل الذي يعده المؤرخون الصينيون عدوهم الألد،
صفحة رقم : 1188
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأقصى -> الصين -> عصر الشعراء -> بسمرك الصين

فكل ما خلفوه لنا منها وهو قولهم انه كان "رجلا كبير الأنف، واسع العينين، ذا صدر كصدر الطائر الجارح، وصوت شبيه بابن آوى، لا يفعل الخير، له قلب كقلب النمر أو الذئب"(3). وكان قوى الشكيمة عنيداً لا يحول عن رأيه، ولا يعترف بالألوهية إلا لنفسه، اجتمعت فيه عقائد نيتشه وبسمرك، وعقد العزم على أن يوحد بلاده بالدم والحديد. ولما وحد بلاد الصين وجلس على عرشها كان أول عمل قام به أن حمى بلاده من الهمج البرابرة المجاورين لحدودها الشمالية، وذلك بأن أتم الأسوار التي كانت مقامة من قبل عند حدودها، ووصلها كلها بعضها ببعض. وقد وجد في أعدائه المقيمين في داخل البلاد مورداً سهلاً يستمد منه حاجته من العمال لتشييد هذا البناء العظيم الذي يعد رمزاً لمجد الصين ودليلاً على عظيم صبرها. ويبلغ طول السور العظيم ألفاً وخمسمائة ميل، وتتخلله في عدة أماكن منه أبواب ضخمة على النمط الآشوري، وهو أضخم بناء أقامه الإنسان في جميع عصور التاريخ، ويقول عنه فلتير: "إن أهرام مصر إذا قيست إليه لم تكن إلا كتلاً حجرية من عبث الصبيان لا نفع فيها"(4). وقد احتاج تشييده إلى عشر سنين وإلى عدد لا يحصى من الخلق؛ ويقول الصينيون إنه "أهلك جيلا من الناس، وأنقذ كثيراً من الأجيال". على أنه لم يصد الهمج عن الصين كما يتبين لنا ذلك فيما بعد، ولكنه عطل هجومهم عليها وقلل من حدته. وحال بين إغارتهم على أرض الصين زمناً ما، فاتجهوا غرباً إلى أوربا، ثم اجتاحوا بلاد إيطاليا، وسقطت رومة في أيديهم لأن الصين أقامت سورها العظيم.
ثم ترك شي هونج - دي، وهو مغتبط مسرور، شؤون الحرب ووجه عنايته، كما وجهها نابليون من بعده، إلى شؤون الإدارة، ووضع القواعد العامة التي قامت عليها الدولة الصينية في المستقبل. وعمل بمشورة لي - سيو، المشترع الكبير ورئيس وزرائه، فاعتزم ألا يقيم المجتمع الصيني على العادات المألوفة وعلى
صفحة رقم : 1189

قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأقصى -> الصين -> عصر الشعراء -> بسمرك الصين

الاستقلال المحلي للولايات، بل اعتزم أن يقيمه على قواعد القانون الصريح وعلى الحكومة المركزية القوية. ولذلك قضى على قوة أمراء الإقطاع، واستبدل بهم طائفة من كبار الموظفين تعينهم الوزارة القومية في مناصبهم؛ وأقام في كل مركز من المراكز حامية عسكرية مستقلة عن الحاكم المدني، وسن للبلاد قوانين وأنظمة موحدة، وبسط الاحتفالات الرسمية، وسك عملة للدولة، وجزأ معظم الضياع الإقطاعية، ومهد السبيل لرخاء الصين بإنشاء الملكيات الزراعية، ولوحدتها القوية بإنشاء الطرق الكبيرة الممتدة من هين - يانج عاصمة ملكه إلى جميع أطراف إمبراطوريته. وجمل العاصمة بما أقامه فيها من القصور الكثيرة، وأقنع أغنى أسر الدولة وأقواها سلطاناً البالغ عددها 000ر12 أسرة بأن تعيش في هذه العاصمة تحت إشرافه ورقابته. وكان يسير في البلاد متخفياً ومن غير حرس، يتفقد أحوالها ويتعرف ما فيها من خلل وفساد وسوء نظام، ثم يصدر الأوامر الصريحة لإصلاح هذه العيوب، وقد شجع العلم وقاوم الأدب(5).
ذلك أن رجال الأدب من شعراء، ونقدة، وفلاسفة بوجه عام، وطلاب الفلسفة الكنفوشية بنوع خاص، كانوا أعدى أعدائه. فقد كانوا يتبرمون بسيطرته القوية الشاملة، وكانوا يرون أن إنشاء حكومة مركزية عليا سيقضي لا محالة على تباين أساليب التفكير والحياة وحريتهما.

وقد كان هذا التباين وتلك الحرية مصدر الانتعاش الأدبي طوال عهد الحروب والانقسامات أيام أسرة جو. فلما أقبل هؤلاء العلماء على شي هونج - دي يحتجون عليه لإغفاله الاحتفالات القديمة رد عليهم رداً جافاً وأمرهم ألا يتدخلوا فيما لا يعنيهم(6). وجاءه وفد من كبار العلماء الرسميين يعرضون عليه أنهم قد أجمعوا رأيهم على أن يطلبوا إليه إعادة النظام الإقطاعي بتوزيع الضياع على أقاربه؛ وأضافوا إلى ذلك قولهم: "لم يحدث قط فيما وصل إلى علمنا أن إنساناً لم يترسم خطوات أسلافه الأقدمين في أمر من الأمور ودام عمله طويلاً "(7). فرد عليهم
صفحة رقم : 1190
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأقصى -> الصين -> عصر الشعراء -> بسمرك الصين

لي سيو رئيس الوزراء، وكان وقتئذ يعمل على إصلاح الحروف الهجائية الصينية ويضعها في الصورة التي تكاد تحتفظ بها إلى يومنا هذا، رد عليهم بخطبة تاريخية لا ترفع من شأن الآداب الصينية قال:
"إن الملوك الخمسة لم يفعل كل منهم ما فعله الآخر، وإن الأسر المالكة الثلاث لم تحذ إحداها حذو الأخرى؛... ذلك أن الأيام قد تبدلت. والآن قد قمتم جلالتكم لأول مرة بعمل جليل، وأسستم مجداً سيدوم مدى عشرة آلاف جيل. لكن الحكام الأغبياء عاجزون عن فهم هذا العمل... لقد كانت الصين في الأيام الخالية مضطربة منقسمة على نفسها، ولم يكن بمقدور أحد أن يوحدها؛ ومن أجل هذا ساد النبلاء جميعاً وقويت شوكتهم؛ وهؤلاء النبلاء جميعاً تدور أحاديثهم كلها حول الأيام الخالية ليعيبوا هذه الأيام... وهم يشجعون الناس على اختراع التهم الباطلة، فإذا ترك لهم الحبل على الغارب، فسينحط مقام الملك في أعين الطبقات العليا، وستنتشر الأحزاب والفرق بين الطبقات السفلى.

"ولهذا اقترح أن تحرق التواريخ الرسمية جميعها عدا "مذكرات تشين، وأن يرغم الذين يحاولون إخفاء الشي - جنج، والشو - جنج ومحاورات المدارس المائة على أن يأتوا بها إلى ولاة الأمور لإحراقها"(8).
وأعجب الإمبراطور إعجاباً شديداً بهذه الفكرة، وأصدر الأمر بتنفيذ هذا الطلب، وجيء بكتب المؤرخين في كل مكان وألقيت في النار يرفع عبء الماضي عن كاهل الحاضر؛ وحتى يبدأ تاريخ الصين من عهد شي هونج - دي. ويلوح أن الكتب العلمية ومؤلفات منشيس قد نجت من النيران، وأن كثيراً من الكتب المحرمة قد احتفظ بها في دار الكتب الإمبراطورية حيث يستطيع الرجوع إليها الطلاب الذين يجيز لهم الإمبراطور هذا الاطلاع(9). وإذ كانت
صفحة رقم : 1191
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأقصى -> الصين -> عصر الشعراء -> بسمرك الصين

الكتب في تلك الأيام تكتب على شرائح من الخيزران يشد بعضهما إلى بعض بمشابك متحركة، وإذ كان المجلد الواحد لهذا السبب كبير الحجم ثقيل الوزن، فإن العلماء الذين حاولوا إخفاء هذه الكتب قد لاقوا عناء كبيراً. وكشف أمر بعضهم، وتقول الروايات إن كثيرين منهم أرسلوا للعمل في بناء السور الكبير، وأن أربعمائة وستين منهم أعدموا(10). ولكن بعض الأدباء حفظوا مؤلفات كنفوشيوس كلها عن ظهر قلب، ولقنوها لحفاظ مثلهم، فما إن توفى الإمبراطور عادت هذه الكتب من فورها إلى الظهور والانتشار، وإن كان كثير من الأغلاط قد تسرب في أكبر الظن إلى نصوصها. وكل ما كان لهذا التحريم من أثر خالد أن خلع على الآداب المحرمة هالة من القداسة وأن جعل شي هونج - دي مبغضاً إلى المؤرخين الصينيين. وظل الناس أجيالاً طوالاً يعبرون عن عقيدتهم فيه بتدنيس قبره(11).

وكان من أثر القضاء على الأسر القوية وعلى حرية الكتابة والخطابة أن أمسى شي في شيخوخته لا نصير له ولا معين. وحاول أعداؤه عدة مرات أن يغتالوه، ولكنه كان يكشف أمرهم في الوقت المناسب ويقتل بيده من يحاولون قتله. وكان يجلس على عرشه والسيف مسلول فوق ركبتيه، ولا يسمح لأحد أن يعرف في أية حجرة من حجرات قصوره الكثيرة ينام ليله(13). وقد حاول كما حاول الإسكندر من بعده أن يقوي أسرته بما يذيعه في الناس من أنه إله، ولكنه أخفق في غرضه هذا كما أخفق الإسكندر لأنه لم يستطع أن يقنع الناس بما بينه وبين الآلهة من شبه. وأصدر أمراً بأن يطلق عليه خلفاؤه "الإمبراطور الأول"، وأن يضعوا هم لأسمائهم أرقاماً مسلسلة من بعده تنتهي بالإمبراطور المتمم لعشرة آلاف من نسله. ولكن أسرته قضي عليها بموت ولده. وإذا جاز لنا أن نصدق أقوال المؤرخين الذين كانوا يبغضونه فإنه صار في شيخوخته يؤمن بالخرافات، وينفق الأموال الطائلة في البحث عن أكسير الخلود. ولما
صفحة رقم : 1192
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأقصى -> الصين -> عصر الشعراء -> بسمرك الصين

مات جيء بجسمه سراً إلى عاصمة ملكه، وقد نقلته إليها قافلة تحمل السمك النتن حتى تختفي بذلك رائحته الكريهة، ويقال أن بضعة آلاف من الفتيات قد دفن معه ليؤنسنه في قبره، وأن خلفه أراد أن يظهر اغتباطه بموته فنثر الأموال على قبره وأنفق الكثير منها في تزيينه، فنقشت على سقفه أبراج النجوم، وصورت على أرضه خريطة للإمبراطور بالزئبق فوق أرضية من البرنز، وأقيمت في القبة آلات تقتل من نفسها كل من يتعدى على حرمه القبر، وأشعلت فيه شموع ضخمة لكي تضيء أعمال الإمبراطور الميت وأعمال ملكاته إلى أمد غير محدود. أما العمال الذي حملوا التابوت إلى القبر فقد دفنوا فيه أحياء مع حملهم خشية أن يكشفوا للناس عن الطريق السري المؤدي إلى المدفن(14).

صفحة رقم : 1193

قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأقصى -> الصين -> عصر الشعراء -> تجارب في الاشتراكية

الفصل الثاني
تجارب في الاشتراكية
الفوضى والفقر - أسرة هان - إصلاحات وو دي - ضريبة الدخل -
مشروعات وانج مانج الاقتصادية - القضاء عليها - غزو التتار
وأعقب موته عهد من الفوضى والاضطراب كما تعقب الفوضى والاضطراب موت الطغاة جميعهم تقريباً في أحقاب التاريخ كلها. ذلك أنه في وسع إنسان أياً كان أن يجمع السلطة كلها في يده ويحسن التصرف فيها. وثار الشعب إلى ابنه وقتله بعد أن قتل هو لي سيو بقليل، وقضى على أسرة تشين، ولم يمض على وفاة مؤسسها أكثر من خمس سنين. وأقام الأمراء المتنافسون ممالك متنافسة متعادية وساد الاضطراب من جديد. ودامت هذه الحال حتى اغتصب العرش زعيم عسكري مغامر مرتزق يدعى جو - دزو، وأسس أسرة هان التي ظلت تحكم البلاد أربعمائة عام كاملة، تخللتها فترات أنزلت فيها عن العرش، وتبدلت فيها العاصمة مرة واحدة . وأعاد ون - دي (179-75ق.م.) إلى الشعب حرية القول والكتابة، وألغي المرسوم الذي حرم به هونج - دي انتقاد الحكومة، وجرى على سياسة السلم، وابتدع العادة الصينية المأثورة عادة هزيمة قائد الجيش العدو بتقديم الهدايا إليه(15).
وكان وو - دي أعظم الأباطرة من أسرة هان؛ وقد حكم البلاد زهاء نصف قرن (140-87 ق.م) وصد البرابرة المغيرين، وبسط حكم الصين على
صفحة رقم : 1194
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأقصى -> الصين -> عصر الشعراء -> تجارب في الاشتراكية

كوريا ومنشوريا وأنام، والهند الصينية والتركستان، وشملت الصين - لأول مرة في التاريخ جميع الأقاليم الشاسعة التي تعودنا أن نقرنها باسمها. وأخذ وو - دي يقوم بتجارب في الاشتراكية، فجعل موارد الثروة الطبيعية ملكاً للامة، وذلك ليمنع الأفراد "أن يختصوا أنفسهم بثروة الجبال والبحار، ليجنوا من ورائها الأموال الطائلة، ويخضعوا لهم الطبقات الدنيا(16). واحتكرت الدولة استخراج الملح والحديد وعصر الخمور وبيعها. وأراد وو - دي - كما يقول معاصره زوماتشين - أن يقضي على سلطان الوسطاء والمضاربين "الذين يشترون البضائع نسيئة، ويعقدون القروض، والذين يشترون ليكدسوا ما يشترونه في المدن، والذين يخزنون كل أنواع السلع"، فأنشأ نظاماً قومياً للنقل والتبادل تشرف عليه الدولة، وسعى للسيطرة على التجارة حتى يستطيع منع تقلب الأسعار الفجائي. فكان عمال الدولة هم الذين يتولون شئون نقل البضائع وتوصيلها إلى أصحابها في جميع أنحاء البلاد. وكانت الدولة نفسها تخزن ما زاد من السلع على حاجة الأهلين، وتبيعها إذا أخذت أثمانها في الارتفاع فوق ما يجب، كما كانت تشتريها إذا انخفضت الأسعار وبهذه الطريقة كان "أغنياء التجار وأصحاب المتاجر الكبيرة يمنعون من أن يجنوا الأرباح الطائلة... وكانت الأسعار تنظم وتتوازن في جميع أنحاء الإمبراطورية"(17). وكان دخل الأفراد كله يسجل في سجلات حكومية وتؤدى عنه ضريبة مقدارها خمسة في المائة. وكان الأمير يسك النقود المصنوعة من الفضة مخلوط بالقصدير لتكثر في أيدي الناس فيسهل عليهم شراء البضائع واستهلاكها. وشرع يقيم المنشآت العامة العظيمة ليوجد بذلك عملاً لملايين الناس الذين عجزت الصناعات الخاصة عن استيعابهم، فأنشئت الجسور على أنهار الصين وحفرت قنوات لا حصر لها لربط الأنهار بعضها ببعض وإرواء الحقول
صفحة رقم : 1195
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأقصى -> الصين -> عصر الشعراء -> تجارب في الاشتراكية

وازدهر النظام الجديد وأفلح إلى حين، وراجت التجارة، وكثرت البضائع وتنوعت، وارتبطت الصين مع الأمم المجاورة لها ومع أمم الشرق الأدنى البعيدة عنها(20). وكثر سكان عاصمتها لو - يانج وزادت ثروتها وامتلأت خزائن الدولة بالأموال، وانتشر طلاب العلم في كل مكان، وكثر الشعراء، وبدأ الخزف الصيني يتخذ منظراً جميلاً جذاباً. وجمع في المكتبة الإمبراطورية 123ر3 مجلداً في الأدب الصيني القديم، و 705ر2 في الفلسفة، و 388ر1 في الشعر، و 568ر2 في الرياضيات، و 868 في الطب، و 790 في فنون الحرب(21). ولم يكن أحد يعين في مناصب الدولة إلا إذا اجتاز امتحاناً تضعه لهذا الغرض، وكانت هذه الامتحانات عامة يتقدم إليها كل من شاء. والحق أن الصين لم يمر بها عهد من الرخاء كالذي مر بها تلك الأيام.
ولكن طائفة من الكوارث الطبيعية مضافاً إليها خبث بني الإنسان قضت على هذه التجربة الجريئة. فقد تعاقبت على البلاد سنون من الفيضان والجدب ارتفعت على أثرها أسعار السلع ارتفاعاً لم تقو الحكومة على وقفه. وتضايق الناس من غلو أثمان الطعام والكساء فصاحوا يطالبون بالعودة إلى الأيام الحلوة الماضية، التي أضحت في اعتقادهم خير الأيام وأكثرها رخاء، وأشاروا بأن يُغلى مقترح النظام الجديد في الماء وهو حي، ونادى رجال الأعمال بأن سيطرة الدولة قضت على الابتكار الفردي السليم وعلى التنافس الحر، وأبوا أن يؤدوا ما يلزم لهذه التجارب من الضرائب الباهظة التي كانت الحكومة تفرضها عليهم(22). ودخلت النساء بلاط الإمبراطور وبسطن نفوذهن السرى على كبار
صفحة رقم : 1196
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأقصى -> الصين -> عصر الشعراء -> تجارب في الاشتراكية

الموظفين، وأصبحن عنصراً هاماً في الموجة من الفساد انتشرت في طول البلاد وعرضها بعد وفاة الإمبراطور(23). وأخذ المزيفون يقلدون العملة الجديدة ونجحوا في تقليدها إلى حد اضطر الحكومة إلى سحبها من أيدي الناس، وعادت الخطة القديمة خطة استغلال الضعفاء، يسيطر عليها نظام جديد، ومضى قرن من الزمان نسيت فيه إصلاحات وو دي أو أضحت مسبة له وعاراً.
وجلس على عرش الصين مصلح آخر في بداية التاريخ المسيحي بعد أربعة وثمانين عاماً من موت وو دي، وكان في بادئ الأمر وصياً على العرش ثم أصبح فيما بعد إمبراطوراً. وكان هذا الإمبراطور وانج مانج من أرقى طراز وصل إليه الرجل الصيني الكامل المهذب؛ وكان على غناه يعيش عيشة معتدلة بل عيشة مقتصدة، ويوزع دخله على أقاربه وعلى الفقراء من أهل البلاد . وقد قضى جل وقته يكافح لإعادة النظام إلى أحوال البلاد الاقتصادية والسياسية، ولكنه مع ذلك وجد فسحة من الوقت لا لمناصرة الأدب والعلم فحسب بل للاشتغال بهما بنفسه حتى أصبح من أكمل الناس ثقافة وتهذيباً؛ ولما جلس على سرير المُلك لم يحط نفسه بما يحيط به الملوك أنفسهم من الساسة، بل جمع حوله رجالاً من الأدباء والفلاسفة، وإلى هؤلاء الرجال يعزو أعداؤه أسباب إخفاقه، وإليهم يعزو أصدقاؤه أسباب نجاحه.
وروع وانج مانج في بداية حكمه انتشار الرق في ضياع الصين الكبيرة، فلم يكن منه إلا أن ألغى الرق وألغى الضياع بتأميم الأرض الزراعية، فقسمها قطعاً متساوية ووزعها على الزراع، ثم حرم بيع الأرض وشراؤها ليمنع بذلك عودة الأملاك الواسعة إلى ما كانت عليه من قبل(25). واحتفظ باحتكار الدولة للملح والحديد وأضاف إلى ذلك امتلاكها للمناجم وإشرافها على تجارة الخمور.
صفحة رقم : 1197
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأقصى -> الصين -> عصر الشعراء -> تجارب في الاشتراكية

وحاول كما حاول وودي أن يحمي الزراع والمستهلكين من جشع التجار بتحديد أثمان السلع. فكانت الدولة تشتري ما زاد على الحاجة من الحاصلات الزراعية وتبيعها إذا عزت وغلا ثمنها. وكانت الحكومة تقدم القروض بفائدة منخفضة لكل مشروع إنتاجي(26).
لكن وانج لم يفكر في خططه إلا من الناحية الاقتصادية ونسي طبائع الآدميين. فكان يعمل الساعات الطوال بالليل والنهار ليبتكر الخطط التي تزيد ثروة الأمة وأسباب سعادتها، ولكن أحزنه وأضرم قلبه أن وجد الاضطراب الاجتماعي ينتشر في البلاد في أثناء حكمه. فقد ظلت الكوارث الطبيعية كالفيضان والجدب تعطل مشروعاته الاقتصادية، واجتمعت كل الطوائف التي قضت هذه المشروعات على مطاعمها وأخذت تكيد له وتعمل لإسقاطه. فثار نقع الفتن في البلاد يصلت سيفها الشعب في الظاهر، ولكن أكبر الظن أن القائمين بها كانوا يتلقون الأموال من مصادر عليا. وبينما كان وانج يكافح ليقلم أظفار هذه الفتن، وقد ساءه كفر الشعب بفضله وجحوده بنعمته، إذ أخذت الشعوب الخاضعة لسلطان الصين تشق عصا الطاعة، كما أخذ برابرة الشيونج - نو يجتاحون الولايات الشمالية، فأضعف ذلك كله من هيبة الإمبراطور.
وتزعمت أسرة ليو الغنية ثورة عامة اندلع لهيبها في البلاد واستولت على شانج - آن، وقتلت وانج مانج، وألغت جميع إصلاحاته، وعاد كل شيء إلى ما كان عليه من قبل.
وجلس على العرش في أواخر أيام أسرة هان جماعة من الأباطرة الضعاف خاف بعضهم بعضاً، وانتهى بهم عهد هذه الأسرة؛ وأعقب ذلك عهد من الفوضى حكمت في أثنائه أسر خاملة الذكر، انقسمت البلاد في أيامها إلى دويلات متعددة. وتدفق التتار على البلاد ولم يصدهم عنها السور على مساحات واسعة من أجزائها الشمالية، وكانت غارات هؤلاء التتار
صفحة رقم : 1198
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأقصى -> الصين -> عصر الشعراء -> تجارب في الاشتراكية

سبباً في اضطراب حياة الصين والقضاء على حضارتها النامية، كما كانت غارات الهون الذين يمتون إلى التتار بأواصر القرابة العنصرية سبباً في اضطراب نظام الإمبراطور الرومانية وإلقاء أوربا في غمار الفوضى التي أرجعها نحو مائة عام كاملة. وفي وسعنا أن ندرك ما يمتاز به الصينيون من صلابة عنصرية، ومن قوة في الأخلاق والثقافة، إذا عرفنا أن هذا الاضطراب كان أقصر أجلاً وأقل عمقاً من الاضطراب الذي قضى على الدولة الرومانية. فلما أن انقضى عهد من الحروب والفوضى والامتزاج العنصري بين المغيرين والأهلين، أفاقت الحضارة الصينية من سباتها، وانتعشت انتعاشاً رائعاً يبهر الأنظار.
ولعل دم التتار الجديد قد بعث القوة في أمة كانت قد أدركتها الشيخوخة. وقبل الصينيون الغزاة الفاتحين بينهم، وتزوجوا منهم، وحضروهم، وارتقوا هم وإياهم إلى أسمى ما بلغوه من المجد في تاريخهم الطويل.

صفحة رقم : 1199
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأقصى -> الصين -> عصر الشعراء -> مجد تانج

الفصل الثالث
مجد تانج
الأسرة المالكة الجديدة - خطة ناي دزونج في تقليل الجرائم - عصر رخاء -
"الإمبراطور النابه" - رواية يانج - جوي - في - ثورة آن لو - شان

تعزى نهضة الصين الكبرى في العصر الذي سنتحدث عنه في هذا الفصل إلى أسباب ثلاثة وهي: امتزاج هذين الشعبين، والقوة الروحية التي انبعثت من دخول البوذية فيها، وعبقرية إمبراطور من أعظم أباطرتها وهو ناي دزونج الذي حكمها من عام 627 إلى عام 650 بعد الميلاد. جلس هذا الإمبراطور على عرش الصين وهو في الحادية والعشرين من عمره بعد أن نزل عنه أبوه جو - دزو الثاني الذي أقام أسرة تانج قبل ذلك الوقت بتسع سنين. وقد بدأ حكمه بداية غير مبشرة بخير، وذلك بقتل أخوته الذين كانوا يهددونه باغتصاب عرشه، ثم أظهر كفايته العسكرية برد غارات القبائل الهمجية إلى مواطنها الأصلية، وإخضاع الأقاليم المجاورة التي خرجت على حكم الصين بعد سقوط أسرة هان. ثم عافت نفسه الحرب فجأة وعاد إلى شانجان عاصمة ملكه وخصص جهوده كلها للأعمال السلمية، فقرأ مؤلفات كنفوشيوس مرة بعد مرة، وأمر بنشرها في شكل بديع رائع وقال في هذا: "إنك إذا استعنت بمرآة من الشبهان فقد تستطيع أن تعدل وضع قلنسوتك على رأسك؛ وإذا اتخذت الماضي مرآة لك فقد تستطيع أن تتنبأ بقيام الإمبراطوريات وسقوطها". ورفض كل أسباب الترف وأخرج من قصره الثلاثة آلاف من السيدات اللاتي جيء بهن لتسليته.
صفحة رقم : 1200
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأقصى -> الصين -> عصر الشعراء -> مجد تانج

ولما أشار عليه وزراؤه بوضع القوانين الصارمة لقمع الجرائم قال لهم: "إني إذا أنقصت نفقات المعيشة، وخففت أعباء الضرائب، ولم أستعن إلا بالأمناء من الموظفين حتى يحصل الناس على كفايتهم من الكساء، كان أثر هذه الأعمال في منع السرقات أعظم من أثر أقسى أنواع العقاب"(27).

وزار الإمبراطور يوماً سجون شانجان فرأى فيها مائتين وتسعين سجيناً حكم عليهم بالإعدام. فلم يكن منه إلا أن أرسلهم ليحرثوا الأرض واكتفى منهم بأن يعدوه بشرفهم أن يعودوا إلى سجنهم. وكان أن عادوا جميعاً، وبلغ من سرور تاي دزونج أن أمر بالإفراج عنهم كلهم، وسن من ذلك الوقت قانوناً يقضي بالا يصادق أي إمبراطور على حكم بالإعدام إلا بعد أن يصوم ثلاثة أيام. وجمّل عاصمة ملكه حتى أقبل عليها السياح من الهند ومن أوربا، وجاء إلى الصين عدد كبير من الرهبان البوذيين الهنود، وكان البوذيون الصينيون أمثال يوان جوانج يسافرون بكامل حريتهم إلى بلاد الهند ليأخذوا دين الصين الجديد عن مصادره الأصلية. وجاء المبشرون إلى شانجان ليبشروا بالأديان الزرادشتية والنسطورية المسيحية، وكان الإمبراطور يرحب بهم كما كان يرحب بهم أكبر، ويبسط عليهم حمايته، ويطلق لهم كامل حريتهم، ويعفي معابدهم من الضرائب، وذلك في الوقت الذي كانت فيه أوربا تعاني آلام الفاقة والجهالة والمنازعات الدينية. أما هو نفسه فقد بقى كنفوشياً بسيطاً بعيداً عن التحيز والتحكم في عقول رعاياه، وقد قال عنه مؤرخ نابه إنه لما مات حزن الناس عليه حزناً لم يقف عند حد، وبلغ من حزن المبعوثين الأجانب أنفسهم أن كانوا يثخنون أجسامهم بالجراح بالمدي والحراب، وينثرون دماءهم التي أراقوها بأنفسهم طائعين على نعش الإمبراطور المتوفي"(28).
لقد مهد هذا الإمبراطور السبيل إلى أعظم عصور الصين خلقاً وإبداعاً، فقد نعمت في عهده بخمسين عاماً من السلام النسبي واستقرار الحكم فشرعت
صفحة رقم : 1201
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأقصى -> الصين -> عصر الشعراء -> مجد تانج

تصدر ما زاد على حاجتها من الأرز والذرة والحرير والتوابل، وتنفق مكاسبها في ضروب من الترف لم يسبق لها مثيل. فغصت بحيرتها بقوارب التنزه المنقوشة الزاهية الألوان، واكتظت أنهارها وقنواتها بالسفن التجارية، وكانت المراكب تخرج من موانيها تمخر عباب البحار إلى الثغور البعيدة على شواطئ المحيط الهندي والخليج الفارسي. ولم تعرف الصين قبل ذلك العهد مثل هذه الثروة الطائلة؛ ولم تستمتع قط بما كانت تستمتع به وقتئذ من الطعام الوفير، والمساكن المريحة، والملابس الجميلة(29). وبينما كان الحرير يباع في أوربا بما يعادل وزنه ذهباً(30)، كان هو الكساء المألوف لنصف سكان المدن الصينية الكبرى، وكانت الملابس المتخذة من الفراء في القرن الثامن في شانجان أكثر منها في نيويورك في القرن العشرين. وكان في إحدى القرى القريبة من العاصمة مصانع للحرير تستخدم مائة ألف عامل(31). وصاح لي بو في إحدى الولائم: "ما أعظم هذا الكرم، وما أكثر هذا الإسراف في المال! أأقداح من اليشم الأحمر، وأطعمة شهية نادرة على موائد مرصعة بالجواهر الخضراء؟"(32). وكانت التماثيل تنحت من الياقوت، وأجسام الأثرياء من الموتى تدفن على فرش من اللؤلؤ(33). وكأنما أولع هذا الجنس العظيم بالجمال فجأة، وأخذ يكرم بكل ما في وسعه من كان قادراً على خلق هذا الجمال. ومن أقوال أحد النقاد الصينيين في هذا: "ذلك عصر كان فيه كل رجل بحق شاعرا" (34). ورفع الأباطرة الشعراء والمصورين إلى أعلى المناصب. ويروي "سير جون مانفيل" Sir John Manville أن أحداً من الناس لم يكن يجرؤ على أن يخاطب الإمبراطور إلا "إن كان شاعراً مطرباً يغني وينطق بالفكاهات" (35). وأمر أباطرة المانشو في القرن الثامن عشر الميلادي أن يوضع سجل يحوى ما قاله شعراء تانج، فكانت
صفحة رقم : 1202
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأقصى -> الصين -> عصر الشعراء -> مجد تانج

النتيجة أن وصل هذا السجل إلى ثلاثين مجلداً تحتوي 900ر48 قصيدة قالها 300ر2 شاعر، كانت هي التي أبقى عليها الدهر من هذه القصائد ومن أسماء أولئك الشعراء. وزاد ما في دار الكتب الإمبراطورية حتى بلغ 000ر54 مجلداً؛ وفي هذا يقول مردك Murdock : "ولا جدال في أن الصين كانت في ذلك الوقت أرقى البلاد حضارة، فقد كانت وقتئذ أعظم الإمبراطوريات قوة، وأكثرها استنارة، وأعظمها رقياً، وأحسنها حكماً على الأرض" (36)، "وقد شد ذلك العصر أرقى ما شهده العالم من الثقافات" .
وكان زينة هذا العصر كله منج هوانج - دي "الإمبراطور النابه" الذي حكم الصين نحو أربعين عاماً تخللتها فترات قصيرة كان فيها بعيداً عن العرش (713- 756 ب.م). وكان هذا الإمبراطور رجلاً اجتمعت فيه كثير من المتناقضات البشرية؛ فقد كان يقرض الشعر ويشن الحرب على البلاد النائية، ومن أعماله أنه فرض الجزية على تركيا وفارس وسمرقند، وألغى حكم الإعدام وأصلح إدارة السجون والمحاكم، ولم يرحم من لا يبادر بأداء الضرائب، وكان يتحمل راضياً مسروراً عنت الشعراء والفنانين والعلماء؛ وأنشأ كلية لتعليم الموسيقى في حديقة له تسمى "حديقة شجرة الكمثرى"، وقد بدأ حكمه متقشفاً متزمتاً، أغلق مصانع الحرير وحرم على نساء القصر التحلي بالجواهر أو الملابس المطرزة، ثم اختتمه أبيقورياً يستمتع بكل وسيلة من وسائل الترف، وضحى آخر الأمر بعرشه لينعم ببسمات يانج جوي - في.
وكان حين التقى بها في سن الستين، أما هي فكانت في السابعة والعشرين. وكانت قد قضت عشر سنين محظية لابنه الثامن عشر. وكانت بدينة ذات شعر
صفحة رقم : 1203
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأقصى -> الصين -> عصر الشعراء -> مجد تانج

مستعار، ولكن الإمبراطور أحبها لأنها كانت عنيدة، ذات أطوار شاذة، متغطرسة وقحة، وتقبلت منه إعجابه بها بقبول حسن، وعرفته بخمس أسر من أقاربها، وسمحت له بأن يعيّن أبناء هذه الأسر في وظائف مجزية سهلة في بلاطه.
وكان منج يسمى هذه السيدة "الطاهرة العظيمة"، وقد أخذ عنها فن الاستمتاع بضروب الترف والملاذ، وانصرف ابن السماء عن الدولة وشؤونها وعهد بالسلطة الحكومية كلها إلى يانج جو - جونج أخى السيدة الطاهرة، وهو رجل فاسد عاجز؛ وبينما كانت نذر الخراب والدمار تحيط به من فوقه ومن أسفل منه، كان هو يواصل ليله بنهاره منهمكاً في ضروب اللهو والفساد.
وكان في بلاط مانج رجل تتاري يسمى آن لو - شان يعشق هو الآخر يانج جوي - في، وقد كسب هذا الرجل ثقة الإمبراطور فرفعه إلى منصب حاكم إحدى الولايات الشمالية، وأمره على زهرة جيوش الإمبراطورية. ولم يلبث آن لو - شان أن أعلن نفسه إمبراطوراً على البلاد وزحف بجيوشه على شانجان. وتداعت حصون المدينة وكانت قد طال إهمالهما، وفر منج من عاصمة ملكه.
وتمرد الجنود الذين كانوا يحرسونه في فراره، وقتلوا يانج جو - جونج وجميع أفراد الأسر الخمس، واختطفوا يانج جوي - في من بين يدي الملك وقتلوها أمام عينيه. ونزل الإمبراطور عن عرشه بعد أن أذلته الشيخوخة والهزيمة، وعاثت جحافل آن شان الهمجية في المدينة فساداً، وقتلت عدداً كبيراً من أهلها ولم تفرق بين كبير وصغير . ويقال أن ستة وثلاثين مليوناً من الأنفس قد قضى عليهم في هذه الفتنة الصماء(39). ولكن الفتنة أخفقت آخر الأمر في الوصول
صفحة رقم : 1204
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأقصى -> الصين -> عصر الشعراء -> مجد تانج

إلى أغراضها، وقتل آن لو -شان بيد ابنه نفسه، وقتل هذا الابن بيد أحد القواد، ثم قتل هذا القائد ابن له. وظلت نار الفتنة مشتعلة حتى أكلت وقودها وخمدت جذورها في عام 672، وعاد منج هوانج محطماً كسير القلب إلى عاصمته المخربة. ومات فيها بعد بضعة أشهر من ذلك الوقت. وفي هذه الفترة من المآسي والحادثات الروائية العجيبة ازدهر الشعر الصيني ازدهاراً لم يكن له نظير من قبل.

صفحة رقم : 1205
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأقصى -> الصين -> عصر الشعراء -> الملاك المنفي

الفصل الرابع
الملاك المنفي
قصة لي بو - شبابه وبسالته وحبه - على القارب الإمبراطوري -
إنجيل الكرم - الحرب - تجوال لي بو - في السجن - "الشعر الخالد"
استقبل منج هوانج ذات يوم من أيام مجده، رسلاً من كوريا يحملون إليه رسائل خطيرة مكتوبة بلهجة لم يستطع أحد من وزرائه أن يفهمها، فصاح الإمبراطور غاضبا: "ما هذا؟ ألا يوجد بين هذا العدد الحجم من الحكام والعلماء والقواد رجل واحد ينجينا من هذه الورطة؟ قسماً إن لم أجد بعد ثلاثة أيام من يستطيع أن يحل رموز هذه الرسالة لأقصينكم جميعاً عن أعمالكم!".

وقضى الوزراء يوماً كاملاً يتشاورون ويتضجرون، وهم يخشون أن تطيح منهم مناصبهم ورؤوسهم. ثم تقدم الوزير هو جي- جانج إلى العرش وقال: "هل تأذن لأحد رعاياك أن يعلن لجلالتك أن في بيته شاعراً جليل الشأن يدعى لي متبحراً في أكثر من علم واحد؟ مُرْهُ أن يقرأ هذه الرسالة إذ ليس ثمة شيء يعجز عنه ". وأمر الإمبراطور أن يستدعى لي للمثول بين يديه من فوره. ولكن لي أبى أن يحضر بحجة أنه غير جدير بالاضطلاع بالواجب الذي طلب إليه أن يضطلع به، لأن الحكام قد رفضوا مقاله حينما تقدم لآخر امتحان عقد لطالبي الالتحاق بالوظائف العامة. واسترضاه الإمبراطور بأن منحه لقب دكتور من الدرجة الأولى، وخلع عليه حلة هذا اللقب. فجاء لي ووجد الذين امتحنوه بين الوزراء، وأرغمهم على أن يخلعوا له نعليه، ثم ترجم الوثيقة، وقد جاء فيها أن كوريا تعتزم خوض غمار الحرب لاستعادة حريتها. ولما قرأ لي هذه الرسالة أملى عليها رداً مروعاً، ينم عن علم غزير، وقعه الإمبراطور من فوره، وكاد
صفحة رقم : 1206
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأقصى -> الصين -> عصر الشعراء -> الملاك المنفي

أن يصدق ما أسره إليه "هو" وهو أن لي ملاك طرد من السماء لأنه ارتكب فيها ذنباً عظيماً . وأرسل الكوريون يتعذرون، وأدوا الجزية عن يد وهم صاغرون، وأرسل الإمبراطور بعض هذه الجزية إلى لي فوهب بعضها إلى صاحب الحانة لأنه كان يحب الخمر.

وكانت أم لي قد رأت في منامها ليلة مولد الشاعر الكوكب الأبيض الكبير الذي يسميه الصينيون ثاي- بو جنج ويسميه أهل الغرب فينوس . ولهذا سمى الطفل لي أي البرقوقة ولقب ثاي- بو أي النجم الأبيض. ولما بلغ العاشرة من عمره كان قد أتقن كتب كنفوشيوس، كما كان في مقدوره أن ينظم الشعر الخالد. وفي الثانية عشرة خرج إلى الجبال ليعيش فيها عيشة الفلاسفة، وأقام فيها سنين طوالاً، حسنت في خلالها صحته، وعظمت قوته، وتدرب على القتال بالسيف ثم أعلن إلى العالم مقدرته وكفايته فقال: إني وإن لم يبلغ طول قامتي سبع أقدام (صينية) فإن لي من القوة ما أستطيع به ملاقاة عشرة آلاف رجل"(41) (وعشرة آلاف لفظ يعبر به الصينيون عن الكثرة) ثم أخذ يضرب في الأرض يتلقى أقاصيص الحب من أفواه الكثيرين، وقد غنى أغنية "لفتاة من وو" قال فيها:
نبيذ الكروم
وأقداح الذهب
وفتاة حسناء من وو-
في سن الخامسة عشرة، تقبل على ظهر مهر،
ذات حاجبين قد خُطّا بقلم أزرق-
وحذاءين من النسيج القرنفلي المشجر-
صفحة رقم : 1207
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأقصى -> الصين -> عصر الشعراء -> الملاك المنفي

لا تفصح عن ما في نفسها-
ولكنها تغني أغاني ساحرة.
وقد أخذت تطعم الطعام على المائدة،
المرصعة بأصداف السلاحف.
ثم سكرت في حجري.
أي طفلتي الحبيبة! ما أحلى العناق.
خلف ستائر المطرزة بأزهار السوسن!
ثم تزوج الشاعر، ولكن مكاسبه كانت ضئيلة، فغادرت زوجته بيته وأخذت معها أبناؤه. ترى هذه الأسطر التي يبث فيها شوقه موجهة إليها، أو إلى حبيبة أخرى لم يطل عهد الوداد بينهما؟-
أيتها الحسناء، لقد كنت وأنت عندي أملأ البيت زهراً.
أما الآن أيتها الحسناء وقد رحلت- فلم يبق فيه إلا فراش خال.
لقد طوى عن الفراش الغطاء المزركش؛ ولست بقادر على النوم.
وقد مضت على فراقك ثلاث سنين؛ ولا يزال يعاودني شذى العطر الذي خلفته ورائك.
إن عطرك يملأ الجو من حولي وسيدوم أبد الدهر؛

ولكن أين أنت الآن يا حبيبتي؟
إني أتحسر- والأوراق الصفراء تسقط عن الغصن،
وأذرف الدمع- ويتلألأ رضاب الندى الأبيض على الكلأ الأخضر.
وأخذ يسلي نفسه باحتساء الخمر، حتى أصبح أحد "الستة المتعطلين في أيكة الخيزران"، الذين يأخذون الحياة سهلة في غير عجلة، ويكسبون أقواتهم المزعزعة بأغانيهم وقصائدهم. وسمع لي الناس ينثون الثناء الجم على نبيذ نيو جونج فسافر
صفحة رقم : 1208
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأقصى -> الصين -> عصر الشعراء -> الملاك المنفي

من فوره إلى تلك المدينة، وكانت تبعد عن بلده ثلاثمائة ميل(44).
والتقى في تجواله بدوفو الذي صار فيما بعد منافسه على تاج الصين الشعري، وتبادل هو وإياه القصائد الغنائية، وصارا يضربان في البلاد معاً كالأخوين، وينامان تحت غطاء واحد، حتى فرقت الشهرة بينهما. وأحبهما الناس جميعاً لأنهما كانا كالقديسين لا يؤذيان أحداً ويتحدثان إلى الملوك وإلى السوقة بنفس الأنفة والمودة اللتين يتحدثان بهما إلى الفقراء المساكين. ودخلا آخر الأمر مدينة شانجان وأحب "هو" الوزير الطروب شعر لي حباً حمله على أن يبيع ما عنده من الحلي الذهبية ليبتاع له الشراب، ويصفه دوفو بقوله:
أما لي بو فقدم له ملء إبريق،
يكتب لك مائة قصيدة.
وهو يغفو في حانة
في أحد شوارع مدينة شانجان؛
وحتى إذا ناداه مولاه،
فإنه لا يطأ بقدمه القارب الإمبراطوري.
بل يقول: "معذرة يا صاحب الجلالة.
أنا إله الخمر".
لقد كانت أيامه هذه أيام طرب ومرح؛ يعزه الإمبراطور، ويغمره بالهدايا جزاء ما كان يتغنى به من مديح يانج جوي- في الطاهرة. وأقام منج مرة مأدبة ملكية يوم عيد الفاونيا في فسطاط الصبار، وأرسل في طلب لي بو لينشد الشعر في مديح حبيبته. وجاء لي، ولكنه كان ثملاً لا يستطيع قرض الشعر. فألقى خدم القصر ماء بارداً على وجه الوسيم وسرعان ما انطلق الشاعر
صفحة رقم : 1209

قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأقصى -> الصين -> عصر الشعراء -> الملاك المنفي

يغني ويصف ما بين الفاونيا وحبيبته يانج من تنافس فقال:
في أثوابها جلال الغمام السابح،
وفي وجهها سنا الزهرة الناضرة.
أيها الطيف السماوي يا من لا يكون إلا في العلا
فوق قلة جبل الجواهر
أو في قصر البلور المسحور حين يرتفع القمر في السماء!
على أنني أشهد هاهنا في روضة الأرض-
حيث يهب نسيم الربيع العليل على الأسوار،
وتتلألأ نقاط الندى الكبيرة...
لقد هزم حنين الحب الذي لا آخر له
والذي حملته إلى القلب أجنحة الربيع.
ترى من ذا الذي لا يسره أن يكون هو الذي تغنى فيه هذه الأغنية؟ لكن الملكة أدخل في روعها أن الشاعر قد عرض بها أغنيته تعريضاً بها خفياً، فأخذت من هذه اللحظة تدس له عند الملك وتبعث الريبة في قلبه. وما زالت به تقلبه بين الذروة والغارب حتى أهدى لي- بو كيساً به نقود وصرفه. فأخذ الشاعر يهيم في الطرقات مرة أخرى يسلي نفسه باحتساء الخمر، "وانضم إلى الثمانية الخالدين أصحاب الكأس"، الذين كان شرابهم على لسان الناس في شانجان. وكان يرى رأي ليو لنج القائل إنه يحسن بالإنسان أن يسير وفي صحبته على الدوام خادمان يحمل أحدهما خمراً ويحمل الآخر مجرفاً يستعين به على دفنه حيث يخر صريعاً "لأن شئون الناس" كما يقول ليو "ليست إلا طحالب في نهر" (46). وكأنما أراد شعراء الصين أن يكفروا عن تزمت الفلسفة الصينية، فأطلقوا لأنفسهم العنان. وفي ذلك يقول لي بو: "لقد أفرغنا مائة إبريق من الخمر لنغسل بها
صفحة رقم : 1210
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأقصى -> الصين -> عصر الشعراء -> الملاك المنفي

أرواحنا ونطهرها من الأحزان التي لازمتنا طوال حياتنا" (47) وهو يترنم ببنت الحان ترنم عمر الخيام:
إن المجرى الدافق يصب ماءه في البحر ولا يعود قط.
ألا ترى فوق هذا البرج الشامخ
شبحاً أبيض الشعر يكاد يذوب قلبه حسرة أمام مرآته البراقة؟

لقد كانت هذه الغدائر في الصباح شبيهة بالحرير الأسود،
فلما أقبل المساء إذا هي كلها في بياض الثلج.
هيا بنا، ما دام ذلك في مقدورنا، نتذوق الملاذ القديمة،
ولا نترك إبريق الخمر الذهبي
يقف بمفرده في ضياء القمر...
إني لا أبغي سوى نشوة الخمر الطويلة،
ولا أحب أن أصحو قط من هذه النشوة...
هيا بنا أنا وأنتما نبتاع الخمر اليوم!
لم تقولان أنكما لا تملكان ثمنها؟
فجوادي المرقط بالأزهار الجميلة،
ومعطفي المصنوع من الفراء والذي يساوي ألف قطعة من الذهب
سأخرج عن هذين وآمر غلامي
أن يبتاع بهما الخمر اللذيذة
ولأنسى معكما يا صاحبي
أحزان عشرة آلاف من الأعمار!
ترى ما هي هذه الأحزان؟ أهي آلام من محب أزدرى حبه؟ لا نظن هذا لأن شعراء الصين لا يكثرون من الشكوى من آلام الحب، وإن كان
صفحة رقم : 1211
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأقصى -> الصين -> عصر الشعراء -> الملاك المنفي

الحب يملأ قلوبهم كما يملأ قلوبنا، وإنما الذي أذاق لي مرارة المآسي البشرية هو الحرب والنفي، وهو آن لو شان والاستيلاء على عاصمة البلاد، وفرار الإمبراطور وموت يانج، وعودة منج هوانج إلى قصوره المهجورة. وهو يقول في حسرة "ليس للحرب نهاية! " ثم يأسو للنساء اللاتي قدمن أزواجهن ضحايا لإله الحرب فيقول:
هاهو ذا شهر ديسمبر؛ وهاهي ذا فتاة يورتشاو الحزينة!
لقد امتنع عليها الغناء، وعز الابتسام، وحاجباها أشعثان،
وهي تقف بالباب، تنتظر عابري السبيل،
وتذكر ذلك الذي اختطف سيفه وسار لحماية الحدود،
ذلك الذي قاسى أشد الآلام في البرد القارس وراء السور العظيم،
ذلك الذي جندل في ساحة الوغى ولن يعود أبداً،
***
في مشيتها الذهبية النمراء التي تحتفظ فيها بالذكريات،
قد بقي لها سهمان مراشان بريشتين بيضاوين،
بين نسج العنكبوت وما تجمع من الغبار خلال السنين الطوال.
تلك أحلام الحب الجوفاء التي لا تستطيع العين أن تنظر إليها لما تسببه للقلب من أحزان،

ثم تخرج السهمين وتحرقهما وتدرو رمادهما في الرياح.
إن في وسع الإنسان أن يقيم سداً يعترض به مجرى النهر الأصفر،
ولكن من ذا الذي يخفف أحزان القلب إذا تساقط الثلج،
وهبت ريح الشمال؟(49)
وفي وسعنا الآن أن نتخيله ينتقل من بلد إلى بلد ومن ولاية إلى ولاية على
صفحة رقم : 1212
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأقصى -> الصين -> عصر الشعراء -> الملاك المنفي

الصورة التي وصفه بها دزو تشونج- جي: "على ظهرك حقيبة ملأى بالكتب، تطوف ألف ميل أو أكثر، وفي كمك خنجر وفي جيبك طائفة من القصائد"(50). وقد حبته رفقته القديمة للطبيعة في هذا التجوال الطويل بعزاء وسلوى وراحة تجل عن الوصف؛ وفي وسعنا أن نرى من خلال أشعاره أرض بلاده ذات الأزهار، ونشعر أن حضارة المدن قد أخذ عبئها الباهظ يثقل على الروح الصينية:
لم أعيش بين الجبال الخضراء؟
إني أضحك من هذا السؤال ولا أجيب عنه، إن روحي ساكنة صافية،
إنها تسكن سماء أخرى وأرضاً ليست ملكاً لإنسان.
إن أشجار الخوخ مزدهرة والماء ينساب من تحتها.
ثم انظر إلى هذه الأبيات:
أبصرت ضياء القمر أمام مخدعي.
فخلته الصقيع على الأرض.
ورفعت رأسي ونظرت إلى القمر الساطع فوق الجبل،
وطأطأت رأسي وفكرت في موطني البعيد.
ولما تقدمت به السن وابيض شعره امتلأ قلبه حناناً للأماكن التي قضى فيها أيام شبابه. وكم من مرة، وهو يحيى في العاصمة حياة اصطناعية، حنّ قلبه للحياة البسيطة الطبيعية التي كان يحياها في مسقط رأسه وبين أهله:
في أرض وو وأوراق التوت الخضراء،
نام دود الحرير مرات ثلاثاً.
وأرض لوه الشرقية حيث تقيم أسرتي،
لا أعرف من يزرع فيها حقولنا.
وليس في وسعي أن أعود لأقوم فيها بأعمال الربيع.
صفحة رقم : 1213
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأقصى -> الصين -> عصر الشعراء -> الملاك المنفي

ومع هذا فإني لا أستطيع أن أعمل شيئاً،بل أسير على ضفة النهر.

إن ريح الجنوب إذا هبت أطارت روحي المشوقة إلى وطني.
وحملتها معها إلى حانتنا المعهودة.
وهناك أرى شجرة خوخ على الجانب الشرقي من البيت.
بأوراقها وأغصانها الكثيفة تموج في الضباب الأزرق.
إنها هي الشجرة التي غرستها قبل أن أفارق الدار منذ سنوات ثلاث.
لقد نمت شجرة الخوخ الآن وطالت حتى بلغت سقف الحانة،
في أثناء تجوالي الطويل إلى غير أوبه.
أي بنيتي الجميلة يابنج- يانج، إني أراك واقفة
بجوار شجرة الخوخ، تنتزعين منها غصناً مزهراً،
تقطفين الأزهار، ولكني لست معك-
ودموع عينيك تفيض كأنها مجرى ماء!
وأنت يا ولدي الصغير بو سشين لقد نموت حتى بلغت كتفي أختك
وصرت تخرج معها تحت شجرة الخوخ!
ولكن من ذا الذي يربت على ظهرك هناك؟
إني حين أفكر في هذه الأمور تخونني حواسي
ويقطع الألم الشديد في كل يوم نياط قلبي.
وهاأنذا اقتطع قطعة من الحرير الأبيض وأكتب عليها هذه الرسالة
وأبعث بها إليك مصحوبة بحبي تجتاز الطريق الطويل إلى أعلى النهر
وكانت السنون الأخيرة من عمره سني بؤس وشقاء، لأنه لم ينزل قط من عليائه ليجمع المال، ولم يجد في أيام الفوضى والفتن ملكاً يحنو عليه ويرد عنه غائلة الجوع والحرمان. ولما عرض عليه لي- لنج أمير يونج أن ينضم إلى حاشيته
صفحة رقم : 1214
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأقصى -> الصين -> عصر الشعراء -> الملاك المنفي

قبل هذا راضياً مسروراً؛ ولكن لي- لنج خرج على خليفة منج هوانج، فلما أقلمت أظفار فتنته ألفى لي بو نفسه بين جدران السجن محكوماً عليه بالموت لأنه خان دولته.

ثم توسط له جوُو دزيئي القائد الذي أخمد ثورة آن لو شان، وطلب أن تفتدى حياة لي بو بنزوله هو عن رتبته ولقبه. وخفف الإمبراطور عنه الحكم واستبدل به النفي مدى الحياة. ثم صدر عفو عام بعد ذلك بقليل، وعاد الشاعر يتعثر إلى مسقط رأسه. ومرض وتوفي بعد ثلاث سنين من ذلك الوقت؛ وتقول الأقاصيص، التي يعز عليها أن تموت نفس قل أن يوجد مثلها بين النفوس ميتة عادية، إنه غرق في أحد الأنهار، بينما كان يحاول وهو ثمل جزلان أن يعانق صورة القمر.
وديوان شعره الرقيق الجميل المؤلف من ثلاثين مجلداً لا يترك مجالاً للشك في أنه حامل لواء شعراء الصين بلا منازع. وقد وصفه ناقد صيني: "بأنه قمة تاي الشامخة المشرفة على مئات الجبال والتلال؛ والشمس إذا طلعت خبا وميض ملايين من نجوم السماء".
لقد مات منج هوانج، وماتت يانج وعفا ذكرهما ولكن لي بو لا يزال يغني!
لقد بنيت سفينتي من خشب الأفاوية وصنع سكانها من خشب المولان.
وجلس العازفون عند طرفها وبيدهم الناي من الغاب المحلى بالجواهر والمزمار المرصع بالذهب.
ألا ما أعظم سروري إذا كان إلى جانبي دن الخمر اللذيذة وغيد حسان يغنين
ونحن نطفو فوق ظهر الماء تدفعنا الأمواج ذات اليمين وذات الشمال!
صفحة رقم : 1215
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأقصى -> الصين -> عصر الشعراء -> الملاك المنفي

إذاً لكنت أسعد من جنى الهواء الذي ركب على ظهر غرنيقه الأصفر،
حراً كعريس البحر الذي تعقب النوارس دون غرض يبتغيه،
إني الآن أهز الجبال الخمسة بضربات من وحي قلمي.
هاأنذا قد فرغت من قصيدتي. فأنا أضحك وسروري أوسع من البحر.
أيها الشعر الخالد! إن ألحان شوبنج لشبيهة في روعتها بالشمس والقمر،
أما قصور ملوك جو وأبراجهم فقد عفت آثارها من فوق التلال(55).
صفحة رقم : 1216
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأقصى -> الصين -> عصر الشعراء -> من خصائص الشعر الصيني

الفصل الخامس
من خصائص الشعر الصيني

النظم الطليق - التصوير - كل قصيدة صورة
وكل صورة قصيدة .. - العاطفية - كمال الشكل
ليس في وسعنا أن نحكم على الشعر الصيني بدراسة شعر لي وحده، فإذا أراد الإنسان إن يحس به (وهذا خير من الحكم عليه) وجب عليه أن يسلم نفسه في غير استعجال للكثيرين من الشعراء الصينيين وأساليبهم الشعرية الفذة. ولا جدال في أن بعض الصفات الدقيقة التي يتصف بها هذا الشعر تخفيها عنا ترجمته: فنحن لا نرى في هذه الترجمة الرموز الصينية الجميلة، التي يتكون كل منها من مقطع واحد ولكنه يعبر مع ذلك عن فكرة معقدة؛ ولا نرى السطور تجري من أعلى إلى أسفل ومن اليمين إلى اليسار، ولا ندرك الوزن والقافية اللذين يتشبثان بقوة بالقواعد والسوابق القديمة؛ ولا نستمع إلى النغمات - وما فيها من خفض ورفع - التي يترنم بها الشعر الصيني وجملة القول أن نصف ما في شعر الشرق الأقصى من جمال فني يضيع حين يقرؤه من يجب أن نسميه "أجنبياً عنه. إن خير القصائد الصينية في لغتها الأصلية لصورة مصقولة ثمينة لا تقل في صقلها وعظيم فنها عن المزهرية المنقوشة النادرة الجميلة؛ ولكنه بالنسبة إلينا لا يكون إلا نتفاً من القريض الخداع "الطليق" من الوزن أو الشعر ""التصويري" قد أدركه بعض الإدراك ونقله نقلاً ضعيفاً عقل جاد ولكنه عقل غريب عنه لا يمت إليه بصلة.
إن أهم ما نراه في هذا الشعر هو إيجازه؛ فنميل إلى الظن بأن هذه القصائد تافهة، وإذا ما قرأناها شعرنا بأنا قد لا نجد فيها ما في شعر ملتن وهومر من
صفحة رقم : 1217
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأقصى -> الصين -> عصر الشعراء -> من خصائص الشعر الصيني

عظمة تارة وملالة تارة أخرى. ولكن الصينيين يعتقدون أن الشعر كله يجب أن يكون قصيراً؛ وأن القصيدة والطول لفظان متناقضان، لأن الشعر في نظرهم نشوة وقتية بنت ساعتها تموت إذا طالت ومدت حتى صارت ملحمة، وأن رسالة الشاعر أن يرى الصورة ويرسمها بضربة ويسجل الفلسفة في بضعة سطور، وأن مثله الأعلى أن يجمع المعاني الكثيرة في أنغام قليلة. وإذ كانت الصور من جوهر الشعر، وكانت الكتابة الصينية في جوهرها كتابة تصويرية، كانت لغة الصين المكتوبة لغة شعرية بطبيعتها تنقاد للكتابة التصويرية، وتنفر من المعنويات المجردة التي لا يمكن التحدث عنها كما يتحدث عن المرئيات. وإذ كانت المعنويات تكثر كلما ارتقت الحضارة، فقد أضحت اللغة الصينية، في صورتها المكتوبة، أشبه بشفرة سرية ذات إيحاء دقيق. وكذلك كان الشعر الصيني بالطريقة نفسها، وقد يكون للسبب عينه، يجمع بين الإيحاء والتركيز، ويهدف بما يرسم من الصور إلى الكشف عن شيءخفي عميق. فهو لا يجادل ولا يناقش، بل يوحي ويوعز، ويترك أكثر مما يقول؛ وليس في وسع أحد غير الشرقي أن يستجيب لما يوعز به ويملأ الفراغ الذي يتركه. وفي هذا المعنى يقول الصينيون:
كان الأقدمون يرون أن أحسن الشعر ما كان معناه أبعد من لفظه، وما اضطر قارئه أن يستخلص معناه لنفسه . الشعر الصيني كالأخلاق الصينية والفن الصيني ذو جمال رائع لا حد له تخفيه بساطة هادئة مستكنة. فهو لا يعمد إلى الاستعارة والمجاز والتشبيه بل يعتمد على إظهار ما يريد أن يتحدث عنه، ويشير من طرف خفي إلى ما يتضمنه، ويتصل به، وهو يتجنب المبالغات والانفعالات ويلجأ إلى العقل الناضج بما فيه من إيجاز في القول وما يتقيد به من قيود. وقلما تراه في صور روائية هائجة، ولكن في مقدوره أن يعبر عن المشاعر القوية بأسلوبه الهادئ الرصين:
صفحة رقم : 1218
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأقصى -> الصين -> عصر الشعراء -> من خصائص الشعر الصيني

الناس يقضون حياتهم متفرقين كالنجوم تتحرك ولكنها لا تلتقي أبداً.
أما هذه العين فما أسعدها، إذ ترى مصباحاً واحداً يبعث الضوء لي ولك!
ألا ما أقصر أيام الشباب!
وإن لما منا لتدل الآن على أن حياتنا قد آذنت بالزوال.
بل إن نصف من نعرفهم قد انتقلوا الآن إلى عالم الأرواح.
ألا ما أشد وقع هذا على نفسي.
وقد يعترينا الملل في بعض الأحيان مما في هذه القصائد من التكلف العاطفي، وما تحويه من تحسر وتمن باطل بأن تقف عجلة الزمان دورتها حتى يبقى الرجال فتياناً وتحتفظ الدول بشبابها أبد الدهر. ونحن ندرك من هذا الشعر أن حضارة الصين كانت قد شاخت وانقضى عهد شبابها في أيام منج هوانج، وأن الشعراء في هذا العهد - كالفنانين في الشرق بوجه عام - قد أولعوا بتكرار الموضوعات التليدة، وأنهم كانوا يسخرون قدرتهم الفنية للاحتفاظ بالصيغ سليمة مبرأة من العيوب. ولكننا رغم هذا كله لا نجد لهذا الشعر مثيلاً في غير بلاد الصين، ولا نرى ما يضارعه في جمال التعبير وما فيه من رقة العواطف رغم اعتدالها، ومن بساطة واقتصاد في التعبير عن أعمق الأفكار. ويقال لنا إن للشعر الذي كتب في عهد أباطرة تانج أثراً عظيماً في تعليم كل شاب صيني وأن الإنسان لا يجد صينياً مفكراً لا يحفظ الكثير من ذلك الشعر عن ظهر قلب. فإذا صح هذا كان في تاريخ لي بو ودوفو بعض ما نجيب به حين نسأل لِمَ يكاد كل صيني متعلم أن يكون فناناً وفيلسوفاً؟

صفحة رقم : 1219
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأقصى -> الصين -> عصر الشعراء -> دوفو

الفصل السادس
دوفو
داوتشين - بو - جوي - قصائد لشفاء الملاريا - دوفو
ولي بو - رؤيا الحرب - أيام الرخاء - الإملاق - الموت

لي بو عند الصينيين شبيه بكيتس عند الإنجليز، ولكن للصين غيره من المغنين، لا يكاد يقلّ حبهم لهم عن حبهم للي بو، فمنهم داوتشين الشاعر الرواقي البسيط الذي اعتزل منصباً حكومياً، لأنه على حد قوله لم يعد في وسعه أن يحني فقرات ظهره نظير خمسة أرطال من الأرز في كل يوم" أي أن يبتاع مرتبه بكرامته. واعتزل داوتشين الحياة العامة كما اعتزلها كثيرون من رجال الدولة اشمئزازاً من حياة الوظيفة ذات النزعة التجارية , وذهب ليعيش في الغابات ينشد فيها "طول السنين وعمق الخمور"، ويجد في مجاري الصين وجبالها من السلوى والبهجة ما صوره رساموها على الحرير فيما بعد:
اقطف الأقحوان تحت السياج الشرقي،
ثم اسرح الطرف طويلاً في تلال الصيف البعيدة
وأملا صدري من هواء الجبال النقي عند مطلع الفجر،
وأرى الطيور تعود مثنى مثنى.
إن في هذه الأشياء لمعاني عميقة،
لكننا إذا شئنا التعبير عنها خانتنا الألفاظ فجأة . . .
ألا ما أسخف أن يقضي المرء حياته كأوراق الشجر الساقطة المطمورة في تراب الطرقات!
ولقد قضيت ثلاثة عشرة سنة من حياتي على هذا النحو. . .
صفحة رقم : 1220
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأقصى -> الصين -> عصر الشعراء -> دوفو

وعشت زمناً طويلاً حبيساً في قفص،
وهاأنذا قد عدت
إذ لا بد للإنسان أن يعود
ليحيا حياته الطبيعية

أما بو - جوي فقد سلك مسلكا آخر، إذ اختار المنصب الرسمي والحياة في العاصمة. وصار يرقى في المناصب العامة حتى أمسى حاكم مدينة هانج تشاو العظيمة ورئيس مجلس الحرب. لكنه رغم متاعب الحياة العامة عاش حتى بلغ الثانية والسبعين من العمر، وأنشأ أربعة آلاف قصيدة، وعب ملاذ الطبيعة في فترات نفي فيها من بلده( 58 ). وعرف السر الذي يستطيع به أن يجمع بين الوحدة والاختلاط بالجماهير، وبين الراحة والحياة الناشطة. ولم يكن كثير الأصدقاء لأنه كما يقول عن نفسه كان رجلاً وسطاً غير ممتاز في "الخط، والتصوير، والشطرنج، والميسر، وهي الوسائل التي تؤدي إلى اجتماع الرجال وإلى الضجة السارة" (59). وكان مولعاً بالتحدث إلى عامة الناس، ويروى عنه أنه كان يقرأ قصائده لعجوز قروية، فإذا عجزت عن فهم شيء منها بسطه لها. ومن ثم أصبح أقرب الشعراء الصينيين إلى قلوب الجماهير، وكان شعره ينقش في كل مكان، على جدران المدارس والمعابد وقمرات السفن. ويروى أن فتاة من المغنيات قالت لربان سفينة كانت تطربه ليس لك أن تظن أني راقصة عادية؛ وحسبك أن تعرف أن في مقدوري أن أسمعك قصيدة الأستاذ بو: الغلطة الأبدية" .
وآخر من نذكره من أولئك الشعراء هو دوفو الشاعر المحبوب العميق الذي يقول فيه آرثر ويلي
Arthur waley: "من عادة الذين يكتبون في الأدب
صفحة رقم : 1221
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأقصى -> الصين -> عصر الشعراء -> دوفو

الصيني من الإنجليز أن يقولوا إن لي تاي - بو أشعر شعراء الصين؛ أما الصينيون أنفسهم فيقولون إن دوفو هو حامل لواء الشعراء الصيني"(61).

ونحن نسمع به لأول مرة في شانجان حيث أقبل ليؤدي امتحاناً ليتقلد إذا نجح فيه منصباً حكومياً، ولكنه لم ينجح. على أن ذلك لم يفت في عضده، رغم أنه أخفق في مادة الشعر؛ وأعلن للجمهور أن قصائده علاج ناجع لحمى الملاريا، ويبدو أنه جرب هذا العلاج بنفسه(62). وقرأ بنج هوانج بعض أشعاره ووضع له هو نفسه امتحاناً آخر، وأنجحه فيه وعينه أمين أسرار القائد تسُوَّا. وشجع هذا العمل دوفو وأنساه وقتاً ما زوجته وأبناءه في قريتهم النائية، فأقام في العاصمة وتبادل هو ولي بو الأغاني، وأخذ يتردد على الحانات ويؤدي ثمن خمره شعراً. وقد كتب عن لي بو يقول:
أحب مولاي كما يحب الأخ الأصغر أخاه الأكبر،
ففي الخريف وفي نشوة الخمر ننام تحت غطاء واحد، وفي النهار نسير معاً يداً بيد.
فعل هذا في أيام كان منج ليانج يحب جوي - في فأخذ دو يتغنى بهذا الحب كما يتغنى غيره من الشعراء؛ فلما شبت نار الثورة وأغرقت الأحقاد والمطامع بلاد الصين في بحر من الدماء حول شعره إلى موضوعات حزينة، وأخذ يصور الناحية الإنسانية من الحرب:
في الليلة الماضية صدر أمر حكومي
بتجنيد الفتيان الذي بلغوا الثامنة عشرة.
وأمروا أن يعاونوا على الدفاع عن العاصمة
أيتها الأم! وأيها الأبناء! لا تبكوا هذا البكاء!
إن هذه الدموع التي تذرفونها تضر بكم.
وحين تقف الدموع عن الجريان تبرز العظام
صفحة رقم : 1222
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأقصى -> الصين -> عصر الشعراء -> دوفو

ووقتئذ لا ترحمكم الأرض ولا السماء.
وهل تعرفون أن في شانتونج مائتي مقاطعة قد استحالت صحاري مجدبة،
وأن آلافا من القرى والمزارع قد غطاها الحسك والشوك؟
وأن الرجال يذبحون ذبح الكلاب، والنساء يسقن كما يساق الدجاج...
ولو أنني كنت أعرف ما هو مخبأ للأولاد من سوء المصير
لفضلت أن يكون أطفالي كلهم بنات...
ذلك أن الأولاد لا يولدون إلا ليدفنوا تحت العشب الطويل.

ولا تزال عظام من قضت عليهم الحرب في الماضي البعيد مدفونة بجوار البحر الأزرق تراها وأنت مار.
فهي بيضاء رهيبة تراها العين فوق الرمال،.
هنالك تجتمع أشباح الصغار وأشباح الكبار لتصيح جماعات،
وإذا هطل المطر وأقبل الخريف وهبت الريح الباردة،
علت أصواتهم حتى علمتني كيف تقتل المرء الأحزان...
إن الطيور تتناغى في أحلامها وهي تحلق فوق الماء
والبراعة تشع بضيائها في غسق الليل.
فلم يقتل الإنسان أخاه الإنسان ليعيش؟
إني أتحسر خلال الليل في غير طائل؟.
وقضى الشاعر عامين خلال عهد الثورة يطوف بأنحاء الصين تقاسمه إملاقَه زوجته وأبناؤه، وقد بلغ من فقره أنه كان يستجدي الناس الخبز، ومن ذلته أنه خر راكعاً يدعو بالخير للرجل الذي آوى أسرته وأطعمها حيناً من الزمان(65). ثم أنجاه من بؤسه القائد الرحيم ين وو فعينه أمينا لسره، وغفر له أهواؤه وأطواره
صفحة رقم : 1223
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأقصى -> الصين -> عصر الشعراء -> دوفو

الشاذة، وأسكنه كوخاً على ضفة "مجرى غاسل الأزهار"، ولم يطلب إليه أكثر من أن يقرض الشعر . وعاش الرجل حينئذ سعيداً طروباً يتغنى بالأمطار والأزهار والقمر والجبال:
وماذا تجدي العبارة أو المقطوعة الشعرية الجميلة؟
إن أمامي جبالاً وغابات كثيفة سوداء فاحمة.
وإن نفسي لتحدثني بأن أبيع تحفي وكتبي
وأعب من الطبيعة وهي صافية عند منبعها...
فإذا قدمت على مكان بهذا الجمال
مشيت رويداً. وتمنيت أن يغرق الجمال روحي.
أحب أن ألمس ريش الطير.
وأنفخ فيه بقوة حتى أكشف عما تحته من الزغب
وأحب أن أعد إبر النبات أيضاً،
بل أحب أن أعد لقاحه الذهبي،
ألا ما أحلى الجلوس على الكلأ،
ولست بحاجة إلى الخمر حين أجلس عليه، لأن الأزهار تسكرني..
أحب الأشجار القديمة حباً يسري في عظامي، وأحب أمواج البحر التي في زرقة اليشب.

وأحبه القائد الطيب القلب حباً أفسد على الشاعر راحته، لأنه رفعه إلى منصب عال في الدولة، إذ جعله رقيباً في شانجان، ثم مات القائد فجأة، وثارت الحرب حول الشاعر، فأمسى وحيداً لا سند له إلا عبقريته، وسرعان ما ألفى نفسه
صفحة رقم : 1224
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأقصى -> الصين -> عصر الشعراء -> دوفو

فقيراً معدماً، وأخذ أطفاله وقد أذهب عقلهم الجوع يسخرون منه لقلة حيلته، وكان في آخر أيامه شيخاً مهدماً بائساً وحيداً، "يؤذي العين منظره"، وأطاحت الريح بسقف كوخه، وسرق الأطفال قش فراشه، وهو ينظر إليهم ولا يستطيع لضعفه أن يقاومهم(67)، وشر من هذا كله أنه فقد لذة الخمر، ولم يعد في وسعه أن يحل مشاكل الحياة كما يحلها لي بو.
ثم لجأ آخر الأمر إلى الدين ووجد سلواه في البوذية، وعاجلته الشيخوخة ولم يتجاوز التاسعة والخمسين من عمره، فحج إلى جبل هون المقدس ليزور فيه معبداً ذائع الصيت، وهناك عثر عليه حاكم من الحكام قد قرأ شعره، فآواه إلى منزله وأقام وليمة تكريماً له، صُفَّت فيها صحاف الشواء وكؤوس الخمر. ولم يكن ووفو قد رأى ذلك من عدة سنين فأكل أكل الجياع. ثم طلب إليه مضيفه أن ينشد الشعر ويغني، فحاول أن يجيبه إلى ما طلب، ولكنه خارت قواه وسقط على الأرض ومات في اليوم الثاني(68).

صفحة رقم : 1225
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأقصى -> الصين -> عصر الشعراء -> النثر

الفصل السابع
النثر
وفرة الآداب الصينية - الروايات الغرامية - التاريخ -
زوماتشين - المقالات - هان يو على عظام بوذا

ليس شعراء تانج إلا فئة من شعراء الصين، وليس الشعر إلا جزءاً من الأدب الصيني، وإنه ليصعب علينا أن ندرك حقيقة ما كان في هذا العصر من وفرة في الأدب ومن سعة انتشاره بين كافة طبقات الشعب. وكان عدم وجود قانون للملكية الأدبية عاملاً من العوامل التي ساعدت على رخص أثمان المطبوعات، ولذلك كان من الأمور العادية، قبل دخول الأفكار الغربية في البلاد، أن يجد الإنسان مجموعات جديدة مجلدة من عشرين كتاباً تباع الواحدة منها بريال أمريكي، وأن يرى موسوعات مؤلفة من عشرين مجلداً تباع جديدة بأربعة ريالات، وأن تباع جميع روائع الأدب الصيني القديم كلها بريالين(69). وأصعب مما سبق أن نقدر نحن قيمة هذا الأدب، وذلك لأن الصينيين يضعون الشكل والأسلوب فوق المادة حين يحكمون على كتاب ما، وليس في وسع أية ترجمة مهما بلغت أن تظهر جمال الشكل أو روعة الأسلوب.
ليس من حقنا أن نلوم الصينيين حين يقولون إن آدابهم أرقى من أية آداب أخرى عدى الآداب اليونانية، ولعلهم حين يستثنون آداب اليونان إنما يفعلون هذا من قبيل المجاملات المأثورة عن الشرقيين.
والصينيون لا يعدون القصص فرعاً من فروع الأدب، وهم في هذا يختلفون عن الغربيين حيث يرفع القصص من شأن المؤلفين ويذيع أسمائهم في سرعة وسهولة. ولذلك فإنا قلما نجد له ذكراً في بلاد الصين قبل أن يدخلها المغول(70)
صفحة رقم : 1226
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأقصى -> الصين -> عصر الشعراء -> النثر

بل إن أدباء الصين لا يزالون إلى هذا اليوم يعدون خير الروايات القصصية مجرد تسلية شعبية غير خليقة بأن تذكر في تاريخ الآداب الصينية. لكن سكان المدن الصينية السذج لا يبالون بهذه الفروق، ويتركون أغاني بو- جوي، ولي بو في غير تحرج، ويفضلون عليها الروايات الغرامية التي لا حصر لها، والتي يكتبها مؤلفون يخفون عن القراء أسماءهم، وينشرونها باللهجات الشعبية التي تكتب بها المسرحيات. وهي تصوّر للصينيين في وضوح ما في ماضيهم من أحداث روائية رائعة؛ ذلك أن جميع الروايات الصينية الشهيرة، إلا القليل النادر منها، روايات تاريخية، وقلّ أن يوجد فيها ما هو واقعي النزعة، وأقلّ منه ما يحاول فيه مؤلفوه ذلك القرب من التحليل النفساني أو الاجتماعي الذي يرقى "بأخوة كرمزوف" The Brothers Karamazov و "الجبل المسحور" The Magic Mountain و "الحرب والسلم" War and Peace و "البائسون" Les Miserables إلى مستوى الأدب الرفيع.
ومن أقدم الروايات الصينية رواية شوي هو جوان أو "قصة حواشي الماء" التي ألفها رهط من الكُتاّب في القرن الرابع .
ومن أكبر هذه الروايات حجماً رواية "هونج لومن" أو حلم الغرفة الحمراء (حوالي 1650 م) وهي رواية في أربعة وعشرين مجلداً؛ ومن أحسنها كلها رواية لياو جاي جبىْ أو قصص عجيبة (حوالي 1660 م) وهي التي يجلها الصينيون لجمال أسلوبها وأناقة عبارتها. وأشهرها كلها رواية ساق جورجي ياق إي أو "رواية الممالك الثلاث" وهي رواية منمقة الأسلوب في ألف صفحة ومائتين كتبها لو جوان - جونج (1260-1241م) في وصف الحرب
صفحة رقم : 1227
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأقصى -> الصين -> عصر الشعراء -> النثر

والدسائس التي أعقبت سقوط أسرة هان ، وكلها شبيهة بالروايات الطويلة التصويرية التي كانت منتشرة في أوربا في القرن الثامن عشر. وكثيراً ما تجمع هذه الروايات (إذا جاز لنا في مثل هذه الموضوعات أن ننقل إلى القارئ ما يتحدث به الناس عنها) بين تصوير الأخلاق الفكه اللطيف الذي تراه في رواية تم جونز Tom Jones وبين القصص الشائق الذي نراه في جل بلاس Gil Blas. وهي أصلح ما تكون لأن يقرأها الشيوخ الطاعنون في السن ليقطعوا بها أوقات فراغهم.
والتاريخ أجل الآداب شأناً في الصين، وهو كذلك أحبها إلى الصينيين، وليس ثمة أمة ظهر فيها من المؤرخين عدد يوازي ما ظهر منهم في الصين، وما من شك في أنه ليس بين الأمم جميعهاً أمة كتبت في التاريخ بقدر ما كتبت الأمة الصينية. وذلك أن أقدم عصور الملوك كان لها كتابها الرسميون، يسجلون أعمال الملوك وأحداث الأيام؛ ولقد دام منصب مؤرخ البلاط إلى أيامنا هذه، وأوجد في الصين قدراً من الأدب التاريخي لا نرى له مثيلاً في طوله ولا في ملله في جميع بلاد العالم. وحسبنا أن نضرب بعض الأمثلة ليدرك القارئ طول هذه التواريخ. فمنها أربعة وعشون كتاباً في "تواريخ الأسر" وهو تاريخ رسمي نشر في عام 1747م في 219 مجلداً ضخماً(71). وأخذت كتابة التواريخ تخطو خطى سريعة في الصين مبتدئة بالشو - جنج أو "كتاب التاريخ" الذي هذبه كنفوشيوس أحسن تهذيب، وبالدوز - جواق وهو شرح لكتاب المعلم الكبير وإحياء له كتب بعد مائة عام من ذلك الوقت وحوليات كتب الغاب التي وجدت في قبر أحد ملوك ويه، حتى أخرجت في القرن الثاني قبل ميلاد
صفحة رقم : 1228
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأقصى -> الصين -> عصر الشعراء -> النثر

المسيح أعظم كتب التاريخ الصينية على الإطلاق، وهو كتاب السجل التاريخي الذي جمعه زوماتشين وبذل في جمعه جهوداً جبارة.

ذلك أنه لما خلف زوما أباه في منصب منجم البلاط بدأ عمله بإصلاح التقويم، ثم وجه جهوده للعمل الذي بدأه أبوه وهو رواية تاريخ الصين من عهد الأسرة الأولى الأسطورية إلى العصر الذي كان يعيش فيه. ولم يكن زوما مولعاً بجمال الأسلوب، بل كل ما كان يهدف إليه أن يجعل سجله هذا كاملاً. وقد قسم كتابه هذا خمسة أقسام هي: (1) حوليات الأباطرة، (2) الجداول التاريخية، (3) ثمانية فصول في المراسم، والموسيقى، وموازين النغمات، والتقويم، والتنجيم، والقرابين الإمبراطورية، والمجارى المائية، والاقتصاد السياسي، (4) حوليات أمراء الإقطاع، (5) تراجم عظماء الرجال. ويبلغ طول العهد الذي تُؤرّخ له هذه الكتب كلها نحو ثلاثة آلاف عام، وقد سجلت في 000ر526 متر صيني نقشت بقلم مدبب على ألواح من الغاب في صبر طويل(72). ولما فرغ زوماتشين من وضع كتابه هذا الذي قضى فيه حياته كلها أرسله إلى الإمبراطور وإلى العالم ولم يضف إليه إلا هذه المقدمة المتواضعة:
"لقد وهنت الآن قوة خادمك الجسمية، وضعف بصره وأظلمت عيناه، ولم يبق من أسنانه إلا العدد القليل، وضعفت ذاكرته حتى أصبح ينسى حوادث الساعة حين تدبر عنه، ذلك أن قواه كلها قد استنفدها إخراج هذا الكتاب. وهو لهذا يرجو أن تصفح جلالتكم عن محاولته الجريئة التي تشفع لها نيته الخالصة، وأن تتفضل في لحظات الفراغ بلقاء نظرة قدسية على هذا الكتاب حتى تعرف من أسباب قيام الأسر السابقة وسقوطها سر نجاح هذه الساعة وإخفاقها، فإذا ما استخدمت هذه المعرفة لخير الإمبراطورية، فإن خادمك يكون قد حقق غرضه ومطمعه في الحياة، وإن ثوت عظامه في الينابيع الصفراء" (73).
صفحة رقم : 1229
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأقصى -> الصين -> عصر الشعراء -> النثر

ولسنا نجد في صفحات كتاب زوماتشين شيئاً من تألق تين Taine، ولا ثرثرة ساحرة أو قصصا طريفة مكتوبة بأسلوب هيرودوت، ولا تعاقبا للعلة و المعلول كما نجدها في توكيديد Thucydides، ولا نظرة واسعة الآفاق في لغة موسيقية كما نجد في ِجبُن Gibbon. ذلك أن التاريخ قلما يرتفع في الصين من صناعة إلى فن.
وقد ظل المؤرخون الصينيون من أيام زوماتشين إلى أيام سميه زوما جوانج الذي حاول بعد أحد عشر قرناً أن يكتب مرة أخرى تاريخاً عاماً للصين، نقول ظل هؤلاء المؤرخون يكدحون ليدونوا في صدق وإخلاص حوادث أسرة حاكمة أو ملك من أسره. وكثيراً ما أضاعوا في هذا العمل كل ما كان لهم من مال، بل إنهم أضاعوا فيه أحياناً حياتهم نفسها؛ وكانوا ينفقون جهودهم كلها في سبيل الحقيقة لا يبغون عنها بديلاً، ولم يدخروا شيئاً من هذه الجهود ينفقونه في جمال الأسلوب، ولعهم كانوا في عملهم هذا على حق، ولعل التاريخ ينبغي أن يكون علماً لا فناً، ولربما كانت حوادث الماضي يعتريها الغموض إذا وصلت إلينا في زينة ِجبُن أو في مواعظ كارليل.
ولم تخل بلادنا نحن أيضا من مؤرخين ثقال، وفي وسعنا أن ننافس أية أمة من الأمم في عدد المجلدات التي خصصت لتسجيل - وجمع - أتفه الأشياء.
أما المقالة الصينية فهي أجمل من التاريخ الصيني وأعظم منه بهجة. ذلك أن الفن فيها غير محرم والفصاحة مطلقة العنان. وأوسع كتاب المقالات شهرة هان يو العظيم الذي يقدر الصينيون كتبه أعظم تقدير، ويجلونها إجلالا بلغ من قدره أنهم يطلبون إلى من يقرؤها أن يغسل يديه بماء الورد قبل أن يمسها.
وكان هان يو وضيع المولد ولكنه وصل إلى أرقى المراتب في خدمة الدولة، ولم يغضب عليه الإمبراطور إلا لأنه احتج احتجاجاً شديداً صريحاً على تسامحه
صفحة رقم : 1230
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأقصى -> الصين -> عصر الشعراء -> النثر

مع البوذية وما حباها من امتيازات. ذلك أن هان كان يعتقد أن الدين الجديد إن هو إلا خرافة هندية، وقد آلمه أشد الألم، وهو الكنفوشي الصميم، أن يرضى الإمبراطور عن هذا الحلم الموهن الذي أسكر أهل بلاده. ومن أجل هذا رفع مذكرة إلى الإمبراطور (803 ق.م) نقتبس منها هذه السطور لنقدم للقارئ مثلاً من النثر الصيني، وإن كانت الترجمة الأمينة قد شوهته:
"لقد سمع خادمكم أن أوامر صدرت إلى جماعة الكهنة بأن يسيروا إلى فنج - شيانج ليتسلموا عظماً من عظام بوذا، وأن جلالتكم ستشرفون من برج عال على دخوله في القصر الإمبراطوري؛ وأن أوامر أخرى أرسلت إلى الهياكل المختلفة تقضي بأن يحتفل بهذا الأثر الاحتفال الذي يليق به. وقد يكون خادمكم أبله ضعيف العقل، ولكنه يدرك أن جلالتكم لا تفعلون هذا لتنالوا منه نفعاً، بل تفعلونه مسايرة منكم لرغبة الشعب في أن يحتفل بهذا المجون الباطل في عاصمة البلاد، في الوقت الذي بلغ فيه الرخاء غايته، وامتلأت جميع القلوب بهجة وانشراحاً. وإلا فكيف تجيز لكم سامي حكمتكم أن تؤمنوا كما يؤمن عامة الشعب بهذه العقائد السخيفة؟ وعامة الشعب يا مولاي بطيئو الإدراك يسهل التغرير بهم، فإذا رأوا جلالتكم تركعون خاشعين أمام قدمي بوذا صاحوا من فورهم: هاهو ذا ابن السماء مصدر الحكمة قوى الإيمان ببوذا؛ فهل يحق لنا نحن عامة شعبه أن نضن عليه بأجسامنا.
ثم يعقب هذا سفع النواصي وحرق الأصابع؛ وتجمع الناس من كل صوب يمزقون ملابسهم، وينثرون أموالهم، ويقضون وقتهم كله من الصباح إلى المساء يحذون حذو جلالتكم. ونتيجة هذا أن تتملك الشعب كله، صغاره وكباره، هذه الحماسة نفسها فيهمل الناس ما يجب عليهم أن يفعلوه في حياتهم. وتراهم يحجون إلى الهياكل زرافات، يقطعون أيديهم ويشوهون أجسامهم، ليقدموها قرباناً إلى الإله، إلا إذا حرمتم عليهم جلالتكم هذا العمل. وبهذا يقضى على
صفحة رقم : 1231

قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأقصى -> الصين -> عصر الشعراء -> النثر

عادتنا وتقاليدنا، ونصبح مضغة في أفواه الناس وهدفاً لسخريتهم على ظهر الأرض..
ولهذا فإن خادمكم، وقد تجلل بالعار من أفعال الرقباء ، يضرع إلى جلالتكم أن تتركوا هذه العظام طعمة للنار والماء، حتى يجتث هذا الشر من منابته فلا يعود أبداً، وحتى يعرف الشعب أن حكمة جلالتكم أعلى من حكمة عامة الناس. وإذا كان للرب بوذا من القوة ما يستطيع به أن يثأر لنفسه من هذه الإهانة بالكوارث يصبها على رأس من كان سبباً فيها، فليصب جام غضبه على شخص خادمكم، وهو في هذه اللحظة يشهد السماء على أنه لن يحيد عن عقيدته" (74).
وبعد فإذا ما قام النزاع بين التخريف والفلسفة فأكبر الظن أن النصر سيكون حليف التخريف، ذلك بأن العالم قد أوتي من العقل ما يجعله يفضل السعادة على الحكمة، ومن أجل ذلك نفي هان إلى قرية في هوانج - تونج حيث كان الناس لا يزالون همجاً سذجاً. ولم يشك من هذا النفي، بل شرع يهذب الناس ويجعل من نفسه خير قدوة يقتدون بها عملاً بتعاليم كنفوشيوس. وقد بلغ من نجاحه في عمله هذا أن صورته لا تزال يكتب عليها في هذه الأيام تلك الأسطورة "لقد كان ينشر الطهر حيثما مر" (75). ثم استدعي آخر الأمر إلى عاصمة البلاد، وأدى للدولة خدمات جليلة، ومات معززاً مكرماً أعظم الإعزاز والتكريم. وقد نصبت له لوحة تذكارية في هيكل كنفوشيوس - وهو المكان الذي يحتفظ به عادة لأتباع المعلم العظيم أو لكبار شرّاحه - ؛ وذلك لأنه دافع عن العقائد الكنفوشية دفاعاً لم يبال فيه بما يتعرض له من الأخطار، وقاوم عقيدة كانت من قبل صالحة نبيلة ولكنها أصبحت الآن منحطة فاسدة.

صفحة رقم : 1232
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأقصى -> الصين -> عصر الشعراء -> المسرح

الفصل الثامن
المسرح
منزلته الوضيعة في الصين - منشؤه - المسرحية - النظارة - الممثلون - الموسيقى

ليس من السهل أن نقسم المسرحيات الصينية أقساماً جامعة مانعة، لأن الصينيين لا يقرون أن التمثيل أدب أو فن، وليس للتمثيل في الصين منزلة تتناسب مع ما يتمتع به من انتشار واسع بين طبقات الشعب، وشأنه في هذا شأن كثير من مقومات الحياة. من أجل ذلك لا نكاد نسمع بأسماء كُتاّب المسرحيات، والممثلون ينظر إليهم على أنهم من طبقة منحطة ولو أنفقوا حياتهم كلها في إعداد أنفسهم لهذا العمل والنبوغ فيه، ولو بلغوا فيه أعظم ما يبلغه الإنسان من الشهرة. وما من شك في أن شيئاً من هذا كان من نصيب الممثلين في جميع الحضارات، وبخاصة في العصور الوسطى، حين كان التمثيل يكافح للخروج من دائرة التمثيل الديني الصامت المضحك الذي نشأ منه وتفرع عنه.
وكان هذا بعينه منشأ المسرح الصيني. فلقد كانت الطقوس الدينية في عهد أسرة جو تشمل أنواعاً من الرقص المصحوب بالمخاطر. ويقال أن هذا الرقص قد حرم فيما بعد لأنه أصبح مدعاة للفساد الخلقي، ولعل هذا التحريم الذي فصل الرقص عن المراسم الدينية هو الذي نشأ منه التمثيل غير الديني(76). وشجع منج هوانج قيام هذا النوع المستقل من التمثيل كما شجع كثيراً من الفنون الأخرى، وذلك بأن جمع حوله طائفة من الممثلين والممثلات أطلق عليهم اسم: "فتيان حديقة الكمثرى". غير أن المسرح لم يصبح نظاماً قومياً معترفاً به إلا في عهد كوبلاى خان. ذلك أنه لما اختير كونج دوْفو - وهو من سلالة كنفوشيوس - في عام 1031م ليكون مبعوثاً صينياً إلى البلاط المغولي استقبل فيه باحتفال عظيم شمل فيما
صفحة رقم : 1233
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأقصى -> الصين -> عصر الشعراء -> المسرح

شمل تمثيل إحدى المسرحيات. بيد أن الماجن في هذه المسرحية كان يمثل كنفوشيوس. ومن أجل هذا خرج كونج دو - فو غاضبا؛ لكنه لما عاد إلى الصين هو وغيره من الرحالة الذين طافوا بلاد المغول، تحدثوا إلى أبناء وطنهم عن ضرب من التمثيل أرقى كثيراً من كل ما عرفته بلادهم منه. ولما أن فتح المغول الصين أدخلوا فيها القصة المقروءة والمسرحية، ولا تزال أرقى المسرحيات الصينية في هذه الأيام هي المسرحيات التي كتبت في أثناء حكم المغول(77).
وتقدم فن التمثيل على مهل، لأنه لم يلق معونة من رجال الدولة ولا من رجال الدين. وكان معظم العاملين فيه ممثلين جوالين، يقيمون طواراً في حقل خال من الزرع ويمثلون ما يشاءون أمام النظارة القرويين الواقفين في العراء.
وكان الحكام الصينيون يستخدمون الممثلين أحياناً لإقامة حفلات تمثيلية خاصة في أثناء المآدب، كما كانت النقابات أحياناً تمثل بعض المسرحيات. وزاد عدد دور التمثيل في أثناء القرن التاسع عشر الميلادي، ولكنها رغم هذه الزيادة لم يكن منها في مدينة نانكنج الكبيرة أكثر من دارين(76)؛ وكانت المسرحية الصينية مزيجاً من التاريخ والشعر والموسيقى، وكانت حبكتها عادة تدور حول حادثة تاريخية روائية، وكان يحدث في بعض الأحيان أن تمثل مشاهد من مسرحيات مختلفة في ليلة واحدة؛ ولم يكن لزمن التمثيل حد محدود، فتارة يكون قصيراً وتارة يدوم عدة أيام، لكنه في أكثر الأحيان كان يمتد نحو ست ساعات أو سبع، وهو الزمن الذي تستغرقه أحسن المسرحيات الأمريكية في هذه الأيام وكان يتخلل المسرحيات كثير من التفاخر والخطب الرنانة، وكثير من العنف في الأقوال والأعمال، ولكن واضع المسرحية كان يبذل غاية جهده ليجعل خاتمتها انتصاراً للفضيلة على الرذيلة؛ ومن أجل ذلك أصبحت المسرحية الصينية أداة للتعليم والإصلاح الأخلاقي، تعلم الشعب شيئاً من تاريخه، وتغرس
صفحة رقم : 1234

قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأقصى -> الصين -> عصر الشعراء -> المسرح

في نفوس أفراده الفضائل الكنفوشية - وأهمها كلها بر الأبناء بالآباء-وكانت تعمل لذلك باطراد ودأب أفسدا عليها غايتها.
وقلما كان المسرح يزين بالمناظر أو الأثاث، ولم يكن له مخرج للممثلين، فكان هؤلاء جميعاً، سواء منهم أصحاب الأدوار وغير أصحابها، يجلسون على المسرح طوال وقت التمثيل ويقفون إذا ما جاء دورهم؛ وكان يحدث في بعض الأحيان أن يقدم الخدم الشاي لهم وهم جالسون؛ وكان غيرهم من الخدم يطوفون بين النظارة يبيعونهم الدخان والشاي والمرطبات، ويقدمون لهم القطائل ليمسحوا بها وجوههم في ليالي الصيف؛ وكان يشربون ويأكلون ويتحدثون حتى تستلفت أنظارهم قطعة من التمثيل جميلة أو عالية الصوت؛ وكثيراً ما كان الممثلون يضطرون إلى الصراخ بأعلى أصواتهم لكي يسمعهم النظارة، وكان في أغلب الأحيان يلبسون أقنعة على وجوههم حتى يسهل على النظارة فهم أدوارهم.
ولما حرّم تشين لونج على النساء أن يظهرن على المسرح كان الرجال يمثلون أدوار النساء، وقد مثلوها تمثيلاً بلغ من إتقانه أن النساء حين سمح لهن في أيامنا هذه بالظهور على المسرح من جديد كان لا بد لهن أن يعملن جاهدات على تقليد مقلديهن حتى يضمنّ النجاح. وكان لا بد للممثلين أن يتقنوا الرقص والألعاب البهلوانية، لأن أدوارهم كثيراً ما كانت تتطلب منهم المهارة في تحريك أعضائهم، ولأن كل حركة من حركات التمثيل كانت تؤدى طبقاً لقواعد من الرشاقة معينة منسجمة مع النغمات الموسيقية التي تعزف في خلال التمثيل؛ وكانت حركات اليدين تستخدم رمزاً للكثير من الأعمال، كما كانت تصحب الكثير من الأقوال، وكان لابد أن تكون هذه الحركات دقيقة متفقة مع العرف والتقاليد القديمة؛ وكان فن تحريك اليدين والجسم عند بعض كبار الممثلين أشباه ماي لانج - فانج يؤلف نصف ما في المسرحية من شعر.

وقصارى القول أن التمثيلية لم تكن كلها رواية مسرحية، ولم تكن كلها
صفحة رقم : 1235
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأقصى -> الصين -> عصر الشعراء -> المسرح

مسرحية غنائية، ولم تكن في أكثر أدوارها مرقصة، بل كانت مزيجاً من هذا كله تكاد تشبه في صفاتها مسرحيات العصور الوسطى في أوربا، ولكنها كاملة في نوعها كمال الموسيقى البلسترينائية
Palestrina أو الزجاج المصبوغ(79).
وقلما كانت الموسيقى فناً قائماً بذاته عند الصينيين بل كانت تعزو منشأ كثير غيرها من الفنون إلى الإمبراطور الأسطوري فوشي. وقد احتوى اللي - جى أو "كتاب المراسم" الذي يرجع عهده إلى ما قبل كنفوشيوس عدة رسائل في الموسيقى وأسماء عدة رسائل فيها، كما احتوى الدزو - جوان الذي كتب بعد مائة عام من أيام كنفوشيوس وصفاً بليغاً للموسيقى التي كانت تصحب غناء قصائد ويه. وما أن حل عهد كونج فو - دزه حتى كان السلم الموسيقى الصيني قد ثبت وتقادم عهده؛ وحتى كانت البدع التي أخذت تتسرب إليه تقض مضاجع الهادئين المحافظين ، وحتى أخذ هذا الحكيم يضج بالشكوى من الأنغام الداعرة الشهوانية التي بدأت في أيامه تحل محل أيام الماضي المتفقة في رأيه مع الفضائل وكرم الأخلاق(80).
ثم شرع النفوذ اليوناني البكتري والنفوذ المغولي يتسربان إلى الموسيقى الصينية حتى تركا آثارهما في السلم الموسيقي الصيني المعروف ببساطته.

وقد عرف الصينيون تقسيم البعد الكلي في الموسيقى إلى اثني عشر نصفاً من أنصاف النغمات، ولكنهم كانوا يؤثرون كتابة موسيقاهم في سلم خماسي يطابق على وجه التقريب نغماتنا F.G.A.D.C وكانوا يطلقون على هذه النغمات الكاملة أسماء "الإمبراطور" و "رئيس الوزراء" و "الرعية" و "شئون الدولة" و "صورة الكون". وكانوا يفهمون التوافق في الألحان، ولكنهم قلما كانوا يعنون به إلا إذا أرادوا ضبط آلاتهم الموسيقية. وكانت هذه الآلات تشمل من آلات النفخ الناي والبوق والمزمار والصفارة، ومن الآلات الوترية
صفحة رقم : 1236
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأقصى -> الصين -> عصر الشعراء -> المسرح

الكمان الأوسط والمزهر وغيرهما، ومن آلات الدق الدفوف والطبول والأجراس والصنوج. وكانت لهم ألواح موسيقية من اليشب والعقيق(81). وكانت النغمات التي تنبعث من هذه الآلات عجيبة مزعجة لأذن المستمع الغربي، كما تبدو، في ظننا، أحسن الأغاني الغربية عجيبة مزعجة للمستمع الصيني. ولكن هذه النغمات هي التي أثرت في نفس كنفوشيوس فامتنع عن أكل اللحم، وأصبح رجلاً نباتياً، وهي التي جعلت كثيراً من مستمعيها يفرّون من منازعات الحياة واختلاف الأفكار والإرادات، وهو الفرار الذي لا يكون إلا نتيجة الاستسلام إلى الموسيقى الشجية.
ومن أقوال هان يو في هذا: "لقد علم الحكماء الإنسان لكي يقشعوا ما في نفسه من حزن وغم" (82). وكانوا يؤمنون بقول نيتشه: "لولا الموسيقى لكانت الحياة عبثاً لا خير فيه".

صفحة رقم : 1237
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأقصى -> الصين -> عصر الفنانين -> النهضة في عهد أسرة سونج -> اشتراكية وانج آن شي

الباب الخامس والعشرون
عصر الفنانين
الفصل الأول
النهضة في عهد أسرة سونج
1- اشتراكية وانج آن - شي
أسرة سونج - رئيس وزراء متطرف - طريقته في علاج التعطل - تنظيم

الصناعة - قوانين الأجور والأثمان - تأميم التجارة - مشروعات الدولة للتأمين
من التعطل والفقر والشيخوخة - المناصب العامة بالامتحان - هزيمة وانج آن - شي
لم تفق أسرة تانج من هزيمتها على يد آن لو- شان وثورته. فقد عجز الأباطرة الذين خلفوا منج هوانج عن إعادة سلطان الإمبراطور إلى سابق عهده في أجزاء الإمبراطورية المختلفة، ثم انقضى عهد تلك الأسرة بعد مائة عام من وهن الشيخوخة، وجاءت بعدها خمس أسر لم يطل عهدها مجتمعة أكثر من ثلاث وخمسين سنة، ولكنها بلا استثناء بلغت من الضعف ما بلغته من قصر الأجل. وكانت البلاد في حاجة إلى يد قوية قاسية لتعيد إليها النظام شأن الدول كلها في مثل هذه الأحوال.وهذا ما حدث فعلا، فقد خرج جندي مقدام من غمار هذه الفوضى وأسس أسرة سونج واستولى على العرش وتسمى باسم تاي- دزو، وأعاد الحكومة إلى ما كانت عليه من البيروقراطية في أيام كنفوشيوس، كما أعاد طريقة تقلد المناصب الحكومية بالامتحانات العامة، وحاول أن يحل مشاكل استغلال الفقراء بوضع نظام للإشراف على حياة الأمة الاقتصادية لا يكاد يختلف
صفحة رقم : 1238
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأقصى -> الصين -> عصر الفنانين -> النهضة في عهد أسرة سونج -> اشتراكية وانج آن شي

عن النظام الاشتراكي في شئ، ومستعيناً في هذا الحل بمستشار إمبراطوري خاص يشرف على هذه الشئون.
ويعد وانج آن- شي (1021-1086) من الشخصيات الفذة التي تبعث الحياة والروح في تاريخ الصين الطويل؛ وقد خلد التاريخ ذكره رغم هذا الطول، وإن شخصيته لتبدو لنا ناصعة فذة رغم ما بين بلادنا وبلاده من تناء.

ذلك أن من مساوئ هذا التنائي أن يجعل انفصالنا الطويل عن مسرح الحوادث الأجنبية يطمس معالم الاختلاف في الأماكن وفي أحوال الناس، ويخفى ما بين الناس الشخصيات الشديدة الاختلاف من فروق، ويخلع عليها كلها غشاوة من وحدة المظهر والصفات تجعلها كلها جامدة كليلة. لكن وانج شذّ عن هذه القاعدة، فقد كان حتى في رأي أعدائه- وإن كثرتهم في حد ذاتها لدليل على جلال شأنه- رجلاً يختلف عن سائر الرجال، وهب حياته لإقامة نظام صالح لحكم البلاد، وعمل مخلصا لرفاهية شعبه، غير مبال بما يصيبه في سبيل هذا العمل من نصب وأذى، لا يدخر في ذلك جهداً، ولا يترك لنفسه من الوقت ما يعنى فيه بشخصه أو بملبسه، ولا يقل عن كبار العلماء في أيامه علماً وبراعة في الأسلوب، يحارب في شجاعة جنونية الطائفة الجامدة المتحفظة الغنية صاحبة السلطان القوي في أيامه. وتشاء المصادفات أن يكون الشخص العظيم الوحيد الذي يشبهه في تاريخ بلاده هو سميه وانج مانج الذي عاش قبله بنحو ألف عام- أي أن مجرى التاريخ الصاخب المضطرب قد سار ألف عام كاملة منذ الوقت الذي أجريت فيه أول تجربة بارزة لتحقيق المبادئ الاشتراكية.
وما كاد وانج آن- شي يتولى أكبر منصب في مقدور الإمبراطور أن يوليه إياه، حتى وضع ذلك المبدأ العام وهو أن الحكومة يجب أن تكون مسئولة عن رفاهية جميع السكان البلاد. ومن أقواله في هذا: "يجب أن تسيطر الدولة على جميع شئون التجارة والصناعة والزراعة وتصرفها بنفسها، وأن يكون الهدف
صفحة رقم : 1239
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأقصى -> الصين -> عصر الفنانين -> النهضة في عهد أسرة سونج -> اشتراكية وانج آن شي

الذي ترمى إليه من وراء ذلك غوث الطبقات العاملة، وأن تحول بينها وبين أن يذلها الأغنياء ويطحنوها طحن الرحى" (1). وقد بدأ عمله بإلغاء نظام السخرة الذي ظلت الحكومة الصينية تفرضه على الصينيين من أقدم العهود، فكانت تأخذ الناس بمقتضاه من الحقول حين تكون أعمال الزرع أو الحصاد في أشد الحاجة إليهم؛ ومع هذا فإنه أقام أعمالاً هندسية عظيمة لوقاية البلاد من غوائل الفيضان.
ومن أعماله أنه أنقذ الزراع من المرابين الذين كانوا يستعبدونهم، وأقرضهم أموالا بفوائد كانت تعد وقتئذ قليلة ليستعينوا بها على زرع أراضيهم، وأمد الفلاحين بالبذور من غير ثمن، ومنحهم من الأموال ما يعينهم على بناء مساكنهم على شريطة أن يردوا هذه الأموال إلى الدولة من غلات أرضهم. وأنشأ لجاناً في كل مركز من المراكز لتحديد أجور العمال وأثمان ضرورات الحياة.وقد أمم التجارة فكانت الحكومة تبتاع محصول كل إقليم من أقاليم البلاد، وتخزن بعضه في الإقليم ذاته اتقاء للطوارئ المحلية، ثم تنقل ما بقى منه ليباع في مستودعات أقامتها الدولة في سائر أنحاء الإمبراطورية. ثم إنه وضع نظاما لميزانية الدولة، فعين لجنة للميزانية تعرض عليه مقترحاتها وما تقدره من نفقات لكل مصلحة حكومية، وكانت الحكومة تتمسك بهذا التقديرات في إدارة أعمال الدولة، فاقتصدت بذلك كثيرا مما كان يتسرب قبل من الأموال إلى الجيوب الواسعة الخفية التي تعترض طريق كل درهم حكومي. يضاف إلى هذا كله أنه خصص معاشات للشيوخ والمتعطلين والفقراء، وأصلح أساليب التعليم والامتحانات العامة، وابتكر ضروبا من الاختبارات ليعرف بها مقدار ما يعلمه الطلاب من الحقائق لا من الألفاظ، ويستبدل بعناية الناس بالأسلوب الأدبي عنايتهم بتطبيق مبادىء كنفوشيوس على الواجبات العامة والأعمال اليومية. وقلل من اهتمام المعلمين بالشكليات وبالحفظ عن ظهر قلب، وقد أتى على البلاد حين من الدهر
صفحة رقم : 1240

قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأقصى -> الصين -> عصر الفنانين -> النهضة في عهد أسرة سونج -> اشتراكية وانج آن شي

ألقى فيه "التلاميذ أنفسهم"، كما يقول أحد المؤرخين الصينيين، "في مدارس القرى بكتب البلاغة وأخذوا يدرسون الكتب المبسطة في التاريخ والجغرافية والاقتصاد السياسي" (2).
ترى لم أخفقت التجربة النبيلة؟ لعل من الأسباب الأولى لإخفاقها أن فيها عناصر عملية أكثر منها مثالية. وأولى هذه العناصر أن الضرائب، وإن كان معظمها يجبى من الأغنياء- وذلك يتفق مع مبادئ الاشتراكية التي كان يسير عليها وانج آن -شي- فإن الدولة كانت تحصل على جزء من المال الذي كانت تحتاج إليه لمواجهة نفقاتها الكثيرة المتنوعة باستيلائها على جزء من محاصيل كل حقل من الحقول. وسرعان ما انضم الفقراء إلى الأغنياء في الشكوى من فدح الضرائب، لأن الناس في جميع الأوقات أكثر استعداداً للمطالبة بإلقاء الأعمال على كاهل الحكومة منهم لأداء ما يلزمها للقيام بها.
يضاف إلى هذا أن وانج آن- شي أنقص الجيش العامل لأنه يستنزف جزء كبير من موارد البلاد، ولكنه استعاض عنه بإصدار قانون عام يفرض على كل أسرة فيها من الذكور أكثر من فرد واحد أن تقدم من أبنائها جنديا في وقت الحرب. وأهدى الرجل إلى كثير من الأسر خيلا وعلفا لها، ولكنه اشترط عليها أن تعنى بالخيل العناية الواجبة، وأن تقدمها إلى الحكومة إذا احتاجت إليها في الأعمال العسكرية. فلما أن تبين الناس أن الغزوات والثورات أخذت تزيد من مطالب الحكومة العسكرية فقد وانج آن- شي في أسرع وقت مكانته بين الشعب وحبه إياه. وفوق هذا كله فإنه قد وجد من العسير عليه أن يعثر على الرجال الأشراف الأمناء ليعهد إليهم بالأعمال التي شرع في تنفيذها، وما لبث الفساد أن استشرى في جميع نواحي الإدارة البيروقراطية الضخمة، ووجدت الصين نفسها- كما وجدت نفسها أمم أخرى كثيرة من
صفحة رقم : 1241

قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأقصى -> الصين -> عصر الفنانين -> النهضة في عهد أسرة سونج -> اشتراكية وانج آن شي

بعد- مرغمة على أن تختار بين اثنتين كلتاهما شر من الأخرى، فإما الانتهاب الفردي وإما الفساد الحكومي.
وقام المحافظون بزعامة أخي وانج نفسه والمؤرخ زوما كوانج ينددون بهذه التجربة الحكومية ويظهرون فسادها؛ ويقولون إن الفساد والعجز المتأصلين في الطبيعة البشرية يجعلان إشراف الحكومة على الصناعات مستحيلا، وإن خير النظم الحكومية هو النظام الذي يدع الأمور تجرى في مجراها، والذي يعتمد على الدوافع الاقتصادية الطبيعية التي تحمل الناس على إنتاج السلع وأداء الخدمات. واستخدم الأغنياء الذين أذاهم ما فرض على أموالهم من ضرائب باهظة واحتكار الحكومة للتجار، استخدم هؤلاء ما لهم من ثروة وقوة في العمل على الحط من شأن النظم التي وضعها وانج آن -شي ومقاومة تنفيذها، والقضاء عليها. وزاد ضغط هذه المعارضة المنظمة أحسن تنظيم على الإمبراطور. وحدث أن تعاقبت على البلاد عدة سنين من الجدب وفيضان الأنهار، اختتمت بظهور مذنب في السماء، فلم ير ابن السماء نفسه بدا من إقصاء وانج عن منصبه، وإلغاء القوانين التي أثارت غضب الشعب، ورفع أعداء وانج إلى مناصب الحكم، وعادت الأمور مرة أخرى إلى ما كانت عليه من قبل(3).

صفحة رقم : 1242
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأقصى -> الصين -> عصر الفنانين -> النهضة في عهد أسرة سونج -> إحياء العلوم

2- إحياء العلوم
ازدياد عدد العلماء - الورق والحبر في الصين - خطوات في
سبيل اختراع الطباعة - أقدم كتاب معروف - العملة الورقية -
الحروف المتنقلة - مجموعات الرسائل ، ومعاجم اللغة والموسوعات

لقد كانت حياة الشعب الصيني في هذه الأثناء تجري في مجراها العادي خلال جميع ضروب التجارب والنظم التجارية والنظم الإدارية، لا تضطرب ولا تؤثر فيها الحادثات التي كانت لبعدها لا تصل إلى مسامعه، إلا بعد أن تمر وتنقضي بزمن طويل لقد زال حكم آل سونج في شمالي البلاد ولكنه عاد من جديد في جنوبيها
صفحة رقم : 1243
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأقصى -> الصين -> عصر الفنانين -> النهضة في عهد أسرة سونج -> إحياء العلوم

وانتقلت العاصمة من بيان لينج (وهي الآن كايفنح ) إلى لين - آن (هانج تشاو الآن ).
وبدت مظاهر العز والنعمة في العاصمة الجديدة كما كانت في العاصمة القديمة، وأقبل التجار من كل فج ليبتاعوا منتجات الصناعة الصينية والفن الصيني.وضرب الإمبراطور هوى دوزنج نفسه (1101-25) لشعبه أروع الأمثال في بيان - ليانج بأن كان فناناً قبل أن يكون حاكما، فكان في الوقت الذي يهاجم فيه البرابرة عاصمة ملكه يشتغل برسم الصور الفنية. وقد أنشأ مجمعاً للفن بعث النشاط في الفنون بما كان يعرض فيه من روائعها وما يغدقه على الفنانين من جوائز جعلت الفنون أكبر مفاخر أسرة سونج وأجدرها بتخليد ذكراها في سجلات الحضارة الإنسانية.
وقد حوت المتاحف وقتئذ مجموعات موحية من النقوش الفنية على البرنز وأحجار اليشب ومن الصور الزيتية والمخطوطات؛ وأنشئت في البلاد دور الكتب التي بقى بعضها بعد أن زالت أمجاد الحروب، وكانت كلتا العاصمتين الشمالية والجنوبية كعبة يحج إليها العلماء والفنانون.

وفي أيام هذه الأسرة دخلت الطباعة البلاد فأحدثت في حياة الصين الأدبية ثورة كاملة وإن لم يدرك الناس مداها وقتئذ، وكان هذا الفن قد نما شيئاً فشيئاً في خلال القرون الطوال حتى بلغ أوجه في أيام تلك الأسرة، فأتم مرحلتيه الكبيرتين إذ صنعت الألواح المحفورة لتطبع عليها صفحات كاملة،وصُفت الحروف المفككة المفردة، من المعادن المجموعة في القوالب .وكان هذا الاختراع الصيني الخالص(4) أعظم اختراع في تاريخ الجنس البشري بعد الكتابة.
وكانت الخطوة الأولى في هذا الاختراع العظيم هي كشف مادة تكون الكتابة عليها أسهل منها على الحرير أو الغاب الذين قنع بهما الصينيون. ذلك أن الحرير غالي الثمن والغاب ثقيل، وقد احتاج مودى في تجواله إلى ثلاث
صفحة رقم : 1244
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأقصى -> الصين -> عصر الفنانين -> النهضة في عهد أسرة سونج -> إحياء العلوم

عربات نقل يحمل عليها معه الكتب المدونة على شرائح الغاب التي كانت أثمن ما يملك من متاع الدنيا.

وكان شي هوانج - دي يضطر إلى مراجعة مائة وعشرون رطلا من الوثائق الحكومية في كل عام(5). فلما كان عام 105 ب.م أبلغ رجل يدعى تساي لون الإمبراطور أنه اخترع مادة للكتابة أقل من الغاب ثمنأً وأخف منه وزناً مصنوعة من لحاء الشجر والقنب الهندي والخرق وشباك السمك. وعين الإمبراطور تساي لون هذا في منصب كبير، ومنحه لقباً رفيعاً، ولكنه تورط مع الإمبراطورة في بعض الدسائس، وافتضح أمره "فذهب إلى منزله، واغتسل ومشط شعره، ولبس أحسن ثيابه، وتجرع السم " (6). وسرعان ما انتشرت الصناعة الجديدة انتشاراً واسع النطاق، وشاهد ذلك أن أقدم ما لدينا من الورق هو ما وجده سير أرول اشتين Sir Aurel Stien في طنف من السور الكبير، وهو مجموعة من الوثائق الرسمية دونت قيها حوادث وقعت فيما بين عامي 21، 137 بعد الميلاد، وأكبر الظن أنها كانت معاصرة لآخر الحوادث التي دونت عليها. ولهذا فإن عهدها يرجع إلى حوالي عام 150 م أي بعد خمسين عاماً لا أكثر من الوقت الذي أبلغ فيه تساي لون الإمبراطور نبأ اختراعه(7). وكان هذا الورق القديم يصنع من الخرق البالية دون غيرها من المواد، فهو من هذه الناحية شبيه بما يصنع في هذه الأيام من ورق يحتاج فيه إلى طول البقاء. واستطاع الصينيون أن يرتقوا بصناعه الورق إلى أعلى درجة وذلك باستخدام مادة ماسكة من الغراء أو الجلاتين مخلوطة بعجينة نشوية ليقووا بها الألياف، وليجعلوا الورق سريع الامتصاص للحبر. ولما أن أخذ العرب عن الصينيين هذه الصناعة في القرن الثامن الميلادي، ثم أخذتها أوربا عن العرب في القرن الثالث عشر، كانت قد بلغت غاية الكمال.
وكان اختراع الحبر أيضاً في بلاد الشرق. نعم إن المصريين قد صنعوا الورق
صفحة رقم : 1245
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأقصى -> الصين -> عصر الفنانين -> النهضة في عهد أسرة سونج -> إحياء العلوم

والحبر في العهد الذي نستطيع أن نسميه أقدم العهود، ولكن الصين هي التي أخذت عنها أوربا طريقة خلط الحبر بسناج المصابيح. ولقد كانت "الحبر الهندي" صيني الأصل. وكذلك كان الحبر الأحمر المصنوع من كبريتور الزئبق شائع الاستعمال في الصين من أيام أسرة هان. فلما ظهر الحبر الأسود في القرن الرابع الميلادي أصبح استعمال الحبر الأحمر ميزة خاصة بالأباطرة. وكان اختراع الحبر الأسود من العوامل المشجعة على انتشار الطباعة، لأنه كان أصلح المواد للاستعمال في القوالب الخشبية، ويمتاز بأن الكتابة به لا تكاد تمحى مطلقاً. فلقد وجدت أكداس من الورق في آسية الوسطى ظلت تحت الماء حتى عطنت ولكن ما عليها من الكتابة ظل واضحاً تستطيع قراءته(9).

وكان استخدام الأختام في مهر الأوراق هو البداية غير المقصودة التي نشأت عنها الطباعة. ولا يزال اللفظ الصيني الذي يطلق على الطباعة هو نفسه الذي يطلق على الخاتم. وكانت الأختام الصينية تطبع في بادئ الأمر على الطين كما كانت تطبع عليه في بلاد الشرق الأدنى. ثم أخذوا في القرن الخامس الميلادي يُنَدُّونها بالحبر. وفي هذه الأثناء كانت أمهات الكتب الصينية القديمة تحفر على الحجر في القرن الثامن بعد الميلاد، وسرعان ما نشأت بعدئذ عادة استخراج صور من هذه النقوش المحفورة بعد طلاءها بالحبر. وفي القرن السادس نجد الدَّوَّيين يستعملون أختاما من الخشب لطبع الرقى السحرية، وبعد مائة عام من ذلك الوقت أخذ المبشرون البوذيون يجرون التجارب بقصد استخراج عدة نسخ مطبوعة باستخدام أختام وألواح وورق نضاح وطباعة على المنسوجات، وقد أخذوا هذا النوع الأخير عن الهنود. وأقدم ما وصل إلينا من الطباعة على لوح محفور ألف ألف رقية سحرية طبعت في اليابان حوالي عام 770م مكتوبة بالغة السنسكريتية وبحروف صينية، فهي بذلك مثل طيب لتفاعل الحضارات في بلاد آسية. وطبعت أشياء أخرى كثيرة من القوالب (الكليشهات) في هذه أيام أسرة تانج، ولكن يلوح
صفحة رقم : 1246
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأقصى -> الصين -> عصر الفنانين -> النهضة في عهد أسرة سونج -> إحياء العلوم

أنها قد تلفت أو فقدت في أثناء الفوضى والقلاقل التي أعقبت عهد منج هوانج(10).

وحدث في عام 1907 أن استطاع سي أرول اشتين أن يقنع الكهنة الدويين في بلاد التركستان بأن يسمحوا له بفحص "كهوف الألف بوذا" التي في تون- هوانج. فلما تم له ذلك عثر في حجرة منها -يلوح أنها قد سد مدخلها حوالي عام 1035 م ولم تنفح بعدئذ إلا في عام 1900- على 1130 إضمامة من الأوراق تشتمل كل منها على نحو اثني عشر ملفاً مخطوطاً أو أكثر من اثني عشر ،تتكون منها كلها مكتبة من خمسة عشر ألف كتاب، مكتوب على الورق، قد حفظت بعناية فبقيت في حالة جيدة كأنها لم تكتب إلا قبل العثور عليها بيوم واحد. وهذه المخطوطات هي التي عثر من بينها على أقدم كتاب مطبوع في العالم -كتاب "الحكم الماسية"- وهو ملف يختتم بالعبارة الآتية "طبعه في (اليوم المقابل لليوم) الحادي عشر من شهر مايو سنة 868 وانج - جيه، ليوزع بغير ثمن تخليداً لذكرى والديه وإجلالا لهما". ووجدت بين هذه المخطوطات ثلاثة كتب أخرى مطبوعة، يدل واحد منها على تطور جديد في شكل الكتب. ذلك أنه لم يكن ملفا ككتاب "الحكم القاسي" بل كان كتاباً صغيراً مطويا هو أول ما عرف من هذا النوع من الكتب التي لا يحصى عديدها.
وقد كان الباعث الأول على اختراع الطباعة في بلاد الصين باعثاً دينياً، كما كانت الحال في أوربا في العصور الوسطى المتأخرة، وكما هي الحال بين بعض الشعوب البدائية في الوقت الحاضر. ذلك أن الأديان في ذلك الزمن القديم كانت تسعى لنشر عقائدها من طريق العين ومن طريق الأذن معا، ولجعل صلواتها ورقاها وأقاصيصها في متناول كل إنسان. وتكاد أوراق اللعب أن تعادل هذه المطبوعات الدينية في قدم العهد- فقد ظهرت هذه الأوراق في الصين في عام 969 أو قبل ذلك العام بقليل، ثم انتقلت من الصين إلى أوربا في أواخر القرن الرابع عشر(12).
صفحة رقم : 1247
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأقصى -> الصين -> عصر الفنانين -> النهضة في عهد أسرة سونج -> إحياء العلوم

وقد طبعت الكتب الأولى على قوالب خشبية، وأول ما وصل إلينا من نبأ عن هذا العمل ما ورد في رسالة صينية كتبت حوالي 870 م. فقد جاء فيها: "حدث وأنا في سشوان أن فحصت في حانوت وراق كتاباً مدرسياً مطبوعاً عن أصل خشبي" (13). ويلوح أن فن الطباعة كان قد تقدم تقدما كبيراً في الوقت الذي عثر فيه على هذا الخطاب. ومن الظريف أن نلاحظ أن هذا التقدم حدث أولا في الولايات الغربية مثل سشوان والتركستان- وهي الولايات التي دفعها في تيار المدينة المبشرون البوذيون الذين جاءوا من الهند والذين كانت لهم من عهد بعيد ثقافة خاصة مستقلة عن ثقافة العواصم الشرقية. ثم دخلت طريقة الطبع بالقوالب إلى الولايات الشرقية في أوائل القرن العاشر حين أقنع فنج - دو أحد رؤساء الوزارات الإمبراطور أن يخصص بعض المال لطبع أمهات الكتب الصينية القديمة. وتطلب القيام بهذا العمل عشرين عاما، وكان مقدار ما طبع منها مائة وثلاثين مجلداً، وذلك لأن المطبوع لم يكن مقصورا على نصوص هذه الكتب بل شمل أيضاً أشهر شروحها. ولما أن تم طبع هذه الكتب انتشرت في البلاد انتشاراً واسعاً كان سبباً في إحياء المعارف القديمة وتقوية دعائم العقائد الكنفوشية في عهد الملوك من أسرة سونج.
وكان صنع الأوراق النقدية من أقدم ما أخرجته الطباعة بالقوالب. وقد ظهرت هذه الأوراق أولا في سشوان في القرن العاشر الميلادي ثم أصبحت عملا هاما من أعمال الحكومة الصينية؛ ولم يكد يمضى على اختراعها قرن من الزمان حتى أدت إلى تجارب في التضخم المالي، واتبعت بلاد في عام 1294 م هذه الطريقة الجديدة من طرق خلق الثروة. وقد وصف ماركو بولو في عام 1297 في دهشة بالغة ما يظهره الصينيون من تقدير لهذه القصاصات من الورق. أما أوربا فلم تعرف النقود الورقية إلا في عام 1656 حين أصدرت أولى عملتها منها(14).
صفحة رقم : 1248

قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأقصى -> الصين -> عصر الفنانين -> النهضة في عهد أسرة سونج -> إحياء العلوم

كذلك كانت حروف الطباعة المنفصلة المنتقلة من اختراع الصينيين، ولكن عدم وجود حروف هجائية محددة محصورة من جهة، ووجود نحو 000ر40 من العلامات في اللغة الصينية المكتوبة من جهة أخرى، جعلا استعمال هذا الاختراع ترفاً يتعذر الانتفاع به في بلاد الشرق الأقصى. وقد صنع بى شنج حروف الطباعة المنفصلة المنتقلة من الخزف في عام 1041 م، ولكن هذا الاختراع لم ينتفع به إلا قليلا. وفي عام 1403 صنع أهل كوريا أول ما عرف في التاريخ من حروف الطباعة المعدنية؛ وكانت طريقة صنعها أن تحفر الحروف أولا على الخشب الصلب، ثم تصنع لهذه النماذج قوالب من عجين الخزف تجفف في الأفران، ثم تصب فيها الحروف المعدنية بعدئذ. وسرعان ما استخدم تاي دزونج أعظم أباطرة كوريا هذا الاختراع لتستعين به الحكومة في أعمالها، وللاحتفاظ بالضارة القائمة. ومن أقوال هذا المليك المستنير: "من شاء أن يحكم فعليه أن يكون ذا علم واسع بالقوانين وبالآداب القديمة؛ ذلك بأنه إذا عرف هذه القوانين والآداب استطاع أن يكون عادلا مستقيما في أعماله الخارجية وأمكنه أن يكون بينه وبين نفسه ذا خلق كريم؛ وبهذا ينتشر السلام والنظام في البلاد. وإذ كانت بلادنا الشرقية تقع وراء البحار، فإن الكتب التي تصلنا من بلاد الصين قليلة العدد، وكثيراً ما تكون الكتب المطبوعة على القوالب ناقصة.
"هذا إلى أنه يتعذر طبع كل ما لدينا من الكتب كاملة. ولهذا آمر أن تصنع الحروف من البرنز، وأن يطبع كل ما تستطيع يداي أن تصل إليه بلا استثناء حتى ينتقل ما تحتويه هذه الكتب إلى أحفادنا من بعدنا، وتلك نعمه من أجل النعم التي تعود على البلاد إلى أبد الدهر. على أن نفقات هذا العمل الجليل لن تفرض ضرائب على الشعب، بل سأتحملها أنا وأسرتي ومن يريد أن يساهم فيها من الوزراء" (15).

صفحة رقم : 1249
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأقصى -> الصين -> عصر الفنانين -> النهضة في عهد أسرة سونج -> إحياء العلوم

وانتشرت حروف الطباعة المفردة المنتقلة من كوريا إلى اليابان ثم عادت بعدئذ إلى الصين، ولكن يظهر أنها لم تعد إليها إلا بعد اختراع جوتنبرج
Gutenberg الضئيل في أوربا. واستمر الكوريين يستخدمون حروف الطباعة المنتقلة قرنين كاملين ثم عفا عليها الزمان. أما في الصين فإن هذه الحروف لم تكن تستخدم إلا في أوقات متفرقة، حتى نقل التجار والمبشرين أساليب الطباعة الغربية إلى بلاد الشرق، كمن يعيد هدية قديمة إلى مهديها. وظل الصينيون من أيام فنج دو إلى أيام لي هونج - جانج مستمسكين بطريق الطباعة على القوالب لأنهم كانوا يرونها أكثر الطرق ملاءمة للغتهم. واستطاعت المطابع الصينية رغم هذا القصور أن تغمر الشعب بما لا يحصى من الكتب، فأصدرت فيما بين عامي 994، 1063 م مئات من المجلدات في تواريخ الأسر الحاكمة، كما أتمت في عام 972 إصدار قوانين الشريعة البوذية في خمسة آلاف مجلد(16). ذلك أن الكتاب وجدوا في يدهم سلاحا لم بكن لهم به عهد من قبل، وكثير عدد من يقرأ كتبهم فلم يعد مقصوراً على أعيان البلاد، بل شمل الأعيان والطبقة الوسطى على السواء وشمل كذلك بعض أفراد الطبقة الدنيا نفسها. واصطبغ الأدب بصبغة أكثر ديمقراطية وأكثر تباينا مما كان عليه من قبل. وجملة القول أن فن الطباعة بالقوالب كان من أسباب النهضة العلمية في عهد أسرة سونج.

وكان من نتائج هذا الاختراع المجيد أن غمر البلاد فيض من الأدب لم يكن له مثيل من قبل، وأن عمت البلاد نهضة في الآداب الإنسانية شملت كل ما شملته النهضة في إيطاليا وسبقتها بمائتي عام كاملة. وطبعت من الآثار الأدبية القديمة نحو مائة طبعة، كما طبعت لها شروح وتعليقات تبلغ الألف عدّا. وأجاد المؤرخون العلماء دراسة الحياة الصينية في الأيام الخالية، ووضعوها بين أيدي ملايين القراء مطبوعة بحروف الطباعة الجديدة العجيبة. ونشرت مجموعات كبيرة من الأعمال الأدبية، ووضعت معاجم لغوية واسعة وألفت موسوعات ضخمة
صفحة رقم : 1250
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأقصى -> الصين -> عصر الفنانين -> النهضة في عهد أسرة سونج -> إحياء العلوم

جبارة انتشرت في طول البلاد وعرضها. وكانت أولى ما صدر من الموسوعات ذات الشأن هي الموسوعة التي أصدرها ووشو (947-1002)؛ وقد حالت الصعاب الناشئة من عدم وجود حروف هجائية سهلة دون إصدارها مرتبة ترتيباً هجائيا، فاضطر إلى تقسيمها حسب الموضوعات. وكان أهم ما احتوته من المعلومات ما يتصل منها بالعالم المادي.
وفي عام 977 أمر الإمبراطور تاي دزونج أحد أباطرة أسرة سونج أن تجمع موسوعة أخرى أوسع من الأولى، بلغت مجلداتها اثنين وثمانين مجلداً، معظمها مختارات من 1690 كتاباً كانت موجودة قبل ذلك الوقت. ثم وضعت موسوعة أخرى فيما بعد في عهد الإمبراطور يونج لو من أباطرة أسرة منج (1403-1425)، وبلغت مجلداتها عشرة آلاف، ولكن كثرة النفقات حالت دون طبعها. وحدث في فتنة الملاكمين التي قامت في عام 1900 أن احترقت النسخة الوحيدة التي أورثتها ذلك العهد الأجيال التالية فلم يبق منها إلا مائة وستون مجلداً(17). إن التاريخ لم يشهد قبل تلك الأيام عهداً سيطر فيه العلماء على الحضارة كما سيطروا عليها في ذلك العهد.

صفحة رقم : 1251

قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأقصى -> الصين -> عصر الفنانين -> النهضة في عهد أسرة سونج -> بعث الفلسفة

3- بعث الفلسفة
جو- شي - وانج يانج - منج - ما وراء الخير والشر
لم يكن هؤلاء العلماء كلهم من أتباع كنفوشيوس، ذلك أن مدراس فكرية منافسة لمدرسته قد نشأت في خلال الخمسة عشر قرناً الخالية، وحدثت في الحياة العقلية لهذا الشعب الخصيب حركات قوية أثارت لديه أعنف الجدل حول هذه الآراء والآراء المناهضة لها. ولم تقف المبادئ البوذية التي تسربت إلى نفوس الصينيين عند عامة الشعب وطبقاته الوسطى، بل وصلت إلى الفلاسفة أنفسهم، فآثر معظمهم الآن طريقة العزلة والتأمل، وبلغ من بعضهم أن احتقروا
صفحة رقم : 1252
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأقصى -> الصين -> عصر الفنانين -> النهضة في عهد أسرة سونج -> بعث الفلسفة

كنفوشيوس لاحتقاره الفلسفة ما وراء الطبيعة، ونبذوا الطريقة التي كان يتبعها في معالجة مشاكل الحياة والعقل، وعابوا عليها أنها طريقة خارجية فجة إلى حد كبير، وأضحت طريقة التأمل الذاتي هي الطريقة المستحبة في دراسة الكون والكشف عن خفاياه، وظهرت لأول مرة نظرية فلسفة المعرفة بين الصينيين، وصار الأباطرة يتخذون الفلسفة البوذية أو الدوَّية وسيلة يتحببون بها إلى الشعب أو يسيطرون بها عليه، ولاح في وقت من الأوقات أن سلطان كنفوشيوس على العقلية الصينية قد انقضى عهده إلى غير رجعة.

لكن جوشي أنجاه من هذا المصير. وكما أن شنكارا قد طعم الفلسفة العقلية التي سادت الهند خلال القرن الثامن عشر الميلادي بما كان للأبانيشاد أحياناً من فراسة وبُعد نظر؛ وكما أن أكويناس Aquinas في أوربا قد مزج في القرن الثالث عشر مبادئ أرسطو والقديس بولس فأخرج منها الفلسفة الكلامية التي كانت لها الغلبة والسيادة خلال العصور الوسطى، كذلك فعل جوشي في الصين في القرن الثاني عشر، إذ أخذ حكِم كنفوشيوس المتفرقة غير متماسكة، وأقام منها طريقة فلسفية بلغت من النظام حدا أرضى ذوق هذا العصر الذي ساد فيه العلماء وبلغت من القوة درجة جعلت أتباع كنفوشيوس يتزعمون الحياة السياسية والعقلية في الصين طوال سبعة قرون.
وكان أهم ما ثار حوله الجدل الفلسفي في ذلك الوقت معنى فقرة في كتاب العلم العظيم يعزوها كل من جوشي ومعارضيه إلى كنفوشيوس، فكان المتجادلون يتساءلون: ما معنى هذا المطلب العجيب القائل بأن نظام الدول يجب أن يقوم على تنظيم أحوال الأسرة، وأن يقوم تنظيم الأسرة على تهذيب الإنسان لنفسه، وأن تهذيب النفس يقف على الإخلاص في
صفحة رقم : 1253
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأقصى -> الصين -> عصر الفنانين -> النهضة في عهد أسرة سونج -> بعث الفلسفة

التفكير، وأن الإخلاص في التفكير ينشأ من "انتشار المعرفة إلى أبعد حد" وذلك عن طريق "البحث عن حقائق الأشياء؟".

وكان جواب جوشي عن ذلك أن هذه الفقرة تعني بالضبط ما يفهم من ألفاظها؛ تعني أن الفلسفة والأخلاق وسياسة الحكم يجب أن تبدأ كلها بدراسة الحقائق دراسة متواضعة. وكان يقبل بلا معارضة أو مناقشة النزعة الإيجابية التي اتصف بها المعلم الأكبر؛ ومع أنه كان يجهد نفسه في دراسة علم أصول الكائنات الحية دراسة أطول مما كان يرتضيه كنفوشيوس لو أنه كان حيا، فقد أوصله هذا الدرس إلى أن يمتزج الإلحاد بالتقوى مزجاً غريباً لعله كان يعجب حكيم شانتونج. وكان جوشي يعترف بوجود شيء من الاثنينية المتناقضة في الحقائق الواقعية كما كان يعترف بها كتاب التغيرات الذي كانت له على الدوام السيطرة على علم ما وراء الطبيعة عند الصينيين؛ فهو يرى أن اليانج والين- أي الفاعلية والانفعالية، أو الحركة والسكون - يمتزجان في كل مكان امتزاج الذكورة والأنوثة، ويؤثران في العناصر الخمسة الأساسية: الماء والنار والتراب والمعادن والخشب ليوجدا منها ظواهر الخلق؛ وأن اللي والجي- أي القانون والمادة - وكلاهما عنصر خارجي، ويتعاونان معاً للتحكم في جميع الأشياء واكتسابها صورها. ولكن من فوق هذه الصور شئ يجمعها ويؤلف بينهما، وهو التاجي- أي الحقيقة المطلقة أو قانون القوانين غير البشرى، أو بناء العالم. جوشي يقول: إن هذه الحقيقة المطلقة هي التين أو السماء الذي تقول به الكنفوشية الصادقة. وكان يرى أن الله هو عملية عقلية في الكون منزه عن الشخصية أو الصور المحسوسة، وأن "الطبيعة إن هي إلا القانون" (18).
ويقول جو أن قانون الكون السالف الذكر هو أيضاً قانون الأخلاق والسياسة. فالأخلاق الفاضلة هي الانسجام مع قوانين الطبيعة، وخير أنواع السياسة هو تطبيق قوانين الأخلاق على أعمال الدولة، والطبيعة في كل معانيها
صفحة رقم : 1254
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأقصى -> الصين -> عصر الفنانين -> النهضة في عهد أسرة سونج -> بعث الفلسفة

تنتهي إلى الخير، وطبيعة الناس خيرة، واتباع سنن الطبيعة هو سر الحكمة والسلام. "وقد أبى جواما وشو أن يقتلع الأعشاب التي كانت أمام نافذة بيته وقال إن ما يدفعها إلى النماء هو بعينه الذي يدفعني" (19). ولربما ظن القارئ من هذه الأقوال أن جوشي كان يرى أن الغرائز هي الأخرى طيبة صالحة وأن على الإنسان أن يطلق لها العنان. ولكنه لم ير هذا بل كان يندد بها ويقول إنها هي المظهر الخارجي للمادة "جي" ويطلب بإخضاعها لحكم العقل والقانون "لي" (20). وقد يكون في هذا شئ من التناقض ولكن الإنسان لا يستطيع أن يكون عالماً أخلاقيا ومنطقيا معاً.
لقد كان في هذه الفلسفة كثير من الناقض، ولكن هذا التناقض رغم كثرته لم يثر ثائرة كبير معارضيها وهو وانج يانج - منج صاحب الشخصية الظريفة الفذة. ذلك أن وانج لم يكن فيلسوفاً فحسب بل كان إلى جانب ذلك قديساً تملكته نزعة التأمل التي اتصفت بها البوذية المهايانية ، وسرت عاداتها إلى أعماق نفسه. وقد بدا له أن غلطة جوشي الأساسية ليست فيما يقوله عن الأخلاق بل في طريقته، ولقد كان يرى أن البحث عن حقائق الأشياء يجب ألا يبدأ بدراسة العلم الخارجي بل بما هو أعمق من هذا العالم وأكثر منه إظهاراً للحقائق وهو دراسة النفس الداخلية كما يقول الهنود. ذلك أن العلوم الطبيعية في بلاد العلم كلها إذا اجتمعت لا تستطيع أن تفسر حقيقة غصن خيزران أو حبة أرز، وفي هذا يقول:
قلت لصديقي تشين في السنين الخالية: "إذا كان لابد للإنسان أن يبحث كل ما تحت قبة السماء لكي يكون حكيما أو إنساناً فاضلا، فكيف يستطيع إنسان في الوقت الحضر أن يستحوذ على هذه القدرة العظيمة؟" ثم أشرت إلى أعواد الخيزران التي أمام خيمتي وطلبت إليه أن يفحص عنها ويرى
صفحة رقم : 1255
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأقصى -> الصين -> عصر الفنانين -> النهضة في عهد أسرة سونج -> بعث الفلسفة

نتيجة فحصه. فواصل تشين نهاره بليله يبحث في عناصر الخيزران، وأضنى عقله وتفكيره بهذا البحث ثلاث أيام كاملة، حتى نضب معين جهوده العقلية وسئم العمل. وظننت في بادئ الأمر أن منشأ عجزه أن جهوده وقواه لم تكن كافية لهذا العمل، فأخذت أنا على عاتقي أن أقوم بهذا البحث، وقضيت فيه ليلى ونهاري ولكني عجزت عن فهم كنه الخيزران. وبعد أن واصلت العمل سبعة أيام انتابني المرض أنا أيضاً من فرط ما أجهدت نفسي وفكري؛ فلما التقينا بعدئذ قال كلانا لصاحبه في حسرة: "إنا لا نستطيع أن نكون حكيمين أو فاضلين" (21).
ومن أجل هذا تخلى وانج يانج - منج عن بحث طبيعة الأشياء، بل تخلى أيضاً عن دراسة أمهات الكتاب القديمة، فقد بدا له أن قراءة الإنسان قلبه وعقله وتأملها في عزلته يهيئان له من أسباب الحكمة أكثر مما تهيئه له دراسة جميع الكتب والأشياء المادية" (22). ولما نفي إلى برية جبلية يسكنها أقوام همج وتنتشر فيها الأفاعي السامة اتخذ له من المجرمين الذين فروا إلى هذه الأصقاع أصدقاء وأتباعاً، وعلمهم الفلسفة وطهي لهم طعامهم وأنشد لهم الأناشيد. وفي ذات مرة، بينما هو قائم بالحراسة في منتصف الليل، قفز من كوخه على حين غفلة وصاح قائلا: "لاشك في أن طبيعتي وحدها كافية. ولقد أخطأت حين أخذت أبحث عن مبادئ في الأشياء المادية وفي شئون الخلق". ولم يكن رفاقه واثقين من أنهم يدركون ما يرمي إليه ؛ ولكنه لم يلبث أن أرشدهم إلى الغاية المثالية التي كان يرمي إليها فقال: "إن العقل نفسه لينطوي على القانون الطبيعي، وهل في الكون شئ يوجد مستقلا عن العقل؟ وهل ثمة قانون لا صلة له بالعقل؟" (23) ولم يستدل من هذا على أن الله مكن تصوير الخيال، بل كان يعتقد أنه قوة أخلاقية غامضة ولكنها قادرة على كل شئ، وأنها أعظم من أن تكون إنساناً فحسب، ولكنها قادرة على أن تحسن بالعطف والغضب على الخلق(24).
صفحة رقم : 1256

قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأقصى -> الصين -> عصر الفنانين -> النهضة في عهد أسرة سونج -> بعث الفلسفة

ومن هذه البداية المثالية وصل إلى المبادئ الأخلاقية التي وصل إليها جوشي والقائلة أن الطبيعة هي الخير الأسمى، وأن الفضيلة الكبرى إنما تكون بإطاعة قوانين الطبيعة والعمل بها كاملة(25). ولما قيل له إن في الطبيعة أفاعي كما فيها فلاسفة أجاب إجابة فيها أثر من فلسفة أكويناس وسبنوزا
Spinoza ونيتشة فقال إن "الخير" و "الشر" إن هما إلا رأيان مبتسران ولفظان تسمى بهما الأشياء حسب ما فيها من نفع أو أذى للفرد أو لبني الإنسان. وكان يعلم أتباعه أن الطبيعة نفسها فوق الخير والشر لا تعرف ما نطلقه نحن عليها من أسماء مبعثها الأنانية وقد نقل عنه أحد تلاميذه، أو لعله وضع من عنده، حواراً كان في مقدوره أن يعنونه: ما وراء الخير والشر.
ثم قال بعد ذلك بقليل: "إن منشأ هذه النظرة إلى الخير والشر في الجسم نفسه وأكبر الظن أنها نظرة خاطئة". ولم أستطع فهم هذا فقال المعلم: "إن الغرض الذي تهدف إليه السماء من وراء عملية الخلق ليتمثل في الأزهار والحشائش، فهل لدينا طريقة نفرق بها بينها فنقول إن هذه خير وتلك شر؟ فإن كنت أنت أيها الطالب يسرك أن ترى الأزهار قلت إن الأزهار حسنة والحشائش رديئة، أما إن كنت ترغب في أن تنتفع بالحشائش فإنك ترى فيها الخير كل الخير؛ وهذا النوع من الخير أو الشر إنما ينشأ مما هو كامن في عقلك من حب هذا الشيء أو كرهه، ومن هذا أعرف أنك مخطئ".

فقلت له: "إن الاطمئنان الناشئ من سيطرة القانون الطبيعي لهو حالة لا يكون ثمة خير أو شر، فهل هذا صحيح؟" فأجاب المعلم: "إن الاطمئنان الناشئ من سيطرة القانون الطبيعي لهو حالة لا يفرق فيها بين الخير والشر، على حين أن استشارة الطبيعة العاطفية هي الحالة التي يوجد فيها الخير والشر كلاهما. فإذا لم تثر تلك الطبيعة العاطفية لم يكن ثمة خير أو شر، وهذا هو الذي يطلق عليه اسم الخير الأسمى....."
صفحة رقم : 1257
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأقصى -> الصين -> عصر الفنانين -> النهضة في عهد أسرة سونج -> بعث الفلسفة

فقلت: "وإذن فالخير والشر لا يوجدان قط في الأشياء نفسها؟" فقال: "إنهما لا يوجدان إلا في عقلك".
ولقد كان من الخير أن يضرب وانج وأن تضرب البوذية على هذه النغمة، نغمة ما وراء الطبيعة المثالية، في أبهاء الكنفوشيين الصادقين والمتأنقين؛ ونقول المتأنقين لأن هؤلاء العلماء كانوا مفتونين بعض الافتنان بحكمتهم، وأنهم أضحوا يؤلفون فيما بينهم بيروقراطية ذهنية متعبة مملة معادية لكل روح مبدعة معرضة للخطأ، وإن كانت نظرتهم إلى الطبيعة البشرية وإلى الأداة الحكومية أصدق ما تصوره الفلسفة من نظرات، وأكثرها عدالة. وإذا كان أتباع جوشي قد كتب لهم النصر على معارضيهم في آخر الأمر، وإذا كانت اللوحة التذكارية التي نقش عليها اسمه قد حظيت بشرف وضعها في البهو الذي وضعت فيه لوحة المعلم نفسه (كنفوشيوس)، وإذا كان شرحه لأمهات الكتب الصينية قد أصبح هو القانون الذي يرجع إليه كل تفكير سليم مدى سبعمائة عام، إذا كان هذا وذاك قد حدث فإن حدوثه كان نصراً مؤزراً للعقلية السليمة البسيطة غير المعقدة على التحذلق المزعج الذي كان يعمد إليه أصحاب العقول الميتافيزيقية.

ولكن الأمة الفذة قد تفرط في الحساسية، وقد تكون عاقلة رزينة فوق ما يجب، وقد تسرف في الاستمساك بالحق والصواب إسرافاً لا يطاق. ولقد كان انتصار جوشي والكنفوشية هذا الانتصار الكامل من الأسباب التي جعلت ثورة الصين ضرورة لا بد منها.

صفحة رقم : 1258
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأقصى -> الصين -> عصر الفنانين -> البرنز واللكّ واليشب

الفصل الثاني
البرنز واللَّك واليَشْب
منزلة الفن في الصين - المنسوجات - الأثاث - الحلي - المراوح -
صنع اللك - قطع حجر اليشب - روائع فنية في البرنز - النحت الصيني
طلب الحكمة والهيام بالجمال هما قطب العقل الصيني، وفي استطاعتنا أن نعرف بلاد الصين بأنها بلاد الفلسفة والخزف، وإن لم يكن هذا التعريف جامعاً مانعاً. وكما أن طلب الحكمة لم يكن معناه في بلاد الصين الجري وراء أخيلة ميتافيزيقية لا علاقة لها بالحياة، بل كان فلسفة إيجابية تهدف إلى ترقية الفرد والنظام الاجتماعي، فكذلك لم يكن عشق الجمال إحساساً به كامناً في النفس أو هواية خاوية للأشكال الفنية التي لا صلة لها بالشئون الإنسانية، بل كان تزاوجاً أرضيا وثيقاً بين الجمال والمنفعة، وتصميما عملياً لتزيين موضوعات الحياة اليومية وأدواتها.

ومن أجل ذلك ظلت الصين، إلى الوقت الذي أخذت فيه تخضع مثلها العليا لتأثير الغرب، تأبى أن تعترف بوجود فرق ما بين الفنان والصانع أو بين هذا و بين العامل العادي. ولقد كانت الصناعات كلها إلا القليل منها من عمل الأيدي البشرية، وكان كل ما تعمله الأيدي منها حِرفاً متقنة؛ وكانت الصناعة كما كان الفن تعبيراً عن شخصية الصانع بالشيء المصنوع، ولذلك بزت الصين كل ما عداها من البلاد في الذوق الفني وفي كثرة ما لديها من الأدوات الجميلة التي تستخدمها في حياتها اليومية، وإن لم تمد أهلها عن طريق الصناعات الكبيرة بالسلع التي تنعم بها كثرة الناس في البلاد الغريبة. فقد كان الصيني المتوسط الثراء يتطلب أن يكون كل ما يحيط به، من الحروف التي يكتب بها إلى
صفحة رقم : 1259
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأقصى -> الصين -> عصر الفنانين -> البرنز واللكّ واليشب

الصحاف التي يأكل فيها، مما يشجع حاسة الجمال، وأن يدل بشكله وصنعه على الحضارة الناضجة الذي هو رمز لها وقطعة منها.
وبلغت هذه الحركة التي ترمي إلى تجميل الجسم والمعبد والمسكن غايتها في عهد أسرة سونج. لقد كانت هذه الحركة عنصراً من عناصر الحياة في عصر أسرة تانج، وكان من شأنها أن تستمر وتنتشر في عهد الأسر التي أعقبتها؛ ولكن عهد
صفحة رقم : 1260
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأقصى -> الصين -> عصر الفنانين -> البرنز واللكّ واليشب

النظام والرخاء الطويل الذي عم البلاد تلك الأسرة قد أمد الفنون كلها بحاجتها من الغذاء، وخلع على الحياة الصينية جمالا وزينة لم تستمتع بمثلهما من قبل. ولقد بلغ الصناع الصينيون في صناعة النسيج والمعادن في عهد أسرة سونج وما بعدها درجة من الإتقان والكمال لم يفقهم فيها أحد قبلهم، وبزوا جميع منافسيهم في كافة أنحاء العالم في اليشب وغيره من الأحجار الصلبة، ولم يتفوق عليهم في نحت الخشب والنقش على العاج إلا من أخذوا عنهم هذه الصناعة من اليابانيين(27). لقد كان أثاث المنازل يصنع على أشكال متعددة مختلفة، فذة في صورتها ولكنها غير مريحة لصاحبها؛ وكان صناع الأثاث، الذين تكفيهم صفحة من الأرز يوما كاملا، يخرجون منه تحفة فنية صغيرة إثر تحفة.
وكان الفنان ذو اليد الصناع الذي يخرج هذه الروائع الفنية الدقيقة يزين بها داره ويتخذها بديلا من الأثاث الغالي الثمن ومن أسباب المتعة المنزلية، وكانت تبعث في نفس مالكها بهجة لا يدركها في بلاد الغرب إلا الخبراء الأخصائيون.
أما الحلي فلم تكن موفورة العدد ولكنها كانت بديعة القطع، وكان الرجال والنساء يبردون وجوههم بمراوح مزخرفة من الريش والخيزران، أو الورق أو الحرير الملوّن، بل إن المتسولين أنفسهم لم تكن تنقصهم المراوح الجميلة وهم يمارسون حرفتهم التليدة.
ونشأ فن الطلاء باللك في الصين، وبلغ ذروة الكمال في اليابان. واللك في بلاد الشرق الأقصى نتاج طبيعي لشجرة أصلها من أشجار الصين، ولكنها الآن تزرع بكثرة في بلاد اليابان، ويؤخذ عصيرها من جذعها وغصونها، ثم
صفحة رقم : 1261
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأقصى -> الصين -> عصر الفنانين -> البرنز واللكّ واليشب

يصفى ويغلى ليزول منه ما لا حاجة لهم من السوائل، ويطلي به الخشب الرقيق كما يطلى به المعدن والخزف في بعض الأحيان، ثم يجفف بتعريضه للرطوبة(28). ويتكوَّن الطلاء من طبقات تتراوح بين عشرين وثلاثين طبقة يبذل في تجفيف كل واحة منها وصقلها جهد عظيم وعناية بالغة، وتختلف كل طبقة عن غيرها في لونها وسمكها. وينقش الصينيون بعدئذ هذه الطبقات بعد تمامها بآلة حادة على شكل (7) بحيث يصل كل حز إلى الطبقة ذات اللون الذي يتطلبه الشكل المطلوب.
وقد نما هذا الفن على مهل وبدأ في صورة كتابة على شرائح من الخيزران؛ وكانت مادة اللك تستخدم في عهد أسرة جو لتزيين الأواني والسروج والعربات وما إليها. ثم استخدم في القرن الثاني بعد الميلاد لطلاء الأبنية والآلات الموسيقية؛ وفي عهد أسرة تانج صدرت الصين كثيرا من الأدوات المطلية باللك إلى اليابان. ولما تولت الُملك أسرة تانج كانت كل فروع صناعة اللك قد ازدهرت وتحددت أشكالها، وكانت ترسل منتجاتها بحرا إلى الثغور النائية كثغور الهند وبلاد العرب. ولما ولى الملكُ أباطرة أسرة منج خطا الفن خطوة أخرى في طريق الكمال، وبلغ في بعض نواحيه ذروته(29). فلما جلس على العرش الإمبراطوران المستنيران كانج - شى، وتشين لونج من أباطرة المانشو صدرت الأوامر الإمبراطورية بتشييد المصانع والإنفاق عليها من مال الدولة، فأخرجت من روائع الفن أمثال عرش تشين لونج(30) والستر الذي أهداه كانج - شى إلى ليوبولد الأول إمبراطور الدولة الرومانية الشرقية(31). واحتفظ هذا الفن بتلك الدرجة الرفيعة حتى القرن التاسع عشر، فكانت الحروب التي أوقد نارها التجار الأوربيون، وما للمستوردين والعملاء الأوربيين من أذواق منحطة كانت هذه وتلك سبباً في حبس معونة الأباطرة عنه فتدهور مستواه وانحطت رسومه، وانقطعت زعامته إلى اليابان.
صفحة رقم : 1262

قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأقصى -> الصين -> عصر الفنانين -> البرنز واللكّ واليشب

أما صناعة اليشب فهي قديمة قدم التاريخ الصيني نفسه، وشاهد ذلك أن آثارها وجدت في أقدم القبور. وتعزو أقدم السجلات أول استخدامه"حجر سمع"إلى عام 2500 ق.م. وذلك أن حجر اليشب كان يقطع على صورة سمكة أو نحوها تعلق في إسار؛ فإذا ما أجيد قطع الحجر وتعليقه خرجت منه أنغام موسيقية واضحة جميلة تدوم مدهشاً في طوله. والاسم الإنجليزي لهذا الحجر
Jade مشتق من اللفظ الأسبانيIjada (المأخوذة عن اللفظ اللاتيني Ilia) عن طريق اللفظ الفرنسي Jade ومعناه الحقو. ولما فتح الأسبان أمريكا وجد الفاتحون أهل المكسيك الأقدمين يأتون بهذا الحجر مسحوقاً ومعجوناً بالماء ليعالجوا به كثيراً من الأمراض الباطنية، فلما عادوا إلى أوربا حملوا معهم هذا العلاج هو والذهب الأمريكي إلى بلادهم. أما الاسم الصيني لهذا الحجر فهو أليق به من الاسم الأوربي وأكثر مطابقة للمعقول. فلفظ جون الذي يطلق عليه معناه لين كالندا(32)، ويتركب حجر اليشب من معدني الجاديث والتفريت، والأول يتكون من سليكات الألومنيوم والصوديوم ويتكون الثاني من الكالسيوم والمغنيزيوم. وكلا المعدنين صلب قاس يحتاج تهشيم البوصة المكعبة منه إلى ضغط خمسين طنا في بعض الأحيان. وتكسر القطع الكبيرة منه عادة بتعريضها إلى الحرارة الشديدة ثم إلى الماء البارد على التعاقب.
وفي وسع الإنسان أن يدرك حذق الفنان الصيني من قدرته على إظهار ألوان براقة خضراء وسمراء وسوداء بيضاء من هذا الحجر العديم اللون بطبيعته، ومن صبره الطويل ومثابرته، حتى يخرج منه أشكالا مختلفة لا عداد لها، حتى لا يكاد الإنسان يجد بين مجموعات اليشب التي في العالم كله قطعتين متماثلتين، اللهم إلا أزرار الملابس.

وكان أول ما عثر عليه من مصنوعات يشبية في عهد أسرة شانج في صورة ضفدعة تستخدم قرباناً مقدساً(33)، وصنعت منه أدوات غاية في الجمال في أيام
صفحة رقم : 1263
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأقصى -> الصين -> عصر الفنانين -> البرنز واللكّ واليشب

كنفوشيوس(34). وبينما كان الناس في غير الصين يتخذون من اليشب فؤوساً، ومدى وأواني، فإن الصينيين كانوا يعظمون الحجر تعظيماً حملهم على ألاّ يستخدموه إلا في التحف الفنية الجميلة، إذا استثنينا بعض القطع النادرة القليلة العدد. وكان عندهم أثمن من الفضة والذهب والحلي على اختلاف أنواعها(35). وكانوا يقدرون بعض مصنوعات اليشب الصغيرة كخواتم الإبهام التي يتحلى بها كبار الحكام الصينيين بما يقرب من خمسة آلاف ريال، ويقدرون بعض القلائد اليشيبية بمائة آلاف ريال. وكان المعنيون بجمع القطع النادرة منه يقضون السنين الطوال في البحث عن قطعة واحدة، ويقال إن ما يوجد في الصين من التحف اليشبية إذا جمعت في مكان واحد تكونت منها مجموعة لا تماثلها مجموعة من أية تحف صنعت من مادة أخرى في جميع أنحاء العالم(36).
ولا يكاد البرنز يقل قدماً عن اليشب في الفن الصيني، وهو يفوقه مقاماً وتقديراً عند الصينيين. وتروى الأقاصيص الصينية أن الإمبراطور يو، أحد أباطرة الصين الأقدمين وبطل الطوفان الصيني، تلقى المعادن التي بعثت بها إليه الدويلات التسع الخاضعة لحكمه، وهى الخراج المفروض عليها، ثم صبها كلها وصنع منها ثلاث قدور لكل منها تسع أرجل، لها من القوة السحرية وتستطيع به أن تدفع المؤثرات البغيضة، وتجعل ما يوضع فيها من المواد يغلى بغير النار، ويخرج منها كل ما لذ وطاب من طعام وشراب.

ثم أصبحت هذه القدور الرمز المقدس للسلطة الإمبراطورية، وتوارثتها الأسر واحدة بعد واحدة، فكانت كل منها تتلقاها بعناية فائقة من التي قبلها، ولكنها اختفت بطريقة مجهولة غامضة بعد سقوط أسرة جو، وهي حادثة كان لها أسوأ الأثر في منزله شى هوانج - دي. ثم أصبح صب البرونز ونقشه فنا من الفنون الجميلة الصينية، وأخرجت منه البلاد مجموعات تطلب حصر أسمائها وتصنيفها اثنين وأربعين مجلدا(37). وكان يصنع منه أواني للحفلات الدينية التي
صفحة رقم : 1264
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأقصى -> الصين -> عصر الفنانين -> البرنز واللكّ واليشب

تقيمها الحكومة أو يقيمها الأفراد في منازلهم، وقد أحال آلافاً من أنواع الأواني المنزلية إلى تحف فنية، وليس في العالم كله ما يضاهي مصنوعات الصين البرنزية إلا ما صنع من في إيطاليا في عهد النهضة الأوربية، ولعلها لا يضاهيها من هذه المصنوعات إلا "أبواب الجنة" التي وضع تصميمها غبرتي
Ghiberti ليزين بها موضع التعميد في فلرنس.
وأقدم ما لدينا من القطع البرنزية الصينية أواني قربانية كشفت حديثاً في هونان؛ ويرجعها العلماء الصينيون إلى عهد أسرة شانج، ولكن الخبراء الأوربيين يرجعونها إلى عهد متأخر عن ذلك الوقت وإن كانوا لا يحددون تحديداً مضبوطاً. وأقدم الآثار المعروفة تاريخها هي التي ترجع إلى عهد أسرة جو ومن أروعها كلها مجموعة آنية الحفلات المحفوظة في المتحف الفني بنيويورك. وقد استولى شى أونج - دي على معظم ما كان لدى أسرة جو من آنية برنزية لئلا يصهرها الأهلون ليتخذوا منها أسلحة. وصنع ما تجمع له من هذا المعدن اثنا عشر تمثالا ضخما يبلغ ارتفاع كل منها خمسين قدماً(38)، ولكن هذه التماثيل كلها لم تبق منها قدم واحد. وقد صنعت في عهد أسرة هان كثير من الآنية الجميلة طعمت أحياناً بالذهب.

وليس أدل على رقي هذا الفن في الصين من أن الفنانين الذين دربوا في تلك البلاد هم الذين صنعوا عدداً من التحف التي تعد من روائع الفن، والتي زين بها هيكل هرتوجي في مدينة نارا اليابانية. وأجملها كلها ثلاثة تماثيل لأميدا - بوذا تصورها جالسة على أسرة في صورة زهرة الأزورد(39)؛ وهي أجمل ما وجد من تحف في تاريخ صناعة البرنز في العالم أجمع . ووصل فن البرنز إلى ذروة مجده أيام أسرة سونج، وإذا كانت التحف التي صنعت منه لم ترق إلى ذروة الكمال فإنها قد بلغت الغاية في كثرة عددها وتباين أشكالها؛ فقد صنعت منه قدور
صفحة رقم : 1265
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأقصى -> الصين -> عصر الفنانين -> البرنز واللكّ واليشب

ودنان خمر، وآنية، ومباخر، وأسلحة، ومرايا، ونواقيس، وطبول
صفحة رقم : 1266
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأقصى -> الصين -> عصر الفنانين -> البرنز واللكّ واليشب

ومزهريات؛ وكانت الآنية المنقوشة والتماثيل الصغيرة تملأ الرفوف في دور خبراء الفن وهواته، وتجد لها مكاناً في كل بيت من بيوت الصينيين.
ومن أجمل النماذج الباقية من أيام أسرة سوج مبخرة في صورة جاموسة البحر، وقد ركب عليها لو - دزه وهو هادى مطمئن ليثبت بهذا قدرة الفلسفة على إخضاع الوحوش الكاسرة(40)، ولا يزيد سمك جدران المبخرة على سمك الورقة، وقد اكتسبت على مر الزمان قشرة أو طبقة خضراء مرقشة خلعت عليها جمال القدم ، ثم انحط هذا الفن انحطاطاً تدريجياً بطيئاً في عهد أسوة منج. فزاد حجم التحف وقلت جودتها، وأصبح البرنز، الذي كان مقصوراً على صنع آيات الفن في عهد الإمبراطور يو، فناً عاما تصنع منه الآنية العادية التي تستخدم في الأغراض اليومية، وتخلى في مكانته الأولى للخزف.

ولم يكن النحت من الفنون الكبرى، ولا من الفنون الجميلة، عند الصينيين(41). وسبب هذا أن تواضع الشرق الأقصى أبى عليه أن يتخذ الجسم البشرى نموذجاً من نماذج الجمال. ولهذا فإن الذين اتخذوا صناعة التماثيل البشرية حرفة لهم وجهوا قليلا من عنايتهم إلى تمثيل ما على الأجسام من ملابس، واستخدموا تماثيل الرجال - وقلما استخدموا تماثيل النساء - لدراسة بعض أنواع الإحساسات أو لتصويرها؛ ولكنهم لم يمجدوا الأجسام البشرية. ومن أجل ذلك تراهم في الغالب قد قصروا تصوير الناس على تماثيل القديسين البوذيين والحكماء الدويين، وأغفلوا تصوير الرياضيين والسراري ممن كانوا وكن مصدر الإلهام للفنانين من اليونان.
صفحة رقم : 1267
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأقصى -> الصين -> عصر الفنانين -> البرنز واللكّ واليشب

وكان المثالون الصينيون يفضلون تمثيل الحيوانات على تمثيل الفلاسفة والحكماء أنفسهم.

وأقدم ما نعرفه من التماثيل الصينية التماثيل الإثنى عشر الضخمة المصنوعة من البرنز، والتي أقامها شى هوانج - دي. وقد صهرها فيما بعد أحد الحكام من أسرة هان لا يتخذ منها "فكة" برنزية. وبقي من أيام أسرة هان عدد قليل من التماثيل البرنزية، ولكن كل ما صنع منها في ذلك العهد إلا قلة ضئيلة قضت عليه الحرب أو قضى عليها الإهمال الطويل الأمد. والتماثيل البشرية قليلة أيضا في هذه القلة الباقية، والأثر الهام الوحيد الباقي من أيام أسرة هان نقش بارز من نقوش القبور، عثر عليه في شانتونج. وصور الآدميين القليلة نادرة في هذا النقش أيضاً، وأهم ما يشغل رقعته صور حيوانات بارزة رقيقة. واقترب من هذا النقش إلى صناعة النحت التماثيل الجنازية الصغيرة المتخذة من الصلصال - وأكثرها حيوانات منها قلة تمثل خدماً أو زوجات - وكانت تدفن مع الموتى من الذكور عوضا عن الأزواج والخدم الأحياء. وقد بقيت من هذا العهد تماثيل مستقلة لحيوانات منها تمثال رخامي لنمر كله عضلات يمثل اليقظة أدق تمثيل، وكان يتولى حراسة معبد اسنيانج - فو(42)؛ ومن هذا الدببة المزنجرة التي تشتمل عليها الآن مجموعة جاردنر Gardner في مدينة بوسطن Boston، ومنها الآساد المجنحة المصابة بتضخم الغدة الدرقية والتي وجدت في مقابر نانكنج(43). وكل هذه الحيوانات والخيول المزهوة الممثلة في نقوش القبور البارزة السالفة الذكر تشهد بما كان للفن اليوناني البكتري والفن الآشوري والسكوذى من أثر في الفن الصيني؛ وليس فيها شيء من مميزات الفن الصيني الخالص(44).
وفي هذه الأثناء كانت الصين قد بدأت تتأثر بشيء آخر هو أثر الدين
صفحة رقم : 1268
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأقصى -> الصين -> عصر الفنانين -> البرنز واللكّ واليشب

والفن البوذيين، وقد استوطن هذا الفن البوذي في أول الأمر التركستان، وأقام فيها صرح الحضارة كشف اشتين Stein وبليوت Pelliot في أنقاضها عن أطنان كثيرة من التماثيل المحطمة يضارع بعضها أكثر ما أخرجه الفن الهندي البوذي. واستعار الصينيون هذه الأشكال البوذية من غير تغيير كبير فيها، وأخرجوا على غرارها تماثيل لبوذا تضارع في جمالها ما صنع في جندارا أو في الهند. وأقدم هذه التماثيل ما وضع في معابد يون كان الكهفية في شانسي (حوالي 490 م)، ومن أحسنها تماثيل مغارات لونج من هونان، فقد أقيمت في خارج هذه المغارات عدة تماثيل ضخمة أعجبها كلها تمثال بوذستوا الجميل، وأروعها بوذا "فيروشانا" (حوالي 672 م) الذي تحطم جزء منه عند قاعدته، ولكنه لا يزال محتفظا بروعته الموحية الملهمة(46). وإلى شرق هذا الإقليم في شانتونج وجد كثير من معابد الكهوف نقشت على جدرانها أساطير على الطريقة الهندية يظهر في أماكن متفرقة منها تمثال قوي لبوذيستوا شبيه بالتمثال الذي في الكهف بون ِمن، (ويرجع تاريخه إلى حوالي عام 600 م)(47). واحتفظت أسرة تانج بالتقاليد البوذية في النحت، وقد بلغ درجة الكمال في التمثال بوذا الجالس (حوالي 639 م) الذي عثر عليه في ولاية شنسي Shensi . وأخرجت الأسر التي جاءت من بعدها تماثيل ضخمة من الصلصال تمثل أتباعا لبوذا الظريف لهم وجوه كالحة كوجوه رجال المال ، كما أخرجت عددا من التماثيل الجميلة تمثل كوان - بن إله مهايانا وهو يوشك أن يتحول من إله إلى إله(49).
وفقد فن النحت إلهامه الديني بعد أسرة تانج، واصطبغ بصبغة دنيوية تنحط أحياناً إلى صبغة شهوانية، حتى شكا رجال الأخلاق في ذلك الوقت، كما شكا رجال الأخلاق في إيطاليا في عصر النهضة، من أن الفنانين ينحتون
صفحة رقم : 1269
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأقصى -> الصين -> عصر الفنانين -> البرنز واللكّ واليشب

للقديسين تماثيل لا تقل رشاقة ورقة عن تماثيل النساء، فوضع الكهنة البوذيون قواعد للتصوير تحرم تحديد شخصية صاحب الصورة أو إبراز معالم الجسم.
ولربما كانت النزعة الأخلاقية القوية عند الصينيين هي التي عاقت تقدم فن النحت. وذلك أنه لما أن فقد الدافع الديني أثره المحرك القوي في الفن، ولم يسمح لجاذبية الجمال الجثماني بأن يكون شأن فيه، اضمحل فن النحت في بلاد الصين، وقضى الدين على ما لم يعد في مقدوره أن يكون له ملهماً. وما أن اقترب عهد أسرة تانج من نهايته حتى أخذ الابتكار في فن النحت ينضب معينة. وليس لدينا من القطع الفنية الممتازة التي أخرجتها أسرة سونج إلا عدد قليل؛ أما المغول فقد خصوا الحرب بجهودهم؛ وأما أباطرة المنج فقد نبغ في عهدهم بعض المثالين الذين أخرجوا تماثيل غريبة وأخرى ضخمة من الحجارة كالهولات التي تقف أمام مقابر أباطرة المنج. فلما ضيق الدين الخناق على فن النحت لفظ أنفاسه الأخيرة ، وأخلي ميدان الفن الصيني للخزف والنقش.

صفحة رقم : 1270
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأقصى -> الصين -> عصر الفنانين -> المعابد البجودا والقصور

الفصل الثالث
المعابد (البجودا) والقصور
العمارة الصينية - برج نانكنج الخزفي - بجودا بيجنج
اليشبي - هيكل كنفوشيوس - هيكل السماء ومذبحه -
قصور كوبلاي خان - بيت صيني - داخل البيت - لونه وشكله
كذلك كانت العمارة من الفنون الصغرى في بلاد الصين، ولم يكد يترك من كان فيها من البنائين العظام أثراً لهم يخلد ذكراهم؛ ويلوح أن الشعب لم يكن يجلهم إجلاله صناع الخزف الكبار. والعمائر الضخمة نادرة في بلاد الصين حتى ما شيد منها تكريماً للآلهة، وقلما نجد فيها مباني قديمة، وليس فيها إلا القليل من المعابد التي يرجع عهدها إلى ما قبل القرن السادس عشر.

وقد أصدر مهندسو أسرة سونج في عام 1103م ثمانية مجلدات موضحة بالرسوم الجميلة في شرح أساليب العمارة؛ ولكن الآيات الفنية التي صوروها كانت كلها من الخشب ولم تبق منها قطعة واحدة إلى اليوم. ويستدل من الرسوم المحفوظة في المتحف الأهلي في باريس، والتي يقال أنها تمثل المساكن والهياكل في أيام كنفوشيوس، على أن فن العمارة الصينية قد قنع في خلال تاريخه الطويل الذي دام ثلاثة وعشرين قرناً بما كان عليه في تلك الأيام الخالية من أشكال وأحجام متواضعة(50).
ولعل إحساس الصينيين المرهف في مسائل الفن والذوق هو الذي حدا بهم إلى نبذ ما عساه أن يبدو من العمائر خالياً من الاحتشام مفرطاً في الضخامة، أو لعل تفوقهم في الذكاء قد حد بعض الشيء من مدى خيالهم. ومهما يكن من سبب هذا القصور فإن فن العمارة الصينية قد أضر به كثيراً انعدام ثلاث قوى
صفحة رقم : 1271
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأقصى -> الصين -> عصر الفنانين -> المعابد البجودا والقصور

لم يخل منها تاريخ أمة عظيمة من الأمم القديمة، وتلك هي الأرستقراطية الوراثية وطبقة الكهنة القوية(51) والحكومة المركزية الكثيرة المال العظيمة السلطان(51). ذلك أن هذه القوى هي التي كانت في الأيام الخالية تبذل المال بسخاء لتشجيع الأعمال الفنية العظيمة، من هياكل وقصور ومسارح ومظلمات ومقابر منحوتة في الصخور. ولقد انفردت الصين من بين الأمم القديمة في أنها لم تبتل بهذه النظم الثلاثة.

غير أن العقيدة البوذية قد استحوذت وقتاً ما على روح الصينيين وعلى ما يكفي من ثروة البلاد لإقامة الهياكل العظيمة التي كشفت بقاياها أخيراً في التركستان(52). ولا تزال بعض الهياكل البوذية المتوسطة العظمة والفخامة باقية في أنحاء كثيرة من بلاد الصين، ولكنها لم تسم إلى ما سمت إليه العمائر الدينية في بلاد الهند. ويصل الإنسان إلى هذه الهياكل بممرات طبيعية جميلة المنظر صاعدة بالتواء فوق منحدرات ذات أبواب منقوشة يسمونها البايلو، ولعلها مأخوذة عن دربزين الأضرحة البوذية الهندية.
وتحرس مداخل هذه الهياكل في بعض الأحيان تماثيل بشعة وضعت لتخيف الشياطين الأجنبية فتبعدها عنها بطريقة ما. ومن أجمل الأضرحة البوذية الصينية كلها هيكل بوذا النائم بالقرب من القصر الصيفي المشيد خارج بيجنج. ويرى فرجسون
Fergusson أنه "أجمل ما أخرجه فن العمارة في بلاد الصين"(53).
غير أن أكثر ما يميز الشرق الأقصى في فن العمارة عن سائر الأقطار هو الهياكل (البجودات) التي تشرف على جميع المدن الصينية تقريباً . وقد
صفحة رقم : 1272
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأقصى -> الصين -> عصر الفنانين -> المعابد البجودا والقصور

اصطبغت هذه الصروح الجميلة، كما اصطبغت العقائد البوذية التي ألهمت من شادوها، ببعض الخرافات الدوِّية التي كانت منتشرة في البلاد، فكانت من أجل ذلك مراكز للاحتفالات الدينية وللتنبؤ بالغيب عن طريق دراسة الشقوق والعروق الأرضية. وكانت الجماعات المختلفة تشيد هذه الهياكل لاعتقادها أنها تقي الناس غوائل الأعاصير والفيضان، وتسترضي الأرواح الشريرة، وتجتذب الرخاء ورغد العيش. وكانت تتخذ عادة شكل أبراج ذات ثمانية أضلاع تشاد من الآجر وترتفع فوق قواعد من الحجارة خمس طبقات أو سبعاً أو تسعاً لأن الأعداد الزوجية في اعتقادهم أعداد مشئومة(56). وأقدم البجودات التي لا تزال قائمة حتى الآن البجودة القائمة في سونج إيو - سو، والتي شيدت في عام 523م على جبل سونج شان المقدس في هونان. ومن أجملها كلها البجودة الصيفية، وأروعها منظراً بجودة اليشب في بيجنج و "بجودة المزادة" في وو - واي - شان، وأوسعها شهرة برج الخزف في نانكنج (نانجنج) وقد شيد في 1412-1431م ويمتاز بطبقة من الخزف فوق جدرانه المقامة من الآجر. وقد دمر هذا البرج في ثورة تايينج التي استعرت في عام 1854م.
صفحة رقم : 1273
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأقصى -> الصين -> عصر الفنانين -> المعابد البجودا والقصور

وأجمل الهياكل الصينية هي التي كانت مخصصة للديانة الرسمية في بيجنج (بيكنج). ومن هذه الهياكل هيكل كنفوشيوس، ويحرسه باي - لو، فخم محفور أجمل حفر، ولكن الهيكل نفسه يخلد الفلسفة أكثر مما يخلد الفن. وقد شيد في القرن الثالث عشر الميلادي ثم أدخلت عليه عدة تعديلات وأعيد بناء بعض أجزائه عدة مرات. وقد وضعت "لوحة روح أقدس القديسين المعلم والأب كونفوشيوس"، على قاعدة خشبية في مشكاة مفتوحة في الهيكل، ونقشت العبارة الآتية فوق المذبح الرئيسي: "إلى المعلم الأعظم والمثال الذي يحتذيه عشرة آلاف جيل". ويقوم من سور بيجنج التتاري الجنوبي هيكل
صفحة رقم : 1274

قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأقصى -> الصين -> عصر الفنانين -> المعابد البجودا والقصور

السماء ومذبح السماء. والمذبح مكوّن من سلسلة من الدرج والشرفات الرخامية التي كان لعددها الكبير ونظامها أثر سحري في نفوس الزائرين. والهيكل نفسه بجودة معدلة من ثلاث طبقات قائمة فوق ربوة من الرخام ومشيدة من الآجر والقرميد الخاليين من الرونق. وكان الإمبراطور في الأيام الخالية يأتي إلى هذا المكان في الساعة الثالثة من صباح يوم رأس السنة الصينية للصلاة والدعاء لأسرته بالتوفيق والفلاح ولشعبه بالرخاء، ويقرب القربان للسماء التي يرجو أن تكون في صفه لا في صف أعدائه، ولم تكن السماء ذكراً أو أنثى عند الصينيين بل كانت جماداً. وقد نزلت صاعقة من السماء على هذا المعبد في عام 1889م فأصابته بضرر بليغ(57).
وأجمل من هذه الأضرحة الخالية من الرونق والبهاء، وأكثر منها جاذبية، القصور المزينة الضعيفة البناء التي كانت مساكن للأمراء وكبار الحكام في بيجنج. ومن أجمل هذه المباني البهو الأكبر، وقد شاده عند قبر أباطرة منج عباقرة البنائين الذين جاد بهم عهد الإمبراطور تشنج درو (1403-25)، كما شادوا عدداً من المساكن الملكية في بقعة عرفت فيما بعد باسم "المدينة المحرمة" أقيمت في الموضع الذي شاهد فيه ماركو بولو قصر كوبلاي خان قبل ذلك العهد بمائتي عام، فدهش منه وأعجب به أيما إعجاب. وتقوم آساد بشعة الخلقة على جانبي الدربزين الرخامي المؤدي إلى الشرفة الرخامية. وقد شيدت في هذا المكان مبان رسمية، بعضها غرف لعروش الأباطرة وأخرى للاستقبال أو للمآدب وغيرها من حاجات الأباطرة.

وانتشرت حولها البيوت الأنيقة التي كانت تسكنها في الأيام الخالية أسر الأباطرة وأبناؤهم وأقاربهم وخدمهم وأتباعهم وخصيانهم وسراريهم. ولا تكاد هذه القصور تختلف بعضها عن بعض. ففيها كلها العمد الرفيعة، والنوافذ المتشابكة الجميلة، والطنف المنحوتة أو المسطورة، والألوان الكثيرة الزاهية
صفحة رقم : 1275
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأقصى -> الصين -> عصر الفنانين -> المعابد البجودا والقصور

والرفارف المقوسة المتجهة إلى أعلى المتصلة بالسقف المقرمدة الضخمة. وشبيه بهذه المتع المحرمة على غير هذه الطبقات من الأهلين القصر الصيفي الثاني الذي يبعد عن هذا المكان بضعة أميال، ولعله أكثر رشاقة وتناسباً وتأنقاً في النحت من البيوت التي كانت في يوم ما مساكن للملوك في بيجنج.

وإذا شئنا أن نذكر الخصائص العامة لفن العمارة الصينية في عبارة موجزة قلنا: إن من أول مظاهرها السور المجرد من الجمال الذي يفصل المبنى الرئيسي عن الطريق العام. وهذه الأسوار تمتد في الأحياء الفقيرة من بيت إلى بيت متصلة بعضها ببعض، وتدل على أن الحياة في هذه الأحياء كانت غير آمنة. ويحيط هذا السور بفناء تفتح فيه أبواب ونوافذ لبيت واحد أو لعدة بيوت. وبيوت الفقراء مساكن كئيبة مظلمة، ذات مداخل ودهاليز ضيقة وسقف منخفضة، وأرض من التراب. وفي كثير من الأسر تعيش الخنازير والكلاب والدجاج والرجال والنساء في حجرة واحدة. وتعيش أفقر الأسر في أكواخ من الطين والقش تغمرها مياه الأمطار وتصفر فيها الرياح، وإذا كانت الأسر ذات يسار قليل غطت أرض الحجرات بالحصر أو رصفتها بالقرميد. أما الأثرياء فيزينون فناء المنزل الداخلي ببعض الشجيرات والأزهار والبرك، أو يحيطون قصورهم بالحدائق يغرسون فيها مختلف الأشجار، ويمرحون فيها ويلعبون. ولا نرى في هذه الحدائق طرقات تزينها الورود، وممرات غرست حولها الأزهار، ومربعات أو دوائر أو مثمنات من الكلأ أو الزهر؛ بل ترى بدلاً منها مماشي ضيقة لا تثبت على حال، تتلوى في بعض الأحيان مخترقة أخاديد تمر بين الصخور فوق مجار مائية متعرجة بين أشجار اضطرت جذوعها أو أغصانها إلى أن تتخذ لها أشكالاً غريبة ترضي عنها النفوس السفسطائية. وترى في أماكن متفرقة من هذه الحدائق جواسق جميلة تكاد تخفيها الغصون يستريح فيها الجائلون.
وليس البيت نفسه ذا روعة ولو كان قصراً للعظماء، فهو لا يزيد على طبقة
صفحة رقم : 1276
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأقصى -> الصين -> عصر الفنانين -> المعابد البجودا والقصور

واحدة، وإذا احتاجت الأسرة إلى أن تزيد حجرات منزلها فإنها تفضل إقامة مبنى جديد على إضافة حجرات للمبنى القديم. ومن ثم فإن القصر العظيم قلما يكون بناء منظم الأجزاء، بل يتكون من عدة مبان تمتد أهمها في صف واحد من مدخل القصر إلى السور وإلى جانبيها المباني الثانوية التي تقل عن الأولى شأناً. وأكثر ما تبنى منه المنازل الخشب والآجر، وقلما تعلو الحجارة إلى أكثر من الشرفات التي فوق الأساس.
وكان يقصر استعمال الآجر عادة على الجدران الخارجية، أما السقف فتتخذ من لبنات رقيقة، وأما الأعمدة المزينة والجدران الداخلية فتقام من الخشب. وكانت تعلو الجدران الزاهية الألوان طنف ذات نقوش. وليست الجدران ولا العمد هي التي تحمل السقف، بل إن هذه السقف رغم ثقلها تستقر على قوائم تكون جزءاً من الهيكل الخشبي للمنزل، والسقف أهم أجزاء الهيكل أو المنزل الصيني، فهو يبنى من القرميد المصقول البراق - ذي اللون الأصفر إن كان يظلل رأس الإمبراطور، وإلا فهو أخضر أو أرجواني أو أحمر أو أزرق. وهو يبدو جميلاً وسط ما يحيط به من المناظر الطبيعية، بل إنه ليبدو كذلك حتى في فوضى شوارع المدن، ولربما كانت أعواد الخيزران التي تبرز أطرافها من أعلى الخيام هي التي أقيمت على غرارها في بلاد الشرق الأقصى رفارف السطوح الرشيقة المنحنية إلى أعلى، ولعل أقرب من هذا إلى الظن أن هذا الطراز الكثير الذيوع لم يكن منشؤه إلا رغبة البنائين الصينيين في وقاية البناء كله من مياه الأمطار(58).
ذلك أن النوافذ ذات المصاريع كانت قليلة في المباني الصينية، وكان يحل محلها الورق الكوري
Korean أو النوافذ ذات القوائم المتقاطعة المتشابكة، وهذه لا تقي الحجرات من الأمطار.
صفحة رقم : 1277
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأقصى -> الصين -> عصر الفنانين -> المعابد البجودا والقصور

ولا يقع مدخل الدار الرئيسي عند طرفه ذي السقف الهرمي، بل يقع عند واجهته الجنوبية. ويقوم في داخل هذا الباب الكبير عادة ستار أو جدار يحجب نظر الزائر عن رؤية من في داخل الدار، ويقف في طريق الأرواح الخبيثة التي لا تسير إلا في خطوط مستقيمة، وردهة الدار وحجراتها معتمة لأن ضوء النهار تحجبه النوافذ المتشابكة والطنف البارزة. وبهو المنزل وحجراته مظلمة لأن النوافذ المشبكة والطنف البارزة تحجب عنها ضوء النهار. وقلما تجد في المنزل وسائل لتهوية الغرف، وليس فيه من وسائل التدفئة إلا المجامر المتنقلة، أو طبقات من الآجر تبنى فوق نار مدخنة. وليس لهذه المدافئ مداخن أو فتحات يخرج منها الدخان(59). والأغنياء والفقراء على السواء يقاسون آلام البرد ويأوون إلى فراشهم مدثرين بالثياب الثقيلة(60). وإذا التقى السائح بصيني سأله: "أأنت بردان؟" فيجيبه هذا بقوله: "بطبيعة الحال"(61)، وقد تعلق في سقف الدار فوانيس من الورق زاهية الألوان، وتزين الجدران أحياناً بكتابات بخط جميل أو بنقوش من الحبر، أو بسجف من الحرير مطرزة تطريزاً جميلاً ومنقوش عليها مناظر ريفية. ويتخذ أثاث المنزل عادة من الخشب الثقيل المدهون باللون الأسود البرّاق والمنحوت نحتاً جميلاً. أما القطع ذات الألوان الفاتحة فتطلى باللك البراق. والصينيون هم الأمة الشرقية الوحيدة التي يجلس أبناؤها على كراسي، وحتى هم يفضلون أن يجلسوا متكئين أو متربعين؛ وهم يضعون، على نضد خاص، الأواني التي تتخذ لتقديم القرابين لأسلافهم الأموات. وتقع في مؤخرة الدار حجرات النساء، وقد توجد في حجرات مستقلة أو في بناء منفصل عن سائر المنزل مكتبة أو مدرسة.
والأثر العام الذي تتركه العمائر الصينية في ذهن المشاهد الأجنبي غير الفني هو ما تتصف به من وهن سحري يأخذ بالألباب؛ واللون يطغى فيها على
صفحة رقم : 1278

قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأقصى -> الصين -> عصر الفنانين -> المعابد البجودا والقصور

الشكل، ومن واجب الجمال فيها أن يستغني عن الفخامة والعظمة. والهيكل أو القصر الصيني لا يتطاول إلى الإشراف على الطبيعة بل يتعاون معها على أن يخلق من الكل انسجاماً كاملاً يعتمد على تناسب أجزائه وتواضعها. والعمائر الصينية تعوزها الصفات التي تكسبها متانة وأمناً وطول بقاء، كأن من شادوها يخشون أن تذهب الزلازل بجهودهم.
وإن من الصعب على الإنسان أن يعتقد أن هذه العمائر تنتمي إلى ذلك الفن الذي أقام آثار الكرنك وبرسبويس، والآثار التي شيدت على الأكروبول؛ فليست هي عمائر بالمعنى الذي يفهمه الغربيون من هذا اللفظ، بل هي حفر في الخشب، وطلاء للخزف، ونحت في الحجر. وهي أكثر انسجاماً مع الخزف واليشب من الصروح الضخمة الثقيلة التي أقامها فنّا الهندسة والمعمار في بلاد الهند وبلاد النهرين ورومه. وإذا لم نتطلب إليها العظمة والصلابة التي ربما لم يعن بها من أنشئوها، وإذا أخذناها على أنها أصداف تعبر عن أرق الأذواق في أضعف أشكال المباني وأقلها بقاء، إذا فعلنا هذا وذاك كان لهذه العمائر مكانها بين أجمل طرز الفن الصيني الطبيعية التي تناسب أهل تلك البلاد وبين أجمل الأشكال التي ابتدعها الإنسان.

صفحة رقم : 1279
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأقصى -> الصين -> عصر الفنانين -> التصوير -> أساتذة فن التصوير الصيني

الفصل الرابع
التصوير
1- أساتذة فن التصوير الصيني
جوو كاي - جيه "أعظم مصور، أعظم فكه، وأعظم أبله"-
صورة هان يو الصغيرة - المدرستان الاتباعية والابتداعية - ونج
واي - وو داو دزه - هو دزونج الإمبراطور الفنان - أساتذة عصر سونج

لقد أبطأ الغرب في دراسة فن التصوير الصيني، وليس عليهم في ذلك لوم، لأن مناحي الفن وأساليبه في الشرق تكاد كلها أن تكون مغايرة لمناحيه وأساليبه في الغرب؛ وأول ما نذكره من هذا الخلاف أن المصورين في بلاد الشرق الأقصى لم يكونوا يصورون على القماش، وقد نجد من حين إلى حين مظلمات على الجدران، وأكثر ما يوجد من هذا أثر من آثار النفوذ البوذي؛ ونجد في بعض الأحيان رسوماً على الورق وهذه من آثار ما بعد العهد البوذي؛ كل هذا نجده ولكنه قليل، أما معظم الرسوم الصينية فهي على الحرير؛ ولقد كان ضعف هذه المادة وقصر أجلها سبباً في تلف الروائع الفنية جميعها حتى لم يبق من تاريخ هذا الفن إلا ذكريات له وسجلات تصف جهود الفنانين؛ يضاف إلى هذا أن الصور نفسها كانت رقيقة خفيفة، وأن كثرتها قد استخدمت فيها الألوان المائية وينقصها ما نراه في الصور الزيتية الأوربية من تلوين يظهرها للعين كأنها صور مجسمة نكاد نلمسها باليد. ولقد حاول الصينيون التصوير الزيتي ولكن يلوح أنهم تركوه لأنهم حسبوا هذه الطريقة من طرق التصوير خشنة ثقيلة لا تتفق وأغراضهم الدقيقة الرفيعة؛ كذلك كان تصويرهم في أشكاله الأولى على الأقل، فرعاً من فروع الكتابة أو الخط الجميل يستعملون فيه الفرشاة التي كانوا
صفحة رقم : 1280
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأقصى -> الصين -> عصر الفنانين -> التصوير -> أساتذة فن التصوير الصيني

يستعملونها في الخط، وكانوا يقتصرون في كثير من روائعهم الفنية على الفرشاة والحبر .

وآخر ما نذكره من أوجه الخلاف أن أعظم ما أخرجوه من الصور الملونة قد أخفى من غير قصد عن أعين الرحالة الغربيين، ذلك أن الصينيين لا يتباهون بعرض صورهم على الجدران العامة والخاصة بل يطوونها ويخبئونها بمنتهى العناية، فإذا أرادوا أن يستمتعوا برؤيتها أخرجوها من مخبئها كما نخرج نحن كتاباً ونقرأه. وكانت هذه الصور المطوية تلف متتابعة في ملفات من الورق أو الحرير ثم (تُقرأ) كما تقرأ المخطوطات. أما الصور الصغيرة فكانت تعلق على الجدران وقلما كانت توضع في إطارات. وكانت عدة صور ترسم أحياناً على شاشة كبيرة، وفي العهد الأخير من عهود أسرة سونج كان فن التصوير قد تفرع إلى ثلاثة عشر فرعاً(63) واتخذ أشكالاً لا حصر لها.
وقد ورد ذكر الفن الصيني بوصفه فناً ثابت الأساس، قبل ميلاد المسيح بعدة قرون، ولا يزال هذا الفن موطد الدعائم في بلاد الصين إلى يومنا هذا رغم ما عاناه بسبب الحروب الكثيرة. وتقول الأقاصيص الصينية إن أول من صور بالألوان في الصين امرأة تسمى لي وهي أخت الإمبراطور الصالح شوين. وقد ساء
صفحة رقم : 1281
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأقصى -> الصين -> عصر الفنانين -> التصوير -> أساتذة فن التصوير الصيني

ذلك أحد الناقدين فقال: "مما يؤسف له أشد الأسف أن يكون هذا الفن القدسي من اختراع امرأة"(64).
ولم يبق شيء من الصور التي رسمت في عهد أسرة جو. لكن الذي لا شك فيه أن الفن في عهد هذه الأسرة كان قد تقادم عهده، ويدلنا على ذلك تقرير كتبه كونفوشيوس يقول فيه إنه: أعجب أشد الإعجاب بالمظلمات التي رآها في الهيكل العظيم المقام في لو - يانج (65).

أما في أيام أسرة هان فحسبنا دليلاً على انتشار التصوير أن كاتباً من الكتاب قد شكا من أن بطلاً يعجب به لم يُرسم له عدد كافٍ من الصور فقال: "إن الفنانين كثيرون فلم إذن لا يصوره أحداً منهم؟(66)" ومن القصص التي تروى عن واحد من مهرة الفنانين في عهد الإمبراطور لي - يه - إي الأول أنه كان في استطاعته أن يرسم خطاً مستقيماً لا ميل فيه طوله ألف قدم؛ وأن يرسم خريطة مفصلة للصين على السطح لا يزيد على بوصة مربعة، وأن في مقدوره أن يملأ فاه ماء ملوناً ثم يبصقه فيكون صورة، وأن الصور التي كان يرسمها للعنقاء قد بلغت من الإتقان حداً جعل الناس إذا نظروا إليها يتساءلون قائلين لم لا تطير من أمامهم؟(67). ولدينا ما يشير إلى أن فن التصوير الصيني بلغ إحدى درجاته القصوى من الكمال في بداية التاريخ الميلادي، ولكن الحروب محت كل دليل قاطع على هذا. ولقد تناوبت على الصين غلبة الفن والحرب في نزاعهما الأبدي القديم، منذ العهد الذي نهب فيه لويانج المحاربون من إقليم تشين (حوالي عام 249 ق.م) وأخذوا يحرقون كل ما لم يستطيعوا الانتفاع به، إلى أيام ثورة الملاكمين (1900م) حين كان جنود تونج جو يستخدمون الصور المرسومة على الحرير في المجموعة الإمبراطورية لحزم ما يريدون حزمه من الأمتعة. فكانت روائع الفن يحل بها الدمار ولكن الفنانين لم يكونوا يتوانون عن الخلق والابتداع.
صفحة رقم : 1282
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأقصى -> الصين -> عصر الفنانين -> التصوير -> أساتذة فن التصوير الصيني

ولقد أحدثت البوذية انقلاباً في شئون الدين والفن في بلاد الصين لا يقل في عمقه ومداه عن الانقلاب الذي أحدثته المسيحية في ثقافة البحر الأبيض المتوسط وفنونه. نعم إن الكنفوشية احتفظت بسلطانها السياسي في البلاد، ولكن البوذية امتزجت بالدّوية فأصبحت السلطة المهيمنة على الفن، وأنشأت بين الصينيين وبين البواعث والرموز والأساليب والأنماط الهندية صلات ذات أثر قوي.
وكان أعظم العباقرة من رجال مدرسة التصوير الصينية البوذية جوو - كاي -جيه، وهو رجل بلغ من قوة شخصيته وصفاته الفذة أن اجتمعت حوله أقاصيص وأساطير كثيرة. منها أنه أحب فتاة تسكن منزلاً يجاور منزله، فلما عرض عليها أن تتزوج به أبت لجهلها بما كانت تخبئه له الأيام من شهرة عظيمة، فما كان منه إلا أن رسم صورة لها على أحد الجدران وأنفذ شوكة في قلبها، فأشرفت الفتاة على الموت. ثم تقدم إليها مرة أخري فرضيت به، فرفع الشوكة عن صورتها فشفيت الفتاة من مرضها. ولما أراد البوذيون أن يجمعوا المال لتشييد هيكل في نانكنج وعد أن يمدهم بمليون كاش ، وسخرت الصين كلها من هذا الوعد، لأن جوو قد بلغ من الفقر ما يبلغه الفنان.
فقال لهم: "اسمحوا لي أن استخدم أحد الجدران"، فلما وجد الجدار واستطاع أن ينفرد بنفسه عنده رسم عليه صورة القديس البوذي أو إيمالا-كيرتي. ولما أتم الصورة دعا الكهنة، وأخذ يصف لهم طريقة جمع المال المطلوب فقال: "عليكم أن تطلبوا في اليوم الأول مائة ألف كاش" ممن يريد أن يدخل ليرى الصورة، "وأن تطلبوا في اليوم الثاني خمسين ألفاً. أما في اليوم الثالث فدعوا الزائرين أحراراً يتبرعون بما يشاءون". ففعلوا ما أمرهم به وجمعوا بهذه الطريقة مليون كاش(69). ورسم جو سلسلة طويلة من الصور البوذية كما رسم صوراً
صفحة رقم : 1283
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأقصى -> الصين -> عصر الفنانين -> التصوير -> أساتذة فن التصوير الصيني

أخرى غير بوذية، ولكننا لم يصلنا شيء من رسومه الموثوق بنسبتها إليه . وكتب ثلاث رسائل في التصوير بقيت بعض أجزائها إلى اليوم. ومن أقواله: أن أصعب التصوير تصوير الرجال، ويلي الرجال في الصعوبة تصوير المناظر الطبيعية ثم تأتي بعدهما الخيل والآلهة(72). وكان يصر على أنه فنان وفيلسوف معاً. ولما رسم صورة للإمبراطور كتب تحتها: "ليس في الطبيعة شيء عال لا ينحط بعد قليل... فالشمس إذا بلغت كبد السماء أخذت في الانحدار، والقمر إذا كمل وصار بدراً بدأ يتناقص. وتسنم المجد لا يقل صعوبة عن بناء جبل من حبات التراب؛ أما التردي في الهلاك فسهل كانسياب اللولب المشدود" ، وكان معاصروه يعدونه أعظم رجال زمانه في ثلاث نواح: في التصوير وفي الفكاهة وفي البلاهة(74).
وازدهر التصوير في بلاط الأباطرة من أسرة تانج، ومن الأقوال المؤيدة لهذا قول دوفو: "إن المصورين ليبلغون من الكثرة عدد نجوم الصباح، ولكن الفنانين منهم قليلون"(75).
وكتب جانج ين - يوان في القرن التاسع عشر كتاباً سماه: عظماء المصورين في جميع العصور وصف فيه أعمال ثلاثمائة وسبعين فناناً، ويقول فيه: إن الصورة التي يرسمها أحد أساتذة التصوير كانت تدر عليه وقتئذ نحو عشرين ألف أوقية من الفضة، ولكنه يحذرنا فيما بعد من أن نقدر الفن بالمال ويقول: "إن الصور الجميلة أعظم قيمة من الذهب واليشب، أما الصور الرديئة فلا تساوي الواحدة منها شقفة".
صفحة رقم : 1284
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأقصى -> الصين -> عصر الفنانين -> التصوير -> أساتذة فن التصوير الصيني

ولا نزال نعرف من المصورين في عهد أسرة تانج أسماء مائتين وعشرين، أما أعمالهم فلا يكاد يبقى منها شيء، لأن ثوار التتار الذين نهبوا شانج - آن في عام 756م لم يكونوا يعنون بهذا الفن؛ وفي وسعنا أن نلمح الجو الفني الذي كان يمتزج بشعر ذلك الوقت في قصة هان يو "أمير الأدب" الذائع الصيت.

وخلاصة هذه القصة أن هذا الأمير كسب من زميل له يقيم معه في منزل رقعة صغيرة اشتملت في أصغر مساحة مستطاعة على ثلاث وعشرين ومائة صورة من صور الآدميين، وثلاث وثمانين من صور الجياد، وثلاثين من صور الحيوانات الأخرى، وصور لثلاث عربات، وإحدى وخمسين ومائتي صورة لأشياء أخرى، ويقول هو عنها: "لقد فكرت كثيراً في أمر هذه الصورة لأني لم اكن أصدق أنها من عمل رجل واحد، فقد جمعت عدداً من المزايا المختلفة الأنواع، ولم يكن في وسعي أن أتخلى عنها مهما عرض عليّ من المال ثمناً لها. وفي العام الثاني غادرت المدينة وسافرت إلى هو - يانج، وحدث أن كنت في أحد الأيام أتحدث عن الفن إلى بعض الغرباء، وأخرجت لهم الصورة ليروها؛ وكان من بينهم رجل يدعى جو، يشغل وظيفة رقيب وكان ذا ثقافة عالية؛ فلما وقعت عينه على الصورة دهش أيما دهشة لرؤيتها ثم قال بعد تفكير طويل: "إن هذه الصورة من عمل يدي رسمتها في أيام شبابي، وهي منقولة عن صورة في معرض الفن الإمبراطوري، ولقد فقدتها منذ عشرين عاماً، وأنا مسافر في مقاطعة فوفين"، فما كان من هان يو إلا أن أهدى الصورة الصغيرة إلى جو.
ولقد نشأت في فن التصوير الصيني مدرستان مختلفتان إحداهما في الشمال والثانية في الجنوب، كما نشأت في الديانة الصينية مدرستان هي المدرسة الكنفوشية والمدرسة الدوِّية - البوذية، وكما نشأت في الفلسفة مدرستان إحداهما بزعامة جوشي والثانية بزعامة وانج يانج منج، تمثل الأولى ما يطلق عليه الغربيون العقلية
صفحة رقم : 1285
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأقصى -> الصين -> عصر الفنانين -> التصوير -> أساتذة فن التصوير الصيني

الاتباعية، وتمثل الثانية العقلية الابتداعية، فكان الفنانون الشماليون يتمسكون بالتقاليد الصارمة ويتقيدون في رسومهم بقيود العفة والوقار؛ أما أهل الجنوب فكانوا يعنون في تصويرهم بإبراز المشاعر والخيال. وعنيت المدرسة الشمالية أشد عناية بإبراز نماذج صحيحة متقنة من الأشكال التي تصورها وجعلها واضحة الخطوط والمعالم، أما المدرسة الجنوبية فقد ثارت كما ثار منتمارتر Montmarter على هذه القيود، فكانت تحتقر هذه الواقعية البسيطة ولا تستخدم الأشياء إلا عناصر في تجارب روحية، أو نغمات في مزاج موسيقي(77). ولقد وجد لي سو - شون وهو يصور في بلاط منج هوانج بين زعازع السلطة السياسية وعُزلة النفي ما يكفي من الوقت لتوطيد دعائم المدرسة الشمالية. وصور هو نفسه بعض المناظر الصينية الطبيعية وبلغ فيها درجة من الواقعية تناقلتها فيما بعد كثير من الأقاصيص. من ذلك قول الإمبراطور أنه يستطيع أن يستمع في الليل إلى خرير الماء الذي صوره لي على شاشة في قصره، وإن سمكة في صورة أخرى له دبت فيها الحياة ووجدت بعد في بركة -وليس لنا أن نلوم الصينيين على هذه الأقوال، فإن لكل أمة أقوالاً مثلها في مدح مصوريها.
ونشأت المدرسة الجنوبية مما أدخل على الفن من تجديد ومن عبقرية وانج واي، فلم يكن المنظر الطبيعي في طرازه التأثيري من طرز الفن أكثر من رمز لمزاج معين، وكان وانج شاعراً ومصوراً معاً، ولذلك عمل على ربط الفنين بعضهما ببعض، وذلك يجعل الصورة تعبر عن قصيدة. وفيه قال الناس لأول مرة العبارة التي طالما لاكتها الألسن حتى ابتذلت، والتي تنطبق كل الانطباق على الشعر والتصوير الصينيين كليهما وهي: "كل قصيدة صورة وكل صورة قصيدة" (وكان يحدث في كثير من الأحيان أن تنقش القصيدة على الصورة وأن تكون القصيدة نفسها مخطوطاً فنياً جميلاً). ويروى المؤرخون أن تونج جي-
صفحة رقم : 1286

قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأقصى -> الصين -> عصر الفنانين -> التصوير -> أساتذة فن التصوير الصيني

جانج قضى حياته كلها يبحث عن صورة أصلية من عمل وانج ويه .
وأعظم المصورين في عهدة أسرة تانج، وأعظم المصورين في الشرق الأقصى كله بإجماع الآراء، رجل علاً فوق فروق مدرستي التصوير السالفتي الذكر، وكان من الذين حافظوا على التقاليد البوذية في الفن الصيني، واسم هذا المصور وو دَوْ - دزه؛ ولقد كان في الحق خليقاً باسمه فإن معنى هذا الاسم هو وو أستاذ الدو أو الطريقة، ذلك أن جميع التأثرات والأفكار المجردة، التي وجدها لو دزه وجوانج دزه أدق من أن تعبر عنها الألفاظ، وقد بدت وكأنها تنساب انسياباً طبيعياً في صورة خطوط وألوان يجري بها قلمه، ويصفه أحد المؤرخين الصينيين بقوله: "إنه كان شخصاً معدماً يتيماً، ولكنه وهب فطرة إلهية، فلم يكد يلبس قلنسوة البلوغ حتى كان من أساتذة الفن، وحتى غمر لو - يانج بأعماله". وتقول الروايات الصينية إنه كان مغرماً بالخمر وبأعمال القوة، وإنه كان يعتقد - كما يعتقد الشاعر الإنكليزي بو
Poe - أن الروح تخرج أحسن ثمارها تحت تأثير قليل من السكر(81). وقد برز في كل موضوع صوره؛ في الرجال والأرباب والشياطين وفي تصوير بوذا بأشكال مختلفة، وفي رسم الطيور والوحوش والمباني والمناظر الطبيعية - وكانت كلها تأتيه طائعة لفنه الخصيب؛ وبرع في الرسم على الحرير والورق والجدران الحديثة الطلاء فكانت هذه كلها عنده سواء. وقد أنشأ ثلاثمائة مظلم للهياكل البوذية منها مظلم يحتوي على صورة ألف شخص لا تقل شهرته في الصين عن شهرة "يوم الحساب" أو صورة "العشاء الأخير" في أوربا. وكانت ثلاث وتسعون صورة من صوره في معرض الصور الإمبراطوري في القرن الثاني عشر بعد أربعمائة سنة من وفاته، ولكنها لم يبق منها شيء في مكان ما في الوقت الحاضر. ويحدثنا الرواة أن الصور التي رسمها لبوذا "قد كشفت عن أسرار الحياة

صفحة رقم : 1287
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأقصى -> الصين -> عصر الفنانين -> التصوير -> أساتذة فن التصوير الصيني

والموت". وقد بلغ من تأثير صوره التي تمثل الحشر أن ارتاع من رؤيتها بعض القصابين والسماكين فنبذوا حرفتيهم المشينتين غير البوذيتين.
ولما رسم صورة تمثل رؤيا منج هوانج أيقن الإمبراطور أن وو قد رأى هو أيضاً رؤيا مثلها(82). ولما أرسل الملك وو ليرسم منظراً على ضفة نهر جيالنج في ولاية سشوان هاله أن لا يعود الفنان دون أن يرسم خطاً واحداً، فقال له وو: "لقد وعيته كله في قلبي". ثم انفرد بنفسه في حجرة من حجر القصر وأخرج، كما يؤكد لنا المؤرخون، مناظر تمثل ألف ميل . ولما أراد القائد باي أن ترسم له صورة طلب إليه وو ألا يقف أمامه ليرسمه، بل أن يلعب بالسيف، فلما فعل أخرج المصور له صورة لم يسع معاصريه إلا أن يقولوا أنها قد أوحي إليه بها ولم تكن من عنده. وقد بلغ من شهرته أن أقبلت "شانج - آن" على بكرة أبيها لتشاهده وهو يختتم رسم بعض الصور البوذية في هيكل شنج شان. ويقول مؤرخ صيني من مؤرخي القرن التاسع إنه لما أحاط به هذا الجمع الحاشد "رسم الهالات بسرعة عجيبة عنيفة بدا للناس معها كأن يده يحركها إعصار، وصاح كل من رآه أن إلهاً من الآلهة كان يساعده"(85): ذلك أن الكسالى لا يفتئون يعزون العبقرية "لوحي" يوحى لمن ينتظر هذا الإيحاء.
وتقول إحدى القصص الطريفة إنه لما طال الأجل بوو رسم منظراً طبيعياً كبيراً، ودخل في فم كهف مصور في هذا المنظر، ولم يره أحد بعد دخوله فيه(86). ولا جدال في أن الفن لم يصل قط إلى ما أوصله إليه هو من إتقان وإبداع.
وأصبح الفن في عهد أسرة سونج شهوة عارمة عند الصينيين، ذلك أنه بعد أن تحرر من سيطرة الموضوعات البوذية عليه غمر البلاد بما لا يحصى من الصور المختلفة، ولم يكن الإمبراطور هواي دزونج نفسه أقل الثمانمائة الرسامين المشهورين في أيامه.
صفحة رقم : 1288

قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأقصى -> الصين -> عصر الفنانين -> التصوير -> أساتذة فن التصوير الصيني

ومن الكنوز المحفوظة بمتحف الآثار الجميلة ببسطن ملف صوّر فيه هذا الإمبراطور في بساطة عجيبة ووضوح أعجب المراحل المختلفة التي تسير فيها عملية إعداد الحرير على يد النساء الصينيات(87). ومن أعماله أنه أنشأ متحفاً للفن جمع فيه أكبر مجموعة من الروائع الفنية عرفتها الصين من بعده(88)؛ وأنه رفع المجمع الفني من فرع تابع للكلية الأدبية لا غير إلى معهد مستقبل من الدرجة الأولى، واستبدل الاختبار في الفن ببعض الاختبارات الأدبية التي جرت العادة بأن يمتحن فيها طلاب المناصب السياسية، ورفع رجالاً إلى مناصب الوزراء لأنهم برعوا في الفن بقدر ما رفع إليها غيرهم لأنهم برعوا في السياسة(89). وسمع التتار بهذا كله فغزوا الصين وأنزلوا الإمبراطور عن عرشه، ونهبوا المدينة وعاثوا فيها فساداً، ودمروا كل الصور المحفوظة في المتحف الإمبراطوري إلا القليل، وكانت سجلات هذه الصور تملأ عشرين مجلداً(90). وساق الغزاة الإمبراطور الفنان أمامهم ومات في ذل الأسر.
صفحة رقم : 1289
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأقصى -> الصين -> عصر الفنانين -> التصوير -> أساتذة فن التصوير الصيني

وكان أجل من هذا الإمبراطور الفنان شأناً رجلان من غير الأسر المالكة هما جوو شي، ولي لونج - مين. "ويقول الناقدون والفنانون إن جوو شي بز جميع معاصريه في تصوير أشجار الصنوبر الباسقة، والدوحات الضخمة، والمياه الدوامة، والصخور الناتئة، والجروف الوعرة، وقلل الجبال السامقة التي لا يحصى عديدها" . وكان لي لونج - مين فناناً وعالماً وموظفاً ناجحاً ورجلاً سميذعاً يجله الصينيون ويرون فيه مثلاً أعلى لما يجب أن يكون عليه الصيني المثقف. وقد بدأ أولاً بالخط ثم انتقل منه إلى الرسم بالخطوط ثم بالألوان، وقلما كان يستخدم في هذا كله شيئاً غير المداد؛ وكان يفخر بمحافظته الشديدة على تقاليد المدرسة الشمالية، ويبذل جهوده كلها في ضبط الخطوط ودقتها. وقد برع في رسم الخيل براعة بلغ منها أن اتهمه الناس حين ماتت ستة منها بأن الصورة التي رسمها لها قد سلبتها أرواحها؛ وإن حذره كاهن بوذي من أنه سيصبح هو نفسه جواداً إذا دأب على العناية برسم الجياد بدقته المعهودة، فما كان منه إلا أن قبل نصيحة الكاهن وصور خمسمائة لوهان . وفي وسعنا أن ندرك شهرته إذا عرفنا أن معرض هواي دزونج الإمبراطوري حين نُهب كان يحتوي على مائة صورة وسبع صور من عمل لي لونج - مين وحده.
ونبغ في عهد أسرة سونج عدد كبير من أساتذة الفن، نذكر منهم مي فاي وهو عبقري غريب الأطوار، كان لا يُرى إلا وهو يغسل يديه أو يغير ملابسه إذا لم يكن يشتغل بجمع أعمال رجال الفن القدماء، أو يرسم صوراً لمناظر طبيعية
صفحة رقم : 1290
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأقصى -> الصين -> عصر الفنانين -> التصوير -> أساتذة فن التصوير الصيني

"بطريقة التنقيط" أي بنقط من المداد يضعها دون أن يستعين بالخطوط الخارجية . ومنهم أيضا شيه جواي وقد رسم ملفاً طويلاً يحتوي على مناظر متفرقة بنهر يانج - دزه من منابعه الصغيرة، ومجراه، مخترقاً اللويس والخوانق إلى مصبه الواسع الخاص بالسفن التجارية وبالقوارب الصغيرة (السمبان)؛ وهذا الملف قد جعل بعض الفنانين(93) يضعون صاحبه على رأس مصوري المناظر الطبيعية في الشرق والغرب على السواء. ومن مشهوري المصورين في هذا العهد مايوان، ويزدان متحف الفن الجميل في بسطن بمناظر طبيعية أنيقة، ومناظر مصورة عن
صفحة رقم : 1291
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأقصى -> الصين -> عصر الفنانين -> التصوير -> أساتذة فن التصوير الصيني

بعد%=@ومن أروع الصور صورة "السيدة لنج - جاو واقفة بين الثلوج". والصورة تمثل السيدة (وهي صوفية بوذية من نساء القرن الثامن) ساكنة غارقة في التفكير كأنها سقراط واقف وسط الثلوج في بلاتيه. ويخيل إلينا أن الفنان يقول "إن العالم لا وجود له إلا إذا أدرك العقل وجوده، وإن في وسع العقل أن يتجاهله إلى حين".@ . ومنهم ليانج كاي الذي رسم صورة فخمة للشاعر الصيني لي بو؛ وموتشي صاحب صورة النمر الرهيب، والزرزور، وصورة كوان ين الظريف المكتئب؛ وفي وسعنا أن نذكر غير هؤلاء كثيرين من المصورين الصينيين الذين لم يألف الغرب سماع أسمائهم أو يعيها إذا سمعها لغرابتها، ولكنهم في واقع الأمر نماذج من تراث الشرق العقلي العظيم. وما أصدق ما قاله عنهم فنلوزا
Fenollosa: "لقد كانت ثقافة أسرة سونج أنضج تعبير عن العبقرية الصينية"(95).

وإذا شئنا أن نقدر فن التصوير الصيني في أيام مجد أسرتي تانج وسونج، كنا كمن يحاولون من مؤرخي المستقبل أن يكتبوا عن عصر النهضة الإيطالية بعد أن فقدت جميع أعمال رفائيل وليوناردو دافنشي وميكل إنجلو. ويبدو أن فن التصوير الصيني قد كسر في ذرعه وهدر دمه لما توالى عليه من غارات جحافل البرابرة الذين دمروا روائعه وعاقوا تقدمه قروناً عدة. ومع أنه قد نبغ في عهد الأسر التي تربعت على عرش الصين بعد أسرتي تانج وسونج، الصينية منها والأجنبية، فنانون لهم رسوم بلغت مستوى عظيماً من الظرف أو القوة، فليس من هؤلاء الفنانين من يرقى إلى مستوى أولئك الرجال الذين عاشوا في جنان بلاط منج هوانج أو هواي دزونج. وخليق بنا إذا فكرنا في الصينيين ألا نفكر فيهم على أنهم مجرد شعب سلطت عليه الفاقة، وأضعفه فساد الحكم، وفرقته التحزبات والانقسامات السياسية، وأذلته الهزائم الحربية، بل يجب أن نفكر فيهم أيضاً على أنهم أمة شهدت في تاريخها الطويل عصوراً لا تقل في مجدها عن عصور بركليز وأغسطس وآل مديشي، وأنها قد تشهد عصوراً أخرى مثلها في مستقبل الأيام.

صفحة رقم : 1292
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأقصى -> الصين -> عصر الفنانين -> التصوير -> خصائص فن التصوير الصيني

2- خصائص فن التصوير الصيني
نبذ فن المنظور - الواقعية - الخط أسمى من اللون - الشكل
إيقاع - التصوير بالإيحاء - العرف والقيود - أمانة الفن الصيني وإخلاصه

ترى ما هي الخصائص التي تميز فن التصوير الصيني فتجعله يختلف كل الاختلاف عما أنتجته أية مدرسة أخرى من مدارس التصوير في التاريخ كله عدا تلاميذه في اليابان؟ إن أول ما نذكره من هذه الخصائص أن الصور الصينية ترسم على ملفات أو شاشات كبيرة، ولكن هذه مسألة تتعلق بالشكل الخارجي، وأهم منها وأعمق وأكثر صلة بالصفات الذاتية احتقار الصينيين للمنظور والظلال. فلما أن قبل مصوران أوربيان دعوة وجهها إليهم الإمبراطور كانج شي ليزينوا له قصوره رفض الإمبراطور ما عرضوه عليه من زينات لأنهم رسموا العمد البعيدة في صورهم أقصر من القريبة. وقال لهم الصينيون في هذا أن لا شيء يمكن أن يكون أكذب وأبعد عن الطبيعة من تمثيل المسافات حيث لا توجد مسافات مطلقاً(96).
ولم تستطع إحدى الفئتين أن تفهم آراء أخرى ومبادئها لأن الأوربيين اعتادوا أن ينظروا إلى المنظر وهم في مستواه، على حين أن الفنانين الصينيين قد اعتادوا أن ينظروا إليه من أعلاه(97). كذلك كان يخيل إلى الصينيين أن الظلال لا محل لها في نمط من أنماط الفن لا يهدف في زعمهم إلى محاكاة الحقيقة بل يهدف إلى إدخال السرور على النفس، وتمثيل الأمزجة، والإيحاء بالأفكار عن طريق الأشكال التامة الكاملة.
وكان الشكل كل شيء في هذه الصور، ولم تكن السبيل إلى إجادته غزارة اللون أو بهجته، بل كانت في انسجامه ودقة خطوطه. وكانت الألوان محرمة تحريماً باتاً في الرسوم الأولى، وظلت نادرة في رسوم أساتذة الفن؛ فقد كان هؤلاء يكتفون بالمداد والفرشاة؛ ذلك أن اللون لم يكن في رأيهم ذا صلة ما
صفحة رقم : 1293
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأقصى -> الصين -> عصر الفنانين -> التصوير -> خصائص فن التصوير الصيني

بالشكل، بل كان الشكل على حد قول شياه - هُو هو الانسجام؛ وأول معاني الانسجام عند الصينيين هو أن يكون الرسم الصيني السجل المرئي لحركة منسجمة أو رقصة تمثلها اليد(98)؛ ومعناه كذلك أن الشكل البديع يكشف عن "انسجام الروح" وعن جوهر الحقيقة وحركتها الهادئة(99). ومظهر الانسجام في آخر الأمر هو الخط - غير مستخدم في بيان حدود الأشياء ومحيطها الخارجي، بل مستخدم في بناء الأشكال التي تعبر عن النفس بطريق الإيحاء أو الرمز. وتكاد دقة الخطوط وجمالها أن يكونا وحدهما في فن التصوير الصيني السبب الوحيد في براعة التنفيذ المستقلة عن قوة الإدراك والشعور والخيال. ومن أجل هذا كان من واجب المصور أن يلاحظ ما يريد تصويره بصبر وعناية، وإن يكون ذا شعور قوي مرهف، وأن يضبط أحاسيسه أدق الضبط وأحكمه، وأن يتبين غرضه واضحاً، ثم ينقل بعد هذا على الحرير ما تمثله في خياله، نقلا لا يترك فيه مجالاً للإصلاح أو التعديل، وذلك بعدد قليل من الضربات المتواصلة السهلة. وقد وصل فن التصوير بالخطوط ذروة مجده في الصين واليابان، كما اقترب فن التلوين من ذروة مجده في البندقية وفي الأراضي الوطيئة.
ولم يُعن فن التصوير الصيني بالواقعية في يوم من الأيام، بل كان يهدف إلى الإيحاء أكثر مما يهدف إلى الوصف. أما "الحقيقة" فقد تركها للعلم ووهب نفسه للجمال. ولقد كان هذا النوع من التصوير فرعاً لم ينبت في غير بلاد الصين، ثم ترعرع وازدهر بعض الازدهار تحت سماء صافية، فأصبح كافياً لأن يستهوي نفوس أعظم أساتذة الفن ويملك عليهم تفكيرهم، وأن يكون تناولهم لرقعة التصوير الفارغة وتقسيمها تقسيماً يتناسب مع ما يريدون تصويره، أن يكون هذا وذاك محكاً تختبر به قدرتهم ومهارتهم. ومن الموضوعات التي كانت تعرض على طالبي الالتحاق بمجمع هواي دزونج للتصوير موضوع يوضح لنا مقدار توكيد الصينيين للإيحاء غير المباشر وعنايتهم به لا بالتصوير الصريح. ذلك أن المتسابقين

صفحة رقم : 1294
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأقصى -> الصين -> عصر الفنانين -> التصوير -> خصائص فن التصوير الصيني

كان يعرض عليهم أن يشرحوا بالرسم بيتاً من أبيات الشعر هو: "وعاد حافر جواده مثقلاً بعبير ما وطئه من الأزهار". وكان المتسابق الذي أحرز قصب السبق في هذا المضمار فناناً رسم صورة فارس ومن حول كعوب جواده سرب من الفرش.
ولما كان الشكل كل شيء فإن من الممكن أن يكون الموضوع أي شيء. وقلما كان الرجال مركز الصورة أو جوهرها؛ وإذا ما ظهروا فيها كانوا في كل الأحوال تقريباً شيوخاً وكانوا كلهم متقاربين في الشبه. وقلما كان المصور الصيني ينظر إلى العالم بعيني الشاب وإن لم يكن قط واضح التشاؤم في تصويره. ولقد رسم المصورون صوراً لبعض الأفراد ولكنها كلها صور لم تبلغ ما بلغه غيرها من الجودة والإتقان؛ ذلك أن الفنان الصيني لم يكن يعنى بالأفراد، وما من شك في أنه كان يحب الأزهار والحيوانات أكثر مما يحب الرجال، ولذلك أطلق لنفسه العنان في تصويرها؛ فترى هواي - دزونج وهو الذي كانت تأتمر بأمره إمبراطورية متسعة الأرجاء يهب نصف حياته لتصوير الطيور والأزهار. وكانت الأزهار والحيوانات كالأزورد والتنين تتخذ رموزاً غير مقصودة لذاتها في بعض الأحيان؛ لكنها في الأغلب الأعم كانت ترسم لأن سر الحياة وسحرها يتمثلان فيها كاملين كما يتمثلان في الإنسان نفسه، وكان الحصان محبباً للفنانين الصينيين بنوع خاص، ومن أجل هذا ترى فنانين كباراً مثل هان كان لا يكادون يعملون شيئاً غير رسم شكل في أثر شكل لهذا المخلوق الذي هو جسم حي للتخطيط الفني.

ولسنا ننكر أن التصوير في الصين قد لاقى الأمرّين من جراء التقاليد الدينية أولاً ومن القيود التي وضعها العلماء بعدئذ، وأن تقليد الأساتذة القدامى والنسج على منوالهم كانا من العوامل المعوقة في تدريب طلاب الفن، وأن الفنان كان في كثير من الأحوال يقيد بعدد من المسائل لا يسمح له أن يلجأ إلى
صفحة رقم : 1295
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأقصى -> الصين -> عصر الفنانين -> التصوير -> خصائص فن التصوير الصيني

غيرها في تشكيل مادته(100). وفي وسع القارئ أن يدرك قوة العرف والتقاليد من قول أحد كبار النقاد الفنيين في عهد آل سونج: "لقد كنت في أيام شبابي أثني على الأستاذ الذي أحب صوره؛ فلما أن نضج عقلي أصبحت اثني على نفسي لأني أحببت ما اختاره الأساتذة لي لكي أحبه"(101)، وإنا ليدهشنا ما بقى في هذا الفن من حيوية بالرغم من قيود العرف والقواعد التي وضعت له. وفي وسعنا أن نقول في هؤلاء ما قاله هيوم عن كتاب عهد الاستنارة وهم الذين علا شأنهم رغم الرقابة المفروضة عليهم: "إن القيود التي عانى الفنانون ما عانوه منها قد أرغمتهم هي نفسها على أن يكونوا عظماء ممتازين".

وما من شك في أن الذي أنقذ المصورين الصينيين من وهدة الركود هو إخلاصهم في إحساسهم بالطبيعة. وقد استمدوا هذا الإحساس من مبادئ الدوية، وقوتها في نفوسهم البوذية إذ علمتهم أن الإنسان والطبيعة شيء واحد في مجرى الحياة وتغيرها ووحدتها. وكما أن الشعراء قد وجدوا في الطبيعة ملجأ يهرعون إليه من صخب المدن وكفاحها، وكما أن الفلاسفة كانوا يبحثون فيها عن نماذج للأخلاق وهادياً للحياة، كذلك كان المصورون يطيلون التأمل بجوار المجاري المائية المنعزلة ويوغلون في شعاب الجبال الشجراء، لأنهم يشعرون أن الروح الأعلى الذي لا يعرفون له اسماً قد عبر عن نفسه في هذه الأشياء الصامتة الخالدة تعبيراً أوضح مما عبر عنها في حياة الناس وأفكارهم المضطربة الهائجة . ولقد اتخذ الصينيون الطبيعة الشديدة القسوة عليهم، والتي تنفث الموت ببردها وفيضان أنهارها، اتخذوها إلههم الأعلى، ورضوا بذلك في قوة وطمأنينة، ولم يقبلوا أن يقدموا لها القرابين الدينية، بل رضوا بأن تكون فوق هذا معبود فلسفتهم
صفحة رقم : 1296
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأقصى -> الصين -> عصر الفنانين -> التصوير -> خصائص فن التصوير الصيني

وأدبهم وفنهم. وحسبنا شاهداً على قدم عهد الثقافة الصينية وعمقها أن الصينيين قد هاموا بحب الطبيعة قبل أن يهيم بها كلود لورين، وروسو، وورد سورث، وشاتو بريان بألف عام كاملة؛ وأنهم أنشئوا مدرسة من مصوري المناظر الطبيعية أضحت صورها في جميع بلاد الشرق الأقصى أسمى ما عبرت به الإنسانية عن مشاعرها.

صفحة رقم : 1297
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأقصى -> الصين -> عصر الفنانين -> الخزف الصيني

الفصل الخامس
الخزف الصيني
فن الخزف - صنع الخزف - تاريخه القدي م- اللون الأخضر الحائل - الطلاء
بالميناء - براعة هاوشي جيو - تقاسيم الطلاء - عصر كانج شي - عصر تشين لونج

اذا اخذنا نتحدث عن الفن الذي تمتاز به الصين عن سائر الامم، والذي لا يجادل احد في انها هي حاملة لوائه في العالم كله، وجدنا في انفسنا نزعة قوية إلى اعتبار الخزف صناعة من الصناعات. ولما كانت كلمة "الصيني" اذا وردت على لساننا ارتبطت في عقولنا بالمطبخ وادواته. فاننا اذا ذكرنا الفاخورة تمثلنا من فورنا المكان الذي يصنع فيه "الصيني"، وظننا هذا المكان مصنعاً ككل المصانع لا تثير منتجاته في النفس روابط عليا سامية. اما الصينيون فقد كانت صناعة الخزف عندهم فناً من الفنون الكبرى، تبتهج له نفوسهم العملية المولعة مع ذلك بالجمال، يجمع بين النفع وبهاء المنظر.
فلقد امدهم هذا الفن بآنية يستخدمونها في شرابهم القومي الشهير- شراب الشاي- جميلة في ملمسها ومنظرها، وازدانت منازلهم باشكال بلغت كلها من الجمال حدا تستطيع معه افقر الاسر ان تعيش في صحبة نوع من انواع الكمال، لقد كان فن الخزف هو فن النحت عند الصينيين.
ولفظ الفخار يطلق اولاً على الصناعة التي تحيل الطين بعد حرقه إلى ادوات صالحة للاستعمال المنزلي، ويطلق كذلك على الفن الذي يجمل هذه الادوات، وعلى الادوات التي تنتجها هذه الصناعة؛ والخزف هو الفخار المزجج اي انه هو الطين الممزوج بالمعادن والذي اذا عرض للنار ساح واستحال إلى مادة نصف
صفحة رقم : 1298
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأقصى -> الصين -> عصر الفنانين -> الخزف الصيني

شفافة شبيهة بالزجاج . وقد صنع الصينيون الخزف من مادتين الكولين- وهو طين ابيض نقي مكون من فتات الفلسبار والحجر الأعبل )الجرانيت(، ومن البي- تن- دزي وهو كوارتز ابيض قابل للانصهار، هو الذي يكسب الأواني الخزفية ما فيها من الشفافية. وتسحق هذه المواد كلها وتخلط بالماء فتتكون منها عجينة تشكل باليد او على عجلة، ثم تعرض لدرجة حرارة مرتفعة تصهر العجينة وتحيلها إلى مادة زجاجية براقة صلبة.

وكان يحدث في بعض الاحيان ألا يقنع الخزاف بهذا النوع الابيض البسيط، فكان يغطي "العجينة" اي الاناء قبل حرقه بطبقة من مسحوق الزجاج، ثم يحرق في اتون. وكان في بعض الاحيان يضع هذه الطبقة الزجاجية على العجينة بعد حرقها قليلاً ثم يعيد حرق الاناء بعدئذ. وكانت الطبقة الزجاجية تلون في اغلب الاحيان، ولكن العجينة كثيراً ما كانت تنقش وتلون قبل ان تضاف اليها المادة الزجاجية الشفافة او تلون الطبقة الزجاجية بعد حرقها ثم تثبت عليها بحرقها مرة ثانية. اما الميناء فقد كانت تصنع من الزجاج الملون يدق ويسحق ثم يحول إلى مادة سائلة يضعها الرسام على الآنية بفرشاته الرفيعة. وكان من الصينيين اخصائيون قضوا حياتهم في التدريب على عملهم؛ تخصص بعضهم في رسم المناظر الطبيعية، وغيرهم في رسم القديسين والحكماء المنقطعين للتأمل والتفكير بين الجبال، او الذين يمتطون ظهور حيوانات غريبة فوق امواج البحار.
وصناعة الفخار عند الصينيين قديمة العهد قدم العصر الحجري، فقد عثر الاستاذ اندرسن على اواني من الفخار في هونان وكانسو "لايمكن ان تكون احدث عهداً من عام 3000 ق. م". وان ما تتصف به تلك المزهريات
صفحة رقم : 1299
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأقصى -> الصين -> عصر الفنانين -> الخزف الصيني

من جمال فائق في الشكل وفي الصقل ليدل دلالة قاطعة على ان هذه الصناعة قد اصبحت فناً من الفنون الجميلة قبل ذلك العهد بزمن طويل. وبعض القطع التي عثر عليها شبيهة بفخار أنو، وتوحى بأن الحضارة الصينية مأخوذة عن حضارة البلاد الواقعة في غربها. وهناك قطع من الاواني الفخارية الجنازية كشفت في هونان وتعزى إلى عهد اضمحلال اسرة شانج ولكنها احد كثيراً من بقايا العصر الحجري الحديث السالفة الذكر.

ولم يعثر المنقبون بعد عذر هذه الاسرة على بقايا من الفخار ذات فنية قبل ايام اسرة هان، ففي عهد هذه الاسرة عثروا على فخار وعثروا فوق ذلك على اول اناء من الزجاج عرف في الشرق الاقصى ، وكان انتشار عادة شرب الشاي في عهد اباطرة تانج باعثاً قوياً على تقدم فن الخزف. وقد كشفت العبقرية، او المصادفة المحضة، حوالي القرن التاسع ان من المستطاع صنع اناء مزجج لا منسطحه الخارجي فحسب )كالآنية المصنوعة في عهد اسرة هان وفي حضارات غير حضارة الصين قبل ذلك العهد(، بل زجاجي كله من اوله إلى آخره- اي من خزف حقيقي. وقد كتب احد الرحالة المسلمين المدعو سليمان إلى بني وطنه يقول: "ان في الصين طيناً رقيقاً جميلاً يصنعون منه اواني شفافة كالزجاج يُرى من جدرانها ما في داخلها من الماء". وقد كشفت اعمال التنقيب الحديثة في موضع احدى المدن القديمة عند سر من رأى على نهر دجلة قطعاً من الخزف من صنع الصين. وظهر الخزف بعدئذ في السجلات خارج بلاد الصين حوالي عام 1171 م حين اهدى صلاح الدين إلى سلطان دمشق احدى واربعين قطعة من الخزف(105).
صفحة رقم : 1300
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأقصى -> الصين -> عصر الفنانين -> الخزف الصيني

وليس ثمة شاهد على ان صناعة الخزف قد بدأت في اوربا عام 1470 م، فقد ذكر في ذلك العام على انه فن جميل اخذه البنادقة عن العرب في اثناء الحروب الصليبية.

وكان عهد اسرة سونج هو العهد الذي بلغ فيه فن الخزف الصيني ذروة مجده. وخبراء هذا الفن يعزون إلى هذا العهد اقدم ما لدينا من الآنية الصينية واحسنها، بل ان صناع الخزن في عهد اسرة منج، وهم الذين جاءوا بعد هذا العصر ونبغ فيه بعضهم نبوغ فنانيه، حتى هؤلاء كانوا اذا ذكروا خزف اسرة سونج ذكروه بالاجلال والاكبار، وكان جامعوا العاديات الصينية يحتفظون بما يعثرون عليه من خزف هذه الاسرة ويعدونه من الكنوز التي لاتقوم بمال. وأنشئت في القرن السادس الميلادي مصانع عظيمة في جنج ده- جن حيث توجد الرواسب الغنية من المعادن التي تستخدم في صنع الفخار وتلوينه واعترف البلاد الامبراطوري بهذه المصانع رسمياً، وبدأت تغمر الصين بفيض من الصحاف الخزفية والاقداح والجفان والمزهريات والطاسات والاباريق والقنينات والجرار والصناديق ورقع الشطرنج والماثلات والخرائط. وحتى مشاجب القبعات كانت تصنع من الخزف المطلى بالميناء والمرصع بالذهب؛ وظهرت في ذلك الوقت لأول مرة القطع ذات اللون الاخضر اليشبي المعروفة بالسلادون والتي اصبحت محاكاتها اهم مايصبو اليه الفخراني في الوقت الحاضر، كما اصبح اقتناؤها أهم ما يصبو إليه جامع التحف . وقد أرسل سلطان مصر في 1487 نماذج منها إلى لورنزو ده
صفحة رقم : 1301
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأقصى -> الصين -> عصر الفنانين -> الخزف الصيني

مديشي، وكان الفرس والاتراك يقدرونها لا لنعومة ملمسها وشدة بريقها فحسب، بل لأنها فوق هذا تكشف عن وجود السم، فقد كانوا يعتقدون ان تلك الآنية يتغير لونها اذا وضعت فيها مواد مسمومة. وترى اسر الخبيرين المولعين بهذا الفن يتوارثون هذه القطع جيلا بعد جيل؛ ويحتفظون بها احتفاظ الناس باثمن الكنوز.

ولقد ظل الصناع في عهد اسرة منج نحو ثلثمائة عام يبذلون اقصى ما يستطيعون من جهود ليحتفظوا بفن الخزف في المستوى الرفيع الذي بلغه في عهد اسرة سونج، وليس في مقدورنا ان نقول انهم عجزوا عن بلوغ هذه الغاية. وكان في جنج ده- جن خمسمائة اتون لحرق الخزف، وكان البلاط الامبراطوري وحده يستخدم 96000 قطعة خزفية لتزيين حدائق القصور وموائدها وحجراتها. وظهرت في ايام هذه الاسرة اول قطع جيدة من الميناء التي حرقت الوانها بعد تزجيجها. واتقن صنع اللون الاصفر الواحد؛ والخزف الازرق والابيض الذي يشبه في رقته قشر البيض، إلى اقصى حدود الاتقان ولايزال القدح الازرق والابيض المطعم بالفضة والمسمى باسم الامبراطور واندلي )اوشن دزونج( يعد من آيات فن الخزف في العالم كله إلى هذه الايام.
وكان هاوشي- جي من ابرع صناع الخزف واعظمهم خبرة في ايام واندلي. وكان في مقدوره ان يصنع اقداحاً للنبيذ لايزيد وزن الواحد منها على جزء من ثمانية واربعين جزءاً من الاوقية، ويروى احد المؤرخين الصينيين ان هاوشي- جي زار في يوم من الايام بيت موظف كبير، واستأذنه في ان يفحص عن وعاء من الخزف ذي ثلاث ارجل يمتلكه هذا الكبير ويعد من أثمن ما صنع في عهد أسرة سونج.
صفحة رقم : 1302
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأقصى -> الصين -> عصر الفنانين -> الخزف الصيني

واخذ هاو يلمس الاناء بيديه برقة ولطف، وهو ينقل ما عليه من الرسوم سرا على قطعة من الورق مخبأة في كمه. ثم عاد لزيارة هذا الموظف بعد ستة اشهر من زيارته الاولى، وقال له: "انك يا صاحب السعادة تمتلك مبخرة ذات ثلاث ارجل من الدنج- ياو الابيض ، وها هي ذي مبخرة مثلها امتلكها انا". واخذ نانج الموظف الكبير يوازن بين هذه المبخرة ومبخرته، ولكنه لم يستطيع ان يتبين فرقاً ما بينهما. وبلغ من تشابههما ان قاعدة مبخرة الفنان وغطاءها قد واءما مبخرته كل المواءمة. واقرها وهو يبتسم ان مبخرته تقليد لمبخرة العظيم، ثم باعها نانج بستين قطعة من الفضة، وباعها هذا بعدئذ بألف وخمسمائة.
وقد بلغت صناعة الخطوط الفاصلة بين الميناء اقصى حد من الاتقان في عهد اسرة منج. ولم يكن منشأ هذا الفن في بلاد الصين بل جاء اليها من بلاد الشرق الادنى في ايام الدولة البيزنطية، وكان الصينيون يسمون مصنوعات هذا الفن في بعض الاحيان جوى جودياو، اي آنية بلاد الشياطين. وهذا الفن يتكون من قطع شرائح من النحاس او الفضة او الذهب، وتثبيتها على حدها فوق خطوط شكل رسم من قبل على جسم معدني، ثم ملء ما بين هذه الفوارق من فراغ بميناء من اللون المطلوب الملائم لها، ثم تعريض الاناء بعدئذ للنار عدة مرات ودلك السطح الصلب بقطعة من حجر الخفاف وصقله بقطعة من فحم الخشب، ثم تزليق اطراف الحواجز
المعدنية الظاهرة. واقدم ما عرف من منتجات هذا الفن في الصين مرايا استوردتها نارا في اليابان في منتصف القرن الثامن عشر. واقدم الاواني المحددة التاريخ ترجع إلى اواخر العهد المغولي او إلى ايام اسرة يوان، واحسنها كلها ما صنع في ايام الامبراطور جنج دي
صفحة رقم : 1303
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأقصى -> الصين -> عصر الفنانين -> الخزف الصيني

من اباطرة المنشو العظماء في القرن الثامن عشر الميلادي.

ودمرت المصانع التي كانت قائمة في عهد اسرة جنج ده- جين في اثناء الحروب التي قضت على اسرة منج، ولم تعد إلى سابق عهدها إلا بعد ان جلس على العرش امبراطور من اعظم اباطرة الصين استنارة وهو الامبراطور كانج- شي، وكان ملكا اصيلاً جمع كل صفات الملوك كما جمعها معاصره لويس الرابع عشر. وقد امر هذا الملك باعادة بناء مصانع جنج ده- جين، وسرعان ما اوقدت النار في ثلاثة آلاف اخذت تعمل عملها المتواصل، فاخرجت خزفاً جميلاً ظريفاً بلغ من الكثرة درجة لم تر الصين ولاغيرها من البلاد مثيلاً لها من قبل. وكان صناع كانج شي يظنون ان آنيتهم اقل جودة مما صنع في عهد اسرة منج، ولكن الخبيرين باصول الفن في هذه الايام لايوافقونهم على رأيهم، بل يرون ان الاشكال القديمة قد قلدت تقليداً بلغ اقصى درجات الكمال، وان اشكالاً جديدة كثيرة العدد مختلفة الانواع قد ابتكرت وارتقت رقيا عظيماً.

وكان في مقدور الفنانين في عهد اباطرة المنشو ان يغطوا عجينة الخزف بطبقة زجاجية تختلف عنها في سرعة انصهارها، فاخرجوا بذلك اواني ذات سطح مسنن؛ ثم كان في مقدورهم ان ينفخوا فقاعات من اللون على السطح الزجاجي فاخرجوا بذلك الصحاف الرفيعة المغطاة بدوائر صغيرة من الالوان. واتقنوا كذلك فن التلوين بلون واحد واخرجوا ظلالاً من اللون الاحمر الخوخي، والمرجاني، والياقوتي، والقرمزي، ودم الثور )الاحمر القاتم( والوردي؛ واخرجوا من اللون الاخضر الخياري، والتفاحي، والطاووسي، والنباتي، والسلادون، )الاخضر الحائل(؛ ومن اللون الازرق "المزران"، والسماوي،، والبنفسجي الفاتح والفيروزجي؛ ومن اللونين الاصفر والابيض ضروباً ملساء مخملية كل ما يستطيع الانسان ان يصفها به انها النعومة ذاتها تُرى رأى العين. وابتدعوا انماطاً مزخرفة يطلق عليها جامعو التحف الفرنسيون الاسر الوردية؛ والخضراء، والسوداء، والصفراء . وقد اتقنوا ذلك الفن الشاق فن تعدد الالوان بتعريض الاناء في التنور إلى تيارات متعاقبة من الهواء الصافي والمحمل بالسناج- الاول يُدخل فيه الأكسجين، والثاني يمتصه منه- بحيث يتحول الطلاء الزجاجي الاخضر إلى لهب متعدد الالوان. وكانوا يرسمون على بعض آنيتهم صور كبار الموظفين في اثواب فضفاضة ذات ذيول طويلة، فابتدعوا بذلك طراز الآنية المعروفة "بالمندرين" )طراز كبار الموظفين(. وكانوا يرسمون ازهار البرقوق باللون الابيض فوق ارضية زرقاء )او سوداء في قليل من الاحيان(، وهم الذين ابتدعوا ما للمزهريات التي في صورة العوسج من رقة ورشاقة.

وكان آخر ما مر به الخزف الصيني من عهود المجد في عهد تشين لونج الرخى الطويل. ولم يقل الانتاج في ذلك العهد عما كان عليه في العهود التي تقدمته، كما ان مهارة الصناع الممتازين لم تفقد شيئاً من عظمتها وتفوقها وان لم تحظ بعض الاشكال الجديدة بما كانت تحظى به مبتكرات عهد كانج شي من نجاح. وقد بلغت الاسرة الوردية في هذا العهد اعلى درجات الكمال. فقد انتشرت فيه نصف ازهار الطبيعة وفاكتها فوق ابهى الطبقات الزجاجية، كما كان ذوو الثراء المترفون يستخدمون الخزف الثمين الذي لايزيد سمكه على سمك قشرة البيض غطاء لاضواء المصابيح. ثم شبت نار فتنة تاي- بنج ودامت خمسة عشر عاماً جرت فيها الدماء انهاراً، ودمرت فيها خمس عشرة ولاية من الولايات الصينية، وهدمت ستمائة مدينة، واهلكت عشرين مليوناً من الرجال والنساء واقفرت اسرة المنشو اقفاراً اضطرها إلى ان تحبس معونتها عن مصانع الخزف، فاغلقت هذه المصانع ابوابها؛ وتشتت صناعها في انحاء العالم المضطرب.
ولم يفق فن الخزف الصيني حتى الان ما صابه من الدمار في اثناء هذه الفتنة
صفحة رقم : 1304
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأقصى -> الصين -> عصر الفنانين -> الخزف الصيني

الصماء ولعله لن يفيق منها أبداً. ذلك أن عوامل أخرى قد ضاعفت من آثار
صفحة رقم : 1305
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأقصى -> الصين -> عصر الفنانين -> الخزف الصيني

الحرب المخربة ومن امتناع الرعاية الامبراطورية؛ منها ان نمو تجارة الصادرات قد اغرى الفنانين بان يخرجوا قطعاً خزفية توائم ذوق المشترين الاوربيين.
واذ كان ذلك الذوق لايبلغ من السمو ما بلغه ذوق اهل الصين فان القطع المنحطة قد طردت القط الثمينة من التداول، كما تطرد العملة الرديئة العملة الطيبة حسب قانون جريشام .

وما ان حل عام 1840 حتى شرع مصنع انجليزي اقيم في مدينة كانتون يخرج انواعاً منحطة من الخزف ويصدرها إلى اوربا ويسميها "الاواني الصينية". ثم قامت مصانع في سيفر بفرنسا، ومايسن في المانيا وبورسلم في انجلترا تحاكي خزف الصينيين، وقللت من نفقات الانتاج باستخدام الآلات، واخذت تستحوذ عاماً بعد عام على تجارة الخزف الصينية الخارجية.
وكل ما بقى حتى الان هو ذكرى ذلك الفن الذي خسره العالم خسارة كاملة لاتكاد تقل عن خسارته لزجاج العصور الوسطى الملون. ولقد عجز الخزافون الاوربيون رغم ما بذلوه من محاولات وجهود جبارة عن ان يبلغوا ما بلغه الخزافون الصينيون من الدقة والمهارة. وحسب الفنانين الصينيين فخراً ان الخبراء العالميين يضاعفون في كل عقد من السنين اثمان ما بقى من روائع فن الخزف الصيني، فتراهم يطلبون خمسمائة ريال ثمناً لقدح الشاي، ويبيعون المزهرية التي يفي صورة شجرة العوسج بثلاثة وعشرين ألف ريال، وفي عام 1767 وصل ثمن إناءين من الخزف بلون العقيق يعرفان "بكلبي فو" في احد المزادات إلى خمسة اضعاف ما وصل اليه ثمن صورة "الطفل يسوع" لجيدورتي، والى ثلاثة امثال ما وصل اليه ثمن صورة "الاسرة المقدسة" لرفائيل(115). على أن كل من أحس بعينيه وأصابعه، وبكل عصب من اعصاب جسمه، جمال الخزف الصيني يغضب
صفحة رقم : 1306
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأقصى -> الصين -> عصر الفنانين -> الخزف الصيني

بلا ريب من هذا التقدير الضئيل ويعده إهانة للفن الصيني وازدراء به وتدنيساً لقدسيته. ذلك ان دنيا الجمال ودنيا المال لا تلتقيان ابداً حتى في الوقت الذي تباع فيه الاشياء الجميلة. وحسبنا تقديراً للخزف الصيني ان نقول ان هذا الخزف هو ذروة الحضارة الصينية ورمزها، وانه من انبل ما صنعه الجنس البشري ليبرز به وجوده على ظهر الارض.

صفحة رقم : 1307

قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأقصى -> الصين -> الشعب والدولة -> نبذة تاريخية -> ماركو بولو يزور كوبلاي خان

الباب السادس والعشرون
الشعب والدولة
الفصل الأول
نبذة تاريخية
1- ماركو بولو يزور كوبلاي خان
رحالة لا يصدَّقون - بندقي في الصين - جمال هانجتشان
ورخاؤها - قصور بيجنج - فتح المغول - جنكيز خان -
كوبلاي خاي - أخلاقه وسياسته - نساؤه - "ماركو الملايين"
في عصر البندقية الذهبي حوالي عام 1295م أقبل على المدينة رجلان طاعنان في السن ومعهما رجل كهل وقد أنهكهم التعب وأضنتهم الأسفار، يحملون متاعهم على ظهورهم ويلبسون أسمالاً بالية، ويعلوهم العثير، ثم طلبوا إلى أهل المدينة أن يأذنوا لهم بدخول موطنهم الذي غادروه كما زعموا منذ ستة وعشرين عاماً، فلما تردد مواطنوهم في الإذن لهم دخلوا المدينة على الرغم منهم. وقال ثلاثتهم إنهم جابوا بحاراً مفعمة بالأخطار، وصعدوا فوق جبال وهضاب شامخة، واجتازوا صحاري ملأى باللصوص وقطاع الطريق، واخترقوا السور العظيم أربع مرات، وأقاموا عشرين عاماً في الخطأ ، وخدموا أعظم ملك في العالم كله. وأخذوا يحدثون مواطنيهم عن إمبراطورية أوسع رقعة، ومدن أكثر سكاناً، وحاكماً
صفحة رقم : 1308
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأقصى -> الصين -> الشعب والدولة -> نبذة تاريخية -> ماركو بولو يزور كوبلاي خان

أعظم ثروة، من كل ما عرفته قارة أوربا؛ وعن حجارة تتخذ للتدفئة، وورق يتعامل به الناس بدل الذهب، وعن بندق الواحدة منه أكبر من رأس الإنسان، وعن أمم تقف بكارة الفتيات فيها حجر عثرة في سبيل الزواج، وأمم غيرها يقدم المضيف فيها لضيوفه أزواجه وبناته ليستمتعوا بهنّ وهنّ راضيات(1). ولم يجد هؤلاء القادمون من أهل المدينة من يصدقهم، وأطلقوا على أصغر الثلاثة وأكثرهم ثرثرة لقب "ماركو الملايين" لأن ما كان يرويه لهم من القصص كان مملوءاً بالأعداد الكبيرة العجيبة(2).

ولم يبتئس ماركو وأبوه وعمه من هذا المصير، بل رضوا به مسرورين، لأنهم جاءوا معهم بكثير من الأحجار الكريمة من حاضرة البلاد القاصية، وأتت لهم هذه الأحجار بثروة رفعت منزلتهم في مدينتهم. ولما دارت رحى الحرب بين البندقية وجنوى في عام 1298م عقد لواء إحدى السفن الحربية لماركو، فلما أن استولى الأعداء على هذه السفينة وزج هو في أحد سجون جنوى حيث مكث عاماً كاملاً، أخذ يسلي نفسه بأن يملي على أحد الكتبة أشهر كتاب في الأسفار في آداب العالم؛ وقد قص فيه بأسلوب ساحر جميل خال من التكلف والتعقيد كيف غادر هو وأبوه نيقولو وعمه مافيو مدينة عكا ولما يتجاوز السابعة عشرة من عمره، وكيف تسلقوا جبال لبنان واجتازوا أرض الجزيرة إلى الخليج الفارسي، ثم اخترقوا بلاد فارس وخراسان وبلخ حتى وصلوا إلى هضبة البامير، ثم انضموا إلى بعض القوافل وساروا معها سيراً بطيئاً إلى كاشغر وخوتان، ثم اجتازوا صحراء جوبي إلى تنجوت، ثم اخترقوا السور العظيم إلى شانجتو حيث استقبلهم الخان الأكبر بوصفهم رسلاً أذلاء من الغرب الناشئ .
صفحة رقم : 1309
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأقصى -> الصين -> الشعب والدولة -> نبذة تاريخية -> ماركو بولو يزور كوبلاي خان

ولم يكونوا يظنون أنهم سيقيمون في الصين أكثر من عام أو عامين، ولكنهم وجدوا في تلك البلاد من الأعمال المجزية والفرص التجارية المربحة تحت حكم كوبلاي ما حملهم على البقاء فيها ما يقرب من خمسة وعشرين عاماً. وأثري ماركو بنوع خاص وارتقى في مناصب الدولة حتى عين حاكماً على هانجنشاو. ويصفها ماركو في كتابه وصف المعجب بها الحافظ لعهدها، فيقول إنها أرقى من بلاد أوربا بأجمعها في جمال مبانيها وجسورها وفي عدد مستشفياتها العامة ورشاقة دورها ذات الحدائق، وكثرة ما فيها من وسائل المتعة والفساد، وجمال سراريها وسحرهن، وقدرة حكامها على الاحتفاظ بالأمن العام والنظام، ورقة أهلها وحسن أخلاقهن، ويقول إن محيط المدينة يبلغ مائة ميل وإن:

طرقاتها وقنواتها عريضة تتسع أولاها لمرور العربات وأخراها لمرور السفن محملة بالبضائع التي يحتاج إليها ساكنوها. والشائع على ألسنة الناس أن عدد ما فيها من الجسور على اختلاف أحجامها يبلغ اثني عشر ألفاً، وأن الجسور الممتدة فوق القنوات الكبرى والمتصلة بالشوارع الرئيسية مقامة على عقود عالية وبمهارة فائقة تستطيع معها السفن أن تمر من تحتها مبسوطة الشراع، كما تستطيع العربات والخيول أن تمر من فوقها لتدرج انحدارها من الشوارع إلى أعالي العقود ... وفي داخل المدينة عشرة ميادين رئيسية وأسواق عامة غير ما فيها من الحوانيت التي يخطئها الحصر، والممتدة على جانبي شوارعها ... ويبلغ طول كل ضلع من أضلاع هذه الميادين نصف ميل، وأمام الميدان يمتد الشارع الرئيسي ويبلغ عرضه أربعين خطوة، ويسير مستقيماً من أحد طرفي المدينة إلى الطرف الآخر. وتجري في اتجاه مواز إلى اتجاه الشارع الرئيسي... قناة كبيرة أقيمت على شاطئها المجاور للمدينة مخازن واسعة مشيدة من الحجارة يأوي إليها التجار القادمون من الهند وغيرها من الأقطار، ومعهم بضائعهم ومتاعهم. وبهذه الطريقة يسهل عليهم الاتصال بالأسواق العامة. ويجتمع في كل سوق من هذه الأسواق مدة ثلاثة أيام
صفحة رقم : 1310
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأقصى -> الصين -> الشعب والدولة -> نبذة تاريخية -> ماركو بولو يزور كوبلاي خان

في كل أسبوع نحو أربعين أو خمسين ألف شخص ...

والشوارع كلها مرصوفة بالحجارة والآجر ... والشارع الرئيسي في المدينة مرصوف منه على الجانبين مسافة قدرها عشر خطوات، أما ما بينهما فمملوء بالحصباء الصغيرة ومن تحتها مصارف مقبية تجري فيها مياه الأمطار تنقلها إلى القنوات المجاورة بحيث يبقى الشارع جافاً على الدوام. والمركبات لا ينقطع مرورها على هذه الحصباء جيئة وذهاباً. وهي طويلة الشكل مغطاة من أعلاها، ولها ستائر ووسائد من الحرير وتتسع لستة أشخاص، يستأجرها أهل المدينة رجالاً كانوا أو نساء ممن يميلون إلى التنزه والاستمتاع بركوبها ...
ومن حول الأماكن في جميع الجهات مسارح لصيد الحيوان على اختلاف أنواعه ... ولا يبعد البحر عن المدينة أكثر من خمسة عشر ميلاً، وتحمل إليها منه في كل يوم عن طريق النهر كميات كبيرة من السمك ... وإذا رأى الإنسان هذا السمك حين يأتي إلى المدينة ظن أول وهلة أنه لن يباع كله فيها، ولكنه لا تمضي على مجيئه إليها إلا ساعات قليلة حتى يباع عن آخره وذلك لكثرة من فيها من السكان ... والشوارع المتصلة بالسوق كثيرة العدد وفي الكثير منها حمامات باردة يشرف عليها خدم وخادمات. وقد اعتاد من يتردد عليها من رجال ونساء أن يستحموا فيها بالماء البارد منذ صغرهم لاعتقادهم أن الاستحمام بالماء البارد مفيد لأجسامهم. ولكن هذه الحمامات قد أعدت بجوارها مع ذلك حجرات مجهزة بالماء الساخن ليستحم فيها الغرباء الذين لا يتحملون الماء البارد. ومن عادة الأهلين كلهم أن يغتسلوا في كل يوم وخاصة قبل وجبات الطعام ...
وخصصت في شوراع أخرى من المدينة أحياء للعاهرات وهن يبلغن من الكثرة حداً لا أجرؤ على ذكره ... وهؤلاء النسوة يلبسن الملابس الجميلة، ويتعطرن، ويسكن في بيوت جميلة الأثاث، ويقوم على خدمتهن كثيرات من الخادمات.
صفحة رقم : 1311
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأقصى -> الصين -> الشعب والدولة -> نبذة تاريخية -> ماركو بولو يزور كوبلاي خان

وفي شوارع أخرى يقيم الأطباء والمنجمون ... وقد أنشئت على جانبي شارع المدينة الرئيسي بيوت وقصور رحبة ... وأهل المدينة كلهم رجالاً كانوا أو نساء بيض الوجوه على جانب كبير من الجمال، يرتدي معظمهم ملابس من الحرير ... والنساء ذوات جمال بارع ويُعَوَّدْنَ من صغرهن الرقة والنحافة، وليس في وسع من لم يشهد هؤلاء النسوة أن يتصور ما يتحلين به من حرير وجواهر(3).
وقد أعجب ماركو بولو بمدنية بيجنج (أو كمبلوك كما كانت تسمى وقتئذ) أكثر من إعجابه بهانجتشاو نفسها، فهو إذا ما تحدث عنها عجزت ملايينه عن وصف ثروتها وتعداد عامرها. وكانت ضواحي المدينة الاثنتي عشرة أجمل منها نفسها، ذلك لأن رجال الأعمال قد شادوا في هذه الضواحي كثيراً من البيوت الجميلة(4). وكان في المدينة نفسها كثير من الفنادق وآلاف المتاجر الثابتة والمتنقلة. وكان الطعام فيها على اختلاف أنواعه موفوراً، وكان يدخلها في كل يوم ألف حمل من الحرير الخام لتصنع منه الملابس لأهلها. وقد كان للخان قصور في هانجتشاو وشانجتو وغيرهما من المدن ولكن أكبر قصوره كان في بيجنج نفسها. وكان يحيط بهذا القصر سور من الرخام ويصعد إليه بدرج من الرخام أيضاً. وكان مبناه الرئيسي كبيراً "يتسع لأن تمد فيه موائد الطعام لجماعات كبيرة من الناس". وقد أعجب ماركو بتنظيم الغرف، وبنوافذها البراقة الدقيقة الشفافة، وبما يغطي سقفها من قرميد مختلف الألوان. ويقول أنه لم ير في حياته مدينة في مثل غناها ولا مَلِكاً في عظمة ملكها(5).
وما من شك في أن الشاب البندقي قد تعلم اللغة الصينية حتى استطاع أن يتحدث بها ويقرأها. ولعله عرف من المؤرخين الرسميين كيف فتح كوبلاي وأسلافه المغول بلاد الصين. وكان سبب غزوات المغول أن ما أصاب الأقاليم الممتدة بإزاء حدود الصين الشمالية الغربية من جفاف قد أحالها صحراء جدباء
صفحة رقم : 1312

قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأقصى -> الصين -> الشعب والدولة -> نبذة تاريخية -> ماركو بولو يزور كوبلاي خان

عاجزة عن الوفاء بحاجة أهلها الأقوياء، فاندفع المغول (أي البواسل) إلى شن الغارات المستيئسة لامتلاك بلاد أخصب من بلادهم وأوفر منها أرزاقاً. وكان نجاحهم في غاراتهم سبباً في تقوية روحهم العسكرية ونزعتهم الحربية، فلم يقفوا في فتوحهم إلا بعد أن اكتسحت جحافلهم بلاد آسية كلها إلا القليل منها، وأجزاء من أوربا. وتقول الروايات إن قائدهم الجبار جنكيز خان قد ولد وفي كفه جلطة من الدماء، فلما بلغ الثالثة عشرة من عمره أخذ يؤلف بين قبائل المغول ويجمعها تحت لوائه، واتخذ الإرهاب وسيلة إلى هذا الجمع، فكان يصلب الأسرى على حمير من الخشب، أو يقطعهم إرباً، أو يقلي أجسامهم في القدور، أو يسلخ جلودهم وهم أحياء. ولما تلقى من إمبراطور الصين تنج دزونج رسالة يدعوه فيها للخضوع بصق في اتجاه عرش التنين، وبدأ من فوره حملته مجتازاً ألفاً ومائتين من الأميال في قلب صحراء جوبي، وهجم على ولايات الصين الغربية، ودمر من مدائنها تسعين مدينة سواها بالأرض حتى يستطيع الفرسان أن يسيروا فوق الأراضي المخربة في الظلام دون أن تعثر خيولهم. وظل "عاهل العالم" خمس سنين كاملة يخرب في بلاد الصين الشمالية. ثم أزعجه اقتران كوكبين من الكواكب رأى في اقترانهما نذير شؤم، فقفل راجعاً إلى قريته، ولكنه مرض ومات في الطريق.

وواصل خلفاؤه أو جوداي، ومانجو، وكوبلاي حملاته بقوة همجية؛ وكان الصينيون قد أهملوا فنون الحرب ووجهوا همهم كله مدة قرون عدة إلى الثقافة، فلم يثبتوا أمام الغزاة بل خروا صرعى يجللهم العار القومي والبطولة الفردية، وثبت أحد حكام الصين في جويتنج - فو وصمد للحصار حتى قتل المحاصرون كل من كان في المدينة من الشيوخ والعاجزين وأكلوا لحومهم، وهلك جميع القادرين على القتال ولم يبق لحراسة الأسوار إلا النساء، ثم أشعل النار في المدينة واحترق هو نفسه في قصره. واجتاحت جيوش كوبلاي بلاد الصين حتى وقفت أمام
صفحة رقم : 1313
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأقصى -> الصين -> الشعب والدولة -> نبذة تاريخية -> ماركو بولو يزور كوبلاي خان

كنتون آخر ملجأ لجأت إليه أسرة سونج الحاكمة. فلما عجزت الجيوش الصينية عن المقاومة حمل لوشي يوفو القائد الصيني الإمبراطور الغلام على ظهره وألقى به وبنفسه في البحر فماتا معاً. ويقال إن مائة ألف من الصينيين آثروا الموت غرقاً على التسليم للفاتح المغولي. وأمر كوبلاي أن يحتفل بجنازة الإمبراطور احتفالاً رسمياً كبيراً، وشرع يؤسس الأسرة اليوانية "الأصيلة" وهي الأسرة المغولية التي حكمت الصين أقل من مائة عام.
ولم يكن كوبلاي نفسه بربرياً همجياً. وليس أهم ما يستثنى من هذا الوصف هو سياسته الغادرة لأن الغدر كان من الأخلاق الشائعة في تلك الأيام، بل أهم ما يستثنى منه هو ما عامل به ون تيان - شيانج، وهو عالم وطني أبى أن يعترف بحكومة كوبلاي وفاء منه لأسرة سونج. فألقاه كوبلاي في السجن ومكث فيه ثلاث سنين ولكنه أبى أن يخضع وكتب في سجنه تلك القطعة التي تعد من أشهر ما كتب في الأدب الصيني كله:

إن سجني لا يضيئه إلا الصيهد ولا تدخله نسمة من نسمات الربيع لتؤنسني في وحدتي وتخفف بعض ظلمته ... وكثيراً ما فكرت في أن أقضي على نفسي من فرط ما أثر في من الضباب والندى، ولكن الموت ظل عامين كاملين يحوم حولي ولا يقضي عليَّ؛ وأضحت الأرض الرطبة المضرة بالصحة جنة الفردوس نفسها. ذلك بأنه كان يستقر بين جوانحي ما لا تستطيع النائبات أن تغتصبه مني، ولهذا بقيت مطمئن القلب ثابت الجنان أتطلع إلي السحب البيضاء فوق رأسي وأطوي قلبي على آلام لا حد لها كما لا حد للسماء.
واستدعاه كوبلاي آخر الأمر إلى المثول بين يديه وسأله الملك قائلاً: "أي شيء تريد؟" فأجابه ون بقوله: "لقد عطف عليَّ إمبراطور سونج فجعلني وزيراً لجلالته، وليس في وسعي أن أخدم سيدين، وكل ما أطلبه أن أموت!". وأجابه كوبلاي إلى ما طلب؛ وبينما كان ون ينتظر أن يهوي سيف الجلاد على
صفحة رقم : 1314
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأقصى -> الصين -> الشعب والدولة -> نبذة تاريخية -> ماركو بولو يزور كوبلاي خان

عنقه انحنى في خضوع واحترام نحو الجنوب كأن الإمبراطور من آل سونج لا يزال يحكم في نانكنج العاصمة الجنوبية(7).

ومع هذا فقد أوتي كوبلاي من الحكمة ما جعله يعترف بتفوق الصينيين على المغول في ميدان الحضارة، ويعمل من أجل هذا على مزج عاداتهم بعادات أهل بلاده. وكان لابد له أن يلغي نظام تقلد المناصب العامة بالامتحان، وذلك لأنه لو أتبع هذا النظام لكان جميع الموظفين في حكومته من الصينيين، ثم قصر معظم الوظائف الكبرى على أتباعه من المغول وحاول وقتاً ما أن يدخل إلى البلاد الحروف الهجائية المغولية، ولكنه قَبِل هو وأتباعه في معظم شئونهم حضارة الصين، وما لبثوا أن استحالوا بفضل هذه الحضارة أمة صينية. ومما يذكر له أن أباح ما كان في الصين من ديانات وشجع دخول الديانة المسيحية في البلاد لأنه رأى فيها أداة صالحة لتهدئتها وبسط سلطانه عليها. وأعاد فتح القناة العظمى بين تينتسين وهنجتشاو، وأصلح الطرق الكبرى وأنشأ نظاماً سريعاً للبريد في أقاليم أوسع رقعة من البلاد التي خضعت لحكومة الصين مذ جلس على عرشها، وأقام في البلاد أهراء عامة عظيمة ليخزن فيها ما يفيض عن حاجة البلاد من المحصولات الزراعية ليوزعها على الأهلين في أيام القحط، وألغى الضرائب عن جميع الزراع الذين أضر بمزروعاتهم الجفاف والعواصف والحشرات ، وأوجد نظاماً تعين الدولة بمقتضاه الشيوخ من العلماء والأيتام والعجزة، وكان سخياً في تشجيع التعليم والآداب والفنون وبسط رعايته عليها. وقد عدل التقويم في أيامه، وافتتح المجمع العلمي الإمبراطوري(9)، وشاد عاصمة جديدة للبلاد في بيكين كانت لروعتها وكثرة
صفحة رقم : 1315
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأقصى -> الصين -> الشعب والدولة -> نبذة تاريخية -> ماركو بولو يزور كوبلاي خان

عامرها موضع إعجاب من يزورها من الغرباء، وشيدت القصور وازدهرت العمارة ازدهاراً لم تر الصين له مثيلاً من قبل.

ويقول ماركو بولو: "وقد كان بولو حاضراً في البلاد حيث كان هذا كله يحدث فيها"(10) واتصل الشاب بالخان وتقرب إليه واستطاع بذلك أن يصف لنا ضروب تسليته وصفاً مفصلاً ينم عن إعجابه الشديد به؛ ويقول إن كان للخان فضلاً عن زوجاته الأربع اللاتي يسمين بالإمبراطورات عدد كبير من السراري جيء بهن من أنجوت في بلاد التتار لأن الإمبراطور كان يعجب بجمال نساء تلك البلاد. ويضيف ماركو إلى هذا قوله إن عدداً من الموظفين المشهود لهم بحسن الذوق كانوا يرسلون إلى هذا الإقليم ليجندوا لخدمة جلالة الإمبراطور مائة من الفتيات حسب الأوصاف التي كان هو نفسه يعنى بوصفها أشد العناية.
فإذا ما مثلن أمامه، أمر أن تختبرهن اختباراً جديداً طائفة أخرى من الباحثين وأن يختار من بينهن ثلاثون أو أربعون فتاة يستبقين في قصره ... ثم يعهد بكل واحدة منهن إلى إحدى كبار السيدات في القصر لتتأكد من أنها ليس فيها شيء من العيوب التي تخفى عن الأعين وأنها تنام نوماً هادئاً، ولا تغط في أثناء نومها، ولا تنبعث رائحة كريهة من أي جزء من أجزاء جسمها. فإذا ما نجحن في هذا الاختبار الدقيق قسمن جماعات كل منها مؤلفة من خمس تقيم كل منها في حجرة جلالته الداخلية ثلاثة أيام وثلاث ليال يؤدين في خلالها كل ما يطلب إليهن من خدمات ويفعل بهن ما يشاء. فإذا ما انقضت هذه الفترة حلت محل تلك الجماعة جماعة أخرى وهكذا دواليك حتى تأخذ كل جماعة دورها ثم تعود الجماعة الأولى إلى الخدمة من جديد(11).
وبعد أن أقام ماركو بولو هو وأبوه وعمه عشرين سنة في بلاد الصين أغتنم ثلاثتهم فرصة قيامهم بمهمة إلى الفرس، أوفدهم بها الخان، فعادوا إلى بلادهم بأقل
صفحة رقم : 1316
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأقصى -> الصين -> الشعب والدولة -> نبذة تاريخية -> ماركو بولو يزور كوبلاي خان

النفقات وأقل ما يمكن أن يتعرضوا له من الأخطار. وبعث معهم كوبلاي برسالة إلى البابا، وحباهم بجميع ما كان معروفاً في ذلك الوقت من التسهيلات للمسافرين، وقضوا في طوافهم بحراً حول جزيرة الملايو إلى الهند وفارس وفي رحلتهم البرية إلى طربزون على البحر الأسود وأخيرا في رحلتهم البحرية إلى البندقية ثلاث سنين. ولما وصلوا إلى أوربا عرفوا أن الخان والبابا قد توفيا . وعمر ماركو طويلاً فلم يستسلم للموت حتى بلغ السبعين من عمره. فلما حضرته الوفاة طلب إليه أصدقائه أن ينجي نفسه من العذاب في الدار الآخرة بمحو ما ورد في كتابه من العبارات الواضحة البطلان ولكنه أفحمهم برده عليهم: "أني لم أذكر في كتابي نصف ما شاهدته".
ولم يمض على وفاته إلا وقت قصير حتى أصبح من العادات المألوفة في حفلات البندقية الساخرة أن يرتدي شخص ثياب المهرجين ليسر الناس في تلك الاحتفالات بما ينطق به من المبالغات غير المعقولة؛ وكان يطلق على هذا المهرج الماجن اسم "ماركو الملايين".

صفحة رقم : 1317
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأقصى -> الصين -> الشعب والدولة -> نبذة تاريخية -> أسر منج وجنج

2- أسرتا منج وجنج
سقوط المغول - أسرة منج - غزو المنشو - أسرة
جنج - ملك مستنير - شين لونج يأبى قبول الأفكار الغريبة
ولم تعرف الصين بعدئذ مثل هذا العهد الزاهر إلا بعد أربعة قرون، فسرعان ما دب الاضمحلال في أسرة يوان متأثرة بانهيار سلطان المغول في أوربا وغرب آسية وفي ذوبان المغول في جسم الشعب الصيني نفسه، إذا جاز أن نلجأ إلى هذه العبارة السهلة المتحذلقة لنعلل بها هذه الظاهرة التي تتكرر في جميع الأوقات. وهناك أسباب أخرى لا تقل عن هذين السببين قوة وخطراً؛ ذلك أن إمبراطورية
صفحة رقم : 1318
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأقصى -> الصين -> الشعب والدولة -> نبذة تاريخية -> أسر منج وجنج

كالصين متسعة الرقعة قليلة التماسك من الناحية الطبيعية تفصلها الجبال والصحراوات والبحار لا يمكن أن تخضع إلى ما شاء الله لحكومة واحدة. وقد كان المغول رجال حرب خيراً منهم رجال حكم وإدارة، ولذلك اضطر خلفاء كوبلاي خان أن يعودوا إلى نظام الامتحان وإلى الانتفاع بكفاية الصين الإدارية، ولم يحدث الفتح المغولي أثراً يذكر في عادات الصينيين وأفكارهم إلا ما عسى أن يكون قد أدخله في الأدب الصيني من الروايات والمسرحيات. وتزوج الصينيون مرة أخرى من فاتحيهم ومدنوهم وغلبوهم على أمرهم، حتى إذا كان عام 1368م تزعم أحد الكهنة البوذيين السابقين ثورة على هؤلاء الفاتحين ودخل بيكين منتصراً وأعلن نفسه أول إمبراطور من أسرة السنج (أي المتألقين). وجلس على العرش في الجيل التالي ملك قدير من ملوك هذه الأسرة، واستمتعت الصين في عهد يونج لو مرة أخرى بعهد جديد من عهود الرخاء، وعادت إلى تشجيع الفنون، بيد أن عهد الأسرة "المتألقة" انتهى مع ذلك بفترة من الفوضى والاضطراب والغزو الخارجي: وبينما كانت البلاد منقسمة إلى أحزاب متنافرة متعادية اجتاحتها جحافل جديدة من الغزاة الفاتحين واقتحمت السور العظيم وحاصرت بيكين. تلك هي جحافل المنشو.
وكان المنشو شعبا تنجوسياً ظل قروناً كثيرة يعيش في البلاد التي تعرف الآن باسم منشو كو (أي مملكة المنشو)، ومدوا فتوحهم في أول الأمر نحو الشمال حتى وصلوا إلى نهر عامور، ثم اتجهوا نحو الجنوب وهجموا على عاصمة الصينيين. وجمع آخر أباطرة المنج أسرته حوله وشرب نخبهم، وأمر زوجته أن تنتحر ، ثم شنق نفسه بمنطقته بعد أن كتب آخر أوامره على طية ثوبه: "نحن الفقراء في الفضيلة، ذوي الشخصية الحقيرة، قد استحققنا غضب الله العلي القدير.
صفحة رقم : 1319
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأقصى -> الصين -> الشعب والدولة -> نبذة تاريخية -> أسر منج وجنج

"لقد غرر بي وزرائي، وإني لأستحي أن ألقى في الآخرة آبائي وأجدادي، ولهذا فإني أخلع بيدي تاجي عن رأسي، وأنتظر وشعري يغطي وجهي أن يقطع الثوار أشلائي، لا تؤذوا أحداً من أبناء شعبي"(15). ودفنه المنشو باحتفال يليق بكرامته وأسسوا أسرة الشنج ( الطاهرة) التي حكمت الصين حتى عهدنا الثوري الحاضر.
وسرعان ما أصبحوا هم أيضا صينيين واستمتعت البلاد تحت حكم كانج شي بعهد من الرخاء والسلم والاستنارة لم تعرف له مثيلاً في تاريخها كله. جلس هذا الإمبراطور على العرش وهو في السابعة من عمره، فلما بلغ الثالثة عشرة أمسك بيده زمام الأمور في إمبراطورية لم تكن تشمل وقتئذ بلاد الصين وحدها بل كانت تشمل معها بلاد المغول ومنشوريا وكوريا والهند الصينية وأنام والتبت والتركستان. وما من شك في أنها كانت أكبر إمبراطوريات ذلك العهد وأكثرها ثروة وسكاناً. وحكمها كانج شي بحكمة وعدل حسدها عليهما معاصراه أورنجزيب ولويس الرابع عشر. وكان الإمبراطور نفسه رجلاً نشيطاً قوي الجسم والعقل، ينشد الصحة في الحياة العنيفة خارج القصور ويعمل في الوقت نفسه على أن يلم بعلوم تلك الأيام وفنونها. وكان يطوف في أنحاء مملكته ويصلح ما فيها من العلوم حيثما وجدها، ومن أعماله أنه عدل قانونها الجنائي. وكان يعيش عيشة بسيطة ليس فيها شيء من الإسراف أو الترف، ويقتصد في نفقات الدولة الإدارية ويفخر بالعمل على رفاهية شعبه(16). وازدهرت الآداب والعلوم في أيامه بفضل تشجيعه إياها ومناصرتها؛ وعاد فن الخزف إلى أعلى ما وصل إليه في أيام مجده السابقة. وكان متسامحاً في الأمور الدينية فأجاز كل العبادات ودرس اللغة اللاتينية على القساوسة اليسوعيين، وصبر على الأساليب الغربية التي كان يتبعها التجار الأوربيون في ثغور بلاده. ولما مات بعد حكمه الطويل الموفق (1661- 1722) كان آخر ما نطق به هو هذه الألفاظ: "إني
صفحة رقم : 1320

قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأقصى -> الصين -> الشعب والدولة -> نبذة تاريخية -> أسر منج وجنج

لأخشى أن تتعرض الصين في مئات أو آلاف السنين المقبلة إلى خطر الاصطدام مع مختلف الأمم الغربية التي تفد إلى هذه البلاد من وراء البحار" (17).
وبرزت هذه المشاكل الناشئة من ازدياد التبادل التجاري والاتصال بين الصين وأوربا مرة أخرى في عهد إمبراطور آخر قدير من أسرة المنشو هو شين لونج. وكان هذا الإمبراطور شاعراً أنشأ 000ر34 قصيدة إحداها في "الشاي" وصلت إلى مسامع فلتير فأرسل "تحياته إلى ملك الصين الفاتن"(18)، وصوره المصورون الفرنسيون وكتبوا تحت صورته باللغة الفرنسية أبياتاً من الشعر لا توفيه حقه من الثناء يقولون فيها:
"إنه يعمل جاهداً دون أن يخلد إلى الراحة للقيام بأعمال حكومته المختلفة التي يعجب الناس بها. وهذا الملك أعظم ملوك العالم وهو أيضاً أعلم الناس في إمبراطوريته بفنون الأدب".
وحكم الصين جيلين كاملين (1737- 1796م)، ونزل عن الملك لما بلغ الثامنة والخمسين، ولكنه ظل يشرف على حكومة البلاد حتى توفي (1799م). وحدثت في آخر سني حكمه حادثة كان من شأنها أن تذكر المفكرين من الصينيين بما أنذرهم به كانج- شي، فقد أرسلت إنجلترا بعد أن أثارت غضب الإمبراطور باستيراد الأفيون إلى بلاد الصين بعثة برياسة لورد مكارنتي لتفاوض شين لونج في عقد معاهدة تجارية بين البلدين. وأخذ المبعوثون الإنجليز يشرحون للإمبراطور المزايا التي تعود عليه من تبادل التجارة مع إنكلترا وأضافوا إلى أقوالهم أن المعاهدة التي يريدون عقدها سيفترض فيها مساواة ملك بريطانيا بإمبراطور الصين. فما كان من شين لونج إلا أن أملى هذا الجواب ليرسل إلى جورج الثالث:
"إن الأشياء العجيبة البديعة لا قيمة لها في نظري؛ وليس لمصنوعات بلادكم فائدة لدي. هذا إذن هو ردي على ما تطلبون إليَّ من تعيين ممثل لكم في بلاطي
صفحة رقم : 1321

قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأقصى -> الصين -> الشعب والدولة -> نبذة تاريخية -> أسر منج وجنج

وهو طلب يتعارض مع عادات أسرتي ولا يعود عليكم إلا بالمتاعب. لقد شرحت لك آرائي مفصلة وأمرت مبعوثيك أن يغادروا البلاد في سلام عائدين إلى بلادهم، وخليق بك أيها الملك أن تحترم شعوري هذا، وأن تكون في المستقبل أكثر إخلاصاً وولاء مما كنت في الماضي، حتى يكون خضوعك الدائم لعرشي من أسباب استمتاع بلادك بالسلم والرخاء في مستقبل الأيام"(19).
بهذه العبارات القوية الفخورة حاولت الصين أن تدرأ عنها شر الانقلاب الصناعي. ولكننا سنعرف في الفصول التالية كيف غزت الثورة الصناعية البلاد رغم هذا الاحتياط. ولندرس الآن قبل الكلام عن هذه الثورة العناصر الاقتصادية والسياسية والخلقية التي تتألف منها تلك الحضارة الفذة المستنيرة الجديرة بالدرس، والتي يبدو أن الثورة الصناعية ستقضي عليها القضاء الأخير.

صفحة رقم : 1322
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأقصى -> الصين -> الشعب والدولة -> الصينيون ولغتهم

الفصل الثاني
الصينيون ولغتهم
تعداد السكان - مظهرهم الخارجي - ملبسهم -
خصائص اللغة الصينية - خصائص الكتابة الصينية

إن أول عنصر من عناصر الصورة التي سنرسمها في هذا الفصل هو عنصر العدد؛ فالصينيون كثيرون، وليس عددهم معروفاً بالضبط، وكل ما يقال عنه من قبيل الحدس والتخمين. ويظن بعض العلماء أن سكان الصين في عام 280 ق.م كانوا يبلغون حوالي 000ر000ر14 وأنهم وصلوا في عام 200 ق.م إلى 000ر000ر28 وفي عام 726 ق.م إلى 000ر500ر41 وفي عام 1644 بعد الميلاد إلى 000ر000ر89 وفي عام 1743 إلى 000ر000ر150 وفي عام 1919 إلى 000ر000ر330 (20). ويقول أحد الرحالة الأوربيين إنه أحصى في الصين في القرن الرابع عشر "مائتي مدينة كل واحدة منها أكبر من مدينة البندقية"(21). وإحصاء السكان في الصين يحدث تنفيذاً لقانون يحتم على كل صاحب بيت أن ينقش اسم كل ساكن فيه على لوحة عند مدخله(22). ولسنا نعلم بطبيعة الحال مدى صحة هذه اللوحات، ولا مدى صحة التقريرات التي يقال إنها توضع على أساسها، وحسبنا أن نقول إن سكان الصين يبلغون الآن حوالي أربعمائة مليون من الأنفس.
ويختلف الصينيون في أجسامهم، فهم في الجنوب أقصر قامة وأضعف أجساماً منهم في الشمال، غير أنهم بوجه عام أنشط أهل قارة آسية وأكثرهم حيوية، ذوو بأس وصبر على الشدائد والآلام، شديدو المقاومة للأمراض، سريعو التأقلم في كل مناخ؛
صفحة رقم : 1323
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأقصى -> الصين -> الشعب والدولة -> الصينيون ولغتهم

وقد استطاعوا بفضل هذه الصفة أن يعيشوا ويثروا في مناطق العالم كلها تقريباً. ولم يقو الأفيون ولا الزهري ولا عدم الزواج بغيرهم من الشعوب على إضعاف صحتهم؛ وإذا كان نظامهم الاجتماعي قد انهار في الأيام الأخيرة فإن هذا الانهيار لم يكن نتيجة ضعف ظاهر في قواهم الجسمية أو العقلية.

ووجه الصيني ينم عن أنه أذكى خلق الله طراً، وإن لم يكن هذا الوجه على الدوام جميلاً جذاباً. نعم إن بعض الطبقات المعدمة تبدو في أعين الغربيين بشعة شديدة القبح، وإن لبعض المجرمين منهم نظرات خبيثة ما أجدر أصحابها بأن يكونوا ممثلين هزليين في دور الخيالة، ولكن كثرتهم العظمى ذات ملامح منتظمة متناسبة هادئة زادها هدوءاً عاملان أحدهما جثماني وهو انخفاض الجفون وثانيهما اجتماعي وهو ما نعموا به من الحضارة التي دامت عدة قرون. وليس انحراف العينين كبيراً واضحاً إلى الحد الذي يتصوره المرء مما يقال أو يكتب عنهم، وكثيراً ما تؤثر الشمس في بشرتهم الصفراء فتخلع عليها لوناً أسمر جميلاً. ونساء الزراع منهم لا يكدن ينقصن عن الرجال قوة في الأجسام، كما أن نساء الطبقات العليا رقيقات الحاشية جميلات يبيضن وجوههن بالمساحيق، ويحمرن شفاههن وخدودهن، ويسودن حواجبهن ويزججنها حتى تكون أشبه بورقة الصفصاف أو الهلال(23). وشعر الرأس خشن قوي عند الرجال والنساء، خال من التجاعيد يعقصه النساء ويزينه عادة بالأزهار. ولقد أراد الرجال في عهد آخر الأسر الحاكمة أن يسروا حكامهم فاتبعوا عادة المنشو وهي حلق شعر نصف الرأس الأعلى. ثم أرادوا أن يعوضوا هذا النقص فتركوا شعر النصف الخلفي وجمعوه في غديرة طويلة أصبحت على مر الزمن أداة لتقويم المخطئ ومظهراً من مظاهر الكبرياء(24). ولحاهم لا تطول، وكانوا يحلقونها على الدوام، وقلما كان الواحد منهم يحلق لحيته بيده، فقد كان من عادة الحلاقين أن يطوفوا بالناس ومعهم أدواتهم، وكانوا طائفة موفورة الكسب.
صفحة رقم : 1324
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأقصى -> الصين -> الشعب والدولة -> الصينيون ولغتهم

وكانوا عادة يتركون رؤوسهم عارية؛ فإذا غطى الرجال رؤوسهم اتخذوا لهم في الشتاء قلانس من المخمل أو الفراء ذوات حافات منثنية إلى أعلى، وفي الصيف قلانس مخروطية الشكل مصنوعة من خيوط الخيزران تعلو الواحدة منها إذا كان صاحبها ذا شأن كرة ملونة وشريط حريري.
أما النساء فكن يضعن على رءوسهن، إذا مكنتهن من ذلك مواردهن، أشرطة من نسيج الحرير أو القطن مزينة بالبهرجان والحلي أو الأزهار الصناعية، وكانت الأحذية تتخذ عادة من الأقمشة المدفئة، ولما كانت أرض المنازل تصنع في كثير من الأحيان من القرميد البارد أو الطين فإن الصيني كان يحمل معه أينما سار طنفسة صغيرة يضعها تحت قدميه. وقد نبتت في بلاط الإمبراطور لي هو- جو (حوالي 970 ب.م) عادة ربط أقدام البنات وهن في سن السابعة بأربطة ضيقة لكي تبقى صغيرة فتمشي السيدة الكبيرة تخطو خطواً يعجب به الرجال. وكان يعد من سوء الأدب أن يتحدث الناس عن قدم السيدة كما كان يعد من الإهانة الفاضحة أن ينظر الرجل إلى هذه القدم؛ بل إن الكلمة الصينية التي معناها القدم كان يحرم ذكرها في حضرة السيدات(25).
وانتشرت هذه العادة بين جميع الطبقات والجماعات عدا المنشو والتتار وأصبحت من العادات الثابتة الجامدة، حتى لقد كان الكذب في حجم قدم العروس كافياً لإلغاء عقد الزواج(26). وحاول كانج شي أن يبطل هذه العادة ولكنه أخفق وظلت حتى أبطلتها الثورة فكان إبطالها أثراً من آثارها الصالحة.
وكانت ملابس الرجال هي السراويل والجلابيب، ويكاد لونها أن يكون على الدوام هو اللون الأزرق. وفي الشتاء كان السروال يغطى بالطماق ويضاعف عدد القمصان حتى يبلغ الثلاثة عشر في بعض الأحيان، وكانت كلها تبقى على الجسم ليلاً ونهاراً طوال فصل الشتاء، فإذا أقبل الربيع خلعت تدريجاً واحدة بعد واحدة(27). وكان المئزر مختلف الطول فكان يصل حيناً إلى الحقوين وحيناً إلى
صفحة رقم : 1325

قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأقصى -> الصين -> الشعب والدولة -> الصينيون ولغتهم

الركبتين وتارة إلى القدمين، وكان يزرر إلى العنق، وكان له كُمّان كبيران يغنيان عن الجيوب، والصينيون لا يقولون إن الرجل وضع شيئاً ما في "جيبه" بل يقولون إنه وضعه في "كمه". أما القمصان والملابس الداخلية فلسنا نخطئ كثيراً إذا قلنا إنها كانت غير معروفة. وكانت النساء في الريف يلبسن سراويل كسراويل الرجال لأنهن قد اعتدن أن يعملن أعمال الرجال وأكثر من أعمال الرجال. أما في المدن فكن يلبسن فوق السراويل نقباً . وكان الحرير كثيراً في المدن يستوي في ذلك هو والقطن.
ولم تكن للنساء مناطق تضغط على خصرهن أو مشدات تمسك ثديهن، وبذلك كانت ملابس الصينيين بوجه عام أكثر انطباقاً على مقتضيات العقل وأكثر ملاءمة لصحة الجسم وراحته من ملابس الغربيين في هذه الأيام. ولم يكن لأنماط الملابس سلطان قوي على المرأة الصينية كما لم تكن الملابس وسيلة لتباين الطبقات ورفع بعضها فوق بعض. ذلك لأن أهل المدن مهما اختلفت أقدارهم كانوا لا يختلفون في ملابسهم، كما أن هذه الملابس لا تكاد تختلف في الأجيال المختلفة. نعم قد يختلف القماش الذي يصنع منه الثوب، أما شكله فقد كان واحداً على الدوام، ولم تكن طبقة من الطبقات تشك في أن نمطاً من الأنماط سيبقى إلى أن يبلى الثوب.
ولغة الصينيين تختلف عن سائر لغات العالم أكثر مما تختلف ملابسهم عن ملابس سائر الناس. ذلك أنها ليست لها حروف و لا هجاء ولا نحو ولا تنقسم إلى أسماء وأفعال وحروف، وإنا لنعجب كيف استطاعت هذه الأمة وهي أقدم أمم الأرض وأكثرها عدداً أن تعيش من غير هذه البلايا التي أبتلي بها شبان الأمم الغربية. ومن يدري فلربما كان لهذه اللغة في الأيام الخالية المنسية اشتقاق ونحو وصرف وإعراب وتثنية وجمع وأفعال ماضية وحاضرة ومستقبلة، ولكننا لا نجد
صفحة رقم : 1326

قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأقصى -> الصين -> الشعب والدولة -> الصينيون ولغتهم

أثراً لشيء من هذا في أقدم ما عرفنا من عهود هذه اللغة، فكل كلمة فيها قد تكون اسما أو فعلاً أو صفة أو ظرفاً بحسب سياقها وطريقة النطق بها. ولما كانت اللهجات الكلامية لا تحتوي على أكثر من ثلاثمائة أو أربعمائة لفظ صوتي ذي مقطع واحد، ولما كانت هذه المقاطع هي التي تستعمل للتعبير عن الأربعين ألف حرف المستخدمة في اللغة الكتابية فإن لكل واحد من الألفاظ الصوتية "نغمات" تختلف من أربع إلى تسع بحيث يختلف معناه باختلاف طريقة التغني به.
وتوضح حركات الجسم وسياق الكلام هذه النغمات، وتجعل كل صوت يؤدي أغراضاً متعددة، فحرف الباء وحده مثلاً قد يؤدي تسعة وستين معنى كما أن اللفظ شي تسعة وخمسين، وللفظ كو تسعة وعشرين(30). ولسنا نعرف لغة من اللغات قد بلغت ما بلغته اللغة الصينية من التعقيد والدقة والاختصار.
وكانت لغة الكتابة أكثر اختلافاً عن سائر لغات العالم من لغة الكلام. تشهد بذلك الأدوات التي استخرجت من هونان والتي يرجعها المؤرخون إلى عهد أسرة شانج وإن لم يكونوا واثقين من ذلك كل الثقة، فقد وجدوا على هذه الأدوات كتابة برموز لا تختلف كثيراً عن الرموز المستعملة في هذا الجيل. ولهذا فإننا إذا استثنينا عدداً قليلاً من الأقباط الذين يتكلمون اللغة المصرية القديمة فإن اللغة الصينية هي أقدم اللغات التي ينطق بها الناس في هذه الأيام وأوسعها انتشاراً. وكان الصينيون في بادئ الأمر يعقدون عقداً في خيوط لينقلوا بها رسائلهم، وأكبر الظن أن حاجة الكهنة إلى نقل الطلاسم السحرية وحاجة الفخرانيين إلى تمييز آنيتهم بعضها من بعض هي التي أدت إلى الرموز المصوِّرة(32).
صفحة رقم : 1327
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأقصى -> الصين -> الشعب والدولة -> الصينيون ولغتهم

وكانت هذه الرموز المصورة البدائية منشأ العلامات الستمائة وهي الرموز الأساسية في الكتابة الصينية؛ وقد سمي نحو مائتين وأربعة عشر رمزاً منها "أصولاً" لأنها عناصر أساسية. وجميع حروف اللغة الدارجة، والحروف المستعملة في الوقت الحاضر، رموز معقدة غاية التعقيد أثقل فيها العنصر التصويري البدائي بزيادات كثيرة يقصد بها تحديد معنى اللفظ تحديداً واضحاً، ويكون ذلك في العادة ببيان ما يطرأ من تغيير على نغمته. ولم يكتف الصينيون بأن يجعلوا لكل كلمة ينطقون بها علامة بل أنهم يجعلون لكل فكرة أيضاً علامة خاصة، فهذه علامة يرمز بها للحصان وهذه علامة أخرى يرمز بها "للحصان الأحمر الأسود ذي البطن الأبيض" كما يرمز برمز آخر للحصان ذي البقعة البيضاء على جبهته . ولا تزال بعض هذه الرموز بسيطة بساطة نسبية، فالقوس فوق خط مستقيم (أي الشمس فوق الأفق) معناهما "الصباح". والشمس والقمر مجتمعين يمثلان "الضوء"؛ والفم والطائر معاً معناهما "الغناء"، والمرأة تحت سقف معناها "السلام"؛ والمرأة والفم والعلامة الدالة على "الالتواء" يتكون منها الرمز الذي منه "خَطِر"؛ والرجل والمرأة مجتمعين يعنيان "شرشرة"؛ والنزاع يعبر عنه بامرأة ذات فمين، والزوجة يعبر عنها بالعلامات الدالة على امرأة ومكنسة وزوبعة(33).
وهذه لغة بدائية من بعض الوجود استطاع أهلها بمحافظتهم الشديدة على القديم أن يبقوها حية في هذه الأوقات "الحاضرة". والصعوبات الكامنة في هذه اللغة أوضح من مزاياها وفضائلها، ويقال إن الصيني يحتاج إلى ما بين عشر سنين وخمسين سنة ليتعلم فيها جميع الأربعين ألف رمز التي تتكون منها
صفحة رقم : 1328
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأقصى -> الصين -> الشعب والدولة -> الصينيون ولغتهم

لغته؛ ولكننا إذا عرفنا أن هذه الرموز ليست حروفاً بل أفكاراً، ثم فكرنا في طول الوقت الذي نحتاجه لكي نعرف أربعين ألف فكرة من الأفكار أو حتى أربعين ألف كلمة من الكلمات، رأينا أن في العبارات التي نستخدمها للمفاضلة بين اللغة الصينية وغيرها من اللغات ظلماً شديداً للصينيين، وأن من واجبنا إذا كنا ننشد الإنصاف أن نقول إن الصيني يحتاج إلى خمسين عاماً ليعرف أربعين ألف فكرة. والواقع أن الصيني العادي يكفيه ثلاثة آلاف علامة أو أربعة آلاف، وأن من السهل عليه أن يعرف هذا العدد بمعرفة "أصولها" السالفة الذكر. وأوضح ميزة لهذه اللغة- التي لا تعبر عن الأصوات بل عن الأفكار-هي أن الكوريين واليابانيين يسهل عليهم أن يقرؤوها كما يسهل على الصينيين، وأنها تعد لغة كتابة دولية لبلاد الشرق الأقصى. يضاف إلى هذا أنها تجمع في نظام واحد من نظم الكتابة بين جميع سكان الصين الذين تختلف لهجاتهم اختلافاً يجعل التفاهم بينهم يكاد أن يكون مستحيلاً، حتى أن الرمز الواحد يقرأ بأصوات مختلفة وكلمات مختلفة في مختلف البيئات. وهذه الميزة تنطبق على مختلف الأزمنة انطباقها على مختلف الأمكنة؛ ذلك بأن لغة الكتابة قد بقيت واحدة في جوهرها على حين أن لغة الكلام قد تفرعت إلى ما ينيف على مائة من اللهجات. ومن أجل هذا كان في وسع الصيني غير الأمي أن يقرأ الأدب الصيني الذي ظل يكتب بهذه الحروف نحو ألفي عام كاملة، وإن كنا لا نعلم كيف كان الكتاب الأقدمون ينطقون بالألفاظ التي كتبوها أو يعبرون عن الأفكار التي ترمز لها هذه العلامات. ولقد كان هذا الإصرار الشديد على الاحتفاظ بالكتابة الموحدة القديمة بين هذا الفيض الدافق من اللهجات الكلامية المتباينة عاملاً قوياً على الاحتفاظ بالأفكار الصينية والثقافة الصينية إلى هذه الأيام كما كانت عاملاً قوياً في تمسك الصينيين بعاداتهم وتقاليدهم القديمة. ذلك أن الأفكار القديمة قد رسخت في البلاد، وكانت هي القالب

الذي صبت فيه عقول الشباب.
صفحة رقم : 1329
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأقصى -> الصين -> الشعب والدولة -> الصينيون ولغتهم

وإن خصائص الحضارة الصينية لتتمثل في هذه الظاهرة الفذة التي امتازت بها كتابتها على غيرها من البلاد: وحدتها بين مختلف اللهجات والتطورات، وتمسكها الشديد بالقديم واتصالها المنقطع النظير. ولقد كان هذا النظام الكتابي في حد ذاته من أجل الأعمال العقلية وأعلاها شأناً، فقد صنف العالم بأجمعه- عالم الجماد والنشاط والأوصاف- إلى بضع مئات من الرموز التي جعلت "أصولاً"، ثم أضاف إلى هذه الأصول نحو خمسمائة وألف من العلامات المميزة فأضحت تمثل في صورها الكاملة جميع ما في الحياة من أفكار وآداب. ومن واجبنا ألا نثق كل الثقة من أن الطرق المختلفة التي ندون بها نحن أفكارنا أرقى من هذه الطريقة البدائية، فقد كان ليبنتز في القرن السابع عشر وسير وُنَلْدُرْس في هذه الأيام يحلمان بوضع طريقة من العلامات الكتابية مستقلة كل الاستقلال عن لغات الكلام، بعيدة كل البعد عن الاختلافات القومية، وعن اختلافات الزمان والمكان، يستطاع بها من أجل هذا التعبير عن أفكار الشعوب المختلفة بطرق واحدة يفهمها الناس كلهم على السواء، ولكن لغة الرموز هذه التي كان يحلم بها هذان العالمان قائمة فعلاً في الشرق الأقصى توحد بين مائة من الأجيال وبين ربع سكان العالم. وإن النتيجة التي وصل إليها الشرقي لنتيجة منطقية رهيبة: إن سائر بلاد العالم يجب أن تتعلم طريقة لكتابة الصينية.

صفحة رقم : 1330
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأقصى -> الصين -> الشعب والدولة -> الحياة العملية -> في الحقول

الفصل الثالث
الحياة العملية
1- في الحقول
فقر الزراع - الوسائل الاقتصادية -
المحصولات - الشاي - الطعام - صبر أهل القرية

لقد كان خصب التربة هو الدعامة التي يقوم عليها آخر الأمر كل ما حوته تلك اللغة من آداب، وكل ما اشتمل عليه التفكير الصيني من دقة وعمق، وكل ما انطوت عليه الحياة الصينية من نعيم وترف. وبعبارة أصح لقد كانت هذه الدعامة هي جهود الصينيين أنفسهم، لأن التربة الخصبة لا تخلق خلقاً بل تنشأ إنشاء. وما من شك في أن سكان الصين الأولين قد ظلوا قروناً طوالاً يكافحون الأدغال والغابات، والوحوش والحشرات، والجفاف والفيضان، وأملاح التربة والصقيع، حتى استطاعوا في آخر الأمر أن يحولوا تلك البراري الشاسعة الموحشة إلى حقول خصبة مثمرة، وكان لابد لهم أن يعودوا حيناً بعد حين إلى خوض هذه المعارك لكي يحتفظوا بما نالوا من نصر، فإذا ما استمروا يقطعون أشجار الغابات مائة عام مثلاً استحالت الأرض صحراء مجدبة ، وإذا أهملوا تقطيعها بضع سنين استحالت حراجاً وغابات كثيفة.
ولقد كان هذا الكفاح كفاحاً مريراُ ينطوي على أخطار جسيمة، وكان يزيد من مرارته أن البلاد كانت معرضة لهجمات البرابرة واستيلائهم على
صفحة رقم : 1331
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأقصى -> الصين -> الشعب والدولة -> الحياة العملية -> في الحقول

محصولات الأرض المستصلحة، ومن أجل هذا كان الزراع يتقون هذه الإغارة بأن يعيشوا في جماعات صغيرة لا في منازل متفرقة متباعدة، وكانوا ينشئون حول قراهم أسواراً ويخرجون لزرع الأرض مجتمعين، وكثيراً ما كانوا يقضون الليل ساهرين يحرسون الحقول.

وكانت طرق الزراعة عندهم ساذجة وإن كانت لا تختلف كثيراً عن طرق الزراعة في هذه الأيام. وكانوا في بعض الأحيان يفلحون الأرض بالمحاريث، وقد اتخذوها أولاً من الأخشاب ثم من الحجارة واتخذوها بعدئذ من الحديد، ولكنهم كانوا في أكثر الأحيان يقلبون ما يمتلكون من قطع الأرض الصغيرة بالفأس يكدحون بها صابرين. وكانوا يستعينون على إخصاب التربة بكل ما يجدونه من المخصبات الطبيعية ولا يستنكفون أن يجمعوا لهذا الغرض فضلات الكلاب والآدميين. ولقد احتفروا من أقدم الأزمنة قنوات يجرون فيها مياه أنهارهم المثيرة إلى مزارع الأرز أو حقول الذرة، فشقوا ترعاً عميقة يبلغ طولها عدة أميال في الصخور الصماء ليصلوا بها إلى مجرى مائي بعيد أو يحولوا مجراه حتى يصل إلى سهل جاف، واستطاع الصينيون دون الاستعانة بالدورة الزراعية أو المخصبات الصناعية، ومن غير حيوانات الجر في كثير من الأحيان أن يزرعوا نصف أرضهم على الأقل زرعتين أو ثلاث زرعات في العام، وأن يستخرجوا منها من أنواع الغذاء أكثر مما استخرجه أي شعب آخر في التاريخ(34).
وكانت أهم الحبوب التي زرعوها هي الأرز والذرة ويليها في الأهمية القمح والشعير. وكانوا يتخذون من الأرز غداء وخمراً، ولكن الفلاح لم يدمن هذا الشراب في يوم من الأيام. أما شرابه المحبب إليه ومحصوله الذي يلي الأرز في أهميته فهو الشاي. وكان استعماله في مبدأ الأمر مقصوراً على التداوي ثم زاد انتشاراً حتى صار في عهد أسرة تانج من المحصولات التي تصدر إلى خارج البلاد،
صفحة رقم : 1332
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأقصى -> الصين -> الشعب والدولة -> الحياة العملية -> في الحقول

والتي يتغنى بها الشعراء في أشعارهم. ولم يحل القرن الخامس عشر حتى كانت جميع بلاد الشرق الأقصى مغرمة بشرب الشاي تتغنى بمديحه، وحتى أخذ المولعون به يعملون لاستنبات أنواع جديدة منه ويعقدون مجالس الشراب للحكم على خير ما يقدم منها للحاضرين(35). وكان من محصولاتهم الأخرى الخضر اللذيذة والمغذية كفول الصويا، والتوابل المقوية كالثوم والبصل، وعشرات المئات من أنواع الفاكهة(36)؛ وكانت اللحوم أقل المنتجات الريفية شأناً؛ وكانت الثيران والجاموس تستخدم أحياناً في حرث الأرض، أما تربية الماشية للانتفاع بلحومها فكانت مقصورة على الخنازير والدجاج(37)، وكانت طائفة كبيرة من السكان تتخذ غذاءها من سمك البحر والمجاري المائية العذبة.
وكان أهم ما تتغذى به الطبقات الفقيرة هو الأرز الجاف والمكرونة والشعرية وقليل من الخضر والسمك. أما الطبقات الوسطى فكانت تضيف إلى هذا لحم الخنازير والدجاج وتضيف إليه الغنية لحم البط، وكانت أرقى المآدب التي تقام في بيكين تحتوي على مائة صنف من أصناف البط(38). وكان لبن البقر نادراً وكذلك كان البيض قليلاً وقلما كان يؤكل طازجاً. غير أن فول الصويا كان يمد الأهلين باللبن الصالح والجبن. وقد تطور فن الطهي في الصين حتى أصبح من الفنون الجميلة، وكان يستخدم فيه كل منتجات الأرض والماء وطيور الهواء، فكانت الحشائش والأعشاب البحرية تقتلع من الأرض وأعشاش الطير، تنتهب لتعمل منها أنواع الحساء اللذيذ، وكانت أطعمة لذيذة تتخذ من زعانف كلب البحر وأمعاء السمك والجراد والجنادب وصغار الديدان ودود القز ولحم الخيل والبغال والجرذان وثعابين الماء والقطط والكلاب(39). وكان الصينيون يحبون لذيذ المأكل ولم يكن من غير المألوف أن تشتمل مائدة الرجل الغني على أربعين صنفاً وأن يظل القوم حول موائد الطعام ثلاث ساعات أو أربعاً يأكلون فيها ويشربون.
أما الرجل الفقير فلم يكن يصرف هذا الوقت كله في طعامه الذي كان

صفحة رقم : 1333
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأقصى -> الصين -> الشعب والدولة -> الحياة العملية -> في الحقول

يتناول منه وجبتين في اليوم. ولم يكن الفلاح رغم كدحه المتواصل بمنجاة من الجوع طيلة أيام حياته إذا استثنينا بعض الحالات في مختلف الأقاليم والأوقات. وكان في وسع الأقوياء الماهرين منهم أن يستحوذوا على ضياع واسعة وأن يركزوا ثروة البلاد في أيد قليلة. وكان يحدث في بعض الأحيان، كما حدث في أيام الإمبراطور شي هوانج - دي، أن يعاد توزيع الأرض على السكان، غير أن ما بين الناس من فروق طبيعية سرعان ما كان يؤدي إلى تركيز الثروة مرة أخرى(41). وكان معظم الزراع من ملاك الأراضي، ولكن متوسط ما كان يملكه الفرد أخذ يتضاءل في كل قرن عن الذي قبله نظراً لتزايد عدد السكان أسرع من ازدياد مساحة الأرض الصالحة للزراعة. فكانت نتيجة هذا هي الفقر الذي لا مثيل له إلا في أفقر أقاليم الهند! فقد كان دخل الأسرة المتوسطة لا يزيد على 83 ريالاً أمريكياً، وكان كثيرون من الأفراد يعيشون بما يعادل 1
slash50 من الريال في اليوم كما كان الملايين منهم يموتون من الجوع في كل عام(42). وقد ظلت الصين عشرين قرناً كاملاً تعاني القحط بمعدل مرة في كل عام(43)، ويرجع بعض السبب في هذا إلى أن الفلاح كان يُستغل أسوأ الاستغلال ولا ينال من الطعام إلا ما يمسك الرمق، ويرجع بعضه إلى ازدياد المواليد أسرع من تحسين الإنتاج الزراعي واتساع مساحة الأرض المنزرعة، كما يرجع بعضه الآخر إلى سوء سبل الاتصال والنقل إلى حد يجعل السكان في بعض الأقاليم يهلكون من الجوع بينما الطعام في البعض الآخر يزيد على حاجة الأهلين. وآخر ما نذكره من هذه الأسباب أن الفيضان كان في بعض الأحيان يتلف ما يتركه المالك والجابي للزراع، فكثيراً ما كان نهر هوانج - هو، الذي يسميه الناس "حزن الصين"، يغير مجراه ويغرق ألفاً من القرى ويترك ألفاً أخرى صادية.

وكان الفلاحون يصبرون على هذه الكوارث ويتجرعون غصصها، ومن أمثالهم المأثورة: "كل ما يحتاجه الإنسان في هذه الحياة الفانية هو قبعة وحفنة
صفحة رقم : 1334
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأقصى -> الصين -> الشعب والدولة -> الحياة العملية -> في الحقول

من الأرز"(44). وكانوا يكدحون ولكنهم لا يسرعون في عملهم، فلم تكن ثمة آلة معقدة تدفعهم إلى العمل سراعاً أو تنهك أعصابهم بضجيجها وخطرها وسرعتها. ولم يكن لهم أيام راحة في آخر الأسبوع ولا أيام آحاد، ولكن كانت لهم أيام إجازات وأعياد كعيد رأس السنة وعيد الفوانيس تتيح للعامل فرصة يستريح فيه من عناء كدحه ويخفف فيها بالمسرحيات والأساطير ما في سائر فصول السنة من اكتئاب. فإذا ما ولى الشتاء بزمهريره ووجهه الكالح ولانت تربة الأرض بما سقط عليها من مطر الربيع بعد أن ذاب ما تراكم عليها من ثلج الشتاء، خرج الفلاحون مرة أخرى ليزرعوا حقولهم الضيقة، ويغنوا في مرح وحب أغاني الأمل التي انحدرت إليهم من ماضيهم السحيق.

صفحة رقم : 1335
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأقصى -> الصين -> الشعب والدولة -> الحياة العملية -> في المتاجر

2- في المتاجر
الحرف اليدوية - الحرير - المصانع - الطوائف -
الحمالون - الطرق والقنوات - التجار - الائتمان والنقود -
تجارب في العملة المتداولة - التضخم الناشئ من الطباعة
وازدهرت الصناعة في تلك الأيام ازدهاراً لم ير له مثيل في كافة أنحاء الأرض قبل القرن الثامن عشر. فمهما تتبعنا تاريخ الصين إلى ماضيه السحيق وجدنا الحرف اليدوية منتشرة في البيوت والتجارة رائجة في المدن.

وكانت أهم الصناعات الأساسية هي صناعة النسيج وتربية دود القز لاستخراج خيوط الحرير. وكانت كلتا الحرفتين تقوم بها النساء في أكواخهن أو بالقرب منها. وكان غزل الحرير من الحرف القديمة في البلاد وترجع بدايتها في الصين إلى الألفي السنة السابقة لميلاد المسيح . وكان الصينيون يطعمون
صفحة رقم : 1336
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأقصى -> الصين -> الشعب والدولة -> الحياة العملية -> في المتاجر

الدود ورق التوت الحديث التقطيع ويحصلون من تربيته على نتائج عجيبة، ولعل القارئ لا يصدق إذا قيل له إن رطلاً من الديدان (أي 000ر700 دودة) يتغذى على هذا الورق كان يتضاعف إلى 500ر9 رطل في اثنين وأربعين يوماً(47). وكانت الديدان الكبار توضع بعدئذ في خيام صغيرة من القش تنسج حولها شرانقها بما تفرزه من الحرير، فإذا أتمت عملها أخذت الشرانق وألقيت في ماء ساخن فخرج الحرير من القالب الذي لف عليه وعالجوه ونسجوه وصنعوا منه أنواعاً عدة من الثياب والأقمشة المزركشة والمطرزة والأنسجة المشجرة التي كانت تصنع منها ملابس الطبقات العليا في العالم كله%=@لم يكن من غير المألوف عند المضيف إذا جاءه ضيوف أن يمر عليهم بنسيج رقيق من الحرير يعرضه عليهم(48) كما يعرض عليهم غيره آنية من الخزف أو يبسط أمامهم ملفاًً من
صفحة رقم : 1337
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأقصى -> الصين -> الشعب والدولة -> الحياة العملية -> في المتاجر

الصور أو من الخط الجميل.@ ، أما من ينتجون الحرير وينسجونه فكانوا يتخذون ثيابهم من القطن.

وكانت هذه الصناعة المنزلية تكمل بحوانيت في المدن حتى في القرون السابقة لميلاد المسيح، ولذلك وُجدت من بداية القرن الثالث قبل الميلاد جماعات من العمال في المدن نظمت هي والمشرفون عليها في طوائف من أرباب الحرف. وكان نمو هذه الصناعة في الحوانيت سبباً في ازدحام المدن بالسكان العاملين المجدين الذين جعلوا الصين في أيام كوبلاي خان تضارع من الوجهة الصناعية أوربا في القرن الثامن عشر بعد الميلاد. وقد كتب ماركو بولو في ذلك يقول:
"لكل حرفة من الحرف مائة متجر يهيئ كل واحد منها العمل لعشرة أو خمسة عشر أو عشرين من الصناع، وقد يصل هذا العدد في بعض الصناعات إلى أربعين ... والسادة الأغنياء أصحاب الحوانيت لا يعملون بأيديهم بل يتظاهرون بالرقة والتسامي والتأنق في حديثهم وحركاتهم"(50). وكانت هذه النقابات تعمل ما تعمله الصناعات المنظمة في هذه الأيام فتحدد التنافس وتنظم الأجور وساعات العمل؛ وكان الكثير منها يحدد الإنتاج ليحتفظ بمستوى أسعار منتجاته، ولعل رضاها بأساليبها القديمة واطمئنانها إليها كانا من أسباب تأخر العلوم في الصين ومقاومة الانقلاب الصناعي في تلك البلاد مقاومة دامت حتى أخذت كل الحواجز والأنظمة في هذه الأيام تنهار أمام طوفان الصناعة الأوربية الجارف.
وكانت النقابات في الصين تضطلع بكثير من الواجبات التي عهد بها السكان الغربيون المتكبرون إلى الدولة ! فكانت هذه النقابات تسن قوانينها بنفسها وتعدل في تنفيذها، وقد قللت من الإضراب بما كانت تقوم به من تسوية النزاع بين العمال وأصحاب الأعمال بطرق التحكيم على يد لجان الوسطاء التي يمثل فيها كلا الطرفين بالتساوي. وكانت هذه النقابات بوجه عام هيئات صناعية تحكم نفسها وتنظم شئونها، وكانت مخرجاً يدعو أي الإعجاب من التذبذب الحادث في هذه الأيام بين مبدأي التخلي وترك الأمور تجري في مجراها وبين سيطرة الدولة على جميع الشئون.

ولم تكن النقابات مقصورة على التجار والصناع وعمالهم، بل كانت هناك نقابات لطوائف أقل من هؤلاء شأناً كالحلاقين والحمالين والطباخين. بل أن المتسولين كانت لهم هيئة تفرض على أعضائها قوانين صارمة(51). وكانت أقلية ضئيلة من عمال المدن من الأرقاء يستخدم معظمهم في الأعمال المنزلية ويبقون تحت سلطان سادتهم عدة سنين أو طول الحياة، وكان اليتامى والبنات يُعرضون للبيع في أيام القحط ويباعون بعدد قليل من "الكاشات"، وكان من حق الأب في كل وقت أن يبيع بناته أو عبيده. على أن هذا الاسترقاق لم يبلغ في يوم من الأيام ما بلغه في بلاد اليونان أو الرومان، وكانت كثرة العمال من أعضاء النقابات أو الوكلاء الأحرار- كما كانت كثرة الزراع من ملاّك
صفحة رقم : 1338
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأقصى -> الصين -> الشعب والدولة -> الحياة العملية -> في المتاجر

الأراضي- يحكمون أنفسهم في هيئات قروية مستقلة في معظم شئونها عن إشراف الدولة(52).
وكانت منتجات العمل تنقل على ظهور الناس، بل إن الناس أنفسهم كان معظمهم ينقلون في الحدوج فوق أكتاف الحمالين المكدودة المتصلبة، ولم يكن هؤلاء يشكون من عملهم أو يتضجرون منه ، وكانت الدلاء الثقيلة أو الحزم الضخمة تعلق في طرف قوائم خشبية تحمل على الكتفين، وكانت عربات النقل تجرها الحمير أحياناً ولكنها في أكثر الأحيان كان يجرحها الرجال. ذلك أن عضلات الآدميين قد بلغت من الرخص حداً لا يشجع على رقيّ النقل الحيواني أو الآلي، كما كانت حال النقل البدائية غير حافزة على إصلاح الطرق وتعبيدها.

ولما أن أنشئ أول خط حديدي في الصين بين شنغهاي وووسونج بفضل رؤوس الأموال الأجنبية احتج الصينيون على هذا العمل وقالوا إنه سيزعج الأرواح التي في باطن الأرض، واشتدت مقاومتهم حتى اضطرت الحكومة إلى شراء الخط الحديدي وإلقاء القاطرات والعربات في البحر(53). وقد أنشئت في أيام شي هوانج- دي وكوبلاي خان طرق عامة رصفت بالحجارة ولكنها لم يبق منها الآن إلا جوانبها. أما شوارع المدن فلم تكن سوى أزقة لا يزيد عرضها على ثمان أقدام صممت لكي تحجب الشمس، وكانت القناطر كثيرة العدد جميلة في بعض الأحيان، ومن أمثلتها القنطرة الرخامية التي كانت عند القصر الصيفي، وكان التجار والمسافرون يستخدمون الطرق المائية بقدر ما كانوا يستخدمون الطرق البرية، وكان في البلاد قنوات مائية يبلغ طولها 000ر25 ميل، تستخدم بدل السكك الحديدية، ولم يكن في الأعمال الهندسية الصينية ما يفوق القناة الكبرى التي تربط هانجتشاو بتيانشين والتي يبلغ طولها 650 ميلاً، والتي بُدئ
صفحة رقم : 1339
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأقصى -> الصين -> الشعب والدولة -> الحياة العملية -> في المتاجر

في حفرها سنة 300 م وتم في عهد كوبلاي خان، لم يكن يفوقها إلا السور العظيم. وكانت القوارب المختلفة الأشكال والأحجام لا ينقطع غدوها ورواحها في الأنهار، ولم تكن تتخذ وسائل للنقل الرخيص فحسب بل كانت تتخذ كذلك مساكن للملايين من الأهلين الفقراء.
والصينيون تجار بطبعهم وهم يقضون عدة ساعات في المساومات التجارية، وكان الفلاسفة الصينيون والموظفون الصينيون متفقين على احتقار التجار، وقد فرض عليهم أباطرة أسرة هان ضرائب فادحة وحرموا عليهم الانتقال بالعربات ولبس الحرير.

وكان أفراد الطبقات الراقية يطيلون أظافرهم ليدلوا بعملهم هذا على أنهم لا يقومون بأعمال جثمانية، كما تطيل النساء الغربيات أظافر أيديهن لهذا الغرض عينه(64)، وقد جرت العادة أن يعد العلماء والمدرسون والموظفون من الطبقات الراقية، وتليهم في هذا طبقة الزراع، ويأتي الصناع في المرتبة الثالثة، وكانت أوطأ الطبقات طبقة التجار لأن هذه الطبقة الأخيرة- على حد قول الصينيين- لا تجني الأرباح إلا بتبادل منتجات غيرها من الناس.
لكن التجار مع ذلك آثروا ونقلوا غلاّت حقول الصين وسلع متاجرها إلى جميع أطراف آسية، وصاروا في آخر الأمر الدعامة المالية للحكومة الصينية. وكانت التجارة الداخلية تعرقلها الضرائب الفادحة، وأما التجارة الخارجية فكانت معرضة لهجمات قُطّاع الطريق في البر والقرصان في البحر. ومع هذا فقد استطاع التجار الصينيون أن ينقلوا بضائعهم إلى الهند وفارس وبلاد النهرين ورومة نفسها في آخر الأمر بالطواف حول شبه جزيرة الملايو بحراً وبالسير في طرق القوافل التي تخترق التركستان(55). وكانت أشهر الصادرات هي الحرير والشاي والخوخ والمشمش والبارود وورق اللعب، وكان العالم يرسل إلى الصين بدل هذه الغلات والبضائع الفِصْفِصَة
صفحة رقم : 1340
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأقصى -> الصين -> الشعب والدولة -> الحياة العملية -> في المتاجر

والزجاج والجزر والفول السوداني والدخان والأفيون.

وكان من أسباب تيسير التبادل التجاري نظام الائتمان والنقود. فقد كان التجار يقرض بعضهم بعضاً بفوائد عالية تبلغ في العادة نحو 36%، ونقول إنها عالية وإن لم تكن أعلى مما كانت في بلاد اليونان والرومان(65). وكان من أسباب ارتفاع سعر الفائدة ما يتعرض له المرابون من أخطار شديدة، فكانوا من أجل ذلك يتقاضون من الأرباح ما يتناسب مع هذه الأخطار، ولم يكن أحد يحبهم إلا في مواسم الاستدانة. ومن الحكم الصينية المأثورة قولهم: "السارقون بالجملة ينشئون المصارف"(57). وأقدم ما عرف من النقود ما كان يتخذ من الأصداف البحرية والمدي والحرير.
ويرجع تاريخ أقدم عملة معدنية إلى القرن الخامس قبل الميلاد على الأقل(58). وجعلت الحكومة الذهب العملة الرسمية في عهد أسرة شين، وكانت العملة الصغرى تصنع من خليط من النحاس والقصدير، وما لبثت هذه أن طردت الذهب من التعامل . ولما أخفقت التجربة التي قام بها وو دي والتي أراد بها أن يضرب عملة مصنوعة من الفضة والقصدير لكثرة ما زيف وقتئذ من النقود، استعيض عنها بشرائح من الجلد يبلغ طول الواحدة منها قدماً، وكانت هذه الشرائح مقدمة لاستعمال النقود الورقية. ولما أن أضحى ما يستخرج من النحاس أقل من أن يفي بالأغراض التجارية لكثرة البضائع المتداولة، أمر الإمبراطور شين دزونج في عام 807م أن تودع العملة النحاسية كلها في خزائن الحكومة وأن يصدر بدلاً منها شهادات مدينة أطلق عليها الصينيون اسم "النقود الطائرة"، لأنهم كما يبدو تحملوا متاعبهم المالية بنفس الطمأنينة التي تحمل بها الأمريكيون
صفحة رقم : 1341
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأقصى -> الصين -> الشعب والدولة -> الحياة العملية -> في المتاجر

متاعبهم في عام 1933م. ولم تستمر هذه الطريقة إلا ريثما زالت الضائقة؛ ولكن اختراع الطباعة بالقوالب أغرى الحكومة على أن تستخدم هذه الطريقة الجديدة في عمل النقود، فشرعت ولاية سشوان شبه المستقلة في عام 935 م والحكومة الوطنية في شنجان عام 970 تصدران النقود الورقية. وأسرفت الحكومة في عهد أسرة سونج في إصدار هذه النقود، فنشأ من ذلك تضخم شديد قضى على كثير من الثروات(59).
ويقول ماركو بولو عن خزائن كوبلاي خان: "إن دار السك الإمبراطورية تقوم في مدينة كمبلوك (بيكين)، وأنت إذا شاهدت الطريقة التي تصدر بها النقود قلت إن فن الكيمياء أتقن أتقاناً لا إتقان بعده، وكنت صادقاً فيما تقول. ذلك أنه يصنع نقوده بالطريقة الآتية"، ثم أخذ يستثير سخرية مواطنيه وتشككهم فيما يقول وعدم تصديقهم إياه فوصف الطريقة التي يؤخذ بها لحاء شجر التوت فتصنع منه قطع من الورق يقبلها الشعب ويعدها في مقام الذهب(60). ذلك هو منشأ السيل الجارف من النقود الورقية الذي أخذ من ذلك الحين يدفع عجلة الحياة الاقتصادية في العالم مسرعة تارة ويهدد هذه الحياة بالخراب تارة أخرى.

صفحة رقم : 1342
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأقصى -> الصين -> الشعب والدولة -> الحياة العملية -> المخترعات والعلوم

3- المخترعات والعلوم
البارود - الألعاب النارية والحروب - ندرة
المخترعات الصناعية - الجغرافية - الرياضيات -
الطبيعة - "فتح شوى" - الفلك - الطب - تدبير الصحة
لقد كان الصينيون أقدر على الاختراع منهم على الانتفاع بما يخترعون. فقد اخترعوا البارود في أيام أسرة تانج، ولكنهم قصروا استعماله وقتئذ على الألعاب النارية، وكانوا في ذلك جد عقلاء؛ ولم يستخدموه في صنع القنابل اليدوية وفي الحروب إلا في عهد أسرة سونج (عام 1161م). وعرف العرب ملح البارود (نترات البوتاسا)- وهو أهم مركبات البارود- في أثناء
صفحة رقم : 1343

قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأقصى -> الصين -> الشعب والدولة -> الحياة العملية -> المخترعات والعلوم

اتجارهم مع الصين وسموه "الثلج الصيني" ونقلوا سر صناعة البارود إلى البلاد الغربية، واستخدمه العرب في أسبانيا في الأغراض الحربية، ولعل سير روجر بيكين أول من ذكره من الأوربيين قد عرفه من دراسته لعلوم العرب أو من اتصاله بده- برو كي الرحالة الذي طاف في أواسط آسية.
والبوصلة البحرية أقدم عهداً من البارود. وإذا جازفنا أن نصدق ما يقوله عنها المؤرخون الصينيون فإن دوق جو قد اخترعها في عهد الإمبراطور تشنج وانج (1115-1078 ق.م) ليهتدي بها بعض السفراء الأجانب في عودتهم إلى بلادهم. ويقول الرواة إن الدوق أهدى إلى السفارة خمس عربات جهزت كل منها "بإبرة تشير إلى الجنوب"(62). وأكبر الظن أن الصينيين الأقدمين كانوا يعرفون ما لحجر المغنطيس من خواص مغنطيسية، ولكن استعماله كان مقصوراً على تحديد الاتجاهات في بناء الهياكل. وقد ورد وصف الإبرة المغنطيسية في السونج- شو وهو كتاب تاريخي مؤلف في القرن الخامس الميلادي. ويقول المؤلف إن مخترعها هو الفلكي جانج هنج (المتوفى في عام 139م)، على أن هذا العالمِ لم يفعل أكثر من أن يكشف من جديد ما كانت الصين تعرفه قبل أيامه. وأقدم ما ورد عن الإبرة من حيث فائدتها للملاحين هو ما جاء في كتاب أُلّف في أوائل القرن الثاني عشر الميلادي وهو يعزو استخدامها في هذا الغرض إلى البحارة الأجانب- وأكبر الظن أنهم من العرب- الذين كانوا يسيرون سفنهم بين سومطرة وكانتون(63). وأول إشارة معروفة لنا عن البوصلة في أقوال الأوربيين هي ما ذكر عنها في قصيدة لجنيو ده بروفن(64).

على أننا لا نستطيع أن نصف الصينيين بأنهم من الأمم النشيطة في ميدان الاختراعات الصناعية رغم اختراعهم البوصلة والبارود والطباعة والخزف. لقد كانوا مخترعين في الفنون وقد ارتقوا بها في صورها التي ابتدعوها حتى بلغت درجة من الكمال لا نظير لها في غير بلادهم أو في تاريخهم، ولكنهم ظلوا حتى
صفحة رقم : 1344
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأقصى -> الصين -> الشعب والدولة -> الحياة العملية -> المخترعات والعلوم

عام 1912م قانعين بالجري على طرقهم الاقتصادية القديمة، يحتقرون الأساليب والحيل التي تغني عن العمل الشاق، وتضاعف ثمار الجهود البشرية، وتعطل نصف سكان العالم لتزيد من ثراء النصف الآخر، كأنهم في احتقارهم هذا كانوا يتنبئون بما تجره هذه الاختراعات على البشر من شرور. وكان الصينيون من أوائل الأمم التي اتخذت الفحم وقوداً واستخرجوه من الأرض بكميات قليلة منذ عام 122 ق.م(65)، ولكنهم لم يخترعوا آلات تريحهم من كدح استخراجه وتركوا معظم ما تخبئه أرضهم من الثروة المعدنية دون أن يستغلوها، ومع أنهم عرفوا كيف يصنعون الزجاج فقد رضوا أن يستوردوه من الغرب، ولم يصنعوا ساعات للجيب أو للحائط، ولم يخترعوا المسامير المحواة بل إنهم لم يصنعوا من المسامير العادية إلا أغلظها(66). وقد ظلت حياة الصين الصناعية في أهم نواحيها على حالها لم تتغير كثيراً خلال الألفي العام التي بين قيام أسرة هان وسقوط المنشو- شأنها في هذا شأن الحياة الصناعية في أوربا من أيام بركليز إلى عهد الانقلاب الصناعي.

كذلك كانت الصين تفضل سلطان التقاليد والعلماء على سلطان العلم والمال المثير للأعصاب، ولذلك كانت الحضارة الصينية أفقر الحضارات العظمى فيما أفادته منها فنون الحياة المادية. فقد أخرجت هذه الحضارة كتباً من أرقى الكتب الدراسية في الزراعة وفي تربية دود القز قبل ميلاد المسيح بقرنين كاملين وألفت رسالات قيمة في علم تقويم البلدان(67). وقد خلف عالمها الرياضي المعمر جانج تسانج (المتوفى في عام 152ق.م) وراءه كتاباً في الجبر والهندسة فيه أول إشارة معروفة للكميات السالبة. وقد حسب دزو تسو تشونج- جي القيمة الصحيحة للنسبة التقريبية إلى ثلاثة أرقام عشرية، وحسن المغنطيس أو "الأداة التي تشير إلى الجنوب"، وقد وردت إشارة عنه غير واضحة قيل فيها إنه كان يجري التجارب على سفينة تتحرك بنفسها(68).
صفحة رقم : 1345
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأقصى -> الصين -> الشعب والدولة -> الحياة العملية -> المخترعات والعلوم

واخترع تشانج هنج آلة لتسجيل الزلازل (سيمسغرافا) في عام 132م . ولكن علم الطبيعة الصيني قد ضلت معظم أبحاثه في دياجير الفنج جوي السحرية واليانج والين من أبحاث ما وراء الطبيعة . وأكبر الظن أن علماء الرياضة الصينيين قد أخذوا الجبر عن علماء الهند، ولكنهم هم الذين أنشئوا علم الهندسة في بلادهم مدفوعين إلى هذا بحاجتهم إلى قياس الأرض(70). وكان في وسع الفلكيين في أيام كنفوشيوس أن يتنبئوا بالخسوف والكسوف تنبؤاً دقيقاً، وأن يضعوا أساس التقويم الصيني بتقسيم اليوم إلى اثنتي عشرة ساعة وتقسيم السنة إلى اثني عشر شهراً يبدأ كل منها بظهور الهلال، وكانوا يضيفون شهراً آخر في كل بضع سنين لكي يتفق التقويم القمري مع الفصول الشمسية(71). وكانت حياة الصينيين على الأرض تتفق والحياة في السماء؛ وكانت أعياد السنة تحددها منازل الشمس والقمر، بل إن نظام المجتمع من الناحية الأخلاقية كان يقوم على منازل الكواكب السيارة والنجوم.
وكان الطب في الصين خليطاً من الحكمة التجريبية والخرافات الشعبية. وكانت بدايته فيما قبل التاريخ المدون، ونبغ فيه أطباء عظماء قبل عهد أبقراط بزمن طويل، وكانت الدولة من أيام أسرة جو تعقد امتحانا سنوياً للذين يريدون الاشتغال بالمهن الطبية، وتحدد مرتبات الناجحين منهم في الامتحان حسب ما يظهرون من جدارة في الاختبارات. وقد أمر حاكم صيني في القرن الرابع
صفحة رقم : 1346
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأقصى -> الصين -> الشعب والدولة -> الحياة العملية -> المخترعات والعلوم

قبل المسيح أن تشرح جثث أربعين من المجرمين المحكوم عليهم بإعدامهم، وأن تدرس أجسامهم دراسة تشريحية، ولكن نتائج هذا التشريح وهذه الدراسة قد ضاعت وسط النقاش النظري، ولم تستمر عمليات التشريح فيما بعد. وكتب جانج جونج- تنج في القرن الثاني عدة رسائل في التغذية والحميات ظلت هي النصوص المعمول بها مدى ألف عام، وكتب هوا- دو في القرن الثالث كتاباً في الجراحة، وأشاع العمليات الجراحية باختراع نبيذ يخدر المريض تخديراً تاماً. ومن سخافات التاريخ أن ضاعت أوصاف هذا المخدر فيما بعد، ولم يعرف عنها شيء. وكتب وانج شو- هو في عام 300 بعد الميلاد رسالة ذائعة الصيت عن ضربات القلب(72).
وفي أوائل القرن السادس كتب داو هونج- جنج وصفاً شاملاً لسبعمائة وثلاثين عقاراً مما كان يستخدم في الأدوية الصينية، وبعد مائة عام من ذلك الوقت كتب جاو يوان- فانج كتاباً قيماً في أمراض النساء والأطفال ظل من المراجع الهامة زمناً طويلاً. وكثرت دوائر المعارف الطبية في أيام أباطرة أسرة تانج كما كثرت الرسائل الطبية المتخصصة التي تبحث كل منها في موضوع واحد في عهد الملوك من أسرة سونج(73). وأنشئت في أيام هذه الأسرة كلية طبية؛ وإن ظل طريق التعليم الطبي هو التمرين والممارسة. وكانت العقاقير الطبية كثيرة متنوعة حتى لقد كان أحد مخازن الأدوية منذ ثلاثمائة عام يبيع منها بنحو ألف ريال في اليوم الواحد(74). وكان الأطباء يطنبون ويتحذلقون في تشخيص الأمراض، فقد وصفوا من الحميات مثلاً ألف نوع، وميزوا من أنواع النبض أربعاً وعشرين حالة. واستخدموا اللقاح في معالجة الجدري، وإن كانوا لم يستخدموا التطعيم للوقاية منه، ولعلهم قد أخذوا هذا عن الهند، ووصفوا الزئبق للعلاج من الزهري. ويلوح أن هذا المرض الأخير قد ظهر في الصين في أواخر أيام أسرة منج وأنه انتشر انتشاراً مروعاً بين الأهلين، وأنه بعد زواله قد خلف
صفحة رقم : 1347

قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأقصى -> الصين -> الشعب والدولة -> الحياة العملية -> المخترعات والعلوم

وراءه حصانة نسبية تقيهم أشد عواقبه خطورة. غير أن الإجراءات الصحية العامة والأدوية الواقية، والقوانين الصحية لم تتقدم تقدماً يذكر في بلاد الصين؛ كما كان نظام المجاري والمصارف نظاماً بدائياً إذا كان قد وضع لهما نظام على الإطلاق(75). وقد عجزت بعض المدن عن حل أول الواجبات المفروضة على كل مجتمع منظم- ضمان ماء الشرب النقي والتخلص من الفضلات.
وكان الصابون من مواد الترف التي لا يحصل عليها إلا الأثرياء الممتازون، وإن كان القمل وغيره من الحشرات كثير الانتشار. وقد اعتاد الصيني الساذج أن يهرش جسمه ويخدشه وهو مطمئن هادئ هدوء الكنفوشيين. ولم يتقدم علم الطب تقدماً يستحق الذكر من أيام شي هوانج- دي إلى أيام الملكة الوالدة. ولعل في وسعنا أن نقول هذا القول بعينه من علم الطب في أوربا من عهد أبقراط إلى عهد باستير. وغزا الطب الأوربي بلاد الصين في صحبة المسيحية ولكن المرضى الصينيين من الطبقات الدنيا ظلوا إلى أيامنا هذه يقصرون الانتفاع به على الجراحة. أما فيما عداها فهم يفضلون أطباءهم وأعشابهم القديمة على الأطباء الأوربيين والعقاقير الأوربية.

صفحة رقم : 1348
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأقصى -> الصين -> الشعب والدولة -> دين بلا كنيسة

الفصل الرابع
دين بلا كنيسة
الخرافات والتشكك - عبادة الطبيعة - عبادة السماء - عبادة
الأسلاف - الكنفوشية - الدوية - إكسير الخلود - البوذية - التسامح
الديني والتصوف - الإسلام - المسيحية - وأسباب إخفاقها في الصين

لم يقم المجتمع الصيني على العلم بل قام على خليط فذ عجيب من الدين والأخلاق والفلسفة. ولم يشهد التاريخ شعباً من الشعوب أشد من الشعب الصيني استمساكاً بالخرافات، أو أكثر منه تشككاً أو أعظم منه تُقى، أو أكثر انصياعاً لحكم العقل أو أقوى منه دنيوية. ولم توجد على ظهر الأرض أمة تماثل الأمة الصينية في التحرر من سيطرة الكهنة، ولم يسعد قوم غير الهنود بآلهتهم أو يشقوا بها بمثل ما سعد بهم الصينيون أو شقوا. ولسنا نستطيع أن نفسر هذه المتناقضات إلا بأن نعزو لفلاسفة الصين نفوذاً لا نظير له في التاريخ، وأن نقر بما في فقر الصين من معين للأماني الخالية لا ينضب.
ولم يكن دين سكان الصين البدائيين يختلف بوجه عام عن دين عبدة الطبيعة، وأهم عناصره الخوف من الطبيعة وعبادة الأرواح الكامنة في جميع نواحيها، وإجلال شعري لما على الأرض من صور رهيبة وما فيها من قدرة عظيمة على الإنتاج والتوالد، وخشية السماء وعبادتها وإجلال ما فيها من شمس منعشة وأمطار خصبة كانوا يعدونهما عنصراً من عناصر الوئام والارتباط بين ما على الأرض من حياة وما في السماء من قوى خفية، فكانوا يعبدون الريح والرعد والأشجار والجبال والأفاعي؛ ولكن أعظم أعيادهم كانت تقام لمعجزة النماء، وكان
صفحة رقم : 1349
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأقصى -> الصين -> الشعب والدولة -> دين بلا كنيسة

الشبان والفتيات في أيام الربيع يرقصون ويتضاجعون في الحقول ليضربوا المثل لأمهم الأرض في الإخصاب والإنتاج. ولم يكن ثمة فرق كبير بين الملك والكاهن في تلك الأيام، وكان ملوك الصين الأولون كما ورد في أقوال المؤرخين الذين أطنبوا فيما بعد في وصفهم كهاناً سياسيين لا يقدمون على عمل من أعمال البطولة إلا بعد أن يمهدوا له بالأدعية والصلوات ويستعينوا عليه الآلهة(76).

وكانت الأرض والسماء في هذا الدين البدائي مرتبطتين إحداهما بالأخرى، لأنهما شطران من وحدة كونية عظيمة، وكانت صلة إحداهما بالأخرى أشبه ما تكون بصلة الرجل والمرأة وصلة السيد بالتابع واليانج بالين. وكان نظام السموات ومسلك الآدميين الخلقي عمليتين متقاربتين متشابهتين لأنهما شطران من نظام عالمي لا غنى عنه يسمى دو- أي الطريقة السماوية؛ وليست الأخلاق الطيبة في اعتقادهم إلا نتيجة للتعاون القائم بين أجزاء هذا الكل شأنها في هذا شأن القوانين التي تسير نجوم السماء.
وكان الإله الأكبر هو هذه السماء العظمى نفسها، هذا النظام الأخلاقي، هذا الترتيب القدسي، الذي يشمل بين طياته الناس والجماد ويحدد العلاقات الحقة بين الأطفال وآبائهم والزوجات وأزواجهن، وبين الأتباع وسادتهم، والسادة والإمبراطور، والإمبراطور والإله. لقد كان هذا تفكيراً عجيباً ولكنه تفكير نبيل يتأرجح بين التجسيد الشخصي حين يصلي الشعب لتين- للسماء المعبودة- والتجريد حين يتحدث الفلاسفة عن جماع تلك القوى- الشديدة البعد عن قوة البشر فرادى أو مجتمعين- التي تسيطر على السموات والأرضين والأناسي. ولما تقدمت دراسة الفلسفة أضحت فكرة "السماء" الشيئية مقصورة على عامة الشعب، أما فكرتها المجردة غير الشيئية فأضحت عقيدة الطبقات المتعلمة ودين الدولة الرسمي(77).
صفحة رقم : 1350
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأقصى -> الصين -> الشعب والدولة -> دين بلا كنيسة

ومن هاتين البدايتين نشأ العنصران اللذان يتألف منهما دين الصين القومي وهما: عبادة الأسلاف المنتشرة بين جميع طبقات الأمة وعبادة السماء وعظماء الرجال التي تدعو إليها الكنفوشية. وكان الصينيون يقربون في كل يوم قرباناً متواضعاً- ويكون في العادة شيئاً من الطعام- للموتى، ويرسلون الدعوات الصالحات إلى أرواحهم؛ ذلك أن الزارع أو العامل الساذج كان يعتقد أن آباءه أو أسلافه يعيشون بعد موتهم في مملكة غير محددة أو واضحة له، وأن في مقدورهم أن يسعدوه أو يشقوه. وكان الصيني المتعلم يقرب لأسلافه مثل هذا القربان، ولكنه لم يكن ينظر إلى المراسم التي تصحبه على أنها عبادة بل كان ينظر إليها على أنها نوع من إحياء ذكراهم. ولقد كان من الخير لأرواح الموتى وللشعب الصيني بوجه عام أن يعظم هؤلاء الأموات، وأن تخلد ذكراهم لأن في تخليدها تعظيماً للطرق القديمة التي كانوا يسيرون عليها وسداً لطريق البدع وإقرارا للسلام في أنحاء الإمبراطورية. وما من شك في أن هذا الدين كان يسبب للصينيين بعض المتاعب والمضايقات؛ من ذلك أنه ملأ البلاد بما لا يحصى من القبور الضخمة التي لا يمكن انتهاك حرمتها، فعاقت هذه القبور إنشاء الطرق الحديدية وفلح الأرض للزراعة؛ ولكن هذه الصعاب كانت في نظر الفيلسوف الصيني صعاباً تافهة لا يقام لها وزن أمام ما تسديه عبادة الأسلاف إلى المدنية الصينية من استقرار سياسي واطراد روحي. ذلك أن هذا النظام المتغلغل في كيان الأمة الصينية قد أفضى عليها وحدة روحية زمانية رغم ما فيها من عوامل التفرق والانفصال التي تحول دون وحدتها المكانية وأهمها المسافات الشاسعة، ومن فقرها في وسائل النقل وسبل الاتصال. وبفضل هذه الوحدة الروحية ارتبطت الأجيال بعضها ببعض برباط قوي من وحدة التقاليد، وبذلك كان للحياة الفردية نصيب مشرف موفور وخطر عظيم في هذه العظمة التي لا يحدها وقت وفي ذلك المجال الممتد على مدى الزمان.
صفحة رقم : 1351

قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأقصى -> الصين -> الشعب والدولة -> دين بلا كنيسة

ومن عجب أن الدين الذي اعتنقه العلماء واتبعته الدولة قد وسع دائرة هذه العقائد الشعبية وضيق نطاقها في آن واحد؛ ذلك أن إجلال الناس لكنفوشيوس قد أخذ يعظم جيلاً بعد جيل حتى أصبح بفضل ما كان يصدره الأباطرة من مراسيم في المكانة الثانية بعد السماء نفسها. فكانت كل مدرسة تكرمه بوضع لوحة تذكارية وكل مدينة تكرمه ببناء هيكل فيها، وكان كبار الموظفين يحرقون البخور أو يقربون القرابين من حين إلى حين تكريماً لروحه أو إحياء لذكراه، ويعدون هذه الذكرى أعظم دافع لفعل الخير بين جميع ذكريات الشعب الصيني التي يخطئها الحصر.
ولم تكن الطبقات الراقية المثقفة تعده إلهاً، بل كان كثير من الصينيين يعدّونه بديلاً من الإله؛ ولربما كان من بين من يحضرون الصلوات التي تقام تكريماً له لا أدريون أو كفرة ملحدون، ولكنهم- إذا ما عظموه وعظموا أسلافهم- كانوا يعدون في المجتمع الذي يعيشون فيه أتقياء متدينين. وكان من الأصول المقررة في الديانة الكنفوشية الاعتراف بالشانج- تي، أي القوة العليا المسيطرة على العالم، وكان الإمبراطور في كل عام يقرّب القربان باحتفال عظيم على مذبح السماء لهذا المعبود المجرد. وقد خلا هذا الدين الرسمي من كل إشارة للخلود(78)، فلم تكن السماء مكاناً بل كانت إرادة الله أو نظام العالم.
لكن هذا الدين البسيط الذي يكاد ينطبق على مقتضيات العقل لم يرض أهل الصين في وقت من الأوقات. ذلك بأن مبادئه لا تفسح المجال واسعاً أمام خيال الناس ولا تستجيب إلى آمالهم وأمانيهم ولا تشجع الخرافات التي تبعث البهجة في حياتهم اليومية. ولقد كان الناس في الصين كما كانوا في سائر بلاد العالم يجملون الحقائق الواقعية العادية بالخوارق الطبيعية الشعرية، وكانوا يحسون بأن آلافاً من الأرواح الطيبة والخبيثة ترفرف من حولهم في الهواء المحيط بهم وفي

صفحة رقم : 1352
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأقصى -> الصين -> الشعب والدولة -> دين بلا كنيسة

الأرض التي تحت أقدامهم، وكانوا يحرصون على أن يردوا عداوة هذه القوى الخفية أو يستعينوا بالأدعية وبالرقى السحرية. وكانوا يستأجرون المتنبئين ليكشفوا لهم عن مستقبلهم من سطور إلاي- جنج أو أصداف السلاحف أو حركات النجوم، ويستأجرون السحرة ليوجهوا منازلهم نحو الريح والماء والعرّافين ليستنزلوا لهم نور الشمس وماء الأمطار(79). وكانوا يعرضون للموت من يولد لهم من الأطفال في أيام "النحس"(80). وكانت البنات المتوقدات حماسة وغيرة يقتلن أنفسهن في بعض الأحيان ليجلبن الخير أو الشر لآبائهن(81). وكانت نفوس الصينيين عامة وفي الجنوب خاصة تنزع إلى التصوف وتشمئز من النزعة العقلية الجامدة التي تسود العقائد الكنفوشية وتتوق إلى عقيدة تجد فيها ما يجده غيرها من الأمم من سلوى دائمة تحيي موات النفوس.

ومن أجل هذا عمد بعض الفقهاء الشعبيين إلى عقيدة لو دزه الغامضة فصاغوها تدريجاً في دين جديد. لقد كانت الدوية في رأي الأستاذ القديم وفي رأي جوانج- دزه طريقة للحياة تهدف إلى الحصول على السلام الشخصي على ظهر الأرض؛ ويبدو أنهم لم يؤلهوا هذه الطريقة أو يتخذوها نوعاً من العبادة، كما أنهم لم ينظروا إليها على أنها ثمن يؤدونه في هذه الدار ليشتروا به الحياة في الدار الآخرة(82). فلما كان القرن الثاني بعد الميلاد عدلت هذه العقائد على يد رجال ادعوا أنهم قد وصل إليهم عن طريق لو- دزه نفسه إكسير يهب صاحبه الخلود. وكان هذا الإكسير في صورة شراب شاع بين الصينيين وأسرفوا فيه إسرافاً يقال إنه أودى بحياة عدد غير قليل من الأباطرة الصينيين لكثرة إدمانهم إياه(83). وأشد من هذا غرابة أن معلماً من رجال الدين في سشوان (حوالي عام 148 بعد الميلاد) كان يعرض على الناس أن يشفيهم من أمراضهم كلها بطلسم بسيط يعطيهم إياه في نظير حفنات من الأرز. وبدا لبعض الناس أنهم قد شفوا من أمراضهم بفضل هذه الأعمال السحرية، وقيل للذين لم يثمر فيهم العلاج إن
صفحة رقم : 1353
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأقصى -> الصين -> الشعب والدولة -> دين بلا كنيسة

إخفاقه كان نتيجة لضعف إيمانهم(84). وأقبل الناس على الدين الجديد زرافات ووحداناً، وشادوا له الهياكل وأغدقوا المال على كهنته بسخاء عظيم، ومزجوا به جزءاً من قصصه الشعبي الخرافي الذي لا ينضب له معين. واتخذ الناس لو دزه إلهاً يعبدوه، وقالوا إن أمه حملت فيه حملاً سماوياً، واعتقد المؤمنون الصالحون إنه وُلد كامل العقل طاعناً في السن لأنه أقام في بطن أمه ثمانين عاماً(85). ثم ملأوا الأرض بشياطين وآلهة جديدة، وكانوا يخيفون الأولى بصواريخ نارية تنفجر في أفنية الهياكل ويبتهج بانفجارها من يجتمع حولها من الناس، ويوقظون الثانية من سباتها بنواقيس ضخمة قوية الصوت لتستمع إلى دعوات عُبَّادها ومطالبهم الملحة.
وظلت العقائد الدوية ألف عام عقيدة الملايين من الصينيين، وآمن بها كثير من الأباطرة، وحاك أتباعها كثيراً من الدسائس، وكافحوا أشد الكفاح لينتزعوا من الكنفوشيين حقهم المقدس في فرض الضرائب وإنفاق حصيلتها. ثم قضى عليها آخر الأمر، ولكن الذي قضى عليها لم يكن منطق كنفوشيوس وأتباعه بل قضى عليها دين جديد أقدر منها هي نفسها على إلهام رجل الشارع وبعث السلوى في نفسه.
وهذا الدين الجديد هو البوذية، ولم تكن البوذية التي بدأت تنتقل من الهند إلى الصين في القرن الأول الميلادي هي العقيدة الجامدة المكتئبة التي نادى بها "المستنير" قبل دخولها إلى الصين بخمسمائة عام، ولم تكن عقيدة قائمة على الزهد والتقشف، بل كانت ديناً يدعو إلى الإيمان في غبطة وبهجة بآلهة تعين البشر على أعمالهم، وجنة ذات أزهار ورياض. واتخذت على توالي الأيام صورة المركبة الكبرى أو الماهيانا التي وفق فقهاء الكتشكا بينها وبين الحاجات العاطفية لسكان الصين السُذج؛ وغمرت الصين بآلهة جدد لا يفترقون كثيراً عن الآدميين أمثال أميتبها حاكم الجنة، وكوان- ين إله الرحمة وإلهتها فيما
صفحة رقم : 1354

قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأقصى -> الصين -> الشعب والدولة -> دين بلا كنيسة

بعد، وأضافت إلى مجمع آلهة الصين عدداً من اللوهان والأرباط- وهم ثمانية عشر من أتباع بوذا الأولين- المتأهبين في كل حين لأن يهبوا الناس بعض ما لهم من فضائل لكي يساعدوا بني الإنسان الحيارى المعذبين.
ولما ألفت الصين نفسها بعد سقوط أسرة هان مقطعة الأوصال من جراء ما سادها من فوضى سياسية، وخيل إلى أهلها أن حياتها نفسها قد قضى عليها اضطراب حبل الأمن وتوالي الحروب، ولت الأمة المعذبة وجهها شطر البوذية كما ولَّى العالم الروماني وجهه في ذلك الوقت نفسه شطر المسيحية. وفتحت الدوية ذراعيها لاحتضان الدين الجديد وامتزجت به على مر الزمان في نفوس الصينيين امتزاجاً تاماً؛ وأخذ الأباطرة يضطهدون البوذية والفلاسفة يشكون مما فيها من خرافات، وأخذ الساسة يأسفون لأن طائفة من خير أبناء الصين قد انزوت في الأديرة وعقمت فأضحت لا تفيد منها البلاد شيئاً. لكن الحكومة وجدت آخر الأمر أن الدين أقوى من الدولة؛ فتصالح الأباطرة مع الآلهة الجدد؛ وأجيز للكهنة أن يجمعوا الزكاة ويشيدوا الهياكل، ورضيت طبقتا الموظفين والعلماء على الرغم منهما أن تبقى الكنفوشية ديناً أرستقراطياً لها. واستولى الدين الجديد على كثير من المزارات القديمة وأقام رهبانه وهياكله إلى جانب رهبان الدوية وهياكلها على تاي- شان جبلها المقدس، وحث الناس على أن يحجوا إلى هذه الهياكل مراراً كثيرة إظهاراً لورعهم وتقواهم، وكان له أثر عظيم في ازدهار فنون التصوير والنحت والعمارة والآداب وتقدم الطباعة ورقي كثير من طباع الصينيين، ثم اضمحل كما اضمحلت الدوية، فدب الفساد في نفوس كهنة الديانة الجديدة وتغلغل في عقائدها على مر الأيام كثير من الأرباب المشئومين والخرافات الشعبية المؤذية، وقضى على ما كان لها من سلطان سياسي- لم يكن كبيراً في يوم من الأيام- نهضةُ الكنفوشية على يد جوشي.

والآن قد هجرت هياكلها ونضب معين مواردها وأضحت وليس لها عُبّاد إلا كهنتها الفقراء المعدمون(86).
صفحة رقم : 1355
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأقصى -> الصين -> الشعب والدولة -> دين بلا كنيسة

بيد أنها مع ذلك قد نفذت إلى قرار النفس الصينية، ولا تزال حتى الآن عنصراً هاماً من العناصر المعقدة غير الرسمية في دين الصيني الساذج. ذلك أن الأديان في الصين ليست محدودة مانعة كما هي في أوربا وأمريكا، ولم تدفع البلاد في يوم من الأيام إلى الحروب الدينية. فأنصار كل دين في تلك البلاد متسامحون عادة مع أهل كل دين آخر، وليس هذا التسامح مقصوراً على شئون الدولة السياسية بل تراه أيضا في العقائد نفسها؛ فالصيني العادي من عبدة مظاهر الطبيعة ودوِّيّ وبوذي وكنفوشي في وقت وواحد. ذلك أنه فيلسوف متواضع، يعرف ألا شيء في هذا العالم محقق مؤكد، ويقول في نفسه لعل رجال الدين على حق ولعل هناك جنة كما يقولون، وخير ما يفعله الإنسان أن يتقبل كل هذه العقائد؛ ويستأجر كثيراً من الكهنة من ديانات مختلفة ليتلوا الصلوات على قبره. على أن المواطن الصيني لا يعبأ كثيراً بالآلهة ما دام الحظ يبسم له؛ فهو يعظم أسلافه ولكنه يترك هياكل الدوية والبوذية في رعاية الكهنة وعدد قليل من النساء.
ولم يعرف التاريخ نفساً أشد دنيوية من نفسه، فأكبر ما يهتم به الصيني أن يعيش بخير في هذه الحياة الدنيا، وإذا صلى فإنه لا يطلب في صلاته أن ينال نعيم الجنة بل يطلب الخير لنفسه في هذا العالم الأرضي(87). وإذا لم يستجب إلهه لدعائه فقد يطلق فيه لسانه بالسباب ثم يقذفه آخر الأمر في النهر. ومن الأمثال الصينية المأثورة: "ليس من صانعي التماثيل والصور من يعبد الآلهة، فهم يعرفون من أية مادة تصنع(88)".

ومن أجل هذا لم يقبل الصيني العادي بحماسة على الإسلام أو المسيحية؛ فذانك الدينان يمنيانه بجنة قد وعدته إياها البوذية من قبلهما؛ ولكن الذي يريده بحق هو دين يضمن له السعادة في هذه الأرض. وإذا قيل إن في الصين مسلمين فجوابنا أن معظم الخمسة عشر مليوناً من المسلمين في الصين ليسوا في
صفحة رقم : 1356
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأقصى -> الصين -> الشعب والدولة -> دين بلا كنيسة

الحقيقة صينيين، بل هم من أصول أجنبية أو أبناء أجانب(89). وقد دخلت المسيحية الصين على يد النساطرة، وكان ذلك حوالي عام 636م. وأظهر الإمبراطور ناي دزونج شيئاً من العطف عليها، وحمى الداعين لها من الاضطهاد، وبلغ من اغتباط نساطرة الصين بهذا التسامح أن أقاموا في عام 781م نصباً تذكارياً سجلوا عليه تقديرهم لهذا المتسامح المستنير، ورجاءهم أن تعم المسيحية في القريب العاجل جميع أنحاء البلاد(90).
ومن ذلك الحين ظل المبشرون اليسوعيون ذوو الغيرة الدينية والعلم الغزير، وظل المبشرون البروتستنت تؤيدهم الأموال الأمريكية التي لا ينضب لها معين، ظل هؤلاء وأولئك يبذلون أقصى جهودهم ليحققوا آمال النساطرة. فماذا كانت النتيجة ؟ إن عدد المسيحيين في الصين في هذه الأيام لا يتجاوز ثلاثة ملايين أي أن واحداً في المائة من سكان الصين قد اعتنقوا المسيحية في ألف عام كاملة .

صفحة رقم : 1357
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأقصى -> الصين -> الشعب والدولة -> حكم الأخلاق

الفصل الخامس
حكم الأخلاق
ما للأخلاق من مكانة سامية في المجتمع الصيني - الأسرة - الأطفال-
العفة - الدعارة - العلاقات الجنسية قبل الزواج - الزواج والحب-
الاقتصار على زوجة واحدة وتعدد الزوجات - التسري - الطلاق-
إمبراطورة صينية - الحكم الأبوي للذكور - خضوع النساء للرجال - الخلق الصيني

لقد تغلبت الكنفوشية وعبادة الأسلاف على كثير من الديانات المنافسة لها، وقاومتا هجمات كثير من أعدائهما، وخرجتا ظافرتين من صراع دام عشرين قرناً، لأن الصينيين يشعرون بأنهما لا غنى عنهما للاحتفاظ بالتقاليد القوية السامية التي أقامت الصين عليها حياتها. وكما كانت هاتان الديانتان هما الضمانتين الدينيتين لهذه الحياة، فكذلك كانت الأسرة هي الوسيلة الكبرى لدوام هذا التراث الأخلاقي. فقد ظل الأبناء يتوارثون عن الآباء قانون البلاد الأخلاقي جيلا بعد جيل حتى أصبح هذا القانون هو الحكومة الخفية للمجتمع الصيني من أن يحتفظ بنظامه رغم ما انتاب الدولة غير المستقرة من نوائب وما احتاجها من أعاصير سياسية. وفي ذلك يقول فلتير: "إن خير ما يعرفه الصينيون، وأكثر ما يغرسونه في نفوس أبنائهم، وما بلغوا به ذروة الكمال، هو قانونهم الأخلاقي"(92) ويقول كنفوشيوس في هذا المعنى نفسه: "إذا قام البيت على أساس سليم أمن العالم وسلم"(93).
وكان الصينيون يفترضون أن الغرض الذي يهدف إليه القانون الأخلاقي هو أن يحول فوضى العلاقات الجنسية إلى نظام ثابت مقرر يهدف إلى تنشئة الأبناء. فالطفل هو علة وجود الأسرة، ويرى الصينيون أن أطفال الأسرة مهما كثروا
صفحة رقم : 1358
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأقصى -> الصين -> الشعب والدولة -> حكم الأخلاق

لا يمكن أن يزيدوا على الحد الواجب المعقول: ذلك أن الأمة معرضة على الدوام لهجمات الغزاة فهي في حاجة إلى من يحميها، وإن الأرض خصبة غنية يجد ملايين الناس فيها كفايتهم؛ وإذا فرض أن اشتد تنازع البقاء بين الناس في الأسر الكبيرة والبيئات المزدحمة فإن هذا التنازع نفسه سيقضي على أضعفهم ويحتفظ بأقدرهم على الحياة، فيتضاعف عددهم ليكونوا دعامة قوية للأمة ومصدرا لعزة آبائهم وكرامتهم، يرعون قبور أسلافهم الرعاية الدينية الواجبة. ولقد صاغت عبادة الأسلاف من الأجيال المتعاقبة سلسلة قوية لا آخر لها كثيرة الحلقات تربط الأجيال بعضها ببعض وتضاعف قوتها. فكان على الزوج أن يلد أبناء ليقربوا له القربان بعد وفاته وليواظبوا في الوقت نفسه على تقريب القربان لأسلافه. وفي ذلك يقول منشيس: "ثلاثة أشياء لا يليق صدورها من الأبناء، وشرها كلها ألا يكون لهم أبناء"(94).

وكان الآباء يدعون في صلواتهم أن يرزقوا أبناء؛ وكان من أشد أسباب المذلة الدائمة للأمهات ألا يكون لهن أبناء ذكور لأن هؤلاء أقدر من البنات على العمل في الحقول وأثبت منهن جنانا في ميدان القتال؛ وكان من الشرائع المتبعة في البلاد- ولعل هذا الاعتقاد قد روعي في وضعها- ألا يسمح لغير الذكور بتقريب القربان إلى الآباء والأسلاف. وكانت البنات تعد عبئا على الآباء لأنهم يربونهن ويصبرون على تربيتهن ولا ينالهم من ذلك إلا أن يبعثوا بهن متى كبرن إلى بيوت أزواجهن ليعملن فيها ويلدن أبناء يكدون لأسر غير أسرهم. وإذا ولد للأسرة بنات أكثر من حاجتها وصادفت الأسرة الصعاب في إعالتهن تركتهن في الحقول ليقضي عليهن صقيع الليل أو الحيوانات الضارية(95) دون أن تشعر بشيء من وخز الضمير. وكان من بقي على قيد الحياة من الأبناء والبنات بعد أخطار الطفولة وأمراضها ينشئون بحنان عظيم؛ وكانت القدوة الحسنة تحل في تربيتهم محل الضرب واللكم، وكان الأقارب يتبادلون الأبناء في بعض الأحيان حتى لا يتلفهم
صفحة رقم : 1359
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأقصى -> الصين -> الشعب والدولة -> حكم الأخلاق

حب الآباء وحنانهم(96). وكان الأطفال يتركون في المنزل في الجناح الخاص بالنساء، وقلما كانوا يختلطون بالكبار من الذكور حتى يبلغوا السابعة من العمر، وبعدها يرسل الأولاد إلى المدارس إذا كانت موارد الأسرة تكفي لتعليمهم ويفصلون عن البنات فصلا تاما، حتى إذا بلغوا العاشرة لم يسمح لهم بأن يختاروا لهم رفقاء من غير الرجال والمحاظي. ولكن انتشار اللواط جعل هذا الاختيار صوريا(97).

وكانت العفة تعد من الفضائل السامية، وكان الآباء يحرصون عليها أشد الحرص في بناتهم، وقد نجحوا في غرس هذه الفضيلة في البنات نجاحا منقطع النظير، يدل عليه أن البنات الصينيات كن في بعض الأحيان يقتلن أنفسهن إذا اعتقدن أن شرفهن قد تلوث بأن مسهن رجل مصادفة(98). غير أنهم لم يبذلوا أي مجهود يرمى إلى أن يحتفظ غير المتزوج بعفته، بل كان يعد من الأمور العادية المشروعة أن يتردد على المواخير، وكان الزنا عند الرجال من الشهوات المألوفة الواسعة الانتشار، يستمتع به الرجل كما يشتهي من غير أن يناله من ورائه أي عار إلا ما ينال المفرط في أية عادة من العادات .
وكان إعداد النساء لإشباع هذه الشهوات من النظم المقررة في الصين من زمن بعيد. من ذلك أن الوزير الشهير جوان جونج وزير ولاية تشي أعد مقرا للقوادات تؤخذ فيه من التجار القادمين من الولايات الأخرى مكاسبهم قبل أن يعودوا إلى أوطانهم(101).
ويقول ماركو بولو أنه شاهد في عاصمة كوبلاي خان من العاهرات ما لا يحصى عددهم وما لا يتصور العقل جمالهن. وهؤلاء البغايا مرخص لهن
صفحة رقم : 1360
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأقصى -> الصين -> الشعب والدولة -> حكم الأخلاق

بمزاولة مهنتهن، وتنظم الدولة أمورهن وتراقبهن من الوجهة الطبية، وتقدم أجملهن دون أجر إلى أعضاء السفارات الأجنبية(202).
ونشأت فيما بعد طائفة خاصة من الفاتنان يعرفن "بالبنات المغنيات" مهنتهن أن يتحدثن حديثا مهذبا مثقفا إلى الشبان إذا أرادوا أو يستخدموهن في بيوت الأزواج لتسلية الضيوف. وكثيرا ما تكون هؤلاء الفتيات من البارعات في الأدب والفلسفة وممن يجدن الموسيقى والرقص(103).

وقد كان الرجال يستمتعون بحرية واسعة في صلاتهم بالنساء قبل الزواج، كما كانت صلات النساء المحترمات بالرجال قبل زواجهن مقيدة بأشد القيود، وكان من نتائج هذه الحرية الواسعة من جهة وهذا التقييد الشديد من جهة أخرى أن الفرصة لم تتح كثيرا لنشأة الحب العاطفي السامي. على أنه قد ظهرت كتابات تصف هذا الحب العاطفي في عهد أسرة تانج؛ وفي وسعنا أن نرى شواهد دالة على وجود هذه العاطفة منذ القرن السادس قبل الميلاد في قصة واي شنج. فقد تواعد هو وفتاة أن يلتقيا تحت قنطرة، وظل هو ينتظرها هناك بلا جدوى وإن كان الماء قد علا فوق رأسه وأغرقه(104). وما من شك في أن واي شنج كان أعرف بحقائق الأمور مما يبدو في هذه القصة، ولكن الشاعر الذي نظمها يظن هو وأمثاله من الشعراء أنه قد لا يعرف، وفي هذا الظن ما فيه من الدلالة.وقصارى القول أن الحب بوصفه عاطفة رقيقة وهياما بالمحبوب وتعلقا به كان بين الرجال بعضهم بعضا أقوى منه بين الرجال والنساء؛ والصينيون في هذا أشبه الناس باليونان(105).
ولم يكن للزواج صلة كبيرة بالحب. ولما كان الغرض من الزواج هو ربط زوجين أصحاء بعضهما ببعض لكي تنشأ من ارتباطهما أسرة كبيرة، فإن هذه الرابطة لم يكن يصح في اعتقاد الصينيين أن تترك لحكم العواطف القائم على غير أساس من العقل. ومن أجل هذا كان الآباء يحرصون على فصل الذكور عن
صفحة رقم : 1361
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأقصى -> الصين -> الشعب والدولة -> حكم الأخلاق

الإناث حتى يبحثوا هو عن زوجات لأبنائهم أو أزواج لبناتهم. وكانوا يعدون امتناع الرجل عن الزواج عيبا خلقيا، كما كانت العزوبة جريمة في حق الأسلاف وفي حق الدولة وفي حق الجنس لا تغتفر حتى لرجال الدين، وكان الصينيون في أيامهم الأولى يعينون موظفا خاصا عمله أن يتأكد من أن كل إنسان في الثلاثين من عمره متزوج وأن كل امرأة قد تزوجت قبل العشرين(106). وكان الآباء ينظمون خطبة أبنائهم وبناتهم بمعونة وسطاء محترفين (ماي- رن = وسطاء)، وكانوا يفعلون هذا عقب بلوغهم الحُلُم وقبله أحيانا وقبل أن يولدوا في بعض الأحيان(107). وكان ثمة قيود تفرض على الزواج بين الأقارب وأخرى على الزواج من غير الأقارب تحد من هذا الاختيار، منها: أن الزوج يجب أن يكون من أسرة معروفة من زمن بعيد للأب الذي يبحث عن زوجة لابنه ولكنها بعيدة النسب عنه بعدا يجعلها خارج دائرة عشيرته. وهذا القول نفسه يصدق على الزوجة. وكانت طريقة الخطبة أن يرسل والد الخطيب هدية قيمة إلى والد الفتاة، ولكن الفتاة كان ينتظر منها هي الأخرى أن تأتي ببائنة قيمة إلى زوجها تكون في الغالب على شكل متاع أو بضاعة، كما كانت الأسرتان تتبادلان في العادة كثيرا من الهدايا ذات الشأن وقت الزواج. وكانت البنت تظل في عزلة شديدة عن خطيبها حتى تزف إليه، فلم يكن زوجها المرتقب يستطيع رؤيتها إلا إذا احتال على ذلك احتيالا- ولقد كان الاحتيال مستطاعا في بعض الأحيان -، ولكنه في كثير من الحالات كان يراها أول مرة حين يرفع النقاب عن وجهها في حفلة الزفاف. وكانت هذه الحفلة من الطقوس الرمزية المعقدة، أهم ما فيها أن يحتسي العريس من الخمر ما يكفي لأن يزيل ما عساه أن ينتابه من حياء يعد في عرف الصينيين جريمة لا تغتفر(108). أما البنت فكانت تتدرب على أن تكون حيّة ومطيعة في وقت واحد. وكانت الزوجة تعيش بعد الزواج مع زوجها في بيت أبيه أو بالقرب منه، حيث تكدح كدحا في خدمة زوجها وأمه حتى

صفحة رقم : 1362
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأقصى -> الصين -> الشعب والدولة -> حكم الأخلاق

يحين الوقت الذي يحررها فيه الموت من هذا الاسترقاق، ويتركها على استعداد لأن تفرضه هي نفسها على زوجات أبنائها.
وكان الفقراء يكتفون بزوجة واحدة، ولكن حرص الصينيين على إنجاب أبناء أقوياء كان من القوة بحيث يجعلهم يسمحون عادة للقادرين منهم بأن يتخذوا لهم سراري أو "زوجات من الدرجة الثانية". أما تعدد الزوجات فكان في نظرهم وسيلة لتحسين النسل؛ وحجتهم في هذا أن من يستطيعون القيام بنفقاته منهم هم في العادة أكثر أهل العشيرة قدرة على إنجاب الأبناء. وكانت الزوجة الأولى إذا ظلت عاقرا تحث زوجها على أن يتخذ له زوجة ثانية؛ وكثيرا ما كانت هي نفسها تتبنى ابن إحدى المحاظي. وكثيرا ما كان يحدث أن الزوجات اللاتي يرغبن في أن يحتفظن بأزواجهن داخل بيوتهن يطلبن إليهم أن يتزوجوا بالمحاظي اللاتي يؤثرونهن بالعناية وبالصلات الجنسية، وأن يأتوا بهن إلى منازلهم ويتخذونهم فيها زوجات من الدرجة الثانية(109).
ومن أجل ذلك نرى القصص والأخبار الصينية تثنى على زوجة الإمبراطور جوانج- تشو أطيب الثناء لأنها قالت: "لم أكف قط عن إرسال الرسل إلى المدن المجاورة للبحث عن النساء الجميلات لأجعلهن خليلات لمولاي"(110). وكانت الأسر ينافس بعضها بعضا في أن ينلن شرف الحظوة بإرسال إحدى بناتها إلى حريم الإمبراطور. وكان من حق الإمبراطور أن يتخذ له ثلاثة آلاف من الخصيان ليحرسوا له حريمه وليعنوا ببعض الشؤون الأخرى في بلاطه، وكان هؤلاء الخصيان يخصيهم آباؤهم في سن الثامنة ليضمنوا لهم الحصول على رزقهم(111).
ولم تكن الزوجات الثانيات في جنة الذكور هذه يفترقن كثيرا عن الإماء، كما لم تكن الزوجات الأوليات إلا رئيسات هيئة لإنتاج الأبناء والبنات، تعتمد مكانتهن في الأسرة اعتمادا يكاد يكون تاما على عدد من يلدن من الأبناء وعلى
صفحة رقم : 1363

قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأقصى -> الصين -> الشعب والدولة -> حكم الأخلاق

جنسهن. ولما كانت الزوجة قد نشئت على الرضا بسيادة زوجها عليها فقد كان في وسعها أن تنعم بقسط متواضع من السعادة بالاندماج ببطء ويسر في النظام الرتيب الذي هيئت له والذي ينتظره الناس كلهم منها. وإذ كانت النفس البشرية كما نعلم جميعا سريعة القبول لما تنشا عليه فإن الرجل والمرأة المرتبطين برباط الزوجية في تلك البلاد كانا يعيشان كما يبدو لنا عيشة راضية سعيدة لا تقل في ذلك عن عيشة الزواج التي تعقب الحب الروائي في البلاد الغربية. وكان في وسع الرجل أن يطلق الزوجة لأي سبب كان، لعقمها أو لثرثرتها(112)، ولم يكن من حقها هي أن تطلق زوجها، بل كان لها أن تغادر داره وتعود إلى دار أبويها وإن كان هذا لا يحدث إلا في القليل النادر. على أن الطلاق كان مع ذلك قليلا، ويرجع بعض السبب في هذا إلى ما كان ينتظر المطلقة من مصير أسوأ من أن تستطيع التفكير فيه، وبعضها إلا أن الصينيين فلاسفة بطبيعتهم يرون الألم أمرا طبيعيا وإنه من مقتضيات النظام العام.

وأكبر الظن أن الأم قبل أيام كنفوشيوس كانت محور الأسرة لأنها مصدر وجودها وسلطانها. وكان الناس في أول عهودهم كما سبق القول "يعرفون أمهاتهم ولا يعرفون آباءهم"، ولا يزال اللفظ الدال على اسم أسرة الرجل مكونا من الأصل الذي اشتق منه لفظ "امرأة"(113)، واللفظ الصيني المقابل لكلمة الزوجة معناه "المساوي"، وكانت الزوجة تحتفظ باسمها بعد زواجها. وكانت النساء حتى القرن الثالث بعد الميلاد يشغلن في البلاد مناصب إدارية وتنفيذية رفيعة، وقد وصل بعضهن إلى أن يكن حاكمات للبلاد(114)؛ ولم تكن "الإمبراطورة الأم" حين قبضت بيدها على شئون الدولة إلا متتبعة لخطى الإمبراطورة "لو" التي حكمت الصين حكما صارما دام من عام 195 إلى عام 180 ق.م. وكانت "لو" قاسية لا تلين قناتها، قتلت منافسيها وأعداءها أو قضت عليهم بالسم، وكانت تغتبط بتقتيلهم وتسميمهم اغتباط آل ميديشي، وكانت تختار الملوك وتخلعهم عن
صفحة رقم : 1364
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأقصى -> الصين -> الشعب والدولة -> حكم الأخلاق

عرشهم وتصلم آذان محظيات زوجها وتفقأ عيونهن ثم تلقيهن في المراحيض(115). وكان التعليم منتشرا بين نساء الطبقات العليا في الأيام القديمة وإن كان عدد من يعرفون القراءة والكتابة من الصينيين في أيام المنشو لا يكاد يبلغ واحدا في كل عشرة آلاف. وكان كثيرات من النساء يقرضن الشعر، ولقد أتمت بان جاو أخت المؤرخ بان كو الموهوبة (حوالي عام 100م) تاريخه بعد وفاته ونالت حظوة كبيرة عند الإمبراطور(117).

ولعل قيام نظام الإقطاع في الصين قد قلل من منزلة المرأة السياسية والاقتصادية في تلك البلاد، وجاء معه بنمط صارم من الأسرة الأبوية. ذلك أن الأبناء الذكور هم وزوجاتهم وأطفالهم كانوا يعيشون في العادة مع أكبر رجال الأسرة. ومع أن الأسرة كلها كانت تمتلك أرضها امتلاكا مشتركا فإنها كانت تعترف للأب بالسلطان الكامل على الأسرة وعلى أملاكها. فلما أن حل عهد كنفوشيوس كان سلطان الأب يكاد أن يكون سلطانا مطلقا في جميع الأمور، فكان في وسعه أن يبيع زوجته وأبناءه ليكونوا عبيدا، وإن لم يفعل هذا إلا إذا ألجأته إليه الضرورة القصوى؛ وكان يستطيع إذا شاء أن يقتل أبناءه لا يحول بينه وبين هذا إلا حكم الرأي العام(118).وكان يتناول طعامه بمفرده لا يدعو زوجته ولا أبناءه إلى المائدة معه إلا في أوقات قليلة نادرة، وإذا مات كان ينتظر من أرملته ألا تتزوج بعده، وكان يطلب إليها في بداية الأمر أن تحرق نفسها تكريما له، وظلت حوادث من هذا النوع تقع في الصين إلى أواخر القرن التاسع عشر بعد الميلاد(119). وكان الصيني يجامل زوجته كما يجامل كل إنسان سواها، ولكنه كان في حياته بعيدا كل البعد عن زوجته وأبنائه كأنه من طبقة غير طبقتهم. وكان النساء يعشن في أقسام خاصة من المنزل، وقلما كن يختلطن فيه بالرجال، وكانت الحياة الاجتماعية كلها مقصورة على الرجال إلا إذا كانت النساء من الطبقات التي يسمح لأفرادها بالاختلاط بالرجال كالمغنيات والمحدثات ومن إليهن
صفحة رقم : 1365
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأقصى -> الصين -> الشعب والدولة -> حكم الأخلاق

وكان الرجل لا يفكر في زوجته إلا بوصفها أم أبنائه ولا يكرمها لجمالها أو لثقافتها بل لخصوبتها وجدها وطاعتها؛ يشهد بذلك ما كتبته السيدة بان هو- بان إحدى بنات الطبقة العليا في رسالة ذائعة الصيت بعبارات غاية في التواضع والخضوع تصف فيها المكانة الحقة للمرأة:

نشغل نحن النساء آخر مكان في الجنس البشري، ونحن أضعف قسم من بني الإنسان، ويجب أن يكون من نصيبنا أحقر الأعمال... وما أعدل ما يقوله في حقنا كتاب قوانين الجنسين وأصدقه: وإذا كان للمرأة زوج يرتضيه قلبها وجب أن تبقى معه طيلة حياتها؛ وإذا كان للمرأة زوج لا يرتضيه قلبها وجب أن تبقى معه أيضا طيلة حياتها"(120).
ويغني فوشوان قائلا:
ألا ما اتعس حظ المرأة‍
ليس في العالم كله شيء أقل قيمة منها.
إن الأولاد يقفون متكئين على الأبواب،
كأنهم آلهة سقطوا من السماء،
تتحدى قلوبهم البحار الأربعة،
والرياح والتراب آلاف الأميال؛
أما البنت فإن أحدا لا يسر بمولدها،
ولا تدخر الأسرة من ورائها شيئا،
وإذا كبرت اختبأت في حجرتها،
تخشى أن تنظر إلى وجه إنسان،
ولا يبكيها أحد إذا اختفت من منزلها -
على حين غفلة كما تختفي السحب بعد هطول الأمطار،
وهي تطأطأ رأسها وتجمل وجهها
صفحة رقم : 1366
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأقصى -> الصين -> الشعب والدولة -> حكم الأخلاق

وتعض بأسنانها على شفتيها،
وتنحني وتركع مرارا يخطئها الحصر.

قد يكون في هذه المقتبسات ظلم للبيت الصيني؛ نعم قد كان فيه خضوع ومذلة، وكثيرا أقام فيه النزاع بين الرجل والمرأة وبين بعض الأطفال، ولكن كان في البيت أيضا كثير من الحب والحنان، وكثير من التعاون والتآزر في الأعمال المنزلية، مما يجعل البيت مكانا طبيعيا ومستقرا صالحا للأسرة. وكانت المرأة رغم خضوعها للرجل من الناحية الاقتصادية تستمع بكامل حقها في استخدام لسانها، وكان في وسعها أن تؤنب الرجل حتى يرهبها أو يفر من وجهها كأحسن ما تستطيعه المرأة الغربية في هذه الأيام. هذا وجدير بنا أن نقول أن الأسرة ذات النظام الأبوي ليس في مقدورها أن تكون أسرة ديمقراطية، وهي أشد من ذلك عجزا عن أن يكون جميع أفرادها متساوين في الحقوق، وذلك لأن الدولة كانت تترك للأسرة مهمة القيام على النظام الاجتماعي، ولأن المنزل كان مربى للأطفال ومدرسة ومصنعا وحكومة في وقت واحد. ولم يتراخ نظام الأسرة في أمريكا إلا بعد أن ضعف شأن المنزل في المدينة وقلت أهميته بانتقال واجبات الأسرة إلى المدرسة والمصنع والدولة.
ولقد أثنى كثير من الرحالة أجمل ثناء على الخلق الذي كان ثمرة هذه النظم المنزلية. فإذا صرفنا النظر عن الحالات الشاذة الكثيرة التي تضعف كل حكم عام يمكن أن يصدره الإنسان على أي نظام اجتماعي، استطعنا أن نقول أن الصيني العادي كان مثلا يحتذى في طاعة الأبناء للآباء وإخلاصهم ووفائهم لهم وفي احترام الصغار للكبار وعنايتهم بهم عن رضا واختيار . وكان الصيني يقبل الحكم
صفحة رقم : 1367
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأقصى -> الصين -> الشعب والدولة -> حكم الأخلاق

الأخلاقية التي جاءت في اللي- شي أو كتاب الحفلات ويعمل بما فيها من آداب اللياقة رغم مشقتها، وينظم كل ناحية من نواحي حياته حسب ما فيها من قواعد المجاملة العاطفية التي أكسبت أخلاقه من الرقة والسهولة والاتزان والكرامة ما لم ينله أمثاله من الغربيين- فقد يظهر الحمّال الذي ينقل الأقذار في الطرقات من الأدب وحسن التربية واحترام النفس أكثر مما يظهره التاجر الأجنبي الذي باعه الأفيون. ولقد تعلم الصيني فن التراضي والمصالحة واستطاع بذلك أن يستل ضغينة عدوه المغلوب. ولقد كان في بعض الأحيان عنيفا في قوله، وكان على الدوام ثرثارا، وكثيرا ما تراه قذرا أو ثملا يدمن القمار ويلتهم الطعام التهاما ، ويميل إلى ابتزاز الأموال العامة وإلى سؤال الناس في غير إلحاف(124)، يعبد إله المال عبادة وثنية مسرفة في صراحتها(125)، ويجري وراء الذهب جري الأمريكي كما نراه في صوره الساخرة، يستطيع أحيانا أن يكون قاسيا فظا غليظ القلب، إذا توالت عليه المظالم ثار أحيانا وأقدم على ضروب من السلب والتقتيل في جماعات كبيرة. ولكنه في جميع أحواله تقريبا رجل مسالم رحيم، كثير الاستعداد لمساعدة جيرانه، يحتقر المجرمين والمحاربين، مقتصد مجد مثابر على عمله وإن كان لا يعجل فيه، بسيط في أسلوب حياته لا يحب التظاهر والتصنع، شريف إلى حد كبير في معاملاته التجارية والمالية. وكان من عادته الصبر على النوائب، يستقبل النعم والنقم على السواء بحكمة ووداعة، ويتحمل الحرمان والعذاب دون أن يفقد سلطانه على نفسه، ويصبر عليهما صبر من يرى أن كل شيء مقدر عليه في الأزل، ولا يعطف قط على من يتأفف منهما على مسمع من الناس، يحزن حزنا صادقا طويلا على من يموت من أقاربه، وإذا عجز عن الفرار من الموت بجميع ما لديه من الوسائل واجهه وهو صابر صبر الفلاسفة؛ وكان
صفحة رقم : 1368
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأقصى -> الصين -> الشعب والدولة -> حكم الأخلاق

مرهف الشعور بالجمال بقدر ما كان قليل الشعور بالألم، وكان يزين مدائنه بالنقوش الملونة ويتنعم في حياته بأرقى أنواع الفن.
وإذا شئنا أن نفهم هذه الحضارة حق الفهم كان علينا أن ننسى، ولو إلى حين، ما تردت فيه البلاد من فوضى وعجز بسبب ضعفها في الداخل، واحتكاكها بمدافع الغرب وآلاته الضخمة القوية، وأن نراها في فترة من فترات عزها ومجدها في عهد أمراء جو أو في عهد منج هوانج أو هواي دزونج أو كانج- شي. ذلك أن الصيني في تلك الأيام أيام حب الجمال كان يمثل بلا ريب أرقى المدنيات وأنضج الثقافات اللتين شهدتهما آسية أو إن شئت فقل أية قارة من القارات.

صفحة رقم : 1369
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأقصى -> الصين -> الشعب والدولة -> حكومة يثني عليها فلتير

الفصل السادس
حكومة يثني عليها فلتير
الفرد المغمور - الحكم الذاتي - القرية والإقليم - تراخي القانون -
صرامة العقاب - الإمبراطور - الرقيب - المجالس الإدارية - الإعداد
للمناصب العامة - الترشيح بالتعليم - نظام الامتحانات - عيوبه - وفضائله
إن أكثر ما يروعنا في هذه الحضارة هو نظام حكومتها. وإذا كانت الدولة المثالية هي التي تجمع بين الديمقراطية والأرستقراطية فإن الصينيين قد أنشأوا هذه الدولة منذ ألف عام أو تزيد؛ وإذا كانت خير الحكومات هي أقلها حكما، فقد كانت حكومة الصين خير حكومات العالم على الإطلاق. ولم يشهد التاريخ قط حكومة كان لها رعايا أكثر من رعايا الحكومة الصينية أو كانت في حكمها أطول عهدا وأقل سيطرة من تلك الحكومة.

ولسنا نقصد بهذا أن الفردية أو الحرية الفردية كان لها شأن عظيم في بلاد الصين؛ ذلك أن فكرة الفردية كانت ضعيفة في تلك البلاد وأن الفرد كان مغمورا في الجماعات التي ينتمي إليها. فقد كان أولا عضوا من أعضاء أسرة، ووحدة عابرة في موكب الحياة بين أسلافه وأخلافه؛ وكانت القوانين والعادات تحمله تبعة أعمال غيره من أفراد أسرته كما يحملون هم تبعة أعماله؛ وكان فضلا عن هذا ينتمي عادة على جمعية سرية، وإذا كان من سكان الحواضر فانه ينتمي إلى نقابة من نقابات الحرف.
وهذه كلها أمور تحد من حقه في أن يفعل ما يشاء. وكان يحيط به فضلا عن هذا طائفة من العادات القديمة ويهدده رأي عام قوي بالطرد من البلاد إذا خرج على أخلاق الجماعة أو تقاليدها خروجا خطيرا. وكانت قوة هذه النظم
صفحة رقم : 1370
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأقصى -> الصين -> الشعب والدولة -> حكومة يثني عليها فلتير

الشعبية التي نشأت بطبيعتها من حاجات الناس وتعاونهم الاختياري هي التي مكنت الصين من أن تحتفظ بنظامها واستقرارها رغم ما يشوب القانون والدولة من لين وضعف.
ولكن الصينيين ظلوا أحرارا من الناحيتين السياسية والاقتصادية في داخل هذا الإطار من نظم الحكم الذاتي التي أقاموها بأنفسهم لأنفسهم.
لقد كانت المسافات الشاسعة التي تفصل كل مدينة عن الأخرى وتفصل المدن كلها عن عاصمة الإمبراطورية، والجبال الشامخة والصحاري الواسعة والمجاري التي تتعذر فيها الملاحة أو لا تقوم عليها القناطر، وانعدام وسائل النقل والاتصال السريع وصعوبة تموين جيش كبير يكفي لفرض سلطان الحكومات المركزية على شعب تبلغ عدته أربعمائة مليون من الأنفس - كانت هذه كلها عوامل تضطر الدولة لأن تترك لكل إقليم من أقاليمها استقلالا ذاتيا يكاد أن يكون كاملا من كل الوجوه.

وكانت وحدة الإدارة المحلية هي القرية يحكمها حكما متراخيا رؤساء العشائر بإشراق "زعيم" منهم ترشحه الحكومة. وكانت كل طائفة من القرى مجتمعة حول بلدة كبيرة تؤلف "بينا" أي مقاطعة بلغت عدتها في الصين نحو ألف وثلاثمائة. ويتألف من كل بينين أو أكثر تحكمهما معا مدينة "فو"، ومن كل فوين أو ثلاثة "داو" أي دائرة، ومن كل داوين أو أكثر "شنج" أي إقليم. وكانت الإمبراطورية في عهد المنشو تتألف من ثمانية عشر من هذه الأقاليم. وكانت الدولة تعين من قبلها موظفا في كل بين يدير شئونه، ويجبى ضرائبه، ويفصل في قضاياه، وتعين موظفا آخر في كل فو وآخر في كل داو؛ كما تعين قاضيا، وخازنا لبيت المال، وحاكما، ونائبا للإمبراطور أحيانا في كل إقليم(127). ولكن هؤلاء الموظفين كانوا يقنعون أحيانا بجباية الضرائب والفروض الأخرى
صفحة رقم : 1371
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأقصى -> الصين -> الشعب والدولة -> حكومة يثني عليها فلتير

والفصل في المنازعات التي يعجز المحكمون عن تسويتها بالحسنى، ويتركون حفظ النظام لسلطان العادة وللأسرة والعشيرة والنقابة الطائفية. وكان كل إقليم ولاية شبه مستقلة لا تتدخل الحكومة الإمبراطورية في أعمالها، ولا تفرض عليها شرائعها طالما كانت تدفع حصتها من الضرائب وتحافظ على الأمن والنظام في داخل حدودها. وكان انعدام وسائل الاتصال السهلة مما جعل الحكومة المركزية فكرة معنوية أكثر منها حقيقة واقعية. ومما جعل عواطف الأهلين الوطنية تنصرف في دوائرهم وأقاليمهم، ولا تتسع إلا في القليل النادر حتى تشمل الإمبراطورية بوجه عام.

وفي هذا البناء غير المحكم كان القانون ضعيفا، بغيضا، متباينا. وكان الناس يفضلون أن تحكمهم عاداتهم وتقاليدهم، وأن يسووا نزاعهم بالتراضي خارج دور القضاء. وكانوا يعبرون عن آرائهم في التقاضي بمثل هذه الحكم والأمثال القصيرة القوية: "قاض برغوثا يعضك" و "اكسب قضيتك تخسر مالك". وكانت تمر سنين على كثير من المدن التي تبلغ عدة أهلها آلافاً مؤلفة لا ترفع فيها قضية واحدة إلى المحاكم(128) وكانت قوانين البلاد قد جمعت في عهد أباطرة تانج ولكنها كلها اقتصرت تقريبا على الجرائم ولم تبذل محاولات جدية لوضع قانون مدني. وكانت المحاكمات بسيطة سهلة لأن المحامي لم يكن يسمح له بمناقشة الخصم داخل المحكمة، وإن كان في استطاعة كتاب مرخصين من الدولة أن يعدوا في بعض الأحيان تقارير بالنيابة عن المتقاضين ويتلوها على القاضي(129). ولم يكن هناك نظام للمحلفين، ولم يكن في نصوص القوانين ما يحمي الفرد من أن يقبض عليه موظفو الدولة على حين غفلة ويعتقلوه. وكانت تؤخذ بصمات أصابع المتهمين(130)، ويلجأ أحيانا إلى تعذيبهم لكي يقروا بجرائمهم، ولم يكن هذا التعذيب الجسمي ليزيد إلا قليلا على ما يتبع الآن لهذا الغرض عينه في أكثر المدن رقيا. وكان العقاب صارما، وإن لم يكن أشّد وحشية مما كان في معظم
صفحة رقم : 1372
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأقصى -> الصين -> الشعب والدولة -> حكومة يثني عليها فلتير

بلاد القارة الآسيوية؛ وكان أوله قص الشعر ويليه الضرب ثم النفي من البلاد ثم الإعدام. وإذا كان المتهم ذا فضائل غير معهودة أو كان من طبقة راقية سمح له أن ينتحر(131). وكانت العقوبات تخفف أحيانا تخفيفا كريما، وكان حكم الإعدام لا يصدر في الأوقات العادية إلا من الإمبراطور نفسه. وكان الناس جميعا من الناحية النظرية سواسية أمام القانون، شأنهم في هذا كشأننا نحن في هذه الأيام. ولكن هذه القوانين لم تمنع السطو في الطرق العامة أو الارتشاء في وظائف الدولة ودور القضاء، غير أنها كان لها قسط متواضع في معاونة الأسرة والعادات الموروثة في أن تهب الصين درجة من النظام الاجتماعي والأمن والاطمئنان الشخصي لم تضارعها فيها أمة أخرى قبل القرن العشرين(132).
وكان الإمبراطور يشرف على هذه الملايين الكثيرة من فوق عرشه المزعزع. وكان يحكم من الوجهة النظرية بحقه المقدس؛ فقد كان هو "ابن السماء" وممثل الكائن الأعلى في هذه الأرض. وبفضل سلطانه الإلهي هذا كانت له السيطرة على الفصول وكان يأمر الناس أن يوفقوا بين أعمالهم وبين النظام السماوي المسيطر على العالم، وكانت كلمته هي القانون وأحكامه هي القضاء الذي لا مرد له. وكان المدبر لشؤون الدولة ورئيس ديانتها، يعين جميع موظفيها ويمتحن المتسابقين لأعلى مناصبها ويختار من يخلفه على العرش. لكن سلطانه كان يحده من الوجهة العملية القانون والعادات المرعية، فكان ينتظر منه أن يحكم من غير أن يخرج على النظم التي انحدرت من الماضي المقدس. وكان معرضا في أي وقت لأن يعزَّر على يد رجل ذي مقام كبير يسمى بالرقيب؛ وكان في واقع الأمر محوطاً بحلقة قوية من المستشارين والمبعوثين من مصلحته أن يعمل بمشورتهم، وإذا ظلم أو فسد حكمه خسر بحكم العادات المرعية وباتفاق أهل الدولة "تفويض السماء"، وأمكن
صفحة رقم : 1373

قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأقصى -> الصين -> الشعب والدولة -> حكومة يثني عليها فلتير

خلعه بالقوة من غير أن يعد ذلك خروجا على الدين أو الأخلاق.
وكان الرقيب رئيس مجلس مهمته التفتيش على جميع الموظفين في أثناء قيامهم بواجباتهم، ولم يكن الإمبراطور نفسه بمنجاة من إشرافه. وقد حدث مرارا في تاريخ الصين أن عزر الرقيب الإمبراطور نفسه. من ذلك أن الرقيب سونج أشار على الإمبراطور جياه تشنج (1196-1821)، بالاحترام اللائق بمقامه العظيم طبعا، أن يراعى جانب الاعتدال في صلاته بالممثلين وبتعاطي المسكرات. فما كان من جياه تشنج إلا أن استدعى سونج للمثول أمامه، وسأله وهو غاضب أي عقاب يليق أن يوقع على من كان موظفا وقحا مثله، فأجابه سونج: "الموت بتقطيع جسمه إرباً". ولما أمره الإمبراطور باختيار عقاب أخف من هذا أجابه بقوله "إذن فليقطع رأسي" فطلب إليه مرة أخرى أن يختار عقابا أخف فاختار أن يقتل خنقا. وأعجب الإمبراطور بشجاعته وخشي وجوده بالقرب منه فعينه حاكما على إقليم إيلي(134).
وأضحت الحكومة المركزية على مر الزمن أداة إدارية شديدة التعقيد. وكان أقرب الهيئات إلى العرش المجلس الأعلى، ويتكون من أربعة "وزراء كبار" يرأسهم في العادة أمير من أمراء الأسرة المالكة. وكان يجتمع بحكم العادة في كل يوم في ساعات الصباح المبكرة لينظر في شؤون الدولة السياسية. وكان يعلو عنه في المنزلة، ولكن يقل عنه في السلطان، هيئة أخرى من المستشارين يسمون "بالديوان الداخلي". وكان يشرف على الأعمال الإدارية "ستة مجالس" للشؤون المدنية، والدخل، والاحتفالات، والحرب، والعقوبات، والأشغال العامة؛ وكان ثمة إدارة للمستعمرات تصرف شؤون الأقاليم النائية مثل منغوليا، وسنكيانج والتبت. ولكنها لم تكن لها إدارة للشؤون الخارجية لأن الصين لم تكن تعترف بأن في العالم دولة مساوية لها، ومن أجل ذلك لم تنشئ في
صفحة رقم : 1374

قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأقصى -> الصين -> الشعب والدولة -> حكومة يثني عليها فلتير

بلادها للاتصال بها غير ما وضعته من النظم لاستقبال البعوث التي تحمل لها الخراج.
وكان أكبر أسباب ضعف الحكومة قلة مواردها وضعف وسائل الدفاع عن أراضيها ورفضها كل اتصال بالعالم الخارجي يعود عليها بالنفع. لقد فرضت الضرائب على أراضيها، واحتكرت بيع الملح، وعطلت نماء التجارة بما فرضته بعد عام 1821 من عوائد على انتقال البضائع على طرق البلاد الرئيسية، ولكن فقر السكان، وما كانت تعانيه من الصعاب في جباية الضرائب والمكوس، وما يتصف به الجباة من الخيانة، كل هذا قد ترك خزانة الدولة عاجزة عن الوفاء بحاجات القوى البحرية والبرية التي كان في وسعها لولا هذا العجز أن تنقذ البلاد من مذلة الغزو والهزيمة . ولعل أهم أسباب هزائمها هو فساد موظفي حكومتها؛ وذلك أن ما كان يتصف به موظفوها من جدارة وأمانة قد ضعف في خلال القرن التاسع عشر فأضحت البلاد تعوزها الزعامة الرشيدة في الوقت الذي كانت فيه نصف ثروة العالم ونصف قواه يتجمعان لسل استقلالها وانتهاب مواردها والقضاء على أنظمتها.
بيد أن أولئك الموظفين كانوا يختارون بوسيلة لا مثيل لها في دقتها وتعد في جملتها أجدر وسائل الاختيار بالإعجاب والتقدير، وخير ما وصل إليه العالم من الوسائل لاختيار الخدام العموميين. لقد كانت وسيلة جديرة بإعجاب أفلاطون، ولا تزال رغم عجزها وتخلي الصين عنها تقرب الصين إلى قلوب الفلاسفة. وكانت
صفحة رقم : 1375
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأقصى -> الصين -> الشعب والدولة -> حكومة يثني عليها فلتير

هذه الطريقة من الناحية النظرية توفق أحسن التوفيق بين المبادئ الأرستقراطية والديمقراطية: فهي تمنح الناس جميعا فرصة متكافئة لإعداد أنفسهم للمناصب العامة، ولكنها لا تفتح أبواب المناصب إلا لمن أعدوا أنفسهم لها. ولقد أنتجت خير النتائج من الوجهة العملية مدى ألف عام.
وكانت بداية هذه الطريقة في مدارس القرى - وهي معاهد خاصة ساذجة لا تزيد قليلا على حجرة واحدة في كوخ صغير - كان يقوم فيها معلم واحد بتعليم أبناء أسر القرية تعليما أوليا ينفق عليه بما يؤديه هؤلاء الأبناء من أجر ضئيل. أما النصف الفقير من السكان فقد ظل أبناؤه أميين(137). ولم تكن الدولة هي التي تنفق على تلك المدارس، ولم يكن الكهنة هم الذين يديرونها، ذلك أن التعليم قد بقى في الصين كما بقى الزواج فيه مستقلا عن الدين لا صلة بينهما سوى أن الكنفوشية كانت عقيدة المعلمين. وكانت أوقات الدراسة طويلة كما كان النظام صارما في هذه المدارس المتواضعة. فكان الأطفال يأتون إلى المعلم في مطلع الشمس ويدرسون معه حتى الساعة العاشرة، ثم يفطرون ويواصلون الدرس حتى الساعة الخامسة، ثم ينصرفون بقية النهار. وكانت العطلات قليلة العدد قصيرة الأجل، وكانت الدراسة تعطل بعد الظهر في فصل الصيف، ولكن هذا الفراغ الذي كان يصرف في العمل في الحقول كان يعوض بفصول مسائية في ليالي الشتاء. وكان أهم ما يتعلمه الأطفال كتابات كنفوشيوس وشعر تانج؛ وكانت أداة المعلم عصا من الخيزران. وكانت طريقة التعليم الحفظ عن ظهر قلب؛ فكان الأطفال الصغار يواصلون حفظ فلسفة المعلم كونج ويناقشون فيها مدرسهم حتى ترسخ كل كلمة من كلماته في ذاكرتهم وحتى يستقر بعضها في قلوبهم. وكانت الصين تأمل أن يتمكن جميع أبنائها، ومنهم الزراع أنفسهم، بهذه الطريقة القاسية الخالية من اللذة أن يصبحوا فلاسفة وسادة مهذبين،
صفحة رقم : 1376

قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأقصى -> الصين -> الشعب والدولة -> حكومة يثني عليها فلتير

وكان الصبي يخرج من المدرسة ذا علم قليل وإدراك كبير، جاهلا بالحقائق ناضج العقل .
وكان هذا التعليم هو الأساس الذي أقامت عليه الصين - في عهد أسرة هان على سبيل التجربة وفي عهد أسرة تانج بصفة نهائية - نظام تولي المناصب العامة بالامتحان. ومن أقوال الصينيين في هذا: إن من أضر الأمور بالشعب أن يتعلم حكامه طرق الحكم بالحكم نفسه، وإن من واجبهم كلما استطاعوا أن يتعلموا طرق الحكم قبل أن يحكموا، ومن أضر الأمور بالشعب أن يحال بينه وبين تولي المناصب العامة وأن يصبح الحكم امتيازا تتوارثه فئة قليلة من أبناء الأمة؛ ولكن من الخير للشعب أن تقصر المناصب على من أعدوا لها بفضل مواهبهم وتدريبهم. وكان الحل الذي عرضته الصين لمشكلة الحكمة القديمة المستعصية هي أن تتيح لكل الرجال ديمقراطيا فرصة متكافئة لأن يدربوا هذا التدريب، وأن تقصر الوظائف أرستقراطيا على من يثبتون أنهم أليق الناس لأن يتولوها. ومن أجل هذا كانت تعقد في أوقات معينة امتحانات عامة في كل مركز من المراكز يتقدم إليها كل من شاء من الذكور متى كانوا في سن معينة.
وكان المتقدم إلى الامتحان يمتحن في قوة تذكره وفهمه لكتابات كنفوشيوس وفي مقدار ما يعرف من الشعر الصيني ومن تاريخ الصين، وفي قدرته على أن يكتب أبحاثا في السياسة والأخلاق كتابة تدل على الفهم والذكاء. وكان في وسع من يخفق في الامتحان أن يعيد الدرس ويتقدم إليه مرة أخرى، ومن نجح منح درجة شيو دزاي التي تؤهله لأن يكون عضوا في طبقة الأدباء ولأن يعين في
صفحة رقم : 1377
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأقصى -> الصين -> الشعب والدولة -> حكومة يثني عليها فلتير

المناصب الصغرى في الحكومة الإقليمية؛ وأهم من هذا أن يكون من حقه أن يتقدم إما مباشرة أو بعد استعداد جديد لامتحان آخر يعقد في الأقاليم كل ثلاث سنوات شبيه بالأول ولكنه أصعب منه. ومن خفق فيه أجاز أن يتقدم إليه مرة أخرى؛ وكان يفعل ذلك كثيرون من المتقدمين فكان يجتازه في بعض الأحيان رجال جاوزا الثمانين وظلوا طوال حياتهم يدرسون، وكثيرا ما مات الناس وهم يتأهبون لدخول هذه الامتحانات. وكان الذين ينجحون يختارون للوظائف الحكومية الصغرى، كما كان من حقهم أن يتقدموا للامتحان النهائي الشديد الذي يعقد في بكين. وكان في تلك المدينة ردهة للامتحان العام تحتوي على عشرة آلاف حجرة انفرادية يقضى فيها المتسابقون ثلاثة أيام متفرقة في عزلة تامة، ومعهم طعامهم وفراشهم، يكتبون مقالات أو رسائل في موضوعات تعلم لهم بعد دخولهم. وكانت هذه الغرف خالية من وسائل التدفئة والراحة رديئة - الإضاءة غير صحية لأن الروح لا الجسم - في رأيهم - هي التي يجب أن تكون موضع الاهتمام! وكان من الموضوعات المألوفة في هذه الامتحانات أن ينشئ المتقدم قصيدة في: "صوت المجاديف والتلال الخضراء والماء"، وأن يكتب مقالا عن الفقرة الآتية من كتابات كنفوشيوس. قال دزانج دزي: "من يك ذا كفاية ويسأل من لا كفاية له؛ ومن يك ذا علم كثير ويسأل من لا يعلم إلا القليل؛ ومن يملك ثم يتظاهر بأنه لا يملك؛ ومن يمتلئ ثم يبدي أنه فارغ" ولم يكن في أي امتحان من هذه الامتحانات كلمة واحدة عن العلوم أو الأعمال التجارية أو الصناعية؛ لأنها لم تكن تهدف إلى تبين علم الرجل بل ترمي إلى معرفة ما له من حكم صادق وخلق قويم. وكان كبار موظفي الدولة يختارون من الناجحين في هذا الامتحان النهائي.
وتبين على مر الزمن ما تنطوي عليه هذه الطريقة من عيوب. فقد وجد الغش سبيله إلى الحكم في الامتحان، وإن كان الغش في الامتحان أو في
صفحة رقم : 1378

قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأقصى -> الصين -> الشعب والدولة -> حكومة يثني عليها فلتير

تقديره يعاقب عليه أحيانا بالإعدام. وأصبح شراء الوظائف بالمال كثيرا متفشيا في القرن التاسع عشر(138)، من ذلك أن موظفا صغيرا باع عشرين ألف شهادة مزورة قبل أن يكشف أمره(139). ومنها أن صورة المقالة التي تكتب في الامتحان أصبحت صورة عادية معروفة يعد المتسابقون أنفسهم لها إعدادا آلياً. كذلك كان منهج الدراسة ينزع إلى الهبوط بالثقافة إلى الصور الشكلية دون اللباب، ويحول دون الرقي الفكري لأن الأفكار التي كانت تتداول في هذه المقالات قد تحددت وتعينت خلال مئات السنين. وكان من آثارها أن أصبح الخريجون طبقة بيروقراطية ذات عقلية رسمية متعجرفة بطبيعتها، أنانية، مستبدة في بعض الأحيان وفاسدة في كثير من الأحوال؛ لا يستطيع الشعب مع ذلك أن يعزلها أو يشرف على أعمالها إلا إذا لجأ بعد يأسه إلى الطريقة الخطرة طريقة الإضراب عن طاعتها أو مقاطعتها وعدم التعامل معها. وقصارى القول أن هذا النظام كان ينطوي على كل العيوب الني يمكن أن ينطوي عليها أي نظام حكومي يبتدعه ويسيره بنو الإنسان؛ فعيوبه هي عيوب القائمين عليه لا عيوب النظام نفسه، وليس ثمة نظام آخر لم يكن فيه من العيوب من في هذا النظام .
أما مزاياه فهي كثيرة: فهو برئ من طريقة الترشيح وما يؤثر فيها من تيارات خفية؛ وليس فيه مجال للمساعي الدنيئة وللنفاق والخداع في تصوير النتائج، ولا تدور فيه المعارك الصورية بين الأحزاب، ولا يتأثر بالانتخابات الفاسدة ذات الجلبة والضجيج، ولا يتيح الفرصة لتسلم المركز الرفيع عن طريق الشهرة الزائفة. لقد كانت الحكومة القائمة على هذا النظام حكومة ديمقراطية على الزعامة وعلى المناصب الرفيعة. وكانت أرستقراطية في أحسن صورها، لأنها
صفحة رقم : 1379

قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأقصى -> الصين -> الشعب والدولة -> حكومة يثني عليها فلتير

حكومة يتولاها أقدر الرجال الذين اختيروا اختيارا ديمقراطيا من بين جميع طبقات الشعب ومن كل جيل. وبفضل هذه الطريقة وجهت عقول الأمة ومطامعها وجهة الدرس والتحصيل، وكان أبطالها الذين تقتدي بهم هم رجال العلم والثقافة لا سادة المال .
ولقد كان جديرا بالإعجاب أن يجرب مجتمع من المجتمعات أن يحكمه من الناحيتين الاجتماعية والسياسية رجال أعدوا للحكم بتعلم الفلسفة والعلوم الإنسانية، ولذلك كان من شر المآسي أن تنقض قوى التطور والتاريخ القاسية التي لا ترحم ولا تلين على ذلك النظام الفذ وعلى جميع معالم الحضارة التي كان هو أهم عناصرها فتدمرها تدميرا.

صفحة رقم : 1380
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأقصى -> الصين -> الثورة والتجديد -> الخطر الأبيض

الباب السابع والعشرون
الثورة والتجديد
الفصل الأول
الخطر الأبيض
النزاع بين آسية وأوربا - البرتغاليون - الأسبان - الهولنديون -
الإنجليز - تجارة الأفيون - حروب الأفيون - فتنة بنج تاي - منج-
حرب اليابان - محاولة تمزيق الصين- "الباب المفتوح" - الإمبراطورة
الوالدة - إصلاحات كوانج شو - عزله - الملاكون - الغرامة الحربية

اتخذت هذه القوى شكل الانقلاب الصناعي. فقد نشطت أوربا وتجدد شبابها على أثر كشف القوى الآلية واستخدامها في صنع الآلات ومضاعفة الإنتاج. وما لبثت أوربا أن وجدت نفسها قادرة على إنتاج سلع أرخص من التي تنتجها أية أمة أو قارة ظلت تعتمد على الصناعات والحرف اليدوية. وعجزت أوربا عن تصريف منتجات آلاتها بين سكانها، لأنها كانت تؤدي لعمالها أجوراً أقل بعض الشيء من القيمة الكاملة لجهودهم، واضطرت من أجل ذلك إلى البحث عن أسواق خارجية لتصرف فيها ما زاد من منتجاتها على حاجتها، فكان لا بد لها أن تستعمر ودفعها الاستعمار إلى الحروب. وأصبح القرن التاسع عشر بحكم الظروف القائمة فيه وبدافع الاختراعات الكثيرة التي تعاقبت في خلاله لا ينقطع فيه النظام بين ما كان في آسية من حضارة قديمة ناضجة منهوكة، وما قام في أوربا الصناعية من حضارة فتية، قوية منهومة.
صفحة رقم : 1381
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأقصى -> الصين -> الثورة والتجديد -> الخطر الأبيض

وكان الانقلاب التجاري الذي حدث في أيام كولمب هو الذي أفسح الطريق ومهد السبيل للانقلاب الصناعي. فقد كشف الرحالة عن أراضي قديمة، وفتحوا ثغوراً جديدة، ونقلوا إلى الثقافات القديمة منتجات الغرب وأفكاره. وكان البرتغاليون المغامرون في أوائل القرن السادس عشر قد استولوا على جزائر ملقا، وكانوا من قبل قد ثبتوا أقدامهم في بلاد الهند، ثم طافوا حول شبه جزيرة الملايو، ووصلوا بسفائنهم الجميلة ومدافعهم الرهيبة إلى كانتون (1517).

وكان أولئك القادمون خلقاً متوحشين لا يخضعون لقانون، ويعدون كل الشعوب الشرقية فريسة مشروعة مباحة لهم، ولم يكونوا يفترقون إلا قليلاً عن القراصنة.. إن كان بين هؤلاء وبينهم فرق على الإطلاق(1)...، وعاملهم الصينيون معاملة القرصان فألقوا بممثليهم في السجون، ورفضوا ما عرضوه عليهم من تجارة حرة، وكثيرا ما طهر الصينيون الغضاب الحانقون الأحياء التي استقر فيها البرتغاليون بذبح ساكنيها.ولكن البرتغاليين أعانوا الصينيين على قتال غيرهم من القرصان، فكان جزاؤهم على هذه المعونة أن منحتهم بيكين حق الإقامة في مكاو وحكمها كأنها ملك لهم، فشادوا في تلك المدينة مصانع كبيرة لصنع الأفيون، وأجازت لهم أن يستخدموا في هذه المصانع الرجال والنساء والأطفال. ودرت عليهم هذه الصناعة أرباحاً عظيمة يكفي لمعرفة مقدارها أن نقول أن مصنعاً واحداً كان يعود على الحكومة البرتغالية التي أنشئت في هذا الإقليم بربح مقداره 000ر560ر1 دولار في كل عام(2).
ثم جاء الأسبان وفتحوا جزائر الفلبين في عام 1571م واستقروا في جزيرة فرموزا الصينية؛ وأعقبهم الهولنديون، وفي عام 1637م أقبلت خمس سفن إنجليزية وصعدت في النهر إلى كانتون وأسكتت بمدافعها القوية المدافع التي قاومتها وأنزلت في المدينة بضائعها(3). وعلم البرتغاليون الصينيين شراء الدخان وشربه، ثم بدأ في مستهل القرن الثامن عشر استيراد الأفيون من الهند إلى الصين. وحرمت
صفحة رقم : 1382
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأقصى -> الصين -> الثورة والتجديد -> الخطر الأبيض

الحكومة الصينية على الشعب تعاطي الأفيون، ولكن عادة تعاطيه انتشرت انتشار النار في الهشيم حتى بلغ ما استورد منه إلى الصين في عام 1795م أربعة آلاف صندوق . وحرمت الحكومة استيراده في تلك السنة وكررت هذا التحريم في عام 1800م ولجأت إلى المستوردين وإلى الأهلين على السواء تبين لهم ما لهذا المخدر القوي من أثر في إضعاف حيوية الأمة. ولكن تجارة الأفيون لم تنقطع رغم هذا التحريم، ولم تكن رغبة الصينيين في شرائه أقل من رغبة الأوربيين في بيعه، ولم يجد الموظفون حرجاً في تناول الرشاوي التي كانت تقدم إليهم ليتغاضوا عن أوامر التحريم بل كانوا يتقبلونها شاكرين.
وأصدرت حكومة بيكين في عام 1838م أمراً بالتشديد في تنفيذ قرار تحريم استيراد الأفيون، وجاء موظف قوي يدعى لن تزه- شو فأمر من في كانتون من المستوردين الأجانب أن يسلموا ما في مخازنهم منه. فلما أبوا حاصر الأحياء الأجنبية وأرغمهم على أن يسلموه عشرين ألف صندوق من هذا المخدر، ثم أقام في كانتون شبه حفلة أفيونية أتلف فيها هذه الكمية كلها. وعلى أثر هذا انسحب البريطانيون إلى هنج كنج وبدأت "حرب الأفيون" الأولى. وقال الإنجليز إن الحرب لم تكن حرب أفيون، بل كان سببها أنهم غضبوا لما أظهرته الحكومة الصينية من قحة وغطرسة في استقبالها ممثليهم أو برفضها استقبالهم، وما وضعته أمامهم من عقبات في صورة ضرائب باهظة ومحاكم فاسدة مرتشية أقامتها القوانين والعادات الصينية تعطل بها تجارة منظمة مشروعة. وأطلقوا المدافع على المدن الصينية التي كان في وسعهم أن يصلوا إليها من الشاطئ وأرغموا الصين على طلب الصلح باستيلائهم على مصب القناة الكبيرة عند شنكيانج. ولم تذكر معاهدة نانكنج شيئاً عن الأفيون، وتخلت الصين بمقتضاها عن هنج كنج إلى
صفحة رقم : 1383
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأقصى -> الصين -> الثورة والتجديد -> الخطر الأبيض

البريطانيين، وأرغمت الصين على تخفيض الضرائب إلى 5%، وفتحت للتجارة الأجنبية خمسة "ثغور معاهدات" (كانتون، وأموي، وفوتشو، وتنجبو، وشنغهاي)، وفرضت على الصين غرامة حربية لتغطية نفقات الحرب وما أتلفته من أفيون، واشترطت أن يحاكم الرعايا البريطانيون في الصين، إذا اتهموا بمخالفة قوانين البلاد، أمام محاكم بريطانية(5). وطلبت عدة دول أخرى منها الولايات المتحدة الأمريكية وفرنسا أن تطبق هذه "الامتيازات الأجنبية" على تجارها ورعاياها المقيمين في الصين وأجيبت إلى طلبها.
وكانت هذه الحرب بداية انحلال النظام القديم. ذلك أن الحكومة خذلت أشد الخذلان في نزاعها مع الأوربيين، فقد سخرت منهم أولاً، ثم تحدتهم بعدئذ، ثم خضعت لهم آخر الأمر، ولم تفد الألفاظ الظريفة المعسولة في إخفاء الحقائق عن الوطنيين المتعلمين أو الأجانب المتربصين.
وسرعان ما ضعف سلطان الحكومة في كل مكان تسربت إليه أخبار هزيمتها، وما لبثت القوى التي كانت من قبل صامتة خاضعة والتي كانت تظل صامتة خاضعة لولا هذه الهزيمة- ما لبثت هذه القوى أن ثارت علناً على حكومة بيكين. من ذلك أن وطنياً متحمساً يدعى هونج سيو- شوان، بعد أن تعلم طرقاً من البروتستنتية وتراءت له بعض الخيالات الوهمية اعتقد في عام 1843م أن الله قد اختاره ليطهر الصين من عبادة الأوثان ويحولها إلى المسيحية. وبعد أن بدأ هونج عمله بهذه الدعوة المتواضعة تزعم آخر الأمر حركة ترمي إلى القضاء على أسرة المنشو الحاكمة وإيجاد أسرة جديدة هي أسرة التاي بنج أي السلم العظيم، وحارب أتباعه حرب الأبطال البواسل يحدوهم التعصب الديني من جهة والرغبة في إصلاح الصين على غرار الدول الأوربية من جهة أخرى، وحطموا الأصنام، وقتلوا المخالفين من الصينيين، وأتلفوا كثيراً من دور الكتب والمجامع العلمية القديمة ومصانع الخزف القائمة في جنج ده- جَن، واستولوا على نانكنج وظلت في
صفحة رقم : 1384

قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأقصى -> الصين -> الثورة والتجديد -> الخطر الأبيض

أيديهم اثنتي عشرة سنة (1853-1865م)، وزحفوا على بيكين وزعيمهم من خلفهم في مأمن من الأعداء منغمس في ترفه وملذاته؛ ولكنهم هزموا وتشتتوا لعجز قادتهم، وارتدوا إلى أحضان إخوانهم مئات الملايين الصينيين(6).
وبينما كانت فتنة تاي- بنج الصماء تمزق الصين وتقطع أوصالها اضطرت الحكومة إلى مواجهة أوربا مرة أخرى في "حرب الأفيون" الثانية (1856- 1860م). وكان سببها أن بريطانيا العظمى، تعاونها فرنسا والولايات المتحدة معاونة تقوى تارة وتضعف تارة أخرى، طلبت إلى الصين أن تجعل تجارة الأفيون تجارة مشروعة (وكانت هذه التجارة قد ظلت قائمة بين الحربين رغم ما صدر من الأوامر بتحريمها)، وأن تسمح لها بالدخول في مدن جديدة غير التي كانت قد سمح لها بدخولها، وأن يستقبل الرسل الغربيون بما يليق بهم من التكريم في بلاط بيكين. فلما رفض الصينيون هذه المطالب استولى البريطانيون والفرنسيون على كانتون، وأرسلوا حاكمها مقيداً بالأغلال إلى الهند، واقتحموا حصون تينتسين وزحفوا على العاصمة، ودمروا القصر الصيفي انتقاماً لما نال مبعوثي الحلفاء من تعذيب وقتل على يد الصينيين في بيكين. وأملى الغزاة الظافرون على المهزومين معاهدة فتحت لهم بمقتضى شروطها ثغور جديدة كما فتح نهر جنج- دزه للتجارة الأجنبية، وحددت طريقة لاستقبال الوزراء الأمريكيين والأوربيين في الصين على قدم المساواة مع الوزراء الصينيين، ووضعت الضمانات القوية لسلامة المبشرين والتجار الأجانب والسماح لهم بممارسة نشاطهم في جميع أجزاء الصين، وأخرجت البعثات التبشيرية من اختصاص المحاكم والموظفين، وزادت في امتيازات أبناء الأمم الغربية وتحررهم من الخضوع لقوانين البلاد، وأعطت بريطانيا قطعة من الأرض مقابلة لهنج كنج؛ وجعلت استيراد الأفيون عملاً مشروعاً، وفرضت على الصين غرامة حربية لينفق منها على

إخضاعها لسلطان الغربيين وتدريبها على أساليبهم.
صفحة رقم : 1385
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأقصى -> الصين -> الثورة والتجديد -> الخطر الأبيض

وشجعت الأمم الأوربية انتصاراتها السهلة فأخذت تقتطع من الصين قطعة بعد قطعة، فاستولت الروسيا على الأراضي التي تقع في شمال نهر عامور وشرق نهر الأوسوري (1860م)، وانتقم الفرنسيون لموت أحد المبشرين بالاستيلاء على الهند الصينية (1885م)، وانقضت اليابان على جارتها ومصدر حضارتها وأثارت عليها حرباً فجائية (1894م)، وهزمتها بعد عام واستولت على فرموزا وحررت كوريا من الصين لتستولي عليها فيما بعد (1910م)، وفرضت على الصين غرامة حربية تبلغ 000ر000ر170 دولار لما سببته لها من متاعب جمة(7). ومنعت الروسيا اليابان أن تستولي على شبه جزيرة لياتنج على أن تؤدي الصين إلى اليابان غرامة إضافية، فلما انقضت ثلاث سنين من ذلك الوقت استولت الروسيا نفسها على شبه الجزيرة وأقامت فيها عدة حصون منيعة. وكان مقتل اثنين من المبشرين على يد الصينيين سبباً في استيلاء ألمانيا على شبه جزيرة شانتنج (1898م)، ثم قسمت الدولة الصينية التي كانت تحكمها من قبل حكومة قوية إلى "مناطق نفوذ" تستمتع فيها هذه الدولة الأوربية أو تلك بامتيازات في التعدين أو التجارة لا تشاركها فيها غيرها من الدول. وخشيت اليابان أن تقسم الصين تقسيماً حقيقياً بين الدول الغربية، وأدركت شدة حاجتها إلى الصين في مستقبل الأيام، فانضمت إلى أمريكا وطالبت الدولتان بسياسة "الباب المفتوح"، أي بحق الدول جميعاً في الاتجار مع الصين على قدم المساواة رغم اعترافها بما للدول في الصين من "مناطق نفوذ"، على أن تكون الضرائب الجمركية ونفقات النقل واحدة لجميع الدول على السواء. وأرادت الولايات المتحدة أن تضع نفسها في مركز يمكنها من أن تساوم على هذه المسائل، فوضعت يدها على جزائر الفلبين (1898م) وأعلنت بعملها هذا عزمها على أن

تشترك في النزاع القائم من أجل الاتجار مع الصين.
وفي هذه الأثناء كان فصل آخر من الرواية يمثل وراء جدران القصر الإمبراطوري في بيكين. ذلك أنه لما دخل الحلفاء عاصمة الصين ظافرين في
صفحة رقم : 1386
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأقصى -> الصين -> الثورة والتجديد -> الخطر الأبيض

نهاية "حرب الأفيون" الثانية (1860م) فر الإمبراطور الشاب شيان فنج إلى جيهول حيث توفي بعد عام واحد من ذلك الوقت وترك العرش لابنه البالغ من العمر خمس سنين، فما كان من زوجة الإمبراطور الثانية أم ذلك الغلام إلا أن استولت على مقاليد الحكم وتسمت باسم تزه شي- وعرفها العالم باسم الإمبراطورة الوالدة- وحكمت الصين حكماً طيباً صارماً مجرداً من الرحمة دام جيلاً كاملاً. وكانت هذه السيدة في شبابها قد حكمت البلاد بقوة جمالها، أما الآن فقد حكمتها بقوة إرادتها. ولما مات ولدها عند بلوغه سن الرشد (1875م) لم تعبأ الإمبراطورة بالسوابق ولم تأبه بالمعارضين وأجلست على العرش غلاماً قاصراً- جوانج تشو- واستبقت مقاليد الحكم في يدها. وحافظت هذه الإمبراطورة الجريئة على السلام في بلاد الصين نحو ثلاثين عاماً مستعينة في ذلك برجال من دهاقين السياسة أمثال لي هونج- جانج، وأرغمت الدول الجشعة على أن تحسب للصين بعض الحساب. فما أن انقضت اليابان على الصين فجأة، وأسرعت الدول الأوربية إلى تقطيع أوصال البلاد تقطيعاً جديداً بعد انتصار اليابانيين عليها، قامت في عاصمة الصين حركة قوية تطالب بأن تحذو حذو اليابان التي أخذت بأساليب الدول الغربية- أي أن تجيش جيشاً قوياً، وأن تنشئ المصانع وتمهد الطرق وأن تحاول الحصول على الثروة الصناعية التي مولت بها اليابان وأوربا حروبهما الظافرة. وقاومت الإمبراطورة ومستشاروها هذه الحركة بكل ما لديهم من قوة، ولكن جوانج شو انضم إليهم سراً، وكان قد أذن له أن يتربع على العرش وأن يكون إمبراطوراً بحق. فلم تشعر

الإمبراطورة ومستشاروها إلا وقد أصدر جوانج إلى الشعب الصيني (في عام 1898م) من غير أن يستشير "بوذا العجوز" (وهو الاسم الذي كانت حاشية الإمبراطورة تطلقه عليها) عدة مراسيم عجيبة لو أن البلاد قبلتها وعملت بها لسارت سيراً حثيثاً سلمياً في طريق الأخذ بأساليب الغرب ونظمه، ولحال أخذها بها دون سقوط الأسرة المالكة وتدهور الأمة في هاوية الفوضى والشقاء.
صفحة رقم : 1387
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأقصى -> الصين -> الثورة والتجديد -> الخطر الأبيض

فقد أمر الإمبراطور الشاب بإقامة نظام جديد للتعليم وإنشاء مدارس لا يقتصر التعليم فيها على كتب كنفوشيوس وأتباعه القدماء بل تدرس فيها أيضاً الثقافة الغربية في العلوم والآداب والفنون الصناعية؛ وشجع على إنشاء الطرق وإصلاح الجيش والبحرية، وكان يهدف بهذا إلى الاستعداد لمواجهة "الأزمة" المقبلة على حد قوله هو "لأننا محاطون من كل ناحية بجيران أقوياء يريدون بختلهم أن يظفروا بنا، ويحاولون بتألبهم علينا أن يغلبونا على أمرنا"(7). وهال الإمبراطورة الوالدة أن يصدر الإمبراطور هذه المراسيم التي رأت فيها تطرفاً لا تحمد مغبته فسجنت جوانج شو في أحد القصور الإمبراطورية، ونقضت مراسيمه، وقبضت بيدها مرة أخرى على أزمة الحكم في الصين.

وبدأ في ذلك الوقت رد فعل عنيف ومعارضة قوية لجميع الأفكار الغربية اتخذتهما الإمبراطورة الداخلية عوناً لها على الوصول إلى أغراضها. وكان بعض العصاة قد أقاموا في البلاد جماعة تعرف باسم أي هو- جوان؛ أي قبضات التوافق الصالحة. ويطلق عليهم المؤرخون اسم "الملاكمين" (البكسر). وكانت هذه الجماعة تهدف في الأصل إلى خلع الإمبراطورة والأسرة المالكة. ولكن الإمبراطورة أفلحت في إقناع زعمائها بأن يوجهوا هذه الحركة وقوّتها لمقاومة الغزاة الأجانب بدل أن يوجهوها لمقاومتها هي. وقبل الملاكمون أن يصدعوا بأمرها ونادوا بإخراج جميع الأجانب من بلاد الصين، وجرفهم تيار الوطنية العارمة فشرعوا يذبحون المسيحيين بلا تفريق بين الطيب منهم والخبيث في كثير من أنحاء الصين (1900م). فما كان من الجيوش المتحالفة إلا أن زحفت مرة أخرى على بيكين، وكان زحفها في هذه المرة لحماية مواطنيها الذي استولى عليهم الرعب فاختبئوا في أركان دور السفارات الأجنبية. وفرت الإمبراطورة وحاشيتها إلى شيانغو، وانقضت جيوش إنجلترا وفرنسا والروسيا وألمانيا واليابان والولايات المتحدة على المدينة، وأعملت فيها السلب والنهب،
صفحة رقم : 1388
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأقصى -> الصين -> الثورة والتجديد -> الخطر الأبيض

وقتلت كثيراً من الصينيين انتقاماً منهم لمواطنيها، وخربت كثيراً من الممتلكات القيمة أو نهبتها . وفرض الحلفاء على عدوهم المهول المغلوب غرامة حربية مقدارها 000ر000ر330 دولار يجمعها الأوربيون من المكوس المفروضة على الواردات الصينية وعلى احتكار الملح. على أن جزءاً كبيراً من هذه الغرامة قد رفعته فيما بعد الولايات المتحدة، وبريطانيا العظمى، والروسيا، واليابان، عن الصين. وكانت هذه الدول تشترط عليها عادة أن تنفق الأموال التي نزلت عنها على تعليم الطلبة الصينيين في جامعات الدول التي كانت هذه الأموال من حقها. وكان هذا منها عملاً كريماً كان له من الأثر في تحطيم الصين القديمة أقوى مما كان لأي عمل آخر بمفرده في الصراع التاريخي المرير بين الشرق والغرب.

صفحة رقم : 1389
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأقصى -> الصين -> الثورة والتجديد -> حضارة الموت

الفصل الثاني
حضارة تموت
طلبة الغرامة الحربية - تشربهم بالحضارة الغربية - أثرهم في
تفكك الوحدة الصينية - عمل المبشرين - صون يات - صن
المسيحي - مغامراته في شبابه - التقاؤه بلي هونج - جانج -
تدبيره للثورة - نجاحهما - يو آن شي - كاي - موت صون
بات - صن - الفوضى والنهب - الشيوعية - "الشمال
يهدأ" - جيانج كاي - شك - اليابان في منشوريا - شنغهاي

وغادر "طلبة الغرامة" وآلاف غيرهم من الطلبة بلاد الصين ليرتادوا حضارة الغزاة الفاتحين. فذهب كثيرون منهم إلى إنجلترا، وذهب أكثر من هؤلاء إلى ألمانيا، وأكثر من هؤلاء وأولئك إلى أمريكا، وأكثر منهم جميعا إلى اليابان، وتخرج في جامعات أمريكا وحدها مئات منهم في كل عام. وكانوا يأتون إلى هذه الجامعات وهم صغار السن سريعوا التأثر قبل أن تنضج عقولهم، فيدركوا ما تنطوي عليه حضارتهم القومية من عمق ومالها من قيمة، وارتووا وهم شاكرون معجبون من معين التربية الجديدة التي قدمت لهم، ومن علوم الغرب وأساليبه وأفكاره، وأدهشهم ما شاهدوه حولهم من وسائل الراحة والحياة النشيطة القوية، ومن حرية الأفراد في بلاد الغرب، وما تستمتع به الشعوب من حقوق. ودرسوا الفلسفة الغربية وفقدوا إيمانهم بدين آبائهم، وسرهم أن يكونوا مصلحين متطرفين يشجعهم في ذلك من لقنوهم علومهم وحضارتهم، كما تشجعهم بيئتهم الجديدة على نبذ جميع العناصر التي تتكون منها حضارة بلادهم. ورجع إلى الصين في كل عام آلاف من هؤلاء الشبان الذي انتزعوا من بيئتهم في حداثة سنهم وهم حانقون على تأخر بلادهم المادي وخطوها البطيء في سبيل الحضارة الغربية، وبذروا في كل مدينة دخلوها بذور البحث والثورة على القديم.
صفحة رقم : 1390
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأقصى -> الصين -> الثورة والتجديد -> حضارة الموت

وأعانتهم على غرضهم سلسلة من الحوادث والظروف، منها أن التجار والمبشرين الذي غزوا الصين من الغرب قد ظلوا قرابة جيلين مراكز للعدوى الغربية أرادوا هم ذلك أو لم يريدوه، فقد كان طراز معيشتهم وأساليب متعتهم وراحتهم مما بعث في نفوس من حولهم من شباب الصين رغبة قوية في أن ينالوا حظاً من هذه الحضارة الراقية. وكان هؤلاء التجار والمبشرون رغم قلتهم قد قوّضوا بنشاطهم العقيدة الدينية التي كانت دعامة القانون الأخلاقي القديم؛ وأثاروا شبان البلاد على شيوخها بدعوتهم إلى نبذ عبادة الآباء؛ ومع أنهم كانوا يدعون إلى دين عيسى المسالم الوديع فقد كانوا إذا تأزمت الأمور تحميهم مدافع ترهب الشرق بضخامتها وقوتها وتخضعه لسيطرة الأوربيين. لقد كانت المسيحية في أول نشأتها ثورة المظلومين على الظالمين، وهاهي ذي قد عادت في يد معتنقيها من شباب الصين عاملاً من عوامل الثورة.
وكان زعيم الثورة ممن اعتنقوا المسيحية. ذلك أن أحد المستأجرين من الزراع القاطنين قرب كانتون قد ولد له في عام 1866م ولد مشاغب سماه العالم فيما بعد- في سخرية غير مقصودة- صون يات- صن؛ أي الشمس جنية السكينة(10). واعتنق صون المسيحية وقوى إيمانه بها فاندفع يحطم أصنام الآلهة في معبد قريته. وكان لهذا الغلام أخ له أكبر منه سناً هاجر من قبل إلى جزائر هاواي، فجاء بأخيه الأصغر إلى هنولولو وأدخله مدرسة يديرها راهب من أتباع الكنيسة الإنجليزية ويسير التعليم فيها بالأساليب الغربية البحتة(11). ولما عاد صون إلى الصين التحق بالكلية الحربية البريطانية فكان أول من تخرج فيها من الصينيين.
وكانت هذه الدراسات من أكبر الأسباب التي أفقدت الرجل كل ما كان في قلبه من العقائد الدينية، كما كانت الإهانات وضروب الإذلال التي يلقاها هو وأبناء وطنه في الجمارك التي يسيطر عليها الأوربيون وفي الأحياء الأجنبية من
صفحة رقم : 1391

قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأقصى -> الصين -> الثورة والتجديد -> حضارة الموت

ثغور المعاهدات مما أوغر صدره وجعله يفكر في الثورة. وكان عجز الحكومة الفاسدة الرجعية عن أن تقي الصين العظيمة مذلة الهزيمة على يد اليابان الصغيرة، وتجزئة البلاد بين الدول الأوربية لأغراضها التجارية، مما أشعره بالمذلة وملأ قلبه حقداً وضغينة على تلك الحكومة، فاعتقد أن أول خطوة يجب عليه أن يخطوها في سبيل تحرير الصين هي أن يقضي على أسرة المنشو.

وكانت أولى حركاته شاهداً حقاً على ثقته بنفسه، ومثاليته، وبساطته. ذلك أنه ركب سفينة تجارية دفع أجرها من ماله الخاص وسار بها مدى ألف وستمائة ميل نحو الشمال ليعرض على لي هونج- جانج نائب الملكة الوالدة مشروعاته التي تهدف إلى إصلاح أحوال البلاد واستعادة عزها وكرامتها. فلما رفض هذا الحاكم مقابلته بدأ حياة كلها مغامرات وتجوال لجمع المال الذي يؤجج به نار الثورة الصينية، ولقي معونة من كثير من النقابات التجارية والجمعيات السرية القوية التي كان قادتها يحسدون الطبقة الحاكمة الأرستقراطية ويتوقون إلى إقامة نظام للحكم يكون فيه للطبقات الحديثة من أرباب المصانع والمتاجر شأن يتناسب وثروتهم المتزايدة. ثم غادر الصين وأبحر إلى أمريكا وأوربا يجمع المال القليل من ملايين الغسالين وآلاف التجار الصينيين. فلما جاء إلى لندن اعتقلته المفوضية الصينية دون سند قانوني وأوشكت أن ترسله سراً إلى الصين مكبلاً بالأغلال بحجة أنه خائن لحكومته، ولم ينجه إلا مبشر ممن علموه في صباه، فنبه الحكومة البريطانية وتدخلت هذه في الأمر وأنقذته. وظل خمسة عشر عاماً أخرى يتنقل من مدينة إلى مدينة في جميع أنحاء العالم، وجمع في تجواله مليونين ونصف مليون من الدولارات ليمول بها الثورة، ويلوح أنه لم ينفق شيئاً من هذا المال على نفسه. ثم جاءته على حين غفلة في أثناء تجواله رسالة تنبئه أن قوات الثورة قد استولت على الجزء الجنوبي من بلاد الصين، وأنها بسبيل الاستيلاء على شمالها، وإنما اختارته رئيساً مؤقتاً للجمهورية الصينية. وبعد بضعة أسابيع من
صفحة رقم : 1392
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأقصى -> الصين -> الثورة والتجديد -> حضارة الموت

ذلك الوقت رست السفينة التي أقلته في هنج كنج التي لقي في ثغرها المذلة منذ عشرين عاماً على يد الموظفين البريطانيين.

وكانت الإمبراطورة الوالدة قد قضت نحبها في عام 1908م بعد أن دبرت موت الإمبراطور السجين جوانج شو قبل موتها بيوم واحد، وخلفها على العرش بويسي ابن أخي جوانج، وهو الآن إمبراطور منشوكو . وأدخلت الحكومة الصينية في أواخر حكم الإمبراطورة الوالدة وأوائل حكم حليفها الطفل كثيراً من ضروب الإصلاح التي تهدف إلى تجديد البلاد وصبغها بالصبغة الغربية الحديثة؛ فمدت الطرق الحديدية مستعينة في الغالب برؤوس الأموال الأجنبية وبخبرة الأجانب وإشرافهم، وألغى نظام الامتحان للتعيين في المناصب الحكومية، وأنشئ نظام جديد للتعليم، ودعيت جمعية وطنية لتجتمع في عام 1910م، ووضع مشروع يستغرق تنفيذه تسع سنين يهدف إلى إقامة حكومة ملكية دستورية وينتهي بتعميم حق الانتخاب بعد أن يتدرج خطوة خطوة مع انتشار التعليم العام في البلاد. وجاء في المرسوم الذي أعلن به هذا المنهج ما يأتي: "كل تسرُّع في إدخال هذه الإصلاحات سيؤدي في النهاية إلى ضياع كل ما بذل فيها من جهود"(13). ولكن الثورة لم تكن لتوقف تيارها هذه النوبة التي جهرت بها الأسرة المريضة وهي على فراش الموت، وألفى الإمبراطور الشاب نفسه تحيط به الثورة من كل جوانبه، وقد تخلى عنه الجيش فلم يجد من يدافع عنه، فلم ير بُداً من أن يعلن تخليه عن العرش، وأصدر نائب الإمبراطور الأمير جون مرسوماً هو أعجب ما صدر من المراسيم في تاريخ الصين كله:
إن الشعب في جميع أنحاء الإمبراطورية يتجه الآن بعقله نحو الجمهورية...
صفحة رقم : 1393
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأقصى -> الصين -> الثورة والتجديد -> حضارة الموت

إن إرادة الله واضحة ورغبات الشعب غير خافية. فكيف أستطيع أن أعارض رغبات الملايين الكثيرة للاحتفاظ بمجد أسرة واحدة وكرامتها؟ ومن أجل ذلك فإني أنا والإمبراطور نرى أن تكون الحكومة في الصين جمهورية دستورية إجابة لرغبات الشعب في داخل الإمبراطورية كلها، وعملاً بآراء الحكماء الأقدمين الذي كانوا يرون أن العرض تراث عام(14).
وكانت الثورة كريمة كل الكرم في معاملتها لبو- يى؛ فقد أمنته على حياته ومنحته قصراً مريحاً ومرتباً سنوياً يقوم بشئونه وخليلة يسكن إليها. لقد جاء المنشو إلى الصين آساداً وخرجوا منها حملاناً.
وكان مولد الثورة هادئاً سلمياً، ولكن حياتها كانت حياة عاصفة مليئة بالأحداث. فقد كان ليوان شي- كاي وهو سياسي من الطراز القديم جيش قادر على مقاومة الثورة. وطلب أن يكون ثمن تأييده إياها أن يتولى رياسة الجمهورية، وأجابه صون يات- صن إلى ما طلب واعتزل الحياة العامة في كرم وعزة نفس، وكان قد بدأ منذ قليل يستمتع بمنصبه الجديد. وأخذ يوان يعد العدة لأن يجعل نفسه إمبراطوراً وينشئ أسرة حاكمة جديدة مستعيناً في عمله هذا بجماعات مالية قوية أجنبية ووطنية؛ وحجته في هذا أن الإمبراطورية هي السبيل الوحيد لمنع تدهور الصين وتفككها. واتهمه صون يات- صن بالخيانة وأهاب بأتباعه أن يجددوا عهد الثورة، ولكن يوان مرض ومات قبل أن يصل الأمر إلى امتشاق الحسام.
ولم تعرف الصين النظام والوحدة من ذلك الحين. فقد تبين أن صون يات- صن رجل أحلام يسبح في بيداء الخيال، وأنه خطيب مفوه ولكنه سياسي عاجز عن تولي زمام الحكم وقيادة الأمة إلى بر السلام، فكان ينتقل من خطة إلى خطة ومن نظرية إلى أخرى، أغضب من عاونوه من الطبقات الوسطى بما أظهر من ميل إلى الشيوعية، وانتهى أمره بالانزواء في كانتون ليعلم شبابها ويبث فيهم روحه،
صفحة رقم : 1394
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأقصى -> الصين -> الثورة والتجديد -> حضارة الموت

ويحكم أهلها في بعض الأحيان . وحرمت الصين من حكومة تعترف بها جميع أجزائها، ومن ملكية كانت رمز وحدتها، ونبذت عادة الطاعة والخضوع لتقاليدها وشرائعها؛ وهي من بداية أمرها ضعيفة النزعة الوطنية التي تربط النفس بالوطن كله لا بالإقليم الذي يعيش فيه، فشبت فيها نار حرب متقطعة بين الجنوب والشمال تارة، وبين طائفة وطائفة تارة أخرى، ثم بين السراة والجياع، وبين الشيوخ والشبان. وقام المغامرون يجيشون الجيوش ويفرضون سلطانهم على الولايات النائية يجبون منها الضرائب ويزرعون الأفيون(15) ويخرجون بجنودهم من حين إلى حين ليضموا ضحايا جدداً إلى رعاياهم المساكين. واضطربت أحوال الصناعة والتجارة واضمحلت لكثرة ما كان يفرضها عليها قائد منتصر بعد قائد. وأخذ اللصوص وقطاع الطريق يفرضون الإتاوات، وينهبون ويقتلون، لأنهم لا يجدون قوة منظمة تقف في وجههم وتضرب على أيديهم. ووجد الناس في التلصص والجندية وقاية لهم من الهلاك جوعاً، وكثيراً ما كان هذا القائد أو ذاك المنسر من اللصوص يداهم أسرة مقتصدة فيسلبها ما ادخرته طول حياتها من المال أو ما جمعته من المتاع. وحسبنا تصويراً لهذه الحال أن عدد قطاع الطريق في ولاية هونان وحدها قد بلغ في عام 1931م- 000ر400(16) أو يزيدون.
وبينما كانت هذه الفوضى ضاربة إطنابها في البلاد أرسلت الروسيا في عام 1922م اثنين من أقدر ساستها هما كرخان وجف ليضما الصين إلى نطاق الثورة الشيوعية. ومهد كرخان لعمله هذا بنزول الروسيا عمالها من امتيازات في الصين، وبتوقيع معاهدة تعترف فيها بشرعية حكومة الثورة وبمركزها الدولي. ولم يجد جف الداهية صعوبة ما في أن يستميل صون يات- صن إلى الشيوعية لأن جميع السلطات الأخرى كانت قد نبذته، ولم يمض إلا وقت قصير حتى تكون جيش وطني جديد ودرب بمعونة سبعين من الضباط السوفيت. وزحف هذا
صفحة رقم : 1395

قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأقصى -> الصين -> الثورة والتجديد -> حضارة الموت

الجيش من كانتون إلى الشمال تحت إمرة "جيانج كاي- شك" أمين سر صون يات- صن السابق، ويقوده عملياً المستشار الروسي برودين يخضع بلدة في إثر بلدة حتى استقر أخيراً في بيكين . ولكن المنتصرين انقسموا على أنفسهم في ساعة النصر فخرج جيان كاي- شك على الحركة الشيوعية وأقام دكتاتورية عسكرية إجابة لرغبات رجال الأعمال والمال .
إن الأمم كالأفراد من العسير عليها إلا تفيد من مصائب جيرانها. ومصداق ذلك أن اليابان، التي كان يبغي صون يات- صن أن تكون صديقة الصين وحليفتها على الأمم الغربية، والتي شجعت الثورة الصينية بنجاحها السريع في السير على النظم الأوربية في الصناعة والسياسة والحرب، نقول إن اليابان وجدت في الفوضى التي تردت فيها معلمتها القديمة فرصة سانحة لحل المشكلة التي أثارها نجاحها هي وتقدمها السريع. ذلك أن اليابان لم يكن في وسعها أن تحد من عدد سكانها دون أن تعرض سلامتها للخطر الشديد بعجزها عن صد من تحدثه نفسه بالإغارة عليها؛ ولم يكن في وسعها كذلك أن تكون سكانها المتزايدين إلا إذا زادت مواردها بتشجيع الصناعة والتجارة؛ وليس في وسعها أن تشجع الصناعة والتجارة من غير أن تستورد الحديد والفحم وغيرهما من المواد الأولية التي لا تجدها في بلادها، وليس في وسعها أن تنمي تجارتها وأن تفيد منها أكبر فائدة دون أن يكون لها نصيب موفور في السوق العظيمة الوحيدة التي لا تزال خارجة عن نطاق الاستعمار الأوربي الذي شمل الكرة الأرضية كلها. وكانت الصين
صفحة رقم : 1396
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأقصى -> الصين -> الثورة والتجديد -> حضارة الموت

مشهورة بكثرة ما فيها من الحديد والفحم ويرجى منها أن تكون في المستقبل أعظم الأسواق العالمية. وهي إلى ذلك أقرب الأسواق إلى اليابان. وهل في العالم أمة يبدو لها أن في مقدورها أن تختار بين العودة إلى الزراعة والفاقة والمذلة، وبين التقدم في الصناعة والفتح والاستعمار ثم تستطيع أن تقاوم الميل الشديد إلى اختطاف جزء من الصين الضعيفة المقطعة الأوصال في الوقت الذي كانت فيه النسور الأوربية يقطع بعضها أشلاء بعض في ميدان فرنسا .
من أجل هذا أعلنت اليابان الحرب على ألمانيا في بداية الحرب الأولى، وانقضت على إقليم جياو جو وهو الإقليم الذي كانت ألمانيا قد استأجرته من الصين قبل ذلك الوقت بستة عشر عاماً، ثم قدمت إلى حكومة يوان شي كاي "واحد وعشرين مطلبا" لو أجابتها الصين لأصبحت مستعمرة سياسية واقتصادية لليابان، ولولا احتجاج الولايات المتحدة ومقاطعة الصينيين بزعامة طلابها الغضاب للبضائع اليابانية لنفذت هذه المطالب قوة واقتداراً. ذلك أن الطلاب انطلقوا في شوارع المدن الصينية يبكون أو يقتلون أنفسهم لأنهم يستحون أن يرى الناس وجوههم بعد هذا الإذلال الذي حاق ببلادهم(17).
وكان اليابانيون يستمعون وهم ساخرون إلى غضب أوربا واحتجاجها وهي التي ظلت تنخر في عظام الصين خمسين سنة أو تزيد. وارتدت اليابان دون أن تصل إلى أهدافها ولكنها ظلت تتحين فرصة أخرى تحقق فيها أطماعها. ولاحت لها هذه الفرصة حين كانت أوربا وأمريكا تترديان في عواقب خططهما الصناعية الاستعمارية التي كانت تعتمد على الأسواق الأجنبية لاستيعاب "الفائض" من محصولاتها التي لا يستطيع منتجوها أن يبتاعوها. وزحفت اليابان على منشوريا وأقامت بو يي إمبراطور الصين السابق رئيساً لجمهورية منشوكو التي أنشأتها في ربوعها ثم نصبته بعدئذ إمبراطوراً عليها. ثم عقدت مع الدولة الجديدة حلفاً
صفحة رقم : 1397

قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأقصى -> الصين -> الثورة والتجديد -> حضارة الموت

سياسياً، ثم تغلغلت فيها اقتصادياً، وسيطرت عليها عسكرياً، وجعلت لنفسها بهذه الوسائل فيها مركزاً ممتازاً يمكنها من استغلال موارد منشوريا الطبيعية، واستخدام أهلها، وفتح أسواقها للتجارة اليابانية. وانضمت الدول الأوربية التي كانت قد أنفقت فيما بينها على وقف غارات التلصص زمناً ما بعد أن جمعت كل ما تستطيع أن تجمعه من الأسلاب، انضمت هذه الدول إلى أمريكا، ووجهت احتجاجا ضعيفاً إلى اليابان على هذا النهب الصريح؛ ولكنها كانت في هذه المرة كما هي عادتها في جميع الأحوال على استعداد لأن تعد النصر مبرراً للغاية.
وكانت آخر مذلة لحقت بأوربا وأمريكا هي ما أقدمت عليه اليابان في شنغهاي. ذلك أن اليابان ثار ثائرها لما أصاب تجارتها من جراء المقاطعة الصينية، فأنزلت جيوشها المنتصرة في أغنى ثغور الصين، واحتلت حي جاباي ودمرته، وأنذرت الحكومة الصينية بأن توقف أعمال جمعيات المقاطعة. ودافع الصينيون عن أنفسهم دفاع الأبطال، وقاوم جيش الطريق التاسع عشر القادم من كانتون قوى اليابان التي كانت تفوقه عدة ونظاماً، ووقف وحده تقريباً في وجهها شهرين كاملين. ثم عرضت حكومة نانكنج على اليابان أن تتراضى وإياها على حل وسط، وانسحبت اليابان من شنغهاي، وعادت الصين تضمد جراحها، فاعتزمت أن تضع لنفسها أساس حضارة جديدة أقوى من حضارتها السابقة وأمتن منها دعامة تستطيع أن تدفع بها العالم النهم وترد مطامعه.

صفحة رقم : 1398
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأقصى -> الصين -> الثورة والتجديد -> بداية عهد جديد

الفصل الثالث
بداية عهد جديد
التغيير في القرية - وفي المدينة - المصانع - التجارة - اتحادات العمال-
الأجور - الحكومة الجديدة - القومية واتباع الأساليب الغربية - إنزال
كنفوشيوس عن عرشه - مناهضة الدين - المبادئ الخلقية الجديدة - التحول في

نظام الزواج - تحديد النسل - التعليم المشترك بين الذكور والإناث - "التيار الجديد"
في الأدب والفلسفة - لغة الأدب الجديدة - هوشي - عناصر التدمير - عناصر التجديد
كان كل شيء في الماضي يتغير ماعدا الشرق، أما الآن فليس شيء في الشرق لا يتغير، وأضحت أشد الأمم استمساكا بالقديم أكثرها تطرفاً بعد الروسيا، وأخذت تدمر عامدة عادات ونظماً كانت تعدها من قبل حرماً آمناً غير قابل للتعديل. فليس الأمر الآن مقصوراً على القضاء على أسرة حاكمة كما حدث في عام 1644م بل هو اقتلاع جذور حضارة قديمة.
وقد جرت العادة أن يكون آخر التغيير وأقله في القرية، لأن اعتدال القرية وبطء سيرها لا يشجعان على التجديد، والجيل الجديد نفسه لا بد له أن يزرع أولاً ثم يحصد ما زرعه فيما بعد. وأما الآن فإن سبعة آلاف ميل من الخطوط الحديدية تخترق الريف الصيني، ولا تزال تربط القرى الشرقية بالمدن الساحلية وتحمل كل جديد من سلع الغرب إلى الملايين من بيوت الزراع، رغم ما أصابها من الدمار في خلال الفوضى وسوء الإدارة اللذين داما عشرات السنين، ورغم ما تحملته من الأعباء الباهظة بسبب حاجات الحرب ومطالبها الملحة. ففي هذه القرى يرى السائح كثيراً من الواردات الأجنبية مثل الكيروسين، ومصابيح الكيروسين، وعيدان الثقاب، ولفافات التبغ، بل يرى فيها القمح الأمريكي نفسه. ولعل القارئ يظن أن وجود هذه البضائع والسلع في داخل البلاد أمر عادي غير جدير بالذكر؛ والحق أن
صفحة رقم : 1399
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأقصى -> الصين -> الثورة والتجديد -> بداية عهد جديد

نقلها إليها من أصعب الأمور لأن البلاد لا تزال جد فقيرة في وسائل النقل، حتى أن نقل البضائع بين الأقاليم الداخلية والمقاطعات الساحلية يتطلب من النفقات أكثر مما يتطلبه نقلها إلى ثغور الصين من أستراليا أو الولايات المتحدة. ولقد تبين لأهل البلاد أن نمو الحضارة من الناحية الاقتصادية موقوف على سهولة سبل النقل ووسائل الاتصال. من أجل ذلك أنشئت طرق برية يبلغ طولها نحو عشرين ألف ميل تسير عليها ستة آلاف مركبة حافلة سيراً غير منتظم مملوءة على الدوام بالركاب. فإذا ما ارتبطت هذه القرى التي يخطئها الحصر بالسيارات السريعة فإن ذلك يحدث في الصين أعظم تغيير شهدته في تاريخها الطويل وهو القضاء حتى على القحط الذي طالما هددها وأفنى الكثيرين من أهلها.
هذا في القرى أما في الحواضر فإن انتصار الأساليب الغربية يسير بخطى أسرع وأيسر، فالحرف اليدوية أخذت في الزوال بتأثير منافسة السلع الرخيصة السهلة النقل المستوردة من خارج البلاد. وقد تعطل لهذا السبب آلاف من الصناع، ولكن المصانع الآلية التي أنشئت على طول السواحل بمعونة رؤوس الأموال الأجنبية والوطنية تبتلعهم ابتلاعاً سريعاً، وقد سكت صوت الأنوال اليدوية في المدن وإن كانت لا تزال تدور في الريف، وغمر القطن والمنسوجات القطنية أسواق البلاد، وشيدت مصانع النسيج لتجعل من فقراء الصين عبيداً مسخرين للآلات، وأقيمت في هانجتشاو أفران لصهر المعادن لا تقل ضخامة وروعة عن مثيلاتها في البلاد الغربية، ووضعت مشروعات هائلة لإنشاء مخابز ومصانع لحفظ الطعام ولصنع الأسمنت والورق والصابون والشمع وتكرير السكر، وهي تعمل رويداً رويداً على تحويل العامل الصيني اليدوي إلى صانع ومشرف على الآلات. لكن الصناعات الجديدة يعوق نموها السريع تردد أصحاب رؤوس الأموال في أن يستثمروها في بلاد لا تنقطع فيها الثورات، ويلاقون فيها صعاباً جمة من جراء نقص وسائل النقل وكثرة نفقاتها وقلة المواد في داخل

صفحة رقم : 1400
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأقصى -> الصين -> الثورة والتجديد -> بداية عهد جديد

البلاد، ومن جراء تمسك الصينيين بتلك العادات الجميلة عادة الولاء للأسرة قبل الولاء لكل ما عداها من الجماعات، والتي تجعل كل مكتب من مكاتب الموظفين وكل مصنع معششاً للأقارب والعاجزين عن أداء عمل من الأعمال(19). والتجارة يعوقها فضلاً عن هذا ما يفرض عليها من الضرائب في داخل البلاد ومن الرسوم الجمركية والرشاوي وضروب الاغتصاب، وإن كانت مع ذلك تنمو أسرع من نمو الصناعة وتضطلع بدور خطير في تحول الصين الاقتصادي .
وقد قضت الصناعات الجديدة على نقابات أرباب الحرف القديمة وأحدثت كثيراً من الاضطراب والفوضى بين العمال وأرباب الأعمال. ذلك أن هذه النقابات كانت تعيش بفضل ما تبذله من الجهود لتحديد أجور العمال وأثمان البضائع بالتوفيق بين الملاك والمنتجين الذين لم يكن لمنتجاتهم ما ينافسها في التجارة المحلية. فلما أن اتسع نطاق التجارة بزيادة وسائل النقل، وجاءت البضائع من البلاد البعيدة تنافس في جميع المدن بضائع النقابات المصنوعة باليد، تبين لها أن ليس في استطاعتها أن تشرف على الأسعار أو تحدد الأجور من غير أن تخضع في ذلك إلى أوامر المتنافسين الأجانب وإلى رؤوس الأموال الأجنبية. ومن أجل هذا تفككت النقابات وتقسمت إلى غرف تجارية من جهة وإلى اتحادات للعمال من جهة أخرى. فالغرف تعنى بالنظام والولاء لأصحاب الأعمال وبالحرية الاقتصادية، والعمال يعنون بأجورهم المنخفضة التي تكاد تميتهم جوعاً. وقد كثر الإضراب والمقاطعة ولكن هذين قد أفلحا في إرغام أرباب الأعمال من الأجانب على التسليم للحكومة الصينية ببعض الامتيازات أكثر مما أفلحا في رفع
صفحة رقم : 1401
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأقصى -> الصين -> الثورة والتجديد -> بداية عهد جديد

أجور العمال. وقد قررت مصلحة الشؤون الاجتماعية التابعة لبلدية شنغهاي الصينية متوسط الأجر الأسبوعي لعمال مصانع النسيج بين 1.73، 2.76 دولار للرجل، وما بين 1.10، 1.78 دولار للمرأة. وكان متوسط الأجور الأسبوعية للرجال في المطاحن والمصانع 1.96 دولار وفي مصانع الأسمنت 1.72 دولار، وفي مصانع الزجاج 1.84، وفي مصانع الكبريت 2.11؛ وكان متوسط أجر العمال المهرة في المصانع الكهربائية 3.10 وفي مصانع الآلات 3.24 وبين عمال المطابع 4.55(23) وما من شك في أن الزيادة الكبيرة في أجور عمال المطابع إنما ترجع إلى حسن تنظيمهم والى الصعوبة التي يعانيها أصحاب المطابع في استبدال غيرهم بهم إذا توقفوا عن العمل فجأة. وتألفت أولى اتحادات العمال في عام 1919م وزاد عددها وقوتها حتى طلبت في أيام برودين أن تتولى هي حكم الصين؛ ولكن جيانج كاي - شك كبح جماحها من غير رحمة بعد نزاعه مع الروسيا؛ وقد سنت لمقاومتها في هذه الأيام قوانين غاية في الصرامة، ولكن عددها مع ذلك آخذ في الازدياد بسرعة لأنها الملجأ الوحيد للعمال من عنت النظام الصناعي الذي لم يعمل حتى الآن أكثر من أن يبدأ بوضع التشريع الخاص بالعمال، ولم يبدأ قط في تنفيذه(24). وإن ما يعانيه صعاليك المدن في هذه الأيام من فقر مدقع وكدح يدوم اثنتي عشرة ساعة في اليوم بأجور لا تكاد تمسك الروح بالجسم، يهددهم الموت جوعا إذا لم يجدوا عملاً في يوم من الأيام، إن ما يعانيه هؤلاء الصعاليك في هذه الأيام لأسوأ مما كان يعانيه فقراء القرى في الأيام الخالية حيث لم يكن يسمح للفقراء أن يروا الأغنياء، وحيث كانوا يرضون بما قسم لهم منذ الأزل.

ولعله كان من المستطاع تجنب هذه الشرور لو أن تبدل الأحوال في شرق الصين لم يتم بغير ما تم به من السرعة ولم يبلغ ما بلغه من الكمال. إذن لكان في مقدور كبار الموظفين الصينيين، وإن فقدوا ما كان لهم من حيوية وتلوثت أيديهم بالرشوة، أن يكبحوا جماح القوى الصناعية الجديدة حتى تتأهب الصين
صفحة رقم : 1402
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأقصى -> الصين -> الثورة والتجديد -> بداية عهد جديد

لقبولها من غير أن تقع في براثن الفوضى والعبودية؛ وإذن لنشأت من نمو الصناعة عاماً بعد عام طبقة جديدة من السكان لعلها كانت تستطيع أن تخطو بسلام إلى ميدان السلطة السياسية، كما خطا الصناع إليها في إنجلترا وحلوا محل كبار ملاّك الأراضي الزراعية.

ولكن الحكومة الجديدة ألفت نفسها بلا جيش، ولا زعماء مجربين، ولا مال؛ ووجد الكومنتانج، أي حزب الشعب الذي أنشئ لتحرير الأمة، أن بد له أن يقف موقف العاجز وهو يرى الأمة تخضع لرؤوس الأموال الأجنبية والوطنية. وكان هذا الحزب قد ولد في مهاد الديمقراطية ونشأ في أحضان الشيوعية، ثم أضحى جل اعتماده على مصارف شنغهاي المالية، فترك الديمقراطية وانحاز إلى الدكتاتورية وحاول أن يقضي على اتحاد الصناع . ذلك الحزب يعتمد على الجيش، ولا بد للجيش من مال، والمال لا يأتي إلا من القروض؛ وإلى أن يكون للجيش من القوة ما يمكنه من إخضاع الصين فإن الحكومة ستظل عاجزة عن فرض الضرائب على الصين، وإلى أن تستطيع الحكومة فرض الضرائب على الصين ستظل تتلقى النصح والإرشاد من حيث تتلقى المال. على إنها مع هذا كله قد أنجزت الشيء الكثير، فقد أعادت إلى الصين إشرافها التام على التعريفة الجمركية وعلى صناعاتها - داخل نطاق قوة المال العالمية - وأنشأت ودربت وجهزت جيشاً قد يستخدم في يوم من الأيام لقتال غير الصينيين؛ ووسعت رقعة الأقاليم التي تعترف بسلطة الحكومة، وقللت في هذه الرقعة من قوة قطاع الطرق الذين كانوا يجثمون على أنفاس الأمة ويكادون يقضون على حياتها الاقتصادية. وهي تسير في هذا سيراً بطيئاً لأن إشعال نار الثورة مستطاع في يوم وليلة ولكن إقامة حكومة ثابتة يحتاج إلى جيل.
صفحة رقم : 1403
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأقصى -> الصين -> الثورة والتجديد -> بداية عهد جديد

وليس تفكك الصين وانفصام عرى وحدتها إلا مظهراً مما في النفس الصينية من انقسام ونتيجة لازمة له. إن أقوى ما في الصين من مشاعر في هذه الأيام هو شعور الكراهية للأجانب، وأقوى التيارات التي تجتاح الصين هو تيار محاكاة الأجانب. والصين تعرف أن الغرب لا يستحق أن تتملقه وتحاكيه؛ ولكن الصين يضطرها روح الأيام ودوافعها القوية إلى تملق الغرب ومحاكاته لأن الأمم في هذا العصر لابد لها أن تختار بين التصنيع والاسترقاق ولا ثالث لهما. ومن أجل هذا نرى الصينيين في المدن الشرقية يهجرون الحقول إلى المصانع، والثياب الفضفاضة إلى السراويل الضيقة، ونغمات الماضي البسيطة الشجية إلى موسيقى الغرب المعقدة، ويتخلون عن ذوقهم الجميل في الثياب والأثاث والفن، ويزينون جدرانهم بالصور الأوربية، ويشيدون دور الحكومة ومكاتب الأعمال على أقبح الطرز الأمريكية. وقد تخلت نساء الصين عن عادة ضغط أقدامهن من الأمام إلى الخلف وأخذن يضغطنها من اليمين إلى اليسار على آخر طراز غربي ، وأخذ فلاسفتها يتخلون عن مبادئ كنفوشيوس المعتدلة القنوعة الظريفة ويهرعون إلى مبادئ موسكو ولندن وبرلين وباريس ونيويورك الشرسة الخصيمة، ويتلقونها بنفس الحماسة التي كان الأوربيون يتلقون بها مبادئ النهضة في أواخر العصر الوسيط.
لقد ثلّ عرش كنفوشيوس وكان في الطريقة التي ثل بها شيء من سمات عصر النهضة وعصر الاستنارة؛ ولقد كان نبذاً لأرسطو الصين والآلهة التي عبدها الشعب من أقدم الأزمنة. وأتى على الدولة حين من الدهر اضطهدت فيه البوذية وطوائف الرهبان في الأديرة، ذلك أن ثوار الصين كانوا كثوار فرنسا ملاحدة لا يخفون عن الناس إلحادهم، ويجهرون بعدائهم للدين، ولا يعبدون غير
صفحة رقم : 1404
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأقصى -> الصين -> الثورة والتجديد -> بداية عهد جديد

العقل. ولعل الكنفوشية كانت تترك الناس أحراراً في عقائدهم الدينية لأنها تفترض أن الآلهة ستبقى ما بقي الفقر؛ أما الثورة فكانت تظن أن في وسعها أن تقضى على الفقر ولذلك لم تر حاجة إلى الآلهة؛ وكانت الكنفوشية ترى أن الزراعة والأسرة هما نظام الحياة العملية والاجتماعية الطبيعية ولذلك شادت صرحاً للأخلاق يهدف إلى حفظ النظام وإشاعة القناعة في نطاق دائرة البيت والحقل؛ أما الثورة فوجهتها الصناعة وهي في حاجة إلى أخلاق جديدة تتفق مع الحياة الفردية في الحواضر. وقد بقيت الكنفوشية لأن الوصول إلى المناصب السياسية والمهن العلمية كان يتطلب معرفة مبادئها والآخذ بها، أما الآن فنظام الامتحانات قد انقضى عهده وحلت العلوم الطبيعية في المدارس محل الفلسفة الأخلاقية والسياسية؛ وأضحى الرجل لا يصاغ للحكم بل يصاغ للصناعة؛ وكانت الكنفوشية محافظة تكبح بحذر الشيوخ مُثُل الشباب العليا؛ أما الثورة فروحها من أنفاس الشباب ولا تقبل أن يفرض عليها شيء من هذه القيود، وهي تسخر من الشيوخ إذا رفعوا عقيرتهم محذرين: "إن الذين يظنون أن الجسور القديمة عديمة النفع ويحطمونها تحطيماً سيصيبهم الدمار ويغرقهم تيار المياه الجارف" .
وقضت الثورة بطبيعة الحال على دين البلاد الرسمي ولم تعد تقرب القرابين الآن من مذبح السماء إلى التِّيَان الصامت المجرد. وتجيز الحكومة عبادة الأسلاف ولكن هذه العبادة آخذة هي الأخرى في الانقراض، وينزع الرجال إلى تركها شيئاً فشيئاً للنساء وقد كانوا يظنونهن من قبل غير خليقات بهذه الطقوس المقدسة. ولقد تلقى نصف زعماء الثورة تعليمهم في المدارس المسيحية ولكن الثورة رغم انتماء جيانج كاي شك إلى الطائفة المسيحية النظامية (
Methodism) لا تميل إلى دين يؤمن بخوارق الطبيعة وتصبغ كتبها المدرسية بالصبغة الإلحادية(29). أما
صفحة رقم : 1405

قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأقصى -> الصين -> الثورة والتجديد -> بداية عهد جديد

الدين الجديد الذي يحاول أن يسد الفراغ العاطفي الناشئ من فراق الآلهة فهو دين الوطنية، كما أن الدين الجديد في الروسيا هو الشيوعية. لكن هذه العقيدة في الوقت الحاضر لا ترضى كافة الناس، ولهذا ترى الكثيرين من صعاليك المدن يعمدون إلى العرافين والمتنبئين والوسطاء ليجدوا عندهم ملجأ من كدح الحياة اليومية الرتيب الذي لا لذة فيه ولا طرافة، ولا يزال القرويون يجدون بعض ما يسليهم عن فقرهم ويفرج عنهم كربهم في سكون المزارات القديمة. والقانون الأخلاقي القديم الذي كان الناس منذ جيل واحد يظنونه قانوناً سرمدياً لا يتبدل آخذ في التفكك والانحلال بسرعة تتضاعف ثم تتضاعف على مدى الأيام بعد أن فقد حماية الحكومة والدين والحياة الاقتصادية. وأهم ما طرأ على الصين من تبدل في هذه الأيام، إذا استثنينا ما أحدثه فيها الغزو الصناعي، هو تحطيم نظام الأسرة القديمة لتحل محله نزعة فردية تترك كل إنسان حراً يواجه العالم بمفرده، وقد استبدل الولاء للدولة من الوجهة النظرية بالولاء للأسرة. وإذ كان هذا الولاء الجديد لم ينتقل الآن من طور الأقوال والنظريات إلى طور الأعمال فإن المجتمع الجديد يعوزه الأساس الخلقي الذي يستند إليه. إن الزراعة يلائمها نظام الأسرة لأن الأرض، قبل انتشار الآلات، كانت تستغل أحسن استغلال على أيدي جماعة من الناس تربطهم الدين والسلطة الأبوية. أما الصناعة فتمزق الأسرة لأنها تعطي العمل والجزاء عليه للأفراد لا للجماعات، ولا تعطيهم هذا الجزاء دائماً في مكان معين، ولا تعترف بأن للضعفاء حقاً في مال الأقوياء، ولا يجد التعاون والتراحم الطبيعيين القائمين بين الأسرة سنداً من التنافس المرير الذي هو من طبية الصناعة والتجارة؛ وترى الجيل الجديد الذي ينفر على الدوام من سلطان الشيوخ يهرع عن عمد إلى المدينة وفردية المصنع، ولعل

سلطان الأب القوي في الزمن الماضي قد عجل بالانقلاب لأن الرجعية هي التي يرجع إليها على الدوام إسراف المتطرفين. وهكذا انتزعت الصين نفسها من ماضيها واستأصلت
صفحة رقم : 1406
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأقصى -> الصين -> الثورة والتجديد -> بداية عهد جديد

جذوره، وما من أحد يدري هل تستطيع أن تمد لها جذوراً جديدة في وقت يمكنها من أن تنجي بها حياتها الثقافية.
وكذلك أخذت أساليب الزواج القديم تزول بزوال سلطان الأسرة. نعم إن معظم الزيجات لا تزال ينظمها الآباء، ولكن الزواج بالاختيار الحر بين الفتيان والفتيات آخذ في الانتشار في الحواضر؛ فالشاب لا يكتفي الآن بأن يرى نفسه حراً في أن يتزوج من يشاء، بل هو يجري تجارب في الزواج قد يرتاع لها أبناء الغرب أنفسهم، وهذا القول نفسه ينطبق على الفتيات كما ينطبق على الفتيان. لقد كان نيتشه يرى أن آسية على حق فيما تعامل به النساء، ويرى أن إخضاعهن للرجال هو العاصم الوحيد من سيطرتهن عليهم سيطرة لا تقف عند حد، ولكن آسية قد اختارت أساليب أوربا لا أساليب نيتشه في معاملة النساء. وتعدد الزوجات آخذ في النقصان لأن الزوجة الجديدة تعارض فيه وتعارض في التسري. والطلاق قليل غير عادي، ولكن السبيل إليه أوسع مما كانت في الأيام الماضية . والتعليم المشترك هو القاعدة المتبعة في الجامعات، واختلاط الجنسين اختلاطاً حراً أمر عادي في المدن، وقد سنت النساء لهن قوانينهن الخاصة بهن وأنشأن مدارسهن الطبية، بل سرن إلى أبعد من هذا فأنشأن مصرفاً مالياً خاصاً بهن(31). واللائي انضممن إلى الحزب من النساء منحن حق الانتخاب، وقد وجدت لهن وظائف في أرقى لجان الحزب والحكومة على السواء(32). ولقد نبذن عادة قتل الأطفال
صفحة رقم : 1407
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأقصى -> الصين -> الثورة والتجديد -> بداية عهد جديد

وأخذن يزاولن عادة تحديد النسل ، ولم يزد عدد السكان زيادة ملحوظة منذ قيام الثورة ولعل تيار السكان الصينيين الجارف قد أخذ الآن يتراجع(33).
ومع هذا فإن خمسين ألف صيني جديد يولدون في كل يوم(34). وسيكونون في مستقبل أيامهم جدداً من كل الوجوه، جدداً في تفصيل ملابسهم وترجيل شعرهم، جدداً في تعليمهم وعاداتهم وأخلاقهم ودينهم وفلسفتهم. لقد اختفى ذيل ملابسهم الطويل واختفى معه ما كان في الأيام الخالية من ظرف ورقة، وخشنت أحقاد الثورة روح الأهلين، وأضحى من أصعب الأمور على المتطرفين أن يجاملوا المحافظين(35). وهاهو ذا تيار الصناعة السريع يبدل ما كان يتصف به الشعب الصيني القديم من تواكل وعدم مبالاة إلى صفات أخرى أكثر دلالة على طبيعتهم. إن هذه الوجوه البليدة لتخفي تحتها نفوساً نشيطة سريعة الاهتياج، وإن النزعة السلمية التي أشربتها نفوس الصينيين بعد حروب دامت عدة قرون لآخذة في الزوال من طول تفكيرهم في هزائمهم القومية وتقطيع أوصال بلادهم؛ والمدارس تعد الآن كل طالب لأن يكون جندياً، وعاد القوم مرة أخرى يرون القائد بطلاً.
وتبدل نظام التعليم من أوله إلى آخره فألقت المدارس بكنفوشيوس من النافذة وأحلت العلوم الطبيعية والرياضية محله، وإن لم يكن من الضروري أن تتخلى عنه لتحل العلوم محله لأن تعاليم كنفوشيوس لا تتعارض مطلقاً مع روح العلم. ولكن التاريخ كله لحمته وسداه يتكون في جميع مراحله من غلبة الإحساسات النفسية على العقائد المنطقية. فدراسة الرياضيات والميكانيكا واسعة الانتشار لأنهما يعينان على صناعة الآلات، والآلات تعين على جمع الثروة وعلى صناعة المدافع، والمدافع قد تحفظ الحرية. ودراسة الطب في الصين آخذة في
صفحة رقم : 1408
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأقصى -> الصين -> الثورة والتجديد -> بداية عهد جديد

الانتشار، والفضل في انتشارها راجع معظمه إلى هبات المحسن ركفلر . وقد تضاعف عدد المدارس الجديدة والمدارس العليا والكليات بسرعة فائقة على الرغم من فقر البلاد، والصين الحديثة تأمل ألا يمضي إلا القليل من الوقت حتى يستطيع كل طفل أن يتعلم من غير آخر وأن يسودها النظام الديمقراطي بفضل انتشار التعليم.
وقد حدث في الأدب الصيني والفلسفة الصينية انقلاب شبيه بما حدث في عهد النهضة. ذلك أن دخول الكتب الغربية كان له من الأثر المنتج ما كان للمخطوطات اليونانية من أثر في عقول الإيطاليين؛ وكما أن إيطاليا في إبان نهضتها قد هجرت اللغة اللاتينية لتكتب بالإيطالية فكذلك فعلت الصين بزعامة هوشي إذ حولت اللهجة الأرستقراطية القديمة إلى لغة أدبية هي المعروفة بالباي هوا، وأقدم هوشي على عمل خطير جازف فيه بمصيره الأدبي فكتب بهذه "اللغة البسيطة" تاريخ الفلسفة الصينية في عام 1919م؛ وكانت شجاعته سبباً في فوزه العظيم، فاتخذت الكتابة الرسمية في المدارس. وقامت في الوقت نفسه "حركة الحروف الألف" لإنقاص رموز الكتابة الصينية من 000ر40 رمز وهو العدد الذي كان يستخدمه العلماء في كتاباتهم إلى 300ر1 تكفي للاستعمال العادي، وبهذه الطريقة أخذت لهجة المنذرين تذاع بسرعة في الأقاليم الصينية، وقد لا ينتهي هذا القرن حتى تكون للصين كلها لغة واحدة وحتى تقترب من الوحدة الثقافية.
والأدب الصيني أخذ في الانتشار مدفوعاً بهذه اللغة الشعبية وبحماسة الأهلين، وقد أضحت الروايات والقصائد والتمثيليات لا يقل عددها عن الصينيين أنفسهم، وانتشرت الصحف والمجلات في كل مكان، وأخذ الصينيون يترجمون آداب الغرب
صفحة رقم : 1409
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأقصى -> الصين -> الثورة والتجديد -> بداية عهد جديد

بالجملة، كما أخذت أشرطة الخيالة الأمريكية، يشرحها مترجم صيني يقف إلى جانب الشاشة البيضاء، تبعث البهجة في نفوس الصينيين العلماء منهم والسذج. وكذلك عادت الفلسفة إلى عظماء الفلاسفة الأقدمين الملحدين، وأخذت تعيد دراستهم وتفسيرهم على نمط جديد بعزيمة واندفاع لا يقلان عن عزيمة أوربا ونشاطها في القرن السادس عشر. وكما أن إيطاليا بعد أن تحررت من القيود الكنسية قد راعتها العقلية اليونانية اللاتينية وأثارت إعجابها، كذلك أخذت الصين الجديدة تستمع بشغف ليس كمثله شغف إلى أقوال مفكري الغرب أمثال جون ديوي وبرتراند رسل وأمثالهم من العلماء المستقلين في تفكيرهم استقلالاً تاماً عن جميع الأديان، والذين يعظمون التجارب ويعتقدون أنها وحدها هي المنطق الواجب الاتباع، والذي تتفق فلسفتهم لهذا السبب مع مزاج أمة تحاول أن تجمع الإصلاح الديني وإحياء العلوم والاستنارة والنهضة والثورة في جيل واحد . وإذا ما امتدح أحدنا الآن ما لآسية من "قيم روحية" سخر منه هوشي وقال إنه يجد في إصلاح نظم الصناعة والحكم إصلاحا يعين على استئصال العوز من البلاد قيما أخلاقية أعظم من كل ما في "حكمة الشرق"، وهو يلقب كنفوشيوس "بالشيخ الطاعن في السن" ويقول إن التفكير الصيني ليظهر على حقيقته إذا ما وضعت مدارس الملحدين التي كانت قائمة في القرن الخامس والرابع والثالث قبل الميلاد في مكانها الصحيح من تاريخ الصين(38).
بيد أنه وهو وسط هذا "التيار الجديد" الجارف وهذه الحركة الفكرية الجديدة التي كان من أنشط زعمائها قد أوتى من الحكمة ما جعله يدرك ما للشيوخ أنفسهم من قيمة، وقد صاغ مشكلة بلاده أكمل صياغة في الفقرة الآتية:
صفحة رقم : 1410
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأقصى -> الصين -> الثورة والتجديد -> بداية عهد جديد

"إن الجنس البشري بأجمعه لتصيبه أكبر خسارة إذا ما استبدلت الحضارة الجديدة بالحضارة القديمة استبدالاً سريعاً مفاجئاً يمحوها من الوجود بدل أن تمتصها البلاد امتصاصاً بطيئاً وتمثلها كما يمثل الغذاء الصالح. وعلى هذا فإن المشكلة التي تواجهنا يمكن أن تصاغ على النحو الآتي: كيف نستطيع أن نهضم الحضارة الجديدة ونمثلها بحيث نجعلها متجانسة مؤتلفة مع الحضارة التي أنشأناها نحن في أيامنا الخالية؟"(30).
ويخيل إلى كل من يشهد ظواهر الأمور الخارجية السائدة في الصين الآن أنها لن تستطيع حل هذه المشكلة. ذلك أن الإنسان إذا ما فكر فيما يخيم على الحقول الصينية من وحشة وما حاق بها من خراب، وما يتناوبها من جدب تارة وفيضان جارف تارة أخرى، وما أصاب أشجارها من تقطيع وتدمير، وفيما أصيب به زراعها من إنهاك وخمول، وفي الموت التي يحصد أطفالها حصداً، وفي عمالها الذين يكدحون في المصانع كالعبيد كدحاً يضعفهم ويهد قواهم، وفي مدنها القذرة التي تتفشى فيها الأمراض، وتفرض على بيوتها أفدح الضرائب، وفي الرشوة المنتشرة في تجارتها، وفي صناعاتها التي يسيطر الأجانب عليها، وفي فساد حكومتها، وضعف وسائل الدفاع عن بلادها، وفي أهلها الذي تفرقوا شيعاً وأحزاباً وامتلأت قلوبهم غلاً وحقداً، إذا ما فكر في هذا كله هاله الأمر فلا يدري هل تستطيع الصين أن تستعيد عظمتها الماضية، وهل في مقدورها أن تمتص مرة أخرى فاتحيها وتمثلهم في جسمها الضخم، وتحيى من جديد حياتها النشيطة المبدعة؟ ولكنا إذا نظرنا إليها نظرة تدقيق وإمعان رأينا من تحت هذه المظاهر السطحية عوامل النقاهة والتجديد. فأراضيها الواسعة الرقعة المختلفة الأنواع غنية بمعادنها الكفيلة بأن تجعلها بلداً صناعياً عظيماً، وقد لا يكون فيها من الثروة المعدنية ما قدره رختوفن، ولكن فيها بلا ريب أكثر مما كشفت عنه البحوث التجريبية في هذه الأيام. وإذا مات سربت الصناعة إلى داخل البلاد فستكشف عن خامات

ومواد للوقود لا يتصور الناس
صفحة رقم : 1411
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأقصى -> الصين -> الثورة والتجديد -> بداية عهد جديد

الآن أنها توجد فيها، كما لم يكن أحد يتصور منذ قرن واحد ما في أمريكا من ثروة معدنية ومن وقود. أما عن قواها المعنوية فإن هذه الأمة التي مرت عليها ثلاثة آلاف عام سمت فيها إلى المجد تارة وتردت في مهاوي الشقاء تارة أخرى، وتوالت عليها فترات موت وبعث، إن هذه الأمة لتظهر فيها اليوم كل دلائل الحيوية المادية والمعنوية التي نتبينها في أكثر عهودها إبداعاً وإنتاجاً. وليس في العالم كله شعب أكثر من هذا الشعب نشاطاً وذكاء، وليس فيه شعب يماثله في قدرته على التكيف حسب ما يواجهه من الظروف، وفي مقاومته للأمراض، وفي انتعاشه بعد الكوارث والآلام، شعب علمه تاريخه الطويل الصبر على الأرزاء والخروج منها سالماً على مر الأيام. وليس في وسع الخيال أن يتصور ما يخبئه المستقبل لحضارة تمتزج فيها الموارد المادية والطاقة البشرية والعقلية لهذا الشعب والوسائل والأدوات الفنية التي أوجدتها الصناعة الحديثة.
وأكبر الظن أن الصين ستنتج من الثروة ما لم تنتجه قارة من القارات حتى أمريكا نفسها، وأن الصين ستتزعم العالم في نعيم الحياة وفنها كما تزعمته مراراً في الزمن القديم في التنعم وفي فنون الحياة.

ذلك أن الهزائم الحربية واستبداد الأموال الأجنبية مهما قست لا تستطيع أن تكبت إلى مدى طويل روح أمة غنية في مواردها وفي حيويتها، بل سيخسر المغير عليها ماله وينفذ صبره قبل أن تستنفذ البلاد قدرتها على التكاثر؛ ولن يمضي قرن واحد من الزمان حتى تكون الصين قد امتصت فاتحيها وهضمتهم وحضرتهم بحضارتها، وتعلمت جميع الفنون التي سيطلق عليها إلى وقت قصير اسم الصناعة الحديثة. وسوف توحد الطرق وسبل الاتصال بين أجزاءها، وتمدها أساليب الاقتصاد والادخار بحاجتها من المال، وستعيد إليها الحكومة القوية السلم والنظام. ويقيننا أن الفوضى مهما اشتدت ليست إلا أمراً عارضاً مصيره إلى الزوال، ثم يتوازن
صفحة رقم : 1412
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأقصى -> الصين -> الثورة والتجديد -> بداية عهد جديد

الاضطراب آخر الأمر مع الطغيان ويتعادلان، وحينئذ تكتسح العوائق القديمة وتنمو البلاد نماء حراً جديداً. إن الثورة كالموت هي اكتساح الأقذار، وبتر الذي لا نفع فيه؛ وهي لا تقول إلا إذا كان في البلد الذي تقوم به أشياء كثيرة في دور الاحتضار. ولقد ماتت الصين مراراً من قبل، ثم عادت وولدت من جديد.

صفحة رقم : 1413
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأقصى -> اليابان -> بناة اليابان -> مقدمة

اليابان
الباب الثامن والعشرون
بناة اليابان

تاريخ اليابان مسرحية لم تكمل بعد، قد تم منها ثلاثة فصول : فصلها الأول- بغض النظر عن القرون البدائية الأسطورية- هو اليابان البوذية الكلاسيكية (522- 1603 ميلادية) التي دخلتها المدنية فجأة على أيدي الصين وكوريا، والتي هذبها الدين وصقلها، فخلقت آيات الأدب الياباني والفن الياباني في العصر الذي يدونه التاريخ؛ والفصل الثاني من المسرحية هو اليابان الإقطاعية الآمنة التي تنسب إلى توكوجادا شوجاتى (1603 - 1868) والتي اعتزلت العالم وحصرت نفسها في نفسها، لا تريد لنفسها شيئاً من اتساع الرقعة ولا تنشد تبادلاً تجارياً مع الخارج، قانعة بالزراعة منصرفة إلى الفن والفلسفة؛ أما الفصل الثالث فهو اليابان الحديثة، التي كشف عنها الستار أسطول أمريكي سنة 1853، والتي اضطرتها العوامل الداخلية والخارجية اضطراراً أن تضرب بسهم في التجارة والصناعة، وأن تبحث عن خامات من الخارج وأسواق في الخارج، وتقاتل قتالاً مستميتاً في سبيل التوسع، محاكية في ذلك بلاد الغرب في نزعتها الاستعمارية وطرائقها في هذا السبيل، مهددة بذلك سيادة الجنس الأبيض وسلام العالم؛ وإن سوابق التاريخ كلها لتدل على أن الفصل التالي من المسرحية سيكون قتالاً .
لقد درس اليابانيون مدنيتنا دراسة فاحصة لكي يتشربوا معاييرها ثم يفوقوها، فقد يكون من الحكمة أن تدرس مدنيتهم في صبر يشبه صبرهم في دراسة مدنيتنا، حتى إذا تأزم الأمر على نحو يضطرنا إما إلى حرب أو تفاهم معهم، كان في مقدورنا أن نصل معهم إلى تفاهم.

صفحة رقم : 1414
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأقصى -> اليابان -> بناة اليابان -> أبناء الآلهة

الفصل الأول
أبناء الآلهة
كيف خلقت اليابان - أثر الزلازل

في البداية كانت الآلهة، هكذا يقول أقدم ما دُوّن عن اليابان من تاريخ(1) وكانت الآلهة تولد ذكراً وأنثى، ثم تموت، حتى صدر الأمر في النهاية من شيوخ الآلهة إلى اثنين منها، هما "إيزاناجى" و "إيزانامى". وهما أخ وأخت من الآلهة، أن يخلقا اليابان، فوقفا على جسر السماء العائم، وقذفا في المحيط برمح مرصع بالجوهر، ثم رفعاه إلى السماء فتقطرت من الرمح قطرات أصبحت هي "الجزر المقدسة"؛ وشهدت الآلهة ما تصنعه الضفادع في الماء، فتعلمت منها سر اتصال الذكر بالأنثى، ومن ثم التقى "إيزاناجى" و "إيزانامى" التقاء الزوجين وأنسلا الجنس الياباني، وولدت "أماتيراسو"- إلهة الشمس- من عين "إيزاناجى" اليسرى، وكذلك من حفيدها "ننيجى" نشأت سلسلة متصلة مقدسة حلقاتها هم كل أباطرة "دي نيبون" (أي اليابان العظمى)، فمنذ ذلك اليوم حتى يومنا هذا لم تشهد اليابان إلا هذه الأسرة الحاكمة الإمبراطورية .
كان الرمح المرصع بالجوهر قد قطر أربعة آلاف ومائتين وثلاثاً وعشرين قطرة، لأن هذا هو عدد الجزائر التي يتألف منها أرخبيل الجزر الذي هو اليابان : من هذه الجزر ستمائة مأهولة، لكن ليس بينها إلا خمس لها حجم
صفحة رقم : 1415
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأقصى -> اليابان -> بناة اليابان -> أبناء الآلهة

جدير بالاعتبار؛ أما أكبرها فهي "هوندو" أو "هونشو" ويبلغ طولها 1130 ميلاً ومتوسط عرضها 73 ميلاً، ومساحتها واحد وثمانون ألف ميل مربع، وهي تعادل نصف مساحة الجزر كلها، ويشبه موقعها- كما يشبه تاريخها الحديث- موقع إنجلترا وتاريخها: فقد حمتها البحار المحيطة بها من الغزوات، وحملتها سواحلها الطويلة التي يبلغ مداها ثلاثة عشر ألف ميل على أن تكون أمة بحرية، فكأنما قضى عليها المؤثر الجغرافي والضرورة التجارية أن تبسط لنفسها سيادة واسعة على البحار؛ وتلتقي الرياح والتيارات البحرية الدافئة الآتية من الجنوب، بالهواء البارد الهابط من قمم الجبال، فينتج عن ذلك في اليابان مناخ إنجليزي تملؤه الأمطار، وتكثر فيها الأيام الغائمة بالسحب(4)، ومن ثم تمتلئ أنهارها القصيرة السريعة الانحدار، ويزدهر فيها النبات وتزدان المناظر، فهناك- إذا ما بعدت عن المدن والمساكن العتيقة القذرة- ترى نصف البلاد جنة عدن في ازدهارها، وليست جبالها أكداساً مركومة من الصخر والقذر، بل هي ذوات أشكال فنية، تكاد تبلغ في تخطيطها حد الكمال، كما هي الحال في فيوجى .
ولاشك أن هذه الجزر قد ولدتها الزلازل لا القطرات التي انتثرت من الرياح (6)؛ فليس على الأرض مكان- وربما جاز أن نستثني أمريكا الجنوبية- قد عانى كل ما عانته اليابان من اضطراب أرضها، فحدث سنة 599 أن اهتزت
صفحة رقم : 1416
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأقصى -> اليابان -> بناة اليابان -> أبناء الآلهة

الأرض وابتلعت قرى بأكملها في فمها الضاحك، وهوت الشهب ولمعت المذنَّبات وابيضت الشوارع بالثلج في منتصف يوليو، وأعقب ذلك قحط ومجاعة، وقضى من اليابانيين ألوف الألوف؛ وكذلك حدث سنة 1703 أن قضى زلزال على اثنين وثلاثين ألفاً في طوكيو وحدها، وعادت العاصمة سنة 1885 فتقوض بنيانها من جديد، وانفرجت الأرض عن فجوات واسعة ابتلعت في جوفها ألوفاً، وجعلوا يحملون جثث الموتى في عربات النقل ليقذفوا بها بعيداً جماعات جماعات؛ وفي زلزال 1923 أتت موجة المد وألسنة النار على مائة ألف نفس في طوكيو، وسبعة وثلاثين ألف نفس في يوكاهاما وما يجاورها، وأما كاما كورا- التي طالما أحسنت لبوذا- فكادت تندك من أساسها(7)، مع أن التمثال النحيل الذي كان قائماً هناك للقديس الهندي (يقصد بوذا) قد لبث وسط هذا الخراب الشامل قائماً كما هو، لم يصبه سوى ارتجاج، كأنما أراد بقيامه ذاك سليماً من الأذى أن يضرب مثلاً يوضح للناس أهم درس يلقيه التاريخ- وهو أن الآلهة يمكن لها أن تصمت في مختلف اللغات؛ ولبث الناس في حيرة تملكتهم حيناً، كيف ينزل هذا الخراب كله بأرض خلقتها الآلهة وتحكمها الآلهة؛ وأخيراً فسروا هذا الاضطراب بأن سمكة ضخمة تحت الأرض انزعجت في نعاسها فاهتزت(8) ويظهر أن لم يطرأ ببال أحد إذ ذاك أن يغادر تلك المدينة التي تعرض ساكنيها لأكبر الخطر؛ ففي اليوم التالي لاهتزاز الأرض بزلزالها العظيم الأخير، استخدم صبية المدارس قطعاً من مادة الطلاء المتناثرة أقلاماً، والأحجار الارتوازية المنثورة من بيوتهم المحطمة ألواحاً(9) واحتملت الأمة صابرة هذه الضربات من يد القدر وخرجت من هذا الدمار المتكرر نشيطة نشاطاً لا سبيل إلى الحد منه، ومقدامة على نحو ما يكون المتفائل إقداماً.

صفحة رقم : 1417
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأقصى -> اليابان -> بناة اليابان -> اليابان البدائية

الفصل الثاني
اليابان البدائية

مقوماتها الجنسية - مدنيتها الباكرة - الدين
"شنتو" - البوذية - بدايات الفن "الإصلاح العظيم"
لقد ضاعت الأصول اليابانية- كما ضاع غيرها من أصول الأمم- في خليط عام من النظريات، فيظهر أن الجنس الياباني مزيج من عناصر ثلاثة: عنصر بدائي أبيض جاء عن طريق "الأينويين" الذين وفدوا إلى اليابان من منطقة نهر أمور في العصر الحجري الأخير؛ وعنصر أصفر مغولي جاء من كوريا أو عبر خلالها في نحو القرن السابع قبل المسيح؛ وعنصر قاتم من الملايو وأندونيسيا تسرب إلى البلاد من جزر الجنوب: ففي اليابان- كما في أي بلد آخر- شهدت البلاد خليطاً من عناصر مختلفة قبل أن تشهد- بمئات السنين- قيام نمط جنسي جديد يتكلم بلغة جديدة وينشئ مدنية جديدة، وكون عملية المزج بين هذه الأجناس لم تبلغ تمامها بعد، تراه ظاهراً في الفوارق التي بين الأرستقراطي الطويل النحيل طويل الرأس، وبين الرجال من الشعب في قصره وبدانته ورأسه العريض.
وتصف الروايات التاريخية الصينية التي ترجع إلى القرن الرابع، تصف اليابانيين بأنهم "أقزام"، ثم تضيف إلى ذلك أنهم "لا يعرفون الثيرة ولا الوحوش الكاسرة؛ وهو يَشِمُون وجوههم بزخارف تختلف شكلاً باختلاف المنزلة الاجتماعية، ويلبسون رداء مصنوعاً من قطعة واحدة، ولديهم حراب وقِسِىٌّ ورماح في أطرافها حجر أو حديد، وهم لا يلبسون أحذية، ومن خصائصهم طاعة القانون وتعدد الزوجات ويدمنون الشراب وهم طوال الأعمار.
صفحة رقم : 1418
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأقصى -> اليابان -> بناة اليابان -> اليابان البدائية

ونساؤهم يطلين أجسامهن بالأحمر والقرمزي"(11). وتروى هذه المدَّونات عنهم "أن ليس يقع بينهم سرقة، وقلما يشكو أحد منهم أحداً إلى القضاء"(12)، ولم تكد المدنية تبدأ عندهم، وقد صور "لافكاديوهيرن"- مدفوعاً بصدق نظره وبحبه لذلك العصر القديم- صورها فردوساً لا يشوبها استغلال أو فقر؛ ووصف "فنلوزا" طبقة الفلاحين إذ ذاك بأنها مكونة من سادة عسكريين مستقل بعضهم عن البعض(13)؛ وجاءت الصناعات اليدوية إلى اليابان من كوريا في القرن الثالث الميلادي، وسرعان ما انتظمتها نقابات(14)، ودون هؤلاء الصناع اليدويين، كانت تقع طبقة كبيرة من العبيد، جُمع أفرادها من المسجونين وأسرى الحروب(15)، وكان النظام الاجتماعي إقطاعياً إلى حد ما وقبلياً إلى حد ما، فكان بعض الفلاحين يزرعون الأرض عبيداً للسادة أصحاب الأرض، ولكل قبيلة رئيس يكاد يكون ملكاً عليها(16)، وكانت الحكومة بدائية في تفككها وضعفها.
كانت العاطفة الدينية عند اليابانيين الأولين تجد ما يشبعها في العقيدة بأن لكل كائن روحاً، وفي الطوطمية، وفي عبادة الأسلاف وعبادة العلاقة الجنسية(17)؛ فعندهم أن الأرواح سارية في كل شيء- في كواكب السماء ونجومها، في نباتات الحقل وحشراته، والأشجار والحيوان والإنسان(18)، ويعتقدون أن عدداً لا يحصى من الآلهة يحوم فوق الدار وساكنيها ويرقص مع ضوء المصباح ووهجه إذا رقص(19)، والاتصال بالآلهة يكون عندهم بإحراق عظام غزال أو قوقعة سلحفاة، وبفحص العلامات والخطوط التي تحدثها النار، فحصاً تستمد فيه المعونة من الخبراء؛ وتذكر لنا المدونات القديمة الصينية أنه بهذه الطريقة "كان اليابانيون يستوثقون من طيب الحظوظ وخبيثها، ومن ملاءمة الظروف لقيامهم برحلات برية وبحرية أو عدم ملاءمتها"(20). كانوا يخافون الموتى ويعبدونهم، لأن غضبهم قد ينزل بالعالم شراً مستطيراً؛ فلكي يسترضوا هؤلاء الموتى، كان لزاماً عليهم أن يضعوا لهم النفائس في
صفحة رقم : 1419

قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأقصى -> اليابان -> بناة اليابان -> اليابان البدائية

قبورهم- كأن يضعوا سيفاً إذا كان الميت رجلاً، ومرآة إذا كانت امرأة، وكانوا يؤدون الصلاة ويقدمون الطعام أمام صور أسلافهم في كل يوم(21) وكانوا يلجأون إلى التضحية البشرية آناً بعد آن توسلاً لإيقاف مطر غزير، أو ضماناً لثبات بناء أو جدار، وكان يحدث أحياناً أن يدفن الأتباع مع سيدهم الذي مات ليدافعوا عنه في أولى مراحل حياته الآخرة(22).
ومن عبادة الأسلاف نشأت أقدم ديانة قائمة في اليابان، وهي "شنتو" أي "طريق الآلهة" ولها صور ثلاث " : العقيدة المنزلية التي تتجه بالعبادة إلى أسلاف القبيلة، وعقيدة الدولة التي تتجه بالعبادة إلى الحاكمين الأسلاف وهم الآلهة الذين أسسوا للدولة بناءها؛ فكانوا يخاطبون السلف المقدس الأول الذي عنه جاءت سلسلة الأباطرة، ضارعين سبع مرات كل عام، فيتوجه إليه الإمبراطور نفسه بالدعاء، أو من ينوب عن الإمبراطور؛ ثم كانوا يؤدون له صلاة خاصة إذا ما همت الأمة بالاضطلاع بمشروع تراه استثنائياً في قداسته، مثل الاستيلاء على شانتونج (سنة 1914)(23)؛ ولم تكن ديانة "شنتو" بحاجة إلى تفصيل مذهبي أو طقوس معقدة أو تشريع خلقي، ولم تكن لها طبقة من الكهنة خاصة بها، كلا ولا تذهب إلى ما يبعث العزاء في نفوس الناس من خلود الروح ونعيم الفردوس؛ فكان كل ما تطالب به معتنقيها أن يحجوا آناً بعد آن لأسلافهم وأن يقدموا لهم ضراعة الخاشعين، ويفعلوا كذلك لإمبراطورهم ولماضي أمتهم؛ وقد حلت عقيدة أخرى محل هذه العقيدة حيناً، لأنها مسرفة التواضع في جزائها التي تعد به، وفي أوامرها التي تلزم بها الناس.
وفي سنة 522 جاءت البوذية- وكانت قد دخلت الصين قبل ذاك بخمسمائة عام- إلى اليابان خلال القارة الآسيوية، فأخذت تغزو أرجاءها غزواً
صفحة رقم : 1420

قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأقصى -> اليابان -> بناة اليابان -> اليابان البدائية

سريعاً؛ وقد تآمر عاملان فكتبا لها النصر، وهما: الحاجات الدينية عند الشعب، والحاجات السياسية عند الدولة، لأنه لم تكن بوذية بوذا هي التي جاءت إلى اليابان، بما عرفت به تلك البوذية من لا أدرية وتشاؤم وتزمت وشوق إلى النعيم الناشئ عن انمحاء الفرد في الكل، بل جاءتها بوذية "ماهايانا" بآلهتها الوديعة من أمثال "أميدا" "وكوانون"، وباحتفالاتها الدينية البهيجة، واعترافها ببوذيين منتظرين يخلصون البشر، وبخلود الروح الإنسانية، ثم ما هو خير من ذلك، جاءت هذه البوذية تبث في النفوس بأسلوب لا يقاوم لفرط رقته، كل فضائل الورع والسلام والطاعة التي يمكن أن تصوغ الناس صياغة تجعلهم أكثر انصياعاً للحكومة، وراحت تفسح للمظلومين من الأمل والعزاء ما يجعلهم راضين قانعين بشظف عيشهم؛ وتخفف من وطأة الحياة الكادحة وما فيها من برود يشبه برود النثر وفتور العمل المكرور المعاد، بما تبثه في تلك الحياة من شعر متمثلة في الأساطير والصلاة، ومن مسرحية تتمثل في الاحتفالات البهيجة، وهيأت للناس سبيل الوحدة في الشعور والعقيدة، وهما شيئان طالما رحب بهما الساسة، لأنهما أصل النظام الاجتماعي، ودعامة القوة القومية.

ولسنا ندرى أكانت السياسة أم الورع هو الذي كتب النصر للبوذية في اليابان، فلما مات الإمبراطور "يومى" سنة 586 ، تنازعت وراثة العرش من بعده أسرتان متنافستان، تنازعاً استخدمت فيه السلاح، واعتنقت كلتاهما العقيدة الدينية الجديدة اعتناقاً سياسياً، واستطاع الأمير "شوتوكوتايشي"- الذي يقال عنه إنه ولد وفي يده تميمة مقدسة- أن ينتهي بالحزب البوذي إلى النصر، ثم أقام على العرش "الإمبراطورة سويكو". ولبث تسعة وعشرين عاماً (592-621) يحكم الجزر المقدسة أميراً إمبراطورياً ووصياً على العرش وراح يغدق العطاء لمعابد البوذيين، ويشجع رجال الدين البوذي ويعينهم،
صفحة رقم : 1421
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأقصى -> اليابان -> بناة اليابان -> اليابان البدائية

ويدخل الأخلاق البوذية في صلب القوانين القومية، حتى لقد أصبح بوجه عام للبوذية اليابانية ما كان "أشوكا" لها في الهند, وامتدت رعايته إلى الفنون والعلوم، واستقدم الفنانين ومهرة الصناع من كوريا والصين، وكتب التاريخ، ورسم التصاوير، وأشرف على بناء معبد "هوريوجي"، وهو أقدم آية بقيت لنا في تاريخ الفن الياباني.

لكن على الرغم مما تركه هذا الرجل الناشر لأسباب الحضارة من مختلف الآثار، وعلى الرغم من كافة الفضائل التي راحت البوذية تبثها في النفوس أو تبشر بها، فقد طغت على اليابان أزمة أخرى عنيفة، ولم يكن قد مضى على موت "شوتوكو" جيل واحد؛ ذلك أن أرستقراطياً طموحاً، هو "كاماتاري" قد دبر مع "الأمير تاكا" ثورة في القصر، كانت بداية واضحة لتغير مجرى التاريخ السياسي في "نيبون" (اليابان) حتى ليشير إليها المؤرخون من أبناء البلاد في حماسة وطنية فيصفونها بقولهم "الإصلاح العظيم" (سنة 645)؛ فقد قتل ولي العهد، وأجلس على العرش ملك كهل لم يكن إلا صورة، وكان الأمر في يد "كاماتاري" باعتباره رئيساً للوزراء، فطفق بمعونة "الأمير تاكا"- حين كان لم يزل ولياً للعهد، ثم حين أصبح هو "الإمبراطور تنشي"- يعيد بناء الحكومة اليابانية بحيث جعلها سلطة إمبراطورية أوتوقراطية؛ وارتفع الحاكم من مجرد كونه زعيماً لكبرى القبائل، إلى سلطة شاملة تسيطر على كل موظف في اليابان، فهو الذي يعين كل الحكام، وتدفع له الضرائب كلها مباشرة، وأعلن أن البلاد كلها ملك يمينه؛ وبهذا سارت اليابان بخطوات سريعة من ارتباط بين القبائل مخلخل العرى ورؤساء قبائل يشبهون أشراف الإقطاع، إلى دولة ملكية وثيقة العرى فيما يربط بين أجزائها.

صفحة رقم : 1422
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأقصى -> اليابان -> بناة اليابان -> العصر الإمبراطوري

الفصل الثالث
العصر الإمبراطوري
الأباطرة - الأرستقراطية، تأثير الصين، عصر كيوتو الذهبي - التدهور

منذ ذلك الوقت فصاعداً، جعل الإمبراطور يتمتع بألقاب ضخمة، فكان يسمى أحياناً "تنشي" أو "شمس السماء" على أن اسمه كان غالباً "تنو" أي "الملك السماوي" ونادراً ما كان يطلق عليه "ميكادو" أي "الباب المجيد"؛ وكان من امتيازه أن يطلق عليه اسم جديد بعد موته، يعرف في التاريخ باسم خاص يختلف كل الاختلاف عن الاسم الذي أطلق إبان الحياة؛ ولكي يضمن اتصال النسل الإمبراطوري، كان للإمبراطور الحق في أي عدد شاء من الزوجات أو الرفيقات؛ ولم يكن حتماً أن يهبط الملك إلى أكبر الأبناء، بل تؤول ولاية العرش من بعده إلى من كان في رأيه هو، أو في رأي أبطال العصر أقرب أبنائه إلى أن يكون أقواهم، أو أضعفهم على العرش [فيختار أقواهم إن كان الذي يختار هو الملك، ويختار أضعفهم إن كان الذي يختار هم أعلام العصر ذوو المصالح الشخصية] وكان الأباطرة في بواكير العصر الكيوتي يميلون إلى الورع، حتى لقد تنازل بعضهم عن العرش ليجعلوا من أنفسهم رهباناً بوذيين، وحرَّم أحدهم السِّماكة على أنها إساءة إلى بوذا(25)؛ لكنك تجد بينهم "يوزي" يشذ عن هذا المجرى، ويتعب الناس بنشاطه، فجاء مثلاً يوضح كيف تكون الأخطار التي يستهدف لها الملك إذا نشط؛ فكان يأمر الناس أن يصعدوا الأشجار ثم يرميهم بقوسه ونشابه، ويمسك بالعذارى في الطرقات، ويوثق قيدهن بأوتار قيثارة ويقذف بهن في البرك، وكان مما يمتع جلالته أن يركب جائساً خلال العاصمة فيلهب الناس بسوطه ليدفعهم إلى العمل، لكن رعيته خلعته عن العرش آخر الأمر بثورة أعلنت فيها
صفحة رقم : 1423
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأقصى -> اليابان -> بناة اليابان -> العصر الإمبراطوري

العصيان السياسي الذي هو بمثابة الخروج على حدود التقوى وهو شيء نادر الوقوع في تاريخ اليابان(26)؛ وحدث سنة 794 أن انتقلت مراكز الحكومة من "نارا" إلى "ناجاوكا" ثم لم تلبث بعدئذ أن انتقلت إلى كيوتو (أي عاصمة السلام) فظلت هي العاصمة خلال الأربعة قرون (794-1192) التي يجمع معظم المؤرخين على أنها كانت في اليابان عصرها الذهبي، فلما أن كانت سنة 1190 بلغ سكان كيوتو نصف المليون، وهو ما لم تبلغه أية مدينة أوروبية في ذلك العصر ما عدا القسطنطينية وقرطبة(27)، وقد خصص جزء من المدينة لأكواخ الناس وحظائر لماشيتهم، والظاهر أن قد نعم هؤلاء الناس بعيشهم رغم فقرهم المدقع؛ ثم خصص آخر- جعلوه معزولاً بما تقتضيه الحكمة لحدائق العلية والأسرة الإمبراطورية وقصورهم؛ وكان يطلق على حاشية الإمبراطور بحق "سكان ما فوق السحب"(28) لأن تقدم الحضارة وارتفاع الأساليب الفنية كان من نتائجها في اليابان- كما هي الحال في غيرها- ازدياد الفوارق الاجتماعية؛ وبهذا زالت المساواة التقريبية التي كانت تسود الناس في باكورة الأيام، وحل محلها تفاوت لا مندوحة عن وقوعه إذا ما قُسمِّت الثروة المتزايدة بين الناس على قدراتهم المختلفة وشخصياتهم وامتيازاتهم المتباينة؛ ونشأت أسرات كبيرة، مثل الـ "فويجيوارا" والـ "تايْرا" والـ "ميناموتو" والـ "سوجاوارا"، وهي أسرات كانت تقيم الأباطرة وتخلعهم، ويحارب بعضها بعضاً على النحو العنيف الذي شهدته أيام النهضة الإيطالية؛ ولقد قرَّب "سوجاوارا متشيزاني" نفسه من قلوب اليابانيين لرعايته للأدب، وهو الآن معبود لديهم بوصفه إلهاً للآداب، وتعطل المدارس تكريماً له في الخامس والعشرين من كل شهر؛ وكذلك امتاز الشاب "ميناموتو سانيتومو" بإنشائه في الصباح السابق لاغتياله هذه المقطوعة الشعرية الساذجة، التي تمثل الأسلوب الياباني في أنصع صوره:
صفحة رقم : 1424

قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأقصى -> اليابان -> بناة اليابان -> العصر الإمبراطوري

إذا لم أعد إليك ثانياً
يا شجرة البرقوق التي تجاور داري
فلا تنسي أنت موعد الربيع
وازدهري ما وسعك الازدهار
ولبثت اليابان في عهد "دايجو" المتنوّر (898-930)- وهو أعظم الأباطرة الذين أقامتهم على الحكم قبيلة فوجيوارا، لبثت في عهده تتشرب- بل بدأت تنافس- ثقافة الصين وأسباب ترفها، التي كانت عندئذ في أعلى ذرى ازدهارها في عهد "تانج"؛ ولما كانت اليابان قد استمدت عقيدتها الدينية من "المملكة الوسطى" فقد طفقت تستمد من المعين نفسه لباسها وألعابها وطهيها وكتابتها وشعرها وأساليب حكومتها وموسيقاها وفنونها وبساتينها وعمارتها، بل خُطِّطت عاصمتاها الجميلتان "نارا" و "كيوتو" على غرار "شانجان"؛ فقد استوردت اليابان ثقافة الصين منذ ألف عام، كما تستورد ثقافة أوربا وأمريكا في عصرنا هذا، وهي في هذا تتعجل أولاً ثم تتمهل لتنتقي وتختار ثانياً؛ لكنها تحتفظ بروحها الخاصة وشخصيتها الخاصة غيرة عليهما، ولا تدخر في وسعها جهداً في سبيل مداومة الأساليب الجديدة إلى الأغراض القومية القديمة.
ودخلت اليابان في عهدها "الأنجي" (901-922) الذي يعتبر ذروة العصر الذهبي مدفوعة إلى ذلك الصعود بحافز من جارتها العظيمة، وبوقاية
صفحة رقم : 1425
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأقصى -> اليابان -> بناة اليابان -> العصر الإمبراطوري

حكومية مستتبة؛ فتراكمت الثروة وأتجه إنفاقها نحو أسباب حياة مترفة رقيقة تشيع فيها الثقافة بحيث لا يكاد يضارعها في ذلك مثيل حتى جاءت عصور أسرة مديتشي و "صالونات" "التنوير الفرنسي" .

وأصبحت "كيوتو" بمثابة باريس وفرساي في فرنسا، رقيقة قي شعرها وثيابها، رشيقة في أخلاقها وفنونها، تضع للأمة كلها معايير المعرفة والذوق، وانفتحت "الشهية" عند الناس على اختلاف صورها وإلى آخر حدودها وآمادها، فابتكر الطهاة صنوفاً جديدة من شهيّ الطعام، وكدسوا الآكال تكديساً ليُشبعوا أصحاب النهم وأرباب الذوق في الطعام على حد سواء، وغُض الطرف عن جرائم الزنا على أساس أنها من أتفه خطايا الإنسان(32)، وتزمَّل كل سيد أو سيدة بالحرير ونفيس الثياب، وكنت ترى مختلف الألوان متناسقة على كل كم تلبسها ذراع، وازدانت حياة المعابد والقصور بالموسيقى والرقص كما أشاع الرقص والموسيقى روح الرشاقة في بيوت العِلْية التي كانت تحاط بروائع المناظر الطبيعية من الخارج، وتزدان صقلاً من الداخل بما فيها من آيات البرونز واللؤلؤ والعاج والذهب والخشب الذي حفر حفراً بلغ الغاية القصوى من دقة الحفر(33)؛ لقد ازدهر الأدب إذ ذاك وانحلَّت الأخلاق.
أمثال هذه العصور التي تتلألأ بجوانب الرقة، يغلب ألا تدوم طويلاً، لأنها ترتكز ارتكازاً مقلقلاً على ثروة متراكمة يمكن في أية لحظة أن تذروها عوامل تذبذب التجارة، وقلق الطبقات المستغَلَّة وتقلبات الحروب؛ وقد أدى إسراف القصر آخر الأمر إلى إفلاس الدولة وارتفعت الثقافة بحيث رجحت كفتها بالقياس إلى القدرة العلمية، فانتهى ذلك إلى ملء المناصب الإدارية بمتشاعرين عاجزين، وأخذ الفساد يتكاثر تحت أنوفهم المعطَّرة دون أن يستوقف انتباههم، ثم أصبحت المناصب آخر الأمر تباع لمن يدفع في شرائها أغلى ثمن وازدادت الجرائم بين الفقراء بقدر ما ازدادت أسباب
صفحة رقم : 1426
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأقصى -> اليابان -> بناة اليابان -> العصر الإمبراطوري

الترف بين الأغنياء، وانبث وباء اللصوص والقراصنة في الطرقات والبحار، فكانوا ينقضون على كل فريسة تقع في أيديهم، لا فرق عندهم بين الإمبراطور والشعب، ويسطون على جباة الضرائب فيسلبونهم ما كانوا يحملونه إلى القصر من أموال، ونظمت عصابات من اللصوص في الأقاليم، بل وفي العاصمة نفسها، وكان يتاح لأخطر مجرم في اليابان- كما هي الحال عندنا- أن يعيش في رفاهية علنية؛ لأنه كان من القوة بحيث يتعذر على أولى الأمر أن يقبضوا عليه أو يسيئوا إليه(35)، وأهمل الناس عاداتهم وفضائلهم الحربية، وتراخوا في نظامهم العسكري والأهبة للدفاع، بحيث باتت الحكومة مفتوحة الصدر لكل ضربة يسددها إليها من شاء من القراصنة القساة؛ وراحت الأسر الكبيرة تجيَّش لنفسها جيوشها، فبدأت بذلك عهداً من حروب أهلية، ولبثت تناضل بعضها بعضاً نضالاً تسوده الفوضى، كل منها يحاول أن يظفر لنفسه بحق تعيين الإمبراطور، وأما الإمبراطور نفسه فكان يزداد كل يوم ضعفاً على ضعف، في الوقت الذي كان رؤساء القبائل فيه يوشكون أن يعودوا إلى سابق عهدهم من حيث استقلال كل منهم بسلطته؛ وهكذا أخذ التاريخ مرة أخرى يتذبذب على نحو ما كان يتذبذب قديماً، بين حكومة قوية مركزية من ناحية، ونظام إقطاعي لا مركزي من ناحية أخرى.

صفحة رقم : 1427
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأقصى -> اليابان -> بناة اليابان -> الطغاة

الفصل الرابع
الطغاة
"الشواجنة" - سلطان عسكري في كاماكورا - وصاية هوجو على
العرش - غزوة قبلاي خان - سيادة أشيكاجا - القراصنة الثلاثة

كان من شأن هذه الظروف القائمة أن سنحت الفرصة لظهور فئة من الطغاة العسكريين الذين قبضوا بأيديهم على زمام الأمور كلها، في كثير من أجزاء الجزر اليابانية؛ ولم يعترفوا بالإمبراطور إلا على أنه ظاهرة مقدسة في اليابان يحتفظ بها بأقل ما يمكن من النفقات؛ وجعل الفلاحون الذين لم تعد تحميهم من عصابات اللصوص جيوش الإمبراطور ولا رجال شرطته، يدفعون الضرائب لهؤلاء "الشواجنة" أي القادة بدل دفعها للإمبراطور، لأن "الشواجنة" وحدهم هم الذين كانوا يستطيعون حمايتهم من اعتداء اللصوص(36). وهكذا ساد النظام الإقطاعي في اليابان لنفس الأسباب التي كان قد ساد بسببها في أوربا، وأعني أن مصادر السلطان في الإقطاعات ازدادت نفوذاً بمقدار ما فشلت الحكومة المركزية النائبة في حفظ الأمن والنظام.
وحدث في سنة 1192 أن جمع "يوريتومو"- وهو أحد رجال قبيلة ميناموتو- حوله جيشاً من الجند والعبيد، وأقام لنفسه سلطة مستقلة، اتخذت لنفسها اسماً هو اسم المكان الذي قامت فيه، وهو "باكوفوكاماكورد" وكلمة "باكوفو" معناها منصب عسكري، وإذن فهي تدل صراحة على نوع الحكومة الجديدة؛ ومات "يوريتومو" العظيم فجأة في عام 1198
صفحة رقم : 1428
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأقصى -> اليابان -> بناة اليابان -> الطغاة

أعقبه في الحكم أبناؤه الضعفاء، وذلك- كما يقول المثل الياباني- لأن "الرجل العظيم لا ذرية له"(38) فأقامت أسرة منافسة وصاية لنفسها على العرش عام 1199 ويسمى العهد باسم "وصاية هوجو"، ولبثت تلك الأسرة مدى مائة وأربعة وثلاثين عاماً تحكم "الشواجنة" الذين كانوا بدورهم يحكمون الأباطرة؛ فكانت هذه الحكومة الثلاثية فرصة سانحة لقبلاي خان يحاول فيها غزو اليابان؛ فقد وصفها له الكوريون الدُّهاة الذين كانوا يخشون بأسها، فقالوا إنها من الثراء بحيث تستحق المجهود؛ فأمر قبلاي بناة سفنه أن يشيدوا له أسطولاً بلغ من الضخامة حداً جعل شعراء الصين يصورون التلال باكية ترثى ما سُلِبَ من غاباتها(39)؛ ويقول اليابانيون- حين يروون حوادث الماضي رواية الفخور ببطولته- إن النفس بلغت سبعين ألفاً، لكن المؤرخين الذين لا يتأججون بمثل هذه الحاسة الوطنية يكفيهم من العدد ثلاثة آلاف وخمسمائة سفينة ومائة ألف محارب؛ وتبدّى هذا الأسطول الجبار على مبعدة من شواطئ اليابان في أواخر سنة 1291 فخرج سكان الجزر الأبطال ليلاقوه في أسطول لهم بنوه على عجل؛ وهو أسطول ضئيل بالقياس إلى الأسطول المهاجم؛ لكن حدث لهذه الأرمادا، ما حدث للأرمادا التي كانت أصغر منها، وإن تكن أشهر ، وهو أن هبت "ريح عظيمة" لا تزال مذكورة لما أسدته للناس من جميل، هبت فحطمت سفائن "الخان" الجبار، إذ رطمتها على جوانب الصخور، وأغرقت من بحارته سبعين ألفاً، وأبقت على بقيتهم ليعيشوا حياة الرقيق في بلاد اليابان.
ودارت الدوائر على أسرة "هوجو" عام 1333، إذ أصابتهم السيطرة هم أيضاً بسمومها، وانتهى الأمر إلى انتقال الحكم الوراثي من أيدي الأبالسة والعباقرة إلى أيدي الجبناء والحمقى؛ وكان آخر هذه السلالة رجل يدعى "تاكا
صفحة رقم : 1429
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأقصى -> اليابان -> بناة اليابان -> الطغاة

توكي" يحب الكلاب حباً شديداً، فيقبلها بدل الضرائب، حتى لقد جمع منها عدداً يتراوح بين أربعة وخمسة آلاف، وأعد لها حظائر زينها بالذهب والفضة وأطعمها بالسمك والطيور، وهيأ لها العربات المزخرفة تحملها للتنزه؛ فوجد الإمبراطور القائم على العرش إذ ذاك، وهو "جو دايجو" أن انحلال حماته فرصة سانحة يستعيد فيها سلطانه الإمبراطوري، وأيدته قبيلتا "ميناموتو" و "أشيكاجا" وقادتا له جيوش حتى ظفرتا له بالنصر على "أسرة الوصاية" بعد سلسلة من هزائم، ومن ثم أوى "تاكا توكي" ومعه ثمانمائة وسبعون من عبيده وقادته، إلى معبد، وجرع كأساً أخيرة من "الساقي" ثم أنزل بنفسه "الهاراكيري" (أي أنه أنتحر)؛ ولقد أخرج أحد الحاضرين أمعاء المنتحر بيديه قائلاً: "إن هذه لتضفي على الخمر طعماً لذيذاً"(40).
وانقلب "أشيكاجاتا كاوجي" على الإمبراطور بعد أن كان هو الذي أعانه على استعادة سلطته؛ وقاتل الجيوش التي جاءت لإخضاعه قتالاً موفقاً من حيث خطته العسكرية ومؤامرات الخيانة؛ وأزال "جودايجو" عن العرش ليضع مكانه إمبراطوراً صورياً هو "كوجون"، وأقام في كيوتو تلك الحكومة العسكرية المعروفة باسمه "أشيكاجا" والتي ظلت تحكم اليابان مدى مائتين وخمسين عاماً سادتها الفوضى والحرب الأهلية التي لم تنقطع؛ ولا بد لنا أن نعترف هنا بأن جزءاً من تلك الفوضى كان يرجع إلى الجانب السامي من طغاة "أشيكاجا"- وهو حبهم للفن ورعايتهم له؛ فهاهو ذا "يوشيمتسو" قد مل الكفاح فأدار يديه نحو التصوير، حتى أصبح يعد من مصوري عصره الأفذاذ، وارتبط "يوشيمازا" بصلات الود مع كثير من المصورين، وأعان بالمال كثيراً من الفنون، وأصبح في عالم الفن ذواقة دقيقاً، حتى ليعد هواة الآثار الفنية اليوم القطع التي كان قد اختارها هو وأتباعه خير ما يستحق الاقتناء(41) لكن مهام الحكم الإداري قد أهملت إذ ذاك، ولم يعد حفظ
صفحة رقم : 1430

قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأقصى -> اليابان -> بناة اليابان -> الطغاة

الأمن والسلام في مقدور القادة العسكريين (أي الشواجنة) الأغنياء، ولا في مقدور الأباطرة الذين حل بهم الإفلاس.
فكان من شأن هذه الفوضى نفسها وما أصاب الحياة من انحلال، ومطالبة الأمة بقادة يهيئون لها النظام، أن ظهر القراصنة الثلاثة المعروفون في التاريخ الياباني؛ وتقول الرواية إن هؤلاء الثلاثة- وهم "نوبوناجا" و "هيديوشي" و "أيياسو"- اعتزموا أن يتعاونوا معاً في شبابهم على إعادة الوحدة لوطنهم، وحلف كل منهم يميناً على أن يطيع طاعة الأتباع مَنْ يفوز من زميليه الآخرين بموافقة الإمبراطور على توليه حكومة اليابان(42)؛ وحاول "نوبوناجا" بادئ ذي بدء، لكنه مُني بالفشل، وحاول بعده "هيديوشي" لكنه مات حين أوشك على النجاح؛ وكان "أيياسو" يرقب فرصته، فجاءته آخر الأمر وحاول بعد زميليه، وأسس الحكومة العسكرية المعروفة باسم "توكوجاوا". وبهذا افتتح عهداً من أطول عهود السلام، وعصراً هو من أخصب عصور الفن، في تاريخ الإنسانية كلها.

صفحة رقم : 1431
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأقصى -> اليابان -> بناة اليابان -> وجه القردة العظيم

الفصل الخامس
"وجه القردة" العظيم
ظهور هيديوشي - الهجوم على كوريا - الاشتباك مع المسيحية

كانت الملكة اليصابات و "أكبر" (في الهند) معاصرين لـ "هيديوشي" العظيم- هكذا قد يحلو لليابانيين أن يذكروا هذه الحقيقة على سبيل التنويه بفضل عظيمهم- كان "هيديوشي" ابن فلاح، يعرفه أصدقاؤه، وتعرفه رعيته حين أصبح فيما بعد حاكماً، باسم "سارو من كانجا"- ومعناها "وجه القردة" لأنه لم يكن ينافسه في دمامة الوجه أحد حتى ولا كونفوشيوس؛ وكان والداه قد عجزا عن إخضاعه للنظام فبعثا به إلى مدرسة في دير؛ لكن "هيديوشي" سخر من كهنة البوذية سخرية شديدة، وأثار في الدير ضجة وثورة، بحيث انتهى أمره إلى الطرد من مدرسته، فألحق صبياً في كثير من الحرف، وطرد من عمله سبعاً وثلاثين مرة(43)؛ وجعل من نفسه قاطعاً للطريق، لكنه عاد فرأى أنه يستطيع أن يسلب وهو مع القانون أكثر مما يسلبه وهو خارج على القانون؛ ثم التحق بخدمة "الساموراي" (أي حملة السيف) وأنقذ حياة مولاه، وسمح له بعدئذ أن يحمل سيفاً؛ وانضم إلى أتباع "نوبوناجا" وعاونه بتفكيره وببسالته، حتى إذا ما مات "نوبوناجا" تولى هو قيادة الثائرين الخوارج على القانون، الذين شنوا حملتهم ليغزوا أرض وطنهم؛ فما انقضت ثلاثة أعوام حتى كان "هيديوشي" قد أصبح حاكماً على نصف الإمبراطورية وظفر بإعجاب الإمبراطور العاجز، وأحس في نفسه من القوة ما يتيح له أن يهضم في جوفه كوريا والصين؛ وفي ذلك قال متواضعاً يخاطب
صفحة رقم : 1432
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأقصى -> اليابان -> بناة اليابان -> وجه القردة العظيم

ج4. قصة الحضارة
ول ديورانت

أصحيح ـ إذن ـ أن الليل تدمع عيناه بقطرات الندى كلما بدوت لناظريك، وأن ضوء الصبح ينتشي فرحا إذا ما لف بدني بأشعته؟
أصحيح، أصحيح، أن حبك لم يزل يخبط فريدا خلال العصور ويتنقل من عالم إلى عالم باحثا عنى؟
وأنك حين وجدتني أخر الأمر، وجدت رغبتك الأزلية سكينتها التامة في عذب حديثي
وفي عيني وشفتي وشعري المسدول؟
أصحيح ـ إذن ـ أن لغز اللانهاية مكتوب على جبيني هذا الصغير؟
نبئني ـ يا حبيبي ـ إن كان ذلك كله صدقا
في هذه الأشعار حسنات كثيرة - فيها وطنية حادة وهي رغم حدتها
صفحة رقم : 1063
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الهند وجيرانها -> خاتمة مسيحية -> طاغور

هادئة، وفيها فهم دقيق دقة التأنث للحب وللمرأة وللطبيعة وللرجل، وفيها نفاذ بالعاطفة الحادة إلى صميم الفلاسفة الهنود بما لهم من بصيرة نافذة، وفيها رقة عاطفة وعبارة تشبه رقه "تنسن" ولو كان في أشعاره عيب، فذلك جمالها الذي يطرد في كل أجزائها اطرادا جاوز الحد المطلوب، ورقتها ومثاليتها اللتان اطردتا كذلك اطرادا يحدث الملل؛ فكل امرأة في هذه الأشعار جميلة، وكل رجل فيها مفتون بامرأة أو بالموت أو بالله؛ والطبيعة فيها - وإن تكن بشعة أحيانا ـ فهي دائما خليلة، يستحيل عليها الكآبة والقحط والفظاعة ، ولعل قصة "شترا" هي قصة "طاغور" ؛ فحبيبها "أرجونا" قد ملها بعد عام لأنها جميلة جمالا كاملا لا يعتوره نقص؛ ولا يعود الله إلى حبها إلا بعد أن تفقد جمالها وتكتسب قوة تمكنها من مزاولة أعباء الحياة الطبيعية ـ وحب الله لها رمز عميق يشير إلى الزواج السعيد(28) ويعترف طاغور بأوجه النقص في شعره اعترافا يسحرك برقته:
إن شعرك يا حبيبتي قد دارت في رأسه يوما ملحمة عظيمة
وأسفاه، لم أحرص عليها، وصادفت خلخالك فتفرقت أجزاؤها
وتمزقت قصاصات من أغان، لبثت منثورة عند قدميك

وعلى ذلك فقد أخذ يتغنى بالقصائد الوجدانية حتى نهايته، واستمع له العالم كله بآذان طربه إلا النقاد؛ ودهشت الهند بعض الشيء حين أنعم على شاعرها بجائزة نوبل 1913)م) لأن رجال النقد في البنغال لم يكونوا قد رأوا فيه إلا أخطاءه، واتخذ الأساتذة في كلكتا من أشعاره أمثلة تساق للغة البنغالية في أسلوبها الركيك(30) وكرهه الشبان المتأججين بنار الوطنية لأن مهاجمته لما في حياة الهند الخلقية من عيوب، كانت أقوى دويا من صيحته في سبيل الحرية السياسية ، ولما أنعم عليه بلقب "سير" عدوا ذلك منه خيانة للهند؛ ومع ذلك
صفحة رقم : 1064
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الهند وجيرانها -> خاتمة مسيحية -> طاغور

فلم ينعم بشرف هذا اللقب طويلا، وذلك لأنه حين أطلق الجنود البريطانيون نيرانهم على اجتماع ديني في "أمرتسار" نتيجة لسوء تفاهم محزن (سنة1919 م) أعاد طاغور وسامه إلى نائب الملك مصحوبا بخطاب يوجه فيه استنكارا مرا لما حدث؛ واليوم تراه شخصية وحيدة نوعها، وقد يكون أعمق أهل الأرض جميعا - في يومنا هذا - وقعا في النفوس، وهو مصلح كانت له الشجاعة التي مكنته من مهاجمه الآراء الاجتماعية الأساسية في الهند، وأعنى بها نظام الطبقات والعقيدة في تناسخ الأرواح، والتي هي أعز عقائد الهنود على قلوبهم(31)؛ وهو وطني يتحرق شوقا إلى حرية الهند، لكنه وجد في نفيه الجرأة فاحتج على الإسراف في النعرة القومية والسعي وراء المصالح الخاصة التي تلعب دورها في الحركة القومية؛ وهو مرب مل الخطابة والسياسة، وانكمش في صومعته في " شانتينى كيتان " يعلم بعض أبناء الجيل الجديد مذهبه في تحرير الفرد لنفسه تحريرا خلقيا ؛ وهو شاعر كسر قلبه موت زوجته في شبابها، وأنقض ظهره ذل بلاده؛ وهو فيلسوف " منقوع " في تعاليم الفيدانتا(32)؛ وهو متصوف يتذبذب ـ مثل شابدى داس ـ بين المرأة والله ومع ذلك تراه قد تجرد من عقيدة آبائه بمدى ما وصل إليه من علم؛ وهو محب للطبيعة يقابل رسل الموت فيها بعزاء وحيد، هو موهبته التي لا تبلى في إنشاد الغناء:
"آه، آيها الشاعر، إنه الغروب يدنو، وشعرك يدب فيه المشيب
فهل تسمع ـ إذ أنت وحيد في تأملك ـ صوت الآخرة يناديك؟"
قال الشاعر:
"إنه الغروب وهاأنذا أصغي خشية أن يناديني من القرية مناد، رغم أننا في ساعة متأخرة
إني أراقب لعلني واجد قلبين ضالين يلتقيان، أو زوجين من أعين مشتاقة تحن إلى ألحان الموسيقى لتزيل الصمت وتتحدث نيابة عنها
صفحة رقم : 1065
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الهند وجيرانها -> خاتمة مسيحية -> طاغور

فمن ذا هناك ينسخ لهم أغاني عواطفهم، إذا أنا جلست على شاطئ الحياة وتأملت الموت والآخرة

إن من التوافه أن يدب في شعري المشيب
أنا أبدا في شباب أقوي الشباب، وفي شيخوخة أكبر الشيوخ من أهل هذه القرية ...
كلهم بحاجة إلي وليس لدي الفراغ أنفقه في التأمل فيما بعد الحياة
أنا مع كل إنسان أسايره في عمره، فماذا يضيرني إذا دب الشيب في رأسي؟"(33).
صفحة رقم : 1066
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الهند وجيرانها -> خاتمة مسيحية -> الشرق والغرب

الفصل الرابع
الشرق والغرب
الهند المتغيرة - التغيرات الاقتصادية
والاجتماعية - تدهور نضام الطبقات
والنقابات - المنبوذون - ظهور المرأة
إذا استطاع رجل "مثل طاغور" لم يعرف الإنجليزية حتى أوشك على الخمسين من عمره أن يكتب الإنجليزية بعدئذ في أسلوب جيد فتلك علامة تدل على السهولة التي يمكن بها مل الفجوات التي تفصل ذلك الشرق وذلك الغرب الذين حرم لقاءهما شاعر آخر؛ وهاهو ذا الغرب منذ مولد طاغور قد انتقل إلي الشرق بشتى الوسائل، وهو آخذ هناك في تغيير كل وجه الحياة الشرقية؛ فثلاثون ألف ميل من السكة الحديدية قد تشابكت فوق قفار الهند وجبالها, وحملت وجوها غربية إلى كل قرية من قراها؛ وأسلاك البرق والمطبعة قد جاءتا بأنباء العالم المتغير إلى كل من يريدها، فأوحت إليه بإمكان تغير بلاده؛ والمدارس الإنجليزية أخذت تعلم التاريخ البريطاني من وجهه نظر أرادت أن تخلق من الطلاب مواطنين بريطانيين، فغرست - غير عامدة - في النفوس الأفكار الإنكليزية عن الديمقراطية والحرية؛ فحتى الشرق ينهض اليوم برهانا على صدق هرقليطس .
فلما رأت الهند أنها قد غاصت في الفقر إبان القرن التاسع عشر بفعل تفوق المغازل الآلية البريطانية، وقوه المدافع البريطانية بالنسبة إلى ما عند أهل البلاد، فقد أخذت الآن توجه نظرها كارهة إلى تصنيع نفسها، ولذلك ترى
صفحة رقم : 1067
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الهند وجيرانها -> خاتمة مسيحية -> الشرق والغرب

الصناعات اليدوية في طريق الاندثار، بينما ترى المصانع الآلية في سبيل النمو والتكاثر؛ ففي "جامستبور" تستخدم "شركه تاتا للحديد والصلب" خمسة وأربعين ألفاً من العمال، وهي تهدد زعامة الشركات الأمريكية في إنتاج الصلب؛ ويزداد إنتاج الفحم في الهند ازديادا سريعا؛ وربما لا يمضي جيل واحد حتى تلحق الصين والهند بأوربا وأمريكا في إخراج مواد الوقود والصناعة الرئيسية من جوف الأرض؛ وقد لا تكتفي هذه الموارد الأهلية بسد حاجات الأهالي، بل تجاوز ذلك إلى منافسة الغرب على أسواق العالم، وعندئذ يهبط مستوى المعيشة عند أهل بلادهم هبوطا شديدا، بسبب منافسة العمال ذوي الأجور المنخفضة في البلاد التي كانت فيما مضى طبعة متأخرة "أعني بها البلاد الزراعية" ، ففي البنغال مصانع على نمط كان معروفا في أواسط العصر الفكتوري تدفع أجورا على الأسلوب العتيق، مما يستدر الدموع في أعين المحافظين في البلاد الغربية ، وقد حل أصحاب رؤوس الأموال الهنود محل نظائرهم البريطانيين في كثير من الصناعات، وهم يستغلون بني وطنهم بنفس الجشع الذي كان يستغلهم به الأوربيون الذين يحملون عبء الرجل الأبيض .
ولم يتغير الأساس الاقتصادي في المجتمع الهندي دون أن يترك ذلك التغير أثره في النظم الاجتماعية وعادات الناس الخلقية، فنظام الطبقات كان وليد
صفحة رقم : 1068
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الهند وجيرانها -> خاتمة مسيحية -> الشرق والغرب

مجتمع زراعي راكد لا يتغير؛ وهو إن ضمن النظام فلا يتيح طريق الصمود للعبقري إذا ظهر في طبقة دنيا، ولا يفسح من مجال الطموح والأمل، ولا يحفز الناس على الابتكار والمغامرة؛ ولذا فقد قضى عليه بالفناء حين بلغت الثورة الصناعية شواطئ الهند؛ فالآلات لا احترام عندها للأشخاص، ففي معظم المصانع يعمل الناس جنبا إلى جنب بغير تميز الطبقات؛ والقطارات وعربات الترام تهيئ مكانا للجلوس أو للوقوف لكل من يدفع الأجر المطلوب والجمعيات التعاونية والأحزاب السياسية تضم كل المراتب في صعيد واحد؛وفي زحمة المسرح أو الطريق في المدينة،تتدافع المناكب بين البرهمي والمنبوذ فتنشأ بينهما زمالة لم تكن متوقعة؛ وقد أعلن أحد الراجات أن كل الطبقات والعقائد ستفتح لها أبواب قصره؛ وأصبح رجل من فئة "الشودرا" حاكماً مستنيراً لإقليم "بارودا" واستنكرت جمعية "براهما - سوماج" نظام الطبقات؛ وأيد "مؤتمر بنغال الإقليمي" التابع "للمؤتمر القومي" إلغاء الفوارق الطبقية كلها فوراً(36)، وهكذا تعمل الآلات على رفع طبقة جديدة رويدا رويدا إلى الثراء والقوة وتسدل الستار على طبقة أرستقراطية هي أقدم الطبقات الأرستقراطية القائمة اليوم.
وبالفعل فقدت الألفاظ المستعملة في التمييز بين الطبقات معانيها؛ فكلمة "فاسيا" تراها في الكتب اليوم، لكنك لا ترى لها مدلولاً في الحياة الواقعة؛ حتى كلمة "شودرا" قد اختفت في الشمال، بينما ظلت في الجنوب قائمة لكنها باتت لفظة تدل دلالة غامضة على كلٌ من ليس ببرهمي(37)؛ والواقع أن الطبقات الدنيا في سالف الأيام قد حل محلها ما يزيد على ثلاثة آلاف "طبقة" هي في الحقيقة نقابات: ممولون وتجار وصناع ومزارعون ومعلمون ومهندسون وبائعون جوابون وجزارون وحلاقون وسماكون وممثلون ومستخرجو الفحم، وغسالات وبائعات وحوذية وماسحو أحذية - هؤلاء تنتظمهم طبقات مهنية
صفحة رقم : 1069

قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الهند وجيرانها -> خاتمة مسيحية -> الشرق والغرب

تختلف عن نقابات العمال في أنه من المفهوم على نحو غامض أن الأبناء سيحترفون مهن آبائهم.
إن ما ينطوي عليه نظام الطبقات من مأساة عظمى هو أنه قد ضاعف على مر الأجيال من "المنبوذين" الذين ينخرون بعددهم المتزايد وثورة نفوسهم في قوائم النظام الاجتماعي الذي هم صنيعته؛ ويضم هؤلاء المنبوذين في صفوفهم كل من فرض عليهم الرق بسبب الحرب أو عدم الوفاء بالدين، ومن ولدوا عن زواج بين البراهمة وشودرات، ومن تعست حظوظهم بحيث قضى القانون البرهمي على مهنهم بأنها مما يحط بقيمة الإنسان كالكناسين والجزارين، والبهلوانات والحواة والجلادين(38)؛ ثم تضخم عددهم بسبب كثرة التناسل كثرة حمقاء تراها عند من لا يملك شيئاً يخاف على فقده؛ وقد بلغ بهم فقرهم المدقع حداً جعل نظافة الجسد والملبس والطعام بمثابة الترف الذي يستحيل عليهم أن ينعموا به، فيجتنبهم بنو وطنهم اجتنابا يمليه كل عقل سليم ، ولذلك تقتضي قوانين الطبقات على "المنبوذ" ألا يقترب من عضو في طبقة "الشودرا" بحيث تقل المسافة بينهما عن أربعة وعشرين قدما(40)، وإذا وقع ظلُّ "منبوذٍ" "رجل من طبقة الباريا" على رجل ينتمي إلى الطبقات الأخرى، كان على هذا الأخير أن يزيل عن نفسه النجاسة بغسل طهور؛ فكل ما يمسه المنبوذ، يصيبه الدنس بمسه إياه ، وفي كثير من أجزاء الهند لا يجوز
صفحة رقم : 1070
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الهند وجيرانها -> خاتمة مسيحية -> الشرق والغرب

للمنبوذ أن يستقي ماء من الآبار العامة، أو أن يدخل معابد البراهمة، أو أن يرسل أولاده إلى المدارس الهندوسية(42)، ولئن عملت السياسة البريطانية إلى حد ما على إفقار طبقة المنبوذين، فقد جاءتهم على الأقل بالمساواة مع غيرهم أمام القانون، وبحق الدخول - على قدم المساواة مع سائر الطبقات - في المدارس والكليات التي يقوم البريطانيون على إدارتها؛ وكان للحركة القومية،بتأثير غاندي، فضل كبير في الحد من الحوائل التي كانت تسد الطريق أمام المنبوذين؛ ويجوز ألا يأتي الجيل المقبل إلا وهم أحرار في الظاهر حرية تمس القشور.
وكذلك عمل دخول الصناعة والأفكار الغربية على زعزعة الأفكار القديمة التي كان يتمتع بها الرجل في الهند، فالانقلاب الصناعي يعمل على تأجيل سن الزواج، ويتطلب "حرية" المرأة، وأعني بذلك أن المرأة لا يمكن إغراؤها بالعمل في المصنع إلا إذا اقتنعت بأن الدار سجن، وأجاز لها القانون أن تدخر كسبها لنفسها؛ ولقد ترتب على هذا التحرير كثير من الإصلاحات الحقيقية جاءت عرضا،فحرم زواج الأطفال رسميا "سنة 1929م" برفع سن الزواج قانونا إلى الرابعة عشرة للفتيات والثامنة عشرة للفتيان(43) واختفت ظاهرة "السوتي" "أي دفن الزوجة التي مات زوجها حية" ، ويزداد زواج الأرامل كل يوم وتعدد الزوجات جائز قانونا ولكن لا يمارسه إلا قليلون(45) وإن رجاء السائحين ليخيب حين يجدون أن راقصات المعبد أوشكن على الانقراض، فالتقدم الأخلاقي في الهند يسير بخطوات سريعة لا يضارعها في سرعتها بلد آخر؛ فالحياة الصناعية في المدينة تخرج النساء من "البردة" حتى توشك ألا تجد ستًّا في كل مائة امرأة في الهند يقبلن اليوم أن يعشن وراء حجاب(46)؛ وفي الهند عدد من الصحف الدورية النسوية النابضة بالحياة تناقش فيها
صفحة رقم : 1071
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الهند وجيرانها -> خاتمة مسيحية -> الشرق والغرب

أحدث المشكلات، بل تكونت هناك جمعية لضبط النسل(47) واجهت بشجاعة أعقد مشكلة من مشكلات الهند - ألا وهي التناسل المطلق من كل قيد؛ والنساء في كثير من الأقاليم لهن حق التصويت، ويتولين المناصب السياسية، حتى لقد تولت امرأة رئاسة "المؤتمر القومي الهندي" مرتين، وكثيرات منهن قد حصلن على درجات جامعية واشتغلن طبيبات أو محاميات أو معلمات(48)، ولا شك أنه لا يمضي طويل وقت حتى ينقلب الوضع ويصير زمام الحكم بيد النساء؛ألسنا على حق إذا زعمنا أن الإثم الذي تراه في النداء التالي الذي يشتعل بالحماسة، والذي أصدره تابع من أتباع غاندي موجها إياه إلى نساء الهند، أقول ألسنا على حق إذا زعمنا أن الإثم في هذا النداء يرجع إلى أحد المؤثرات الغربية الجامحة؟
"انبذن (البردة) العتيقة! اخرجن مسرعات من المطابخ! اقذفن بالقدور والأواني مجلجلات في الأركان! مزقن الغشاء الذي ينسدل على عيونكن، وانظرن إلى العالم الجديد! قُلنَ لأزواجكن واخوتكن يطهوا طعامهم لأنفسهم، إن واجبات كثيرة في انتظاركن لأدائها حتى تصبح الهند أمة بين الأمم!"(49).

صفحة رقم : 1072
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الهند وجيرانها -> خاتمة مسيحية -> الحركة القومية

الفصل الخامس
الحركة القومية
الطلبة المستغربون - تحويل الشئون
الدينية إلى أمور دنيوية - المؤتمر الهندي القومي

كان عدد الطلبة الهنود الذين يدرسون في إنجلترا سنة 1923 يزيد على ألف، وربما كان عدد من يدرسون في أمريكا عندئذ مساوياً لذلك العدد، بل ربما كان هذا العدد كذلك يدرس في البلدان الأخرى؛ فدهشوا للحقوق التي يتمتع بها أحط المواطنين في أوربا الغربية وأمريكا؛ ودرسوا الثورتين الفرنسية والأمريكية، وقرأوا أدب الإصلاح والثورة، وأمعنوا أنظارهم في "قانون الحقوق" و"إعلان حقوق الإنسان" و"إعلان الاستقلال" و "الدستور الأمريكي" فعادوا إلى أوطانهم ليكوّنوا مراكز إشعاع للآراء الديمقراطية وإنجيلاً يبشر بالحرية؛ وقد اكتسبت هذه الآراء قوة لا تغْلب بسبب ما ظفر به الغرب من تقدم صناعي وعلمي، ونصر الحلفاء في الحرب؛ فلم يلبث هؤلاء الطلاب أن أخذوا يصيحون بالدعوة إلى الحرية؛ فقد تعلم الهنود حقوقهم في الحرية في مدارس إنجلترا وأمريكا.
ولم يقتصر المشارقة الذين تعلموا في الغرب على التقاط المثل العليا السياسية إبان تعلمهم خارج بلادهم، بل نفضوا عن أنفسهم كذلك الأفكار الدينية؛ فهاتان العمليتان مرتبطتان معاً في تراجم الأشخاص وتاريخ الأمم، جاء هؤلاء الطلاب إلى أوربا يعمر الدين قلوبَهم الشابة، يعتقدون في "كرشْنا" و "شيفا" و"فشنو" و "كالي" و "راما"... ثم مسّوا العلم، فإذا بعقائدهم القديمة قد تحطمت أشلاء كأنما نزلت بها نازلة ساحقة، ولما تجرد هؤلاء الهنود المستغربون
صفحة رقم : 1073
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الهند وجيرانها -> خاتمة مسيحية -> الحركة القومية

عن عقيدتهم الدينية التي هي روح الهند ولبابها، عادوا إلى وطنهم وقد زالت عن أعينهم الغشاوة التي كانت تزين القبيح، وسادهم الحزن، وسقط ألف إله أمام أعينهم من سمائهم صرعى ، فلم يكن بد من أن يتخيلوا "مدينة فاضلة على الأرض لتملأ مكان الفردوس السماوي الذي تحطم وحلت الديمقراطية محل "النرفانا" وأخذت الحرية مكان الله، فما جرى في أوربا في النصف الثاني من القرن الثامن عشر أخذ يجرى شبيهه الآن في الشرق.
ومع ذلك فالأفكار الجديدة أخذت تسير مجراها في خطوٍ وئيد، ففي سنة 1855 اجتمعت طائفة قليلة من زعماء الهنود في بمباي وأسسوا "المؤتمر الهندي القومي" لكن الظاهر أنهم لم يحلموا عندئذ حتى بمجرد الحكم الذاتي، وبعدئذ حاول "لوردكيرزن" أن يقسم البنغال (ومعنى ذلك أن يصيب أقوى جماعة هندية وأشدها وعياً سياسياً بالتفكك والضعف) فأثارت محاولته تلك جماعة الوطنيين بحيث تقدموا خطوة نحو الثورة، وفي المؤتمر المنعقد سنة 1905 طالب "تيلاك" في صلابة لاتين بـ "سواراج" وهذه كلمة اشتقها هو(50) من أصول سنسكريتية، ومعناها الحكم الذاتي (والكلمة الهندية قريبة لفظاً من العبارة الإنجليزية
self - rule )؛ وحدث في نفس ذلك العام المليء بالحوادث أن هزمت اليابان روسيا، وبدأ الشرق الذي لبث قرناً كاملاً يخشى صولة الغرب، بدأ يضع الخطة لتحرير آسيا، وتزعَّم "سَنْ يات سِنْ" الصين فجمع هؤلاء سيوفهم وارتموا في أحضان اليابان، أما الهند العزلاء من سلاحها، فقد أسلمت قيادها لزعيم هو من أغرب من شهد التاريخ من رجال، فضربوا للعالم مثلاً لم يسبق له مثيل، لثورة يقودها قديس، تثور ثائرتها بغير مدفع.

صفحة رقم : 1074
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الهند وجيرانها -> خاتمة مسيحية -> مهاتما غاندي

الفصل السادس
مهاتما غاندي
صورة قديس - الزاهد - المسيحي - تعليم
غاندي في إفريقيا - ثورة 1921 - "أنا الرجل" - أعوام

السجن - "الهند الفتاة" - ثورة المغزل - أعمال غاندي
صَوِّر نفسك أقبح وأضأل وأضعف رجل في آسيا، له وجه وجسد كأنما صيغا من البرونز رأسه الأشيب حليق الشعر حتى الجذور، عظمتا صدغيه بارزتان وعيناه البنيِّتان تشعان طيبة قلب، وفمه واسع يوشك أن يخلو من الأسنان، وأكبر من فمه أذناه، وأنفه ضخم، نحيل الذراعين والساقين، ادَّثرَ بثوب على ردفيه، صَوِّر لنفسك هذا الرجل واقفاً أمام قاض إنجليزي في الهند، متهَماً بتحريض قومه على "عدم التعاون"؛ أو صَوِّرْه جالساً على بساط صغير في غرفة عارية في مقره المسمى "سايا جراها شرام" - ومعناها "مدرسة طلاب الحقيقة" - في أحمد أباد، وقد ربَّع ساقيه النحيلتين تحت جسمه على نحو ما يفعل "اليوجي" وبطن القدمين إلى أعلى، ويداه لا تنفكان تعملان في عجلة المغزل ووجهه تغضَّن بتقلصات تنمّ عن عبء التبعة الذي حمله، وعقله نشيط الحركة مستعد بالجواب عن كل من يسأل سؤالاً عن الحرية؛ هذا النسَّاج العريان كان هو الزعيم الروحي والزعيم السياسي في آن معاً لأمة من الهنود بلغ عددها ثلاثمائة وعشرين مليوناً من الأنفس، وامتدت زعامته من 1920 إلى 1935 ، فإذا ما ظهر للناس، التفت حوله جماعات حاشدة لتتبرك بلمس ثيابه أو تقبيل قدميه(51).
صفحة رقم : 1075
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الهند وجيرانها -> خاتمة مسيحية -> مهاتما غاندي

كان ينفق كل يوم أربع ساعات في غزل "الخضّار" الخشن راجياً أن يسوق بنفسه للناس مثلاً يحتذونه فيستخدمون هذا القماش الساذج المغزول في داخل البلاد، بدل شرائهم منتجات المغازل البريطانية التي جاءت خراباً على صناعة النسيج في الهند؛ كان كل ما يملك ثلاثة أثواب غلاظ، اثنان يتخذهما لباساً، والثالث يتخذه فراشاً، وقد كان بادئ أمره محامياً غنياً، لكنه تنازل عن كل أملاكه للفقراء، ثم تبعته في ذلك زوجته بعد شيء من التردد نعهده في الأمهات؛ كان ينام على أرضية الغرفة عارية، أو على تربة الأرض، يعيش على البندق والموز والليمون والبرتقال والبلح والأرز ولبن الماعز(52)، وكثيراً ما كان يقضي الشهور متتابعات لا يأكل إلا اللبن والفاكهة، ولم يذق طعم اللحم إلا مرة واحدة في حياته، وكان حيناً بعد حين يمتنع عن الطعام إطلاقاً بضعة أسابيع وهو يقول: "لو استطعت أن استغني عن عينيّ، استطعت كذلك أن أستغني عن صيامي، فما تفعله العينان للدنيا الخارجية يفعله الصوم للدنيا الباطنية"(53) فقد كان يعتقد أنه كلما رق الدم صفا العقل وسقطت عنه النوازع التي تنحرف به عن جادة الطريق، بحيث تبرز أمامه الجوانب الأساسية - بل قد تبرز أمامه روح العالم وصميمه - بعد أن تنفض عنها الأعراض (واسمها مايا) كما يبرر إفرست خلال السحاب.
وفي نفس الوقت الذي كان يصوم فيه عن الطعام ليشهد الروح الإلهية، لم يفُته أن يحتفظ بإصبع من أصابع قدمه على الأرض، وكان ينصح أتباعه أن يحقنوا أنفسهم في الشرج مرة كل يوم إبان الصوم، حتى لا تتسمم أبدانهم بالإفرازات الحمضية التي يفرزها الجسد وهو يستهلك بعضه، وقد يصاب الجسد بهذا السم في نفس اللحظة التي يتاح فيها للإنسان أن يشهد الله(54).
ولما اقتتل المسلمون والهندوس، وأخذوا يصرعون بعضهم بعضاً مدفوعين بحماسة دينية، ولم يصيخوا إلى دعوته إياهم للسلام، صام ثلاثة أسابيع رجاء أن
صفحة رقم : 1076

قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الهند وجيرانها -> خاتمة مسيحية -> مهاتما غاندي

يحرك العطف في نفوسهم، ولقد أدى به الصيام والحرمان الذي كان يفرضه على نفسه، إلى ضعف وهزال، بحيث لم يكن بد من اعتلائه مقعداً مرفوعاً كلما أراد توجيه الخطاب للحشود العظيمة التي كانت تجتمع لتسمعه؛ ومدَّ زهده حتى شمل به نطاق العلاقة الجنسية، وأراد - كما أراد تولستوي - أن يحصر عملية الجماع فلا يلجأ إليها إلا إذا قصد إلى التناسل، وكان هو كذلك قد أنفق شبابه منغمساً في شهوات بدنه، حتى لقد جاءه نبأ موت أبيه وهو يحتضن إحدى الغانيات، أما في رجولته فقد عاد - والندم الشديد يأكل قلبه - إلى "براهما شاريا" التي لُقِّنَها في صباه - وهي الامتناع التام عن كل شهوة جسدية؛ وأقنع زوجته أن تعيش معه كما تعيش الأخت مع أخيها، وهو يروي لنا أنه "منذ ذلك الوقت بطل بيننا كل نزاع"(55).
ولما تبين له أن حاجة الهند الأساسية هي ضبط النسل، لم يصطنع في سبيل ذلك وسائل الغرب، بل اتبع طرائق "مالتوس" و "تولستوي".
"أنكون على صواب إذا ما نسلنا الأطفال ونحن نعلم حقيقة الموقف؟ إننا لا نفعل سوى أن نضاعف عدد العبيد والمقعدين، إذا مضينا في التكاثر بغير أن نتخذ إزاءه شيئاً من الحيطة... لن يكون لنا حق النسل إلا إذا أصبحت الهند أمة حرة ... ليس إلى الشك عندي من سبيل في أن المتزوجين إذا أرادوا الخير بأمتهم وأرادوا للهند أن تصبح أمة من رجال ونساء أقوياء وسيمين ذوي أبدان جميلة التكوين، كان واجبهم أن يكبحوا جماح أنفسهم ويوقفوا النسل مؤقتاً(56).
وإلى جانب هذه العناصر في تكوين شخصيته، كان يتصف بخلال عجيبة الشبه بتلك الخلال التي يقال إنها كانت تميز "مؤسس المسيحية"؛ إنه لم يَفُه باسم المسيح، ولكنه مع ذلك كان يسلك في حياته كما لو كان يأخذ بكل كلمة مما جاء في "موعظة الجبل"؛ فلم يعرف التاريخ منذ القديس فرنسيس
صفحة رقم : 1077

قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الهند وجيرانها -> خاتمة مسيحية -> مهاتما غاندي

الأسيسي رجلاً اتصفت حياته بمثل ما اتصفت به حياة غاندي من وداعة وبُعْد عن الهوى وسذاجة وعفو عن الأعداء؛ وإنه لمما يذكر حسنةً لمعارضيه، لكنها حسنة أكبر بالنسبة له هو، أن حسن معاملته لهم- ولم يكن ذلك محل مقاومة منهم- قد استثار فيهم معاملة حسنة له من جانبهم؛ فلما أرسلته الحكومة إلى السجن، فعلت ذلك مصحوباً بفيض من الاعتذارات، ولم يبد هو قط شيئاً من حقد أو كراهية؛ وقد هجم الغوغاء عليه ثلاث مرات، وضربوه ضرباً كاد يودي بحياته لكنه لم يردَّ العدوان بعدوان مثله أبداً، ولما قبض على أحد المعتدين عليه، أبى أن يتوجه إليه بالاتهام.
ولم يلبث بعد ذلك أن نشبت بين المسلمين والهندوس أفظع ما نشب بينهم من فتن، وذلك حين ذبح مسلمو "موبلا" مئات من الهندوس العزَّل، وقدموا "غلفاتهم" لله قرباناً، ثم حدث لهؤلاء المسلمين أنفسهم أن أصابتهم المجاعة، فجمع لهم غاندي أموالاً من أرجاء الهند كلها، وقدم كل المال المجموع، بغير نظر إلى السوابق، وبغير أن يستقطع منه جزءاً لأحد ممن قاموا بجمعه، قَدَّمه للعدو الجائع(57).
ولد "موهانداس كارام شاند غاندي" سند 1869، وتنتمي أسرته إلى طبقة "فاسيا" وإلى المذهب الجانتي ومن مبادئها التي مارستها مبدأ "أهِمْسا" وهو ألا ينزل أحد الأذى بكائن حي، وكان أبوه أدرياً قادراً، لكنه كان من زنادقة الممولين، فقد فقدَ منصباً في إثر منصب بسبب أمانته، وأنفق ماله كله تقريباً في سبيل الإحسان، وترك ما تبقى منه لأسرته(58) ولما كان "موهانداس" في صباه أنكر الآلهة إذ أساء إلى نفسه أن يرى أعمال الدعارة ماثلة في بعض آلهة الهندوس، ولكي يعلن ازدراءه للدين ازدراء أبدياً، أكل اللحم، لكن أكل اللحم أضرَّ بصحته، فعاد إلى حظيرة الدين.
ولما بلغ الثامنة خطب عروسه، وفي الثانية عشرة تزوج منها وهي
صفحة رقم : 1078

قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الهند وجيرانها -> خاتمة مسيحية -> مهاتما غاندي

"كاستورباي" التي ظلت على وفائها له خلال مغامراته كلها وغناه وفقره وسجنه وما تعرض له من "براهما شاريا" (أي اعتزام العفة الجنسية)؛ وفي سن الثامنة عشرة نجح في امتحانات الدخول في الجامعة، وسافر إلى لندن ليدرس القانون، ولما كان في السنة الأولى هناك، قرأ ثمانين كتاباً عن المسيحية؛ وقال عن "موعظة الجبل" "إنها غاصت إلى سويداء قلبي عند قراءتها للمرة الأولى"(59) واعتبر مبدأها بأن يُرَدَّ الشر بالخير وأن يحب الإنسان كل الناس حتى الأعداء، أسمى ما يعبر عن المثل الأعلى الإنساني، وصمم على أن يؤثر الفشل بهذه المبادئ على النجاح بغيرها.
ولما عاد إلى الهند سنة 1891 مارس المحاماة حيناً في بمباي؛ فكان يرفض أن يتهم أحد من أجل دينه، ويحتفظ لنفسه دائماً بحق ترك القضية إذا ما وجد أنها تتنافى مع العدل؛ وقد أدت به إحدى القضايا إلى السفر إلى جنوبي أفريقيا، فوجد بني قومه هناك يلاقون من سوء المعاملة ما أنساه العودة إلى الهند، واتجه بجهده كله - بغير أجر - إلى قضية بني وطنه في أفريقيا ليزيل عنهم ما كان يصفدهم هناك من أغلال؛ ولبث عشرين عاماً يجاهد للوصول إلى هذه الغاية حتى سلمت له الحكومة بمطالبه، وعندئذ فقط عاد إلى أرض الوطن.
وكان طريق سفره بحيث يخترق الهند، فتبين للمرة الأولى فقر الناس فقراً مدقعاً، وأفزعته الهياكل العظمية التي شهدها تكدح في الحقول، والمنبوذون الوضيعون الذين كانوا يعملون أقذر الأعمال في المدن؛ وخيل أن ما يلاقيه بنو وطنه في الخارج من ازدراء، إن هو إلا إحدى نتائج فقرهم وذلهم في أرض وطنهم، ورغم ذلك فقد أخلص الولاء لإنجلترا بتأييدها إبان الحرب، بل دافع عن وجوب انخراط الهنود في سلك الجيش المحارب. إن كانوا ممن لم يقبلوا مبدأ الإقلاع عن العنف؛ ولم يوافق- عندئذ - أولئك الذين ينادون بالاستقلال
صفحة رقم : 1079

قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الهند وجيرانها -> خاتمة مسيحية -> مهاتما غاندي

وآمن بأن سوء الحكم البريطاني في الهند كان شذوذا ً في القاعدة، أما القاعدة فهي أن الحكم البريطاني بصفة عامة حكم جيد، وأن سوء الحكومة البريطانية في الهند لا يرجع إلا إلى عدم اتباعها لمبادئ الحكم السائدة في الحكومة البريطانية في بريطانيا نفسها، وأنه لو أفهم الشعب البريطاني قضية الهنود، تردد في قبولهم على أساس الإخاء التام في مجموعة الأجزاء الحرة من الإمبراطورية واعتقد أنه إذا ما وضعت الحرب أوزارها وحسبت بريطانيا ما ضحت به الهند(60) في سبيل الإمبراطورية من رجال ومال، لما ترددت في منحها حريتها.
لكن الحرب وضعت أوزارها، وتحرك الشعب مطالباً "بالحكم الذاتي"، فصدرت "قوانين رولَنْد" وقضت على حرية الكلام والنشر، بإنشائها تشريعاً عاجزاً للإصلاح يسمى "مونتاجو - شلمز فورد" ثم جاءت مذبحة "أمرِتْسار" فأجهزت على البقية الباقية؛ ونزلت الصدمة قوية على غاندي. فقرر من فوره عملاً حاسماً، من ذلك أنه أعاد لنائب الملك الأوسمة التي كان قد ظفر بها من الحكومات البريطانية في أوقات مختلفة، ووجه الدعوة إلى الهند لتقف من الحكومة الهندية موقف العصيان المدني، واستجاب الشعب لدعوته، لا بالمقاومة السلمية كما طلب إليهم، بل بالعنف وإراقة الدماء، ففي بمباي مثلاً قتلوا ثلاثة وخمسين من "الفارْسيين" المناهضين للحركة القومية(61)، ولما كان غاندي يعتنق مذهب "الأهِمْسا" - أي الامتناع عن قتل الكائنات الحية بكافة أنواعها - فقد بعث للناس برسالة أخرى دعاهم فيها إلى إرجاء حملة العصيان المدني، على أساس أنها تتدهور في طريقها إلى أن تكون حكم الغوغاء فقلما تجد في التاريخ رجلاً أبدى من الشجاعة أكثر مما أبداه غاندي في الاستمساك بالمبدأ في سلوكه، مزدرياً ما تمليه الضرورة العملية للوصول إلى الغايات، وغير آبه بحلوله من قلوب الناس منزلة عالية، فدهشت الأمة

صفحة رقم : 1080
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الهند وجيرانها -> خاتمة مسيحية -> مهاتما غاندي

لقراره، لأنها ظنت أنها كادت تبلغ غايتها، ولم توافق غاندي على أن الوسائل قد يكون لها من الأهمية ما للغاية المنشودة، ومن ثم هبطت سمعة المهاتما حتى بلغت أدنى درجات جَزْرها.
وفي هذه اللحظة نفسها (في مارس سنة 1922) قررت الحكومة القبض عليه، فلما توجه إليه النائب العام بتهمة إثارة الناس بمنشوراته، حتى اقترفوا ما اقترفوه من ألوان العنف في ثورة 1921، أجابه غاندي بعبارة رفعتْه فوراً إلى ذروة الشرف، إذ قال:
"أحب أن أؤيد ما ألقاه النائب العام العلاّمة على كتفي من لوم فيما يخص الحوادث التي وقعت في بمباي ومدراس وشاوري شاورا؛ لأنني إذا ما فكرت في هذه الحوادث تفكيراً عميقاً، وتدبرت أمرها ليلة بعد ليلة، تبين لي أنه من المستحيل علي أن أتخلى عن هذه الجرائم الشيطانية... إن النائب العام العلاَّمة على حق لا شبهة فيه حين يقول إنني باعتباري رجلاً مسئولاً، وباعتباري كذلك رجلاً قد ظفر بقسط من التعليم لا بأس به... كان ينبغي علي أن أعرف النتائج التي تترتب على كل فعل من أفعالي؛ لقد كنت أعلم أنني ألعب بالنار، وأقدمت على المغامرة، ولو أطلق سراحي لأعدتُ من جديد ما فعلته؛ إني أحسست هذا الصباح أنني أفشل في أداء واجبي إذا لم أقل ما أقوله هنا الآن.

أردت أن أجتنب العنف، وما زلت أريد اجتناب العنف، فاجتناب العنف هو المادة الأولى في قائمة إيماني، وهو كذلك المادة الأخيرة، من مواد عقيدتي؛ لكن لم يكن لي بد من الاختيار، فإما أن أخضع لنظام الحكم الذي هو في رأيي قد ألحق ببلادي ضرراً يستحيل إصلاحه، وإما أن أتعرض للخطر الناشئ عن ثورة بني وطني ثورة غاضبة هوجاء ينفجر بركانها إذا ما عرفوا حقيقة الأمر من بين شفتي، إني لأعلم أن بني وطني قد جاوزوا حدود المعقول أحياناً، وإني لآسف لهذا أسفاً شديداً، ولذلك فأنا واقف هاهنا لأتقبل، لا أخف ما تفرضونه من عقوبة، بل أقسى ما تنزلونه من عقاب؛ إنني
صفحة رقم : 1081
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الهند وجيرانها -> خاتمة مسيحية -> مهاتما غاندي

لا أطلب الرحمة، ولا أتوسل إليكم أن تخففوا عني العقاب، إنني هنا - إذن - لأرحب وأتقبل راضياً أقسى عقوبة يمكن معاقبتي بها على ما يعدّه القانون جريمة مقصودة، وما يبدو لي أنه أسمى ما يجب على المواطن أداؤه(62).
وعبر القاضي عن عميق أسفه لاضطراره أن يزج في السجن برجل يعدُّه الملايين من بني وطنه "وطنياً عظيماً وقائداً عظيماً" واعترف بأنه حتى أولئك الذين لا يأخذون بوجهة نظر غاندي، ينظرون إليه نظرتهم إلى "رجل ذي مثل عليا وحياة شريفة بل إن حياته لتتصف بما تتصف به حياة القديسين"(63) وحكم عليه بالسجن ست سنوات.

سُجنَ غاندي سجناً منفرداً لكنه لم يتألم، وكتب يقول "لست أرى أحداً من المسجونين الأخرين، ولو أنني في الحق لا أدري كيف يمكن أن يأتيهم الضرر من صحبتي لكني أشعر بالسعادة، إني أحب العزلة بطبيعتي، وأحب الهدوء، ولديّ الآن فرصة سانحة لأدرس موضوعات لم يكن لي بد من إهمالها في العالم الخارجي(64) وراح يعلم نفسه بما يزيد من ثورته في كتابات "بيكن" و "كارلايل" و "رسْكُن" و "إمرسن" و"ثورو" و "تولستوي، وسرّى عن نفسه كروبها مدى ساعات طوال بقراءته لـ "بن جونْسن" و "وولترسكُتْ" وقرأ "بها جافاد جيتا" مراراً، ودرس السنسكريتية والتامِليَّة والأردية، حتى لا يقتصر على الكتابة للعلماء، بل ليستطيع كذلك أن يتحدث إلى الجماهير، ولقد أعدَّ لنفسه برنامجاً مفصلاً لدراساته خلال الستة الأعوام التي سيقضيها في سجنه، وكان أميناً في تنفيذ ذلك البرنامج، حتى تدخلت الحوادث في تغيير مجراه، "لقد كنت أجلس إلى كتبي بنشوة الشاب وهو في الرابعة والعشرين، ناسياً أني قد بلغت من العمر أربعة وخمسين وأني عليل "(65).
صفحة رقم : 1082
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الهند وجيرانها -> خاتمة مسيحية -> مهاتما غاندي

كان مرضه "بالمصران الأعور" طريق خلاصه من السجن، كما كان الطب الغربي الذي طالما أنكره، طريق نجاته من المرض؛ وتجمع عند بوابات السجن حشد كبير لتحيته عند خروجه وقبَّل كثيرون منهم ثوبه الغليظ وهو ماضٍ في طريقه؛ لكنه اجتنب السياسة وتوارى عن أنظار الشعب، وعني بضعف بنيته ومرضه، وأوى إلى مدرسته في أحمد أباد حيث أنفق أعواماً طوالاً مع طلابه في عزلة هادئة؛ ومع ذلك فقد أخذ يرسل من مَكْمنه ذاك كل أسبوع بمقال افتتاحي تنشره له الجريدة التي كانت لسان حاله، وهي جريدة "الهند الفتاة" وجعل يبسط في تلك المقالات فلسفته عن الثورة والحياة؛ والتمس من أتباعه أن يجتنبوا أعمال العنف، لا لأن العنف بمثابة الانتحار للهند فقط، ما دامت الهند عزلاء من السلاح، بل لأنه كذلك سيضع استبداداً مكان استبداد آخر؛ وقال لهم: "إن التاريخ ليعلمنا أن أولئك الذين دفعتهم الدوافع الشريفة إلى اقتلاع أصحاب الجشع باستخدام القوة الغشوم، أصبحوا بدورهم فريسة لنفس المرض الذي كان يصيب أعداءهم المهزومين... إن اهتمامي بحرية الهند سيزول لو رأيتها تصطنع لحريتها وسائل العنف، لأن الثمرة التي تجنيها من تلك الوسائل لن تكون الحرية، بل ستكون هي الاستعباد"(66).

وثاني العناصر في عقيدته هو رفضه القاطع للصناعة الحديثة، ودعوته التي تشبه دعوة روسو في سبيل العودة إلى الحياة الساذجة، حياة الزراعة والصناعة المنزلية في القرى، فقد خيل لغاندي أن حبس الرجال والنساء في مصانع، يعملون - بآلات يملكها سواهم - أجزاء من مصنوعات لن يتاح لهم قط أن يروها وهي كاملة، طريقة ملتوية لشراء دمية الإنسان تحت هرم من سلع بالية، ففي رأيه أن معظم ما تنتجه الآلات لا ضرورة له. والعمل الذي يوفره استخدام الآلات في الصناعة يعود فيستهلك في صنعها وإصلاحها، أو إن كان هناك عمل قد ادخرته الآلات فعلاً، فليس هو من صالح العمل نفسه، بل من صالح رؤوس الأموال، فكأنما الأيدي العاملة تقذف بنفسها بسبب
صفحة رقم : 1083
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الهند وجيرانها -> خاتمة مسيحية -> مهاتما غاندي

إنتاجها في حياة يسودها الذعر لما يملؤها من "تعطل ناشئ عن الأساليب العلمية في الصناعة"(67) ولذلك عمل على إحياء حركة "سواديشي" التي حمل لواءها "تيلاك" سنة 1905، وأضيف مبدأ "الإنتاج الذاتي" إلى مبدأ "سواراج" أي "الحكم الذاتي"، وجعل غاندي استخدام "الشاركا" - أي عجلة الغزْل - مقياساً للتشيع المخلص للحركة القومية وطالب كل هندي، حتى أغناهم، بأن يلبس ثياباً من غزْل البلاد، وأن يقاطع المنسوجات البريطانية الآنية، حتى يتسنى للدور في الهند أن تطنَّ من جديد في فصل الشتاء الممل بصوت المغازل وهي تدور بعجلاتها(68).

لكن الناس لم يستجيبوا بأجمعهم لدعوته، لأنه من العسير أن توقف التاريخ عن مجراه، ومع ذلك فقد حاولت الهند على كل حال أن تستجيب لدعوته، فكنت ترى الطلبة الهنود في كل أرجاء الأرض كلها يرتدون "الخضَّار"؛ ولم تعد سيدات الطبقة العالية يلبسن "الساري" من الحرير الياباني، بل استبدلن به ثياباً خشنة من نسيج أيديهن وجعلت العاهرات في مواخيرهن والمجرمون في سجونهم يغزلون، وأقيمت المحافل الكبرى في المدن كثيرة كما كان يحدث في عهد "سافونا رولا" - حيث جاء الهنود الأغنياء والتجار بما كان في دورهم أو في مخازنهم من المنسوجات الواردة من الخارج، فألقوا بها في النار، ففي بمباي وحدها، أكلت ألسنة اللهب مائة وخمسين ألف ثوب من القماش(69).
ولئن فشلت هذه الحركة التي قصدت إلى نبذ الصناعة؛ فقد هيأت للهند مدى عشرة أعوام رمزاً للثورة، وعملت على تركيز ملايينها الصامتة في اتحاد جديد من الوعي السياسي، وارتابت الهند في قيمة الوسيلة لكنها أكبرت الغاية المنشودة؛ فإذا كانت قد تزعزعت ثقتها بغاندي السياسي فقد أحلت في سويداء قلبها غاندي القديس، وأصبحت الهند كلها لحظة من الزمن بمثابة الرجل الواحد وذلك باتحادها في إكباره، فكما يقول عنه طاغور:
"إنه وقف على أعتاب آلاف الأكواخ التي يسكنها الفقراء ولبس ثياباً
صفحة رقم : 1084
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الهند وجيرانها -> خاتمة مسيحية -> مهاتما غاندي

كثيابهم، وتحدث إليهم بلغتهم، ففيه تجسدت آخر الأمر حقيقة حية، ولم يعد الأمر اقتباساً يستخرج من بطون الكتب: ولهذا السبب كان اسم "مهاتما" - وهو الاسم الذي أطلقه عليه الشعب - هو اسمه الحق، فمن سواه قد شعر شعوره بأن الهند أجمعين هم لحمه ودمه؟.. فلما جاء الحب وطرق باب الهند، فتحت له الهند بابها على مصراعيه... لقد ازدهرت الهند لدعوة غاندي ازدهاراً يؤدي بها إلى عظمة جديدة، كما ازدهرت مرة سبقت في الأيام السوالف، حين أعلن بوذا صدق الإخاء والرحمة بين الكائنات الحية جميعاً(70).
لقد كانت رسالة غاندي أن يوحّد الهند وقد أدى رسالته؛ وهناك رسالات أخرى تنتظر رجالاً آخرين.

صفحة رقم : 1085
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الهند وجيرانها -> خاتمة مسيحية -> كلمة وداع للهند

الفصل السابع
كلمة وداع الهند

لسنا نستطيع أن نختم الحديث في تاريخ الهند على نحو ما نختمه في تاريخ مصر أو بابل أو أشور، لأن تاريخ الهند لا يزال في دور تكوينه، ومدنيتها لا تزال في طور إبداعها، لقد دبت الحياة من جديد في الهند من الوجهة الثقافية باتصالها بالغرب اتصالاً عقلياً، حتى لترى أدبها اليوم في خصوبة شتى الآداب في البلاد الأخرى، وأما من الوجهة الروحية، فهي ما تزال تكافح الخرافة والإسراف في بضاعتها اللاهوتية، ولكننا لا نستطيع التنبؤ بالسرعة التي تستطيع بها أحماض العلم الحديث أن تذيب آلهتهم التي تزيد عن حاجتهم، ومن الوجهة السياسية شهدت الهند في المائة سنة الأخيرة وحدة لم تشهد لها مثيلاً فيما مضى إلا نادراً، ويرجع ذلك إلى حد ما إلى توحيد الحكومة الأجنبية القائمة عليهم، وإلى حد ما إلى توحيد اللغة الأجنبية التي يتكلمونها، ولكنه يرجع فوق هذا وذلك إلى اتحادهم في الطموح إلى الحرية طموحاً صهرهم في وحدة متماسكة، ومن الوجهة الاقتصادية تنتقل الهند الآن من حياة العصور الوسطى إلى حياة الصناعة الحديثة بما في هذا الانتقال من حسنات وسيئات، وستنمو ثروتها وتزداد تجارتها، نمواً وازدياداً يؤهلانها بغير شك إلى أن تكون قبل نهاية هذا القرن بين دول العالم الكبرى.
وليس في وسعنا أن نزعم أن هذه المدنيَّة قد أفادت مدنيتنا إفادة مباشرة، كما استطعنا أن نتعقب بعض جوانب مدنيتنا إلى أصولها في مصر أو الشرق الأدنى، ذلك لأن مصر والشرق الأدنى كانا السَّلَفَيْن المباشرين لثقافتنا، بينما تدفن تاريخ الهند والصين واليابان في مجرى آخر، وهو آخذ لتوه اليوم في مس تيار
صفحة رقم : 1086
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الهند وجيرانها -> خاتمة مسيحية -> كلمة وداع للهند

الحياة العربية والتأثير فيه؛ إنه على الرغم من حيلولة حاجز الهملايا، قد استطاعت الهند أن تبعث إلينا عَبْرَ تلك الجبال طائفة من ألوان التراث المشكوك فيه، مثل النحو والمنطق والفلسفة والحكايات الخرافية والتنويم المغناطيسي والشطرنج، وفوق هذا كله، بعثت إلينا أرقامنا التي نستعملها في الحساب ونظامنا العشري؛ لكن هذه ليست صفوة روحها، وهي توافه إذا قيست إلى ما قد نتعلمه منها في مقبل الأيام؛ فبينما تعمل الاختراعات والصناعة والتجارة على ربط القارات بعضها ببعض، أو بينما تعمل هذه العوامل على بث روح الشقاق بيننا وبين آسيا، فسيتاح لنا في أي من الحالتين أن ندرس مدنيتها عن كثب أكثر من ذي قبل، وسنمتصُّ - حتى في حالة قيام الخصومة بيننا - بعض أساليبها وأفكارها؛ فربما علمتنا الهند مقابل ما لقيتْه على أيدينا من فتح وعنجهية واستغلال، التسامح والوداعة اللذين يتصف بهما العقل الناضج، والقناعة المطمئنة التي تتميز بها النفس إذا كفت عن الجشع في جمع المال، وهدوء الروح البصيرة بحقائق الوجود، وحب الكائنات الحية جميعاً، الذي من شأنه أن يبث في الناس اتحاداً وسلاماً.

صفحة رقم : 1087
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأقصى -> الصين -> عصر الفلاسفة -> نشأة الفلسفة -> قدر الصينيين

الكتاب الثالث
الشرق الأقصى
الصين
الباب الثالث والعشرون
عصر الفلاسفة
الفصل الأول
نشأة الفلسفة
1- قدر الصينيين

لقد كانت دراسة بلاد الصين عملاً من الأعمال المجيدة التي تمت في عصر الاستنارة وقد قال فيهم ديدرو: "أولئك قوم يفوقون كل من عداهم من الأسيويين في قدم عهدهم، وفي فنونهم، وعقليتهم، وحكمتهم وحسن سياستهم، وفي تذوقهم للفلسفة، بل إنهم في رأي بعض المؤلفين ليضارعون في هذه الأمور كلها أرقى الشعوب الأوربية وأعظمها استنارة". وقال فلتير Voltaire: "لقد دامت هذه الإمبراطورية أربعة آلاف عام دون أن يطرأ عليها تغير يذكر في القوانين، أو العادات، أو اللغة، أو في أزياء الأهلين... وإن نظام هذه الإمبراطورية لهو في الحق خير ما شهده العالم من نظم ". وهذا الإجلال الذي ينظر به علماء ذلك الوقت إلى بلاد الصين قد حققته دراستنا لتلك البلاد عن كثب، والذين خبروا تلك البلاد وعرفوها حق المعرفة قد بلغ اعجابهم بها غايته. انظر إلى ما قاله الكونت كيسرلنج Count Keyserling في خاتمة كتاب له يعد من أغزر الكتب علما وأعظمها نفعا وأبرعها تصويراً:
صفحة رقم : 1088
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأقصى -> الصين -> عصر الفلاسفة -> نشأة الفلسفة -> قدر الصينيين

"لقد أخرجت الصين القديمة أكمل صورة من صور الإنسانية. وكانت فيها صور مألوفة عادية... وأنشأت أعلى ثقافة عامة عرفت في العالم كله... وإن عظمة الصين لتتملكني وتؤثر قيّ كل يوم أكثر من الذي قبله... وإن عظماء تلك البلاد لأرقى ثقافة من عظماء بلادنا... وإن أولئك السادة لهم طراز سام من البشر... وسموهم هذا هو الذي يأخذ بلبي... إن تحية الصيني المثقف لتبلغ حد الكمال!. وليس ثمة من يجادل في تفوق الصين في كل شأن من شئون الحياة... ولعل الرجل الصيني أعمق رجال العالم على بكرة أبيهم".

والصينيون لا يهتمون كثيراً بإنكار هذه الأقوال، وقد ظلوا حتى هذا القرن )ماعدا نفراً قليلاً في الوقت الحاضر( مجمعين على أن أهل أوربا وأمريكا برابرة همج. وكان من عادة الصينيين قبل سنة 1860 أن يترجموا لفظ " أجنبي " في وثائقهم الرسمية باللفظ المقابل لهمجي أو بربري، وكان لا بد للبرابرة أن يشترطوا على الصينيين في معاهدة رسمية إصلاح هذه الترجمة . والصينيون كمعظم شعوب الارض "يرون أنهم أعظم الامم مدنية وأرقهم طباعاً". ولعلهم محقون في زعمهم هذا رغم ما في بلادهم من فساد وفوضى من الناحية السياسية، ورغم تأخرهم في العلوم، وكدحهم في المصانع، ومدنهم الكريهة الرائحة، وحقولهم الملأى بالاقذار، وفيضان أنهارهم، وما ينتاب بلادهم من القحط، ورغم جمودهم وقسوتهم وفقرهم وخرافاتهم، وقلة عنايتهم بتربية ابنائهم، وحروبهم
صفحة رقم : 1089
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأقصى -> الصين -> عصر الفلاسفة -> نشأة الفلسفة -> قدر الصينيين

المدمرة، ومذابحهم وهزائمهم المذلة. ذلك أن ما وراء هذا المظهر المظلم الذي يبدو الآن لعين الغريب عن بلادهم مدنية من أقدم المدنيات القائمة في العالم وأغناها: فمن ورائه تقاليد قديمة في الشعر، يرجع عهدها إلى عام 1700 ق. م، وسجل حافل بالفلسفة الواقعية المثالية العميقة غير المعجزة الدرك، ومن ورائه براعة في صناعة الخزف والنقش لا مثيل لها من نوعها، واتقان مع يسر لجميع الفنون الصغرى لا يضارعهم فيه الا اليابانيون، وأخلاق قويمة قوية لم نر لها نظيراً عند شعوب العالم في أي وقت من الأوقات، ونظام اجتماعي ضم عدداً من الخلائق أكثر مما ضمه أي نظام آخر عرف في التارخ كله ودام أحقابا لم يدمها غيره من النظم، ظل قائما حتى قضت عليه الثورة ويكاد ان يكون هو المثل الاعلى للنظم الحكومية التي يدعو اليها الفلاسفة؛ ومجتمع كان راقيا متمدنا حين كانت بلاد اليونان مسكن البرابرة؛ شهد قيام بابل وآشور؛ وبلاد الفرس واليهود، وأثينة ورومة والبندقية وأسبانيا، ثم شهد سقوطها كلها، وقد يبقى بعد أن تعود بلاد البلقان التي نسميها أوربا إلى ما كانت عليه من جهالة وهمجية. ترى أي سر عجيب أبقى هذا النظام الحكومي تلك القرون الطوال، وحرك هذه اليد الفنية الصناع، وأوحى إلى نفوس اولئك القوم ذينك العمق والاتزان؟

صفحة رقم : 1090
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأقصى -> الصين -> عصر الفلاسفة -> نشأة الفلسفة -> الدولة الوسطى الزاهرة

2- الدولة الوسطى الزاهرة
وصف البلاد الجغرافي - الجنس الصيني - ما قبل التاريخ

إذا عددنا الروسيا بلادا أسيوية- وقد كانت كذلك إلى أيام بطرس الأكبر وقد تعود أسيوية مرة أخرى- لم تكن أوربا الا أنفا مسننا في جسم آسية، وامتدادا يشتغل بالصناعة من خلفه قارة زراعية كبيرة، ومخالب أو نتوءات ممتدة من قارة جبارة مهولة. وتشرف الصين على تلك القارة المترامية الأطراف، وهي لا تقل عن أوربا في اتساع رقعتها وتعداد عامرها.
صفحة رقم : 1091
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأقصى -> الصين -> عصر الفلاسفة -> نشأة الفلسفة -> الدولة الوسطى الزاهرة

وقد كان يكتنفها في معظم مراحل تاريخها أكبر المحيطات وأعلى الجبال، وصحراء من أوسع صحارى العالم.

لذلك استمتعت بلاد الصين بعزلة كانت هي السبب في حظها النسبي من السلامة والدوام، والركود وعدم التغيير، وهو حظ كبير اذا قيس إلى حظ غيرها من الامم. ومن أجل هذا فان الصينيين لم يسموا بلادهم- الصين، بل سموها تيان- هوا- "تحت السماء " أو زهاي- "بين البحار الاربعة"-أو جونج- جوو "الدولة الوسطى"- أو جونج- هوا- جوو- "الدولة الوسطى الزاهرة" أو الاسم الذي سماها به مرسوم الثورة جونج- هوا- مين- جوو- "مملكة الشعب الوسطى الزاهرة". والحق ان الازهار اليانعة كثيرة فيها، كما ان فيها كل المناظر الطبيعية المختلفة التي يمكن ان تهبها اياها الشمس الساطعة، والسحب السابحة، وشعاب الجبال الوعرة، والانهار العظيمة، والاغوار العميقة، والشلالات الدافقة بين التلال العابسة. ويجري في قسمها الجنوبي الخصيب نهر يانج- دزه الذي يبلغ طوله ثلاثة آلاف ميل، وفي الشمال يتحدر الهوانج هو، أو النهر الأصفر من سلاسل الجبال الغربية مخترقا سهولا من اللويس، ويحمل معه الغرين ليصبه الآن في خليج بتشيلي، وكان من قبل يصبه في البحر الاصفر، ولعله سيعود في الغد فيصبه في هذا البحر مرة أخرى. على ضفاف هذين النهرين وعلى ضفتي نهر الواي وغيره من المجاري الواسعة، بدأت الحضارة الصينية تنتزع الارض من الوحوش والآجام، وتصد عنها الهمج المحيطين بها، وتنظف الارض من الحسك والعليق، وتطهرها من الحشرات المهلكة والرواسب الأكالة القارضة كأملاح البوتاسا وغيرها. وتجفف المناقع، وتقاوم الجفاف والفيضان، وما يطرأ على مجاري الأنهار
صفحة رقم : 1092
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأقصى -> الصين -> عصر الفلاسفة -> نشأة الفلسفة -> الدولة الوسطى الزاهرة

من تحول يعود على البلاد وسكانها بالخراب والهلاك، وتجري الماء في صبر وحذر من اولئك الاعداء الأوداء في آلاف القنوات، وتقيم يوما بعد يوم خلال القرون الطوال أكواخا وبيوتا ومعابد ومدارس وقرى ومدنا ودولا. ألا ما أطول الآجال التي يكد الناس خلالها ليشيدوا صرح الحضارة التي يدمرونها في سهولة وسرعة عجيبتين!
وليس في الناس من يعرف من أين جاء الصينيون، أو إلى أي جنس ينتسبون، أو متى بدأت حضارتهم في الزمن القديم. وكل ما نستطيع أن نقوله واثقين أن بقايا "انسان بيكين" توحي بأن القردة البشرية جد قديمة في بلاد الصين. وقد استنتج أندروز
Andrews من بحوثه في تلك البلاد أن منغوليا كان يعمرها من عشرين ألف سنة قبل الميلاد أجيال من الناس تشبه أدواتهم الأدوات "الأزيلية" التي كانت أوربا تستخدمها في العصر الحجري الأوسط، وأن خلفاء هذه الاجيال انتشروا في سيبيريا والصين حينما جفت منغوليا الجنوبية وأجدبت واستحالت إلى صحراء جوبي الحالية. وتدل كشوف أندرسن Anderson وغيره في هونان ومنشوريا الجنوبية على أن ثقافة تنتسب إلى العصر الحجري الحديث وجدت في تلك البلاد متأخرة بألفي عام من مثيلتها في عصر ما قبل التاريخ في مصر وسومر. ويشبه بعض ما وجد من الادوات في الرواسب الباقية من العصر الحجري الحديث، في شكله وتسنينه، المدى الحديدي التي يستخدمها سكان الصين الشمالية في هذه الايام لحصاد الذرة الصينية ، وهذه الحقيقة على ضآلة شأنها ترجح القول بأن الثقافة الصينية قد دامت سبعة آلاف عام متواصلة غير منقطعة، وهو عهد ما أطوله، وقل أن يوجد له في غير الصين نظير(15).
صفحة رقم : 1093
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأقصى -> الصين -> عصر الفلاسفة -> نشأة الفلسفة -> الدولة الوسطى الزاهرة

على أن طول هذه العهود يجب ألا يغشى أبصارنا فنبالغ في تجانس هذه الثقافة أو تجانس الشعب الصيني نفسه. فقد يلوح أن بعض فنونهم وصناعاتهم الأولى جاءتهم من بلاد النهرين والتركستان. من ذلك أن خزف هونان المنتمي إلى العصر الحجري الحديث لا يكاد يفترق في شيء عن خزف أنو والسوس.
والجنس "المغولي" الحاضر مزيج معقد اختلطت فيه السلالة البدائية مرارا وتكرارا بمئات السلالات الغازية أو المهاجرة من منغوليا وجنوب الروسيا )السكوذيين( ووسط آسية.
فالصين من هذه الناحية كالهند يجب ان نشبهها بأوربا بأكملها لا بأمة واحدة من أممها؛ فليست هي موطنا موحدا لأمة واحدة، بل هي خليط من أجناس مختلفة الاصول متباينة اللغات غير متجانسة في الاخلاق والفنون؛ وكثيرا ما يعادي بعضها بعضا في العادات والمبادئ الخلقية والنظم الحكومية.

صفحة رقم : 1094
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأقصى -> الصين -> عصر الفلاسفة -> نشأة الفلسفة -> القرون الغابرة المجهولة

3- القرون الغابرة المجهولة
قصة الخلق عند الصينيين - بداية الثقافة - الخمر
وعصى الأكل - الاباطرة الافاضل - ملك كافر
تسمى الصين "جنة المؤرخين"؛ ذلك أنها ظلت مئات وآلافا من السنين ذات مؤرخين رسميين يسجلون كل ما يقع فيها، وكثيرا مما لا يقع. على أننا لا نثق بأقوالهم عن العهود السابقة لعام 76 ق. م، ولكننا اذا استمعنا إلى هذه الاقوال رأيناهم يحدثوننا أحاديث مفصلة عن تاريخ الصين منذ 3000 ق. م، ورأينا أكثرهم تقى وصلاحا يصفون خلق العالم كما يفعل المطلعون على الغيب في هذه الايام. ومن أقوالهم في هذا أن "بان كو" أول الخلائق استطاع أن يشكل الأرض حوالي عام 2.229.000 ق. م بعد أن ظل يكدح في عمله هذا ثمانية عشر ألف عام. وتجمعت أنفاسه التي كان يخرجها في أثناء عمله فكانت رياحا
صفحة رقم : 1095

قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأقصى -> الصين -> عصر الفلاسفة -> نشأة الفلسفة -> القرون الغابرة المجهولة

وسحبا، وأضحى صوته رعدا، وصارت عروقه أنهارا، واستحال لحمه أرضا، وشعره نبتا وشجرا، وعظمه معادن، وعرقه مطرا؛ أما الحشرات التي كانت تعلق بجسمه فأصبحت آدميين. وليس لدينا من الادلة القاطعة ما ننقض به هذا العلم الكوني العجيب.
وتقول الاساطير الصينية ان الملوك الاولين حكم كل منهم ثمانية عشر ألف عام، وانهم جاهدوا أشق جهاد ليجعلوا من قمل "بان كو" خلائق متحضرين. وتقول لنا هذه الاساطير ان الناس "كانوا قبل هؤلاء الملوك السماويين كالوحوش الضارية يلبسون الجلود ويقتاتون باللحوم النيئة، ويعرفون أمهاتهم، ولكنهم لا يعرفون آباءهم"- ولا يرى استرندبرج
strendberg أن هذا الوصف الاخير مقصور على الأقدمين أو على الصينيين. ثم جاء من بعد هؤلاء الامبراطور فوشي في عام 852 ق. م بالتحديد، فعلم الناس بمعاونة زوجه المستنيرة الزواج، والموسيقى والكتابة والتصوير، وصيد السمك بالشباك، وتأنيس الحيوان، واطعام دود القز للحصول منها على الحرير. وأوصى وهو على فراش الموت أن يخلفه سن نونج، فأدخل هذا الامبراطور في البلاد الزراعة، واخترع المحراث الخشبي، وأقام الاسواق وأوجد التجارة، وأنشأ علم الطب بما عرفه من خواص النبات العلاجية، هذا ما تقوله الاساطير التي تعلي الاشخاص أكثر مما تعلي الافكار، وتعزو إلى عدد قليل من الافراد نتائج كدح الاجيال الطوال. ثم حكم امبراطور محارب قوى يدعى هوانج- دي لم يطل عهده أكثر من مائة عام، فجاء إلى الصين بالمغنطيس والعجلات، ووظف المؤرخين الرسميين، وشاد أول أبنية من الآجر في الصين؛ وأقام مرصدا لدراسة النجوم، وأصلح التقويم، وأعاد توزيع الأرض على الأهلين. وحكم "يَو" قرنا آخر، وبلغ من صلاح حكمه أن كنفوشيوس، حين كتب عنه بعد زمانه بثمانمائة وألف عام في عهد كان يبدو له بلا ريب عهدا "حديثا"

فاسدا، أخذ يندب ما طرأ على الصين من ضعف
صفحة رقم : 1096
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأقصى -> الصين -> عصر الفلاسفة -> نشأة الفلسفة -> القرون الغابرة المجهولة

وانحلال. ويحدثنا الحكيم القديم- الذي لم يستطع رغم حكمته التورع عن "الكذبة الصالحة" يضيفها إلى القصة ليجعل لها مغزى خلقيا- يحدثنا هذا الحكيم القديم أن الناس أصبحوا أفاضل أتقياء بمجرد النظر إلى "يو"، وكان أول ما قدمه "يو" من معونة للمصلحين أن وضع في خارج باب قصره طبلا يضربونه اذا أرادوا أن يدعوه لسماع شكواهم ولوحا يكتبون عليه ما يشيرون به على الحكومة ويقول كتاب التاريخ الذائع الصيت:
"أما يَوْ الصالح فيقولون عنه انه حكم جونج- جُوُو مائة عام لأنه عاش مائة عام وعشرة وستة؛ وكان رحيما خيرا كالسماء، حكيما بصيرا كالآلهة، وكان ضياؤه يبدو من بعيد كالسحابة اللامعة، فاذا اقتربت منه كان كأنه الشمس الساطعة. وكان غنيا في غير زهو، عظيما في غير ترف وكان يلبس قلنسوة صفراء، ومئزرا قاتم اللون، ويركب عربة حمراء تجرها جياد بيض. وكانت طنف أسقف بيته غير مشذبة، وألواحه غير مسحجة، ودعائمه الخشبية غير ذات أطراف مزينة.
وكان أغلب ما يقتات به الحساء أيا كان ما يصنع منه، لا يهتم باختيار الحبوب التي يصنع منها خبزه، وكان يشرب حساء العدس من صفحة مصنوعة من الطين، ويتناوله بملعقة من الخشب. ولم يكن يتحلى بالجواهر، ولم تكن ثيابه مطرزة، بل كانت بسيطة لا يختلف بعضها عن بعض. ولم يكن يعني بغير المألوف من الاشياء أو الغريب من الاحداث، ولم يكن يقيم وزنا للأشياء النادرة الغريبة، يستمع لأغاني الغزل، عربته الرسمية خالية من أسباب الزينة... يلبس في الصيف رداء بسيطا من القطن، ويلف جسمه في الشتاء بجلود الظباء. ومع هذا كله فقد كان أغنى من حكم جونج- جوو، طوال عهدها كله، وأرجحهم عقلا، وأطولهم عمرا، وأحبهم إلى قلوب الشعب(14).
صفحة رقم : 1097

قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأقصى -> الصين -> عصر الفلاسفة -> نشأة الفلسفة -> القرون الغابرة المجهولة

وكان شون آخر هؤلاء "الملوك الخمسة" مثالا في البر البنوي، كما كان هو البطل الذي جاهد لحماية البلاد من فيضانات نهر هوانج- هو، والذي أصلح التقويم، وضبط الموازين والمقاييس، وكسب محبة الاجيال التي جاءت بعده من تلاميذ المدارس بتقصير طول السوط الذي كانوا يربون به. وتقول الروايات الصينية إن شون في آخر أيامه رفع معه على العرش أقدر مساعديه، وهو المهندس العظيم يو، الذي تغلب على فيضان تسعة أنهار بشق تسعة جبال واحتفار تسع بحيرات، ويقول الصينيون "لولا يو، لكنا كلنا سمكا". وتقص الأساطير المقدسة ان خمر الأرز عصر في أيامه وقدم للامبراطور، ولكن "يو" صبه على الارض وقال متنبئا: "سيأتي اليوم الذي يخسر فيه أحد الناس بسبب هذا الشيء ملكا"، ثم نفي من كشف هذا الشرب من البلاد وحرم على الناس شربه. فلما فعل هذا جعل الناس خمر الأرز شرابهم القومي، فكان ذلك درسا علموه لمن جاء بعدهم من الخلائق.
وغيّر يو المبدأ الذي كان متبعا من قبله في وراثة الملك وهو أن يعين الامبراطور قبل وفاته من يخلفه على العرش، فجعل الملك وراثيا في أسرته، وأنشأ بذلك أسرة الشيتية (أي المتحضرة)، فكان ذلك سببا في أن يتعاقب على حكم الصين العباقرة والبلهاء وذوو المواهب الوسطى. وقضى على هذه الاسرة امبراطور ذو أطوار شاذة، يدعى جية أراد أن يسلي نفسه هو وزوجته فأمر ثلاثة آلاف من الصينيين أن يموتوا ميتة هنيئة بالقفز في بحيرة من النبيذ.

وليس لدينا ما يحقق لنا صدق ما ينقله إلينا المؤرخون الصينيون الأقدمون من أخبار هذه الاسرة. وكل ما نستطيع أن نقوله أن علماء الفلك في هذه الايام قد حققوا تاريخ الكسوف الشمسي الذي ورد ذكره في السجلات القديمة فقالوا انه قد حدث في عام 2165 ق. م، ولكن الثقاة الذين يعتد بآرائهم لا يؤمنون بحساب أولئك الفلكيين(16). وقد وجدت على بعض العظام التي كشفت في
صفحة رقم : 1098
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأقصى -> الصين -> عصر الفلاسفة -> نشأة الفلسفة -> القرون الغابرة المجهولة

هونان أسماء حكام تعزوهم الروايات الصينية إلى الاسرة الثانية أو أسرة شانج؛ ويحاول المؤرخون أن يعزوا بعض الاواني البرنزية الموغلة في القدم إلى أيام تلك الأسرة. أما فيما عدا هذا فمرجعنا الوحيد هو القصص الذي يحوي من الطرافة واللذة أكثر مما يحوي من الحقيقة. وتقول الروايات القديمة ان وو- يي أحد أباطرة أسرة شانج كان كافرا يتحدى الآلهة ويسب روح السماء، ويلعب الشطرنج مع ذلك الروح ويأمر احد افراد حاشيته بان يحرك القطع بدل الروح، فاذا أخطأ سخر منه. ثم أهدى اليه كيسا من الجلد وملأه دماً، وأخذ يسلي نفسه بأن يصوب اليه سهامه. ويؤكد لنا المؤرخون- وفيهم من الفضيلة أكثر مما في التاريخ نفسه- ان وو- يي أصابته صاعقة فأهلكته.

وكان جوسين آخر ملوك هذه الاسرة ومخترع عصى الطعام خبيثا آثما إلى حد لا يكاد يصدقه العقل، فقضى بإثمه على اسرته. ويحكى عنه أنه قال: "لقد سمعت أن لقلب الانسان سبع فتحات، وأحب أن أتثبت من صدق هذا القول في بي كان"- وزيره وكانت تاكي زوجة جو مضرب المثل في الفجور والقسوة، فكانت تعقد في بلاطها حفلات الرقص الخليع، وكان الرجال والنساء يسرحون ويمرحون عارين في حدائقها. فلما غضب الناس من هذه الفعال عمدت إلى كم أفواههم باختراع ضروب جديدة من التعذيب، فكانت ترغم المتذمرين على أن يمسكوا بأيديهم معادن محمية في النار أو يمشوا على قضبان مطلية بالشحم ممتدة فوق حفرة مملوءة بالفحم المشتعل، فإذا سقط الضحايا في الحفرة طربت الملكة حين تراهم تشوى أجسادهم في النار.
وقضت على عهد جوسين مؤامرة دبرها الثوار في داخل البلاد، وغارة من ولاية جو الغربية، ورفع المغيرون على العرش أسرة جو، وقد دام حكمها أطول من حكم أية أسرة مالكة أخرى في بلاد الصين. وكافأ الزعماء المنتصرون من أعانوهم من القواد والكبراء بأن جعلوهم حكاما يكادون أن يكونوا مستقلين في
صفحة رقم : 1099
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأقصى -> الصين -> عصر الفلاسفة -> نشأة الفلسفة -> القرون الغابرة المجهولة

الولايات الكثيرة التي قسمت اليها الدولة الجديدة. وعلى هذا النحو بدأ عهد الاقطاع الذي كان فيما بعد شديد الخطر على حكومة البلاد، والذي كان رغم هذا باعثا على النشاط الادبي والفلسفي في بلاد الصين. وتزاوج القادمون الجدد والسكان الأولون وامتزجوا جميعا، وكان امتزاجهم هذا تمهيدا بيولوجيا لأولى حضارات الشرق الأقصى في الازمنة التاريخية.

صفحة رقم : 1100
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأقصى -> الصين -> عصر الفلاسفة -> نشأة الفلسفة -> الحضارة الصينية الأولى

4- الحضارة الصينية الأولى
عصر الإقطاع في الصين - وزير قدير - النضال بين العادات

والقوانين - الثقافة والفوضى - أغاني الحب في "كتاب الأغاني"
لم تكن الولايات الإقطاعية، التي وهبت الصين بعدئذ ما استمتعت به من نظام سياسي قرابة ألف عام، من عمل الفاتحين، بل نشأت من المجتمعات الزراعية التي قامت في الأيام البدائية بامتصاص أقوياء الزراع ضعافهم، أو باندماج الجماعات تحت رياسة زعيم واحد حتى يستطيعوا أن يدفعوا عن حقولهم من يغيرون عليها من الهمج المحيطين بهم. وبلغ عدد هذه الإمارات في وقت من الأوقات سبع عشرة ولاية تتكون كل منها في العادة من بلدة مسورة تحيط بها أرض زراعية ومن ضواح مسورة أصغر منها يتألف من مجموعها محيط دفاعي واحد. ثم أخذت هذه الولايات يندمج بعضها في بعض على مهل حتى نقص عددها إلى خمس وخمسين ولاية تشمل الإقليم الذي يعرف الآن بإقليم هونان وما جاوره من أقاليم شانسي، وشنسى، وشانتونج. وكان أهم هذه الولايات الخمس والخمسين ولاية تشي التي وضعت أساس الحكومة الصينية، وولاية تشين التي أخضعت سائر الولايات لحكمها وأنشأت منها امبراطورية موحدة، وخلعت على بلاد الصين اسمها المعروفة به في جميع بلاد العالم إلاّ فيها هي نفسها.
وكان السياسي العبقري الذي وضع لولاية تشي نظامها هو جوان جونج
صفحة رقم : 1101
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأقصى -> الصين -> عصر الفلاسفة -> نشأة الفلسفة -> الحضارة الصينية الأولى

مستشار الدوق هوان. وقد بدأ جوان حياته السياسية بمساعدة أخى هوان عليه في نزاعهما من أجل السيطرة على تشي، وكاد يقتل هوان في إحدى الوقائع الحربية. ولكن هوان انتصر في آخر الأمر وأسر جوان وعينه رئيس وزراء دولته. وزاد جوان من قوة سيده باستبدال الأسلحة والأدوات الحديدية بنظائرها المصنوعة من البرنز، وباحتكار الحكومة للحديد والملح أو بالسيطرة عليهما، ثم فرض الضرائب على النقود والسمك والملح "لكي يساعد الفقراء ويكافئ الحكماء وذوي المواهب". وأصبحت تشي في أيام وزارته الطويلة الأجل دولة حسنة النظام ذات عملة مستقرة، ونظام اداري محكم، وثقافة زاهرة. وقد قال عنه كنفوشيوس- وهو الذي لم يكن يمتدح الساسة إلا بأوجز عبارة- "إن الناس لا يزالون حتى اليوم يستمتعون بالنعم التي أسبغها عليهم، ولولا جوان جونج لظللنا حتى اليوم ذوي شعر أشعث، ولظلت ملابسنا تزرر جهة الشمال" .
وفي بلاط نبلاء الاقطاع نشأت طريقة التحية التي امتاز بها الصينيون المهذبون، كما نشأت فيها شيئا فشيئا تقاليد من الاخلاق والاحتفالات ومراسم التكريم بلغت من الدقة حدا يكفيها لأن تحل محل الدين عند الطبقات العليا في المجتمع. ثم وضعت أسس الشرائع وبدأ نزاع شديد بين حكم العادات التي نمت عند عامة الشعب وبين حكم القانون الذي وضعته الدولة. وأصدرت دوقيتا جنج وتشين (في عامي 535 512 ق. م) كتبا في القانون ملأت قلوب الفلاحين رعبا، وتنبئوا بما سيحل بهما من عقاب سماوي شديد على هذه الجريمة الشنيعة. وحدث بالفعل أن دمرت النار عاصمة جنج بعد ذلك بقليل. وكان في هذه الشرائع محاباة للطبقات العليا، فقد أعفتها من كثير من الواجبات المفروضة على غيرها من الطبقات على شريطة أن يؤدب أفرادها أنفسهم. من ذلك أن القاتل منهم كان
صفحة رقم : 1102
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأقصى -> الصين -> عصر الفلاسفة -> نشأة الفلسفة -> الحضارة الصينية الأولى

يسمح له بأن ينتحر، وكان الكثيرون منهم ينتحرون بالفعل على النحو الذي أصبح فيما بعد عادة مألوفة بين طبقة السموراي في اليابان. واحتج عامة الشعب على هذه التفرقة، وقالوا أن في مقدورهم هم أيضا أن يؤدبوا أنفسهم، وتمنوا أن يقوم بينهم وطني مخلص شبيه بهرموديس أو أرستجيتون يحررهم من ظلم القوانين. ثم تراضت الفئتان آخر الأمر واتفقتا على حل سليم فضيقت دائرة القانون الوضعي حتى لم تعد تشمل الا المسائل الكبرى أو المسائل القومية، وظلت أحكام العرف والعادة هي الفيصل فيما دونها من الأمور. واذ كانت الكثرة الغالبة من شئون البشر من المسائل الصغرى فقد ظل حكم العادة هو السائد بين كافة الطبقات.
واستمر تنظيم الولايات يجري في مجراه، وجمعت قواعد هذا النظام في الجو- لي، أو "دستور جو" وهو مجموعة من الشرائع تعزوها الروايات إلى جو جونج عم دوق جو الثاني وكبير وزرائه، وهو بالطبع قول لا يقبله عقل لأن هذه الشرائع لا يمكن أن تكون من وضع رجل واحد.
والواقع إن الإنسان يلمح فيها روح كونفوشيوس ومنشيس، ولهذا فأكبر الظن أنها وضعت في آخر أيام أسرة جو لا في أيامها الاولى. وقد ظلت مدى ألفي عام تمثل فكرة الصينيين عن النظام الحكومي: وقوامه إمبراطور يحكم نيابة عن الخالق، وأنه "ابن السماء" يستمد سلطانه مما يتصف به من الفضيلة والصلاح؛ وأعيان، بعضهم بحكم مولدهم وبعضهم بحكم تربيتهم وتدريبهم، يصرفون أعمال الدولة؛ وشعب يرى أن واجبه فلح الارض يعيش في أسر أبوية ويتمتع بالحقوق المدنية ولكنه لا رأي له في تصريف الشؤون العامة؛ ومجلس من ستة وزراء كل واحد منهم على ناحية من النواحي الآتية وهي: "حياة الإمبراطور وأعماله، ورفاهية الشعب وزواج أفراده المبكر، والمراسيم والتنبؤات الدينية، والاستعداد للحرب والسير فيها، وتوزيع العدالة بين السكان وتنظيم
صفحة رقم : 1103

قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأقصى -> الصين -> عصر الفلاسفة -> نشأة الفلسفة -> الحضارة الصينية الأولى

الأشغال العامة". ويكاد هذا القانون يكون قانونا مثاليا، وأكبر الظن أنه نبت في عقل فيلسوف أفلاطوني مجهول لم يتحمل أعباء الحكم، لا من تجارب زعماء دنستهم السلطة الفعلية ويتعاملون مع خلائق حقيقيين.
ولما كان الشر المستطير قد يجد له مكانا حتى في أكمل الدساتير، فقد كان تاريخ الصين السياسي هو التاريخ المألوف الذي يتناوبه الفساد الطويل وفترات الإصلاح القصيرة. ذلك أن الثروة حين زادت أدت إلى الإسراف والترف فأفسدا الطبقة العليا، كما غصّ بلاد الأباطرة وغصت فيما بعد لويانج عاصمة الدولة بالموسيقيين والقتلة والسفاحين والسراري والفلاسفة. وقلما كانت تمضي عشر سنين دون أن يهاجم فيها الدولة الجديدة البرابرة الجياع الذين لم ينقطعوا يوما ما عن الضغط على حدودها، حتى أضحت الحرب أولا ضرورة لا بد منها للدفاع، ثم صارت بعد قليل حرب هجوم واعتداء، وتدرجت من ألعاب يتسلى بها الأعيان إلى مسابقات في التقتيل بين عامة الشعب، يطاح فيها بعشرات الآلاف من الرؤوس، فلم يمض إلاّ قرنان من الزمان أو أكثر منهما بقليل حتى قتل من الملوك ستة وثلاثون، وعمت البلاد الفوضى، ويئس الحكام من إصلاح الأمور.

وظلت الحياة تتعثر في طريقها متخطية هذه العقبات القديمة فكان الفلاّح يزرع ويحصد لنفسه في أحيان قليلة وللنبلاء الإقطاعيين في أكثر الاحيان، لأنه هو وأرضه كانا ملكا لهؤلاء النبلاء، ولم يبدأ الفلاحون في امتلاك الارض الاّ في أواخر أيام هذه الأسرة. وكانت الدولة- وهي مجتمع مهلهل من النبلاء الإقطاعيين يعترفون بعض الاعتراف بسيادة واحد منهم- تجند العمال للأشغال العامة، وتروى الحقول من قنوات كثيرة منبثة في أنحاء البلاد؛ وكان الموظفون العموميون يعلّمون الأهلين زرع الحقول وغرس الأشجار؛ ويشرفون على صناعة الحرير بكافة أجزائها. وكان صيد السمك واستخراج الملح من باطن الأرض احتكارا للحكومة في كثير من الولايات. وكانت التجارة الداخلية
صفحة رقم : 1104
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأقصى -> الصين -> عصر الفلاسفة -> نشأة الفلسفة -> الحضارة الصينية الأولى

رائجة في المدن فنشأت من رواجها طبقة وسطى صغيرة العدد تستمتع بنعم لا تكاد تفترق عن نعم الحياة الحديثة، وكان أفرادها ينتعلون أحذية من الجلد، ويرتدون ملابس من الحرير، أو من نسيج آخر يغزلونه بأيديهم، وينتقلون في عربات مختلفة الانواع، أو في قوارب تسير في الأنهار، ويسكنون بيوتا حسنة البناء، ويستخدمون الكراسي والنضد، ويتناولون طعامهم في صحاف وأواني من الخزف المنقوش. وأكبر الظن أن مستوى حياتهم كان أرقى من مستوى حياة معاصريهم في بلاد اليونان أيام صولون
Solon أو في روما أيام نوما Numa.

وسرت في الحياة الذهنية في الصين بين ظروف التفلك ومظاهر الفوضى السائدة في البلاد حيوية تنقض ما يضعه المؤرخون من نظريات وقواعد عامة يريدون أن يأخذ بها الناس؛ فقد وضعت في هذا العهد المضطرب قواعد اللغة الصينية والأدب والفلسفة والفن. ونشأ من ائتلاف الحياة التي أصبحت آمنة بفضل التنظيم الاقتصادي والادخار مع الثقافة التي لم تكن قد وحدت بعد أو قيدت بالقيود والأحكام التي تفرضها عليها التقاليد والحكومة الإمبراطورية القوية السلطان، نشأ من ائتلافهما ذلك الاطار الاجتماعي الذي احتوى أكثر العهود إبداعا وإنشاء في تاريخ الصين الذهني. فكان في كل قصر من قصور الأباطرة والأمراء وفي آلاف من المدن والقرى شعراء ينشدون القصائد، وصناع يديرون عجلة الفخار أو يصبون الآنية الفخمة الجميلة، وكتبة ينمقون على مهل حروف الكتابة الصينية وسفسطائيون يعلمون الطلبة المجدين أساليب الجدل والمحاجة الذهنية، وفلاسفة يتحسرون ويأسون لنقائص البشر وتدهور الدول.
وسندرس في الفصول التالية حال الفن واللغة في أكمل تطوراتهما وأخص خصائصهما، ولكن الشعر والفلسفة من نتاج هذا العصر الذي نتحدث عنه بنوع خاص، وهما يجعلانه أكثر عصور الفكر الصيني ازدهارا. ولقد ضاع معظم ما كتب من الشعر قبل كنفوشيوس، وأكثر ما بقي منه هو ما اختاره هذا
صفحة رقم : 1105
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأقصى -> الصين -> عصر الفلاسفة -> نشأة الفلسفة -> الحضارة الصينية الأولى

الفيلسوف من نماذج كلها جد وصرامة، جمعت في الشي- جنج، أي "كتاب الأغاني" وقيلت في فترة تزيد على ألف عام تمتد من أيام الشعر القديم الذي قيل في أيام أسرة شانج إلى الشعر ذي الصبغة الحديثة الذي قيل في زمن معاصر لفيثاغورس. وتبلغ عدة هذه القصائد الباقية خمس قصائد وثلثمائة قصيدة، وكلها موجزة إيجازا يجعلها مستعصية على الترجمة، ذات تصوير إيحائي، تتحدث عن الدين ومتاعب الحرب وهموم الحب.

والى القارئ أمثلة من نواح الجنود الذين انتزعوا من بيوتهم في غير الأوقات المناسبة؛ ليلقى بهم في مخالب المنايا لغير سبب تدركه عقولهم:
ألا ما أعظم حرية الإوز البري وهو يطير في الفضاء
ثم يتمتع بالراحة فوق أغصان شجر اليو الملتف الكثيف!
أما نحن الدائمو الكدح في خدمة الملك،
فإنا لا نجد من الوقت ما نزرع فيه الذرة والأرز
ترى على أي شيء يعتمد آباؤنا؟
حدثيني أيتها السماء النائية الزرقاء!
متى ينتهي هذا كله؟..
وهل في الاشجار أوراق لم تصبح بعد أرجوانية؟
وهل بقي في البلاد رجل لم ينتزع من بين ذراعي زوجته؟
رحمة بنا نحن الجنود:-
ألسنا نحن أيضا آدميين؟
وفي القصائد كثير من أغاني الحب المختلفة النغم التي تضرب على أوتار القلوب، وان كان ذلك العصر يبدو لنا لفرط جهلنا عصر الهمجية الصينية وبداية تاريخها. ونحن نستمع في احدى هذه القصائد إلى صوت الشباب المتمرد إلى أبد الدهر
صفحة رقم : 1106
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأقصى -> الصين -> عصر الفلاسفة -> نشأة الفلسفة -> الحضارة الصينية الأولى

يهمس في آذاننا من خلال القرون البائدة، التي كانت تبدو عهودا نموذجية لكنفوشيوس، وكأنما هي تقول أن لا شيء يماثل التمرد والعصيان في قدم العهد:
أتوسل إليك يا حبيبي
أن تغادر قريتي الصغيرة
وألاّ تهشم أغصان صفصافي؛
وليس ذلك لأن تهشيمها يحزنني
بل لأني أخشى أن يثير تهشيمها غضب أبي.
والحب يناديني بعواطفه المقهورة:-
"إن أوامر الأب يجب أن تطاع"
أتوسل إليك يا حبيبي
أو تحطم أغصان توتي
وليس ذلك لأني أخشى سقوطها
بل لأني أخشى أن يثير سقوطها غضب أخي.
والحب يناديني بعواطفه المقهورة:-
"إن كلام الأخ يجب أن يطاع"
أتوسل إليك يا حبيبي،
ألاّ تتسلل إلى الحديقة
ولا تحطم أشجار الصندل؛
وليس هذا لأني أعني بهذه أو تلك
بل لأني أرهب حديث المدينة،
وإذا ما سار المحبون على هواهم
صفحة رقم : 1107

قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأقصى -> الصين -> عصر الفلاسفة -> نشأة الفلسفة -> الحضارة الصينية الأولى

فماذا يقولون عنهم جيرانهم؟
وثمة قصيدة أخرى هي أقرب هذه القصائد إلى الكمال، أو أحسنها ترجمة، وهي تدل على أن العواطف البشرية قديمة موغلة في القدم:
جلال الصباح يعلو فوق هامتي
وتحيط بي الازهار الشاحبة بيضاء وأرجوانية وزرقاء وحمراء وأنا قلقة البال
وتحرك شيء بين الحشائش الذابلة
فظننت أن ما سمعته هو وقع أقدامه،
وإذا جندب يصر،
وتسلقت التل ساعة أن بزغ الهلال
فأبصرته مقبلا من الطريق الجنوبي
فاستراح قلبي وأطرح عنه حمله(29).
صفحة رقم : 1108
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأقصى -> الصين -> عصر الفلاسفة -> نشأة الفلسفة -> الفلاسفة قبل كونفوشيوس

5- الفلاسفة قبل كنفوشيوس
"كتاب التغيرات" - "اليانج والين" - عصر
الاستنارة الصينية - ننج شي سقراط الصين
يمتاز هذا العصر بفلسفته. وليس يعيب الجنس البشري أن تشوفه كان في كل عصر من العصور يسبق حكمته، وأن مثله العليا كانت تخطو بأسرع من خطى مسلكه. وها هو ذا يو- دزه في عام 1250 ق. م ينطق بتلك العبارة القصيرة التي تعد من جوامع الكلم، والتي طالما رددها الناس من قبله، ولكنها لم تبل جدتها بعد؛ اذ لا يزال الناس في حاجة إلى من يذكرهم بأن كل مجد مآله كرب وشقاء:
"من يطرح المجد ولا يعبأ به ينج من الاحزان"(30).
صفحة رقم : 1109
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأقصى -> الصين -> عصر الفلاسفة -> نشأة الفلسفة -> الفلاسفة قبل كونفوشيوس

ألا ما اسعد الانسان الذي لا تاريخ له! وقد ظلت بلاد الصين من ذلك العهد القديم إلى يومنا هذا تخرج فلاسفة.

فكما ان الهند أرقى بلاد العلم في الاديان، وعلم ما وراء الطبيعة، فكذلك الصين أرقاها في الفلسفة الانسانية غير الدينية، اذ لا يكاد يوجد في الادب الصيني كله كتاب ذو شأن في علم ما وراء الطبيعة غير تلك الوثيقة العجيبة التي يبدأ بها تاريخ التفكير الصيني المدون، وهي الوثيقة المعروفة بإسم إي- جنج، أو "كتاب التغيرات". وتقول الرواية المأثورة إن هذا الكتاب قد كتبه ون وانج، أحد مؤسسي أسرة جو في سجنه، وان أبسط مبادئه مستمدة من فوشي الذي عاش قبله بزمن طويل. وهم يقولون لنا ان هذا الامبراطور الاسطوري قد اخترع "الجوات" الثماني أو التثاليث الرمزية التي ترى علوم ما وراء الطبيعة عند الصينيين أنها تنطبق على قوانين الطبيعة وعناصرها. وهم يقولون أن كل واحد من هذه التثاليث يتألف من ثلاثة خطوط بعضها متصل ويمثل عنصر الذكورة أو اليانج وبعضها متقطع ويمثل عنصر الأنوثة أو الين.
وكذلك يمثل اليانج في هذه الثنائية الرمزية العنصر الايجابي الفعال، المنتج، السماوي عنصر الضوء والحرارة والحياة؛ على حين أن الين يمثل العنصر السلبي المنفعل، الأرضي، عنصر الظلمة والبرودة والموت وقد خلد ون يانج ذكره، وأتعب عقول آلاف الملايين من الصينيين بمضاعفة عدد الشرط في الخطوط المتصلة والمتقطعة، فرفع بذلك عدد تباديلها وتوافيقها إلى أربعة وستين كل منها يقابل قانونا من قوانين الطبيعة، ويحتوي على جميع العلوم والتاريخ. والحكمة جميعا تكمن في هذه الأربع والستين شَيْبَنْجَة- أو الآراء الممثلة تمثيلا رمزيا في التثليثات السالفة الذكر. والحقائق كلها يمكن ردها إلى تعارض واتحاد العاملين الأساسيين في الكون وهما عنصرا الذكورة والأنوثة أي اليانج والين.
صفحة رقم : 1110
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأقصى -> الصين -> عصر الفلاسفة -> نشأة الفلسفة -> الفلاسفة قبل كونفوشيوس

وكان الصينيون يتخذون كتاب التغيرات كتابا يدرسون فيه طرق التنبؤ بالغيب، ويعدونه أعظم تراثهم الأدبي، ويقولون أن كل من فهم ما فيه من توافيق يدرك جميع القوانين الطبيعية. وقد نشر كنفوشيوس هذا الكتاب بنفسه، وجمله بما علق عليه من الحواشي، وكان يفضله على كل ما عداه من كتب الصينيين، ويتمنى أن يخلو لنفسه خمسين عاما يقضيها في دراسته.
ولا يتفق هذا السفر العجيب مع روح الفلسفة الصينية، وهي الروح الايجابية العملية، وان كان يلائم غموض النفس الصينية ونحن نجد في الصين فلاسفة في أبعد الازمان التي وصل إلينا تاريخها، ولكن كل ما حفظه التاريخ لهم قبل أيام لو- دزه، لا يعدو أن يكون قطعة مبتورة من هنا وهناك، أو مجرد أسم من الاسماء، وقد شهد القرنان السادس والخامس في بلاد الصين، كما شهدا في الهند وفارس وبلاد اليهود واليونان، عاصفة قوية من العبقرية الفلسفية والأدبية، بدأت كما بدأت في بلاد اليونان بعصر من "الاستنارة" العقلية.
ولقد سبق هذه الاستنارة عهد من الحروب والفوضى فتح أمام المواهب غير ذات الانساب العريقة مسالك للرقي، وحفز أهل المدن على أن يطلبوا لأنفسهم معلمين يثقفون أذهانهم بالفنون العقلية. وسرعان ما كشف معلمو الشعب ما في علوم الدين من ابهام وغموض، وما في الأداة الحكومية من نقص، وعرفوا أن المقاييس الاخلاقية مقاييس نسبية، وشرعوا يبحثون عن المثل العليا والكمال المطلق. وقد أعدم الكثيرون من هؤلاء الباحثين على يد ولاة الامور الذين وجدوا أن قتلهم أسهل من محاججتهم. وتقول احدى الروايات الصينية ان كنفوشيوس نفسه، وهو وزير الجريمة في مقاطعة لو، حكم بالاعدام على موظف صيني متمرد بحجة أنه "كان في وسعه أن يجمع حوله طائفة كبيرة من الرجال؛ وأن آراءه كانت تجد بسهولة من يستجيب لها من العامة، وأن تجعل العناد صفة خليقة بالإكبار والإجلال؛ وأن سفسطته كان فيها من المعارضة والمعاندة
صفحة رقم : 1111

قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأقصى -> الصين -> عصر الفلاسفة -> نشأة الفلسفة -> الفلاسفة قبل كونفوشيوس

ما يمكنها من الوقوف في وجه الأحكام الحقة المعترف بها من الناس". ويصدق زوما- تشين هذه القصة ولكن بعض المؤرخين الصينيين يرفضونها؛ ونحن نرجو ألا تكون صحيحة.
وأشهر هؤلاء المتمردين العقليين هو تنج شي الذي أعدمه دوق جنج في شباب كنفوشيوس، ويقول كتاب ليه- دزه: ان تنج هذا كان "يعلم النظريات القائلة ان الحق والباطل أمران نسبيان، ويؤيد هذه الآراء بحجج لا آخر لها". واتهمه أعداؤه بأنه لم يكن يستنكف أن يثبت اليوم رأيا ويثبت عكسه في غد، إذا ما نال على عمله هذا ما يرتضيه من الاجر؛ وكان يعرض خدماته على من لهم قضايا في المحاكم، ولا يرى ما يعوقه عن تقديمها لمن يطلبها من الناس. ويروي عنه أحد أعدائه من المؤرخين الصينيين هذه القصة الطريفة:
غرق رجل موسر من الولاية التي كان يقيم فيها تنج في نهر واي، وأخرج رجل جثته من الماء، وطلب إلى أسرة القتيل مبلغا كبيرا من المال نظير إخراجها من النهر. وذهبت أسرة القتيل إلى تنج تستشيره في الأمر، فأجابها السفسطائي بقوله: "تريثوا فلن تؤدي المال المطلوب أسرة غير أسرتكم"، وعملت أسرة القتيل بهذه النصيحة. وقلق الرجل الذي كانت الجثة في حوزته فجاء هو أيضا إلى تنجشي يستنصحه. فنصحه السفسطائي بما نصح به أهل القتيل إذ قال له: "تريث؛ فإنهم لن يحصلوا على الجثة إلاّ منك".
ووضع تنج شي قانونا للعقوبات تبين أنه أرقى مما تطبقه حكومة جنج. ولما ضاق رئيس الوزراء ذرعا بالنشرات التي كان تنج يحمل فيها على سياسته حرم إلصاقها في الأماكن العامة، فما كان من تنج الا أن عمد إلى توزيعها على الناس بنفسه، فلما حرم الوزير توزيع النشرات أخذ تنج يهربها إلى القراء مخبوءة بين أشياء أخرى، فلما أعيت الحكومة الحيل أمرت بقطع رأسه(36).

صفحة رقم : 1112

قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأقصى -> الصين -> عصر الفلاسفة -> نشأة الفلسفة -> المعلم القديم

6- المعلم القديم
لو- دزه - "الدو" - رجال الفكر في الحكومة - سخف
القوانين - مدينة فاضلة على غرار مدينة روسو وقانون أخلاقي على غرار
القانون المسيحي - صورة الرجل الحكيم - التقاء لو- دزه وكنفوشيوس
كان لو- دزه، أعظم فلاسفة الصين قبل كنفوشيوس، أكثر حكمة من تنج شي؛ فقد كان يعرف حكمة الصمت، وما من شك أنه عمر طويلا وإن لم نكن واثقين من أنه عاش حقا. ويحدثنا المؤرخ الصيني زوماتشين أن لو- دزه عافت نفسه سفالة السياسيين، ومل عمله في أمانة مكتبة جو الملكية، فاعتزم أن يغادر الصين ليبحث له عن ملجأ بعيد منعزل في الريف. "فلما أن وصل إلى حدود البلاد قال له الحارس ين شي: إنك إذن تنشد العزلة، وأنا أرجوك أن تكتب لي كتابا. فكتب له لو- دزه كتابا من جزأين في الدو والدي يشتمل على خمسة آلاف كلمة. ولما أن أتمه اختفى ولم يعلم أحد أين مات".
لكن الروايات والاقاصيص، التي لا تخفى عليها خافية، تقول أنه عاش سبعة وثمانين عاما. ولم يبق لنا منه الا اسمه وكتابه وقد لا يكون هذا أو ذاك له.
فأما لو- دزه، فوصف معناه "المعلم القديم" وأما أسمه الحقيقي فهو، كما تقول الرواية، لي- أي البرقوقة.
والكتاب الذي يعزى إليه مشكوك فيه شكا أثار كثيرا من الجدل العلمي حول أصله ولكن الباحثين جميعا متفقون على أن الدو- ده- جنج- أي "كتاب الطريقة والفضيلة"- هو أهم النصوص الخاصة بالفلسفة الدوية التي
صفحة رقم : 1113
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأقصى -> الصين -> عصر الفلاسفة -> نشأة الفلسفة -> المعلم القديم

يقول العلماء الصينيون انها وجدت قبل لو- دزه بزمن طويل، والتي كان لها من بعده أنصار من الطراز الاول، والتي صارت فيما بعد دينا تعتنقه أقلية كبيرة من الصينيين من أيامه إلى وقتنا هذا، وجملة القول أن مؤلف الدو- ده- جنج مسألة ذات أهمية ثانوية، وأما الآراء التي احتواها الكتاب فمن أبدع ما كتب في تاريخ الفكر الانساني.
ومعنى لفظ الدَّو هو الطريقة: وهي أحيانا طريقة الطبيعة، وأحيانا الطريقة الدوية للحياة الحكيمة. أما المعنى الحرفي لهذا اللفظ فهو الطريق. وهو في الاصل طريقة للتفكير أو للامتناع عن التفكير، وذلك لأن الدويين يرون أن التفكير أمر عارض سطحي لاغير فيه الا للجدل والمحاجاة، يضر الحياة اكثر مما ينفعها. اما "الطريقة" فيمكن الوصول اليها بنبذ العقل وجميع مشاغله، وبالالتجاء إلى حياة العزلة والتقشف والتأمل الهادئ في الطبيعة. وليس العلم في رأي صاحب الكتاب فضيلة، بل ان السفلة قد زاد عددهم من يوم أن انتشر العلم. وليس العلم هو الحكمة، ذلك لأنه لا شيء أبعد عن الرجل الحكيم من "صاحب العقل". وشر أنواع الحكومات التي يمكن تصورها حكومة الفلاسفة؛ ذلك أنهم يقحمون النظريات في كل نظام طبيعي؛ وأكبر دليل على عجزهم عن العمل هو قدرتهم على إلقاء الخطب والإكثار من الاراء، وفي ذلك يقول الكتاب:
ان المهرة لا يجادلون؛ وأصحاب الجدل عطل من المهارة... واذا ما نبذنا المعارف نجونا من المتاعب... والحكيم يبقي الناس على الدوام بلا علم ولا شهوة، واذا وجد من لهم علم منعهم من الاقدام على العمل... وان الاقدمين الذين أظهروا براعتهم في العمل بما في الدو لم يفعلوا ما فعلوه لينيروا عقول الناس بل ليجعلوهم سذجا جهلاء... والصعوبة التي يواجهها الحكام انما تنشأ من كثرة ما عند الناس من العلم، ومن يحاول حكم دولة من الدول بعلمه وحكمته ينكل
صفحة رقم : 1114

قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأقصى -> الصين -> عصر الفلاسفة -> نشأة الفلسفة -> المعلم القديم

بها ويفسد شئونها، أما الذي لا يفعل هذا فهو نعمة لها وبركة.
وانما كان صاحب الفكر خطرا على الدولة لأنه لا يفكر الا في الانظمة والقوانين؛ فهو يرغب في اقامة مجتمع على قواعد هندسية، ولا يدرك أن أنظمته انما تقضي على ما يتمتع به المجتمع من حرية حيوية، وما في أجزائه من نشاط وقوة. أما الرجل البسيط الذي يعرف من تجاربه ما في العمل الذي يتصوره ويقوم به بكامل حريته من لذة، وما ينتجه من ثمرة، فهو أقل من العالم خطرا على الامة اذا تولى تدبير أمورها، لأنه لا يحتاج إلى من يدله على أن القانون شديد الخطر عليها، وأنه قد يضرها أكثر مما ينفعها. فهذا الرجل لا يضع للناس من الانظمة الا أقل قدر مستطاع، واذا تولى قيادة الامة ابتعد بها عن جميع أفانين الخداع والتعقيد، وقادها نحو البساطة العادية التي تسير فيها الحياة سيرا حكيما على النهج الطبيعي الحكيم الرتيب الخالي من التفكير، وحتى الكتابة نفسها يهمل أمرها في هذا النمط من الحكم لأنها أداة غير طبيعية تهدف إلى الشر. فإذا تحررت غرائز الناس الاقتصادية التلقائية التي تحركها شهوة الطعام والحب من القيود التي تفرضها الحكومات دفعت عجلة الحياة في مسيرها البسيط الصحيح. وفي هذه الحال تقل المخترعات التي لا تفيد الا في زيادة ثراء الاغنياء وقوة الاقوياء؛ وتنمحي الكتب والقوانين والصناعات ولا تبقى الا التجارة القروية.

"ان كثرة النواهي والمحرمات في المملكة تزيد من فقر الأهلين. وكلما زاد عدد الأدوات التي تضاعف من كسبهم زاد نظام الدولة والعشيرة اضطرابا، وكلما زاد ما يجيده الناس من أعمال الختل والحذق زاد عدد ما يلجئون إليه من حيل غريبة وكلما كثرت الشرائع والقوانين كثر عدد اللصوص وقطاع الطرق؛ ولهذا قال أحد الحكماء: " لن أفعل شيئا، فيتبدل الناس من تلقاء أنفسهم، وسأولع بأن أبقى ساكنا فينصلح الناس من تلقاء أنفسهم، ولن أشغل بالي بأمور الناس فيثرى الناس من تلقاء أنفسهم؛ ولن أظهر شيئا من المطامع فيصل الناس من
صفحة رقم : 1115
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأقصى -> الصين -> عصر الفلاسفة -> نشأة الفلسفة -> المعلم القديم

تلقاء أنفسهم إلى ما كانوا عليه من سذاجة بدائية...
وسأنظم الدولة الصغيرة القليلة السكان بحيث اذا وجد فيها أفراد للواحد منهم من الكفايات ما لعشرة رجال أو مائة رجل فلن يكون لهؤلاء الافراد عمل؛ وسأجعل الناس فيها، وان نظروا إلى الموت على أنه شيء محزن يؤسف له، لا يخرجون منها (لينجوا بأنفسهم منه)؛ ومع أن لهم سفنا وعربات فإنهم لا يرون ما يدعوا إلى ركوبها؛ ومع أن لهم ثيابا منتفخة وأسلحة حادة، فإنهم لا يجدون ما يدعوا إلى لبس الاولى أو استخدام الثانية، وسأجعل الناس يعودون إلى استخدام الحبال المعقودة .
وسيرون أن طعامهم (الخشن) وملابسهم (البسيطة) جميلة، ومساكنهم (الحقيرة) أمكنة للراحة، وأساليبهم العادية المألوفة مصادر للذة والمتعة، وإذا كانت هناك دولة مجاورة قريبة منا نراها بأعيننا وتصل إلى آذاننا منها نقنقة الدجاج ونباح الكلاب، فإني لن أجعل للناس وان طال عمرهم صلة بها إلى يوم مماتهم".

ترى ما هي هذه الطبيعة التي يرغب لَوْ- دزه، في أن يتخذها مرشدا له وهاديا؟ ان هذا المعلم القديم يفرق بين الطبيعة والحضارة تفريقا محددا واضح المعالم، كما فعل روسو من بعده في عباراته الطنانة الرنانة التي يطلق عليها الناس اسم "التفكير الحديث"؛ فالطبيعة في نظره هي النشاط التلقائي، وانسياب الحوادث العادية المألوفة، وهي النظام العظيم الذي تتبعه الفصول وتتبعه السماء؛ وهي الدو أو الطريقة الممثلة المجسمة في كل مجرى وكل صخرة وكل نجم؛ وهي قانون الاشياء العادل الذي لا يحفل بالاشخاص، ولكنه مع ذلك قانون معقول يجب أن يخضع له قانون السلوك اذا اراد الناس أن يعيشوا في حكمة وسلام. وقانون الاشياء هذا هو الدو أو طريقة الكون كما أن قانون السلوك هو الدو أو طريقة الحياة. ويرى
صفحة رقم : 1116
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأقصى -> الصين -> عصر الفلاسفة -> نشأة الفلسفة -> المعلم القديم

لو- دزه، أن الدوين في واقع الامر دو واحد وأن الحياة في تناغمها الاساسي السليم ليست الا جزءا من تناغم الكون. وفي هذا الدو الكوني تتوحد جميع قوانين الطبيعة وتكون مادة الحقائق كلها التي يقول بها اسبنوزا؛ وفيه تجد كل الصور الطبيعية على اختلاف أنواعها مكانها الصحيح، وتجتمع كل المظاهر التي تبدو للعين مختلفة متناقضة، وهو الحقيقة المطلقة التي تتجمع فيها كل الخصائص والمعضلات لتتكون منها وحدة هيجل
Hegel الشاملة".

ويقول لو إن طبيعة قد جعلت حياة الناس في الايام الخالية بسيطة آمنة، فكان العالم كله هنيئا سعيدا. ثم حصل الناس "المعرفة" فعقدوا الحياة بالمخترعات وخسروا كل طهارتهم الذهنية والخلقية، وانتقلوا من الحقول إلى المدن، وشرعوا يؤلفون الكتب، فنشأ من ذلك كل ما أصاب الناس من شقاء، وجرت من أجل ذلك دموع الفلاسفة. فالعاقل اذن من يبتعد عن هذا التعقيد الحضري وهذا التيه المفسد الموهن تيه القوانين والحضارة، ويختفي بين أحضان الطبيعة، بعيدا عن المدن والكتب، والموظفين المرتشين، والمصلحين المغترين. وسر الحكمة كلها وسر القناعة الهادئة، وهي وحدها التي يجد فيها الانسان السعادة الابدية، هو الطاعة العمياء لقوانين الطبيعة، ونبذ جميع أساليب الخداع وأفانين العقل، وقبول جميع أوامر الطبيعة الصادرة من الغرائز، والشعور في ثقة واطمئنان، والجري على سنن الطبيعة الصامتة وتقليدها في تواضع.
ولعلنا لا نجد في الأدب كله فقرة أكثر انطباقا على العقل والحكمة من الفقرة الآتية:
ان كل ما في الطبيعة من أشياء تعمل وهي صامتة، وهي توجد وليس في حوزتها شيء، تؤدي واجبها دون أن تكون لها مطالب، وكل الاشياء على السواء تعمل عملها ثم تراها تسكن وتخمد، واذا ما ترعرعت وازدهرت عاد كل منها
صفحة رقم : 1117
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأقصى -> الصين -> عصر الفلاسفة -> نشأة الفلسفة -> المعلم القديم

إلى أصله، وعودة الاشياء إلى أصولها معناها راحتها وأداؤها ما قدر لها أن تؤديه. وعودتها هذه قانون أزلي، ومعرفة هذا القانون هي الحكمة.

والخمود الذي هو نوع من التعطل الفلسفي وامتناع عن التدخل في سير الاشياء الطبيعي وهو ما يمتاز به الحكيم في جميع مناحي الحياة، فاذا كانت الدولة مضطربة مختلة النظام فخير ما يفعل بها ألا يحاول الانسان اصلاح أمورها، بل أن يجعل حياته نفسها أداء منظما لواجبه، واذا ما لاقى الانسان مقاومة فأحكم السبل ألا يكافح أو يقاتل أو يحارب بل أن يتروى في سكون، وأن يكسب ما يريد أن يكسبه، اذا كان لا بد من الكسب، بالخضوع والصبر؛ ذلك أن المرء ينال من النصر بالسكون أكثر مما يناله بالعمل، وفي هذا يحدثنا لو- دزه حديثا لا يكاد يختلف في لهجته عن حديث المسيح!
"اذا لم تقاتل الناس فان أحدا على ظهر الارض لن يستطيع أن يقاتلك.. قابل الاساءة بالإحسان. أنا خير للأخيار، وخير أيضا لغير الأخيار؛ وبذلك يصير )الناس جميعا( أخيارا؛ وأنا مخلص للمخلصين، ومخلص أيضا لغير المخلصين وبذلك يصير )الناس جميعا( مخلصين.. وألين الأشياء في العالم تصدم أصلبها وتتغلب عليها.. وليس في العالم شيء ألين أو أضعف من الماء، ولكن لا شيء أقوى من الماء في مغالبة الأشياء الصلبة القوية" .
وتبلغ هذه الآراء غايتها في الصورة التي يتخيلها "لو" للرجل الحكيم. وقبل أن نرسم للقارئ هذه الصورة نقول أن من أخص خصائص المفكرين الصينيين أنهم لا يتحدثون عن القديسين بل يتحدثون عن الحكماء، وأنهم
صفحة رقم : 1118
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأقصى -> الصين -> عصر الفلاسفة -> نشأة الفلسفة -> المعلم القديم

لا يتحدثون عن الصلاح بقدر ما يتحدثون عن الحكمة. فليس الرجل المثالي في نظر الصينيين هو التقي العابد، بل هو صاحب العقل الناضج الهادئ، الذي يعيش عيشة البساطة والسكون وان كان خليقا بأن يشغل مكانا ساميا في العالم. ذلك أن السكون هو بداية الحكمة، والحكيم لا يتكلم حتى على الدو والحكمة، لأن الحكمة لا تنقل الا بالقدوة والتجربة لا بالألفاظ؛ والذي يعرف )الطريقة( لا يتحدث عنها؛ والذي يتحدث عنها لا يعرفها؛ والذي )يعرفها( يقفل فاه ويسد أبواب خياشيمه"، والحكيم شيمته التواضع، لأن الانسان متى بلغ الخمسين من عمره فقد آن له أن يدرك أن المعرفة شيء نسبي، وأن الحكمة شيء ضعيف سهل العطب؛ واذا عرف الحكيم أكثر مما يعرف غيره من الناس حاول أن يخفي ما يعرفه "فهو يحاول أن يقلل من سناه ولألائه ويوائم بين سناه وقتام )غيره(؛ وهو يتفق مع السذج أكثر مما يتفق مع العلماء، ولا يألم من غريزة المعارضة التي هي غريزة طبيعية في الأحداث المبتدئين. وهو لا يعبأ بالثروة أو السلطان، بل يخضع شهواته إلى الحد الادنى الذي يكاد يتفق مع العقيدة البوذية:
"ليس لشيء عندي قيمة، وأشتهي أن يخضع قلبي خضوعا تاما، وأن يفرغ حتى لا يبقى فيه شيء قط.. يجب أن يبلغ الفراغ أقصى درجاته، وأن يحاط السكون بقوة لا تمل.. ومن كانت هذه صفاته لا يمكن أن يعامل بجفاء أو في غير كلفة. وهو أكبر من أن يتأثر بالمكاسب أو الاذى وبالنبل أو الانحطاط وهو أنبل انسان تحت قبة السماء"(50).
صفحة رقم : 1119
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأقصى -> الصين -> عصر الفلاسفة -> نشأة الفلسفة -> المعلم القديم

ولسنا نرى حاجة لبيان ما في هذه الآراء من اتفاق مع آراء جان جاك روسو وحسبنا أن نقول ان الرجلين قد صبا في قالب واحد مهما يكن بعد ما بينهما من الزمن، وان فلسفتهما من نوع الفلسفة التي تظهر وتختفي ثم تعود إلى الظهور في فترات دورية؛ ذلك بأن الناس في كل جيل يملون ما في حياة المدن من كفاح وقسوة وتعقيد وتسابق، فيكتبون عن مباهج الحياة الريفية الرتيبة كتابة تستند إلى الخيال أكثر مما تستند إلى العلم بحقائق الامور. وما من شك في أن المرء لا بد له من خبرة سابقة طويلة بحياة المدن اذا شاء أن يكتب شعرا عن الريف "والطبيعة" لفظ طيع سهل على لسان كل باحث في الاخلاق أو الدين؛ وهو لا يوائم علم دارون ولا أخلاقية نتشة أكثر مما يوائم فلسفة "لو- دزه" والمسيح المتعقلة الحلوة.
ذلك أن الانسان اذا ما سار على سنن الطبيعة أدى به هذا إلى قتل أعدائه وأكل لحومهم لا إلى ممارسة الفلسفة، وقلّ أن يكون وضيعا ذليلا، وأقل من هذا أن يكون هادئا ساكنا. بل ان فلح الارض- وهو العمل الشاق المؤلم- لا يوائم قط ذلك الجنس من الناس الذي اعتاد الصيد والقتل؛ ولهذا كانت الزراعة من الاعمال "غير الطبيعية" مثلها في هذا كمثل الصناعة سواء بسواء.
على أن في هذه الفلسفة رغم هذا كله شيئا من السلوى وراحة البال. وأكبر ظننا أننا نحن أيضا حين تبدأ نيران عواطفنا في الخمود سنرى فيها غير قليل من الحكمة؛ وسنرى فيها السلم المريح الذي ينبعث من الجبال غير المزدحمة ومن الحقول الرحبة. ان الحياة تتأرجح بين فلتير وروسو، وبين كنفوشيوس ولو- دزه، وبين سقراط والمسيح.
واذا ما استقرت كل فكرة زمنا ما في عقولنا، ودافعنا عنها دفاعا ليس فيه شئ من البسالة أو من الحكمة، مللنا نحن أيضا تلك المعركة وتركنا إلى الشباب ما كان قد تجمع لدينا من مثل عليا تناقص عديدها. فاذا ما حدث هذا لجأنا إلى
صفحة رقم : 1120

قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأقصى -> الصين -> عصر الفلاسفة -> نشأة الفلسفة -> المعلم القديم

الغابات مع جان جاك ومع لو- دزه وأمثالهما؛ وصادقنا الحيوان؛ وتحدثنا ونحن أكبر رضا وأطمئنانا من مكيفلي إلى عقول الزراع السذج، وتركنا العالم ينضح بالشرور، ولم نفكر قط في اصلاحه. ولعلنا وقتئذ نحرق وراءنا كل كتاب فيه الا كتابا واحدا، ولعلنا نجد خلاصة الحكمة كلها في الدو- دي- جنج.
وفي وسعنا أن نتصور ما كان لهذه الفلسفة في نفس كنفوشيوس من أثر مؤلم محنق. فقد جاء هذا الفيلسوف في سن الرابعة والثلاثين، وهي السن التي لا يكتمل فيها نضوج الذهن، إلى لويانج حاضرة جو ليستشير المعلم الكبير في بعض أمور دقيقة ذات صلة بالتاريخ ويقال ان لو- دزه أجابه إجابة فظة غامضة قصيرة:
"ان الذين تسأل عنهم قد استحالوا هم وعظامهم ترابا، ولم يبق إلا الفاظهم، واذا ما حانت ساعة الرجل العظيم قام من فوره وتولى القيادة، أما قبل أن تحين هذه الساعة فإن العقبات تقام في سبيل كل ما يحاوله. ولقد سمعت أن التاجر الموفق يحرص على اخفاء ثروته، ويعمل عمل من لا يملك شيئا من حطام الدنيا- وأن الرجل العظيم بسيط في أخلاقه ومظهره رغم ما يقوم به من جلائل الاعمال، فتخلص من كبريائك ومطامعك الكثيرة، وتصنعك وآمالك المفرطة البعيدة. ان هذه كلها لا ترفع قط من أخلاقك. وهذا ما أشير به عليك".
ويقول المؤرخ الصيني الذي يروي هذه القصة ان كونفوشيوس أحسّ من فوره بسداد هذه النصيحة، ولم ير في هذه الألفاظ ما يسيء إليه، بل أنه رأى فيها عكس هذا، وقال لتلاميذه بعد أن عاد من عند الفيلسوف المحتضر:
"إني أعرف كيف يطير الطير، ويسبح السمك، ويجري الحيوان؛
صفحة رقم : 1121
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأقصى -> الصين -> عصر الفلاسفة -> نشأة الفلسفة -> المعلم القديم

ولكن الذي يجري على الارض يمكن اقتناصه، والذي يسبح في الماء يمكن صيده، والذي يطير في الجو يمكن اصابته بالسهام. غير أن هناك تنينا مهولا- ولست أستطيع أن أقول كيف يركب الريح ويخترق به السحاب ويعلو في أجواز الفضاء. لقد قابلت اليوم لو- دزه، ولست أستطيع أن أجد له مثيلا غير التنين". ثم خرج المعلم الجديد ليؤدي رسالته، وليكون أعظم فلاسفة التاريخ أثراً.

صفحة رقم : 1122
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأقصى -> الصين -> عصر الفلاسفة -> كنفوشيوس -> الحكيم يبحث عن دولة

الفصل الثاني
كنفوشيوس
1- الحكيم يبحث عن دولة
مولده وشبابه - زواجه وطلاق زوجته - تلاميذه وطرائقه -
مظهره وأخلاقه - السيدة والنمر - تعريف الحكومة الصالحة
كنفوشيوس في منصبه - سنون التجوال - سلوى الشيخوخة
ولد كونج- فو- دزه أو كونج المعلم كما كان تلاميذ كونج- تشيو يسمونه في عام 551 ق.م في مدينة تشو- فو إحدى البلاد التي كانت تُكوّن وقتئذ مملكة لو، والتي تُكوّن الآن ولاية شان تونج.
وتصف الأقاصيص الصينية، وهي التي لا تضارعها أقاصيص أخرى في خصب خيالها، كيف أعلنت الأشباح إلى أمه الشابة مولده غير الشرعي(63)، وكيف كانت الهولات تحرسها والأرواح الإناث تعطي لها الهواء وهي تلده في أحد الكهوف. وتقول تلك الأقاصيص إنه كان له ظهر تنين، وشفتا ثور، وفم في سعة البحر(64)، وإنه ولد من أسرة هي أقدم الأسر الباقية على قيد الحياة إلى الآن لأنه (كما يؤكد علماء الأنساب الصينيون) من نسل الإمبراطور العظيم هوانج- دي، وإن له أحفاداً كثيرين، وإن نسله لم ينقطع إلى وقتنا هذا. ولقد بلغ عدد من تناسل منهم منذ مائة عام أحد عشر ألفاً من الذكور، ولا تزال البلدة التي ولد فيها حتى هذا اليوم لا يعمرها إلا نسله- أو بعبارة أدق إلا نسل ابنه الوحيد؛ ومن نسله وزير المالية في الحكومة الصينية القائمة للآن في نانكنج .
صفحة رقم : 1123

قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأقصى -> الصين -> عصر الفلاسفة -> كنفوشيوس -> الحكيم يبحث عن دولة

وكان والد كونج في السبعين من عمره حين ولد له ولده(66)، ومات حين بلغ ابنه سن الثالثة. وكان كنفوشيوس يعمل بعد الفراغ من المدرسة ليساعد على إعالة والدته، ولعله قد تعود في طفولته تلك الرزانة التي هي من خصائص كبار السن، والتي لازمته في كل خطوة خطاها طوال حياته. لكنه مع هذا وجد متسعاً من الوقت يحذق فيه الرماية والموسيقى؛ وبلغ من شدة ولعه بالموسيقى أنه كان يستمع مرة إلى لحن مطرب، فتأثر به تأثراً حمله على أن يمتنع عن أكل اللحوم، وظل بعدئذ ثلاثة أشهر لا يذوق فيها اللحم أبداً(67). ولم يكن يتفق اتفاقاً تاماً مع نيتشه في أن ثمة شيئاً من التناقض بين الفلسفة والزواج، ذلك أنه تزوج في التاسعة عشرة من عمره، ولكنه طلق زوجته وهو في الثالثة والعشرين، ويلوح أنه لم يتزوج بعدها أبداً.
ولما بلغ الثانية والعشرين من عمره بدأ يشتغل بالتعليم، واتخذ داره مدرسة له، وكان يتقاضى من تلاميذه ما يستطيعون أداءه من الرسوم مهما كانت قليلة. وكانت الموارد التي يشملها برنامجه ثلاثاً: التاريخ والشعر وآداب اللياقة. ومن أقواله: "إن أخلاق الرجل تكونها القصائد وتنميها المراسم" (أي آداب الحفلات والمجاملات) "وتعطرها الموسيقي"(68).

وكان تعليمه كتعليم سقراط شفهياً لا يلجأ فيه إلى الكتابة، ولهذا فإن أكثر ما نعرفه من أخباره قد وصل إلينا عن طريق أتباعه ومريديه، وذلك مصدر لا يوثق به. وقد ترك إلى الفلاسفة مثلاً قل أن يعبئوا به- وهو ألا يهاجموا قط غيرهم من المفكرين، وألا يضيعوا وقتهم في دحض حججهم. ولم يكن يعلم طريقة من طرائق المنطق الدقيق، ولكنه كان يشحذ عقول تلاميذه بأن يعرض بأخطائهم في رفق ويطلب إليهم شدة اليقظة العقلية. ومن أقواله في هذا المعنى: "إذا لم يكن من عادة الشخص أن يقول: ماذا أرى في هذا؟ فإني لا أستطيع أن أفعل له شيئاً"(69). وإني لا أفتح باب الحق لمن لا يحرص
صفحة رقم : 1124
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأقصى -> الصين -> عصر الفلاسفة -> كنفوشيوس -> الحكيم يبحث عن دولة

على معرفته، ولا أعين من لا يعنى بالإفصاح عما يكنه في صدره. وإذا ما عرضت ركناً من موضوع ما على إنسان، ولم يستطع مما عرضته عليه أن يعرف الثلاثة الأركان الباقية فإني لا أعيد عليه درسي"(70)، ولم يكن يشك في أن صنفين اثنين من الناس هما وحدهما اللذان لا يستطيعان أن يفيدا من تعاليمه وهما أحكم الحكماء وأغبى الأغبياء، وأن لا أحد يستطيع أن يدرس الفلسفة الإنسانية بأمانة وإخلاص دون أن تصلح دراستها من خلقه وعقله. "وليس من السهل أن نجد إنسانا واصل الدرس ثلاث سنين دون أن يصبح إنساناً صالحاً"(71).
ولم يكن له في بادئ الأمر إلا عدد قليل من التلاميذ، ولكن سرعان ما تواترت الإشاعات بأن وراء شفتي الثور والفم الواسع كالبحر قلباً رقيقاً وعقلاً يفيض بالعلم والحكمة، فألتف الناس حوله حتى استطاع في آخر أيام حياته أن يفخر بأنه قد تخرج على يديه ثلاثة آلاف شاب غادروا منزله ليشغلوا مراكز خطيرة في العالم.

وكان بعض الطلبة- وقد بلغ عددهم في وقت من الأوقات سبعين طالباً- يعيشون معه كما يعيش الطلبة الهنود المبتدئون مع مدرسيهم (الجورو)؛ ونشأت بين المدرس وتلاميذه صلات ود وثيقة دفعت هؤلاء التلاميذ في بعض الأحيان إلى الاحتجاج على أستاذهم حين رأوه يعرّض نفسه للخطر أو اسمه للمهانة. وكان رغم شدته عليهم يحب بعضهم أكثر مما يحب ابنه، ولما مات هُوِي بكى عليه حتى قرحت دموعه مآقيه. وسأله دوق جاي يوماً من الأيام أي تلاميذه أحبهم إلى المعلم فأجابه: "لقد كان أحبهم إلى العلم ين هُوِى، لقد كان يحب أن يتعلم.. ولم أسمع بعد عن إنسان يحب أن يتعلم (كما كان يحب هُوِي).. لم يقدم لي هُوِي معونة، ولم أقل قط شيئاً لم يبتهج له.. وكان إذا غضب كظم غيظه؛ وإذا أخطأ مرة لم يعد إلى خطئه. ومما يؤسف له أنه كان قصير الأجل فمات وليس له في هذا الوقت (نظير)(72). وكان الطلبة الكسالى يتحاشون
صفحة رقم : 1125
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأقصى -> الصين -> عصر الفلاسفة -> كنفوشيوس -> الحكيم يبحث عن دولة

لقاءه فإذا لقيهم قسا عليهم، وذلك لأنه لم يكن يتورع عن أن يعلم الكسول بضربة من عكازته ويطرده من حضرته دون أن تأخذه به رأفة. ومن أقواله: "ما أشقى الرجل الذي يملأ بطنه بالطعام طوال اليوم، دون أن يجهد عقله في شيء.. لا يتواضع في شبابه التواضع الخليق بالأحداث، ولا يفعل في رجولته شيئاً خليقاً بأن يأخذه عنه غيره، ثم يعيش إلى أرذل العمر- إن هذا الإنسان وباء"(73).

وما من شك في أنه كان يبدو غريب المنظر وهو واقف في حجرته أو في الطريق العام، يعلم مريديه التاريخ والشعر والآداب العامة والفلسفة، ولا يقل استعداده وهو في الطريق عن استعداده وهو في حجرته. وتمثله الصور التي رسمها له المصورون الصينيون في آخر سني حياته رجلاً ذا رأس أصلع لا تكاد تنمو عليه شعرة، قد تجعد وتعقد لكثرة ما مر به من التجارب، ووجه ينم عن الجد والرهبة ولا يشعر قط بما يصدر عن الرجل في بعض الأحيان من فكاهة، وما ينطوي عليه قلبه من رقة، وإحساس بالجمال مرهف يُذكّر المرء بأنه أمام إنسان من الآدميين رغم ما يتصف به من كمال لا يكاد يطاق، وقد وصفه في أيام كهولته الأولى مدرس له كان ممن يعلمونه الموسيقى فقال:
"لقد تبينت في جونج- تي كثيراً من دلائل الحكمة، فهو أجبه واسع العين، لا يكاد يفترق في هذين الوصفين عن هوانج- دي. وهو طويل الذراعين ذو ظهر شبيه بظهر السلحفاة، ويبلغ طول قامته تسع أقدام (صينية) وست بوصات.. وإذا تكلم أثنى على الملوك الأقدمين، وهو يسلك سبيل التواضع والمجاملة؛ وما من موضوع إلا سمع به، قوي الذاكرة لا ينسى ما يسمع؛ ذو علم بالأشياء لا يكاد ينفد. ألسنا نجد فيه حكيماً ناشئاً؟"(74).
وتعزو إليه الأقاصيص "تسعاً وأربعين صفة عجيبة من صفات الجسم يمتاز بها عن غيره من الناس". ولما فرّقت بعض الحوادث بينه وبين مريديه في أثناء
صفحة رقم : 1126
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأقصى -> الصين -> عصر الفلاسفة -> كنفوشيوس -> الحكيم يبحث عن دولة

تجواله، عرفوا مكانه على الفور من قصة قصها عليهم أحد المسافرين، قال إنه التقى برجل بشع الخلقة "ذي منظر كئيب شبيه بمنظر الكلب الضال". ولما أعاد هذا القول على مسامع كنفوشيوس ضحك منه كثيراً ولم يزد على أن قال: "عظيم!عظيم!"(75).

وكان كنفوشيوس معلماً من الطراز القديم يعتقد أن التنائي عن تلاميذه وعدم الاختلاط بهم ضروريان لنجاح التعليم. وكان شديد المراعاة للمراسم، وكانت قواعد الآداب والمجاملة طعامه وشرابه، وكان يبذل ما في وسعه للحد من قوة الغرائز والشهوات وكبح جماحها بعقيدته المتزمتة الصارمة. ويلوح أنه كان يزكي نفسه في بعض الأحيان. ويروى عنه أنه قال عن نفسه يوماً من الأيام مقالة فيها بعض التواضع- "قد يوجد في كفر من عشر أسر رجل في مثل نبلي وإخلاصي، ولكنه لن يكون مولعاً بالعلم مثلي"(76). وقال مرة أخرى "قد أكون في الأدب مساوياً لغيري من الناس، ولكن (خلق) الرجل الأعلى الذي لا يختلف قوله عن فعله هو ما لم أصل إليه بعد(77) "لو وجد من الأمراء من يوليني عملاً لقمت في اثني عشر شهراً بأعمال جليلة، ولبلغت (الحكومة) درجة الكمال في ثلاث سنين"(78). على أننا نستطيع أن نقول بوجه عام إنه كان متواضعا في عظمته. ويؤكد لنا تلاميذه أن "المعلم كان مبرأ من أربعة عيوب؛ كان لا يجادل وفي عقله حكم سابق مقرر، ولا يتحكم في الناس ويفرض عليهم عقائده، ولم يكن عنيداً ولا أنانياً"(79). وكان يصف نفسه بأنه "ناقل غير منشىء"(80). وكان يدعي أن كل ما يفعله هو أن ينقل إلى الناس ما تعلمه من الإمبراطورين العظيمين يو وشون. وكان شديد الرغبة في حسن السمعة والمناصب الرفيعة، ولكنه لم يكن يقبل أن يتراضى على شيء مشين ليحصل عليهما أو يستبقيهما. وكم من مرة رفض منصباً رفيعاً عرضه عليه رجال بدا له أن حكومتهم ظالمة. وكان مما نصح به تلاميذه أن من واجب الإنسان أن يقول:
صفحة رقم : 1127
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأقصى -> الصين -> عصر الفلاسفة -> كنفوشيوس -> الحكيم يبحث عن دولة

"لست أبالي مطلقاً إذا لم أشغل منصباً كبيراً، وإنما الذي أعنى به أن أجعل نفسي خليقاً بذلك المنصب الكبير. وليس يهمني قط أن الناس لا يعرفونني؛ ولكنني أعمل على أن أكون خليقاً بأن يعرفني الناس"(81).
وكان من بين تلاميذه أبناء هانج هِي، أحد وزراء دوق لو، وقد وصل كنفوشيوس عن طريقهم إلى بلاط ملوك جو في لو- يانج، ولكنه ظل بعيداً بعض البعد عن موظفي البلاط، وآثر على الاقتراب منهم زيارة الحكيم لو- دزه وهو على فراش الموت كما سبق القول. فلما عاد إلى لو وجدها مضطربة ممزقة الأوصال بما قام فيها من نزاع وشقاق، فانتقل منها إلى ولاية تشي المجاورة لها ومعه طائفة من تلاميذه مخترقين في طريقهم إليها مسالك جبلية وعرة مهجورة. ولشد ما كانت دهشتهم حين أبصروا في هذه القفار عجوزا تبكي بجوار أحد القبور. فأرسل إليها كنفوشيوس تسه- لو يسألها عن سبب بكائها وحزنها، فأجابته قائلة: "إن والد زوجي قد فتك به نمر في هذا المكان، ثم ثنى النمر بزوجي، وهاهو ذا ولدي قد لاقى هذا المصير نفسه". ولما سألها كنفوشيوس عن سبب إصرارها على الإقامة في هذا المكان الخطر، أجابته قائلة: "ليس في هذا المكان حكومة ظالمة". فالتفت كنفوشيوس إلى طلابه وقال لهم: "أي أبنائي اذكروا قولها هذا؛ إن الحكومة الظالمة أشد وحشية من النمر"(82).
ومثل كنفوشيوس بين يدي دوق تشي وسرّ الدوق من جوابه حين سأله عن ماهية الحكومة الصالحة: "توجد الحكومة الصالحة حيث يكون الأمير أميراً، والوزير وزيراً، والأب أباً والابن ابناً"، وعرض عليه الدوق نظير تأييده إياه خراج مدينة لن -شيو، ولكن كنفوشيوس رفض الهبة وأجابه بأنه لم يفعل شيئاً يستحق عليه هذا الجزاء. وأراد الدوق أن يحتفظ به في بلاطه وأن يجعله مستشاراً له، ولكن جان ينج كبير وزرائه أقنعه بالعدول عن رأيه وقال له: "إن هؤلاء العلماء رجال غير عمليين لا يستطاع تقليدهم؛ وهم متغطرسون مغرورون
صفحة رقم : 1128

قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأقصى -> الصين -> عصر الفلاسفة -> كنفوشيوس -> الحكيم يبحث عن دولة

بآرائهم، لا يقنعون بما يعطى لهم من مراكز متواضعة.. وللسيد كونج هذا من الخصائص ما يبلغ الألف عداً.. ولو أردنا أن نلم بكل ما يعرفه عن مراسم الصعود والنزول لتطلب منا ذلك أجيالاً طوالاً"(84). ولم يثمر هذا اللقاء ثمرة ما، وعاد كنفوشيوس على أثره إلى لو وظل يعلم تلاميذه فيها خمسة عشر عاماً أخرى قبل أن يستدعى ليتولى منصباً عاماً في الدولة.
وواتته الفرصة حين عُيّن في أواخر القرن السادس قبل الميلاد كبير القضاة في مدينة جونج- دو. وتقول الرواية الصينية إن المدينة في أيامه قد اجتاحتها موجة جارفة من الشرف والأمانة، فكان إذا سقط شيء في الطريق بقي حيث هو أو أعيد إلى صاحبه(85). ولما رقاه الدوق دنج دوق لو إلى منصب نائب وزير الأشغال العامة شرع في مسح أرض الدولة وأدخل إصلاحات جمة في الشئون الزراعية، ويقال أنه لما رقي بعدئذ وزير للجرائم كان مجرد وجوده في هذا المنصب كافياً لقطع دابر الجريمة. وفي ذلك تقول السجلات الصينية: "لقد استحت الخيانة واستحى الفساد أن يطلاّ برأسيهما واختفيا، وأصبح الوفاء والإخلاص شيمة الرجال، كما أصبح العفاف ودماثة الخلق شيمة النساء. وجاء الأجانب زرافات من الولايات الأخرى، وأصبح كنفوشيوس معبود الشعب"(86).

إن في هذا الإطراء من المبالغة ما يجعله موضع الشك؛ وسواء كان خليقاً به أو لم يكن فإنه كان أرقى من أن يعمر طويلاً. وما من شك في أن المجرمين قد أخذوا يأتمرون بالمعلم الكبير ويدبرون المكائد للإيقاع به. ويقول المؤرخ الصيني: إن الولايات القريبة من "لو" دب فيها دبيب الحسد وخشيت على نفسها من قوة "لو" الناهضة. ودبّر وزير ماكر من وزراء تشي مكيدة ليفرق بها بين دوق "لو" وكنفوشيوس، فأشار على دوق تشي بأن يبعث إلى تنج بسرب من حسان "الفتيات المغنيات" وبمائة وعشرين جواداً تفوق الفتيات جمالاً.
صفحة رقم : 1129
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأقصى -> الصين -> عصر الفلاسفة -> كنفوشيوس -> الحكيم يبحث عن دولة

وأسرت البنات والخيل قلب الدوق فغفل عن نصيحة كنفوشيوس (وكان قد علمه أن المبدأ الأول من مبادئ الحكم الصالح هو القدوة الصالحة)، فأعرض عن وزرائه وأهمل شئون الدولة إهمالاً معيباً. وقال دزه- لو لكنفوشيوس: "أيها المعلم لقد آن لك أن ترحل". واستقال كنفوشيوس من منصبه وهو كاره، وغادر لو، وبدأ عهد تجوال وتشرد دام ثلاثة عشر عاماً. وقال فيما بعد "إنه لم ير قط إنساناً يحب الفضيلة بقدر ما يحب الجمال"(87). والحق أن من أغلاط الطبيعة التي لا تغتفر لها أن الفضيلة والجمال كثيراً ما يأتيان منفصلين لا مجتمعين.
وأصبح المعلم وعدد قليل من مريديه المخلصين مغضوباً عليهم في وطنهم، فأخذوا يتنقلون من إقليم إلى إقليم، يلقون في بعضها مجاملة وترحاباً، ويتعرضون في بعضها الآخر لضروب من الحرمان والأذى. وهاجمهم الرعاع مرتين، وكادوا في يوم من الأيام يموتون جوعاً، وبرّح بهم ألم الجوع حتى شرع تْزَه- لو نفسه يتذمر ويقول إن حالهم لا تليق "بالإنسان الراقي". وعرض دوق وى على كنفوشيوس أن يوليه رياسة حكومته، ولكن كنفوشيوس رفض هذا العرض، لأنه لم تعجبه مبادئ الدوق(88).

وبينما كانت هذه الفئة الصغيرة في يوم من الأيام تجوس خلال تشي إذ التقت بشيخين عافت نفسهما مفاسد ذلك العهد، فاعتزلا الشئون العامة كما اعتزلها لو -دزه، وآثرا عليها الحياة الزراعية البعيدة عن جلبة الحياة العامة. وعرف أحد الشيخين كنفوشيوس، ولام تْزَه- لو، على سيره في ركابه، وقال له: "إن الاضطراب يجتاح البلاد اجتياح السيل الجارف، ومن ذا الذي يستطيع أن يبدل لكم هذه الحال؟ أليس خيراً لكم أن تتبعوا أولئك الذين يعتزلون العالم كله، بدل أن تتبعوا ذلك الذي يخرج من ولاية إلى ولاية؟"(89). وفكر كنفوشيوس في هذا اللوم طويلاً ولكنه لم يفقد رجاءه في أن تتيح له ولاية من الولايات فرصة يتزعم فيها حركة الإصلاح والسلم.
صفحة رقم : 1130
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأقصى -> الصين -> عصر الفلاسفة -> كنفوشيوس -> الحكيم يبحث عن دولة

ولما بلغ كنفوشيوس التاسعة والستين من عمره جلس دوق جيه آخر الأمر على عرش لو وأرسل ثلاثة من موظفيه إلى الفيلسوف يحملون إليه ما يليق من الهدايا بمقامه العظيم، ويدعونه أن يعود إلى موطنه. وقضى كنفوشيوس الأعوام الخمسة الباقية من حياته يعيش معيشة بسيطة معززاً مكرماً، وكثيرا ما كان يتردد عليه زعماء لو يستنصحونه، ولكنه أحسن كل الإحسان بأن قضى معظم وقته في عزلة أدبية منصرفاً إلى أنسب الأعمال وأحبها إليه وهو نشر روائع الكتب الصينية وكتابة تاريخ الصينيين. ولما سأل دوق شي تْزَه- لو عن أستاذه ولم يجبه هذا عن سؤاله، وبلغ ذلك الخبر مسامع كنفوشيوس، قال له: " لِمَ لم تجبه بأنه ليس إلا رجلاً ينسيه حرصه على طلب العلم الطعام والشراب، وتنسيه لذة (طلبه) أحزانه، وبأنه لا يدرك أن الشيخوخة مقبلة عليه"(90) وكان يسلي نفسه في وحدته بالشعر والفلسفة، ويسره أن غرائزه تتفق وقتئذ مع عقله، ومن أقواله في ذلك الوقت: "لقد كنت في الخامسة عشرة من عمري مكباً على العلم، وفي الثلاثين وقفت ثابتاً لا أتزعزع، وفي سن الأربعين زالت عني شكوكي، وفي الخمسين من عمري عرفت أوامر السماء، وفي الستين كانت أذني عضواً طيعاً لتلك الحقيقة، وفي السبعين كان في وسعي أن أطيع ما يهواه قلبي دون أن يؤدي بي ذلك إلى تنكب طريق الصواب والعدل(91).
ومات كنفوشيوس في الثانية والسبعين من عمره، وسمعه بعضهم يوماً من الأيام يغني في الصباح الباكر تلك الأغنية الحزينة:
سيدك الجبل الشاهق دكا،
وتتحطم الكتلة القوية،
ويذبل الرجل الحكيم كما يذبل النبات.
ولما أقبل عليه تلميذه تْزَه- كونج قال له: "لن يقوم في البلاد ملك
صفحة رقم : 1131
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأقصى -> الصين -> عصر الفلاسفة -> كنفوشيوس -> الحكيم يبحث عن دولة

ذكي أريب؛ وليس في الإمبراطورية رجل يستطيع أن يتخذني معلماً له. لقد تصرم أجلي وحان يومي"(92).

ثم آوى إلى فراشه ومات بعد سبعة أيام من ذلك اليوم. وواراه تلاميذه التراب باحتفال مهيب جدير بما تنطوي عليه قلوبهم من حب له وجلال، وأحاطوا قبره بأكواخ لهم أقاموا فيها ثلاث سنين يبكونه كما يبكي الأبناء آباءهم. وبعد أن مضت هذه المدة غادروا جميعا أكواخهم إلاّ تْزَه- كونج، وكان حبه إياه يفوق حبهم جميعاً، فبقي بجوار قبر أستاذه ثلاث سنين أخرى واجماً حزيناً تتشعبه الهموم(93).

صفحة رقم : 1132
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأقصى -> الصين -> عصر الفلاسفة -> كنفوشيوس -> الكتب التسعة

2- الكتب التسعة
وترك كنفوشيوس وراءه خمسة مجلدات يلوح أنه كتبها أو أعدها للنشر بيده هو نفسه، ولذلك أصبحت تعرف في الصين باسم "الجنحات الخمسة" أو "كتب القانون الخمسة". وكان أول ما كتبه منها هو اللي- جي أو سجل المراسم، لاعتقاده أن هذه القواعد القديمة من آداب اللياقة من الأسس الدقيقة التي لا بد منها لتكوين الأخلاق ونضجها، واستقرار النظام الاجتماعي والسلام.
ثم كتب بعدئذ ذيولاً وتعليقات على كتاب إلاي- جنج أو كتاب التغيرات، وكان يرى أن هذا الكتاب خير ما أهدته الصين إلى ذلك الميدان الغامض ميدان علم ما وراء الطبيعة الذي كان جد حريص على ألا يلج بابه في فلسفته. ثم اختار ورتب الشي- جنج أو كتاب الأناشيد ليشرح فيه كنه الحياة البشرية ومبادئ الأخلاق الفاضلة. وكتب بعد ذلك التشو- شيو أو حوليات الربيع والخريف، وقد سجل فيه تسجيلاً موجزاً خالياً من التنميق أهم ما وقع من الأحداث في "لو" موطنه الأصلي. وكان خامس أعماله
صفحة رقم : 1133
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأقصى -> الصين -> عصر الفلاسفة -> كنفوشيوس -> الكتب التسعة

الأدبية وأعظمها نفعا أنه أراد أن يوحي إلى تلاميذه أشرف العواطف وأنبل الصفات فجمع في الشو- جنج أي كتاب التاريخ أهم وأرقى ما وجده في حكم الملوك الأولين من الحوادث أو الأقاصيص التي تسمو بها الأخلاق وتشرف الطباع، وذلك حين كانت الصين إمبراطورية موحدة إلى حد ما وحين كان زعماؤها، كما يظن كنفوشيوس، أبطالاً يعملون في غير أنانية لتمدين الشعب ورفع مستواه.
ولم يكن وهو يعمل في هذه الكتب يرى أن وظيفته هي وظيفة المؤرخ بل كان فيها كلها معلماً ومهذباً للشباب، ومن أجل هذا اختار عن قصد من أحداث الماضي ما رآه ملهماً لتلاميذه لا موئساً لهم.
فإذا ما عمدنا إلى هذه المجلدات لنستقي منها تاريخاً علمياً نزيها لبلاد الصين فإنا بهذا العمل نظلم كنفوشيوس أشد الظلم. فقد أضاف إلى الحوادث الواقعية خطباً وقصصاً من عنده، صب فيها أكثر ما يستطيع من الحض على الأخلاق الكريمة والإعجاب بالحكمة. وإذا كان قد جعل ماضي بلاده مثلاً أعلى بين ماضي الشعوب، فإنه لم يفعل أكثر مما نفعله نحن%= يريد الأمريكيين. بماضينا الذي لا يعدل ماضي الصين في قدمه. وإذا كان رؤساء جمهوريتنا الأولون قد أضحوا حكماء وقديسين، ولما يمض عليهم أكثر من قرن أو قرنين من الزمان، فإنهم سيكونون بلا شك في نظر المؤرخ الذي يُحَدّث عنهم بعد ألف عام من هذه الأيام مثلاً علياً للفضيلة والكمال شأنهم في هذا شأن يو وشون.
ويضيف الصينيون إلى هذه الجنحات الخمسة أربع شوءات أو "كتب" (كتب الفلاسفة) يتكون منها كلها "التسعة الكتب القديمة". وأول هذه الكتب وأهمها جميعاً كتاب لوق بو أو الأحاديث والمحاورات المعروف عند
صفحة رقم : 1134
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأقصى -> الصين -> عصر الفلاسفة -> كنفوشيوس -> الكتب التسعة

قُرَّاء اللغة الإنجليزية باسم "مجموعة الشذرات" أي شذرات كنفوشيوس، كما سماه "لج Legge" في إحدى نزواته، وليست تلك الكتب مما خطه قلم المعلم الكبير، ولكنها تسجل في إيجاز ووضوح منقطعي النظير آراءه وأقواله كما يذكرها أتباعه. وقد جمعت كلها بعد بضع عشرات السنين من وفاته، ولعل الذين جمعوها هم مريدو مريديه(94)، وهي أقل ما يرتاب فيه من آرائه الفلسفية. وأكثر ما في الكتب الصينية القديمة طرافة وأعظمها تهذيباً ما جاء في الفقرتين الرابعة والخامسة من الشو الثاني، وهو المؤلف المعروف عند الصينيين باسم الداشوه أو التعليم الأكبر. ويعزو الفيلسوف والناشر الكنفوشي جوشي هاتين الفقرتين إلى كنفوشيوس نفسه كما يعزو باقي الرسالة إلى دزنج- تسان أحد أتباعه الصغار السن. أما كايا- كويه العالم الصيني الذي عاش في القرن الأول بعد الميلاد فيعزوهما إلى كونج جي حفيد كنفوشيوس؛ على حين أن علماء اليوم المتشككين يجمعون على أن مؤلفهما غير معروف(95). والعلماء كلهم متفقون على أن حفيده هذا هو مؤلف كتاب جونج يونج أو عقيدة الوسط وهو الكتاب الفلسفي الثالث من كتب الصين. وآخر هذه الشوءات هو كتاب منشيس الذي سنتحدث عنه توّاً. وهذا الكتاب هو خاتمة الآداب الصينية القديمة وإن لم يكن خاتمة العهد القديم للفكر الصيني. وسنرى فيما بعد أنه خرج على فلسفة كنفوشيوس التي تعد آية في الجمود والمحافظة على القديم متمردون عليها وكفرة بها ذوو مشارب وآراء متعددة متباينة.

صفحة رقم : 1135
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأقصى -> الصين -> عصر الفلاسفة -> كنفوشيوس -> لا أدرية كنفوشيوس

3- لا أدرية كنفوشيوس
هتامة في المنطق - الفلاسفة والصبيان - دستور للحكمة

فلنحاول أن نكون منصفين في حكمنا على هذه العقيدة. ولنقرّ بأنها ستكون نظرتنا إلى الحياة حين يجاوز الواحد منا الخمسين من عمره، ومبلغ علمنا أنها قد تكون أكثر انطباقاً على مقتضيات العقل والحكمة من شعر شبابنا. وإذا كنا نحن ضالين وشباناً فإنها هي الفلسفة التي يجب أن نقرن بها فلسفتنا نحن، لكي ينشأ مما لدينا من أنصاف الحقائق شئ يمكن فهمه وإدراكه.
ولا يظن القارئ أنه سيجد في لا أدرية كنفوشيوس نظاماً فلسفياً- أي بناء منسقاً من علوم المنطق وما وراء الطبيعة والأخلاق والسياسة تسري فيه كله فكرة واحدة شاملة (فتحيله أشبه بقصور نبوخذ ناصر (بختنصّر) التي نقش اسمه على كل حجر من حجارتها).
لقد كان كنفوشيوس يعلّم أتباعه فن الاستدلال، ولكنه لم يكن يعلمهم إياه بطريق القواعد أو القياس المنطقي، بل بتسليط عقله القوي تسليطاً دائماً على آراء تلاميذه؛ ولهذا فإنهم كانوا إذا غادروا مدرسته لا يعرفون شيئاً عن المنطق ولكن كان في وسعهم أن يفكروا تفكيراً واضحاً دقيقاً.
وكان أول الدروس، التي يلقيها عليهم المعلم، الوضوح والأمانة في التفكير والتعبير، وفي ذلك يقول: "كل ما يقصد من الكلام أن يكون مفهوما"(96)- وهو درس لا تذكره الفلسفة في جميع الأحوال. "فإذا عرفت شيئاً فتمسك بأنك تعرفه؛ وإذا لم تعرفه؛ فأقرّ بأنك لا تعرفه- وذلك في حد ذاته معرفة"(97). وكان يرى أن غموض الأفكار، وعدم الدقة في التعبير، وعدم الإخلاص فيه، من الكوارث الوطنية القومية. فإذا كان الأمير الذي ليس أميراً بحق والذي لا يستمتع بسلطان الإمارة لا يسميه الناس أميراً، وإذا كان
صفحة رقم : 1136
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأقصى -> الصين -> عصر الفلاسفة -> كنفوشيوس -> لا أدرية كنفوشيوس

الأب الذي لا يتصف بصفات الأبوة لا يسميه الناس أباً، وإذا كان الابن العاق لا يسميه الناس ابناً؛ إذا كان هذا كله فإن الناس قد يجدون في "تزه- لو" ما يحفزهم إلى إصلاح تلك العيوب التي طالما غطتها الألفاظ. ولهذا فإنه لما قال لكنفوشيوس: "إن أمير ويه في انتظارك لكي تشترك معه في حكم البلاد فما هو في رأيك أول شيء ينبغي عمله؟ فأجابه كنفوشيوس جوابا دهش له الأمير والتلميذ: "إن الذي لا بد منه أن تصحح الأسماء"(98).
ولما كانت النزعة المسيطرة على كنفوشيوس هي تطبيق مبادئ الفلسفة على السلوك وعلى الحكم فقد كان يتجنب البحث فيما وراء الطبيعة، ويحاول أن يصرف عقول أتباعه عن كل الأمور الغامضة أو الأمور السماوية. صحيح أن ذكر "السماء" والصلاة(99) كان َيرِدْ على لسانه أحياناً، وأنه كان ينصح أتباعه بألا يغفلوا عن الطقوس والمراسم التقليدية في عبادة الأسلاف والقرابين القومية(100)، ولكنه كان إذا وجه إليه سؤال في أمور الدين أجاب إجابة سلبية جعلت شرّاح آرائه المحدثين يجمعون على أن يضموه إلى طائفة اللا أدريين(101). فلما أن سأله تزه- كونج، مثلا: "هل لدى الأموات علم بشيء أو هل هم بغير علم؟" أبى أن يجيب جواباً صريحاً(102). ولما سأله كي -لو، عن "خدمة الأرواح" (أرواح الموتى) أجابه "إذا كنت عاجزاً عن خدمة الناس فكيف تستطيع أن تخدم أرواحهم؟". وسأله كي- لو: "هل أجرؤ على أن أسألك عن الموت؟" فأجابه: "إذا كنت لا تعرف الحياة، فكيف يتسنى لك أن تعرف شيئاً عن الموت"(103). ولما سأله فارشي عن "ماهية الحكمة" قال له: "إذا حرصت على أداء واجبك نحو الناس، وبعدت كل البعد عن الكائنات الروحية مع احترامك إياها أمكن أن تسمي هذه حكمة"(104).
ويقول لنا تلاميذه إن "الموضوعات التي لم يكن المعلم يخوض فيها هي الأشياء
صفحة رقم : 1137
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأقصى -> الصين -> عصر الفلاسفة -> كنفوشيوس -> لا أدرية كنفوشيوس

الغريبة غير المألوفة، وأعمال القوة، والاضطراب، والكائنات الروحية"(105). وكان هذا التواضع الفلسفي يقلق بالهم، وما من شك في أنهم كانوا يتمنون أن يحل لهم معلمهم مشاكل السموات ويطلعهم على أسرارها. ويقص علينا كتاب- لياتزه وهو مغتبط قصة غلمان الشوارع الذين أخذوا يسخرون من كنفوشيوس حين أقر لهم بعجزه عن هذا السؤال السهل وهو: "هل الشمس أقرب إلى الأرض في الصباح حين تبدو أكبر ما تكون، أو في منتصف النهار حين تشتد حرارتها"(106). وكل ما كان كنفوشيوس يرضى أن يقره من البحوث فيما وراء الطبيعة هو البحث عما بين الظواهر المختلفة جميعهاً من وحدة، وبذل الجهد لمعرفة ما يوجد من تناغم وانسجام بين قواعد السلوك الحسن واطراد النظم الطبيعية.
وقال مرة لأحد المقربين إليه: "أظنك يا تزه تعتقد أني من أولئك الذين يحفظون أشياء كثيرة ويستبقونها في ذاكرتهم؟" فأجابه تزه- كونج بقوله: "نعم أظن ذلك ولكني قد أكون مخطئاً في ظني؟" فرد عليه الفيلسوف قائلا "لا، إني أبحث عن الوحدة، الوحدة الشاملة"(107) وذلك بلا ريب هو جوهر الفلسفة.
وكانت الأخلاق مطلبه وهمه الأول، وكان يرى أن الفوضى التي تسود عصره فوضى خلقية، لعلها نشأت من ضعف الإيمان القديم وانتشار الشك السفسطائي في ماهية الصواب والخطأ. ولم يكن علاجها في رأيه هو العودة إلى العقائد القديمة، وإنما علاجها هو البحث الجدي عن معرفة أتم من المعرفة السابقة وتجديد أخلاقي قائم على تنظيم حياة الأسرة على أساس صالح قويم. والفقرتان الآتيتان المنقولتان عن كتاب التعليم الأكبر تعبران أصدق تعبير وأعمقه عن المنهج الفلسفي الكنفوشي.
"إن القدامى الذين أرادوا أن ينشروا أرقى الفضائل في أنحاء الإمبراطورية
صفحة رقم : 1138
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأقصى -> الصين -> عصر الفلاسفة -> كنفوشيوس -> لا أدرية كنفوشيوس

قد بدءوا بتنظيم ولاياتهم أحسن تنظيم، ولما أرادوا أن يحسنوا تنظيم ولاياتهم بدءوا بتنظيم أسرهم، ولما أرادوا تنظيم أسرهم بدءوا بتهذيب نفوسهم؛ ولما أرادوا أن يهذبوا نفوسهم بدءوا بتطهير قلوبهم، ولما أرادوا أن يطهروا قلوبهم عملوا أولاً على أن يكونوا مخلصين في تفكيرهم؛ ولما أرادوا أن يكونوا مخلصين في تفكيرهم بدءوا بتوسيع دائرة معارفهم إلى أبعد حد مستطاع، وهذا التوسع في المعارف لا يكون إلا بالبحث عن حقائق الأشياء.
فلما أن بحثوا عن حقائق الأشياء أصبح علمهم كاملاً، ولما كمل علمهم خلصت أفكارهم، فلما خلصت أفكارهم تطهرت قلوبهم، ولما تطهرت قلوبهم، تهذبت نفوسهم، ولما تهذبت نفوسهم انتظمت شئون أسرهم، ولما انتظمت شئون أسرهم صلح حكم ولاياتهم؛ ولما صلح حكم ولاياتهم أضحت الإمبراطورية كلها هادئة سعيدة(108).
تلك هي مادة الفلسفة الكنفوشية، وهذا هو طابعها، وفي وسع الإنسان أن ينسى كل ما عدا هذه الألفاظ من أقوال المعلم وأتباعه، وأن يحتفظ بهذه المعاني التي هي "جوهر الفلسفة وقوامها" وأكمل مرشد للحياة الإنسانية. ويقول كنفوشيوس "إن العالم في حرب لأن الدول التي يتألف منها فاسدة الحكم؛ والسبب في فساد حكمها أن الشرائع الوضعية مهما كثرت لا تستطيع أن تحل محل النظام الاجتماعي الطبيعي الذي تهيئه الأسرة. والأسرة مختلة عاجزة عن تهيئة هذا النظام الاجتماعي الطبيعي، لأن الناس ينسون أنهم لا يستطيعون تنظيم أسرهم من غير أن يُقوّموا نفوسهم وهم يعجزون عن أن يقوموا أنفسهم لأنهم لم يطهروا قلوبهم أي أنهم لم يطهروا نفوسهم من الشهوات الفاسدة الدنيئة؛ وقلوبهم غير طاهرة لأنهم غير مخلصين في تفكيرهم، لا يقدرون الحقائق قدرها ويخفون طبائعهم بدل أن يكشفوا عنها؛ وهم لا يخلصون في تفكيرهم لأن أهواءهم تشوه الحقائق وتحدد لهم النتائج بدل أن يعملوا على توسيع معارفهم إلى أقصى حد مستطاع
صفحة رقم : 1139

قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأقصى -> الصين -> عصر الفلاسفة -> كنفوشيوس -> لا أدرية كنفوشيوس

ببحث طبائع الأشياء بحثاً منزهاً عن الأهواء. فليسع الناس إلى المعارف المنزهة عن الهوى يخلصوا في تفكيرهم، وليخلصوا في تفكيرهم تتطهر قلوبهم من الشهوات الفاسدة؛ ولتطهر قلوبهم على هذه الصورة تصلح نفوسهم؛ ولتصلح نفوسهم تصلح من نفسها أحوال أسرهم؛ وليس الذي تصلح به هذه الأسر هو المواعظ التي تحث على الفضيلة أو العقاب الشديد الرادع، بل الذي يصلحها هو، ما للقدوة الحسنة من قوة صامتة؛ ولتنظم شئون الأسرة عن طريق المعرفة والإخلاص والقدوة الصالحة، يتهيأ للبلاد من تلقاء نفسه نظام اجتماعي يتيسر معه قيام حكم صالح.
ولتحافظ الدولة على الهدوء في أرضها والعدالة في جميع أرجائها يسد السلام العالم بأجمعه ويسعد جميع من فيه- تلك نصيحة تدعو إلى الكمال المطلق وتنسى أن الإنسان حيوان مفترس؛ ولكنها كالمسيحية تحدد لنا هدفاً نسعى لندركه وسلماً نرقاه لنصل به إلى هذا الهدف. وما من شك في أن في هذه النصوص قواعد فلسفية ذهبية.

صفحة رقم : 1140
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأقصى -> الصين -> عصر الفلاسفة -> كنفوشيوس -> طريقة الرجل الأعلى

4- طريقة الرجل الأعلى
صورة أخرى من صور الحكيم - عناصر الأخلاق - القاعدة الذهبية

وإذن فالحكمة تبدأ في البيت، وأساس المجتمع هو الفرد المنظم في الأسرة المنتظمة، وكان كنفوشيوس يتفق مع جوته في أن الرُقيّ الذاتي أساس الرُقيّ الاجتماعي؛ ولما سأله تزه- لو "ما الذي يكون الرجل الأعلى؟" أجابه بقوله "أن يثقف نفسه بعناية ممزوجة بالاحترام"(109). ونحن نراه في مواضع متفرقة من محاوراته يرسم صورة الرجل المثالي كما يراه هو جزءاً جزءاً- والرجل المثالي في اعتقاده هو الذي تجتمع فيه الفلسفة والقداسة فيتكون منهما الحكيم. والإنسان الكامل الأسمى في رأي كنفوشيوس يتكون من فضائل ثلاث كان كل من سقراط ونيتشه والمسيح يرى الكمال كل الكمال في كل واحدة منها بمفردها؛
صفحة رقم : 1141
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأقصى -> الصين -> عصر الفلاسفة -> كنفوشيوس -> طريقة الرجل الأعلى

وتلك هي الذكاء والشجاعة وحب الخير. وفي ذلك يقول: "الرجل الأعلى يخشى ألا يصل إلى الحقيقة، وهو لا يخشى أن يصيبه الفقر.. وهو واسع الفكر غير متشيع إلى فئة.. وهو يحرص على ألا يكون فيما يقوله شئ غير صحيح"(110).
ولكنه ليس رجلاً ذكياً وحسب، وليس طالب علم ومحباً للمعرفة وكفى، بل هو ذو خلق وذو ذكاء. "فإذا غلبت فيه الصفات الجسمية على ثقافته وتهذيبه كان جلفاً، وإذا غلبت فيه الثقافة والتهذيب على الصفات الجسمية تمثلت فيه أخلاق الكتبة؛ أما إذا تساوت فيه صفات الجسم والثقافة والتهذيب وامتزجت هذه بتلك كان لنا منه الرجل الكامل الفضيلة"(111). فالذكاء هو الذهن الذي يضع قدميه على الأرض.
وقوام الأخلاق الصالحة هو الإخلاص، "وليس الإخلاص الكامل وحده هو الذي يميز الرجل الأعلى"(112) "إنه يعمل قبل أن يتكلم، ثم يتكلم بعدئذ وفق ما عمل"(113) "ولدينا في فن الرماية ما يشبه طريقة الرجل الأعلى. ذلك أن الرامي إذا لم يصب مركز الهدف رجع إلى نفسه ليبحث فيها عن سبب عجزه"(114).

"إن الذي يبحث عنه الرجل الأعلى هو ما في نفسه؛ أما الرجل المنحط فيبحث عما في غيره.. والرجل الأعلى يحزنه نقص كفايته، ولا يحزنه.. ألا يعرفه الناس"، ولكنه مع ذلك "يكره أن يفكر في ألاّ يذكر اسمه بعد موته"(115) وهو متواضع في حديثه ولكنه متفوق في أعماله.. قل أن يتكلم، فإذا تكلم لم يشك قط في أنه سيصيب هدفه.. والشيء الوحيد الذي لا يدانى فيه الرجل الأعلى هو عمله الذي لا يستطيع غيره من الناس أن يراه"(116). وهو معتدل في قوله وفعله "والرجل الأعلى يلتزم الطريق الوسط"(117) في كل شيء؛ ذلك أن "الأشياء التي يتأثر بها الإنسان كثيرة لا حصر لها؛ وإذا لم يكن
صفحة رقم : 1142
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأقصى -> الصين -> عصر الفلاسفة -> كنفوشيوس -> طريقة الرجل الأعلى

ما يحب وما يكره خاضعين للسنن والقواعد تبدلت طبيعته إلى طبيعة الأشياء التي تعرض له" "والرجل الأعلى يتحرك بحيث تكون حركاته في جميع الأجيال طريقاً عاماً؛ ويكون سلوكه بحيث تتخذه جميع الأجيال قانوناً عاماً، ويتكلم بحيث تكون ألفاظه في جميع الأجيال مقاييس عامة لقيم الألفاظ" وهو يستمسك أشد الاستمساك بالقاعدة الذهبية التي نص عليها هنا صراحة قبل هِلِل بأربعة قرون وقبل المسيح بخمسة: "فقد سأل جونج- جونج المعلم عن الفضيلة الكاملة فكان جوابه.. الفضيلة الكاملة ألا تفعل بغيرك ما لا تحب أن يفعل بك"(122). وهذا المبدأ يتكرر مراراً وهو دائماً يتكرر في صيغة النفي، وقد ذكر مرة في كلمة واحدة. ذلك أن تزه- جونج سأله مرة: أليس ثمة كلمة واحدة يستطيع الإنسان أن يتخذها قاعدة يسير عليها طوال حياته؟ فأجابه المعلم: أليست هذه الكلمة هي المبادلة؟"(123)، ولكنه لم يكن يرغب فيما يرغب فيه لوَ دْزَه وهو أن يقابل الشر بالخير، فلما أن سأله أحد تلاميذه: "ما قولك في المبدأ القائل بأن الإساءة يجب أن تجزى بالإحسان؟" أجاب بحدة لم يألفها تلاميذه منه: "وبأي شيء إذن تجزي الإحسان؟ لتكن العدالة جزاء الإساءة، وليكن الإحسان جزاء الإحسان"(124).
وكان يرى أن القاعدة الأساسية التي تقوم عليها أخلاق الرجل الأعلى هي العطف الفياض على الناس جميعاً. والرجل الأعلى لا يغضبه أن يسمو غيره من الناس، فإذا رأى أفاضل الناس فكر في أن يكون مثلهم؛ وإذا رأى سفلة الناس عاد إلى نفسه يتقصى حقيقة أمره"(124أ)؟ ذلك أنه قلما توجد أخطاء لا نشترك
صفحة رقم : 1143
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأقصى -> الصين -> عصر الفلاسفة -> كنفوشيوس -> طريقة الرجل الأعلى

فيها مع جيراننا. وهو لا يبالي أن يفتري عليه الناس أو يسلقوه بألسنة حداد(124ب)، مجامل بشوش لجميع الناس، ولكنه لا يكيل المدح جزافاً(125)؛ لا يحقر من هم أقل منه، ولا يسعى لكسب رضاء من هم أعلى منه(126)، وهو جاد في سلوكه وتصرفاته، لأن الناس لا يوقّرون من لا يلتزم الوقار في تصرفاته معهم؛ متريث في أقواله، حازم في سلوكه، يصدر في أعماله عن قلبه؛ غير متعجل بلسانه ولا مولع بالإجابات البارعة السكاتة؛ وهو جاد لأن لديه عملاً يحرص على أدائه- وهذا هو سر مهابته غير المتكلفة(127)؛ وهو بشوش لطيف حتى مع أقرب الناس إليه وألصقهم به، ولكنه يصون نفسه عن التبذل مع الناس جميعاً حتى مع ابنه(128).ويجمع كنفوشيوس صفات رجله الأعلى الكثير الشبه "برجل أرسطو ذي العقل الكبير" في هذه العبارة.
"يضع الرجل الأعلى نصب عينيه تسعة أمور لا ينفك يقلبها في فكره. فأما من حيث عيناه فهو يحرص على أن يرى بوضوح..، وأما من حيث وجهه فهو يحرص على أن يكون بشوشاً ظريفاً؛ وأما من حيث سلوكه فهو يحرص على أن يكون وقوراً؛ وفي حديثه يحرص على أن يكون مخلصاً؛ وفي تصريف شئون عمله يحرص على أن يبذل فيه عنايته، وأن يبعث الاحترام فيمن معه؛ وفي الأمور التي يشك فيها يحرص على أن يسأل غيره من الناس؛ وإذا غضب فكر فيما قد يجره عليه غضبه من الصعاب؛ وإذا لاحت له المكاسب فكر في العدالة والاستقامة(129).

صفحة رقم : 1144
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأقصى -> الصين -> عصر الفلاسفة -> كنفوشيوس -> سياسة كنفوشيوس

5- سياسة كنفوشيوس
سيادة الشعب - الحكم بالقدوة - عدم تركز الثروة -
الموسيقى والأخلاق - الاشتراكية والثورة
ويعتقد كنفوشيوس أن هؤلاء وحدهم هم الذين يستطيعون أن يعيدوا بناء
صفحة رقم : 1145
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأقصى -> الصين -> عصر الفلاسفة -> كنفوشيوس -> سياسة كنفوشيوس

الأسرة وأن ينقذوا الدولة. فالمجتمع يقوم على إطاعة الأبناء آباءهم؛ والزوجة زوجها؛ فإذا ذهبت هذه الطاعة حلت محلها الفوضى(130).
وليس ثمة ما هو أسمى من قانون الطاعة هذا إلا شيء واحد وهو القانون الأخلاقي.
"في وسع (الابن) وهو في خدمة أبويه أن يجادلهما بلطف؛ فإذا رأى أنهما لا يميلان إلى اتباع (نصيحته) زاد احترامه لهما، من غير أن يتخلى عن (قصده)؛ فإذا أمر الوالد ابنه أمراً خطأ وجب عليه أن يقاومه، وعلى الوزير أن يقاوم أمر سيده الأعلى في مثل هذه الحال"(131). وفي هذا القول يضع كنفوشيوس مبدأ من مبادئ منشيس التي تقرر حق الناس المقدس في الثورة.
على أن كنفوشيوس لم يكن بالرجل الثوري النزعة؛ ولعله ما كان يظن أن من ترفعهم الثورة لم يخلقوا من طينة غير طينة من تطيح بهم. ولكنه رغم هذه الميول كان جريئاً فيما كتبه في كتاب الأغاني: "قبل أن تفقد ملوك (أسرة) شانج (قلوب) الشعب كانوا أحباء الله. فليكن فيما حل ببيت شانج نذير لكم؛ إن الأمر العظيم لا يسهل دائماً الاحتفاظ به"(132). والشعب هو المصدر الفعلي الحقيقي للسلطة السياسية، ذلك أن كل حكومة لا تحتفظ بثقة الشعب تسقط لا محالة عاجلاً كان ذلك أو آجلاً.
"وسأل تزه- كونج، عن الحكم فقال له المعلم: "(لا بد للحكومة) من أن تحقق أموراً ثلاثة، أن يكون لدى الناس كفايتهم من الطعام، وكفايتهم من العتاد الحربي، ومن الثقة بحكامهم". فقال تزه- كونج: "فإذا لم يكن بد من الاستغناء عن أحد هذه الشروط، فأي هذه الثلاثة يجب أن تتخلى عنه أولاً؟" فأجاب المعلم: "العتاد الحربي". وسأله تزه- كونج مرة أخرى: "وإذا كان لا بد من الاستغناء عن أحد الشرطين الباقيين فأيهما يجب أن تتخلى عنه؟".
صفحة رقم : 1146
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأقصى -> الصين -> عصر الفلاسفة -> كنفوشيوس -> سياسة كنفوشيوس

فأجاب المعلم: "فلنتخل عن الطعام؛ ذلك أن الموت كان منذ الأزل قضاء محتوماً على البشر، أما إذا لم يكن للناس ثقة (بحكامهم) فلا بقاء (للدولة)".
ويرى كنفوشيوس أن المبدأ الأول الذي يقوم عليه الحكم هو نفس المبدأ الأول الذي تقوم عليه الأخلاق- ألا وهو الإخلاص. ولهذا كانت أداة الحكم الأولى هي القدوة الصالحة؛ ومعنى هذا أن الحاكم يجب أن يكون هو المثل الأعلى في السلوك الحسن، حتى يحذو الناس حذوه، فيعم السلوك الطيب جميع أفراد شعبه.
وسأل كي كانج كنفوشيوس عن الحكومة قائلاً: "ما قولك في قتل من لا مبدأ لهم ولا ضمير لخير أصحاب المبادئ والضمائر؟"، فأجابه كنفوشيوس: "وما حاجتك يا سيدي إلى القتل في قيامك بأعباء الحكم؟ لتكن نيتك الصريحة البينة فعل الخير، فيكون الناس أخياراً. إن العلاقة القائمة بين الأعلى والأدنى لشبيهة بالعلاقة بين الريح والكلأ، فالكلأ يميل إذا هبت عليه الريح.. وما أشبه الذي ينهج في حكمه نهج الفضيلة بالنجم القطبي الذي لا يتحول عن مكانه والذي تطوف النجوم كلها حوله.."، وسأل كي كانج كيف ُيحمل الناس على أن يجلوا (حاكمهم)، وأن يخلصوا له، وأن يلتزموا جانب الفضيلة؟ فأجابه المعلم: "فليرأسهم في وقار- يحترموه، وليكن عطوفاً عليهم رحيماً بهم، يخلصوا له. وليقدم الصالحين ويعلّم العاجزين- يحرصوا على أن يكونوا فضلاء"(134).
وإذا كانت القدوة الحسنة أولى وسائل الحكم، فإن حسن الاختيار للمناصب وسيلته الثانية: "استمل الصالحين المستقيمين، وانبذ المعوجين، وبهذه الطريقة يستقيم المعوج"(135).
وتقول عقيدة الوسط: "إن تصريف شئون الحكم إنما يقوم على
صفحة رقم : 1147
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأقصى -> الصين -> عصر الفلاسفة -> كنفوشيوس -> سياسة كنفوشيوس

(استعمال من يصلح له من الناس). وما من سبيل إلى الحصول على هؤلاء الناس إلا أن تكون أخلاق (الحاكم) نفسه صالحة"(136).

وأي شيء لا تستطيع الوزارة المؤلفة من الرجال الأعلين أن تعمله في جيل واحد لتطهير الدولة والارتفاع بالشعب إلى مستوى عال من الحضارة؟(137)- إن أول ما يحرصون عليه ألا تكون لهم قدر المستطاع علاقات خارجية، وأن يعملوا على أن يكتفوا بغلاتهم عن غلات غيرهم، حتى لا تشن أمتهم الحرب على غيرها من الأمم للحصول على هذه الغلات، ثم يقللون من ترف بطانة الملوك ويعملون على توزيع الثروة في أوسع نطاق لأن "تركيز الثروة هو السبيل إلى تشتيت الشعب، وتوزيعها هو السبيل إلى جمع شتاته"(138)، ثم يخففون العقاب وينشرون التعليم العام لأن "التعليم إذا انتشر انعدمت الفروق بين الطبقات"(139).
ويشير كنفوشيوس بألا تدرس الموضوعات العليا لذوي المواهب الوسطى، أما الموسيقى فيجب أن تعلم للناس أجمعين.
ومن أقواله في هذا: "إذا أتقن الإنسان الموسيقى، وقوم عقله وقلبه بمقتضاها وعلى هديها، تطهر قلبه وصار قلباً طبيعياً، سليماً، رقيقاً، عامراً بالإخلاص والوفاء، يغمره السرور والبهجة.. وخير الوسائل لإصلاح الأخلاق والعادات.. أن توجه العناية إلى الموسيقى التي تعزف في البلاد .. والأخلاق الطيبة والموسيقى يجب ألاّ يهملهما الإنسان.. فالخير شديد الصلة بالموسيقى والاستقامة تلازم الأخلاق الطيبة على الدوام"(140).
وعلى الحكومة أن تُعنى أيضاً بغرس الأخلاق الطيبة، ذلك أن الأخلاق إذا فسدت فسدت الأمة معها . وآداب اللياقة هي التي تكون على الأقل
صفحة رقم : 1148
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأقصى -> الصين -> عصر الفلاسفة -> كنفوشيوس -> سياسة كنفوشيوس

المظهر الخارجي لأخلاق الأمة وإن لم يدرك الناس هذا(141)، وهي تضفي على الحكيم لطف الرجل المهذب؛ وما من شك في أن المرء ابن عادته. أما من الوجهة السياسية "فآداب اللياقة حواجز تقوم بين الناس وبين الانغماس في المفاسد"، و"من ظن أن الحواجز القديمة لا نفع فيها فهدّمها حلّت به الكوارث الناشئة من طغيان المياه الجارفة"(142).
ويكاد الإنسان أن يسمع هذا القول الصارم الذي نطق به المعلم الغاضب يتردد هذه الأيام في جنبات "بهو الآداب القديمة" التي نقشت ألفاظها على حجارته، والتي دنستها أوضار الثورة وحقرتها.
ومع هذا فقد كان لكنفوشيوس أيضا أحلامه ومثله العليا في الحكومات والدول. فقد كان يعطف بعض الأحيان على الذين إذا اقتنعوا بأن الأسرة الحاكمة فقدت "الأمر الأعلى" أي "أمر السماء"، قوضوا أركان نظام من نظم الحكم لكي يقيموا على أنقاضه نظاماً خيراً منه. وقد اعتنق في آخر الأمر المبادئ الاشتراكية وأطلق فيها لخياله العنان!
"إذا ساد المبدأ الأعظم (مبدأ التماثل الأعظم) أصبح العالم كله جمهورية واحدة؛ واختار الناس لحكمهم ذوي المواهب والفضائل والكفايات ؛ وأخذوا يتحدثون عن الحكومة المخلصة، ويعملون على نشر لواء السلم الشامل. وحينئذ لا يرى الناس أن آباءهم هم من ولدوهم دون غيرهم، أو أن أبناءهم هم من ولدوا لهم، بل تراهم يهيئون سبل العيش للمسنين حتى يستوفوا آجالهم، ويهيئون العمل للكهول، ووسائل النماء للصغار، ويكفلون الحياة للأرامل من الرجال والنساء واليتامى وعديمي الأبناء، ومن أقعدهم المرض عن العمل. هنالك يكون لكل إنسان حقه، وهنالك تصان شخصية المرأة فلا يتعدى عليها.
صفحة رقم : 1149
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأقصى -> الصين -> عصر الفلاسفة -> كنفوشيوس -> سياسة كنفوشيوس

وينتج الناس الثروة، لأنهم يكرهون أن تبدد وتضيع في الأرض، ولكنهم يكرهون أن يستمتعوا بها دون غيرهم من الناس، وهم يعملون لأنهم يكرهون البطالة، ولكنهم لا يهدفون في عملهم إلى منفعتهم الشخصية.
وبهذه الطريقة يقضى على الأنانية والمآرب الذاتية، فلا تجد سبيلاً إلى الظهور، ولا يرى أثر للصوص والنشالين والخونة المارقين، فتبقى الأبواب الخارجية مفتحة غير مغلقة. هذا هو الوضع الذي أسميه التماثل الأعظم .

صفحة رقم : 1150
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأقصى -> الصين -> عصر الفلاسفة -> كنفوشيوس -> أثر كنفوشيوس في الأمة الصينية

6- أثر كنفوشيوس في الأمة الصينية
العلماء الكنفوشيون - انتصارهم على القانونيين - عيوب
الفلسفة الكنفوشية - جدة مبادئ كنفوشيوس
كان نجاح كنفوشيوس بعد موته ولكنه كان نجاحاً كاملاً. لقد كان يضرب في فلسفته على نغمة سياسية عملية حببتها إلى قلوب الصينيين بعد أن زال بموته كل احتمال لإصراره على تحقيقها.
وإذ كان رجال الأدب في كل زمان لا يرتضون أن يكونوا أدباء فحسب، فإن أدباء القرون التي أعقبت موت كنفوشيوس استمسكوا أشد استمساك بمبادئه، واتخذوها سبيلاً إلى السلطان وتسلم المناصب العامة، وأوجدوا طبقة من العلماء الكنفوشيين أصبحت أقوى طائفة في الإمبراطورية بأجمعها. وانتشرت المدارس في أنحاء البلاد لتعلم الناس فلسفة كنفوشيوس التي تلقاها الأساتذة عن تلاميذ المعلم الأكبر، ونماها مِنْشِيس وهذبها آلاف مؤلفة من العلماء على مدى الأيام. وأضحت هذه المدارس المراكز الثقافية والعقلية في الصين فأبقت شعلة الحضارة متقدة خلال القرون الطوال التي تدهورت فيها البلاد من
صفحة رقم : 1151
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأقصى -> الصين -> عصر الفلاسفة -> كنفوشيوس -> أثر كنفوشيوس في الأمة الصينية

الوجهة السياسية، كما احتفظ رهبان العصور الوسطى بجذوة الثقافة القديمة وبقليل من النظام الاجتماعي في العصور المظلمة التي تلت سقوط رومة.
وكانت في البلاد طائفة أخرى هي طائفة "القانونيين" استطاعت أن تناهض وقتاً ما آراء كنفوشيوس في عالم السياسة، وأن تسير الدولة حسب مبادئها هي في بعض الأحيان.
ومن أقوالهم في الرد على كنفوشيوس أن نظام الحكم على المثل الذي يضربه الحاكمون، وعلى الصلاح الذي تنطوي عليه قلوب المحكومين، يعرّض الدولة لأشد الأخطار، إذ ليس في التاريخ أمثلة كثيرة تشهد بنجاح الحكومات التي تسترشد في أعمالها بهذه المبادئ المثالية. وهم يقولون أن الحكم يجب أن يستند إلى القوانين لا إلى الحكام، وإن الناس يجب أن يرغموا على إطاعة القوانين حتى تصبح إطاعتها طبيعة ثانية للمجتمع فيطيعوها راضين مختارين. ولم يبلغ الناس من الذكاء مبلغاً يمكنهم من أن يحسنوا حكم أنفسهم، ولهذا فإنهم لا يصيبون الرخاء إلا تحت حكم جماعة من الأشراف؛ وحتى التجار أنفسهم، وإن أثروا، لا يدل ثراؤهم على أنهم متفوقون في ذكائهم، فهم يسعون وراء مصالحهم الخاصة، وكثيرا ما يتعارض سعيهم هذا مع مصالح الدولة.
ويقول بعض القانونيين إنه قد يكون من الخير للدولة أن تجعل رؤوس الأموال ملكاً عاماً للمجتمع، وأن تحتكر هي التجارة، وأن تمنع التلاعب بالأثمان وتركيز الثروة في أيدي عدد قليل من الأفراد(144).
هذه آراء ظهرت ثم اختفت ثم عادت إلى الظهور مرة بعد مرة في تاريخ الحكومة الصينية.
ولكن فلسفة كنفوشيوس كتب لها النصر آخر الأمر. وسنرى فيما بعد كيف سعى شي هوانج- دي، صاحب الحول والطول، يعاونه رئيس وزراء من
صفحة رقم : 1152
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأقصى -> الصين -> عصر الفلاسفة -> كنفوشيوس -> أثر كنفوشيوس في الأمة الصينية

طائفة القانونيين، للقضاء على نفوذ كنفوشيوس، فأمر أن يحرق كل ما كان موجوداً وقتئذ من الكتابات الكنفوشية. ولكن تبين مرة أخرى أن قوة اللسان أعظم من قوة السنان.
ولم يكن لعداء "الإمبراطور الأول" من نتيجة إلاّ أن يجعل الكتب التي أراد أن يعدمها كتباً مقدسة قيمة، وأن يستشهد الناس في سبيل المحافظة عليها.حتى إذا انقضى عهد شي هوانج- دي، وعهد أسرته القصير الأجل، وجلس على العرش إمبراطور أحكم منه، أخرج الآداب الكنفوشية من مخابئها وعيّن العلماء الكنفوشيين في مناصب الدولة، وثبّت حكم أسرة هان، وقوى دعائمه، بأن أدخل آراء كنفوشيوس وأساليبه الحكيمة في برامج تعليم الشبان الصينيين وفي الحكومة. وقربت القرابين تكريماً لكنفوشيوس، وأمر الإمبراطور بأن تنقش نصوص الكتب القديمة على الحجارة، وأصبحت الكنفوشية دين الدولة الرسمي. وناهض الكنفوشية في بعض الأحيان نفوذ الدَّوية، كما طغى عليها أحياناً أخرى سلطان البوذية، حتى إذا كان عهد أسرة تانج أعادتها إلى مكانتها السابقة، وأعلت من شأنها.
ولما جلس على العرش تاي دزونج الأعظم أمر أن يشاد هيكل لكنفوشيوس في كل مدينة وقرية في جميع أنحاء الإمبراطورية، وأن يقرب له فيها القرابين العلماء والموظفون. وفي عهد أسرة زونج نشأت مدرسة قوية للكنفوشية الجديدة أضافت شروحاً وتعليقات لا حصر لها على الكتب الكنفوشية القديمة، وعملت على نشر فلسفة أستاذها الأكبر وما أضافته إليها من شروح مختلفة في بلاد الشرق الأقصى، وبعثت في اليابان نهضة فلسفية قوية. وظلت مبادئ كنفوشيوس من مبدأ قيام أسرة هان إلى سقوط أسرة منشو- أي ما يقرب من ألفي عام- تسيطر على العقلية الصينية وتصوغها في قالبها.
صفحة رقم : 1153
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأقصى -> الصين -> عصر الفلاسفة -> كنفوشيوس -> أثر كنفوشيوس في الأمة الصينية

والفلسفة الكنفوشية أهم ما يواجه المؤرخ لبلاد الصين؛ ذلك أن كفايات معلمها الأكبر ظلت جيلاً بعد جيل النصوص المقررة في مدارس الدولة الصينية، يكاد كل صبي يتخرج في تلك المدارس أن يحفظها عن ظهر قلب، وتغلغلت النزعة المتحفظة القوية التي يمتاز بها الحكيم القديم في قلوب الصينيين، وسرت في دمائهم، وأكسبت أفراد الأمة الصينية كرامة وعمقاً في التفكير لا نظير لهما في غير تاريخهم أو في غير بلادهم، واستطاعت الصين بفضل هذه الفلسفة أن تحيا حياة اجتماعية متناسقة متآلفة، وأن تبعث في نفوس أبنائها إعجاباً شديداً بالعلم والحكمة، وأن تنشر في بلادها ثقافة مستقرة هادئة أكسبت الحضارة الصينية قوة أمكنتها من أن تنهض من كبوتها وتسترد قواها بعد الغزوات المتكررة التي اجتاحت بلادها، وأن تشكل هي الغزاة على صورتها وتطبعهم بطابعها. ولسنا نجد في غير المسيحية والبوذية ما نجده في الكنفوشية من جهود جبارة لتحويل ما جبلت عليه الطبيعة البشرية من غلظة ووحشية إلى تأدب ورقّة.
ولسنا نجد في هذه الأيام- كما لم يجد الأقدمون في الأيام الخالية- دواء يوصف للذين يقاسون الأمرّين من جراء الاضطراب الناشئ من التربية التي تُعنى بالعقل وتهمل كل ما عداه، ومن انحطاط مستوى القانون الأخلاقي وتدهوره، ومن ضعف الأخلاق الفردية والقومية، لسنا نجد دواء لهذا كله خيراً من تلقين الشباب مبادئ الفلسفة الكنفوشية .
لكن تلك الفلسفة لا تستطيع وحدها أن تكون غذاء كاملاً للروح. لقد كانت فلسفة تصلح لأمة تكافح للخروج من غمرات الفوضى والضعف إلى النظام والقوة، ولكنها غل ثقيل يقيد البلد الذي ترغمه المنافسات الدولية على أن ينمو ويتطور.
صفحة رقم : 1154
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأقصى -> الصين -> عصر الفلاسفة -> كنفوشيوس -> أثر كنفوشيوس في الأمة الصينية

ذلك أن قواعد الأدب واللياقة التي شكلت أخلاق الصينيين ونظامهم الاجتماعي أضحت قوة جارفة تسير كل حركة حيوية في طريق مرسوم لا تتحول عنه، وكانت الفلسفة الكنفوشية تصطبغ بصبغة جامدة متزمتة، وتقف في سبيل الدوافع الطبيعية القوية المحركة للجنس البشري، وسمت فضائلها حتى بلغت حد العقم؛ ولم يكن فيها قط مجال للهو والمجازفة كما لم يكن فيها إلا القليل من الصداقة والحب، وقد أعانت على تحقير النساء وإذلالهن(145)، كما أعان ما فيها من كمال بارد على تجميد الأمة الصينية وجعلها أمة متحفظة لا يضارع عداءها للرقي إلا حبها للسلام.
وليس من حقنا أن نعزو هذا كله إلى كنفوشيوس، وأن نوجه إليه اللوم من أجله، إذ ليس في مقدور إنسان أياً كان شأنه أن يسيطر على تفكير عشرين قرناً من الزمان. بل كل ما يحق لنا أن نطلبه إلى المفكر أن يضيء لنا بطريقة ما، وبفضل تفكيره طوال حياته، سبيل الفهم الصحيح. وقَلَّ أن تجد في العالم من اضطلع بهذا الواجب كما اضطلع به كنفوشيوس. وإذا ما قرأنا تعاليمه، وتبينا ما يجب أن نمحوه من فلسفته بسبب تقدم المعارف في العالم وتبدل أحواله، وعرفنا قيمة ما يسديه إلينا من هداية في عالمنا الحاضر نفسه، إذا فعلنا هذا نسينا من فورنا ما يشوب فلسفته من تفاهة تارة ومن كمال لا تطيقه الطبيعة البشرية تارة أخرى، واشتركنا مع كونج جي حفيده الصالح التقي في هذا التسبيح الأعلى الذي كان بداية تأليه كنفوشيوس.
لقد نقل جونج- في عقائد يُو وشوِن كأنهما كانا من آبائه، ونشر نظم وُن و وُو واتخذهما مثلين يحتذيهما وينسج على منوالهما. وكان في صفاته الروحية قديساً أو ملاكاً يتناغم مع السماء، ولكنه لم ينس قط أنه مخلوق من طين وماء. وهو يشبه السماء والأرض في أنه كان عماداً لكل شيء وعائلاً لكل شيء، يحجب نوره كل شيء، وتغطي ظلاله كل شيء. وهو أشبه بالفصول الأربعة في تتابعها وانتظام سيرها، وأشبه بالشمس والقمر في تتابع ضيائهما..

صفحة رقم : 1155
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأقصى -> الصين -> عصر الفلاسفة -> كنفوشيوس -> أثر كنفوشيوس في الأمة الصينية

فهو في شموله واتساع آفاقه كالسماء، وفي عمق تفكيره ونشاطه كالهوة السحيقة والعين الجائشة الفوارة. إذا رآه الناس وقروه وعظموه، وإذا تكلم صدقوه، وإذا فعل أعجبوا بفعله وأحبوه.
ولهذا ذاع صيته في "المملكة الوسطى" وانتشر بين القبائل الهمجية، فحيثما وصلت السفائن والمركبات، وحيثما نفذت قوة الإنسان، وفي كل مكان امتد على سطح الأرض وأظلته السماء وأضاءته الشمس وأناره القمر، وفي كل بقعة مسها الصقيع وطلها الندى- يجله ويحبه كل من سرى فيه دم الحياة وترددت في صدره أنفاسها، حباً صادقاً لا تكلف فيه ولا رياء، ولهذا قيل عنه إنه: "هو والسماء صنوان"(146).

صفحة رقم : 1156
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأقصى -> الصين -> عصر الفلاسفة -> اشتراكيون وفوضويون -> مقدمة

الفصل الثالث
اشتراكيون وفوضويون

لقد كانت المائتا عام التي أعقبت عصر كنفوشيوس أعوام جدل شديد وردَّة عنيفة، ذلك أنه لما كشف العلماء عن لذة الفلسفة وبهجتها قام رجال من أمثال هْوِ ادزه، وجونج سون لويانج يتلاعبون بالمنطق ويخترعون القضايا المنطقية المتناقضة التي لا تقل في تباينها ودقتها عن قضايا زينون(147). واحتشد الفلاسفة من جميع أنحاء البلاد في مدينة لويانج، كما كانوا يحتشدون في نفس هذا القرن في مدينتي بنارس وأثينة، وكانوا يستمتعون في عاصمة الصين بحرية القول والتفكير التي جعلت أثينة وقتئذ العاصمة الفكرية لبلاد البحر الأبيض المتوسط. وغصت عاصمة البلاد بالفلاسفة المسمين تزونج- هنج- كيا أي "فلاسفة الجدل"، الذين جاءوا من كافة أنحاء البلاد ليعلموا الناس على اختلاف طبقاتهم فن إقناع أي إنسان بأي شيء أرادوا إقناعه به(148). فجاء إلى لويانج منشيس الذي خلف كنفوشيوس في منصبه، كما جاء إليها جَونْج- دْزَه أعظم أتباع لو- دْزَه، وشِون- دْزَه القائل بأن الإنسان شرير بطبعه، ومودي نبي الحب العالمي.
صفحة رقم : 1157
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأقصى -> الصين -> عصر الفلاسفة -> اشتراكيون وفوضويون -> مودي العيري

1- مودي العيري
منطق قديم - مسيحي - وداعية سلام
قال منشيس عدو مودي "لقد كان يحب الناس جميعاً، وكان يود لو يستطيع أن يبلى جسمه كله من قمة رأسه إلى أخمص قدمه إذا كان في هذا خير لبني الإنسان(149)؛ وقد نشأ مودي في بلدة لو التي نشأ فيها كنفوشيوس، وذاعت شهرته بعد وفاة الحكيم الأكبر بزمن قليل. وكان يعيب على كنفوشيوس أن تفكيره
صفحة رقم : 1158
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأقصى -> الصين -> عصر الفلاسفة -> اشتراكيون وفوضويون -> مودي العيري

خيالي غير عملي، وأراد أن يستبدل بهذا التفكير دعوة الناس جميعاً لأن يحب بعضهم بعضاً. وكان من أوائل المناطقة الصينيين ومن شر المجادلين المحاجين في الصين؛ وقد عرف القضية المنطقية تعريفاً غاية في البساطة فقال:
هذه هي التي أسميها قواعد الاستدلال الثلاث:
أين يجد الإنسان الأساس؟ ابحث عنه في دراسة تجارب أحكم الرجال الأقدمين.
كيف يلم الإنسان به إلماماً عاماً؟ افحص عما في تجارب الناس العقلية من حقائق واقعية.
كيف تطبقها؟ ضعها في قانون وسياسة حكومية، وانظر هل تؤدي إلى خير الدولة ورفاهية الشعب أو لا تؤدي إليهما(150).
وعلى هذا الأساس جَدَّ مودي في البرهنة على أن الأشباح والأرواح حقائق واقعية، لأن كثيرين من الناس قد شاهدوها، وكان من أشد المعارضين لآراء كنفوشيوس المجردة غير المجسمة عن الله، وكان من القائلين بشخصية الله. وكان يظن كما يظن بسكال أن الدين رهان مربح في كلتا الحالين: فإذا كان آباؤنا الذين نقرب لهم القرابين يستمعون إلينا فقد عقدنا بهذه القرابين صفقة رابحة، وإذا كانوا أمواتاً لا حياة لهم ولا يشعرون بما نقرب إليهم فإن القرابين تتيح لنا فرصة الاجتماع بأهلينا وجيرتنا، لنستمتع جميعاً بما نقدمه للموتى من طعام وشراب"(151).
وبهذه الطريقة عينها يثبت مودي أن الحب الشامل هو الحل الوحيد للمشكلة الاجتماعية؛ فإذا ما عم الحب العالم أوجد فيه بلا ريب الدولة الفاضلة والسعادة الشاملة التي بها "يحب الناس كلهم بعضهم بعضاً، ولا يفترس أقوياؤهم ضعفاءهم، ولا تنهب كثرتهم قلتهم، ولا يزدري أغنياؤهم فقراءهم، ولا يسفه عظماؤهم صغارهم، ولا يخدع الماكرون منهم السذج"(152). والأنانية في رأيه مصدر كل شر
صفحة رقم : 1159
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأقصى -> الصين -> عصر الفلاسفة -> اشتراكيون وفوضويون -> مودي العيري

سواء كان هذا الشر رغبة الطفل في التملك أو رغبة الإمبراطوريات في الفتح والاستعمار. ويعجب مودي كيف يدين الناس أجمعون من يسرق خنزيراً ويعاقبونه أشد العقاب، أما الذي يغزو مملكة ويغتصبها من أهلها، فإنه يعد في أعين أمته بطلاً من الأبطال ومثلاً أعلى للأجيال المقبلة(154). ثم ينتقل مودي من هذه المبادئ السلمية إلى توجيه أشد النقد إلى قيام الدولة حتى لتكاد عقيدته السياسية تقترب كل القرب من الفوضى، وحتى أزعجت هذه العقيدة ولاة الأمور في عصره(154). ويؤكد لنا كتاب سيرته أن مهندس الدولة في مملكة جو هَمَّ بغزو دولة سونج ليجرب في هذا الغزو سلماً جديداً من سلالم الحصار اخترعه في ذلك الوقت؛ فما كان من مودي إلا أن أخذ يعظه ويشرح له عقيدة الحب والسلم العالميين حتى أقنعه بالعدول عن رأيه، وحتى قال له المهندس: "لقد كنت قبل أن ألقاك معتزماً فتح بلاد سونج، ولكني بعد أن لقيتك لا أحب أن تكون لي ولو سلمت إلي من غير مقاومة ومن غير أن يكون ثمة سبب حق عادل يحملني على فتحها". فأجابه مودي بقوله: "إذا كان الأمر كذلك فكأني قد أعطيتك الآن دولة سونج. فاستمسك بهذه الخطة العادلة أعطك ملك العالم كله"(155).
وكان العلماء من أتباع كنفوشيوس والساسة أتباع لوينج يسخرون من هذه الأفكار السلمية؛ ولكن مودي رغم هذه السخرية كان له أتباع، وظلت آراؤه مدى قرنين كاملين عقيدة تدين بها شيعة تدعو إلى السلام، وقام اثنان من مريديه وهما سونج بنج، وجونج سون لونج بحملة قوية لنزع السلاح، وجاهدا في سبيل هذه الدعوة حق الجهاد(157). وعارض هان- في أعظم النقاد في عصره هذه الحركة، وكان ينظر إليها نظرة في وسعنا أن نسميها نظرة نيتشية، وكانت حجته في معارضته أن الحرب ستظل هي الحكم بين الأمم حتى تنبت للناس بالفعل أجنحة الحب العام.
ولما أصدر شين هوانج- دي أمره الشهير "بإحراق الكتب" ألقيت
صفحة رقم : 1160

قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأقصى -> الصين -> عصر الفلاسفة -> اشتراكيون وفوضويون -> مودي العيري

في النار جميع الآداب المودية كما ألقيت فيها جميع الكتب الكنفوشية؛ وقضى هذا الحريق على الدين الجديد وإن لم يقض على عقيدة المعلم الأكبر وكتاباته.

صفحة رقم : 1161
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأقصى -> الصين -> عصر الفلاسفة -> اشتراكيون وفوضويون -> يانج جو أناني

2- يانج ـ جو، أناني
جبري أبيقوري - الدفاع عن الشر
وكانت عقيدة أخرى، تختلف عن العقيدة السابقة كل الاختلاف، قد أخذت تنتشر وتشتد الدعوة إليها بين الصينيين، فقد قام رجل يدعى يانج- جو لا نعرف عنه شيئاً إلا ما قاله عنه شانئوه(159) وجهر بهذه الدعوة المتناقضة، وهي أن الحياة ملأى بالآلام وأن اللذة هدفها الأعلى، وكان ينكر وجود الله، كما ينكر البعث، ويقول إن الخلائق ليست إلا دمى لا حول لها ولا طول، تحركها القوى الطبيعية العمياء التي أوجدتها، والتي وهبتها أسلافها دون أن يكون لها في ذلك خيار، ورسمت لها أخلاقها، فلا تستطيع أن تتحول عنها أو أن تبدلها غيرَها(160).
فأما الحكيم العاقل فيرضى بما قسم له دون أن يشكوا أو يتذمر، ولكن لا يغتر بشيء من سخافات كنفوشيوس ومودي، وما يقولانه عن الفضيلة الفطرية والحب العالمي، والسمعة الطيبة. ومن أقواله أن المبادئ الخلقية شراك ينصبه الماكرون للسذج البسطاء، وأن الحب العالمي وهمُ يتوهمه الأطفال الذين لا يعرفون كنه البغضاء العالمية التي هي سُنَّة الحياة، وأن حسن الأحدوثة ألعوبة لا يستطيع الحمقى الذين ضحوا من أجلها أن يستمتعوا بعد وفاتهم بها، وأن الأخيار يقاسون في الحياة ما يقاسيه الأشرار، بل إنه ليبدو أن الأشرار أكثر استمتاعاً بالحياة من الأخيار(161). وأن أحكم الحكماء الأقدمين ليسوا هم رجال الأخلاق والحاكمين كما يقول كنفوشيوس بل هم عبدة الشهوات، الذين كان من حظهم
صفحة رقم : 1162

قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأقصى -> الصين -> عصر الفلاسفة -> اشتراكيون وفوضويون -> يانج جو أناني

أن استبقوا المشترعين والفلاسفة، فاستمتعوا بكل لذة دفعتهم إليها غرائزهم. نعم إن الأشرار قد يخلّفون وراءهم سمعة غير طيبة، ولكن ذلك أمر لا يقلق عظامهم. ثم يدعونا يانج- جو إلى أن نفكر في مصير الأخيار والأشرار، فيقول : إن الناس كلهم مجمعون على أن شون، ويو، وجو- جونج، وكنفوشيوس كانوا خير الناس وأحقهم بالإعجاب، وأن جياه، وجو، شرهم جميعاً.
ولكن شون قد اضطر إلى حرث الأرض في جنوب نهر هو، والى صنع آنية الفخار بجوار بحيرة لاي، ولم يكن في وسعه أن يستريح من عناء العمل لحظة قصيرة، بل إنه لم يكن يستطيع أن يجد شيئاً من الطعام الشهي والملابس المدفئة، ولم يكن في قلب أبويه شيء من الحب له، كما لم يكن يجد من أخوته وأخواته شيئاً من العطف عليه... فلما نزل له "ياو" آخر الأمر عن المُلك، كان قد تقدمت به السن، وانحطت قواه العقلية؛ وظهر أن ابنه شانج جو إنسان ناقص العقل عديم الكفاية؛ فلم يجد بداً من أن ينزل عن الملُك إلى يو. ومات بعدئذ ميتة محزنة. ولم يكن بين البشر كلهم إنسان قضى حياته كلها بائساً منغصاً، كما قضى هو حياته...
"وكان يو قد صرف كل جهوده في فلح الأرض، وولد له طفل ولكنه لم يستطيع أن يربيه؛ فكان يمر على باب داره ولا يدخلها، وانحنى جسمه وانضمر وغلظ جلد يديه وقدميه وتحجر. فلما أن نزل له شون آخر الأمر عن العرش عاش في بيت وطئ حقير، وإن كان يلبس ميدعة وقلنسوة ظريفتين. ثم مات ميتة محزنة، ولم يكن بين الآدميين كلهم من عاش معيشة نكدة حزينة كما عاش يو...
"وكان كنفوشيوس يفهم أساليب الملوك والحكام الأقدمين، ويستجيب
صفحة رقم : 1163
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأقصى -> الصين -> عصر الفلاسفة -> اشتراكيون وفوضويون -> يانج جو أناني

إلى دعوات أمراء عصره. ثم قطعت الشجرة التي يستظل بها في سونج، وأزيلت آثار أقدامه من ويه، وحل به الضنك في شانج وجو، وحوصر في شان وتشي؛... وأذله يانج هو وأهانه، ومات ميتة محزنة. ولم يكن بين بنى الإنسان كلهم من عاش عيشة مضطربة صاخبة كما عاش كنفوشيوس.
"ولم يستمتع هؤلاء الحكماء الأربعة بالسرور يوماً واحداً من أيام حياتهم، وذاعت شهرتهم بعد موتهم ذيوعاً سوف يدوم عشرات الآلاف من الأجيال، ولكن هذه الشهرة هي الشيء الذي لا يختاره قط من يعنى بالحقائق ويهتم بها. هل يحتفلون بذكراهم؟ هذا مالا يعرفونه. وهل يكافئونهم على أعمالهم؟ وهذا أيضاً لا يعرفونه وليست شهرتهم خيراً لهم مما هي لجذع شجرة أو مَدَرة.
أما (جياه) فقد ورث ثروة طائلة تجمعت مدى قرون طويلة؛ ونال شرف الجلوس على العرش الملكي؛ وأوتي من الحكمة ما يكفيه لأن يتحدى كل من هم دونه مقاماً؛ ومن القوة ما يكفي لأن يزعزع به أركان العالم كله. وكان يستمتع بكل ما تستطيع العين والأذن أن تستمتعا به من ضروب الملذات؛ ولم يحجم قط عن فعل كل ما سولت له نفسه أن يفعله. ومات ميتة هنيئة؛ ولم يكن بين الآدميين كلهم من عاش عيشة مترفة فاسدة كما عاش هو. وورث جو (شِنْ) ثروة طائلة تجمعت في مدى قرون طويلة، ونال شرف الجلوس على العرش الملكي، وكان له من القوة ما يستطيع به أن يفعل كل ما يريد؛... وأباح لنفسه في قصوره فعل كل ما يشتهيه، وأطلق لشهواته العنان خلال الليالي الطوال؛ ولم يكدر صفو سعادته قط بالتفكير في آداب اللياقة أو العدالة، حتى قضى نحبه كأبهج ما يقضى الناس نحبهم. ولم يكن في الآدميين كلهم من كانت حياته داعرة فاجرة كما كانت حياة جو.
وقد استمتع هذان الرجلان السافلان في حياتهما بما شاءا من الملذات وأطلقا لشهواتهم العنان، واشتهر بعد وفاتهما بأنهما كانا من أشد الناس حمقاً
صفحة رقم : 1164

قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأقصى -> الصين -> عصر الفلاسفة -> اشتراكيون وفوضويون -> يانج جو أناني

واستبداداً، ولكنهما استمتعا باللذة وهي حقيقة لا تستطيع أن تهبها حسن الأحدوثة. فإذا لامهم الناس فإنهم لا يعرفون، وإذا اثنوا عليهم ظلوا بهذا الثناء جاهلين، وسمعتهم (السيئة) لا تهمهم أكثر مما تهم جذع شجرة أو مَدَرة(162).
ألا ما أعظم الفرق بين هذه الفلسفة وبين فلسفة كنفوشيوس وهنا أيضاً نظن أن الزمان وهو رجعي كالرجعيين من الآدميين قد أبقى لنا آراء أجل المفكرين الصينيين وأعظمهم، ثم عدا على الباقين كلهم تقريباً فطواهم في غمرة الأرواح المنسية. ولعل الزمان محق في فعله هذا، ذلك أن الإنسانية نفسها ما كانت لتعمر طويلاً لو كان فيها كثيرون ممن يفكرون كما يفكر يان جو. وكل ما تستطيع أن ترد به عليه هو أن المجتمع لا يمكن أن يقوم إذا لم يتعاون الفرد مع زملائه أخذاً وعطاءاً؛ وإذا لم يتحملهم ويصبر على أذاهم، ويتقيد بما في المجتمع، من قيود أخلاقية، وإن الفرد الكامل العقل لا يمكن أن يوجد في غير مجتمع، وأن حياتنا نفسها إنما تعتمد على ما فيها من قيود. ومن المؤرخين من يرى في انتشار هذه الفلسفة الأنانية بعض الأسباب التي أدت إلى ما أصاب المجتمع الصيني من انحلال في القرنين الرابع والثالث قبل الميلاد(163). فلا عجب والحالة هذه أن يرفع منشيس، جنسن (
Dr. Johnson) زمانه، عقيرته بالاحتجاج الشديد وبالتشهير بأبيقورية ينج جو وبمثالية مودي فقال:

"إن أقوال ينج جو ومودي تملأ العالم؛ وإذا سمعت الناس يتحدثون وجدتهم قد اعتنقوا آراء هذا أو آراء ذاك. فأما المبدأ الذي يدعو إليه ينج فهو هذا. "كل إنسان وشأنه" وهو مبدأ لا يعترف بمطالب الملك. أما مبدأ مو فهو هذا: "أحب الناس جميعا بقدر واحد"- وهو مبدأ لا يعترف بما يحق للأب من حب خاص. ومن لا يعترف بحق الملك ولا بحق الأب كان في منزلة الحيوان الأعجم. فإذا لم يوضع لمبادئهما حد، وإذا لم تسد مبادئ
صفحة رقم : 1165
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأقصى -> الصين -> عصر الفلاسفة -> اشتراكيون وفوضويون -> يانج جو أناني

كنفوشيوس، فإنهما سيخدعان الناس بحديثهما المقلوب، ويسدان في وجوههم طريق الخير والصلاح.
"ولقد أزعجتني تلك الأشياء وأمرضت قلبي، فوقفت أدافع عن عقائد الحكماء والأقدمين، وأعارض ينج ومو، وأطارد أقوالهما المنحطة، حتى يتوارى هؤلاء المتحدثون الفاسدون فلا يجرءوا على الظهور. ولن يغير الحكماء من أقوالي هذه إذا ما عادوا إلى الظهور"(164).

صفحة رقم : 1166
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأقصى -> الصين -> عصر الفلاسفة -> اشتراكيون وفوضويون -> منشيس مستشار الأمراء

3- منشيس، مستشار الأمراء
أم نموذجية - فيلسوف بين الملوك - هل الناس أخيار بالسليقة - الضريبة
الفردية - منشيس والشيوعيون -باعث الكسب - حق الناس في أن يثوروا
لقد شاءت الأقدار أن يكون منشيس أنبه الفلاسفة الصينيين ذكراً بعد كنفوشيوس؛ وما أحفل تاريخ الصين بالفلاسفة.
وكان منشيس من سلالة أسرة مانج العريقة، وكان اسمه في بادئ الأمر مانج كو، ثم صدر مرسوم إمبراطوري بتغييره إلى مانج- دزه أي مانج المعلم أو الفيلسوف. وقد بدل علماء أوروبا الذين مرنوا على الأسماء اللاتينية هذا الاسم إلى منشيس كما بدلوا كونج- فو- دزه إلى كنفوشيوس.

ويكاد علمنا بأم منشيس يبلغ من الدقة علمنا به هو نفسه؛ ذلك بأن المؤرخين الصينيين قد خلدوا ذكرها وجعلوها نموذجاً للأمهات بما قصّوه عنها من القصص الكثيرة الممتعة. فهم يقولون إنها بدلت مسكنها ثلاث مرات من أجله؛ بدلته أول مرة لأنهما كانا يسكنان بجوار مقبرة فبدأ الصبي يسلك مسلك دافني الأموات؛ وبدلته في المرة الثانية لأنهما كانا يسكنان بجوار مذبح، ولذلك بدأ الغلام يجيد محاكاة أصوات الحيوانات المذبوحة؛ ثم بدلته في المرة الثالثة
صفحة رقم : 1167
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأقصى -> الصين -> عصر الفلاسفة -> اشتراكيون وفوضويون -> منشيس مستشار الأمراء

لأنهما كانا يسكنان بجوار سوق فشرع الصبي يسلك مسلك التجار ثم وجدت آخر الأمر داراً بقرب مدرسة فرضيت بها.
وكانت إذا أهمل الغلام دروسه تقطع خيط المُوم، فإذا سألها عن سبب هذا الإتلاف أجابت بأنها إنما تفعل ما يفعله هو نفسه بإهماله وعدم مثابرته على الدرس والتحصيل. وبذلك أصبح الصبي طالباً مجداً؛ ثم تزوج وقاوم في نفسه الميل إلى تطليق زوجته، وافتتح مدرسة لتعليم الفلسفة جمع فيها حوله طائفة من الطلاب ذاع صيتهم في الآفاق؛ وبعث إليه من كافة الأنحاء يدعونه ليناقشوه في نظرياته عن الحكم. ولم يشأ في أول الأمر أن يترك أمه المسنة، ولكنها أقنعته بالذهاب بخطبة حببتها إلى جميع رجال الصين، ولعل واحداً منهم هو الذي وضع هذه الخطبة:
"ليس من حق المرأة أن تفصل في أمر بنفسها، وذلك لأنها تخضع لقاعدة الطاعات الثلاث: فإذا كانت شابة وجب عليها أن تطيع أبويها، وإذا تزوجت كان عليها أن تطيع زوجها، وإذا ترملت وجب عليها أن تطيع ولدها. وأنت رجل كامل الرجولة، وأنا الآن عجوز، فافعل ما توحيه إليك عقيدتك بأنه حق واجب عليك أن تفعله، وسأفعل أنا ما يوجبه عليّ القانون الذي أأتمر بأمره. فلم إذن تشغل نفسك بي؟" (165).

وأجاب منشيس ما طلب إليه لأن اللهفة على التعليم جزء من اللهفة على الحكم، ترتبط كلتاهما أشد الارتباط بالأخرى. وكان منشيس كفلتير يفضل الملكية المطلقة على الديمقراطية، وحجته في هذا أن الديمقراطية تتطلب تعليم جميع الشعب كله إذا أريد نجاح الحكم، أما النظام الملكي المطلق فكل ما يطلب فيه أن يثقف الفيلسوف رجلاً واحداً هو الملك ويعلمه الحكمة لكي ينشئ الدولة الكاملة.
صفحة رقم : 1168
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأقصى -> الصين -> عصر الفلاسفة -> اشتراكيون وفوضويون -> منشيس مستشار الأمراء

ومن أقواله في هذا المعنى: "أصلح ما في عقل الأمير من خطأ. فإنك إن قومت الأمير استقرت شؤون الدولة" (166). وسافر أولاً إلى تشي وحاول أن يقوم أميرها شوان، ورضي أن يكون له فيها منصب فخري، ولكنه رفض مرتب هذا المنصب. وسرعان ما وجد أن الأمير لا يعنى بالفلسفة، فغادر تلك الإمارة إلى إمارة تانج الصغيرة، ووجد في حاكمها تلميذاً مخلصاً وإن يكن تلميذاً عاجزاً ضعيفاً. فعاد مرة أخرى إلى تشي، وأثبت أنه قد زاد حكمة وفهمهاً لحقائق الأمور بأن قبل منصباً ذا مرتب كبير عرضه عليه الأمير شوان. ولما توفيت أمه في هذه السنين الرغدة دفنها باحتفال عظيم وجه اللوم من أجله إلى تلاميذه، ولكنه برر لهم هذا العمل بقوله إن كل ما يرمى إليه هو أن يظهر إخلاصه ووفاءه لوالدته.

وبعد بضع سنين من ذلك الوقت تورط شوان في حرب للفتح والتملك، وساءه ما أشار به عليه منشيس من دعوة إلى السلام، رأى أنها جاءت في غير أوانها فأقاله من منصبه. وسمع منشيس أن أمير سونج يريد أن يحكم حكم الفلاسفة فسافر إلى عاصمته ولكنه وجد أن ما سمعه مبالغاً فيه كثيراً، وأن الأمراء الذين تردد عليهم كانت لهم أعذار كثيرة يبررون بها عدم استقامتهم واتباعهم النصح. فقد قال واحد منهم: "إن لدي ناحية من نواحي الضعف، وهي أني أحب البطولة والبسالة". وقال آخر: "إن لدي ناحية من نواحي الضعف وهي أني أحب الثروة" (167).
واضطر منشيس آخر الأمر إلى أن يعتزل الحياة العامة، وقضى أيام شيخوخته وضعفه في تعليم الطلاب وتأليف كتاب وصف فيه أحاديثه مع ملوك زمانه. وليس في وسعنا أن نقول إلى حد يمكن مقارنة هذه الأحاديث بأحاديث وولتر سفدج لاندر
Walter Savage Lander ؛ ولسنا واثقين من أن هذا
صفحة رقم : 1169
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأقصى -> الصين -> عصر الفلاسفة -> اشتراكيون وفوضويون -> منشيس مستشار الأمراء

الكتاب من تأليف منشيس نفسه أو من تأليف تلاميذه أو أنه هو وتلاميذه قد اشتركوا في وضعه، أو أنه مدسوس عليه وعليهم(168). وكل ما نستطيع أن نقوله واثقين أن كتاب منشيس من أعظم الكتب الفلسفية الصينية القديمة وأجلها قدراً.

وعقيدته عقيدة دنيوية خالصة لا تقل في هذا عن عقيدة كنفوشيوس، ولا يكاد يوجد فيها شيء عن المنطق أو فلسفة المعرفة أو ما وراء الطبيعة. لقد ترك الكنفوشيون هذا إلى أتباع لو- دزه، ووجهوا همهم إلى البحوث الأخلاقية والسياسية. وكان الذي يهم منشيس هو أن يرسم طريقة للحياة الصالحة وتولي خيار الناس مقاليد الحكم. وكان مبدؤه الأساسي أن الناس أخيار بطبيعتهم (169)، وأن ليس منشأ المشاكل الاجتماعية طبيعة الناس بل منشؤها فساد الحكومات؛ ومن ثم يجب أن يصبح الفلاسفة ملوكاً، أو أن يصبح ملوك هذا العالم فلاسفة. انظر إلى ما يقوله في هذا المعنى:
"والآن إذا أردتم جلالتكم أن تنشئوا حكومة أعمالها صالحة، فإن هذا سيبعث في جميع موظفي مملكتكم الرغبة في أن يكونوا في بلاط جلالتكم، وفي جميع الزراع الرغبة في أن يفلحوا أرض جلالتكم، وفي جميع التجار الرغبة في أن يخزنوا بضائعهم في أسواق جلالتكم، وفي جميع الرحالة الأغراب الرغبة في أن يسافروا في طرق جلالتكم، وفي جميع من يشعرون في أنحاء مملكتكم بأن ظلماً قد وقع عليهم من حكامهم الرغبة في أن يأتوا ويشكوا إلى جلالتكم. وإذا ما اعتزموا أن يفعلوا هذا فمن ذا الذي يستطيع أن يقف في سبيلهم؟" فقال الملك: "إنني غبي وليس في وسعي أن أرقى إلى هذا الحد" (170).
والحاكم الصالح في رأيه لا يشن الحرب على البلاد الخارجية بل يشنها على العدو المشترك وهو الفقر، لأن الفقر والجهل هما منشأ الجرائم واضطراب النظام، وعقاب الناس على ما يرتكبونه من الجرائم لأنهم لا تتاح لهم فرص
صفحة رقم : 1170
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأقصى -> الصين -> عصر الفلاسفة -> اشتراكيون وفوضويون -> منشيس مستشار الأمراء

لعمل شَرَك دنيء ينصب للإيقاع بالناس(171). وواجب الحكومة أن توفر أسباب الرفاهية لرعاياها، ولهذا ينبغي لها أن تضع الخطط الاقتصادية الكفيلة بتحقيق هذه الغاية(172). فعليها أن تفرض أكثر الضرائب على الأرض نفسها لا على ما تفعله أو ما يقام عليه من المنشآت(173)، وعليها أن تلغي كل العوائد الجمركية وأن تجعل التعليم عاماً وإجبارياً لأن هذا أصلح أساس لنشر الحضارة وتقدمها؛ "والقوانين الطيبة لا تعادل كسب الناس بالتعليم الطيب" (174). "وليس الذي يفرق بين الإنسان والحيوان الأعجم بالشيء الكثير، ولكن معظم الناس يطرحونه وراء ظهورهم، ولا يحتفظ به إلا عظماء الرجال"(175).
وفي وسعنا أن ندرك قدم المشاكل السياسية التي تواجه عصرنا المستنير، وموقفنا منها، وما نضعه لها من الحلول، إذا عرفنا أن منشيس قد نبذه الأمراء المتطرفون، وسخر منه الاشتراكيون والشيوعيون في عصره لمحافظته واستمساكه بالقديم. ولما قام شوشنج جزار الجنوب الهمجي ينادي بإنشاء دكتاتورية الصعاليك، ويطالب بأن يكون الصناع على رأس الدولة، "وأن يكون الفعلة هم الحكام" لما قام يدعو إلى هذا، واعتنق دعوته كثيرون من "المتعلمين"، كما اعتنق المتعلمون هذه الدعوة نفسها في أيامنا الحاضرة، وانضووا تحت لوائه، رفض منشيس هذه الفكرة بازدراء، وقال "إن الحكومة يجب أن يتولاها المتعلمون" (176). ولكنه ندد أيضاً بالفكرة القائلة إن الكسب يجب أن يكون هو الباعث على العمل في المجتمع الإنساني، وعاب على سونج كانج قوله إن الملوك يجب اكتسابهم لقضية السلام بإقناعهم في لغة هذه الأيام بأن الحرب عمل غير مربح. وفي هذا يقول:
"إن غرضك شريف، ولكن منطقك غير سليم. ذلك بأنك إذا اتخذت الكسب أساساً لحجتك، واستطعت أن تقنع بها ملوك تشين وتشي، وأعجب هؤلاء الملوك بفكرة الكسب فأمروا بوقف حركات جيوشهم، فإن كل المتصلين
صفحة رقم : 1171

قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأقصى -> الصين -> عصر الفلاسفة -> اشتراكيون وفوضويون -> منشيس مستشار الأمراء

بهؤلاء الجيوش سيفرحون بوقف (القتال)، وسيجدون أعظم السرور في (السعي وراء) الكسب. فنرى الوزراء يخدمون الملك جرياً وراء الكسب الذي حبب إليهم والأبناء يخدمون آباءهم، والأخوة الصغار يخدمون الكبار من أخوتهم، لهذا السبب عينه. ونتيجة هذا أن الملك والوزراء، والأب والابن، والأخ الأكبر والأصغر ينسون كلهم بواعث الخير والصلاح، ويوجهون أعمالهم كلها نحو الكسب المحبب إليهم العزيز عليهم. ولم يوجد قط (مجتمع) كهذا إلا كان مآله الخراب" (177).
وكان يعترف بحق الشعوب في الثورة وينادي بهذا المبدأ في حضرة الملوك. وكان يندد بالحرب ويراها جريمة، ولشد ما صدم عقائد عباد الأبطال في أيامه حين كتب يقول: "من الناس من يقول أني بارع في تنظيم الجند، وأني ماهر في إدارة المعارك. أولئك هم كبار المجرمين" (178).
وقال في موضع آخر: "ليس ثمة حرب عادلة"(179). وكان يندد بترف حاشية الملوك، ويوجه أشد اللوم للملك الذي يطعم كلابه وخنازيره ويترك الناس يموتون جوعاً"(180). ولما قال أحد الملوك إنه لا يستطيع منع المجاعة أجابه منشيس بأنه ينبغي له أن يعتزل المُلك(181). وكان يقول لتلاميذه: "إن الناس أهم عنصر (من عناصر الأمة)؛.. وإن الملك أقل هذه العناصر شأناً" (182). وإن من حق الناس أن يخلعوا حكامهم، بل إن من حقهم أن يقتلوهم في بعض الأحايين.
"وسأل الملك شوان عن الوزراء العظام... فأجابه منشيس: "إذا كان الملك يرتكب أغلاطاً شنيعة وجب عليهم أن يعارضوه، فإذا لم يستمع إليهم بعد أن يفعلوا هذا مرة بعد مرة، وجب عليهم أن يخلعوه...".
ثم واصل منشيس حديثه قائلا: "إذا فرض أن القاضي الأكبر الذي يحكم في الجرائم قد عجز عن السيطرة على الموظفين (الخاضعين له) فماذا تفعل به؟".
صفحة رقم : 1172

قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأقصى -> الصين -> عصر الفلاسفة -> اشتراكيون وفوضويون -> منشيس مستشار الأمراء

فأجابه الملك بقوله: "أفصله من منصبه". ثم قال له منشيس: "وإذا لم يكن في داخل حدود (مملكتك) الأربعة حكومة صالحة فماذا تفعل؟". فتلفت الملك يمنة ويسرة وأخذ يتحدث عن أمور أخرى...
وسأله الملك شوان: "وهل من أجل ذلك أمر تانج بنفي جياه وضرب الملك "وُو" حاكم جو (سن)؟ فأجاب منشيس: "هكذا تقول السجلات".
وسأله الملك: "وهل يحق للوزير أن يقتل مليكه؟" فأجابه منشيس: "إن الذي يخرج على ما أودع فيه من (طبيعة خيرة) يسمى لصاً؛ والذي يخرج على قواعد الاستقامة يسمى وغداً؛ وليس كل من اللص والوغد في عرفنا إلا شخصاً لا قيمة له؛ ولقد سمعت بتقطيع أوصال الشخص جو، ولكني لم أسمع بقتل ملك" (183).
تلك عقيدة ما أجرأها، ولقد كانت عاملاً كبيراً في تقرير المبدأ الذي يقره ملوك الصين وأهلها، وهو أن الحاكم الذي يستثير عداوة الشعب يفقد " حقه الإلهي " في الحكم، ومن حق الشعب أن يخلعه. فلا عجب والحالة هذه إذا غضب هونج وو، مؤسس أسرة منج، حين قرأ هذا الحديث الذي دار بين منشيس والملك شوان، وأمر أن يمحى اسم منشيس من مكانه في هيكل كنفوشيوس، وكانت لوحة تذكارية قد وضعت له في هذا المعبد بأمر ملكي في عام 1084م؛ ولكن اللوحة أعيدت إلى مكانها ولم يمض عام واحد على إزالتها، وظل منشيس من ذلك الوقت إلى ثورة عام 1911م يعد بطلاً من أبطال الصين وثاني اثنين ذاع صيتهما في جميع عهود تاريخها، وكان لهما أعظم الأثر في فلسفتها الصحيحة.وإليه وإلى جوشي يرجع الفضل في احتفاظ كنفوشيوس بزعامته الفكرية في الصين أكثر من ألفي عام.

صفحة رقم : 1173
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأقصى -> الصين -> عصر الفلاسفة -> اشتراكيون وفوضويون -> شوق دزه الواقعي

4- شون - دزه، واقعي
النفس البشرية أمارة بالسوء - ضرورة القوانين

كان في فلسفة منشيس كثير من نقط الضعف، وكان يسر معاصريه أن يشهروا بهذه النقط بأعظم ما يستطيعون من قوة. أحق أن الناس أخيار بطبيعتهم؛ وأنهم لا ينحدرون إلى الشر إلا إذا فسدت النظم التي يعيشون في كنفها؟ أم الصحيح أن الطبيعة هي السبب في شرور المجتمع؟ وقد كان هذان الرأيان المتعارضان مثاراً لجدل عنيف ظل قائماً آلاف السنين بين المصلحين والمحافظين. فهل تستطيع التربية أن تنقص الجرائم، وتزيد الفضائل، وتأخذ بيد الناس إلى المثل العليا وتمكنهم من إقامة الدولة الفاضلة المثالية؟ وهل يصلح الفلاسفة لحكم الدول أو أن فلسفتهم لا تؤدي إلا إلى زيادة ما يحاولون علاجه من فوضى واضطراب؟
وكان أشد الناس نقداً لمنشيس وأصعبهم مراساً أحد الموظفين العموميين، ويلوح أنه توفي في عام 235 ق.م وهو في سن السبعين. ذلك هو شون- دزه الذي سبقت الإشارة إليه في هذا الباب. وكما كان منشيس يعتقد أن الناس جميعهم أخيار بطبيعتهم، كان شون- دزه يرى أنهم جميعاً أشرار بفطرتهم، وحتى شون ويو كانا متوحشين حين ولدا(184). وقد وصلت إلينا قطعة من كتابات شون- دزه يبدو فيها أشبه الناس بالفيلسوف الإنجليزي هبز
Hobbes إذ يقول:
"النفس البشرية أمارة بالسوء، وما تعمله من خير متكلف مصطنع . فهي قد غرس فيها من ساعة مولدها حب الكسب؛ وإذا كانت أعمال الإنسان
صفحة رقم : 1174
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأقصى -> الصين -> عصر الفلاسفة -> اشتراكيون وفوضويون -> شوق دزه الواقعي

إنما تقوم على الحب فإن هذا يؤدي إلى انتشار المنازعات والسرقات. وليس إنكار الذات والاستسلام للغير من (طبيعة) الإنسان، بل إن من طبيعته التحاسد والتباغض، ولما كانت أعمال الناس لا بد أن تتفق مع طباعهم فإنهم لا يصدر عنهم إلا العنف والأذى، ولا نرى فيهم إخلاصاً أو وفاء.

ومن طبيعة الإنسان أيضاً إشباع الأذن والعين، وهذا يؤدي إلى حب الأصوات العذبة والمناظر الجميلة. ولما كانت أعمال الناس لا أن تتفق مع هذه وتلك كان لا بد أن توجد الدعارة وسوء النظام، وأن تنعدم الاستقامة والاحتشام ومظاهرهما المختلفة المتسقة. ومن هذا يتضح أن السير وفق الطبيعة البشرية وإطاعة أحاسيسها، يؤديان حتماً إلى الخصام واللصوصية، وإلى مخالفة الواجبات التي تتفق مع الوضع الذي وجد فيه كل إنسان، وإلى الخلط بين كل المراتب والمميزات حتى تعم الهمجية. ولهذا كان لا بد من قيام سلطان المعلمين وسلطان الشرائع، والاهتداء بقواعد الاستقامة والاحتشام التي ينشأ عنها إنكار الذات والخضوع للغير ومراعاة قواعد السلوك المنظمة، مما يؤدي إلى قيام الدولة، ذات الحكومة الصالحة... وقد أدرك الملوك الأقدمون الحكماء ما طبعت عليه النفس البشرية من شر، فوضعوا قواعد الاستقامة والآداب، وسنوا النظم والقوانين ليقوموا طبائع الناس ومشاعرهم ويصلحوهم... حتى يسلكوا جميعاً الحكم الصالح الذي يتفق مع العقل" (185).
ووصل شون- دزه في بحوثه إلى ما وصل إليه ترجنيف وهو أن الطبيعة ليست معبداً يضم الصالحين، بل هي مصنع يجتمع فيه الصالح والطالح؛ وهي تقدم المادة الغفل، التي يعمل فيها الذكاء فيصوغها ويشكلها. وكان يظن أن أولئك الناس الأشرار بطبعهم، إذا دربوا على الخير، قد يصلحون، بل إن في وسعهم إذا أريد لهم ذلك أن يكونوا قديسين(186).
صفحة رقم : 1175
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأقصى -> الصين -> عصر الفلاسفة -> اشتراكيون وفوضويون -> شوق دزه الواقعي

ولما كان شون- دزه شاعراً وحكيماً معاً فقد نظم فلسفة فرنسيس بيكن في هذا الشعر الركيك:
إنكم تمجدون الطبيعة وتتفكرون فيها،
فلم لا تسخرونها وتنظمونها؟
إنكم تطيعون الطبيعة وتسبحون بحمدها،
فلم لا تسيطرون على أساليبها وتستخدمونها،
إنكم تنظرون إلى الفصول نظرة الإجلال وتنتظرونها،

فلم لا تستجيبون إليها لبذل النشاط في أوانه؟
إنكم تعتمدون على الأشياء الخارجة عنكم وتعجبون بها،
فلم لا تكشفون عن كفاياتكم؟
وتوجهونها الوجهة الصالحة؟.
صفحة رقم : 1176
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأقصى -> الصين -> عصر الفلاسفة -> اشتراكيون وفوضويون -> جونج دزه المثالي

5- جونج - دزه، مثالي
الرجوع إلى الطبيعة - المجتمع اللاحكومي - طريقة الطبيعة - حدود
الذهن - تطور الإنسان - مشكل الأزرار - أثر الفلسفة الصينية في أوربا
على أن "الرجوع إلى الطبيعة" لم يكن من السهل أن يقاوم بهذه الطريقة؛ بل قام في ذلك العصر من يدعو إليه كما قام من يدعوا إليه في كل العصور. ومن المصادفات التي يمكننا أن نسميها مصادفات طبيعية إن كان الداعي إلى هذا الرجوع أبلغ كتاب عصره وأفصحهم لساناً. لقد كان جونج- دزه مولعاً بالطبيعة يرى أنها سيدته التي تتحفي به على الدوام مهما كان بغيه أو كانت سنه، ومن أجل هذا فاضت فلسفته بأحاسيس روسو الشعرية مضافاً إليها مُلَحُ فلتير الهجائية. ومن ذا الذي يستطيع أن يتصور أن منشيس ينسى نفسه بحيث يصف أحد الناس
صفحة رقم : 1177
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأقصى -> الصين -> عصر الفلاسفة -> اشتراكيون وفوضويون -> جونج دزه المثالي

بأن له: "جدرة كإبريق من الفخار" (188)، وقصارى القول أن جونج أديب وفيلسوف معاً.

ولد هذا الفيلسوف في ولاية سونج، وتقلد وقتاً ما منصباً صغيراً في مدينة خيان. وزار قصور الملوك التي زارها منشيس، ولكن كلا الرجلين لا يذكر فيما بقي لنا من كتاباته اسم الآخر. ولعل كليهما كان يحب صاحبه كما يحب المعاصرون بعضهم بعضاً. ويروى عنه أنه رفض منصباً كبيراً مرتين. ولما عرض عليه دوق- ويه رياسة الوزارة ردّ على رسول الملك رداً مقتبضاً يدل على ما يتراءى للكاتب من أحلام: "اذهب من هنا لساعتك ولا تدنسني بوجودك، لخير لي أن أسلي نفسي وأمتعها في حفرة قذرة من أن أخضع لقواعد في بلاط ملك من الملوك" (189).
وبينما كان يصطاد السمك في يوم من الأيام إذ أقبل عليه رجلان من كبار الموظفين يحملان إليه رسالة من ملك خو يقول فيها: "أريد أن أحملك عبء جميع ملكي"، فأجابه جونج، كما يقول هو نفسه، دون أن يرفع نظره عن صيده:
"لقد سمعت أن في خو صدفة سلحفاة كأنها روح من الأرواح، وقد ماتت سلحفاتها منذ ثلاثة آلاف عام، وأن الملك يحتفظ بهذه الصدفة في معبد أسلافه، وأنه يضعها في سلة مغطاة بالقماش. فهل كان خيراً للسلحفاة أن تموت وتترك صدفتها تعظم على هذا النحو؟ أو هل كان خيراً لها أن تظل حية تجر ذيلها من خلفها في الوحل؟" فأجاب الموظفان الكبيران: "لقد كان خيراً لها أن تعيش وتجر ذيلها من خلفها في الوحل" فقال لهما جونج: "اذهبا في سبيلكما، وسأظل أجر ذيلي ورائي في الوحل"(190).
صفحة رقم : 1178
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأقصى -> الصين -> عصر الفلاسفة -> اشتراكيون وفوضويون -> جونج دزه المثالي

وكان احترامه للحكومات يعدل احترام سلفه الروحي لو- دزه، فكان يسره أن يشير إلى عدد ما يتصف به الملوك والحكام من صفات اللصوص(191). ويقول إنه إذا أدى الإهمال بأحد الفلاسفة الحقيقيين، فرأى نفسه يتولى شؤون إحدى الدول، فإن الخطة المثلى التي يجب عليه أن يسلكها هي أن لا يفعل شيئاً، وأن يترك الناس أحراراً يضعون ما يشاءون من نظم حكمهم الذاتي. "لقد سمعت عن ترك العالم وشأنه والكف عن التدخل في أمره ولم أسمع عن حكم العالم" (192) ولم يكن ثمة حكومات في العصر الذهبي الذي سبق عهد أقدم الملوك.
ولم يكن يو وشون خليقين بما حبتهما الصين وحباهما كنفوشيوس من تشريف وتعظيم، بل كانا خليقين بأن يتهما بالقضاء على ما كانت الإنسانية تستمتع به من سعادة بدائية قبل إقامة نظم الحكم في الحكم في العالم: "لقد كان الناس في عهد الفضيلة الكاملة يعيشون مجتمعين كما يعيش الطير والحيوان، ولا يفترقون عنهما في شيء، تتألف منهم ومن جميع المخلوقات أسرة واحدة. وأنى لهم أن يعرفوا فيما بينهم ما يميز العظماء فيهم من غير العظماء؟" (193).
ويرى جونج أن من واجب الرجل العاقل أن يولي الأدبار حين يشاهد أولى معالم الحكومة، وأن يعيش أبعد ما يستطيع عن الفلاسفة والملوك، ينشد السلام والسكون في الغابات (وذلك موضوع جد آلاف من المصورين الصينيين في رسمه) وأن يترك كيانه كله يتبع الدَّو المقدس- قانون حياة الطبيعة ومجراها الذي لا تدركه العقول- من غير أن يعوقه في ذلك تفكير أو تدبير، لا يتكلم إلا قليلاً لأن الكلام يضل بقدر ما يهدى، ولأن الدَّو- طريقة الطبيعة وجوهرها- لا يمكن التعبير عنه بالألفاظ أو في أفكار، بل كل ما في الأمر أنه يمكن الشعور به في الدم. وهو يرفض أن يستعين بالآلات ويؤثر عليها الطرق القديمة المجهدة التي كان يجري عليها بسطاء الرجال، وذلك لأن الآلات تؤدي إلى التعقيد والفتنة وعدم المساواة بين الناس، وليس في مقدور أي إنسان

صفحة رقم : 1179
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأقصى -> الصين -> عصر الفلاسفة -> اشتراكيون وفوضويون -> جونج دزه المثالي

أن يعيش بين الآلات ويستمتع بالسلام(194). وهو يأبى أن يكون له ملك خاص ولا يجد للذهب نفعاً له في حياته؛ ويفعل ما فعله تيمن الأثيني فيترك الذهب مخبوء في جوف التلال واللآلىء في أعماق البحار. والذي يمتاز به من غيره أنه يفهم أن الأشياء جميعها تخص خزانة واحدة وأن الموت والحياة يجب أن ينظر إليهما نظرة واحدة" ، على أنهما نغمتان من أنغام الطبيعة المتناسقة أو موجتان في بحر واحد.
وكان الأساس الذي يقوم عليه تفكير جونج عين الأساس يقوم عليه تفكير لو- دزه شبه الأسطوري، وكان تفكير لو- دزه هذا يبدو لجونج أعمق كثيراً من تفكير كنفوشيوس، وكان في جوهره النظرة الصوفية لوحدة الكون غير الشخصية الشبيهة شبهاً عجيباً بنظرة بوذا وأتباع أبانيشاد، حتى ليكاد المرء يعتقد أن فلسفة ما وراء الطبيعة الهندية قد تسربت إلى الصين قبل أربعمائة عام من ظهور البوذية فيها حسبما يسجله المؤرخون. نعم إن جونج فيلسوف لا أدري، جبري، من القائلين بالحتمية ومن المتشائمين، ولكن هذا لا يمنعه أن يكون قديساً متشككاً، ورجلاً أسكرته الدَّرَّية؛ وهو يعبر عن تشككه هذا تعبيراً يميزه من غيره من أمثاله في القصة الآتية:
قال شبه الظل يوماً ما للظل" إنك تارة تتحرك وتارة تثبت في مكانكـ تارة تجلس وتارة تقوم. فلم هذا التذبذب في القصد وعدم الاستقرار فيه؟" فأجابه الظل بقوله: "إن شيئاً أعتمد عليه هو الذي يجعلني أفعل ما أفعله،
صفحة رقم : 1180
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأقصى -> الصين -> عصر الفلاسفة -> اشتراكيون وفوضويون -> جونج دزه المثالي

ولكن هذا الشيء نفسه يعتمد على شيء آخر يضطره إلى أن يفعل هو الآخر ما يفعله... وأنى لي أن أعرف لم أفعل هذا الشيء ولا أفعل ذاك؟... إن الجسم إذا بلى بلى العقل معه؛ ألا ينبغي لنا أن نقول إن هذه حال يرثى لها كثيراً؟... إن ما يحدث في الأشياء كلها من تغيير- وجود ثم عدم- يسير (بلا انقطاع)؛ ولكننا لا نعرف من ذا الذي يسير هذه الحركة في طريقها على الدوام: وأنى لنا أن نعرف متى يبدأ الواحد منا ؟ وأنى لنا أن نعرف متى ينتهي ؟ إن كل ما في وسعنا أن ننتظر هذه البداية والنهاية، لا أكثر من هذا ولا أقل"(196).
ويظن جونج أن هذه المشاكل إنما تنشأ من قصر تفكيرنا أكثر مما تنشأ من طبيعة الأشياء نفسها. فلا عجب والحالة هذه أن تنتهي الجهود التي تبذلها عقولنا الحبيسة لفهم العالم الأكبر الذي تكون هي جزيئات صغيرة منه، لا عجب أن تنتهي هذه الجهود بالمتناقضات والقوانين المتعارضة. ولقد كانت هذه المحاولة التي ترمي إلى تفسير الكل بإصلاحات الجزء إسرافاً في التطاول والاعتداد بالنفس، لا نجيزها إلا لما فيها من تسلية وفكاهة؛ لأن الفكاهة، كالفلسفة، هي النظر إلى الكل بمصطلحات الجزء ، وكلاهما لا يمكن وجوده بغير الآخر.
ويقول جونج- دزه إن العقل لا يفيد في فهم الأشياء الغائية أو أي شيء عميق كنمو الطفل مثلاً. "وليس الجدل إلا دليلاً على عدم وضوح الرؤيا"، وإذا أراد الإنسان أن يفهم الدَّو "فعليه أن يكبت علمه أشد الكبت"( 197 ) إن من واجبنا أن ننسى نظرياتنا ونشعر بالحقائق؛ وليس التعليم بنافع لنا في هذا الفهم، وأهم شيء في هذا أن نلقي بأنفسنا في غمرات الطبيعة.
وما هو الدَّو الذي يراه الصوفي المحظوظ النادر الوجود؟ إنه شيء لا يمكن التعبير عنه بالألفاظ؛ وكل ما نستطيع أن نصفه به في عبارات ضعيفة ملأى
صفحة رقم : 1181
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأقصى -> الصين -> عصر الفلاسفة -> اشتراكيون وفوضويون -> جونج دزه المثالي

بالمتناقضات هو قولنا إنه وحدة الأشياء كلها وانسيابها الهادىء من نشأتها إلى كمالها والقانون الذي يسيطر على هذا الانسياب.
"ولقد كان موجوداً ثابتاً منذ الأزل قبل أن توجد السماء والأرض"(198) وفي هذه الوحدة العالمية تتلاشى كل المتناقضات، وتزول كل الفروق، وتتلاقى كل الأشياء المتعارضة؛ وليس فيه ولا في نظرته إلى الأشياء طيب أو خبيث، ولا أبيض أو أسود، ولا جميل أو قبيح ، ولا عظيم أو حقير. "ولو عرف الإنسان أن العالم صغير كحبة الخردل، وأن طرف الشعرة لا يقل في الارتفاع عن قمة الجبل، أمكن أن يقال عنه أنه يعرف النسبة بين الأشياء(200). وفي هذا الكل المبهم الغامض لا يدوم شكل من الأشكال، وليس فيه صورة فذة لا تنتقل إلى صورة أخري في دورة التطور التي تسير على مهل:
"إن بذور (الأشياء) دقيقة ولا حصر لها. وهي تكون على سطح الماء نسيجاً غشائياً. فإذا وصلت إلى حيث تلتقي الأرض والمياه اجتمعت وكونت (الحزاز الذي يكون) كساء الضفادع والحيوانات الصوفية. فإذا دبت فيها الحياة على التلال والمرتفعات صارت هي الطلح؛ فإذا غذاها السماء أضحت نبات عش الغراب. ومن جذور عش الغراب ينشأ الدود ومن أوراقه ينشأ الفراش. ثم يستحيل الفراش حشرة- وتعيش تحت موقد. ثم تتخذ الحشرة صورة اليرقة، وبعد ألف عام تصبح اليرقة طائراً... ثم تتحد الينجشي مع خيزرانة فينشأ من اتحادهما الخنج- تنج؛ ومنه ينشأ النمر، ومن النمر ينشأ الحصان، ومن الحصان ينشأ الإنسان. فالإنسان جزء من آلة (التطور) العظيمة، التي تخرج منها جميع الأشياء، والتي تدخل فيها بعد موتها" (201).
لا ننكر أن هذه الأقوال ليس فيها من الوضوح ما في نظرية دارون
صفحة رقم : 1182
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأقصى -> الصين -> عصر الفلاسفة -> اشتراكيون وفوضويون -> جونج دزه المثالي

ولكنها أياً ما كان غموضها نظرية تطور.

"وفي هذه الدورة اللانهائية قد يستحيل الإنسان إلى صورة أخري غير صورته؛ ذلك أن صورته الحالية ليست إلا مرحلة عابرة من مراحل الانتقال، وقد لا تكون في سجل الخلود حقيقة إلا في ظاهر أمرها- أو جزءاً من الفوارق الخداعة التي تُغَشّي بها مايا جميع الكائنات(201) .
"رأيت أنا جونج- دزه مرة في منامي أني فراشة ترفرف بجناحيها في هذا المكان وذاك، أني فراشة حقاً من جميع الوجوه. ولم أكن أدرك شيئاً أكثر من تتبعي لخيالاتي التي تشعرني بأني فراشة. أما ذاتيتي الإنسانية فلم أكن أدركها قط. ثم استيقظت على حين غفلة وهاأنذا منطرح على الأرض رجلاً كما كنت، ولست أعرف الآن هل كنت في ذلك الوقت رجلاً يحلم بأنه فراشة، أو أنني الآن فراشة تحلم بأنها رجل" (202).
وليس الموت في رأيه إلا تغيراً في الصورة، وقد يكون تغيراً من حال إلى حال أحسن منها؛ أو أنه كما قال إبسن
Ibsen فيما بعد الصائغ الذي يصهرنا مرة أخرى في أتون التغير والتطور:
"مرض تزه- لاي حتى أصبح طريح الفراش يلفظ آخر أنفاسه، ووقف من حوله زوجه وأبناؤه يبكون. وذهب لي يسأل عنه فلما أقبل عليهم قال لهم: "اسكتوا وتنحوا عن الطريق! ولا تقلقوه في حركة تبدله"... ثم اتكأ على الباب وتحدث إلى (الرجل المحتضر). فقال له تزه- لاي: "إن صلة الإنسان بالين واليانج أقوى من صلته بأبويه. فإذا كانا يتعجلان موتي وأعصي أنا أمرهما فإني أعد حينئذ عاقاً شرساً. هنالك "كتلة (الطبيعة) العظمى" التي تجعلني أحمل هذا الجسم، وأكافح في هذه الحياة، وتهد قواي في سن الشيخوخة، ثم أستريح بالموت. وإذن فذلك الذي يعنى بمولدي هو الذي يعنى بوفاتي. فهاهو ذا صاهر يصب المعادن. فإذا كان المعدن الذي يتأرجح
صفحة رقم : 1183
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأقصى -> الصين -> عصر الفلاسفة -> اشتراكيون وفوضويون -> جونج دزه المثالي

أثناء صبه يناديه. "يجب أن أكون مويه (سيفاً قديماً مشهوراً) فإن الصاهر العظيم يعد هذا المعدن معدناً خبيثاً بلا ريب. وذلك أيضاً شأن الإنسان، فإذا ما أصر أن يكون إنساناً ولا شيء غير إنسان، لأنه في يوم من الأيام قد تشكل في صورة الإنسان، إذا فعل هذا فإن من بيده تصوير الأشياء وتشكيلها سيعده بلا ريب مخلوقاً خبيثاً. وإذن فلننظر إلى السماء والأرض نظرتنا إلى مصهر عظيم، ولننظر إلى مبدل الأشياء نظرتنا إلى صاهر عظيم؛ فهل لا نكون في مكاننا الحق أينما ذهبنا؟ إن السكون هو نومنا والهدوء هو يقظتنا" (203).
ولما تصرم أجل جونج نفسه أعد أتباعه له جنازة فخمة ولكنه نهاهم عن ذلك وقال لهم: "أليس موكب جنازتي معداً إذا كانت السماء والأرض تابوتي وغطائي، والشمس والقمر والنجوم شعائري، والخلائق كلها تشيعني إلى قبري؟" ولما عارض أتباعه في هذا، وقالوا إنه إن لم يدفن أكلت طيور الهواء الجارحة لحمه، رد عليهم جونج بقوله: "سأكون فوق الأرض طعاماً للحِدَأ، وسأكون تحتها طعاماً لصراصير الطين والنمل؛ فلم تحرمون بعضها طعامها لتقدموه للبعض الآخر؟" (204).
وإذا كنا قد أطنبنا في الكلام على فلاسفة الصين الأقدمين فإن بعض السبب في هذا يرجع إلى أن مشكلات الحياة الإنسانية المعقدة العسيرة الحل ومصائرها تستغرق تفكير العقل الباحث، وأن بعضه الآخر يرجع إلى أن علم فلاسفة الصين الأقدمين هو أثمن تراث خلفته تلك البلاد للعالم. ومن الدلائل القوية على قدر هذه الفلسفة أن ليبنتز
Leibbnitz صاحب العقل العالمي الواسع، قام من زمن بعيد (في عام 1697م)، بعد أن درس الفلسفة الصينية، ينادي بضرورة تطعيم فلسفة الشرق والغرب كلتيهما بالأخرى وعبر عن رأيه هذا بألفاظ ستظل محتفظة بقيمتها في كل عصر ولكل جيل:
"إن الأحوال السائدة بيننا وما استشرى في الأرض من فساد طويل
صفحة رقم : 1184

قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأقصى -> الصين -> عصر الفلاسفة -> اشتراكيون وفوضويون -> جونج دزه المثالي

العهد تكاد كلها تحملني على الاعتقاد بأن الواجب أن يرسل إلينا مبشرون صينيون ليعلمونا أساليب الأديان القومية وأهدافها... ذلك بأني أعتقد أنه لو عين رجل حكيم قاضياً... ليحكم أي الشعوب أفضل أخلاقاً من سواها، لما تردد في الحكم للصين بالأسبقية في هذا المضمار" (205). وقد طلب ليبنتز إلى بطرس الأكبر أن ينشأ طريقاً برياً للصين، ودعا إلى إنشاء جمعيات في موسكو و برلين "لارتياد الصين وتبادل المدينتين الصينية والأوربية" (206). وفي عام 1721م بذل كرستيان ولف
Christian Wolff مجهوداً آخر في هذا السبيل وذلك بما ألقاه من محاضرات في جامعة هالHalle "عن فلسفة الصينيين العملية"، واتهمه ولاة الأمور بالإلحاد وفصلوه من منصبه، فلما أن جلس فردرك الأكبر على عرش بروسيا دعاه إليها ورد إليه اعتباره (207).
وجاء عصر الاستنارة في فرنسا فعني بالفلسفة الصينية كما عني بتنسيق الحدائق الفرنسية على نمط الحدائق الصينية وتزيين المنازل بالنقوش والأدوات الصينية. ويلوح أن الفلاسفة الاقتصاديين الطبيعيين (الفزيوقراطيين) قد تأثروا بآراء لو- دزه، وجونج- دزه في نظرية "التخلي"
Laissez faire وترك الأمور تجري في مجراها، وهي النظرية الاقتصادية التي يقولون بها ويدعون إليها(208). ولقد كان روسو يتحدث في بغض الأحيان كما يتحدث المعلم القديم وإنا لنتبين صلة وثيقة بينه وبين لو- دزه وجونج، ولو أن كنفوشيوس
صفحة رقم : 1185
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأقصى -> الصين -> عصر الفلاسفة -> اشتراكيون وفوضويون -> جونج دزه المثالي

ومنشيس قد وهبا ملكة الفكاهة لكانت الصلة وثيقة بينهما وبين فلتير. وفي هذا يقول فلتير نفسه: "لقد قرأت كتب كنفوشيوس بعناية، واقتبست فقرات منها ولم أجد إلا أنقى المبادئ الخلقية التي لا تشوبها أقل شائبة من الشعوذة" (210). وقد كتب جيته في عام 1770م يقول إنه اعتزم أن يقرأ كتب الصين الفلسفية القديمة، ولما دوت مدافع نصف العالم في ليبزج Leipzig بعد ثلاثة وأربعين عاماً من ذلك الوقت لم يلتفت إليها الحكيم الشيخ لأنه كان منهمكاً في دراسة الآداب الصينية(211).
ولعل هذه المقدمة القصيرة غير العميقة تحفز القارىء إلى متابعة دراسة الفلاسفة الصينيين أنفسهم كما درسهم جيته وفلتير وتولستوي.

صفحة رقم : 1186
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأقصى -> الصين -> عصر الشعراء -> بسمرك الصين

الباب الرابع والعشرون
عصر الشعراء
الفصل الأول
بسمرك الصين
عهد الدول المتنازعة - انتحار تشوبنج - شي هونج - دي يوحد
الصين - السور الكبير - "إحراق الكتب" - إخفاق شي هونج - دي
أكبر الظن أن كنفوشيوس مات بائساً، لأن الفلاسفة يحبون توحيد البلاد، ولأن الأمة التي حاول أن يوحدها تحت حكم أسرة قوية ظلت سادرة في الفوضى والفساد والانقسام. ولما أن ظهر هذا الموحد العظيم في آخر الأمر واستطاع بعبقريته الحربية والإدارية أن يؤلف من دويلات الصين دولة واحدة أمر بأن يحرق كل ما كان باقياً من كتب كنفوشيوس.
وفي وسعنا أن نحكم على الجو الذي كان يسود "عهد الدول المتنازعة" من قصة تشوبنج، وهو رجل بدأ نجمه يلمع في سماء الشعر، حتى سما إلى مركز عظيم في وظائف الدولة، ثم ألفى نفسه وقد طرد من منصبه على حين غفلة، فاعتزل الحياة العامة ولجأ إلى الريف وأخذ يفكر في الحياة والموت إلى جانب غدير هادئ، وسأل متنبئاً من المتنبئين:

"هل ينبغي لي أن أواصل السير في طريق الحق والوفاء؟، أو أسير في ركاب جيل فاسد ضال؟ هل أعمل في الحقول بالفأس والمجرف أو أسعى للرقي في حاشية عظيم من العظماء؟ هل أعرّض نفسي للخطر بما أنطق به من صريح اللفظ أو أتذلل بالنغم الزائف للأثرياء والعظماء؟ وهل أظل قانعاً راضياً بنشر الفضيلة
صفحة رقم : 1187
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأقصى -> الصين -> عصر الشعراء -> بسمرك الصين

أو أمارس فن مصانعة النساء كي أنال النجاح؟ هل أكون نقي السريرة، طاهر اليد صالحاً مستقيماً، أو أكون معسول الكلام، مذبذباً، متزلفاً، نهازاً للفرص؟"(1).
وتخلص الرجل من هذه المشكلة العويصة بالانتحار غرقاً (حوالي 350 ق.م). ولا يزال الصينيون حتى يومنا هذا يحيون ذكراه في كل عام، ويحتفلون بهذه الذكرى في يوم عيد القارب الكبير وهو اليوم الذي ظلوا يبحثون فيه عن جثته في كل مجرى من المجاري المائية.
وكان الرجل الذي وحد الصين من أصل وضيع هو أدنأ الأصول التي استطاع المؤرخون الصينيون أن يخترعوها. فهم يقولون لنا أن شي هونج - دي كان ابناً غير شرعي لملكة تشين (لإحدى الولايات الغربية) من الوزير النبيل "لو"، وهو الوزير الذي اعتاد أن يعلق فوق باب داره ألف قطعة من الذهب جائزة لمن يستطيع أن يصلح كلمة واحدة من كتاباته(2) (ولم يرث ابنه عنه هذا الذوق الأدبي الممتاز).

ويقول زوماتشين إن شي اضطر والده إلى الانتحار واضطهد والدته، وجلس على كرسي الإمارة وهو في الثانية عشرة من عمره. ولما أن بلغ الخامسة والعشرين بدأ يفتح البلاد ويضم الدويلات التي كانت الصين منقسمة إليها من زمن بعيد؛ فاستولى على دولة هان في عام 230ق.م، وعلى جو في عام 228، وعلى ويه في عام 225، وعلى تشو في عام 223، وعلى ين في عام 222؛ واستولى أخيراً على دولة تشي المهمة في عام 221؛ وبهذا خضعت الصين لحكم رجل واحد لأول مرة منذ قرون طوال، أو لعل ذلك كان لأول مرة في التاريخ كله. ولقب الفاتح نفسه باسم شي هونج - دي، ثم وجه همه إلى وضع دستور ثابت دائم لإمبراطوريته الجديدة.
أما أوصاف هذا الرجل الذي يعده المؤرخون الصينيون عدوهم الألد،
صفحة رقم : 1188
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأقصى -> الصين -> عصر الشعراء -> بسمرك الصين

فكل ما خلفوه لنا منها وهو قولهم انه كان "رجلا كبير الأنف، واسع العينين، ذا صدر كصدر الطائر الجارح، وصوت شبيه بابن آوى، لا يفعل الخير، له قلب كقلب النمر أو الذئب"(3). وكان قوى الشكيمة عنيداً لا يحول عن رأيه، ولا يعترف بالألوهية إلا لنفسه، اجتمعت فيه عقائد نيتشه وبسمرك، وعقد العزم على أن يوحد بلاده بالدم والحديد. ولما وحد بلاد الصين وجلس على عرشها كان أول عمل قام به أن حمى بلاده من الهمج البرابرة المجاورين لحدودها الشمالية، وذلك بأن أتم الأسوار التي كانت مقامة من قبل عند حدودها، ووصلها كلها بعضها ببعض. وقد وجد في أعدائه المقيمين في داخل البلاد مورداً سهلاً يستمد منه حاجته من العمال لتشييد هذا البناء العظيم الذي يعد رمزاً لمجد الصين ودليلاً على عظيم صبرها. ويبلغ طول السور العظيم ألفاً وخمسمائة ميل، وتتخلله في عدة أماكن منه أبواب ضخمة على النمط الآشوري، وهو أضخم بناء أقامه الإنسان في جميع عصور التاريخ، ويقول عنه فلتير: "إن أهرام مصر إذا قيست إليه لم تكن إلا كتلاً حجرية من عبث الصبيان لا نفع فيها"(4). وقد احتاج تشييده إلى عشر سنين وإلى عدد لا يحصى من الخلق؛ ويقول الصينيون إنه "أهلك جيلا من الناس، وأنقذ كثيراً من الأجيال". على أنه لم يصد الهمج عن الصين كما يتبين لنا ذلك فيما بعد، ولكنه عطل هجومهم عليها وقلل من حدته. وحال بين إغارتهم على أرض الصين زمناً ما، فاتجهوا غرباً إلى أوربا، ثم اجتاحوا بلاد إيطاليا، وسقطت رومة في أيديهم لأن الصين أقامت سورها العظيم.
ثم ترك شي هونج - دي، وهو مغتبط مسرور، شؤون الحرب ووجه عنايته، كما وجهها نابليون من بعده، إلى شؤون الإدارة، ووضع القواعد العامة التي قامت عليها الدولة الصينية في المستقبل. وعمل بمشورة لي - سيو، المشترع الكبير ورئيس وزرائه، فاعتزم ألا يقيم المجتمع الصيني على العادات المألوفة وعلى
صفحة رقم : 1189

قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأقصى -> الصين -> عصر الشعراء -> بسمرك الصين

الاستقلال المحلي للولايات، بل اعتزم أن يقيمه على قواعد القانون الصريح وعلى الحكومة المركزية القوية. ولذلك قضى على قوة أمراء الإقطاع، واستبدل بهم طائفة من كبار الموظفين تعينهم الوزارة القومية في مناصبهم؛ وأقام في كل مركز من المراكز حامية عسكرية مستقلة عن الحاكم المدني، وسن للبلاد قوانين وأنظمة موحدة، وبسط الاحتفالات الرسمية، وسك عملة للدولة، وجزأ معظم الضياع الإقطاعية، ومهد السبيل لرخاء الصين بإنشاء الملكيات الزراعية، ولوحدتها القوية بإنشاء الطرق الكبيرة الممتدة من هين - يانج عاصمة ملكه إلى جميع أطراف إمبراطوريته. وجمل العاصمة بما أقامه فيها من القصور الكثيرة، وأقنع أغنى أسر الدولة وأقواها سلطاناً البالغ عددها 000ر12 أسرة بأن تعيش في هذه العاصمة تحت إشرافه ورقابته. وكان يسير في البلاد متخفياً ومن غير حرس، يتفقد أحوالها ويتعرف ما فيها من خلل وفساد وسوء نظام، ثم يصدر الأوامر الصريحة لإصلاح هذه العيوب، وقد شجع العلم وقاوم الأدب(5).
ذلك أن رجال الأدب من شعراء، ونقدة، وفلاسفة بوجه عام، وطلاب الفلسفة الكنفوشية بنوع خاص، كانوا أعدى أعدائه. فقد كانوا يتبرمون بسيطرته القوية الشاملة، وكانوا يرون أن إنشاء حكومة مركزية عليا سيقضي لا محالة على تباين أساليب التفكير والحياة وحريتهما.

وقد كان هذا التباين وتلك الحرية مصدر الانتعاش الأدبي طوال عهد الحروب والانقسامات أيام أسرة جو. فلما أقبل هؤلاء العلماء على شي هونج - دي يحتجون عليه لإغفاله الاحتفالات القديمة رد عليهم رداً جافاً وأمرهم ألا يتدخلوا فيما لا يعنيهم(6). وجاءه وفد من كبار العلماء الرسميين يعرضون عليه أنهم قد أجمعوا رأيهم على أن يطلبوا إليه إعادة النظام الإقطاعي بتوزيع الضياع على أقاربه؛ وأضافوا إلى ذلك قولهم: "لم يحدث قط فيما وصل إلى علمنا أن إنساناً لم يترسم خطوات أسلافه الأقدمين في أمر من الأمور ودام عمله طويلاً "(7). فرد عليهم
صفحة رقم : 1190
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأقصى -> الصين -> عصر الشعراء -> بسمرك الصين

لي سيو رئيس الوزراء، وكان وقتئذ يعمل على إصلاح الحروف الهجائية الصينية ويضعها في الصورة التي تكاد تحتفظ بها إلى يومنا هذا، رد عليهم بخطبة تاريخية لا ترفع من شأن الآداب الصينية قال:
"إن الملوك الخمسة لم يفعل كل منهم ما فعله الآخر، وإن الأسر المالكة الثلاث لم تحذ إحداها حذو الأخرى؛... ذلك أن الأيام قد تبدلت. والآن قد قمتم جلالتكم لأول مرة بعمل جليل، وأسستم مجداً سيدوم مدى عشرة آلاف جيل. لكن الحكام الأغبياء عاجزون عن فهم هذا العمل... لقد كانت الصين في الأيام الخالية مضطربة منقسمة على نفسها، ولم يكن بمقدور أحد أن يوحدها؛ ومن أجل هذا ساد النبلاء جميعاً وقويت شوكتهم؛ وهؤلاء النبلاء جميعاً تدور أحاديثهم كلها حول الأيام الخالية ليعيبوا هذه الأيام... وهم يشجعون الناس على اختراع التهم الباطلة، فإذا ترك لهم الحبل على الغارب، فسينحط مقام الملك في أعين الطبقات العليا، وستنتشر الأحزاب والفرق بين الطبقات السفلى.

"ولهذا اقترح أن تحرق التواريخ الرسمية جميعها عدا "مذكرات تشين، وأن يرغم الذين يحاولون إخفاء الشي - جنج، والشو - جنج ومحاورات المدارس المائة على أن يأتوا بها إلى ولاة الأمور لإحراقها"(8).
وأعجب الإمبراطور إعجاباً شديداً بهذه الفكرة، وأصدر الأمر بتنفيذ هذا الطلب، وجيء بكتب المؤرخين في كل مكان وألقيت في النار يرفع عبء الماضي عن كاهل الحاضر؛ وحتى يبدأ تاريخ الصين من عهد شي هونج - دي. ويلوح أن الكتب العلمية ومؤلفات منشيس قد نجت من النيران، وأن كثيراً من الكتب المحرمة قد احتفظ بها في دار الكتب الإمبراطورية حيث يستطيع الرجوع إليها الطلاب الذين يجيز لهم الإمبراطور هذا الاطلاع(9). وإذ كانت
صفحة رقم : 1191
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأقصى -> الصين -> عصر الشعراء -> بسمرك الصين

الكتب في تلك الأيام تكتب على شرائح من الخيزران يشد بعضهما إلى بعض بمشابك متحركة، وإذ كان المجلد الواحد لهذا السبب كبير الحجم ثقيل الوزن، فإن العلماء الذين حاولوا إخفاء هذه الكتب قد لاقوا عناء كبيراً. وكشف أمر بعضهم، وتقول الروايات إن كثيرين منهم أرسلوا للعمل في بناء السور الكبير، وأن أربعمائة وستين منهم أعدموا(10). ولكن بعض الأدباء حفظوا مؤلفات كنفوشيوس كلها عن ظهر قلب، ولقنوها لحفاظ مثلهم، فما إن توفى الإمبراطور عادت هذه الكتب من فورها إلى الظهور والانتشار، وإن كان كثير من الأغلاط قد تسرب في أكبر الظن إلى نصوصها. وكل ما كان لهذا التحريم من أثر خالد أن خلع على الآداب المحرمة هالة من القداسة وأن جعل شي هونج - دي مبغضاً إلى المؤرخين الصينيين. وظل الناس أجيالاً طوالاً يعبرون عن عقيدتهم فيه بتدنيس قبره(11).

وكان من أثر القضاء على الأسر القوية وعلى حرية الكتابة والخطابة أن أمسى شي في شيخوخته لا نصير له ولا معين. وحاول أعداؤه عدة مرات أن يغتالوه، ولكنه كان يكشف أمرهم في الوقت المناسب ويقتل بيده من يحاولون قتله. وكان يجلس على عرشه والسيف مسلول فوق ركبتيه، ولا يسمح لأحد أن يعرف في أية حجرة من حجرات قصوره الكثيرة ينام ليله(13). وقد حاول كما حاول الإسكندر من بعده أن يقوي أسرته بما يذيعه في الناس من أنه إله، ولكنه أخفق في غرضه هذا كما أخفق الإسكندر لأنه لم يستطع أن يقنع الناس بما بينه وبين الآلهة من شبه. وأصدر أمراً بأن يطلق عليه خلفاؤه "الإمبراطور الأول"، وأن يضعوا هم لأسمائهم أرقاماً مسلسلة من بعده تنتهي بالإمبراطور المتمم لعشرة آلاف من نسله. ولكن أسرته قضي عليها بموت ولده. وإذا جاز لنا أن نصدق أقوال المؤرخين الذين كانوا يبغضونه فإنه صار في شيخوخته يؤمن بالخرافات، وينفق الأموال الطائلة في البحث عن أكسير الخلود. ولما
صفحة رقم : 1192
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأقصى -> الصين -> عصر الشعراء -> بسمرك الصين

مات جيء بجسمه سراً إلى عاصمة ملكه، وقد نقلته إليها قافلة تحمل السمك النتن حتى تختفي بذلك رائحته الكريهة، ويقال أن بضعة آلاف من الفتيات قد دفن معه ليؤنسنه في قبره، وأن خلفه أراد أن يظهر اغتباطه بموته فنثر الأموال على قبره وأنفق الكثير منها في تزيينه، فنقشت على سقفه أبراج النجوم، وصورت على أرضه خريطة للإمبراطور بالزئبق فوق أرضية من البرنز، وأقيمت في القبة آلات تقتل من نفسها كل من يتعدى على حرمه القبر، وأشعلت فيه شموع ضخمة لكي تضيء أعمال الإمبراطور الميت وأعمال ملكاته إلى أمد غير محدود. أما العمال الذي حملوا التابوت إلى القبر فقد دفنوا فيه أحياء مع حملهم خشية أن يكشفوا للناس عن الطريق السري المؤدي إلى المدفن(14).

صفحة رقم : 1193

قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأقصى -> الصين -> عصر الشعراء -> تجارب في الاشتراكية

الفصل الثاني
تجارب في الاشتراكية
الفوضى والفقر - أسرة هان - إصلاحات وو دي - ضريبة الدخل -
مشروعات وانج مانج الاقتصادية - القضاء عليها - غزو التتار
وأعقب موته عهد من الفوضى والاضطراب كما تعقب الفوضى والاضطراب موت الطغاة جميعهم تقريباً في أحقاب التاريخ كلها. ذلك أنه في وسع إنسان أياً كان أن يجمع السلطة كلها في يده ويحسن التصرف فيها. وثار الشعب إلى ابنه وقتله بعد أن قتل هو لي سيو بقليل، وقضى على أسرة تشين، ولم يمض على وفاة مؤسسها أكثر من خمس سنين. وأقام الأمراء المتنافسون ممالك متنافسة متعادية وساد الاضطراب من جديد. ودامت هذه الحال حتى اغتصب العرش زعيم عسكري مغامر مرتزق يدعى جو - دزو، وأسس أسرة هان التي ظلت تحكم البلاد أربعمائة عام كاملة، تخللتها فترات أنزلت فيها عن العرش، وتبدلت فيها العاصمة مرة واحدة . وأعاد ون - دي (179-75ق.م.) إلى الشعب حرية القول والكتابة، وألغي المرسوم الذي حرم به هونج - دي انتقاد الحكومة، وجرى على سياسة السلم، وابتدع العادة الصينية المأثورة عادة هزيمة قائد الجيش العدو بتقديم الهدايا إليه(15).
وكان وو - دي أعظم الأباطرة من أسرة هان؛ وقد حكم البلاد زهاء نصف قرن (140-87 ق.م) وصد البرابرة المغيرين، وبسط حكم الصين على
صفحة رقم : 1194
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأقصى -> الصين -> عصر الشعراء -> تجارب في الاشتراكية

كوريا ومنشوريا وأنام، والهند الصينية والتركستان، وشملت الصين - لأول مرة في التاريخ جميع الأقاليم الشاسعة التي تعودنا أن نقرنها باسمها. وأخذ وو - دي يقوم بتجارب في الاشتراكية، فجعل موارد الثروة الطبيعية ملكاً للامة، وذلك ليمنع الأفراد "أن يختصوا أنفسهم بثروة الجبال والبحار، ليجنوا من ورائها الأموال الطائلة، ويخضعوا لهم الطبقات الدنيا(16). واحتكرت الدولة استخراج الملح والحديد وعصر الخمور وبيعها. وأراد وو - دي - كما يقول معاصره زوماتشين - أن يقضي على سلطان الوسطاء والمضاربين "الذين يشترون البضائع نسيئة، ويعقدون القروض، والذين يشترون ليكدسوا ما يشترونه في المدن، والذين يخزنون كل أنواع السلع"، فأنشأ نظاماً قومياً للنقل والتبادل تشرف عليه الدولة، وسعى للسيطرة على التجارة حتى يستطيع منع تقلب الأسعار الفجائي. فكان عمال الدولة هم الذين يتولون شئون نقل البضائع وتوصيلها إلى أصحابها في جميع أنحاء البلاد. وكانت الدولة نفسها تخزن ما زاد من السلع على حاجة الأهلين، وتبيعها إذا أخذت أثمانها في الارتفاع فوق ما يجب، كما كانت تشتريها إذا انخفضت الأسعار وبهذه الطريقة كان "أغنياء التجار وأصحاب المتاجر الكبيرة يمنعون من أن يجنوا الأرباح الطائلة... وكانت الأسعار تنظم وتتوازن في جميع أنحاء الإمبراطورية"(17). وكان دخل الأفراد كله يسجل في سجلات حكومية وتؤدى عنه ضريبة مقدارها خمسة في المائة. وكان الأمير يسك النقود المصنوعة من الفضة مخلوط بالقصدير لتكثر في أيدي الناس فيسهل عليهم شراء البضائع واستهلاكها. وشرع يقيم المنشآت العامة العظيمة ليوجد بذلك عملاً لملايين الناس الذين عجزت الصناعات الخاصة عن استيعابهم، فأنشئت الجسور على أنهار الصين وحفرت قنوات لا حصر لها لربط الأنهار بعضها ببعض وإرواء الحقول
صفحة رقم : 1195
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأقصى -> الصين -> عصر الشعراء -> تجارب في الاشتراكية

وازدهر النظام الجديد وأفلح إلى حين، وراجت التجارة، وكثرت البضائع وتنوعت، وارتبطت الصين مع الأمم المجاورة لها ومع أمم الشرق الأدنى البعيدة عنها(20). وكثر سكان عاصمتها لو - يانج وزادت ثروتها وامتلأت خزائن الدولة بالأموال، وانتشر طلاب العلم في كل مكان، وكثر الشعراء، وبدأ الخزف الصيني يتخذ منظراً جميلاً جذاباً. وجمع في المكتبة الإمبراطورية 123ر3 مجلداً في الأدب الصيني القديم، و 705ر2 في الفلسفة، و 388ر1 في الشعر، و 568ر2 في الرياضيات، و 868 في الطب، و 790 في فنون الحرب(21). ولم يكن أحد يعين في مناصب الدولة إلا إذا اجتاز امتحاناً تضعه لهذا الغرض، وكانت هذه الامتحانات عامة يتقدم إليها كل من شاء. والحق أن الصين لم يمر بها عهد من الرخاء كالذي مر بها تلك الأيام.
ولكن طائفة من الكوارث الطبيعية مضافاً إليها خبث بني الإنسان قضت على هذه التجربة الجريئة. فقد تعاقبت على البلاد سنون من الفيضان والجدب ارتفعت على أثرها أسعار السلع ارتفاعاً لم تقو الحكومة على وقفه. وتضايق الناس من غلو أثمان الطعام والكساء فصاحوا يطالبون بالعودة إلى الأيام الحلوة الماضية، التي أضحت في اعتقادهم خير الأيام وأكثرها رخاء، وأشاروا بأن يُغلى مقترح النظام الجديد في الماء وهو حي، ونادى رجال الأعمال بأن سيطرة الدولة قضت على الابتكار الفردي السليم وعلى التنافس الحر، وأبوا أن يؤدوا ما يلزم لهذه التجارب من الضرائب الباهظة التي كانت الحكومة تفرضها عليهم(22). ودخلت النساء بلاط الإمبراطور وبسطن نفوذهن السرى على كبار
صفحة رقم : 1196
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأقصى -> الصين -> عصر الشعراء -> تجارب في الاشتراكية

الموظفين، وأصبحن عنصراً هاماً في الموجة من الفساد انتشرت في طول البلاد وعرضها بعد وفاة الإمبراطور(23). وأخذ المزيفون يقلدون العملة الجديدة ونجحوا في تقليدها إلى حد اضطر الحكومة إلى سحبها من أيدي الناس، وعادت الخطة القديمة خطة استغلال الضعفاء، يسيطر عليها نظام جديد، ومضى قرن من الزمان نسيت فيه إصلاحات وو دي أو أضحت مسبة له وعاراً.
وجلس على عرش الصين مصلح آخر في بداية التاريخ المسيحي بعد أربعة وثمانين عاماً من موت وو دي، وكان في بادئ الأمر وصياً على العرش ثم أصبح فيما بعد إمبراطوراً. وكان هذا الإمبراطور وانج مانج من أرقى طراز وصل إليه الرجل الصيني الكامل المهذب؛ وكان على غناه يعيش عيشة معتدلة بل عيشة مقتصدة، ويوزع دخله على أقاربه وعلى الفقراء من أهل البلاد . وقد قضى جل وقته يكافح لإعادة النظام إلى أحوال البلاد الاقتصادية والسياسية، ولكنه مع ذلك وجد فسحة من الوقت لا لمناصرة الأدب والعلم فحسب بل للاشتغال بهما بنفسه حتى أصبح من أكمل الناس ثقافة وتهذيباً؛ ولما جلس على سرير المُلك لم يحط نفسه بما يحيط به الملوك أنفسهم من الساسة، بل جمع حوله رجالاً من الأدباء والفلاسفة، وإلى هؤلاء الرجال يعزو أعداؤه أسباب إخفاقه، وإليهم يعزو أصدقاؤه أسباب نجاحه.
وروع وانج مانج في بداية حكمه انتشار الرق في ضياع الصين الكبيرة، فلم يكن منه إلا أن ألغى الرق وألغى الضياع بتأميم الأرض الزراعية، فقسمها قطعاً متساوية ووزعها على الزراع، ثم حرم بيع الأرض وشراؤها ليمنع بذلك عودة الأملاك الواسعة إلى ما كانت عليه من قبل(25). واحتفظ باحتكار الدولة للملح والحديد وأضاف إلى ذلك امتلاكها للمناجم وإشرافها على تجارة الخمور.
صفحة رقم : 1197
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأقصى -> الصين -> عصر الشعراء -> تجارب في الاشتراكية

وحاول كما حاول وودي أن يحمي الزراع والمستهلكين من جشع التجار بتحديد أثمان السلع. فكانت الدولة تشتري ما زاد على الحاجة من الحاصلات الزراعية وتبيعها إذا عزت وغلا ثمنها. وكانت الحكومة تقدم القروض بفائدة منخفضة لكل مشروع إنتاجي(26).
لكن وانج لم يفكر في خططه إلا من الناحية الاقتصادية ونسي طبائع الآدميين. فكان يعمل الساعات الطوال بالليل والنهار ليبتكر الخطط التي تزيد ثروة الأمة وأسباب سعادتها، ولكن أحزنه وأضرم قلبه أن وجد الاضطراب الاجتماعي ينتشر في البلاد في أثناء حكمه. فقد ظلت الكوارث الطبيعية كالفيضان والجدب تعطل مشروعاته الاقتصادية، واجتمعت كل الطوائف التي قضت هذه المشروعات على مطاعمها وأخذت تكيد له وتعمل لإسقاطه. فثار نقع الفتن في البلاد يصلت سيفها الشعب في الظاهر، ولكن أكبر الظن أن القائمين بها كانوا يتلقون الأموال من مصادر عليا. وبينما كان وانج يكافح ليقلم أظفار هذه الفتن، وقد ساءه كفر الشعب بفضله وجحوده بنعمته، إذ أخذت الشعوب الخاضعة لسلطان الصين تشق عصا الطاعة، كما أخذ برابرة الشيونج - نو يجتاحون الولايات الشمالية، فأضعف ذلك كله من هيبة الإمبراطور.
وتزعمت أسرة ليو الغنية ثورة عامة اندلع لهيبها في البلاد واستولت على شانج - آن، وقتلت وانج مانج، وألغت جميع إصلاحاته، وعاد كل شيء إلى ما كان عليه من قبل.
وجلس على العرش في أواخر أيام أسرة هان جماعة من الأباطرة الضعاف خاف بعضهم بعضاً، وانتهى بهم عهد هذه الأسرة؛ وأعقب ذلك عهد من الفوضى حكمت في أثنائه أسر خاملة الذكر، انقسمت البلاد في أيامها إلى دويلات متعددة. وتدفق التتار على البلاد ولم يصدهم عنها السور على مساحات واسعة من أجزائها الشمالية، وكانت غارات هؤلاء التتار
صفحة رقم : 1198
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأقصى -> الصين -> عصر الشعراء -> تجارب في الاشتراكية

سبباً في اضطراب حياة الصين والقضاء على حضارتها النامية، كما كانت غارات الهون الذين يمتون إلى التتار بأواصر القرابة العنصرية سبباً في اضطراب نظام الإمبراطور الرومانية وإلقاء أوربا في غمار الفوضى التي أرجعها نحو مائة عام كاملة. وفي وسعنا أن ندرك ما يمتاز به الصينيون من صلابة عنصرية، ومن قوة في الأخلاق والثقافة، إذا عرفنا أن هذا الاضطراب كان أقصر أجلاً وأقل عمقاً من الاضطراب الذي قضى على الدولة الرومانية. فلما أن انقضى عهد من الحروب والفوضى والامتزاج العنصري بين المغيرين والأهلين، أفاقت الحضارة الصينية من سباتها، وانتعشت انتعاشاً رائعاً يبهر الأنظار.
ولعل دم التتار الجديد قد بعث القوة في أمة كانت قد أدركتها الشيخوخة. وقبل الصينيون الغزاة الفاتحين بينهم، وتزوجوا منهم، وحضروهم، وارتقوا هم وإياهم إلى أسمى ما بلغوه من المجد في تاريخهم الطويل.

صفحة رقم : 1199
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأقصى -> الصين -> عصر الشعراء -> مجد تانج

الفصل الثالث
مجد تانج
الأسرة المالكة الجديدة - خطة ناي دزونج في تقليل الجرائم - عصر رخاء -
"الإمبراطور النابه" - رواية يانج - جوي - في - ثورة آن لو - شان

تعزى نهضة الصين الكبرى في العصر الذي سنتحدث عنه في هذا الفصل إلى أسباب ثلاثة وهي: امتزاج هذين الشعبين، والقوة الروحية التي انبعثت من دخول البوذية فيها، وعبقرية إمبراطور من أعظم أباطرتها وهو ناي دزونج الذي حكمها من عام 627 إلى عام 650 بعد الميلاد. جلس هذا الإمبراطور على عرش الصين وهو في الحادية والعشرين من عمره بعد أن نزل عنه أبوه جو - دزو الثاني الذي أقام أسرة تانج قبل ذلك الوقت بتسع سنين. وقد بدأ حكمه بداية غير مبشرة بخير، وذلك بقتل أخوته الذين كانوا يهددونه باغتصاب عرشه، ثم أظهر كفايته العسكرية برد غارات القبائل الهمجية إلى مواطنها الأصلية، وإخضاع الأقاليم المجاورة التي خرجت على حكم الصين بعد سقوط أسرة هان. ثم عافت نفسه الحرب فجأة وعاد إلى شانجان عاصمة ملكه وخصص جهوده كلها للأعمال السلمية، فقرأ مؤلفات كنفوشيوس مرة بعد مرة، وأمر بنشرها في شكل بديع رائع وقال في هذا: "إنك إذا استعنت بمرآة من الشبهان فقد تستطيع أن تعدل وضع قلنسوتك على رأسك؛ وإذا اتخذت الماضي مرآة لك فقد تستطيع أن تتنبأ بقيام الإمبراطوريات وسقوطها". ورفض كل أسباب الترف وأخرج من قصره الثلاثة آلاف من السيدات اللاتي جيء بهن لتسليته.
صفحة رقم : 1200
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأقصى -> الصين -> عصر الشعراء -> مجد تانج

ولما أشار عليه وزراؤه بوضع القوانين الصارمة لقمع الجرائم قال لهم: "إني إذا أنقصت نفقات المعيشة، وخففت أعباء الضرائب، ولم أستعن إلا بالأمناء من الموظفين حتى يحصل الناس على كفايتهم من الكساء، كان أثر هذه الأعمال في منع السرقات أعظم من أثر أقسى أنواع العقاب"(27).

وزار الإمبراطور يوماً سجون شانجان فرأى فيها مائتين وتسعين سجيناً حكم عليهم بالإعدام. فلم يكن منه إلا أن أرسلهم ليحرثوا الأرض واكتفى منهم بأن يعدوه بشرفهم أن يعودوا إلى سجنهم. وكان أن عادوا جميعاً، وبلغ من سرور تاي دزونج أن أمر بالإفراج عنهم كلهم، وسن من ذلك الوقت قانوناً يقضي بالا يصادق أي إمبراطور على حكم بالإعدام إلا بعد أن يصوم ثلاثة أيام. وجمّل عاصمة ملكه حتى أقبل عليها السياح من الهند ومن أوربا، وجاء إلى الصين عدد كبير من الرهبان البوذيين الهنود، وكان البوذيون الصينيون أمثال يوان جوانج يسافرون بكامل حريتهم إلى بلاد الهند ليأخذوا دين الصين الجديد عن مصادره الأصلية. وجاء المبشرون إلى شانجان ليبشروا بالأديان الزرادشتية والنسطورية المسيحية، وكان الإمبراطور يرحب بهم كما كان يرحب بهم أكبر، ويبسط عليهم حمايته، ويطلق لهم كامل حريتهم، ويعفي معابدهم من الضرائب، وذلك في الوقت الذي كانت فيه أوربا تعاني آلام الفاقة والجهالة والمنازعات الدينية. أما هو نفسه فقد بقى كنفوشياً بسيطاً بعيداً عن التحيز والتحكم في عقول رعاياه، وقد قال عنه مؤرخ نابه إنه لما مات حزن الناس عليه حزناً لم يقف عند حد، وبلغ من حزن المبعوثين الأجانب أنفسهم أن كانوا يثخنون أجسامهم بالجراح بالمدي والحراب، وينثرون دماءهم التي أراقوها بأنفسهم طائعين على نعش الإمبراطور المتوفي"(28).
لقد مهد هذا الإمبراطور السبيل إلى أعظم عصور الصين خلقاً وإبداعاً، فقد نعمت في عهده بخمسين عاماً من السلام النسبي واستقرار الحكم فشرعت
صفحة رقم : 1201
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأقصى -> الصين -> عصر الشعراء -> مجد تانج

تصدر ما زاد على حاجتها من الأرز والذرة والحرير والتوابل، وتنفق مكاسبها في ضروب من الترف لم يسبق لها مثيل. فغصت بحيرتها بقوارب التنزه المنقوشة الزاهية الألوان، واكتظت أنهارها وقنواتها بالسفن التجارية، وكانت المراكب تخرج من موانيها تمخر عباب البحار إلى الثغور البعيدة على شواطئ المحيط الهندي والخليج الفارسي. ولم تعرف الصين قبل ذلك العهد مثل هذه الثروة الطائلة؛ ولم تستمتع قط بما كانت تستمتع به وقتئذ من الطعام الوفير، والمساكن المريحة، والملابس الجميلة(29). وبينما كان الحرير يباع في أوربا بما يعادل وزنه ذهباً(30)، كان هو الكساء المألوف لنصف سكان المدن الصينية الكبرى، وكانت الملابس المتخذة من الفراء في القرن الثامن في شانجان أكثر منها في نيويورك في القرن العشرين. وكان في إحدى القرى القريبة من العاصمة مصانع للحرير تستخدم مائة ألف عامل(31). وصاح لي بو في إحدى الولائم: "ما أعظم هذا الكرم، وما أكثر هذا الإسراف في المال! أأقداح من اليشم الأحمر، وأطعمة شهية نادرة على موائد مرصعة بالجواهر الخضراء؟"(32). وكانت التماثيل تنحت من الياقوت، وأجسام الأثرياء من الموتى تدفن على فرش من اللؤلؤ(33). وكأنما أولع هذا الجنس العظيم بالجمال فجأة، وأخذ يكرم بكل ما في وسعه من كان قادراً على خلق هذا الجمال. ومن أقوال أحد النقاد الصينيين في هذا: "ذلك عصر كان فيه كل رجل بحق شاعرا" (34). ورفع الأباطرة الشعراء والمصورين إلى أعلى المناصب. ويروي "سير جون مانفيل" Sir John Manville أن أحداً من الناس لم يكن يجرؤ على أن يخاطب الإمبراطور إلا "إن كان شاعراً مطرباً يغني وينطق بالفكاهات" (35). وأمر أباطرة المانشو في القرن الثامن عشر الميلادي أن يوضع سجل يحوى ما قاله شعراء تانج، فكانت
صفحة رقم : 1202
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأقصى -> الصين -> عصر الشعراء -> مجد تانج

النتيجة أن وصل هذا السجل إلى ثلاثين مجلداً تحتوي 900ر48 قصيدة قالها 300ر2 شاعر، كانت هي التي أبقى عليها الدهر من هذه القصائد ومن أسماء أولئك الشعراء. وزاد ما في دار الكتب الإمبراطورية حتى بلغ 000ر54 مجلداً؛ وفي هذا يقول مردك Murdock : "ولا جدال في أن الصين كانت في ذلك الوقت أرقى البلاد حضارة، فقد كانت وقتئذ أعظم الإمبراطوريات قوة، وأكثرها استنارة، وأعظمها رقياً، وأحسنها حكماً على الأرض" (36)، "وقد شد ذلك العصر أرقى ما شهده العالم من الثقافات" .
وكان زينة هذا العصر كله منج هوانج - دي "الإمبراطور النابه" الذي حكم الصين نحو أربعين عاماً تخللتها فترات قصيرة كان فيها بعيداً عن العرش (713- 756 ب.م). وكان هذا الإمبراطور رجلاً اجتمعت فيه كثير من المتناقضات البشرية؛ فقد كان يقرض الشعر ويشن الحرب على البلاد النائية، ومن أعماله أنه فرض الجزية على تركيا وفارس وسمرقند، وألغى حكم الإعدام وأصلح إدارة السجون والمحاكم، ولم يرحم من لا يبادر بأداء الضرائب، وكان يتحمل راضياً مسروراً عنت الشعراء والفنانين والعلماء؛ وأنشأ كلية لتعليم الموسيقى في حديقة له تسمى "حديقة شجرة الكمثرى"، وقد بدأ حكمه متقشفاً متزمتاً، أغلق مصانع الحرير وحرم على نساء القصر التحلي بالجواهر أو الملابس المطرزة، ثم اختتمه أبيقورياً يستمتع بكل وسيلة من وسائل الترف، وضحى آخر الأمر بعرشه لينعم ببسمات يانج جوي - في.
وكان حين التقى بها في سن الستين، أما هي فكانت في السابعة والعشرين. وكانت قد قضت عشر سنين محظية لابنه الثامن عشر. وكانت بدينة ذات شعر
صفحة رقم : 1203
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأقصى -> الصين -> عصر الشعراء -> مجد تانج

مستعار، ولكن الإمبراطور أحبها لأنها كانت عنيدة، ذات أطوار شاذة، متغطرسة وقحة، وتقبلت منه إعجابه بها بقبول حسن، وعرفته بخمس أسر من أقاربها، وسمحت له بأن يعيّن أبناء هذه الأسر في وظائف مجزية سهلة في بلاطه.
وكان منج يسمى هذه السيدة "الطاهرة العظيمة"، وقد أخذ عنها فن الاستمتاع بضروب الترف والملاذ، وانصرف ابن السماء عن الدولة وشؤونها وعهد بالسلطة الحكومية كلها إلى يانج جو - جونج أخى السيدة الطاهرة، وهو رجل فاسد عاجز؛ وبينما كانت نذر الخراب والدمار تحيط به من فوقه ومن أسفل منه، كان هو يواصل ليله بنهاره منهمكاً في ضروب اللهو والفساد.
وكان في بلاط مانج رجل تتاري يسمى آن لو - شان يعشق هو الآخر يانج جوي - في، وقد كسب هذا الرجل ثقة الإمبراطور فرفعه إلى منصب حاكم إحدى الولايات الشمالية، وأمره على زهرة جيوش الإمبراطورية. ولم يلبث آن لو - شان أن أعلن نفسه إمبراطوراً على البلاد وزحف بجيوشه على شانجان. وتداعت حصون المدينة وكانت قد طال إهمالهما، وفر منج من عاصمة ملكه.
وتمرد الجنود الذين كانوا يحرسونه في فراره، وقتلوا يانج جو - جونج وجميع أفراد الأسر الخمس، واختطفوا يانج جوي - في من بين يدي الملك وقتلوها أمام عينيه. ونزل الإمبراطور عن عرشه بعد أن أذلته الشيخوخة والهزيمة، وعاثت جحافل آن شان الهمجية في المدينة فساداً، وقتلت عدداً كبيراً من أهلها ولم تفرق بين كبير وصغير . ويقال أن ستة وثلاثين مليوناً من الأنفس قد قضى عليهم في هذه الفتنة الصماء(39). ولكن الفتنة أخفقت آخر الأمر في الوصول
صفحة رقم : 1204
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأقصى -> الصين -> عصر الشعراء -> مجد تانج

إلى أغراضها، وقتل آن لو -شان بيد ابنه نفسه، وقتل هذا الابن بيد أحد القواد، ثم قتل هذا القائد ابن له. وظلت نار الفتنة مشتعلة حتى أكلت وقودها وخمدت جذورها في عام 672، وعاد منج هوانج محطماً كسير القلب إلى عاصمته المخربة. ومات فيها بعد بضعة أشهر من ذلك الوقت. وفي هذه الفترة من المآسي والحادثات الروائية العجيبة ازدهر الشعر الصيني ازدهاراً لم يكن له نظير من قبل.

صفحة رقم : 1205
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأقصى -> الصين -> عصر الشعراء -> الملاك المنفي

الفصل الرابع
الملاك المنفي
قصة لي بو - شبابه وبسالته وحبه - على القارب الإمبراطوري -
إنجيل الكرم - الحرب - تجوال لي بو - في السجن - "الشعر الخالد"
استقبل منج هوانج ذات يوم من أيام مجده، رسلاً من كوريا يحملون إليه رسائل خطيرة مكتوبة بلهجة لم يستطع أحد من وزرائه أن يفهمها، فصاح الإمبراطور غاضبا: "ما هذا؟ ألا يوجد بين هذا العدد الحجم من الحكام والعلماء والقواد رجل واحد ينجينا من هذه الورطة؟ قسماً إن لم أجد بعد ثلاثة أيام من يستطيع أن يحل رموز هذه الرسالة لأقصينكم جميعاً عن أعمالكم!".

وقضى الوزراء يوماً كاملاً يتشاورون ويتضجرون، وهم يخشون أن تطيح منهم مناصبهم ورؤوسهم. ثم تقدم الوزير هو جي- جانج إلى العرش وقال: "هل تأذن لأحد رعاياك أن يعلن لجلالتك أن في بيته شاعراً جليل الشأن يدعى لي متبحراً في أكثر من علم واحد؟ مُرْهُ أن يقرأ هذه الرسالة إذ ليس ثمة شيء يعجز عنه ". وأمر الإمبراطور أن يستدعى لي للمثول بين يديه من فوره. ولكن لي أبى أن يحضر بحجة أنه غير جدير بالاضطلاع بالواجب الذي طلب إليه أن يضطلع به، لأن الحكام قد رفضوا مقاله حينما تقدم لآخر امتحان عقد لطالبي الالتحاق بالوظائف العامة. واسترضاه الإمبراطور بأن منحه لقب دكتور من الدرجة الأولى، وخلع عليه حلة هذا اللقب. فجاء لي ووجد الذين امتحنوه بين الوزراء، وأرغمهم على أن يخلعوا له نعليه، ثم ترجم الوثيقة، وقد جاء فيها أن كوريا تعتزم خوض غمار الحرب لاستعادة حريتها. ولما قرأ لي هذه الرسالة أملى عليها رداً مروعاً، ينم عن علم غزير، وقعه الإمبراطور من فوره، وكاد
صفحة رقم : 1206
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأقصى -> الصين -> عصر الشعراء -> الملاك المنفي

أن يصدق ما أسره إليه "هو" وهو أن لي ملاك طرد من السماء لأنه ارتكب فيها ذنباً عظيماً . وأرسل الكوريون يتعذرون، وأدوا الجزية عن يد وهم صاغرون، وأرسل الإمبراطور بعض هذه الجزية إلى لي فوهب بعضها إلى صاحب الحانة لأنه كان يحب الخمر.

وكانت أم لي قد رأت في منامها ليلة مولد الشاعر الكوكب الأبيض الكبير الذي يسميه الصينيون ثاي- بو جنج ويسميه أهل الغرب فينوس . ولهذا سمى الطفل لي أي البرقوقة ولقب ثاي- بو أي النجم الأبيض. ولما بلغ العاشرة من عمره كان قد أتقن كتب كنفوشيوس، كما كان في مقدوره أن ينظم الشعر الخالد. وفي الثانية عشرة خرج إلى الجبال ليعيش فيها عيشة الفلاسفة، وأقام فيها سنين طوالاً، حسنت في خلالها صحته، وعظمت قوته، وتدرب على القتال بالسيف ثم أعلن إلى العالم مقدرته وكفايته فقال: إني وإن لم يبلغ طول قامتي سبع أقدام (صينية) فإن لي من القوة ما أستطيع به ملاقاة عشرة آلاف رجل"(41) (وعشرة آلاف لفظ يعبر به الصينيون عن الكثرة) ثم أخذ يضرب في الأرض يتلقى أقاصيص الحب من أفواه الكثيرين، وقد غنى أغنية "لفتاة من وو" قال فيها:
نبيذ الكروم
وأقداح الذهب
وفتاة حسناء من وو-
في سن الخامسة عشرة، تقبل على ظهر مهر،
ذات حاجبين قد خُطّا بقلم أزرق-
وحذاءين من النسيج القرنفلي المشجر-
صفحة رقم : 1207
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأقصى -> الصين -> عصر الشعراء -> الملاك المنفي

لا تفصح عن ما في نفسها-
ولكنها تغني أغاني ساحرة.
وقد أخذت تطعم الطعام على المائدة،
المرصعة بأصداف السلاحف.
ثم سكرت في حجري.
أي طفلتي الحبيبة! ما أحلى العناق.
خلف ستائر المطرزة بأزهار السوسن!
ثم تزوج الشاعر، ولكن مكاسبه كانت ضئيلة، فغادرت زوجته بيته وأخذت معها أبناؤه. ترى هذه الأسطر التي يبث فيها شوقه موجهة إليها، أو إلى حبيبة أخرى لم يطل عهد الوداد بينهما؟-
أيتها الحسناء، لقد كنت وأنت عندي أملأ البيت زهراً.
أما الآن أيتها الحسناء وقد رحلت- فلم يبق فيه إلا فراش خال.
لقد طوى عن الفراش الغطاء المزركش؛ ولست بقادر على النوم.
وقد مضت على فراقك ثلاث سنين؛ ولا يزال يعاودني شذى العطر الذي خلفته ورائك.
إن عطرك يملأ الجو من حولي وسيدوم أبد الدهر؛

ولكن أين أنت الآن يا حبيبتي؟
إني أتحسر- والأوراق الصفراء تسقط عن الغصن،
وأذرف الدمع- ويتلألأ رضاب الندى الأبيض على الكلأ الأخضر.
وأخذ يسلي نفسه باحتساء الخمر، حتى أصبح أحد "الستة المتعطلين في أيكة الخيزران"، الذين يأخذون الحياة سهلة في غير عجلة، ويكسبون أقواتهم المزعزعة بأغانيهم وقصائدهم. وسمع لي الناس ينثون الثناء الجم على نبيذ نيو جونج فسافر
صفحة رقم : 1208
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأقصى -> الصين -> عصر الشعراء -> الملاك المنفي

من فوره إلى تلك المدينة، وكانت تبعد عن بلده ثلاثمائة ميل(44).
والتقى في تجواله بدوفو الذي صار فيما بعد منافسه على تاج الصين الشعري، وتبادل هو وإياه القصائد الغنائية، وصارا يضربان في البلاد معاً كالأخوين، وينامان تحت غطاء واحد، حتى فرقت الشهرة بينهما. وأحبهما الناس جميعاً لأنهما كانا كالقديسين لا يؤذيان أحداً ويتحدثان إلى الملوك وإلى السوقة بنفس الأنفة والمودة اللتين يتحدثان بهما إلى الفقراء المساكين. ودخلا آخر الأمر مدينة شانجان وأحب "هو" الوزير الطروب شعر لي حباً حمله على أن يبيع ما عنده من الحلي الذهبية ليبتاع له الشراب، ويصفه دوفو بقوله:
أما لي بو فقدم له ملء إبريق،
يكتب لك مائة قصيدة.
وهو يغفو في حانة
في أحد شوارع مدينة شانجان؛
وحتى إذا ناداه مولاه،
فإنه لا يطأ بقدمه القارب الإمبراطوري.
بل يقول: "معذرة يا صاحب الجلالة.
أنا إله الخمر".
لقد كانت أيامه هذه أيام طرب ومرح؛ يعزه الإمبراطور، ويغمره بالهدايا جزاء ما كان يتغنى به من مديح يانج جوي- في الطاهرة. وأقام منج مرة مأدبة ملكية يوم عيد الفاونيا في فسطاط الصبار، وأرسل في طلب لي بو لينشد الشعر في مديح حبيبته. وجاء لي، ولكنه كان ثملاً لا يستطيع قرض الشعر. فألقى خدم القصر ماء بارداً على وجه الوسيم وسرعان ما انطلق الشاعر
صفحة رقم : 1209

قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأقصى -> الصين -> عصر الشعراء -> الملاك المنفي

يغني ويصف ما بين الفاونيا وحبيبته يانج من تنافس فقال:
في أثوابها جلال الغمام السابح،
وفي وجهها سنا الزهرة الناضرة.
أيها الطيف السماوي يا من لا يكون إلا في العلا
فوق قلة جبل الجواهر
أو في قصر البلور المسحور حين يرتفع القمر في السماء!
على أنني أشهد هاهنا في روضة الأرض-
حيث يهب نسيم الربيع العليل على الأسوار،
وتتلألأ نقاط الندى الكبيرة...
لقد هزم حنين الحب الذي لا آخر له
والذي حملته إلى القلب أجنحة الربيع.
ترى من ذا الذي لا يسره أن يكون هو الذي تغنى فيه هذه الأغنية؟ لكن الملكة أدخل في روعها أن الشاعر قد عرض بها أغنيته تعريضاً بها خفياً، فأخذت من هذه اللحظة تدس له عند الملك وتبعث الريبة في قلبه. وما زالت به تقلبه بين الذروة والغارب حتى أهدى لي- بو كيساً به نقود وصرفه. فأخذ الشاعر يهيم في الطرقات مرة أخرى يسلي نفسه باحتساء الخمر، "وانضم إلى الثمانية الخالدين أصحاب الكأس"، الذين كان شرابهم على لسان الناس في شانجان. وكان يرى رأي ليو لنج القائل إنه يحسن بالإنسان أن يسير وفي صحبته على الدوام خادمان يحمل أحدهما خمراً ويحمل الآخر مجرفاً يستعين به على دفنه حيث يخر صريعاً "لأن شئون الناس" كما يقول ليو "ليست إلا طحالب في نهر" (46). وكأنما أراد شعراء الصين أن يكفروا عن تزمت الفلسفة الصينية، فأطلقوا لأنفسهم العنان. وفي ذلك يقول لي بو: "لقد أفرغنا مائة إبريق من الخمر لنغسل بها
صفحة رقم : 1210
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأقصى -> الصين -> عصر الشعراء -> الملاك المنفي

أرواحنا ونطهرها من الأحزان التي لازمتنا طوال حياتنا" (47) وهو يترنم ببنت الحان ترنم عمر الخيام:
إن المجرى الدافق يصب ماءه في البحر ولا يعود قط.
ألا ترى فوق هذا البرج الشامخ
شبحاً أبيض الشعر يكاد يذوب قلبه حسرة أمام مرآته البراقة؟

لقد كانت هذه الغدائر في الصباح شبيهة بالحرير الأسود،
فلما أقبل المساء إذا هي كلها في بياض الثلج.
هيا بنا، ما دام ذلك في مقدورنا، نتذوق الملاذ القديمة،
ولا نترك إبريق الخمر الذهبي
يقف بمفرده في ضياء القمر...
إني لا أبغي سوى نشوة الخمر الطويلة،
ولا أحب أن أصحو قط من هذه النشوة...
هيا بنا أنا وأنتما نبتاع الخمر اليوم!
لم تقولان أنكما لا تملكان ثمنها؟
فجوادي المرقط بالأزهار الجميلة،
ومعطفي المصنوع من الفراء والذي يساوي ألف قطعة من الذهب
سأخرج عن هذين وآمر غلامي
أن يبتاع بهما الخمر اللذيذة
ولأنسى معكما يا صاحبي
أحزان عشرة آلاف من الأعمار!
ترى ما هي هذه الأحزان؟ أهي آلام من محب أزدرى حبه؟ لا نظن هذا لأن شعراء الصين لا يكثرون من الشكوى من آلام الحب، وإن كان
صفحة رقم : 1211
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأقصى -> الصين -> عصر الشعراء -> الملاك المنفي

الحب يملأ قلوبهم كما يملأ قلوبنا، وإنما الذي أذاق لي مرارة المآسي البشرية هو الحرب والنفي، وهو آن لو شان والاستيلاء على عاصمة البلاد، وفرار الإمبراطور وموت يانج، وعودة منج هوانج إلى قصوره المهجورة. وهو يقول في حسرة "ليس للحرب نهاية! " ثم يأسو للنساء اللاتي قدمن أزواجهن ضحايا لإله الحرب فيقول:
هاهو ذا شهر ديسمبر؛ وهاهي ذا فتاة يورتشاو الحزينة!
لقد امتنع عليها الغناء، وعز الابتسام، وحاجباها أشعثان،
وهي تقف بالباب، تنتظر عابري السبيل،
وتذكر ذلك الذي اختطف سيفه وسار لحماية الحدود،
ذلك الذي قاسى أشد الآلام في البرد القارس وراء السور العظيم،
ذلك الذي جندل في ساحة الوغى ولن يعود أبداً،
***
في مشيتها الذهبية النمراء التي تحتفظ فيها بالذكريات،
قد بقي لها سهمان مراشان بريشتين بيضاوين،
بين نسج العنكبوت وما تجمع من الغبار خلال السنين الطوال.
تلك أحلام الحب الجوفاء التي لا تستطيع العين أن تنظر إليها لما تسببه للقلب من أحزان،

ثم تخرج السهمين وتحرقهما وتدرو رمادهما في الرياح.
إن في وسع الإنسان أن يقيم سداً يعترض به مجرى النهر الأصفر،
ولكن من ذا الذي يخفف أحزان القلب إذا تساقط الثلج،
وهبت ريح الشمال؟(49)
وفي وسعنا الآن أن نتخيله ينتقل من بلد إلى بلد ومن ولاية إلى ولاية على
صفحة رقم : 1212
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأقصى -> الصين -> عصر الشعراء -> الملاك المنفي

الصورة التي وصفه بها دزو تشونج- جي: "على ظهرك حقيبة ملأى بالكتب، تطوف ألف ميل أو أكثر، وفي كمك خنجر وفي جيبك طائفة من القصائد"(50). وقد حبته رفقته القديمة للطبيعة في هذا التجوال الطويل بعزاء وسلوى وراحة تجل عن الوصف؛ وفي وسعنا أن نرى من خلال أشعاره أرض بلاده ذات الأزهار، ونشعر أن حضارة المدن قد أخذ عبئها الباهظ يثقل على الروح الصينية:
لم أعيش بين الجبال الخضراء؟
إني أضحك من هذا السؤال ولا أجيب عنه، إن روحي ساكنة صافية،
إنها تسكن سماء أخرى وأرضاً ليست ملكاً لإنسان.
إن أشجار الخوخ مزدهرة والماء ينساب من تحتها.
ثم انظر إلى هذه الأبيات:
أبصرت ضياء القمر أمام مخدعي.
فخلته الصقيع على الأرض.
ورفعت رأسي ونظرت إلى القمر الساطع فوق الجبل،
وطأطأت رأسي وفكرت في موطني البعيد.
ولما تقدمت به السن وابيض شعره امتلأ قلبه حناناً للأماكن التي قضى فيها أيام شبابه. وكم من مرة، وهو يحيى في العاصمة حياة اصطناعية، حنّ قلبه للحياة البسيطة الطبيعية التي كان يحياها في مسقط رأسه وبين أهله:
في أرض وو وأوراق التوت الخضراء،
نام دود الحرير مرات ثلاثاً.
وأرض لوه الشرقية حيث تقيم أسرتي،
لا أعرف من يزرع فيها حقولنا.
وليس في وسعي أن أعود لأقوم فيها بأعمال الربيع.
صفحة رقم : 1213
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأقصى -> الصين -> عصر الشعراء -> الملاك المنفي

ومع هذا فإني لا أستطيع أن أعمل شيئاً،بل أسير على ضفة النهر.

إن ريح الجنوب إذا هبت أطارت روحي المشوقة إلى وطني.
وحملتها معها إلى حانتنا المعهودة.
وهناك أرى شجرة خوخ على الجانب الشرقي من البيت.
بأوراقها وأغصانها الكثيفة تموج في الضباب الأزرق.
إنها هي الشجرة التي غرستها قبل أن أفارق الدار منذ سنوات ثلاث.
لقد نمت شجرة الخوخ الآن وطالت حتى بلغت سقف الحانة،
في أثناء تجوالي الطويل إلى غير أوبه.
أي بنيتي الجميلة يابنج- يانج، إني أراك واقفة
بجوار شجرة الخوخ، تنتزعين منها غصناً مزهراً،
تقطفين الأزهار، ولكني لست معك-
ودموع عينيك تفيض كأنها مجرى ماء!
وأنت يا ولدي الصغير بو سشين لقد نموت حتى بلغت كتفي أختك
وصرت تخرج معها تحت شجرة الخوخ!
ولكن من ذا الذي يربت على ظهرك هناك؟
إني حين أفكر في هذه الأمور تخونني حواسي
ويقطع الألم الشديد في كل يوم نياط قلبي.
وهاأنذا اقتطع قطعة من الحرير الأبيض وأكتب عليها هذه الرسالة
وأبعث بها إليك مصحوبة بحبي تجتاز الطريق الطويل إلى أعلى النهر
وكانت السنون الأخيرة من عمره سني بؤس وشقاء، لأنه لم ينزل قط من عليائه ليجمع المال، ولم يجد في أيام الفوضى والفتن ملكاً يحنو عليه ويرد عنه غائلة الجوع والحرمان. ولما عرض عليه لي- لنج أمير يونج أن ينضم إلى حاشيته
صفحة رقم : 1214
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأقصى -> الصين -> عصر الشعراء -> الملاك المنفي

قبل هذا راضياً مسروراً؛ ولكن لي- لنج خرج على خليفة منج هوانج، فلما أقلمت أظفار فتنته ألفى لي بو نفسه بين جدران السجن محكوماً عليه بالموت لأنه خان دولته.

ثم توسط له جوُو دزيئي القائد الذي أخمد ثورة آن لو شان، وطلب أن تفتدى حياة لي بو بنزوله هو عن رتبته ولقبه. وخفف الإمبراطور عنه الحكم واستبدل به النفي مدى الحياة. ثم صدر عفو عام بعد ذلك بقليل، وعاد الشاعر يتعثر إلى مسقط رأسه. ومرض وتوفي بعد ثلاث سنين من ذلك الوقت؛ وتقول الأقاصيص، التي يعز عليها أن تموت نفس قل أن يوجد مثلها بين النفوس ميتة عادية، إنه غرق في أحد الأنهار، بينما كان يحاول وهو ثمل جزلان أن يعانق صورة القمر.
وديوان شعره الرقيق الجميل المؤلف من ثلاثين مجلداً لا يترك مجالاً للشك في أنه حامل لواء شعراء الصين بلا منازع. وقد وصفه ناقد صيني: "بأنه قمة تاي الشامخة المشرفة على مئات الجبال والتلال؛ والشمس إذا طلعت خبا وميض ملايين من نجوم السماء".
لقد مات منج هوانج، وماتت يانج وعفا ذكرهما ولكن لي بو لا يزال يغني!
لقد بنيت سفينتي من خشب الأفاوية وصنع سكانها من خشب المولان.
وجلس العازفون عند طرفها وبيدهم الناي من الغاب المحلى بالجواهر والمزمار المرصع بالذهب.
ألا ما أعظم سروري إذا كان إلى جانبي دن الخمر اللذيذة وغيد حسان يغنين
ونحن نطفو فوق ظهر الماء تدفعنا الأمواج ذات اليمين وذات الشمال!
صفحة رقم : 1215
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأقصى -> الصين -> عصر الشعراء -> الملاك المنفي

إذاً لكنت أسعد من جنى الهواء الذي ركب على ظهر غرنيقه الأصفر،
حراً كعريس البحر الذي تعقب النوارس دون غرض يبتغيه،
إني الآن أهز الجبال الخمسة بضربات من وحي قلمي.
هاأنذا قد فرغت من قصيدتي. فأنا أضحك وسروري أوسع من البحر.
أيها الشعر الخالد! إن ألحان شوبنج لشبيهة في روعتها بالشمس والقمر،
أما قصور ملوك جو وأبراجهم فقد عفت آثارها من فوق التلال(55).
صفحة رقم : 1216
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأقصى -> الصين -> عصر الشعراء -> من خصائص الشعر الصيني

الفصل الخامس
من خصائص الشعر الصيني

النظم الطليق - التصوير - كل قصيدة صورة
وكل صورة قصيدة .. - العاطفية - كمال الشكل
ليس في وسعنا أن نحكم على الشعر الصيني بدراسة شعر لي وحده، فإذا أراد الإنسان إن يحس به (وهذا خير من الحكم عليه) وجب عليه أن يسلم نفسه في غير استعجال للكثيرين من الشعراء الصينيين وأساليبهم الشعرية الفذة. ولا جدال في أن بعض الصفات الدقيقة التي يتصف بها هذا الشعر تخفيها عنا ترجمته: فنحن لا نرى في هذه الترجمة الرموز الصينية الجميلة، التي يتكون كل منها من مقطع واحد ولكنه يعبر مع ذلك عن فكرة معقدة؛ ولا نرى السطور تجري من أعلى إلى أسفل ومن اليمين إلى اليسار، ولا ندرك الوزن والقافية اللذين يتشبثان بقوة بالقواعد والسوابق القديمة؛ ولا نستمع إلى النغمات - وما فيها من خفض ورفع - التي يترنم بها الشعر الصيني وجملة القول أن نصف ما في شعر الشرق الأقصى من جمال فني يضيع حين يقرؤه من يجب أن نسميه "أجنبياً عنه. إن خير القصائد الصينية في لغتها الأصلية لصورة مصقولة ثمينة لا تقل في صقلها وعظيم فنها عن المزهرية المنقوشة النادرة الجميلة؛ ولكنه بالنسبة إلينا لا يكون إلا نتفاً من القريض الخداع "الطليق" من الوزن أو الشعر ""التصويري" قد أدركه بعض الإدراك ونقله نقلاً ضعيفاً عقل جاد ولكنه عقل غريب عنه لا يمت إليه بصلة.
إن أهم ما نراه في هذا الشعر هو إيجازه؛ فنميل إلى الظن بأن هذه القصائد تافهة، وإذا ما قرأناها شعرنا بأنا قد لا نجد فيها ما في شعر ملتن وهومر من
صفحة رقم : 1217
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأقصى -> الصين -> عصر الشعراء -> من خصائص الشعر الصيني

عظمة تارة وملالة تارة أخرى. ولكن الصينيين يعتقدون أن الشعر كله يجب أن يكون قصيراً؛ وأن القصيدة والطول لفظان متناقضان، لأن الشعر في نظرهم نشوة وقتية بنت ساعتها تموت إذا طالت ومدت حتى صارت ملحمة، وأن رسالة الشاعر أن يرى الصورة ويرسمها بضربة ويسجل الفلسفة في بضعة سطور، وأن مثله الأعلى أن يجمع المعاني الكثيرة في أنغام قليلة. وإذ كانت الصور من جوهر الشعر، وكانت الكتابة الصينية في جوهرها كتابة تصويرية، كانت لغة الصين المكتوبة لغة شعرية بطبيعتها تنقاد للكتابة التصويرية، وتنفر من المعنويات المجردة التي لا يمكن التحدث عنها كما يتحدث عن المرئيات. وإذ كانت المعنويات تكثر كلما ارتقت الحضارة، فقد أضحت اللغة الصينية، في صورتها المكتوبة، أشبه بشفرة سرية ذات إيحاء دقيق. وكذلك كان الشعر الصيني بالطريقة نفسها، وقد يكون للسبب عينه، يجمع بين الإيحاء والتركيز، ويهدف بما يرسم من الصور إلى الكشف عن شيءخفي عميق. فهو لا يجادل ولا يناقش، بل يوحي ويوعز، ويترك أكثر مما يقول؛ وليس في وسع أحد غير الشرقي أن يستجيب لما يوعز به ويملأ الفراغ الذي يتركه. وفي هذا المعنى يقول الصينيون:
كان الأقدمون يرون أن أحسن الشعر ما كان معناه أبعد من لفظه، وما اضطر قارئه أن يستخلص معناه لنفسه . الشعر الصيني كالأخلاق الصينية والفن الصيني ذو جمال رائع لا حد له تخفيه بساطة هادئة مستكنة. فهو لا يعمد إلى الاستعارة والمجاز والتشبيه بل يعتمد على إظهار ما يريد أن يتحدث عنه، ويشير من طرف خفي إلى ما يتضمنه، ويتصل به، وهو يتجنب المبالغات والانفعالات ويلجأ إلى العقل الناضج بما فيه من إيجاز في القول وما يتقيد به من قيود. وقلما تراه في صور روائية هائجة، ولكن في مقدوره أن يعبر عن المشاعر القوية بأسلوبه الهادئ الرصين:
صفحة رقم : 1218
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأقصى -> الصين -> عصر الشعراء -> من خصائص الشعر الصيني

الناس يقضون حياتهم متفرقين كالنجوم تتحرك ولكنها لا تلتقي أبداً.
أما هذه العين فما أسعدها، إذ ترى مصباحاً واحداً يبعث الضوء لي ولك!
ألا ما أقصر أيام الشباب!
وإن لما منا لتدل الآن على أن حياتنا قد آذنت بالزوال.
بل إن نصف من نعرفهم قد انتقلوا الآن إلى عالم الأرواح.
ألا ما أشد وقع هذا على نفسي.
وقد يعترينا الملل في بعض الأحيان مما في هذه القصائد من التكلف العاطفي، وما تحويه من تحسر وتمن باطل بأن تقف عجلة الزمان دورتها حتى يبقى الرجال فتياناً وتحتفظ الدول بشبابها أبد الدهر. ونحن ندرك من هذا الشعر أن حضارة الصين كانت قد شاخت وانقضى عهد شبابها في أيام منج هوانج، وأن الشعراء في هذا العهد - كالفنانين في الشرق بوجه عام - قد أولعوا بتكرار الموضوعات التليدة، وأنهم كانوا يسخرون قدرتهم الفنية للاحتفاظ بالصيغ سليمة مبرأة من العيوب. ولكننا رغم هذا كله لا نجد لهذا الشعر مثيلاً في غير بلاد الصين، ولا نرى ما يضارعه في جمال التعبير وما فيه من رقة العواطف رغم اعتدالها، ومن بساطة واقتصاد في التعبير عن أعمق الأفكار. ويقال لنا إن للشعر الذي كتب في عهد أباطرة تانج أثراً عظيماً في تعليم كل شاب صيني وأن الإنسان لا يجد صينياً مفكراً لا يحفظ الكثير من ذلك الشعر عن ظهر قلب. فإذا صح هذا كان في تاريخ لي بو ودوفو بعض ما نجيب به حين نسأل لِمَ يكاد كل صيني متعلم أن يكون فناناً وفيلسوفاً؟

صفحة رقم : 1219
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأقصى -> الصين -> عصر الشعراء -> دوفو

الفصل السادس
دوفو
داوتشين - بو - جوي - قصائد لشفاء الملاريا - دوفو
ولي بو - رؤيا الحرب - أيام الرخاء - الإملاق - الموت

لي بو عند الصينيين شبيه بكيتس عند الإنجليز، ولكن للصين غيره من المغنين، لا يكاد يقلّ حبهم لهم عن حبهم للي بو، فمنهم داوتشين الشاعر الرواقي البسيط الذي اعتزل منصباً حكومياً، لأنه على حد قوله لم يعد في وسعه أن يحني فقرات ظهره نظير خمسة أرطال من الأرز في كل يوم" أي أن يبتاع مرتبه بكرامته. واعتزل داوتشين الحياة العامة كما اعتزلها كثيرون من رجال الدولة اشمئزازاً من حياة الوظيفة ذات النزعة التجارية , وذهب ليعيش في الغابات ينشد فيها "طول السنين وعمق الخمور"، ويجد في مجاري الصين وجبالها من السلوى والبهجة ما صوره رساموها على الحرير فيما بعد:
اقطف الأقحوان تحت السياج الشرقي،
ثم اسرح الطرف طويلاً في تلال الصيف البعيدة
وأملا صدري من هواء الجبال النقي عند مطلع الفجر،
وأرى الطيور تعود مثنى مثنى.
إن في هذه الأشياء لمعاني عميقة،
لكننا إذا شئنا التعبير عنها خانتنا الألفاظ فجأة . . .
ألا ما أسخف أن يقضي المرء حياته كأوراق الشجر الساقطة المطمورة في تراب الطرقات!
ولقد قضيت ثلاثة عشرة سنة من حياتي على هذا النحو. . .
صفحة رقم : 1220
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأقصى -> الصين -> عصر الشعراء -> دوفو

وعشت زمناً طويلاً حبيساً في قفص،
وهاأنذا قد عدت
إذ لا بد للإنسان أن يعود
ليحيا حياته الطبيعية

أما بو - جوي فقد سلك مسلكا آخر، إذ اختار المنصب الرسمي والحياة في العاصمة. وصار يرقى في المناصب العامة حتى أمسى حاكم مدينة هانج تشاو العظيمة ورئيس مجلس الحرب. لكنه رغم متاعب الحياة العامة عاش حتى بلغ الثانية والسبعين من العمر، وأنشأ أربعة آلاف قصيدة، وعب ملاذ الطبيعة في فترات نفي فيها من بلده( 58 ). وعرف السر الذي يستطيع به أن يجمع بين الوحدة والاختلاط بالجماهير، وبين الراحة والحياة الناشطة. ولم يكن كثير الأصدقاء لأنه كما يقول عن نفسه كان رجلاً وسطاً غير ممتاز في "الخط، والتصوير، والشطرنج، والميسر، وهي الوسائل التي تؤدي إلى اجتماع الرجال وإلى الضجة السارة" (59). وكان مولعاً بالتحدث إلى عامة الناس، ويروى عنه أنه كان يقرأ قصائده لعجوز قروية، فإذا عجزت عن فهم شيء منها بسطه لها. ومن ثم أصبح أقرب الشعراء الصينيين إلى قلوب الجماهير، وكان شعره ينقش في كل مكان، على جدران المدارس والمعابد وقمرات السفن. ويروى أن فتاة من المغنيات قالت لربان سفينة كانت تطربه ليس لك أن تظن أني راقصة عادية؛ وحسبك أن تعرف أن في مقدوري أن أسمعك قصيدة الأستاذ بو: الغلطة الأبدية" .
وآخر من نذكره من أولئك الشعراء هو دوفو الشاعر المحبوب العميق الذي يقول فيه آرثر ويلي
Arthur waley: "من عادة الذين يكتبون في الأدب
صفحة رقم : 1221
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأقصى -> الصين -> عصر الشعراء -> دوفو

الصيني من الإنجليز أن يقولوا إن لي تاي - بو أشعر شعراء الصين؛ أما الصينيون أنفسهم فيقولون إن دوفو هو حامل لواء الشعراء الصيني"(61).

ونحن نسمع به لأول مرة في شانجان حيث أقبل ليؤدي امتحاناً ليتقلد إذا نجح فيه منصباً حكومياً، ولكنه لم ينجح. على أن ذلك لم يفت في عضده، رغم أنه أخفق في مادة الشعر؛ وأعلن للجمهور أن قصائده علاج ناجع لحمى الملاريا، ويبدو أنه جرب هذا العلاج بنفسه(62). وقرأ بنج هوانج بعض أشعاره ووضع له هو نفسه امتحاناً آخر، وأنجحه فيه وعينه أمين أسرار القائد تسُوَّا. وشجع هذا العمل دوفو وأنساه وقتاً ما زوجته وأبناءه في قريتهم النائية، فأقام في العاصمة وتبادل هو ولي بو الأغاني، وأخذ يتردد على الحانات ويؤدي ثمن خمره شعراً. وقد كتب عن لي بو يقول:
أحب مولاي كما يحب الأخ الأصغر أخاه الأكبر،
ففي الخريف وفي نشوة الخمر ننام تحت غطاء واحد، وفي النهار نسير معاً يداً بيد.
فعل هذا في أيام كان منج ليانج يحب جوي - في فأخذ دو يتغنى بهذا الحب كما يتغنى غيره من الشعراء؛ فلما شبت نار الثورة وأغرقت الأحقاد والمطامع بلاد الصين في بحر من الدماء حول شعره إلى موضوعات حزينة، وأخذ يصور الناحية الإنسانية من الحرب:
في الليلة الماضية صدر أمر حكومي
بتجنيد الفتيان الذي بلغوا الثامنة عشرة.
وأمروا أن يعاونوا على الدفاع عن العاصمة
أيتها الأم! وأيها الأبناء! لا تبكوا هذا البكاء!
إن هذه الدموع التي تذرفونها تضر بكم.
وحين تقف الدموع عن الجريان تبرز العظام
صفحة رقم : 1222
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأقصى -> الصين -> عصر الشعراء -> دوفو

ووقتئذ لا ترحمكم الأرض ولا السماء.
وهل تعرفون أن في شانتونج مائتي مقاطعة قد استحالت صحاري مجدبة،
وأن آلافا من القرى والمزارع قد غطاها الحسك والشوك؟
وأن الرجال يذبحون ذبح الكلاب، والنساء يسقن كما يساق الدجاج...
ولو أنني كنت أعرف ما هو مخبأ للأولاد من سوء المصير
لفضلت أن يكون أطفالي كلهم بنات...
ذلك أن الأولاد لا يولدون إلا ليدفنوا تحت العشب الطويل.

ولا تزال عظام من قضت عليهم الحرب في الماضي البعيد مدفونة بجوار البحر الأزرق تراها وأنت مار.
فهي بيضاء رهيبة تراها العين فوق الرمال،.
هنالك تجتمع أشباح الصغار وأشباح الكبار لتصيح جماعات،
وإذا هطل المطر وأقبل الخريف وهبت الريح الباردة،
علت أصواتهم حتى علمتني كيف تقتل المرء الأحزان...
إن الطيور تتناغى في أحلامها وهي تحلق فوق الماء
والبراعة تشع بضيائها في غسق الليل.
فلم يقتل الإنسان أخاه الإنسان ليعيش؟
إني أتحسر خلال الليل في غير طائل؟.
وقضى الشاعر عامين خلال عهد الثورة يطوف بأنحاء الصين تقاسمه إملاقَه زوجته وأبناؤه، وقد بلغ من فقره أنه كان يستجدي الناس الخبز، ومن ذلته أنه خر راكعاً يدعو بالخير للرجل الذي آوى أسرته وأطعمها حيناً من الزمان(65). ثم أنجاه من بؤسه القائد الرحيم ين وو فعينه أمينا لسره، وغفر له أهواؤه وأطواره
صفحة رقم : 1223
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأقصى -> الصين -> عصر الشعراء -> دوفو

الشاذة، وأسكنه كوخاً على ضفة "مجرى غاسل الأزهار"، ولم يطلب إليه أكثر من أن يقرض الشعر . وعاش الرجل حينئذ سعيداً طروباً يتغنى بالأمطار والأزهار والقمر والجبال:
وماذا تجدي العبارة أو المقطوعة الشعرية الجميلة؟
إن أمامي جبالاً وغابات كثيفة سوداء فاحمة.
وإن نفسي لتحدثني بأن أبيع تحفي وكتبي
وأعب من الطبيعة وهي صافية عند منبعها...
فإذا قدمت على مكان بهذا الجمال
مشيت رويداً. وتمنيت أن يغرق الجمال روحي.
أحب أن ألمس ريش الطير.
وأنفخ فيه بقوة حتى أكشف عما تحته من الزغب
وأحب أن أعد إبر النبات أيضاً،
بل أحب أن أعد لقاحه الذهبي،
ألا ما أحلى الجلوس على الكلأ،
ولست بحاجة إلى الخمر حين أجلس عليه، لأن الأزهار تسكرني..
أحب الأشجار القديمة حباً يسري في عظامي، وأحب أمواج البحر التي في زرقة اليشب.

وأحبه القائد الطيب القلب حباً أفسد على الشاعر راحته، لأنه رفعه إلى منصب عال في الدولة، إذ جعله رقيباً في شانجان، ثم مات القائد فجأة، وثارت الحرب حول الشاعر، فأمسى وحيداً لا سند له إلا عبقريته، وسرعان ما ألفى نفسه
صفحة رقم : 1224
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأقصى -> الصين -> عصر الشعراء -> دوفو

فقيراً معدماً، وأخذ أطفاله وقد أذهب عقلهم الجوع يسخرون منه لقلة حيلته، وكان في آخر أيامه شيخاً مهدماً بائساً وحيداً، "يؤذي العين منظره"، وأطاحت الريح بسقف كوخه، وسرق الأطفال قش فراشه، وهو ينظر إليهم ولا يستطيع لضعفه أن يقاومهم(67)، وشر من هذا كله أنه فقد لذة الخمر، ولم يعد في وسعه أن يحل مشاكل الحياة كما يحلها لي بو.
ثم لجأ آخر الأمر إلى الدين ووجد سلواه في البوذية، وعاجلته الشيخوخة ولم يتجاوز التاسعة والخمسين من عمره، فحج إلى جبل هون المقدس ليزور فيه معبداً ذائع الصيت، وهناك عثر عليه حاكم من الحكام قد قرأ شعره، فآواه إلى منزله وأقام وليمة تكريماً له، صُفَّت فيها صحاف الشواء وكؤوس الخمر. ولم يكن ووفو قد رأى ذلك من عدة سنين فأكل أكل الجياع. ثم طلب إليه مضيفه أن ينشد الشعر ويغني، فحاول أن يجيبه إلى ما طلب، ولكنه خارت قواه وسقط على الأرض ومات في اليوم الثاني(68).

صفحة رقم : 1225
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأقصى -> الصين -> عصر الشعراء -> النثر

الفصل السابع
النثر
وفرة الآداب الصينية - الروايات الغرامية - التاريخ -
زوماتشين - المقالات - هان يو على عظام بوذا

ليس شعراء تانج إلا فئة من شعراء الصين، وليس الشعر إلا جزءاً من الأدب الصيني، وإنه ليصعب علينا أن ندرك حقيقة ما كان في هذا العصر من وفرة في الأدب ومن سعة انتشاره بين كافة طبقات الشعب. وكان عدم وجود قانون للملكية الأدبية عاملاً من العوامل التي ساعدت على رخص أثمان المطبوعات، ولذلك كان من الأمور العادية، قبل دخول الأفكار الغربية في البلاد، أن يجد الإنسان مجموعات جديدة مجلدة من عشرين كتاباً تباع الواحدة منها بريال أمريكي، وأن يرى موسوعات مؤلفة من عشرين مجلداً تباع جديدة بأربعة ريالات، وأن تباع جميع روائع الأدب الصيني القديم كلها بريالين(69). وأصعب مما سبق أن نقدر نحن قيمة هذا الأدب، وذلك لأن الصينيين يضعون الشكل والأسلوب فوق المادة حين يحكمون على كتاب ما، وليس في وسع أية ترجمة مهما بلغت أن تظهر جمال الشكل أو روعة الأسلوب.
ليس من حقنا أن نلوم الصينيين حين يقولون إن آدابهم أرقى من أية آداب أخرى عدى الآداب اليونانية، ولعلهم حين يستثنون آداب اليونان إنما يفعلون هذا من قبيل المجاملات المأثورة عن الشرقيين.
والصينيون لا يعدون القصص فرعاً من فروع الأدب، وهم في هذا يختلفون عن الغربيين حيث يرفع القصص من شأن المؤلفين ويذيع أسمائهم في سرعة وسهولة. ولذلك فإنا قلما نجد له ذكراً في بلاد الصين قبل أن يدخلها المغول(70)
صفحة رقم : 1226
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأقصى -> الصين -> عصر الشعراء -> النثر

بل إن أدباء الصين لا يزالون إلى هذا اليوم يعدون خير الروايات القصصية مجرد تسلية شعبية غير خليقة بأن تذكر في تاريخ الآداب الصينية. لكن سكان المدن الصينية السذج لا يبالون بهذه الفروق، ويتركون أغاني بو- جوي، ولي بو في غير تحرج، ويفضلون عليها الروايات الغرامية التي لا حصر لها، والتي يكتبها مؤلفون يخفون عن القراء أسماءهم، وينشرونها باللهجات الشعبية التي تكتب بها المسرحيات. وهي تصوّر للصينيين في وضوح ما في ماضيهم من أحداث روائية رائعة؛ ذلك أن جميع الروايات الصينية الشهيرة، إلا القليل النادر منها، روايات تاريخية، وقلّ أن يوجد فيها ما هو واقعي النزعة، وأقلّ منه ما يحاول فيه مؤلفوه ذلك القرب من التحليل النفساني أو الاجتماعي الذي يرقى "بأخوة كرمزوف" The Brothers Karamazov و "الجبل المسحور" The Magic Mountain و "الحرب والسلم" War and Peace و "البائسون" Les Miserables إلى مستوى الأدب الرفيع.
ومن أقدم الروايات الصينية رواية شوي هو جوان أو "قصة حواشي الماء" التي ألفها رهط من الكُتاّب في القرن الرابع .
ومن أكبر هذه الروايات حجماً رواية "هونج لومن" أو حلم الغرفة الحمراء (حوالي 1650 م) وهي رواية في أربعة وعشرين مجلداً؛ ومن أحسنها كلها رواية لياو جاي جبىْ أو قصص عجيبة (حوالي 1660 م) وهي التي يجلها الصينيون لجمال أسلوبها وأناقة عبارتها. وأشهرها كلها رواية ساق جورجي ياق إي أو "رواية الممالك الثلاث" وهي رواية منمقة الأسلوب في ألف صفحة ومائتين كتبها لو جوان - جونج (1260-1241م) في وصف الحرب
صفحة رقم : 1227
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأقصى -> الصين -> عصر الشعراء -> النثر

والدسائس التي أعقبت سقوط أسرة هان ، وكلها شبيهة بالروايات الطويلة التصويرية التي كانت منتشرة في أوربا في القرن الثامن عشر. وكثيراً ما تجمع هذه الروايات (إذا جاز لنا في مثل هذه الموضوعات أن ننقل إلى القارئ ما يتحدث به الناس عنها) بين تصوير الأخلاق الفكه اللطيف الذي تراه في رواية تم جونز Tom Jones وبين القصص الشائق الذي نراه في جل بلاس Gil Blas. وهي أصلح ما تكون لأن يقرأها الشيوخ الطاعنون في السن ليقطعوا بها أوقات فراغهم.
والتاريخ أجل الآداب شأناً في الصين، وهو كذلك أحبها إلى الصينيين، وليس ثمة أمة ظهر فيها من المؤرخين عدد يوازي ما ظهر منهم في الصين، وما من شك في أنه ليس بين الأمم جميعهاً أمة كتبت في التاريخ بقدر ما كتبت الأمة الصينية. وذلك أن أقدم عصور الملوك كان لها كتابها الرسميون، يسجلون أعمال الملوك وأحداث الأيام؛ ولقد دام منصب مؤرخ البلاط إلى أيامنا هذه، وأوجد في الصين قدراً من الأدب التاريخي لا نرى له مثيلاً في طوله ولا في ملله في جميع بلاد العالم. وحسبنا أن نضرب بعض الأمثلة ليدرك القارئ طول هذه التواريخ. فمنها أربعة وعشون كتاباً في "تواريخ الأسر" وهو تاريخ رسمي نشر في عام 1747م في 219 مجلداً ضخماً(71). وأخذت كتابة التواريخ تخطو خطى سريعة في الصين مبتدئة بالشو - جنج أو "كتاب التاريخ" الذي هذبه كنفوشيوس أحسن تهذيب، وبالدوز - جواق وهو شرح لكتاب المعلم الكبير وإحياء له كتب بعد مائة عام من ذلك الوقت وحوليات كتب الغاب التي وجدت في قبر أحد ملوك ويه، حتى أخرجت في القرن الثاني قبل ميلاد
صفحة رقم : 1228
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأقصى -> الصين -> عصر الشعراء -> النثر

المسيح أعظم كتب التاريخ الصينية على الإطلاق، وهو كتاب السجل التاريخي الذي جمعه زوماتشين وبذل في جمعه جهوداً جبارة.

ذلك أنه لما خلف زوما أباه في منصب منجم البلاط بدأ عمله بإصلاح التقويم، ثم وجه جهوده للعمل الذي بدأه أبوه وهو رواية تاريخ الصين من عهد الأسرة الأولى الأسطورية إلى العصر الذي كان يعيش فيه. ولم يكن زوما مولعاً بجمال الأسلوب، بل كل ما كان يهدف إليه أن يجعل سجله هذا كاملاً. وقد قسم كتابه هذا خمسة أقسام هي: (1) حوليات الأباطرة، (2) الجداول التاريخية، (3) ثمانية فصول في المراسم، والموسيقى، وموازين النغمات، والتقويم، والتنجيم، والقرابين الإمبراطورية، والمجارى المائية، والاقتصاد السياسي، (4) حوليات أمراء الإقطاع، (5) تراجم عظماء الرجال. ويبلغ طول العهد الذي تُؤرّخ له هذه الكتب كلها نحو ثلاثة آلاف عام، وقد سجلت في 000ر526 متر صيني نقشت بقلم مدبب على ألواح من الغاب في صبر طويل(72). ولما فرغ زوماتشين من وضع كتابه هذا الذي قضى فيه حياته كلها أرسله إلى الإمبراطور وإلى العالم ولم يضف إليه إلا هذه المقدمة المتواضعة:
"لقد وهنت الآن قوة خادمك الجسمية، وضعف بصره وأظلمت عيناه، ولم يبق من أسنانه إلا العدد القليل، وضعفت ذاكرته حتى أصبح ينسى حوادث الساعة حين تدبر عنه، ذلك أن قواه كلها قد استنفدها إخراج هذا الكتاب. وهو لهذا يرجو أن تصفح جلالتكم عن محاولته الجريئة التي تشفع لها نيته الخالصة، وأن تتفضل في لحظات الفراغ بلقاء نظرة قدسية على هذا الكتاب حتى تعرف من أسباب قيام الأسر السابقة وسقوطها سر نجاح هذه الساعة وإخفاقها، فإذا ما استخدمت هذه المعرفة لخير الإمبراطورية، فإن خادمك يكون قد حقق غرضه ومطمعه في الحياة، وإن ثوت عظامه في الينابيع الصفراء" (73).
صفحة رقم : 1229
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأقصى -> الصين -> عصر الشعراء -> النثر

ولسنا نجد في صفحات كتاب زوماتشين شيئاً من تألق تين Taine، ولا ثرثرة ساحرة أو قصصا طريفة مكتوبة بأسلوب هيرودوت، ولا تعاقبا للعلة و المعلول كما نجدها في توكيديد Thucydides، ولا نظرة واسعة الآفاق في لغة موسيقية كما نجد في ِجبُن Gibbon. ذلك أن التاريخ قلما يرتفع في الصين من صناعة إلى فن.
وقد ظل المؤرخون الصينيون من أيام زوماتشين إلى أيام سميه زوما جوانج الذي حاول بعد أحد عشر قرناً أن يكتب مرة أخرى تاريخاً عاماً للصين، نقول ظل هؤلاء المؤرخون يكدحون ليدونوا في صدق وإخلاص حوادث أسرة حاكمة أو ملك من أسره. وكثيراً ما أضاعوا في هذا العمل كل ما كان لهم من مال، بل إنهم أضاعوا فيه أحياناً حياتهم نفسها؛ وكانوا ينفقون جهودهم كلها في سبيل الحقيقة لا يبغون عنها بديلاً، ولم يدخروا شيئاً من هذه الجهود ينفقونه في جمال الأسلوب، ولعهم كانوا في عملهم هذا على حق، ولعل التاريخ ينبغي أن يكون علماً لا فناً، ولربما كانت حوادث الماضي يعتريها الغموض إذا وصلت إلينا في زينة ِجبُن أو في مواعظ كارليل.
ولم تخل بلادنا نحن أيضا من مؤرخين ثقال، وفي وسعنا أن ننافس أية أمة من الأمم في عدد المجلدات التي خصصت لتسجيل - وجمع - أتفه الأشياء.
أما المقالة الصينية فهي أجمل من التاريخ الصيني وأعظم منه بهجة. ذلك أن الفن فيها غير محرم والفصاحة مطلقة العنان. وأوسع كتاب المقالات شهرة هان يو العظيم الذي يقدر الصينيون كتبه أعظم تقدير، ويجلونها إجلالا بلغ من قدره أنهم يطلبون إلى من يقرؤها أن يغسل يديه بماء الورد قبل أن يمسها.
وكان هان يو وضيع المولد ولكنه وصل إلى أرقى المراتب في خدمة الدولة، ولم يغضب عليه الإمبراطور إلا لأنه احتج احتجاجاً شديداً صريحاً على تسامحه
صفحة رقم : 1230
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأقصى -> الصين -> عصر الشعراء -> النثر

مع البوذية وما حباها من امتيازات. ذلك أن هان كان يعتقد أن الدين الجديد إن هو إلا خرافة هندية، وقد آلمه أشد الألم، وهو الكنفوشي الصميم، أن يرضى الإمبراطور عن هذا الحلم الموهن الذي أسكر أهل بلاده. ومن أجل هذا رفع مذكرة إلى الإمبراطور (803 ق.م) نقتبس منها هذه السطور لنقدم للقارئ مثلاً من النثر الصيني، وإن كانت الترجمة الأمينة قد شوهته:
"لقد سمع خادمكم أن أوامر صدرت إلى جماعة الكهنة بأن يسيروا إلى فنج - شيانج ليتسلموا عظماً من عظام بوذا، وأن جلالتكم ستشرفون من برج عال على دخوله في القصر الإمبراطوري؛ وأن أوامر أخرى أرسلت إلى الهياكل المختلفة تقضي بأن يحتفل بهذا الأثر الاحتفال الذي يليق به. وقد يكون خادمكم أبله ضعيف العقل، ولكنه يدرك أن جلالتكم لا تفعلون هذا لتنالوا منه نفعاً، بل تفعلونه مسايرة منكم لرغبة الشعب في أن يحتفل بهذا المجون الباطل في عاصمة البلاد، في الوقت الذي بلغ فيه الرخاء غايته، وامتلأت جميع القلوب بهجة وانشراحاً. وإلا فكيف تجيز لكم سامي حكمتكم أن تؤمنوا كما يؤمن عامة الشعب بهذه العقائد السخيفة؟ وعامة الشعب يا مولاي بطيئو الإدراك يسهل التغرير بهم، فإذا رأوا جلالتكم تركعون خاشعين أمام قدمي بوذا صاحوا من فورهم: هاهو ذا ابن السماء مصدر الحكمة قوى الإيمان ببوذا؛ فهل يحق لنا نحن عامة شعبه أن نضن عليه بأجسامنا.
ثم يعقب هذا سفع النواصي وحرق الأصابع؛ وتجمع الناس من كل صوب يمزقون ملابسهم، وينثرون أموالهم، ويقضون وقتهم كله من الصباح إلى المساء يحذون حذو جلالتكم. ونتيجة هذا أن تتملك الشعب كله، صغاره وكباره، هذه الحماسة نفسها فيهمل الناس ما يجب عليهم أن يفعلوه في حياتهم. وتراهم يحجون إلى الهياكل زرافات، يقطعون أيديهم ويشوهون أجسامهم، ليقدموها قرباناً إلى الإله، إلا إذا حرمتم عليهم جلالتكم هذا العمل. وبهذا يقضى على
صفحة رقم : 1231

قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأقصى -> الصين -> عصر الشعراء -> النثر

عادتنا وتقاليدنا، ونصبح مضغة في أفواه الناس وهدفاً لسخريتهم على ظهر الأرض..
ولهذا فإن خادمكم، وقد تجلل بالعار من أفعال الرقباء ، يضرع إلى جلالتكم أن تتركوا هذه العظام طعمة للنار والماء، حتى يجتث هذا الشر من منابته فلا يعود أبداً، وحتى يعرف الشعب أن حكمة جلالتكم أعلى من حكمة عامة الناس. وإذا كان للرب بوذا من القوة ما يستطيع به أن يثأر لنفسه من هذه الإهانة بالكوارث يصبها على رأس من كان سبباً فيها، فليصب جام غضبه على شخص خادمكم، وهو في هذه اللحظة يشهد السماء على أنه لن يحيد عن عقيدته" (74).
وبعد فإذا ما قام النزاع بين التخريف والفلسفة فأكبر الظن أن النصر سيكون حليف التخريف، ذلك بأن العالم قد أوتي من العقل ما يجعله يفضل السعادة على الحكمة، ومن أجل ذلك نفي هان إلى قرية في هوانج - تونج حيث كان الناس لا يزالون همجاً سذجاً. ولم يشك من هذا النفي، بل شرع يهذب الناس ويجعل من نفسه خير قدوة يقتدون بها عملاً بتعاليم كنفوشيوس. وقد بلغ من نجاحه في عمله هذا أن صورته لا تزال يكتب عليها في هذه الأيام تلك الأسطورة "لقد كان ينشر الطهر حيثما مر" (75). ثم استدعي آخر الأمر إلى عاصمة البلاد، وأدى للدولة خدمات جليلة، ومات معززاً مكرماً أعظم الإعزاز والتكريم. وقد نصبت له لوحة تذكارية في هيكل كنفوشيوس - وهو المكان الذي يحتفظ به عادة لأتباع المعلم العظيم أو لكبار شرّاحه - ؛ وذلك لأنه دافع عن العقائد الكنفوشية دفاعاً لم يبال فيه بما يتعرض له من الأخطار، وقاوم عقيدة كانت من قبل صالحة نبيلة ولكنها أصبحت الآن منحطة فاسدة.

صفحة رقم : 1232
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأقصى -> الصين -> عصر الشعراء -> المسرح

الفصل الثامن
المسرح
منزلته الوضيعة في الصين - منشؤه - المسرحية - النظارة - الممثلون - الموسيقى

ليس من السهل أن نقسم المسرحيات الصينية أقساماً جامعة مانعة، لأن الصينيين لا يقرون أن التمثيل أدب أو فن، وليس للتمثيل في الصين منزلة تتناسب مع ما يتمتع به من انتشار واسع بين طبقات الشعب، وشأنه في هذا شأن كثير من مقومات الحياة. من أجل ذلك لا نكاد نسمع بأسماء كُتاّب المسرحيات، والممثلون ينظر إليهم على أنهم من طبقة منحطة ولو أنفقوا حياتهم كلها في إعداد أنفسهم لهذا العمل والنبوغ فيه، ولو بلغوا فيه أعظم ما يبلغه الإنسان من الشهرة. وما من شك في أن شيئاً من هذا كان من نصيب الممثلين في جميع الحضارات، وبخاصة في العصور الوسطى، حين كان التمثيل يكافح للخروج من دائرة التمثيل الديني الصامت المضحك الذي نشأ منه وتفرع عنه.
وكان هذا بعينه منشأ المسرح الصيني. فلقد كانت الطقوس الدينية في عهد أسرة جو تشمل أنواعاً من الرقص المصحوب بالمخاطر. ويقال أن هذا الرقص قد حرم فيما بعد لأنه أصبح مدعاة للفساد الخلقي، ولعل هذا التحريم الذي فصل الرقص عن المراسم الدينية هو الذي نشأ منه التمثيل غير الديني(76). وشجع منج هوانج قيام هذا النوع المستقل من التمثيل كما شجع كثيراً من الفنون الأخرى، وذلك بأن جمع حوله طائفة من الممثلين والممثلات أطلق عليهم اسم: "فتيان حديقة الكمثرى". غير أن المسرح لم يصبح نظاماً قومياً معترفاً به إلا في عهد كوبلاى خان. ذلك أنه لما اختير كونج دوْفو - وهو من سلالة كنفوشيوس - في عام 1031م ليكون مبعوثاً صينياً إلى البلاط المغولي استقبل فيه باحتفال عظيم شمل فيما
صفحة رقم : 1233
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأقصى -> الصين -> عصر الشعراء -> المسرح

شمل تمثيل إحدى المسرحيات. بيد أن الماجن في هذه المسرحية كان يمثل كنفوشيوس. ومن أجل هذا خرج كونج دو - فو غاضبا؛ لكنه لما عاد إلى الصين هو وغيره من الرحالة الذين طافوا بلاد المغول، تحدثوا إلى أبناء وطنهم عن ضرب من التمثيل أرقى كثيراً من كل ما عرفته بلادهم منه. ولما أن فتح المغول الصين أدخلوا فيها القصة المقروءة والمسرحية، ولا تزال أرقى المسرحيات الصينية في هذه الأيام هي المسرحيات التي كتبت في أثناء حكم المغول(77).
وتقدم فن التمثيل على مهل، لأنه لم يلق معونة من رجال الدولة ولا من رجال الدين. وكان معظم العاملين فيه ممثلين جوالين، يقيمون طواراً في حقل خال من الزرع ويمثلون ما يشاءون أمام النظارة القرويين الواقفين في العراء.
وكان الحكام الصينيون يستخدمون الممثلين أحياناً لإقامة حفلات تمثيلية خاصة في أثناء المآدب، كما كانت النقابات أحياناً تمثل بعض المسرحيات. وزاد عدد دور التمثيل في أثناء القرن التاسع عشر الميلادي، ولكنها رغم هذه الزيادة لم يكن منها في مدينة نانكنج الكبيرة أكثر من دارين(76)؛ وكانت المسرحية الصينية مزيجاً من التاريخ والشعر والموسيقى، وكانت حبكتها عادة تدور حول حادثة تاريخية روائية، وكان يحدث في بعض الأحيان أن تمثل مشاهد من مسرحيات مختلفة في ليلة واحدة؛ ولم يكن لزمن التمثيل حد محدود، فتارة يكون قصيراً وتارة يدوم عدة أيام، لكنه في أكثر الأحيان كان يمتد نحو ست ساعات أو سبع، وهو الزمن الذي تستغرقه أحسن المسرحيات الأمريكية في هذه الأيام وكان يتخلل المسرحيات كثير من التفاخر والخطب الرنانة، وكثير من العنف في الأقوال والأعمال، ولكن واضع المسرحية كان يبذل غاية جهده ليجعل خاتمتها انتصاراً للفضيلة على الرذيلة؛ ومن أجل ذلك أصبحت المسرحية الصينية أداة للتعليم والإصلاح الأخلاقي، تعلم الشعب شيئاً من تاريخه، وتغرس
صفحة رقم : 1234

قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأقصى -> الصين -> عصر الشعراء -> المسرح

في نفوس أفراده الفضائل الكنفوشية - وأهمها كلها بر الأبناء بالآباء-وكانت تعمل لذلك باطراد ودأب أفسدا عليها غايتها.
وقلما كان المسرح يزين بالمناظر أو الأثاث، ولم يكن له مخرج للممثلين، فكان هؤلاء جميعاً، سواء منهم أصحاب الأدوار وغير أصحابها، يجلسون على المسرح طوال وقت التمثيل ويقفون إذا ما جاء دورهم؛ وكان يحدث في بعض الأحيان أن يقدم الخدم الشاي لهم وهم جالسون؛ وكان غيرهم من الخدم يطوفون بين النظارة يبيعونهم الدخان والشاي والمرطبات، ويقدمون لهم القطائل ليمسحوا بها وجوههم في ليالي الصيف؛ وكان يشربون ويأكلون ويتحدثون حتى تستلفت أنظارهم قطعة من التمثيل جميلة أو عالية الصوت؛ وكثيراً ما كان الممثلون يضطرون إلى الصراخ بأعلى أصواتهم لكي يسمعهم النظارة، وكان في أغلب الأحيان يلبسون أقنعة على وجوههم حتى يسهل على النظارة فهم أدوارهم.
ولما حرّم تشين لونج على النساء أن يظهرن على المسرح كان الرجال يمثلون أدوار النساء، وقد مثلوها تمثيلاً بلغ من إتقانه أن النساء حين سمح لهن في أيامنا هذه بالظهور على المسرح من جديد كان لا بد لهن أن يعملن جاهدات على تقليد مقلديهن حتى يضمنّ النجاح. وكان لا بد للممثلين أن يتقنوا الرقص والألعاب البهلوانية، لأن أدوارهم كثيراً ما كانت تتطلب منهم المهارة في تحريك أعضائهم، ولأن كل حركة من حركات التمثيل كانت تؤدى طبقاً لقواعد من الرشاقة معينة منسجمة مع النغمات الموسيقية التي تعزف في خلال التمثيل؛ وكانت حركات اليدين تستخدم رمزاً للكثير من الأعمال، كما كانت تصحب الكثير من الأقوال، وكان لابد أن تكون هذه الحركات دقيقة متفقة مع العرف والتقاليد القديمة؛ وكان فن تحريك اليدين والجسم عند بعض كبار الممثلين أشباه ماي لانج - فانج يؤلف نصف ما في المسرحية من شعر.

وقصارى القول أن التمثيلية لم تكن كلها رواية مسرحية، ولم تكن كلها
صفحة رقم : 1235
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأقصى -> الصين -> عصر الشعراء -> المسرح

مسرحية غنائية، ولم تكن في أكثر أدوارها مرقصة، بل كانت مزيجاً من هذا كله تكاد تشبه في صفاتها مسرحيات العصور الوسطى في أوربا، ولكنها كاملة في نوعها كمال الموسيقى البلسترينائية
Palestrina أو الزجاج المصبوغ(79).
وقلما كانت الموسيقى فناً قائماً بذاته عند الصينيين بل كانت تعزو منشأ كثير غيرها من الفنون إلى الإمبراطور الأسطوري فوشي. وقد احتوى اللي - جى أو "كتاب المراسم" الذي يرجع عهده إلى ما قبل كنفوشيوس عدة رسائل في الموسيقى وأسماء عدة رسائل فيها، كما احتوى الدزو - جوان الذي كتب بعد مائة عام من أيام كنفوشيوس وصفاً بليغاً للموسيقى التي كانت تصحب غناء قصائد ويه. وما أن حل عهد كونج فو - دزه حتى كان السلم الموسيقى الصيني قد ثبت وتقادم عهده؛ وحتى كانت البدع التي أخذت تتسرب إليه تقض مضاجع الهادئين المحافظين ، وحتى أخذ هذا الحكيم يضج بالشكوى من الأنغام الداعرة الشهوانية التي بدأت في أيامه تحل محل أيام الماضي المتفقة في رأيه مع الفضائل وكرم الأخلاق(80).
ثم شرع النفوذ اليوناني البكتري والنفوذ المغولي يتسربان إلى الموسيقى الصينية حتى تركا آثارهما في السلم الموسيقي الصيني المعروف ببساطته.

وقد عرف الصينيون تقسيم البعد الكلي في الموسيقى إلى اثني عشر نصفاً من أنصاف النغمات، ولكنهم كانوا يؤثرون كتابة موسيقاهم في سلم خماسي يطابق على وجه التقريب نغماتنا F.G.A.D.C وكانوا يطلقون على هذه النغمات الكاملة أسماء "الإمبراطور" و "رئيس الوزراء" و "الرعية" و "شئون الدولة" و "صورة الكون". وكانوا يفهمون التوافق في الألحان، ولكنهم قلما كانوا يعنون به إلا إذا أرادوا ضبط آلاتهم الموسيقية. وكانت هذه الآلات تشمل من آلات النفخ الناي والبوق والمزمار والصفارة، ومن الآلات الوترية
صفحة رقم : 1236
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأقصى -> الصين -> عصر الشعراء -> المسرح

الكمان الأوسط والمزهر وغيرهما، ومن آلات الدق الدفوف والطبول والأجراس والصنوج. وكانت لهم ألواح موسيقية من اليشب والعقيق(81). وكانت النغمات التي تنبعث من هذه الآلات عجيبة مزعجة لأذن المستمع الغربي، كما تبدو، في ظننا، أحسن الأغاني الغربية عجيبة مزعجة للمستمع الصيني. ولكن هذه النغمات هي التي أثرت في نفس كنفوشيوس فامتنع عن أكل اللحم، وأصبح رجلاً نباتياً، وهي التي جعلت كثيراً من مستمعيها يفرّون من منازعات الحياة واختلاف الأفكار والإرادات، وهو الفرار الذي لا يكون إلا نتيجة الاستسلام إلى الموسيقى الشجية.
ومن أقوال هان يو في هذا: "لقد علم الحكماء الإنسان لكي يقشعوا ما في نفسه من حزن وغم" (82). وكانوا يؤمنون بقول نيتشه: "لولا الموسيقى لكانت الحياة عبثاً لا خير فيه".

صفحة رقم : 1237
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأقصى -> الصين -> عصر الفنانين -> النهضة في عهد أسرة سونج -> اشتراكية وانج آن شي

الباب الخامس والعشرون
عصر الفنانين
الفصل الأول
النهضة في عهد أسرة سونج
1- اشتراكية وانج آن - شي
أسرة سونج - رئيس وزراء متطرف - طريقته في علاج التعطل - تنظيم

الصناعة - قوانين الأجور والأثمان - تأميم التجارة - مشروعات الدولة للتأمين
من التعطل والفقر والشيخوخة - المناصب العامة بالامتحان - هزيمة وانج آن - شي
لم تفق أسرة تانج من هزيمتها على يد آن لو- شان وثورته. فقد عجز الأباطرة الذين خلفوا منج هوانج عن إعادة سلطان الإمبراطور إلى سابق عهده في أجزاء الإمبراطورية المختلفة، ثم انقضى عهد تلك الأسرة بعد مائة عام من وهن الشيخوخة، وجاءت بعدها خمس أسر لم يطل عهدها مجتمعة أكثر من ثلاث وخمسين سنة، ولكنها بلا استثناء بلغت من الضعف ما بلغته من قصر الأجل. وكانت البلاد في حاجة إلى يد قوية قاسية لتعيد إليها النظام شأن الدول كلها في مثل هذه الأحوال.وهذا ما حدث فعلا، فقد خرج جندي مقدام من غمار هذه الفوضى وأسس أسرة سونج واستولى على العرش وتسمى باسم تاي- دزو، وأعاد الحكومة إلى ما كانت عليه من البيروقراطية في أيام كنفوشيوس، كما أعاد طريقة تقلد المناصب الحكومية بالامتحانات العامة، وحاول أن يحل مشاكل استغلال الفقراء بوضع نظام للإشراف على حياة الأمة الاقتصادية لا يكاد يختلف
صفحة رقم : 1238
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأقصى -> الصين -> عصر الفنانين -> النهضة في عهد أسرة سونج -> اشتراكية وانج آن شي

عن النظام الاشتراكي في شئ، ومستعيناً في هذا الحل بمستشار إمبراطوري خاص يشرف على هذه الشئون.
ويعد وانج آن- شي (1021-1086) من الشخصيات الفذة التي تبعث الحياة والروح في تاريخ الصين الطويل؛ وقد خلد التاريخ ذكره رغم هذا الطول، وإن شخصيته لتبدو لنا ناصعة فذة رغم ما بين بلادنا وبلاده من تناء.

ذلك أن من مساوئ هذا التنائي أن يجعل انفصالنا الطويل عن مسرح الحوادث الأجنبية يطمس معالم الاختلاف في الأماكن وفي أحوال الناس، ويخفى ما بين الناس الشخصيات الشديدة الاختلاف من فروق، ويخلع عليها كلها غشاوة من وحدة المظهر والصفات تجعلها كلها جامدة كليلة. لكن وانج شذّ عن هذه القاعدة، فقد كان حتى في رأي أعدائه- وإن كثرتهم في حد ذاتها لدليل على جلال شأنه- رجلاً يختلف عن سائر الرجال، وهب حياته لإقامة نظام صالح لحكم البلاد، وعمل مخلصا لرفاهية شعبه، غير مبال بما يصيبه في سبيل هذا العمل من نصب وأذى، لا يدخر في ذلك جهداً، ولا يترك لنفسه من الوقت ما يعنى فيه بشخصه أو بملبسه، ولا يقل عن كبار العلماء في أيامه علماً وبراعة في الأسلوب، يحارب في شجاعة جنونية الطائفة الجامدة المتحفظة الغنية صاحبة السلطان القوي في أيامه. وتشاء المصادفات أن يكون الشخص العظيم الوحيد الذي يشبهه في تاريخ بلاده هو سميه وانج مانج الذي عاش قبله بنحو ألف عام- أي أن مجرى التاريخ الصاخب المضطرب قد سار ألف عام كاملة منذ الوقت الذي أجريت فيه أول تجربة بارزة لتحقيق المبادئ الاشتراكية.
وما كاد وانج آن- شي يتولى أكبر منصب في مقدور الإمبراطور أن يوليه إياه، حتى وضع ذلك المبدأ العام وهو أن الحكومة يجب أن تكون مسئولة عن رفاهية جميع السكان البلاد. ومن أقواله في هذا: "يجب أن تسيطر الدولة على جميع شئون التجارة والصناعة والزراعة وتصرفها بنفسها، وأن يكون الهدف
صفحة رقم : 1239
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأقصى -> الصين -> عصر الفنانين -> النهضة في عهد أسرة سونج -> اشتراكية وانج آن شي

الذي ترمى إليه من وراء ذلك غوث الطبقات العاملة، وأن تحول بينها وبين أن يذلها الأغنياء ويطحنوها طحن الرحى" (1). وقد بدأ عمله بإلغاء نظام السخرة الذي ظلت الحكومة الصينية تفرضه على الصينيين من أقدم العهود، فكانت تأخذ الناس بمقتضاه من الحقول حين تكون أعمال الزرع أو الحصاد في أشد الحاجة إليهم؛ ومع هذا فإنه أقام أعمالاً هندسية عظيمة لوقاية البلاد من غوائل الفيضان.
ومن أعماله أنه أنقذ الزراع من المرابين الذين كانوا يستعبدونهم، وأقرضهم أموالا بفوائد كانت تعد وقتئذ قليلة ليستعينوا بها على زرع أراضيهم، وأمد الفلاحين بالبذور من غير ثمن، ومنحهم من الأموال ما يعينهم على بناء مساكنهم على شريطة أن يردوا هذه الأموال إلى الدولة من غلات أرضهم. وأنشأ لجاناً في كل مركز من المراكز لتحديد أجور العمال وأثمان ضرورات الحياة.وقد أمم التجارة فكانت الحكومة تبتاع محصول كل إقليم من أقاليم البلاد، وتخزن بعضه في الإقليم ذاته اتقاء للطوارئ المحلية، ثم تنقل ما بقى منه ليباع في مستودعات أقامتها الدولة في سائر أنحاء الإمبراطورية. ثم إنه وضع نظاما لميزانية الدولة، فعين لجنة للميزانية تعرض عليه مقترحاتها وما تقدره من نفقات لكل مصلحة حكومية، وكانت الحكومة تتمسك بهذا التقديرات في إدارة أعمال الدولة، فاقتصدت بذلك كثيرا مما كان يتسرب قبل من الأموال إلى الجيوب الواسعة الخفية التي تعترض طريق كل درهم حكومي. يضاف إلى هذا كله أنه خصص معاشات للشيوخ والمتعطلين والفقراء، وأصلح أساليب التعليم والامتحانات العامة، وابتكر ضروبا من الاختبارات ليعرف بها مقدار ما يعلمه الطلاب من الحقائق لا من الألفاظ، ويستبدل بعناية الناس بالأسلوب الأدبي عنايتهم بتطبيق مبادىء كنفوشيوس على الواجبات العامة والأعمال اليومية. وقلل من اهتمام المعلمين بالشكليات وبالحفظ عن ظهر قلب، وقد أتى على البلاد حين من الدهر
صفحة رقم : 1240

قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأقصى -> الصين -> عصر الفنانين -> النهضة في عهد أسرة سونج -> اشتراكية وانج آن شي

ألقى فيه "التلاميذ أنفسهم"، كما يقول أحد المؤرخين الصينيين، "في مدارس القرى بكتب البلاغة وأخذوا يدرسون الكتب المبسطة في التاريخ والجغرافية والاقتصاد السياسي" (2).
ترى لم أخفقت التجربة النبيلة؟ لعل من الأسباب الأولى لإخفاقها أن فيها عناصر عملية أكثر منها مثالية. وأولى هذه العناصر أن الضرائب، وإن كان معظمها يجبى من الأغنياء- وذلك يتفق مع مبادئ الاشتراكية التي كان يسير عليها وانج آن -شي- فإن الدولة كانت تحصل على جزء من المال الذي كانت تحتاج إليه لمواجهة نفقاتها الكثيرة المتنوعة باستيلائها على جزء من محاصيل كل حقل من الحقول. وسرعان ما انضم الفقراء إلى الأغنياء في الشكوى من فدح الضرائب، لأن الناس في جميع الأوقات أكثر استعداداً للمطالبة بإلقاء الأعمال على كاهل الحكومة منهم لأداء ما يلزمها للقيام بها.
يضاف إلى هذا أن وانج آن- شي أنقص الجيش العامل لأنه يستنزف جزء كبير من موارد البلاد، ولكنه استعاض عنه بإصدار قانون عام يفرض على كل أسرة فيها من الذكور أكثر من فرد واحد أن تقدم من أبنائها جنديا في وقت الحرب. وأهدى الرجل إلى كثير من الأسر خيلا وعلفا لها، ولكنه اشترط عليها أن تعنى بالخيل العناية الواجبة، وأن تقدمها إلى الحكومة إذا احتاجت إليها في الأعمال العسكرية. فلما أن تبين الناس أن الغزوات والثورات أخذت تزيد من مطالب الحكومة العسكرية فقد وانج آن- شي في أسرع وقت مكانته بين الشعب وحبه إياه. وفوق هذا كله فإنه قد وجد من العسير عليه أن يعثر على الرجال الأشراف الأمناء ليعهد إليهم بالأعمال التي شرع في تنفيذها، وما لبث الفساد أن استشرى في جميع نواحي الإدارة البيروقراطية الضخمة، ووجدت الصين نفسها- كما وجدت نفسها أمم أخرى كثيرة من
صفحة رقم : 1241

قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأقصى -> الصين -> عصر الفنانين -> النهضة في عهد أسرة سونج -> اشتراكية وانج آن شي

بعد- مرغمة على أن تختار بين اثنتين كلتاهما شر من الأخرى، فإما الانتهاب الفردي وإما الفساد الحكومي.
وقام المحافظون بزعامة أخي وانج نفسه والمؤرخ زوما كوانج ينددون بهذه التجربة الحكومية ويظهرون فسادها؛ ويقولون إن الفساد والعجز المتأصلين في الطبيعة البشرية يجعلان إشراف الحكومة على الصناعات مستحيلا، وإن خير النظم الحكومية هو النظام الذي يدع الأمور تجرى في مجراها، والذي يعتمد على الدوافع الاقتصادية الطبيعية التي تحمل الناس على إنتاج السلع وأداء الخدمات. واستخدم الأغنياء الذين أذاهم ما فرض على أموالهم من ضرائب باهظة واحتكار الحكومة للتجار، استخدم هؤلاء ما لهم من ثروة وقوة في العمل على الحط من شأن النظم التي وضعها وانج آن -شي ومقاومة تنفيذها، والقضاء عليها. وزاد ضغط هذه المعارضة المنظمة أحسن تنظيم على الإمبراطور. وحدث أن تعاقبت على البلاد عدة سنين من الجدب وفيضان الأنهار، اختتمت بظهور مذنب في السماء، فلم ير ابن السماء نفسه بدا من إقصاء وانج عن منصبه، وإلغاء القوانين التي أثارت غضب الشعب، ورفع أعداء وانج إلى مناصب الحكم، وعادت الأمور مرة أخرى إلى ما كانت عليه من قبل(3).

صفحة رقم : 1242
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأقصى -> الصين -> عصر الفنانين -> النهضة في عهد أسرة سونج -> إحياء العلوم

2- إحياء العلوم
ازدياد عدد العلماء - الورق والحبر في الصين - خطوات في
سبيل اختراع الطباعة - أقدم كتاب معروف - العملة الورقية -
الحروف المتنقلة - مجموعات الرسائل ، ومعاجم اللغة والموسوعات

لقد كانت حياة الشعب الصيني في هذه الأثناء تجري في مجراها العادي خلال جميع ضروب التجارب والنظم التجارية والنظم الإدارية، لا تضطرب ولا تؤثر فيها الحادثات التي كانت لبعدها لا تصل إلى مسامعه، إلا بعد أن تمر وتنقضي بزمن طويل لقد زال حكم آل سونج في شمالي البلاد ولكنه عاد من جديد في جنوبيها
صفحة رقم : 1243
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأقصى -> الصين -> عصر الفنانين -> النهضة في عهد أسرة سونج -> إحياء العلوم

وانتقلت العاصمة من بيان لينج (وهي الآن كايفنح ) إلى لين - آن (هانج تشاو الآن ).
وبدت مظاهر العز والنعمة في العاصمة الجديدة كما كانت في العاصمة القديمة، وأقبل التجار من كل فج ليبتاعوا منتجات الصناعة الصينية والفن الصيني.وضرب الإمبراطور هوى دوزنج نفسه (1101-25) لشعبه أروع الأمثال في بيان - ليانج بأن كان فناناً قبل أن يكون حاكما، فكان في الوقت الذي يهاجم فيه البرابرة عاصمة ملكه يشتغل برسم الصور الفنية. وقد أنشأ مجمعاً للفن بعث النشاط في الفنون بما كان يعرض فيه من روائعها وما يغدقه على الفنانين من جوائز جعلت الفنون أكبر مفاخر أسرة سونج وأجدرها بتخليد ذكراها في سجلات الحضارة الإنسانية.
وقد حوت المتاحف وقتئذ مجموعات موحية من النقوش الفنية على البرنز وأحجار اليشب ومن الصور الزيتية والمخطوطات؛ وأنشئت في البلاد دور الكتب التي بقى بعضها بعد أن زالت أمجاد الحروب، وكانت كلتا العاصمتين الشمالية والجنوبية كعبة يحج إليها العلماء والفنانون.

وفي أيام هذه الأسرة دخلت الطباعة البلاد فأحدثت في حياة الصين الأدبية ثورة كاملة وإن لم يدرك الناس مداها وقتئذ، وكان هذا الفن قد نما شيئاً فشيئاً في خلال القرون الطوال حتى بلغ أوجه في أيام تلك الأسرة، فأتم مرحلتيه الكبيرتين إذ صنعت الألواح المحفورة لتطبع عليها صفحات كاملة،وصُفت الحروف المفككة المفردة، من المعادن المجموعة في القوالب .وكان هذا الاختراع الصيني الخالص(4) أعظم اختراع في تاريخ الجنس البشري بعد الكتابة.
وكانت الخطوة الأولى في هذا الاختراع العظيم هي كشف مادة تكون الكتابة عليها أسهل منها على الحرير أو الغاب الذين قنع بهما الصينيون. ذلك أن الحرير غالي الثمن والغاب ثقيل، وقد احتاج مودى في تجواله إلى ثلاث
صفحة رقم : 1244
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأقصى -> الصين -> عصر الفنانين -> النهضة في عهد أسرة سونج -> إحياء العلوم

عربات نقل يحمل عليها معه الكتب المدونة على شرائح الغاب التي كانت أثمن ما يملك من متاع الدنيا.

وكان شي هوانج - دي يضطر إلى مراجعة مائة وعشرون رطلا من الوثائق الحكومية في كل عام(5). فلما كان عام 105 ب.م أبلغ رجل يدعى تساي لون الإمبراطور أنه اخترع مادة للكتابة أقل من الغاب ثمنأً وأخف منه وزناً مصنوعة من لحاء الشجر والقنب الهندي والخرق وشباك السمك. وعين الإمبراطور تساي لون هذا في منصب كبير، ومنحه لقباً رفيعاً، ولكنه تورط مع الإمبراطورة في بعض الدسائس، وافتضح أمره "فذهب إلى منزله، واغتسل ومشط شعره، ولبس أحسن ثيابه، وتجرع السم " (6). وسرعان ما انتشرت الصناعة الجديدة انتشاراً واسع النطاق، وشاهد ذلك أن أقدم ما لدينا من الورق هو ما وجده سير أرول اشتين Sir Aurel Stien في طنف من السور الكبير، وهو مجموعة من الوثائق الرسمية دونت قيها حوادث وقعت فيما بين عامي 21، 137 بعد الميلاد، وأكبر الظن أنها كانت معاصرة لآخر الحوادث التي دونت عليها. ولهذا فإن عهدها يرجع إلى حوالي عام 150 م أي بعد خمسين عاماً لا أكثر من الوقت الذي أبلغ فيه تساي لون الإمبراطور نبأ اختراعه(7). وكان هذا الورق القديم يصنع من الخرق البالية دون غيرها من المواد، فهو من هذه الناحية شبيه بما يصنع في هذه الأيام من ورق يحتاج فيه إلى طول البقاء. واستطاع الصينيون أن يرتقوا بصناعه الورق إلى أعلى درجة وذلك باستخدام مادة ماسكة من الغراء أو الجلاتين مخلوطة بعجينة نشوية ليقووا بها الألياف، وليجعلوا الورق سريع الامتصاص للحبر. ولما أن أخذ العرب عن الصينيين هذه الصناعة في القرن الثامن الميلادي، ثم أخذتها أوربا عن العرب في القرن الثالث عشر، كانت قد بلغت غاية الكمال.
وكان اختراع الحبر أيضاً في بلاد الشرق. نعم إن المصريين قد صنعوا الورق
صفحة رقم : 1245
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأقصى -> الصين -> عصر الفنانين -> النهضة في عهد أسرة سونج -> إحياء العلوم

والحبر في العهد الذي نستطيع أن نسميه أقدم العهود، ولكن الصين هي التي أخذت عنها أوربا طريقة خلط الحبر بسناج المصابيح. ولقد كانت "الحبر الهندي" صيني الأصل. وكذلك كان الحبر الأحمر المصنوع من كبريتور الزئبق شائع الاستعمال في الصين من أيام أسرة هان. فلما ظهر الحبر الأسود في القرن الرابع الميلادي أصبح استعمال الحبر الأحمر ميزة خاصة بالأباطرة. وكان اختراع الحبر الأسود من العوامل المشجعة على انتشار الطباعة، لأنه كان أصلح المواد للاستعمال في القوالب الخشبية، ويمتاز بأن الكتابة به لا تكاد تمحى مطلقاً. فلقد وجدت أكداس من الورق في آسية الوسطى ظلت تحت الماء حتى عطنت ولكن ما عليها من الكتابة ظل واضحاً تستطيع قراءته(9).

وكان استخدام الأختام في مهر الأوراق هو البداية غير المقصودة التي نشأت عنها الطباعة. ولا يزال اللفظ الصيني الذي يطلق على الطباعة هو نفسه الذي يطلق على الخاتم. وكانت الأختام الصينية تطبع في بادئ الأمر على الطين كما كانت تطبع عليه في بلاد الشرق الأدنى. ثم أخذوا في القرن الخامس الميلادي يُنَدُّونها بالحبر. وفي هذه الأثناء كانت أمهات الكتب الصينية القديمة تحفر على الحجر في القرن الثامن بعد الميلاد، وسرعان ما نشأت بعدئذ عادة استخراج صور من هذه النقوش المحفورة بعد طلاءها بالحبر. وفي القرن السادس نجد الدَّوَّيين يستعملون أختاما من الخشب لطبع الرقى السحرية، وبعد مائة عام من ذلك الوقت أخذ المبشرون البوذيون يجرون التجارب بقصد استخراج عدة نسخ مطبوعة باستخدام أختام وألواح وورق نضاح وطباعة على المنسوجات، وقد أخذوا هذا النوع الأخير عن الهنود. وأقدم ما وصل إلينا من الطباعة على لوح محفور ألف ألف رقية سحرية طبعت في اليابان حوالي عام 770م مكتوبة بالغة السنسكريتية وبحروف صينية، فهي بذلك مثل طيب لتفاعل الحضارات في بلاد آسية. وطبعت أشياء أخرى كثيرة من القوالب (الكليشهات) في هذه أيام أسرة تانج، ولكن يلوح
صفحة رقم : 1246
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأقصى -> الصين -> عصر الفنانين -> النهضة في عهد أسرة سونج -> إحياء العلوم

أنها قد تلفت أو فقدت في أثناء الفوضى والقلاقل التي أعقبت عهد منج هوانج(10).

وحدث في عام 1907 أن استطاع سي أرول اشتين أن يقنع الكهنة الدويين في بلاد التركستان بأن يسمحوا له بفحص "كهوف الألف بوذا" التي في تون- هوانج. فلما تم له ذلك عثر في حجرة منها -يلوح أنها قد سد مدخلها حوالي عام 1035 م ولم تنفح بعدئذ إلا في عام 1900- على 1130 إضمامة من الأوراق تشتمل كل منها على نحو اثني عشر ملفاً مخطوطاً أو أكثر من اثني عشر ،تتكون منها كلها مكتبة من خمسة عشر ألف كتاب، مكتوب على الورق، قد حفظت بعناية فبقيت في حالة جيدة كأنها لم تكتب إلا قبل العثور عليها بيوم واحد. وهذه المخطوطات هي التي عثر من بينها على أقدم كتاب مطبوع في العالم -كتاب "الحكم الماسية"- وهو ملف يختتم بالعبارة الآتية "طبعه في (اليوم المقابل لليوم) الحادي عشر من شهر مايو سنة 868 وانج - جيه، ليوزع بغير ثمن تخليداً لذكرى والديه وإجلالا لهما". ووجدت بين هذه المخطوطات ثلاثة كتب أخرى مطبوعة، يدل واحد منها على تطور جديد في شكل الكتب. ذلك أنه لم يكن ملفا ككتاب "الحكم القاسي" بل كان كتاباً صغيراً مطويا هو أول ما عرف من هذا النوع من الكتب التي لا يحصى عديدها.
وقد كان الباعث الأول على اختراع الطباعة في بلاد الصين باعثاً دينياً، كما كانت الحال في أوربا في العصور الوسطى المتأخرة، وكما هي الحال بين بعض الشعوب البدائية في الوقت الحاضر. ذلك أن الأديان في ذلك الزمن القديم كانت تسعى لنشر عقائدها من طريق العين ومن طريق الأذن معا، ولجعل صلواتها ورقاها وأقاصيصها في متناول كل إنسان. وتكاد أوراق اللعب أن تعادل هذه المطبوعات الدينية في قدم العهد- فقد ظهرت هذه الأوراق في الصين في عام 969 أو قبل ذلك العام بقليل، ثم انتقلت من الصين إلى أوربا في أواخر القرن الرابع عشر(12).
صفحة رقم : 1247
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأقصى -> الصين -> عصر الفنانين -> النهضة في عهد أسرة سونج -> إحياء العلوم

وقد طبعت الكتب الأولى على قوالب خشبية، وأول ما وصل إلينا من نبأ عن هذا العمل ما ورد في رسالة صينية كتبت حوالي 870 م. فقد جاء فيها: "حدث وأنا في سشوان أن فحصت في حانوت وراق كتاباً مدرسياً مطبوعاً عن أصل خشبي" (13). ويلوح أن فن الطباعة كان قد تقدم تقدما كبيراً في الوقت الذي عثر فيه على هذا الخطاب. ومن الظريف أن نلاحظ أن هذا التقدم حدث أولا في الولايات الغربية مثل سشوان والتركستان- وهي الولايات التي دفعها في تيار المدينة المبشرون البوذيون الذين جاءوا من الهند والذين كانت لهم من عهد بعيد ثقافة خاصة مستقلة عن ثقافة العواصم الشرقية. ثم دخلت طريقة الطبع بالقوالب إلى الولايات الشرقية في أوائل القرن العاشر حين أقنع فنج - دو أحد رؤساء الوزارات الإمبراطور أن يخصص بعض المال لطبع أمهات الكتب الصينية القديمة. وتطلب القيام بهذا العمل عشرين عاما، وكان مقدار ما طبع منها مائة وثلاثين مجلداً، وذلك لأن المطبوع لم يكن مقصورا على نصوص هذه الكتب بل شمل أيضاً أشهر شروحها. ولما أن تم طبع هذه الكتب انتشرت في البلاد انتشاراً واسعاً كان سبباً في إحياء المعارف القديمة وتقوية دعائم العقائد الكنفوشية في عهد الملوك من أسرة سونج.
وكان صنع الأوراق النقدية من أقدم ما أخرجته الطباعة بالقوالب. وقد ظهرت هذه الأوراق أولا في سشوان في القرن العاشر الميلادي ثم أصبحت عملا هاما من أعمال الحكومة الصينية؛ ولم يكد يمضى على اختراعها قرن من الزمان حتى أدت إلى تجارب في التضخم المالي، واتبعت بلاد في عام 1294 م هذه الطريقة الجديدة من طرق خلق الثروة. وقد وصف ماركو بولو في عام 1297 في دهشة بالغة ما يظهره الصينيون من تقدير لهذه القصاصات من الورق. أما أوربا فلم تعرف النقود الورقية إلا في عام 1656 حين أصدرت أولى عملتها منها(14).
صفحة رقم : 1248

قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأقصى -> الصين -> عصر الفنانين -> النهضة في عهد أسرة سونج -> إحياء العلوم

كذلك كانت حروف الطباعة المنفصلة المنتقلة من اختراع الصينيين، ولكن عدم وجود حروف هجائية محددة محصورة من جهة، ووجود نحو 000ر40 من العلامات في اللغة الصينية المكتوبة من جهة أخرى، جعلا استعمال هذا الاختراع ترفاً يتعذر الانتفاع به في بلاد الشرق الأقصى. وقد صنع بى شنج حروف الطباعة المنفصلة المنتقلة من الخزف في عام 1041 م، ولكن هذا الاختراع لم ينتفع به إلا قليلا. وفي عام 1403 صنع أهل كوريا أول ما عرف في التاريخ من حروف الطباعة المعدنية؛ وكانت طريقة صنعها أن تحفر الحروف أولا على الخشب الصلب، ثم تصنع لهذه النماذج قوالب من عجين الخزف تجفف في الأفران، ثم تصب فيها الحروف المعدنية بعدئذ. وسرعان ما استخدم تاي دزونج أعظم أباطرة كوريا هذا الاختراع لتستعين به الحكومة في أعمالها، وللاحتفاظ بالضارة القائمة. ومن أقوال هذا المليك المستنير: "من شاء أن يحكم فعليه أن يكون ذا علم واسع بالقوانين وبالآداب القديمة؛ ذلك بأنه إذا عرف هذه القوانين والآداب استطاع أن يكون عادلا مستقيما في أعماله الخارجية وأمكنه أن يكون بينه وبين نفسه ذا خلق كريم؛ وبهذا ينتشر السلام والنظام في البلاد. وإذ كانت بلادنا الشرقية تقع وراء البحار، فإن الكتب التي تصلنا من بلاد الصين قليلة العدد، وكثيراً ما تكون الكتب المطبوعة على القوالب ناقصة.
"هذا إلى أنه يتعذر طبع كل ما لدينا من الكتب كاملة. ولهذا آمر أن تصنع الحروف من البرنز، وأن يطبع كل ما تستطيع يداي أن تصل إليه بلا استثناء حتى ينتقل ما تحتويه هذه الكتب إلى أحفادنا من بعدنا، وتلك نعمه من أجل النعم التي تعود على البلاد إلى أبد الدهر. على أن نفقات هذا العمل الجليل لن تفرض ضرائب على الشعب، بل سأتحملها أنا وأسرتي ومن يريد أن يساهم فيها من الوزراء" (15).

صفحة رقم : 1249
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأقصى -> الصين -> عصر الفنانين -> النهضة في عهد أسرة سونج -> إحياء العلوم

وانتشرت حروف الطباعة المفردة المنتقلة من كوريا إلى اليابان ثم عادت بعدئذ إلى الصين، ولكن يظهر أنها لم تعد إليها إلا بعد اختراع جوتنبرج
Gutenberg الضئيل في أوربا. واستمر الكوريين يستخدمون حروف الطباعة المنتقلة قرنين كاملين ثم عفا عليها الزمان. أما في الصين فإن هذه الحروف لم تكن تستخدم إلا في أوقات متفرقة، حتى نقل التجار والمبشرين أساليب الطباعة الغربية إلى بلاد الشرق، كمن يعيد هدية قديمة إلى مهديها. وظل الصينيون من أيام فنج دو إلى أيام لي هونج - جانج مستمسكين بطريق الطباعة على القوالب لأنهم كانوا يرونها أكثر الطرق ملاءمة للغتهم. واستطاعت المطابع الصينية رغم هذا القصور أن تغمر الشعب بما لا يحصى من الكتب، فأصدرت فيما بين عامي 994، 1063 م مئات من المجلدات في تواريخ الأسر الحاكمة، كما أتمت في عام 972 إصدار قوانين الشريعة البوذية في خمسة آلاف مجلد(16). ذلك أن الكتاب وجدوا في يدهم سلاحا لم بكن لهم به عهد من قبل، وكثير عدد من يقرأ كتبهم فلم يعد مقصوراً على أعيان البلاد، بل شمل الأعيان والطبقة الوسطى على السواء وشمل كذلك بعض أفراد الطبقة الدنيا نفسها. واصطبغ الأدب بصبغة أكثر ديمقراطية وأكثر تباينا مما كان عليه من قبل. وجملة القول أن فن الطباعة بالقوالب كان من أسباب النهضة العلمية في عهد أسرة سونج.

وكان من نتائج هذا الاختراع المجيد أن غمر البلاد فيض من الأدب لم يكن له مثيل من قبل، وأن عمت البلاد نهضة في الآداب الإنسانية شملت كل ما شملته النهضة في إيطاليا وسبقتها بمائتي عام كاملة. وطبعت من الآثار الأدبية القديمة نحو مائة طبعة، كما طبعت لها شروح وتعليقات تبلغ الألف عدّا. وأجاد المؤرخون العلماء دراسة الحياة الصينية في الأيام الخالية، ووضعوها بين أيدي ملايين القراء مطبوعة بحروف الطباعة الجديدة العجيبة. ونشرت مجموعات كبيرة من الأعمال الأدبية، ووضعت معاجم لغوية واسعة وألفت موسوعات ضخمة
صفحة رقم : 1250
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأقصى -> الصين -> عصر الفنانين -> النهضة في عهد أسرة سونج -> إحياء العلوم

جبارة انتشرت في طول البلاد وعرضها. وكانت أولى ما صدر من الموسوعات ذات الشأن هي الموسوعة التي أصدرها ووشو (947-1002)؛ وقد حالت الصعاب الناشئة من عدم وجود حروف هجائية سهلة دون إصدارها مرتبة ترتيباً هجائيا، فاضطر إلى تقسيمها حسب الموضوعات. وكان أهم ما احتوته من المعلومات ما يتصل منها بالعالم المادي.
وفي عام 977 أمر الإمبراطور تاي دزونج أحد أباطرة أسرة سونج أن تجمع موسوعة أخرى أوسع من الأولى، بلغت مجلداتها اثنين وثمانين مجلداً، معظمها مختارات من 1690 كتاباً كانت موجودة قبل ذلك الوقت. ثم وضعت موسوعة أخرى فيما بعد في عهد الإمبراطور يونج لو من أباطرة أسرة منج (1403-1425)، وبلغت مجلداتها عشرة آلاف، ولكن كثرة النفقات حالت دون طبعها. وحدث في فتنة الملاكمين التي قامت في عام 1900 أن احترقت النسخة الوحيدة التي أورثتها ذلك العهد الأجيال التالية فلم يبق منها إلا مائة وستون مجلداً(17). إن التاريخ لم يشهد قبل تلك الأيام عهداً سيطر فيه العلماء على الحضارة كما سيطروا عليها في ذلك العهد.

صفحة رقم : 1251

قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأقصى -> الصين -> عصر الفنانين -> النهضة في عهد أسرة سونج -> بعث الفلسفة

3- بعث الفلسفة
جو- شي - وانج يانج - منج - ما وراء الخير والشر
لم يكن هؤلاء العلماء كلهم من أتباع كنفوشيوس، ذلك أن مدراس فكرية منافسة لمدرسته قد نشأت في خلال الخمسة عشر قرناً الخالية، وحدثت في الحياة العقلية لهذا الشعب الخصيب حركات قوية أثارت لديه أعنف الجدل حول هذه الآراء والآراء المناهضة لها. ولم تقف المبادئ البوذية التي تسربت إلى نفوس الصينيين عند عامة الشعب وطبقاته الوسطى، بل وصلت إلى الفلاسفة أنفسهم، فآثر معظمهم الآن طريقة العزلة والتأمل، وبلغ من بعضهم أن احتقروا
صفحة رقم : 1252
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأقصى -> الصين -> عصر الفنانين -> النهضة في عهد أسرة سونج -> بعث الفلسفة

كنفوشيوس لاحتقاره الفلسفة ما وراء الطبيعة، ونبذوا الطريقة التي كان يتبعها في معالجة مشاكل الحياة والعقل، وعابوا عليها أنها طريقة خارجية فجة إلى حد كبير، وأضحت طريقة التأمل الذاتي هي الطريقة المستحبة في دراسة الكون والكشف عن خفاياه، وظهرت لأول مرة نظرية فلسفة المعرفة بين الصينيين، وصار الأباطرة يتخذون الفلسفة البوذية أو الدوَّية وسيلة يتحببون بها إلى الشعب أو يسيطرون بها عليه، ولاح في وقت من الأوقات أن سلطان كنفوشيوس على العقلية الصينية قد انقضى عهده إلى غير رجعة.

لكن جوشي أنجاه من هذا المصير. وكما أن شنكارا قد طعم الفلسفة العقلية التي سادت الهند خلال القرن الثامن عشر الميلادي بما كان للأبانيشاد أحياناً من فراسة وبُعد نظر؛ وكما أن أكويناس Aquinas في أوربا قد مزج في القرن الثالث عشر مبادئ أرسطو والقديس بولس فأخرج منها الفلسفة الكلامية التي كانت لها الغلبة والسيادة خلال العصور الوسطى، كذلك فعل جوشي في الصين في القرن الثاني عشر، إذ أخذ حكِم كنفوشيوس المتفرقة غير متماسكة، وأقام منها طريقة فلسفية بلغت من النظام حدا أرضى ذوق هذا العصر الذي ساد فيه العلماء وبلغت من القوة درجة جعلت أتباع كنفوشيوس يتزعمون الحياة السياسية والعقلية في الصين طوال سبعة قرون.
وكان أهم ما ثار حوله الجدل الفلسفي في ذلك الوقت معنى فقرة في كتاب العلم العظيم يعزوها كل من جوشي ومعارضيه إلى كنفوشيوس، فكان المتجادلون يتساءلون: ما معنى هذا المطلب العجيب القائل بأن نظام الدول يجب أن يقوم على تنظيم أحوال الأسرة، وأن يقوم تنظيم الأسرة على تهذيب الإنسان لنفسه، وأن تهذيب النفس يقف على الإخلاص في
صفحة رقم : 1253
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأقصى -> الصين -> عصر الفنانين -> النهضة في عهد أسرة سونج -> بعث الفلسفة

التفكير، وأن الإخلاص في التفكير ينشأ من "انتشار المعرفة إلى أبعد حد" وذلك عن طريق "البحث عن حقائق الأشياء؟".

وكان جواب جوشي عن ذلك أن هذه الفقرة تعني بالضبط ما يفهم من ألفاظها؛ تعني أن الفلسفة والأخلاق وسياسة الحكم يجب أن تبدأ كلها بدراسة الحقائق دراسة متواضعة. وكان يقبل بلا معارضة أو مناقشة النزعة الإيجابية التي اتصف بها المعلم الأكبر؛ ومع أنه كان يجهد نفسه في دراسة علم أصول الكائنات الحية دراسة أطول مما كان يرتضيه كنفوشيوس لو أنه كان حيا، فقد أوصله هذا الدرس إلى أن يمتزج الإلحاد بالتقوى مزجاً غريباً لعله كان يعجب حكيم شانتونج. وكان جوشي يعترف بوجود شيء من الاثنينية المتناقضة في الحقائق الواقعية كما كان يعترف بها كتاب التغيرات الذي كانت له على الدوام السيطرة على علم ما وراء الطبيعة عند الصينيين؛ فهو يرى أن اليانج والين- أي الفاعلية والانفعالية، أو الحركة والسكون - يمتزجان في كل مكان امتزاج الذكورة والأنوثة، ويؤثران في العناصر الخمسة الأساسية: الماء والنار والتراب والمعادن والخشب ليوجدا منها ظواهر الخلق؛ وأن اللي والجي- أي القانون والمادة - وكلاهما عنصر خارجي، ويتعاونان معاً للتحكم في جميع الأشياء واكتسابها صورها. ولكن من فوق هذه الصور شئ يجمعها ويؤلف بينهما، وهو التاجي- أي الحقيقة المطلقة أو قانون القوانين غير البشرى، أو بناء العالم. جوشي يقول: إن هذه الحقيقة المطلقة هي التين أو السماء الذي تقول به الكنفوشية الصادقة. وكان يرى أن الله هو عملية عقلية في الكون منزه عن الشخصية أو الصور المحسوسة، وأن "الطبيعة إن هي إلا القانون" (18).
ويقول جو أن قانون الكون السالف الذكر هو أيضاً قانون الأخلاق والسياسة. فالأخلاق الفاضلة هي الانسجام مع قوانين الطبيعة، وخير أنواع السياسة هو تطبيق قوانين الأخلاق على أعمال الدولة، والطبيعة في كل معانيها
صفحة رقم : 1254
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأقصى -> الصين -> عصر الفنانين -> النهضة في عهد أسرة سونج -> بعث الفلسفة

تنتهي إلى الخير، وطبيعة الناس خيرة، واتباع سنن الطبيعة هو سر الحكمة والسلام. "وقد أبى جواما وشو أن يقتلع الأعشاب التي كانت أمام نافذة بيته وقال إن ما يدفعها إلى النماء هو بعينه الذي يدفعني" (19). ولربما ظن القارئ من هذه الأقوال أن جوشي كان يرى أن الغرائز هي الأخرى طيبة صالحة وأن على الإنسان أن يطلق لها العنان. ولكنه لم ير هذا بل كان يندد بها ويقول إنها هي المظهر الخارجي للمادة "جي" ويطلب بإخضاعها لحكم العقل والقانون "لي" (20). وقد يكون في هذا شئ من التناقض ولكن الإنسان لا يستطيع أن يكون عالماً أخلاقيا ومنطقيا معاً.
لقد كان في هذه الفلسفة كثير من الناقض، ولكن هذا التناقض رغم كثرته لم يثر ثائرة كبير معارضيها وهو وانج يانج - منج صاحب الشخصية الظريفة الفذة. ذلك أن وانج لم يكن فيلسوفاً فحسب بل كان إلى جانب ذلك قديساً تملكته نزعة التأمل التي اتصفت بها البوذية المهايانية ، وسرت عاداتها إلى أعماق نفسه. وقد بدا له أن غلطة جوشي الأساسية ليست فيما يقوله عن الأخلاق بل في طريقته، ولقد كان يرى أن البحث عن حقائق الأشياء يجب ألا يبدأ بدراسة العلم الخارجي بل بما هو أعمق من هذا العالم وأكثر منه إظهاراً للحقائق وهو دراسة النفس الداخلية كما يقول الهنود. ذلك أن العلوم الطبيعية في بلاد العلم كلها إذا اجتمعت لا تستطيع أن تفسر حقيقة غصن خيزران أو حبة أرز، وفي هذا يقول:
قلت لصديقي تشين في السنين الخالية: "إذا كان لابد للإنسان أن يبحث كل ما تحت قبة السماء لكي يكون حكيما أو إنساناً فاضلا، فكيف يستطيع إنسان في الوقت الحضر أن يستحوذ على هذه القدرة العظيمة؟" ثم أشرت إلى أعواد الخيزران التي أمام خيمتي وطلبت إليه أن يفحص عنها ويرى
صفحة رقم : 1255
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأقصى -> الصين -> عصر الفنانين -> النهضة في عهد أسرة سونج -> بعث الفلسفة

نتيجة فحصه. فواصل تشين نهاره بليله يبحث في عناصر الخيزران، وأضنى عقله وتفكيره بهذا البحث ثلاث أيام كاملة، حتى نضب معين جهوده العقلية وسئم العمل. وظننت في بادئ الأمر أن منشأ عجزه أن جهوده وقواه لم تكن كافية لهذا العمل، فأخذت أنا على عاتقي أن أقوم بهذا البحث، وقضيت فيه ليلى ونهاري ولكني عجزت عن فهم كنه الخيزران. وبعد أن واصلت العمل سبعة أيام انتابني المرض أنا أيضاً من فرط ما أجهدت نفسي وفكري؛ فلما التقينا بعدئذ قال كلانا لصاحبه في حسرة: "إنا لا نستطيع أن نكون حكيمين أو فاضلين" (21).
ومن أجل هذا تخلى وانج يانج - منج عن بحث طبيعة الأشياء، بل تخلى أيضاً عن دراسة أمهات الكتاب القديمة، فقد بدا له أن قراءة الإنسان قلبه وعقله وتأملها في عزلته يهيئان له من أسباب الحكمة أكثر مما تهيئه له دراسة جميع الكتب والأشياء المادية" (22). ولما نفي إلى برية جبلية يسكنها أقوام همج وتنتشر فيها الأفاعي السامة اتخذ له من المجرمين الذين فروا إلى هذه الأصقاع أصدقاء وأتباعاً، وعلمهم الفلسفة وطهي لهم طعامهم وأنشد لهم الأناشيد. وفي ذات مرة، بينما هو قائم بالحراسة في منتصف الليل، قفز من كوخه على حين غفلة وصاح قائلا: "لاشك في أن طبيعتي وحدها كافية. ولقد أخطأت حين أخذت أبحث عن مبادئ في الأشياء المادية وفي شئون الخلق". ولم يكن رفاقه واثقين من أنهم يدركون ما يرمي إليه ؛ ولكنه لم يلبث أن أرشدهم إلى الغاية المثالية التي كان يرمي إليها فقال: "إن العقل نفسه لينطوي على القانون الطبيعي، وهل في الكون شئ يوجد مستقلا عن العقل؟ وهل ثمة قانون لا صلة له بالعقل؟" (23) ولم يستدل من هذا على أن الله مكن تصوير الخيال، بل كان يعتقد أنه قوة أخلاقية غامضة ولكنها قادرة على كل شئ، وأنها أعظم من أن تكون إنساناً فحسب، ولكنها قادرة على أن تحسن بالعطف والغضب على الخلق(24).
صفحة رقم : 1256

قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأقصى -> الصين -> عصر الفنانين -> النهضة في عهد أسرة سونج -> بعث الفلسفة

ومن هذه البداية المثالية وصل إلى المبادئ الأخلاقية التي وصل إليها جوشي والقائلة أن الطبيعة هي الخير الأسمى، وأن الفضيلة الكبرى إنما تكون بإطاعة قوانين الطبيعة والعمل بها كاملة(25). ولما قيل له إن في الطبيعة أفاعي كما فيها فلاسفة أجاب إجابة فيها أثر من فلسفة أكويناس وسبنوزا
Spinoza ونيتشة فقال إن "الخير" و "الشر" إن هما إلا رأيان مبتسران ولفظان تسمى بهما الأشياء حسب ما فيها من نفع أو أذى للفرد أو لبني الإنسان. وكان يعلم أتباعه أن الطبيعة نفسها فوق الخير والشر لا تعرف ما نطلقه نحن عليها من أسماء مبعثها الأنانية وقد نقل عنه أحد تلاميذه، أو لعله وضع من عنده، حواراً كان في مقدوره أن يعنونه: ما وراء الخير والشر.
ثم قال بعد ذلك بقليل: "إن منشأ هذه النظرة إلى الخير والشر في الجسم نفسه وأكبر الظن أنها نظرة خاطئة". ولم أستطع فهم هذا فقال المعلم: "إن الغرض الذي تهدف إليه السماء من وراء عملية الخلق ليتمثل في الأزهار والحشائش، فهل لدينا طريقة نفرق بها بينها فنقول إن هذه خير وتلك شر؟ فإن كنت أنت أيها الطالب يسرك أن ترى الأزهار قلت إن الأزهار حسنة والحشائش رديئة، أما إن كنت ترغب في أن تنتفع بالحشائش فإنك ترى فيها الخير كل الخير؛ وهذا النوع من الخير أو الشر إنما ينشأ مما هو كامن في عقلك من حب هذا الشيء أو كرهه، ومن هذا أعرف أنك مخطئ".

فقلت له: "إن الاطمئنان الناشئ من سيطرة القانون الطبيعي لهو حالة لا يكون ثمة خير أو شر، فهل هذا صحيح؟" فأجاب المعلم: "إن الاطمئنان الناشئ من سيطرة القانون الطبيعي لهو حالة لا يفرق فيها بين الخير والشر، على حين أن استشارة الطبيعة العاطفية هي الحالة التي يوجد فيها الخير والشر كلاهما. فإذا لم تثر تلك الطبيعة العاطفية لم يكن ثمة خير أو شر، وهذا هو الذي يطلق عليه اسم الخير الأسمى....."
صفحة رقم : 1257
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأقصى -> الصين -> عصر الفنانين -> النهضة في عهد أسرة سونج -> بعث الفلسفة

فقلت: "وإذن فالخير والشر لا يوجدان قط في الأشياء نفسها؟" فقال: "إنهما لا يوجدان إلا في عقلك".
ولقد كان من الخير أن يضرب وانج وأن تضرب البوذية على هذه النغمة، نغمة ما وراء الطبيعة المثالية، في أبهاء الكنفوشيين الصادقين والمتأنقين؛ ونقول المتأنقين لأن هؤلاء العلماء كانوا مفتونين بعض الافتنان بحكمتهم، وأنهم أضحوا يؤلفون فيما بينهم بيروقراطية ذهنية متعبة مملة معادية لكل روح مبدعة معرضة للخطأ، وإن كانت نظرتهم إلى الطبيعة البشرية وإلى الأداة الحكومية أصدق ما تصوره الفلسفة من نظرات، وأكثرها عدالة. وإذا كان أتباع جوشي قد كتب لهم النصر على معارضيهم في آخر الأمر، وإذا كانت اللوحة التذكارية التي نقش عليها اسمه قد حظيت بشرف وضعها في البهو الذي وضعت فيه لوحة المعلم نفسه (كنفوشيوس)، وإذا كان شرحه لأمهات الكتب الصينية قد أصبح هو القانون الذي يرجع إليه كل تفكير سليم مدى سبعمائة عام، إذا كان هذا وذاك قد حدث فإن حدوثه كان نصراً مؤزراً للعقلية السليمة البسيطة غير المعقدة على التحذلق المزعج الذي كان يعمد إليه أصحاب العقول الميتافيزيقية.

ولكن الأمة الفذة قد تفرط في الحساسية، وقد تكون عاقلة رزينة فوق ما يجب، وقد تسرف في الاستمساك بالحق والصواب إسرافاً لا يطاق. ولقد كان انتصار جوشي والكنفوشية هذا الانتصار الكامل من الأسباب التي جعلت ثورة الصين ضرورة لا بد منها.

صفحة رقم : 1258
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأقصى -> الصين -> عصر الفنانين -> البرنز واللكّ واليشب

الفصل الثاني
البرنز واللَّك واليَشْب
منزلة الفن في الصين - المنسوجات - الأثاث - الحلي - المراوح -
صنع اللك - قطع حجر اليشب - روائع فنية في البرنز - النحت الصيني
طلب الحكمة والهيام بالجمال هما قطب العقل الصيني، وفي استطاعتنا أن نعرف بلاد الصين بأنها بلاد الفلسفة والخزف، وإن لم يكن هذا التعريف جامعاً مانعاً. وكما أن طلب الحكمة لم يكن معناه في بلاد الصين الجري وراء أخيلة ميتافيزيقية لا علاقة لها بالحياة، بل كان فلسفة إيجابية تهدف إلى ترقية الفرد والنظام الاجتماعي، فكذلك لم يكن عشق الجمال إحساساً به كامناً في النفس أو هواية خاوية للأشكال الفنية التي لا صلة لها بالشئون الإنسانية، بل كان تزاوجاً أرضيا وثيقاً بين الجمال والمنفعة، وتصميما عملياً لتزيين موضوعات الحياة اليومية وأدواتها.

ومن أجل ذلك ظلت الصين، إلى الوقت الذي أخذت فيه تخضع مثلها العليا لتأثير الغرب، تأبى أن تعترف بوجود فرق ما بين الفنان والصانع أو بين هذا و بين العامل العادي. ولقد كانت الصناعات كلها إلا القليل منها من عمل الأيدي البشرية، وكان كل ما تعمله الأيدي منها حِرفاً متقنة؛ وكانت الصناعة كما كان الفن تعبيراً عن شخصية الصانع بالشيء المصنوع، ولذلك بزت الصين كل ما عداها من البلاد في الذوق الفني وفي كثرة ما لديها من الأدوات الجميلة التي تستخدمها في حياتها اليومية، وإن لم تمد أهلها عن طريق الصناعات الكبيرة بالسلع التي تنعم بها كثرة الناس في البلاد الغريبة. فقد كان الصيني المتوسط الثراء يتطلب أن يكون كل ما يحيط به، من الحروف التي يكتب بها إلى
صفحة رقم : 1259
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأقصى -> الصين -> عصر الفنانين -> البرنز واللكّ واليشب

الصحاف التي يأكل فيها، مما يشجع حاسة الجمال، وأن يدل بشكله وصنعه على الحضارة الناضجة الذي هو رمز لها وقطعة منها.
وبلغت هذه الحركة التي ترمي إلى تجميل الجسم والمعبد والمسكن غايتها في عهد أسرة سونج. لقد كانت هذه الحركة عنصراً من عناصر الحياة في عصر أسرة تانج، وكان من شأنها أن تستمر وتنتشر في عهد الأسر التي أعقبتها؛ ولكن عهد
صفحة رقم : 1260
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأقصى -> الصين -> عصر الفنانين -> البرنز واللكّ واليشب

النظام والرخاء الطويل الذي عم البلاد تلك الأسرة قد أمد الفنون كلها بحاجتها من الغذاء، وخلع على الحياة الصينية جمالا وزينة لم تستمتع بمثلهما من قبل. ولقد بلغ الصناع الصينيون في صناعة النسيج والمعادن في عهد أسرة سونج وما بعدها درجة من الإتقان والكمال لم يفقهم فيها أحد قبلهم، وبزوا جميع منافسيهم في كافة أنحاء العالم في اليشب وغيره من الأحجار الصلبة، ولم يتفوق عليهم في نحت الخشب والنقش على العاج إلا من أخذوا عنهم هذه الصناعة من اليابانيين(27). لقد كان أثاث المنازل يصنع على أشكال متعددة مختلفة، فذة في صورتها ولكنها غير مريحة لصاحبها؛ وكان صناع الأثاث، الذين تكفيهم صفحة من الأرز يوما كاملا، يخرجون منه تحفة فنية صغيرة إثر تحفة.
وكان الفنان ذو اليد الصناع الذي يخرج هذه الروائع الفنية الدقيقة يزين بها داره ويتخذها بديلا من الأثاث الغالي الثمن ومن أسباب المتعة المنزلية، وكانت تبعث في نفس مالكها بهجة لا يدركها في بلاد الغرب إلا الخبراء الأخصائيون.
أما الحلي فلم تكن موفورة العدد ولكنها كانت بديعة القطع، وكان الرجال والنساء يبردون وجوههم بمراوح مزخرفة من الريش والخيزران، أو الورق أو الحرير الملوّن، بل إن المتسولين أنفسهم لم تكن تنقصهم المراوح الجميلة وهم يمارسون حرفتهم التليدة.
ونشأ فن الطلاء باللك في الصين، وبلغ ذروة الكمال في اليابان. واللك في بلاد الشرق الأقصى نتاج طبيعي لشجرة أصلها من أشجار الصين، ولكنها الآن تزرع بكثرة في بلاد اليابان، ويؤخذ عصيرها من جذعها وغصونها، ثم
صفحة رقم : 1261
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأقصى -> الصين -> عصر الفنانين -> البرنز واللكّ واليشب

يصفى ويغلى ليزول منه ما لا حاجة لهم من السوائل، ويطلي به الخشب الرقيق كما يطلى به المعدن والخزف في بعض الأحيان، ثم يجفف بتعريضه للرطوبة(28). ويتكوَّن الطلاء من طبقات تتراوح بين عشرين وثلاثين طبقة يبذل في تجفيف كل واحة منها وصقلها جهد عظيم وعناية بالغة، وتختلف كل طبقة عن غيرها في لونها وسمكها. وينقش الصينيون بعدئذ هذه الطبقات بعد تمامها بآلة حادة على شكل (7) بحيث يصل كل حز إلى الطبقة ذات اللون الذي يتطلبه الشكل المطلوب.
وقد نما هذا الفن على مهل وبدأ في صورة كتابة على شرائح من الخيزران؛ وكانت مادة اللك تستخدم في عهد أسرة جو لتزيين الأواني والسروج والعربات وما إليها. ثم استخدم في القرن الثاني بعد الميلاد لطلاء الأبنية والآلات الموسيقية؛ وفي عهد أسرة تانج صدرت الصين كثيرا من الأدوات المطلية باللك إلى اليابان. ولما تولت الُملك أسرة تانج كانت كل فروع صناعة اللك قد ازدهرت وتحددت أشكالها، وكانت ترسل منتجاتها بحرا إلى الثغور النائية كثغور الهند وبلاد العرب. ولما ولى الملكُ أباطرة أسرة منج خطا الفن خطوة أخرى في طريق الكمال، وبلغ في بعض نواحيه ذروته(29). فلما جلس على العرش الإمبراطوران المستنيران كانج - شى، وتشين لونج من أباطرة المانشو صدرت الأوامر الإمبراطورية بتشييد المصانع والإنفاق عليها من مال الدولة، فأخرجت من روائع الفن أمثال عرش تشين لونج(30) والستر الذي أهداه كانج - شى إلى ليوبولد الأول إمبراطور الدولة الرومانية الشرقية(31). واحتفظ هذا الفن بتلك الدرجة الرفيعة حتى القرن التاسع عشر، فكانت الحروب التي أوقد نارها التجار الأوربيون، وما للمستوردين والعملاء الأوربيين من أذواق منحطة كانت هذه وتلك سبباً في حبس معونة الأباطرة عنه فتدهور مستواه وانحطت رسومه، وانقطعت زعامته إلى اليابان.
صفحة رقم : 1262

قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأقصى -> الصين -> عصر الفنانين -> البرنز واللكّ واليشب

أما صناعة اليشب فهي قديمة قدم التاريخ الصيني نفسه، وشاهد ذلك أن آثارها وجدت في أقدم القبور. وتعزو أقدم السجلات أول استخدامه"حجر سمع"إلى عام 2500 ق.م. وذلك أن حجر اليشب كان يقطع على صورة سمكة أو نحوها تعلق في إسار؛ فإذا ما أجيد قطع الحجر وتعليقه خرجت منه أنغام موسيقية واضحة جميلة تدوم مدهشاً في طوله. والاسم الإنجليزي لهذا الحجر
Jade مشتق من اللفظ الأسبانيIjada (المأخوذة عن اللفظ اللاتيني Ilia) عن طريق اللفظ الفرنسي Jade ومعناه الحقو. ولما فتح الأسبان أمريكا وجد الفاتحون أهل المكسيك الأقدمين يأتون بهذا الحجر مسحوقاً ومعجوناً بالماء ليعالجوا به كثيراً من الأمراض الباطنية، فلما عادوا إلى أوربا حملوا معهم هذا العلاج هو والذهب الأمريكي إلى بلادهم. أما الاسم الصيني لهذا الحجر فهو أليق به من الاسم الأوربي وأكثر مطابقة للمعقول. فلفظ جون الذي يطلق عليه معناه لين كالندا(32)، ويتركب حجر اليشب من معدني الجاديث والتفريت، والأول يتكون من سليكات الألومنيوم والصوديوم ويتكون الثاني من الكالسيوم والمغنيزيوم. وكلا المعدنين صلب قاس يحتاج تهشيم البوصة المكعبة منه إلى ضغط خمسين طنا في بعض الأحيان. وتكسر القطع الكبيرة منه عادة بتعريضها إلى الحرارة الشديدة ثم إلى الماء البارد على التعاقب.
وفي وسع الإنسان أن يدرك حذق الفنان الصيني من قدرته على إظهار ألوان براقة خضراء وسمراء وسوداء بيضاء من هذا الحجر العديم اللون بطبيعته، ومن صبره الطويل ومثابرته، حتى يخرج منه أشكالا مختلفة لا عداد لها، حتى لا يكاد الإنسان يجد بين مجموعات اليشب التي في العالم كله قطعتين متماثلتين، اللهم إلا أزرار الملابس.

وكان أول ما عثر عليه من مصنوعات يشبية في عهد أسرة شانج في صورة ضفدعة تستخدم قرباناً مقدساً(33)، وصنعت منه أدوات غاية في الجمال في أيام
صفحة رقم : 1263
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأقصى -> الصين -> عصر الفنانين -> البرنز واللكّ واليشب

كنفوشيوس(34). وبينما كان الناس في غير الصين يتخذون من اليشب فؤوساً، ومدى وأواني، فإن الصينيين كانوا يعظمون الحجر تعظيماً حملهم على ألاّ يستخدموه إلا في التحف الفنية الجميلة، إذا استثنينا بعض القطع النادرة القليلة العدد. وكان عندهم أثمن من الفضة والذهب والحلي على اختلاف أنواعها(35). وكانوا يقدرون بعض مصنوعات اليشب الصغيرة كخواتم الإبهام التي يتحلى بها كبار الحكام الصينيين بما يقرب من خمسة آلاف ريال، ويقدرون بعض القلائد اليشيبية بمائة آلاف ريال. وكان المعنيون بجمع القطع النادرة منه يقضون السنين الطوال في البحث عن قطعة واحدة، ويقال إن ما يوجد في الصين من التحف اليشبية إذا جمعت في مكان واحد تكونت منها مجموعة لا تماثلها مجموعة من أية تحف صنعت من مادة أخرى في جميع أنحاء العالم(36).
ولا يكاد البرنز يقل قدماً عن اليشب في الفن الصيني، وهو يفوقه مقاماً وتقديراً عند الصينيين. وتروى الأقاصيص الصينية أن الإمبراطور يو، أحد أباطرة الصين الأقدمين وبطل الطوفان الصيني، تلقى المعادن التي بعثت بها إليه الدويلات التسع الخاضعة لحكمه، وهى الخراج المفروض عليها، ثم صبها كلها وصنع منها ثلاث قدور لكل منها تسع أرجل، لها من القوة السحرية وتستطيع به أن تدفع المؤثرات البغيضة، وتجعل ما يوضع فيها من المواد يغلى بغير النار، ويخرج منها كل ما لذ وطاب من طعام وشراب.

ثم أصبحت هذه القدور الرمز المقدس للسلطة الإمبراطورية، وتوارثتها الأسر واحدة بعد واحدة، فكانت كل منها تتلقاها بعناية فائقة من التي قبلها، ولكنها اختفت بطريقة مجهولة غامضة بعد سقوط أسرة جو، وهي حادثة كان لها أسوأ الأثر في منزله شى هوانج - دي. ثم أصبح صب البرونز ونقشه فنا من الفنون الجميلة الصينية، وأخرجت منه البلاد مجموعات تطلب حصر أسمائها وتصنيفها اثنين وأربعين مجلدا(37). وكان يصنع منه أواني للحفلات الدينية التي
صفحة رقم : 1264
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأقصى -> الصين -> عصر الفنانين -> البرنز واللكّ واليشب

تقيمها الحكومة أو يقيمها الأفراد في منازلهم، وقد أحال آلافاً من أنواع الأواني المنزلية إلى تحف فنية، وليس في العالم كله ما يضاهي مصنوعات الصين البرنزية إلا ما صنع من في إيطاليا في عهد النهضة الأوربية، ولعلها لا يضاهيها من هذه المصنوعات إلا "أبواب الجنة" التي وضع تصميمها غبرتي
Ghiberti ليزين بها موضع التعميد في فلرنس.
وأقدم ما لدينا من القطع البرنزية الصينية أواني قربانية كشفت حديثاً في هونان؛ ويرجعها العلماء الصينيون إلى عهد أسرة شانج، ولكن الخبراء الأوربيين يرجعونها إلى عهد متأخر عن ذلك الوقت وإن كانوا لا يحددون تحديداً مضبوطاً. وأقدم الآثار المعروفة تاريخها هي التي ترجع إلى عهد أسرة جو ومن أروعها كلها مجموعة آنية الحفلات المحفوظة في المتحف الفني بنيويورك. وقد استولى شى أونج - دي على معظم ما كان لدى أسرة جو من آنية برنزية لئلا يصهرها الأهلون ليتخذوا منها أسلحة. وصنع ما تجمع له من هذا المعدن اثنا عشر تمثالا ضخما يبلغ ارتفاع كل منها خمسين قدماً(38)، ولكن هذه التماثيل كلها لم تبق منها قدم واحد. وقد صنعت في عهد أسرة هان كثير من الآنية الجميلة طعمت أحياناً بالذهب.

وليس أدل على رقي هذا الفن في الصين من أن الفنانين الذين دربوا في تلك البلاد هم الذين صنعوا عدداً من التحف التي تعد من روائع الفن، والتي زين بها هيكل هرتوجي في مدينة نارا اليابانية. وأجملها كلها ثلاثة تماثيل لأميدا - بوذا تصورها جالسة على أسرة في صورة زهرة الأزورد(39)؛ وهي أجمل ما وجد من تحف في تاريخ صناعة البرنز في العالم أجمع . ووصل فن البرنز إلى ذروة مجده أيام أسرة سونج، وإذا كانت التحف التي صنعت منه لم ترق إلى ذروة الكمال فإنها قد بلغت الغاية في كثرة عددها وتباين أشكالها؛ فقد صنعت منه قدور
صفحة رقم : 1265
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأقصى -> الصين -> عصر الفنانين -> البرنز واللكّ واليشب

ودنان خمر، وآنية، ومباخر، وأسلحة، ومرايا، ونواقيس، وطبول
صفحة رقم : 1266
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأقصى -> الصين -> عصر الفنانين -> البرنز واللكّ واليشب

ومزهريات؛ وكانت الآنية المنقوشة والتماثيل الصغيرة تملأ الرفوف في دور خبراء الفن وهواته، وتجد لها مكاناً في كل بيت من بيوت الصينيين.
ومن أجمل النماذج الباقية من أيام أسرة سوج مبخرة في صورة جاموسة البحر، وقد ركب عليها لو - دزه وهو هادى مطمئن ليثبت بهذا قدرة الفلسفة على إخضاع الوحوش الكاسرة(40)، ولا يزيد سمك جدران المبخرة على سمك الورقة، وقد اكتسبت على مر الزمان قشرة أو طبقة خضراء مرقشة خلعت عليها جمال القدم ، ثم انحط هذا الفن انحطاطاً تدريجياً بطيئاً في عهد أسوة منج. فزاد حجم التحف وقلت جودتها، وأصبح البرنز، الذي كان مقصوراً على صنع آيات الفن في عهد الإمبراطور يو، فناً عاما تصنع منه الآنية العادية التي تستخدم في الأغراض اليومية، وتخلى في مكانته الأولى للخزف.

ولم يكن النحت من الفنون الكبرى، ولا من الفنون الجميلة، عند الصينيين(41). وسبب هذا أن تواضع الشرق الأقصى أبى عليه أن يتخذ الجسم البشرى نموذجاً من نماذج الجمال. ولهذا فإن الذين اتخذوا صناعة التماثيل البشرية حرفة لهم وجهوا قليلا من عنايتهم إلى تمثيل ما على الأجسام من ملابس، واستخدموا تماثيل الرجال - وقلما استخدموا تماثيل النساء - لدراسة بعض أنواع الإحساسات أو لتصويرها؛ ولكنهم لم يمجدوا الأجسام البشرية. ومن أجل ذلك تراهم في الغالب قد قصروا تصوير الناس على تماثيل القديسين البوذيين والحكماء الدويين، وأغفلوا تصوير الرياضيين والسراري ممن كانوا وكن مصدر الإلهام للفنانين من اليونان.
صفحة رقم : 1267
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأقصى -> الصين -> عصر الفنانين -> البرنز واللكّ واليشب

وكان المثالون الصينيون يفضلون تمثيل الحيوانات على تمثيل الفلاسفة والحكماء أنفسهم.

وأقدم ما نعرفه من التماثيل الصينية التماثيل الإثنى عشر الضخمة المصنوعة من البرنز، والتي أقامها شى هوانج - دي. وقد صهرها فيما بعد أحد الحكام من أسرة هان لا يتخذ منها "فكة" برنزية. وبقي من أيام أسرة هان عدد قليل من التماثيل البرنزية، ولكن كل ما صنع منها في ذلك العهد إلا قلة ضئيلة قضت عليه الحرب أو قضى عليها الإهمال الطويل الأمد. والتماثيل البشرية قليلة أيضا في هذه القلة الباقية، والأثر الهام الوحيد الباقي من أيام أسرة هان نقش بارز من نقوش القبور، عثر عليه في شانتونج. وصور الآدميين القليلة نادرة في هذا النقش أيضاً، وأهم ما يشغل رقعته صور حيوانات بارزة رقيقة. واقترب من هذا النقش إلى صناعة النحت التماثيل الجنازية الصغيرة المتخذة من الصلصال - وأكثرها حيوانات منها قلة تمثل خدماً أو زوجات - وكانت تدفن مع الموتى من الذكور عوضا عن الأزواج والخدم الأحياء. وقد بقيت من هذا العهد تماثيل مستقلة لحيوانات منها تمثال رخامي لنمر كله عضلات يمثل اليقظة أدق تمثيل، وكان يتولى حراسة معبد اسنيانج - فو(42)؛ ومن هذا الدببة المزنجرة التي تشتمل عليها الآن مجموعة جاردنر Gardner في مدينة بوسطن Boston، ومنها الآساد المجنحة المصابة بتضخم الغدة الدرقية والتي وجدت في مقابر نانكنج(43). وكل هذه الحيوانات والخيول المزهوة الممثلة في نقوش القبور البارزة السالفة الذكر تشهد بما كان للفن اليوناني البكتري والفن الآشوري والسكوذى من أثر في الفن الصيني؛ وليس فيها شيء من مميزات الفن الصيني الخالص(44).
وفي هذه الأثناء كانت الصين قد بدأت تتأثر بشيء آخر هو أثر الدين
صفحة رقم : 1268
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأقصى -> الصين -> عصر الفنانين -> البرنز واللكّ واليشب

والفن البوذيين، وقد استوطن هذا الفن البوذي في أول الأمر التركستان، وأقام فيها صرح الحضارة كشف اشتين Stein وبليوت Pelliot في أنقاضها عن أطنان كثيرة من التماثيل المحطمة يضارع بعضها أكثر ما أخرجه الفن الهندي البوذي. واستعار الصينيون هذه الأشكال البوذية من غير تغيير كبير فيها، وأخرجوا على غرارها تماثيل لبوذا تضارع في جمالها ما صنع في جندارا أو في الهند. وأقدم هذه التماثيل ما وضع في معابد يون كان الكهفية في شانسي (حوالي 490 م)، ومن أحسنها تماثيل مغارات لونج من هونان، فقد أقيمت في خارج هذه المغارات عدة تماثيل ضخمة أعجبها كلها تمثال بوذستوا الجميل، وأروعها بوذا "فيروشانا" (حوالي 672 م) الذي تحطم جزء منه عند قاعدته، ولكنه لا يزال محتفظا بروعته الموحية الملهمة(46). وإلى شرق هذا الإقليم في شانتونج وجد كثير من معابد الكهوف نقشت على جدرانها أساطير على الطريقة الهندية يظهر في أماكن متفرقة منها تمثال قوي لبوذيستوا شبيه بالتمثال الذي في الكهف بون ِمن، (ويرجع تاريخه إلى حوالي عام 600 م)(47). واحتفظت أسرة تانج بالتقاليد البوذية في النحت، وقد بلغ درجة الكمال في التمثال بوذا الجالس (حوالي 639 م) الذي عثر عليه في ولاية شنسي Shensi . وأخرجت الأسر التي جاءت من بعدها تماثيل ضخمة من الصلصال تمثل أتباعا لبوذا الظريف لهم وجوه كالحة كوجوه رجال المال ، كما أخرجت عددا من التماثيل الجميلة تمثل كوان - بن إله مهايانا وهو يوشك أن يتحول من إله إلى إله(49).
وفقد فن النحت إلهامه الديني بعد أسرة تانج، واصطبغ بصبغة دنيوية تنحط أحياناً إلى صبغة شهوانية، حتى شكا رجال الأخلاق في ذلك الوقت، كما شكا رجال الأخلاق في إيطاليا في عصر النهضة، من أن الفنانين ينحتون
صفحة رقم : 1269
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأقصى -> الصين -> عصر الفنانين -> البرنز واللكّ واليشب

للقديسين تماثيل لا تقل رشاقة ورقة عن تماثيل النساء، فوضع الكهنة البوذيون قواعد للتصوير تحرم تحديد شخصية صاحب الصورة أو إبراز معالم الجسم.
ولربما كانت النزعة الأخلاقية القوية عند الصينيين هي التي عاقت تقدم فن النحت. وذلك أنه لما أن فقد الدافع الديني أثره المحرك القوي في الفن، ولم يسمح لجاذبية الجمال الجثماني بأن يكون شأن فيه، اضمحل فن النحت في بلاد الصين، وقضى الدين على ما لم يعد في مقدوره أن يكون له ملهماً. وما أن اقترب عهد أسرة تانج من نهايته حتى أخذ الابتكار في فن النحت ينضب معينة. وليس لدينا من القطع الفنية الممتازة التي أخرجتها أسرة سونج إلا عدد قليل؛ أما المغول فقد خصوا الحرب بجهودهم؛ وأما أباطرة المنج فقد نبغ في عهدهم بعض المثالين الذين أخرجوا تماثيل غريبة وأخرى ضخمة من الحجارة كالهولات التي تقف أمام مقابر أباطرة المنج. فلما ضيق الدين الخناق على فن النحت لفظ أنفاسه الأخيرة ، وأخلي ميدان الفن الصيني للخزف والنقش.

صفحة رقم : 1270
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأقصى -> الصين -> عصر الفنانين -> المعابد البجودا والقصور

الفصل الثالث
المعابد (البجودا) والقصور
العمارة الصينية - برج نانكنج الخزفي - بجودا بيجنج
اليشبي - هيكل كنفوشيوس - هيكل السماء ومذبحه -
قصور كوبلاي خان - بيت صيني - داخل البيت - لونه وشكله
كذلك كانت العمارة من الفنون الصغرى في بلاد الصين، ولم يكد يترك من كان فيها من البنائين العظام أثراً لهم يخلد ذكراهم؛ ويلوح أن الشعب لم يكن يجلهم إجلاله صناع الخزف الكبار. والعمائر الضخمة نادرة في بلاد الصين حتى ما شيد منها تكريماً للآلهة، وقلما نجد فيها مباني قديمة، وليس فيها إلا القليل من المعابد التي يرجع عهدها إلى ما قبل القرن السادس عشر.

وقد أصدر مهندسو أسرة سونج في عام 1103م ثمانية مجلدات موضحة بالرسوم الجميلة في شرح أساليب العمارة؛ ولكن الآيات الفنية التي صوروها كانت كلها من الخشب ولم تبق منها قطعة واحدة إلى اليوم. ويستدل من الرسوم المحفوظة في المتحف الأهلي في باريس، والتي يقال أنها تمثل المساكن والهياكل في أيام كنفوشيوس، على أن فن العمارة الصينية قد قنع في خلال تاريخه الطويل الذي دام ثلاثة وعشرين قرناً بما كان عليه في تلك الأيام الخالية من أشكال وأحجام متواضعة(50).
ولعل إحساس الصينيين المرهف في مسائل الفن والذوق هو الذي حدا بهم إلى نبذ ما عساه أن يبدو من العمائر خالياً من الاحتشام مفرطاً في الضخامة، أو لعل تفوقهم في الذكاء قد حد بعض الشيء من مدى خيالهم. ومهما يكن من سبب هذا القصور فإن فن العمارة الصينية قد أضر به كثيراً انعدام ثلاث قوى
صفحة رقم : 1271
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأقصى -> الصين -> عصر الفنانين -> المعابد البجودا والقصور

لم يخل منها تاريخ أمة عظيمة من الأمم القديمة، وتلك هي الأرستقراطية الوراثية وطبقة الكهنة القوية(51) والحكومة المركزية الكثيرة المال العظيمة السلطان(51). ذلك أن هذه القوى هي التي كانت في الأيام الخالية تبذل المال بسخاء لتشجيع الأعمال الفنية العظيمة، من هياكل وقصور ومسارح ومظلمات ومقابر منحوتة في الصخور. ولقد انفردت الصين من بين الأمم القديمة في أنها لم تبتل بهذه النظم الثلاثة.

غير أن العقيدة البوذية قد استحوذت وقتاً ما على روح الصينيين وعلى ما يكفي من ثروة البلاد لإقامة الهياكل العظيمة التي كشفت بقاياها أخيراً في التركستان(52). ولا تزال بعض الهياكل البوذية المتوسطة العظمة والفخامة باقية في أنحاء كثيرة من بلاد الصين، ولكنها لم تسم إلى ما سمت إليه العمائر الدينية في بلاد الهند. ويصل الإنسان إلى هذه الهياكل بممرات طبيعية جميلة المنظر صاعدة بالتواء فوق منحدرات ذات أبواب منقوشة يسمونها البايلو، ولعلها مأخوذة عن دربزين الأضرحة البوذية الهندية.
وتحرس مداخل هذه الهياكل في بعض الأحيان تماثيل بشعة وضعت لتخيف الشياطين الأجنبية فتبعدها عنها بطريقة ما. ومن أجمل الأضرحة البوذية الصينية كلها هيكل بوذا النائم بالقرب من القصر الصيفي المشيد خارج بيجنج. ويرى فرجسون
Fergusson أنه "أجمل ما أخرجه فن العمارة في بلاد الصين"(53).
غير أن أكثر ما يميز الشرق الأقصى في فن العمارة عن سائر الأقطار هو الهياكل (البجودات) التي تشرف على جميع المدن الصينية تقريباً . وقد
صفحة رقم : 1272
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأقصى -> الصين -> عصر الفنانين -> المعابد البجودا والقصور

اصطبغت هذه الصروح الجميلة، كما اصطبغت العقائد البوذية التي ألهمت من شادوها، ببعض الخرافات الدوِّية التي كانت منتشرة في البلاد، فكانت من أجل ذلك مراكز للاحتفالات الدينية وللتنبؤ بالغيب عن طريق دراسة الشقوق والعروق الأرضية. وكانت الجماعات المختلفة تشيد هذه الهياكل لاعتقادها أنها تقي الناس غوائل الأعاصير والفيضان، وتسترضي الأرواح الشريرة، وتجتذب الرخاء ورغد العيش. وكانت تتخذ عادة شكل أبراج ذات ثمانية أضلاع تشاد من الآجر وترتفع فوق قواعد من الحجارة خمس طبقات أو سبعاً أو تسعاً لأن الأعداد الزوجية في اعتقادهم أعداد مشئومة(56). وأقدم البجودات التي لا تزال قائمة حتى الآن البجودة القائمة في سونج إيو - سو، والتي شيدت في عام 523م على جبل سونج شان المقدس في هونان. ومن أجملها كلها البجودة الصيفية، وأروعها منظراً بجودة اليشب في بيجنج و "بجودة المزادة" في وو - واي - شان، وأوسعها شهرة برج الخزف في نانكنج (نانجنج) وقد شيد في 1412-1431م ويمتاز بطبقة من الخزف فوق جدرانه المقامة من الآجر. وقد دمر هذا البرج في ثورة تايينج التي استعرت في عام 1854م.
صفحة رقم : 1273
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأقصى -> الصين -> عصر الفنانين -> المعابد البجودا والقصور

وأجمل الهياكل الصينية هي التي كانت مخصصة للديانة الرسمية في بيجنج (بيكنج). ومن هذه الهياكل هيكل كنفوشيوس، ويحرسه باي - لو، فخم محفور أجمل حفر، ولكن الهيكل نفسه يخلد الفلسفة أكثر مما يخلد الفن. وقد شيد في القرن الثالث عشر الميلادي ثم أدخلت عليه عدة تعديلات وأعيد بناء بعض أجزائه عدة مرات. وقد وضعت "لوحة روح أقدس القديسين المعلم والأب كونفوشيوس"، على قاعدة خشبية في مشكاة مفتوحة في الهيكل، ونقشت العبارة الآتية فوق المذبح الرئيسي: "إلى المعلم الأعظم والمثال الذي يحتذيه عشرة آلاف جيل". ويقوم من سور بيجنج التتاري الجنوبي هيكل
صفحة رقم : 1274

قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأقصى -> الصين -> عصر الفنانين -> المعابد البجودا والقصور

السماء ومذبح السماء. والمذبح مكوّن من سلسلة من الدرج والشرفات الرخامية التي كان لعددها الكبير ونظامها أثر سحري في نفوس الزائرين. والهيكل نفسه بجودة معدلة من ثلاث طبقات قائمة فوق ربوة من الرخام ومشيدة من الآجر والقرميد الخاليين من الرونق. وكان الإمبراطور في الأيام الخالية يأتي إلى هذا المكان في الساعة الثالثة من صباح يوم رأس السنة الصينية للصلاة والدعاء لأسرته بالتوفيق والفلاح ولشعبه بالرخاء، ويقرب القربان للسماء التي يرجو أن تكون في صفه لا في صف أعدائه، ولم تكن السماء ذكراً أو أنثى عند الصينيين بل كانت جماداً. وقد نزلت صاعقة من السماء على هذا المعبد في عام 1889م فأصابته بضرر بليغ(57).
وأجمل من هذه الأضرحة الخالية من الرونق والبهاء، وأكثر منها جاذبية، القصور المزينة الضعيفة البناء التي كانت مساكن للأمراء وكبار الحكام في بيجنج. ومن أجمل هذه المباني البهو الأكبر، وقد شاده عند قبر أباطرة منج عباقرة البنائين الذين جاد بهم عهد الإمبراطور تشنج درو (1403-25)، كما شادوا عدداً من المساكن الملكية في بقعة عرفت فيما بعد باسم "المدينة المحرمة" أقيمت في الموضع الذي شاهد فيه ماركو بولو قصر كوبلاي خان قبل ذلك العهد بمائتي عام، فدهش منه وأعجب به أيما إعجاب. وتقوم آساد بشعة الخلقة على جانبي الدربزين الرخامي المؤدي إلى الشرفة الرخامية. وقد شيدت في هذا المكان مبان رسمية، بعضها غرف لعروش الأباطرة وأخرى للاستقبال أو للمآدب وغيرها من حاجات الأباطرة.

وانتشرت حولها البيوت الأنيقة التي كانت تسكنها في الأيام الخالية أسر الأباطرة وأبناؤهم وأقاربهم وخدمهم وأتباعهم وخصيانهم وسراريهم. ولا تكاد هذه القصور تختلف بعضها عن بعض. ففيها كلها العمد الرفيعة، والنوافذ المتشابكة الجميلة، والطنف المنحوتة أو المسطورة، والألوان الكثيرة الزاهية
صفحة رقم : 1275
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأقصى -> الصين -> عصر الفنانين -> المعابد البجودا والقصور

والرفارف المقوسة المتجهة إلى أعلى المتصلة بالسقف المقرمدة الضخمة. وشبيه بهذه المتع المحرمة على غير هذه الطبقات من الأهلين القصر الصيفي الثاني الذي يبعد عن هذا المكان بضعة أميال، ولعله أكثر رشاقة وتناسباً وتأنقاً في النحت من البيوت التي كانت في يوم ما مساكن للملوك في بيجنج.

وإذا شئنا أن نذكر الخصائص العامة لفن العمارة الصينية في عبارة موجزة قلنا: إن من أول مظاهرها السور المجرد من الجمال الذي يفصل المبنى الرئيسي عن الطريق العام. وهذه الأسوار تمتد في الأحياء الفقيرة من بيت إلى بيت متصلة بعضها ببعض، وتدل على أن الحياة في هذه الأحياء كانت غير آمنة. ويحيط هذا السور بفناء تفتح فيه أبواب ونوافذ لبيت واحد أو لعدة بيوت. وبيوت الفقراء مساكن كئيبة مظلمة، ذات مداخل ودهاليز ضيقة وسقف منخفضة، وأرض من التراب. وفي كثير من الأسر تعيش الخنازير والكلاب والدجاج والرجال والنساء في حجرة واحدة. وتعيش أفقر الأسر في أكواخ من الطين والقش تغمرها مياه الأمطار وتصفر فيها الرياح، وإذا كانت الأسر ذات يسار قليل غطت أرض الحجرات بالحصر أو رصفتها بالقرميد. أما الأثرياء فيزينون فناء المنزل الداخلي ببعض الشجيرات والأزهار والبرك، أو يحيطون قصورهم بالحدائق يغرسون فيها مختلف الأشجار، ويمرحون فيها ويلعبون. ولا نرى في هذه الحدائق طرقات تزينها الورود، وممرات غرست حولها الأزهار، ومربعات أو دوائر أو مثمنات من الكلأ أو الزهر؛ بل ترى بدلاً منها مماشي ضيقة لا تثبت على حال، تتلوى في بعض الأحيان مخترقة أخاديد تمر بين الصخور فوق مجار مائية متعرجة بين أشجار اضطرت جذوعها أو أغصانها إلى أن تتخذ لها أشكالاً غريبة ترضي عنها النفوس السفسطائية. وترى في أماكن متفرقة من هذه الحدائق جواسق جميلة تكاد تخفيها الغصون يستريح فيها الجائلون.
وليس البيت نفسه ذا روعة ولو كان قصراً للعظماء، فهو لا يزيد على طبقة
صفحة رقم : 1276
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأقصى -> الصين -> عصر الفنانين -> المعابد البجودا والقصور

واحدة، وإذا احتاجت الأسرة إلى أن تزيد حجرات منزلها فإنها تفضل إقامة مبنى جديد على إضافة حجرات للمبنى القديم. ومن ثم فإن القصر العظيم قلما يكون بناء منظم الأجزاء، بل يتكون من عدة مبان تمتد أهمها في صف واحد من مدخل القصر إلى السور وإلى جانبيها المباني الثانوية التي تقل عن الأولى شأناً. وأكثر ما تبنى منه المنازل الخشب والآجر، وقلما تعلو الحجارة إلى أكثر من الشرفات التي فوق الأساس.
وكان يقصر استعمال الآجر عادة على الجدران الخارجية، أما السقف فتتخذ من لبنات رقيقة، وأما الأعمدة المزينة والجدران الداخلية فتقام من الخشب. وكانت تعلو الجدران الزاهية الألوان طنف ذات نقوش. وليست الجدران ولا العمد هي التي تحمل السقف، بل إن هذه السقف رغم ثقلها تستقر على قوائم تكون جزءاً من الهيكل الخشبي للمنزل، والسقف أهم أجزاء الهيكل أو المنزل الصيني، فهو يبنى من القرميد المصقول البراق - ذي اللون الأصفر إن كان يظلل رأس الإمبراطور، وإلا فهو أخضر أو أرجواني أو أحمر أو أزرق. وهو يبدو جميلاً وسط ما يحيط به من المناظر الطبيعية، بل إنه ليبدو كذلك حتى في فوضى شوارع المدن، ولربما كانت أعواد الخيزران التي تبرز أطرافها من أعلى الخيام هي التي أقيمت على غرارها في بلاد الشرق الأقصى رفارف السطوح الرشيقة المنحنية إلى أعلى، ولعل أقرب من هذا إلى الظن أن هذا الطراز الكثير الذيوع لم يكن منشؤه إلا رغبة البنائين الصينيين في وقاية البناء كله من مياه الأمطار(58).
ذلك أن النوافذ ذات المصاريع كانت قليلة في المباني الصينية، وكان يحل محلها الورق الكوري
Korean أو النوافذ ذات القوائم المتقاطعة المتشابكة، وهذه لا تقي الحجرات من الأمطار.
صفحة رقم : 1277
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأقصى -> الصين -> عصر الفنانين -> المعابد البجودا والقصور

ولا يقع مدخل الدار الرئيسي عند طرفه ذي السقف الهرمي، بل يقع عند واجهته الجنوبية. ويقوم في داخل هذا الباب الكبير عادة ستار أو جدار يحجب نظر الزائر عن رؤية من في داخل الدار، ويقف في طريق الأرواح الخبيثة التي لا تسير إلا في خطوط مستقيمة، وردهة الدار وحجراتها معتمة لأن ضوء النهار تحجبه النوافذ المتشابكة والطنف البارزة. وبهو المنزل وحجراته مظلمة لأن النوافذ المشبكة والطنف البارزة تحجب عنها ضوء النهار. وقلما تجد في المنزل وسائل لتهوية الغرف، وليس فيه من وسائل التدفئة إلا المجامر المتنقلة، أو طبقات من الآجر تبنى فوق نار مدخنة. وليس لهذه المدافئ مداخن أو فتحات يخرج منها الدخان(59). والأغنياء والفقراء على السواء يقاسون آلام البرد ويأوون إلى فراشهم مدثرين بالثياب الثقيلة(60). وإذا التقى السائح بصيني سأله: "أأنت بردان؟" فيجيبه هذا بقوله: "بطبيعة الحال"(61)، وقد تعلق في سقف الدار فوانيس من الورق زاهية الألوان، وتزين الجدران أحياناً بكتابات بخط جميل أو بنقوش من الحبر، أو بسجف من الحرير مطرزة تطريزاً جميلاً ومنقوش عليها مناظر ريفية. ويتخذ أثاث المنزل عادة من الخشب الثقيل المدهون باللون الأسود البرّاق والمنحوت نحتاً جميلاً. أما القطع ذات الألوان الفاتحة فتطلى باللك البراق. والصينيون هم الأمة الشرقية الوحيدة التي يجلس أبناؤها على كراسي، وحتى هم يفضلون أن يجلسوا متكئين أو متربعين؛ وهم يضعون، على نضد خاص، الأواني التي تتخذ لتقديم القرابين لأسلافهم الأموات. وتقع في مؤخرة الدار حجرات النساء، وقد توجد في حجرات مستقلة أو في بناء منفصل عن سائر المنزل مكتبة أو مدرسة.
والأثر العام الذي تتركه العمائر الصينية في ذهن المشاهد الأجنبي غير الفني هو ما تتصف به من وهن سحري يأخذ بالألباب؛ واللون يطغى فيها على
صفحة رقم : 1278

قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأقصى -> الصين -> عصر الفنانين -> المعابد البجودا والقصور

الشكل، ومن واجب الجمال فيها أن يستغني عن الفخامة والعظمة. والهيكل أو القصر الصيني لا يتطاول إلى الإشراف على الطبيعة بل يتعاون معها على أن يخلق من الكل انسجاماً كاملاً يعتمد على تناسب أجزائه وتواضعها. والعمائر الصينية تعوزها الصفات التي تكسبها متانة وأمناً وطول بقاء، كأن من شادوها يخشون أن تذهب الزلازل بجهودهم.
وإن من الصعب على الإنسان أن يعتقد أن هذه العمائر تنتمي إلى ذلك الفن الذي أقام آثار الكرنك وبرسبويس، والآثار التي شيدت على الأكروبول؛ فليست هي عمائر بالمعنى الذي يفهمه الغربيون من هذا اللفظ، بل هي حفر في الخشب، وطلاء للخزف، ونحت في الحجر. وهي أكثر انسجاماً مع الخزف واليشب من الصروح الضخمة الثقيلة التي أقامها فنّا الهندسة والمعمار في بلاد الهند وبلاد النهرين ورومه. وإذا لم نتطلب إليها العظمة والصلابة التي ربما لم يعن بها من أنشئوها، وإذا أخذناها على أنها أصداف تعبر عن أرق الأذواق في أضعف أشكال المباني وأقلها بقاء، إذا فعلنا هذا وذاك كان لهذه العمائر مكانها بين أجمل طرز الفن الصيني الطبيعية التي تناسب أهل تلك البلاد وبين أجمل الأشكال التي ابتدعها الإنسان.

صفحة رقم : 1279
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأقصى -> الصين -> عصر الفنانين -> التصوير -> أساتذة فن التصوير الصيني

الفصل الرابع
التصوير
1- أساتذة فن التصوير الصيني
جوو كاي - جيه "أعظم مصور، أعظم فكه، وأعظم أبله"-
صورة هان يو الصغيرة - المدرستان الاتباعية والابتداعية - ونج
واي - وو داو دزه - هو دزونج الإمبراطور الفنان - أساتذة عصر سونج

لقد أبطأ الغرب في دراسة فن التصوير الصيني، وليس عليهم في ذلك لوم، لأن مناحي الفن وأساليبه في الشرق تكاد كلها أن تكون مغايرة لمناحيه وأساليبه في الغرب؛ وأول ما نذكره من هذا الخلاف أن المصورين في بلاد الشرق الأقصى لم يكونوا يصورون على القماش، وقد نجد من حين إلى حين مظلمات على الجدران، وأكثر ما يوجد من هذا أثر من آثار النفوذ البوذي؛ ونجد في بعض الأحيان رسوماً على الورق وهذه من آثار ما بعد العهد البوذي؛ كل هذا نجده ولكنه قليل، أما معظم الرسوم الصينية فهي على الحرير؛ ولقد كان ضعف هذه المادة وقصر أجلها سبباً في تلف الروائع الفنية جميعها حتى لم يبق من تاريخ هذا الفن إلا ذكريات له وسجلات تصف جهود الفنانين؛ يضاف إلى هذا أن الصور نفسها كانت رقيقة خفيفة، وأن كثرتها قد استخدمت فيها الألوان المائية وينقصها ما نراه في الصور الزيتية الأوربية من تلوين يظهرها للعين كأنها صور مجسمة نكاد نلمسها باليد. ولقد حاول الصينيون التصوير الزيتي ولكن يلوح أنهم تركوه لأنهم حسبوا هذه الطريقة من طرق التصوير خشنة ثقيلة لا تتفق وأغراضهم الدقيقة الرفيعة؛ كذلك كان تصويرهم في أشكاله الأولى على الأقل، فرعاً من فروع الكتابة أو الخط الجميل يستعملون فيه الفرشاة التي كانوا
صفحة رقم : 1280
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأقصى -> الصين -> عصر الفنانين -> التصوير -> أساتذة فن التصوير الصيني

يستعملونها في الخط، وكانوا يقتصرون في كثير من روائعهم الفنية على الفرشاة والحبر .

وآخر ما نذكره من أوجه الخلاف أن أعظم ما أخرجوه من الصور الملونة قد أخفى من غير قصد عن أعين الرحالة الغربيين، ذلك أن الصينيين لا يتباهون بعرض صورهم على الجدران العامة والخاصة بل يطوونها ويخبئونها بمنتهى العناية، فإذا أرادوا أن يستمتعوا برؤيتها أخرجوها من مخبئها كما نخرج نحن كتاباً ونقرأه. وكانت هذه الصور المطوية تلف متتابعة في ملفات من الورق أو الحرير ثم (تُقرأ) كما تقرأ المخطوطات. أما الصور الصغيرة فكانت تعلق على الجدران وقلما كانت توضع في إطارات. وكانت عدة صور ترسم أحياناً على شاشة كبيرة، وفي العهد الأخير من عهود أسرة سونج كان فن التصوير قد تفرع إلى ثلاثة عشر فرعاً(63) واتخذ أشكالاً لا حصر لها.
وقد ورد ذكر الفن الصيني بوصفه فناً ثابت الأساس، قبل ميلاد المسيح بعدة قرون، ولا يزال هذا الفن موطد الدعائم في بلاد الصين إلى يومنا هذا رغم ما عاناه بسبب الحروب الكثيرة. وتقول الأقاصيص الصينية إن أول من صور بالألوان في الصين امرأة تسمى لي وهي أخت الإمبراطور الصالح شوين. وقد ساء
صفحة رقم : 1281
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأقصى -> الصين -> عصر الفنانين -> التصوير -> أساتذة فن التصوير الصيني

ذلك أحد الناقدين فقال: "مما يؤسف له أشد الأسف أن يكون هذا الفن القدسي من اختراع امرأة"(64).
ولم يبق شيء من الصور التي رسمت في عهد أسرة جو. لكن الذي لا شك فيه أن الفن في عهد هذه الأسرة كان قد تقادم عهده، ويدلنا على ذلك تقرير كتبه كونفوشيوس يقول فيه إنه: أعجب أشد الإعجاب بالمظلمات التي رآها في الهيكل العظيم المقام في لو - يانج (65).

أما في أيام أسرة هان فحسبنا دليلاً على انتشار التصوير أن كاتباً من الكتاب قد شكا من أن بطلاً يعجب به لم يُرسم له عدد كافٍ من الصور فقال: "إن الفنانين كثيرون فلم إذن لا يصوره أحداً منهم؟(66)" ومن القصص التي تروى عن واحد من مهرة الفنانين في عهد الإمبراطور لي - يه - إي الأول أنه كان في استطاعته أن يرسم خطاً مستقيماً لا ميل فيه طوله ألف قدم؛ وأن يرسم خريطة مفصلة للصين على السطح لا يزيد على بوصة مربعة، وأن في مقدوره أن يملأ فاه ماء ملوناً ثم يبصقه فيكون صورة، وأن الصور التي كان يرسمها للعنقاء قد بلغت من الإتقان حداً جعل الناس إذا نظروا إليها يتساءلون قائلين لم لا تطير من أمامهم؟(67). ولدينا ما يشير إلى أن فن التصوير الصيني بلغ إحدى درجاته القصوى من الكمال في بداية التاريخ الميلادي، ولكن الحروب محت كل دليل قاطع على هذا. ولقد تناوبت على الصين غلبة الفن والحرب في نزاعهما الأبدي القديم، منذ العهد الذي نهب فيه لويانج المحاربون من إقليم تشين (حوالي عام 249 ق.م) وأخذوا يحرقون كل ما لم يستطيعوا الانتفاع به، إلى أيام ثورة الملاكمين (1900م) حين كان جنود تونج جو يستخدمون الصور المرسومة على الحرير في المجموعة الإمبراطورية لحزم ما يريدون حزمه من الأمتعة. فكانت روائع الفن يحل بها الدمار ولكن الفنانين لم يكونوا يتوانون عن الخلق والابتداع.
صفحة رقم : 1282
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأقصى -> الصين -> عصر الفنانين -> التصوير -> أساتذة فن التصوير الصيني

ولقد أحدثت البوذية انقلاباً في شئون الدين والفن في بلاد الصين لا يقل في عمقه ومداه عن الانقلاب الذي أحدثته المسيحية في ثقافة البحر الأبيض المتوسط وفنونه. نعم إن الكنفوشية احتفظت بسلطانها السياسي في البلاد، ولكن البوذية امتزجت بالدّوية فأصبحت السلطة المهيمنة على الفن، وأنشأت بين الصينيين وبين البواعث والرموز والأساليب والأنماط الهندية صلات ذات أثر قوي.
وكان أعظم العباقرة من رجال مدرسة التصوير الصينية البوذية جوو - كاي -جيه، وهو رجل بلغ من قوة شخصيته وصفاته الفذة أن اجتمعت حوله أقاصيص وأساطير كثيرة. منها أنه أحب فتاة تسكن منزلاً يجاور منزله، فلما عرض عليها أن تتزوج به أبت لجهلها بما كانت تخبئه له الأيام من شهرة عظيمة، فما كان منه إلا أن رسم صورة لها على أحد الجدران وأنفذ شوكة في قلبها، فأشرفت الفتاة على الموت. ثم تقدم إليها مرة أخري فرضيت به، فرفع الشوكة عن صورتها فشفيت الفتاة من مرضها. ولما أراد البوذيون أن يجمعوا المال لتشييد هيكل في نانكنج وعد أن يمدهم بمليون كاش ، وسخرت الصين كلها من هذا الوعد، لأن جوو قد بلغ من الفقر ما يبلغه الفنان.
فقال لهم: "اسمحوا لي أن استخدم أحد الجدران"، فلما وجد الجدار واستطاع أن ينفرد بنفسه عنده رسم عليه صورة القديس البوذي أو إيمالا-كيرتي. ولما أتم الصورة دعا الكهنة، وأخذ يصف لهم طريقة جمع المال المطلوب فقال: "عليكم أن تطلبوا في اليوم الأول مائة ألف كاش" ممن يريد أن يدخل ليرى الصورة، "وأن تطلبوا في اليوم الثاني خمسين ألفاً. أما في اليوم الثالث فدعوا الزائرين أحراراً يتبرعون بما يشاءون". ففعلوا ما أمرهم به وجمعوا بهذه الطريقة مليون كاش(69). ورسم جو سلسلة طويلة من الصور البوذية كما رسم صوراً
صفحة رقم : 1283
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأقصى -> الصين -> عصر الفنانين -> التصوير -> أساتذة فن التصوير الصيني

أخرى غير بوذية، ولكننا لم يصلنا شيء من رسومه الموثوق بنسبتها إليه . وكتب ثلاث رسائل في التصوير بقيت بعض أجزائها إلى اليوم. ومن أقواله: أن أصعب التصوير تصوير الرجال، ويلي الرجال في الصعوبة تصوير المناظر الطبيعية ثم تأتي بعدهما الخيل والآلهة(72). وكان يصر على أنه فنان وفيلسوف معاً. ولما رسم صورة للإمبراطور كتب تحتها: "ليس في الطبيعة شيء عال لا ينحط بعد قليل... فالشمس إذا بلغت كبد السماء أخذت في الانحدار، والقمر إذا كمل وصار بدراً بدأ يتناقص. وتسنم المجد لا يقل صعوبة عن بناء جبل من حبات التراب؛ أما التردي في الهلاك فسهل كانسياب اللولب المشدود" ، وكان معاصروه يعدونه أعظم رجال زمانه في ثلاث نواح: في التصوير وفي الفكاهة وفي البلاهة(74).
وازدهر التصوير في بلاط الأباطرة من أسرة تانج، ومن الأقوال المؤيدة لهذا قول دوفو: "إن المصورين ليبلغون من الكثرة عدد نجوم الصباح، ولكن الفنانين منهم قليلون"(75).
وكتب جانج ين - يوان في القرن التاسع عشر كتاباً سماه: عظماء المصورين في جميع العصور وصف فيه أعمال ثلاثمائة وسبعين فناناً، ويقول فيه: إن الصورة التي يرسمها أحد أساتذة التصوير كانت تدر عليه وقتئذ نحو عشرين ألف أوقية من الفضة، ولكنه يحذرنا فيما بعد من أن نقدر الفن بالمال ويقول: "إن الصور الجميلة أعظم قيمة من الذهب واليشب، أما الصور الرديئة فلا تساوي الواحدة منها شقفة".
صفحة رقم : 1284
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأقصى -> الصين -> عصر الفنانين -> التصوير -> أساتذة فن التصوير الصيني

ولا نزال نعرف من المصورين في عهد أسرة تانج أسماء مائتين وعشرين، أما أعمالهم فلا يكاد يبقى منها شيء، لأن ثوار التتار الذين نهبوا شانج - آن في عام 756م لم يكونوا يعنون بهذا الفن؛ وفي وسعنا أن نلمح الجو الفني الذي كان يمتزج بشعر ذلك الوقت في قصة هان يو "أمير الأدب" الذائع الصيت.

وخلاصة هذه القصة أن هذا الأمير كسب من زميل له يقيم معه في منزل رقعة صغيرة اشتملت في أصغر مساحة مستطاعة على ثلاث وعشرين ومائة صورة من صور الآدميين، وثلاث وثمانين من صور الجياد، وثلاثين من صور الحيوانات الأخرى، وصور لثلاث عربات، وإحدى وخمسين ومائتي صورة لأشياء أخرى، ويقول هو عنها: "لقد فكرت كثيراً في أمر هذه الصورة لأني لم اكن أصدق أنها من عمل رجل واحد، فقد جمعت عدداً من المزايا المختلفة الأنواع، ولم يكن في وسعي أن أتخلى عنها مهما عرض عليّ من المال ثمناً لها. وفي العام الثاني غادرت المدينة وسافرت إلى هو - يانج، وحدث أن كنت في أحد الأيام أتحدث عن الفن إلى بعض الغرباء، وأخرجت لهم الصورة ليروها؛ وكان من بينهم رجل يدعى جو، يشغل وظيفة رقيب وكان ذا ثقافة عالية؛ فلما وقعت عينه على الصورة دهش أيما دهشة لرؤيتها ثم قال بعد تفكير طويل: "إن هذه الصورة من عمل يدي رسمتها في أيام شبابي، وهي منقولة عن صورة في معرض الفن الإمبراطوري، ولقد فقدتها منذ عشرين عاماً، وأنا مسافر في مقاطعة فوفين"، فما كان من هان يو إلا أن أهدى الصورة الصغيرة إلى جو.
ولقد نشأت في فن التصوير الصيني مدرستان مختلفتان إحداهما في الشمال والثانية في الجنوب، كما نشأت في الديانة الصينية مدرستان هي المدرسة الكنفوشية والمدرسة الدوِّية - البوذية، وكما نشأت في الفلسفة مدرستان إحداهما بزعامة جوشي والثانية بزعامة وانج يانج منج، تمثل الأولى ما يطلق عليه الغربيون العقلية
صفحة رقم : 1285
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأقصى -> الصين -> عصر الفنانين -> التصوير -> أساتذة فن التصوير الصيني

الاتباعية، وتمثل الثانية العقلية الابتداعية، فكان الفنانون الشماليون يتمسكون بالتقاليد الصارمة ويتقيدون في رسومهم بقيود العفة والوقار؛ أما أهل الجنوب فكانوا يعنون في تصويرهم بإبراز المشاعر والخيال. وعنيت المدرسة الشمالية أشد عناية بإبراز نماذج صحيحة متقنة من الأشكال التي تصورها وجعلها واضحة الخطوط والمعالم، أما المدرسة الجنوبية فقد ثارت كما ثار منتمارتر Montmarter على هذه القيود، فكانت تحتقر هذه الواقعية البسيطة ولا تستخدم الأشياء إلا عناصر في تجارب روحية، أو نغمات في مزاج موسيقي(77). ولقد وجد لي سو - شون وهو يصور في بلاط منج هوانج بين زعازع السلطة السياسية وعُزلة النفي ما يكفي من الوقت لتوطيد دعائم المدرسة الشمالية. وصور هو نفسه بعض المناظر الصينية الطبيعية وبلغ فيها درجة من الواقعية تناقلتها فيما بعد كثير من الأقاصيص. من ذلك قول الإمبراطور أنه يستطيع أن يستمع في الليل إلى خرير الماء الذي صوره لي على شاشة في قصره، وإن سمكة في صورة أخرى له دبت فيها الحياة ووجدت بعد في بركة -وليس لنا أن نلوم الصينيين على هذه الأقوال، فإن لكل أمة أقوالاً مثلها في مدح مصوريها.
ونشأت المدرسة الجنوبية مما أدخل على الفن من تجديد ومن عبقرية وانج واي، فلم يكن المنظر الطبيعي في طرازه التأثيري من طرز الفن أكثر من رمز لمزاج معين، وكان وانج شاعراً ومصوراً معاً، ولذلك عمل على ربط الفنين بعضهما ببعض، وذلك يجعل الصورة تعبر عن قصيدة. وفيه قال الناس لأول مرة العبارة التي طالما لاكتها الألسن حتى ابتذلت، والتي تنطبق كل الانطباق على الشعر والتصوير الصينيين كليهما وهي: "كل قصيدة صورة وكل صورة قصيدة" (وكان يحدث في كثير من الأحيان أن تنقش القصيدة على الصورة وأن تكون القصيدة نفسها مخطوطاً فنياً جميلاً). ويروى المؤرخون أن تونج جي-
صفحة رقم : 1286

قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأقصى -> الصين -> عصر الفنانين -> التصوير -> أساتذة فن التصوير الصيني

جانج قضى حياته كلها يبحث عن صورة أصلية من عمل وانج ويه .
وأعظم المصورين في عهدة أسرة تانج، وأعظم المصورين في الشرق الأقصى كله بإجماع الآراء، رجل علاً فوق فروق مدرستي التصوير السالفتي الذكر، وكان من الذين حافظوا على التقاليد البوذية في الفن الصيني، واسم هذا المصور وو دَوْ - دزه؛ ولقد كان في الحق خليقاً باسمه فإن معنى هذا الاسم هو وو أستاذ الدو أو الطريقة، ذلك أن جميع التأثرات والأفكار المجردة، التي وجدها لو دزه وجوانج دزه أدق من أن تعبر عنها الألفاظ، وقد بدت وكأنها تنساب انسياباً طبيعياً في صورة خطوط وألوان يجري بها قلمه، ويصفه أحد المؤرخين الصينيين بقوله: "إنه كان شخصاً معدماً يتيماً، ولكنه وهب فطرة إلهية، فلم يكد يلبس قلنسوة البلوغ حتى كان من أساتذة الفن، وحتى غمر لو - يانج بأعماله". وتقول الروايات الصينية إنه كان مغرماً بالخمر وبأعمال القوة، وإنه كان يعتقد - كما يعتقد الشاعر الإنكليزي بو
Poe - أن الروح تخرج أحسن ثمارها تحت تأثير قليل من السكر(81). وقد برز في كل موضوع صوره؛ في الرجال والأرباب والشياطين وفي تصوير بوذا بأشكال مختلفة، وفي رسم الطيور والوحوش والمباني والمناظر الطبيعية - وكانت كلها تأتيه طائعة لفنه الخصيب؛ وبرع في الرسم على الحرير والورق والجدران الحديثة الطلاء فكانت هذه كلها عنده سواء. وقد أنشأ ثلاثمائة مظلم للهياكل البوذية منها مظلم يحتوي على صورة ألف شخص لا تقل شهرته في الصين عن شهرة "يوم الحساب" أو صورة "العشاء الأخير" في أوربا. وكانت ثلاث وتسعون صورة من صوره في معرض الصور الإمبراطوري في القرن الثاني عشر بعد أربعمائة سنة من وفاته، ولكنها لم يبق منها شيء في مكان ما في الوقت الحاضر. ويحدثنا الرواة أن الصور التي رسمها لبوذا "قد كشفت عن أسرار الحياة

صفحة رقم : 1287
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأقصى -> الصين -> عصر الفنانين -> التصوير -> أساتذة فن التصوير الصيني

والموت". وقد بلغ من تأثير صوره التي تمثل الحشر أن ارتاع من رؤيتها بعض القصابين والسماكين فنبذوا حرفتيهم المشينتين غير البوذيتين.
ولما رسم صورة تمثل رؤيا منج هوانج أيقن الإمبراطور أن وو قد رأى هو أيضاً رؤيا مثلها(82). ولما أرسل الملك وو ليرسم منظراً على ضفة نهر جيالنج في ولاية سشوان هاله أن لا يعود الفنان دون أن يرسم خطاً واحداً، فقال له وو: "لقد وعيته كله في قلبي". ثم انفرد بنفسه في حجرة من حجر القصر وأخرج، كما يؤكد لنا المؤرخون، مناظر تمثل ألف ميل . ولما أراد القائد باي أن ترسم له صورة طلب إليه وو ألا يقف أمامه ليرسمه، بل أن يلعب بالسيف، فلما فعل أخرج المصور له صورة لم يسع معاصريه إلا أن يقولوا أنها قد أوحي إليه بها ولم تكن من عنده. وقد بلغ من شهرته أن أقبلت "شانج - آن" على بكرة أبيها لتشاهده وهو يختتم رسم بعض الصور البوذية في هيكل شنج شان. ويقول مؤرخ صيني من مؤرخي القرن التاسع إنه لما أحاط به هذا الجمع الحاشد "رسم الهالات بسرعة عجيبة عنيفة بدا للناس معها كأن يده يحركها إعصار، وصاح كل من رآه أن إلهاً من الآلهة كان يساعده"(85): ذلك أن الكسالى لا يفتئون يعزون العبقرية "لوحي" يوحى لمن ينتظر هذا الإيحاء.
وتقول إحدى القصص الطريفة إنه لما طال الأجل بوو رسم منظراً طبيعياً كبيراً، ودخل في فم كهف مصور في هذا المنظر، ولم يره أحد بعد دخوله فيه(86). ولا جدال في أن الفن لم يصل قط إلى ما أوصله إليه هو من إتقان وإبداع.
وأصبح الفن في عهد أسرة سونج شهوة عارمة عند الصينيين، ذلك أنه بعد أن تحرر من سيطرة الموضوعات البوذية عليه غمر البلاد بما لا يحصى من الصور المختلفة، ولم يكن الإمبراطور هواي دزونج نفسه أقل الثمانمائة الرسامين المشهورين في أيامه.
صفحة رقم : 1288

قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأقصى -> الصين -> عصر الفنانين -> التصوير -> أساتذة فن التصوير الصيني

ومن الكنوز المحفوظة بمتحف الآثار الجميلة ببسطن ملف صوّر فيه هذا الإمبراطور في بساطة عجيبة ووضوح أعجب المراحل المختلفة التي تسير فيها عملية إعداد الحرير على يد النساء الصينيات(87). ومن أعماله أنه أنشأ متحفاً للفن جمع فيه أكبر مجموعة من الروائع الفنية عرفتها الصين من بعده(88)؛ وأنه رفع المجمع الفني من فرع تابع للكلية الأدبية لا غير إلى معهد مستقبل من الدرجة الأولى، واستبدل الاختبار في الفن ببعض الاختبارات الأدبية التي جرت العادة بأن يمتحن فيها طلاب المناصب السياسية، ورفع رجالاً إلى مناصب الوزراء لأنهم برعوا في الفن بقدر ما رفع إليها غيرهم لأنهم برعوا في السياسة(89). وسمع التتار بهذا كله فغزوا الصين وأنزلوا الإمبراطور عن عرشه، ونهبوا المدينة وعاثوا فيها فساداً، ودمروا كل الصور المحفوظة في المتحف الإمبراطوري إلا القليل، وكانت سجلات هذه الصور تملأ عشرين مجلداً(90). وساق الغزاة الإمبراطور الفنان أمامهم ومات في ذل الأسر.
صفحة رقم : 1289
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأقصى -> الصين -> عصر الفنانين -> التصوير -> أساتذة فن التصوير الصيني

وكان أجل من هذا الإمبراطور الفنان شأناً رجلان من غير الأسر المالكة هما جوو شي، ولي لونج - مين. "ويقول الناقدون والفنانون إن جوو شي بز جميع معاصريه في تصوير أشجار الصنوبر الباسقة، والدوحات الضخمة، والمياه الدوامة، والصخور الناتئة، والجروف الوعرة، وقلل الجبال السامقة التي لا يحصى عديدها" . وكان لي لونج - مين فناناً وعالماً وموظفاً ناجحاً ورجلاً سميذعاً يجله الصينيون ويرون فيه مثلاً أعلى لما يجب أن يكون عليه الصيني المثقف. وقد بدأ أولاً بالخط ثم انتقل منه إلى الرسم بالخطوط ثم بالألوان، وقلما كان يستخدم في هذا كله شيئاً غير المداد؛ وكان يفخر بمحافظته الشديدة على تقاليد المدرسة الشمالية، ويبذل جهوده كلها في ضبط الخطوط ودقتها. وقد برع في رسم الخيل براعة بلغ منها أن اتهمه الناس حين ماتت ستة منها بأن الصورة التي رسمها لها قد سلبتها أرواحها؛ وإن حذره كاهن بوذي من أنه سيصبح هو نفسه جواداً إذا دأب على العناية برسم الجياد بدقته المعهودة، فما كان منه إلا أن قبل نصيحة الكاهن وصور خمسمائة لوهان . وفي وسعنا أن ندرك شهرته إذا عرفنا أن معرض هواي دزونج الإمبراطوري حين نُهب كان يحتوي على مائة صورة وسبع صور من عمل لي لونج - مين وحده.
ونبغ في عهد أسرة سونج عدد كبير من أساتذة الفن، نذكر منهم مي فاي وهو عبقري غريب الأطوار، كان لا يُرى إلا وهو يغسل يديه أو يغير ملابسه إذا لم يكن يشتغل بجمع أعمال رجال الفن القدماء، أو يرسم صوراً لمناظر طبيعية
صفحة رقم : 1290
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأقصى -> الصين -> عصر الفنانين -> التصوير -> أساتذة فن التصوير الصيني

"بطريقة التنقيط" أي بنقط من المداد يضعها دون أن يستعين بالخطوط الخارجية . ومنهم أيضا شيه جواي وقد رسم ملفاً طويلاً يحتوي على مناظر متفرقة بنهر يانج - دزه من منابعه الصغيرة، ومجراه، مخترقاً اللويس والخوانق إلى مصبه الواسع الخاص بالسفن التجارية وبالقوارب الصغيرة (السمبان)؛ وهذا الملف قد جعل بعض الفنانين(93) يضعون صاحبه على رأس مصوري المناظر الطبيعية في الشرق والغرب على السواء. ومن مشهوري المصورين في هذا العهد مايوان، ويزدان متحف الفن الجميل في بسطن بمناظر طبيعية أنيقة، ومناظر مصورة عن
صفحة رقم : 1291
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأقصى -> الصين -> عصر الفنانين -> التصوير -> أساتذة فن التصوير الصيني

بعد%=@ومن أروع الصور صورة "السيدة لنج - جاو واقفة بين الثلوج". والصورة تمثل السيدة (وهي صوفية بوذية من نساء القرن الثامن) ساكنة غارقة في التفكير كأنها سقراط واقف وسط الثلوج في بلاتيه. ويخيل إلينا أن الفنان يقول "إن العالم لا وجود له إلا إذا أدرك العقل وجوده، وإن في وسع العقل أن يتجاهله إلى حين".@ . ومنهم ليانج كاي الذي رسم صورة فخمة للشاعر الصيني لي بو؛ وموتشي صاحب صورة النمر الرهيب، والزرزور، وصورة كوان ين الظريف المكتئب؛ وفي وسعنا أن نذكر غير هؤلاء كثيرين من المصورين الصينيين الذين لم يألف الغرب سماع أسمائهم أو يعيها إذا سمعها لغرابتها، ولكنهم في واقع الأمر نماذج من تراث الشرق العقلي العظيم. وما أصدق ما قاله عنهم فنلوزا
Fenollosa: "لقد كانت ثقافة أسرة سونج أنضج تعبير عن العبقرية الصينية"(95).

وإذا شئنا أن نقدر فن التصوير الصيني في أيام مجد أسرتي تانج وسونج، كنا كمن يحاولون من مؤرخي المستقبل أن يكتبوا عن عصر النهضة الإيطالية بعد أن فقدت جميع أعمال رفائيل وليوناردو دافنشي وميكل إنجلو. ويبدو أن فن التصوير الصيني قد كسر في ذرعه وهدر دمه لما توالى عليه من غارات جحافل البرابرة الذين دمروا روائعه وعاقوا تقدمه قروناً عدة. ومع أنه قد نبغ في عهد الأسر التي تربعت على عرش الصين بعد أسرتي تانج وسونج، الصينية منها والأجنبية، فنانون لهم رسوم بلغت مستوى عظيماً من الظرف أو القوة، فليس من هؤلاء الفنانين من يرقى إلى مستوى أولئك الرجال الذين عاشوا في جنان بلاط منج هوانج أو هواي دزونج. وخليق بنا إذا فكرنا في الصينيين ألا نفكر فيهم على أنهم مجرد شعب سلطت عليه الفاقة، وأضعفه فساد الحكم، وفرقته التحزبات والانقسامات السياسية، وأذلته الهزائم الحربية، بل يجب أن نفكر فيهم أيضاً على أنهم أمة شهدت في تاريخها الطويل عصوراً لا تقل في مجدها عن عصور بركليز وأغسطس وآل مديشي، وأنها قد تشهد عصوراً أخرى مثلها في مستقبل الأيام.

صفحة رقم : 1292
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأقصى -> الصين -> عصر الفنانين -> التصوير -> خصائص فن التصوير الصيني

2- خصائص فن التصوير الصيني
نبذ فن المنظور - الواقعية - الخط أسمى من اللون - الشكل
إيقاع - التصوير بالإيحاء - العرف والقيود - أمانة الفن الصيني وإخلاصه

ترى ما هي الخصائص التي تميز فن التصوير الصيني فتجعله يختلف كل الاختلاف عما أنتجته أية مدرسة أخرى من مدارس التصوير في التاريخ كله عدا تلاميذه في اليابان؟ إن أول ما نذكره من هذه الخصائص أن الصور الصينية ترسم على ملفات أو شاشات كبيرة، ولكن هذه مسألة تتعلق بالشكل الخارجي، وأهم منها وأعمق وأكثر صلة بالصفات الذاتية احتقار الصينيين للمنظور والظلال. فلما أن قبل مصوران أوربيان دعوة وجهها إليهم الإمبراطور كانج شي ليزينوا له قصوره رفض الإمبراطور ما عرضوه عليه من زينات لأنهم رسموا العمد البعيدة في صورهم أقصر من القريبة. وقال لهم الصينيون في هذا أن لا شيء يمكن أن يكون أكذب وأبعد عن الطبيعة من تمثيل المسافات حيث لا توجد مسافات مطلقاً(96).
ولم تستطع إحدى الفئتين أن تفهم آراء أخرى ومبادئها لأن الأوربيين اعتادوا أن ينظروا إلى المنظر وهم في مستواه، على حين أن الفنانين الصينيين قد اعتادوا أن ينظروا إليه من أعلاه(97). كذلك كان يخيل إلى الصينيين أن الظلال لا محل لها في نمط من أنماط الفن لا يهدف في زعمهم إلى محاكاة الحقيقة بل يهدف إلى إدخال السرور على النفس، وتمثيل الأمزجة، والإيحاء بالأفكار عن طريق الأشكال التامة الكاملة.
وكان الشكل كل شيء في هذه الصور، ولم تكن السبيل إلى إجادته غزارة اللون أو بهجته، بل كانت في انسجامه ودقة خطوطه. وكانت الألوان محرمة تحريماً باتاً في الرسوم الأولى، وظلت نادرة في رسوم أساتذة الفن؛ فقد كان هؤلاء يكتفون بالمداد والفرشاة؛ ذلك أن اللون لم يكن في رأيهم ذا صلة ما
صفحة رقم : 1293
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأقصى -> الصين -> عصر الفنانين -> التصوير -> خصائص فن التصوير الصيني

بالشكل، بل كان الشكل على حد قول شياه - هُو هو الانسجام؛ وأول معاني الانسجام عند الصينيين هو أن يكون الرسم الصيني السجل المرئي لحركة منسجمة أو رقصة تمثلها اليد(98)؛ ومعناه كذلك أن الشكل البديع يكشف عن "انسجام الروح" وعن جوهر الحقيقة وحركتها الهادئة(99). ومظهر الانسجام في آخر الأمر هو الخط - غير مستخدم في بيان حدود الأشياء ومحيطها الخارجي، بل مستخدم في بناء الأشكال التي تعبر عن النفس بطريق الإيحاء أو الرمز. وتكاد دقة الخطوط وجمالها أن يكونا وحدهما في فن التصوير الصيني السبب الوحيد في براعة التنفيذ المستقلة عن قوة الإدراك والشعور والخيال. ومن أجل هذا كان من واجب المصور أن يلاحظ ما يريد تصويره بصبر وعناية، وإن يكون ذا شعور قوي مرهف، وأن يضبط أحاسيسه أدق الضبط وأحكمه، وأن يتبين غرضه واضحاً، ثم ينقل بعد هذا على الحرير ما تمثله في خياله، نقلا لا يترك فيه مجالاً للإصلاح أو التعديل، وذلك بعدد قليل من الضربات المتواصلة السهلة. وقد وصل فن التصوير بالخطوط ذروة مجده في الصين واليابان، كما اقترب فن التلوين من ذروة مجده في البندقية وفي الأراضي الوطيئة.
ولم يُعن فن التصوير الصيني بالواقعية في يوم من الأيام، بل كان يهدف إلى الإيحاء أكثر مما يهدف إلى الوصف. أما "الحقيقة" فقد تركها للعلم ووهب نفسه للجمال. ولقد كان هذا النوع من التصوير فرعاً لم ينبت في غير بلاد الصين، ثم ترعرع وازدهر بعض الازدهار تحت سماء صافية، فأصبح كافياً لأن يستهوي نفوس أعظم أساتذة الفن ويملك عليهم تفكيرهم، وأن يكون تناولهم لرقعة التصوير الفارغة وتقسيمها تقسيماً يتناسب مع ما يريدون تصويره، أن يكون هذا وذاك محكاً تختبر به قدرتهم ومهارتهم. ومن الموضوعات التي كانت تعرض على طالبي الالتحاق بمجمع هواي دزونج للتصوير موضوع يوضح لنا مقدار توكيد الصينيين للإيحاء غير المباشر وعنايتهم به لا بالتصوير الصريح. ذلك أن المتسابقين

صفحة رقم : 1294
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأقصى -> الصين -> عصر الفنانين -> التصوير -> خصائص فن التصوير الصيني

كان يعرض عليهم أن يشرحوا بالرسم بيتاً من أبيات الشعر هو: "وعاد حافر جواده مثقلاً بعبير ما وطئه من الأزهار". وكان المتسابق الذي أحرز قصب السبق في هذا المضمار فناناً رسم صورة فارس ومن حول كعوب جواده سرب من الفرش.
ولما كان الشكل كل شيء فإن من الممكن أن يكون الموضوع أي شيء. وقلما كان الرجال مركز الصورة أو جوهرها؛ وإذا ما ظهروا فيها كانوا في كل الأحوال تقريباً شيوخاً وكانوا كلهم متقاربين في الشبه. وقلما كان المصور الصيني ينظر إلى العالم بعيني الشاب وإن لم يكن قط واضح التشاؤم في تصويره. ولقد رسم المصورون صوراً لبعض الأفراد ولكنها كلها صور لم تبلغ ما بلغه غيرها من الجودة والإتقان؛ ذلك أن الفنان الصيني لم يكن يعنى بالأفراد، وما من شك في أنه كان يحب الأزهار والحيوانات أكثر مما يحب الرجال، ولذلك أطلق لنفسه العنان في تصويرها؛ فترى هواي - دزونج وهو الذي كانت تأتمر بأمره إمبراطورية متسعة الأرجاء يهب نصف حياته لتصوير الطيور والأزهار. وكانت الأزهار والحيوانات كالأزورد والتنين تتخذ رموزاً غير مقصودة لذاتها في بعض الأحيان؛ لكنها في الأغلب الأعم كانت ترسم لأن سر الحياة وسحرها يتمثلان فيها كاملين كما يتمثلان في الإنسان نفسه، وكان الحصان محبباً للفنانين الصينيين بنوع خاص، ومن أجل هذا ترى فنانين كباراً مثل هان كان لا يكادون يعملون شيئاً غير رسم شكل في أثر شكل لهذا المخلوق الذي هو جسم حي للتخطيط الفني.

ولسنا ننكر أن التصوير في الصين قد لاقى الأمرّين من جراء التقاليد الدينية أولاً ومن القيود التي وضعها العلماء بعدئذ، وأن تقليد الأساتذة القدامى والنسج على منوالهم كانا من العوامل المعوقة في تدريب طلاب الفن، وأن الفنان كان في كثير من الأحوال يقيد بعدد من المسائل لا يسمح له أن يلجأ إلى
صفحة رقم : 1295
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأقصى -> الصين -> عصر الفنانين -> التصوير -> خصائص فن التصوير الصيني

غيرها في تشكيل مادته(100). وفي وسع القارئ أن يدرك قوة العرف والتقاليد من قول أحد كبار النقاد الفنيين في عهد آل سونج: "لقد كنت في أيام شبابي أثني على الأستاذ الذي أحب صوره؛ فلما أن نضج عقلي أصبحت اثني على نفسي لأني أحببت ما اختاره الأساتذة لي لكي أحبه"(101)، وإنا ليدهشنا ما بقى في هذا الفن من حيوية بالرغم من قيود العرف والقواعد التي وضعت له. وفي وسعنا أن نقول في هؤلاء ما قاله هيوم عن كتاب عهد الاستنارة وهم الذين علا شأنهم رغم الرقابة المفروضة عليهم: "إن القيود التي عانى الفنانون ما عانوه منها قد أرغمتهم هي نفسها على أن يكونوا عظماء ممتازين".

وما من شك في أن الذي أنقذ المصورين الصينيين من وهدة الركود هو إخلاصهم في إحساسهم بالطبيعة. وقد استمدوا هذا الإحساس من مبادئ الدوية، وقوتها في نفوسهم البوذية إذ علمتهم أن الإنسان والطبيعة شيء واحد في مجرى الحياة وتغيرها ووحدتها. وكما أن الشعراء قد وجدوا في الطبيعة ملجأ يهرعون إليه من صخب المدن وكفاحها، وكما أن الفلاسفة كانوا يبحثون فيها عن نماذج للأخلاق وهادياً للحياة، كذلك كان المصورون يطيلون التأمل بجوار المجاري المائية المنعزلة ويوغلون في شعاب الجبال الشجراء، لأنهم يشعرون أن الروح الأعلى الذي لا يعرفون له اسماً قد عبر عن نفسه في هذه الأشياء الصامتة الخالدة تعبيراً أوضح مما عبر عنها في حياة الناس وأفكارهم المضطربة الهائجة . ولقد اتخذ الصينيون الطبيعة الشديدة القسوة عليهم، والتي تنفث الموت ببردها وفيضان أنهارها، اتخذوها إلههم الأعلى، ورضوا بذلك في قوة وطمأنينة، ولم يقبلوا أن يقدموا لها القرابين الدينية، بل رضوا بأن تكون فوق هذا معبود فلسفتهم
صفحة رقم : 1296
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأقصى -> الصين -> عصر الفنانين -> التصوير -> خصائص فن التصوير الصيني

وأدبهم وفنهم. وحسبنا شاهداً على قدم عهد الثقافة الصينية وعمقها أن الصينيين قد هاموا بحب الطبيعة قبل أن يهيم بها كلود لورين، وروسو، وورد سورث، وشاتو بريان بألف عام كاملة؛ وأنهم أنشئوا مدرسة من مصوري المناظر الطبيعية أضحت صورها في جميع بلاد الشرق الأقصى أسمى ما عبرت به الإنسانية عن مشاعرها.

صفحة رقم : 1297
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأقصى -> الصين -> عصر الفنانين -> الخزف الصيني

الفصل الخامس
الخزف الصيني
فن الخزف - صنع الخزف - تاريخه القدي م- اللون الأخضر الحائل - الطلاء
بالميناء - براعة هاوشي جيو - تقاسيم الطلاء - عصر كانج شي - عصر تشين لونج

اذا اخذنا نتحدث عن الفن الذي تمتاز به الصين عن سائر الامم، والذي لا يجادل احد في انها هي حاملة لوائه في العالم كله، وجدنا في انفسنا نزعة قوية إلى اعتبار الخزف صناعة من الصناعات. ولما كانت كلمة "الصيني" اذا وردت على لساننا ارتبطت في عقولنا بالمطبخ وادواته. فاننا اذا ذكرنا الفاخورة تمثلنا من فورنا المكان الذي يصنع فيه "الصيني"، وظننا هذا المكان مصنعاً ككل المصانع لا تثير منتجاته في النفس روابط عليا سامية. اما الصينيون فقد كانت صناعة الخزف عندهم فناً من الفنون الكبرى، تبتهج له نفوسهم العملية المولعة مع ذلك بالجمال، يجمع بين النفع وبهاء المنظر.
فلقد امدهم هذا الفن بآنية يستخدمونها في شرابهم القومي الشهير- شراب الشاي- جميلة في ملمسها ومنظرها، وازدانت منازلهم باشكال بلغت كلها من الجمال حدا تستطيع معه افقر الاسر ان تعيش في صحبة نوع من انواع الكمال، لقد كان فن الخزف هو فن النحت عند الصينيين.
ولفظ الفخار يطلق اولاً على الصناعة التي تحيل الطين بعد حرقه إلى ادوات صالحة للاستعمال المنزلي، ويطلق كذلك على الفن الذي يجمل هذه الادوات، وعلى الادوات التي تنتجها هذه الصناعة؛ والخزف هو الفخار المزجج اي انه هو الطين الممزوج بالمعادن والذي اذا عرض للنار ساح واستحال إلى مادة نصف
صفحة رقم : 1298
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأقصى -> الصين -> عصر الفنانين -> الخزف الصيني

شفافة شبيهة بالزجاج . وقد صنع الصينيون الخزف من مادتين الكولين- وهو طين ابيض نقي مكون من فتات الفلسبار والحجر الأعبل )الجرانيت(، ومن البي- تن- دزي وهو كوارتز ابيض قابل للانصهار، هو الذي يكسب الأواني الخزفية ما فيها من الشفافية. وتسحق هذه المواد كلها وتخلط بالماء فتتكون منها عجينة تشكل باليد او على عجلة، ثم تعرض لدرجة حرارة مرتفعة تصهر العجينة وتحيلها إلى مادة زجاجية براقة صلبة.

وكان يحدث في بعض الاحيان ألا يقنع الخزاف بهذا النوع الابيض البسيط، فكان يغطي "العجينة" اي الاناء قبل حرقه بطبقة من مسحوق الزجاج، ثم يحرق في اتون. وكان في بعض الاحيان يضع هذه الطبقة الزجاجية على العجينة بعد حرقها قليلاً ثم يعيد حرق الاناء بعدئذ. وكانت الطبقة الزجاجية تلون في اغلب الاحيان، ولكن العجينة كثيراً ما كانت تنقش وتلون قبل ان تضاف اليها المادة الزجاجية الشفافة او تلون الطبقة الزجاجية بعد حرقها ثم تثبت عليها بحرقها مرة ثانية. اما الميناء فقد كانت تصنع من الزجاج الملون يدق ويسحق ثم يحول إلى مادة سائلة يضعها الرسام على الآنية بفرشاته الرفيعة. وكان من الصينيين اخصائيون قضوا حياتهم في التدريب على عملهم؛ تخصص بعضهم في رسم المناظر الطبيعية، وغيرهم في رسم القديسين والحكماء المنقطعين للتأمل والتفكير بين الجبال، او الذين يمتطون ظهور حيوانات غريبة فوق امواج البحار.
وصناعة الفخار عند الصينيين قديمة العهد قدم العصر الحجري، فقد عثر الاستاذ اندرسن على اواني من الفخار في هونان وكانسو "لايمكن ان تكون احدث عهداً من عام 3000 ق. م". وان ما تتصف به تلك المزهريات
صفحة رقم : 1299
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأقصى -> الصين -> عصر الفنانين -> الخزف الصيني

من جمال فائق في الشكل وفي الصقل ليدل دلالة قاطعة على ان هذه الصناعة قد اصبحت فناً من الفنون الجميلة قبل ذلك العهد بزمن طويل. وبعض القطع التي عثر عليها شبيهة بفخار أنو، وتوحى بأن الحضارة الصينية مأخوذة عن حضارة البلاد الواقعة في غربها. وهناك قطع من الاواني الفخارية الجنازية كشفت في هونان وتعزى إلى عهد اضمحلال اسرة شانج ولكنها احد كثيراً من بقايا العصر الحجري الحديث السالفة الذكر.

ولم يعثر المنقبون بعد عذر هذه الاسرة على بقايا من الفخار ذات فنية قبل ايام اسرة هان، ففي عهد هذه الاسرة عثروا على فخار وعثروا فوق ذلك على اول اناء من الزجاج عرف في الشرق الاقصى ، وكان انتشار عادة شرب الشاي في عهد اباطرة تانج باعثاً قوياً على تقدم فن الخزف. وقد كشفت العبقرية، او المصادفة المحضة، حوالي القرن التاسع ان من المستطاع صنع اناء مزجج لا منسطحه الخارجي فحسب )كالآنية المصنوعة في عهد اسرة هان وفي حضارات غير حضارة الصين قبل ذلك العهد(، بل زجاجي كله من اوله إلى آخره- اي من خزف حقيقي. وقد كتب احد الرحالة المسلمين المدعو سليمان إلى بني وطنه يقول: "ان في الصين طيناً رقيقاً جميلاً يصنعون منه اواني شفافة كالزجاج يُرى من جدرانها ما في داخلها من الماء". وقد كشفت اعمال التنقيب الحديثة في موضع احدى المدن القديمة عند سر من رأى على نهر دجلة قطعاً من الخزف من صنع الصين. وظهر الخزف بعدئذ في السجلات خارج بلاد الصين حوالي عام 1171 م حين اهدى صلاح الدين إلى سلطان دمشق احدى واربعين قطعة من الخزف(105).
صفحة رقم : 1300
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأقصى -> الصين -> عصر الفنانين -> الخزف الصيني

وليس ثمة شاهد على ان صناعة الخزف قد بدأت في اوربا عام 1470 م، فقد ذكر في ذلك العام على انه فن جميل اخذه البنادقة عن العرب في اثناء الحروب الصليبية.

وكان عهد اسرة سونج هو العهد الذي بلغ فيه فن الخزف الصيني ذروة مجده. وخبراء هذا الفن يعزون إلى هذا العهد اقدم ما لدينا من الآنية الصينية واحسنها، بل ان صناع الخزن في عهد اسرة منج، وهم الذين جاءوا بعد هذا العصر ونبغ فيه بعضهم نبوغ فنانيه، حتى هؤلاء كانوا اذا ذكروا خزف اسرة سونج ذكروه بالاجلال والاكبار، وكان جامعوا العاديات الصينية يحتفظون بما يعثرون عليه من خزف هذه الاسرة ويعدونه من الكنوز التي لاتقوم بمال. وأنشئت في القرن السادس الميلادي مصانع عظيمة في جنج ده- جن حيث توجد الرواسب الغنية من المعادن التي تستخدم في صنع الفخار وتلوينه واعترف البلاد الامبراطوري بهذه المصانع رسمياً، وبدأت تغمر الصين بفيض من الصحاف الخزفية والاقداح والجفان والمزهريات والطاسات والاباريق والقنينات والجرار والصناديق ورقع الشطرنج والماثلات والخرائط. وحتى مشاجب القبعات كانت تصنع من الخزف المطلى بالميناء والمرصع بالذهب؛ وظهرت في ذلك الوقت لأول مرة القطع ذات اللون الاخضر اليشبي المعروفة بالسلادون والتي اصبحت محاكاتها اهم مايصبو اليه الفخراني في الوقت الحاضر، كما اصبح اقتناؤها أهم ما يصبو إليه جامع التحف . وقد أرسل سلطان مصر في 1487 نماذج منها إلى لورنزو ده
صفحة رقم : 1301
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأقصى -> الصين -> عصر الفنانين -> الخزف الصيني

مديشي، وكان الفرس والاتراك يقدرونها لا لنعومة ملمسها وشدة بريقها فحسب، بل لأنها فوق هذا تكشف عن وجود السم، فقد كانوا يعتقدون ان تلك الآنية يتغير لونها اذا وضعت فيها مواد مسمومة. وترى اسر الخبيرين المولعين بهذا الفن يتوارثون هذه القطع جيلا بعد جيل؛ ويحتفظون بها احتفاظ الناس باثمن الكنوز.

ولقد ظل الصناع في عهد اسرة منج نحو ثلثمائة عام يبذلون اقصى ما يستطيعون من جهود ليحتفظوا بفن الخزف في المستوى الرفيع الذي بلغه في عهد اسرة سونج، وليس في مقدورنا ان نقول انهم عجزوا عن بلوغ هذه الغاية. وكان في جنج ده- جن خمسمائة اتون لحرق الخزف، وكان البلاط الامبراطوري وحده يستخدم 96000 قطعة خزفية لتزيين حدائق القصور وموائدها وحجراتها. وظهرت في ايام هذه الاسرة اول قطع جيدة من الميناء التي حرقت الوانها بعد تزجيجها. واتقن صنع اللون الاصفر الواحد؛ والخزف الازرق والابيض الذي يشبه في رقته قشر البيض، إلى اقصى حدود الاتقان ولايزال القدح الازرق والابيض المطعم بالفضة والمسمى باسم الامبراطور واندلي )اوشن دزونج( يعد من آيات فن الخزف في العالم كله إلى هذه الايام.
وكان هاوشي- جي من ابرع صناع الخزف واعظمهم خبرة في ايام واندلي. وكان في مقدوره ان يصنع اقداحاً للنبيذ لايزيد وزن الواحد منها على جزء من ثمانية واربعين جزءاً من الاوقية، ويروى احد المؤرخين الصينيين ان هاوشي- جي زار في يوم من الايام بيت موظف كبير، واستأذنه في ان يفحص عن وعاء من الخزف ذي ثلاث ارجل يمتلكه هذا الكبير ويعد من أثمن ما صنع في عهد أسرة سونج.
صفحة رقم : 1302
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأقصى -> الصين -> عصر الفنانين -> الخزف الصيني

واخذ هاو يلمس الاناء بيديه برقة ولطف، وهو ينقل ما عليه من الرسوم سرا على قطعة من الورق مخبأة في كمه. ثم عاد لزيارة هذا الموظف بعد ستة اشهر من زيارته الاولى، وقال له: "انك يا صاحب السعادة تمتلك مبخرة ذات ثلاث ارجل من الدنج- ياو الابيض ، وها هي ذي مبخرة مثلها امتلكها انا". واخذ نانج الموظف الكبير يوازن بين هذه المبخرة ومبخرته، ولكنه لم يستطيع ان يتبين فرقاً ما بينهما. وبلغ من تشابههما ان قاعدة مبخرة الفنان وغطاءها قد واءما مبخرته كل المواءمة. واقرها وهو يبتسم ان مبخرته تقليد لمبخرة العظيم، ثم باعها نانج بستين قطعة من الفضة، وباعها هذا بعدئذ بألف وخمسمائة.
وقد بلغت صناعة الخطوط الفاصلة بين الميناء اقصى حد من الاتقان في عهد اسرة منج. ولم يكن منشأ هذا الفن في بلاد الصين بل جاء اليها من بلاد الشرق الادنى في ايام الدولة البيزنطية، وكان الصينيون يسمون مصنوعات هذا الفن في بعض الاحيان جوى جودياو، اي آنية بلاد الشياطين. وهذا الفن يتكون من قطع شرائح من النحاس او الفضة او الذهب، وتثبيتها على حدها فوق خطوط شكل رسم من قبل على جسم معدني، ثم ملء ما بين هذه الفوارق من فراغ بميناء من اللون المطلوب الملائم لها، ثم تعريض الاناء بعدئذ للنار عدة مرات ودلك السطح الصلب بقطعة من حجر الخفاف وصقله بقطعة من فحم الخشب، ثم تزليق اطراف الحواجز
المعدنية الظاهرة. واقدم ما عرف من منتجات هذا الفن في الصين مرايا استوردتها نارا في اليابان في منتصف القرن الثامن عشر. واقدم الاواني المحددة التاريخ ترجع إلى اواخر العهد المغولي او إلى ايام اسرة يوان، واحسنها كلها ما صنع في ايام الامبراطور جنج دي
صفحة رقم : 1303
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأقصى -> الصين -> عصر الفنانين -> الخزف الصيني

من اباطرة المنشو العظماء في القرن الثامن عشر الميلادي.

ودمرت المصانع التي كانت قائمة في عهد اسرة جنج ده- جين في اثناء الحروب التي قضت على اسرة منج، ولم تعد إلى سابق عهدها إلا بعد ان جلس على العرش امبراطور من اعظم اباطرة الصين استنارة وهو الامبراطور كانج- شي، وكان ملكا اصيلاً جمع كل صفات الملوك كما جمعها معاصره لويس الرابع عشر. وقد امر هذا الملك باعادة بناء مصانع جنج ده- جين، وسرعان ما اوقدت النار في ثلاثة آلاف اخذت تعمل عملها المتواصل، فاخرجت خزفاً جميلاً ظريفاً بلغ من الكثرة درجة لم تر الصين ولاغيرها من البلاد مثيلاً لها من قبل. وكان صناع كانج شي يظنون ان آنيتهم اقل جودة مما صنع في عهد اسرة منج، ولكن الخبيرين باصول الفن في هذه الايام لايوافقونهم على رأيهم، بل يرون ان الاشكال القديمة قد قلدت تقليداً بلغ اقصى درجات الكمال، وان اشكالاً جديدة كثيرة العدد مختلفة الانواع قد ابتكرت وارتقت رقيا عظيماً.

وكان في مقدور الفنانين في عهد اباطرة المنشو ان يغطوا عجينة الخزف بطبقة زجاجية تختلف عنها في سرعة انصهارها، فاخرجوا بذلك اواني ذات سطح مسنن؛ ثم كان في مقدورهم ان ينفخوا فقاعات من اللون على السطح الزجاجي فاخرجوا بذلك الصحاف الرفيعة المغطاة بدوائر صغيرة من الالوان. واتقنوا كذلك فن التلوين بلون واحد واخرجوا ظلالاً من اللون الاحمر الخوخي، والمرجاني، والياقوتي، والقرمزي، ودم الثور )الاحمر القاتم( والوردي؛ واخرجوا من اللون الاخضر الخياري، والتفاحي، والطاووسي، والنباتي، والسلادون، )الاخضر الحائل(؛ ومن اللون الازرق "المزران"، والسماوي،، والبنفسجي الفاتح والفيروزجي؛ ومن اللونين الاصفر والابيض ضروباً ملساء مخملية كل ما يستطيع الانسان ان يصفها به انها النعومة ذاتها تُرى رأى العين. وابتدعوا انماطاً مزخرفة يطلق عليها جامعو التحف الفرنسيون الاسر الوردية؛ والخضراء، والسوداء، والصفراء . وقد اتقنوا ذلك الفن الشاق فن تعدد الالوان بتعريض الاناء في التنور إلى تيارات متعاقبة من الهواء الصافي والمحمل بالسناج- الاول يُدخل فيه الأكسجين، والثاني يمتصه منه- بحيث يتحول الطلاء الزجاجي الاخضر إلى لهب متعدد الالوان. وكانوا يرسمون على بعض آنيتهم صور كبار الموظفين في اثواب فضفاضة ذات ذيول طويلة، فابتدعوا بذلك طراز الآنية المعروفة "بالمندرين" )طراز كبار الموظفين(. وكانوا يرسمون ازهار البرقوق باللون الابيض فوق ارضية زرقاء )او سوداء في قليل من الاحيان(، وهم الذين ابتدعوا ما للمزهريات التي في صورة العوسج من رقة ورشاقة.

وكان آخر ما مر به الخزف الصيني من عهود المجد في عهد تشين لونج الرخى الطويل. ولم يقل الانتاج في ذلك العهد عما كان عليه في العهود التي تقدمته، كما ان مهارة الصناع الممتازين لم تفقد شيئاً من عظمتها وتفوقها وان لم تحظ بعض الاشكال الجديدة بما كانت تحظى به مبتكرات عهد كانج شي من نجاح. وقد بلغت الاسرة الوردية في هذا العهد اعلى درجات الكمال. فقد انتشرت فيه نصف ازهار الطبيعة وفاكتها فوق ابهى الطبقات الزجاجية، كما كان ذوو الثراء المترفون يستخدمون الخزف الثمين الذي لايزيد سمكه على سمك قشرة البيض غطاء لاضواء المصابيح. ثم شبت نار فتنة تاي- بنج ودامت خمسة عشر عاماً جرت فيها الدماء انهاراً، ودمرت فيها خمس عشرة ولاية من الولايات الصينية، وهدمت ستمائة مدينة، واهلكت عشرين مليوناً من الرجال والنساء واقفرت اسرة المنشو اقفاراً اضطرها إلى ان تحبس معونتها عن مصانع الخزف، فاغلقت هذه المصانع ابوابها؛ وتشتت صناعها في انحاء العالم المضطرب.
ولم يفق فن الخزف الصيني حتى الان ما صابه من الدمار في اثناء هذه الفتنة
صفحة رقم : 1304
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأقصى -> الصين -> عصر الفنانين -> الخزف الصيني

الصماء ولعله لن يفيق منها أبداً. ذلك أن عوامل أخرى قد ضاعفت من آثار
صفحة رقم : 1305
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأقصى -> الصين -> عصر الفنانين -> الخزف الصيني

الحرب المخربة ومن امتناع الرعاية الامبراطورية؛ منها ان نمو تجارة الصادرات قد اغرى الفنانين بان يخرجوا قطعاً خزفية توائم ذوق المشترين الاوربيين.
واذ كان ذلك الذوق لايبلغ من السمو ما بلغه ذوق اهل الصين فان القطع المنحطة قد طردت القط الثمينة من التداول، كما تطرد العملة الرديئة العملة الطيبة حسب قانون جريشام .

وما ان حل عام 1840 حتى شرع مصنع انجليزي اقيم في مدينة كانتون يخرج انواعاً منحطة من الخزف ويصدرها إلى اوربا ويسميها "الاواني الصينية". ثم قامت مصانع في سيفر بفرنسا، ومايسن في المانيا وبورسلم في انجلترا تحاكي خزف الصينيين، وقللت من نفقات الانتاج باستخدام الآلات، واخذت تستحوذ عاماً بعد عام على تجارة الخزف الصينية الخارجية.
وكل ما بقى حتى الان هو ذكرى ذلك الفن الذي خسره العالم خسارة كاملة لاتكاد تقل عن خسارته لزجاج العصور الوسطى الملون. ولقد عجز الخزافون الاوربيون رغم ما بذلوه من محاولات وجهود جبارة عن ان يبلغوا ما بلغه الخزافون الصينيون من الدقة والمهارة. وحسب الفنانين الصينيين فخراً ان الخبراء العالميين يضاعفون في كل عقد من السنين اثمان ما بقى من روائع فن الخزف الصيني، فتراهم يطلبون خمسمائة ريال ثمناً لقدح الشاي، ويبيعون المزهرية التي يفي صورة شجرة العوسج بثلاثة وعشرين ألف ريال، وفي عام 1767 وصل ثمن إناءين من الخزف بلون العقيق يعرفان "بكلبي فو" في احد المزادات إلى خمسة اضعاف ما وصل اليه ثمن صورة "الطفل يسوع" لجيدورتي، والى ثلاثة امثال ما وصل اليه ثمن صورة "الاسرة المقدسة" لرفائيل(115). على أن كل من أحس بعينيه وأصابعه، وبكل عصب من اعصاب جسمه، جمال الخزف الصيني يغضب
صفحة رقم : 1306
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأقصى -> الصين -> عصر الفنانين -> الخزف الصيني

بلا ريب من هذا التقدير الضئيل ويعده إهانة للفن الصيني وازدراء به وتدنيساً لقدسيته. ذلك ان دنيا الجمال ودنيا المال لا تلتقيان ابداً حتى في الوقت الذي تباع فيه الاشياء الجميلة. وحسبنا تقديراً للخزف الصيني ان نقول ان هذا الخزف هو ذروة الحضارة الصينية ورمزها، وانه من انبل ما صنعه الجنس البشري ليبرز به وجوده على ظهر الارض.

صفحة رقم : 1307

قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأقصى -> الصين -> الشعب والدولة -> نبذة تاريخية -> ماركو بولو يزور كوبلاي خان

الباب السادس والعشرون
الشعب والدولة
الفصل الأول
نبذة تاريخية
1- ماركو بولو يزور كوبلاي خان
رحالة لا يصدَّقون - بندقي في الصين - جمال هانجتشان
ورخاؤها - قصور بيجنج - فتح المغول - جنكيز خان -
كوبلاي خاي - أخلاقه وسياسته - نساؤه - "ماركو الملايين"
في عصر البندقية الذهبي حوالي عام 1295م أقبل على المدينة رجلان طاعنان في السن ومعهما رجل كهل وقد أنهكهم التعب وأضنتهم الأسفار، يحملون متاعهم على ظهورهم ويلبسون أسمالاً بالية، ويعلوهم العثير، ثم طلبوا إلى أهل المدينة أن يأذنوا لهم بدخول موطنهم الذي غادروه كما زعموا منذ ستة وعشرين عاماً، فلما تردد مواطنوهم في الإذن لهم دخلوا المدينة على الرغم منهم. وقال ثلاثتهم إنهم جابوا بحاراً مفعمة بالأخطار، وصعدوا فوق جبال وهضاب شامخة، واجتازوا صحاري ملأى باللصوص وقطاع الطريق، واخترقوا السور العظيم أربع مرات، وأقاموا عشرين عاماً في الخطأ ، وخدموا أعظم ملك في العالم كله. وأخذوا يحدثون مواطنيهم عن إمبراطورية أوسع رقعة، ومدن أكثر سكاناً، وحاكماً
صفحة رقم : 1308
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأقصى -> الصين -> الشعب والدولة -> نبذة تاريخية -> ماركو بولو يزور كوبلاي خان

أعظم ثروة، من كل ما عرفته قارة أوربا؛ وعن حجارة تتخذ للتدفئة، وورق يتعامل به الناس بدل الذهب، وعن بندق الواحدة منه أكبر من رأس الإنسان، وعن أمم تقف بكارة الفتيات فيها حجر عثرة في سبيل الزواج، وأمم غيرها يقدم المضيف فيها لضيوفه أزواجه وبناته ليستمتعوا بهنّ وهنّ راضيات(1). ولم يجد هؤلاء القادمون من أهل المدينة من يصدقهم، وأطلقوا على أصغر الثلاثة وأكثرهم ثرثرة لقب "ماركو الملايين" لأن ما كان يرويه لهم من القصص كان مملوءاً بالأعداد الكبيرة العجيبة(2).

ولم يبتئس ماركو وأبوه وعمه من هذا المصير، بل رضوا به مسرورين، لأنهم جاءوا معهم بكثير من الأحجار الكريمة من حاضرة البلاد القاصية، وأتت لهم هذه الأحجار بثروة رفعت منزلتهم في مدينتهم. ولما دارت رحى الحرب بين البندقية وجنوى في عام 1298م عقد لواء إحدى السفن الحربية لماركو، فلما أن استولى الأعداء على هذه السفينة وزج هو في أحد سجون جنوى حيث مكث عاماً كاملاً، أخذ يسلي نفسه بأن يملي على أحد الكتبة أشهر كتاب في الأسفار في آداب العالم؛ وقد قص فيه بأسلوب ساحر جميل خال من التكلف والتعقيد كيف غادر هو وأبوه نيقولو وعمه مافيو مدينة عكا ولما يتجاوز السابعة عشرة من عمره، وكيف تسلقوا جبال لبنان واجتازوا أرض الجزيرة إلى الخليج الفارسي، ثم اخترقوا بلاد فارس وخراسان وبلخ حتى وصلوا إلى هضبة البامير، ثم انضموا إلى بعض القوافل وساروا معها سيراً بطيئاً إلى كاشغر وخوتان، ثم اجتازوا صحراء جوبي إلى تنجوت، ثم اخترقوا السور العظيم إلى شانجتو حيث استقبلهم الخان الأكبر بوصفهم رسلاً أذلاء من الغرب الناشئ .
صفحة رقم : 1309
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأقصى -> الصين -> الشعب والدولة -> نبذة تاريخية -> ماركو بولو يزور كوبلاي خان

ولم يكونوا يظنون أنهم سيقيمون في الصين أكثر من عام أو عامين، ولكنهم وجدوا في تلك البلاد من الأعمال المجزية والفرص التجارية المربحة تحت حكم كوبلاي ما حملهم على البقاء فيها ما يقرب من خمسة وعشرين عاماً. وأثري ماركو بنوع خاص وارتقى في مناصب الدولة حتى عين حاكماً على هانجنشاو. ويصفها ماركو في كتابه وصف المعجب بها الحافظ لعهدها، فيقول إنها أرقى من بلاد أوربا بأجمعها في جمال مبانيها وجسورها وفي عدد مستشفياتها العامة ورشاقة دورها ذات الحدائق، وكثرة ما فيها من وسائل المتعة والفساد، وجمال سراريها وسحرهن، وقدرة حكامها على الاحتفاظ بالأمن العام والنظام، ورقة أهلها وحسن أخلاقهن، ويقول إن محيط المدينة يبلغ مائة ميل وإن:

طرقاتها وقنواتها عريضة تتسع أولاها لمرور العربات وأخراها لمرور السفن محملة بالبضائع التي يحتاج إليها ساكنوها. والشائع على ألسنة الناس أن عدد ما فيها من الجسور على اختلاف أحجامها يبلغ اثني عشر ألفاً، وأن الجسور الممتدة فوق القنوات الكبرى والمتصلة بالشوارع الرئيسية مقامة على عقود عالية وبمهارة فائقة تستطيع معها السفن أن تمر من تحتها مبسوطة الشراع، كما تستطيع العربات والخيول أن تمر من فوقها لتدرج انحدارها من الشوارع إلى أعالي العقود ... وفي داخل المدينة عشرة ميادين رئيسية وأسواق عامة غير ما فيها من الحوانيت التي يخطئها الحصر، والممتدة على جانبي شوارعها ... ويبلغ طول كل ضلع من أضلاع هذه الميادين نصف ميل، وأمام الميدان يمتد الشارع الرئيسي ويبلغ عرضه أربعين خطوة، ويسير مستقيماً من أحد طرفي المدينة إلى الطرف الآخر. وتجري في اتجاه مواز إلى اتجاه الشارع الرئيسي... قناة كبيرة أقيمت على شاطئها المجاور للمدينة مخازن واسعة مشيدة من الحجارة يأوي إليها التجار القادمون من الهند وغيرها من الأقطار، ومعهم بضائعهم ومتاعهم. وبهذه الطريقة يسهل عليهم الاتصال بالأسواق العامة. ويجتمع في كل سوق من هذه الأسواق مدة ثلاثة أيام
صفحة رقم : 1310
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأقصى -> الصين -> الشعب والدولة -> نبذة تاريخية -> ماركو بولو يزور كوبلاي خان

في كل أسبوع نحو أربعين أو خمسين ألف شخص ...

والشوارع كلها مرصوفة بالحجارة والآجر ... والشارع الرئيسي في المدينة مرصوف منه على الجانبين مسافة قدرها عشر خطوات، أما ما بينهما فمملوء بالحصباء الصغيرة ومن تحتها مصارف مقبية تجري فيها مياه الأمطار تنقلها إلى القنوات المجاورة بحيث يبقى الشارع جافاً على الدوام. والمركبات لا ينقطع مرورها على هذه الحصباء جيئة وذهاباً. وهي طويلة الشكل مغطاة من أعلاها، ولها ستائر ووسائد من الحرير وتتسع لستة أشخاص، يستأجرها أهل المدينة رجالاً كانوا أو نساء ممن يميلون إلى التنزه والاستمتاع بركوبها ...
ومن حول الأماكن في جميع الجهات مسارح لصيد الحيوان على اختلاف أنواعه ... ولا يبعد البحر عن المدينة أكثر من خمسة عشر ميلاً، وتحمل إليها منه في كل يوم عن طريق النهر كميات كبيرة من السمك ... وإذا رأى الإنسان هذا السمك حين يأتي إلى المدينة ظن أول وهلة أنه لن يباع كله فيها، ولكنه لا تمضي على مجيئه إليها إلا ساعات قليلة حتى يباع عن آخره وذلك لكثرة من فيها من السكان ... والشوارع المتصلة بالسوق كثيرة العدد وفي الكثير منها حمامات باردة يشرف عليها خدم وخادمات. وقد اعتاد من يتردد عليها من رجال ونساء أن يستحموا فيها بالماء البارد منذ صغرهم لاعتقادهم أن الاستحمام بالماء البارد مفيد لأجسامهم. ولكن هذه الحمامات قد أعدت بجوارها مع ذلك حجرات مجهزة بالماء الساخن ليستحم فيها الغرباء الذين لا يتحملون الماء البارد. ومن عادة الأهلين كلهم أن يغتسلوا في كل يوم وخاصة قبل وجبات الطعام ...
وخصصت في شوراع أخرى من المدينة أحياء للعاهرات وهن يبلغن من الكثرة حداً لا أجرؤ على ذكره ... وهؤلاء النسوة يلبسن الملابس الجميلة، ويتعطرن، ويسكن في بيوت جميلة الأثاث، ويقوم على خدمتهن كثيرات من الخادمات.
صفحة رقم : 1311
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأقصى -> الصين -> الشعب والدولة -> نبذة تاريخية -> ماركو بولو يزور كوبلاي خان

وفي شوارع أخرى يقيم الأطباء والمنجمون ... وقد أنشئت على جانبي شارع المدينة الرئيسي بيوت وقصور رحبة ... وأهل المدينة كلهم رجالاً كانوا أو نساء بيض الوجوه على جانب كبير من الجمال، يرتدي معظمهم ملابس من الحرير ... والنساء ذوات جمال بارع ويُعَوَّدْنَ من صغرهن الرقة والنحافة، وليس في وسع من لم يشهد هؤلاء النسوة أن يتصور ما يتحلين به من حرير وجواهر(3).
وقد أعجب ماركو بولو بمدنية بيجنج (أو كمبلوك كما كانت تسمى وقتئذ) أكثر من إعجابه بهانجتشاو نفسها، فهو إذا ما تحدث عنها عجزت ملايينه عن وصف ثروتها وتعداد عامرها. وكانت ضواحي المدينة الاثنتي عشرة أجمل منها نفسها، ذلك لأن رجال الأعمال قد شادوا في هذه الضواحي كثيراً من البيوت الجميلة(4). وكان في المدينة نفسها كثير من الفنادق وآلاف المتاجر الثابتة والمتنقلة. وكان الطعام فيها على اختلاف أنواعه موفوراً، وكان يدخلها في كل يوم ألف حمل من الحرير الخام لتصنع منه الملابس لأهلها. وقد كان للخان قصور في هانجتشاو وشانجتو وغيرهما من المدن ولكن أكبر قصوره كان في بيجنج نفسها. وكان يحيط بهذا القصر سور من الرخام ويصعد إليه بدرج من الرخام أيضاً. وكان مبناه الرئيسي كبيراً "يتسع لأن تمد فيه موائد الطعام لجماعات كبيرة من الناس". وقد أعجب ماركو بتنظيم الغرف، وبنوافذها البراقة الدقيقة الشفافة، وبما يغطي سقفها من قرميد مختلف الألوان. ويقول أنه لم ير في حياته مدينة في مثل غناها ولا مَلِكاً في عظمة ملكها(5).
وما من شك في أن الشاب البندقي قد تعلم اللغة الصينية حتى استطاع أن يتحدث بها ويقرأها. ولعله عرف من المؤرخين الرسميين كيف فتح كوبلاي وأسلافه المغول بلاد الصين. وكان سبب غزوات المغول أن ما أصاب الأقاليم الممتدة بإزاء حدود الصين الشمالية الغربية من جفاف قد أحالها صحراء جدباء
صفحة رقم : 1312

قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأقصى -> الصين -> الشعب والدولة -> نبذة تاريخية -> ماركو بولو يزور كوبلاي خان

عاجزة عن الوفاء بحاجة أهلها الأقوياء، فاندفع المغول (أي البواسل) إلى شن الغارات المستيئسة لامتلاك بلاد أخصب من بلادهم وأوفر منها أرزاقاً. وكان نجاحهم في غاراتهم سبباً في تقوية روحهم العسكرية ونزعتهم الحربية، فلم يقفوا في فتوحهم إلا بعد أن اكتسحت جحافلهم بلاد آسية كلها إلا القليل منها، وأجزاء من أوربا. وتقول الروايات إن قائدهم الجبار جنكيز خان قد ولد وفي كفه جلطة من الدماء، فلما بلغ الثالثة عشرة من عمره أخذ يؤلف بين قبائل المغول ويجمعها تحت لوائه، واتخذ الإرهاب وسيلة إلى هذا الجمع، فكان يصلب الأسرى على حمير من الخشب، أو يقطعهم إرباً، أو يقلي أجسامهم في القدور، أو يسلخ جلودهم وهم أحياء. ولما تلقى من إمبراطور الصين تنج دزونج رسالة يدعوه فيها للخضوع بصق في اتجاه عرش التنين، وبدأ من فوره حملته مجتازاً ألفاً ومائتين من الأميال في قلب صحراء جوبي، وهجم على ولايات الصين الغربية، ودمر من مدائنها تسعين مدينة سواها بالأرض حتى يستطيع الفرسان أن يسيروا فوق الأراضي المخربة في الظلام دون أن تعثر خيولهم. وظل "عاهل العالم" خمس سنين كاملة يخرب في بلاد الصين الشمالية. ثم أزعجه اقتران كوكبين من الكواكب رأى في اقترانهما نذير شؤم، فقفل راجعاً إلى قريته، ولكنه مرض ومات في الطريق.

وواصل خلفاؤه أو جوداي، ومانجو، وكوبلاي حملاته بقوة همجية؛ وكان الصينيون قد أهملوا فنون الحرب ووجهوا همهم كله مدة قرون عدة إلى الثقافة، فلم يثبتوا أمام الغزاة بل خروا صرعى يجللهم العار القومي والبطولة الفردية، وثبت أحد حكام الصين في جويتنج - فو وصمد للحصار حتى قتل المحاصرون كل من كان في المدينة من الشيوخ والعاجزين وأكلوا لحومهم، وهلك جميع القادرين على القتال ولم يبق لحراسة الأسوار إلا النساء، ثم أشعل النار في المدينة واحترق هو نفسه في قصره. واجتاحت جيوش كوبلاي بلاد الصين حتى وقفت أمام
صفحة رقم : 1313
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأقصى -> الصين -> الشعب والدولة -> نبذة تاريخية -> ماركو بولو يزور كوبلاي خان

كنتون آخر ملجأ لجأت إليه أسرة سونج الحاكمة. فلما عجزت الجيوش الصينية عن المقاومة حمل لوشي يوفو القائد الصيني الإمبراطور الغلام على ظهره وألقى به وبنفسه في البحر فماتا معاً. ويقال إن مائة ألف من الصينيين آثروا الموت غرقاً على التسليم للفاتح المغولي. وأمر كوبلاي أن يحتفل بجنازة الإمبراطور احتفالاً رسمياً كبيراً، وشرع يؤسس الأسرة اليوانية "الأصيلة" وهي الأسرة المغولية التي حكمت الصين أقل من مائة عام.
ولم يكن كوبلاي نفسه بربرياً همجياً. وليس أهم ما يستثنى من هذا الوصف هو سياسته الغادرة لأن الغدر كان من الأخلاق الشائعة في تلك الأيام، بل أهم ما يستثنى منه هو ما عامل به ون تيان - شيانج، وهو عالم وطني أبى أن يعترف بحكومة كوبلاي وفاء منه لأسرة سونج. فألقاه كوبلاي في السجن ومكث فيه ثلاث سنين ولكنه أبى أن يخضع وكتب في سجنه تلك القطعة التي تعد من أشهر ما كتب في الأدب الصيني كله:

إن سجني لا يضيئه إلا الصيهد ولا تدخله نسمة من نسمات الربيع لتؤنسني في وحدتي وتخفف بعض ظلمته ... وكثيراً ما فكرت في أن أقضي على نفسي من فرط ما أثر في من الضباب والندى، ولكن الموت ظل عامين كاملين يحوم حولي ولا يقضي عليَّ؛ وأضحت الأرض الرطبة المضرة بالصحة جنة الفردوس نفسها. ذلك بأنه كان يستقر بين جوانحي ما لا تستطيع النائبات أن تغتصبه مني، ولهذا بقيت مطمئن القلب ثابت الجنان أتطلع إلي السحب البيضاء فوق رأسي وأطوي قلبي على آلام لا حد لها كما لا حد للسماء.
واستدعاه كوبلاي آخر الأمر إلى المثول بين يديه وسأله الملك قائلاً: "أي شيء تريد؟" فأجابه ون بقوله: "لقد عطف عليَّ إمبراطور سونج فجعلني وزيراً لجلالته، وليس في وسعي أن أخدم سيدين، وكل ما أطلبه أن أموت!". وأجابه كوبلاي إلى ما طلب؛ وبينما كان ون ينتظر أن يهوي سيف الجلاد على
صفحة رقم : 1314
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأقصى -> الصين -> الشعب والدولة -> نبذة تاريخية -> ماركو بولو يزور كوبلاي خان

عنقه انحنى في خضوع واحترام نحو الجنوب كأن الإمبراطور من آل سونج لا يزال يحكم في نانكنج العاصمة الجنوبية(7).

ومع هذا فقد أوتي كوبلاي من الحكمة ما جعله يعترف بتفوق الصينيين على المغول في ميدان الحضارة، ويعمل من أجل هذا على مزج عاداتهم بعادات أهل بلاده. وكان لابد له أن يلغي نظام تقلد المناصب العامة بالامتحان، وذلك لأنه لو أتبع هذا النظام لكان جميع الموظفين في حكومته من الصينيين، ثم قصر معظم الوظائف الكبرى على أتباعه من المغول وحاول وقتاً ما أن يدخل إلى البلاد الحروف الهجائية المغولية، ولكنه قَبِل هو وأتباعه في معظم شئونهم حضارة الصين، وما لبثوا أن استحالوا بفضل هذه الحضارة أمة صينية. ومما يذكر له أن أباح ما كان في الصين من ديانات وشجع دخول الديانة المسيحية في البلاد لأنه رأى فيها أداة صالحة لتهدئتها وبسط سلطانه عليها. وأعاد فتح القناة العظمى بين تينتسين وهنجتشاو، وأصلح الطرق الكبرى وأنشأ نظاماً سريعاً للبريد في أقاليم أوسع رقعة من البلاد التي خضعت لحكومة الصين مذ جلس على عرشها، وأقام في البلاد أهراء عامة عظيمة ليخزن فيها ما يفيض عن حاجة البلاد من المحصولات الزراعية ليوزعها على الأهلين في أيام القحط، وألغى الضرائب عن جميع الزراع الذين أضر بمزروعاتهم الجفاف والعواصف والحشرات ، وأوجد نظاماً تعين الدولة بمقتضاه الشيوخ من العلماء والأيتام والعجزة، وكان سخياً في تشجيع التعليم والآداب والفنون وبسط رعايته عليها. وقد عدل التقويم في أيامه، وافتتح المجمع العلمي الإمبراطوري(9)، وشاد عاصمة جديدة للبلاد في بيكين كانت لروعتها وكثرة
صفحة رقم : 1315
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأقصى -> الصين -> الشعب والدولة -> نبذة تاريخية -> ماركو بولو يزور كوبلاي خان

عامرها موضع إعجاب من يزورها من الغرباء، وشيدت القصور وازدهرت العمارة ازدهاراً لم تر الصين له مثيلاً من قبل.

ويقول ماركو بولو: "وقد كان بولو حاضراً في البلاد حيث كان هذا كله يحدث فيها"(10) واتصل الشاب بالخان وتقرب إليه واستطاع بذلك أن يصف لنا ضروب تسليته وصفاً مفصلاً ينم عن إعجابه الشديد به؛ ويقول إن كان للخان فضلاً عن زوجاته الأربع اللاتي يسمين بالإمبراطورات عدد كبير من السراري جيء بهن من أنجوت في بلاد التتار لأن الإمبراطور كان يعجب بجمال نساء تلك البلاد. ويضيف ماركو إلى هذا قوله إن عدداً من الموظفين المشهود لهم بحسن الذوق كانوا يرسلون إلى هذا الإقليم ليجندوا لخدمة جلالة الإمبراطور مائة من الفتيات حسب الأوصاف التي كان هو نفسه يعنى بوصفها أشد العناية.
فإذا ما مثلن أمامه، أمر أن تختبرهن اختباراً جديداً طائفة أخرى من الباحثين وأن يختار من بينهن ثلاثون أو أربعون فتاة يستبقين في قصره ... ثم يعهد بكل واحدة منهن إلى إحدى كبار السيدات في القصر لتتأكد من أنها ليس فيها شيء من العيوب التي تخفى عن الأعين وأنها تنام نوماً هادئاً، ولا تغط في أثناء نومها، ولا تنبعث رائحة كريهة من أي جزء من أجزاء جسمها. فإذا ما نجحن في هذا الاختبار الدقيق قسمن جماعات كل منها مؤلفة من خمس تقيم كل منها في حجرة جلالته الداخلية ثلاثة أيام وثلاث ليال يؤدين في خلالها كل ما يطلب إليهن من خدمات ويفعل بهن ما يشاء. فإذا ما انقضت هذه الفترة حلت محل تلك الجماعة جماعة أخرى وهكذا دواليك حتى تأخذ كل جماعة دورها ثم تعود الجماعة الأولى إلى الخدمة من جديد(11).
وبعد أن أقام ماركو بولو هو وأبوه وعمه عشرين سنة في بلاد الصين أغتنم ثلاثتهم فرصة قيامهم بمهمة إلى الفرس، أوفدهم بها الخان، فعادوا إلى بلادهم بأقل
صفحة رقم : 1316
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأقصى -> الصين -> الشعب والدولة -> نبذة تاريخية -> ماركو بولو يزور كوبلاي خان

النفقات وأقل ما يمكن أن يتعرضوا له من الأخطار. وبعث معهم كوبلاي برسالة إلى البابا، وحباهم بجميع ما كان معروفاً في ذلك الوقت من التسهيلات للمسافرين، وقضوا في طوافهم بحراً حول جزيرة الملايو إلى الهند وفارس وفي رحلتهم البرية إلى طربزون على البحر الأسود وأخيرا في رحلتهم البحرية إلى البندقية ثلاث سنين. ولما وصلوا إلى أوربا عرفوا أن الخان والبابا قد توفيا . وعمر ماركو طويلاً فلم يستسلم للموت حتى بلغ السبعين من عمره. فلما حضرته الوفاة طلب إليه أصدقائه أن ينجي نفسه من العذاب في الدار الآخرة بمحو ما ورد في كتابه من العبارات الواضحة البطلان ولكنه أفحمهم برده عليهم: "أني لم أذكر في كتابي نصف ما شاهدته".
ولم يمض على وفاته إلا وقت قصير حتى أصبح من العادات المألوفة في حفلات البندقية الساخرة أن يرتدي شخص ثياب المهرجين ليسر الناس في تلك الاحتفالات بما ينطق به من المبالغات غير المعقولة؛ وكان يطلق على هذا المهرج الماجن اسم "ماركو الملايين".

صفحة رقم : 1317
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأقصى -> الصين -> الشعب والدولة -> نبذة تاريخية -> أسر منج وجنج

2- أسرتا منج وجنج
سقوط المغول - أسرة منج - غزو المنشو - أسرة
جنج - ملك مستنير - شين لونج يأبى قبول الأفكار الغريبة
ولم تعرف الصين بعدئذ مثل هذا العهد الزاهر إلا بعد أربعة قرون، فسرعان ما دب الاضمحلال في أسرة يوان متأثرة بانهيار سلطان المغول في أوربا وغرب آسية وفي ذوبان المغول في جسم الشعب الصيني نفسه، إذا جاز أن نلجأ إلى هذه العبارة السهلة المتحذلقة لنعلل بها هذه الظاهرة التي تتكرر في جميع الأوقات. وهناك أسباب أخرى لا تقل عن هذين السببين قوة وخطراً؛ ذلك أن إمبراطورية
صفحة رقم : 1318
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأقصى -> الصين -> الشعب والدولة -> نبذة تاريخية -> أسر منج وجنج

كالصين متسعة الرقعة قليلة التماسك من الناحية الطبيعية تفصلها الجبال والصحراوات والبحار لا يمكن أن تخضع إلى ما شاء الله لحكومة واحدة. وقد كان المغول رجال حرب خيراً منهم رجال حكم وإدارة، ولذلك اضطر خلفاء كوبلاي خان أن يعودوا إلى نظام الامتحان وإلى الانتفاع بكفاية الصين الإدارية، ولم يحدث الفتح المغولي أثراً يذكر في عادات الصينيين وأفكارهم إلا ما عسى أن يكون قد أدخله في الأدب الصيني من الروايات والمسرحيات. وتزوج الصينيون مرة أخرى من فاتحيهم ومدنوهم وغلبوهم على أمرهم، حتى إذا كان عام 1368م تزعم أحد الكهنة البوذيين السابقين ثورة على هؤلاء الفاتحين ودخل بيكين منتصراً وأعلن نفسه أول إمبراطور من أسرة السنج (أي المتألقين). وجلس على العرش في الجيل التالي ملك قدير من ملوك هذه الأسرة، واستمتعت الصين في عهد يونج لو مرة أخرى بعهد جديد من عهود الرخاء، وعادت إلى تشجيع الفنون، بيد أن عهد الأسرة "المتألقة" انتهى مع ذلك بفترة من الفوضى والاضطراب والغزو الخارجي: وبينما كانت البلاد منقسمة إلى أحزاب متنافرة متعادية اجتاحتها جحافل جديدة من الغزاة الفاتحين واقتحمت السور العظيم وحاصرت بيكين. تلك هي جحافل المنشو.
وكان المنشو شعبا تنجوسياً ظل قروناً كثيرة يعيش في البلاد التي تعرف الآن باسم منشو كو (أي مملكة المنشو)، ومدوا فتوحهم في أول الأمر نحو الشمال حتى وصلوا إلى نهر عامور، ثم اتجهوا نحو الجنوب وهجموا على عاصمة الصينيين. وجمع آخر أباطرة المنج أسرته حوله وشرب نخبهم، وأمر زوجته أن تنتحر ، ثم شنق نفسه بمنطقته بعد أن كتب آخر أوامره على طية ثوبه: "نحن الفقراء في الفضيلة، ذوي الشخصية الحقيرة، قد استحققنا غضب الله العلي القدير.
صفحة رقم : 1319
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأقصى -> الصين -> الشعب والدولة -> نبذة تاريخية -> أسر منج وجنج

"لقد غرر بي وزرائي، وإني لأستحي أن ألقى في الآخرة آبائي وأجدادي، ولهذا فإني أخلع بيدي تاجي عن رأسي، وأنتظر وشعري يغطي وجهي أن يقطع الثوار أشلائي، لا تؤذوا أحداً من أبناء شعبي"(15). ودفنه المنشو باحتفال يليق بكرامته وأسسوا أسرة الشنج ( الطاهرة) التي حكمت الصين حتى عهدنا الثوري الحاضر.
وسرعان ما أصبحوا هم أيضا صينيين واستمتعت البلاد تحت حكم كانج شي بعهد من الرخاء والسلم والاستنارة لم تعرف له مثيلاً في تاريخها كله. جلس هذا الإمبراطور على العرش وهو في السابعة من عمره، فلما بلغ الثالثة عشرة أمسك بيده زمام الأمور في إمبراطورية لم تكن تشمل وقتئذ بلاد الصين وحدها بل كانت تشمل معها بلاد المغول ومنشوريا وكوريا والهند الصينية وأنام والتبت والتركستان. وما من شك في أنها كانت أكبر إمبراطوريات ذلك العهد وأكثرها ثروة وسكاناً. وحكمها كانج شي بحكمة وعدل حسدها عليهما معاصراه أورنجزيب ولويس الرابع عشر. وكان الإمبراطور نفسه رجلاً نشيطاً قوي الجسم والعقل، ينشد الصحة في الحياة العنيفة خارج القصور ويعمل في الوقت نفسه على أن يلم بعلوم تلك الأيام وفنونها. وكان يطوف في أنحاء مملكته ويصلح ما فيها من العلوم حيثما وجدها، ومن أعماله أنه عدل قانونها الجنائي. وكان يعيش عيشة بسيطة ليس فيها شيء من الإسراف أو الترف، ويقتصد في نفقات الدولة الإدارية ويفخر بالعمل على رفاهية شعبه(16). وازدهرت الآداب والعلوم في أيامه بفضل تشجيعه إياها ومناصرتها؛ وعاد فن الخزف إلى أعلى ما وصل إليه في أيام مجده السابقة. وكان متسامحاً في الأمور الدينية فأجاز كل العبادات ودرس اللغة اللاتينية على القساوسة اليسوعيين، وصبر على الأساليب الغربية التي كان يتبعها التجار الأوربيون في ثغور بلاده. ولما مات بعد حكمه الطويل الموفق (1661- 1722) كان آخر ما نطق به هو هذه الألفاظ: "إني
صفحة رقم : 1320

قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأقصى -> الصين -> الشعب والدولة -> نبذة تاريخية -> أسر منج وجنج

لأخشى أن تتعرض الصين في مئات أو آلاف السنين المقبلة إلى خطر الاصطدام مع مختلف الأمم الغربية التي تفد إلى هذه البلاد من وراء البحار" (17).
وبرزت هذه المشاكل الناشئة من ازدياد التبادل التجاري والاتصال بين الصين وأوربا مرة أخرى في عهد إمبراطور آخر قدير من أسرة المنشو هو شين لونج. وكان هذا الإمبراطور شاعراً أنشأ 000ر34 قصيدة إحداها في "الشاي" وصلت إلى مسامع فلتير فأرسل "تحياته إلى ملك الصين الفاتن"(18)، وصوره المصورون الفرنسيون وكتبوا تحت صورته باللغة الفرنسية أبياتاً من الشعر لا توفيه حقه من الثناء يقولون فيها:
"إنه يعمل جاهداً دون أن يخلد إلى الراحة للقيام بأعمال حكومته المختلفة التي يعجب الناس بها. وهذا الملك أعظم ملوك العالم وهو أيضاً أعلم الناس في إمبراطوريته بفنون الأدب".
وحكم الصين جيلين كاملين (1737- 1796م)، ونزل عن الملك لما بلغ الثامنة والخمسين، ولكنه ظل يشرف على حكومة البلاد حتى توفي (1799م). وحدثت في آخر سني حكمه حادثة كان من شأنها أن تذكر المفكرين من الصينيين بما أنذرهم به كانج- شي، فقد أرسلت إنجلترا بعد أن أثارت غضب الإمبراطور باستيراد الأفيون إلى بلاد الصين بعثة برياسة لورد مكارنتي لتفاوض شين لونج في عقد معاهدة تجارية بين البلدين. وأخذ المبعوثون الإنجليز يشرحون للإمبراطور المزايا التي تعود عليه من تبادل التجارة مع إنكلترا وأضافوا إلى أقوالهم أن المعاهدة التي يريدون عقدها سيفترض فيها مساواة ملك بريطانيا بإمبراطور الصين. فما كان من شين لونج إلا أن أملى هذا الجواب ليرسل إلى جورج الثالث:
"إن الأشياء العجيبة البديعة لا قيمة لها في نظري؛ وليس لمصنوعات بلادكم فائدة لدي. هذا إذن هو ردي على ما تطلبون إليَّ من تعيين ممثل لكم في بلاطي
صفحة رقم : 1321

قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأقصى -> الصين -> الشعب والدولة -> نبذة تاريخية -> أسر منج وجنج

وهو طلب يتعارض مع عادات أسرتي ولا يعود عليكم إلا بالمتاعب. لقد شرحت لك آرائي مفصلة وأمرت مبعوثيك أن يغادروا البلاد في سلام عائدين إلى بلادهم، وخليق بك أيها الملك أن تحترم شعوري هذا، وأن تكون في المستقبل أكثر إخلاصاً وولاء مما كنت في الماضي، حتى يكون خضوعك الدائم لعرشي من أسباب استمتاع بلادك بالسلم والرخاء في مستقبل الأيام"(19).
بهذه العبارات القوية الفخورة حاولت الصين أن تدرأ عنها شر الانقلاب الصناعي. ولكننا سنعرف في الفصول التالية كيف غزت الثورة الصناعية البلاد رغم هذا الاحتياط. ولندرس الآن قبل الكلام عن هذه الثورة العناصر الاقتصادية والسياسية والخلقية التي تتألف منها تلك الحضارة الفذة المستنيرة الجديرة بالدرس، والتي يبدو أن الثورة الصناعية ستقضي عليها القضاء الأخير.

صفحة رقم : 1322
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأقصى -> الصين -> الشعب والدولة -> الصينيون ولغتهم

الفصل الثاني
الصينيون ولغتهم
تعداد السكان - مظهرهم الخارجي - ملبسهم -
خصائص اللغة الصينية - خصائص الكتابة الصينية

إن أول عنصر من عناصر الصورة التي سنرسمها في هذا الفصل هو عنصر العدد؛ فالصينيون كثيرون، وليس عددهم معروفاً بالضبط، وكل ما يقال عنه من قبيل الحدس والتخمين. ويظن بعض العلماء أن سكان الصين في عام 280 ق.م كانوا يبلغون حوالي 000ر000ر14 وأنهم وصلوا في عام 200 ق.م إلى 000ر000ر28 وفي عام 726 ق.م إلى 000ر500ر41 وفي عام 1644 بعد الميلاد إلى 000ر000ر89 وفي عام 1743 إلى 000ر000ر150 وفي عام 1919 إلى 000ر000ر330 (20). ويقول أحد الرحالة الأوربيين إنه أحصى في الصين في القرن الرابع عشر "مائتي مدينة كل واحدة منها أكبر من مدينة البندقية"(21). وإحصاء السكان في الصين يحدث تنفيذاً لقانون يحتم على كل صاحب بيت أن ينقش اسم كل ساكن فيه على لوحة عند مدخله(22). ولسنا نعلم بطبيعة الحال مدى صحة هذه اللوحات، ولا مدى صحة التقريرات التي يقال إنها توضع على أساسها، وحسبنا أن نقول إن سكان الصين يبلغون الآن حوالي أربعمائة مليون من الأنفس.
ويختلف الصينيون في أجسامهم، فهم في الجنوب أقصر قامة وأضعف أجساماً منهم في الشمال، غير أنهم بوجه عام أنشط أهل قارة آسية وأكثرهم حيوية، ذوو بأس وصبر على الشدائد والآلام، شديدو المقاومة للأمراض، سريعو التأقلم في كل مناخ؛
صفحة رقم : 1323
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأقصى -> الصين -> الشعب والدولة -> الصينيون ولغتهم

وقد استطاعوا بفضل هذه الصفة أن يعيشوا ويثروا في مناطق العالم كلها تقريباً. ولم يقو الأفيون ولا الزهري ولا عدم الزواج بغيرهم من الشعوب على إضعاف صحتهم؛ وإذا كان نظامهم الاجتماعي قد انهار في الأيام الأخيرة فإن هذا الانهيار لم يكن نتيجة ضعف ظاهر في قواهم الجسمية أو العقلية.

ووجه الصيني ينم عن أنه أذكى خلق الله طراً، وإن لم يكن هذا الوجه على الدوام جميلاً جذاباً. نعم إن بعض الطبقات المعدمة تبدو في أعين الغربيين بشعة شديدة القبح، وإن لبعض المجرمين منهم نظرات خبيثة ما أجدر أصحابها بأن يكونوا ممثلين هزليين في دور الخيالة، ولكن كثرتهم العظمى ذات ملامح منتظمة متناسبة هادئة زادها هدوءاً عاملان أحدهما جثماني وهو انخفاض الجفون وثانيهما اجتماعي وهو ما نعموا به من الحضارة التي دامت عدة قرون. وليس انحراف العينين كبيراً واضحاً إلى الحد الذي يتصوره المرء مما يقال أو يكتب عنهم، وكثيراً ما تؤثر الشمس في بشرتهم الصفراء فتخلع عليها لوناً أسمر جميلاً. ونساء الزراع منهم لا يكدن ينقصن عن الرجال قوة في الأجسام، كما أن نساء الطبقات العليا رقيقات الحاشية جميلات يبيضن وجوههن بالمساحيق، ويحمرن شفاههن وخدودهن، ويسودن حواجبهن ويزججنها حتى تكون أشبه بورقة الصفصاف أو الهلال(23). وشعر الرأس خشن قوي عند الرجال والنساء، خال من التجاعيد يعقصه النساء ويزينه عادة بالأزهار. ولقد أراد الرجال في عهد آخر الأسر الحاكمة أن يسروا حكامهم فاتبعوا عادة المنشو وهي حلق شعر نصف الرأس الأعلى. ثم أرادوا أن يعوضوا هذا النقص فتركوا شعر النصف الخلفي وجمعوه في غديرة طويلة أصبحت على مر الزمن أداة لتقويم المخطئ ومظهراً من مظاهر الكبرياء(24). ولحاهم لا تطول، وكانوا يحلقونها على الدوام، وقلما كان الواحد منهم يحلق لحيته بيده، فقد كان من عادة الحلاقين أن يطوفوا بالناس ومعهم أدواتهم، وكانوا طائفة موفورة الكسب.
صفحة رقم : 1324
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأقصى -> الصين -> الشعب والدولة -> الصينيون ولغتهم

وكانوا عادة يتركون رؤوسهم عارية؛ فإذا غطى الرجال رؤوسهم اتخذوا لهم في الشتاء قلانس من المخمل أو الفراء ذوات حافات منثنية إلى أعلى، وفي الصيف قلانس مخروطية الشكل مصنوعة من خيوط الخيزران تعلو الواحدة منها إذا كان صاحبها ذا شأن كرة ملونة وشريط حريري.
أما النساء فكن يضعن على رءوسهن، إذا مكنتهن من ذلك مواردهن، أشرطة من نسيج الحرير أو القطن مزينة بالبهرجان والحلي أو الأزهار الصناعية، وكانت الأحذية تتخذ عادة من الأقمشة المدفئة، ولما كانت أرض المنازل تصنع في كثير من الأحيان من القرميد البارد أو الطين فإن الصيني كان يحمل معه أينما سار طنفسة صغيرة يضعها تحت قدميه. وقد نبتت في بلاط الإمبراطور لي هو- جو (حوالي 970 ب.م) عادة ربط أقدام البنات وهن في سن السابعة بأربطة ضيقة لكي تبقى صغيرة فتمشي السيدة الكبيرة تخطو خطواً يعجب به الرجال. وكان يعد من سوء الأدب أن يتحدث الناس عن قدم السيدة كما كان يعد من الإهانة الفاضحة أن ينظر الرجل إلى هذه القدم؛ بل إن الكلمة الصينية التي معناها القدم كان يحرم ذكرها في حضرة السيدات(25).
وانتشرت هذه العادة بين جميع الطبقات والجماعات عدا المنشو والتتار وأصبحت من العادات الثابتة الجامدة، حتى لقد كان الكذب في حجم قدم العروس كافياً لإلغاء عقد الزواج(26). وحاول كانج شي أن يبطل هذه العادة ولكنه أخفق وظلت حتى أبطلتها الثورة فكان إبطالها أثراً من آثارها الصالحة.
وكانت ملابس الرجال هي السراويل والجلابيب، ويكاد لونها أن يكون على الدوام هو اللون الأزرق. وفي الشتاء كان السروال يغطى بالطماق ويضاعف عدد القمصان حتى يبلغ الثلاثة عشر في بعض الأحيان، وكانت كلها تبقى على الجسم ليلاً ونهاراً طوال فصل الشتاء، فإذا أقبل الربيع خلعت تدريجاً واحدة بعد واحدة(27). وكان المئزر مختلف الطول فكان يصل حيناً إلى الحقوين وحيناً إلى
صفحة رقم : 1325

قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأقصى -> الصين -> الشعب والدولة -> الصينيون ولغتهم

الركبتين وتارة إلى القدمين، وكان يزرر إلى العنق، وكان له كُمّان كبيران يغنيان عن الجيوب، والصينيون لا يقولون إن الرجل وضع شيئاً ما في "جيبه" بل يقولون إنه وضعه في "كمه". أما القمصان والملابس الداخلية فلسنا نخطئ كثيراً إذا قلنا إنها كانت غير معروفة. وكانت النساء في الريف يلبسن سراويل كسراويل الرجال لأنهن قد اعتدن أن يعملن أعمال الرجال وأكثر من أعمال الرجال. أما في المدن فكن يلبسن فوق السراويل نقباً . وكان الحرير كثيراً في المدن يستوي في ذلك هو والقطن.
ولم تكن للنساء مناطق تضغط على خصرهن أو مشدات تمسك ثديهن، وبذلك كانت ملابس الصينيين بوجه عام أكثر انطباقاً على مقتضيات العقل وأكثر ملاءمة لصحة الجسم وراحته من ملابس الغربيين في هذه الأيام. ولم يكن لأنماط الملابس سلطان قوي على المرأة الصينية كما لم تكن الملابس وسيلة لتباين الطبقات ورفع بعضها فوق بعض. ذلك لأن أهل المدن مهما اختلفت أقدارهم كانوا لا يختلفون في ملابسهم، كما أن هذه الملابس لا تكاد تختلف في الأجيال المختلفة. نعم قد يختلف القماش الذي يصنع منه الثوب، أما شكله فقد كان واحداً على الدوام، ولم تكن طبقة من الطبقات تشك في أن نمطاً من الأنماط سيبقى إلى أن يبلى الثوب.
ولغة الصينيين تختلف عن سائر لغات العالم أكثر مما تختلف ملابسهم عن ملابس سائر الناس. ذلك أنها ليست لها حروف و لا هجاء ولا نحو ولا تنقسم إلى أسماء وأفعال وحروف، وإنا لنعجب كيف استطاعت هذه الأمة وهي أقدم أمم الأرض وأكثرها عدداً أن تعيش من غير هذه البلايا التي أبتلي بها شبان الأمم الغربية. ومن يدري فلربما كان لهذه اللغة في الأيام الخالية المنسية اشتقاق ونحو وصرف وإعراب وتثنية وجمع وأفعال ماضية وحاضرة ومستقبلة، ولكننا لا نجد
صفحة رقم : 1326

قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأقصى -> الصين -> الشعب والدولة -> الصينيون ولغتهم

أثراً لشيء من هذا في أقدم ما عرفنا من عهود هذه اللغة، فكل كلمة فيها قد تكون اسما أو فعلاً أو صفة أو ظرفاً بحسب سياقها وطريقة النطق بها. ولما كانت اللهجات الكلامية لا تحتوي على أكثر من ثلاثمائة أو أربعمائة لفظ صوتي ذي مقطع واحد، ولما كانت هذه المقاطع هي التي تستعمل للتعبير عن الأربعين ألف حرف المستخدمة في اللغة الكتابية فإن لكل واحد من الألفاظ الصوتية "نغمات" تختلف من أربع إلى تسع بحيث يختلف معناه باختلاف طريقة التغني به.
وتوضح حركات الجسم وسياق الكلام هذه النغمات، وتجعل كل صوت يؤدي أغراضاً متعددة، فحرف الباء وحده مثلاً قد يؤدي تسعة وستين معنى كما أن اللفظ شي تسعة وخمسين، وللفظ كو تسعة وعشرين(30). ولسنا نعرف لغة من اللغات قد بلغت ما بلغته اللغة الصينية من التعقيد والدقة والاختصار.
وكانت لغة الكتابة أكثر اختلافاً عن سائر لغات العالم من لغة الكلام. تشهد بذلك الأدوات التي استخرجت من هونان والتي يرجعها المؤرخون إلى عهد أسرة شانج وإن لم يكونوا واثقين من ذلك كل الثقة، فقد وجدوا على هذه الأدوات كتابة برموز لا تختلف كثيراً عن الرموز المستعملة في هذا الجيل. ولهذا فإننا إذا استثنينا عدداً قليلاً من الأقباط الذين يتكلمون اللغة المصرية القديمة فإن اللغة الصينية هي أقدم اللغات التي ينطق بها الناس في هذه الأيام وأوسعها انتشاراً. وكان الصينيون في بادئ الأمر يعقدون عقداً في خيوط لينقلوا بها رسائلهم، وأكبر الظن أن حاجة الكهنة إلى نقل الطلاسم السحرية وحاجة الفخرانيين إلى تمييز آنيتهم بعضها من بعض هي التي أدت إلى الرموز المصوِّرة(32).
صفحة رقم : 1327
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأقصى -> الصين -> الشعب والدولة -> الصينيون ولغتهم

وكانت هذه الرموز المصورة البدائية منشأ العلامات الستمائة وهي الرموز الأساسية في الكتابة الصينية؛ وقد سمي نحو مائتين وأربعة عشر رمزاً منها "أصولاً" لأنها عناصر أساسية. وجميع حروف اللغة الدارجة، والحروف المستعملة في الوقت الحاضر، رموز معقدة غاية التعقيد أثقل فيها العنصر التصويري البدائي بزيادات كثيرة يقصد بها تحديد معنى اللفظ تحديداً واضحاً، ويكون ذلك في العادة ببيان ما يطرأ من تغيير على نغمته. ولم يكتف الصينيون بأن يجعلوا لكل كلمة ينطقون بها علامة بل أنهم يجعلون لكل فكرة أيضاً علامة خاصة، فهذه علامة يرمز بها للحصان وهذه علامة أخرى يرمز بها "للحصان الأحمر الأسود ذي البطن الأبيض" كما يرمز برمز آخر للحصان ذي البقعة البيضاء على جبهته . ولا تزال بعض هذه الرموز بسيطة بساطة نسبية، فالقوس فوق خط مستقيم (أي الشمس فوق الأفق) معناهما "الصباح". والشمس والقمر مجتمعين يمثلان "الضوء"؛ والفم والطائر معاً معناهما "الغناء"، والمرأة تحت سقف معناها "السلام"؛ والمرأة والفم والعلامة الدالة على "الالتواء" يتكون منها الرمز الذي منه "خَطِر"؛ والرجل والمرأة مجتمعين يعنيان "شرشرة"؛ والنزاع يعبر عنه بامرأة ذات فمين، والزوجة يعبر عنها بالعلامات الدالة على امرأة ومكنسة وزوبعة(33).
وهذه لغة بدائية من بعض الوجود استطاع أهلها بمحافظتهم الشديدة على القديم أن يبقوها حية في هذه الأوقات "الحاضرة". والصعوبات الكامنة في هذه اللغة أوضح من مزاياها وفضائلها، ويقال إن الصيني يحتاج إلى ما بين عشر سنين وخمسين سنة ليتعلم فيها جميع الأربعين ألف رمز التي تتكون منها
صفحة رقم : 1328
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأقصى -> الصين -> الشعب والدولة -> الصينيون ولغتهم

لغته؛ ولكننا إذا عرفنا أن هذه الرموز ليست حروفاً بل أفكاراً، ثم فكرنا في طول الوقت الذي نحتاجه لكي نعرف أربعين ألف فكرة من الأفكار أو حتى أربعين ألف كلمة من الكلمات، رأينا أن في العبارات التي نستخدمها للمفاضلة بين اللغة الصينية وغيرها من اللغات ظلماً شديداً للصينيين، وأن من واجبنا إذا كنا ننشد الإنصاف أن نقول إن الصيني يحتاج إلى خمسين عاماً ليعرف أربعين ألف فكرة. والواقع أن الصيني العادي يكفيه ثلاثة آلاف علامة أو أربعة آلاف، وأن من السهل عليه أن يعرف هذا العدد بمعرفة "أصولها" السالفة الذكر. وأوضح ميزة لهذه اللغة- التي لا تعبر عن الأصوات بل عن الأفكار-هي أن الكوريين واليابانيين يسهل عليهم أن يقرؤوها كما يسهل على الصينيين، وأنها تعد لغة كتابة دولية لبلاد الشرق الأقصى. يضاف إلى هذا أنها تجمع في نظام واحد من نظم الكتابة بين جميع سكان الصين الذين تختلف لهجاتهم اختلافاً يجعل التفاهم بينهم يكاد أن يكون مستحيلاً، حتى أن الرمز الواحد يقرأ بأصوات مختلفة وكلمات مختلفة في مختلف البيئات. وهذه الميزة تنطبق على مختلف الأزمنة انطباقها على مختلف الأمكنة؛ ذلك بأن لغة الكتابة قد بقيت واحدة في جوهرها على حين أن لغة الكلام قد تفرعت إلى ما ينيف على مائة من اللهجات. ومن أجل هذا كان في وسع الصيني غير الأمي أن يقرأ الأدب الصيني الذي ظل يكتب بهذه الحروف نحو ألفي عام كاملة، وإن كنا لا نعلم كيف كان الكتاب الأقدمون ينطقون بالألفاظ التي كتبوها أو يعبرون عن الأفكار التي ترمز لها هذه العلامات. ولقد كان هذا الإصرار الشديد على الاحتفاظ بالكتابة الموحدة القديمة بين هذا الفيض الدافق من اللهجات الكلامية المتباينة عاملاً قوياً على الاحتفاظ بالأفكار الصينية والثقافة الصينية إلى هذه الأيام كما كانت عاملاً قوياً في تمسك الصينيين بعاداتهم وتقاليدهم القديمة. ذلك أن الأفكار القديمة قد رسخت في البلاد، وكانت هي القالب

الذي صبت فيه عقول الشباب.
صفحة رقم : 1329
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأقصى -> الصين -> الشعب والدولة -> الصينيون ولغتهم

وإن خصائص الحضارة الصينية لتتمثل في هذه الظاهرة الفذة التي امتازت بها كتابتها على غيرها من البلاد: وحدتها بين مختلف اللهجات والتطورات، وتمسكها الشديد بالقديم واتصالها المنقطع النظير. ولقد كان هذا النظام الكتابي في حد ذاته من أجل الأعمال العقلية وأعلاها شأناً، فقد صنف العالم بأجمعه- عالم الجماد والنشاط والأوصاف- إلى بضع مئات من الرموز التي جعلت "أصولاً"، ثم أضاف إلى هذه الأصول نحو خمسمائة وألف من العلامات المميزة فأضحت تمثل في صورها الكاملة جميع ما في الحياة من أفكار وآداب. ومن واجبنا ألا نثق كل الثقة من أن الطرق المختلفة التي ندون بها نحن أفكارنا أرقى من هذه الطريقة البدائية، فقد كان ليبنتز في القرن السابع عشر وسير وُنَلْدُرْس في هذه الأيام يحلمان بوضع طريقة من العلامات الكتابية مستقلة كل الاستقلال عن لغات الكلام، بعيدة كل البعد عن الاختلافات القومية، وعن اختلافات الزمان والمكان، يستطاع بها من أجل هذا التعبير عن أفكار الشعوب المختلفة بطرق واحدة يفهمها الناس كلهم على السواء، ولكن لغة الرموز هذه التي كان يحلم بها هذان العالمان قائمة فعلاً في الشرق الأقصى توحد بين مائة من الأجيال وبين ربع سكان العالم. وإن النتيجة التي وصل إليها الشرقي لنتيجة منطقية رهيبة: إن سائر بلاد العالم يجب أن تتعلم طريقة لكتابة الصينية.

صفحة رقم : 1330
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأقصى -> الصين -> الشعب والدولة -> الحياة العملية -> في الحقول

الفصل الثالث
الحياة العملية
1- في الحقول
فقر الزراع - الوسائل الاقتصادية -
المحصولات - الشاي - الطعام - صبر أهل القرية

لقد كان خصب التربة هو الدعامة التي يقوم عليها آخر الأمر كل ما حوته تلك اللغة من آداب، وكل ما اشتمل عليه التفكير الصيني من دقة وعمق، وكل ما انطوت عليه الحياة الصينية من نعيم وترف. وبعبارة أصح لقد كانت هذه الدعامة هي جهود الصينيين أنفسهم، لأن التربة الخصبة لا تخلق خلقاً بل تنشأ إنشاء. وما من شك في أن سكان الصين الأولين قد ظلوا قروناً طوالاً يكافحون الأدغال والغابات، والوحوش والحشرات، والجفاف والفيضان، وأملاح التربة والصقيع، حتى استطاعوا في آخر الأمر أن يحولوا تلك البراري الشاسعة الموحشة إلى حقول خصبة مثمرة، وكان لابد لهم أن يعودوا حيناً بعد حين إلى خوض هذه المعارك لكي يحتفظوا بما نالوا من نصر، فإذا ما استمروا يقطعون أشجار الغابات مائة عام مثلاً استحالت الأرض صحراء مجدبة ، وإذا أهملوا تقطيعها بضع سنين استحالت حراجاً وغابات كثيفة.
ولقد كان هذا الكفاح كفاحاً مريراُ ينطوي على أخطار جسيمة، وكان يزيد من مرارته أن البلاد كانت معرضة لهجمات البرابرة واستيلائهم على
صفحة رقم : 1331
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأقصى -> الصين -> الشعب والدولة -> الحياة العملية -> في الحقول

محصولات الأرض المستصلحة، ومن أجل هذا كان الزراع يتقون هذه الإغارة بأن يعيشوا في جماعات صغيرة لا في منازل متفرقة متباعدة، وكانوا ينشئون حول قراهم أسواراً ويخرجون لزرع الأرض مجتمعين، وكثيراً ما كانوا يقضون الليل ساهرين يحرسون الحقول.

وكانت طرق الزراعة عندهم ساذجة وإن كانت لا تختلف كثيراً عن طرق الزراعة في هذه الأيام. وكانوا في بعض الأحيان يفلحون الأرض بالمحاريث، وقد اتخذوها أولاً من الأخشاب ثم من الحجارة واتخذوها بعدئذ من الحديد، ولكنهم كانوا في أكثر الأحيان يقلبون ما يمتلكون من قطع الأرض الصغيرة بالفأس يكدحون بها صابرين. وكانوا يستعينون على إخصاب التربة بكل ما يجدونه من المخصبات الطبيعية ولا يستنكفون أن يجمعوا لهذا الغرض فضلات الكلاب والآدميين. ولقد احتفروا من أقدم الأزمنة قنوات يجرون فيها مياه أنهارهم المثيرة إلى مزارع الأرز أو حقول الذرة، فشقوا ترعاً عميقة يبلغ طولها عدة أميال في الصخور الصماء ليصلوا بها إلى مجرى مائي بعيد أو يحولوا مجراه حتى يصل إلى سهل جاف، واستطاع الصينيون دون الاستعانة بالدورة الزراعية أو المخصبات الصناعية، ومن غير حيوانات الجر في كثير من الأحيان أن يزرعوا نصف أرضهم على الأقل زرعتين أو ثلاث زرعات في العام، وأن يستخرجوا منها من أنواع الغذاء أكثر مما استخرجه أي شعب آخر في التاريخ(34).
وكانت أهم الحبوب التي زرعوها هي الأرز والذرة ويليها في الأهمية القمح والشعير. وكانوا يتخذون من الأرز غداء وخمراً، ولكن الفلاح لم يدمن هذا الشراب في يوم من الأيام. أما شرابه المحبب إليه ومحصوله الذي يلي الأرز في أهميته فهو الشاي. وكان استعماله في مبدأ الأمر مقصوراً على التداوي ثم زاد انتشاراً حتى صار في عهد أسرة تانج من المحصولات التي تصدر إلى خارج البلاد،
صفحة رقم : 1332
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأقصى -> الصين -> الشعب والدولة -> الحياة العملية -> في الحقول

والتي يتغنى بها الشعراء في أشعارهم. ولم يحل القرن الخامس عشر حتى كانت جميع بلاد الشرق الأقصى مغرمة بشرب الشاي تتغنى بمديحه، وحتى أخذ المولعون به يعملون لاستنبات أنواع جديدة منه ويعقدون مجالس الشراب للحكم على خير ما يقدم منها للحاضرين(35). وكان من محصولاتهم الأخرى الخضر اللذيذة والمغذية كفول الصويا، والتوابل المقوية كالثوم والبصل، وعشرات المئات من أنواع الفاكهة(36)؛ وكانت اللحوم أقل المنتجات الريفية شأناً؛ وكانت الثيران والجاموس تستخدم أحياناً في حرث الأرض، أما تربية الماشية للانتفاع بلحومها فكانت مقصورة على الخنازير والدجاج(37)، وكانت طائفة كبيرة من السكان تتخذ غذاءها من سمك البحر والمجاري المائية العذبة.
وكان أهم ما تتغذى به الطبقات الفقيرة هو الأرز الجاف والمكرونة والشعرية وقليل من الخضر والسمك. أما الطبقات الوسطى فكانت تضيف إلى هذا لحم الخنازير والدجاج وتضيف إليه الغنية لحم البط، وكانت أرقى المآدب التي تقام في بيكين تحتوي على مائة صنف من أصناف البط(38). وكان لبن البقر نادراً وكذلك كان البيض قليلاً وقلما كان يؤكل طازجاً. غير أن فول الصويا كان يمد الأهلين باللبن الصالح والجبن. وقد تطور فن الطهي في الصين حتى أصبح من الفنون الجميلة، وكان يستخدم فيه كل منتجات الأرض والماء وطيور الهواء، فكانت الحشائش والأعشاب البحرية تقتلع من الأرض وأعشاش الطير، تنتهب لتعمل منها أنواع الحساء اللذيذ، وكانت أطعمة لذيذة تتخذ من زعانف كلب البحر وأمعاء السمك والجراد والجنادب وصغار الديدان ودود القز ولحم الخيل والبغال والجرذان وثعابين الماء والقطط والكلاب(39). وكان الصينيون يحبون لذيذ المأكل ولم يكن من غير المألوف أن تشتمل مائدة الرجل الغني على أربعين صنفاً وأن يظل القوم حول موائد الطعام ثلاث ساعات أو أربعاً يأكلون فيها ويشربون.
أما الرجل الفقير فلم يكن يصرف هذا الوقت كله في طعامه الذي كان

صفحة رقم : 1333
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأقصى -> الصين -> الشعب والدولة -> الحياة العملية -> في الحقول

يتناول منه وجبتين في اليوم. ولم يكن الفلاح رغم كدحه المتواصل بمنجاة من الجوع طيلة أيام حياته إذا استثنينا بعض الحالات في مختلف الأقاليم والأوقات. وكان في وسع الأقوياء الماهرين منهم أن يستحوذوا على ضياع واسعة وأن يركزوا ثروة البلاد في أيد قليلة. وكان يحدث في بعض الأحيان، كما حدث في أيام الإمبراطور شي هوانج - دي، أن يعاد توزيع الأرض على السكان، غير أن ما بين الناس من فروق طبيعية سرعان ما كان يؤدي إلى تركيز الثروة مرة أخرى(41). وكان معظم الزراع من ملاك الأراضي، ولكن متوسط ما كان يملكه الفرد أخذ يتضاءل في كل قرن عن الذي قبله نظراً لتزايد عدد السكان أسرع من ازدياد مساحة الأرض الصالحة للزراعة. فكانت نتيجة هذا هي الفقر الذي لا مثيل له إلا في أفقر أقاليم الهند! فقد كان دخل الأسرة المتوسطة لا يزيد على 83 ريالاً أمريكياً، وكان كثيرون من الأفراد يعيشون بما يعادل 1
slash50 من الريال في اليوم كما كان الملايين منهم يموتون من الجوع في كل عام(42). وقد ظلت الصين عشرين قرناً كاملاً تعاني القحط بمعدل مرة في كل عام(43)، ويرجع بعض السبب في هذا إلى أن الفلاح كان يُستغل أسوأ الاستغلال ولا ينال من الطعام إلا ما يمسك الرمق، ويرجع بعضه إلى ازدياد المواليد أسرع من تحسين الإنتاج الزراعي واتساع مساحة الأرض المنزرعة، كما يرجع بعضه الآخر إلى سوء سبل الاتصال والنقل إلى حد يجعل السكان في بعض الأقاليم يهلكون من الجوع بينما الطعام في البعض الآخر يزيد على حاجة الأهلين. وآخر ما نذكره من هذه الأسباب أن الفيضان كان في بعض الأحيان يتلف ما يتركه المالك والجابي للزراع، فكثيراً ما كان نهر هوانج - هو، الذي يسميه الناس "حزن الصين"، يغير مجراه ويغرق ألفاً من القرى ويترك ألفاً أخرى صادية.

وكان الفلاحون يصبرون على هذه الكوارث ويتجرعون غصصها، ومن أمثالهم المأثورة: "كل ما يحتاجه الإنسان في هذه الحياة الفانية هو قبعة وحفنة
صفحة رقم : 1334
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأقصى -> الصين -> الشعب والدولة -> الحياة العملية -> في الحقول

من الأرز"(44). وكانوا يكدحون ولكنهم لا يسرعون في عملهم، فلم تكن ثمة آلة معقدة تدفعهم إلى العمل سراعاً أو تنهك أعصابهم بضجيجها وخطرها وسرعتها. ولم يكن لهم أيام راحة في آخر الأسبوع ولا أيام آحاد، ولكن كانت لهم أيام إجازات وأعياد كعيد رأس السنة وعيد الفوانيس تتيح للعامل فرصة يستريح فيه من عناء كدحه ويخفف فيها بالمسرحيات والأساطير ما في سائر فصول السنة من اكتئاب. فإذا ما ولى الشتاء بزمهريره ووجهه الكالح ولانت تربة الأرض بما سقط عليها من مطر الربيع بعد أن ذاب ما تراكم عليها من ثلج الشتاء، خرج الفلاحون مرة أخرى ليزرعوا حقولهم الضيقة، ويغنوا في مرح وحب أغاني الأمل التي انحدرت إليهم من ماضيهم السحيق.

صفحة رقم : 1335
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأقصى -> الصين -> الشعب والدولة -> الحياة العملية -> في المتاجر

2- في المتاجر
الحرف اليدوية - الحرير - المصانع - الطوائف -
الحمالون - الطرق والقنوات - التجار - الائتمان والنقود -
تجارب في العملة المتداولة - التضخم الناشئ من الطباعة
وازدهرت الصناعة في تلك الأيام ازدهاراً لم ير له مثيل في كافة أنحاء الأرض قبل القرن الثامن عشر. فمهما تتبعنا تاريخ الصين إلى ماضيه السحيق وجدنا الحرف اليدوية منتشرة في البيوت والتجارة رائجة في المدن.

وكانت أهم الصناعات الأساسية هي صناعة النسيج وتربية دود القز لاستخراج خيوط الحرير. وكانت كلتا الحرفتين تقوم بها النساء في أكواخهن أو بالقرب منها. وكان غزل الحرير من الحرف القديمة في البلاد وترجع بدايتها في الصين إلى الألفي السنة السابقة لميلاد المسيح . وكان الصينيون يطعمون
صفحة رقم : 1336
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأقصى -> الصين -> الشعب والدولة -> الحياة العملية -> في المتاجر

الدود ورق التوت الحديث التقطيع ويحصلون من تربيته على نتائج عجيبة، ولعل القارئ لا يصدق إذا قيل له إن رطلاً من الديدان (أي 000ر700 دودة) يتغذى على هذا الورق كان يتضاعف إلى 500ر9 رطل في اثنين وأربعين يوماً(47). وكانت الديدان الكبار توضع بعدئذ في خيام صغيرة من القش تنسج حولها شرانقها بما تفرزه من الحرير، فإذا أتمت عملها أخذت الشرانق وألقيت في ماء ساخن فخرج الحرير من القالب الذي لف عليه وعالجوه ونسجوه وصنعوا منه أنواعاً عدة من الثياب والأقمشة المزركشة والمطرزة والأنسجة المشجرة التي كانت تصنع منها ملابس الطبقات العليا في العالم كله%=@لم يكن من غير المألوف عند المضيف إذا جاءه ضيوف أن يمر عليهم بنسيج رقيق من الحرير يعرضه عليهم(48) كما يعرض عليهم غيره آنية من الخزف أو يبسط أمامهم ملفاًً من
صفحة رقم : 1337
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأقصى -> الصين -> الشعب والدولة -> الحياة العملية -> في المتاجر

الصور أو من الخط الجميل.@ ، أما من ينتجون الحرير وينسجونه فكانوا يتخذون ثيابهم من القطن.

وكانت هذه الصناعة المنزلية تكمل بحوانيت في المدن حتى في القرون السابقة لميلاد المسيح، ولذلك وُجدت من بداية القرن الثالث قبل الميلاد جماعات من العمال في المدن نظمت هي والمشرفون عليها في طوائف من أرباب الحرف. وكان نمو هذه الصناعة في الحوانيت سبباً في ازدحام المدن بالسكان العاملين المجدين الذين جعلوا الصين في أيام كوبلاي خان تضارع من الوجهة الصناعية أوربا في القرن الثامن عشر بعد الميلاد. وقد كتب ماركو بولو في ذلك يقول:
"لكل حرفة من الحرف مائة متجر يهيئ كل واحد منها العمل لعشرة أو خمسة عشر أو عشرين من الصناع، وقد يصل هذا العدد في بعض الصناعات إلى أربعين ... والسادة الأغنياء أصحاب الحوانيت لا يعملون بأيديهم بل يتظاهرون بالرقة والتسامي والتأنق في حديثهم وحركاتهم"(50). وكانت هذه النقابات تعمل ما تعمله الصناعات المنظمة في هذه الأيام فتحدد التنافس وتنظم الأجور وساعات العمل؛ وكان الكثير منها يحدد الإنتاج ليحتفظ بمستوى أسعار منتجاته، ولعل رضاها بأساليبها القديمة واطمئنانها إليها كانا من أسباب تأخر العلوم في الصين ومقاومة الانقلاب الصناعي في تلك البلاد مقاومة دامت حتى أخذت كل الحواجز والأنظمة في هذه الأيام تنهار أمام طوفان الصناعة الأوربية الجارف.
وكانت النقابات في الصين تضطلع بكثير من الواجبات التي عهد بها السكان الغربيون المتكبرون إلى الدولة ! فكانت هذه النقابات تسن قوانينها بنفسها وتعدل في تنفيذها، وقد قللت من الإضراب بما كانت تقوم به من تسوية النزاع بين العمال وأصحاب الأعمال بطرق التحكيم على يد لجان الوسطاء التي يمثل فيها كلا الطرفين بالتساوي. وكانت هذه النقابات بوجه عام هيئات صناعية تحكم نفسها وتنظم شئونها، وكانت مخرجاً يدعو أي الإعجاب من التذبذب الحادث في هذه الأيام بين مبدأي التخلي وترك الأمور تجري في مجراها وبين سيطرة الدولة على جميع الشئون.

ولم تكن النقابات مقصورة على التجار والصناع وعمالهم، بل كانت هناك نقابات لطوائف أقل من هؤلاء شأناً كالحلاقين والحمالين والطباخين. بل أن المتسولين كانت لهم هيئة تفرض على أعضائها قوانين صارمة(51). وكانت أقلية ضئيلة من عمال المدن من الأرقاء يستخدم معظمهم في الأعمال المنزلية ويبقون تحت سلطان سادتهم عدة سنين أو طول الحياة، وكان اليتامى والبنات يُعرضون للبيع في أيام القحط ويباعون بعدد قليل من "الكاشات"، وكان من حق الأب في كل وقت أن يبيع بناته أو عبيده. على أن هذا الاسترقاق لم يبلغ في يوم من الأيام ما بلغه في بلاد اليونان أو الرومان، وكانت كثرة العمال من أعضاء النقابات أو الوكلاء الأحرار- كما كانت كثرة الزراع من ملاّك
صفحة رقم : 1338
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأقصى -> الصين -> الشعب والدولة -> الحياة العملية -> في المتاجر

الأراضي- يحكمون أنفسهم في هيئات قروية مستقلة في معظم شئونها عن إشراف الدولة(52).
وكانت منتجات العمل تنقل على ظهور الناس، بل إن الناس أنفسهم كان معظمهم ينقلون في الحدوج فوق أكتاف الحمالين المكدودة المتصلبة، ولم يكن هؤلاء يشكون من عملهم أو يتضجرون منه ، وكانت الدلاء الثقيلة أو الحزم الضخمة تعلق في طرف قوائم خشبية تحمل على الكتفين، وكانت عربات النقل تجرها الحمير أحياناً ولكنها في أكثر الأحيان كان يجرحها الرجال. ذلك أن عضلات الآدميين قد بلغت من الرخص حداً لا يشجع على رقيّ النقل الحيواني أو الآلي، كما كانت حال النقل البدائية غير حافزة على إصلاح الطرق وتعبيدها.

ولما أن أنشئ أول خط حديدي في الصين بين شنغهاي وووسونج بفضل رؤوس الأموال الأجنبية احتج الصينيون على هذا العمل وقالوا إنه سيزعج الأرواح التي في باطن الأرض، واشتدت مقاومتهم حتى اضطرت الحكومة إلى شراء الخط الحديدي وإلقاء القاطرات والعربات في البحر(53). وقد أنشئت في أيام شي هوانج- دي وكوبلاي خان طرق عامة رصفت بالحجارة ولكنها لم يبق منها الآن إلا جوانبها. أما شوارع المدن فلم تكن سوى أزقة لا يزيد عرضها على ثمان أقدام صممت لكي تحجب الشمس، وكانت القناطر كثيرة العدد جميلة في بعض الأحيان، ومن أمثلتها القنطرة الرخامية التي كانت عند القصر الصيفي، وكان التجار والمسافرون يستخدمون الطرق المائية بقدر ما كانوا يستخدمون الطرق البرية، وكان في البلاد قنوات مائية يبلغ طولها 000ر25 ميل، تستخدم بدل السكك الحديدية، ولم يكن في الأعمال الهندسية الصينية ما يفوق القناة الكبرى التي تربط هانجتشاو بتيانشين والتي يبلغ طولها 650 ميلاً، والتي بُدئ
صفحة رقم : 1339
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأقصى -> الصين -> الشعب والدولة -> الحياة العملية -> في المتاجر

في حفرها سنة 300 م وتم في عهد كوبلاي خان، لم يكن يفوقها إلا السور العظيم. وكانت القوارب المختلفة الأشكال والأحجام لا ينقطع غدوها ورواحها في الأنهار، ولم تكن تتخذ وسائل للنقل الرخيص فحسب بل كانت تتخذ كذلك مساكن للملايين من الأهلين الفقراء.
والصينيون تجار بطبعهم وهم يقضون عدة ساعات في المساومات التجارية، وكان الفلاسفة الصينيون والموظفون الصينيون متفقين على احتقار التجار، وقد فرض عليهم أباطرة أسرة هان ضرائب فادحة وحرموا عليهم الانتقال بالعربات ولبس الحرير.

وكان أفراد الطبقات الراقية يطيلون أظافرهم ليدلوا بعملهم هذا على أنهم لا يقومون بأعمال جثمانية، كما تطيل النساء الغربيات أظافر أيديهن لهذا الغرض عينه(64)، وقد جرت العادة أن يعد العلماء والمدرسون والموظفون من الطبقات الراقية، وتليهم في هذا طبقة الزراع، ويأتي الصناع في المرتبة الثالثة، وكانت أوطأ الطبقات طبقة التجار لأن هذه الطبقة الأخيرة- على حد قول الصينيين- لا تجني الأرباح إلا بتبادل منتجات غيرها من الناس.
لكن التجار مع ذلك آثروا ونقلوا غلاّت حقول الصين وسلع متاجرها إلى جميع أطراف آسية، وصاروا في آخر الأمر الدعامة المالية للحكومة الصينية. وكانت التجارة الداخلية تعرقلها الضرائب الفادحة، وأما التجارة الخارجية فكانت معرضة لهجمات قُطّاع الطريق في البر والقرصان في البحر. ومع هذا فقد استطاع التجار الصينيون أن ينقلوا بضائعهم إلى الهند وفارس وبلاد النهرين ورومة نفسها في آخر الأمر بالطواف حول شبه جزيرة الملايو بحراً وبالسير في طرق القوافل التي تخترق التركستان(55). وكانت أشهر الصادرات هي الحرير والشاي والخوخ والمشمش والبارود وورق اللعب، وكان العالم يرسل إلى الصين بدل هذه الغلات والبضائع الفِصْفِصَة
صفحة رقم : 1340
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأقصى -> الصين -> الشعب والدولة -> الحياة العملية -> في المتاجر

والزجاج والجزر والفول السوداني والدخان والأفيون.

وكان من أسباب تيسير التبادل التجاري نظام الائتمان والنقود. فقد كان التجار يقرض بعضهم بعضاً بفوائد عالية تبلغ في العادة نحو 36%، ونقول إنها عالية وإن لم تكن أعلى مما كانت في بلاد اليونان والرومان(65). وكان من أسباب ارتفاع سعر الفائدة ما يتعرض له المرابون من أخطار شديدة، فكانوا من أجل ذلك يتقاضون من الأرباح ما يتناسب مع هذه الأخطار، ولم يكن أحد يحبهم إلا في مواسم الاستدانة. ومن الحكم الصينية المأثورة قولهم: "السارقون بالجملة ينشئون المصارف"(57). وأقدم ما عرف من النقود ما كان يتخذ من الأصداف البحرية والمدي والحرير.
ويرجع تاريخ أقدم عملة معدنية إلى القرن الخامس قبل الميلاد على الأقل(58). وجعلت الحكومة الذهب العملة الرسمية في عهد أسرة شين، وكانت العملة الصغرى تصنع من خليط من النحاس والقصدير، وما لبثت هذه أن طردت الذهب من التعامل . ولما أخفقت التجربة التي قام بها وو دي والتي أراد بها أن يضرب عملة مصنوعة من الفضة والقصدير لكثرة ما زيف وقتئذ من النقود، استعيض عنها بشرائح من الجلد يبلغ طول الواحدة منها قدماً، وكانت هذه الشرائح مقدمة لاستعمال النقود الورقية. ولما أن أضحى ما يستخرج من النحاس أقل من أن يفي بالأغراض التجارية لكثرة البضائع المتداولة، أمر الإمبراطور شين دزونج في عام 807م أن تودع العملة النحاسية كلها في خزائن الحكومة وأن يصدر بدلاً منها شهادات مدينة أطلق عليها الصينيون اسم "النقود الطائرة"، لأنهم كما يبدو تحملوا متاعبهم المالية بنفس الطمأنينة التي تحمل بها الأمريكيون
صفحة رقم : 1341
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأقصى -> الصين -> الشعب والدولة -> الحياة العملية -> في المتاجر

متاعبهم في عام 1933م. ولم تستمر هذه الطريقة إلا ريثما زالت الضائقة؛ ولكن اختراع الطباعة بالقوالب أغرى الحكومة على أن تستخدم هذه الطريقة الجديدة في عمل النقود، فشرعت ولاية سشوان شبه المستقلة في عام 935 م والحكومة الوطنية في شنجان عام 970 تصدران النقود الورقية. وأسرفت الحكومة في عهد أسرة سونج في إصدار هذه النقود، فنشأ من ذلك تضخم شديد قضى على كثير من الثروات(59).
ويقول ماركو بولو عن خزائن كوبلاي خان: "إن دار السك الإمبراطورية تقوم في مدينة كمبلوك (بيكين)، وأنت إذا شاهدت الطريقة التي تصدر بها النقود قلت إن فن الكيمياء أتقن أتقاناً لا إتقان بعده، وكنت صادقاً فيما تقول. ذلك أنه يصنع نقوده بالطريقة الآتية"، ثم أخذ يستثير سخرية مواطنيه وتشككهم فيما يقول وعدم تصديقهم إياه فوصف الطريقة التي يؤخذ بها لحاء شجر التوت فتصنع منه قطع من الورق يقبلها الشعب ويعدها في مقام الذهب(60). ذلك هو منشأ السيل الجارف من النقود الورقية الذي أخذ من ذلك الحين يدفع عجلة الحياة الاقتصادية في العالم مسرعة تارة ويهدد هذه الحياة بالخراب تارة أخرى.

صفحة رقم : 1342
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأقصى -> الصين -> الشعب والدولة -> الحياة العملية -> المخترعات والعلوم

3- المخترعات والعلوم
البارود - الألعاب النارية والحروب - ندرة
المخترعات الصناعية - الجغرافية - الرياضيات -
الطبيعة - "فتح شوى" - الفلك - الطب - تدبير الصحة
لقد كان الصينيون أقدر على الاختراع منهم على الانتفاع بما يخترعون. فقد اخترعوا البارود في أيام أسرة تانج، ولكنهم قصروا استعماله وقتئذ على الألعاب النارية، وكانوا في ذلك جد عقلاء؛ ولم يستخدموه في صنع القنابل اليدوية وفي الحروب إلا في عهد أسرة سونج (عام 1161م). وعرف العرب ملح البارود (نترات البوتاسا)- وهو أهم مركبات البارود- في أثناء
صفحة رقم : 1343

قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأقصى -> الصين -> الشعب والدولة -> الحياة العملية -> المخترعات والعلوم

اتجارهم مع الصين وسموه "الثلج الصيني" ونقلوا سر صناعة البارود إلى البلاد الغربية، واستخدمه العرب في أسبانيا في الأغراض الحربية، ولعل سير روجر بيكين أول من ذكره من الأوربيين قد عرفه من دراسته لعلوم العرب أو من اتصاله بده- برو كي الرحالة الذي طاف في أواسط آسية.
والبوصلة البحرية أقدم عهداً من البارود. وإذا جازفنا أن نصدق ما يقوله عنها المؤرخون الصينيون فإن دوق جو قد اخترعها في عهد الإمبراطور تشنج وانج (1115-1078 ق.م) ليهتدي بها بعض السفراء الأجانب في عودتهم إلى بلادهم. ويقول الرواة إن الدوق أهدى إلى السفارة خمس عربات جهزت كل منها "بإبرة تشير إلى الجنوب"(62). وأكبر الظن أن الصينيين الأقدمين كانوا يعرفون ما لحجر المغنطيس من خواص مغنطيسية، ولكن استعماله كان مقصوراً على تحديد الاتجاهات في بناء الهياكل. وقد ورد وصف الإبرة المغنطيسية في السونج- شو وهو كتاب تاريخي مؤلف في القرن الخامس الميلادي. ويقول المؤلف إن مخترعها هو الفلكي جانج هنج (المتوفى في عام 139م)، على أن هذا العالمِ لم يفعل أكثر من أن يكشف من جديد ما كانت الصين تعرفه قبل أيامه. وأقدم ما ورد عن الإبرة من حيث فائدتها للملاحين هو ما جاء في كتاب أُلّف في أوائل القرن الثاني عشر الميلادي وهو يعزو استخدامها في هذا الغرض إلى البحارة الأجانب- وأكبر الظن أنهم من العرب- الذين كانوا يسيرون سفنهم بين سومطرة وكانتون(63). وأول إشارة معروفة لنا عن البوصلة في أقوال الأوربيين هي ما ذكر عنها في قصيدة لجنيو ده بروفن(64).

على أننا لا نستطيع أن نصف الصينيين بأنهم من الأمم النشيطة في ميدان الاختراعات الصناعية رغم اختراعهم البوصلة والبارود والطباعة والخزف. لقد كانوا مخترعين في الفنون وقد ارتقوا بها في صورها التي ابتدعوها حتى بلغت درجة من الكمال لا نظير لها في غير بلادهم أو في تاريخهم، ولكنهم ظلوا حتى
صفحة رقم : 1344
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأقصى -> الصين -> الشعب والدولة -> الحياة العملية -> المخترعات والعلوم

عام 1912م قانعين بالجري على طرقهم الاقتصادية القديمة، يحتقرون الأساليب والحيل التي تغني عن العمل الشاق، وتضاعف ثمار الجهود البشرية، وتعطل نصف سكان العالم لتزيد من ثراء النصف الآخر، كأنهم في احتقارهم هذا كانوا يتنبئون بما تجره هذه الاختراعات على البشر من شرور. وكان الصينيون من أوائل الأمم التي اتخذت الفحم وقوداً واستخرجوه من الأرض بكميات قليلة منذ عام 122 ق.م(65)، ولكنهم لم يخترعوا آلات تريحهم من كدح استخراجه وتركوا معظم ما تخبئه أرضهم من الثروة المعدنية دون أن يستغلوها، ومع أنهم عرفوا كيف يصنعون الزجاج فقد رضوا أن يستوردوه من الغرب، ولم يصنعوا ساعات للجيب أو للحائط، ولم يخترعوا المسامير المحواة بل إنهم لم يصنعوا من المسامير العادية إلا أغلظها(66). وقد ظلت حياة الصين الصناعية في أهم نواحيها على حالها لم تتغير كثيراً خلال الألفي العام التي بين قيام أسرة هان وسقوط المنشو- شأنها في هذا شأن الحياة الصناعية في أوربا من أيام بركليز إلى عهد الانقلاب الصناعي.

كذلك كانت الصين تفضل سلطان التقاليد والعلماء على سلطان العلم والمال المثير للأعصاب، ولذلك كانت الحضارة الصينية أفقر الحضارات العظمى فيما أفادته منها فنون الحياة المادية. فقد أخرجت هذه الحضارة كتباً من أرقى الكتب الدراسية في الزراعة وفي تربية دود القز قبل ميلاد المسيح بقرنين كاملين وألفت رسالات قيمة في علم تقويم البلدان(67). وقد خلف عالمها الرياضي المعمر جانج تسانج (المتوفى في عام 152ق.م) وراءه كتاباً في الجبر والهندسة فيه أول إشارة معروفة للكميات السالبة. وقد حسب دزو تسو تشونج- جي القيمة الصحيحة للنسبة التقريبية إلى ثلاثة أرقام عشرية، وحسن المغنطيس أو "الأداة التي تشير إلى الجنوب"، وقد وردت إشارة عنه غير واضحة قيل فيها إنه كان يجري التجارب على سفينة تتحرك بنفسها(68).
صفحة رقم : 1345
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأقصى -> الصين -> الشعب والدولة -> الحياة العملية -> المخترعات والعلوم

واخترع تشانج هنج آلة لتسجيل الزلازل (سيمسغرافا) في عام 132م . ولكن علم الطبيعة الصيني قد ضلت معظم أبحاثه في دياجير الفنج جوي السحرية واليانج والين من أبحاث ما وراء الطبيعة . وأكبر الظن أن علماء الرياضة الصينيين قد أخذوا الجبر عن علماء الهند، ولكنهم هم الذين أنشئوا علم الهندسة في بلادهم مدفوعين إلى هذا بحاجتهم إلى قياس الأرض(70). وكان في وسع الفلكيين في أيام كنفوشيوس أن يتنبئوا بالخسوف والكسوف تنبؤاً دقيقاً، وأن يضعوا أساس التقويم الصيني بتقسيم اليوم إلى اثنتي عشرة ساعة وتقسيم السنة إلى اثني عشر شهراً يبدأ كل منها بظهور الهلال، وكانوا يضيفون شهراً آخر في كل بضع سنين لكي يتفق التقويم القمري مع الفصول الشمسية(71). وكانت حياة الصينيين على الأرض تتفق والحياة في السماء؛ وكانت أعياد السنة تحددها منازل الشمس والقمر، بل إن نظام المجتمع من الناحية الأخلاقية كان يقوم على منازل الكواكب السيارة والنجوم.
وكان الطب في الصين خليطاً من الحكمة التجريبية والخرافات الشعبية. وكانت بدايته فيما قبل التاريخ المدون، ونبغ فيه أطباء عظماء قبل عهد أبقراط بزمن طويل، وكانت الدولة من أيام أسرة جو تعقد امتحانا سنوياً للذين يريدون الاشتغال بالمهن الطبية، وتحدد مرتبات الناجحين منهم في الامتحان حسب ما يظهرون من جدارة في الاختبارات. وقد أمر حاكم صيني في القرن الرابع
صفحة رقم : 1346
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأقصى -> الصين -> الشعب والدولة -> الحياة العملية -> المخترعات والعلوم

قبل المسيح أن تشرح جثث أربعين من المجرمين المحكوم عليهم بإعدامهم، وأن تدرس أجسامهم دراسة تشريحية، ولكن نتائج هذا التشريح وهذه الدراسة قد ضاعت وسط النقاش النظري، ولم تستمر عمليات التشريح فيما بعد. وكتب جانج جونج- تنج في القرن الثاني عدة رسائل في التغذية والحميات ظلت هي النصوص المعمول بها مدى ألف عام، وكتب هوا- دو في القرن الثالث كتاباً في الجراحة، وأشاع العمليات الجراحية باختراع نبيذ يخدر المريض تخديراً تاماً. ومن سخافات التاريخ أن ضاعت أوصاف هذا المخدر فيما بعد، ولم يعرف عنها شيء. وكتب وانج شو- هو في عام 300 بعد الميلاد رسالة ذائعة الصيت عن ضربات القلب(72).
وفي أوائل القرن السادس كتب داو هونج- جنج وصفاً شاملاً لسبعمائة وثلاثين عقاراً مما كان يستخدم في الأدوية الصينية، وبعد مائة عام من ذلك الوقت كتب جاو يوان- فانج كتاباً قيماً في أمراض النساء والأطفال ظل من المراجع الهامة زمناً طويلاً. وكثرت دوائر المعارف الطبية في أيام أباطرة أسرة تانج كما كثرت الرسائل الطبية المتخصصة التي تبحث كل منها في موضوع واحد في عهد الملوك من أسرة سونج(73). وأنشئت في أيام هذه الأسرة كلية طبية؛ وإن ظل طريق التعليم الطبي هو التمرين والممارسة. وكانت العقاقير الطبية كثيرة متنوعة حتى لقد كان أحد مخازن الأدوية منذ ثلاثمائة عام يبيع منها بنحو ألف ريال في اليوم الواحد(74). وكان الأطباء يطنبون ويتحذلقون في تشخيص الأمراض، فقد وصفوا من الحميات مثلاً ألف نوع، وميزوا من أنواع النبض أربعاً وعشرين حالة. واستخدموا اللقاح في معالجة الجدري، وإن كانوا لم يستخدموا التطعيم للوقاية منه، ولعلهم قد أخذوا هذا عن الهند، ووصفوا الزئبق للعلاج من الزهري. ويلوح أن هذا المرض الأخير قد ظهر في الصين في أواخر أيام أسرة منج وأنه انتشر انتشاراً مروعاً بين الأهلين، وأنه بعد زواله قد خلف
صفحة رقم : 1347

قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأقصى -> الصين -> الشعب والدولة -> الحياة العملية -> المخترعات والعلوم

وراءه حصانة نسبية تقيهم أشد عواقبه خطورة. غير أن الإجراءات الصحية العامة والأدوية الواقية، والقوانين الصحية لم تتقدم تقدماً يذكر في بلاد الصين؛ كما كان نظام المجاري والمصارف نظاماً بدائياً إذا كان قد وضع لهما نظام على الإطلاق(75). وقد عجزت بعض المدن عن حل أول الواجبات المفروضة على كل مجتمع منظم- ضمان ماء الشرب النقي والتخلص من الفضلات.
وكان الصابون من مواد الترف التي لا يحصل عليها إلا الأثرياء الممتازون، وإن كان القمل وغيره من الحشرات كثير الانتشار. وقد اعتاد الصيني الساذج أن يهرش جسمه ويخدشه وهو مطمئن هادئ هدوء الكنفوشيين. ولم يتقدم علم الطب تقدماً يستحق الذكر من أيام شي هوانج- دي إلى أيام الملكة الوالدة. ولعل في وسعنا أن نقول هذا القول بعينه من علم الطب في أوربا من عهد أبقراط إلى عهد باستير. وغزا الطب الأوربي بلاد الصين في صحبة المسيحية ولكن المرضى الصينيين من الطبقات الدنيا ظلوا إلى أيامنا هذه يقصرون الانتفاع به على الجراحة. أما فيما عداها فهم يفضلون أطباءهم وأعشابهم القديمة على الأطباء الأوربيين والعقاقير الأوربية.

صفحة رقم : 1348
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأقصى -> الصين -> الشعب والدولة -> دين بلا كنيسة

الفصل الرابع
دين بلا كنيسة
الخرافات والتشكك - عبادة الطبيعة - عبادة السماء - عبادة
الأسلاف - الكنفوشية - الدوية - إكسير الخلود - البوذية - التسامح
الديني والتصوف - الإسلام - المسيحية - وأسباب إخفاقها في الصين

لم يقم المجتمع الصيني على العلم بل قام على خليط فذ عجيب من الدين والأخلاق والفلسفة. ولم يشهد التاريخ شعباً من الشعوب أشد من الشعب الصيني استمساكاً بالخرافات، أو أكثر منه تشككاً أو أعظم منه تُقى، أو أكثر انصياعاً لحكم العقل أو أقوى منه دنيوية. ولم توجد على ظهر الأرض أمة تماثل الأمة الصينية في التحرر من سيطرة الكهنة، ولم يسعد قوم غير الهنود بآلهتهم أو يشقوا بها بمثل ما سعد بهم الصينيون أو شقوا. ولسنا نستطيع أن نفسر هذه المتناقضات إلا بأن نعزو لفلاسفة الصين نفوذاً لا نظير له في التاريخ، وأن نقر بما في فقر الصين من معين للأماني الخالية لا ينضب.
ولم يكن دين سكان الصين البدائيين يختلف بوجه عام عن دين عبدة الطبيعة، وأهم عناصره الخوف من الطبيعة وعبادة الأرواح الكامنة في جميع نواحيها، وإجلال شعري لما على الأرض من صور رهيبة وما فيها من قدرة عظيمة على الإنتاج والتوالد، وخشية السماء وعبادتها وإجلال ما فيها من شمس منعشة وأمطار خصبة كانوا يعدونهما عنصراً من عناصر الوئام والارتباط بين ما على الأرض من حياة وما في السماء من قوى خفية، فكانوا يعبدون الريح والرعد والأشجار والجبال والأفاعي؛ ولكن أعظم أعيادهم كانت تقام لمعجزة النماء، وكان
صفحة رقم : 1349
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأقصى -> الصين -> الشعب والدولة -> دين بلا كنيسة

الشبان والفتيات في أيام الربيع يرقصون ويتضاجعون في الحقول ليضربوا المثل لأمهم الأرض في الإخصاب والإنتاج. ولم يكن ثمة فرق كبير بين الملك والكاهن في تلك الأيام، وكان ملوك الصين الأولون كما ورد في أقوال المؤرخين الذين أطنبوا فيما بعد في وصفهم كهاناً سياسيين لا يقدمون على عمل من أعمال البطولة إلا بعد أن يمهدوا له بالأدعية والصلوات ويستعينوا عليه الآلهة(76).

وكانت الأرض والسماء في هذا الدين البدائي مرتبطتين إحداهما بالأخرى، لأنهما شطران من وحدة كونية عظيمة، وكانت صلة إحداهما بالأخرى أشبه ما تكون بصلة الرجل والمرأة وصلة السيد بالتابع واليانج بالين. وكان نظام السموات ومسلك الآدميين الخلقي عمليتين متقاربتين متشابهتين لأنهما شطران من نظام عالمي لا غنى عنه يسمى دو- أي الطريقة السماوية؛ وليست الأخلاق الطيبة في اعتقادهم إلا نتيجة للتعاون القائم بين أجزاء هذا الكل شأنها في هذا شأن القوانين التي تسير نجوم السماء.
وكان الإله الأكبر هو هذه السماء العظمى نفسها، هذا النظام الأخلاقي، هذا الترتيب القدسي، الذي يشمل بين طياته الناس والجماد ويحدد العلاقات الحقة بين الأطفال وآبائهم والزوجات وأزواجهن، وبين الأتباع وسادتهم، والسادة والإمبراطور، والإمبراطور والإله. لقد كان هذا تفكيراً عجيباً ولكنه تفكير نبيل يتأرجح بين التجسيد الشخصي حين يصلي الشعب لتين- للسماء المعبودة- والتجريد حين يتحدث الفلاسفة عن جماع تلك القوى- الشديدة البعد عن قوة البشر فرادى أو مجتمعين- التي تسيطر على السموات والأرضين والأناسي. ولما تقدمت دراسة الفلسفة أضحت فكرة "السماء" الشيئية مقصورة على عامة الشعب، أما فكرتها المجردة غير الشيئية فأضحت عقيدة الطبقات المتعلمة ودين الدولة الرسمي(77).
صفحة رقم : 1350
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأقصى -> الصين -> الشعب والدولة -> دين بلا كنيسة

ومن هاتين البدايتين نشأ العنصران اللذان يتألف منهما دين الصين القومي وهما: عبادة الأسلاف المنتشرة بين جميع طبقات الأمة وعبادة السماء وعظماء الرجال التي تدعو إليها الكنفوشية. وكان الصينيون يقربون في كل يوم قرباناً متواضعاً- ويكون في العادة شيئاً من الطعام- للموتى، ويرسلون الدعوات الصالحات إلى أرواحهم؛ ذلك أن الزارع أو العامل الساذج كان يعتقد أن آباءه أو أسلافه يعيشون بعد موتهم في مملكة غير محددة أو واضحة له، وأن في مقدورهم أن يسعدوه أو يشقوه. وكان الصيني المتعلم يقرب لأسلافه مثل هذا القربان، ولكنه لم يكن ينظر إلى المراسم التي تصحبه على أنها عبادة بل كان ينظر إليها على أنها نوع من إحياء ذكراهم. ولقد كان من الخير لأرواح الموتى وللشعب الصيني بوجه عام أن يعظم هؤلاء الأموات، وأن تخلد ذكراهم لأن في تخليدها تعظيماً للطرق القديمة التي كانوا يسيرون عليها وسداً لطريق البدع وإقرارا للسلام في أنحاء الإمبراطورية. وما من شك في أن هذا الدين كان يسبب للصينيين بعض المتاعب والمضايقات؛ من ذلك أنه ملأ البلاد بما لا يحصى من القبور الضخمة التي لا يمكن انتهاك حرمتها، فعاقت هذه القبور إنشاء الطرق الحديدية وفلح الأرض للزراعة؛ ولكن هذه الصعاب كانت في نظر الفيلسوف الصيني صعاباً تافهة لا يقام لها وزن أمام ما تسديه عبادة الأسلاف إلى المدنية الصينية من استقرار سياسي واطراد روحي. ذلك أن هذا النظام المتغلغل في كيان الأمة الصينية قد أفضى عليها وحدة روحية زمانية رغم ما فيها من عوامل التفرق والانفصال التي تحول دون وحدتها المكانية وأهمها المسافات الشاسعة، ومن فقرها في وسائل النقل وسبل الاتصال. وبفضل هذه الوحدة الروحية ارتبطت الأجيال بعضها ببعض برباط قوي من وحدة التقاليد، وبذلك كان للحياة الفردية نصيب مشرف موفور وخطر عظيم في هذه العظمة التي لا يحدها وقت وفي ذلك المجال الممتد على مدى الزمان.
صفحة رقم : 1351

قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأقصى -> الصين -> الشعب والدولة -> دين بلا كنيسة

ومن عجب أن الدين الذي اعتنقه العلماء واتبعته الدولة قد وسع دائرة هذه العقائد الشعبية وضيق نطاقها في آن واحد؛ ذلك أن إجلال الناس لكنفوشيوس قد أخذ يعظم جيلاً بعد جيل حتى أصبح بفضل ما كان يصدره الأباطرة من مراسيم في المكانة الثانية بعد السماء نفسها. فكانت كل مدرسة تكرمه بوضع لوحة تذكارية وكل مدينة تكرمه ببناء هيكل فيها، وكان كبار الموظفين يحرقون البخور أو يقربون القرابين من حين إلى حين تكريماً لروحه أو إحياء لذكراه، ويعدون هذه الذكرى أعظم دافع لفعل الخير بين جميع ذكريات الشعب الصيني التي يخطئها الحصر.
ولم تكن الطبقات الراقية المثقفة تعده إلهاً، بل كان كثير من الصينيين يعدّونه بديلاً من الإله؛ ولربما كان من بين من يحضرون الصلوات التي تقام تكريماً له لا أدريون أو كفرة ملحدون، ولكنهم- إذا ما عظموه وعظموا أسلافهم- كانوا يعدون في المجتمع الذي يعيشون فيه أتقياء متدينين. وكان من الأصول المقررة في الديانة الكنفوشية الاعتراف بالشانج- تي، أي القوة العليا المسيطرة على العالم، وكان الإمبراطور في كل عام يقرّب القربان باحتفال عظيم على مذبح السماء لهذا المعبود المجرد. وقد خلا هذا الدين الرسمي من كل إشارة للخلود(78)، فلم تكن السماء مكاناً بل كانت إرادة الله أو نظام العالم.
لكن هذا الدين البسيط الذي يكاد ينطبق على مقتضيات العقل لم يرض أهل الصين في وقت من الأوقات. ذلك بأن مبادئه لا تفسح المجال واسعاً أمام خيال الناس ولا تستجيب إلى آمالهم وأمانيهم ولا تشجع الخرافات التي تبعث البهجة في حياتهم اليومية. ولقد كان الناس في الصين كما كانوا في سائر بلاد العالم يجملون الحقائق الواقعية العادية بالخوارق الطبيعية الشعرية، وكانوا يحسون بأن آلافاً من الأرواح الطيبة والخبيثة ترفرف من حولهم في الهواء المحيط بهم وفي

صفحة رقم : 1352
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأقصى -> الصين -> الشعب والدولة -> دين بلا كنيسة

الأرض التي تحت أقدامهم، وكانوا يحرصون على أن يردوا عداوة هذه القوى الخفية أو يستعينوا بالأدعية وبالرقى السحرية. وكانوا يستأجرون المتنبئين ليكشفوا لهم عن مستقبلهم من سطور إلاي- جنج أو أصداف السلاحف أو حركات النجوم، ويستأجرون السحرة ليوجهوا منازلهم نحو الريح والماء والعرّافين ليستنزلوا لهم نور الشمس وماء الأمطار(79). وكانوا يعرضون للموت من يولد لهم من الأطفال في أيام "النحس"(80). وكانت البنات المتوقدات حماسة وغيرة يقتلن أنفسهن في بعض الأحيان ليجلبن الخير أو الشر لآبائهن(81). وكانت نفوس الصينيين عامة وفي الجنوب خاصة تنزع إلى التصوف وتشمئز من النزعة العقلية الجامدة التي تسود العقائد الكنفوشية وتتوق إلى عقيدة تجد فيها ما يجده غيرها من الأمم من سلوى دائمة تحيي موات النفوس.

ومن أجل هذا عمد بعض الفقهاء الشعبيين إلى عقيدة لو دزه الغامضة فصاغوها تدريجاً في دين جديد. لقد كانت الدوية في رأي الأستاذ القديم وفي رأي جوانج- دزه طريقة للحياة تهدف إلى الحصول على السلام الشخصي على ظهر الأرض؛ ويبدو أنهم لم يؤلهوا هذه الطريقة أو يتخذوها نوعاً من العبادة، كما أنهم لم ينظروا إليها على أنها ثمن يؤدونه في هذه الدار ليشتروا به الحياة في الدار الآخرة(82). فلما كان القرن الثاني بعد الميلاد عدلت هذه العقائد على يد رجال ادعوا أنهم قد وصل إليهم عن طريق لو- دزه نفسه إكسير يهب صاحبه الخلود. وكان هذا الإكسير في صورة شراب شاع بين الصينيين وأسرفوا فيه إسرافاً يقال إنه أودى بحياة عدد غير قليل من الأباطرة الصينيين لكثرة إدمانهم إياه(83). وأشد من هذا غرابة أن معلماً من رجال الدين في سشوان (حوالي عام 148 بعد الميلاد) كان يعرض على الناس أن يشفيهم من أمراضهم كلها بطلسم بسيط يعطيهم إياه في نظير حفنات من الأرز. وبدا لبعض الناس أنهم قد شفوا من أمراضهم بفضل هذه الأعمال السحرية، وقيل للذين لم يثمر فيهم العلاج إن
صفحة رقم : 1353
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأقصى -> الصين -> الشعب والدولة -> دين بلا كنيسة

إخفاقه كان نتيجة لضعف إيمانهم(84). وأقبل الناس على الدين الجديد زرافات ووحداناً، وشادوا له الهياكل وأغدقوا المال على كهنته بسخاء عظيم، ومزجوا به جزءاً من قصصه الشعبي الخرافي الذي لا ينضب له معين. واتخذ الناس لو دزه إلهاً يعبدوه، وقالوا إن أمه حملت فيه حملاً سماوياً، واعتقد المؤمنون الصالحون إنه وُلد كامل العقل طاعناً في السن لأنه أقام في بطن أمه ثمانين عاماً(85). ثم ملأوا الأرض بشياطين وآلهة جديدة، وكانوا يخيفون الأولى بصواريخ نارية تنفجر في أفنية الهياكل ويبتهج بانفجارها من يجتمع حولها من الناس، ويوقظون الثانية من سباتها بنواقيس ضخمة قوية الصوت لتستمع إلى دعوات عُبَّادها ومطالبهم الملحة.
وظلت العقائد الدوية ألف عام عقيدة الملايين من الصينيين، وآمن بها كثير من الأباطرة، وحاك أتباعها كثيراً من الدسائس، وكافحوا أشد الكفاح لينتزعوا من الكنفوشيين حقهم المقدس في فرض الضرائب وإنفاق حصيلتها. ثم قضى عليها آخر الأمر، ولكن الذي قضى عليها لم يكن منطق كنفوشيوس وأتباعه بل قضى عليها دين جديد أقدر منها هي نفسها على إلهام رجل الشارع وبعث السلوى في نفسه.
وهذا الدين الجديد هو البوذية، ولم تكن البوذية التي بدأت تنتقل من الهند إلى الصين في القرن الأول الميلادي هي العقيدة الجامدة المكتئبة التي نادى بها "المستنير" قبل دخولها إلى الصين بخمسمائة عام، ولم تكن عقيدة قائمة على الزهد والتقشف، بل كانت ديناً يدعو إلى الإيمان في غبطة وبهجة بآلهة تعين البشر على أعمالهم، وجنة ذات أزهار ورياض. واتخذت على توالي الأيام صورة المركبة الكبرى أو الماهيانا التي وفق فقهاء الكتشكا بينها وبين الحاجات العاطفية لسكان الصين السُذج؛ وغمرت الصين بآلهة جدد لا يفترقون كثيراً عن الآدميين أمثال أميتبها حاكم الجنة، وكوان- ين إله الرحمة وإلهتها فيما
صفحة رقم : 1354

قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأقصى -> الصين -> الشعب والدولة -> دين بلا كنيسة

بعد، وأضافت إلى مجمع آلهة الصين عدداً من اللوهان والأرباط- وهم ثمانية عشر من أتباع بوذا الأولين- المتأهبين في كل حين لأن يهبوا الناس بعض ما لهم من فضائل لكي يساعدوا بني الإنسان الحيارى المعذبين.
ولما ألفت الصين نفسها بعد سقوط أسرة هان مقطعة الأوصال من جراء ما سادها من فوضى سياسية، وخيل إلى أهلها أن حياتها نفسها قد قضى عليها اضطراب حبل الأمن وتوالي الحروب، ولت الأمة المعذبة وجهها شطر البوذية كما ولَّى العالم الروماني وجهه في ذلك الوقت نفسه شطر المسيحية. وفتحت الدوية ذراعيها لاحتضان الدين الجديد وامتزجت به على مر الزمان في نفوس الصينيين امتزاجاً تاماً؛ وأخذ الأباطرة يضطهدون البوذية والفلاسفة يشكون مما فيها من خرافات، وأخذ الساسة يأسفون لأن طائفة من خير أبناء الصين قد انزوت في الأديرة وعقمت فأضحت لا تفيد منها البلاد شيئاً. لكن الحكومة وجدت آخر الأمر أن الدين أقوى من الدولة؛ فتصالح الأباطرة مع الآلهة الجدد؛ وأجيز للكهنة أن يجمعوا الزكاة ويشيدوا الهياكل، ورضيت طبقتا الموظفين والعلماء على الرغم منهما أن تبقى الكنفوشية ديناً أرستقراطياً لها. واستولى الدين الجديد على كثير من المزارات القديمة وأقام رهبانه وهياكله إلى جانب رهبان الدوية وهياكلها على تاي- شان جبلها المقدس، وحث الناس على أن يحجوا إلى هذه الهياكل مراراً كثيرة إظهاراً لورعهم وتقواهم، وكان له أثر عظيم في ازدهار فنون التصوير والنحت والعمارة والآداب وتقدم الطباعة ورقي كثير من طباع الصينيين، ثم اضمحل كما اضمحلت الدوية، فدب الفساد في نفوس كهنة الديانة الجديدة وتغلغل في عقائدها على مر الأيام كثير من الأرباب المشئومين والخرافات الشعبية المؤذية، وقضى على ما كان لها من سلطان سياسي- لم يكن كبيراً في يوم من الأيام- نهضةُ الكنفوشية على يد جوشي.

والآن قد هجرت هياكلها ونضب معين مواردها وأضحت وليس لها عُبّاد إلا كهنتها الفقراء المعدمون(86).
صفحة رقم : 1355
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأقصى -> الصين -> الشعب والدولة -> دين بلا كنيسة

بيد أنها مع ذلك قد نفذت إلى قرار النفس الصينية، ولا تزال حتى الآن عنصراً هاماً من العناصر المعقدة غير الرسمية في دين الصيني الساذج. ذلك أن الأديان في الصين ليست محدودة مانعة كما هي في أوربا وأمريكا، ولم تدفع البلاد في يوم من الأيام إلى الحروب الدينية. فأنصار كل دين في تلك البلاد متسامحون عادة مع أهل كل دين آخر، وليس هذا التسامح مقصوراً على شئون الدولة السياسية بل تراه أيضا في العقائد نفسها؛ فالصيني العادي من عبدة مظاهر الطبيعة ودوِّيّ وبوذي وكنفوشي في وقت وواحد. ذلك أنه فيلسوف متواضع، يعرف ألا شيء في هذا العالم محقق مؤكد، ويقول في نفسه لعل رجال الدين على حق ولعل هناك جنة كما يقولون، وخير ما يفعله الإنسان أن يتقبل كل هذه العقائد؛ ويستأجر كثيراً من الكهنة من ديانات مختلفة ليتلوا الصلوات على قبره. على أن المواطن الصيني لا يعبأ كثيراً بالآلهة ما دام الحظ يبسم له؛ فهو يعظم أسلافه ولكنه يترك هياكل الدوية والبوذية في رعاية الكهنة وعدد قليل من النساء.
ولم يعرف التاريخ نفساً أشد دنيوية من نفسه، فأكبر ما يهتم به الصيني أن يعيش بخير في هذه الحياة الدنيا، وإذا صلى فإنه لا يطلب في صلاته أن ينال نعيم الجنة بل يطلب الخير لنفسه في هذا العالم الأرضي(87). وإذا لم يستجب إلهه لدعائه فقد يطلق فيه لسانه بالسباب ثم يقذفه آخر الأمر في النهر. ومن الأمثال الصينية المأثورة: "ليس من صانعي التماثيل والصور من يعبد الآلهة، فهم يعرفون من أية مادة تصنع(88)".

ومن أجل هذا لم يقبل الصيني العادي بحماسة على الإسلام أو المسيحية؛ فذانك الدينان يمنيانه بجنة قد وعدته إياها البوذية من قبلهما؛ ولكن الذي يريده بحق هو دين يضمن له السعادة في هذه الأرض. وإذا قيل إن في الصين مسلمين فجوابنا أن معظم الخمسة عشر مليوناً من المسلمين في الصين ليسوا في
صفحة رقم : 1356
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأقصى -> الصين -> الشعب والدولة -> دين بلا كنيسة

الحقيقة صينيين، بل هم من أصول أجنبية أو أبناء أجانب(89). وقد دخلت المسيحية الصين على يد النساطرة، وكان ذلك حوالي عام 636م. وأظهر الإمبراطور ناي دزونج شيئاً من العطف عليها، وحمى الداعين لها من الاضطهاد، وبلغ من اغتباط نساطرة الصين بهذا التسامح أن أقاموا في عام 781م نصباً تذكارياً سجلوا عليه تقديرهم لهذا المتسامح المستنير، ورجاءهم أن تعم المسيحية في القريب العاجل جميع أنحاء البلاد(90).
ومن ذلك الحين ظل المبشرون اليسوعيون ذوو الغيرة الدينية والعلم الغزير، وظل المبشرون البروتستنت تؤيدهم الأموال الأمريكية التي لا ينضب لها معين، ظل هؤلاء وأولئك يبذلون أقصى جهودهم ليحققوا آمال النساطرة. فماذا كانت النتيجة ؟ إن عدد المسيحيين في الصين في هذه الأيام لا يتجاوز ثلاثة ملايين أي أن واحداً في المائة من سكان الصين قد اعتنقوا المسيحية في ألف عام كاملة .

صفحة رقم : 1357
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأقصى -> الصين -> الشعب والدولة -> حكم الأخلاق

الفصل الخامس
حكم الأخلاق
ما للأخلاق من مكانة سامية في المجتمع الصيني - الأسرة - الأطفال-
العفة - الدعارة - العلاقات الجنسية قبل الزواج - الزواج والحب-
الاقتصار على زوجة واحدة وتعدد الزوجات - التسري - الطلاق-
إمبراطورة صينية - الحكم الأبوي للذكور - خضوع النساء للرجال - الخلق الصيني

لقد تغلبت الكنفوشية وعبادة الأسلاف على كثير من الديانات المنافسة لها، وقاومتا هجمات كثير من أعدائهما، وخرجتا ظافرتين من صراع دام عشرين قرناً، لأن الصينيين يشعرون بأنهما لا غنى عنهما للاحتفاظ بالتقاليد القوية السامية التي أقامت الصين عليها حياتها. وكما كانت هاتان الديانتان هما الضمانتين الدينيتين لهذه الحياة، فكذلك كانت الأسرة هي الوسيلة الكبرى لدوام هذا التراث الأخلاقي. فقد ظل الأبناء يتوارثون عن الآباء قانون البلاد الأخلاقي جيلا بعد جيل حتى أصبح هذا القانون هو الحكومة الخفية للمجتمع الصيني من أن يحتفظ بنظامه رغم ما انتاب الدولة غير المستقرة من نوائب وما احتاجها من أعاصير سياسية. وفي ذلك يقول فلتير: "إن خير ما يعرفه الصينيون، وأكثر ما يغرسونه في نفوس أبنائهم، وما بلغوا به ذروة الكمال، هو قانونهم الأخلاقي"(92) ويقول كنفوشيوس في هذا المعنى نفسه: "إذا قام البيت على أساس سليم أمن العالم وسلم"(93).
وكان الصينيون يفترضون أن الغرض الذي يهدف إليه القانون الأخلاقي هو أن يحول فوضى العلاقات الجنسية إلى نظام ثابت مقرر يهدف إلى تنشئة الأبناء. فالطفل هو علة وجود الأسرة، ويرى الصينيون أن أطفال الأسرة مهما كثروا
صفحة رقم : 1358
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأقصى -> الصين -> الشعب والدولة -> حكم الأخلاق

لا يمكن أن يزيدوا على الحد الواجب المعقول: ذلك أن الأمة معرضة على الدوام لهجمات الغزاة فهي في حاجة إلى من يحميها، وإن الأرض خصبة غنية يجد ملايين الناس فيها كفايتهم؛ وإذا فرض أن اشتد تنازع البقاء بين الناس في الأسر الكبيرة والبيئات المزدحمة فإن هذا التنازع نفسه سيقضي على أضعفهم ويحتفظ بأقدرهم على الحياة، فيتضاعف عددهم ليكونوا دعامة قوية للأمة ومصدرا لعزة آبائهم وكرامتهم، يرعون قبور أسلافهم الرعاية الدينية الواجبة. ولقد صاغت عبادة الأسلاف من الأجيال المتعاقبة سلسلة قوية لا آخر لها كثيرة الحلقات تربط الأجيال بعضها ببعض وتضاعف قوتها. فكان على الزوج أن يلد أبناء ليقربوا له القربان بعد وفاته وليواظبوا في الوقت نفسه على تقريب القربان لأسلافه. وفي ذلك يقول منشيس: "ثلاثة أشياء لا يليق صدورها من الأبناء، وشرها كلها ألا يكون لهم أبناء"(94).

وكان الآباء يدعون في صلواتهم أن يرزقوا أبناء؛ وكان من أشد أسباب المذلة الدائمة للأمهات ألا يكون لهن أبناء ذكور لأن هؤلاء أقدر من البنات على العمل في الحقول وأثبت منهن جنانا في ميدان القتال؛ وكان من الشرائع المتبعة في البلاد- ولعل هذا الاعتقاد قد روعي في وضعها- ألا يسمح لغير الذكور بتقريب القربان إلى الآباء والأسلاف. وكانت البنات تعد عبئا على الآباء لأنهم يربونهن ويصبرون على تربيتهن ولا ينالهم من ذلك إلا أن يبعثوا بهن متى كبرن إلى بيوت أزواجهن ليعملن فيها ويلدن أبناء يكدون لأسر غير أسرهم. وإذا ولد للأسرة بنات أكثر من حاجتها وصادفت الأسرة الصعاب في إعالتهن تركتهن في الحقول ليقضي عليهن صقيع الليل أو الحيوانات الضارية(95) دون أن تشعر بشيء من وخز الضمير. وكان من بقي على قيد الحياة من الأبناء والبنات بعد أخطار الطفولة وأمراضها ينشئون بحنان عظيم؛ وكانت القدوة الحسنة تحل في تربيتهم محل الضرب واللكم، وكان الأقارب يتبادلون الأبناء في بعض الأحيان حتى لا يتلفهم
صفحة رقم : 1359
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأقصى -> الصين -> الشعب والدولة -> حكم الأخلاق

حب الآباء وحنانهم(96). وكان الأطفال يتركون في المنزل في الجناح الخاص بالنساء، وقلما كانوا يختلطون بالكبار من الذكور حتى يبلغوا السابعة من العمر، وبعدها يرسل الأولاد إلى المدارس إذا كانت موارد الأسرة تكفي لتعليمهم ويفصلون عن البنات فصلا تاما، حتى إذا بلغوا العاشرة لم يسمح لهم بأن يختاروا لهم رفقاء من غير الرجال والمحاظي. ولكن انتشار اللواط جعل هذا الاختيار صوريا(97).

وكانت العفة تعد من الفضائل السامية، وكان الآباء يحرصون عليها أشد الحرص في بناتهم، وقد نجحوا في غرس هذه الفضيلة في البنات نجاحا منقطع النظير، يدل عليه أن البنات الصينيات كن في بعض الأحيان يقتلن أنفسهن إذا اعتقدن أن شرفهن قد تلوث بأن مسهن رجل مصادفة(98). غير أنهم لم يبذلوا أي مجهود يرمى إلى أن يحتفظ غير المتزوج بعفته، بل كان يعد من الأمور العادية المشروعة أن يتردد على المواخير، وكان الزنا عند الرجال من الشهوات المألوفة الواسعة الانتشار، يستمتع به الرجل كما يشتهي من غير أن يناله من ورائه أي عار إلا ما ينال المفرط في أية عادة من العادات .
وكان إعداد النساء لإشباع هذه الشهوات من النظم المقررة في الصين من زمن بعيد. من ذلك أن الوزير الشهير جوان جونج وزير ولاية تشي أعد مقرا للقوادات تؤخذ فيه من التجار القادمين من الولايات الأخرى مكاسبهم قبل أن يعودوا إلى أوطانهم(101).
ويقول ماركو بولو أنه شاهد في عاصمة كوبلاي خان من العاهرات ما لا يحصى عددهم وما لا يتصور العقل جمالهن. وهؤلاء البغايا مرخص لهن
صفحة رقم : 1360
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأقصى -> الصين -> الشعب والدولة -> حكم الأخلاق

بمزاولة مهنتهن، وتنظم الدولة أمورهن وتراقبهن من الوجهة الطبية، وتقدم أجملهن دون أجر إلى أعضاء السفارات الأجنبية(202).
ونشأت فيما بعد طائفة خاصة من الفاتنان يعرفن "بالبنات المغنيات" مهنتهن أن يتحدثن حديثا مهذبا مثقفا إلى الشبان إذا أرادوا أو يستخدموهن في بيوت الأزواج لتسلية الضيوف. وكثيرا ما تكون هؤلاء الفتيات من البارعات في الأدب والفلسفة وممن يجدن الموسيقى والرقص(103).

وقد كان الرجال يستمتعون بحرية واسعة في صلاتهم بالنساء قبل الزواج، كما كانت صلات النساء المحترمات بالرجال قبل زواجهن مقيدة بأشد القيود، وكان من نتائج هذه الحرية الواسعة من جهة وهذا التقييد الشديد من جهة أخرى أن الفرصة لم تتح كثيرا لنشأة الحب العاطفي السامي. على أنه قد ظهرت كتابات تصف هذا الحب العاطفي في عهد أسرة تانج؛ وفي وسعنا أن نرى شواهد دالة على وجود هذه العاطفة منذ القرن السادس قبل الميلاد في قصة واي شنج. فقد تواعد هو وفتاة أن يلتقيا تحت قنطرة، وظل هو ينتظرها هناك بلا جدوى وإن كان الماء قد علا فوق رأسه وأغرقه(104). وما من شك في أن واي شنج كان أعرف بحقائق الأمور مما يبدو في هذه القصة، ولكن الشاعر الذي نظمها يظن هو وأمثاله من الشعراء أنه قد لا يعرف، وفي هذا الظن ما فيه من الدلالة.وقصارى القول أن الحب بوصفه عاطفة رقيقة وهياما بالمحبوب وتعلقا به كان بين الرجال بعضهم بعضا أقوى منه بين الرجال والنساء؛ والصينيون في هذا أشبه الناس باليونان(105).
ولم يكن للزواج صلة كبيرة بالحب. ولما كان الغرض من الزواج هو ربط زوجين أصحاء بعضهما ببعض لكي تنشأ من ارتباطهما أسرة كبيرة، فإن هذه الرابطة لم يكن يصح في اعتقاد الصينيين أن تترك لحكم العواطف القائم على غير أساس من العقل. ومن أجل هذا كان الآباء يحرصون على فصل الذكور عن
صفحة رقم : 1361
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأقصى -> الصين -> الشعب والدولة -> حكم الأخلاق

الإناث حتى يبحثوا هو عن زوجات لأبنائهم أو أزواج لبناتهم. وكانوا يعدون امتناع الرجل عن الزواج عيبا خلقيا، كما كانت العزوبة جريمة في حق الأسلاف وفي حق الدولة وفي حق الجنس لا تغتفر حتى لرجال الدين، وكان الصينيون في أيامهم الأولى يعينون موظفا خاصا عمله أن يتأكد من أن كل إنسان في الثلاثين من عمره متزوج وأن كل امرأة قد تزوجت قبل العشرين(106). وكان الآباء ينظمون خطبة أبنائهم وبناتهم بمعونة وسطاء محترفين (ماي- رن = وسطاء)، وكانوا يفعلون هذا عقب بلوغهم الحُلُم وقبله أحيانا وقبل أن يولدوا في بعض الأحيان(107). وكان ثمة قيود تفرض على الزواج بين الأقارب وأخرى على الزواج من غير الأقارب تحد من هذا الاختيار، منها: أن الزوج يجب أن يكون من أسرة معروفة من زمن بعيد للأب الذي يبحث عن زوجة لابنه ولكنها بعيدة النسب عنه بعدا يجعلها خارج دائرة عشيرته. وهذا القول نفسه يصدق على الزوجة. وكانت طريقة الخطبة أن يرسل والد الخطيب هدية قيمة إلى والد الفتاة، ولكن الفتاة كان ينتظر منها هي الأخرى أن تأتي ببائنة قيمة إلى زوجها تكون في الغالب على شكل متاع أو بضاعة، كما كانت الأسرتان تتبادلان في العادة كثيرا من الهدايا ذات الشأن وقت الزواج. وكانت البنت تظل في عزلة شديدة عن خطيبها حتى تزف إليه، فلم يكن زوجها المرتقب يستطيع رؤيتها إلا إذا احتال على ذلك احتيالا- ولقد كان الاحتيال مستطاعا في بعض الأحيان -، ولكنه في كثير من الحالات كان يراها أول مرة حين يرفع النقاب عن وجهها في حفلة الزفاف. وكانت هذه الحفلة من الطقوس الرمزية المعقدة، أهم ما فيها أن يحتسي العريس من الخمر ما يكفي لأن يزيل ما عساه أن ينتابه من حياء يعد في عرف الصينيين جريمة لا تغتفر(108). أما البنت فكانت تتدرب على أن تكون حيّة ومطيعة في وقت واحد. وكانت الزوجة تعيش بعد الزواج مع زوجها في بيت أبيه أو بالقرب منه، حيث تكدح كدحا في خدمة زوجها وأمه حتى

صفحة رقم : 1362
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأقصى -> الصين -> الشعب والدولة -> حكم الأخلاق

يحين الوقت الذي يحررها فيه الموت من هذا الاسترقاق، ويتركها على استعداد لأن تفرضه هي نفسها على زوجات أبنائها.
وكان الفقراء يكتفون بزوجة واحدة، ولكن حرص الصينيين على إنجاب أبناء أقوياء كان من القوة بحيث يجعلهم يسمحون عادة للقادرين منهم بأن يتخذوا لهم سراري أو "زوجات من الدرجة الثانية". أما تعدد الزوجات فكان في نظرهم وسيلة لتحسين النسل؛ وحجتهم في هذا أن من يستطيعون القيام بنفقاته منهم هم في العادة أكثر أهل العشيرة قدرة على إنجاب الأبناء. وكانت الزوجة الأولى إذا ظلت عاقرا تحث زوجها على أن يتخذ له زوجة ثانية؛ وكثيرا ما كانت هي نفسها تتبنى ابن إحدى المحاظي. وكثيرا ما كان يحدث أن الزوجات اللاتي يرغبن في أن يحتفظن بأزواجهن داخل بيوتهن يطلبن إليهم أن يتزوجوا بالمحاظي اللاتي يؤثرونهن بالعناية وبالصلات الجنسية، وأن يأتوا بهن إلى منازلهم ويتخذونهم فيها زوجات من الدرجة الثانية(109).
ومن أجل ذلك نرى القصص والأخبار الصينية تثنى على زوجة الإمبراطور جوانج- تشو أطيب الثناء لأنها قالت: "لم أكف قط عن إرسال الرسل إلى المدن المجاورة للبحث عن النساء الجميلات لأجعلهن خليلات لمولاي"(110). وكانت الأسر ينافس بعضها بعضا في أن ينلن شرف الحظوة بإرسال إحدى بناتها إلى حريم الإمبراطور. وكان من حق الإمبراطور أن يتخذ له ثلاثة آلاف من الخصيان ليحرسوا له حريمه وليعنوا ببعض الشؤون الأخرى في بلاطه، وكان هؤلاء الخصيان يخصيهم آباؤهم في سن الثامنة ليضمنوا لهم الحصول على رزقهم(111).
ولم تكن الزوجات الثانيات في جنة الذكور هذه يفترقن كثيرا عن الإماء، كما لم تكن الزوجات الأوليات إلا رئيسات هيئة لإنتاج الأبناء والبنات، تعتمد مكانتهن في الأسرة اعتمادا يكاد يكون تاما على عدد من يلدن من الأبناء وعلى
صفحة رقم : 1363

قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأقصى -> الصين -> الشعب والدولة -> حكم الأخلاق

جنسهن. ولما كانت الزوجة قد نشئت على الرضا بسيادة زوجها عليها فقد كان في وسعها أن تنعم بقسط متواضع من السعادة بالاندماج ببطء ويسر في النظام الرتيب الذي هيئت له والذي ينتظره الناس كلهم منها. وإذ كانت النفس البشرية كما نعلم جميعا سريعة القبول لما تنشا عليه فإن الرجل والمرأة المرتبطين برباط الزوجية في تلك البلاد كانا يعيشان كما يبدو لنا عيشة راضية سعيدة لا تقل في ذلك عن عيشة الزواج التي تعقب الحب الروائي في البلاد الغربية. وكان في وسع الرجل أن يطلق الزوجة لأي سبب كان، لعقمها أو لثرثرتها(112)، ولم يكن من حقها هي أن تطلق زوجها، بل كان لها أن تغادر داره وتعود إلى دار أبويها وإن كان هذا لا يحدث إلا في القليل النادر. على أن الطلاق كان مع ذلك قليلا، ويرجع بعض السبب في هذا إلى ما كان ينتظر المطلقة من مصير أسوأ من أن تستطيع التفكير فيه، وبعضها إلا أن الصينيين فلاسفة بطبيعتهم يرون الألم أمرا طبيعيا وإنه من مقتضيات النظام العام.

وأكبر الظن أن الأم قبل أيام كنفوشيوس كانت محور الأسرة لأنها مصدر وجودها وسلطانها. وكان الناس في أول عهودهم كما سبق القول "يعرفون أمهاتهم ولا يعرفون آباءهم"، ولا يزال اللفظ الدال على اسم أسرة الرجل مكونا من الأصل الذي اشتق منه لفظ "امرأة"(113)، واللفظ الصيني المقابل لكلمة الزوجة معناه "المساوي"، وكانت الزوجة تحتفظ باسمها بعد زواجها. وكانت النساء حتى القرن الثالث بعد الميلاد يشغلن في البلاد مناصب إدارية وتنفيذية رفيعة، وقد وصل بعضهن إلى أن يكن حاكمات للبلاد(114)؛ ولم تكن "الإمبراطورة الأم" حين قبضت بيدها على شئون الدولة إلا متتبعة لخطى الإمبراطورة "لو" التي حكمت الصين حكما صارما دام من عام 195 إلى عام 180 ق.م. وكانت "لو" قاسية لا تلين قناتها، قتلت منافسيها وأعداءها أو قضت عليهم بالسم، وكانت تغتبط بتقتيلهم وتسميمهم اغتباط آل ميديشي، وكانت تختار الملوك وتخلعهم عن
صفحة رقم : 1364
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأقصى -> الصين -> الشعب والدولة -> حكم الأخلاق

عرشهم وتصلم آذان محظيات زوجها وتفقأ عيونهن ثم تلقيهن في المراحيض(115). وكان التعليم منتشرا بين نساء الطبقات العليا في الأيام القديمة وإن كان عدد من يعرفون القراءة والكتابة من الصينيين في أيام المنشو لا يكاد يبلغ واحدا في كل عشرة آلاف. وكان كثيرات من النساء يقرضن الشعر، ولقد أتمت بان جاو أخت المؤرخ بان كو الموهوبة (حوالي عام 100م) تاريخه بعد وفاته ونالت حظوة كبيرة عند الإمبراطور(117).

ولعل قيام نظام الإقطاع في الصين قد قلل من منزلة المرأة السياسية والاقتصادية في تلك البلاد، وجاء معه بنمط صارم من الأسرة الأبوية. ذلك أن الأبناء الذكور هم وزوجاتهم وأطفالهم كانوا يعيشون في العادة مع أكبر رجال الأسرة. ومع أن الأسرة كلها كانت تمتلك أرضها امتلاكا مشتركا فإنها كانت تعترف للأب بالسلطان الكامل على الأسرة وعلى أملاكها. فلما أن حل عهد كنفوشيوس كان سلطان الأب يكاد أن يكون سلطانا مطلقا في جميع الأمور، فكان في وسعه أن يبيع زوجته وأبناءه ليكونوا عبيدا، وإن لم يفعل هذا إلا إذا ألجأته إليه الضرورة القصوى؛ وكان يستطيع إذا شاء أن يقتل أبناءه لا يحول بينه وبين هذا إلا حكم الرأي العام(118).وكان يتناول طعامه بمفرده لا يدعو زوجته ولا أبناءه إلى المائدة معه إلا في أوقات قليلة نادرة، وإذا مات كان ينتظر من أرملته ألا تتزوج بعده، وكان يطلب إليها في بداية الأمر أن تحرق نفسها تكريما له، وظلت حوادث من هذا النوع تقع في الصين إلى أواخر القرن التاسع عشر بعد الميلاد(119). وكان الصيني يجامل زوجته كما يجامل كل إنسان سواها، ولكنه كان في حياته بعيدا كل البعد عن زوجته وأبنائه كأنه من طبقة غير طبقتهم. وكان النساء يعشن في أقسام خاصة من المنزل، وقلما كن يختلطن فيه بالرجال، وكانت الحياة الاجتماعية كلها مقصورة على الرجال إلا إذا كانت النساء من الطبقات التي يسمح لأفرادها بالاختلاط بالرجال كالمغنيات والمحدثات ومن إليهن
صفحة رقم : 1365
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأقصى -> الصين -> الشعب والدولة -> حكم الأخلاق

وكان الرجل لا يفكر في زوجته إلا بوصفها أم أبنائه ولا يكرمها لجمالها أو لثقافتها بل لخصوبتها وجدها وطاعتها؛ يشهد بذلك ما كتبته السيدة بان هو- بان إحدى بنات الطبقة العليا في رسالة ذائعة الصيت بعبارات غاية في التواضع والخضوع تصف فيها المكانة الحقة للمرأة:

نشغل نحن النساء آخر مكان في الجنس البشري، ونحن أضعف قسم من بني الإنسان، ويجب أن يكون من نصيبنا أحقر الأعمال... وما أعدل ما يقوله في حقنا كتاب قوانين الجنسين وأصدقه: وإذا كان للمرأة زوج يرتضيه قلبها وجب أن تبقى معه طيلة حياتها؛ وإذا كان للمرأة زوج لا يرتضيه قلبها وجب أن تبقى معه أيضا طيلة حياتها"(120).
ويغني فوشوان قائلا:
ألا ما اتعس حظ المرأة‍
ليس في العالم كله شيء أقل قيمة منها.
إن الأولاد يقفون متكئين على الأبواب،
كأنهم آلهة سقطوا من السماء،
تتحدى قلوبهم البحار الأربعة،
والرياح والتراب آلاف الأميال؛
أما البنت فإن أحدا لا يسر بمولدها،
ولا تدخر الأسرة من ورائها شيئا،
وإذا كبرت اختبأت في حجرتها،
تخشى أن تنظر إلى وجه إنسان،
ولا يبكيها أحد إذا اختفت من منزلها -
على حين غفلة كما تختفي السحب بعد هطول الأمطار،
وهي تطأطأ رأسها وتجمل وجهها
صفحة رقم : 1366
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأقصى -> الصين -> الشعب والدولة -> حكم الأخلاق

وتعض بأسنانها على شفتيها،
وتنحني وتركع مرارا يخطئها الحصر.

قد يكون في هذه المقتبسات ظلم للبيت الصيني؛ نعم قد كان فيه خضوع ومذلة، وكثيرا أقام فيه النزاع بين الرجل والمرأة وبين بعض الأطفال، ولكن كان في البيت أيضا كثير من الحب والحنان، وكثير من التعاون والتآزر في الأعمال المنزلية، مما يجعل البيت مكانا طبيعيا ومستقرا صالحا للأسرة. وكانت المرأة رغم خضوعها للرجل من الناحية الاقتصادية تستمع بكامل حقها في استخدام لسانها، وكان في وسعها أن تؤنب الرجل حتى يرهبها أو يفر من وجهها كأحسن ما تستطيعه المرأة الغربية في هذه الأيام. هذا وجدير بنا أن نقول أن الأسرة ذات النظام الأبوي ليس في مقدورها أن تكون أسرة ديمقراطية، وهي أشد من ذلك عجزا عن أن يكون جميع أفرادها متساوين في الحقوق، وذلك لأن الدولة كانت تترك للأسرة مهمة القيام على النظام الاجتماعي، ولأن المنزل كان مربى للأطفال ومدرسة ومصنعا وحكومة في وقت واحد. ولم يتراخ نظام الأسرة في أمريكا إلا بعد أن ضعف شأن المنزل في المدينة وقلت أهميته بانتقال واجبات الأسرة إلى المدرسة والمصنع والدولة.
ولقد أثنى كثير من الرحالة أجمل ثناء على الخلق الذي كان ثمرة هذه النظم المنزلية. فإذا صرفنا النظر عن الحالات الشاذة الكثيرة التي تضعف كل حكم عام يمكن أن يصدره الإنسان على أي نظام اجتماعي، استطعنا أن نقول أن الصيني العادي كان مثلا يحتذى في طاعة الأبناء للآباء وإخلاصهم ووفائهم لهم وفي احترام الصغار للكبار وعنايتهم بهم عن رضا واختيار . وكان الصيني يقبل الحكم
صفحة رقم : 1367
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأقصى -> الصين -> الشعب والدولة -> حكم الأخلاق

الأخلاقية التي جاءت في اللي- شي أو كتاب الحفلات ويعمل بما فيها من آداب اللياقة رغم مشقتها، وينظم كل ناحية من نواحي حياته حسب ما فيها من قواعد المجاملة العاطفية التي أكسبت أخلاقه من الرقة والسهولة والاتزان والكرامة ما لم ينله أمثاله من الغربيين- فقد يظهر الحمّال الذي ينقل الأقذار في الطرقات من الأدب وحسن التربية واحترام النفس أكثر مما يظهره التاجر الأجنبي الذي باعه الأفيون. ولقد تعلم الصيني فن التراضي والمصالحة واستطاع بذلك أن يستل ضغينة عدوه المغلوب. ولقد كان في بعض الأحيان عنيفا في قوله، وكان على الدوام ثرثارا، وكثيرا ما تراه قذرا أو ثملا يدمن القمار ويلتهم الطعام التهاما ، ويميل إلى ابتزاز الأموال العامة وإلى سؤال الناس في غير إلحاف(124)، يعبد إله المال عبادة وثنية مسرفة في صراحتها(125)، ويجري وراء الذهب جري الأمريكي كما نراه في صوره الساخرة، يستطيع أحيانا أن يكون قاسيا فظا غليظ القلب، إذا توالت عليه المظالم ثار أحيانا وأقدم على ضروب من السلب والتقتيل في جماعات كبيرة. ولكنه في جميع أحواله تقريبا رجل مسالم رحيم، كثير الاستعداد لمساعدة جيرانه، يحتقر المجرمين والمحاربين، مقتصد مجد مثابر على عمله وإن كان لا يعجل فيه، بسيط في أسلوب حياته لا يحب التظاهر والتصنع، شريف إلى حد كبير في معاملاته التجارية والمالية. وكان من عادته الصبر على النوائب، يستقبل النعم والنقم على السواء بحكمة ووداعة، ويتحمل الحرمان والعذاب دون أن يفقد سلطانه على نفسه، ويصبر عليهما صبر من يرى أن كل شيء مقدر عليه في الأزل، ولا يعطف قط على من يتأفف منهما على مسمع من الناس، يحزن حزنا صادقا طويلا على من يموت من أقاربه، وإذا عجز عن الفرار من الموت بجميع ما لديه من الوسائل واجهه وهو صابر صبر الفلاسفة؛ وكان
صفحة رقم : 1368
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأقصى -> الصين -> الشعب والدولة -> حكم الأخلاق

مرهف الشعور بالجمال بقدر ما كان قليل الشعور بالألم، وكان يزين مدائنه بالنقوش الملونة ويتنعم في حياته بأرقى أنواع الفن.
وإذا شئنا أن نفهم هذه الحضارة حق الفهم كان علينا أن ننسى، ولو إلى حين، ما تردت فيه البلاد من فوضى وعجز بسبب ضعفها في الداخل، واحتكاكها بمدافع الغرب وآلاته الضخمة القوية، وأن نراها في فترة من فترات عزها ومجدها في عهد أمراء جو أو في عهد منج هوانج أو هواي دزونج أو كانج- شي. ذلك أن الصيني في تلك الأيام أيام حب الجمال كان يمثل بلا ريب أرقى المدنيات وأنضج الثقافات اللتين شهدتهما آسية أو إن شئت فقل أية قارة من القارات.

صفحة رقم : 1369
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأقصى -> الصين -> الشعب والدولة -> حكومة يثني عليها فلتير

الفصل السادس
حكومة يثني عليها فلتير
الفرد المغمور - الحكم الذاتي - القرية والإقليم - تراخي القانون -
صرامة العقاب - الإمبراطور - الرقيب - المجالس الإدارية - الإعداد
للمناصب العامة - الترشيح بالتعليم - نظام الامتحانات - عيوبه - وفضائله
إن أكثر ما يروعنا في هذه الحضارة هو نظام حكومتها. وإذا كانت الدولة المثالية هي التي تجمع بين الديمقراطية والأرستقراطية فإن الصينيين قد أنشأوا هذه الدولة منذ ألف عام أو تزيد؛ وإذا كانت خير الحكومات هي أقلها حكما، فقد كانت حكومة الصين خير حكومات العالم على الإطلاق. ولم يشهد التاريخ قط حكومة كان لها رعايا أكثر من رعايا الحكومة الصينية أو كانت في حكمها أطول عهدا وأقل سيطرة من تلك الحكومة.

ولسنا نقصد بهذا أن الفردية أو الحرية الفردية كان لها شأن عظيم في بلاد الصين؛ ذلك أن فكرة الفردية كانت ضعيفة في تلك البلاد وأن الفرد كان مغمورا في الجماعات التي ينتمي إليها. فقد كان أولا عضوا من أعضاء أسرة، ووحدة عابرة في موكب الحياة بين أسلافه وأخلافه؛ وكانت القوانين والعادات تحمله تبعة أعمال غيره من أفراد أسرته كما يحملون هم تبعة أعماله؛ وكان فضلا عن هذا ينتمي عادة على جمعية سرية، وإذا كان من سكان الحواضر فانه ينتمي إلى نقابة من نقابات الحرف.
وهذه كلها أمور تحد من حقه في أن يفعل ما يشاء. وكان يحيط به فضلا عن هذا طائفة من العادات القديمة ويهدده رأي عام قوي بالطرد من البلاد إذا خرج على أخلاق الجماعة أو تقاليدها خروجا خطيرا. وكانت قوة هذه النظم
صفحة رقم : 1370
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأقصى -> الصين -> الشعب والدولة -> حكومة يثني عليها فلتير

الشعبية التي نشأت بطبيعتها من حاجات الناس وتعاونهم الاختياري هي التي مكنت الصين من أن تحتفظ بنظامها واستقرارها رغم ما يشوب القانون والدولة من لين وضعف.
ولكن الصينيين ظلوا أحرارا من الناحيتين السياسية والاقتصادية في داخل هذا الإطار من نظم الحكم الذاتي التي أقاموها بأنفسهم لأنفسهم.
لقد كانت المسافات الشاسعة التي تفصل كل مدينة عن الأخرى وتفصل المدن كلها عن عاصمة الإمبراطورية، والجبال الشامخة والصحاري الواسعة والمجاري التي تتعذر فيها الملاحة أو لا تقوم عليها القناطر، وانعدام وسائل النقل والاتصال السريع وصعوبة تموين جيش كبير يكفي لفرض سلطان الحكومات المركزية على شعب تبلغ عدته أربعمائة مليون من الأنفس - كانت هذه كلها عوامل تضطر الدولة لأن تترك لكل إقليم من أقاليمها استقلالا ذاتيا يكاد أن يكون كاملا من كل الوجوه.

وكانت وحدة الإدارة المحلية هي القرية يحكمها حكما متراخيا رؤساء العشائر بإشراق "زعيم" منهم ترشحه الحكومة. وكانت كل طائفة من القرى مجتمعة حول بلدة كبيرة تؤلف "بينا" أي مقاطعة بلغت عدتها في الصين نحو ألف وثلاثمائة. ويتألف من كل بينين أو أكثر تحكمهما معا مدينة "فو"، ومن كل فوين أو ثلاثة "داو" أي دائرة، ومن كل داوين أو أكثر "شنج" أي إقليم. وكانت الإمبراطورية في عهد المنشو تتألف من ثمانية عشر من هذه الأقاليم. وكانت الدولة تعين من قبلها موظفا في كل بين يدير شئونه، ويجبى ضرائبه، ويفصل في قضاياه، وتعين موظفا آخر في كل فو وآخر في كل داو؛ كما تعين قاضيا، وخازنا لبيت المال، وحاكما، ونائبا للإمبراطور أحيانا في كل إقليم(127). ولكن هؤلاء الموظفين كانوا يقنعون أحيانا بجباية الضرائب والفروض الأخرى
صفحة رقم : 1371
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأقصى -> الصين -> الشعب والدولة -> حكومة يثني عليها فلتير

والفصل في المنازعات التي يعجز المحكمون عن تسويتها بالحسنى، ويتركون حفظ النظام لسلطان العادة وللأسرة والعشيرة والنقابة الطائفية. وكان كل إقليم ولاية شبه مستقلة لا تتدخل الحكومة الإمبراطورية في أعمالها، ولا تفرض عليها شرائعها طالما كانت تدفع حصتها من الضرائب وتحافظ على الأمن والنظام في داخل حدودها. وكان انعدام وسائل الاتصال السهلة مما جعل الحكومة المركزية فكرة معنوية أكثر منها حقيقة واقعية. ومما جعل عواطف الأهلين الوطنية تنصرف في دوائرهم وأقاليمهم، ولا تتسع إلا في القليل النادر حتى تشمل الإمبراطورية بوجه عام.

وفي هذا البناء غير المحكم كان القانون ضعيفا، بغيضا، متباينا. وكان الناس يفضلون أن تحكمهم عاداتهم وتقاليدهم، وأن يسووا نزاعهم بالتراضي خارج دور القضاء. وكانوا يعبرون عن آرائهم في التقاضي بمثل هذه الحكم والأمثال القصيرة القوية: "قاض برغوثا يعضك" و "اكسب قضيتك تخسر مالك". وكانت تمر سنين على كثير من المدن التي تبلغ عدة أهلها آلافاً مؤلفة لا ترفع فيها قضية واحدة إلى المحاكم(128) وكانت قوانين البلاد قد جمعت في عهد أباطرة تانج ولكنها كلها اقتصرت تقريبا على الجرائم ولم تبذل محاولات جدية لوضع قانون مدني. وكانت المحاكمات بسيطة سهلة لأن المحامي لم يكن يسمح له بمناقشة الخصم داخل المحكمة، وإن كان في استطاعة كتاب مرخصين من الدولة أن يعدوا في بعض الأحيان تقارير بالنيابة عن المتقاضين ويتلوها على القاضي(129). ولم يكن هناك نظام للمحلفين، ولم يكن في نصوص القوانين ما يحمي الفرد من أن يقبض عليه موظفو الدولة على حين غفلة ويعتقلوه. وكانت تؤخذ بصمات أصابع المتهمين(130)، ويلجأ أحيانا إلى تعذيبهم لكي يقروا بجرائمهم، ولم يكن هذا التعذيب الجسمي ليزيد إلا قليلا على ما يتبع الآن لهذا الغرض عينه في أكثر المدن رقيا. وكان العقاب صارما، وإن لم يكن أشّد وحشية مما كان في معظم
صفحة رقم : 1372
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأقصى -> الصين -> الشعب والدولة -> حكومة يثني عليها فلتير

بلاد القارة الآسيوية؛ وكان أوله قص الشعر ويليه الضرب ثم النفي من البلاد ثم الإعدام. وإذا كان المتهم ذا فضائل غير معهودة أو كان من طبقة راقية سمح له أن ينتحر(131). وكانت العقوبات تخفف أحيانا تخفيفا كريما، وكان حكم الإعدام لا يصدر في الأوقات العادية إلا من الإمبراطور نفسه. وكان الناس جميعا من الناحية النظرية سواسية أمام القانون، شأنهم في هذا كشأننا نحن في هذه الأيام. ولكن هذه القوانين لم تمنع السطو في الطرق العامة أو الارتشاء في وظائف الدولة ودور القضاء، غير أنها كان لها قسط متواضع في معاونة الأسرة والعادات الموروثة في أن تهب الصين درجة من النظام الاجتماعي والأمن والاطمئنان الشخصي لم تضارعها فيها أمة أخرى قبل القرن العشرين(132).
وكان الإمبراطور يشرف على هذه الملايين الكثيرة من فوق عرشه المزعزع. وكان يحكم من الوجهة النظرية بحقه المقدس؛ فقد كان هو "ابن السماء" وممثل الكائن الأعلى في هذه الأرض. وبفضل سلطانه الإلهي هذا كانت له السيطرة على الفصول وكان يأمر الناس أن يوفقوا بين أعمالهم وبين النظام السماوي المسيطر على العالم، وكانت كلمته هي القانون وأحكامه هي القضاء الذي لا مرد له. وكان المدبر لشؤون الدولة ورئيس ديانتها، يعين جميع موظفيها ويمتحن المتسابقين لأعلى مناصبها ويختار من يخلفه على العرش. لكن سلطانه كان يحده من الوجهة العملية القانون والعادات المرعية، فكان ينتظر منه أن يحكم من غير أن يخرج على النظم التي انحدرت من الماضي المقدس. وكان معرضا في أي وقت لأن يعزَّر على يد رجل ذي مقام كبير يسمى بالرقيب؛ وكان في واقع الأمر محوطاً بحلقة قوية من المستشارين والمبعوثين من مصلحته أن يعمل بمشورتهم، وإذا ظلم أو فسد حكمه خسر بحكم العادات المرعية وباتفاق أهل الدولة "تفويض السماء"، وأمكن
صفحة رقم : 1373

قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأقصى -> الصين -> الشعب والدولة -> حكومة يثني عليها فلتير

خلعه بالقوة من غير أن يعد ذلك خروجا على الدين أو الأخلاق.
وكان الرقيب رئيس مجلس مهمته التفتيش على جميع الموظفين في أثناء قيامهم بواجباتهم، ولم يكن الإمبراطور نفسه بمنجاة من إشرافه. وقد حدث مرارا في تاريخ الصين أن عزر الرقيب الإمبراطور نفسه. من ذلك أن الرقيب سونج أشار على الإمبراطور جياه تشنج (1196-1821)، بالاحترام اللائق بمقامه العظيم طبعا، أن يراعى جانب الاعتدال في صلاته بالممثلين وبتعاطي المسكرات. فما كان من جياه تشنج إلا أن استدعى سونج للمثول أمامه، وسأله وهو غاضب أي عقاب يليق أن يوقع على من كان موظفا وقحا مثله، فأجابه سونج: "الموت بتقطيع جسمه إرباً". ولما أمره الإمبراطور باختيار عقاب أخف من هذا أجابه بقوله "إذن فليقطع رأسي" فطلب إليه مرة أخرى أن يختار عقابا أخف فاختار أن يقتل خنقا. وأعجب الإمبراطور بشجاعته وخشي وجوده بالقرب منه فعينه حاكما على إقليم إيلي(134).
وأضحت الحكومة المركزية على مر الزمن أداة إدارية شديدة التعقيد. وكان أقرب الهيئات إلى العرش المجلس الأعلى، ويتكون من أربعة "وزراء كبار" يرأسهم في العادة أمير من أمراء الأسرة المالكة. وكان يجتمع بحكم العادة في كل يوم في ساعات الصباح المبكرة لينظر في شؤون الدولة السياسية. وكان يعلو عنه في المنزلة، ولكن يقل عنه في السلطان، هيئة أخرى من المستشارين يسمون "بالديوان الداخلي". وكان يشرف على الأعمال الإدارية "ستة مجالس" للشؤون المدنية، والدخل، والاحتفالات، والحرب، والعقوبات، والأشغال العامة؛ وكان ثمة إدارة للمستعمرات تصرف شؤون الأقاليم النائية مثل منغوليا، وسنكيانج والتبت. ولكنها لم تكن لها إدارة للشؤون الخارجية لأن الصين لم تكن تعترف بأن في العالم دولة مساوية لها، ومن أجل ذلك لم تنشئ في
صفحة رقم : 1374

قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأقصى -> الصين -> الشعب والدولة -> حكومة يثني عليها فلتير

بلادها للاتصال بها غير ما وضعته من النظم لاستقبال البعوث التي تحمل لها الخراج.
وكان أكبر أسباب ضعف الحكومة قلة مواردها وضعف وسائل الدفاع عن أراضيها ورفضها كل اتصال بالعالم الخارجي يعود عليها بالنفع. لقد فرضت الضرائب على أراضيها، واحتكرت بيع الملح، وعطلت نماء التجارة بما فرضته بعد عام 1821 من عوائد على انتقال البضائع على طرق البلاد الرئيسية، ولكن فقر السكان، وما كانت تعانيه من الصعاب في جباية الضرائب والمكوس، وما يتصف به الجباة من الخيانة، كل هذا قد ترك خزانة الدولة عاجزة عن الوفاء بحاجات القوى البحرية والبرية التي كان في وسعها لولا هذا العجز أن تنقذ البلاد من مذلة الغزو والهزيمة . ولعل أهم أسباب هزائمها هو فساد موظفي حكومتها؛ وذلك أن ما كان يتصف به موظفوها من جدارة وأمانة قد ضعف في خلال القرن التاسع عشر فأضحت البلاد تعوزها الزعامة الرشيدة في الوقت الذي كانت فيه نصف ثروة العالم ونصف قواه يتجمعان لسل استقلالها وانتهاب مواردها والقضاء على أنظمتها.
بيد أن أولئك الموظفين كانوا يختارون بوسيلة لا مثيل لها في دقتها وتعد في جملتها أجدر وسائل الاختيار بالإعجاب والتقدير، وخير ما وصل إليه العالم من الوسائل لاختيار الخدام العموميين. لقد كانت وسيلة جديرة بإعجاب أفلاطون، ولا تزال رغم عجزها وتخلي الصين عنها تقرب الصين إلى قلوب الفلاسفة. وكانت
صفحة رقم : 1375
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأقصى -> الصين -> الشعب والدولة -> حكومة يثني عليها فلتير

هذه الطريقة من الناحية النظرية توفق أحسن التوفيق بين المبادئ الأرستقراطية والديمقراطية: فهي تمنح الناس جميعا فرصة متكافئة لإعداد أنفسهم للمناصب العامة، ولكنها لا تفتح أبواب المناصب إلا لمن أعدوا أنفسهم لها. ولقد أنتجت خير النتائج من الوجهة العملية مدى ألف عام.
وكانت بداية هذه الطريقة في مدارس القرى - وهي معاهد خاصة ساذجة لا تزيد قليلا على حجرة واحدة في كوخ صغير - كان يقوم فيها معلم واحد بتعليم أبناء أسر القرية تعليما أوليا ينفق عليه بما يؤديه هؤلاء الأبناء من أجر ضئيل. أما النصف الفقير من السكان فقد ظل أبناؤه أميين(137). ولم تكن الدولة هي التي تنفق على تلك المدارس، ولم يكن الكهنة هم الذين يديرونها، ذلك أن التعليم قد بقى في الصين كما بقى الزواج فيه مستقلا عن الدين لا صلة بينهما سوى أن الكنفوشية كانت عقيدة المعلمين. وكانت أوقات الدراسة طويلة كما كان النظام صارما في هذه المدارس المتواضعة. فكان الأطفال يأتون إلى المعلم في مطلع الشمس ويدرسون معه حتى الساعة العاشرة، ثم يفطرون ويواصلون الدرس حتى الساعة الخامسة، ثم ينصرفون بقية النهار. وكانت العطلات قليلة العدد قصيرة الأجل، وكانت الدراسة تعطل بعد الظهر في فصل الصيف، ولكن هذا الفراغ الذي كان يصرف في العمل في الحقول كان يعوض بفصول مسائية في ليالي الشتاء. وكان أهم ما يتعلمه الأطفال كتابات كنفوشيوس وشعر تانج؛ وكانت أداة المعلم عصا من الخيزران. وكانت طريقة التعليم الحفظ عن ظهر قلب؛ فكان الأطفال الصغار يواصلون حفظ فلسفة المعلم كونج ويناقشون فيها مدرسهم حتى ترسخ كل كلمة من كلماته في ذاكرتهم وحتى يستقر بعضها في قلوبهم. وكانت الصين تأمل أن يتمكن جميع أبنائها، ومنهم الزراع أنفسهم، بهذه الطريقة القاسية الخالية من اللذة أن يصبحوا فلاسفة وسادة مهذبين،
صفحة رقم : 1376

قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأقصى -> الصين -> الشعب والدولة -> حكومة يثني عليها فلتير

وكان الصبي يخرج من المدرسة ذا علم قليل وإدراك كبير، جاهلا بالحقائق ناضج العقل .
وكان هذا التعليم هو الأساس الذي أقامت عليه الصين - في عهد أسرة هان على سبيل التجربة وفي عهد أسرة تانج بصفة نهائية - نظام تولي المناصب العامة بالامتحان. ومن أقوال الصينيين في هذا: إن من أضر الأمور بالشعب أن يتعلم حكامه طرق الحكم بالحكم نفسه، وإن من واجبهم كلما استطاعوا أن يتعلموا طرق الحكم قبل أن يحكموا، ومن أضر الأمور بالشعب أن يحال بينه وبين تولي المناصب العامة وأن يصبح الحكم امتيازا تتوارثه فئة قليلة من أبناء الأمة؛ ولكن من الخير للشعب أن تقصر المناصب على من أعدوا لها بفضل مواهبهم وتدريبهم. وكان الحل الذي عرضته الصين لمشكلة الحكمة القديمة المستعصية هي أن تتيح لكل الرجال ديمقراطيا فرصة متكافئة لأن يدربوا هذا التدريب، وأن تقصر الوظائف أرستقراطيا على من يثبتون أنهم أليق الناس لأن يتولوها. ومن أجل هذا كانت تعقد في أوقات معينة امتحانات عامة في كل مركز من المراكز يتقدم إليها كل من شاء من الذكور متى كانوا في سن معينة.
وكان المتقدم إلى الامتحان يمتحن في قوة تذكره وفهمه لكتابات كنفوشيوس وفي مقدار ما يعرف من الشعر الصيني ومن تاريخ الصين، وفي قدرته على أن يكتب أبحاثا في السياسة والأخلاق كتابة تدل على الفهم والذكاء. وكان في وسع من يخفق في الامتحان أن يعيد الدرس ويتقدم إليه مرة أخرى، ومن نجح منح درجة شيو دزاي التي تؤهله لأن يكون عضوا في طبقة الأدباء ولأن يعين في
صفحة رقم : 1377
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأقصى -> الصين -> الشعب والدولة -> حكومة يثني عليها فلتير

المناصب الصغرى في الحكومة الإقليمية؛ وأهم من هذا أن يكون من حقه أن يتقدم إما مباشرة أو بعد استعداد جديد لامتحان آخر يعقد في الأقاليم كل ثلاث سنوات شبيه بالأول ولكنه أصعب منه. ومن خفق فيه أجاز أن يتقدم إليه مرة أخرى؛ وكان يفعل ذلك كثيرون من المتقدمين فكان يجتازه في بعض الأحيان رجال جاوزا الثمانين وظلوا طوال حياتهم يدرسون، وكثيرا ما مات الناس وهم يتأهبون لدخول هذه الامتحانات. وكان الذين ينجحون يختارون للوظائف الحكومية الصغرى، كما كان من حقهم أن يتقدموا للامتحان النهائي الشديد الذي يعقد في بكين. وكان في تلك المدينة ردهة للامتحان العام تحتوي على عشرة آلاف حجرة انفرادية يقضى فيها المتسابقون ثلاثة أيام متفرقة في عزلة تامة، ومعهم طعامهم وفراشهم، يكتبون مقالات أو رسائل في موضوعات تعلم لهم بعد دخولهم. وكانت هذه الغرف خالية من وسائل التدفئة والراحة رديئة - الإضاءة غير صحية لأن الروح لا الجسم - في رأيهم - هي التي يجب أن تكون موضع الاهتمام! وكان من الموضوعات المألوفة في هذه الامتحانات أن ينشئ المتقدم قصيدة في: "صوت المجاديف والتلال الخضراء والماء"، وأن يكتب مقالا عن الفقرة الآتية من كتابات كنفوشيوس. قال دزانج دزي: "من يك ذا كفاية ويسأل من لا كفاية له؛ ومن يك ذا علم كثير ويسأل من لا يعلم إلا القليل؛ ومن يملك ثم يتظاهر بأنه لا يملك؛ ومن يمتلئ ثم يبدي أنه فارغ" ولم يكن في أي امتحان من هذه الامتحانات كلمة واحدة عن العلوم أو الأعمال التجارية أو الصناعية؛ لأنها لم تكن تهدف إلى تبين علم الرجل بل ترمي إلى معرفة ما له من حكم صادق وخلق قويم. وكان كبار موظفي الدولة يختارون من الناجحين في هذا الامتحان النهائي.
وتبين على مر الزمن ما تنطوي عليه هذه الطريقة من عيوب. فقد وجد الغش سبيله إلى الحكم في الامتحان، وإن كان الغش في الامتحان أو في
صفحة رقم : 1378

قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأقصى -> الصين -> الشعب والدولة -> حكومة يثني عليها فلتير

تقديره يعاقب عليه أحيانا بالإعدام. وأصبح شراء الوظائف بالمال كثيرا متفشيا في القرن التاسع عشر(138)، من ذلك أن موظفا صغيرا باع عشرين ألف شهادة مزورة قبل أن يكشف أمره(139). ومنها أن صورة المقالة التي تكتب في الامتحان أصبحت صورة عادية معروفة يعد المتسابقون أنفسهم لها إعدادا آلياً. كذلك كان منهج الدراسة ينزع إلى الهبوط بالثقافة إلى الصور الشكلية دون اللباب، ويحول دون الرقي الفكري لأن الأفكار التي كانت تتداول في هذه المقالات قد تحددت وتعينت خلال مئات السنين. وكان من آثارها أن أصبح الخريجون طبقة بيروقراطية ذات عقلية رسمية متعجرفة بطبيعتها، أنانية، مستبدة في بعض الأحيان وفاسدة في كثير من الأحوال؛ لا يستطيع الشعب مع ذلك أن يعزلها أو يشرف على أعمالها إلا إذا لجأ بعد يأسه إلى الطريقة الخطرة طريقة الإضراب عن طاعتها أو مقاطعتها وعدم التعامل معها. وقصارى القول أن هذا النظام كان ينطوي على كل العيوب الني يمكن أن ينطوي عليها أي نظام حكومي يبتدعه ويسيره بنو الإنسان؛ فعيوبه هي عيوب القائمين عليه لا عيوب النظام نفسه، وليس ثمة نظام آخر لم يكن فيه من العيوب من في هذا النظام .
أما مزاياه فهي كثيرة: فهو برئ من طريقة الترشيح وما يؤثر فيها من تيارات خفية؛ وليس فيه مجال للمساعي الدنيئة وللنفاق والخداع في تصوير النتائج، ولا تدور فيه المعارك الصورية بين الأحزاب، ولا يتأثر بالانتخابات الفاسدة ذات الجلبة والضجيج، ولا يتيح الفرصة لتسلم المركز الرفيع عن طريق الشهرة الزائفة. لقد كانت الحكومة القائمة على هذا النظام حكومة ديمقراطية على الزعامة وعلى المناصب الرفيعة. وكانت أرستقراطية في أحسن صورها، لأنها
صفحة رقم : 1379

قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأقصى -> الصين -> الشعب والدولة -> حكومة يثني عليها فلتير

حكومة يتولاها أقدر الرجال الذين اختيروا اختيارا ديمقراطيا من بين جميع طبقات الشعب ومن كل جيل. وبفضل هذه الطريقة وجهت عقول الأمة ومطامعها وجهة الدرس والتحصيل، وكان أبطالها الذين تقتدي بهم هم رجال العلم والثقافة لا سادة المال .
ولقد كان جديرا بالإعجاب أن يجرب مجتمع من المجتمعات أن يحكمه من الناحيتين الاجتماعية والسياسية رجال أعدوا للحكم بتعلم الفلسفة والعلوم الإنسانية، ولذلك كان من شر المآسي أن تنقض قوى التطور والتاريخ القاسية التي لا ترحم ولا تلين على ذلك النظام الفذ وعلى جميع معالم الحضارة التي كان هو أهم عناصرها فتدمرها تدميرا.

صفحة رقم : 1380
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأقصى -> الصين -> الثورة والتجديد -> الخطر الأبيض

الباب السابع والعشرون
الثورة والتجديد
الفصل الأول
الخطر الأبيض
النزاع بين آسية وأوربا - البرتغاليون - الأسبان - الهولنديون -
الإنجليز - تجارة الأفيون - حروب الأفيون - فتنة بنج تاي - منج-
حرب اليابان - محاولة تمزيق الصين- "الباب المفتوح" - الإمبراطورة
الوالدة - إصلاحات كوانج شو - عزله - الملاكون - الغرامة الحربية

اتخذت هذه القوى شكل الانقلاب الصناعي. فقد نشطت أوربا وتجدد شبابها على أثر كشف القوى الآلية واستخدامها في صنع الآلات ومضاعفة الإنتاج. وما لبثت أوربا أن وجدت نفسها قادرة على إنتاج سلع أرخص من التي تنتجها أية أمة أو قارة ظلت تعتمد على الصناعات والحرف اليدوية. وعجزت أوربا عن تصريف منتجات آلاتها بين سكانها، لأنها كانت تؤدي لعمالها أجوراً أقل بعض الشيء من القيمة الكاملة لجهودهم، واضطرت من أجل ذلك إلى البحث عن أسواق خارجية لتصرف فيها ما زاد من منتجاتها على حاجتها، فكان لا بد لها أن تستعمر ودفعها الاستعمار إلى الحروب. وأصبح القرن التاسع عشر بحكم الظروف القائمة فيه وبدافع الاختراعات الكثيرة التي تعاقبت في خلاله لا ينقطع فيه النظام بين ما كان في آسية من حضارة قديمة ناضجة منهوكة، وما قام في أوربا الصناعية من حضارة فتية، قوية منهومة.
صفحة رقم : 1381
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأقصى -> الصين -> الثورة والتجديد -> الخطر الأبيض

وكان الانقلاب التجاري الذي حدث في أيام كولمب هو الذي أفسح الطريق ومهد السبيل للانقلاب الصناعي. فقد كشف الرحالة عن أراضي قديمة، وفتحوا ثغوراً جديدة، ونقلوا إلى الثقافات القديمة منتجات الغرب وأفكاره. وكان البرتغاليون المغامرون في أوائل القرن السادس عشر قد استولوا على جزائر ملقا، وكانوا من قبل قد ثبتوا أقدامهم في بلاد الهند، ثم طافوا حول شبه جزيرة الملايو، ووصلوا بسفائنهم الجميلة ومدافعهم الرهيبة إلى كانتون (1517).

وكان أولئك القادمون خلقاً متوحشين لا يخضعون لقانون، ويعدون كل الشعوب الشرقية فريسة مشروعة مباحة لهم، ولم يكونوا يفترقون إلا قليلاً عن القراصنة.. إن كان بين هؤلاء وبينهم فرق على الإطلاق(1)...، وعاملهم الصينيون معاملة القرصان فألقوا بممثليهم في السجون، ورفضوا ما عرضوه عليهم من تجارة حرة، وكثيرا ما طهر الصينيون الغضاب الحانقون الأحياء التي استقر فيها البرتغاليون بذبح ساكنيها.ولكن البرتغاليين أعانوا الصينيين على قتال غيرهم من القرصان، فكان جزاؤهم على هذه المعونة أن منحتهم بيكين حق الإقامة في مكاو وحكمها كأنها ملك لهم، فشادوا في تلك المدينة مصانع كبيرة لصنع الأفيون، وأجازت لهم أن يستخدموا في هذه المصانع الرجال والنساء والأطفال. ودرت عليهم هذه الصناعة أرباحاً عظيمة يكفي لمعرفة مقدارها أن نقول أن مصنعاً واحداً كان يعود على الحكومة البرتغالية التي أنشئت في هذا الإقليم بربح مقداره 000ر560ر1 دولار في كل عام(2).
ثم جاء الأسبان وفتحوا جزائر الفلبين في عام 1571م واستقروا في جزيرة فرموزا الصينية؛ وأعقبهم الهولنديون، وفي عام 1637م أقبلت خمس سفن إنجليزية وصعدت في النهر إلى كانتون وأسكتت بمدافعها القوية المدافع التي قاومتها وأنزلت في المدينة بضائعها(3). وعلم البرتغاليون الصينيين شراء الدخان وشربه، ثم بدأ في مستهل القرن الثامن عشر استيراد الأفيون من الهند إلى الصين. وحرمت
صفحة رقم : 1382
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأقصى -> الصين -> الثورة والتجديد -> الخطر الأبيض

الحكومة الصينية على الشعب تعاطي الأفيون، ولكن عادة تعاطيه انتشرت انتشار النار في الهشيم حتى بلغ ما استورد منه إلى الصين في عام 1795م أربعة آلاف صندوق . وحرمت الحكومة استيراده في تلك السنة وكررت هذا التحريم في عام 1800م ولجأت إلى المستوردين وإلى الأهلين على السواء تبين لهم ما لهذا المخدر القوي من أثر في إضعاف حيوية الأمة. ولكن تجارة الأفيون لم تنقطع رغم هذا التحريم، ولم تكن رغبة الصينيين في شرائه أقل من رغبة الأوربيين في بيعه، ولم يجد الموظفون حرجاً في تناول الرشاوي التي كانت تقدم إليهم ليتغاضوا عن أوامر التحريم بل كانوا يتقبلونها شاكرين.
وأصدرت حكومة بيكين في عام 1838م أمراً بالتشديد في تنفيذ قرار تحريم استيراد الأفيون، وجاء موظف قوي يدعى لن تزه- شو فأمر من في كانتون من المستوردين الأجانب أن يسلموا ما في مخازنهم منه. فلما أبوا حاصر الأحياء الأجنبية وأرغمهم على أن يسلموه عشرين ألف صندوق من هذا المخدر، ثم أقام في كانتون شبه حفلة أفيونية أتلف فيها هذه الكمية كلها. وعلى أثر هذا انسحب البريطانيون إلى هنج كنج وبدأت "حرب الأفيون" الأولى. وقال الإنجليز إن الحرب لم تكن حرب أفيون، بل كان سببها أنهم غضبوا لما أظهرته الحكومة الصينية من قحة وغطرسة في استقبالها ممثليهم أو برفضها استقبالهم، وما وضعته أمامهم من عقبات في صورة ضرائب باهظة ومحاكم فاسدة مرتشية أقامتها القوانين والعادات الصينية تعطل بها تجارة منظمة مشروعة. وأطلقوا المدافع على المدن الصينية التي كان في وسعهم أن يصلوا إليها من الشاطئ وأرغموا الصين على طلب الصلح باستيلائهم على مصب القناة الكبيرة عند شنكيانج. ولم تذكر معاهدة نانكنج شيئاً عن الأفيون، وتخلت الصين بمقتضاها عن هنج كنج إلى
صفحة رقم : 1383
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأقصى -> الصين -> الثورة والتجديد -> الخطر الأبيض

البريطانيين، وأرغمت الصين على تخفيض الضرائب إلى 5%، وفتحت للتجارة الأجنبية خمسة "ثغور معاهدات" (كانتون، وأموي، وفوتشو، وتنجبو، وشنغهاي)، وفرضت على الصين غرامة حربية لتغطية نفقات الحرب وما أتلفته من أفيون، واشترطت أن يحاكم الرعايا البريطانيون في الصين، إذا اتهموا بمخالفة قوانين البلاد، أمام محاكم بريطانية(5). وطلبت عدة دول أخرى منها الولايات المتحدة الأمريكية وفرنسا أن تطبق هذه "الامتيازات الأجنبية" على تجارها ورعاياها المقيمين في الصين وأجيبت إلى طلبها.
وكانت هذه الحرب بداية انحلال النظام القديم. ذلك أن الحكومة خذلت أشد الخذلان في نزاعها مع الأوربيين، فقد سخرت منهم أولاً، ثم تحدتهم بعدئذ، ثم خضعت لهم آخر الأمر، ولم تفد الألفاظ الظريفة المعسولة في إخفاء الحقائق عن الوطنيين المتعلمين أو الأجانب المتربصين.
وسرعان ما ضعف سلطان الحكومة في كل مكان تسربت إليه أخبار هزيمتها، وما لبثت القوى التي كانت من قبل صامتة خاضعة والتي كانت تظل صامتة خاضعة لولا هذه الهزيمة- ما لبثت هذه القوى أن ثارت علناً على حكومة بيكين. من ذلك أن وطنياً متحمساً يدعى هونج سيو- شوان، بعد أن تعلم طرقاً من البروتستنتية وتراءت له بعض الخيالات الوهمية اعتقد في عام 1843م أن الله قد اختاره ليطهر الصين من عبادة الأوثان ويحولها إلى المسيحية. وبعد أن بدأ هونج عمله بهذه الدعوة المتواضعة تزعم آخر الأمر حركة ترمي إلى القضاء على أسرة المنشو الحاكمة وإيجاد أسرة جديدة هي أسرة التاي بنج أي السلم العظيم، وحارب أتباعه حرب الأبطال البواسل يحدوهم التعصب الديني من جهة والرغبة في إصلاح الصين على غرار الدول الأوربية من جهة أخرى، وحطموا الأصنام، وقتلوا المخالفين من الصينيين، وأتلفوا كثيراً من دور الكتب والمجامع العلمية القديمة ومصانع الخزف القائمة في جنج ده- جَن، واستولوا على نانكنج وظلت في
صفحة رقم : 1384

قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأقصى -> الصين -> الثورة والتجديد -> الخطر الأبيض

أيديهم اثنتي عشرة سنة (1853-1865م)، وزحفوا على بيكين وزعيمهم من خلفهم في مأمن من الأعداء منغمس في ترفه وملذاته؛ ولكنهم هزموا وتشتتوا لعجز قادتهم، وارتدوا إلى أحضان إخوانهم مئات الملايين الصينيين(6).
وبينما كانت فتنة تاي- بنج الصماء تمزق الصين وتقطع أوصالها اضطرت الحكومة إلى مواجهة أوربا مرة أخرى في "حرب الأفيون" الثانية (1856- 1860م). وكان سببها أن بريطانيا العظمى، تعاونها فرنسا والولايات المتحدة معاونة تقوى تارة وتضعف تارة أخرى، طلبت إلى الصين أن تجعل تجارة الأفيون تجارة مشروعة (وكانت هذه التجارة قد ظلت قائمة بين الحربين رغم ما صدر من الأوامر بتحريمها)، وأن تسمح لها بالدخول في مدن جديدة غير التي كانت قد سمح لها بدخولها، وأن يستقبل الرسل الغربيون بما يليق بهم من التكريم في بلاط بيكين. فلما رفض الصينيون هذه المطالب استولى البريطانيون والفرنسيون على كانتون، وأرسلوا حاكمها مقيداً بالأغلال إلى الهند، واقتحموا حصون تينتسين وزحفوا على العاصمة، ودمروا القصر الصيفي انتقاماً لما نال مبعوثي الحلفاء من تعذيب وقتل على يد الصينيين في بيكين. وأملى الغزاة الظافرون على المهزومين معاهدة فتحت لهم بمقتضى شروطها ثغور جديدة كما فتح نهر جنج- دزه للتجارة الأجنبية، وحددت طريقة لاستقبال الوزراء الأمريكيين والأوربيين في الصين على قدم المساواة مع الوزراء الصينيين، ووضعت الضمانات القوية لسلامة المبشرين والتجار الأجانب والسماح لهم بممارسة نشاطهم في جميع أجزاء الصين، وأخرجت البعثات التبشيرية من اختصاص المحاكم والموظفين، وزادت في امتيازات أبناء الأمم الغربية وتحررهم من الخضوع لقوانين البلاد، وأعطت بريطانيا قطعة من الأرض مقابلة لهنج كنج؛ وجعلت استيراد الأفيون عملاً مشروعاً، وفرضت على الصين غرامة حربية لينفق منها على

إخضاعها لسلطان الغربيين وتدريبها على أساليبهم.
صفحة رقم : 1385
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأقصى -> الصين -> الثورة والتجديد -> الخطر الأبيض

وشجعت الأمم الأوربية انتصاراتها السهلة فأخذت تقتطع من الصين قطعة بعد قطعة، فاستولت الروسيا على الأراضي التي تقع في شمال نهر عامور وشرق نهر الأوسوري (1860م)، وانتقم الفرنسيون لموت أحد المبشرين بالاستيلاء على الهند الصينية (1885م)، وانقضت اليابان على جارتها ومصدر حضارتها وأثارت عليها حرباً فجائية (1894م)، وهزمتها بعد عام واستولت على فرموزا وحررت كوريا من الصين لتستولي عليها فيما بعد (1910م)، وفرضت على الصين غرامة حربية تبلغ 000ر000ر170 دولار لما سببته لها من متاعب جمة(7). ومنعت الروسيا اليابان أن تستولي على شبه جزيرة لياتنج على أن تؤدي الصين إلى اليابان غرامة إضافية، فلما انقضت ثلاث سنين من ذلك الوقت استولت الروسيا نفسها على شبه الجزيرة وأقامت فيها عدة حصون منيعة. وكان مقتل اثنين من المبشرين على يد الصينيين سبباً في استيلاء ألمانيا على شبه جزيرة شانتنج (1898م)، ثم قسمت الدولة الصينية التي كانت تحكمها من قبل حكومة قوية إلى "مناطق نفوذ" تستمتع فيها هذه الدولة الأوربية أو تلك بامتيازات في التعدين أو التجارة لا تشاركها فيها غيرها من الدول. وخشيت اليابان أن تقسم الصين تقسيماً حقيقياً بين الدول الغربية، وأدركت شدة حاجتها إلى الصين في مستقبل الأيام، فانضمت إلى أمريكا وطالبت الدولتان بسياسة "الباب المفتوح"، أي بحق الدول جميعاً في الاتجار مع الصين على قدم المساواة رغم اعترافها بما للدول في الصين من "مناطق نفوذ"، على أن تكون الضرائب الجمركية ونفقات النقل واحدة لجميع الدول على السواء. وأرادت الولايات المتحدة أن تضع نفسها في مركز يمكنها من أن تساوم على هذه المسائل، فوضعت يدها على جزائر الفلبين (1898م) وأعلنت بعملها هذا عزمها على أن

تشترك في النزاع القائم من أجل الاتجار مع الصين.
وفي هذه الأثناء كان فصل آخر من الرواية يمثل وراء جدران القصر الإمبراطوري في بيكين. ذلك أنه لما دخل الحلفاء عاصمة الصين ظافرين في
صفحة رقم : 1386
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأقصى -> الصين -> الثورة والتجديد -> الخطر الأبيض

نهاية "حرب الأفيون" الثانية (1860م) فر الإمبراطور الشاب شيان فنج إلى جيهول حيث توفي بعد عام واحد من ذلك الوقت وترك العرش لابنه البالغ من العمر خمس سنين، فما كان من زوجة الإمبراطور الثانية أم ذلك الغلام إلا أن استولت على مقاليد الحكم وتسمت باسم تزه شي- وعرفها العالم باسم الإمبراطورة الوالدة- وحكمت الصين حكماً طيباً صارماً مجرداً من الرحمة دام جيلاً كاملاً. وكانت هذه السيدة في شبابها قد حكمت البلاد بقوة جمالها، أما الآن فقد حكمتها بقوة إرادتها. ولما مات ولدها عند بلوغه سن الرشد (1875م) لم تعبأ الإمبراطورة بالسوابق ولم تأبه بالمعارضين وأجلست على العرش غلاماً قاصراً- جوانج تشو- واستبقت مقاليد الحكم في يدها. وحافظت هذه الإمبراطورة الجريئة على السلام في بلاد الصين نحو ثلاثين عاماً مستعينة في ذلك برجال من دهاقين السياسة أمثال لي هونج- جانج، وأرغمت الدول الجشعة على أن تحسب للصين بعض الحساب. فما أن انقضت اليابان على الصين فجأة، وأسرعت الدول الأوربية إلى تقطيع أوصال البلاد تقطيعاً جديداً بعد انتصار اليابانيين عليها، قامت في عاصمة الصين حركة قوية تطالب بأن تحذو حذو اليابان التي أخذت بأساليب الدول الغربية- أي أن تجيش جيشاً قوياً، وأن تنشئ المصانع وتمهد الطرق وأن تحاول الحصول على الثروة الصناعية التي مولت بها اليابان وأوربا حروبهما الظافرة. وقاومت الإمبراطورة ومستشاروها هذه الحركة بكل ما لديهم من قوة، ولكن جوانج شو انضم إليهم سراً، وكان قد أذن له أن يتربع على العرش وأن يكون إمبراطوراً بحق. فلم تشعر

الإمبراطورة ومستشاروها إلا وقد أصدر جوانج إلى الشعب الصيني (في عام 1898م) من غير أن يستشير "بوذا العجوز" (وهو الاسم الذي كانت حاشية الإمبراطورة تطلقه عليها) عدة مراسيم عجيبة لو أن البلاد قبلتها وعملت بها لسارت سيراً حثيثاً سلمياً في طريق الأخذ بأساليب الغرب ونظمه، ولحال أخذها بها دون سقوط الأسرة المالكة وتدهور الأمة في هاوية الفوضى والشقاء.
صفحة رقم : 1387
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأقصى -> الصين -> الثورة والتجديد -> الخطر الأبيض

فقد أمر الإمبراطور الشاب بإقامة نظام جديد للتعليم وإنشاء مدارس لا يقتصر التعليم فيها على كتب كنفوشيوس وأتباعه القدماء بل تدرس فيها أيضاً الثقافة الغربية في العلوم والآداب والفنون الصناعية؛ وشجع على إنشاء الطرق وإصلاح الجيش والبحرية، وكان يهدف بهذا إلى الاستعداد لمواجهة "الأزمة" المقبلة على حد قوله هو "لأننا محاطون من كل ناحية بجيران أقوياء يريدون بختلهم أن يظفروا بنا، ويحاولون بتألبهم علينا أن يغلبونا على أمرنا"(7). وهال الإمبراطورة الوالدة أن يصدر الإمبراطور هذه المراسيم التي رأت فيها تطرفاً لا تحمد مغبته فسجنت جوانج شو في أحد القصور الإمبراطورية، ونقضت مراسيمه، وقبضت بيدها مرة أخرى على أزمة الحكم في الصين.

وبدأ في ذلك الوقت رد فعل عنيف ومعارضة قوية لجميع الأفكار الغربية اتخذتهما الإمبراطورة الداخلية عوناً لها على الوصول إلى أغراضها. وكان بعض العصاة قد أقاموا في البلاد جماعة تعرف باسم أي هو- جوان؛ أي قبضات التوافق الصالحة. ويطلق عليهم المؤرخون اسم "الملاكمين" (البكسر). وكانت هذه الجماعة تهدف في الأصل إلى خلع الإمبراطورة والأسرة المالكة. ولكن الإمبراطورة أفلحت في إقناع زعمائها بأن يوجهوا هذه الحركة وقوّتها لمقاومة الغزاة الأجانب بدل أن يوجهوها لمقاومتها هي. وقبل الملاكمون أن يصدعوا بأمرها ونادوا بإخراج جميع الأجانب من بلاد الصين، وجرفهم تيار الوطنية العارمة فشرعوا يذبحون المسيحيين بلا تفريق بين الطيب منهم والخبيث في كثير من أنحاء الصين (1900م). فما كان من الجيوش المتحالفة إلا أن زحفت مرة أخرى على بيكين، وكان زحفها في هذه المرة لحماية مواطنيها الذي استولى عليهم الرعب فاختبئوا في أركان دور السفارات الأجنبية. وفرت الإمبراطورة وحاشيتها إلى شيانغو، وانقضت جيوش إنجلترا وفرنسا والروسيا وألمانيا واليابان والولايات المتحدة على المدينة، وأعملت فيها السلب والنهب،
صفحة رقم : 1388
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأقصى -> الصين -> الثورة والتجديد -> الخطر الأبيض

وقتلت كثيراً من الصينيين انتقاماً منهم لمواطنيها، وخربت كثيراً من الممتلكات القيمة أو نهبتها . وفرض الحلفاء على عدوهم المهول المغلوب غرامة حربية مقدارها 000ر000ر330 دولار يجمعها الأوربيون من المكوس المفروضة على الواردات الصينية وعلى احتكار الملح. على أن جزءاً كبيراً من هذه الغرامة قد رفعته فيما بعد الولايات المتحدة، وبريطانيا العظمى، والروسيا، واليابان، عن الصين. وكانت هذه الدول تشترط عليها عادة أن تنفق الأموال التي نزلت عنها على تعليم الطلبة الصينيين في جامعات الدول التي كانت هذه الأموال من حقها. وكان هذا منها عملاً كريماً كان له من الأثر في تحطيم الصين القديمة أقوى مما كان لأي عمل آخر بمفرده في الصراع التاريخي المرير بين الشرق والغرب.

صفحة رقم : 1389
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأقصى -> الصين -> الثورة والتجديد -> حضارة الموت

الفصل الثاني
حضارة تموت
طلبة الغرامة الحربية - تشربهم بالحضارة الغربية - أثرهم في
تفكك الوحدة الصينية - عمل المبشرين - صون يات - صن
المسيحي - مغامراته في شبابه - التقاؤه بلي هونج - جانج -
تدبيره للثورة - نجاحهما - يو آن شي - كاي - موت صون
بات - صن - الفوضى والنهب - الشيوعية - "الشمال
يهدأ" - جيانج كاي - شك - اليابان في منشوريا - شنغهاي

وغادر "طلبة الغرامة" وآلاف غيرهم من الطلبة بلاد الصين ليرتادوا حضارة الغزاة الفاتحين. فذهب كثيرون منهم إلى إنجلترا، وذهب أكثر من هؤلاء إلى ألمانيا، وأكثر من هؤلاء وأولئك إلى أمريكا، وأكثر منهم جميعا إلى اليابان، وتخرج في جامعات أمريكا وحدها مئات منهم في كل عام. وكانوا يأتون إلى هذه الجامعات وهم صغار السن سريعوا التأثر قبل أن تنضج عقولهم، فيدركوا ما تنطوي عليه حضارتهم القومية من عمق ومالها من قيمة، وارتووا وهم شاكرون معجبون من معين التربية الجديدة التي قدمت لهم، ومن علوم الغرب وأساليبه وأفكاره، وأدهشهم ما شاهدوه حولهم من وسائل الراحة والحياة النشيطة القوية، ومن حرية الأفراد في بلاد الغرب، وما تستمتع به الشعوب من حقوق. ودرسوا الفلسفة الغربية وفقدوا إيمانهم بدين آبائهم، وسرهم أن يكونوا مصلحين متطرفين يشجعهم في ذلك من لقنوهم علومهم وحضارتهم، كما تشجعهم بيئتهم الجديدة على نبذ جميع العناصر التي تتكون منها حضارة بلادهم. ورجع إلى الصين في كل عام آلاف من هؤلاء الشبان الذي انتزعوا من بيئتهم في حداثة سنهم وهم حانقون على تأخر بلادهم المادي وخطوها البطيء في سبيل الحضارة الغربية، وبذروا في كل مدينة دخلوها بذور البحث والثورة على القديم.
صفحة رقم : 1390
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأقصى -> الصين -> الثورة والتجديد -> حضارة الموت

وأعانتهم على غرضهم سلسلة من الحوادث والظروف، منها أن التجار والمبشرين الذي غزوا الصين من الغرب قد ظلوا قرابة جيلين مراكز للعدوى الغربية أرادوا هم ذلك أو لم يريدوه، فقد كان طراز معيشتهم وأساليب متعتهم وراحتهم مما بعث في نفوس من حولهم من شباب الصين رغبة قوية في أن ينالوا حظاً من هذه الحضارة الراقية. وكان هؤلاء التجار والمبشرون رغم قلتهم قد قوّضوا بنشاطهم العقيدة الدينية التي كانت دعامة القانون الأخلاقي القديم؛ وأثاروا شبان البلاد على شيوخها بدعوتهم إلى نبذ عبادة الآباء؛ ومع أنهم كانوا يدعون إلى دين عيسى المسالم الوديع فقد كانوا إذا تأزمت الأمور تحميهم مدافع ترهب الشرق بضخامتها وقوتها وتخضعه لسيطرة الأوربيين. لقد كانت المسيحية في أول نشأتها ثورة المظلومين على الظالمين، وهاهي ذي قد عادت في يد معتنقيها من شباب الصين عاملاً من عوامل الثورة.
وكان زعيم الثورة ممن اعتنقوا المسيحية. ذلك أن أحد المستأجرين من الزراع القاطنين قرب كانتون قد ولد له في عام 1866م ولد مشاغب سماه العالم فيما بعد- في سخرية غير مقصودة- صون يات- صن؛ أي الشمس جنية السكينة(10). واعتنق صون المسيحية وقوى إيمانه بها فاندفع يحطم أصنام الآلهة في معبد قريته. وكان لهذا الغلام أخ له أكبر منه سناً هاجر من قبل إلى جزائر هاواي، فجاء بأخيه الأصغر إلى هنولولو وأدخله مدرسة يديرها راهب من أتباع الكنيسة الإنجليزية ويسير التعليم فيها بالأساليب الغربية البحتة(11). ولما عاد صون إلى الصين التحق بالكلية الحربية البريطانية فكان أول من تخرج فيها من الصينيين.
وكانت هذه الدراسات من أكبر الأسباب التي أفقدت الرجل كل ما كان في قلبه من العقائد الدينية، كما كانت الإهانات وضروب الإذلال التي يلقاها هو وأبناء وطنه في الجمارك التي يسيطر عليها الأوربيون وفي الأحياء الأجنبية من
صفحة رقم : 1391

قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأقصى -> الصين -> الثورة والتجديد -> حضارة الموت

ثغور المعاهدات مما أوغر صدره وجعله يفكر في الثورة. وكان عجز الحكومة الفاسدة الرجعية عن أن تقي الصين العظيمة مذلة الهزيمة على يد اليابان الصغيرة، وتجزئة البلاد بين الدول الأوربية لأغراضها التجارية، مما أشعره بالمذلة وملأ قلبه حقداً وضغينة على تلك الحكومة، فاعتقد أن أول خطوة يجب عليه أن يخطوها في سبيل تحرير الصين هي أن يقضي على أسرة المنشو.

وكانت أولى حركاته شاهداً حقاً على ثقته بنفسه، ومثاليته، وبساطته. ذلك أنه ركب سفينة تجارية دفع أجرها من ماله الخاص وسار بها مدى ألف وستمائة ميل نحو الشمال ليعرض على لي هونج- جانج نائب الملكة الوالدة مشروعاته التي تهدف إلى إصلاح أحوال البلاد واستعادة عزها وكرامتها. فلما رفض هذا الحاكم مقابلته بدأ حياة كلها مغامرات وتجوال لجمع المال الذي يؤجج به نار الثورة الصينية، ولقي معونة من كثير من النقابات التجارية والجمعيات السرية القوية التي كان قادتها يحسدون الطبقة الحاكمة الأرستقراطية ويتوقون إلى إقامة نظام للحكم يكون فيه للطبقات الحديثة من أرباب المصانع والمتاجر شأن يتناسب وثروتهم المتزايدة. ثم غادر الصين وأبحر إلى أمريكا وأوربا يجمع المال القليل من ملايين الغسالين وآلاف التجار الصينيين. فلما جاء إلى لندن اعتقلته المفوضية الصينية دون سند قانوني وأوشكت أن ترسله سراً إلى الصين مكبلاً بالأغلال بحجة أنه خائن لحكومته، ولم ينجه إلا مبشر ممن علموه في صباه، فنبه الحكومة البريطانية وتدخلت هذه في الأمر وأنقذته. وظل خمسة عشر عاماً أخرى يتنقل من مدينة إلى مدينة في جميع أنحاء العالم، وجمع في تجواله مليونين ونصف مليون من الدولارات ليمول بها الثورة، ويلوح أنه لم ينفق شيئاً من هذا المال على نفسه. ثم جاءته على حين غفلة في أثناء تجواله رسالة تنبئه أن قوات الثورة قد استولت على الجزء الجنوبي من بلاد الصين، وأنها بسبيل الاستيلاء على شمالها، وإنما اختارته رئيساً مؤقتاً للجمهورية الصينية. وبعد بضعة أسابيع من
صفحة رقم : 1392
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأقصى -> الصين -> الثورة والتجديد -> حضارة الموت

ذلك الوقت رست السفينة التي أقلته في هنج كنج التي لقي في ثغرها المذلة منذ عشرين عاماً على يد الموظفين البريطانيين.

وكانت الإمبراطورة الوالدة قد قضت نحبها في عام 1908م بعد أن دبرت موت الإمبراطور السجين جوانج شو قبل موتها بيوم واحد، وخلفها على العرش بويسي ابن أخي جوانج، وهو الآن إمبراطور منشوكو . وأدخلت الحكومة الصينية في أواخر حكم الإمبراطورة الوالدة وأوائل حكم حليفها الطفل كثيراً من ضروب الإصلاح التي تهدف إلى تجديد البلاد وصبغها بالصبغة الغربية الحديثة؛ فمدت الطرق الحديدية مستعينة في الغالب برؤوس الأموال الأجنبية وبخبرة الأجانب وإشرافهم، وألغى نظام الامتحان للتعيين في المناصب الحكومية، وأنشئ نظام جديد للتعليم، ودعيت جمعية وطنية لتجتمع في عام 1910م، ووضع مشروع يستغرق تنفيذه تسع سنين يهدف إلى إقامة حكومة ملكية دستورية وينتهي بتعميم حق الانتخاب بعد أن يتدرج خطوة خطوة مع انتشار التعليم العام في البلاد. وجاء في المرسوم الذي أعلن به هذا المنهج ما يأتي: "كل تسرُّع في إدخال هذه الإصلاحات سيؤدي في النهاية إلى ضياع كل ما بذل فيها من جهود"(13). ولكن الثورة لم تكن لتوقف تيارها هذه النوبة التي جهرت بها الأسرة المريضة وهي على فراش الموت، وألفى الإمبراطور الشاب نفسه تحيط به الثورة من كل جوانبه، وقد تخلى عنه الجيش فلم يجد من يدافع عنه، فلم ير بُداً من أن يعلن تخليه عن العرش، وأصدر نائب الإمبراطور الأمير جون مرسوماً هو أعجب ما صدر من المراسيم في تاريخ الصين كله:
إن الشعب في جميع أنحاء الإمبراطورية يتجه الآن بعقله نحو الجمهورية...
صفحة رقم : 1393
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأقصى -> الصين -> الثورة والتجديد -> حضارة الموت

إن إرادة الله واضحة ورغبات الشعب غير خافية. فكيف أستطيع أن أعارض رغبات الملايين الكثيرة للاحتفاظ بمجد أسرة واحدة وكرامتها؟ ومن أجل ذلك فإني أنا والإمبراطور نرى أن تكون الحكومة في الصين جمهورية دستورية إجابة لرغبات الشعب في داخل الإمبراطورية كلها، وعملاً بآراء الحكماء الأقدمين الذي كانوا يرون أن العرض تراث عام(14).
وكانت الثورة كريمة كل الكرم في معاملتها لبو- يى؛ فقد أمنته على حياته ومنحته قصراً مريحاً ومرتباً سنوياً يقوم بشئونه وخليلة يسكن إليها. لقد جاء المنشو إلى الصين آساداً وخرجوا منها حملاناً.
وكان مولد الثورة هادئاً سلمياً، ولكن حياتها كانت حياة عاصفة مليئة بالأحداث. فقد كان ليوان شي- كاي وهو سياسي من الطراز القديم جيش قادر على مقاومة الثورة. وطلب أن يكون ثمن تأييده إياها أن يتولى رياسة الجمهورية، وأجابه صون يات- صن إلى ما طلب واعتزل الحياة العامة في كرم وعزة نفس، وكان قد بدأ منذ قليل يستمتع بمنصبه الجديد. وأخذ يوان يعد العدة لأن يجعل نفسه إمبراطوراً وينشئ أسرة حاكمة جديدة مستعيناً في عمله هذا بجماعات مالية قوية أجنبية ووطنية؛ وحجته في هذا أن الإمبراطورية هي السبيل الوحيد لمنع تدهور الصين وتفككها. واتهمه صون يات- صن بالخيانة وأهاب بأتباعه أن يجددوا عهد الثورة، ولكن يوان مرض ومات قبل أن يصل الأمر إلى امتشاق الحسام.
ولم تعرف الصين النظام والوحدة من ذلك الحين. فقد تبين أن صون يات- صن رجل أحلام يسبح في بيداء الخيال، وأنه خطيب مفوه ولكنه سياسي عاجز عن تولي زمام الحكم وقيادة الأمة إلى بر السلام، فكان ينتقل من خطة إلى خطة ومن نظرية إلى أخرى، أغضب من عاونوه من الطبقات الوسطى بما أظهر من ميل إلى الشيوعية، وانتهى أمره بالانزواء في كانتون ليعلم شبابها ويبث فيهم روحه،
صفحة رقم : 1394
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأقصى -> الصين -> الثورة والتجديد -> حضارة الموت

ويحكم أهلها في بعض الأحيان . وحرمت الصين من حكومة تعترف بها جميع أجزائها، ومن ملكية كانت رمز وحدتها، ونبذت عادة الطاعة والخضوع لتقاليدها وشرائعها؛ وهي من بداية أمرها ضعيفة النزعة الوطنية التي تربط النفس بالوطن كله لا بالإقليم الذي يعيش فيه، فشبت فيها نار حرب متقطعة بين الجنوب والشمال تارة، وبين طائفة وطائفة تارة أخرى، ثم بين السراة والجياع، وبين الشيوخ والشبان. وقام المغامرون يجيشون الجيوش ويفرضون سلطانهم على الولايات النائية يجبون منها الضرائب ويزرعون الأفيون(15) ويخرجون بجنودهم من حين إلى حين ليضموا ضحايا جدداً إلى رعاياهم المساكين. واضطربت أحوال الصناعة والتجارة واضمحلت لكثرة ما كان يفرضها عليها قائد منتصر بعد قائد. وأخذ اللصوص وقطاع الطريق يفرضون الإتاوات، وينهبون ويقتلون، لأنهم لا يجدون قوة منظمة تقف في وجههم وتضرب على أيديهم. ووجد الناس في التلصص والجندية وقاية لهم من الهلاك جوعاً، وكثيراً ما كان هذا القائد أو ذاك المنسر من اللصوص يداهم أسرة مقتصدة فيسلبها ما ادخرته طول حياتها من المال أو ما جمعته من المتاع. وحسبنا تصويراً لهذه الحال أن عدد قطاع الطريق في ولاية هونان وحدها قد بلغ في عام 1931م- 000ر400(16) أو يزيدون.
وبينما كانت هذه الفوضى ضاربة إطنابها في البلاد أرسلت الروسيا في عام 1922م اثنين من أقدر ساستها هما كرخان وجف ليضما الصين إلى نطاق الثورة الشيوعية. ومهد كرخان لعمله هذا بنزول الروسيا عمالها من امتيازات في الصين، وبتوقيع معاهدة تعترف فيها بشرعية حكومة الثورة وبمركزها الدولي. ولم يجد جف الداهية صعوبة ما في أن يستميل صون يات- صن إلى الشيوعية لأن جميع السلطات الأخرى كانت قد نبذته، ولم يمض إلا وقت قصير حتى تكون جيش وطني جديد ودرب بمعونة سبعين من الضباط السوفيت. وزحف هذا
صفحة رقم : 1395

قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأقصى -> الصين -> الثورة والتجديد -> حضارة الموت

الجيش من كانتون إلى الشمال تحت إمرة "جيانج كاي- شك" أمين سر صون يات- صن السابق، ويقوده عملياً المستشار الروسي برودين يخضع بلدة في إثر بلدة حتى استقر أخيراً في بيكين . ولكن المنتصرين انقسموا على أنفسهم في ساعة النصر فخرج جيان كاي- شك على الحركة الشيوعية وأقام دكتاتورية عسكرية إجابة لرغبات رجال الأعمال والمال .
إن الأمم كالأفراد من العسير عليها إلا تفيد من مصائب جيرانها. ومصداق ذلك أن اليابان، التي كان يبغي صون يات- صن أن تكون صديقة الصين وحليفتها على الأمم الغربية، والتي شجعت الثورة الصينية بنجاحها السريع في السير على النظم الأوربية في الصناعة والسياسة والحرب، نقول إن اليابان وجدت في الفوضى التي تردت فيها معلمتها القديمة فرصة سانحة لحل المشكلة التي أثارها نجاحها هي وتقدمها السريع. ذلك أن اليابان لم يكن في وسعها أن تحد من عدد سكانها دون أن تعرض سلامتها للخطر الشديد بعجزها عن صد من تحدثه نفسه بالإغارة عليها؛ ولم يكن في وسعها كذلك أن تكون سكانها المتزايدين إلا إذا زادت مواردها بتشجيع الصناعة والتجارة؛ وليس في وسعها أن تشجع الصناعة والتجارة من غير أن تستورد الحديد والفحم وغيرهما من المواد الأولية التي لا تجدها في بلادها، وليس في وسعها أن تنمي تجارتها وأن تفيد منها أكبر فائدة دون أن يكون لها نصيب موفور في السوق العظيمة الوحيدة التي لا تزال خارجة عن نطاق الاستعمار الأوربي الذي شمل الكرة الأرضية كلها. وكانت الصين
صفحة رقم : 1396
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأقصى -> الصين -> الثورة والتجديد -> حضارة الموت

مشهورة بكثرة ما فيها من الحديد والفحم ويرجى منها أن تكون في المستقبل أعظم الأسواق العالمية. وهي إلى ذلك أقرب الأسواق إلى اليابان. وهل في العالم أمة يبدو لها أن في مقدورها أن تختار بين العودة إلى الزراعة والفاقة والمذلة، وبين التقدم في الصناعة والفتح والاستعمار ثم تستطيع أن تقاوم الميل الشديد إلى اختطاف جزء من الصين الضعيفة المقطعة الأوصال في الوقت الذي كانت فيه النسور الأوربية يقطع بعضها أشلاء بعض في ميدان فرنسا .
من أجل هذا أعلنت اليابان الحرب على ألمانيا في بداية الحرب الأولى، وانقضت على إقليم جياو جو وهو الإقليم الذي كانت ألمانيا قد استأجرته من الصين قبل ذلك الوقت بستة عشر عاماً، ثم قدمت إلى حكومة يوان شي كاي "واحد وعشرين مطلبا" لو أجابتها الصين لأصبحت مستعمرة سياسية واقتصادية لليابان، ولولا احتجاج الولايات المتحدة ومقاطعة الصينيين بزعامة طلابها الغضاب للبضائع اليابانية لنفذت هذه المطالب قوة واقتداراً. ذلك أن الطلاب انطلقوا في شوارع المدن الصينية يبكون أو يقتلون أنفسهم لأنهم يستحون أن يرى الناس وجوههم بعد هذا الإذلال الذي حاق ببلادهم(17).
وكان اليابانيون يستمعون وهم ساخرون إلى غضب أوربا واحتجاجها وهي التي ظلت تنخر في عظام الصين خمسين سنة أو تزيد. وارتدت اليابان دون أن تصل إلى أهدافها ولكنها ظلت تتحين فرصة أخرى تحقق فيها أطماعها. ولاحت لها هذه الفرصة حين كانت أوربا وأمريكا تترديان في عواقب خططهما الصناعية الاستعمارية التي كانت تعتمد على الأسواق الأجنبية لاستيعاب "الفائض" من محصولاتها التي لا يستطيع منتجوها أن يبتاعوها. وزحفت اليابان على منشوريا وأقامت بو يي إمبراطور الصين السابق رئيساً لجمهورية منشوكو التي أنشأتها في ربوعها ثم نصبته بعدئذ إمبراطوراً عليها. ثم عقدت مع الدولة الجديدة حلفاً
صفحة رقم : 1397

قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأقصى -> الصين -> الثورة والتجديد -> حضارة الموت

سياسياً، ثم تغلغلت فيها اقتصادياً، وسيطرت عليها عسكرياً، وجعلت لنفسها بهذه الوسائل فيها مركزاً ممتازاً يمكنها من استغلال موارد منشوريا الطبيعية، واستخدام أهلها، وفتح أسواقها للتجارة اليابانية. وانضمت الدول الأوربية التي كانت قد أنفقت فيما بينها على وقف غارات التلصص زمناً ما بعد أن جمعت كل ما تستطيع أن تجمعه من الأسلاب، انضمت هذه الدول إلى أمريكا، ووجهت احتجاجا ضعيفاً إلى اليابان على هذا النهب الصريح؛ ولكنها كانت في هذه المرة كما هي عادتها في جميع الأحوال على استعداد لأن تعد النصر مبرراً للغاية.
وكانت آخر مذلة لحقت بأوربا وأمريكا هي ما أقدمت عليه اليابان في شنغهاي. ذلك أن اليابان ثار ثائرها لما أصاب تجارتها من جراء المقاطعة الصينية، فأنزلت جيوشها المنتصرة في أغنى ثغور الصين، واحتلت حي جاباي ودمرته، وأنذرت الحكومة الصينية بأن توقف أعمال جمعيات المقاطعة. ودافع الصينيون عن أنفسهم دفاع الأبطال، وقاوم جيش الطريق التاسع عشر القادم من كانتون قوى اليابان التي كانت تفوقه عدة ونظاماً، ووقف وحده تقريباً في وجهها شهرين كاملين. ثم عرضت حكومة نانكنج على اليابان أن تتراضى وإياها على حل وسط، وانسحبت اليابان من شنغهاي، وعادت الصين تضمد جراحها، فاعتزمت أن تضع لنفسها أساس حضارة جديدة أقوى من حضارتها السابقة وأمتن منها دعامة تستطيع أن تدفع بها العالم النهم وترد مطامعه.

صفحة رقم : 1398
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأقصى -> الصين -> الثورة والتجديد -> بداية عهد جديد

الفصل الثالث
بداية عهد جديد
التغيير في القرية - وفي المدينة - المصانع - التجارة - اتحادات العمال-
الأجور - الحكومة الجديدة - القومية واتباع الأساليب الغربية - إنزال
كنفوشيوس عن عرشه - مناهضة الدين - المبادئ الخلقية الجديدة - التحول في

نظام الزواج - تحديد النسل - التعليم المشترك بين الذكور والإناث - "التيار الجديد"
في الأدب والفلسفة - لغة الأدب الجديدة - هوشي - عناصر التدمير - عناصر التجديد
كان كل شيء في الماضي يتغير ماعدا الشرق، أما الآن فليس شيء في الشرق لا يتغير، وأضحت أشد الأمم استمساكا بالقديم أكثرها تطرفاً بعد الروسيا، وأخذت تدمر عامدة عادات ونظماً كانت تعدها من قبل حرماً آمناً غير قابل للتعديل. فليس الأمر الآن مقصوراً على القضاء على أسرة حاكمة كما حدث في عام 1644م بل هو اقتلاع جذور حضارة قديمة.
وقد جرت العادة أن يكون آخر التغيير وأقله في القرية، لأن اعتدال القرية وبطء سيرها لا يشجعان على التجديد، والجيل الجديد نفسه لا بد له أن يزرع أولاً ثم يحصد ما زرعه فيما بعد. وأما الآن فإن سبعة آلاف ميل من الخطوط الحديدية تخترق الريف الصيني، ولا تزال تربط القرى الشرقية بالمدن الساحلية وتحمل كل جديد من سلع الغرب إلى الملايين من بيوت الزراع، رغم ما أصابها من الدمار في خلال الفوضى وسوء الإدارة اللذين داما عشرات السنين، ورغم ما تحملته من الأعباء الباهظة بسبب حاجات الحرب ومطالبها الملحة. ففي هذه القرى يرى السائح كثيراً من الواردات الأجنبية مثل الكيروسين، ومصابيح الكيروسين، وعيدان الثقاب، ولفافات التبغ، بل يرى فيها القمح الأمريكي نفسه. ولعل القارئ يظن أن وجود هذه البضائع والسلع في داخل البلاد أمر عادي غير جدير بالذكر؛ والحق أن
صفحة رقم : 1399
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأقصى -> الصين -> الثورة والتجديد -> بداية عهد جديد

نقلها إليها من أصعب الأمور لأن البلاد لا تزال جد فقيرة في وسائل النقل، حتى أن نقل البضائع بين الأقاليم الداخلية والمقاطعات الساحلية يتطلب من النفقات أكثر مما يتطلبه نقلها إلى ثغور الصين من أستراليا أو الولايات المتحدة. ولقد تبين لأهل البلاد أن نمو الحضارة من الناحية الاقتصادية موقوف على سهولة سبل النقل ووسائل الاتصال. من أجل ذلك أنشئت طرق برية يبلغ طولها نحو عشرين ألف ميل تسير عليها ستة آلاف مركبة حافلة سيراً غير منتظم مملوءة على الدوام بالركاب. فإذا ما ارتبطت هذه القرى التي يخطئها الحصر بالسيارات السريعة فإن ذلك يحدث في الصين أعظم تغيير شهدته في تاريخها الطويل وهو القضاء حتى على القحط الذي طالما هددها وأفنى الكثيرين من أهلها.
هذا في القرى أما في الحواضر فإن انتصار الأساليب الغربية يسير بخطى أسرع وأيسر، فالحرف اليدوية أخذت في الزوال بتأثير منافسة السلع الرخيصة السهلة النقل المستوردة من خارج البلاد. وقد تعطل لهذا السبب آلاف من الصناع، ولكن المصانع الآلية التي أنشئت على طول السواحل بمعونة رؤوس الأموال الأجنبية والوطنية تبتلعهم ابتلاعاً سريعاً، وقد سكت صوت الأنوال اليدوية في المدن وإن كانت لا تزال تدور في الريف، وغمر القطن والمنسوجات القطنية أسواق البلاد، وشيدت مصانع النسيج لتجعل من فقراء الصين عبيداً مسخرين للآلات، وأقيمت في هانجتشاو أفران لصهر المعادن لا تقل ضخامة وروعة عن مثيلاتها في البلاد الغربية، ووضعت مشروعات هائلة لإنشاء مخابز ومصانع لحفظ الطعام ولصنع الأسمنت والورق والصابون والشمع وتكرير السكر، وهي تعمل رويداً رويداً على تحويل العامل الصيني اليدوي إلى صانع ومشرف على الآلات. لكن الصناعات الجديدة يعوق نموها السريع تردد أصحاب رؤوس الأموال في أن يستثمروها في بلاد لا تنقطع فيها الثورات، ويلاقون فيها صعاباً جمة من جراء نقص وسائل النقل وكثرة نفقاتها وقلة المواد في داخل

صفحة رقم : 1400
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأقصى -> الصين -> الثورة والتجديد -> بداية عهد جديد

البلاد، ومن جراء تمسك الصينيين بتلك العادات الجميلة عادة الولاء للأسرة قبل الولاء لكل ما عداها من الجماعات، والتي تجعل كل مكتب من مكاتب الموظفين وكل مصنع معششاً للأقارب والعاجزين عن أداء عمل من الأعمال(19). والتجارة يعوقها فضلاً عن هذا ما يفرض عليها من الضرائب في داخل البلاد ومن الرسوم الجمركية والرشاوي وضروب الاغتصاب، وإن كانت مع ذلك تنمو أسرع من نمو الصناعة وتضطلع بدور خطير في تحول الصين الاقتصادي .
وقد قضت الصناعات الجديدة على نقابات أرباب الحرف القديمة وأحدثت كثيراً من الاضطراب والفوضى بين العمال وأرباب الأعمال. ذلك أن هذه النقابات كانت تعيش بفضل ما تبذله من الجهود لتحديد أجور العمال وأثمان البضائع بالتوفيق بين الملاك والمنتجين الذين لم يكن لمنتجاتهم ما ينافسها في التجارة المحلية. فلما أن اتسع نطاق التجارة بزيادة وسائل النقل، وجاءت البضائع من البلاد البعيدة تنافس في جميع المدن بضائع النقابات المصنوعة باليد، تبين لها أن ليس في استطاعتها أن تشرف على الأسعار أو تحدد الأجور من غير أن تخضع في ذلك إلى أوامر المتنافسين الأجانب وإلى رؤوس الأموال الأجنبية. ومن أجل هذا تفككت النقابات وتقسمت إلى غرف تجارية من جهة وإلى اتحادات للعمال من جهة أخرى. فالغرف تعنى بالنظام والولاء لأصحاب الأعمال وبالحرية الاقتصادية، والعمال يعنون بأجورهم المنخفضة التي تكاد تميتهم جوعاً. وقد كثر الإضراب والمقاطعة ولكن هذين قد أفلحا في إرغام أرباب الأعمال من الأجانب على التسليم للحكومة الصينية ببعض الامتيازات أكثر مما أفلحا في رفع
صفحة رقم : 1401
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأقصى -> الصين -> الثورة والتجديد -> بداية عهد جديد

أجور العمال. وقد قررت مصلحة الشؤون الاجتماعية التابعة لبلدية شنغهاي الصينية متوسط الأجر الأسبوعي لعمال مصانع النسيج بين 1.73، 2.76 دولار للرجل، وما بين 1.10، 1.78 دولار للمرأة. وكان متوسط الأجور الأسبوعية للرجال في المطاحن والمصانع 1.96 دولار وفي مصانع الأسمنت 1.72 دولار، وفي مصانع الزجاج 1.84، وفي مصانع الكبريت 2.11؛ وكان متوسط أجر العمال المهرة في المصانع الكهربائية 3.10 وفي مصانع الآلات 3.24 وبين عمال المطابع 4.55(23) وما من شك في أن الزيادة الكبيرة في أجور عمال المطابع إنما ترجع إلى حسن تنظيمهم والى الصعوبة التي يعانيها أصحاب المطابع في استبدال غيرهم بهم إذا توقفوا عن العمل فجأة. وتألفت أولى اتحادات العمال في عام 1919م وزاد عددها وقوتها حتى طلبت في أيام برودين أن تتولى هي حكم الصين؛ ولكن جيانج كاي - شك كبح جماحها من غير رحمة بعد نزاعه مع الروسيا؛ وقد سنت لمقاومتها في هذه الأيام قوانين غاية في الصرامة، ولكن عددها مع ذلك آخذ في الازدياد بسرعة لأنها الملجأ الوحيد للعمال من عنت النظام الصناعي الذي لم يعمل حتى الآن أكثر من أن يبدأ بوضع التشريع الخاص بالعمال، ولم يبدأ قط في تنفيذه(24). وإن ما يعانيه صعاليك المدن في هذه الأيام من فقر مدقع وكدح يدوم اثنتي عشرة ساعة في اليوم بأجور لا تكاد تمسك الروح بالجسم، يهددهم الموت جوعا إذا لم يجدوا عملاً في يوم من الأيام، إن ما يعانيه هؤلاء الصعاليك في هذه الأيام لأسوأ مما كان يعانيه فقراء القرى في الأيام الخالية حيث لم يكن يسمح للفقراء أن يروا الأغنياء، وحيث كانوا يرضون بما قسم لهم منذ الأزل.

ولعله كان من المستطاع تجنب هذه الشرور لو أن تبدل الأحوال في شرق الصين لم يتم بغير ما تم به من السرعة ولم يبلغ ما بلغه من الكمال. إذن لكان في مقدور كبار الموظفين الصينيين، وإن فقدوا ما كان لهم من حيوية وتلوثت أيديهم بالرشوة، أن يكبحوا جماح القوى الصناعية الجديدة حتى تتأهب الصين
صفحة رقم : 1402
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأقصى -> الصين -> الثورة والتجديد -> بداية عهد جديد

لقبولها من غير أن تقع في براثن الفوضى والعبودية؛ وإذن لنشأت من نمو الصناعة عاماً بعد عام طبقة جديدة من السكان لعلها كانت تستطيع أن تخطو بسلام إلى ميدان السلطة السياسية، كما خطا الصناع إليها في إنجلترا وحلوا محل كبار ملاّك الأراضي الزراعية.

ولكن الحكومة الجديدة ألفت نفسها بلا جيش، ولا زعماء مجربين، ولا مال؛ ووجد الكومنتانج، أي حزب الشعب الذي أنشئ لتحرير الأمة، أن بد له أن يقف موقف العاجز وهو يرى الأمة تخضع لرؤوس الأموال الأجنبية والوطنية. وكان هذا الحزب قد ولد في مهاد الديمقراطية ونشأ في أحضان الشيوعية، ثم أضحى جل اعتماده على مصارف شنغهاي المالية، فترك الديمقراطية وانحاز إلى الدكتاتورية وحاول أن يقضي على اتحاد الصناع . ذلك الحزب يعتمد على الجيش، ولا بد للجيش من مال، والمال لا يأتي إلا من القروض؛ وإلى أن يكون للجيش من القوة ما يمكنه من إخضاع الصين فإن الحكومة ستظل عاجزة عن فرض الضرائب على الصين، وإلى أن تستطيع الحكومة فرض الضرائب على الصين ستظل تتلقى النصح والإرشاد من حيث تتلقى المال. على إنها مع هذا كله قد أنجزت الشيء الكثير، فقد أعادت إلى الصين إشرافها التام على التعريفة الجمركية وعلى صناعاتها - داخل نطاق قوة المال العالمية - وأنشأت ودربت وجهزت جيشاً قد يستخدم في يوم من الأيام لقتال غير الصينيين؛ ووسعت رقعة الأقاليم التي تعترف بسلطة الحكومة، وقللت في هذه الرقعة من قوة قطاع الطرق الذين كانوا يجثمون على أنفاس الأمة ويكادون يقضون على حياتها الاقتصادية. وهي تسير في هذا سيراً بطيئاً لأن إشعال نار الثورة مستطاع في يوم وليلة ولكن إقامة حكومة ثابتة يحتاج إلى جيل.
صفحة رقم : 1403
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأقصى -> الصين -> الثورة والتجديد -> بداية عهد جديد

وليس تفكك الصين وانفصام عرى وحدتها إلا مظهراً مما في النفس الصينية من انقسام ونتيجة لازمة له. إن أقوى ما في الصين من مشاعر في هذه الأيام هو شعور الكراهية للأجانب، وأقوى التيارات التي تجتاح الصين هو تيار محاكاة الأجانب. والصين تعرف أن الغرب لا يستحق أن تتملقه وتحاكيه؛ ولكن الصين يضطرها روح الأيام ودوافعها القوية إلى تملق الغرب ومحاكاته لأن الأمم في هذا العصر لابد لها أن تختار بين التصنيع والاسترقاق ولا ثالث لهما. ومن أجل هذا نرى الصينيين في المدن الشرقية يهجرون الحقول إلى المصانع، والثياب الفضفاضة إلى السراويل الضيقة، ونغمات الماضي البسيطة الشجية إلى موسيقى الغرب المعقدة، ويتخلون عن ذوقهم الجميل في الثياب والأثاث والفن، ويزينون جدرانهم بالصور الأوربية، ويشيدون دور الحكومة ومكاتب الأعمال على أقبح الطرز الأمريكية. وقد تخلت نساء الصين عن عادة ضغط أقدامهن من الأمام إلى الخلف وأخذن يضغطنها من اليمين إلى اليسار على آخر طراز غربي ، وأخذ فلاسفتها يتخلون عن مبادئ كنفوشيوس المعتدلة القنوعة الظريفة ويهرعون إلى مبادئ موسكو ولندن وبرلين وباريس ونيويورك الشرسة الخصيمة، ويتلقونها بنفس الحماسة التي كان الأوربيون يتلقون بها مبادئ النهضة في أواخر العصر الوسيط.
لقد ثلّ عرش كنفوشيوس وكان في الطريقة التي ثل بها شيء من سمات عصر النهضة وعصر الاستنارة؛ ولقد كان نبذاً لأرسطو الصين والآلهة التي عبدها الشعب من أقدم الأزمنة. وأتى على الدولة حين من الدهر اضطهدت فيه البوذية وطوائف الرهبان في الأديرة، ذلك أن ثوار الصين كانوا كثوار فرنسا ملاحدة لا يخفون عن الناس إلحادهم، ويجهرون بعدائهم للدين، ولا يعبدون غير
صفحة رقم : 1404
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأقصى -> الصين -> الثورة والتجديد -> بداية عهد جديد

العقل. ولعل الكنفوشية كانت تترك الناس أحراراً في عقائدهم الدينية لأنها تفترض أن الآلهة ستبقى ما بقي الفقر؛ أما الثورة فكانت تظن أن في وسعها أن تقضى على الفقر ولذلك لم تر حاجة إلى الآلهة؛ وكانت الكنفوشية ترى أن الزراعة والأسرة هما نظام الحياة العملية والاجتماعية الطبيعية ولذلك شادت صرحاً للأخلاق يهدف إلى حفظ النظام وإشاعة القناعة في نطاق دائرة البيت والحقل؛ أما الثورة فوجهتها الصناعة وهي في حاجة إلى أخلاق جديدة تتفق مع الحياة الفردية في الحواضر. وقد بقيت الكنفوشية لأن الوصول إلى المناصب السياسية والمهن العلمية كان يتطلب معرفة مبادئها والآخذ بها، أما الآن فنظام الامتحانات قد انقضى عهده وحلت العلوم الطبيعية في المدارس محل الفلسفة الأخلاقية والسياسية؛ وأضحى الرجل لا يصاغ للحكم بل يصاغ للصناعة؛ وكانت الكنفوشية محافظة تكبح بحذر الشيوخ مُثُل الشباب العليا؛ أما الثورة فروحها من أنفاس الشباب ولا تقبل أن يفرض عليها شيء من هذه القيود، وهي تسخر من الشيوخ إذا رفعوا عقيرتهم محذرين: "إن الذين يظنون أن الجسور القديمة عديمة النفع ويحطمونها تحطيماً سيصيبهم الدمار ويغرقهم تيار المياه الجارف" .
وقضت الثورة بطبيعة الحال على دين البلاد الرسمي ولم تعد تقرب القرابين الآن من مذبح السماء إلى التِّيَان الصامت المجرد. وتجيز الحكومة عبادة الأسلاف ولكن هذه العبادة آخذة هي الأخرى في الانقراض، وينزع الرجال إلى تركها شيئاً فشيئاً للنساء وقد كانوا يظنونهن من قبل غير خليقات بهذه الطقوس المقدسة. ولقد تلقى نصف زعماء الثورة تعليمهم في المدارس المسيحية ولكن الثورة رغم انتماء جيانج كاي شك إلى الطائفة المسيحية النظامية (
Methodism) لا تميل إلى دين يؤمن بخوارق الطبيعة وتصبغ كتبها المدرسية بالصبغة الإلحادية(29). أما
صفحة رقم : 1405

قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأقصى -> الصين -> الثورة والتجديد -> بداية عهد جديد

الدين الجديد الذي يحاول أن يسد الفراغ العاطفي الناشئ من فراق الآلهة فهو دين الوطنية، كما أن الدين الجديد في الروسيا هو الشيوعية. لكن هذه العقيدة في الوقت الحاضر لا ترضى كافة الناس، ولهذا ترى الكثيرين من صعاليك المدن يعمدون إلى العرافين والمتنبئين والوسطاء ليجدوا عندهم ملجأ من كدح الحياة اليومية الرتيب الذي لا لذة فيه ولا طرافة، ولا يزال القرويون يجدون بعض ما يسليهم عن فقرهم ويفرج عنهم كربهم في سكون المزارات القديمة. والقانون الأخلاقي القديم الذي كان الناس منذ جيل واحد يظنونه قانوناً سرمدياً لا يتبدل آخذ في التفكك والانحلال بسرعة تتضاعف ثم تتضاعف على مدى الأيام بعد أن فقد حماية الحكومة والدين والحياة الاقتصادية. وأهم ما طرأ على الصين من تبدل في هذه الأيام، إذا استثنينا ما أحدثه فيها الغزو الصناعي، هو تحطيم نظام الأسرة القديمة لتحل محله نزعة فردية تترك كل إنسان حراً يواجه العالم بمفرده، وقد استبدل الولاء للدولة من الوجهة النظرية بالولاء للأسرة. وإذ كان هذا الولاء الجديد لم ينتقل الآن من طور الأقوال والنظريات إلى طور الأعمال فإن المجتمع الجديد يعوزه الأساس الخلقي الذي يستند إليه. إن الزراعة يلائمها نظام الأسرة لأن الأرض، قبل انتشار الآلات، كانت تستغل أحسن استغلال على أيدي جماعة من الناس تربطهم الدين والسلطة الأبوية. أما الصناعة فتمزق الأسرة لأنها تعطي العمل والجزاء عليه للأفراد لا للجماعات، ولا تعطيهم هذا الجزاء دائماً في مكان معين، ولا تعترف بأن للضعفاء حقاً في مال الأقوياء، ولا يجد التعاون والتراحم الطبيعيين القائمين بين الأسرة سنداً من التنافس المرير الذي هو من طبية الصناعة والتجارة؛ وترى الجيل الجديد الذي ينفر على الدوام من سلطان الشيوخ يهرع عن عمد إلى المدينة وفردية المصنع، ولعل

سلطان الأب القوي في الزمن الماضي قد عجل بالانقلاب لأن الرجعية هي التي يرجع إليها على الدوام إسراف المتطرفين. وهكذا انتزعت الصين نفسها من ماضيها واستأصلت
صفحة رقم : 1406
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأقصى -> الصين -> الثورة والتجديد -> بداية عهد جديد

جذوره، وما من أحد يدري هل تستطيع أن تمد لها جذوراً جديدة في وقت يمكنها من أن تنجي بها حياتها الثقافية.
وكذلك أخذت أساليب الزواج القديم تزول بزوال سلطان الأسرة. نعم إن معظم الزيجات لا تزال ينظمها الآباء، ولكن الزواج بالاختيار الحر بين الفتيان والفتيات آخذ في الانتشار في الحواضر؛ فالشاب لا يكتفي الآن بأن يرى نفسه حراً في أن يتزوج من يشاء، بل هو يجري تجارب في الزواج قد يرتاع لها أبناء الغرب أنفسهم، وهذا القول نفسه ينطبق على الفتيات كما ينطبق على الفتيان. لقد كان نيتشه يرى أن آسية على حق فيما تعامل به النساء، ويرى أن إخضاعهن للرجال هو العاصم الوحيد من سيطرتهن عليهم سيطرة لا تقف عند حد، ولكن آسية قد اختارت أساليب أوربا لا أساليب نيتشه في معاملة النساء. وتعدد الزوجات آخذ في النقصان لأن الزوجة الجديدة تعارض فيه وتعارض في التسري. والطلاق قليل غير عادي، ولكن السبيل إليه أوسع مما كانت في الأيام الماضية . والتعليم المشترك هو القاعدة المتبعة في الجامعات، واختلاط الجنسين اختلاطاً حراً أمر عادي في المدن، وقد سنت النساء لهن قوانينهن الخاصة بهن وأنشأن مدارسهن الطبية، بل سرن إلى أبعد من هذا فأنشأن مصرفاً مالياً خاصاً بهن(31). واللائي انضممن إلى الحزب من النساء منحن حق الانتخاب، وقد وجدت لهن وظائف في أرقى لجان الحزب والحكومة على السواء(32). ولقد نبذن عادة قتل الأطفال
صفحة رقم : 1407
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأقصى -> الصين -> الثورة والتجديد -> بداية عهد جديد

وأخذن يزاولن عادة تحديد النسل ، ولم يزد عدد السكان زيادة ملحوظة منذ قيام الثورة ولعل تيار السكان الصينيين الجارف قد أخذ الآن يتراجع(33).
ومع هذا فإن خمسين ألف صيني جديد يولدون في كل يوم(34). وسيكونون في مستقبل أيامهم جدداً من كل الوجوه، جدداً في تفصيل ملابسهم وترجيل شعرهم، جدداً في تعليمهم وعاداتهم وأخلاقهم ودينهم وفلسفتهم. لقد اختفى ذيل ملابسهم الطويل واختفى معه ما كان في الأيام الخالية من ظرف ورقة، وخشنت أحقاد الثورة روح الأهلين، وأضحى من أصعب الأمور على المتطرفين أن يجاملوا المحافظين(35). وهاهو ذا تيار الصناعة السريع يبدل ما كان يتصف به الشعب الصيني القديم من تواكل وعدم مبالاة إلى صفات أخرى أكثر دلالة على طبيعتهم. إن هذه الوجوه البليدة لتخفي تحتها نفوساً نشيطة سريعة الاهتياج، وإن النزعة السلمية التي أشربتها نفوس الصينيين بعد حروب دامت عدة قرون لآخذة في الزوال من طول تفكيرهم في هزائمهم القومية وتقطيع أوصال بلادهم؛ والمدارس تعد الآن كل طالب لأن يكون جندياً، وعاد القوم مرة أخرى يرون القائد بطلاً.
وتبدل نظام التعليم من أوله إلى آخره فألقت المدارس بكنفوشيوس من النافذة وأحلت العلوم الطبيعية والرياضية محله، وإن لم يكن من الضروري أن تتخلى عنه لتحل العلوم محله لأن تعاليم كنفوشيوس لا تتعارض مطلقاً مع روح العلم. ولكن التاريخ كله لحمته وسداه يتكون في جميع مراحله من غلبة الإحساسات النفسية على العقائد المنطقية. فدراسة الرياضيات والميكانيكا واسعة الانتشار لأنهما يعينان على صناعة الآلات، والآلات تعين على جمع الثروة وعلى صناعة المدافع، والمدافع قد تحفظ الحرية. ودراسة الطب في الصين آخذة في
صفحة رقم : 1408
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأقصى -> الصين -> الثورة والتجديد -> بداية عهد جديد

الانتشار، والفضل في انتشارها راجع معظمه إلى هبات المحسن ركفلر . وقد تضاعف عدد المدارس الجديدة والمدارس العليا والكليات بسرعة فائقة على الرغم من فقر البلاد، والصين الحديثة تأمل ألا يمضي إلا القليل من الوقت حتى يستطيع كل طفل أن يتعلم من غير آخر وأن يسودها النظام الديمقراطي بفضل انتشار التعليم.
وقد حدث في الأدب الصيني والفلسفة الصينية انقلاب شبيه بما حدث في عهد النهضة. ذلك أن دخول الكتب الغربية كان له من الأثر المنتج ما كان للمخطوطات اليونانية من أثر في عقول الإيطاليين؛ وكما أن إيطاليا في إبان نهضتها قد هجرت اللغة اللاتينية لتكتب بالإيطالية فكذلك فعلت الصين بزعامة هوشي إذ حولت اللهجة الأرستقراطية القديمة إلى لغة أدبية هي المعروفة بالباي هوا، وأقدم هوشي على عمل خطير جازف فيه بمصيره الأدبي فكتب بهذه "اللغة البسيطة" تاريخ الفلسفة الصينية في عام 1919م؛ وكانت شجاعته سبباً في فوزه العظيم، فاتخذت الكتابة الرسمية في المدارس. وقامت في الوقت نفسه "حركة الحروف الألف" لإنقاص رموز الكتابة الصينية من 000ر40 رمز وهو العدد الذي كان يستخدمه العلماء في كتاباتهم إلى 300ر1 تكفي للاستعمال العادي، وبهذه الطريقة أخذت لهجة المنذرين تذاع بسرعة في الأقاليم الصينية، وقد لا ينتهي هذا القرن حتى تكون للصين كلها لغة واحدة وحتى تقترب من الوحدة الثقافية.
والأدب الصيني أخذ في الانتشار مدفوعاً بهذه اللغة الشعبية وبحماسة الأهلين، وقد أضحت الروايات والقصائد والتمثيليات لا يقل عددها عن الصينيين أنفسهم، وانتشرت الصحف والمجلات في كل مكان، وأخذ الصينيون يترجمون آداب الغرب
صفحة رقم : 1409
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأقصى -> الصين -> الثورة والتجديد -> بداية عهد جديد

بالجملة، كما أخذت أشرطة الخيالة الأمريكية، يشرحها مترجم صيني يقف إلى جانب الشاشة البيضاء، تبعث البهجة في نفوس الصينيين العلماء منهم والسذج. وكذلك عادت الفلسفة إلى عظماء الفلاسفة الأقدمين الملحدين، وأخذت تعيد دراستهم وتفسيرهم على نمط جديد بعزيمة واندفاع لا يقلان عن عزيمة أوربا ونشاطها في القرن السادس عشر. وكما أن إيطاليا بعد أن تحررت من القيود الكنسية قد راعتها العقلية اليونانية اللاتينية وأثارت إعجابها، كذلك أخذت الصين الجديدة تستمع بشغف ليس كمثله شغف إلى أقوال مفكري الغرب أمثال جون ديوي وبرتراند رسل وأمثالهم من العلماء المستقلين في تفكيرهم استقلالاً تاماً عن جميع الأديان، والذين يعظمون التجارب ويعتقدون أنها وحدها هي المنطق الواجب الاتباع، والذي تتفق فلسفتهم لهذا السبب مع مزاج أمة تحاول أن تجمع الإصلاح الديني وإحياء العلوم والاستنارة والنهضة والثورة في جيل واحد . وإذا ما امتدح أحدنا الآن ما لآسية من "قيم روحية" سخر منه هوشي وقال إنه يجد في إصلاح نظم الصناعة والحكم إصلاحا يعين على استئصال العوز من البلاد قيما أخلاقية أعظم من كل ما في "حكمة الشرق"، وهو يلقب كنفوشيوس "بالشيخ الطاعن في السن" ويقول إن التفكير الصيني ليظهر على حقيقته إذا ما وضعت مدارس الملحدين التي كانت قائمة في القرن الخامس والرابع والثالث قبل الميلاد في مكانها الصحيح من تاريخ الصين(38).
بيد أنه وهو وسط هذا "التيار الجديد" الجارف وهذه الحركة الفكرية الجديدة التي كان من أنشط زعمائها قد أوتى من الحكمة ما جعله يدرك ما للشيوخ أنفسهم من قيمة، وقد صاغ مشكلة بلاده أكمل صياغة في الفقرة الآتية:
صفحة رقم : 1410
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأقصى -> الصين -> الثورة والتجديد -> بداية عهد جديد

"إن الجنس البشري بأجمعه لتصيبه أكبر خسارة إذا ما استبدلت الحضارة الجديدة بالحضارة القديمة استبدالاً سريعاً مفاجئاً يمحوها من الوجود بدل أن تمتصها البلاد امتصاصاً بطيئاً وتمثلها كما يمثل الغذاء الصالح. وعلى هذا فإن المشكلة التي تواجهنا يمكن أن تصاغ على النحو الآتي: كيف نستطيع أن نهضم الحضارة الجديدة ونمثلها بحيث نجعلها متجانسة مؤتلفة مع الحضارة التي أنشأناها نحن في أيامنا الخالية؟"(30).
ويخيل إلى كل من يشهد ظواهر الأمور الخارجية السائدة في الصين الآن أنها لن تستطيع حل هذه المشكلة. ذلك أن الإنسان إذا ما فكر فيما يخيم على الحقول الصينية من وحشة وما حاق بها من خراب، وما يتناوبها من جدب تارة وفيضان جارف تارة أخرى، وما أصاب أشجارها من تقطيع وتدمير، وفيما أصيب به زراعها من إنهاك وخمول، وفي الموت التي يحصد أطفالها حصداً، وفي عمالها الذين يكدحون في المصانع كالعبيد كدحاً يضعفهم ويهد قواهم، وفي مدنها القذرة التي تتفشى فيها الأمراض، وتفرض على بيوتها أفدح الضرائب، وفي الرشوة المنتشرة في تجارتها، وفي صناعاتها التي يسيطر الأجانب عليها، وفي فساد حكومتها، وضعف وسائل الدفاع عن بلادها، وفي أهلها الذي تفرقوا شيعاً وأحزاباً وامتلأت قلوبهم غلاً وحقداً، إذا ما فكر في هذا كله هاله الأمر فلا يدري هل تستطيع الصين أن تستعيد عظمتها الماضية، وهل في مقدورها أن تمتص مرة أخرى فاتحيها وتمثلهم في جسمها الضخم، وتحيى من جديد حياتها النشيطة المبدعة؟ ولكنا إذا نظرنا إليها نظرة تدقيق وإمعان رأينا من تحت هذه المظاهر السطحية عوامل النقاهة والتجديد. فأراضيها الواسعة الرقعة المختلفة الأنواع غنية بمعادنها الكفيلة بأن تجعلها بلداً صناعياً عظيماً، وقد لا يكون فيها من الثروة المعدنية ما قدره رختوفن، ولكن فيها بلا ريب أكثر مما كشفت عنه البحوث التجريبية في هذه الأيام. وإذا مات سربت الصناعة إلى داخل البلاد فستكشف عن خامات

ومواد للوقود لا يتصور الناس
صفحة رقم : 1411
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأقصى -> الصين -> الثورة والتجديد -> بداية عهد جديد

الآن أنها توجد فيها، كما لم يكن أحد يتصور منذ قرن واحد ما في أمريكا من ثروة معدنية ومن وقود. أما عن قواها المعنوية فإن هذه الأمة التي مرت عليها ثلاثة آلاف عام سمت فيها إلى المجد تارة وتردت في مهاوي الشقاء تارة أخرى، وتوالت عليها فترات موت وبعث، إن هذه الأمة لتظهر فيها اليوم كل دلائل الحيوية المادية والمعنوية التي نتبينها في أكثر عهودها إبداعاً وإنتاجاً. وليس في العالم كله شعب أكثر من هذا الشعب نشاطاً وذكاء، وليس فيه شعب يماثله في قدرته على التكيف حسب ما يواجهه من الظروف، وفي مقاومته للأمراض، وفي انتعاشه بعد الكوارث والآلام، شعب علمه تاريخه الطويل الصبر على الأرزاء والخروج منها سالماً على مر الأيام. وليس في وسع الخيال أن يتصور ما يخبئه المستقبل لحضارة تمتزج فيها الموارد المادية والطاقة البشرية والعقلية لهذا الشعب والوسائل والأدوات الفنية التي أوجدتها الصناعة الحديثة.
وأكبر الظن أن الصين ستنتج من الثروة ما لم تنتجه قارة من القارات حتى أمريكا نفسها، وأن الصين ستتزعم العالم في نعيم الحياة وفنها كما تزعمته مراراً في الزمن القديم في التنعم وفي فنون الحياة.

ذلك أن الهزائم الحربية واستبداد الأموال الأجنبية مهما قست لا تستطيع أن تكبت إلى مدى طويل روح أمة غنية في مواردها وفي حيويتها، بل سيخسر المغير عليها ماله وينفذ صبره قبل أن تستنفذ البلاد قدرتها على التكاثر؛ ولن يمضي قرن واحد من الزمان حتى تكون الصين قد امتصت فاتحيها وهضمتهم وحضرتهم بحضارتها، وتعلمت جميع الفنون التي سيطلق عليها إلى وقت قصير اسم الصناعة الحديثة. وسوف توحد الطرق وسبل الاتصال بين أجزاءها، وتمدها أساليب الاقتصاد والادخار بحاجتها من المال، وستعيد إليها الحكومة القوية السلم والنظام. ويقيننا أن الفوضى مهما اشتدت ليست إلا أمراً عارضاً مصيره إلى الزوال، ثم يتوازن
صفحة رقم : 1412
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأقصى -> الصين -> الثورة والتجديد -> بداية عهد جديد

الاضطراب آخر الأمر مع الطغيان ويتعادلان، وحينئذ تكتسح العوائق القديمة وتنمو البلاد نماء حراً جديداً. إن الثورة كالموت هي اكتساح الأقذار، وبتر الذي لا نفع فيه؛ وهي لا تقول إلا إذا كان في البلد الذي تقوم به أشياء كثيرة في دور الاحتضار. ولقد ماتت الصين مراراً من قبل، ثم عادت وولدت من جديد.

صفحة رقم : 1413
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأقصى -> اليابان -> بناة اليابان -> مقدمة

اليابان
الباب الثامن والعشرون
بناة اليابان

تاريخ اليابان مسرحية لم تكمل بعد، قد تم منها ثلاثة فصول : فصلها الأول- بغض النظر عن القرون البدائية الأسطورية- هو اليابان البوذية الكلاسيكية (522- 1603 ميلادية) التي دخلتها المدنية فجأة على أيدي الصين وكوريا، والتي هذبها الدين وصقلها، فخلقت آيات الأدب الياباني والفن الياباني في العصر الذي يدونه التاريخ؛ والفصل الثاني من المسرحية هو اليابان الإقطاعية الآمنة التي تنسب إلى توكوجادا شوجاتى (1603 - 1868) والتي اعتزلت العالم وحصرت نفسها في نفسها، لا تريد لنفسها شيئاً من اتساع الرقعة ولا تنشد تبادلاً تجارياً مع الخارج، قانعة بالزراعة منصرفة إلى الفن والفلسفة؛ أما الفصل الثالث فهو اليابان الحديثة، التي كشف عنها الستار أسطول أمريكي سنة 1853، والتي اضطرتها العوامل الداخلية والخارجية اضطراراً أن تضرب بسهم في التجارة والصناعة، وأن تبحث عن خامات من الخارج وأسواق في الخارج، وتقاتل قتالاً مستميتاً في سبيل التوسع، محاكية في ذلك بلاد الغرب في نزعتها الاستعمارية وطرائقها في هذا السبيل، مهددة بذلك سيادة الجنس الأبيض وسلام العالم؛ وإن سوابق التاريخ كلها لتدل على أن الفصل التالي من المسرحية سيكون قتالاً .
لقد درس اليابانيون مدنيتنا دراسة فاحصة لكي يتشربوا معاييرها ثم يفوقوها، فقد يكون من الحكمة أن تدرس مدنيتهم في صبر يشبه صبرهم في دراسة مدنيتنا، حتى إذا تأزم الأمر على نحو يضطرنا إما إلى حرب أو تفاهم معهم، كان في مقدورنا أن نصل معهم إلى تفاهم.

صفحة رقم : 1414
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأقصى -> اليابان -> بناة اليابان -> أبناء الآلهة

الفصل الأول
أبناء الآلهة
كيف خلقت اليابان - أثر الزلازل

في البداية كانت الآلهة، هكذا يقول أقدم ما دُوّن عن اليابان من تاريخ(1) وكانت الآلهة تولد ذكراً وأنثى، ثم تموت، حتى صدر الأمر في النهاية من شيوخ الآلهة إلى اثنين منها، هما "إيزاناجى" و "إيزانامى". وهما أخ وأخت من الآلهة، أن يخلقا اليابان، فوقفا على جسر السماء العائم، وقذفا في المحيط برمح مرصع بالجوهر، ثم رفعاه إلى السماء فتقطرت من الرمح قطرات أصبحت هي "الجزر المقدسة"؛ وشهدت الآلهة ما تصنعه الضفادع في الماء، فتعلمت منها سر اتصال الذكر بالأنثى، ومن ثم التقى "إيزاناجى" و "إيزانامى" التقاء الزوجين وأنسلا الجنس الياباني، وولدت "أماتيراسو"- إلهة الشمس- من عين "إيزاناجى" اليسرى، وكذلك من حفيدها "ننيجى" نشأت سلسلة متصلة مقدسة حلقاتها هم كل أباطرة "دي نيبون" (أي اليابان العظمى)، فمنذ ذلك اليوم حتى يومنا هذا لم تشهد اليابان إلا هذه الأسرة الحاكمة الإمبراطورية .
كان الرمح المرصع بالجوهر قد قطر أربعة آلاف ومائتين وثلاثاً وعشرين قطرة، لأن هذا هو عدد الجزائر التي يتألف منها أرخبيل الجزر الذي هو اليابان : من هذه الجزر ستمائة مأهولة، لكن ليس بينها إلا خمس لها حجم
صفحة رقم : 1415
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأقصى -> اليابان -> بناة اليابان -> أبناء الآلهة

جدير بالاعتبار؛ أما أكبرها فهي "هوندو" أو "هونشو" ويبلغ طولها 1130 ميلاً ومتوسط عرضها 73 ميلاً، ومساحتها واحد وثمانون ألف ميل مربع، وهي تعادل نصف مساحة الجزر كلها، ويشبه موقعها- كما يشبه تاريخها الحديث- موقع إنجلترا وتاريخها: فقد حمتها البحار المحيطة بها من الغزوات، وحملتها سواحلها الطويلة التي يبلغ مداها ثلاثة عشر ألف ميل على أن تكون أمة بحرية، فكأنما قضى عليها المؤثر الجغرافي والضرورة التجارية أن تبسط لنفسها سيادة واسعة على البحار؛ وتلتقي الرياح والتيارات البحرية الدافئة الآتية من الجنوب، بالهواء البارد الهابط من قمم الجبال، فينتج عن ذلك في اليابان مناخ إنجليزي تملؤه الأمطار، وتكثر فيها الأيام الغائمة بالسحب(4)، ومن ثم تمتلئ أنهارها القصيرة السريعة الانحدار، ويزدهر فيها النبات وتزدان المناظر، فهناك- إذا ما بعدت عن المدن والمساكن العتيقة القذرة- ترى نصف البلاد جنة عدن في ازدهارها، وليست جبالها أكداساً مركومة من الصخر والقذر، بل هي ذوات أشكال فنية، تكاد تبلغ في تخطيطها حد الكمال، كما هي الحال في فيوجى .
ولاشك أن هذه الجزر قد ولدتها الزلازل لا القطرات التي انتثرت من الرياح (6)؛ فليس على الأرض مكان- وربما جاز أن نستثني أمريكا الجنوبية- قد عانى كل ما عانته اليابان من اضطراب أرضها، فحدث سنة 599 أن اهتزت
صفحة رقم : 1416
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأقصى -> اليابان -> بناة اليابان -> أبناء الآلهة

الأرض وابتلعت قرى بأكملها في فمها الضاحك، وهوت الشهب ولمعت المذنَّبات وابيضت الشوارع بالثلج في منتصف يوليو، وأعقب ذلك قحط ومجاعة، وقضى من اليابانيين ألوف الألوف؛ وكذلك حدث سنة 1703 أن قضى زلزال على اثنين وثلاثين ألفاً في طوكيو وحدها، وعادت العاصمة سنة 1885 فتقوض بنيانها من جديد، وانفرجت الأرض عن فجوات واسعة ابتلعت في جوفها ألوفاً، وجعلوا يحملون جثث الموتى في عربات النقل ليقذفوا بها بعيداً جماعات جماعات؛ وفي زلزال 1923 أتت موجة المد وألسنة النار على مائة ألف نفس في طوكيو، وسبعة وثلاثين ألف نفس في يوكاهاما وما يجاورها، وأما كاما كورا- التي طالما أحسنت لبوذا- فكادت تندك من أساسها(7)، مع أن التمثال النحيل الذي كان قائماً هناك للقديس الهندي (يقصد بوذا) قد لبث وسط هذا الخراب الشامل قائماً كما هو، لم يصبه سوى ارتجاج، كأنما أراد بقيامه ذاك سليماً من الأذى أن يضرب مثلاً يوضح للناس أهم درس يلقيه التاريخ- وهو أن الآلهة يمكن لها أن تصمت في مختلف اللغات؛ ولبث الناس في حيرة تملكتهم حيناً، كيف ينزل هذا الخراب كله بأرض خلقتها الآلهة وتحكمها الآلهة؛ وأخيراً فسروا هذا الاضطراب بأن سمكة ضخمة تحت الأرض انزعجت في نعاسها فاهتزت(8) ويظهر أن لم يطرأ ببال أحد إذ ذاك أن يغادر تلك المدينة التي تعرض ساكنيها لأكبر الخطر؛ ففي اليوم التالي لاهتزاز الأرض بزلزالها العظيم الأخير، استخدم صبية المدارس قطعاً من مادة الطلاء المتناثرة أقلاماً، والأحجار الارتوازية المنثورة من بيوتهم المحطمة ألواحاً(9) واحتملت الأمة صابرة هذه الضربات من يد القدر وخرجت من هذا الدمار المتكرر نشيطة نشاطاً لا سبيل إلى الحد منه، ومقدامة على نحو ما يكون المتفائل إقداماً.

صفحة رقم : 1417
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأقصى -> اليابان -> بناة اليابان -> اليابان البدائية

الفصل الثاني
اليابان البدائية

مقوماتها الجنسية - مدنيتها الباكرة - الدين
"شنتو" - البوذية - بدايات الفن "الإصلاح العظيم"
لقد ضاعت الأصول اليابانية- كما ضاع غيرها من أصول الأمم- في خليط عام من النظريات، فيظهر أن الجنس الياباني مزيج من عناصر ثلاثة: عنصر بدائي أبيض جاء عن طريق "الأينويين" الذين وفدوا إلى اليابان من منطقة نهر أمور في العصر الحجري الأخير؛ وعنصر أصفر مغولي جاء من كوريا أو عبر خلالها في نحو القرن السابع قبل المسيح؛ وعنصر قاتم من الملايو وأندونيسيا تسرب إلى البلاد من جزر الجنوب: ففي اليابان- كما في أي بلد آخر- شهدت البلاد خليطاً من عناصر مختلفة قبل أن تشهد- بمئات السنين- قيام نمط جنسي جديد يتكلم بلغة جديدة وينشئ مدنية جديدة، وكون عملية المزج بين هذه الأجناس لم تبلغ تمامها بعد، تراه ظاهراً في الفوارق التي بين الأرستقراطي الطويل النحيل طويل الرأس، وبين الرجال من الشعب في قصره وبدانته ورأسه العريض.
وتصف الروايات التاريخية الصينية التي ترجع إلى القرن الرابع، تصف اليابانيين بأنهم "أقزام"، ثم تضيف إلى ذلك أنهم "لا يعرفون الثيرة ولا الوحوش الكاسرة؛ وهو يَشِمُون وجوههم بزخارف تختلف شكلاً باختلاف المنزلة الاجتماعية، ويلبسون رداء مصنوعاً من قطعة واحدة، ولديهم حراب وقِسِىٌّ ورماح في أطرافها حجر أو حديد، وهم لا يلبسون أحذية، ومن خصائصهم طاعة القانون وتعدد الزوجات ويدمنون الشراب وهم طوال الأعمار.
صفحة رقم : 1418
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأقصى -> اليابان -> بناة اليابان -> اليابان البدائية

ونساؤهم يطلين أجسامهن بالأحمر والقرمزي"(11). وتروى هذه المدَّونات عنهم "أن ليس يقع بينهم سرقة، وقلما يشكو أحد منهم أحداً إلى القضاء"(12)، ولم تكد المدنية تبدأ عندهم، وقد صور "لافكاديوهيرن"- مدفوعاً بصدق نظره وبحبه لذلك العصر القديم- صورها فردوساً لا يشوبها استغلال أو فقر؛ ووصف "فنلوزا" طبقة الفلاحين إذ ذاك بأنها مكونة من سادة عسكريين مستقل بعضهم عن البعض(13)؛ وجاءت الصناعات اليدوية إلى اليابان من كوريا في القرن الثالث الميلادي، وسرعان ما انتظمتها نقابات(14)، ودون هؤلاء الصناع اليدويين، كانت تقع طبقة كبيرة من العبيد، جُمع أفرادها من المسجونين وأسرى الحروب(15)، وكان النظام الاجتماعي إقطاعياً إلى حد ما وقبلياً إلى حد ما، فكان بعض الفلاحين يزرعون الأرض عبيداً للسادة أصحاب الأرض، ولكل قبيلة رئيس يكاد يكون ملكاً عليها(16)، وكانت الحكومة بدائية في تفككها وضعفها.
كانت العاطفة الدينية عند اليابانيين الأولين تجد ما يشبعها في العقيدة بأن لكل كائن روحاً، وفي الطوطمية، وفي عبادة الأسلاف وعبادة العلاقة الجنسية(17)؛ فعندهم أن الأرواح سارية في كل شيء- في كواكب السماء ونجومها، في نباتات الحقل وحشراته، والأشجار والحيوان والإنسان(18)، ويعتقدون أن عدداً لا يحصى من الآلهة يحوم فوق الدار وساكنيها ويرقص مع ضوء المصباح ووهجه إذا رقص(19)، والاتصال بالآلهة يكون عندهم بإحراق عظام غزال أو قوقعة سلحفاة، وبفحص العلامات والخطوط التي تحدثها النار، فحصاً تستمد فيه المعونة من الخبراء؛ وتذكر لنا المدونات القديمة الصينية أنه بهذه الطريقة "كان اليابانيون يستوثقون من طيب الحظوظ وخبيثها، ومن ملاءمة الظروف لقيامهم برحلات برية وبحرية أو عدم ملاءمتها"(20). كانوا يخافون الموتى ويعبدونهم، لأن غضبهم قد ينزل بالعالم شراً مستطيراً؛ فلكي يسترضوا هؤلاء الموتى، كان لزاماً عليهم أن يضعوا لهم النفائس في
صفحة رقم : 1419

قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأقصى -> اليابان -> بناة اليابان -> اليابان البدائية

قبورهم- كأن يضعوا سيفاً إذا كان الميت رجلاً، ومرآة إذا كانت امرأة، وكانوا يؤدون الصلاة ويقدمون الطعام أمام صور أسلافهم في كل يوم(21) وكانوا يلجأون إلى التضحية البشرية آناً بعد آن توسلاً لإيقاف مطر غزير، أو ضماناً لثبات بناء أو جدار، وكان يحدث أحياناً أن يدفن الأتباع مع سيدهم الذي مات ليدافعوا عنه في أولى مراحل حياته الآخرة(22).
ومن عبادة الأسلاف نشأت أقدم ديانة قائمة في اليابان، وهي "شنتو" أي "طريق الآلهة" ولها صور ثلاث " : العقيدة المنزلية التي تتجه بالعبادة إلى أسلاف القبيلة، وعقيدة الدولة التي تتجه بالعبادة إلى الحاكمين الأسلاف وهم الآلهة الذين أسسوا للدولة بناءها؛ فكانوا يخاطبون السلف المقدس الأول الذي عنه جاءت سلسلة الأباطرة، ضارعين سبع مرات كل عام، فيتوجه إليه الإمبراطور نفسه بالدعاء، أو من ينوب عن الإمبراطور؛ ثم كانوا يؤدون له صلاة خاصة إذا ما همت الأمة بالاضطلاع بمشروع تراه استثنائياً في قداسته، مثل الاستيلاء على شانتونج (سنة 1914)(23)؛ ولم تكن ديانة "شنتو" بحاجة إلى تفصيل مذهبي أو طقوس معقدة أو تشريع خلقي، ولم تكن لها طبقة من الكهنة خاصة بها، كلا ولا تذهب إلى ما يبعث العزاء في نفوس الناس من خلود الروح ونعيم الفردوس؛ فكان كل ما تطالب به معتنقيها أن يحجوا آناً بعد آن لأسلافهم وأن يقدموا لهم ضراعة الخاشعين، ويفعلوا كذلك لإمبراطورهم ولماضي أمتهم؛ وقد حلت عقيدة أخرى محل هذه العقيدة حيناً، لأنها مسرفة التواضع في جزائها التي تعد به، وفي أوامرها التي تلزم بها الناس.
وفي سنة 522 جاءت البوذية- وكانت قد دخلت الصين قبل ذاك بخمسمائة عام- إلى اليابان خلال القارة الآسيوية، فأخذت تغزو أرجاءها غزواً
صفحة رقم : 1420

قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأقصى -> اليابان -> بناة اليابان -> اليابان البدائية

سريعاً؛ وقد تآمر عاملان فكتبا لها النصر، وهما: الحاجات الدينية عند الشعب، والحاجات السياسية عند الدولة، لأنه لم تكن بوذية بوذا هي التي جاءت إلى اليابان، بما عرفت به تلك البوذية من لا أدرية وتشاؤم وتزمت وشوق إلى النعيم الناشئ عن انمحاء الفرد في الكل، بل جاءتها بوذية "ماهايانا" بآلهتها الوديعة من أمثال "أميدا" "وكوانون"، وباحتفالاتها الدينية البهيجة، واعترافها ببوذيين منتظرين يخلصون البشر، وبخلود الروح الإنسانية، ثم ما هو خير من ذلك، جاءت هذه البوذية تبث في النفوس بأسلوب لا يقاوم لفرط رقته، كل فضائل الورع والسلام والطاعة التي يمكن أن تصوغ الناس صياغة تجعلهم أكثر انصياعاً للحكومة، وراحت تفسح للمظلومين من الأمل والعزاء ما يجعلهم راضين قانعين بشظف عيشهم؛ وتخفف من وطأة الحياة الكادحة وما فيها من برود يشبه برود النثر وفتور العمل المكرور المعاد، بما تبثه في تلك الحياة من شعر متمثلة في الأساطير والصلاة، ومن مسرحية تتمثل في الاحتفالات البهيجة، وهيأت للناس سبيل الوحدة في الشعور والعقيدة، وهما شيئان طالما رحب بهما الساسة، لأنهما أصل النظام الاجتماعي، ودعامة القوة القومية.

ولسنا ندرى أكانت السياسة أم الورع هو الذي كتب النصر للبوذية في اليابان، فلما مات الإمبراطور "يومى" سنة 586 ، تنازعت وراثة العرش من بعده أسرتان متنافستان، تنازعاً استخدمت فيه السلاح، واعتنقت كلتاهما العقيدة الدينية الجديدة اعتناقاً سياسياً، واستطاع الأمير "شوتوكوتايشي"- الذي يقال عنه إنه ولد وفي يده تميمة مقدسة- أن ينتهي بالحزب البوذي إلى النصر، ثم أقام على العرش "الإمبراطورة سويكو". ولبث تسعة وعشرين عاماً (592-621) يحكم الجزر المقدسة أميراً إمبراطورياً ووصياً على العرش وراح يغدق العطاء لمعابد البوذيين، ويشجع رجال الدين البوذي ويعينهم،
صفحة رقم : 1421
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأقصى -> اليابان -> بناة اليابان -> اليابان البدائية

ويدخل الأخلاق البوذية في صلب القوانين القومية، حتى لقد أصبح بوجه عام للبوذية اليابانية ما كان "أشوكا" لها في الهند, وامتدت رعايته إلى الفنون والعلوم، واستقدم الفنانين ومهرة الصناع من كوريا والصين، وكتب التاريخ، ورسم التصاوير، وأشرف على بناء معبد "هوريوجي"، وهو أقدم آية بقيت لنا في تاريخ الفن الياباني.

لكن على الرغم مما تركه هذا الرجل الناشر لأسباب الحضارة من مختلف الآثار، وعلى الرغم من كافة الفضائل التي راحت البوذية تبثها في النفوس أو تبشر بها، فقد طغت على اليابان أزمة أخرى عنيفة، ولم يكن قد مضى على موت "شوتوكو" جيل واحد؛ ذلك أن أرستقراطياً طموحاً، هو "كاماتاري" قد دبر مع "الأمير تاكا" ثورة في القصر، كانت بداية واضحة لتغير مجرى التاريخ السياسي في "نيبون" (اليابان) حتى ليشير إليها المؤرخون من أبناء البلاد في حماسة وطنية فيصفونها بقولهم "الإصلاح العظيم" (سنة 645)؛ فقد قتل ولي العهد، وأجلس على العرش ملك كهل لم يكن إلا صورة، وكان الأمر في يد "كاماتاري" باعتباره رئيساً للوزراء، فطفق بمعونة "الأمير تاكا"- حين كان لم يزل ولياً للعهد، ثم حين أصبح هو "الإمبراطور تنشي"- يعيد بناء الحكومة اليابانية بحيث جعلها سلطة إمبراطورية أوتوقراطية؛ وارتفع الحاكم من مجرد كونه زعيماً لكبرى القبائل، إلى سلطة شاملة تسيطر على كل موظف في اليابان، فهو الذي يعين كل الحكام، وتدفع له الضرائب كلها مباشرة، وأعلن أن البلاد كلها ملك يمينه؛ وبهذا سارت اليابان بخطوات سريعة من ارتباط بين القبائل مخلخل العرى ورؤساء قبائل يشبهون أشراف الإقطاع، إلى دولة ملكية وثيقة العرى فيما يربط بين أجزائها.

صفحة رقم : 1422
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأقصى -> اليابان -> بناة اليابان -> العصر الإمبراطوري

الفصل الثالث
العصر الإمبراطوري
الأباطرة - الأرستقراطية، تأثير الصين، عصر كيوتو الذهبي - التدهور

منذ ذلك الوقت فصاعداً، جعل الإمبراطور يتمتع بألقاب ضخمة، فكان يسمى أحياناً "تنشي" أو "شمس السماء" على أن اسمه كان غالباً "تنو" أي "الملك السماوي" ونادراً ما كان يطلق عليه "ميكادو" أي "الباب المجيد"؛ وكان من امتيازه أن يطلق عليه اسم جديد بعد موته، يعرف في التاريخ باسم خاص يختلف كل الاختلاف عن الاسم الذي أطلق إبان الحياة؛ ولكي يضمن اتصال النسل الإمبراطوري، كان للإمبراطور الحق في أي عدد شاء من الزوجات أو الرفيقات؛ ولم يكن حتماً أن يهبط الملك إلى أكبر الأبناء، بل تؤول ولاية العرش من بعده إلى من كان في رأيه هو، أو في رأي أبطال العصر أقرب أبنائه إلى أن يكون أقواهم، أو أضعفهم على العرش [فيختار أقواهم إن كان الذي يختار هو الملك، ويختار أضعفهم إن كان الذي يختار هم أعلام العصر ذوو المصالح الشخصية] وكان الأباطرة في بواكير العصر الكيوتي يميلون إلى الورع، حتى لقد تنازل بعضهم عن العرش ليجعلوا من أنفسهم رهباناً بوذيين، وحرَّم أحدهم السِّماكة على أنها إساءة إلى بوذا(25)؛ لكنك تجد بينهم "يوزي" يشذ عن هذا المجرى، ويتعب الناس بنشاطه، فجاء مثلاً يوضح كيف تكون الأخطار التي يستهدف لها الملك إذا نشط؛ فكان يأمر الناس أن يصعدوا الأشجار ثم يرميهم بقوسه ونشابه، ويمسك بالعذارى في الطرقات، ويوثق قيدهن بأوتار قيثارة ويقذف بهن في البرك، وكان مما يمتع جلالته أن يركب جائساً خلال العاصمة فيلهب الناس بسوطه ليدفعهم إلى العمل، لكن رعيته خلعته عن العرش آخر الأمر بثورة أعلنت فيها
صفحة رقم : 1423
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأقصى -> اليابان -> بناة اليابان -> العصر الإمبراطوري

العصيان السياسي الذي هو بمثابة الخروج على حدود التقوى وهو شيء نادر الوقوع في تاريخ اليابان(26)؛ وحدث سنة 794 أن انتقلت مراكز الحكومة من "نارا" إلى "ناجاوكا" ثم لم تلبث بعدئذ أن انتقلت إلى كيوتو (أي عاصمة السلام) فظلت هي العاصمة خلال الأربعة قرون (794-1192) التي يجمع معظم المؤرخين على أنها كانت في اليابان عصرها الذهبي، فلما أن كانت سنة 1190 بلغ سكان كيوتو نصف المليون، وهو ما لم تبلغه أية مدينة أوروبية في ذلك العصر ما عدا القسطنطينية وقرطبة(27)، وقد خصص جزء من المدينة لأكواخ الناس وحظائر لماشيتهم، والظاهر أن قد نعم هؤلاء الناس بعيشهم رغم فقرهم المدقع؛ ثم خصص آخر- جعلوه معزولاً بما تقتضيه الحكمة لحدائق العلية والأسرة الإمبراطورية وقصورهم؛ وكان يطلق على حاشية الإمبراطور بحق "سكان ما فوق السحب"(28) لأن تقدم الحضارة وارتفاع الأساليب الفنية كان من نتائجها في اليابان- كما هي الحال في غيرها- ازدياد الفوارق الاجتماعية؛ وبهذا زالت المساواة التقريبية التي كانت تسود الناس في باكورة الأيام، وحل محلها تفاوت لا مندوحة عن وقوعه إذا ما قُسمِّت الثروة المتزايدة بين الناس على قدراتهم المختلفة وشخصياتهم وامتيازاتهم المتباينة؛ ونشأت أسرات كبيرة، مثل الـ "فويجيوارا" والـ "تايْرا" والـ "ميناموتو" والـ "سوجاوارا"، وهي أسرات كانت تقيم الأباطرة وتخلعهم، ويحارب بعضها بعضاً على النحو العنيف الذي شهدته أيام النهضة الإيطالية؛ ولقد قرَّب "سوجاوارا متشيزاني" نفسه من قلوب اليابانيين لرعايته للأدب، وهو الآن معبود لديهم بوصفه إلهاً للآداب، وتعطل المدارس تكريماً له في الخامس والعشرين من كل شهر؛ وكذلك امتاز الشاب "ميناموتو سانيتومو" بإنشائه في الصباح السابق لاغتياله هذه المقطوعة الشعرية الساذجة، التي تمثل الأسلوب الياباني في أنصع صوره:
صفحة رقم : 1424

قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأقصى -> اليابان -> بناة اليابان -> العصر الإمبراطوري

إذا لم أعد إليك ثانياً
يا شجرة البرقوق التي تجاور داري
فلا تنسي أنت موعد الربيع
وازدهري ما وسعك الازدهار
ولبثت اليابان في عهد "دايجو" المتنوّر (898-930)- وهو أعظم الأباطرة الذين أقامتهم على الحكم قبيلة فوجيوارا، لبثت في عهده تتشرب- بل بدأت تنافس- ثقافة الصين وأسباب ترفها، التي كانت عندئذ في أعلى ذرى ازدهارها في عهد "تانج"؛ ولما كانت اليابان قد استمدت عقيدتها الدينية من "المملكة الوسطى" فقد طفقت تستمد من المعين نفسه لباسها وألعابها وطهيها وكتابتها وشعرها وأساليب حكومتها وموسيقاها وفنونها وبساتينها وعمارتها، بل خُطِّطت عاصمتاها الجميلتان "نارا" و "كيوتو" على غرار "شانجان"؛ فقد استوردت اليابان ثقافة الصين منذ ألف عام، كما تستورد ثقافة أوربا وأمريكا في عصرنا هذا، وهي في هذا تتعجل أولاً ثم تتمهل لتنتقي وتختار ثانياً؛ لكنها تحتفظ بروحها الخاصة وشخصيتها الخاصة غيرة عليهما، ولا تدخر في وسعها جهداً في سبيل مداومة الأساليب الجديدة إلى الأغراض القومية القديمة.
ودخلت اليابان في عهدها "الأنجي" (901-922) الذي يعتبر ذروة العصر الذهبي مدفوعة إلى ذلك الصعود بحافز من جارتها العظيمة، وبوقاية
صفحة رقم : 1425
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأقصى -> اليابان -> بناة اليابان -> العصر الإمبراطوري

حكومية مستتبة؛ فتراكمت الثروة وأتجه إنفاقها نحو أسباب حياة مترفة رقيقة تشيع فيها الثقافة بحيث لا يكاد يضارعها في ذلك مثيل حتى جاءت عصور أسرة مديتشي و "صالونات" "التنوير الفرنسي" .

وأصبحت "كيوتو" بمثابة باريس وفرساي في فرنسا، رقيقة قي شعرها وثيابها، رشيقة في أخلاقها وفنونها، تضع للأمة كلها معايير المعرفة والذوق، وانفتحت "الشهية" عند الناس على اختلاف صورها وإلى آخر حدودها وآمادها، فابتكر الطهاة صنوفاً جديدة من شهيّ الطعام، وكدسوا الآكال تكديساً ليُشبعوا أصحاب النهم وأرباب الذوق في الطعام على حد سواء، وغُض الطرف عن جرائم الزنا على أساس أنها من أتفه خطايا الإنسان(32)، وتزمَّل كل سيد أو سيدة بالحرير ونفيس الثياب، وكنت ترى مختلف الألوان متناسقة على كل كم تلبسها ذراع، وازدانت حياة المعابد والقصور بالموسيقى والرقص كما أشاع الرقص والموسيقى روح الرشاقة في بيوت العِلْية التي كانت تحاط بروائع المناظر الطبيعية من الخارج، وتزدان صقلاً من الداخل بما فيها من آيات البرونز واللؤلؤ والعاج والذهب والخشب الذي حفر حفراً بلغ الغاية القصوى من دقة الحفر(33)؛ لقد ازدهر الأدب إذ ذاك وانحلَّت الأخلاق.
أمثال هذه العصور التي تتلألأ بجوانب الرقة، يغلب ألا تدوم طويلاً، لأنها ترتكز ارتكازاً مقلقلاً على ثروة متراكمة يمكن في أية لحظة أن تذروها عوامل تذبذب التجارة، وقلق الطبقات المستغَلَّة وتقلبات الحروب؛ وقد أدى إسراف القصر آخر الأمر إلى إفلاس الدولة وارتفعت الثقافة بحيث رجحت كفتها بالقياس إلى القدرة العلمية، فانتهى ذلك إلى ملء المناصب الإدارية بمتشاعرين عاجزين، وأخذ الفساد يتكاثر تحت أنوفهم المعطَّرة دون أن يستوقف انتباههم، ثم أصبحت المناصب آخر الأمر تباع لمن يدفع في شرائها أغلى ثمن وازدادت الجرائم بين الفقراء بقدر ما ازدادت أسباب
صفحة رقم : 1426
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأقصى -> اليابان -> بناة اليابان -> العصر الإمبراطوري

الترف بين الأغنياء، وانبث وباء اللصوص والقراصنة في الطرقات والبحار، فكانوا ينقضون على كل فريسة تقع في أيديهم، لا فرق عندهم بين الإمبراطور والشعب، ويسطون على جباة الضرائب فيسلبونهم ما كانوا يحملونه إلى القصر من أموال، ونظمت عصابات من اللصوص في الأقاليم، بل وفي العاصمة نفسها، وكان يتاح لأخطر مجرم في اليابان- كما هي الحال عندنا- أن يعيش في رفاهية علنية؛ لأنه كان من القوة بحيث يتعذر على أولى الأمر أن يقبضوا عليه أو يسيئوا إليه(35)، وأهمل الناس عاداتهم وفضائلهم الحربية، وتراخوا في نظامهم العسكري والأهبة للدفاع، بحيث باتت الحكومة مفتوحة الصدر لكل ضربة يسددها إليها من شاء من القراصنة القساة؛ وراحت الأسر الكبيرة تجيَّش لنفسها جيوشها، فبدأت بذلك عهداً من حروب أهلية، ولبثت تناضل بعضها بعضاً نضالاً تسوده الفوضى، كل منها يحاول أن يظفر لنفسه بحق تعيين الإمبراطور، وأما الإمبراطور نفسه فكان يزداد كل يوم ضعفاً على ضعف، في الوقت الذي كان رؤساء القبائل فيه يوشكون أن يعودوا إلى سابق عهدهم من حيث استقلال كل منهم بسلطته؛ وهكذا أخذ التاريخ مرة أخرى يتذبذب على نحو ما كان يتذبذب قديماً، بين حكومة قوية مركزية من ناحية، ونظام إقطاعي لا مركزي من ناحية أخرى.

صفحة رقم : 1427
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأقصى -> اليابان -> بناة اليابان -> الطغاة

الفصل الرابع
الطغاة
"الشواجنة" - سلطان عسكري في كاماكورا - وصاية هوجو على
العرش - غزوة قبلاي خان - سيادة أشيكاجا - القراصنة الثلاثة

كان من شأن هذه الظروف القائمة أن سنحت الفرصة لظهور فئة من الطغاة العسكريين الذين قبضوا بأيديهم على زمام الأمور كلها، في كثير من أجزاء الجزر اليابانية؛ ولم يعترفوا بالإمبراطور إلا على أنه ظاهرة مقدسة في اليابان يحتفظ بها بأقل ما يمكن من النفقات؛ وجعل الفلاحون الذين لم تعد تحميهم من عصابات اللصوص جيوش الإمبراطور ولا رجال شرطته، يدفعون الضرائب لهؤلاء "الشواجنة" أي القادة بدل دفعها للإمبراطور، لأن "الشواجنة" وحدهم هم الذين كانوا يستطيعون حمايتهم من اعتداء اللصوص(36). وهكذا ساد النظام الإقطاعي في اليابان لنفس الأسباب التي كان قد ساد بسببها في أوربا، وأعني أن مصادر السلطان في الإقطاعات ازدادت نفوذاً بمقدار ما فشلت الحكومة المركزية النائبة في حفظ الأمن والنظام.
وحدث في سنة 1192 أن جمع "يوريتومو"- وهو أحد رجال قبيلة ميناموتو- حوله جيشاً من الجند والعبيد، وأقام لنفسه سلطة مستقلة، اتخذت لنفسها اسماً هو اسم المكان الذي قامت فيه، وهو "باكوفوكاماكورد" وكلمة "باكوفو" معناها منصب عسكري، وإذن فهي تدل صراحة على نوع الحكومة الجديدة؛ ومات "يوريتومو" العظيم فجأة في عام 1198
صفحة رقم : 1428
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأقصى -> اليابان -> بناة اليابان -> الطغاة

أعقبه في الحكم أبناؤه الضعفاء، وذلك- كما يقول المثل الياباني- لأن "الرجل العظيم لا ذرية له"(38) فأقامت أسرة منافسة وصاية لنفسها على العرش عام 1199 ويسمى العهد باسم "وصاية هوجو"، ولبثت تلك الأسرة مدى مائة وأربعة وثلاثين عاماً تحكم "الشواجنة" الذين كانوا بدورهم يحكمون الأباطرة؛ فكانت هذه الحكومة الثلاثية فرصة سانحة لقبلاي خان يحاول فيها غزو اليابان؛ فقد وصفها له الكوريون الدُّهاة الذين كانوا يخشون بأسها، فقالوا إنها من الثراء بحيث تستحق المجهود؛ فأمر قبلاي بناة سفنه أن يشيدوا له أسطولاً بلغ من الضخامة حداً جعل شعراء الصين يصورون التلال باكية ترثى ما سُلِبَ من غاباتها(39)؛ ويقول اليابانيون- حين يروون حوادث الماضي رواية الفخور ببطولته- إن النفس بلغت سبعين ألفاً، لكن المؤرخين الذين لا يتأججون بمثل هذه الحاسة الوطنية يكفيهم من العدد ثلاثة آلاف وخمسمائة سفينة ومائة ألف محارب؛ وتبدّى هذا الأسطول الجبار على مبعدة من شواطئ اليابان في أواخر سنة 1291 فخرج سكان الجزر الأبطال ليلاقوه في أسطول لهم بنوه على عجل؛ وهو أسطول ضئيل بالقياس إلى الأسطول المهاجم؛ لكن حدث لهذه الأرمادا، ما حدث للأرمادا التي كانت أصغر منها، وإن تكن أشهر ، وهو أن هبت "ريح عظيمة" لا تزال مذكورة لما أسدته للناس من جميل، هبت فحطمت سفائن "الخان" الجبار، إذ رطمتها على جوانب الصخور، وأغرقت من بحارته سبعين ألفاً، وأبقت على بقيتهم ليعيشوا حياة الرقيق في بلاد اليابان.
ودارت الدوائر على أسرة "هوجو" عام 1333، إذ أصابتهم السيطرة هم أيضاً بسمومها، وانتهى الأمر إلى انتقال الحكم الوراثي من أيدي الأبالسة والعباقرة إلى أيدي الجبناء والحمقى؛ وكان آخر هذه السلالة رجل يدعى "تاكا
صفحة رقم : 1429
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأقصى -> اليابان -> بناة اليابان -> الطغاة

توكي" يحب الكلاب حباً شديداً، فيقبلها بدل الضرائب، حتى لقد جمع منها عدداً يتراوح بين أربعة وخمسة آلاف، وأعد لها حظائر زينها بالذهب والفضة وأطعمها بالسمك والطيور، وهيأ لها العربات المزخرفة تحملها للتنزه؛ فوجد الإمبراطور القائم على العرش إذ ذاك، وهو "جو دايجو" أن انحلال حماته فرصة سانحة يستعيد فيها سلطانه الإمبراطوري، وأيدته قبيلتا "ميناموتو" و "أشيكاجا" وقادتا له جيوش حتى ظفرتا له بالنصر على "أسرة الوصاية" بعد سلسلة من هزائم، ومن ثم أوى "تاكا توكي" ومعه ثمانمائة وسبعون من عبيده وقادته، إلى معبد، وجرع كأساً أخيرة من "الساقي" ثم أنزل بنفسه "الهاراكيري" (أي أنه أنتحر)؛ ولقد أخرج أحد الحاضرين أمعاء المنتحر بيديه قائلاً: "إن هذه لتضفي على الخمر طعماً لذيذاً"(40).
وانقلب "أشيكاجاتا كاوجي" على الإمبراطور بعد أن كان هو الذي أعانه على استعادة سلطته؛ وقاتل الجيوش التي جاءت لإخضاعه قتالاً موفقاً من حيث خطته العسكرية ومؤامرات الخيانة؛ وأزال "جودايجو" عن العرش ليضع مكانه إمبراطوراً صورياً هو "كوجون"، وأقام في كيوتو تلك الحكومة العسكرية المعروفة باسمه "أشيكاجا" والتي ظلت تحكم اليابان مدى مائتين وخمسين عاماً سادتها الفوضى والحرب الأهلية التي لم تنقطع؛ ولا بد لنا أن نعترف هنا بأن جزءاً من تلك الفوضى كان يرجع إلى الجانب السامي من طغاة "أشيكاجا"- وهو حبهم للفن ورعايتهم له؛ فهاهو ذا "يوشيمتسو" قد مل الكفاح فأدار يديه نحو التصوير، حتى أصبح يعد من مصوري عصره الأفذاذ، وارتبط "يوشيمازا" بصلات الود مع كثير من المصورين، وأعان بالمال كثيراً من الفنون، وأصبح في عالم الفن ذواقة دقيقاً، حتى ليعد هواة الآثار الفنية اليوم القطع التي كان قد اختارها هو وأتباعه خير ما يستحق الاقتناء(41) لكن مهام الحكم الإداري قد أهملت إذ ذاك، ولم يعد حفظ
صفحة رقم : 1430

قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأقصى -> اليابان -> بناة اليابان -> الطغاة

الأمن والسلام في مقدور القادة العسكريين (أي الشواجنة) الأغنياء، ولا في مقدور الأباطرة الذين حل بهم الإفلاس.
فكان من شأن هذه الفوضى نفسها وما أصاب الحياة من انحلال، ومطالبة الأمة بقادة يهيئون لها النظام، أن ظهر القراصنة الثلاثة المعروفون في التاريخ الياباني؛ وتقول الرواية إن هؤلاء الثلاثة- وهم "نوبوناجا" و "هيديوشي" و "أيياسو"- اعتزموا أن يتعاونوا معاً في شبابهم على إعادة الوحدة لوطنهم، وحلف كل منهم يميناً على أن يطيع طاعة الأتباع مَنْ يفوز من زميليه الآخرين بموافقة الإمبراطور على توليه حكومة اليابان(42)؛ وحاول "نوبوناجا" بادئ ذي بدء، لكنه مُني بالفشل، وحاول بعده "هيديوشي" لكنه مات حين أوشك على النجاح؛ وكان "أيياسو" يرقب فرصته، فجاءته آخر الأمر وحاول بعد زميليه، وأسس الحكومة العسكرية المعروفة باسم "توكوجاوا". وبهذا افتتح عهداً من أطول عهود السلام، وعصراً هو من أخصب عصور الفن، في تاريخ الإنسانية كلها.

صفحة رقم : 1431
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأقصى -> اليابان -> بناة اليابان -> وجه القردة العظيم

الفصل الخامس
"وجه القردة" العظيم
ظهور هيديوشي - الهجوم على كوريا - الاشتباك مع المسيحية

كانت الملكة اليصابات و "أكبر" (في الهند) معاصرين لـ "هيديوشي" العظيم- هكذا قد يحلو لليابانيين أن يذكروا هذه الحقيقة على سبيل التنويه بفضل عظيمهم- كان "هيديوشي" ابن فلاح، يعرفه أصدقاؤه، وتعرفه رعيته حين أصبح فيما بعد حاكماً، باسم "سارو من كانجا"- ومعناها "وجه القردة" لأنه لم يكن ينافسه في دمامة الوجه أحد حتى ولا كونفوشيوس؛ وكان والداه قد عجزا عن إخضاعه للنظام فبعثا به إلى مدرسة في دير؛ لكن "هيديوشي" سخر من كهنة البوذية سخرية شديدة، وأثار في الدير ضجة وثورة، بحيث انتهى أمره إلى الطرد من مدرسته، فألحق صبياً في كثير من الحرف، وطرد من عمله سبعاً وثلاثين مرة(43)؛ وجعل من نفسه قاطعاً للطريق، لكنه عاد فرأى أنه يستطيع أن يسلب وهو مع القانون أكثر مما يسلبه وهو خارج على القانون؛ ثم التحق بخدمة "الساموراي" (أي حملة السيف) وأنقذ حياة مولاه، وسمح له بعدئذ أن يحمل سيفاً؛ وانضم إلى أتباع "نوبوناجا" وعاونه بتفكيره وببسالته، حتى إذا ما مات "نوبوناجا" تولى هو قيادة الثائرين الخوارج على القانون، الذين شنوا حملتهم ليغزوا أرض وطنهم؛ فما انقضت ثلاثة أعوام حتى كان "هيديوشي" قد أصبح حاكماً على نصف الإمبراطورية وظفر بإعجاب الإمبراطور العاجز، وأحس في نفسه من القوة ما يتيح له أن يهضم في جوفه كوريا والصين؛ وفي ذلك قال متواضعاً يخاطب
صفحة رقم : 1432
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأقصى -> اليابان -> بناة اليابان-وجه القردة العظيم

قصة الحضارة - 42 جزء - دار الجيل

المؤلف

ول وايريل ديورانت ترجمة المؤلف

وصف الكتاب

قصة الحضارة (بالإنجليزية: The Story of Civilization) كتاب موسوعي تاريخي من تأليف الفيلسوف والمؤرخ الأمريكي ويل ديورانت وزوجته أريل ديورانت, يتكون من أحد عشر جزئا يتحدث فيه عن قصة جميع الحضارات البشرية منذ بدايتها وحتى القرن التاسع عشر ويتسم بالموضوعية، وبالمنهج العلمي.
فهي موسوعة في فلسفة التاريخ، قضى مؤلفها عشرات السنين في إعدادها، فقرأ لذلك عشرات المؤلفات وطاف بجميع أرجاء العالم من شرقية إلى غربية أكثر من مرة. وحسب القارئ دليلا على الجهد الذي بذله في إعداد العدة لها أن يطلع على ثبت المراجع العامة والخاصة الذي أثبتناه في آخر كل جزء من هذه الأجزاء. وقد كان يعتزم في بادئ الأمر أن تكون هذه السلسلة في خمسة مجلدات، ولكن البحث تشعب والمادة كثرت فزادها إلى سبعة، ثم تجاوزت هذا العدد الذي قدره لها أخيراً فقررها في 11 مجلد. إستمر في كتابته على مدار 40 عامًا من عام 1935 حتى عام 1975
والخلاصة أن هذه السلسلة ذخيرة علمية لا غنى عنها للمكتبة العربية ولعشاق التاريخ والأدب والعلم والاجتماع وجميع مقومات الحضارة كما يعادل الكتاب عند الغرب ما يعادل عند المسلمين البداية والنهاية لإبن كثير أو تاريخ الطبري
تمت ترجمة الكتاب إلى العربية وأصدرته المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم التابعة لجامعة الدول العربية ودار الجيل في بيروت النسخة العربية تتكون من 42 مجلد بترجمة احترافية من د. زكي نجيب محمود، ود. محمد بدران، ود. عبد الحميد يونس ود. فادي أندراوس
المؤلف: وِل ديورَانت = ويليام جيمس ديورَانت (المتوفى: 1981 م)
تقديم: الدكتور محيي الدّين صَابر
ترجمة: الدكتور زكي نجيب محمُود وآخرين
الناشر: دار الجيل، بيروت - لبنان، المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم، تونس
عام النشر: 1408 هـ - 1988 م
عدد الأجزاء: 42 وملحق عن عصر نابليون
[ترقيم الكتاب موافق للمطبوع (عدا الملحق، لم نقف عليه مطبوعا)]

تاريخ النشر

1434/6/3 هـ

عدد القراء

  روابط التحميل من مشكاة


 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

حمل القران بصغتيه

 حمل القران الكريم وورد وPDF.